كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

ولما كان المفرد المحلى باللام يعم ، كان هذا ربما اقتضى من بعض المتعنتين اعتراضاً بأن يقال : إنا نرى بعض الإنسان إذا أعطى شكر ، وإذا ابتلى صبر ، وكان هذا الاعتراض ساقطاً لا يعبأ به ، أما أولاً فلأنه قد تقدم الجواب عنه في سورة يونس عليه السلام في قوله تعالى { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } [ يونس : 12 ] بأن هذا في المسرفين دون غيرهم ، وبقوله تعالى في سورة هود عليه السلام { إلا الذين صبروا } [ هود : 11 ] ولعله طواه في هذا المقام إشارة إلى أنه لقلة أفراده كأنه عدم ، وأما ثانياً فلأن المحلى باللام سواء كان مفرداً أو جمعاً في قوة الجزئي حتى يرد ما يدل على أنه كلي ، فلذلك أعرض تعالى عنه وأمره بالجواب عن القسمين المشار إليه والمنصوص عليه فقال تعالى : { قل } أي يا أشرف خلقنا! { كل } من الشاكر والكافر { يعمل على شاكلته } أي طريقته التي تشاكل روحه وتشاكل ما طبعنا عليه من خير أو شر { فربكم } أي فتسبب عن ذلك أن الذي خلقكم ودرجكم في أطوار النمو ، لا غيره { أعلم } مطلقاً { بمن هو } منكم { أهدى سبيلاً * } أي أرشد وأقوم من جهة المذهب بتقواه وإحسانه ، فيشكر ويصبر احتساباً فيعطيه الثواب ، ومن هو أضل سبيلاً ، فيحل به العقاب ، لأنه يعلم ما طبعهم عليه في أصل الخلقة وغرزه فيهم من الخلائق ، وغيره إنما يعلم أمور الناس في طرائقهم بالتجربة؛ وقد روى الإمام أحمد - لكن بسند منقطع - عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : « إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا ، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به ، فإنه يصير إلى ما جبل عليه » هذا كله الإعراض بالفعل ، وإن كان بالقوة التزمنا أنها كلية ، والله أعلم بالمهتدي فيحفظه من الإعراض واليأس بالفعل هو فيه بالقوة .
ولما بين سبحانه - بعد التعجيب من إنكارهم البعث - جهل الإنسان ، وما هو عليه من الضلال والنسيان ، إلا من فضله على أنباء نوعه كما فضل طينته على سائر الطين ، وختم بآية المشاكلة التي منها مشاكلة بعض الأرواح لبعض ومشاكلتها للطباع ، وبان بذلك أنه سبحانه وتعالى قادر على فعل ما يشاء عالم بكل معلوم ، رجع إلى التعجب منهم بما هو من شأن الأرواح التي من شأنها التشاكل فقال تعالى عاطفاً على { وقالوا إذا كنا عظاماً } : { ويسئلونك } أي تعنتاً وامتحاناً { عن الروح } الذي تقدم أنها تعاد إلى أجسادهم يوم البعث ولو كانوا حجارة أو حديداً : ما هي؟ هل هي جسم أم لا؟ وهل هي متولدة من امتزاج الطبائع التي في البدن أم امتزاجه مبتدأ؟ وهل هي قديمة أم حادثة؟ ولما كان ذلك تعنتاً ، مع أنه لا يفتقر إليه في صحة اعتقاده ، أمره بأن يجيبهم عنه بما يليق بحالهم بقوله تعالى : { قل الروح } أي هذا النوع الذي تصير به الأجسام حية { من أمر ربي } أضافها إلى الأمر وهو الإرادة وإن كانت من جملة خلقه ، تشريفاً لها وإشارة إلى أنه لا سبب من غيره يتوسط بينها وبين أمره ، بل هو يبدعها من العدم ، أو يقال - وهو أحسن : إن الخلق قسمان : ما كان بتسبيب وتنمية وتطوير ، وهو الذي يترجم في القرآن بالخلق ، والثاني ما كان إخراجاً من العدم بلا تسبيب ولا تطوير ، وهو المعبر عنه بالأمر ، ومنه هذه الروح المسؤول عنها وكل روح في القرآن ، وكذا ما هو للحفظ والتدبير كالأديان ، والجامع لذلك القيومية كما مضى عن الحرالي عند روح القدس في البقرة ، فأفادت هذه العبارة أنها محدثة ، وأنها غير مطورة ولا مسببة ، وهي جسم لطيف سار في البدن كماء الورد في الورد على الصحيح عند أهل السنة ، وأمسك السلف عن الإمعان في الكلام على الروح أدباً ، لأنهم علموا أن في عدم الجواب لسؤالهم بغير هذا إشارة إلى أن السكوت عنه أولى لهم؛ ثم أتبعه التنبيه على جهلهم لتعكيسهم في الأسئلة بتركهم الإقبال على ما لا يفهمونه بلا شك وينفعهم في الدارين من هذا الروح المعنوي وهو القرآن ، وإقبالهم على ما لا يفهمونه من الروح المحسوس لقلة علمهم ، ومن فهمه منهم لا يفهمه إلا بعسر عظيم ، وفيه أسئلة كثيرة جداً لا برهان على أجوبتها ، منها أنه متحيز أم لا؟ وأنه مغاير للنفس أم لا؟ وهل تبقى بعد الموت أم لا؟ فعلمنا به أنه إنما هو على الإجمال ، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه ، فإن أكثر حقائق الأشياء مجهولة ، وهي موجودة .

فالسكنجبين خاصيته قمع الصفراء ، وحقيقة تلك الخاصية مجهولة ، وهي معلومة الوجود ، وليس وراء العلم بما سألوا عنه من الروح بعد فهمه من الفائدة ما لذلك الذي تركوه ولا قريب منه ، فقال تعالى دالاً على حدوثه بتغيره ، فإنه يكون في المبدإ جاهلاً ثم يحدث له العلم شيئاً بعد شيء ، وكل متغير حادث : { وما أوتيتم } أي من أيّ مؤت كان بعد أن كنتم لا تعلمون شيئاً { من العلم } أي مطلق هذه الحقيقة ، فكيف بالمشكل منها { إلا قليلاً * } ومما تجهلونه أمور ضرورية لكم ، لأن تماديكم على الجهل بها سبب لهلاككم في الدارين ، فمن أجهل الجهل وأضل الضلال أن تسألوا عما لا يضركم الجهل به ، ويتوقف إثباته على أمور دقيقة ، ومقدمات صعبة ، وتتركوا ما يضركم الجهل به في الدين والدنيا ، مع كونه في غاية الوضوح ، لكثرة ما قام عليه من الأدلة ، وله بحضرتكم من الأمثلة ، والذي سألتموه منزه عن الغش والضيق ، فهو ينبهكم على عبثكم نصيحة لكم ويعدل عن جوابكم عنه إلى ما ينفعكم رفقاً بكم ، ولفهم هذا سكت السلف عن الخوض في أمره ، والخطاب لليهود والعرب ، أما العرب فواضح ، وأما اليهود فإنهم وإن كانوا أهل الكتاب فذلك إشارة إلى تلاشي علمهم في جنب علم الله؛ كما ستأتي الإشارة إليه بقول الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام في العصفور الذي نقر من البحر نقرة أو نقرتين ، فحيث ورد تعظيم على أحد وتكثره فهو بالنسبة إلى غيره من الخلق ، وحيث ورد تقليله - كما في هذه الآية - فهو من حيث إضافته إلى علم الله تعالى ، وهذه الآية ورد في سبب نزولها ما يظن أنه متناقض ، فإنه روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة ، فسأله اليهود عن الروح فأوحى إليه ، فلما انجلى عنه الوحي تلا عليهم - الآية .

وفي السيرة الهشامية والدلائل للبيهقي وتفسير البغوي وغيره من التفاسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قريشاً أرسلت إلى اليهود قبل الهجرة تسألهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عند قريش ، فأمروهم أن يسألوه عن الروح ، وعن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « أخبركم بما سألتم عنه غداً » - ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، فمكث فيما يذكرون خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً ، حتى أرجف به أهل مكة ، وحتى حزن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، وروي أيضاً أن لبث الوحي كان أربعين ليلة . وروي : اثنتي عشرة ليلة ، وفي مسند أبي يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل! فقالوا : سلوه عن الروح ، فسألوه ، ونزلت { ويسئلونك } - الآية . وليس ذلك وأمثاله بحمد الله بمشكل ، فإنه محمول على أنه نزل للسبب الأول ، فلما سئل عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثانياً لم يجب فيه بالجواب الأول ، إما لرجاء أن يؤتى بأوضح منه ، أو خشية أن يكون نسخ - أو نحو ذلك لأمر رآه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيعيد الله سبحانه إنزاله عليه تثبيتاً له وإعلاماً بأنه هو الجواب ، وفيه مقنع ، وفي تأخير الجواب في هذا الأمر برهان قاطع لقريش وكل من له أدنى لب على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أن هذا القرآن من عند الله ، لا يقدر عليه غيره ، لأنه لو كان قادراً على الإتيان بشيء منه من عند نفسه أو من عند أحد من الخلق لبذل جهده في ذلك ، تنزيهاً لنفسه الشريفة ، وهمته المنيفة ، وعرضه الطاهر ، عن مثل ما خاضوا فيه بسبب إخلاف موعدهم .

ولما كانت الروح من عالم الأمر الذي هو من سر الملكوت ، ضمت إلى سورة الإسراء الذي هو من أبطن سر الملكوت لاسيما بما علا به من المعراج الذي جعل لغرابته كالرؤيا { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ولذلك فصلت عن السؤالين الآخرين ، لأنهما من عالم الملك ، وسيأتي بقية الكلام على هذا في سورة الكهف إن شاء الله تعالى .

وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)

ولما شرح إرادتهم الفتنة عما جاءهم من العلم بتبديل المنزل ، وإخراج المرسل ، وما تبع ذلك حتى ختم بتجهيلهم إذ سألوا تعنتاً عن الروح الحسي ، وكان الأنفع لهم سؤالهم استفادة وتفهماً عن دقائق الروح المعنوي الذي أعظم الله شرفهم به بإنزاله إليهم على لسان رجل منهم هو أشرفهم مجداً ، وأطهرهم نفساً ، وأعظمهم مولداً ، وأزكاهم عنصراً ، وأعلاهم همة ، وختم بتقليل علمهم إشارة إلى أنهم لا يفهمون إلا أن يفهمهموه سبحانه وهو أعلم بما يفهمونه وما لا يفهمونه ، قال عاطفاً على { وإن كادوا ليفتنونك } تنبيهاً لهم على أنه لو شاء لذهب بسبب هذا العلم القليل الذي وهبهموه ، فعمهم الجهل كما كانوا ، وعلى أنه لم يكفهم ترك السؤال عما يعنيهم حتى سألوا عما لا يعنيهم ، وأرادوا تبديل ما ينفعهم ويعنيهم بما يبيدهم ويفنيهم ، فضلوا قولاً وفعلاً : { ولئن شئنا } ومشيئتنا لا يتعاظمها شيء ، ولامه موطئة للقسم ، وأجاب عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال تعالى : { لنذهبن } أي بما لنا من العظمة ذهاباً محققاً { بالذي أوحينا } أي بما لنا من العظمة { إليك } مما أرادوا الفتنة فيه من القرآن على أن فيه من العلم ما يغنيهم - لو أقبلوا على تفهمه - عن شيء من الأشياء فلا تبقى عندك نحن ولا وحينا ، ولإفادة هذا لم يقل : لأذهبنا . { ثم } أي بعد الذهاب به { لا تجد لك } ولما كان السياق هنا للروح الذي هو الوحي ، فكانت العناية به أشد ، قدم قوله : { به } ولما كان السياق لمن يأخذ ما يريد طوعاً وكرهاً ، قال تعالى : { علينا } أي بما لنا من العظمة التي لا تعارض { وكيلاً * } يأتيك به أو بشيء منه .
ولما كان لا ملجأ منه سبحانه إلا إليه ، قال تعالى : { إلا } أي لكن تجد { رحمة } مبتدئة وكائنة { من ربك } أي المحسن إليك بأن أوجدك ورباك ، ولم يقطع إحسانه قط عنك ، يعيد بها إليك ويأتيك بما يقوم مقامه ، وعبر عن أداة الانقطاع بأداة الاتصال إشارة إلى أن رحمته سبحانه له - التي اقتضتها صفة إحسانه إليه لعظمها - كالوكيل الذي يتصرف بالغبطة على كل حال .
ولما كان في إنزاله إليه ثم إبقائه لديه من النعمة عليه وعلى أمته ما لا يحصى ، نبه على ذلك بقوله تعالى مستأنفاً مؤكداً لأن كون الرحمة هكذا من أغرب الغريب ، فهو بحيث لا يكاد يصدق ، وهو مما يتلذذ بذكره { إن فضله كان } أي كوناً ثابتاً { عليك } أي خاصة { كبيراً * } أي بالغ الكبر ، وقد ورد أنه يذهب بالقرآن في آخر الزمان ، يسري بما في المصاحف وبما في القلوب ، وقد أفهمت ذلك هذه الآية لأن كلام الملوك يفهم أصل الشيء ولو كان في سياق الشرط .

ولما كان بمعرض أن يقولوا : إن ذهب عليك من شيء فائت بمثله من عند نفسك ومما اكتسبته منه من الأساطير ، أمره أن يجيبهم عن هذا بقوله دلالة على مضمون ما قبله : { قل } .
ولما أريد هنا المماثلة في كل التفصيل إلى جميع السور في المعاني الصادقة ، والنظوم الرائقة ، كما دل عليه التعبير بالقرآن ، زاد في التحدي قيد الاجتماع من الثقلين وصرف الهمم للتظاهر والتعاون والتظافر بخلاف ما مضى في السور السابقة ، فقال تعالى مؤكداً باللام الموطئة للقسم لادعائهم أنهم لو شاؤوا أتوا بمثله ، والجواب حينئذ للقسم ، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم : { لئن اجتمعت الإنس } الذين تعرفونهم وتعرفون ما أتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم ، وقدمهم لسهولة اجتماعهم بهم ولأنهم عندهم الأصل في البلاغة { والجن } الذين يأتون كهانكم ويشجعون لهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم ، وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من كلامهم { على أن يأتوا } أي يجددوا إيتاءً ما في وقت ما في حال اجتماعهم { بمثل هذا القرآن } أي جميعه على ما هو عليه من التفصيل ، وخصه بالإشارة تنبيهاً على أن ما يقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الله وحي من الله ، ليس فيه شيء من عند نفسه ، وأن المراد في هذا السياق المتحدى به الذي اسمه القرآن خاصة { لا يأتون } .
ولما كانت هذه السورة مكية ، فكان أكثر ما يمكن في هذه الآية أن يكون آخر المكي فيختص التحدي به ، وكان المظهر إذا أعيد مضمراً أمكن فيه الخصوص ، وكان المراد إنما هو الشمول ، ومتى أريد الشمول استؤنف له إحاطة باستئناف إظهار محيط كما يأتي عن الحرالي في أواخر سورة الكهف ، لم يقل هنا « به » لذلك ، ولئلا يظن أنه يعود على القرآن لا على مثله ، بل أظهر فقال دالاً على أن المراد جميع المكي والمدني : { بمثله } أي لا مع التقيد بمعانيه الحقة الحكيمة حتى يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة ، مبيناً لأحسن المعاني بأوضح المباني ، ولا مع الانفكاك عنها إلى معانٍ مفتراة؛ ثم أوضح أن المراد الحكم لعجزهم مجتمعين ومنفردين متظاهرين وغير متظاهرين فقال تعالى : { ولو } ولما كان المكلفون مجبولين على المخالفة وتنافي الأغراض قال تعالى : { كان } أي جبلة وطبعاً على خلاف العادة { بعضهم لبعض ظهيراً * } أي معيناً بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه ، وقد تقدم في السور المذكور فيها التحدي ما يتم هذا المعنى .
ولما تمت هذه الجمل على هذا الوجه الجميل ، والوصف الجليل ، نبه على ذلك سبحانه بقوله عطفاً على نحو : صرفنا هذه الأمثال كما ترون على أعلى منهاج وأبلغ سياق في أبدع انتظام : { ولقد صرفنا } أي رددنا وكررنا تكريراً كثيراً بما لنا من العظمة ، ولما كان مبنى السورة على بيان العناية بالناس الذين اتقوا والذين هم محسنون ، اقتضى المقام لمزيد الاهتمام تقديم قوله تعالى : { للناس } أي الذين هم ناس { في هذا القرءان } الهادي للتي هي أقوم { من كل مثل } أي من كل ما هو في غرابته وسيره في أقطار الأرض وبلاغته ووضوحه ورشاقته كالمثل الذي يجب الاعتبار به؛ والتصريف : تصيير المعنى دائراً في الجهات المختلفة بالإضافة والصفة والصلة ونحو ذلك { فأبى } أي فتسبب عن ذلك الذي هو سبب للشفاء والشكر والهدى ، تصديقاً لقولنا { ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } أنه أبى { أكثر الناس } وهم من هم في صورة الناس وقد سلبوا معانيهم .

ولما كان « أبى » متأولاً بمعنى النفي ، فكان المعنى : فلم يرضوا مع الكبر والشماخة ، استقبله بأداة الاستثناء فقال تعالى : { إلا كفوراً * } لما لهم من الاضطراب .
ولما كان هذا أمراً معجباً ، عجب منهم تعجيباً آخر ، عاطفاً له على { ويسئلونك } إن كان المراد بالناس في قوله { فأبى أكثر الناس } الكل ، وعلى « فأبى » إن كان المراد بهم قريشاً فقال تعالى : { وقالوا } أي كفار قريش ومن والاهم تعنتاً بعد ما لزمهم من الحجة ببيان عجزهم عن المعارضة ولغير ذلك فعل المبهوت المحجوج المعاند ، مؤكدين لما لزمهم من الحجة التي صاروا بها في حيز من يؤمن قطعاً من غير توقف : { لن نؤمن } أي نصدق بما تقول مذعنين { لك حتى تفجر } أي تفجيراً عظيماً { لنا } أي أجمعين { من الأرض ينبوعاً * } أي عيناً لا ينضب ماءها { أو تكون لك } أي أنت وحدك { جنة من نخيل و } أشجار { عنب } عبر عنه بالثمرة لأن الانتفاع منه بغيرها قليل { فتفجر } أي بعظمة زائدة { الأنهار } الجارية { خلالها تفجيراً * } وهو تشقيق عما يجري من ماء أو ضياء أو نحوهما؛ فالفجر : شق الظلام من عمود الصبح ، والفجور : شق جلباب الحياء بما يخرج إلى الفساد { أو تسقط السماء } أي نفسها { كما زعمت } فيما تتوعدنا به { علينا كسفاً } أي قطعاً جمع كسفه وهي القطعة ، ويجوز أن يكون المراد بذلك الحاصب الآتي من جهة العلو وغيره مما توعدوا به في نحو قوله { أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } [ الأنعام : 65 ] وتسمية ذلك سماء كتسمية المطر بل والنبات سماء :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
{ أو تأتي } معك { بالله } أي الملك الأعظم { والملائكة قبيلاً * } أي إتياناً عياناً ومقابلة ينظر إليه لا يخفى على أحد منا شيء منه ، وكان أصله الاجتماع الذي يلزم منه المواجهة بالإقبال من قبائل الرأس الجامعة { أو يكون لك } أي خاصاً بك { بيت من زخرف } أي ذهب كامل الحسن والزينة { أو ترقى } أي تصعد { في السماء } درجة درجة ونحن ننظر إليك صاعداً { ولن نؤمن } أي نصدق مذعنين { لرقيك } أي أصلاً { حتى تنزل } وحققوا معنى كونه { من السماء } بقولهم : { علينا كتاباً } ومعنى كونه ، { في رق } أو نحو قولهم : { نقرؤه } يأمرنا فيه باتباعك .

فلما تم تعنتهم فكان لسان الحال طالباً من الله تعالى الجواب عنه ، أمره الله تعالى بجوابهم بقوله : { قل سبحان ربي } أي تنزه عن أن يكون له شريك في ملكه يطلب منه ما لا يطلب إلا من الإله ، فهو تنزيه لله وتعجيب منه لوضوح عنادهم بطلبهم ما لا قدرة عليه إلا للإله ممن لا قدرة له على شيء منه إلا بإذن الله ، ولم يدّع قط أنه قادر على شيء منه ، فحسن الاستفهام جداً في قوله تعالى : { هل كنت إلا بشراً } لا يقدر على غير ما يقدر عليه البشر { رسولاً * } كما كان من قبلي من الرسل ، لا أتعدى ما أمرت به من التبليغ ، فلا آتي بشيء إلا بإذن الله ، ولم أقل : إني إله ، حتى يطلب مني ما يطلب من الإله ورتبوا أنفسهم هذا الترتيب لأنهم حصروا حاله في دعوى أن يكون عظيماً بالرسالة أو غيرها ليتبعه الناس ، فإن كان الأول كان مقبول القول عند مرسله ، وحينئذ فإما أن يسأله في نفع عام بالينبوع ، أو خاص به بالجنة إن بخل بالعام ، أو ضر بالكشف أو يسأله في الإتيان مع جنده لأن يصدقه ، وإن كانت عظمته بغير ذلك فإما أن يكون ملكاً ليكون له البيت المذكور بما جرت العادة أن يكون تابعاً له ، أو يكون ممن يجتمع بالملك الذي أرسله فيرقى على ما قالوا .

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)

ولما أمر بما تضمن أنه كإخوانه من الرسل في كونه بشراً ، أتبعه قوله تعالى عطفاً على : { فأبى } أو { فقالوا } : { وما منع الناس } أي قريشاً ومن قال بقولهم لما لهم من الاضطراب { أن يؤمنوا } أي لم يبق لهم مانع من الإيمان ، والجملة مفعول « منع » { إذ جاءهم الهدى } أي الدليل القاطع على الإيمان وهو القرآن وغيره من الأدلة { إلا } وفاعل منع { أن قالوا } أي منكرين غاية الإنكار متعجبين متهكمين : { أبعث الله } أي بما له من العظمة الباهرة من صفات الجلال والإكرام { بشراً ورسولاً * } وسبب اتباع الضلال - مع وضوح ضره - وترك الهدى - مع ظهور نفعه - وقوع الشبهة أو الشهوة لضعفاء العقول - وهم أكثر الناس - في أوله ثم تقليد الرؤساء وتمكن العادة السيئة فيما بعد ذلك ، فلما أنكروا كون الرسول بشراً بعد أن جعلوا الإله حجراً ، علمه جوابهم بقوله تعالى : { قل } لهم : قال ربي سبحانه وتعالى : { لو كان } أي كوناً متمكناً { في الأرض } التي هي مسكن الآدميين { ملائكة يمشون } عليها كالآدميين من غير طيران كالملائكة إلى السماء { مطمئنين } باتخاذهم لها قراراً كما فعل البشر { لنزلنا } أي بما لنا من العظمة { عليهم } مرة بعد مرة كما فعلنا في تنزيل جبريل عليه السلام على الأنبياء من البشر ، وحقق الأمر بقوله تعالى : { من السماء ملكاً رسولاً * } لتمكنهم من التلقي منه لمشاكلتهم له بخلاف البشر كما هو مقتضى الحكمة ، لأن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم ، إذ الشيء عن شكله أفهم ، وبه آنس ، وإليه أحسن ، وله آلف ، إلا من فضله بتغليب نفسه وعقله على شهوته فأقدره بذلك على التلقي من الملك .
ولما نصب البرهان القاطع على أن القرآن الموحى إليه من عند الله ، ونفى شبهتهم في إنكار كون الرسول بشراً ، بأنه ما خرج عن عادة من قبله ممن كانوا مقرين بأنهم أنبياء ، وبأن الجنس لا يفهم عن جنس آخر ، فالبشر لا يفهم عن الملك إلا بخارقة ، ولا يكون ذلك إلا للرسل ومن أراد الله من أتباعهم ، لم يبق إلا محض العناد الذي لا رجوع فيه إلا إلى السيف عند القدرة ، وإلى الله عند فقدها ، وكان في مكة المشرفة غير قادر على السيف ، أمره الله تعالى بالرجوع إلى السيف فقال تعالى : { قل كفى بالله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { شهيداً } أي فيصلاً يكون { بيني وبينكم } يعامل كلاًّ منا بما يستحق؛ ثم علل كفايته لذلك بقوله تعالى : { إنه كان بعباده } قبل أن يخلقهم { خبيراً } بما يؤول إليه أمرهم بعد إيجاده لهم { بصيراً * } بما يكون منهم بعد وجوده .
ولما تقدم أنه سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدي والضال ، وكان ختم هذه الآية مرشداً إلى أن المعنى : فمن علم منه بجوابه قابلية للخير وفقه للعمل على تلك المشاكلة ، ومن علم منه قابلية للشر أضله ، عطف عليه قوله تعالى : { ومن يهد الله } أي الذي له الأمر كله لأنه لا شريك له ، بخلق الهداية في قلبه ، وأشار إلى قلة المهتدي على طريقة الإحسان بإفراد ضميره ، وإلى كثرة الضال بجمعه فقال تعالى : { فهو } أي لا غيره { المهتد } لا يمكن أحداً غيره أن يضله { ومن يضلل } فهو الضال لا هادي له ، وذلك معنى قوله تعالى : { فلن تجد لهم } أي للضالين { أولياء } أي أنصاراً في هذه الدنيا { من دونه } يهدونهم ولا ينفعونهم بشيء أراد الله غيره ، ولذلك نفوا أصلاً ورأساً ، لأنهم إذا انتفى نفعهم كانوا كالعدم ، وإذا انتفى على الجمع انتفى عن المفرد من باب الأولى؛ فالآية من الاحتباك : خبر الأول يدل على حذف ضده ثانياً ، ونتيجة الثاني تدل على حذف ضدها من الأول .

ولما كان يوم الفصل يوماً يظهر فيه لكل أحد في كل حالة من عظمته تعالى ما يضمحل معه كل عظمة قال تعالى : { ونحشرهم } بنون العظمة أي نجمعهم بكره { يوم القيامة } أي الذي هو محط الحكمة { على وجوههم } يمشون أو مسحوبين عليها إهانة لهم فيها كما لم يذلوها بالسجود لنا { عمياً وبكماً وصماً } كما كانوا في الدنيا لا ينتفعون بأبصارهم ولا نطقهم ولا أسماعهم ، بل يكون ضرراً عليهم لما ينظرون من المعاطب ، ويسمعون من المصائب ، وينطقون به من المعايب؛ قال الرازي في اللوامع إذ يحشر المرء على ما مات عليه ، فلم يكن له في الآخرة شيء إلا حصل أوله ومبدأه في الدنيا وتمامه في الآخرة - انتهى .
ولما كان المقام للانتقال من مقام إلى آخر ، قدم البصر لأنه العمدة في ذلك ، وثنى بالنطق لأنه يمكن الأعمى الاسترشاد ، وختم بالسمع لأنه يمكن معه وحده نوع رشاد ، وعطفها بالواو إن كان لتشريك الكل في كل من الأوصاف فللتهويل ، لأن المتكلم إذا نطق بالعاطف ظن السامع الانتقال إلى شيء آخر ، فإذا أتى بالوصف كان أروع للعلم بأن صاحبه عريق فيه ، لما تقدم في براءة ، وإن كان للتنويع فلتصويرهم بأقبح صورة من حيث إنه لا ينتفع فريق منهم بالآخر كبير نفع ، فكأنه قيل : إلى أيّ مكان يحشرون؟ فقال تعالى : { مأواهم جهنم } تستعر عليهم وتتجهمهم ، كل واحد منهم يقاسي عذابها وحده وإن كان وجهه إلى وجه صاحبه ، لأنه لا يدرك سوى العذاب للختم على مشاعره ، فيا طولها من غربة! ويا لها من كربة! فكأنه قيل : هل يفتر عنهم عذابها؟ فقيل : لا بل هم كل ساعة في زيادة ، لأنها { كلما خبت } أي أخذ لهبها في السكون عند إنضاجها لجلودهم { زدناهم } أي بما لنا من العظمة { سعيراً * } بإعادة الجلود؛ ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته فقال تعالى : { ذلك } أي العذاب العظيم { جزاؤهم بأنهم } أهل الضلالة { كفروا بآيتنا } القرآنية وغيرها ، مع ما لها من العظمة بنسبتها إلينا ، وكانوا كل يوم يزدادون كفراً ، وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا { وقالوا } إنكاراً لقدرتنا { إذا كنا عظاماً ورفاتاً } ممزقين في الأرض؛ ثم كرروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم : { أإنا لمبعوثون } أي ثابت بعثنا { خلقاً جديداً * } فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرر الخلق الجديد في جلودهم مكرراً كل لحظة

{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [ النساء : 56 ] ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم فقال منبهاً على أنهم أولى بالإنكار عاطفاً على ما تقديره : ألم يروا أن الله الذي ابتدأ خلقهم قادر على أن يعيدهم { أو لم يروا } أي يعلموا بعيون بصائرهم علماً هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل ، ونادى بصحته من الشواهد الجلائل { أن الله } أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لا غيره { الذي خلق السماوات } جمعها لما دل على ذلك من الحسن ، ولما لم يكن للأرض مثل ذلك أفردها مريداً الجنس الصالح للجمع فقال تعالى : { والأرض } على كبر أجرامها ، وعظم أحكامها ، وشدة أجزائها ، وسعة أرجائها ، وكثرة ما فيها من المرافق والمعاون التي يمزقها ويفنيها ثم يجددها ويحييها { قادر على أن يخلق } أي يجدد في أي وقت أراد { مثلهم } بدءاً فكيف بالإعادة وهم أضغف أمراً وأحقر شأناً { و } أنه { جعل لهم أجلاً } لعذابهم أو موتهم أو بعثهم لأنه معلوم في نفسه { لا ريب فيه } بوجه من الوجوه لما تكرر لهم من مشاهدة أنه لا تؤخر نفس إذا جاء أجلها ، وكذا لا تقدم على أجلها ، فكم ممن اجتهد الضراغمة الأبطال وفحول الرجال في ضره أو قتله؛ وهم قاطعون أنه في قبضتهم فلم يقدروا على ذلك ، ثم كان ذلك بأضعف الناس أو بأوهى سبب فعلم بذلك أنه المنفرد بالقدرة على الإيجاد والإعدام { فأبى } أي بلى قد علموا ذلك علماً كالمحسوس المرئي فتسبب عن ذلك السبب للإيمان أن أبوا - هكذا كان الأصل فأظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال : { الظالمون } أي أبى هؤلاء المتعنتون لظلمهم { إلا كفوراً * } أي جحوداً لعدم الشركة .
ولما قدم في هذه السورة أنه هو المعطي وأن عطاءه الجم - الذي فات الحصر ، وفضل عن الحاجة ، وقامت به الحجة على العباد في تمام قدرته وكمال علمه - غير محظور عن أحد ، وأنهم يقتلون أولادهم مع ذلك خشية الإملاق ، وهم يطلبون أن يظهر لهم من جنس ما خلق من الينابيع والجنات والذهب والزخرف على كيفيات مخصوصة لغير حاجة ما تقدم ذكره ، وقد امتنعوا بخلاً وأنفة وجهلاً عن الاعتراف له بما أوجبه عليهم شكراً لنعمته ، واستدفاعاً لنقمته ، بعد قيام الدلائل وزوال الشبه فلا أبخل منهم لأنهم بخلوا مما يجب عليهم من الكلام كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

« أبخل الناس من بخل بالسلام » أمره أن ينبههم على سفههم في ذلك بقوله تعالى : { قل لو } .
ولما كان من حق « لو » الدخول على الأفعال ، علم أن بعدها فعلاً من جنس ما بعد تقديره : تملكون ولكنه حذفه وفصل الضمير لأن المقصود الحكم عليهم بادىء بدء فقال تعالى : { أنتم } أي دون غيركم { تملكون خزائن } عبر بصيغة منتهى الجموع ، لأن المقام جدير المبالغة { رحمة } أي إرزاق وإكرام { ربي } المحسن إليّ بإيتائي جميع ما ثبت أمري وأوضحه ، وهي مقدوراته التي يرحم بها عباده بإضافتها عليهم { إذاً لأمسكتم } أي لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها { خشية } عاقبة { الإنفاق } أي الموصل إلى الفقر ، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالمشاهد من مضمون قوله تعالى : { وكان } أي جبلة وطبعاً { الإنسان } أي الذي من شأنه الإنس بنفسه ، فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها { قتوراً * } أي بخيلاً ممسكاً غاية الإمساك لإمكان أن يكون فقيراً فلا تراه إلا مضيقاً في النفقة على نفسه ، ومن تلزمه نفقته ، شديداً في ذلك وإن اتسعت أحواله ، وزادت على الحد أمواله ، لما فيه من صفة النقص اللازمة بلزوم الحاجة له ، طبع على ذلك فهو في غريزته بالقوة ، فكلهم يفعله إلا من وفقه الله تعالى فغلب عقله على هواه وقليل ما هم! أي فإذا كان هذا أمركم فيما تملكونه مع الحاجة إلى الوجوه المنفق فيها فكيف تطلبون من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يملكه ، ولا ادعى القدرة عليه؟ أو من الخالق الحكيم أن يفعل ما تتعنتون به عبثاً بغير حاجة أصلاً ، لأنه إن كان لإثبات قدرته فأنتم لا تمترون فيها ، وإن كان لإثبات رسالة نبيكم فقد ثبت بأمور أعظمها هذا القرآن الذي مر آنفاً إقامة الدليل عليها به ، وهتك أستار شبهتكم في استبعاد كون الرسول بشراً ، والله تعالى قد أكرمكم بنبيكم عن أن يعاجلكم بالاستئصال عند العصيان بعد كشف الغطاء كما جرت به سنته في جميع الأمم ، وإن كان لإثبات غناكم فهو شيء لا يغني نفوسكم فيردها عن طلب المزيد وعن التقتير لما طبعتم عليه . بل تكونون عند حصول ذلك لكم لحصول الغنى كالمستجير من الرمضاء بالنار ، وهو قد قضى أنه يظهر أمره على كل من ناواه وإن كره الكافرون ، وقد علم من يؤمن فييسر له الإيمان ويجعله عوناً لحزب الرحمن ، ومن لا يؤمن فهو يجعله مع أولياء الشيطان ، ويذيق الكل الهوان ، ويجعلهم وقوداً للنيران ، فلم يبق بعد هذا كله في إجابتكم إلى تعنتكم إلا العبث الذي هو سبحانه متعال عنه ، فلا وجه يحصل به الإنسان الغني إلا اتباع السنة والانسلاخ عن الهوى ، فمن وصل إلى ذلك استوى عنده الذهب والحصباء .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)

ولما قدم سبحانه أن أكثر الناس جحد الآيات لكونه حكم بضلاله ، ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه ، وختم بأن من جبل على شيء لم ينفك عنه ، شرع يسلي نبيه عليه الصلاة والسلام بما اتفق لمن قبله من إخوانه الأنبياء ، مع التنبيه على أنه يجود بالآيات على حسب المقتضيات ، وعلى أن خوارق العادات لا تنفع في إيمان من حكم عليه بالضلال ، وتوجب - كما في سنه الله - إهلاك من عصى بعد ذلك بعذاب الاستئصال ، فقال عاطفاً على قوله { ولقد صرفنا للناس } : { ولقد ءاتينا } أي بما لنا من العظمة { موسى } بن عمران المتقي المحسن عليه السلام لما أرسلناه إلى فرعون { تسع آيات بينات } وهي - كما في التوراة : العصى ، ثم الدم ، ثم الضفادع ، ثم القمل ، ثم موت البهائم ، ثم البرد الكبار التي أنزلها الله مع النار المضطرمة ، فكانت تهلك كل ما مرت عليه من نبات وحيوان ، ثم الجراد ، ثم الظلمة ، ثم موت الأبكار من الآدميين وجميع الحيوان - كما مضى ذلك في هذا الكتاب عن التوراة في سورة الأعراف ، وكأنه عد اليد مع العصى آية ، ولم يفرد اليد لأنه ليس فيها ضرر عليهم ، وقد نظمتها ليهون حفظها فقلت :
عصى قمل موت البهائم ظلمة ... جراد دم ثم الضفادع والبرد
وموت بكور الآدمي وغيره ... من الحيّ آتاها الذي عز وانفرد
وهي ملخصة في الزبور فإنه قال في المزمور السابع والسبعين : صنع آياته وعجائبه في مصارع صاعان ، وجعل أنهارهم دماً وصهاريجهم لكيلا يشربوا الماء : أرسل عليهم الهوام وذباب الكلاب فأكلهم الضفادع وأفسدهم ، أطعم القمل ثمارهم والجراد كدهم ، كسر بالبرد كرومهم ، وبالجليد تبنهم ، أسلم للبرد مواشيهم وللحريق أموالهم ، أرسل عليهم شدة حنقه سخطاً وغضباً ، أرسل ملائكة الشر ، فتح طرق سخطه ، ولم يخلص من الموت أنفسهم ، أسلم للموت دوابهم ، قتل جميع أبكار مصر وأول أولادهم في مساكن حام . وقال في المزمور الرابع بعد المائة بعد أن ذكر صنائع الله عند بني إسرائيل وآبائهم : بعث جوعاً على الأرض ، حطم زرع أرضهم ، أرسل أمامهم رجلاً ، بيع يوسف للعبودية ، وأوثقوا بالقيود رجليه ، صارت نفسه في الحديد حتى جاءت كلمته ، وقول الرب ابتلاه ، أرسل الملك فأطلقه ، وجعله رئيساً على شعبه ، وأقامه رباً على بنيه ، وسلطانه على كل ما له ، ليؤدب أراجينه كنفسه ويفقه مشايخه ، دخل إسرائيل مصر ، وتغرب يعقوب في أرض حام ، وكثر شعبه جداً ، وعلا على أعدائه ، وصرف قلبه ليبغض شبعه ويغدر بعبيده ، أرسل موسى عبده وهارون صفيه ، فصنعا فيهم آياته وعجائبه في أرض حام ، بعث ظلمة فصار ليلاً ، وأسخطوا كلامه ، فحول مياههم دماً ، وأمات حيتانهم ، وانبعثت أرضهم ضفادع في قياطين ملوكهم ، أمر الهوام فجاء وذباب الكلب والقمل في جميع تخومهم ، جعل أمطارهم برداً ، واشتعلت النار في أرضهم ، ضرب كرومهم وتبنهم ، وكسر شجر تخومهم ، أذن للجراد فجاء وذباب لا يحصى ، فأكل جميع عشب الأرض وثمارها ، وقتل كل أبكار مصر وأول ولد ولد لهم غير أنه لم يذكر العصى ، وكأن ذلك لشهرتها جداً عندهم ، ولأن جميع الآيات كانت بها ، فهي في الحقيقة الآية الجامعة للكل ، وإنما قلت : إن الآيات هذه ، لأن السياق يدل على أن فرعون رآها كلها ، وعاند بعد رؤيتها ، وذلك إشارة إلى أنه لو أعطى كفار قريش ما اقترحوه من تفجير الينبوع وما معه ، لم يكفهم عن العناد ، فالإتيان به عبث لا مصلحة فيه .

ولما كان اليهود الذين أمروا قريشاً بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الروح التي مضى الجواب عنها - كما في بعض الروايات - وعن أهل الكهف وذي القرنين الآتي شرح قصتيهما في الكهف ، نبههم على سؤالهم - إن كانوا يقبلون كلامهم - عن أمر موسى عليه السلام في كونه كهذا النبي الكريم في أنه بشر مع كونه رسولاً وفي كونه أتى بالخوارق فكذب بها المعاندون فاستؤصل المكذب ، فقال تعالى : { فسئل } أي يا أعظم خلقنا! { بني إسراءيل } أي عامة الذين نبهوا قريشاً على أمر الروح عن حديث موسى عليه السلام أو المؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه { إذ } أي عن ذلك حين { جاءهم } أي جاء آباءهم ، فوقع له من التكذيب بعد إظهار المعجزات الباهرات ما وقع لك ، ولم يكذب لخلل من أمره ولا لقوة من عدوه على مدافعة العذاب ، وإنما كان جهلاً وعناداً ، ليكون ذلك مسلاة لك وعلماً على خبث طباعهم وحجة قاطعة عليهم { فقال } أي فذهب إلى فرعون فأمره بإرسالهم معه فأبى فأظهر له الآيات واحدة بعد أخرى فتسبب عن ذلك ضد ما يقتضيه الحال ، وهو أن قال { له فرعون } عتواً واستكباراً : { إني لأظنك } أكد قوله لما أظهر موسى عليه السلام مما يوجب الإذعان له والإيمان والإنكار لأن يكذبه أحد { يا موسى مسحوراً * } أي فكل ما ينشأ عنك فهو من آثار السحر الذي بك ، خيال لا حقيقة له ، وأنت في الحقيقة مسحور ، ولوجود السحر عنك ساحر ، قال أبو عبيد : كما يقال : ميمون - بمعنى يأمن . وكأنه موه على جنوده لما أراهم آية اليد بهذه الشبهة ، وهذا كما قالت قريش { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } وقالوا في موضع آخر : ساحر ، فإنهم ربما أطلقوا اسم المفعول مريدين اسم الفاعل مبالغة في أنه كالمجبر على الفعل ، وفي الأمر بسؤال اليهود تنبيه على ضلالهم ، قال الشيخ ولي الدين الملوي : ولعل منه اقتباس الأئمة في المناظرة مطالبة اليهود والنصارى ونحوهم بإثبات نبوة أنبيائهم ، فكل طريق يسلكون يسلك مثله في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وكل اعتراض يوردونه يورد عليهم مثله ، وما كان جواباً لهم فهو جواب لنا ، ومن تفطن للآية الكريمة رأى منها العجب في ذلك - انتهى ولم يؤمن فرعون على تواتر تلك الآيات وعظمها ، فكأنه قيل : فما قال موسى عليه السلام؟ فقيل : { قال } لفرعون : { لقد علمت } أي أنا بضم التاء على قراءة الكسائي ليفيد أن عنده العلم القطعي بأن ما أتى به منزل من ربه ، فهو أعقل أهل ذلك الزمان وليس على ما ادعاه فرعون ، أو بفتح التاء - على قراءة الباقين أي أنك يا فرعون صرت بما أظهرته أنا من الأدلة في عداد من يعلم أنه { ما أنزل } على يدي { هؤلاء } الآيات { إلا رب السماوات والأرض } أي خالقهما ومدبرهما حال كون هذه الآيات { بصائر } أي بينات ثابتاً أمرها علياً قدرها ، يبصر بها صدقي ، وأما السحر فإنه لا يخفى على أحد أنه خيال لا حقيقة له { وإني } أي وإن ظننتني يا فرعون مسحوراً { لأظنك } أكد لما كان مع فرعون من ينكر قوله ويظهر القطع بسعادة فرعون { يا فرعون مثبوراً * } أي ملعوناً مطروداً مغلوباً مهلكاً ممنوعاً من الخير فاسد العقل ، وظني قريب إلى الصحة بخلاف ظنك لعنادك لرب العالمين ، لوضوح مكابرتك للبصائر التي كشف عنها وبها الغطاء ، فهي أوضح من الشمس ، وذلك لإخلادك إلى الحال التي أنت بها وكسلك عن الانتقال عنها إلى ما هو أشرف منها ، وقد بينت مدار « ثبر » في { لا تثريب } في سورة يوسف عليه السلام ، فإذا راجعتها اتضح لك ما أشرت إليه { فأراد } أي فما تسبب عن هذا الذي هو موجب الإيمان في العادة إلا أن فرعون أراد { أن يستفزهم } أي يستخف موسى ومن آمن معه ويخرجهم فيكونوا كالماء إذا سال ، من قولهم : فز الجرح : سال { من الأرض } بالنفي والقتل للتمكن من استعباد الباقين كما أراد هؤلاء أن يستفزوك من الأرض ليخرجوك منها للتمكن مما هم عليه من الكفر والعناد؛ ثم أخذ يحذرهم سطواته بما فعل بمن كانوا أكثر منهم وأشد فقال : { فأغرقناه } أي فتسبب عن ذلك أن رددنا - بما لنا من العظمة - كيده في نحره : فلم نقدره على مراده واستفززناه نحن فلم يقدر على الامتناع ، بل خف غير عالم بما نريد به حتى أدخلناه في البحر حيث أدخلنا بني إسرائيل فأنجيناهم وأغرقناه { ومن معه جميعاً * } كما جرت به سنتنا فيمن عاند بعد أن رأى الخوارق وكفر النعمة وأفرط في البغي بعد ظهور الحق ، فليحذر هؤلاء مثل ذلك ولا سيما إذا أخرجنا رسولنا من بين ظهرانيهم ففي هذه الآية وأمثالها بشارة له بإسلاكنا له في النصرة ، والتمكن سبيل إخوانه من الرسل عليهم السلام { وقلنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء .

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)

ولما كان هذا القول غير مستغرق لزمان البعد ، أثبت الجار فقال تعالى : { من بعده } أي الإغراق { لبني إسراءيل } الذين كانوا تحت يده أذل من العبيد لتقواهم وإحسانهم : { اسكنوا الأرض } أي مطلق الأرض إشارة إلى أن فرعون كان يريد محوهم عن الأرض أو إلى أن سكناهم مع وجوده كانت عدماً ، لما بهم من الذل - والأرض التي أراد أن يستفزهم منها ، وهي أرض مصر ، أي صيروا بحيث تسكنونها لا يد لأحد عليكم ، ولا مانع لكم مما تريدون منها ، كما كان فرعون وجنوده إذا شئتم مملكين فيها بعد أن كنتم عبيداً تسامون سوء العذاب { فإذا جاء } أي مجيئاً محققاً { وعد الآخرة } أي القيامة بعد أن سكنتم الأرض أحياء ودفنتم فيها أمواتاً { جئنا } أي بما لنا من العظمة { بكم } منها { لفيفاً * } أي بعثناكم وإياهم مختلطين ، لا حكم لأحد على آخر ، ولا دفع لأحد عن آخر على غير الحالة التي كانت في الدنيا ، ثم ميزنا بعضكم عن بعض ، ونعمنا الطيب منكم بإهانة الخبيث ، أن يسأل بنو إسرائيل الذين يقبل هؤلاء المشركون الجهلة كلامهم ويستنصحونهم في أمورهم - عن هذا الذي تلوناه عليك يخبروا به كما أخبرناك ، فيثبت حينئذ عندهم أمر الآخرة ، وإلا كان قبولهم لبعض كلامهم دون بعض بغير دليل تحكماً وترجيحاً من غير مرجح .
ولما ثبت أمر الحشر بإثبات القدرة على كل ممكن تارة ، وبإخبار بني إسرائيل الذين ألزموا أنفسهم قبول كلامهم وقطع المفاوز إليهم لسؤالهم عن بعض الأمور أخرى ، ثبت أن هذا القرآن المخبر بذلك حق ، وكانوا قد سألوه عن المسائل المذكورة فأجابهم عن أولها وهي الروح بأمر مجمل وعقبه بأنهم سألوه في أشياء اقترحوها وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفعلها ، وأشار تعالى بالإخبار عن آيات موسى عليه السلام إلى أنه لم يترك إجابتهم بخلاً ولا عجزاً ، فإنها من جنس ما سألوا من التصرف في المياه تارة بإنزالهما وتارة بتبديلها دماً الموجب للقدرة على إنبات الأشجار بها ، ومن إسقاط السماء كسفاً بإسقاط البرد المهلك ، فثبت بذلك صحة الإخبار بتصريف الأمثال في هذا الكتاب ، فعطف على قوله : { ولقد صرفنا } قوله تعالى : { وبالحق } أي من المعاني الثابتة التي لا مرية فيها لا بغيره { أنزلناه } نحن القرآن أو هذا الذي أخبر منه بالحشر لبني إسرائيل ملتفين بالقبط وبما قبله على ما لنا من العظمة { وبالحق } لا بغيره { نزل } هو ووصل إليهم على لسانك بعد إنزاله عليك كما أنزلنا سواء غضاً طرياً محفوظاً لم يطرأ عليه طارىء ، فليس فيه شيء من تحريف ولا تبديل كما وقع في كتاب اليهود الذين يسألهم قومك ، فأفاد هذا أن القرآن معجز بكونه مع إعجازه بالبلاغة في تصريف الأمثال ، وغيرها من نظم المقال { وما أرسلناك } أي بما لنا من العظمة { إلا مبشراً ونذيراً * } على غاية التمكن في كل من الوصفين - بما أشار إليه الواو والصيغة ، تبلغهم ما فيه من بشارة لمن آمن بذلك اليوم ، ونذارة لمن لم يؤمن به ، فإن قبلوا فهو حظهم ، وإن لم يقبلوا كان عليهم وزرهم ، ولم يكن عليك لوم ، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلاً ، وسنزهق باطلهم بهذا الحق لا محالة ، فلا تستعجل لهم { إن الباطل كان زهوقاً } ولم نرسلك لتفجير الأنهار ولا إنبات الأشجار؛ ثم أخبر أن الحكمة في إنزال القرآن منجماً فقال تعالى : { وقرءاناً } أي وفصلنا أو وأنزلنا قرآناً { فرقناه } أي أنزلناه منجماً في أوقات متطاولة وميزناه بالحقيقة عن كل باطل ، وبالإعجاز عن كل كلام { لتقرأه على الناس } أي عامة كل من أمكنك منهم ، فإنك مرسل إليهم كلهم .

ولما كانوا لما لهم من النوس في غاية الزلزلة ، لا يتهذبون إلا في أزمان طويلة وعلاج كبير ، قال مشيراً إلى ذلك : { على مكث } أي تؤدة وترسل بأن تقرأ منه كل نجم في وقته الذي أنزلناه فيه مدة ثلاث وعشرين سنة { ونزلناه } من عندنا بما لنا من العظمة { تنزيلاً * } بعضه في إثر بعض ، مفرقاً بحسب الوقائع لأنه أتقن في فصلها ، وأعون على الفهم لطول التأمل لما نزل من نجومه في مدة ما بين النجمين لغزارة ما فيه من المعاني ، وكثرة ما تضمنه من الحكم ، وذلك أيضاً أقرب للحفظ ، وأعظم تثبيتاً للفؤاد ، وأشرح للصدر ، لأن أخبار الحبيب إذا كانت متواصلة كان المحب كل يوم في عيد ، بهناء جديد ، فعلنا بك ذلك لما تقدم من أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، فلما طالت الدلائل ، وزالت الشبه ، وعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، فلما طالت الدلائل ، وزالت الشبه ، وعلم أن الحظ لمن أقبل ، والخيبة لمن أدبر ، أمره أن يقول منبهاً لهم على ذلك مبكتاً لهم بتقاعسهم عنه وعنادهم فيه بقوله تعالى : { قل آمنوا به } أي القرآن { أو لا تؤمنوا } فالإيمان به غير محتاج إليكم ولا موقوف عليكم لأنكم إن آمنتم به كان الحظ لكم ، وإلا لم تضروا إلا أنفسكم ، وهو احتقار لهم حيث صرف لهم من كل مثل فأبوا إلا كفوراً ، ثم علل ذلك بما يقبل بكل ذي لب إليه ، فإن كان ل « قل » فهو تسلية له صل الله عليه وعلى آله وسلم ، وإن كان لما بعدها فهو تبكيت لهم وتحقير ، فقال تعالى : { إن الذين أوتوا العلم } وبني للمفعول دلالة على أن العلم الرباني - وهو العلم في الحقيقة من أيّ مؤتٍ كان ، حاث على الإيمان بهذا القرآن ، وتنبيهاً على أن من كان يعلم ولا يحمله علمه على الإيمان بهذا الكتاب الذي لا شيء أبين من حقيقته بمصادقته لكتب الأنبياء الذين ثبتت رسالاتهم ومضت عليها الدهور ، واطمأنت بها النفوس ، وزيادته عليها بما أودعه الله من الإعجاز والحكم - فعلمه كلا علم بل هو أجهل الجهلة ، سواء كان ممن سألتموه عني أو من غيرهم - كما سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في الزمر .

ولما كان المراد أن من اتصف بهذا الوصف ولو زمناً يسيراً نفعه ، أدخل الجار فقال مرغباً في العلم ليحمل على الإيمان بالقرآن : { من قبله } أي قبل إنزاله ممن آمن من بني إسرائيل الذين أمرني الله بسؤالهم تسميعاً لكم وتثبيتاً لكونكم أقبلتم عليهم بالسؤال وجعلتموهم محط الوثوق : { إذا يتلى } أي من أيّ تالٍ كان { عليهم } في وقت من الأوقات ، ينقلهم من حال إلى حال ، فيرقيهم في مدارج القرب ومعارج الكمال ، إلى أعلى الرتب ، بأنهم { يخرون } أي يسقطون بسرعة؛ وأكد السرعة وأفاد الاختصاص بقوله تعالى : { للأذقان } باللام دون إلى أو على ، دالاً بالأذقان على أنهم من شدة ما يحصل لهم من الخشوع يسقطون سقوط من ليس له اختيار ، وأول ما يلاقي الأرض ممن يسقط كذلك ذقنه ، وهو مجتمع اللحيين من منبت لحيته - فإن الإنسان مجبول بالطبع على صيانة وجهه ، فهو يرفع رأسه فتصير ذقنه وفمه أقرب ما في وجهه إلى الأرض حال السقوط ، ولهذا قال شاعرهم : فخر سريعاً لليدين وللفم .
ثم بين أن ذلك ليس سقوطاً اضطرارياً من كل جهة بقوله تعالى : { سجداً * } أي يفعلون ذلك لما يعلمون من حقيته بما أوتوا من العلم السالف ، وما في قلوبهم من الإذعان ، والخشية للرحمن { ويقولون } أي على وجه التحديد المستمر : { سبحان ربنا } أي تنزه الموجد لنا ، المدبر لأمورنا ، المحسن إلينا ، عن شوائب النقص ، لأنه وعد على ألسنة رسلنا أن يبعثنا بعد الموت ووعده الحق ، فلا بد أن يكون ، ووعد أن يأتي بهذا الكتاب على لسان هذا النبي العربي ، وأوصل هذا الوعد إلينا في الكتب السالفة فأنجز ما سبق به وعده { إن } أي أنه { كان } أي كوناً لا ينفك { وعد ربنا } أي المحسن إلينا بالإيمان ، وما تبعه من وجوه العرفان { لمفعولاً * } دون خلف ، ولا بد أن يأتي جميع ما وعد به من الثواب والعقاب ، وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزئون بالوعيد في قولهم { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } ونحوه مما معناه الطعن في قدرة الله القادر عل كل شيء { ويخرون } عند تكرار سماعه { للأذقان } مع سجودهم { يبكون ويزيدهم } تكراره { خشوعاً * } أي خضوعاً وتواضعاً وإخباتاً ، فإن كان سؤالكم إياهم لتؤمنوا إذا أخبروكم أني على الحق فآمنوا ، وإن كان لغير ذلك فقد تبين سفهكم وضعف أمركم وسوء رأيكم ، وعبر في البكاء بالفعل إشارة إلى تجدده في بعض الأحيان لما لهم في بعضها من السرور ببعض ما أبيح من الملاذ ، وفي السجود بالاسم إشارة إلى دوام ذلهم بالسجود المشروع ، أو بمطلق الخضوع ، وسيأتي في سورة مريم ما يزيده وضوحاً .

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

ولما كان إيمان أهل العلم الأول به وإذعانهم له وتركهم لأديانهم - التي أخذوها عن الأنبياء الآتين إليهم بالكتب لأجله بعد إقامة الدليل القاطع على أنه من عند الله - موجباً لكل من له أدنى إنسانية أن يؤمن به ويقبل عليه ويدعو من أنزله دون غيره دائماً ، لا في أوقات الشدة فقط { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } وكانت أوقات الإجابة أولى بالدعاء من غيرها ، وكانت حالة السجود لا سيما مع البكاء والخشوع أولاها « أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد » كان المعاندون من العرب كأنهم قالوا لأن ذلك من شأنهم ومن حقهم بعد ما قام من الأدلة : آمناً فعلِّمنا كيف ندعو وبأيّ اسم نهتف؟ ولما كان الجلالة هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى ، وكان قد ورد في النحل من التنويه به ما لم يرد في غيرها لما تقدم من الأسرار مع أنه عد فيها من النعم ما لم يعد في غيرها ، ومنها تعليم الإنسان البيان ، وذلك أليق باسم الرحمن { الرحمن علم القرآن } [ الرحمن : 1 ] الآيات ، وكانت الرحمة دنيوية وأخروية من الخالق ومن الخلائق قد كررت في هذه السورة ثماني مرات { عسى ربكم أن يرحمكم } ، { جناح الذل من الرحمة } ، { وقل رب ارحمهما } { ابتغاء رحمة من ربك } ، { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم } ، { إنه كان بكم رحيماً } ، { إلا رحمة من ربك } خزائن رحمة ربي وكان ذلك ظاهراً في إرادة عمومها ، فكان اسم الرحمن به أليق ، وقع الجواب بقوله تعالى : { قل ادعوا الله } أي الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في ذات إحاطته { أو ادعوا الرحمن } في معنى استغراقه بالرحمة ، أي سموا - أي أوقعوا الدعاء مسمين في حال دعائكم - ربكم الذي سبحتموه في السجود بأي اسم أردتم مما أذن فيه ، فاهتفوا بهذا الاسم الدال على الجلال ، واستحقاق مسماه الدعاء لذاته ، أو بهذا الاسم الدال على الجمال واستحقاقه الدعاء لإنعامه ، مطلقاً وفي حالة السجود { أيّاً ما تدعوا } أي به من أسمائه فقد حصلتم به على القصد ، فإن المسمى واحد وإن تعددت أسماؤه الدالة على الشرف . ولما كان في الرحمن جمال ظاهر في باطنه جلال ، لأن عموم الرحمة لبعض نعمة ، ولبعض استدراج ونقمة ، فكان لذلك جامعاً لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى ، سبب عن ذكر كل من الاسمين : العلم الجامع ، والوصف الواقع موقعه ، قوله : { فله } أي المسمى بهذين الاسمين وحده ، وهو الواحد الأحد { الأسماء الحسنى } هذان الاسمان وغيرهما مما ورد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو دال على التحميد والتمجيد والتقديس والتعظيم ، فهذا الضمير استخدام ، وقد تضمن هذا القول أن معنى اسم الرحمن أشمل من اسم الرحيم وإن كان بناء كل منهما للمبالغة؛ قال الإمام أبو الحسن الحرالي رحمه الله في شرحه للأسماء الحسنى : الرحمانية استغراق الخلق بالرحمة في إنشائهم ، والرحيمية إجراء الخلق على ما يوافق حسهم ويلائم خَلقهم وخُلقهم ومقصد أفئدتهم ، فإذا اختص ذلك بالبعض كان رحيمية ، وإذا استغرق كان رحمانية ولاستغراق معنى اسم الرحمن لم يكن لتمام معناه وجود الخلق ، فلم يجر بحق على أحد منهم ، وإنما يوجد فيهم حظ خاص من معناه يجري عليهم به اسم الرحيم لا اسم الرحمن ، فلذلك لحق اسم الرحمن في معنى استغراقه باسم الله في ذات إحاطته فقال تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } فإذا تحقق القلب اختصاصه بالله علماً كان أصلاً للفظ به قولاً فعلمت أنه لا رحمن إلا الله كما أنه لا إله إلا الله ، ولحق باسم الإله فقد علم فقد التمام لمعناه في الخلق كما قد فقد أصل علم الاعتبار من معناه في اسم إله ، والتوحيد في اسم الرحمن واجب لاحق بالفرض في توحيد الإله ، ولذلك ولي اسم الله في موارده في الكتب وفي هذا التعديد أي الوارد في حديث الترمذي والبزار وغيرهما من أسماء الله الحسنى عن أبي هريرة رضي الله عنه - انتهى .

وقد مر في آخر الحجر ما ينفع هنا .
ولما ذكر السجود وعقبه بالدعاء ، أشار إلى أنه في كل حالة حسن ، وفي الصلاة أولى وأحسن ، بعد أن ذكر قريباً الصلوات الخمس ، وكان ربما فهم من قوله { إن قرءان الفجر كان مشهوداً } ، ومن قوله : { إذا يتلى عليهم } قوة الجهر به قال تعالى : { ولا تجهر بصلاتك } أي بقراءتك فيها ، أو سمى القراءة صلاة لأنها شرط فيها جهراً قوياً حتى تسمعه المشركون ، فإن المخالفين قد عرف عنادهم فلا يؤمن سبهم للقرآن ولمن أنزله ولمن جاء به ، بل كانوا يفعلون ذلك ويلغون ، وربما صفقوا وصفروا ليغلطوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويخلطوا عليه قراءته { ولا تخافت } أي تسر { بها } إسراراً بليغاً كأنك تناظر فيه آخر بحيث لا تسمع من وراءك ليأخذوه عنك { وابتغ } أي اطلب بغاية جهدك { بين ذلك } أي الجهر والمخافتة التي أفهمت أداة البعد عظمة شأنهما { سبيلاً * } أي طريقاً وسطاً؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مختفٍ بمكة ، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم { ولا تجهر بصلاتك } أي بقراءتك ، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن { ولا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم - انتهى .

أطلق هنا اسم الكل على الجزء إشارة إلى أن المقصود الصلاة وفيما تقدم اسم الجزء على الكل لأن المقصود الأعظم هناك القراءة في الفجر ، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في الدعاء ، وقد تقدم غير مرة أنه ليس ببدع أن يكون للشيء أسباب كثيرة .
ولما تقدم إحاطة هذين الاسمين ، أما الله فبجميع معاني الأسماء الحسنى ، وأما الرحمن فبالرحمانية ، المأمور بالدعاء بهما كل مخاطب ، خصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأمر بالتحميد الذي معناه الإحاطة واسمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مشتق منه لاتصافه به حامداً ومحموداً ، وبالتكبير عن كل ما يفهمه العباد من أسمائه الحسنى فقال تعالى : { وقل الحمد } أي الإحاطة بالأوصاف الحسنى { لله } أي الملك الأعظم { الذي لم يتخذ } لكونه محيطاً بالصفات الحسنى { ولداً } فإن ذلك لا يكون إلا للحاجة وبالحاجة وهي من أسوأ الأوصاف { ولم يكن } أي يوجد بوجه من الوجوه { له شريك في الملك } ولا ولد ولا غيره فإن ذلك لا يكون إلا بالعجز { ولم يكن له ولي } ناصر أعم من أن يكون ذلك الناصر ولداً أو شريكاً أو غيره : ثم قيده واصفاً بقوله تعالى : { من الذل } إفهاماً بأن له أولياء جاد عليهم بالتقريب وجعلهم أنصاراً لدينه رحمة منه لهم لا احتياجاً منه إليهم { وكبره } عن أن يشاركه أحد في شيء من الأشياء وعن كل ما يفهمه فاهم ، ويصفه به واصف ، والتكبير أبلغ لفظ للعرب في معنى التعظيم والإجلال - قاله أبو حيان . وأكد بالمصدر تحقيقاً له وإبلاغاً في معناه ، أي فقال : { تكبيراً } عن أن يدرك أحد كنه معرفته أو يجهله أحد من كل وجه ، بل احتجب سبحانه بكبريائه وجلاله فلا يعرف ، وتجلى بإكرامه وكماله فلا ينكر ، فكان صريح اتصافه بالحمد أنه تعالى متصف بجميع صفات الكمال ، وصريح وصفه بنفي ما ذكر أنه منزه عن شوائب النقص وأنه أكبر من كل ما يخطر للعباد المطبوعين على النقص المجبولين على غزائز العجز ، ولذلك وغيره من المعاني العظمى سمى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية آية العز كما رواه الإمام أحمد عن سهل عن أبيه رضي الله عنهما ، وذلك عين ما افتتحت به السورة من التنزيه وزيادة - والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

لما ختمت تلك بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالحمد عن التنزه عن صفات النقص لكونه أعلم الخلق بذلك ، بدئت هذه بالإخبار باستحقاقه سبحانه الحمد على صفات الكمال التي منها البراءة عن كل نقص ، منبها بذلك على وجوب حمده بما شرع من الدين على هذا الوجه الأحكم بهذا الكتاب القيم الذي خضعت لجلاله العلماء الأقدمون ، وعجز عن معارضته الأولون والآخرون ، الذي هو الدليل على ما ختمت به تلك من العظمة والكمال ، والتنزه والجلال ، فقال ملقنا لعباده حمده ، معلما لهم كيف يثنون عليه ، مفقها لهم في اختلاف العبارات باختلاف المقامات : { الحمد } أي الإحاطة بصفات الكمال { لله } أي المستحق لذلك لذاته .
ولما أخبر باستحقاقه ذلك لذاته ، أخبر بأنه يستحقه أيضاً لصفاته وأفعاله ، فقال تعالى : { الذي } ولما كان المراد وصف جملة الكتاب بالإعجاز من غير نظر إلى التفريق واللتدريج ، عبر بالإنزال دون التنزيل فقال : { أنزل } وعدل عن الخطاب بأن يقول : عليك ، كما يقول : فلعلك باخع نفسك ، كما في ذلك من الوصف بالعبودية والإضافة إليه سبحانه من الإعلام بتشريفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتنبيه على علة تخصيصه بالإنزال عليه كما تقدم في سورة البقرة ، فقال . مقدماً له على المنزل لأن المراد الدلالة على صحة رسالته بما لا يحتاج فيه قريش إلى سؤال اليهود ولا غيرهم من تخصيصه بما لا يقدر عليه غيره : { على عبده } وإشارة إلى أنه الذي أسرى به إلى حضرات مجده ليريه من آياته { الكتاب } الجامع لمعاني الكتب المشار إليه في آخر التي قبلها بما أشير إليه من العظمة كما آتى موسى التوراة الآمرة بالعدل في الأحكام ، وداود الزبور الحادي إلى الزهد والإحسان ، على ما أشير إليه في { سبحان } .
ولما كان الجامع لا يخلو من عوج أو قابلية له إلا أن كان من علام الغيوب ، نفى القابلية والإمكان دلالة على أنه من عنده لينتفي العوج بطريق الأولى فقال تعالى : { ولم } أي والحال أنه لم { يجعل له } ولم يقل : فيه { عوجاً * } أي شيئاً من عوج ، أي بل هو مستقيم في جميع معانيه من غير اختلاف أصلاً ، هادٍ إلى كل صواب ، لأن العوج - بالكسر : فقد الاستقامة في المعاني ، وبالفتح في الأعيان؛ وأتبعه حالاً أخرى له بقوله تعالى : { قيماً } تصريحاً باللازم تأكيداً له ، ومقيداً أنه مهيمن على ما قبله من الكتب مقيم لغيره ، وقد مضى في الفاتحة ثم في الأنعام عن الإمام سعد الدين التفتازاني الشافعي رحمه الله أن كل سورة افتتحت بالحمد فللإشارة إلى نعمة من أمهات النعم التي هي إيجاد وإبقاء أولاً ، وإيجاد وإبقاء ثانياً ، وأنه أشير في الفاتحة لكونها أم الكتاب إلى الأربع ، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول وهو ظاهر ، وفي هذه السورة إلى الإبقاء الأول ، فإن نظام العالم وبقاء النوع الإنساني يكون بالنبي والكتاب .

انتهى . ويؤيده أنه في هذه السورة ذكر أنه انتظم بأهل الكهف أمر من اطلع عليهم من أهل زمانهم ثم بالخضر عليه السلام كثير من الأحوال ، ثم بذي القرنين أمر جميع أهل الأرض بما يسر له من الأسباب التي منها السد الذي بيننا وبين ياجوج وماجوج الذين يكون بهم . إذا أخرجهم الله تعالى - فساد الأرض كلها ، ثم ذكر في التي تليهما من أهل وده واصطفائه من اتبعهم لنظام العالم بما وفقهم له من طاعته ، وبصرهم به من معرفته ، واستمر كذلك في أكثر السور حتى ذكر السورة التي أشار فيها إلى الإيجاد الثاني ، وأتبعها بالتي أشار فيها إلى الإبقاء الثاني ، ولما كان إبقاء الأول يقتضي مهلة لبلوغ حد التكليف وإجراء القلم ثم مهلة أخرى يكون فيها العمل والاستعداد لما لأجله كان هذا الوجود من العرض على الرحمن ، للجزاء بالإساءة أو الإحسان ، ومهلة أخرى يُحبس فيها السابق من الخلائق إلى ورود مشرع الموت لانتظار اللاحق ، إلى بلوغ ما ضرب سبحانه من الآجال ، لأزمان الإمهال ، وقيام الناس أجمعين ، لرب العالمين ، وهو البرزخ وكان ما قبل التكليف شبيهاً بالعدم إلا في تعلم الكتاب والتوحيد والاجتماع على أهل الدين والوفاء بما تقدموا فيه بالعهد من الأحكام ، ودربوا عليه من الحلال والحرام ، أشير إليه بما بين الفاتحة والأنعام التي هي سورة الإيجاد الأول من السور الأربع ، وكأن سن الاحتلام كان أول الإيجاد من الإعدام ، وأشير إلى بقية العمر وهو زمان التكليف بما بين الأنعام وهذه السورة من السور التي ذُكِرَ فيها مصارع الأولين وأخبار الماضين تحذيراً من مثل أحوالهم ، لمن نسج على منوالهم ، وختمت بالتحميد مقترناً بالتوحيد إشارة إلى أنه يجب الاجتهاد في أن يختم الأجل في أعلى ما يكون من خصال الدين ، وأشير إلى مهلة البرزخ بما بين هذه وسورة الإيجاد الثاني من السور التي ذكر في غالبها مثل ذلك ، وأكثر فيها كلها من ذكر الموت وما بعده من البرزخ الذي يكون لانقطاع العلائق باجتماع الخلائق ، لأجل التجلي في رد العظمة ، والكشف البليغ عن نفوذ الكلمة ، والتحلي بالحكم باستقرار الفريقين في دار النعيم أو غار الجحيم ، وأكثر فيما بين هذه وبين سبأ من أمر البعث كثرة ليست فيما مضى حتى صدر بعضها به ، وبناها عليه كسورتي الأنبياء { اقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] والحج { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } [ الحج : 1 ] ولما لم يكن بين البعث وما بعده مهلة لشيء من ذلك ، عقب سورة الإيجاد الثاني بسورة الإبقاء الثاني من غير فاصل ولا حاجز ولا حائل - والله أعلم .
ولما وصف الكتاب بما له من العظمة في جميع ما مضى من أوصافه من الحكمة والإحكام ، والتفصيل والبيان ، والحقية ، والإخراج من الظلمات إلى النور ، والجمع لكل معنى والتبيان لكل شيء ، أتبعه ذكر فائدته مقدماً ما هو الأهم من درء المفسدة بالإنذار ، لأنه مقامه كما هو ظاهر من { سبحان } فقال : { لينذر } وقصره على المفعول الأول ليعم كل من يصح قبوله الإنذار ولو تقديراً ، وليفيد أن الغرض بيان المنذر به لا المنذر { بأساً شديداً } كائناً { من لدنه } أي أغرب ما عنده من الخوارق بما في هذا الكتاب من الإعجاز لمن خالف أمره من عذاب الدنيا والآخرة كوقعة بدر وغيرها المفيد لإدخال الإسلام عليهم وهم كارهون ، بعد ما كانوا فيه من القوة وهو من الضعف { ويبشر المؤمنين } أي الراسخين في هذا الوصف { الذين يعملون الصالحات } وهو ما أمر به خالصاً له ، وذلك من أسنان مفتاح الإيمان { أن لهم } أي من حيث هم عاملون { أجراً حسناً * } وهو النعيم ، حال كونهم { ماكثين فيه أبداً * } بلا انقطاع أصلاً ، فإن الأبد زمان لا آخر له ، فجمعت هاتان العلتان جميع معاني الكتاب فإنه لا يكون كذلك إلا وقد جمع أيضاً جميع شرائع الدين وأمر المعاش وأمر المعاد وما يعنيهم فعله أو تركه أو اعتقاده ، وما يتبع ذلك ، وذلك هو القيم ، أي المستقيم في نفسه ، المقيم لغيره .

ولما كان الغالب على الإنسان المخالفة للأوامر ، لما جبل عليه من النقائص ، كان الإنذار فأهم أعاده لذلك ولأن المقام له كما مضى ، ذاكراً فيه بعض المتعلق المحذوف من الآية التي قبلها ، تبكيتاً لليهود المضلين لهؤلاء العرب ولمن قال بمقالتهم فقال تعالى : { وينذر } واقتصر هنا على المفعول الأول ليذهب الفكر في الثاني الذي عبر عما يحتمل تقديره به فيما مضى ب { لدنه } - كل مذهب فيكون أهول { الذين قالوا اتخذ الله } أي تكلف ذو العظمة التي لا تضاهى كما يتكلف غيره أن أخذ { ولداً * } وهم بعض اليهود والنصارى والعرب؛ قال الأصبهاني : وعادة القرآن جارية بأنه إذا ذكر قصة كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كون ذلك لبعض أعظم جزئيات ذلك الكل ، ولم أجعل الآية من الاحتباك لنقص المعنى ، ثم استأنف معللاً في جواب من كأنه قال : ما لهم خصوا به الوعيد الشديد؟ فقال تعالى : { ما لهم به } أي القول { من علم } أصلاً لأنه مما لا يمكن أن يعلق العلم به لأنه لا وجود له ولا يمكن وجوده ، ثم قرر هذا المعنى وأكد بقوله تعالى : { ولا لأبائهم } الذين هم مغتبطون بتقليدهم في الدين حتى في هذا الذي لا يتخيله عاقل ، ولو أخطؤوا في تصرف دنيوي لمن يتبعوهم فيه ، تنبيهاً عل أنه لا يحل لأحد أن يقول على الله تعالى ما لا علم له به ، ولا سيما في أصول الدين ، ثم هول أمر ذلك بقوله تعالى : { كبرت } أي مقالتهم هذه { كلمة } أي ما أكبرها من كلمة! وصوّر فظاعة اجترائهم على النطق بها بقوله تعالى : { تخرج من أفواههم } أي لم يكفهم خطورها في نفوسهم ، وترددها في صدورهم ، حتى تلفظوا بها ، وكان تلفظهم بها على وجه التكرير - بما أشار إليه التعبير بالمضارع؛ ثم بين ما أفهمه الكلام من أنه كما أنهم لا علم لهم بذلك لا علم لأحد به أصلاً ، لأنه لا وجود له فقال تعالى : { إن } أي ما { يقولون إلا كذباً * } أي قولاً لا حقيقة له بوجه من الوجوه .

وقال ابن الزبير في برهانه : من الثابت المشهور أن قريشاً بعثوا إلى اليهود بالمدينة يسألونهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأجابت يهود بسؤاله عن ثلاثة أشياء ، قالوا : فإن أجابهم فهو نبي ، وإن عجز فالرجل متقول فرؤا فيه رأيكم ، وهي الروح ، وفتية ذهبوا في الدهر الأول وهم أهل الكهف ، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، فأنزل الله عليه جواب ما سألوه ، وبعضه في سورة الإسراء { ويسئلونك عن الروح } [ الإسراء : 85 ] الآية ، واستفتح سبحانه وتعالى سورة الكهف بحمده ، وذكر نعمة الكتاب وما أنزل بقريش وكفار العرب من البأس يوم بدر وعام الفتح ، وبشارة المؤمنين بذلك وما منحهم الله تعالى من النعيم الدائم ، وإنذار القائلين بالولد من النصارى وعظيم مرتكبهم وشناعة قولهم { إن يقولون إلا كذباً } وتسلية نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أمر جميعهم { فلعلك باخع نفسك } [ الكهف : 6 ] ، والتحمت الآي أعظم التحام ، وأحسن التئام ، إلى ذكر ما سأل عنه الكفار من أمر الفتية { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } [ الكهف : 9 ] ثم بسطت الآي قصتهم ، وأوضحت أمرهم ، واستوفت خبرهم؛ ثم ذكر سبحانه أمر ذي القرنين وطوافه وانتهاء أمره ، فقال تعالى { ويسئلونك عن ذي القرنين } [ الكهف : 83 ] الآيات ، وقد فصلت بين القصتين بمواعظ وآيات مستجدة على أتم ارتباط ، وأجل اتساق ، ومن جملتها قصة الرجلين وجنتي أحدهما وحسن الجنتين وما بينهما وكفر صاحبهما واغتراره ، وهما من بني إسرائيل ، ولهما قصة ، وقد أفصحت هذه الآي منها باغترار أحدهما بما لديه وركونه إلى توهم البقاء ، وتعويل صاحبه على ما عند ربه ورجوعه إليه وانتهاء أمره - بعد المحاورة الواقعة في الآيات بينهما - إلى إزالة ما تخيل المفتون بقاءه ، ورجع ذلك كأن لم يكن ، ولم يبق بيده إلا الندم ، ولا صح له من جنته بعد عظيم تلك البهجة سوى التلاشي والعدم ، وهذه حال من ركن إلى ما سوى المالك ، ومن كل شيء إلا وجهه سبحانه وتعالى فان وهالك { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } [ محمد : 36 ] { ففروا إلى الله } [ الذاريات : 50 ] ثم أعقب ذلك بضرب مثل الحياة الدنيا لمن اعتبر واستبصر ، وعقب تلك الآيات بقصة موسى والخضر عليها السلام إلى تمامها ، وفي كل ذلك من تأديب بني إسرائيل وتقريعهم وتوبيخ مرتكبهم في توقفهم عن الإيمان وتعنيفهم في توهمهم عند فتواهم لكفار قريش بسؤاله عليه السلام عن القصص الثلاث أن قد حازوا العلم وانفردوا بالوقوف على ما لا يعلمه غيرهم ، فجاء جواب قريش بما يرغم الجميع ويقطع دابرهم ، وفي ذكر قصة موسى والخضر إشارة لهم لو عقلوا ، وتحريك لمن سبقت له منهم السعادة ، وتنبيه لكل موفق في تسليم الإحاطة لمن هو العليم الخبير ، وبعد تقريعهم وتوبيخهم بما أشير إليه عاد الكلام إلى بقية سؤالهم فقال تعالى { يسئلونك عن ذي القرنين } إلى آخر القصة ، وليس بسط هذه القصص من مقصودنا وقد حصل ، ولم يبق إلا السؤال عن وجه انفصال جوابهم ووقوعه في السورتين مع أن السؤال واحد ، وهذا ليس من شرطنا فلننسأه بحول الله إلى موضعه إن قدر به - انتهى .

وقد تقدم في سورة الإسراء من الجواب عن هذا أن الروح ضمت إليها ، لأنه من سر الملكوت كالإسراء ، وبقي أنه لما أجمل سبحانه أمرها لما ذكر من عظيم السر ، وعيب عليهم اشتغالهم بالسؤال وترك ما هو من عالمها ، وهو أعظم منها ومن كل ما برز إلى الوجود من ذلك العالم من الروح المعنوي الذي به صلاح الوجود كله ، وهو القرآن العظيم ، وعظم أمره بما ذكر في الإسراء إلى أن اقتضى الحال في إنهاء عظمته أن يدل على إصلاح الوجود به بما حرره وفصله وقرره من أمر السؤالين الباقيين اللذين هما من ظاهر الملك فيما ضم إليهما مما تم به الأمر ، واتضح به ما له من جليل القدر ، كان الأكمل في ذلك أن يكون ما انتظم به ذلك سورة على حدتها ، ولما كان أمر أهل الكهف من حفظ الروح في الجسد على ما لم يعهد مثله ثم إفاضتها ، قدم الجواب عن السؤال عنهم ليلي أمر الروح ، وختم بذي القرنين لإحاطة أمره بما طاف من الأرض ، ولما جعل من السد علماً على انقضاء شأن هذه الدار وختام أمرها ، وطي ما برز من نشرها والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم شديد الحرص على إيمانهم شفقة عليهم وغيرة على المقام الإلهي الذي ملأ قلبه تعظيماً له ، خفض عليه سبحانه بقوله تعالى : { فلعلك باخع } أي فتسبب عن قولهم هذا ، المباين جداً لما تريد لهم ، الموجب لإعراضهم عنك أنك تشفق أنت ومن يراك على تلك الحالة من أتباعك من أن تكون قاتلاً { نفسك } من شدة الغم والوجد ، وأشار إلى شدة نفرتهم وسرعة مفارقتهم وعظيم مباعدتهم بقوله تعالى : { على ءاثارهم } أي حين تولوا عن إجابتك فكانوا كمن قوضوا خيامهم وأذهبوا أعلامهم { إن لم يؤمنوا } .

ولما صور بعدهم ، صور قرب ما دعاهم إليه ويسر تناوله بقوله تعالى : { بهذا الحديث } أي القيم المتجدد تنزيله على حسب التدريج { أسفاً * } منك على ذلك ، والأسف : أشد الحزن والغضب؛ ثم بين علة إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ للبشارة والنذارة بأنهم لم يخرجوا عن مراده سبحانه ، وأن الإيمان لا يقدر على إدخاله قلوبهم غيره فقال تعالى : { إنا } أي لا نفعل ذلك لأنا { جعلنا } بما لنا من العظمة { ما على الأرض } من المواليد الثلاثة : الحيوان والمعدن والنبات { زينة لها } بأن حسنّاه في العيون ، وأبهجنا به النفوس ، ولولا مضرة الحيوانات المؤذية من الحشرات وغيرها كانت الزينة بها ظاهرة ، والظاهر أنه لو أطاع الناس كلهم لذهبت مضرتها فبدت زينتها ، كما يكون على زمن عيسى عليه السلام حيث تصير لعباً للولدان .
ولما أخبر بتزيينها ، أخبر بعلته فقال تعالى : { لنبلوهم } أي نعاملهم معاملة المختبر الذي يسأل لخفاء الأمر عليه بقوله تعالى : { أيهم أحسن عملاً * } أي بإخلاص الخدمة لربه ، فيصير ما كنا نعلمه منهم ظاهراً بالفعل تقام به عليهم الحجة على ما يتعارفونه بينهم بأن من أظهر موافقة الأمر فيما نال من الزينة حاز المثوبة ، ومن اجترأ على مخالفة الأمر بما آتيناه منها فعمل على أنها للتنعم بها فقط استحق العقوبة . ولما كان دعاء الزينة إلى حقيقة الحياة الدنيا من اللهو واللعب ظاهراً لموافقته لما طبعت عليه النفوس من الهوى لم يحتج إلى التنبيه عليه أكثر من لفظ الزينة .
ولما كان دعاءها إلى الزهد فيها والإعراض عنها جملة والاستدلال بها على تمام علم صانعها وشمول قدرته على إعادة الخلائق كما ابتدأهم وغير ذلك خفياً ، لكونه مستوراً عن العقول بهوى النفوس ، نبه عليه بقوله تعالى : { وإنا لجاعلون } أي بما لنا من العظمة ثابت لنا هذا الوصف دائماً { ما عليها } من جميع تلك الزينة لا يصعب علينا شيء منه { صعيداً } أي تراباً بأن نهلك تلك الزينة بإزالة اخضرارها فيزول المانع من استيلاء التراب عليها ثم نسلط عليها الشموس والرياح فيردها بذلك إلى أصلها تراباً { جزراً * } أي يابساً لا ينبت شيئاً بطبعه ، وكذا نفعل بمن سبب تسليط البلاء عليه من الحيوان آدمياً كان أو غيره سواء . ولما كان من المشاهد إعادة النبات بإذن الله تعالى بإنزال الماء عليه إلى الصورة النباتية التي هي الدليل على إحياء الموتى مرة بعد مرة ما دامت الأرض موجودة على هذه الصورة ، طوي ذكر ذلك ستراً لهذا البرهان المنير عن الأغبياء المشغولين بالظواهر ، علماً منه سبحانه بظهوره لأولي البصائر .

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)

ولما كان هذا من العجائب التي تضاءل عندها العجائب ، والغرائب التي تخضع لديها الغرائب ، وإن صارت مألوفة بكثرة التكرار ، والتجلي على الأبصار ، هذا إلى ما له من الآيات التي تزيد على العد ، ولا يحصر بحد ، من خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب - وغير ذلك ، حقر آية أصحاب الكهف - وإن كانت من أعجب العجب - لاضمحلالها في جنب ذلك ، لأن الشيء إذا كان كذلك كثر ألفه فلم يعد عجباً ، فنبه على ذلك بقوله تعالى عطفاً على ما تقديره : أعلمت أن هذا وغيره من عجائب قدرتنا؟ : { أم حسبت } على ما لك من العقل الرزين والرأي الرصين { أن أصحاب الكهف } أي الغار الواسع المنقور في الجبل كالبيت { والرقيم } أي القرية أو الجبل { كانوا } هم فقط { من ءاياتنا عجباً * } على ما لزم من تهويل السائلين من الكفرة من اليهود والعرب ، والواقع أنهم - وإن كانوا من العجائب - ليسوا بعجب بالنسبة إلى كثرة آياتنا ، وبالنسبة إلى هذا العجب النباتي الذي أعرضتم عنه بإلفكم له من كثرة تكرره فيكم ، فإنه سبحانه أخرج نبات الأرض على تباين أجناسه ، واختلاف ألوانه وأنواعه ، وتضاد طبائعه ، من مادة واحدة ، يهتز بالينبوع ، يبهج الناظرين ويروق المتأملين ، ثم يوقفه ثم يرده باليبس والتفرق إلى التراب فيختلط به حتى لا يميزه عن بقية التراب ، ثم يرسل الماء فيختلط بالتراب فيجمعه أخضر يانعاً يهتز بالنمو على أحسن ما كان ، وهكذا كل سنة ، فهذا بلا شك أعجب حالاً ممن حفظت أجسامهم مدة عن التغير ثم ردت أرواحهم فيها ، وقد كان في سالف الدهر يعمر بعض الناس أكثر من مقدار ما لبثوا ، وهذا الكهف - قيل : هو في جبال بمدينة طرسوس وهو المشهور ، وقال أبو حيان : قيل : هو في الروم ، وقيل : في الشام ، وقيل : في الأندلس ، قال : في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد انجرد لحمه ، وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من عرف شأنهم ، ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف ، ونقل عن ابن عطية قال : دخلت إليهم سنة أربع وخمسمائة فرأيتهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم ، وهو في فلاة من الأرض ، وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس ، ونقل أبو حيان عن أبيه أنه حين كان بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم وأن معهم كلباً ، قال : وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة ، فقد مررت عليها مراراً لا تحصى ، قال : ويترجح كون أصحاب الكهف بالأندلس - انتهى ملخصاً .

قلت : وفيه نظر ، والذي يرجح المشهور ما نقل البغوي وغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : غزونا مع معاوية بحر الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فإن معاوية لم يصل إلى بلاد الأندلس والله أعلم .
ولما صغر أمرهم بالنسبة إلى جليل آياته وعظيم بيناته وغريب مصنوعاته ، لخص قصتهم التي عدوها عجباً وتركوا الاستبصار على وحدانية الواحد القهار بما هو العجب العجيب ، والنبأ الغريب ، فقال تعالى : { إذ أوى } أي كانوا على هذه الصفة حين أووا ، ولكنه أبرز الضمير لبيان أنهم شبان ليسوا بكثيري العدد فليست لهم أسنان استفادوا بها من التجارب والتعلم ما اهتدوا إليه من الدين والدنيا ، ولا كثرة حفظوا بها ممن يؤذيهم أيقاظاً ورقوداً فقال تعالى : { الفتية } وهو أصحاب الكهف المسؤول عنهم ، والشبان أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ { إلى الكهف } المقارب لقريتهم المشهور ببلدتهم فراراً بدينهم كما أويت أنت والصديق إلى غار ثور فراراً بدينكما { فقالوا } عقب استقرارهم فيه : { ربنا ءاتنا } ولما كانت الموجودات - كما مضى عن الحرالي في آل عمران - على ثلاث رتب : حكميات جارية على قوانين العادات ، وعنديات خارقة للمطردات ولدنيات مستغرقة في الأمور الخارقات ، طلبوا أعلاها فقالوا : { من لدنك } أي من مستبطن الأمور التي عندك ومستغربها { رحمة } أي إكراماً تكرمنا به كما يفعل الراحم بالمرحوم { وهيىء لنا } أي جميعاً لا تخيب منا أحداً { من أمرنا رشداً * } أي وجهاً ترشدنا فيه إلى الخلاص في الدارين ، لا جرم صارت قصتهم على حسب ما أجابهم ربهم بديعة الشأن فردة في الزمان ، يتحدث بها في سائر البلدان ، في كل حين وأوان .
ولما أجابهم سبحانه ، عبر عن ذلك بقوله تعالى : { فضربنا } أي عقب هذا القول وبسببه { على ءاذانهم } أي سددناها وأمسكناها عن السمع ، وكان أصله؛ ضربنا عليها حجاباً بنوم ثقيل لا تزعج منه الأصوات ، لأن من كان مستيقظاً أو نائماً نوماً خفيفاً وسمعه صحيح سمع الأصوات { في الكهف } أي المعهود .
ولما كانت مدة لبثهم نكرة بما كان لأهل ذلك الزمان من الشرك ، عبر بما يدل على النكرة فقال تعالى : { سنين } : ولما كان ربما ظن أنه ذكر السنين للمبالغة لأجل بعد هذا النوم عن العادة ، حقق الأمر بأن قال مبدلاً منها معرفاً لأن المراد بجمع القلة هنا الكثرة : { عدداً } أي متكاثرة؛ قال الزجاج كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف أريد كثرته لأنه إذا قل فهم مقدار عدده بدون التقدير فلم يحتج إلى أن يعد . { ثم بعثناهم } أي نبهناهم من ذلك النوم { لنعلم } علماً مشاهداً لغيرنا كما كنا نعلم غيباً ما جهله من يسأل فيقول : { أي الحزبين } هم أو من عثر عليهم من أهل زمانهم { أحصى } أي حسب وضبط { لما } أي لأجل علم ما { لبثوا أمداً * } أي وقع إحصاءه لمدة لبثهم فإنهم هم أحصوا لبثهم فقالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، ثم تبرؤوا من علم ذلك وردوه إلى عالمه وأهل البلد ، أحصوا ذلك بضرب النقد الذي وجد معهم أو غير ذلك من القرائن التي دلتهم عليه ، ولكنهم وإن صادق قولهم ما في نفس الأمر أو قريباً منه فعلى سبيل الظن والتقريب ، لا القطع والتحديد ، بقوله تعالى

{ قل الله أعلم بما لبثوا } [ الكهف : 26 ] فإذا علم بجهل كل من الحزبين بأمرهم أن الله هو المختص بعلم ذلك ، علم أنه المحيط بصفات الكمال ، وأنه لم يتخذ ولداً ، ولا له شريك في الملك ، وأنه أكبر من كل ما يقع في الوهم .

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)

ولما كان الكلام على اختلاف وقع في مدتهم ، وكان الحزبان معاً هم ومن خالفهم متقاربين في الجهل بإحصائه على سبيل القطع وكان اليهود الذين أمروا قريشاً بالسؤال عن أمرهم تشكيكاً في الدين لا يعلمون أمرهم على الحقيقة ، نبه على ذلك بقوله - جواباً لمن كأنه قال : أيهما أحصاه؟ : { نحن } أو يقال : ولما أخبر الله سبحانه عن مسألة قريش الثانية ، وهي قصة أهل الكهف ، مجملاً لها بعض الإجمال بعد إجمال الجواب عن المسألة الأولى ، وهي الروح ، كان السامع جديراً بأن تستشرف نفسه إلى بيان أكثر من ذلك فيضيق صدره خشية الاقتصار على ما وقع من ذلك من الأخبار ، فقال جواباً لمن كأنه قال : اسأل الإيضاح وبيان الحق من خلاف الحزبين : نحن { نقص } أي نخبر إخباراً تابعاً لآثارهم قدماً فقدماً { عليك } على وجه التفصيل { نبأهم بالحق } أي خبرهم العظيم وليس أحد غيرنا إلا قصاً ملتبساً بباطل : زيادة أو نقص ، فكأنه قيل : ما كان نبأهم؟ فقال تعالى : { إنهم فتية } أي شبان { ءامنوا بربهم } المحسن إليهم الناظر في مصالحهم الذي تفرد بخلقهم ورزقهم ، وهداهم بما وهب لهم في أصل الفطرة من العقول الجيدة النافعة .
ولما دل على الإحسان باسم الرب ، وكان في فعله معهم من باهر القدرة ما لا يخفى ، التفت إلى مقام العظمة فقال تعالى عاطفاً على ما تقديره : فاهتدوا بإيمانهم : { وزدناهم } بعد أن آمنوا { هدى } بما قذفنا في قلوبهم من المعارف ، وشرحنا لهم صدورهم من المواهب التي حملتهم على ارتكاب المعاطب ، والزهد في الدنيا والانقطاع إليه { وربطنا } بما لنا من العظمة { على قلوبهم } أي قويناها ، فصار ما فيها من القوى مجتمعاً غير مبدد ، فكانت حالهم في الجلوة كحالهم في الخلوة { إذ قاموا } لله تعالى حق القيام في ذلك الجيل الكافرين بين يدي طاغيتهم دقيانوس { فقالوا } مخالفين لهم : { ربنا } الذي يستحق أن نفرده بالعبادة لتفرده بتدبيرنا ، هو { رب السماوات والأرض } أي موجدهما ومدبرهما { لن ندعوا من دونه إلهاً * } بعد أن ثبت عجز كل من سواه ، والله { لقد قلنا إذاً } أي إذا دعونا من دونه غيره { شططاً } أي قولاً ذا بعد مفرط عن الحق جداً؛ ثم شرعوا يستدلون على كونه شططاً بأنه لا دليل عليه ، ويجوز أن يكونوا لما قالوا ذلك عرض لهم الشيطان بشبهة التقليد فقالوا مجيبين عنها : { هؤلاء } وأن يكونوا قالوا ذلك للملك إنقاذاً له من شرك الجهل ، وبين المشار إليهم بقولهم : { قومنا } أي وإن كانوا أسن منا وأقوى وأجل في الدنيا { اتخذوا } أي مخالفين مع منهاج العقل داعي الفطرة الأولى { من دونه ءالهة } أشركوهم معه لشبهة واهية استغواهم بها الشيطان؛ ثم استأنفوا على طريق التخصيص ما ينبه على أنهم من حين عبادتهم إلى الآن لم يأتوا على ذلك بدليل ، فقالوا منبهين على فساد التقليد في أصول الدين وأنه لا مقنع فيه بدون القطع : { لولا } أي هلا { يأتون } الآن .

ولما كانوا بعبادتهم لهم قد أحلوهم محل العلماء ، قال تعالى : { عليهم } أي على عبادتهم إياهم ، وحققوا ما أرادوا من الاستعلاء بقولهم : { بسلطان } أي دليل قاهر { بين } مثل ما نأتي نحن على تفرد معبودنا بالأدلة الظاهرة ، والبراهين الباهرة ، فإن مثل هذا الأمر لا يقنع فيه بدون ذلك ، وقد جمعنا الأدلة كلها في الاستدلال على تفرد الله باستحقاقه للعبادة بأنه تفرد بخلق الوجود ، فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين لافتعالهم الكذب عن ملك الملوك ومالك الملك ، فلذلك قالوا : { فمن أظلم ممن افترى } أي تعمد { على الله } أي الملك الأعظم { كذباً * } فالآية دالة على فساد التقليد في الوحدانية .

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)

ولما استدلوا على معتقدهم ، وعلموا سفه من خالفهم ، وهم قوم لا يدان لهم بمقاومتهم ، لكثرتهم وقلتهم ، تسبب عن ذلك هجرتهم ليسلم لهم دينهم ، فقال تعالى شارحاً لما بقي من أمرهم ، عاطفاً على ما تقديره : وقالوا أو من شاء الله منهم حين خلصوا من قومهم نجياً : لا ترجعوا إلى قومكم أبداً ما داموا على ما هم عليه ، هذا إن كان المراد قيامهم بين يدي دقيانوس ، وإن كان المراد من القيام الانبعاث بالعزم الصادق لم يحتج إلى هذا التقدير : { وإذ } أي حين { اعتزلتموهم } أي قومكم { وما } أي واعتزلتم ما { يعبدون إلا الله } أي الذي له صفات الكمال ، وهذا دليل على أنهم كانوا يشركون ، ويجوز أن يكونوا سموا الانقياد كرهاً لمشيئته والخضوع بزعمهم لاقضيته عبادة { فأوا } أي بسبب هذا الاعتزال ، وهذا دليل العامل في { إذ } { إلى الكهف } أي الغار الذي في الجبل { ينشر } أي يحيي ويبعث { لكم ربكم } الذي لم يزل يحسن إليكم { من رحمته } ما يكفيكم به من المهم من أمركم { ويهيىء لكم من أمركم } الذي من شأنه أن يهمكم { مرفقاً * } ترتفقون به ، وهو بكسر الميم وفتح الفاء في قراءة الجماعة ، وبفتحها وكسر الفاء للنافع وابن عامر ، وهذا الجزم من آثار الربط على قلوبهم بما علموا من قدرته على كل شيء ، وحمايته من لاذ به ولجأ إليه وعبده وتوكل عليه ، ففعلوا ذلك ففعل الله ما رجوه فيه ، فجعل لهم أحسن مرفق بأن أنامهم ثم أقامهم بعد مضي قرون ومرور دهور ، وهدى بهم ذلك الجيل الذي أقامهم فيه { وترى } لو رأيت كهفهم { الشمس إذا طلعت } .
ولما كان حالهم خفياً ، وكذا حال انتقال الشمس عند من لم يراقبه ، أدغم تاء التفاعل نافع وابن كثير وأبو عمرو ، وأسقطها عاصم وحمزة والكسائي ، فقال تعالى : { تزاور } أي تتمايل وتتحرف ، ولعل قراءة ابن عامر ويعقوب تزور بوزن تحمر ناظرة إلى الحال عند نهاية الميل { عن كهفهم } بتقلص شعاعها بارتفاعها إلى أن تزول { ذات اليمين } إذا كنت مستقبلاً القبلة وأنت متوجه إليه أو مستقبلاً الشمس فيصيبهم من حرها ما يمنع عنهم التعفن ويمنع سقف الكهف شدة الحرارة المفسدة في بقية النهار { وإذا غربت } أي أخذت في الميل إلى الغروب { تقرضهم } أي تعدل في مسيرها عنهم { ذات الشمال } كذلك ، لئلا يضرهم شدة الحرارة ، ويصيبهم من منافعها مثل ما كان عند الطلوع ، فلا يزال كهفهم رطباً ، ويأتيه من الهواء الطيب والنسيم الملائم ما يصونهم عن التعفن والفساد ، فتحرر بذلك أن باب الغار مقابل لبنات نعش ، وأن الجبل الذي هم فيه شمالي مكة المشرفة ، ويجوز أن يكون المراد يمين من يخرج من الكهف وشماله ، فلا يلزم ذلك ، وقال الأصبهاني : قيل : إن باب ذلك كان مفتوحاً إلى جانب الشمال إذا طلعت الشمس عن يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله .

ومادة ( قرض ) وليس لها إلا هذا التركيب - تدور على القطع ، ويلزمه الميل عن الشيء والعدول والازورار عنه ، قرضت الشيء ، - بالفتح - أقرضه - بالكسر : قطعته بالمقراض أو بغيره - لأنك إذا وصلت إليه فقد حاذيته فإذا قطعته تجاوزته فانحرفت عنه ، والقرض : قول الشعر خاصة - لأنه لا شيء من الكلام يشبهه فهو مقطوع منه مائل عنه بما خص به من الميزان ، وهل مررت بمكان كذا؟ فتقول : قرضته ذات اليمين ليلاً ، أي كان عن يميني ، والقرض : ما تعطيه من المال لتقضاه - لأنك قطعته من مالك ، والقرض - بالكسر : لغة فيه عن الكسائي ، والقرض : ما سلفت من إحسان أو إساءة - على التشبيه ، والتقريض : المدح والذم - لأنه يميز الكلام فيه تمييزاً ظاهراً ، وهما يتقارضان كذا - كأن كلاًّ منهما مقرض لصاحبه وموف له على ما أقرضه ، والمقارضة : المضاربة - لأن صاحب المال قطع من ماله ، والعامل قطع من عمله حصة لهذا المال ، قرض فلان الرباط - إذا مات ، لأنه إذا انقطعت حياته انقطع كل رباط له في الدنيا ، وجاء فلان وقد قرض رباطه - إذا جاء مجهوداً قد أشرف على الموت - كأنه أطلق عليه ذلك للمقاربة ، والمقارضة : المشاتمة - لقطعها العرض وما بين المتشاتمين ، والاقتراض : الاغتياب - من ذلك ومن القرض أيضاً ، لأن من اغتاب اغتيب ، وقرض - بالكسر - إذا زال من شيء إلى شيء - لأنه بوصل الثاني قطع الأول ، وقرض - إذا مات ، والمقارض : الزرع القليل - إما للإزالة على الضد من الكثير ، أو تشبيه بمواضع الاستقاء في البئر القليلة الماء ، فإن المقارض أيضاً المواضع التي يحتاج المستقي إلى أن يقرض منها الماء ، أي يميح ، أي يدخل الدلو في البئر فيملأها لقلة الماء - لأنها مواضع قطع الماء برفعه عن البئر والمقارض أيضاً : الجرار الكبار - كأنها لكبرها وقطعها كثيراً من الماء هي التي قطعت دون الصغار ، وما عليه قراض ، أي ما يقرض عنه العيون فيستره لتعدل عنه العيون - لعدم نفوذها إلى جلده ، والقرض في السير هو أن تعدل عن الشيء في مسيرك ، فإذا عدلت عنه فقد قرضته ، والمصدر القرض وأصله من القطع ، وابن مقرض - كمنبر : ويبة تقتل الحمام - كأنها سميت لقطعها حياة الحمام ، وقرض البعير جرته : مضغها فهي قريض - لتقطيعها بالمضغ ولقطعها من بطنه بردها إلى حنكه للمضغ .
ولما بين تعالى أنه حفظهم من حر الشمس ، بين أنه أنعشهم بروح الهواء ، وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال : { وهم في فجوة منه } أي في وسط الكهف ومتسعه .

ولما شرح هذا الأمر الغريب ، والنبأ العجيب ، وصل به نتيجته فقال تعالى : { ذلك } أي المذكور العظيم من هدايتهم ، وما دبروا لأنفسهم ، وما دبر لهم من هذا الغار المستقبل للنسيم الطيب المصون عن كل مؤذ ، وما حقق به رجاءهم مما لا يقدر عليه سواه { من ءايات الله } أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء علماً وقدرة ، وإن كان إذا قيس إلى هذا القرآن القيم وغيره مما خصت به هذه الأمة كان يسيراً .
ولما كان انفرادهم بالهدى عن أهل ذلك القرن كلهم عجباً ، وصل به ما إذا تؤمل زال عجبه فقال تعالى : { من يهد } ولو أيسر هداية - بما دل عليه حذف الياء في الرسم { الله } أي الذي له الأمر كله بخلق الهداية في قلبه للنظر في آياته التي لا تعد والانتفاع بها { فهو } خاصة { المهتد } في أي زمان كان ، فلن تجد له مضلاً مغوياً { ومن يضلل } إضلالاً ظاهرياً بما دل عليه الإظهار بإعمائه عن طريق الهدى ، فهو لا غيره الضال { فلن تجد له } أصلاً من دونه ، لأجل أن الله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه أضله { ولياً مرشداً * } فتجده يرى الآيات بعينه ، ويسمعها بأذنه ، ويحسها بجميع حواسه ، ولا يعلم أنها آيات فضلاً عن أن يتدبرها وينتفع بها ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاهتداء أولاً دليلاً على حذف الضلال ثايناً ، والمرشد ثانياً دليلاً على حذف المضل أولاً .

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)

ولما نبه سبحانه هذا التنبيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتثبيتاً أن يبخع نفسه ، عطف على ما مضى بقية أمرهم فقال : { وتحسبهم أيقاظاً } لانفتاح أعينهم للهواء ليكون أبقى لها ، ولكثرة حركاتهم { وهم رقود ونقلبهم } بعظمتنا في حال نومهم تقليباً كثيراً بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم { ذات } أي في الجهة التي هي صاحبة { اليمين } منهم { وذات الشمال } لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث { وكلبهم باسط } وأعمل اسم الفاعل هذا ، لأنه ليس بمعنى الماضي بل هو حكاية حال ماضية فقال : { ذراعيه بالوصيد } أي بباب الكهف وفنائه كما هي عادة الكلاب ، وذكر هذا الكلب على طول الآباد بجميل هذا الرقاد من بركة صحبة الأمجاد .
ولما كان هذا مشوقاً إلى رؤيتهم ، وصل به ما يكف عنه بقوله تعالى : { لو اطلعت عليهم } وهم على تلك الحال { لوليت منهم فراراً } أي حال وقوع بصرك عليهم { ولملئت } في أقل وقت بأيسر أمر { منهم رعباً * } لما ألبسهم الله من الهيبة ، وجعل لهم من الجلالة ، وتدبيراً منه لما أراد منهم { وكذلك } أي فعلنا بهم هذا من آياتنا من النوم وغيره ، ومثل ما فعلناه بهم { بعثناهم } بما لنا من العظمة { ليتساءلوا } وأظهر بالافتعال إشارة إلى أنه في غاية الظهور . ولما كان المراد تساؤلا عن أخبار لا تعدوهم قال تعالى : { بينهم } أي عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيزدادوا إيماناً ، وثباتاً وإيقاناً ، بما ينكشف لهم من الأمور العجيبة ، والأحوال الغريبة فيعلم أنه لا علم لأحد غيرنا ، ولا قدرة لأحد سوانا ، وأن قدرتنا تامة ، وعلمنا شامل ، فليعلم ذلك من أنكر قدرتنا على البعث وسأل اليهود البعداء البغضاء عن نبيه الحبيب الذي أتاهم بالآيات ، وأراهم البينات ، فإن كانوا يستنحصون اليهود فليسألوهم عما قصصنا من هذه القصة ، فإن اعترفوا به لزمهم جميعاً الإيمان والرجوع عن الغي والعدوان ، وإن لم يؤمنوا علم قطعاً أنه لا يؤمن من أردنا هدايته بالآيات البينات كأهل الكهف وغيرهم ، لا بإنزال الآيات المقترحات .
ولما كان المقام مقتضياً لأن يقال : ما كان تساؤلهم؟ أجيب بقوله تعالى : { قال قائل منهم } مستفهماً من إخوانه : { كم لبثتم } نائمين في هذا الكهف من ليلة أو يوم ، وهذا يدل على أن هذا القائل استشعر طول لبثهم بما رأى من هيئتهم أو لغير ذلك من الأمارات؛ ثم وصل به في ذلك الأسلوب أيضاً قوله تعالى : { قالوا لبثنا يوماً } ودل على أن هذا الجواب مبني على الظن بقوله دالاً حيث أقرهم عليه سبحانه على جواز الاجتهاد والقول بالظن المخطىء ، وأنه لا يسمى كذباً وإن كان مخالفاً للواقع { أو بعض يوم } كما تظنون أنتم عند قيامكم من القبور إن لبثتم إلا قليلاً ، لأنه فرق بين صديق وزنديق في الجهل بما غيبه الله تعالى : فكأنه قيل : على أي شيء استقر أمرهم في ذلك؟ فأجيب بأنهم ردوا الأمر إلى الله بقوله : { قالوا } أي قال بعضهم إنكاراً على أنفسهم ووافق الباقون بما عندهم من التحاب في الله والتوافق فيه في الحقيقة إخوان الصفا وخلان الألفة والوفا { ربكم } المحسن إليكم { أعلم } أي من كل أحد { بما لبثتم فابعثوا } أي فتسبب عن إسناد العلم إلى الله تعالى أن يقال : اتركوا الخوض في هذا واشتغلوا بما ينفعكم بأن تبعثوا { أحدكم بورقكم } أي فضتكم { هذه } التي جمعتموها لمثل هذا { إلى المدينة } التي خرجتم منها وهي طرطوس ليأتينا بطعان فإنا جياع { فلينظر أيها } أي أي أهلها { أزكى } أي أطهر وأطيب { طعاماً فليأتكم } ذلك الأحد { برزق منه } لنأكل { وليتلطف } في التخفي بأمره حتى لا يتفطنوا له { ولا يشعرن } أي هذا المبعوث منكم في هذا الأمر { بكم أحداً * } أن فطنوا له فقبضوا عليه ، وإن المعنى : لا يقولن ولا يفعلن ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بكم فيكون قد أشعر بما كان منه من السبب ، وفي قصتهم دليل على أن حمل المسافر ما يصلحه من المنفعة رأى المتوكلين لا المتآكلين المتكلين على الإنفاقات على ما في أوعية القوم من النفقات ، وفيها صحة الوكالة؛ ومادة ( ورق ) بجميع تراكيبها الخمسة عشر قد تقدم في سورة سبحان وغيرها أنها تدور على الجمع ، فالورق مثلثة وككتف وجبل : الدراهم المضروبة - تشبيهاً بالورق في الشكل وفي الجمال ، وبها جمع حال الإنسان ، وحالها مقتض للجمع ، والورّاق : الكثير الدراهم وهو أيضاً مورّق الكتب ، وحرفته الوراقة ، وما زلت منك موارقاً ، أي قريباً مدانياً - أي كالذي يساجلك في قطاف الورق من شجرة واحدة فهو يأخذ من ناحية وأنت من أخرى ، والمداناة : أول الجمع والورق - محركة : جمال الدنيا وبهجتها - لأنها تجمع ألواناً وأنواعاً ، ولعل منه الورقة ، قال في مختصر العين : إنها سواد في غبرة .

وحمامة ورقاء - أي منه ، وفي القاموس : والأورق من الإبل : ما في لونه بياض إلى سواد ، ورأى رجل الغول على جمل أورق فقال : جاء بأم الربيق على أريق ، أي بالداهية العظيمة ، صغر الأورق كسويد في أسود ، والأصل وريق فقلبت واوه همزة ، والأورق أيضاً من الكتاب والشجر معروف - لأنك لا تكاد تحد واحدة منه على لون واحد ، ولأنه يجمع الواحدة منه إلى الأخرى ويجمع معنى ما يحمله ، قال في مختصر العين : والورق : أدم رقاق منه ورق المصحف ، والورق أيضاً : الخبط - لأنه لما كانت الإبل تعلفه كان كأنه هو الورق لا غيره ، والورق : الحي من كل حيوان - لأن الحياة هي الجمال ، وبها جماع الأمور ، ولأن الورق دليل على حياة الحي من الشجر ، فهو من إطلاق اسم الدال على المدلول ، والورق أيضاً : ما استدار من الدم على الأرض ، أو ما سقط اسم من الجراحة - لأن الاستدارة أجمع الأشكال ، وهو تشبيه بورق الشجر في الشكل ، والورق : المال من إبل ودراهم وغيرها - لأن جماع حياة الإنسان وكمالها بذلك كما أن كمال حياة الشجر بالورق ، ولرعي المال من الحيوان الورق ، والورق : حسن القوم وجمالهم - من ذلك ، لأنه يجمع أمرهم ويجمع إليهم غيرهم ، والورق من القوم : أحداثهم أو الضعاف من الفتيان - تشبيه بالورق لأنه لا يقيم غالباً أكثر من عام ، ولأنه ضعيف في نفسه ، وضعيف النفع بالنسبة إلى الثمر ، والورقة - بهاء : الخسيس والكريم ، ضد - للنظر تارة إلى كونه نافعاً للمرعى ودالاً على الحياة ، وإلى كونه غير مقصود بالذات أخرى ، ورجل ورق وامرأة ورقة : خسيسان أي لا ثمرة لهما ، ومن ذلك أورق الصائد - إذا رمى فأخطأ أي لم يقع على غير الورق ، أي لم تحصل له ثمرة ، بل وقع على شجرة غير مثمرة ، وكذا أورق القوم : أخفقوا في حاجتهم ، أي رجعوا بلا ثمرة ، ومن ذلك أيضاً أورقوا : كثر مالهم ودراهمهم - ضد ، هذا بالنظر إلى أن في الورق جمال الشجر وحياته ، والتجارة مؤرقة للمال كمجلبة أي مكثرة؛ ومنه قول القزاز في ديوانه : هذا رجل مؤرق له دراهم ، والمؤرق : الذي لا شيء له - ضد ، أو أنه تارة يكون للإيجاب والصيرورة نحو أغدّ البعير ، وتارة للسلب نحو أشكيته ، والوراق ككتاب : وقت خروج الورق من الشجر ، وشجرة وريقة وورقة : كثيرة الورق ، والوارقة : الشجرة الخضراء الورق الحسنته ، والوراق - كسحاب : خضرة الأرض من الحشيش ، وليس من الورق في شيء ، وذلك أن تلك الخضرة لا تخلو عن لون آخر ، والرقة - كعدة : أول نبات النصي والصليان وهما نباتان أفضل مراعي الإبل ، لأنهما سبب لجمع المال للرعي ، والرقة : الأرض التي يصيبها المطر في الصفرية - أي أول الخريف - أو في القيظ فتنبت فتكون خضراء - كأن ذلك النبات يكون أقل خضرة من نبات الربيع ، ويكون اختلاطه لغيره من الألوان أكثر مما في الربيع ، وفي القوس ورقة - بالفتح : عيب ، والورقاء : الذئبة - من أجل أن الورق الخالي عن الثمر تقل الرغبة في شجره وهو دون المثمر ، ولأن الورق مختلط اللون ، والاختلاط في كل شيء عيب بالنسبة إلى الخالص ، وتورقت الناقة : أكلت الورق .

وقار الرجل يقور : مشى على أطراف قدميه لئلا يسمع صوتهما - لأن فاعل ذلك جدير بالوصول إلى ما أراد مما يجمع شمله ، ومنه قار الصيد : ختله - لأن أهل الخداع أولى بالظفر ، ألا ترى الأسود تصاد به ، ولو غولبت عز أخذها ، وقار الشيء : قطعه من وسطه خرقاً مستديراً كقوّره - لأن الثوب يصير بذلك الخرق يجمع ما يراد منه ، والاستدارة أجمع الأشكال كما سلف ، والقوارة - كثمامة : ما قور الثوب وغيره ، أو يخص بالأديم ، وما قطعت من جوانب الشيء ، والشيء الذي قطع من جوانبه - ضد ، وهو من تسميه موضع الشيء باسمه ، والقارة : الجبل الصغير الصلب المنقطع عن الجبال - لشدة اجتماع أجزائه بالصلابة واجتماعه في نفسه بانقطاعه عن غيره مما لو خالطه لفرقه ، ولم يعرف حد على ما هو ، والقارة : الصخرة العظيمة ، والأرض ذات الحجارة السود - لاجتماعها في نفسها بتميزها عن غيرها بتلك الحجارة ، ودار قوراء : واسعة - تشبيهاً بقوارة الثواب ، ولأنها كلما اتسعت كانت أجمع ، والقار : الإبل أو القطيع الضخم منها ، والاقورار : تشنج الجلد وانحناء الصلب هزالاً وكبراً - لأن كلاًّ من التشنج والانحناء اجتماع ، والاقورار : الضمر - لأن الضامر اجتمعت أجزاؤه ، والاقورار : السمن - ضد ، لأن السمين جمع اللحم والشحم ، والاقورار : ذهاب نبات الأرض - لأنها تصير بذلك قوراء فتصير أجدر بأن تسع الجموع ، ويمكن أن يكون الأقورار كله من السلب إلا ما للسمن ، والقور : القطن الحديث أو ما رزع من عامة لأنه يلبس فيجمع البدن ، ولقيت منه الأقورين - بكسر الراء ، والأقوريات أي الدواهي القاطعة - تشبيهاً بما قور من الثوب ، فهي للسلب ، والقور - محركة : العين - لأن محلها يشبه القوارة ، والمقور - كمعظم : المطلي بالقطران - لاجتماع أجزائه بذلك ، واقتار : احتاج ، أي صار أهلاً لأن يجمع ، وتقور الليل : تهور ، أي مضى ، من القطع ، وتقورت الحية : تثنت أي تجمعت ، والقار : شجر مر - كأنه الذي تطلى به السفن ، وهذا أقير من هذا : أشد مرارة - لأن المرارة تجمع اللهوات عند الذوق ، والقارة قبيلة - لأن ابن الشداخ أراد أن يفرقهم فقال شاعرهم :

دعونا قارة لا تذعرونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم
فسموا القارة بهذا وكانوا رماة ، وفي المثل : قد أنصف القارة من راماها .
والرقوة : فويق الدعص من الرمل ، ويقال رقو ، بلا هاء - كأنه لجمعه الكثير من الرمل ، أو لجمعه من يطلب الإشراف على الأماكن البعيدة بالعلو عليه لترويح النفس - والله الموفق .

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)

ولما نهوا رسولهم عن الإشعار بهم عللوا ذلك فقالوا : { إنهم } أي أهل المدينة { إن يظهروا } أي يطلعوا عالين { عليكم يرجموكم } أي يقتلوكم أخبث قتله إن استمسكتم بدينكم { أو يعيدوكم } قهراً { في ملتهم } إن لنتم لهم { ولن تفلحوا إذاً } أي إذا عدتم فيها مطمئنين بها ، لأنكم وإن أكرهتم ربما استدرجكم الشيطان بذلك إلى الإجابة حقيقة { أبداً * } أي فبعثوا أحدهم فنظر الأزكى وتلطف في الأمر ، فاسترابوا منه لأنهم أنكروا ورقه لكونها من ضرب ملك لا يعرفونه فجهدوا به فلم يشعر بهم أحداً من المخالفين ، وإنما أشعر بهم الملك لما رآه موافقاً لهم في الدين لأنه لم يقع النهي عنه { وكذلك } أي فعلنا بهم ذلك الأمر العظيم من الربط على قلوبهم ، والستر لأخبارهم والحماية من الظالمين والحفظ لأجسامهم على مر الزمان ، وتعاقب الحدثان ، ومثل ما فعلنا بهم ذلك { أعثرنا } أي أظهرنا إظهار أضطرارياً ، أهل البلد وأطلعناهم ، وأصله أن الغافل عن الشيء ينظر إليه إذا عثر به نظر إليه فيعرفه ، فكان العثار سبباً لعلمه به فأطلق اسم السبب على المسبب { عليهم ليعلموا } أي أهل البلد بعد أن كان حصل لبعضهم شك في حشر الأجساد لأن اعتقاد اليهود والنصارى أن البعث إنما هو للروح فقط { أن وعد الله } الذي له صفات الكمال بالبعث للروح والجسد معاً { حق } لأن قيامهم بعد نومهم نيفاً وثلاثمائة سنة مع خرق العادة بحفظ أبدانهم عن الفناء من غير أكل ولا شرب مثل قيام من مات بجسمه الذي كان سواء على أن مطلق النوم دال على ذلك كما قال بعض العارفين « علمك باليقظة بعد النوم علم بالبعث بعد الموت ، والبرزخ واحد غير أن للروح بالجسم في النوم تعلقاً لا يكون بالموت ، وتستيقظ على ما نمت عليه كذلك تبعث على ما مت عليه » .
ولما كان من الحق ما قد يداخله شك قال تعالى : { وأن } أي وليعلموا أن { الساعة لا ريب فيها } مبيناً أنها ليست موضع شك أصلاً لما قام عليها من أدلة العقل ، المؤيد في كل عصر بقواطع النقل ، ومن طالع تفسير ( الزيتون ) من كتابي هذا حصل له هذا ذوقاً؛ ثم بين أن هذا الإعثار أتاهم بعلم نافع حال تجاذب وتنازع فقال : { إذ } أي ليعلموا ذلك ، وأعثرنا حين { يتنازعون } أي أهل المدينة .
ولما كان التنازع في الغالب إنما يكون ما بين الأجانب ، وكان تنازع هؤلاء مقصوراً عليهم كان الأهم بيان محله فقدمه فقال تعالى : { بينهم أمرهم } أي أمر أنفسهم في الحشر فقائل يقول : تحشر الأرواح مجردة : وقائل يقول : بأجسادها ، أو أمر الفتية فقائل يقول : ناس صالحون ، وناس يقولون : لا ندري من أمرهم غير أن الله تعالى أراد هدايتنا بهم { فقالوا } أي فتسبب عن هذا الإعثار أو التنازع أن قال أكثرهم : { ابنوا عليهم } على كل حال { بنياناً } يحفظهم ، واتركوا التنازع فيهم ، ثم عللوا ذلك بقولهم : { ربهم } أي المحسن إليهم بهدايتهم وحفظهم وهداية الناس بهم { أعلم بهم } أن كانوا صالحين أو لا ، وأما أنتم فلا طريق لكم إلى علم ذلك؛ ثم استأنف على طريق الجواب لمن كأنه قال : ماذا فعلوا؟ فقال : { قال الذين غلبوا على } أي وقع أن كانوا غالبين على { أمرهم } أي ظهروا عليه وعلموا أنهم ناس صالحون فروا بدينهم من الكفار وضعف من ينازعهم؛ ويجوز - وهو أحسن - أن يكون الضمير لأهل البلد أو للغالبين أنفسهم ، إشارة إلى أن الرؤساء منهم وأهل القوة كانوا أصلحهم إيماء إلى أن الله تعالى أصلح بهم أهل ذلك الزمان { لنتخذن عليهم } ذلك البنيان الذي اتفقنا عليه { مسجداً * } وهذا دليل على أنهم حين ظهروا عليهم وكلموهم أماتهم الله بعد أن علموا أن لهم مدة طويلة لا يعيش مثلها أحد في ذلك الزمان ، وقبل أن يستقصوا جميع أمرهم ، وفي قصتهم ترغيب في الهجرة .

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

ولما ذكر تعالى تنازع أولئك الذين هداهم الله بهم ، ذكر ما يأتي من إفاضة من علم قريشاً أن تسأل صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم في الفضول الذي ليس لهم إليه سبيل ، ولا يظفرون فيه بدليل علماً من أعلام النبوة فقال تعالى : { سيقولون } أي أهل الكتاب ومن وافقهم في الخوض في ذلك بعد اعترافهم بما قصصت عليك من نبأهم بوعد لا خلف فيه : هم { ثلاثة } أشخاص { رابعهم كلبهم } ولا علم لهم بذلك ، ولذلك أعراه عن الواو فدل إسقاطها على أنهم ليسوا ثلاثة وليس الكلب رابعاً { ويقولون } أي وسيقولون أيضاً : { خمسة سادسهم كلبهم } .
ولما تغير قولهم حسن جداً قوله تعالى : { رجماً بالغيب } أي رمياً بالأمر الغائب عنهم الذي لا اطلاع لهم عليه بوجه { ويقولون } أيضاً دليلاً على أنه لا علم لهم بذلك : { سبعة وثامنهم كلبهم } وتأخير هذا عن الرجم - وإن كان ظناً - مشعر بأنه حق ، ويؤيده هذه الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل الواو حالاً عن المعرفة في نحو { إلا ولها كتاب معلوم } [ الحجر : 4 ] فإن فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أن اتصاف الموصوف بالصفة أمر ثابت مستقر ، فدلت هذه الواو على أن أهل هذا القول قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ، ولم يرجموا بالظن ، وفي براءة ، كلام نفيس عن اتباع الوصف تارة بواو وتارة مجرداً عنها . فلما ظهر كالشمس أنه لا علم لهم بذلك كان كأنه قيل : ماذا يقال لهم؟ فقيل : { قل ربي } أي المحسن إليّ بإعلامي بأمرهم وغيره { أعلم بعدتهم } أي التي لا زيادة فيها ولا نقص ، فكان كأنه قيل : قد فهم من صيغة « أعلم » أم من الخلق من يعلم أمرهم فقيل : { ما يعلمهم إلا قليل * } أي من الخلق وهو مؤيد لأنهم أصحاب القول الغالب ، وهو ، قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وكان يقول : أنا من ذلك القليل . { فلا } أي فتسبب عن ذلك أن يقول لك على سبيل البت الداخل تحت النهي عن قفو ما ليس لك به علم : لا { تمار } أي تجادل وتراجع { فيهم } أحداً ممن يتكلم بغير ما أخبرتك به { إلا مرآء ظاهراً } أدلته ، وهو ما أوحيت إليك به ولا تفعل فعلهم من الرجم بالغيب { ولا تستفت } أي تسأل سؤال مستفيد { فيهم } أي أهل الكهف { منهم } أي من الذين يدعون العلم من بني إسرائيل أو غيرهم { أحداً * } .
ولما كان نهيه عن استفتائهم موجباً لقصر همته على ربه سبحانه فكان من المعلوم أنه إذا سئل عن شيء ، التفتت نفسه إلى تعرفه من قبله ، فربما قال لما يعلم من إحاطة علم الله سبحانه وكرمه لديه : سأخبركم به غداً ، كما وقع من هذه القصص ، علمه الله ما يقول في كل أمر مستقبل يعزم عليه بقوله تعالى : { ولا تقولن لشيءٍ } أي لأجل شيء من الأشياء التي يعزم عليها جليلها وحقيرها ، عزمت على فعله : عزماً صادقاً من غير تردد وإن كنت عند نفسك في غاية القدرة عليه : { إني فاعل ذلك } أي الشيء وإن كان مهماً { غداً * } أي فيما يستقبل في حال من الأحوال { إلا } قولاً كائناً معه { أن يشاء } في المستقبل ذلك الشيء { الله } أي مقروناً بمشيئة الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه سبحانه تعظيماً لله أن يقطع شيء دونه واعترافاً بأنه لا حول ولا قوة إلا به ، ولأنه إن قيل ذلك دون استثناء فات قبل الفعل أو عاقه عنه عائق كان كذباً منفراً عن القائل .

ولما كان النسيان من شأن الإنسان وهو غير مؤاخذ به قال تعالى : { واذكر ربك } أي المحسن إليك برفع المؤاخذة حال النسيان { إذا نسيت } الاستثناء بالاستعانة والتوكل عليه وتفويض الأمر كله بأن تقول : إن شاء الله ، ونحوها في أيّ وقت تذكرت؛ وأخرج الطبراني في معجمه الأوسط في ترجمة محمد بن الحارث الجبيلي - بضم الجيم وفتح الموحدة - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا بصلة اليمين . ثم عطف على ما أفهمه الكلام وهو : فقل إذا نسيت : إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله - ونحو ذلك من التعليق بالمشيئة المؤذن بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ولا مشيئة لأحد معه قوله : { وقل عسى أن يهدين ربي } أي المحسن إليّ { لأقرب } أي الى أشد قرباً { من هذا } أي الذي عزمت على فعله ونسيت الاستثناء فيه فقضاه الله ولم يؤاخذني ، أو فاتني أو تعسر عليّ لكوني لم أقرن العزم عليه بذكر الله { رشداً * } أي من جهة الرشد بأن يوفقني للاستثناء فيه عند العزم عليه مع كونه أجود أثراً وأجل عنصراً فأكون كل يوم في ترق بالأفعال الصالحة في معارج القدس ، و « اقرب » أفعل تفضيل من قرب - بضم الراء - من الشيء ، لازم ، لا من المكسور الراء المتعدي نحو { ولا تقربوا الزنى } [ الإسراء : 32 ] { ولا تقربوا مال اليتيم } [ الإسراء : 34 ] الآية ، والأقرب من رشد الاستدلال بقصة أهل الكهف التي الحديث عنها على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ونحو ذلك الاستدلال على وحدانية الصانع وقدرته على البعث وغيره بالأمور الكلية أو الجزئيات القريبة المتكررة ، لا بهذا الأمر الجزئي النادر المتعب ونحو هذا من المعارف الإلهية .

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)

ولما فرغ من هذه التربية في أثناء القصة وختمها بالترجية في الهداية للأرشد ، وكان علم مدة لبثهم أدق وأخفى من علم عددهم ، شرع في إكمالها مبيناً لهذا الأخفى ، عاطفاً على قوله { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } [ الكهف : 19 ] أو على « فأووا إليه » الذي أرشد إلى تقديره قولهم : { فأووا إلى الكهف } كما مضى ، المختوم بنشر الرحمة وتهيئة المرفق بعد قوله { إذ أوى الفتية } المختوم بقولهم { وهيىء لنا من أمرنا رشداً } فقال بياناً لإجمال { سنين عدداً } محققاً لقوله تعالى : { قل الله أعلم بما لبثوا } : { ولبثوا في كهفهم } نياماً { ثلاث } أي مدة ثلاث { مائة سنين } شمسية بحساب اليهود الآمرين بهذا السؤال ، وعبر بلفظ السنة إشارة إلى ذمها بما وقع فيها من علو أهل الكفر وطغيانهم بما أوجب خوف الصديقين وهجرتهم وإن كان وقع فيها خصب في النبات وسعة في الرزق ، وذلك يدل على استغراق الكفر لمدة نومهم .
ولما كان المباشرون للسؤال هم العرب قال : { وازدادوا تسعاً * } أي من السنين القمرية إذا حسب الكل بحساب القمر ، لأن تفاوت ما بين السنة الشمسية والقمرية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة كما تقدم في النسيء من براءة ، فإذا حسبت زيادة السني القمرية على الثلاتمائة الشمسية باعتبار نقص أيامها عنها كانت تسع سنين ، وكأن مدة لبثهم كانت عند اليهود أقل من ذلك أو أكثر ، فقال على طريق الجواب لسؤال من يقول : فإن قال أحد غير هذا فما يقال له؟ { قل الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { أعلم } منكم { بما لبثوا } ثم علل ذلك بقوله تعالى : { له } أي وحده { غيب السماوات والأرض } يعلمه كله على ما هو عليه ، ولا ينسى شيئاً من الماضي ولا يعزب عنه شيء من الحاضر ، ولا يعجز عن شيء من الآتي ، فلا ريب فيما يخبر به .
ولما كان السمع والبصر مناطي العلم ، وكان متصفاً منهما بما لا يعلمه حق علمه غيره ، عجب من ذلك بقوله تعالى : { أبصر به وأسمع } ولما كان القائم بشيء قد يقوم غيره مقامه إما بقهر أو شرك ، نفى ذلك فانسد باب العلم عن غيره إلا من جهته فقال تعالى : { ما لهم } أي لهؤلاء السائلين ولا المسؤولين الراجمين بالغيب من أصحاب الكهف { من دونه } وأعرق بقوله تعالى : { من ولي } يجيرهم منه أو بغير ما أخبر به { ولا يشرك } أي الله { في حكمه أحداً * } فيفعل شيئاً بغير أمره أو يخبر بشيء من غير طريقه .
ولما تقرر أنه لا شك في قوله : ولا يقدر أحد أن يأتي بما يماثله فكيف بما ينافيه مع كونه مختصاً بتمام العلم وشمول القدرة ، حسن تعقيبه بقوله عطفاً على { قل لله أعلم } : { واتل } أي اقرأ على وجه الملازمة { ما أوحي إليك } وبنى الفعل للمجهول لأن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على القطع بأن الموحى إليه هو الله سبحانه وتعالى { من كتاب ربك } الذي أحسن تربيتك في قصة أهل الكهف وغيرها ، على من رغب فيه غير ملتفت إلى غيره واتبعوا ما فيه واثقين بوعده ووعيده وإثباته ونفيه وعلى غيرهم .

ولما كان الحامل على الكف عن إبلاغ رسالة المرسل وجدان من ينقضها أو عمي على المرسل ، قال تعالى : { لا مبدل لكلماته } فلا شك في وقوعها فلا عذر في التقصير في إبلاغها ، والنسخ ليس بتبديل بهذا المعنى بل هو غاية لما كان { ولن تجد } أي بوجه من الوجوه { من دونه } أي أدنى منزلة من رتبته الشماء إلى آخر المنازل { ملتحداً * } أي ملجأ ومتحيزاً تميل إليه فيمنعك منه إن قصرت في ذلك .
ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شديد الحرص على إيمانهم كثير الأسف على توليهم عنه يكاد يبخع نفسه حسرة عليهم وكانوا يقولون له إذا رأوا مثل هذا الحق الذي لا يجدون له مدفعاً : لو طردت هؤلاء الفقراء وأبعدتهم عنك مثل عمار وصهيب وبلال فإنه يؤذينا ريح جبابهم ونأنف من مجالستهم جلسنا إليك وسمعنا منك ورجونا أن نتبعك ، قال يرغبه في أتباعه مزهداً فيمن عداهم كائناً من كان ، معلماً أنه ليس فيهم ملجأ لمن خالف أمر الله وأنهم لا يريدون إلا تبديل كلمات الله فسيذلهم عن قريب ولا يجدون لهم ملتحداً : { واصبر نفسك } أي احبسها وثبتها في تلاوته وتبيين معانيه { مع الذين يدعون ربهم } شكراً لإحسانه ، واعترافاً بامتنانه ، وكنى عن المداومة بما يدل على البعث الذي كانت قصة أهل الكهف دليلاً عليه فقال تعالى : { بالغداة } أي التي الانتقال فيها من النوم إلى اليقظة كالانتقال من الموت إلى الحياة { والعشي } أي التي الانتقال فيها من اليقظة إلى النوم كالانتقال من الحياة إلى الموت؛ ثم مدحهم بقوله تعالى معللاً لدعائهم : { يريدون } أي بذلك { وجهه } لا غير ذلك في رجاء ثواب أو خوف عقاب وإن كانوا في غاية الرثاثة ، وأكد ذلك بالنهي عن ضده فقال مؤكداً للمعنى لقصر الفعل وتضمينه فعلاً آخر : { ولا تعد عيناك } علواً ونبوءاً وتجاوزاً { عنهم } إلى غيرهم ، أي لا تعرض عنهم ، حال كونك { تريد زينة الحياة الدنيا } التي قدمنا في هذه السورة أنا زينا بها الأرض لنبلوهم بذلك ، فإنهم وإن كانوا اليوم عند هؤلاء مؤخرين فهم عند الملك الأعلى مقدمون ، وليكونن عن قريب - إذا بعثنا من نريد من العباد بالحياة من برزخ الجهل - في الطبقة العليا من أهل العز ، وأما بعد البعث الحقيقي فلتكونن لهم مواكب يهاب الدنو منها كما كان لأهل الكهف بعد بعثهم من هذه الرقدة بعد أن كانوا في حياتهم قبلها هاربين مستخفين في غاية الخوف والذل ، وأما إن عدّت العينان أحداً لما غفل عنه من الذكر ، وأحل به من الشكر ، فليس ذلك من النهي في شيء لأنه لم يرد به الإ الآخرة .

ولما بلغ في أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمجالسة المسلمين ، نهاه عن الالتفات إلى الغافلين ، وأكد الإعراض عن الناكبين فقال تعالى : { ولا تطع من أغفلنا } بعظمتنا { قلبه } أي جعلناه غافلاً ، لأن الفعل فيه لنا لا له { عن ذكرنا } بتلك الزينة .
ولما كان التقدير : فغفل ، لأن عظمتنا لا يغلبها شيء فلا يكون إلا ما نريد ، عطف على فعل المطاوعة قوله تعالى : { واتبع هواه } بالميل إلى ما استدرجناه به منها والأنفة من مجالسة أوليائنا الذين أكرمناهم بالحماية منها لأن ذكر الله مطلع الأنوار ، فإذا أفلت الأنوار تراكمت الظلمة فجاء الهوى فأقبل على الخلق { وكان أمره فرطاً * } أي متجاوزاً للحد مسرفاً فيه متقدماً على الحق ، فيكون الحق منبوذاً به وراء الظهر مفرطاً فيه بالتقصير فإن ربك سبحانه سينجي أتباعك على ضعفهم منهم كما أنجى أصحاب الكهف ، ويزيدك بأن يعليهم عليهم ويدفع الجبابرة في أيديهم لأنهم مقبلون على الله معرضون عما سواه ، وغيرهم مقبل على غيره معرض عنه .

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

ولما رغبه في أوليائه ، وزهده في أعدائه ، ترضية بقدره بعد أن قص الحق من قصة أهل الكهف للمتعنتين ، علمه ما يقول لهم على وجه يعمهم ويعم غيرهم ويعم القصة وغيرها فقال تعالى مهدداً ومتوعداً - كما نقل عن علي رضي الله عنه وكذا عن غيره : { وقل } أي لهم ولغيرهم : هذا الذي جئتكم به من هذا الوحي العربي العري عن العوج ، الظاهر الإعجاز ، الباهر الحجج { الحق } كائناً { من ربكم } المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين ، والإعراض عمن سواهم وغير ذلك ، لا ما قلتموه في أمرهم ، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ { فمن شاء } أي منكم ومن غيركم { فليؤمن } بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم ، فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيراً زريّ الهيئة ولم ينفع إلا نفسه { ومن شاء } منكم ومن غيركم { فليكفر } فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة ، وإن تعاظمت هيبته لما اشتد من أذاه ، وأفرط من ظلمه ، وسنشفي قلوب المؤمنين في الدارين بالانتقام منه ، والآية دالة على أن كلاًّ من الكفر والإيمان موقوف على المشيئة بخلق الله تعالى ، لأن الفعل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وذلك القصد إن كان بقصد آخر يتقدمه لزم أن يكون كل قصد مسبوقاً بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال ، فوجب أن تنتهي تلك القصود إلى قصد يخلقه الله في العبد على سبيل الضرورة يجب به الفعل ، فإلإنسان مضطر في صورة مختار ، فلا دليل للمعتزلة في هذه الآية .
ولما هدد السامعين بما حاصله : ليختر كل امرىء لنفسه ما يجده غداً عند الله تعالى ، اتبع هذا التهديد تفصيلاً لما أعد للفريقين من الوعد والوعيد لفاً ونشراً مشوشاً - بما يليق بهذا الأسلوب المشير إلى أنه لا كفوء له من نون العظمة فقال تعالى : { إنا اعتدنا } أي هيأنا بما لنا من العظمة تهيئة قريبة جداً ، وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير { للظالمين } أي لمن لم يؤمن ، ولكنه وصف إشارة إلى تعليق الحكم به { ناراً } جعلناها معدة لهم { أحاط بهم } كلهم { سرادقها } أي حائطها الذي يدار حولها كما يدار الحظير حول الخيمة من جميع الجوانب .
ولما كان المحرور شديد الطلب للماء قال تعالى : { وإن يستغيثوا } من حر النار فيطلبوا الغيث - وهو ماء المطر - والغوث بإحضاره لهم؛ وشاكل استغاثتهم تهكماً بهم فقال تعالى : { يغاثوا بماء } ليس كالماء الذي قدمنا الإشارة إلى أنا نحيي به الأرض بعد صيرورتها صعيداً جرزاً ، بل { كالمهل } وهو القطران الرقيق وما ذاب في صفر أو حديد والزيت أو درديّه - قاله في القاموس .

وشبهه به من أجل تناهي الحر مع كونه ثخيناً ، وبين وجه الشبه بقوله تعالى : { يشوي الوجوه } أي إذا قرب إلى الفم فكيف بالفم والجوف! ثم وصل بذلك ذمه فقال تعالى : { بئس الشراب } أي هو ، فإنه أسود منتن غليظ حار ، وعطف عليه ذم النار المعدة لهم فقال تعالى : { وساءت مرتفقاً * } أي منزلاً يعد للارتفاق ، فكأنه قيل : فما لمن آمن؟ فقال تعالى : { إن الذين ءامنوا } ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر ، عطف عليه ما يحقق ذلك فقال تعالى : { وعملوا الصالحات } ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى : { إنا لا نضيع } أي بوجه من الوجوه لما يقتضيه عظمتنا { أجر من أحسن عملاً * } مشيراً بإظهار ضميرهم إلى أنهم استحقوا بذلك الوصف بالإحسان ، فكأنه قيل : فما لهم؟ فقال مفصلاً لما أجمل من وعدهم : { أولئك } أي العالو الرتبة { لهم جنات عدن } أي إقامة ، فكأنه قيل : ما لهم فيها؟ فقيل : { تجري من تحتهم } أي تحت منازلهم { الأنهار } فكأنه قيل : ثم ماذا؟ فقيل : { يحلون فيها } وبنى الفعل للمجهول لأن القصد وجود التحلية ، وهي لعزتها إنما يؤتى بها من الغيب فضلاً من الله تعالى .
ولما كان الله أعظم من كل شيء ، فكانت نعمه لا يحصى نوع منها ، قال تعالى مبعضاً : { من أساور } جمع أسورة جمع سوار ، كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس . ولما كان لمقصودها نظر إلى التفضيل والفعل بالاختيار على الإطلاق ، وقع الترغيب في طاعته بما هو أعلى من الفضة فقال مبعضاً أيضاً : { من ذهب } أي ذهب هو في غاية العظمة . ولما كان اللباس جزاء العمل وكان موجوداً عندهم ، أسند الفعل إليهم فقال تعالى : { ويلبسون ثياباً خضراً } ثم وصفها بقوله تعالى : { من سندس } وهو ما رقّ من الديباج { وإستبرق } وهو ما غلظ منه؛ ثم استأنف الوصف عن حال جلوسهم فيها بأنه جلوس الملوك المتمكنين من النعيم فقال تعالى : { متكئين فيها } أي لأنهم في غاية الراحة { على الأرائك } أي الأسرع عليها الحجل ، ثم مدح هذا فقال تعالى : { نعم الثواب } أي هو لو لم يكن لها وصف غير ما سمعتم فكيف ولها من الأوصاف ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى! وإلى ذلك أشار بقوله تعالى : { وحسنت } أي الجنة كلها ، وميز ذلك بقوله تعالى : { مرتفقاً * } .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)

ولما كان إنما محط حال المشركين العاجل ، وكان قد تقدم قولهم { أو يكون لك جنة من نخيل وعنب } [ الإسراء : 91 ] الآية ، وقوله تعالى : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } [ الكهف : 7 ] الآية ، وقوله تعالى : في حق فقراء المؤمنين الذين تقذروهم { ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } [ الكهف : 28 ] الآية واستمر إلى أن ختم بأن جنات المؤمنين عظيم حسنها من جهة الارتفاق ، عطف على قوله تعالى { وقل الحق من ربكم } [ الكهف : 29 ] قوله تعالى كاشفاً بضرب المثل أن ما فيه الكفار من الارتفاق العاجل ليس أهلاً لأن يفتخر به لأنه إلى زوال : { واضرب لهم } أي لهؤلاء الضعفاء والمتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين ، ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم : { مثلاً } لما آتاهم الله من زينة الحياة الدنيا ، فاعتمدوا عليهم وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه ، بل أداهم إلى الافتقار والتكبر على من زوى ذلك عنه إكراماً له وصيانة عنه { رجلين } فكأنه قيل : فما مثلهما؟ فقيل : { جعلنا } أي بما لنا من العظمة { لأحدهما } وهو المجعول مثلاً لهم { جنتين } أي بساتين يستر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما على أي وضع من الأوضاع كانتا ، ومن جملة الأوضاع أن تكون إحداهما من السهل والأخرى في الجبل ، ليبعد عموم عاهة لهما لأنها إما من برد أو حر { من أعناب } لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر ، وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها { وحففناهما } أي حططناهما بعظمتنا { بنخل } لأنها من أشجار البلاد الحارة ، وتصبر على البرد ، وربما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات ، وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخل فكأن النخل كالإكليل من وراء العنب ، وهو مما يؤثره الدهاقين لأنه في غاية البهجة والمنفعة { وجعلنا بينهما } أي أرضي الجنتين { زرعاً * } لبعد شمول الآفة للكل ، لأن زمان الزرع ومكانه غير زمان أثمار الشجر المقدم ومكانه ، وذلك هو العمدة في القوت ، فكانت الجنتان أرضاً جامعة لخير الفواكه وأفضل الأقوات ، وعمارتهما متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها ، مع سعة الأطراف ، وتباعد الأكناف ، وحسن الهيئات والأوصاف .
ولما كان الشجر قد يكون فاسداً من جهة أرضه ، نفى ذلك بقوله تعالى؛ جواباً لمن كأنه قال : ما حال أرضهما المنتج لزكاء ثمرهما؟ : { كلتا } أي كل واحدة من { الجنتين } المذكورتين { ءاتت أكلها } أي ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب ، كاملاً غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة ، وهو معنى : { ولم تظلم } أي تنقص حساً ولا معنى كمن يضع الشيء في غير موضعه { منه شيئاً } .
ولما كان الشجر ربما أضر بدوامه قلة السقي قال تعالى : { وفجرنا } أي تفجيراً يناسب عظمتنا { خلالهما نهراً * } أي يمتد فيتشعب فيكون كالأنهار لتدوم طراوة الأرض ويستغني عن المطر عند القحط؛ ثم زاد في ضخامة هذا الرجل فبين أن له غير هاتين الجنتين والزرع بقوله تعالى : { وكان له } أي صاحب الجنتين { ثمر } أي مال مثمر غير ما تقدم كثير ، ذو أنواع ليكون متمكناً من العمارة بالأعوان والآلات وجميع ما يريد { فقال } أي هذا الكافر { لصاحبه } أي المسلم المجعول مثلاً لفقراء المؤمنين { وهو } أي صاحب الجنان { يحاوره } أي يراجعه الكلام ، من حار يحور - إذا رجع افتخاراً عليه وتقبيحاً لحاله بالنسبة إليه ، والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا : { أنا أكثر منك مالاً } لما ترى من جناني وثماري { وأعز نفراً * } أي ناساً يقومون معي في المهمات ، وينفرون عند الضرورات ، لأن ذلك لازم لكثرة المال { ودخل جنته } وحد لإرادة الجنس ودلالة على ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة ، وإشارة إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لا حظ له في الآخرة { وهو } أي والحال أنه { ظالم لنفسه } بالاعتماد على ماله والإعراض عن ربه؛ ثم استأنف بيان ظلمه بقوله : { قال } لما استولى عليه من طول أمله وشدة حرصه وتمادي غفلته واطراحه للنظر في العواقب بطول المهلة وسبوغ النعمة : { ما أظن أن تبيد } أي تهلك هلاكاً ظاهراً مستولياً { هذه أبداً * } ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فقال : { وما أظن الساعة قائمة } استلذاذاً بما هو فيه وإخلاداً إليه واعتماداً عليه .

ولما كان الإنسان مجبولاً على غلبة الرجاء عليه ، فإذا حصل له من دواعي الغنى وطول الراحة وبلوغ المأمول والاستدراج بالظفر بالسؤال ما يربيه ، ويثبت أصوله ويقويه ، اضمحل الخوف فلم يزل يتضاءل حتى لا يتلاشى فكان عدماً ، فقال تعالى حاكياً عن هذا الكافر ما أثمر له الرجاء من أمانه من سوء ما يأتي به القدر مقسماً : { ولئن رددت } أي ردني راد { إلى ربي } المحسن إلي في هذه الدار ، في السعة على تقدير قيامها الذي يستعمل في فرضه أداة الشك { لأجدن خيراً منها } أي هذه الجنة؛ وقرأ ابن كثير وابن عامر بالتثنية للجنتين { منقلباً * } أي من جهة الانقلاب وزمانه ومكانه ، لأنه ما أعطاني ذلك إلا باستحقاقي ، وهو وصف لي غير منفك في الدارين ، وإن لم يقولوا نحو هذا بألسنة مقالهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به ، فكأنه قيل : إن هذا لفي عداد البهائم حيث قصر النظر على الجزئيات ، ولم يجوز أن يكون التمويل استدراجاً ، فما قال له الآخر؟ فقيل : { قال له صاحبه وهو } أي والحال إن ذلك الصاحب { يحاوره } منكراً عليه : { أكفرت } .
ولما كان كفره بإنكار البعث ، دل عليه بقوله تعالى : { بالذي خلقك من تراب } بخلق أصلك { ثم من نطفة } متولدة من أغذية أصلها تراب { ثم سواك } بعد أن أولدك وطورك في أطوار النشأة { رجلاً * } حيث نفيت إعادته لمن ابتدأ خلقهم على هذا الوجه تكذيباً للرسل واستقصاراً للقدرة ، ولم تثبت لها في الإعادة ما ثبت لها بعلمك في الابتداء ، ثم لم تجوزها بعد القطع بالنفي إلا على سبيل الفرض بأداة الشك ، وهي من دعائم أصول الدين الذي لا يقتنع فيه إلا بالقطع ، ونسبته إلى العبث الذي لا يرضاه عاقل إذ جعلت غاية هذا الخلق البديع في هذا التطوير العظيم الموت الذي لو كان غاية كما زعمت - لفوّت على المطيع الثواب ، وعلى العاصي العقاب .

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)

ولما أنكر على صاحبه ، أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه ، فقال مؤكداً لأجل إنكار صاحبه مستدركاً لأجل كفرانه : { لكنا } لكن أنا . ولما كان سبحانه لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه ، أشار إلى ذلك جميعاً بإضماره قبل الذكر فقال تعالى : { هو } أي الظاهر أتم ظهور فلا يخفى أصلاً ، ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك { الله } أي المحيط بصفات الكمال { ربي } وحده ، لم يحسن إليّ خلقاً ورزقاً أحد غيره ، هذا اعتقادي في الماضي والحال { ولا أشرك بربي } المحسن إليّ في عبادتي { أحداً * } كما لم يشاركه في إحسانه إليّ أحد ، فإن الكل خلقه وعبيده ، وأنى يكون العبد شريكاً للرب! فإني لا أرى الغنى والفقر إلا منه ، وأنت - لما اعتمدت على مالك - كنت مشركاً به .
ولما كان المؤمنون على طريق الأنبياء في إرادة الخير والإرشاد إلى سبيل النجاة وعدم الحقد على أحد بشر أسلفه وجهل قدمه ، قال له مصرحاً بالتعليم بعد أن لوح له به فيما ذكره عن نفسه مما يجب عليه : { ولولا إذ } أي وهلا حين { دخلت جنتك قلت } ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى كما تقدم الإرشاد إليه في آية { ولا تقولن لشي } [ الكهف : 23 ] تاركاً للافتخار بها ، ومستحضراً لأن الذي وهبكها قادر على سلبك إياها ليقودك ذلك إلى التوحيد وعدم الشرك ، فلا تفرح بها ولا بغيرها مما يفنى لأنه لا ينبغي الفرح إلا بما يؤمن عليه بالزوال { ما شاء الله } أي الذي له الأمر كله ، كان ، سواء كان حاضراً أو ماضياً أو مستقبلاً ، ولذلك أعراها عن الجواب ، لا ما يشاؤه غيره ولا يشاؤه هو سبحانه؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى : { لا قوة } أي لأحد على بستان وغيره { إلا بالله } أي المتوحد بالكمال ، فلا شريك له ، وأفادت هذه الكلمة إثبات القوة لله وبراءة العبد منها ، والتنبيه على أنه لا قدرة لأحد من الخلق إلا بتقديره ، فلا يخاف من غيره ، والتنبيه على فساد قول الفلاسفة في الطبائع من أنها مؤثرة بنفسها .
ولما قدم ما يجب عليه في نفسه منبهاً به لصاحبه ، ثم ما يجب عليه من التصريح بالإرشاد في أسلوب مقرر أن الأمر كله لله ، لا شيء لأحد غيره ، أنتج قوله تعالى : { إن ترن } أي أيها المفتخر بما له عليّ! { أنا } ولما ذكر ضمير الفصل ، ذكر مفعول ( ترى ) الثاني فقال : { أقل منك } وميز القليل بقوله : { مالاً وولداً * } أي من جهة المال والولد الذي هو أعز نفر الإنسان .
ولما أقر هذا المؤمن بالعجز والافتقار ، في نظير ما أبدى الكافر من التقوى والافتخار ، سبب عن ذلك ما جرت به العادة في كل جزاء ، داعياً بصورة التوقع فقال تعالى : { فعسى ربي } المحسن إليّ { أن يؤتين } من خزائن رزقه { خيراً من جنتك } فيحسن إليّ بالغنى كما أحسن إليّ بالفقر المقترن بالتوحيد ، المنتج للسعادة { ويرسل عليها } أي جنتك { حسباناً } أي مرامي من الصواعق والبرد الشديد { من السماء } .

ولما كانت المصابحة بالمصيبة أنكى ما يكون ، قال تعالى : { فتصبح } بعد كونها قرة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع { صعيداً زلقاً * } أي أرضاً يزلق عليها لملاستها باستئصال نباتها ، فلا ينبت فيها نبات ، ولا يثبت فيها قدم { أو يصبح ماؤها غوراً } وصف بالمصدر لأنه أبلغ { فلن تستطيع } أنت { له طلباً * } .

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)

ولما كان من المعلوم أن هذا المؤمن المخلص بعين الرضى ، كان من المعلوم أن التقدير : فاستجيب لهذا الرجل المؤمن ، أو : فحقق له ما توقعه فخيب ظن المشرك ، فعطف عليه قوله : { وأحيط } أي أوقعت الإحاطة بالهلاك ، بني للمفعول لأن الفكر حاصل بإحاطة الهلاك من غير نظر إلى فاعل مخصوص ، وللدلالة على سهولته { بثمرة } أي الرجل المشرك ، كله فاستؤصل هلاكاً ما في السهل منه وما في الجبل ، وما يصبر منه على البرد والحر وما لا يصبر { فأصبح يقلب كفيه } ندماً ، ويضرب إحداهما على الأخرى تحسراً { على ما أنفق فيها } لعمارتها ونمائها { وهي خاوية } أي ساقطة مع الخلو { على عروشها } أي دعائمها التي كانت تحملها فسقطت على الأرض وسقطت هي فوقها { ويقول } تمنياً لرد ما فات لحيرته وذهول عقله ودهشته : { يا ليتني } تمنياً لاعتماده على الله من غير إشراك بالاعتماد على الفاني { لم أشرك بربي أحداً * } كما قال له صاحبه ، فندم حيث لم ينفعه الندم على ما فرط في الماضي لأجل ما فاته من الدنيا ، لا حرصاً على الإيمان لحصول الفوز في العقبى ، لقصور عقله ووقوفه مع المحسوسات المشاهدات { ولم تكن له فئة } أي جماعة لا من نفره الذين اعتز بهم ولا من غيرهم { ينصرونه } مما وقع فيه { من دون الله } أي بغير عون من الملك الأعظم { وما كان } هو { منتصراً * } بنفسه ، بل ليس الأمر في ذلك إلا لله وحده .
ولما أنتج هذا المثل قطعاً أنه لا أمر لغير الله المرجو لنصر أوليائه بعد ذلهم ، ولإغنائهم بعد فقرهم ، ولإذلال أعدائه بعد عزهم وكبرهم ، وإفقارهم بعد إغنائهم وجبرهم ، وأن غيره إنما هو كالخيال لا حقيقة له ، صرح بذلك في قوله تعالى : { هنالك } أي في مثل هذه الشدائد العظيمة { الولاية } أي النصرة - على قراءة الفتح ، والسلطان - على الكسر ، وهي قراءة حمزة والكسائي ، والفتح لغيرهما ، وهما بمعنى واحد ، وهو المصدر كما صدر به في القاموس . { لله } أي الذي له الكمال كله { الحق } أي الثابت الذي لا يحول يوماً ولا يزول ، ولا يغفل ساعة ولا ينام ، ولا ولاية لغيره بوجه - هذا على قراءة الجماعة بالجر على الوصف وهو في قراءة أبي عمرو والكسائي بالرفع على الاستئناف والقطع تقليلاً ، تنبيهاً على أن فزعهم في مثل هذه الأزمات إليه دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل ، وأن الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل ، وأن المؤمنين لا يعيبهم فقرهم ولا يسوغ طردهم لأجله ، وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوة . ولما علم من ذلك من أنه آخذ بأيدي عبيدة الأبرار وعلى أيدي عصاته الأشرار ، قال تعالى : { هو خير ثواباً } لمن أثابه { وخير عقباً * } أي عاقبة عظيمة ، فإن فعلا - بضمه وبضمتين - من صيغ جموع الكثرة فيفيده ذلك مبالغة وإن لم يكن جمعاً ، والمعنى أنه أي ثوابه لأوليائه خير ثواب وعقباه خير عقبى .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)

ولما أتم المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أبطرتهم ، فكانت سبب إشقائهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامة لجميع الناس في قلة بقائها وسرعة فنائها ، وأن من تكبر بها كان أخس منها فقال تعالى : { واضرب لهم } أي لهؤلاء الكفار المغترين بالعرض الفاني ، المفتخرين بكثرة الأموال والأولاد وعزة النفر { مثل الحياة الدنيا } أي التي صفتها - التي هم بها ناطقون - تدل على أن ضدها الأخرى ، في ينوعها ونضرتها ، واختلابها للنفوس ببهجتها ، واستيلائها على الأهواء بزهرتها ، واختداعها لذوي الشهوات بزينتها ، ثم اضمحلالها وسرعة زوالها ، أفرح ما كانوا بها ، وأرغب ما كانوا فيها مرة بعد أخرى ، على مر الأيام وكر الشهور ، وتوالي الأعوام وتعاقب الدهور ، بحيث نادت على نفسها بالتحذير منها والتنفير عنها للعاقل اللقن ، والكيس الفطن ، رغبة إلى الباقي الذي يدوم سروره ، ويبقى نعيمه وحبوره ، وذلك المثل { كماء أنزلناه } بعظمتنا واقتدارنا بعد يبس الأرض وجفاف ما فيها وزواله ، وبقلعه كما تشاهدونه واستئصاله ، وقال : { من السماء } تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة على الوجه النافع { فاختلط } أي فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط { به نبات الأرض } أي التراب الذي كان نباتاً ارفت بطول العهد في بطنها ، فاجتمع بالماء والتفّ وتكاثف ، فهيأناه بالتخمير والصنع الذي لا يقدر عليه سوانا حتى أخرجناه من الأرض أخضر يهتز على ألوان مختلفة ومقادير متفاوتة ثم أيبسناه { فأصبح هشيماً } أي يابساً مكسراً مفتتاً { تذروه } أي تثيره وتفرقه وتذهب به { الرياح } حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن { وكان الله } أي المختص بصفات الكمال { على كل شيء } من ذلك وغيره إنشاء وإفناء وإعادة { مقتدراً * } أزلاً وأبداً ، فلا تظنوا أن ما تشاهدونه من قدرته حادث .
ولما تبين بهذين المثلين وغيرهما أن الدينا - التي أوردت أهلها الموارد وأحلتهم أودية المعاطب - سريعة الزوال ، وشيكة الارتحال ، مع كثرة الأنكاد ، ودوام الأكدار ، من الكد والتعب ، والخوف والنصب كالزرع سواء ، تقبل أولاً في غاية النضرة والبهجة ، تتزايد نضرتها وبهجتها شيئاً فشيئاً ، ثم تأخذ في الانتقاص والانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء ، فهي جديرة لذلك بالزهد فيها والرغبة عنها ، وأن لا يفتخر بها عاقل فضلاً عن أن يكاثر بها غيره ، قال تعالى : { المال والبنون } الفانيان الفاسدان وهما أجلّ ما في هذه الدار من متاعها { زينة الحياة الدنيا } التي لو عاش الإنسان جميع أيامها لكان حقيقاً لصيرورة ما هو في منها إلى زوال بالإعراض عنها والبغض لها ، وأنتم تعلمون ما في تحصيلهما من التعب ، وما لهما بعد الحصول من سرعة العطب ، وهما مع ذلك قد يكونان خيراً إن عمل فيهما بما يرضي الله ، وقد يكونان شراً ويخيب الأمل فيهما ، وقد يكون كل منهما سبب هلاك صاحبه وكدره ، وسوء حياته وضرره { والباقيات الصالحات } وهي أعمال الخير المجردة التي يقصد بها وجه الله تعالى التي رغبنا فيها بقولنا

{ لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } [ الكهف : 7 ] وما بعده { خير } أي من الزينة الفانية . ولما كان أهم ما إلى من حصل النفائس لكفايته من يحفظها له لوقت حاجته قال : { عند ربك } أي الجليل المواهب ، العالم بالعواقب ، وخير من المال والبنين في العاجل والآجل { ثواباً وخير } من ذلك كله { أملاً * } أي من جهة ما يرجو فيها من الثواب ويرجو فيها من الأمل ، لأن ثوابها إلى بقاء ، وأملها كل ساعة في تحقيق وعلو وارتقاء ، وأمل المال والبنين يختان أحوج ما يكون إليهما .
ولما ذكر المبدأ ونبه على زواله ، وختم بأن المقصود منه الاختبار للرفعة بالثواب أو الضعة بالعقاب ، وكان الخزي والصغار ، أعظم شيء ترهبه النفوس الكبار ، لا سيما إذا عظم الجمع واشتد الأمر ، فكيف إذا انضم إليه الفقر فيكف إذا صاحبهما الحبس وكان يوم الحشر يوماً يجمع فيه الخلائق ، فهو بالحقيقة المشهود ، وتظهر فيه العظمة فهو وحده المرهوب ، عقب ذكر الجزاء ذكره ، لأنه أعظم يوم يظهر فيه ، فقال تعالى عاطفاً على { واضرب } : { ويوم } أي واذكر لهم يوم { نسير الجبال } عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما يسير نبات الأرض - بعد أن صار هشمياً - بالرياح { فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } [ النحل : 88 ] { وترى الأرض } بكمالها { بارزة } لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل { و } الحال أنا قد { حشرناهم } أي الخلائق بعظمتنا قبل التسيير بتلك الصيحة ، قهراً إلى الموقف الذي ينكشف فيه المخبآت ، وتظهر الفضائح والمغيبات ، ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير ، والنافذ فيه بصير ، فينظرون ويسمعون زلازل الجبال عند زوالها ، وقعاقع الأبنية والأشجار في هدها وتباين أوصالها ، وفنائها بعد عظيم مرآها واضمحلالها { فلم نغادر } أي نترك بما لنا من العظمة { منهم } أي الأولين والآخرين { أحداً * } لأنه لا ذهول ولا عجز .

وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)

ولما ذكر سبحانه حشرهم ، وكان من المعلوم أنه للعرض ، ذكر كيفية ذلك العرض ، فقال بانياً الفعل للمفعول عل طريقة كلام القادرين ، ولأن المخوف العرض لا كونه من معين : { وعرضوا على ربك } أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك { صفاً } لاتساع والمسايقة إلى داره ، لعرض أذل شيء وأصغره ، وأطوعه وأحقره ، يقال لهم تنبيهاً على مقام العظمة : { لقد جئتمونا } أحياء سويين حفاة عراة غرلاً { كما خلقناكم } بتلك العظمة { أول مرة } منعزلين من كل شيء كنتم تجمعونه وتفاخرون به منقادين مذعنين فتقولون { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } [ يس : 52 ] فيقال لكم : { بل زعمتم } أي ادعيتم جهلاً بعظمتنا { أن } أي أنا { لن نجعل لكم } على ما لنا من العظمة { موعداً * } أي مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز ما وعدناكم به على ألسنة الرسل { ووضع } بأيسر أمر بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة { الكتاب } المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيِّن لا يخفى على قارىء ولا غيره شيء منه { فترى المجرمين } لتقر عينك منهم بشماتة لا خير بعدها { مشفقين مما فيه } من قبائح أعمالهم ، وسيىء أفعالهم وأقوالهم أي خائفين دائماً خوفاً عظيماً من عقاب الحق والفضيحة عند الخلق { ويقولون } أي يجددون ويكررون قولهم : { ياويلتنا } كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك { مال هذا الكتاب } أي أي شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا ، ورسم لام الجر وحده إشارة إلى أنهم صاروا من قوة الرعب وشدة الكرب يقفون على بعض الكتب ، وفسروا حال الكتاب التي أفظعتهم وسألوا عنها بقولهم : { لا يغادر } أي يترك أي يقع منه غدر ، أي عدم الوفاء وهو من غادر الشيء : تركه كأن كلاًّ منهما يريد غدر الآخر ، أي عدم الوفاء به ، من الغدير - لقطعة من الماء يتركها السيل كأنه لم يوف لهما بأخذ ما معه ، وكذا الغديرة لناقة تركها الراعي { صغيرة } أي من أعمالنا .
ولما هالهم إثبات جميع الصغائر ، بدؤوا بها ، وصرحوا بالكبائر - وإن كان إثبات الصغائر يفهمها - تأكيداً لأن المقام للتهويل وتعظيم التفجع ، وإشارة إلى أن الذي جرهم إليها هو الصغائر - كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه - فقالوا : { ولا كبيرة إلا أحصاها } ولما كان الإحصاء قد لا يستلزم اطلاع صاحب الكتاب وجزاءه عليه ، نفى ذلك بقوله تعالى : { ووجدوا ما عملوا حاضراً } كتابة وجزاء من غير أن يظلمهم سبحانه أو يظلم من عادوهم فيه { ولا يظلم ربك } الذي رباك بخلق القرآن { أحداً * } منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب ، بل يجازى الأعداء بما يستحقون ، تعذيباً لهم وتنعيماً لأوليائه الذين عادوهم فيه للعدل بينهم؛ روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه مسيرة شهر فاستأذن عليه قال : فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته ، قلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه ، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول :

« يحشر الله عز وجل الناس - أو قال : العباد - حفاة عراة بهما قلت : وما بهما؟ قال : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة ، قال : قلنا : كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة بهما؟ قال : بالحسنات والسيئات » .
ولما ذكر البعث وختمه بإحسانه بالعدل المثمر لإعطاء كل أحد ما يستحقه ، أتبعه - بما له من الفضل - بابتداء الخلق الذي هو دليله ، في سياق مذكر بولايته الموجبة للإقبال عليه ، وعداوة الشيطان الموجبة للإدبار عنه ، مبين لما قابلوا به عدله فيهم وفي عدوهم من الظلم بفعلهم كما فعل من التكبر على آدم عليه السلام بأصله ، فتكبروا على فقراء المؤمنين بأصلهم وأموالهم وعشائرهم ، فكان فعلهم فعله سواء ، فكان قدوتهم وهو عدوهم ، ولم يقتدوا بخير خلقه وهو وليهم وهو أعرف الناس به ، فقال تعالى عاطفاً على { واضرب } : { وإذ } أي واذكر لهم إذ { قلنا } بما لنا من العظمة { للملائكة } الذين هم أطوع شيء لأوامرنا وإبليس فيهم ، قال ابن كثير : وذلك أنه كان قد ترسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك ، ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة { اسجدوا لآدم } أبيهم نعمة منا عليه يجب عليهم شكرنا فيها { فسجدوا } كلهم { إلا إبليس } فكأنه قيل : ما له لم يسجد؟ فقيل : { كان } أي لأنه كان { من الجن } المخلوقين من نار ، ولعل النار لما كانت نيرة وإن كانت نورانيتها مشوبة بكدورة وإحراق ، عد من الملائكة لاجتماع العنصرين في مطلق النور ، مع ما كان غلب عليه من العبادة ، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان - وفي رواية : إبليس - من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » وفي مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجن كانت قبيلة من الملائكة .

ولما كان أكثر الجن مفسداً ، رجوعاً إلى الأصل الذي هو النار المحرقة لما لاصقها ، المفسدة له ، سبب فسقه عن كونه منهم فقال تعالى : { ففسق } أي خرج ، يقال : فسقت الفأرة من حجرها - إذا خرجت للعيث والفساد . { عن أمر ربه } أي سيده ومالكه المحسن إليه بإبداعه ، وغير ذلك من اصطناعه ، في شأن أبيكم ، إذ تكبر عليه فطرده ربه من أجلكم ، فلا تستنوا به في الافتخار والتكبر على الضعفاء ، فإن من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجواً ، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجواً ، ثم سبب عن هذا ما هو جدير بالإنكار فقال تعالى في أسلوب الخطاب لأنه أدل على تناهي الغضب وأوجع في التبكيت ، والتكلم لأنه أنص على المقصود من التوحيد : { أفتتخذونه } أي أيفسق باستحقاركم فيطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه { وذريته } شركاء لي { أولياء } لكم { من دوني } أي اتخاذاً مبتدئاً من غيري أو من أدنى رتبة من رتبتي ، ليعم الاتخاذ استقلالاً وشركة ، ولو كان المعنى : من دون - أي غير - اتخاذي ، لأفاد الاستقلال فقط ، ولو كان الاتخاذ مبتدئاً منه بأن كان هو الآمر به لم يكن ممنوعاً ، وأنا وليكم المفضل عليكم { وهم لكم } ولما كان بناء فعول للمبالغة ولا سيما وهو شبيه بالمغالاة في نحو القول ، أغنى عن صيغة الجمع فقال : { عدو } إشارة إلى أنهم في شدة العداوة على قلب واحد . ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم ، وصل به قوله تعالى : { بئس } وكان الأصل : لكم ، ولكنه أبرز هذا الضمير لتعليق الفعل بالوصف والتعميم فقال تعالى : { للظالمين بدلاً * } إذا استبدلوا من ليس لهم شيء من الأمر وهم لهم عدو بمن له الأمر كله وهو لهم ولي .

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)

ولما كان الشريك لا يستأثر بفعل أمر عظيم في المشترك فيه من غير علم لشريكه به ، قال معللاً للذم على هذا الظلم بما يدل عل حقارتهم عن هذه الرتبة ، عادلاً في أسلوب التكلم إلى التجريد عن مظهر العظمة لئلا يتعنت من أهل الإشراك متعنت كما عدل في { دوني } لذلك : { ما أشهدتهم } أي إبليس وذريته { خلق السماوات والأرض } نوعاً من أنواع الإشهاد { ولا خلق أنفسهم } إشارة إلى أنهم مخلوقون وأنه لا يصح في عقل عاقل أن يكون مخلوق شريكاً لخالقه أصلاً { وما كنت } أي أزلاً وأبداً متخذهم ، هكذا الأصل ولكنه أبرز إرشاداً إلى أن المضل لا يستعان به ، لأنه مع عدم نفعه يضر ، فقال تعالى : { متخذ المضلين عضداً * } إشارة إلى أنه لا يؤسف على فوات إسلام أحد ، فإن من علم الله فيه خيراً أسمعه ، ومن لم يسمعه فهو مضل ليس أهلاً لنصرة الدين .
ولما أقام البرهان القاطع على بعد رتبتهم عن المنزلة التي أحلوهم بها من الشرك ، أتبعه التعريف بأنهم مع عدم نفعهم لهم في الدنيا يتخلون عنهم في الآخرة أحوج ما يكونون إليهم تخييباً لظنهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، فقال تعالى عاطفاً على { إذ قلنا } عادلاً إلى مقام الغيبة ، إشارة إلى بعدهم عن حضرته الشماء وتعاليه عما قد يتوهم من قوله تعالى { وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا } [ الكهف : 48 ] في حجب الجلال والكبرياء ، وجرى حمزة في قراءته بالنون على أسلوب التكلم الذي كان فيه مع زيادة العظمة : { ويوم } أي واذكر يوم { يقول } الله لهم تهكماً بهم : { نادوا شركاءي } وبين أن الإضافة ليست على حقيقتها ، بل هي توبيخ لهم فقال تعالى : { الذين زعمتم } أنهم شركاء { فدعوهم } تمادياً في الجهل والضلال { فلم يستجيبوا لهم } أي لم يطلبوا ويريدوا أن يجيبوهم إعراضاً عنهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم .
ولما كانوا في غاية الاستبعاد لأن يحال بينهم وبين معبوداتهم ، قال في مظهر العظمة : { وجعلنا بينهم } أي المشركين والشركاء { موبقاً * } أي هلاكاً أو موضع هلاك ، فاصلاً حائلاً بينهم ، مهلكاً قوياً ثابتاً حفيظاً ، لا يشذ عنه منهم أحد ، وإنما فسرته بذلك لأنه مثل قوله تعالى { فزيلنا بينهم } [ يونس : 28 ] أي بالقلوب أي جعلنا ما كان بينهم من الوصلة عداوة ، ومثل قوله تعالى { ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار } [ الأعراف : 38 ] { هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك } [ النحل : 86 ] ونحوه ، لأن معنى ذلك كله أنه يبدل ما كان بينهم من الود في الدنيا والوصلة ببغض وقطيعة كما قال تعالى { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً } [ العنكبوت : 25 ] وأن كل فريق يطلب للآخر الهلاك ، فاقتضى ذلك اجتماع الكل فيه ، هذا ما يرشد إلى المعنى من آيات الكتاب ، ونقل ابن كثير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال : هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، وقال الحسن البصري : عداوة .

وأما أخذه من اللفظ فلأن مادة وبق - يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة ، ولها أحد عشر تركيباً : واحد يائي : بقي ، وستة واوية : قبو ، قوب ، بقو ، بوق ، وقب ، وبق ، وأربعة مهموزة : قبأ ، قأب ، بأق ، أبق - كلها تدور على الجمع ، وخصوصاً ترتيب وبق يدور على الحائل بين شيئين ، ويلزمه القوة والثبات والحفظ والهلاك قوة أو فعلاً ، لأن من حيل بينه وبين شيء فقد هلك بفقد ذلك الشيء بالفعل إن كان الحائل موتاً ، وبالقوة إن كان غيره ، يقال : قبل الشيء : جمعه بأصابعه ، والبناء : رفعه ، والزعفران : جناه ، والقبا - بالقصر : نبت - لأنه سبب الاجتماع لرعيه والانتفاع به وهو يجمع أيضاً ، والقبا : تقويس الشيء - لأنه أقرب إلى اجتماع بعض أجزائه ببعض ، والقبوة : انضمام ما بين الشفتين ، ومنه القباء من الثياب ، وقباه تقبية : عباه ، أي جمعه حتى صار كأنه في مكان مقبو ، وقبى عليه تقبية : عدا عليه في أمره - لأنه كان كأنه أوقعه في حفرة ، والثوب : جعل منه قباء ، وتقبى القباء : لبسه ، وزيداً : أتاه من قفاه - لأن من يريد رمي أحد في حفرة كذلك يأتيه مخاتلة ، وتقبى الشيء : صار كالقبة ، وامرأة قابية : تلقط العصفر وتجمعه ، والقابياء : اللئيم - لأنه بناء مبالغة ، فيدل على كثرة الجمع والحرص اللازمين للؤم ، وبنو قابياء : المجتمعون لشرب الخمر - لأنها حالة تظهر لؤم اللئام ، وقباء - بالضم ويذكر ويقصر - موضع قرب المدينة الشريفة ، وموضع بين مكة والبصرة ، وانقبى : استخفى ، وقبى قوسين وقباء قوسين - ككساء : قاب قوسين ، والمقبي : الكثير الشحم - كأنه جمع لنفسه منه بالراحة ما صار كالبناء ، والقباية : المفازة - لأنها تجمع ما فيها كما تجمع القبة والقباء والوقبة ما فيها . ومن مهموزة : قبأ الطعام - كجمع : أكله ، ومن الشراب : امتلأ ، والقباءة : حشيشة ترعى - لأن المال يجتمع على رعيها .
ومن الواوي : قاب الأرض يقوبها وقوّبها : حفر فيها شبه التقوير - لأن الدائرة أجمع ما يكون لغيرها وفي نفسها ، لأنه لا زوايا فيها فاصلة ، وقوبت الأرض : آثرت فيها ، والقوبة : ما يظهر في الجسد ويخرج عليه - لأنه يكون غالباً على هيئة الدائرة ، وتقوب جلده : تقلع عنه الجرب ، وانحلق عنه الشعر - إما من الإزالة ، وإما لأن آثاره تكون كالدوائر ، وقوب الشيء : قلعه من أصله - لأن أثره إذا انقلع يكون حفراً مستديراً ، وتقوب هو : تقلع ، والقائبة والقابة : البيضة - لأنها لتدويرها تشبه ذلك الحفر ، والقوب - بالفتح : فلق الطير بيضه ، وبالضم : الفرخ - لأنه منها ، وفي المثل : تخلصت قائبة من قوب - يضرب لمن انفصل من صاحبه ، والقوبيّ : المولع بأكل الأقواب أي الفراخ ، والقوب - كصرد : قشور البيض ، وتقوبت البيضه : انقابت أي انحفرت ، وأم قوب : الداهية - لجمعها ما تأتي عليه كأنه ابتلعه حفر ، وقاب : قرب - لأن القرب مبدأ الجمع ، وقاب : هرب ، أي سلب القرب - ضد ، وقاب : فلق ، أي شق الجمع فهو من الإزالة أيضاً ، وقاب قوس وقيبه ، أي قدره - لأن القوس شبه نصف دائرة من ذلك الحفر ، والقاب : ما بين المقبض والسية - لأنه بعض ذلك ، ولكل قوس قابان ، والأسود المتقوب : الذي انسلخ جلده من الحيات - لتدوّر ذلك الجلد وشبهه بالحفرة ، واقتاب الشيء : اختاره ، أي جمعه إليه ، ورجل مليء قوبة - كهمزة : ثابت الدار مقيم - من الثبات الذي هو لازم الجمع ، وقوب من الغبار : اغبر - إما لأن من يحفر ذلك بغير ، وإما لأن الغبار كثر عليه حتى غطاه فصار له مثل تلك الحفرة .

ومن مهموزه : قأب الطعام - كمنع : أكله ، والماء : شربه كقئبه - كفرح ، أو شرب كل ما في الإناء ، وقئب من الشراب : تملأ ، وهو مقأب - كمنبر : كثير الشرب للماء ، وإناء قَوأب : كثير الأخذ للماء - فهو كما ترى جمع مخصوص بالأكل والشرب ، أو أنه جمعه في وقبة بطنه .
ومن الواوي : بقاه بعينه : نظر إليه - فهو من الحفظ اللازم للجمع ، وابقُه بَقْوَتَك مالَك ، وبقاوتك مالك أي احفظه حفظك مالك ، وبقوته : انتظرته - وهو يرجع إلى الثبات والمراقبة التي ترجع إلى الحفظ ، ويلزم الحفظ الثبات . ومن اليائي : بقي الشيء بقاء : ثبت ودام ضد فني ، والاسم البقوى - كدعوى ، ويضم ، والبقيا - بالضم والبقية ، وقد توضع الباقية موضع المصدر .
ومن واويّه : البوقة : الجمع والدفعة من المطر الشديد أو المنكرة تنباق - أنها نزلت من وقبة لشدتها ، والبوائق : العوائد - لأنها جامعة لمن اعتادها ، والبوائق : الشر - لأنه مهلك ، فكأنه موقع في المهالك ، والبوق - بالضم : شبه منقاب ينفخ فيه الطحان ، أو الذي ينفخ فيه مطلقاً ويرمز - لأنه لتجويفه يشبه الوقبة ، والبوق أيضاً : الباطل والزور - لأن صوته أشبع شيء بذلك ، والمبوق - كمعظم : الكلام الباطل ، والبوق - بالفتح : من لا يكتم السر - لأن البوق متى نفخ فيه صوّت ، والبوقة : شجرة دقيقة - لأنها لدقتها يسرع إليها الهلاك كمن وقع فيه وقبة ، والبائقة : الداهية - كأنها تدفع من أتته في الوقبة ، وانباقت عليه بائقة : انفتقت ، وباق : جاء بالشر والخصومات - من ذلك ، وكذا باق ، أي تعدى على إنسان ، وانباق به : ظلمه ، والبائقةُ القومَ : أصابتهم ، كانباقت عليهم ، أي خرجت لشدتها من وقبة ، والباقة : الحزمة من بقل - لاجتماعها ، وباق بك : طلع عليك من غيبة - كأنه كان في حفرة فخرج ، ومنه باق فلان : هجم على قوم بغير إذنهم ، وباق القوم : سرقهم ، وباق به : حاق به ، أي - أحاط كما تحيط الوقبة ، وباق القوم عليه : اجتمعوا فقتلوه ظلماً ، وباق المال : فسد وبار - كحال من وقع في حفرة ، ومنه متاع بائق : لا ثمن له ، وتبوّق في الماشية : وقع فيها الموت وفشا ، والحاق باق : صوت الفرج عند الجماع - لأنه من الجمع ، ولأن الفرج وقبة ، ومن مهموزه : بأقتهم الداهية بؤوقاً : أصابتهم ، وانبأق عليهم الدهر : هجم عليهم بالداهية .

ومن الواوي ، الوقبة : كوة عظيمة فيها ظل ، والوقب والوقبة : نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء ، وقيل : هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماء ، وكل نقر في الجسد وقب كنقر العين والكتف ، والوقبان من الفرس : هزمتان فوق عينيه ، ووقب المحالة : الثقب الذي يدخل فيه المحور ، ووقبة الدهن : أنقوعته ، وكذا وقبة الثريد ، ووقب الشيء : دخل في الوقب ، وأوقب الشيء : أدخله فيه ، وركية وقباء : غامرة الماء ، وامرأة ميقاب : واسعة الفرج وبنو الميقاب نسبوا إلى أمهم ، يريدون سبهم بذلك ، والميقاب : الرجل الكثير الشرب للماء ، والحمقاء أوالمحمقة ، وسير الميقاب : أن تواصل سير يوم وليلة - كأن ذلك سير الأحمق الذي لا يبقى على ظهره ، ووقب القمر وقوباً : دخل في الظل الذي يكسفه - كأنه حفرة ابتلعته ، ووقبت الشمس وقوباً : غابت كذلك ، وقيل : كل ما غاب فقد وقب ، ووقب الظلام ، أقبل . أي فصار كالوقبة ، فابتلع الضياء أو ابتلع ما في الكون فحجبه عن الضياء ، ورجل وقب : أحمق - كأنه وعاء لكل ما يسمع ، لا أهلية له في تمييز جيده من رديئه ، والأنثى : وقبة ، وقال ثعلب : الوقب : الدنيء ، أي لأنه يتبع نفسه هواها فيصير كأنه الوقبة لا ترد شيئاً مما يلقي فيها ، ووقب الفرس وقباً وهو صوت قنبه ، أي وعاء قضيبه ، وقيل : صوت تقلقل جردان الفرس في قنبه - لأن وعاء جردانه كالوقبة ، فهو من اطلاق اسم المحل على ما فيه ، والقبة - كعدة : الإنفحة إذا عظمت من الشاة ، قال ابن الأعرابي : ولا يكون ذلك في غير الشاء - لأن شبه الإنفحة بالوقبة ظاهر ، والوقباء : موضع يمد ويقصر ، والوقبى : ماء لبني مازن - لأنه يجمعهم كما تجمع الوقبة ما فيها ، والأوقاب : قماش البيت كالبرمة والرحيين والعمد - لأن البيت لها كالوقبة لجمعها أو لأنها جامعة لشمل من فيه ، والميقب : الودعة ، وأوقب القوم : جاعوا ، أي تهيؤوا لإدخال الطعام في وقبة الجوف ، وذكر أوقب : ولاّج في الهنات - لأنها كالأوقاب أي الحفر ، والوقب : الإقبال والمجيء ، وهو سبب الجمع .
ووبق - كوعد ووجل وورث وبوقاً وموبقاً : هلك ، أي وقع فيه وقبة ، أي حفرة كاستوبق ، وكمجلس : المهلك والمحبس ، وواد في جهنم ، وكل شيء حال بين شيئين - لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره .

ومنه قيل للموعد : موبق ، وأوبقه : حبسه أو أهلكه .
ومن مهموزه : أبق العبد - كسمع وضرب ومنع - أبقاً ويحرك - وإباقاً - ككتاب : ذهب بلا خوف ولا كد عمل ، أو استخفى ثم ذهب - وكل ذلك يوجع إلى جعله كأنه نزل في وقبة ، ومن شأنه حينئذ أن يخفى ، ومنه تأبق : استتر أو احتبس ، وتأبق الشيء : أنكره - لأن سبب الإنكار الخفاء ، وتأبق : تأثم ، أي جانب الإثم ، فهو لسلب الجمع أو لسلب الهلاك في الوقبة ، والأبق - محركة : القنب - لشبهه لتجويفه بالوقبة ، والأبق : قشره - لقوته اللازمة للجمع أو لأنه خيوط مجتمعة .

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)

ولما قرر سبحانه ما لهم مع شركائهم ، ذكر حالهم في استمرار جهلهم ، فقال تعالى : { ورءا المجرمون } أي العريقون في الإجرام { النار } أي ورأوا ، ولكنه أظهر للدلالة على تعليق الحكم بالوصف { فظنوا } ظناً { أنهم مواقعوها ولم } أي والحال أنهم لم { يجدوا عنها مصرفاً * } أي مكاناً ينصرفون إليه ، فالموضع موضع التحقق ، ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا { اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] بغير علم { وما أظن أن تبيد هذه أبداً } [ الكهف : 35 ] ، { وما أظن الساعة قائمة } [ الكهف : 36 ] ، { إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين } [ الجاثية : 32 ] مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها .
ولما كان الكلام في قوة أن يقال : صرفنا هذه الأخبار بما أشارت إليه من الأسرار الكبار ، فقامت دلائل الشريعة الجلائل ، وأضاءت بها جواهر المعاني الزواهر ، عطف على ذلك : { ولقد صرفنا } أي بما لنا من العظمة . ولما كانت هذه السورة في وصف الكتاب ، اقتضى الاهتمام به تقديمه في قوله تعالى : { في هذا القرءان } أي القيم الذي لا عوج فيه ، مع جمعه للمعاني ونشره الفارق بين الملبسات { للناس } أي المزلزلين فضلاً عن الثابتين { من كل مثل } أي حوّلنا الكلام وطرقناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة ، والأساليب المتناسقة ، ما سار بها في غرابته كالمثل ، يقبله كل من يسمعه ، وتضرب به آباط الإبل في سائر البلاد ، بين العباد ، فتبشر به قلوبهم ، وتلهج به ألسنتهم ، فلم يتقبلوه وجادلوا فيه؛ ثم نبه على الوصف المقتضي لذلك بقوله تعالى : { وكان الإنسان } الذي جعل خصيماً وهو آنس بنفسه جبلة وطبعاً { أكثر شيء } وميز الأكثرية بقوله تعالى : { جدلاً * } لأنه لم ينته عن الجدل بعد هذا البيان ، الذي أضاء جميع الأكوان .
ولما بين إعراضهم ، بين موجبه عندهم فقال : { وما منع } ولما كان الناس تبعاً لقريش قال : { الناس } أي الذين جادلوا بالباطل ، الإيمان - هكذا كان الأصل ، ولكنه عبرعن هذا المفعول الثاني بقوله تعالى : { أن يؤمنوا } ليفيد التجديد وذمهم على الترك { إذ } أي حين { جاءهم الهدى } بالكتاب على لسان الرسول ، وعطف على المفعول الثاني - معبراً بمثل ما مضى لما مضى - قولَه تعالى : { ويستغفروا ربهم } أي المحسن إليهم .
ولما كان الاستثناء مفرغاً ، أتى بالفاعل فقال تعالى : { إلا أن } أي طلب أن { تأتيهم سنة الأولين } في إجابتهم إلى ما اقترحوه على رسلهم ، المقتضي للاستئصال لمن استمر على الضلال ، ومن ذلك طلبهم أن يكون النبي ملكاً ، وذلك نقمة في صورة نعمة وإتيان بالعذاب دبراً ، أي مستوراً { أو } طلب أن { يأتيهم العذاب قبلاً * } أي مواجهة ومعاينة ومشاهدة من غير ستر له ، هو في قراءة من كسر القاف وفتح الباء واضح ، من قولهم : لقيت فلاناً قبلاً ، أي معاينة ، وكذا في قراءة من ضمهما ، من قولهم : أنا آتيك قبلاً لا دبراً ، أي مواجهة من جهة وجهك لا من جهة قفاك ، قال تعالى :

{ إن كان قميصه قدَّ من قبل } [ يوسف : 26 ] ، ويصح أن يراد بهذه القراءة الجماعة ، لأن المراد بالعذاب الجنس أي يأتيهم أصنافاً مصنفة صنفاً ونوعاً نوعاً ، وقد مضى في الأنعام بيانه ، وهذا الشق قسيم الإتيان بسنة الأولين ، فمعناه : من غير أن يجابوا إلى ما اقترحوا كما تقدم في التي قبلها { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك } [ الإسراء : 89-90 ] - إلى قوله تعالى : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } [ الإسراء : 92 ] الآية وهذه الآية من الاحتباك : ذكر { سنة الأولين } أولاً يدل على ضدها ثانياً ، وذكر المكاشفة ثانياً يدل على المساترة أولاً .
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول ، إنما هو إلى الإله ، بينه بقوله تعالى : { وما نرسل } على ما لنا من العظمة التي لا أمر لأحد معنا فيها { المرسلين إلا مبشرين } بالخير على أفعال الطاعة { ومنذرين } بالشر على أفعال المعصية ، فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم من فصل الأمر { ويجادل الذين كفروا } أي يجددون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا { بالباطل } من قولهم : لو كنتم صادقين لأتيتم بما نطلب منكم ، مع أن ذلك ليس كذلك لأنه ليس لأحد غير الله من الأمر شيء { ليدحضوا } أي ليزلقوا فيزيلوا ويبطلوا { به الحق } الثابت من المعجزات المثبتة لصدقهم .
ولما كان لكل مقام مقال ، ولكل مقال حد وحال ، فأتى في الجدال بصيغة الاستقبال ، وكان اتخاذ الاستهزاء أمراً واحداً ، أتى به ماضياً فقال تعالى : { واتخذوا } أي كلفوا أنفسهم أن أخذوا { ءاياتي } بالبشارات التي هي المقصودة بالذات لكل ذي روح { وما أنذروا } من آياتي ، بني للمفعول لأن الفاعل معروف والمخيف الإنذار { هزواً * } مع بعدهما جداً عن ذلك ، فلا بالرغبة أطاعوا ، ولا للرهبة ارتاعوا ، فكانوا شراً من البهائم .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)

ولما حكي عنهم هذا الجدال ، والاستهزاء والضلال ، وصفهم بما يموجب الخزي فقال - عاطفاً على ما تقديره : فكانوا بذلك أظلم الظالمين : { ومن أظلم } منهم - استفهاماً على سبيل التقرير ، ولكنه أظهر للتنبيه على الوصف الموجب للإنكار على من شك في أنهم أظلم . فقال تعالى : { ممن ذكر } أي من أيّ مذكر كان { بأيات } أي علامات { ربه } المحسن إليه بها؛ قال الأصبهاني : وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الرجل على ما لا جواب فيه إلا الذي يريد خصمه .
ولما كان التذكير سبباً للإقبال فعكسوا فيه قال تعالى : { فأعرض عنها } تاركاً لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجبه ذلك الإحسان من الشكر { ونسي ما قدمت يداه } من الفساد الذي هو عارف - لو صرف عقله إلى الفكر فيما ينفعه - أن الحكمة تقتضي جزاءه عليه ، وأفرد الضمير في جميع هذا على لفظ { من } إشارة إلى أن من فعل مثل هذا - ولو أنه واحد - كان هكذا ، والأحسن أن يقال : إنهم لما كانوا قد سألوا اليهود عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما أشير إليه عند { ويسألونك عن الروح } [ الإسراء : 85 ] فأمروهم بسؤاله عما جعلوه أمارة على صدقه ، فلم يؤثر ذلك فيهم ، واستمروا بعد إخباره بالحق على التكذيب ، شرح حالهم بالتعقيب بالفاء ، فكان المعنى : من أظلم منهم ، لأنهم ذكروا فأعرضوا ونسوا ما اعتقدوا أنه دليل الصدق ، وأنه لا جدال بعده ، وسيأتي لموقع الفاء في آخر السجدة مزيد بيان ، وإسناد الفعل في الإعراض وما بعده إليهم حقيقة مما لهم من الكسب كما أن إسناد الجعل وما بعده إلى الله حقيقة بما له من الخلق .
ولما كان كأنه قيل : ما لهم فعلوا ذلك؟ أيجهل قبح هذا أحد؟ قيل : { إنا جعلنا } بما لنا من القدرة على إعماء البصائر والأبصار { على قلوبهم } فجمع رجوعاً إلى أسلوب { واتخذوا ءاياتي } لأنه أنص على ذم كل واحد { أكنة } أي أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الحيز يصل إليها ، فهي لا تعي شيئاً من آياتنا ، ودل بتذكير الضمير على أن المراد بالآيات القرآن فقال تعالى : { أن } أي كراهة أن { يفقهوه } أي يفهموه { وفي ءاذانهم وقراً } أي ثقلاً فهم لا يسمعون حق السمع ، ولا يعون حق الوعي { وإن تدعهم } أي تكرر دعاءهم كل وقت { إلى الهدى } لتنجيهم بما عندك من الحرص على ذلك والجد { فلن يهتدوا } أي كلهم بسبب دعائك { إذاً } أي إذا دعوتهم { أبداً * } لأن من له العظمة التامة - وهو الذي إذا عبر عن نفسه بنونها كانت على حقيقتها - حكم عليها بالضلال ، أي أنه لا يكون الدعاء وحده هادياً لأكثرهم ، بل لا بد معه من السيف كما سنأمرك به فتقطع الرؤوس فيذل غيرهم ، وقد يكون المراد أن من كان هكذا معانداً على هذا الوجه مؤبد الشقاء ، وقد نفى آخر هذه الآية الفعل عن العباد وأثبته لهم أولها ، وقلما نجد في القرآن آية تسند الفعل إليهم إلا قارنتها أخرى تثبته لله وتنفيه عنهم ، ابتلاء من الله لعباده ليتميز الراسخ - الذي ينسب للمكلفين الكسب المفيد لأثر التكليف ، ولله الخلق المفيد لأنه سبحانه لا شريك له في خلق ولا غيره - من الطائش الذي يقول بالجبر أو التفويض .

ولما كان هذا مقتضياً لأخذهم ، عطف على ما اقتضاه السياق مما ذكرته من العلة قولَه تعالى : { وربك } مشيراً بهذا الاسم إلى ما اقتضاه الوصف من الإحسان بأخذ من يأخذ منهم وإمهال غيره لحكم دبرها؛ ثم أخبر عنه بما ناسب ذلك من أوصافه فقال : { الغفور } أي هو وحده الذي يستر الذنوب إما بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت { ذو الرحمة } أي الذي يعامل - وهو قادر - مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام؛ ثم استشهد على ذلك بقوله تعالى : { لو يؤاخذهم } أي هؤلاء الذين عادوك وآذوك ، وهو عالم بأنهم لا يؤمنون لو يعاملهم معاملة المؤاخذ { بما كسبوا } حين كسبهم { لعجل لهم العذاب } واحداً بعد واحد ، ولكنه لا يعجل لهم ذلك { بل لهم موعد } يحله بهم فيه ، ودل على أن موعده ليس كموعد غيره من العاجزين بقوله دالاً على كمال قدرته : { لن يجدوا من دونه } أي الموعد { موئلاً * } أي ملجأ ينجيهم منه ، فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأول ظلمهم وآخره .

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)

ولما كانت هذه سنته في القرون الماضية والأمم الخالية ، قال تعالى عاطفاً على قوله « لهم موعد » مروعاً لهم بالإشارة إلى ديارهم المصورة لدمارهم : { وتلك القرى } أي الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم { أهلكناهم } أي حكمنا بإهلاكهم بما لنا من العظمة { لما ظلموا } أي أول ما ظلموا ، أو أهلكناهم بالفعل حين ظلمهم لكن لا في أوله ، بل أمهلناهم إلى حين تناهيه وبلوغه الغاية ، فليحذر هؤلاء مثل ذلك { وجعلنا } أي بما لنا من العظمة { لمهلكهم } أي إهلاكهم بالفعل { موعداً * } أي وقتاً نحله بهم فيه ومكاناً لم نخلفه ، كما أنا جعلنا لهؤلاء موعداً في الدنيا بيوم بدر والفتح وحنين ونحو ذلك ، وفي الآخرة لن نخلفه ، وكذا كل أمر يقوله نبي من الأنبياء عنا لا يقع فيه خلف وإن كان يجوز لنا ذلك ، بخلاف ما يقوله من نفسه غير مسند إلينا فإنه يمكن وقوع الخلف فيه ، كما وقع في الوعد بالإخبار عن هذه المسائل التخلف أربعين ليلة أو ما دونها على حسب فهمهم أن { غدا } على حقيقته .
ولما قدم الكلام على البعث ، واستدل عليه بابتداء الخلق ، ثم ذكر بعض أحواله ، ثم عقبه بما ضرب لذلك وغيره من الأمثال ، وصرف من وجوه الاستدلال ، وختم ذلك بأنه يمهل عند المساءة ، عقب ذلك بأنه كذلك يفعل عند المسرة ، فلكل شيء عنده كتاب ، وكل قضاء بقدر وحساب ، فذكر قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وما اتفق له في طلبه ، وجعله سبحانه له الحوت آية وموعداً للقائه ، ولو أراد سبحانه لقرب المدى ولم يحوج إلى عناء ، مع ما فيها من الخارق الدال على البعث ، ومن الدليل على أن من ثبت فضله وعلمه لا يجوز أن يعترض عليه إلا من كان على ثقة مما يقوله من ربه ولا أن يمتحن ، ومن الإرشاد إلى ذم الجدل بغير علم ، ووجوب الانقياد للحق عند بيانه ، وظهور برهانه ، ومن إرشاد من استنكف أن يجالس فقراء المؤمنين بما اتفق لموسى عليه السلام من أنه - وهو كليم الله - أتبع الخضر عليه السلام ليقتبس من علمه ، ومن تبكيت اليهود بقولهم لقريش لما أمروهم بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم « إن لم يخبركم فليس بنبي » الموهم للعرب الذين لا يعلمون شيئاً أن من شرط النبي أن لا يخفى عليه شيء ، مع ما يعلمون من أن موسى عليه السلام خفي عليه جميع ما فعله الخضر عليه السلام ، وإلى نحو هذا أشار الخضر عليه السلام بقوله إذ وقع العصفور على حرف السفينة ونقر من البحر نقرة أو نقرتين « ما نقص علمي وعلمك يا موسى من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر »

وبإعلامهم بما يعلمونه من أن موسى عليه السلام جعل نفسه تابعاً للخضر عليه السلام ، تكذيباً لهم في ادعائهم أنه ليس أحد أعلى من موسى عليه السلام في وصف من الأوصاف ، وأنه لا ينبغي لأحد اتباع غيره ، ومن جوابهم عما لعلهم يقولون للعرب بهتاً وحسداً « لو كان نبياً ما قال : أخبركم غداً ، وتأخر عن ذلك » بما اتفق لموسى في وعده الخضر عليهما السلام بالصبر ، وبما خفي عليه مما اطلع عليه الخضر عليهما السلام ، فقال تعالى عاطفاً على قوله سبحانه { وإذ قلنا للملائكة } : { وإذ } أي واذكر لهم حين { قال موسى } أي ابن عمران المرسل إلى بني إسرائيل ، أي قوله الذي كان في ذلك الحين { لفتاه } يوشع بن نون عليهما السلام : { لا أبرح } أي لا أزال سائراً في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله - كما دل عليه ما يأتي { حتى أبلغ مجمع البحرين } أي ملتقاهما وموضع اختلاطهما الذي سبق إليه فهمي ، فتعينت البداءة به فألقاه ثَمّ { أو أمضي حقباً * } إن لم أظفر بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعداً لي في لقائه؛ والحقب - قال في القاموس - ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة أو السنون - انتهى . وما أنسب التوقيت بمجمع بحري الماء بمجمع بحري العلم وتزودهما بالنون الذي قرنه الله بالقلم وما يسطرون ، وعين الحياة لأن العلم حياة القلوب ، فسارا وتزودا حوتاً مشوياً في مكتل كما أمر به ، فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع { فلما بلغا مجمع بينهما } أي البحرين ، فلم يكن هناك بين أصلاً لصيرورتهما شيئاً واحداً { نسيا حوتهما } فلم يعلم موسى عليه السلام شيئاً من حاله ونسي أن يسأل عنه ، وعلم يوشع عليه السلام بعض حاله فنسي أن يذكر ذلك له { فاتخذ } أي الحوت معجزة في معجزة { سبيله } أي طريقه الواسع الواضح { في البحر سرباً * } أي خرقاً في الماء غير ملتئم ، من السرب الذي هو جحر الوحشي ، والحفير تحت الأرض ، والقناة يدخل منها الماء الحائط . وقد ورد في حديثه في الصحيح أن الله تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء ، فصار طاقاً لا يلتئم . ويوشع عليه السلام ينظر ذلك ، وكأن المجمع كان ممتداً ، فظن موسى عليه السلام أن المطلوب أمامه أو ظن أن المراد مجمع آخر فسار { فلما جاوزا } أي موسى وفتاه عليهما السلام ذلك الموضع من المجمع تعب ، ولم يتعب حتى جاوز المكان الذي أمر به معجزةً أخرى ، فلما جاع وتعب { قال لفتاه ءاتنا } أي أحضر لنا { غداءنا } أي لنتقوى به على ما حصل لنا من الإعياء ، ولذلك وصل به قوله تعالى : { لقد لقينا من سفرنا } أي الذي سافرناه في هذا اليوم خاصة ، ولذلك أشار إليه بأداة القرب فقال تعالى : { هذا نصباً * } وكان الحوت زادهم فلم يكن معه ، فكأنه قيل : فما كان عن أمره؟ فقيل : { قال } لموسى عليه السلام معجباً له : { أرءيت } ما دهاني؟ { إذ أوينا إلى الصخرة } التي بمجمع البحرين { فإني } أي بسبب أني { نسيت الحوت } أي نسيت أن أذكر لك أمره الذي كان هناك؛ ثم زاد التعجيب من هذا النسيان بالاعتراض بين الإخبار به مجملاً وبين تفصيل أمره وبإيقاع النسيان عليه ثم على ذكره فقال تعالى : { وما أنسانيه } مع كونه عجيباً { إلا الشيطان } بوساوسه .

ولما كان المقام للتدريب في عظيم تصرف الله تعالى في القلوب بإثبات العلم ونفيه وإن كان ضرورياً ، ذكر نسيانه ، ثم أبدل من ضميره قوله تعالى : { أن أذكره } لك فإنه عاش فانساب من المكتل في البحر { واتخذ سبيله } أي طريقه الذي ذهب فيه { في البحر عجباً * } وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا الإنساء ليس مفوتاً لطاعة ، بل فيه ترقية لهما في معارج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية ، وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من آيات الإيقان ، وقوله تعالى { إنما سلطانه على الذين يتولونه } [ النحل : 100 ] مبين أن السلطان الحمل على المعاصي ، وقد كان في هذه القصة خوارق حياة الحوت وإيجاد ما كان أكل منه ، وإمساك الماء عن مدخله ، وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه أو أتباعه ببركته مثل ذلك .
أما إعادة ما أكل من الحوت المشوي - وهو جنبه - فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، قال : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء - فذكر قصة المرأة التي أبرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولدها من الجنون إلى أن قال : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجته انصرف حتى إذا نزل ببطن الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها ، فأمر بأخذ تلك الشاة منها ثم قال : يا أسيم - وكان إذا دعاه رخمه! ناولني ذراعاً ، وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقدمها ، ثم قال : يا أسيم! ناولني ذراعاً! فناولته ، ثم قال : يا أسيم! ناولني ذراعاً! فقلت : يا رسول الله! إنما هما ذراعان وقد ناولتك ، فقال : والذي نفسي بيده لو سكتَّ ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك : ناولني ذراعاً » فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو سكت أوجد الله لها ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا ، وقوله الحق الذي لا فرق بينه وهو في عالم الغيب وبين ما وجد في عالم الشهادة .

وأما حياة الحوت المشوي فقد مضى عند { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] ما هو أكبر من ذلك في قصة الشاة المشوية المسمومة ، وهو أن ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مسموم فهو أعظم من عود الحياة من غير نطق ، وكذا حنين الجذع ، وسلام الحجر ، وتسبيح الحصا ، وتأمين أسكفة الباب وحوائط البيت ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً ، فقد روى البيهقي في الدلائل عن عمرو بن سواد قال : قال لي الشافعي : ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقلت : أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى؟ فقال : أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجذع - الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيىء له المنبر ، فلما هيىء له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته - فهذا أكبر من ذاك - انتهى . على أنه قد تقدم في آل عمران وفي آخر البقرة في قصة إبراهيم عليه السلام أشياء من إحياء الموتى له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولبعض أمته .
وأما آية الماء فمرجعها إلى صلابته ، ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق ، وقد روى البيهقي في ذلك ما فيه آية من الإحياء بسند منقطع عن أنس رضي الله عنه قال : كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا ، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر بجهازه ، فلما أردنا أن نغسله قال : ائت أمه فأعلمها ، فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ، ثم قالت : اللهم إني أسلمت لك طوعاً ، وخلعت الأوثان زهداً ، وهاجرت إليك رغبة ، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان ، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها ، قال : فوالله ما تقضي كلامها حتى حرك قدميه ، وألقى الثوب عن وجهه ، وعاش حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى هلكت أمه؛ ثم جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه - يعني جيشاً ، واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي ، قال : وكنت في غزاته ، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد تدروا بنا ، فعفوا آثار الماء ، قال : وكان حر شديد ، فجهدنا العطش ودوابنا ، وذلك يوم الجمعة فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ، ثم مد يده وما نرى في السماء شيئاً ، فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب ، فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجاً في البحر إلى جزيرة ، فوقف على الخليج وقال : يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم! ثم قال : أجيزوا باسم الله! فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا ، فأصبنا العدو غيلة فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا .

وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنا إسماعيل الصفار ن الحسن بن علي بن عفان أنبأنا ابن نمير عن الأعمش عن بعض أصحابه ، قال : انتهينا إلى دجلة وهي مادة ، والأعاجم خلفها ، فقال رجل من المسلمين : بسم الله ، ثم أقحم فرسه فاندفع على الماء ، فقال الناس : بسم الله بسم الله ، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء ، فلما نظر إليهم الأعاجم قالوا : ديوان ديوان ، ثم ذهبوا على وجوههم ، فما فقدوا إلا قدحاً كان معلقاً بعذبة سرج ، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها . أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أنا أبو محمد عبد الله بن محمد السمذي ثنا أبو العباس السراج ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا : ثنا سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى الدجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ، فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال : هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله - قال البيهقي : هذا إسناد صحيح .

قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)

وفي هذا الأمر من هذه القصة قاصمة للسائلين والآمرين لهم بالسؤال ، لأن المراد - والله أعلم - أن هذا الأمر وقع لنبي هؤلاء المضلين ، فمر قريشاً أن يسألوهم عن هذه القصة ، فإن أخبروهم عنها بمثل ما أخبرتهم فصدقوهم ، لزمهم أن يؤمنوا بالبعث لأمر هذا الحوت الذي أحياه الله بعد أن كان مشوياً وصار كثير منه في البطون ، وإن لم يصدقوهم في هذا وصدقوهم في غيره مما يتعنتون به عليك فهو تحكم ، وإن كانوا يتهمونهم في كل أمر كان سؤالهم لهم عبثاً ، ليس من أفعال من يعقل ، فكأنه قيل : فما قال موسى حينئذ؟ فقيل : { قال } منبهاً على أن ذلك ليس من الشيطان ، وإنما هو إغفال من الله تعالى بغير واسطة ليجدا العلامة التي أخبره الله بها كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « إنى لأنسى - أي ينسيني الله تعالى - لأسن » { ذلك } أي الأمر العظيم من فقد الحوت { ما كنا نبغ } أي نريد من هذا الأمر المغيب عنا ، فإن الله تعالى جعله موعداً لي في لقاء الخضر { فارتدا على ءاثارهما } يقصانها { قصصاً * } وهذا يدل على أن الأرض كانت رملاً ، لا علم فيها ، فالظاهر - والله أعلم - أنه مجمع النيل والملح الذي عند دمياط ، أو رشيد من بلاد مصر ، ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركبا في سفينته للتغذية - كما في الحديث ، فإن الطير لا يشرب من الملح ، ومن المشهور في بلاد رشيد أن الأمر كان عندهم ، وأن عندهم سمكاً ذاهب الشق يقولون : أنه من نسل تلك السمكة - والله أعلم . فاستمرا يقصان حتى انتهيا إلى موضع فقد الحوت { فوجدا عبداً من عبادنا } مضافاً إلى حضرة عظمتنا وهو الخضر عليه السلام { ءاتيناه } بعظمتنا { رحمة } أي وحياً ونبوة ، وكونه نبياً قول الجمهور { من عندنا } أي مما لم يجر على قوانين العادات غير أنه ليس بمستغرب عند أهل الاصطفاء { وعلمناه من لدنا } أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندنا مما لم يحدث عن الأسباب المعتادات ، فهو مستغرب عند أهل الاصطفاء { علماً } قذفناه في قلبه بغير واسطة؛ وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي : « عند » في لسان العرب لما ظهر ، و « لدن » لما بطن ، فيكون المراد بالرحمة ما ظهر من كراماته ، وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعاً أنه خاص بحضرته سبحانه ، فأهل التصوف سموا العلم بطريق المكاشفة العلم اللدني ، فإذا سعى العبد في الرياضيات يتزين الظاهر بالعبادة ، وتتخلى النفس عن الأخلاق الرذيلة ، وتتحلى بالأخلاق الجميلة ، وتصير القوى الحسية والخيالية والوهمية في غاية القوة ، وحينئذ تصير القوة العقلية قوية صافية ، وربما كانت النفس بحسب أصل الفطرة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالحوادث البدنية ، شديدة الاستعداد لقبول الأمور الإلهية ، فتشرق فيها الأنوار الإلهية وتفيض عليها من عالم القدس على وجه الكمال فتحصل المعارف والعلوم من غير تفكر وتأمل ، فهذا هو العلم اللداني .

ثم أورد سبحانه وتعالى القصة على طريق الاستئناف على تقدير سؤال سائل عن كل كلام يرشد إليه ما قبله ، وذلك أنه من المعلوم أن الطالب للشخص إذا لقيه كله ، لكن لا يعرف عين ذلك الكلام فقال لمن كأنه سأل عن ذلك : { قال له موسى } طالباً منه على سبيل التأدب والتلطف بإظهار ذلك في قالب الاستئذان : { هل أتبعك } أي اتباعاً بليغاً حيث توجهت؛ والاتباع : الإتيان لمثل فعل الغير لمجرد كونه آتياً به؛ وبين أنه لا يطلب منه غير العلم بقوله : { على أن تعلمن } وزاد في التلطف بالإشارة إلى أنه لا يطلب جميع ما عنده ليطول عليه الزمان بل جوامع منه يسترشد بها إلى باقيه فقال : { مما علمت } وبناه للمفعول لعلم المخاطبين - لكونهم من الخلص - بأن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ، وللإشارة إلى سهولة كل أمر على الله عز وجل { رشداً * } أي علماً يرشدني إلى الصواب فيما أقصده ، ولا نقص في تعلم نبي من نبي حتى يدعي أن موسى هذا ليس موسى بن عمران عليه السلام فإنه قد ثبت كونه ابن عمران في الصحيح ، وأتى صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سؤاله له بهذه الأنواع من الآداب والإبلاغ في التواضع لما هو عليه من الرسوخ في العلم ، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر ، كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، فكان طلبه لها أشد ، فكان تعظيمه لأرباب العلوم أكمل .
ولما أتم العبارة عن السؤال ، استأنف جوابه له بقوله تعالى : { قال } أي الخضر عليه السلام : { إنك لن تستطيع } يا موسى { معي صبراً * } أي هو من العظمة على ما أريد لما يحثك على عدم الصبر من ظاهر الشرع الذي أمرت به ، فالتنوين للتعظيم بما تؤذن به تاء الاستفعال ، وأكد لما في سؤال موسى عليه السلام من التلطف المؤذن بأنه يصبر عليه ولا يخالفه في شيء أصلاً ، ويؤخذ منه أن العالم إن رأى في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير كان عليه ذكره ، فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة ، وذلك يمنعه من التعلم .

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)

ولما كان المقام صعباً جداً لأنه بالنسبة إلى أوامر الله تعالى ، بينه على وجه أبلغ من نفي الأخص ، وهو الصبر البليغ ، بالتعجيب من مطلق الصبر معتذراً عن موسى في الإنكار ، وعن نفسه في الفعل ، بأن ذلك بالنسبة إلى الظاهر والباطن ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فكيف تتبعني الاتباع البليغ : { وكيف تصبر } يا موسى { على ما لم تحط به خبراً * } أي من جهة العلم به ظاهراً وباطناً ، فأشار بالإحاطة إلى أنه كان يجوز أن يكون على صواب ، ولكن تجويزاً لا يسقط عنه وجوب الأمر ، ويجوز أن يكون هذا تعليلاً لما قبله ، فيكون الصبر الثاني هو الأول ، والمعنى أنك لا تستطيع الصبر الذي أريده لأنك لا تعرف فعلي على ما هو عليه فتراه فاسداً { قال } أي موسى عليه السلام ، آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه ، إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل الله له والنفع به : { ستجدني } فأكد الوعد بالسين؛ ثم أخبر عنه سبحانه أنه قوى تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدم الحث عليه في هذه السورة في قوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل } الآية ليعلم أنه منهاج الأنبياء وسبيل الرسل ، فقال تعالى : { إن شاء الله } أي الذي له صفات الكمال { صابراً } على ما يجوز الصبر عليه؛ ثم زاد التأكيد بقوله عطفاً بالواو على « صابراً » لبيان التمكن في كل من الوصفين : { ولا أعصي } أي وغير عاص { لك أمراً * } تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله { قال } أي الخضر عليه السلام : { فإن اتبعتني } يا موسى اتباعاً بليغاً { فلا تسألني عن شيء } أقوله أو أفعله { حتى أحدث لك } خاصة { منه ذكراً * } يبين لك وجه صوابه ، فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك .
ولما تشارطا وتراضيا على الشرط سبب قوله تعالى : { فانطلقا } أي موسى والخضر عليهما السلام على الساحل ، يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرا { حتى إذا ركبا في السفينة } وأجاب الشرط بقوله تعالى : { خرقها } وعرفها لإرشاد السياق بذكر مجمع البحرين إلى أن انطلاقهما كان لطلب سفينة ، فكانت لذلك كأنها مستحضرة في الذهن ، ولم يقرن « خرق » بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب ولا كان في أول أحيانه؛ ثم استأنف قوله تعالى : { قال } أي موسى عليه السلام ، منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس ، ناسياً لما عقد على نفسه لما دهمه مما عنده من الله - وهو الإله العظيم - من العهد الوثيق المكرر في جميع أسفار التوراة بعد إثباته في لوحي الشهادة في العشر كلمات التي نسبتها من التوراة كنسبة الفاتحة من القرآن بالأمر القطعي أنه لا يقر على منكر ، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور ، على أنه لا يقر على منكر ، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور ، على أنه لو لم ينس لم يترك الإنكار ، كما فعل عند قتل الغلام ، لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد ، لأن المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً ، ففي الأولى نسي الشرط ، وفي الثانية نسي - لما دهمه من فظاعة القتل الذي لم يعلم فيه من الله أمراً - أنه ينبغي تقليده لثناء الله تعالى عليه : { أخرقتها } وبين عذره في الإنكار بما في غاية الخرق من الفظاعة فقال : { لتغرق أهلها } والله! { لقد جئت شيئاً إمراً } أي عظيماً منكراً عجيباً شديداً { قال } أي الخضر عليه السلام : { ألم أقل إنك } يا موسى! { لن تستطيع معي صبراً * } فذكره بما قال له عند الشرط { قال } موسى : { لا تؤاخذني } يا خضر { بما نسيت } من ذلك الاشتراط { ولا ترهقني } أي تلحقني بما لا أطيقه وتعجلني عن مرادي باتباعك على وجه القهر ناسباً لي إلى السفه والخفة وركوب الشر { من أمري عسراً * } بالمؤاخذة على النسيان ، فكل منهما صادق فيما قال ، موف بحسب ما عنده ، أما موسى عليه السلام فلأنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى عما يعتقده منكراً ، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر لأنه لا يقدم على منكر ، ومع ذلك فما نفي إلا الصبر البليغ الذي دل عليه بزيادة تاء الاستفعال ، وقد حصل ما يطلق عليه صبر .

لأنه لما ذكره كف عنه لما تذكر بثناء الله عليه أنه لا يفعل باطلاً ، ولم يحصل الصبر البليغ الذي في نفس الخضر بالكسوت في أول الأمر وآخره { فانطلقا } بعد نزولهما من السفينة وسلامتها من الغرق والغصب { حتى إذا لقيا غلاماً } لم يبلغ الحلم وهو في غاية القوة { فقتله } حين لقيه - كما دلت عليه الفاء العاطفة على الشرط . ثم أجاب الشرط بقوله مشعراً بأن شروعه في الإنكار في هذه أسرع : { قال } أي موسى عليه السلام : { أقتلت } يا خضر { نفساً زكية } بكونها على الفطرة الأولى من غير أن تدنس بخطيئة توجب القتل { بغير نفس } قتلتها ليكون قتلك لها قوداً؛ وهذا يدل على أنه كان بالغاً حتى إذا قتل قتيلاً أمكن قتله به إلا أن يكون شرعهم لا يشترط البلوغ؛ ثم استأنف قوله : { لقد جئت } في قتلك إياها { شيئاً } وصرح بالإنكار في قوله : { نكراً * } لأنه مباشرة . والخرق تسبب لا يلزم منه الغرق .

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)

ولما كانت هذه ثانية { قال } الخضر عليه السلام : { ألم أقل } وزاد قوله : { لك إنك } يا موسى { لن تستطيع معي } أي خاصة { صبراً * قال } موسى عليه السلام حياء منه لما أفاق بتذكر مما حصل من فرط الوجد لأمر الله فذكر أنه ما تبعه إلا بأمر الله : { إن سألتك عن شيء بعدها } يا أخي! وأعلم بشدة ندمه على الإنكار بقوله : { فلا تصاحبني } بل فارقني؛ ثم علل ذلك بقوله { قد بلغت } وأشار إلى أن ما وقع منه من الإخلال بالشرط من أعظم الخوارق التي اضطر إليها فقال : { من لدني عذراً * } باعتراضي مرتين واحتمالك لي فيهما . وقد أخبرني الله بحسن حالك في غزارة علمك { فانطلقا } بعد قتله { حتى إذا أتيا أهل قرية } عبر عنها هنا بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذم ، لأن مادة قرا تدور على الجمع الذي يلزمه الإمساك كما تقدم في آخر سورة يوسف عليه السلام؛ ثم وصفها ليبين أن لها مدخلاً في لؤم أهلها بقوله تعالى : { استطعما } وأظهر ولم يضمر في قوله : { أهلها } لأن الاستطعام لبعض من أتوه ، أوكل من الإتيان والاستطعام لبعض ولكنه غير متحد ، وهذا هو الظاهر ، لأنه هو الموافق للعادة .
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل : ولتكرار الأسماء بالإظهار والإضمار بيان سنين الأفهام في القرآن : اعلم أن لوقوع الإظهار والإضمار في بيان القرآن وجهين : أحدهما يتقدم فيه الإظهار وهو خطاب المؤمنين بآيات الآفاق وعلى نحوه هو خطاب الخلق بعضهم لبعض لا يضمرون إلا بعد أن يظهروا ، والثاني يتقدم فيه الإضمار وهو خطاب الموقنين بآية الأنفس ، ولم يصل إليه تخاطب الخلق . فإذا كان البيان عن إحاطة ، تقدم الإضمار { قل هو الله أحد } وإذا كان عن اختصاص ، تقدم الإظهار { الله الصمد } وإذا رد عليه بيان على حدة أضمر { لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } أي هذا الذي عم بأحديته وخص بصمديته ، وإذا أحاط البيان بعد اختصاص استؤنف له إحاطة باستئناف إظهار محيط أو بإضمار ، أو بجمع المضمر والمظهر { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } [ الحجرات : 1 ] { إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدىء ويعيد } [ البروج : 12 ] { هو الله لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة } [ الحشر : 22 ] والتفطن لما اختص به بيان القرآن عن بيان الإنسان من هذا النحو من مفاتيح أبواب الفهم ، ومن نحوه { أتيا أهل قرية استطعما أهلها } استأنف للمستطعمين إظهاراً غير إظهار المأتيين - انتهى . وجعل السبكي الإتيان للبعض ، والاستطعام للكل ، لأنه أشد ذماً لأهل القرية وأدل على شر طبعها ، ومن قال بالأول مؤيد بقول الشافعي في كتاب الرسالة في باب ما نزل من الكتاب عاماً يراد به العام ويدخلها الخصوص وهو بعد البيان الخامس في قول الله عز وجل { حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها } : وفي هذه الآية أدل دلالة على أنه لم يستطعما كل أهل القرية وفيها خصوص - انتهى ، وبيان ذلك أن نكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى ، وإذا أعيدت معرفة كانت عيناً في الأغلب .

ولما أسند الإتيان إلى أهل القرية كان ظاهره تناول الجميع ، فلو قيل : استطعماهم لكان المراد بالضمير عين المأتيين ، فلما عدل عنه - مع أنه أخصر - إلى الظاهر ولا سيما إن جعلناه نكرة كان غير الأولى وإلا لم يكن للعدول فائدة ، وقد كان الظاهر أن الأول للجميع فكان الثاني للبعض ، وإلا لم يكن غيره ولا كان للعدول فائدة . { فأبوا } أي فتسبب عن استطعامهما أن أبى المستطعمون من أهل القرية { أن يضيفوهما } أي ينزلوهما ويطعموهما فانصرفا عنهم { فوجدا فيها } أي القرية ، ولم يقل : فيهم ، إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع { جداراً } مشرفاً على السقوط ، وكذا قال مستعيراً لما لا يعقل صفة ما يعقل : { يريد أن ينقض } أي يسقط سريعاً فمسحه الخضر بيده { فأقامه } .
ولما انقضى وصف القرية وما تسبب عنه أجاب « إذا » بقوله : { قال } أي له موسى عليه السلام : { لو شئت لتخذت } لكوننا لم يصل إلينا منهم شيء { عليه } أي على إقامة الجدار { أجراً * } نأكل به ، فلم يعترض عليه في هذه المرة لعدم ما ينكر فيها ، وإنما ساق ما يترتب عليها من ثمرتها مساق العرض والمشورة غير أنه يتضمن السؤال { قال } الخضر عليه السلام : { هذا } أي الوقت أو السؤال . ولما كان ذلك سبب الفراق أو محله ، سماه به مبالغة فقال : { فراق بيني وبينك } يا موسى بعد أن كان البينان بيناً واحداً لاتصالهما فلا بين ، فهو في الحقيقة فوق ما كان متصلاً من بينهما ، أو فراق التقاول الذي كان بيننا ، أي الفراق الذي سببه السؤال ، وإذا نزل على الاحتباك ازداد ظهوراً ، تقديره : فراق بيني وبينك كما أخبرت ، وفراق بينك من بيني كما شرطت ، وقد أثبتت هذه العبارة الفراق على أبلغ وجه ، وذلك أنه إذا وقع فراق بيني من بينك بحائل يحول بينهما فقد وقع منك بطريق الأولى ، وحقيقته أن البين هو الفراغ المنبسط الفاصل بين الشيئين وهو موزع بينهما ، فبين كل منهما من منتصف ذلك الفراغ إليه ، فإذا دخل في ذلك الفراغ شيء فصل بينهما ، وصار بين كل منهما ينسب إليه ، لأنه صار بين ما ينسب إلى كل منهما من البينين ، وحينئذ يكون بينهما مباينة ، أي أن بين كل منهما غير بين الآخر ومن قال : إن معنى « هذا فراق بيننا » زوال الفصل ووجود الوصل ، كذبه أن معنى « هذا اتصال بيننا » المواصلة ، فلو كان هذا معنى ذاك أيضاً لاتحد معنى ما يدل على الوصل بمعنى ما يدل على الفصل ، وقد نبه الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام - كما في تفسير الأصبهاني وغيره - بما فعل الخضر عليه السلام على ما وقع له هو من مثله سواء بسواء ، فنبهه - بخرق السفينة الذي ظاهره هلك وباطنه نجاة من يد الغاصب - على التابوت الذي أطبق عليه وألقي في اليم خوفاً عليه من فرعون الغاصب فكان ظاهره هلكاً وباطنه نجاة ، وبقتل الغلام على أنه كان معصوم الحركة في نفس الأمر في قتله القبطي وإن لم يكن إذ ذاك يعلمه لكونه لم ينبأ ، وبأقامة الجدار من غير أجر على سقيه لبنات شعيب عليهم السلام من غير أجر مع احتياجه لذلك .

ولما كان من المعلوم شدة استشراف موسى عليه السلام إلى الوقوف في باطن هذه الأمور ، قال مجيباً له عن هذا السؤال : { سأنبئك } يا موسى بوعد لا خلف فيه إنباء عظيماً { بتأويل } أي بترجيع { ما لم تستطع عليه صبراً * } لمخالفته عندك الحكمة إلى الحكمة وهو أن عند تعارض الضررين يجب ارتكاب الأدنى لدفع الأقوى بشرط التحقق ، وأثبت تاء الاستفعال هنا وفيما قبله إعلاماً بأنه ما نفى إلا القدرة البليغة على الصبر ، إشارة إلى صعوبة ما حمل موسى من ذلك ، لا مطلق القدرة على الصبر { أما السفينة } التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها { فكانت لمساكين } وهو دليل للشافعي على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين ، لأن هؤلاء يملكون سفينة { يعملون في البحر } ليستعينوا بذلك على معاشهم .
ولما كان التعييب من فعله ، أسنده إليه خاصة ، تأدباً مع الله تعالى فقال : { فأردت أن أعيبها } فإن تفويت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكليف أهلها لوحاً يسدونها به أخف ضرراً من تفويتهم منفعتها أخذاً ورأساً بأخذ الملك لها ، ولم أرد إغراق أهلها كما هو المتبادر إلى الفهم؛ ثم عطف على ذلك علة فعله فقال : { وكان وراءهم } أي أمامهم ، ولعله عبر بلفظ ( وراء ) كناية عن الإحاطة بنفوذ الأمر في كل وجهة وارتهم و واروها ، وفسره الحرالي في سورة البقرة بأنه وراءهم في غيبته عن علمهم وإن كان أمامهم في وجهتهم ، لأنه فسر الوراء بما لا يناله الحس ولا العلم حيثما كان من المكان ، قال : فربما اجتمع أن يكون الشيء ، وراء من حيث إنه لا يعلم ، ويكون أماماً في المكان . { ملك يأخذ } في ذلك الوقت { كل سفينة } ليس فيها عيب { غصباً } من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به .

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

ولما كان كل من الغصب والمسكنة سبباً لفعله ، قدمها على الغصب ، إشارة إلى أن أقوى السببين الحاملين على فعله الرأفة بالمساكين { وأما الغلام } أي الذي قتلته { فكان أبواه مؤمنين } وكان هو مطبوعاً على الكفر - كما يأتي في حديث أبيّ رضي الله عنه .
ولما كان يحتمل عند الخضر عليه السلام أن يكون هذا الغلام مع كفره في نفسه سبباً لكفر أبويه إن كبر ، وكان أمر الله له بقتله مثل فعل من يخشى ذلك ، أسند الفعل إليهما في قوله : { فخشينا أن يرهقهما } أي يغشيهما ويلحقهما إن كبر بمحبتهما له أو بجراءته وقساوته { طغياناً } أي تجاوزاً في الظلم وإفراطاً فيه { وكفراً * } لنعمتهما فيفسد دنياهما أو يحملهما حبهما له على الطغيان والكفر بالله طاعة فيفسد دينهما ، روى مسلم في القدر وأبو داود في السنة والترمذي في التفسير عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : « إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً ، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً » وهذا حديث : « الله أعلم بما كانوا عاملين » يدل على أن العذاب - على ما لو وجد شرطه لوقع - إنما يكون على ما كان جبلة وطبعاً ، لا ما كان عارضاً ، وإلا لعذب الأبوان على تقدير أن يكون المعلوم من الكفر منهما .
ولما ذكر ما يلزم على تقدير بقائه من الفساد سبب عنه قوله : { فأردنا } أي بقتله وإراحتهما من شره ، ولما كان التعويض عن هذا الولد لله وحده ، أسند الفعل إليه في قوله : { أن يبدلهما ربهما } أي المحسن إليهما بإعطائه وأخذه { خيراً منه زكاة } طهارة وبركة ، أي من جهة كونه كان ظاهر الزكاء في الحال ، وأما في المآل فلو عاش كان فيه خبيثاً ظاهر الخبث ، وهذا البدل يمكن أن يكون الصبر ، ويمكن أن يكون ولداً آخر ، وهو المنقول وأنها كانت بنتاً { وأقرب رحماً * } براً بهما وعطفاً عليهما ورحمة لهما فكان الضرر اللاحق لهما بالتأسف عليه أدنى من الضرر اللاحق لهما عند كبره بإفساد دينهما أو دنياهما { وأما الجدار } الذي أشرت بأخذ الأجر عليه { فكان لغلامين } ودل على كونهما دون البلوغ بقوله { يتيمين } .
ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة ، وكان التعبير بالقرية أولاً أليق ، لأنها مشتقة من معنى الجمع ، فكان أليق بالذم في ترك الضيافة لإشعاره ببخلهم حالة الاجتماع وبمحبتهم للجمع والإمساك ، وكانت المدينة بمعنى الإقامة ، فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يقيمون فيها ، فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز ، قال : { في المدينة } فلذلك أقمته احتساباً { وكان تحته كنز } أي مال مدخور { لهما } لو وقع لكان أقرب إلى ضياعه { وكان أبوهما صالحاً } ينبغي مراعاته وخلفه في ذريته بخير .

ولما كان الإبلاغ إلى حد البلوغ والاستخراج فعل الله وحده ، أسند إليه خاصة فقال : { فأراد ربك } أي المحسن إليك بهذه التربية ، إشارة إلى ما فعل بك من مثلها قبل النبوة كما بين { أن يبلغا } أي الغلامان { أشدهما } أي رشدهما وقوتهما { ويستخرجا كنزهما } لينتفعا به وينفعا الصالحين { رحمة } بهما { من ربك } أي الذي أحسن تربيتك وأنت في حكم اليتيم فكان التعب في إقامة الجدار مجاناً أدنى من الضرر اللازم من سقوطه لضياع الكنز وفساد الجدار ، وقد دل هذا على أن صلاح الآباء داعٍ إلى العناية بالأبناء ، روي عن الحسن بن علي رضي الله عهنما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ الله كنز الغلامين؟ قال : بصلاح أبيهما ، قال فأبي وجدي خير منه ، قال أنبأنا الله أنكم قوم خصمون . { وما فعلته } أي شيئاً من ذلك { عن أمري } بل عن أمر من له الأمر ، وهو الله .
ولما بان سر تلك القضايا ، قال مقدراً للأمر : { ذلك } أي لشرح العظيم { تأويل ما لم تسطع } يا موسى { عليه صبراً } وحذف تاء الاستطاعة هنا لصيرورة ذلك - بعد كشف الغطاء - في حيز ما يحمل فكان منكره غير صابر أصلاً لو كان عنده مكشوفاً من أول الأمر ، وسقط - ولله الحمد - بما قررته في هذه القصة ما يقال من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر في قول سليمان عليه السلام المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه « لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تلد فارساً يجاهد في سبيل الله ، فلم تلد منهن إلا واحدة جاءت بشق آدمي أنه لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا فرساناً أجمعون » فأفهم ذلك أن ذلك كل نبي استثنى في خبره صدقه الله تعالى كما وقع للذبيح أنه قال : { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [ الصافات : 102 ] فوفى ، فما لموسى عليه السلام - وهو من أولي العزم - فعل مع الاستثناء ما فعل؟ فإن الذبيح صبر على ما هو قاطع بأنه بعينه أمر الله ، بخلاف موسى عليه السلام فإنه كان ينكر ما ظاهره منكر قبل العلم بأنه من أمر الله ، فإذا نبه صبر ، وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « يرحم الله أخي موسى! وددنا لو أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما » فمعناه : صبر عن الإذن للخضر عليه السلام في مفارقته في قوله { فلا تصاحبني } ويدل عليه أن في رواية لمسلم « رحمة الله علينا وعلى موسى! لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة »

{ قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } . فتحرر أنه وفى بمقام الشرع الذي أقامه الله فيه فلم يخل بمقام الصبر الذي ليس فيه ما يخالف ما يعرف ويستحضر من الشرع ، وكيف لا وهو من أكابر أولي العزم الذين قال الله تعالى لأشرف خلقه في التسليك بسيرهم { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وقال تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] وقال عليه السلام فيما خرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوذي من بعض من كان معه في حنين فتلوّن وجهه وقال : « يرحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر » وعلم أن في قصته هذه حثاً كثيراً على المجاهرة بالمبادرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمصابرة عليه ، وأن لا يراعى فيه كبير ولا صغير إذا كان الإمرء على ثقة من أمره في الظاهر بما عنده في ذلك من العلم عن الله ورسوله وأئمة دينه ، وتنبيهاً على أنه لا يلزم من العلم اللدني - سواء كان صاحبه نبياً أو ولياً - معرفة كل شيء كما يدعيه أتباع بعض الصوفية ، لأن الخضر سأل موسى عليهما السلام : من أنت؟ وهل هو موسى نبي بني إسرائيل - كما سيأتي . روى البخاري في التفسير من روايات مختلفة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبي بن كعب رضي الله عنه حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « موسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولّى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله! هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال : لا! فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى إليه : بلى! عبد من عبادي بمجمع البحرين ، قال : أي رب! كيف السبيل إليه؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث ما فقدته فاتبعه - وفي رواية : خذ نوناً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح - فخرج ومعه فتاه يوشع بن نون حتى انتهيا إلى الصخرة ، فوضع موسى رأسه فنام في ظل الصخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت - وفي رواية : وفي أصل تلك الصخرة عين يقال له الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيى ، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فانسل من المكتل فدخل البحر - فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر ، فقال فتاه : لا أوقظه ، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ، فذكر سفرهما وقول موسى عليه السلام { لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } قال : قد قطع الله عنك النصب ، فرجعا فوجدا خضراً على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال : هل بأرضي من سلام؟ من أنت؟ قال : أنا موسى! قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم! قال : فما شأنك؟ قال : جئت لتعلمني ، قال : أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك؟ يا موسى! إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه ، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه - أي لا ينبغي لك أن تعمل بالباطن ولا ينبغي لي أنا أن أقف مع الظاهر ، أطلق العلم على العمل لأنه سببه - فانطلقا يمشيان على الساحل ، فوجدوا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر ، فعرف الخضر فقالوا : عبد الله الصالح! لا تحمله بأجر ، فحملوهم في سفينتهم بغير نول : بغير أجر - فركبا السفينة ، ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر؛ وفي رواية : فأخذ بمنقاره من البحر ، وفي رواية : فنقر نقرة أو نقرتين فقال : والله ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا من البحر ، فلم يفجأ موسى إلا الخضر عمد إلى قدوم فخرق السفينة ووتد فيها وتداً فذكر إنكاره وجوابه ثم قال : وكانت الأولى من موسى نسياناً ، والوسطى شرطاً ، والثالثة عمداً - فذكر القصة ، وقال في آخرها : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما » .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)

ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم ، عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد ، وقدم الأولى إشارة إلى علو درجة العلم لأنه أساس كل سعادة ، وقوام كل أمر ، فقال عاطفاً على { ويجادل الذين كفروا بالباطل } [ الكهف : 56 ] { ويسألونك عن } الرجل الصالح المجاهد { ذي القرنين } سمي لشجاعته أو لبلوغه قرني مغرب الشمس ومشرقها ، أو لانقراض قرنين من الناس في زمانه ، أو لأنه كان له ضفيرتان من الشعر أو لتاجه قرنان ، وهو الإسكندر الأول - نقل ابن كثير عن الأزرقي أنه كان على زمن الخليل عليه السلام ، وطاف معه بالبيت ، ومن المناسبات الصورية أن في قصة كل منهما ثلاثة أشياء آخرها بناء جدار لا سقف له ، وإنما هو لأجل حفظ ما يهتم به خوف المفسد ، وصدّرها بالإخبار عن سؤالهم إشارة إلى أنهم لم يسألوا عن التي قبلها على ما فيها من العجائب واللطائف ، والأسرار والمعارف ، تبكيتاً لليهود في إغفال الأمر بالسؤال عنها إن كان مقصودهم الحق ، وإن لم يكن مقصوداً لهم كانوا بالتبكيت أجدر ، أو تكون معطوفة على مسألتهم الأولى وهي الروح ، وصدرها بالإخبار بالسؤال تنبيهاً على ذلك لطول الفصل ، إشارة إلى أن ذلك كله مرتبط بجوابهم ارتباط الدر بالسلك .
ولما كان من المعلوم أنه يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : فبماذا أجيبهم؟ قال : { قل } أي لهم : { سأتلوا } أي أقص قصاً متتابعاً في مستقبل الزمان إن أعلمني الله به { عليكم } أيها المشركون وأهل الكتاب المعلمون لهم مقيداً بأن شاء الله كما سلف لك الأمر به { منه ذكراً * } كافياً لكم في تعرف أمره ، جامعاً لمجامع ذكره .
ولما كانت قصته من أدل دليل على عظمة الله ، جلاها في ذلك المظهر فقال : { إنا } مؤكداً لأن المخاطبين بصدد التعنت والإنكار { مكنا } أي بما لنا من العظمة ، قيل : بالملك وحده ، وقيل مع النبوة ، لأن ما ينسب إلى الله تعالى على سبيل الامتنان والإحسان جدير بأن يحمل على النهاية لا سيما إذا عبر عنه بمظهر العظمة { له في الأرض } مكنة يصل بها إلى جميع مسلوكها ، ويظهر بها على سائر ملوكها { وءاتيناه } بعظمتنا { من كل شيء } يحتاج إليه في ذلك { سبباً } قال أبو حيان : وأصل السبب الحبل ، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود . فأراد بلوغ المغرب ، ولعله بدأ به لأن باب التوبة فيه { فأتبع } أي بغاية جهده - هذا على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو بالتشديد ، والمعنى على قراءة الباقين بقطع الهمزة وإسكان الفوقانية : ألحق بعض الأسباب ببعض ، وذلك تفسير لقراءة التشديد { سبباً * } يوصله إليه ، واستمر متبعاً له { حتى إذا بلغ } في ذلك المسير { مغرب الشمس } أي الحد الذي لا يتجاوزه آدمي في جهة الغرب { وجدها } فيما يحس بحاسة لمسه { تغرب } كما أحسه بحاسة بصره من حيث إنه متصل بما وصل إليه بيده ، لا حائل بينه وبينه { في عين حمئة } أي ذات حمأة أي طين أسود ، وهي مع ذلك حارة كما ينظر من في وسط البحر أنها تغرب فيه وتطلع منه وعنده القطع بأن الأمر ليس كذلك { ووجد عندها } أي على الساحل المتصل بتلك العين { قوماً } كفاراً لهم قوة على ما يحاولونه ومنعة ، فكأنه قيل : ماذا أمر فيهم؟ فأجيب بقوله : { قلنا } بمظهر العظمة : { يا ذا القرنين } إعلاماً بقربه من الله وأنه لا يفعل إلا ما أمره به ، إما بواسطة الملك إن كان نبياً وهو أظهر الاحتمالات ، أو بواسطة نبي زمانه ، أو باجتهاده في شريعته الاجتهاد المصيب ، { إما أن تعذب } أي هؤلاء القوم ببذل السيف فيهم بكفرهم { وإما أن تتخذ } أي بغاية جهدك { فيهم حسناً * } أمراً له حسن عظيم ، وذلك هو البداءة بالدعاء ، إشارة إلى أن القتل وإن كان جائزاً فالأولى أن لا يفعل إلا بعد اليأس من الرجوع عن موجبه { قال أما من ظلم } باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله ، وإلى ذلك أشار بقوله : { فسوف نعذبه } بوعد لا خلف فيه بعد طول الدعاء والترفق { ثم يرد } بعد الحياة بالموت ، أو بعد البرزخ بالبعث ، رداً هو في غاية السهولة { إلى ربه } الذي تفرد بتربيته { فيعذبه عذاباً نكراً * } شديداً جداً لم يعهد مثله لكفره لنعمته ، وبذل خيره في عبادة غيره ، وفي ذلك إشارة بالتهديد الشديد لليهود الغارين لقريش ، وإرشاد لقريش إلى أن يسألوهم عن قوله هذا ، ليكون قائداً لهم إلى الإقرار بالبعث { وأما من ءامن وعمل صالحاً } تصديقاً لما أخبر به من تصديقه { فله } في الدارين { جزاء } طريقته { الحسنى } منا ومن الله بأحسن منها { وسنقول } بوعد لا خلف فيه بعد اختباره بالأعمال الصالحة { له } أي لأجله { من أمرنا } الذي نأمر به فيه { يسراً * } أي قولاً غير شاق من الصلاة والزكاة والخراج والجهاد وغيرها ، وهو ما يطيقه ولا يشق عليه مشقة كبيرة { ثم أتبع } لإرادته بلوغ مشرق الشمس { سبباً * } من جهة الجنوب يوصله إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مر عليها { حتى إذا بلغ } في مسيره ذلك { مطلع الشمس } أي الموضع الذي تطلع عليه أولاً من المعمور من الأرض { وجدها تطلع على قوم } على ساحل البحر لهم قوة شديدة { لم نجعل لهم } ولما كان المراد التعميم ، أثبت الجار فقال : { من دونها } أي من أدنى الأماكن إليهم أول ما تطلع { ستراً * } يحول بينهم وبين المحل الذي يرى طلوعها منه من البحر من جبل ولا أبنية ولا شجر ولا غيرها .

كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

ولما كان أمره مستغرباً في نفسه وفي الاطلاع عليه لا سيما عند القرب ، قال تعالى : { كذلك } أي أمره كما ذكرنا لكم على سبيل الاقتصار { وقد أحطنا } بما لنا من العظمة ، { بما لديه } أي كله من الأمور التي هي أغرب المستغرب { خبراً * } أي من جهة بواطن أموره فضلاً عن ظواهرها ، فلا يستغرب إخبارنا عن ذلك ولا عن أمر أصحاب الكهف ، ولا يظن أن تفصيل أمر الروح خفي عنا ، لأنا مطلعون على خفايا الأمور وظواهرها ، شواهدها وغوائبها ، وكيف لا ونحن أوجدناها ولكنا لا نذكر من ذلك إلا ما نريد على ما تدعو إليه الحكمة ، فلو شئنا لبسطنا هذه القصة وقصة أهل الكهف وفصلنا أمر الروح تفصيلاً يعجز عن حفظه الألباء { ثم أتبع } في إرادته ناحية السد مخرج يأجوج ومأجوج { سبباً * } من جهة الشمال ، واستمر أخذاً فيه { حتى إذا بلغ } في مسيره ذلك { بين السدين } أي الجبلين المانعين من وراءهما من الوصول منهما إلى من أمامهما وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي بلاد أرمينية وآذربيجان ، أملسان يزلق عليهما كل شيء؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بفتح السين ، والباقون بضمهما ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وقيل : المضموم من فعل الله ، والمفتوح من فعل الناس . { وجد من دونهما } أي بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين { قوماً } أي أقوياء لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم من بقية البلاد ، فهم لذلك { لا يكادون يفقهون قولاً * } أي لا يقربون من أن يفهموه ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم ، ودل وصفهم بما يأتي على أنهم يفهمون فهماً ما بعد بُعد ومحاولة طويلة ، لعدم ماهر بلسانهم ممن مع ذي القرنين ، وعدم ماهر منهم بلسان أحد ممن معه ، وهذا يدل على أن بينهم وبين بقية سكان الأرض غير يأجوج ومأجوج براري شاسعة ، وفيافي واسعة ، منعت من اختلاطهم بهم ، وأن تطيعهم بلسان غيرهم بعيد جداً لقلة حفظهم لخروج بلادهم عن حد الاعتدال ، أو لغير ذلك ، ويلزم من ذلك أنهم لا يكادون يفهمون غيرهم شيئاً من كلامهم ، وذلك معنى قراءة حمزة والكسائي بضم التحتانية وكسر القاف ، ودل على أن عدم فهمهم وأفهامهم مقيد بما مضى قوله : { قالوا } أي مترجموهم أو جيرانهم - الذين من دونهم - كما في مصحف ابن مسعود ممن يعرف بعض كلامهم ، أو بالإشارة كما يخاطب إليكم : { يا ذا القرنين } مسنا الضر { إن يأجوج ومأجوج } وهما قبيلتان من الناس من أولاد يافث ، لا يطاق أمرهم ، ولا يطفأ جمرهم ، وقد ثبت في الصحيح في حديث بعث النار أنهم من ذرية آدم عليه السلام { مفسدون في الأرض } بأنواع الفساد { فهل نجعل لك خرجاً } نخرجه لك من أموالنا - هذا على قراءة الجماعة ، وزاد حمزة والكسائي ألفاً ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وقيل : بل الخرج ما تبرعت به ، والخراج بالألف ما لزمك .

{ على أن تجعل } في جميع ما { بيننا وبينهم } من الأرض التي يمكن توصلهم إلينا منها بما آتاك الله من المكنة { سداً * } يصل بين هذين الجبلين { قال } بعفة وديانة وقصد للخير : { ما مكني } .
ولما كان لمكنته حالتان : إحداهما ظاهرة ، وهي ما شوهد من فعله بعد وقوعه ، وباطنة ولا يقع أحد عليها بحدس ولا توهم ، لأنها مما لم يؤلف مثله ، فلا يقع المتوسم عليه ، قرأ ابن كثير بإظهار النون في { مكنني } وغيره بالإدغام ، إشارة إليهما . ولما كان النظر إلى ما يقع المكنة فيه أكثر ، قدم ضميره فقال : { فيه ربي } أي المحسن إليّ بما ترون من الأموال والرجال ، والفهم في إتقان الأمور ، والتوصل إلى جميع الممكن للمخلوق { خير } أي من خرجكم الذي تريدون بذله لمكنتي كما قال سليمان عليه السلام { فما آتانيَ الله خير مما آتاكم } [ النمل : 36 ] { فأعينوني بقوة } أي آلات وعمال أتقوى بها في فعل ذلك ، فإن أهل البلاد أخبر بما يصلح في هذا العمل من بلادهم وما معي إنما هو للقتال وما يكون من أسبابه ، لا لمثل هذا { أجعل بينكم } أي بين ما تختصون به { وبينهم ردماً * } أي حاجزاً حصيناً موثقاً بعضه فوق بعض ، مع التلاصق المتلاحم الموجب لأن لا يميز بعضه من بعض وهو أعظم من السد؛ قال البغوي : فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس يذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض . { ءاتوني } بفتح الهمزة بعدها ساكنة ، ومدها على قراءة أي أعطوني وبهمزة وصل ، وهمزة بعدها ساكنة أي جيئوني وتعالوا إليّ فقد أجبتكم إلى سؤالكم ، ثم ابتدأ مغرياً على هذه القراءة فقال : { زبر الحديد } أي عليكم به فأحضروا إليّ قطعة ، فأتوه بذلك فردم ما فوق الأساس بعضه على بعض صفاً من الحديد وصفاً من الحطب ، قال البغوي : فلم يزل يجعل قطع الحديد على الحطب والحطب على الحديد . { حتى إذا ساوى } أي بذلك البناء { بين الصدفين } أي أعلى منقطع الجبلين الموصوفين ، سميا لتصادفهما - أي تقابلهما وتقاربهما - بالبناء على تلك الحالة عرضاً وطولاً ، وقراءة من فتح الصاد والدال - وهم نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم - دالة على أن تقابلهما في غاية الاستقامة ، فكأنهما جدار فتح فيه باب ، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر بضمهما دالة على أنه مع ذلك في غاية القوة حتى أن أعلاه وأسفله سواء ، وقراءة شعبة عن عاصم بالضم وإسكان الدال على أشد ثبات وأتقنه في كل منهما ، فلا ينتخر شيء منهما على طول الزمان بريح ولا غيرها من فساد في أحد الجانبين برخاوة من سياخ أو غيره { قال } أي للصناع : { انفخوا } في الأكوار فنفخوا فأضرم فيه النار ، واستمر كذلك { حتى إذا جعله } أي كله { ناراً قال } للقوم : { ءاتوني } بالنحاس { أفرغ عليه } أي الحديد المحمى { قطراً * } منه بعد إذابته ، فإن القطر : النحاس الذائب ، هذا في قراءة حمزة وأبي بكر عن عاصم بإسكان الهمزة ، وقراءة الباقين بفتح الهمزة ومدها بمعنى أعطوني النحاس .

ففعلوا ذلك فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً ، ثم قال الله تعالى : { فما } أي فتسبب عن ذلك أنه لما أكمل عمله وأحكمه ما { اسطاعوا } أي يأجوج ومأجوج وغيرهم { أن يظهروه } أي يعلو ظهره لعلوه وملاسته { وما استطاعوا له نقباً * } لثخنه وصلابته ، وزيادة التاء هنا تدل على أن العلو عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علو الجبل ، وقد حكى ابن خرداذبه عن سلام الترجمان الذي أرسله أمير المؤمنين الواثق إليه حتى رآه أن ارتفاعه مد البصر ، ولأنهم لو احتالوا ببناء درج من جانبهم أو وضع تراب حتى ظهروا عليه لم ينفعهم ذلك لأنه لا حيلة لهم على النزول من الجانب الآخر ، ويؤيده أنهم يخرجون في آخر الزمان بنقبه لا بظهوره ، ولا ينافي نفي الاستطاعة لنقبه ما رواه الإمام أحمد والترمذي في التفسير وابن ماجه في الفتن عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : « إن يأجوج ومأجوج ليحفرن السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً ، فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله فيستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس » - الحديث . وفي حديث الصحيحين عن زينب بنت جحش رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا ، وحلق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم » وروياه عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه : « مثل هذا وعقد تسعين » فكأنه قيل : فما قال حين أفرغه؟ قيل : { قال هذا } أي السد { رحمة من ربي } المحسن إليّ بإقداري عليه ومنع الفساد به { فإذا جاء وعد ربي } بقرب قيام الساعة { جعله دكاء } بإقدراهم على نقبه وهدمه وتسهيل ذلك عليهم ، والتعبير بالمصدر المنون في قراءة الجماعة للمبالغة في دكه هو الذي أشارت إليه قراءة الكوفيين بالمد ممنوعاً من الصرف .

ولما كان هذا أمراً مستعظماً خارقاً للعادة ، علله بقوله : { وكان وعد ربي } الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج واختراقهم الأرض وإفسادهم لها ثم قيام الساعة { حقاً * } كائناً لا محالة ، فلذلك أعان على هدمه ، وعن قتادة قال : « ذكر لنا أن رجلاً - وفي رواية : عن رجل من أهل المدينة قال : يا رسول الله! قد رأيت سد يأجوج ومأجوج ، قال انعته لي ، قال : كالبرد المحبر : طريقة سوداء وطريقة حمراء ، وفي وراية : طريقة حمراء من حديد وطريقة سوداء من نحاس ، وفي رواية أنه قال : انتهيت إلى أرض ليس لهم إلا الحديد يعملونه » - رواه الطبري وابن أبي عمر والطبراني في مسند الشاميين وابن مردويه عنه والبزار من وجه آخر من طريق أبي بكرة رضي الله عنه - ذكر ذلك شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف ، وفي حديث فتح الباب من سيرة الحافظ أبي الربيع بن سالم الكلاعي وشيخه ابن حبيش - وكان أمير تلك الجيوش التي بها عبد الرحمن بن ربيعة في أيام عمر رضي الله عنه - ما نصه : وحدث مطر بن ثلج التميمي قال : دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهربراز عنده - يعني : وكان ملك الباب من جهة آل كسرى فأقبل رجل عليه شحوبة حتى جلس إلى شهربراز فتساءلا ، ثم إن شهربراز قال لعبد الرحمن : أيها الأمير! أتدري من أين جاء هذا الرجل؟ إني بعثته منذ سنين نحو السد لينظر لي ما حاله ومن دونه ، وزودته مالاً عظيماً ، وكتبت له إلى من يليني وأهديت له وسألته أن يكتب إلى من وراءه ، وزودته لكل ملك هدية ، ففعل ذلك بكل ملك بيني وبينه حتى انتهى إلى الملك الذي السد في ظهر أرضه ، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد ، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه ، فذكر أنه أحسن إلى البازيار ، قال : فتشكر لي البازيار فلما انتهينا إذا جبلان بينهما سد مسدود حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما ، وإذا دون السد خندق أشد سواداً من الليل لبعده ، فنظرت إلى ذلك وتفرست فيه ، ثم ذهبت لأنصرف فقال لي البازيار : على رسلك! أكافيك أنه لا يلي ملك بعد ملك إلا تقرب إلى الله تعالى بأفضل ما عنده من الدنيا فيرمي به في هذا اللهب ، فشرح بضعة لحم معه فألقاها في ذلك الهواء وانقضت عليها العقاب وقال : إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء ، وإن لم تدركها حتى تفع فذلك شيء ، فخرجت علينا باللحم في مخالبها وإذا فيه ياقوتة فأعطانيها ، وهي هذه ، فتناولها منه شهربراز وهي حمراء فناولها عبد الرحمن فنظر إليها ثم ردها إليه فقال شهربراز : هذه خير من هذه البلدة - يعني الباب - وايم الله! لأنتم أحب إليّ ملكة من آل كسرى ، ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني ، وايم الله! لا يقوم لكم شيء ما وفيتم أو وفى ملككم الأكبر ، فأقبل عبد الرحمن على الرسول وقال : ما حال الردم وما شبهه؟ فقال : هذا الثوب الذي على هذا الرجل ، وأشار إلى مطر بن ثلج وكان عليه قباء برود يمنية أرضه حمراء ووشيه أسود ، أو وشيه أحمر وأرضه سوداء ، فقال مطر : صدق والله الرجل! لقد نفذ ورأى ، قال عبد الرحمن : أجل! ووصف صفة الحديد والصفر وقرأ { آتوني زبر الحديد } إلى آخر الآية ، وقال عبد الرحمن لشهربراز : كم كانت هديتك؟ قال : قيمة مائة ألف في بلادي هذه ، وثلاثة آلاف ألف أو أكثر في تلك البلدان - انتهى .

وقد ظهر أن ما تعنتوا به من قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين وما أدرج بينهما تبكيتاً لليهود الآمرين بذلك - دال من قصة موسى عليه السلام على قيام الساعة فصار كله أعظم ملزم لهم إن قبلوه ، وأوضح فاضح لعنادهم إن تركوه .
ولما انقضى ما سألوا عنه على أحسن وجه في أبلغ سياق وأبدع تناسب ، وأدرج في خلاله ما أدرج من التذكير والوعظ ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، والتبكيت للكاتمين لما عندهم من العلم ، الناكبين عما استبان لهم من الطريق اللاحب والمنهج الواضح صنع القادر الحكيم الذي لا يستخفه ضجر فيستعجل ، ولا يعيبه أمر فيستمهل ، وختمه بما هو علم عظيم للساعة ، ذكر ما يكون إذإ ذاك وما يكون بعده إلى حصول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره؛ ولما كان ذلك أمراً عظيماً ، دل عليه بالنون فقال عاطفاً على تقديره : فقد بان أمر ذي القرنين أي بيان ، وصدق في قوله { فإذا جاء وعد ربي } فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاء فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال : { وتركنا بعضهم } أي بعض من خلف السد ومن أمامه { يومئذ } أي إذ جعلنا السد دكاء وخرجوا مقدمتهم بالشام وساقطتهم بخراسان ، وهم - كما قال الله تعالى - { من كل حدب ينسلون } . { يموج } أي يضطرب { في بعض } كما يموج البحر ، فأهلكوا ما مروا عليه من شيء إلا ما أراد الله ، ثم أبادهم الذي خلقهم وبقرب ذلك أفنى الخلائق أجمعين { ونفخ في الصور } أي النفخة الثانية لقوله : { فجمعناهم } ويجوز أن تكون هذه الفاء الفصيحة فيكون المراد النفخة الأولى ، أو ونفخ في الصور فمات الخلائق كلهم ، فبليت أجسامهم ، وتفتتت عظامهم ، كما كان من تقدمهم ، ثم نفخ فيه النفخة الثانية فجمعناهم من التراب بعد تمزقهم فيه ، وتفرقهم في أقطار الأرض بالسيول والرياح وغير ذلك { جمعاً } فأقمناهم دفعة واحدة كلمح البصر ، وحشرناهم إلى الموقف للحساب ثم العقاب أو الثواب { وعرضنا } أي أظهرنا { جهنم يومئذ } أي إذ جمعناهم لذلك { للكافرين عرضاً * } ظاهراً لهم كل ما فيها من الأهوال وهم لا يجدون عنها مصرفاً؛ ثم وصفهم بما أوجب سجنهم فيها وتجهمها لهم فقال : { الذين كانت } كوناً كأنه جبلة لهم { أعينهم } الوجهية والقلبية { في غطاء عن ذكري } بعدم النظر فيما جعلنا على الأرض من زينة دليلاً على الساعة بإفنائه إثر إحيائه وإعادته بعد إبدائه { وكانوا } بما جبلناهم عليه { لا يستطيعون } أي استطاعة عظيمة تسعدهم ، لضعف عقولهم ، وغرق استبصارهم في فضولهم { سمعاً * } لآياتي التي تسمع الصم وتبصر الكمه ، وهو أبلغ في التبكيت بالغباوة والتقريع بالبلادة من مجرد نفي البصر والسمع ، لأن ذلك لا ينفي الاستطاعة؛ ثم عطف على ما أفهمه ذلك قوله موبخاً لهم ومبكتاً : { أفحسب } أي أغطوا أعينهم عن آياتي وأصموا أسماعهم عن كلماتي ، وعبدوا عبادي فحسبوا لضعف عقولهم ، وإنما قال : { الذين كفروا } دلالة على الوصف الذي أوجب لهم ذلك { أن يتخذوا } أي ولو بذلوا الجهد { عبادي } من الأحياء كالملائكة وعزير والمسيح ، والأموات كالأصنام .

ولما كان كل شيء دونه سبحانه ، وكان لا يستغرق شيء من الأشياء جميع ما دون رتبته من المراتب ، أثبت الجار فقال : { من دوني أولياء } أي مبتدئين اتخاذهم من دون إذني ، والمفعول الثاني ل { حسب } محذوف تقديره : ينصرونهم ويدفعون عنهم ويجعلون بعضهم ولداً ولا أعذبهم . ولما كانت غاية اتخاذ الولي أن يفعل ما يفعل القريب من النصر والحماية من كل مؤذ ، جاز كون هذا ساداً مسد مفعولي { حسب } لأن معناه : أحسبوا اتخاذهم مانعهم مني؟ ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري : ليس الأمر كذلك ، بل أصلد زندهم ، وخاب جدهم ، وغاب سعدهم ، حسن جداً قوله مؤكداً لأجل إنكارهم : { إنا اعتدنا جهنم } التي تقدم أنا عرضناها لهم { للكافرين نزلاً * } نقدمها لهم أول قدومهم كما يعجل للضيف ، فلا يقدر أحد على منعها عنهم ، ولهم وراءها ما يحتقر بالنسبة إليه كما هو شأن ما بعد النزل بالنسبة إليه .

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

ولما تبين بذلك الذي لا مرية فيه أنهم خسروا خسارة لا ربح معها ، وخاب ما كانوا يؤملون ، أمره أن ينبههم على ذلك فقال : { قل هل ننبئكم } أي نخبركم أنا وكل عبد لله ليست عينه في غطاء عن الذكر ، ولا في سمعه عجز عن الوعي ، إخباراً عظيماً أيها التاركون من لا خالق ولا رازق لهم سواه ، والمقبلون على من ليس بيده شيء من خلق ولا رزق ولا غيره { بالأخسرين } ولما كانت أعمالهم مختلفة ، فمنهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد النجوم ، ومنهم من يعبد بعض الأنبياء ، ومنهم من يعبد الأوثان ، ومنهم من يكفر بغير ذلك ، جمع المميز فقال : { أعمالاً * } ثم وصفهم بضد ما يدعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال : { الذين ضل سعيهم } أي حاد عن القصد فبطل { في الحياة الدنيا } بالإعراض عمن لا ينفعهم ولا يضرهم إلا هو ، والإقبال على ما لا نفع فيه ولا ضر { وهم } أي والحال أنهم مع ظهور ذلك كالشمس { يحسبون } لضعف عقولهم { أنهم يحسنون صنعاً * } أي فعلاً هو في غاية الإحكام وهم في غاية الدربة به؛ وروى البخاري في التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن الأخسرين اليهود والنصارى ، قال : أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شرب - انتهى . قلت : وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني .
ولما كانوا ينكرون أنهم على ذلك ، لملازمتهم لكثير من محاسن الأعمال ، البعيدة عن الضلال ، بين لهم السبب في بطلان سعيهم بقوله : { أولئك } أي البعداء البغضاء { الذين كفروا } أي أوقعوا الستر والتغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر ، مستهينين { بأيات ربهم } من كلامه وأفعاله ، وبين سبب هذا الكفر بقوله : { ولقائه } أي فصاروا لا يخافون فلا يردهم شيء عن أهوائهم { فحبطت } أي سقطت وبطلت وفسدت بسبب جحدهم للدلائل { أعمالهم } لعدم بنائها على أساس الإيمان { فلا } أي فتسبب عن سقوطها أنا لا { نقيم لهم } ما لنا من الكبرياء والعظمة المانعين من اعتراض أحد علينا أو شفاعته بغير إذننا لدينا { يوم القيامة وزناً * } أي لا نعتبرهم لكونهم جهلوا أمرنا الذي لا شيء أظهر منه ، وآمنوا مكرنا ولا شيء أخطر منه .
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أن لهم جهنم أوضح من الشمس قال : { ذلك } أي الأمر العظيم الذي بيناه من وعيدهم { جزاؤهم } لكن لما كان حاكماً بضلالهم وغباوتهم ، بين الجزاء بقوله : { جهنم } وصرح بالسببية بقوله : { بما كفروا } أي وقعوا التغطية للدلائل { واتخذوا ءاياتي } التي هي مع إنارتها أجد الجد وأبعد شيء عن الهزل { ورسلي } المؤيدين بباهر أفعالي مع ما لهم من الشهامة والفضل { هزواً * } فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزء الذي هو أعظم احتقار .

ولما بين ما لأحد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم ، بين ما للآخر على تقدير الجواب لسؤال تقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم ، فقال : { إن الذين ءامنوا } أي باشروا الإيمان { وعملوا } تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } من الخصال { كانت لهم } لبناء أعمالهم على الأساس { جنات } أي بساتين { الفردوس } أي أعلى الجنة ، وأصله البستان الذي هو الجنة بالحقيقة لانخفاض ما دونه عنه ، وستر من يدخله بكثرة أشجاره { نزلاً * } كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً ، يعد لهم حين الدخول { خالدين فيها } بعد دخولهم { لا يبغون } أي يريدون أدنى إرادة { عنها حولاً * } أي تحولاً لأنه مزيد عليها ، دفعاً لما قد يتوهم من أن الأمر كما في الدنيا من أن كل أحد في أيّ نعيم كان يشتهي ما هو أعلى منه لأن طول الإقامة قد يورث السآمة ، بل هم في غاية الرضى بها ، لما فيها من أنواع الملاذ التي لا حصر لها ولا انقضاء ، لا يشتهي أحد منهم غير ما عنده سواء كان في الفردوس أو فيما دونه ، وهو تعريض بالكفرة في أنهم يصطرخون في النار { ربنا أخرجنا منها } [ المؤمنون : 107 ] وذلك عكس ما كان في الدنيا من ركون الكفار إليها ، ومحبتهم في طول البقاء فيها ، وعزوف المؤمنين عنها ، وشوقهم إلى ربهم بمفارقتها .
ولما تم الجواب عن أسئلتهم على أحسن الوجوه مخللاً بما تراه من الحجج البينة والنفائس الملزمة لهم بفصل النزاع ، وأتبع ذلك بقص الأمر الذي بإغفاله تجرؤوا على الكفر ، وهو أمر البعث إلى أن ختمه بما يقتضي أن معلوماته لا تحد ، لأن مقدوراته في تنعيم أهل الجنة لا آخر لها فلا تعد ، وكان اليهود قد اعترضوا على قوله في أولها { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } [ الإسراء : 85 ] بأنهم أوتوا التوراة ، وكان لكل ما سألوا عنه من الفصول الطويلة الذيول أمور تهول ، وكان ربما قال قائل : ما له لا يزيد ذلك شرحاً؟ قال تعالى آمراً بالجواب عن ذلك كله ، معلماً لهم بأنهم لا يمكنهم الوقوف على تمام شرح شيء من معلوماته ، وآخر استفصال شيء من مقدوراته ، قطعاً لهم عن السؤال ، وتقريباً إلى أفهامهم بضرب من المثال : { قل } أي يا أشرف الخلق لهم : { لو كان البحر } أي ماؤه على عظمته عندكم { مداداً } وهو اسم لما يمد به الدواة من الحبر { لكلمات } أي لكتب كلمات { ربي } أي المحسن إليّ في وصف ذكر وغيره مما تعنتموه في السؤال عما سألتم عنه أو غير ذلك { لنفد } أي فني مع الضعف فناء لا تدارك له { البحر } لأنه جسم متناه .

ولما كانت المخلوقات - لكونها ممكنة - ليس لها من ذاتها إلا العدم ، وكانت الكلمات من صفات الله ، وصفات الله واجبة الوجود ، فكان نفادها محالاً ، فكان نفاد الممكن من البحر وما يمده بالنسبة إليها مستغرقاً للأزمنة كلها ، جرد الظرف من حرف الجر فقال : { قبل أن تنفد } أي تفنى وتفرغ { كلمات ربي } لأنها لا تتناهى لأن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى ، وكل منها له شرح طويل ، وخطب جليل؛ ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال : { ولو جئنا } أي بما لنا من العظمة التي لا تكون لغيرنا { بمثله مدداً * } أي له يكتب منه لنفد أيضاً ، وهذا كله كناية عن عدم النفاد ، لأنه تعليق على محال عادة كقولهم : لا تزال على كذا ما بل بحر صوفة وما دجى الليل ، ونحو هذا ، ولعله عبر بجمع السلامة إشارة إلى أن قليلها بهذه الكثرة فكيف بما هو أكثر منه ، وذلك أمر لا يدخل تحت وصف ، وعبر بالقبل دون أن يقال « ولم تنفد » ونحوه ، لأن ذلك كاف في قطعهم عن الاستقصاء في السؤال ولأن التعبير بمثل ذلك ربما فتح باباً من التعنت وهو أن يجعلوا الواو للحال فيجعلوا النفاد مقيداً بذلك ، وأما سورة لقمان فاقتضى سياقها في تأسيس ما فيها على { الغني الحميد } [ لقمان : 26 ] ومقصودها أن يكون التعبير فيها بغير ما ههنا ، فما في كل سورة أبلغ بالنسبة إلى سياقه ، مع أنه ليس في إفصاح واحدة منهما ما يدل على نفاد الكلمات ولا عدمه ، وفي إفهام كل منهما بتدبر القرائن في السياق وغيره ما يقطع بعدم نفاذها ، ولا تخالف بين الآيتين وإن كان التعبير في هذه السورة أدخل في التشابه ، ويجاب عنه بما قالوا في مثل قول الشاعر « على لاحب لا يهتدى بمناره » من أن ما في حيز السلب لا يقتضي الوجود ، ولعل التعبير بمثل ذلك من الفتن المميزة بين من في قلبه مرض وبين الراسخ الذي يرد المتشابه إلى المحكم ، وهو ما دل عليه البرهان القاطع من أن الله تعالى لا نهاية لذاته ، ولا لشيء من صفاته ، بل هو الأول والآخر الباقي بلا زوال - والله أعلم .
ولما كانوا ربما قالوا : ما لك لا تحدثنا من هذه الكلمات بكل ما نسألك عنه حيثما سألناك؟ وكانوا قد استنكروا كون النبي بشراً ، وجوزوا كون الإله حجراً ، وغيوا إيمانهم به بأمور سألوه في الإتيان بها كما تقدم بعد أول مسائلهم ، وهي الروح آخر سبحان ، وكان قد ثبت بإجابتهم عن المسائل على هذا الوجه أنه رسول ، أمره سبحانه أن يجيبهم عن ذلك كله بما يرد عليهم غلطهم ، ويفضح شبههم ، إرشاداً لهم إلى أهم ما يعنيهم من الحرف الذي النزاع كله دائر عليه وهو التوحيد فقال : { قل إنما أنا } أي في الاستمداد بالقدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالمغيب { بشر مثلكم } أي لا أمر لي ولا قدرة إلا على ما يقدرني عليه ربي ، ولا استبعاد لرسالتي من الله فإن ذلك سنته فيمن قبلي { يوحى إليّ } أي من الله الذي خصني بالرسالة كما أوحى إلى الرسل قبلي ما لا غنى لأحد عن علمه واعتقاده { أنما إلهكم } وأشار إلى أن إلهيته بالإطلاق لا بالنظر إلى جعل جاعل ولا غير ذلك فقال : { إله واحد } أي لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها ، قادر على ما يريد ، لا منازع له ، لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا جهل ولا هوان بي عليه - هذا هو الذي يعني كلَ أحد علمه ، وأما ما سألتم عنه من أمر الروح والقصتين تعنتاً فأمر لو جهلتموه ما ضركم جهله ، وإن اتبعتموني علمتموه الآن وما دل عليه من أمر الساعة إيماناً بالغيب علم اليقين ، وعلمتموه بعد الموت بالمشاهدة عين اليقين ، وبالمباشرة حق اليقين ، وإن لم تتبعوني لم ينفعكم علمه { فمن } أي فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من { كان يرجوا } أي يؤمن بمجازاته له على أعماله في الآخرة برؤيته وغيرها ، وإنما قال : { لقاء ربه } تنبيهاً على أنه هو المحسن إلى كل أحد بالتفرد بخلقه ورزقه ، لا شريك له في شيء من ذلك على قياس ما نعلمه من أنه لا مالك إلا وهو قاهر لمملوكه على لقائه ، مصرف له في أوامره في صباحه ومسائه .

ولما كان الجزاء من جنس العمل ، كان الواجب على العبد الإخلاص في عمله ، كما كان عمل ربه في تربيته بالإيجاد وما بعده ، فقال : { فليعمل } وأكده للإعلام بأنه لا بد مع التصديق من الإقرار فقال : { عملاً } أي ولو كان قليلاً { صالحاً } وهو ما يأمره به من أصول الدين وفروعه من التوحيد وغيره من أعمال القلب والبدن والمال ليسلم من عذابه { ولا يشرك } أي وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء { بعبادة ربه أحداً * } فإذا عمل ذلك فاز فحاز علوم الدنيا والآخرة ، وقد انطبق آخر السورة على أولها بوصف كلمات الله ثم ما يوحى إليه ، وكل منهما أعم من الكتاب بالأقومية للدعاء إلى الحال الأسلم ، في الطريق الأقوم ، وهو التوحيد عن الشريك الأعم من الولد وغيره ، والإحسان في العمل ، مع البشارة لمن آمن ، والنذارة لمن أعرض عن الآيات والذكر ، فبان بذلك أن لله تعالى - بوحدانيته وتمام علمه وشمول قدرته صفات - الكمال ، فصح أنه المستحق لجميع الحمد - والله الموفق ، والحمد لله على إتمام سورة الكهف من كتاب نظم الدرر من تناسب الآي والسور .

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

ولما كانت هذه السورة تالية للسورة الواصفة للكتاب - الذي به نعمة الإبقاء الأول - بالاستقامة البالغة ، افتتحها بالأحرف المقطعة ، كما افتتح السورة التي تلي أم الكتاب ، الداعيةَ إلى الصراط المستقيم ، الواصفةَ الكتابَ بالهدى الضامن للاستقامة ، والتي تلي واصفته ، والتي تلي الأنعام المشيرة إلى نعمة الإيجاد الأول ، فقال : { كهيعص * } وهي خمسة أحرف على عددها مع تلك السور ، وهي جامعة النعم ، وواصفة الكتاب ، وذات النعمة الأولى ، وذات النعمة الثانية ، كما افتتحت الأعراف التالية لذات النعمة الأولى بأربعة على عددها مع قبلها من الأم الجامعة والواصفة وذات النعمة الأولى ، وكما افتتحت آل عمران التالية للواصفة بثلاثة على عددها مع الأم والواصفة { ذكر } أي هذا الذي أتلوه عليكم ذكر { رحمت ربك } أي المحسن إليك بالتأييد بكشف الغوامض وإظهار الخبء { عبده } منصوب برحمة ، لأنها مصدر بني على التاء ، لا أنها دالة على الوحدة { زكريا * } أي ابن ماثان ، جزاء له على توحيده وعمله الصالح الذي حمله عليه الرجاء للقاء ربه ، والرحمة منه سبحانه المعونة والإجابة والإيصال إلى المراد ونحو ذلك من ثمرات الرحمة المتصف بها العباد { إذ نادى } ظرف الرحمة { ربه } .
ولما قدم تشريفه بالذكر والرحمة والاختصاص بالإضافة إليه فدل ذلك على كمال القرب ، قال : { نداء خفياً * } أي كما يفعل المحب القريب مع حبيبه المقبل عليه في قصد خطاب السر الجامع بين شرف المناجاة ولذاذة الانفراد بالخلوة ، فأطلع سبحانه عليه لأنه يعلم السر وأخفى ، فكأنه قيل : كما ذلك الندا؟ فقيل : { قال رب } بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب { إني وهن } أي ضعف جداً { العظم مني } أي هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني ، وهو أصل بنائه ، فكيف بغيره! ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها { واشتعل الرأس } أي شعره مني { شيباً ولم أكن } فيما مضى قط مع صغر السن { بدعائك } أي بدعائي إياك { رب شقياً * } فأجرِني في هذه المرة أيضاً على عوائد فضلك ، فإن المحسن يربي أول إحسانه بآخره وإن كان ما ادعوا به في غاية البعد في العادة ، لكنك فعلت مع أبي إبراهيم عليه السلام مثله ، فهو دعاء شكر واستعطاف؛ ثم عطف على « إني وهن » قوله : { وإني خفت الموالي } أي فعل الأقارب أن يسيئوا الخلافة { من وراءي } أي في بعض الزمان الذي بعد موتي { وكانت امرأتي عاقراً } لا تلد أصلاً - بما دل عليه فعل الكون { فهب لي } أي فتسبب - عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة ، وخوفي من سوء خلافة أقاربي ، ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي ، وبلوغي من الكبر حداً لاحراك بي معه - إني أقول لك يا قادراً على كل شيء : هب لي { من لدنك } أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك ، لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات ، لا من جهة سبب أعرفه ، فإن أسباب ذلك عندي معدومة .

وقد تقدم في آل عمران لذلك مزيد بيان { ولياً * } أي من صلبي بدلالة { ذرية } في السورة الأخرى { يرثني } في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوة والعمل { ويرث } زيادة على ذلك { من ءال يعقوب } جدنا مما خصصتهم به من المنح ، وفضلتهم به من النعم ، من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم ، وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليهما الصلاة والسلام { ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب } [ يوسف : 6 ] ولأن إسرائيل صار علماً على الأسباط كلهم ، وكانت قد غلبت عليهم الأحداث؛ وقد استشكل القاضي العضد في « الفوائد الغياثية » كونَ { يرث } على قراءة الرفع صفة بأنه يلزم عليه عدم إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام لأن يحيى عليه السلام قتل في حياته ، ولا يكون وارثاً إلا إذا تخلف بعده ، وقد قال تعالى { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى } [ الأنبياء : 90 ] قال : فتجعل استئنافية ، ولا يلزم حينئذ إلا خلف ظنه عليه السلام - هكذا نقل لي عنه ، وأنا أجلّه عن ذلك ، لأنه لا يلزم تخلف دعائه ولا يتجرأ على عليّ مقامه بإخلاف ظنه ، لأن الإخبار عن قتله قبله إن كان عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح السند ، كان تسمية العلم الذي أخذه عنه في حياته إرثاً مجازاً مرسلاً باعتبار ما يؤول إليه في الجملة ، لا سيما مع جواز أن يكون يحيى عليه السلام علَّمه لمن عاش بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العلم إرثاً على وجه الاستعارة التبعية بقوله عليه الصلاة والسلام « العلماء ورثة الأنبياء » ولا شك أن من ضرورة تعلم العلم حياة المأخوذ عنه ، ولم يرد منع من تسميته إرثاً حال الأخذ ، هذا إذا صح أن يحيى عليه السلام مات قبل زكريا عليه السلام ، وحينئذ يؤول { من وراءي } بما غاب عنه ، أي عجزت عن تتبع أفعال الموالي بنفسي في حال الكبر ، وخفت سوء فعلهم إذا خرجوا من عندي وغابوا عني ، فهب لي ولداً يكون متصفاً بصفاتي ، فكان ما سأله ، وإن لم يصح موته قبله بالطريق المذكور لم يصح أصلاً ، وينتفي الاعتراض رأساً ، فإن التواريخ القديمة إنما هي عن اليهود فهي لا شيء ، مع أن البغوي نقل في أول تفسير سورة بني إسرائيل ما يقتضي موت زكريا قبل يحيى عليهما الصلاة والسلام ، فإنه قال : آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام فمات زكريا عليه السلام ، وقيل : قتل ، فلما رفع الله عيسى عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم وقتلوا يحيى ابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام ، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى بيوزردان صاحب الفيل فقال : إني كنت قد حلفت بإلهي : لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد أحداً أقتله ، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم ، وأن بيوزردان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم ، فوجد فيها دماً يغلي فقال : يا بني إسرائيل! ما شأن هذا الدم يغلي؟ قالوا : هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا ، فقال : ما صدقتموني ، قالوا : لو كان تأول زماننا لتقبل منا ، ولكن قد انقطع منا الملك والوحي فلذلك لم يقبل منا ، فذبح منهم بيوزردان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم فلم يهدأ ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم يهدأ ، فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد ، فلما رأى بيوزردان أن الدم لا يهدأ قال لهم : يا بني إسرائيل! ويلكم! أصدقوني واصبروا على أمر ربكم ، فقد طال ما ملكتم الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته ، فلما رأوا الجد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا : إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله عز وجل ، فلو أطعناه فيها لكان أرشد منا ، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه ، فقال لهم بيوزردان : ما كان اسمه؟ قالوا : يحيى بن زكريا ، قال : الآن صدقتموني ، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم ، فلما رأى بيوزردان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله : أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوش ، وخلا في بني إسرائيل ، ثم قال : يا يحيى بن زكريا! قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحداً ، فهدأ الدم بإذن الله تعالى ، ورفع بيوزردان عنهم القتل وقال : آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره ، وقال لبني إسرائيل : إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، وإني لست أستطيع أن أعصيه ، قالوا له : افعل ما أمرت به ، فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم ، فذبحها حتى سال الدم في العسكر ، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم ، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل ، فلما بلغ الدم عسكره أرسل بيوزردان أن ارفع عنهم القتل ، ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد .

فهذا كما ترى ظاهر في أن يحيى تخلف بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام وكذا ما تقدم في آل عمران عن الإنجيل في قصة ولادته .
ولما ختم دعاءه بقوله : { واجعله رب } أي أيها المحسن إلي { رضياً * } أي بعين الرضا منك دائماً حتى يلقاك على ذلك ، قيل في جواب من كأنه قال : ماذا قال له ربه الذي أحسن الظن به؟ : { يا زكريا إنا } أي على ما لنا من العظمة { نبشرك } إجابة لدعائك؛ وقراءة الجماعة غير حمزة بالتشديد أوفق من قراءة حمزة للتأكيد الذي جيء به ، لأن المبشر به لغرابته جدير بالإنكار { بغلام اسمه يحيى } ثم وصفه بما عرف به أن مما شرفه به أن ادخر له هذا الاسم فقال : { لم نجعل له } فيما مضى ، ولعله أتى بالجار الدال على التبعيض تخصيصاً لزمان بني إسرائيل قومه فقال : { من قبل سمياً * } فكأنه قيل : ما قال في جواب هذه البشارة العظمى؟ فقيل : { قال } عالماً بصدقها طالباً لتأكيدها ، والتلذيذ بترديدها ، وهل ذلك من امرأته أو غيرها؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل { رب } أي المحسن إليّ بإجابة دعائي دائماً { أنّى } أي من أين وكيف وعلى أيّ حال { يكون لي غلام } يولد لي على غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة { وكانت } أي والحال أنه كانت { امرأتي } كانت شابة { عاقراً } غير قابلة للولد عادة وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيبن فكيف بها وقد أسنت! { وقد بلغت } أنا { من الكبر عتياً } أي أمراً في اليبس مجاوزاً للحد هو غاية في الكبر ما بعدها غاية ، وقد حصل من ذلك من الضعف ويبس الأعضاء وقحلها ما يمنع في العادة من حصول الولد مطلقاً لاختلال السببين معاً فضلاً عن أن يصلح لأن يعبر عنه بغلام؛ قال البغوي في آل عمران : وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة؛ وقال الرازي في اللوامع : إن هذا على الاستخبار أيعطيه الله الولد بتلك الحال أم يقلبه شاباً؟ ولله تعالى في كل صنع تدبيران : أحدهما المعروف الذي يسلكه الناس من توجيه الأسباب إلى المسببات ، والآخر يتعلق بالقدرة المحضة ، ولا يعرفه إلا أهل الاستبصار - انتهى . { قال كذلك } أي الأمر؛ ثم علله بقوله : { قال ربك } أي الذي عودك بالإحسان ، وذكر مقول القول فقال : { هو } أي خلق يحيى منكما على هذه الحالة { عليَّ } أي خاصة { هين } لا فرق عندي بينه وبين غيره { وقد خلقتك } أي قدرتك وصورتك وأوجدتك .
ولما كان القصد تشبيه حاله بالإتيان منه بولد على ضعف السبب بتقديره من النطفة على ضعف سبيتها لكونها تارة تثمر وتارة لا ، وهو الأغلب ، أتى بالجار إشارة إلى ذلك فقال : { من قبل } أي قبل هذا الزمان { ولم } أي والحال أنك لم : ولما كان عليه السلام شديد التشوف لما يلقى عليه من المعنى في هذه البشرى ، أوجز له حتى بحذف النون وليثبت أنه ليس له من ذاته إلا العدم المحض ، وينفي أن يكون له من ذاته وجود ولو على أقل درجات الكون لاقتضاء حاله في هذا التعجب لتذكيره في ذلك فقال : { تك شيئاً * } أي يعتد به ، ثم أبرزتك على ما أنت عليه حين أردت ، فتحقق بهذا أنه من امرأته هذه العاقر في حال كونهما شيخين ، ثم قيل جواباً لمن كأنه قال : ما قال بعد علمه بذلك؟ : { قال رب } أي أيها المحسن إليّ بالتقريب! { اجعل لي } على ذلك { ءاية } أي علامة تدلني على وقوعه { قال } أي الله : { ءايتك } على وقوع ذلك { ألا تلكم الناس } أي لا تقدر على كلامهم .

ولما بدئت السورة بالرحمة ، وكان الليل محل تنزلها « ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول » - الحديث ، قال : { ثلاث ليال } أي بأيامها - كما ذلك عليه التعبير بالأيام في آل عمران حال كونك { سوياً * } من غير خرس ولا مرض ولا حبسة عن مطلق الكلام ، بل تناجي ربك فيها بتسبيحه وتحميده وتلاوة كتابه وكل ما أردت من مثل ذلك وكذا من عدا الناس من الملائكة وغيرهم من صالح عباد الله ، وجعلت الآية الدالة عليه سكوتاً عن غير ذكر الله دلالة على إخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله دون غيره { فخرج } عقب إعلام الله له بهذا { على قومه } أي عالياً على العلية منهم { من المحراب } الذي كان فيه وهو صدر الهيكل وأشرف ما فيه ، وهو منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس { فأوحى إليهم } أي أشار بشفتيه من غير نطق : قال الإمام أبو الحسن الرماني في آل عمران : والرمز : الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين ، والأول أغلب؛ قال : وأصله الحركة . وسبقه إلى ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري فقال : وأما الرمز فإن الأغلب من معانيه عند العرب الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحياناً ، وذلك غير كثير فيهم ، وقد يقال للخفي من الكلام الذي مثل الهمس بخفض الصوت الرمز . ثم نقل أن المراد به هنا تحرك الشفتين عن مجاهد - انتهى . وهو ظاهر أيضاً في الوحي لأنه مطلق الإشارة والكناية والكلام الخفي ، فيجوز أن يكون وحيه بكل منهما ، لا يقدر على غير ذلك في مخاطبته للناس ، فإذا توجه إلى مناجاة ربه سبحانه انطلق أحسن انطلاق { أن سبحوا } أي أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها { بكرة وعشياً * } فحملت امرأته كما قلنا فولدت ولداً فسماه يحيى كما بشرناه به فكبر حتى ميز فقلنا : { يا يحيى خذ الكتاب } أي التوراة { بقوة } .

ولما كانت النبوة لا يستضلع بأمرها ويقوى على حملها إلا عند استحكام العقل ببلوغ الأشد ، وكان التطويق على أمرها قبل ذلك من العظمة بمكان ، دل عليه النون في قوله : { وءاتيناه } بما لنا من العظمة { الحكم } أي النبوة والفهم للتوراة { صبياً * } لغلبة الروح عليه ، وهذه الخارقة لم تقتض الحكمة أن تكون لنبينا صلى الله عليه وسلم لأن قومه لا عهد لهم بالنبوة ، فكانوا إذا كذبوا لا يكون لهم من أنفسهم ما يلزمهم من التناقض ، فعُوّض أعظم من ذلك بغرائز الصدق التي أوجبت له تسميته بالأمين ليكونوا بذلك مكذبين لأنفسهم في تكذيبهم له . وبمزيد إبقاء معجزته القرآنيه بعده تدعو الناس إلى دينه دعاء لا مرد له { و } آتيناه { حناناً } أي رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة { من لدنا } من مستقرب المستغرب من عظمتنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة { وزكاة } أي طهارة في نيته تفيض على أفعاله وأقواله { وكان } أي جبلة وطبعاً { تقياً * } حوافاً لله تعالى { وبراً } أي واسع الأخلاق محسناً { بوالديه ولم يكن } جبلة وطبعاً { جباراً } عليهما ولا على غيرهما؛ ثم قيده بقوله : { عصياً * } إشارة إلى أن يفعل فعل الجبارين من الغلظة والقتل والبطش بمن يستحق ذلك كما قال تعالى لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم { جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم } [ التحريم : 9 ] فكان مطيعاً لله قائماً بحقوقه وحقوق عباده على ما ينبغي ، فهنيئاً له ما أعطاه من هذه الخلال القاضية بالكمال ، والتعبير بصيغة المبالغة يفهم أن المنفي الجبل عليها ، وما دونها يذهبه الله بغسل القلب أو غيره { وسلام } أي أيّ سلام { عليه } منا { يوم ولد } من كل سوء يلحق بالولادة وما بعدها في شيء من أمر الدين { ويوم يموت } من كرب الموت وما بعده ، ولعله نكر السلام لأنه قتل فما سلم بدنه بخلاف ما يأتي في عيسى عليه الصلاة والسلام { ويوم يبعث } من كل ما يخاف بعد ذلك { حياً * } حياة هي الحياة للانتفاع بها ، إجابة لدعوة أبيه في أن يكون رضياً ، وخص هذه الأوقات لأن من سلم فيها سلم في غيرها لأنها أصعب منه؛ أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كل بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب وقد يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ، وأهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : ذكره مثل هذه القذاة »

قال الهيثمي : وفيه حجاج ابن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو زرعة وغيره ، وبقية رجاله ثقات ، وأخرجه أيضاً عن عبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم ، لكن ليس فيه ذكر الذكر ، ولفظ ابن عباس رضي الله عنهما : كنت في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء - فذكره حتى قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما ينبغي أن يكون أحد خيراً من يحيى بن زكريا ، قلنا : يا رسول الله! وكيف ذاك؟ قال : ألم تسمعوا الله كيف نعته في القرآن؟ { يا يحيى خذ الكتاب } - إلى قوله : { حياً } ، مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعمل سيئة ولم يهم بهم » ورواه أيضاً البزار وفيه على بن زيد بن جدعان ضعفه الجمهور - وقد وثق ، وبقية رجاله ثقات . وأشار سبحانه بالتنقل في هذه الأطوار إلى موضع الرد على من ادعى لله ولداً من حيث إن ذلك قاضٍ على الولد نفسه وعلى أبيه بالحاجة ، وذلك مانع لكل من الولد والوالد من الصلاحية لمرتبة الإلهية المنزهة عن الحاجة ، وقد مضى في آل عمران ما تجب مراجعته .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

ولما كان حاصل القصة أنه ولد أخرجه الله تعالى عن سبب هو في ضعفه قريب من العدم ، أما من جهته فبلوغه إلى حد من السن وحال في المزاج لا يقبل حركة الجماع عادة ، أما من جهة زوجته فلزيادتها مع يأسها ببلوغها إلى نحو ذلك السن بكونها عاقراً لم تقبل حبلاً قط ، أتبعه بقصة هي أغرب من قصته بكونها ليس فيها إلا سبب واحد وهو المرأة ، وعدم فيها سبب الذكورية أصلاً ، إشارة إلى أنه تعالى يخلق ما يشاء تارة بسبب قوي ، وتارة بسبب ضعيف ، وتارة بلا سبب ، ومن كان كذلك كان مستغنياً عن الولد؛ ولما كان على اليهود الآمرين بالسؤال تعنتاً عن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين أن ينصحوا العرب بالإعلام بأن دينهم باطل لشركهم ، فلم يفعلوا فكانوا جديرين بالتبكيت ، وكانت قصة زكريا أعظم في تبكيتهم بمباشرتهم لقتله وقتل ولده يحيى عليهما السلام ، قدمها في الذكر ، وتوطئة لأمر عيسى عليه السلام كما مضى بيانه في آل عمران إلزاماً لهم بالاعتراف به ، وللنصارى بالاعتراف بأنه عبد ، كما اعترف كل منهما بأمر يحيى عليه السلام ، وذلك بما جمع بينهما من خرق العادة ، وكانت قصة يحيى أولى من قصة إسحاق عليهما السلام لما تقدم ، ولمشاهدة الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من الفريقين لأمره وأمر يحيى عليهم الصلاة والسلام لما لهما من الاتحاد في الزمن مع ما لهما من قرب النسب ، ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب ، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره : اذكر هذا لهم : { واذكر } - بلفظ الأمر { في الكتاب مريم } ابنة عمران خالة يحيى - كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة الأنصاري رضي الله عنهما في حديث الإسراء : « فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة » ثم أبدل من { مريم } بدل اشتمال قوله : { إذ } أي اذكر ما اتفق لها حين { انتبذت } أي كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت { من أهلها } حالة { مكاناً شرقياً * } عن مكانهم ، فكان انفرادها في جهة مطالع الأنوار إشارة إلى ما يأتيها من الروح الإلهي { فاتخذت } أي أخذت بقصد وتكلف ، ودل على قرب المكان بالإتيان بالجار فقال : { من دونهم } أي أدنى مكان في مكانهم لانفرادها للاغتسال أو غيره { حجاباً } يسترها { فأرسلنا } لأمر يدل على عظمتنا { إليها روحنا } جبرائيل عليه السلام ليعلمها بما يريد الله بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب ، لئلا يشتبه عليها الأمر ، ويتشعب بها الفكر ، فتقتل نفسها غماً { فتمثل لها } أي تشبح وهو روحاني بصورة الجسماني { بشراً سوياً * } في خلقه حسن الشكل لئلا تشتد نفرتها وروعها منه؛ ثم أخرج القصة مخرج الاستئناف فقال دالاً على حزمها وخلوص تعبدها لله والتجائها إليه وشهودها له بحيث لا تركن إلى سواه : { قالت } .

ولما كان على أنهى ما يكون من الجمال والخلال الصالحة والكمال ، فكان بحيث يستبعد غاية الاستبعاد أن يتعوذ منه أكدت فقالت : { إني أعوذ بالرحمن } ربي الذي رحمته عامة لجميع عباده في الدنيا والآخرة ، وله بنا خصوصية في إسباغ الرحمة وإتمام النعمة { منك } ولما تفرست فيه - بما أنار الله من بصيرتها وأصفى من سريرتها - التقوى ، ألهبته وهيجته للعمل بمضمون هذه الاستعاذة بقولها : { إن كنت تقياً * قال } جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه : إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً ، مؤكداً لأجل استعاذتها ، { إنما أنا رسول ربك } أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً ، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية ، وعبر باسم الرب المقتضي للإحسان لطفاً بها ، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة ، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده { لأهب } بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى { لك } وقدم المتعلق تشويقاً إلى المفعول ليكون أوقع في النفس؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله : { غلاماً } أي ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية { زكياً * } طاهراً من كل ما يدنس البشر : نامياً على الخير والبركة { قالت } مريم : { أنّى } أي من أين وكيف { يكون لي غلام } ألده { ولم يمسسني بشر } بنكاح أصلاً حلال ولا غيره بشبهة ولا غيرها .
ولما هالها هذا الأمر ، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته ، فضاق عليها المقام ، فأوجزت حتى بحذف النون من « كان » ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت { ولم أك } . ولما كان المولود سر من يلده ، وكان التعبير عنه بما هو من مادة الغلمة دالاً على غاية الكمال في الرجولية المقتضي لغاية القوة في أمر النكاح نفت أن يكون فيها شيء من ذلك فقالت : { بغياً * } أي ليكون دأبي الفجور ، ولم يأت « بغية » لغلبة إيقاعه على النساء ، فكان مثل حائض وعاقر في عدم الإلباس ولأن بغية ، لا يقال إلا للمتلبسة به { قال } أي جبريل عليه السلام { كذلك } القول الذي قلت لك يكون .
ولما كان لسان الحال قائلاً : كيف يكون بغير سبب؟ أجاب بقوله : { قال } ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن ، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال : { ربك هو } أي المذكور وهو أيجاد الولد على هذه الهيئة { عليّ } أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري { هين } أي خصصناك به ليكون شرفاً به لك .

ولما كان ذلك أعظم الخوارق ، نبه عليه بالنون في قوله ، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق : { ولنجعله } بما لنا من العظمة { ءاية للناس } أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام ، وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر ، فإنهه أوجده من أنثى بلا ذكر ، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى ، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً { ورحمة منا } لمن آمن به في أول زمانه ، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه ، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال { وكان } ذلك كله { أمراً مقضياً * } أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً ، ونبه على سرعة تسبيب الحمل عن هذا القول وإن كان التقدير بما أرشد إليه في غير هذه السورة : فنفخ في درعها فوصل النفخ إلى جوفها { فحملته } وعقب بالحمل قوله : { فانتبذت به } أي فاعتزلت - وهو في بطنها - حالة { مكاناً قصياً * } أي بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي ، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله : { فأجاءها } أي فأتى بها وألجأها { المخاض } وهو تحرك الولد في بطنها للولادة { إلى جذع النخلة } وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان ، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها ، فكانت كالعلم لما فيها من العجب ، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد ، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها ، لأنها لا تحمل إلا بإلقاح من ذكور النخل ، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء لإتيانها بولد من غير والد ، فكيف إذا كان ذلك في غير وقته! فكيف إذا كانت يابسة! مع ما لها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها ، وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك .
ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً ، كان كأنه قيل : يا ليت شعري! ما كان حالها؟ فقيل : { قالت } لما حصل عندها من خوف العار : { ياليتني مت } ولما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار : { قبل هذا } أي الأمر العظيم { وكنت نسياً } أي شيئاً من شأنه أن ينسى { منسياً * } أي متروكاً بالفعل لا يخطر على بال ، فولدته { فناداها من تحتها } وهو عيسى عليه السلام { ألا تحزني } قال الرازي في اللوامع : والأصح أن مدة حملها له وولادته ساعة لأنه كان مبدعاً ، ولم يكن من نطفة تدور في أدوار الخلقة - انتهى . ونقله ابن كثير وقال : غريب عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ويؤيده أنه لم ينقل في كتابنا ولا عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم أنكروا عليها زمن الحمل ، ولو علموا به لأنكروه ولو أنكروه لنقل كما نقل إنكار الولادة .

ولما أنكروا الولادة فكأنها قالت : لم لا أحزن؟ وتوقعت ما يعلل به؟ قال : { قد جعل ربك } أي المحسن إليك { تحتك } في هذه الأرض التي لا ماء جارياً بها { سرياً * } جدولاً من الماء جليلاً آية لك تطيب نفسك { وهزي إليك } أي أوقعي الهز وهو جذب بتحريك .
ولما كان المقصود التهويل لصرف فكرها عما دهمها من الهم جعله قاصراً فكأنها قالت : ما أهز؟ إذ لم يكن في الجذع ما يتوقع نفعه بهزه ، فقال مصرحاً بالمهزوز : { بجذع النخلة } التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها فكأنها قالت : ولم ذاك؛ فقال : { تساقط عليك } من أعلاها { رطباً جنياً * } طرياً آية أخرى عظيمة تطيب النفس وتذهب بالحزن ، وتدل على البراءة ، والتعبير بصيغة التفاعل في قراءة الجماعة وحمزة للدلالة على أن التمر يسقط منها ، ومن حقه أن يكون منتفياً لأنها غير متأهلة لذلك ، فهو ظاهر في أنه على وجه خارق للعادة ، وقراءة الجماعة بالإدغام تشير مع ذلك إلى أنه مع شدته يكاد أن يخفي كونه منها ليبسها وعدم إقنائها ، وقراءة حمزة بالفتح والتخفيف تشير إلى سهولة تساقطه وكثرته ، وقراءة حفص عن عاصم بالضم وكسر القاف من فاعل ، تدل على الكثرة وأنه ظاهر في كونه من فعلها .

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

ولما كان من المعلوم أنها هزت فتساقط الرطب ، سبب عنه قوله : { فكلي } أي فتسبب عن الإنعام عليك بالماء والرطب أن يقال لك تمكيناً من كل منهما كلي من الرطب { واشربي } من ماء السرى { وقري } أي استقري { عيناً } بالنوم ، فإن المهموم لا ينام ، والعين لا تستقر ما دامت يقظى ، وعن الأصمعي أن المعنى : ولتبرد دمعتك ، لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة ، واشتقاق « قري » من القرور ، وهو الماء البارد - انتهى .
وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : وحكى الفراء أن قريشاً ومن حولهم يقولون : قررت به عيناً - أي بكسر العين - أقر ، وأن أسداً وقيساً وتميماً يقولون : قررت به عيناً - أي بالفتح - أقر ، قال - يعني الفراء : فمن قال : قررت - أي بالكسر - قراً ، وقرى عيناً - أي بالفتح ، وهي القراءة المعروفة ، ومن قال : قررت ، - أي بالفتح قراً وقري عيناً - بكسر القاف أي وهي الشاذة ، قال - أي القزاز : هي لغة كل من لقيت من أهل نجد ، والمصدر قرة وقرور .
وسيأتي في القصص ما ينفع هنا ، وهو على كل حال كناية عن طيب النفس وتأهلها لأن تنام بالكفاية في الدنيا بطعام البدن وغذاء الروح بكونه آية باهرة ، والآخرة بالكرامة وذلك على أنفع الوجوه ، قيل : ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ثم سبب عن ذلك قوله مؤكداً إيذاناً بأن أكثر رؤيتها في تلك الأوقات الملائكة عليهم السلام { فإما ترين } أي يا مريم { من البشر أحداً } لا تشكين أنه من البشر ينكر عليك { فقولي } لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه : { إني نذرت للرحمن } أي الذي عمت رحمته فأدخلني فيها على ضعفي وخصني بما رأيت من الخوارق { صوماً } أي صمتاً ينجي من كل وصمة وإمساكاً عن الكلام { فلن } أي فتسبب عن النذر أني لن { أكلم اليوم إنسياً * } فإن كلامي يقبل الرد والمجادلة ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع ، وأما أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر ، قالوا : ومن أذل الناس سفيهاً لم يجد مسافهاً ، ومن الدلالة عليه بالصمت عن كلام الناس مع ما تقدم الإشارة إلى أنه ردع مجرد { فأتت } أي فلما سمعت هذا الكلام اشتد قلبها ، وزال حزنها ، وأتت { به } أي بعيسى { قومها } وإن كان فيهم قوة المحاولة لكل ما يريدونه إتيان البريء الموقن بأن الله معه { تحمله } غير مبالية بأحد ولا مستخفية فكأنه قيل : فما قالوا لها؟ فقيل : { قالوا يا مريم } ما هذا؟ مؤكدين لأن حالها في إتيانها يقتضي إنكار كلامهم { لقد جئت } بما نراه { شيئاً فرياً * } قطيعاً منكراً { ياأخت هارون } في زهده وورعه وعفته وهو صالح كان في زمانها أو أخو موسى عليه السلام { ما كان أبوك } أي عمران ساعة من الدهر { امرأ سوء } لنقول : نزعك عرق منه { وما كانت أمك } في وقت من الأوقات { بغياً * } أي ذات بغي أي عمد لتتأسى بها { فأشارت } امتثالاً لما أمرت به { إليه } أي عيسى ليكلموه فيجيب عنها { قالوا كيف نكلم } يا مريم { من كان في المهد } أي قبيل إشارتك { صبياً * } لم يبلغ سن هذا الكلام ، الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير ب « كان » يدل على أنه حين الإشارة إليه لم يحوجهم إلى أن يكلموه ، بل حين سمع المحاورة وتمت الإشارة بدا منه قوله خارق لعادة الرضعاء والصبيان ، ويمكن أن تكون تامة مشيرة إلى تمكنه في حال ما دون سن الكلام ، ونصب { صبياً } على الحال ، فلما كانت هذه العبارة مؤذنة بذلك استأنف قوله : { قال } أي واصفاً نفسه بما ينافي أوصاف الأخابث ، مؤكداً لإنكارهم أمره فقال : { إني عبد الله } أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره ، إشارة إلى الاعتقاد الصحيح فيه ، وأنه لا يستعبده شيطان ولا هوى { ءاتاني الكتاب } أي التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف على صغر سني { وجعلني } أي في علمه { نبياً * } ينبىء بما يريد في الوقت الذي يريد ، وقيل في ذلك : فانبئكم به { وجعلني مباركاً } بأنواع البركات { أين ما } في أي مكان { كنت } فيه .

ولما سبق علمه سبحانه أنه يدعي في عيسى الإلهية أمره أن يقول : { وأوصاني بالصلاة } له طهرة للنفس { والزكاة } طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري { ما دمت حياً } ليكون ذلك حجة على من أطراه لأنه لا شبهة في أن من يصلي لإله ليس بإله { وبراً } أي وجعلني براً ، أي واسع الخلق طاهره .
ولما كان السياق لبراءتها فبين الحق في وصفه ، صرح ببراءتها فقال : { بوالدتي } أي التي أكرمها الله بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر ، فلا والد لي غيرها { ولم يجعلني جباراً شقياً * } بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق ، إنما أفعل ذلك بمن يستحق ، وفيه إيماء إلى أن التجبر المذموم فعل أولاد الزنا ، وذلك أنه يستشعر ما عنده من النقص فيريد أن يجبره بتجبره ، ثم أخبر بما له من الله من الكرامة الدائمة مشيراً إلى أنه لا يضره عدو ، وإلى أنه عبد لا يصلح أن يكون إلهاً وإلى البعث فقال : { والسلام } أي جنسه { عليَّ } فلا يقدر أحد على ضرري { يوم ولدت } فلم يضرني الشيطان ومن يولد لا يكون إلهاً { ويوم أموت } كذلك أموت كامل البدن والدين ، لا يقدر أحد على انتقاصهما مني كائناً من كان { ويوم أبعث حياً * } يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام ، إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر ، وإذا كان جنس السلام عليه كان اللعن على أعدائه ، فهو بشارة لمن صدقة فإنه منه ، ونذارة لمن كذبه ، ولم يكن لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل هذه الخارقة لئلا يلتبس حاله بالكهان ، لأن قومه لا عهد لهم بالخوارق إلا عندهم ، وإذا تقرر ذلك في نفوسهم من الصغر صعب زواله ، ولم يكن هناك ما ينفيه حال الصغر ، فعوض عن ذلك إنطاق الرضعاء كمبارك اليمامة وغيره ، وإنطاق الحيوانات العجم ، بل والجمادات كالحجارة وذراع الشاة المسمومة والجذع اليابس وغيرها .

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)

ولما كان في ذلك من أقوال عيسى وأحواله - المنادية بالحاجة للتنقل في أطوار غيره من البشر والكرامة من الله - أعظم البيان عن بعده عما ادعى فيه النصارى من الإلهية واليهود من أنه لغير رشده ، نبه على ذلك مشيراً إليه بأداة البعد فقال مبتدئاً : { ذلك } أي الولد العظيم الشأن ، العلي الرتبة ، الذي هذه أحواله وأقواله البعيدة عن صفة الإله وصفة من ارتاب في أمره؛ ثم بين اسم الإشارة أو أخبر فقال : { عيسى ابن مريم } أي وحدها ليس لغيرها فيه بنوة أصلاً ، وهي من أولاد آدم ، فهو كذلك؛ ثم عظم هذا البيان تعظيماً آخر فقال : { قول } أي هو - أي نسبته إلى مريم فقط - قول { الحق } أي الذي يطابقه الواقع ، أو يكون القول عيسى نفسه كما أطلق عليه في غير هذا الموضع « كلمة » من تسمية المسبب باسم السبب وهو على هذه القراءة خبر بعد خبر أو بدل أو خبر مبتدأ محذوف ، وعلى قراءة عاصم وابن عامر بالنصب ، هو اغراء ، أي الزموا ذلك وهو نسبته إلى مريم عليهما السلام وحدها ثم عجب من ضلالهم فيه بقوله : { الذي فيه يمترون * } أي يشكون شكاً يتكلفونه ويجادلونه به مع أن أمره في غاية الوضوح ، ليس موضعاً للشك أصلاً؛ ثم دل على كونه حقاً في كونه ابن مريم لا غيرها بقوله رداً على من ضل : { ما كان } أي ما صح ولا تأتي ولا تصور في العقول ولا يصح ولا يتأتى لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة { لله } الغني عن كل شيء { إن يتخذ } ولما كان المقام يقتضي النفي العام ، أكده ب « من » فقال : { من ولد } .
ولما كان اتخاذ الولد من النقائص ، أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله : { سبحانه } أي تنزه عن كل نقص من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله : { إذا قضى أمراً } أي أمر كان { فإنما يقول له كن } أي يريده ويعلق قدرته به { فيكون * } من غير حاجة إلى شيء أصلاً ، فكيف ينسب إلى الاحتياج إلى الإحبال والإيلاد والتربية شيئاً فشيئاً كما أشار إليه الاتخاذ .
ولما كان لسان الحال ناطقاً عن عيسى عليه الصلاة والسلام بأن يقول : وقد قضاني الله فكنت كما أراد ، فأنا عبد الله ورسوله فاعتقدوا ذلك ولا تعتقدوا سواه من الأباطيل ، عطف عليه في قراءة الحرميين وأبي عمرو قوله : { وإن الله } أي الذي له الأمر كله { ربي وربكم } أي أحسن إلى كل منا بالخلق والرزق ، لا فرق بيننا في أصل ذلك { فاعبدوه } وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده ، وقراءة الباقين بالكسر على أنه مقول عيسى عليه السلام الماضي ، ويكون اعتراض ما تقدم من كلام الله بينهما للتأكيد والاهتمام .

ولما كان اشتراك الخلائق في عبادة الخالق بعمل القلب والجوارح علماً وعملاً أعدل الأشياء ، أشار إلى ذلك بقوله : { هذا } أي الذي أمرتكم به { صراط مستقيم * } لأنا بذلنا الحق لأهله بالاعتقاد الحق والعمل الصالح ، ولم يتفضل أحد منا فيه على صاحبه .
ولما كان المنهج القويم بحيث يكون سبباً للاجتماع عند كل صحيح المزاج ، عجب منهم في استثمار غير ذلك منه فقال : { فاختلف } أي فتسبب عن هذا السبب للاجتماع أنه اختلف { الأحزاب } الكثيرون . ولما كان الاختلاف لم يعم جميع المسائل التي في شرعهم قال : { من بينهم } أي بني إسرائيل المخاطبين بذلك خاصة لم تكن فيهم فرقة من غيرهم في هذه المقالة القويمة التي لا تنبغي لمن له أدنى مسكة أن يتوقف في قبولها ، فمنهم من أعلم أنها الحق فاتبعها ولم يحد عن صوابها ، ومنهم من أبعد في الضلال عنها بشبه لا شيء أو هي منها؛ روي عن قتادة أنه اجتمع من أحبار بني إسرائيل أربعة : يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل ، فقال يعقوب : عيسى هو الله نزل إلى الأرض فكذبه الثلاثة واتبعه اليعقوبية ، وقال نسطور : عيسى ابن الله فكذبه الاثنان واتبعه النسطورية ، وقال ملكاً : عيسى أحد ثلاثة : الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله ، فكذبه الرابع واتبعه طائفة ، وقال إسرائيل : عيسى عبد الله كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فاتبعه فريق من بني إسرائيل ، ثم اقتتل الأربعة فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع - ذكر معناه أبو حيان وابن كثير ورواه عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة { فويل } أي فتسبب عن اختلافهم أنا نقول : ويل { للذين كفروا } منهم ومن غيرهم { من مشهد يوم عظيم * } في جمعه لجميع الخلائق ، وما فيه من الأهوال والقوارع .

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)

ولما كان ذلك المشهد عظيم الجمع ، شديد الزحام مستوي الأرض ، بعيد الأرجاء ، كان حاله مقتضياً لئلا يطلعوا على غير ما يليهم من أهواله ، فقال في جواب من يقول : وما عسى أن يسمعوا أو يبصروا فيه ، معلماً بأن حالهم في شدة السمع والبصر جديرة بأن يعجب منها : { أسمع بهم وأبصر } أي ما أشد سمعهم وما أنفذ بصرهم! { يوم يأتوننا } سامعين لكل أهواله ، مبصرين لسائر أحواله ، فيطلعون بذلك على جميع ما أدى عمله في الدنيا إلى ضرهم في ذلك اليوم ، وجميع ما كان ينفعهم لو عملوه ، فيندمون حيث لا ينفعهم الندم ، ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ونحوه ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك ، بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم ، فيكونون بسلوك ذلك - وهم يعلمون ضرره عمياً وبكماً وصمّاً ، لأنهم لا ينتفعون بمداركهم كما كانوا في الدنيا كذلك ، لكنهم - هكذا كان الأصل ، وإنما أظهر فقال : { لكن الظالمون } تنبيهاً على الوصف الذي أحلهم ذلك المحل { اليوم في ضلال مبين * } لا يسمعون ولا يبصرون .
ولما كان هذا الذي تقدم إنذاراً بذلك المشهد ، كان التقدير : أنذر قومك ذلك المشهد وما يسمعونه فيه ويبصرونه { وأنذرهم يوم الحسرة } نفسه في ذلك المشهد العظيم ، يوم تزل القدم ، ولا ينفع الندم ، للمسيء على إساءته ، وللمحسن على عدم ازدياده من الإحسان .
ولما كان { يوم } مفعولاً ، لا ظرفاً ، أبدل منه ، أو علل الإنذار فقال : { إذ } أي حين ، أو لأنه ، وعبر عن المستقبل بالماضي ، إيذاناً بأنه أمر حتم لا بد منه فقال : { قضي الأمر } أي أمره وفرغ منه بأيسر شأن وأهون أمر ، وقطعنا أنه لا بد من كونه { وهم } حال من { أنذرهم } أي والحال أنهم الآن { في غفلة } عما قضينا أن يكون في ذلك الوقت من أمره ، لا شعور لهم بشيء منه ، بل يظنون أن الدهر هكذا حياة وموت بلا آخر { وهم لا يؤمنون * } بأنه لا بد من كونه؛ وفي الصحيح ما يدل على أن يوم الحسرة حين يذبح الموت فقد روى مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيقال : يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا ، فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم! هذا الموت ، ويقال : يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم! هذا الموت ، فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة! خلود فلا موت ، ويا أهل النار! خلود فلا موت ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي وراية : فذلك قوله { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر } » « الآية .

وأما الغفلة ففي الدنيا ، روى ابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم { إذ قضي الأمر وهم في غفلة } قال في الدنيا . قال المنذري : وهو في مسلم بمعناه في آخر حديث .
ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله ، وكان سبحانه قد قضى بموت الخلائق أجمعين ، وأنه يبقى وحده ، عبر عن ذلك بالإرث مقرراً به مضمون الكلام السابق ، فقال مؤكداً تكذيباً لقولهم : إن الدهر لا يزال هكذا ، حياة لقوم وموت لآخرين { إنا نحن } بعظمتنا التي اقتضت ذلك ولا بد ، وأفاد الأصبهاني أن تأكيد اسم { إن } أفاد أن الإسناد إليه سبحانه لا إلى أحد من جنده { نرث الأرض } فلا ندع بها عامراً من عاقل ولا غيره . ولما كان العاقل أقوى من غيره ، صرح به بعد دخوله فقال : { ومن عليها } أي من العقلاء ، بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم { وإلينا } لا إلى غيرنا من الدنيا وجبابرتها إلى غير ذلك { يرجعون * } معنى في الدنيا وحساً بعد الموت .
ولما ذم الضالين في أمر المسيح ، وعلق تهديدهم بوصف دخل فيه مشركو العرب ، فأنذرهم بصريح تكذيبهم بالبعث ، وغيرهم بأنهم لسوء أعمالهم كالمكذبين به ، وختم ذلك بأنه الوارث وأن الرجوع إليه ، ودخل في ذلك الإرث بغلبة أنبيائه وأتباعهم على أكثر أهل الأرض برجوع أهل الأديان الباطلة إليهم حتى يعم ذلك جميع أهل الأرض في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام ، وكان إبراهيم عليه السلام لكثرة أولاده من العرب والروم وأهل الكتابين وراثاً لأكثر الأرض ، وكان مثل زكريا في هبة الولد على كبر سنه وعقم زوجه ، أتبع ذلك قوله : { واذكر } أي يا محمد! { في الكتاب } أي الذي أنزل عليك وتبلغه للناس وتعلمهم أن هذه القصة من القرآن { إبراهيم } أعظم آبائكم الذي نهى أباه عن الشرك يا من يكفرون تقليداً للآباء! ثم علل تشريفه بذكره له على سبيل التأكيد المعنوي بالاعتراض بين البدل والمبدل منه ، واللفظي ب « إن » بقوله منبهاً على أن مخالفتهم له بالشرك والاستقسام بالأزلام ونحو ذلك تكذيب بأوصافه الحسنة : { إنه كان } أي جبلة وطبعاً { صديقاً } أي بليغ الصدق في نفسه في أقواله وأفعاله ، والتصديق بكل ما يأتيه مما هو أهل لأن يصدق لأنه مجبول على ذلك ولا يكون كذلك إلا وهو عامل به حق العمل فهو أبلغ من المخلص { نبياً * } أي يخبره الله بالأخبار العظيمة جداً التي يرتفع بها في الدارين وهو أعظم الأنبياء بعد محمد - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام كما رواه الحافظ أبو البزار بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه وأكده وكذا أكد فيما بعده من الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا مقرين بنبواتهم تنزيلاً لهم منزلة المنكر ، لجريهم في إنكارهم نبوة البشر على غير مقتضى عليهم .

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

ولما تكفل ما تقدم من هذه السورة بنفي الشريك بقيد كونه ولداً ، أتبع ذلك من قصته ما ينفي الشريك ليقتدي به أولاده في ذلك إذ كانوا يقلدون الآباء وليس في آبائهم مثله ، فقال مبدلاً من { إبراهيم } { إذ قال } أي اذكر وقت قوله { لأبيه } هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله : { يا أبت } .
ولما كان العاقل لا يفعل فعلاً إلا لثمره ، نبهه على عقم فعله بقوله : { لم تعبد } مريداً بالاستفهام المجاملة ، واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله : { ما لا يسمع ولا يبصر } أي ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً . ولما كان الأعمى الأصم قد ينفع بكلام أو غيره ، قال : { ولا يغني عنك شيئاً * } من الإغناء .
ولما نبهه على أن ما يعبده لا يستحق العبادة ، بل لا تجوز عبادته ، لنقصه مطلقاً ثم نقصه عن عابده ، ولن يكون المعبود دون العابد أصلاً ، وكان أقل ما يصل إليه بذلك مقام الحيرة ، نبهه على أنه أهل للهداية ، فقال مكرراً لوصفه المذكور بالعطف والود : { ياأبت } وأكد علماً منه أنه ينكر أن يكون ابنه أعرف منه بشيء فقال : { إني قد جاءني } من المعبود الحق { من العلم ما لم يأتك } منه { فاتبعني } أي فتسبب عن ذلك أني أقول لك وجوباً على النهي عن المنكر ونصيحة لما لك علي من الحق : اجتهد في تبعي { أهدك صراطاً سوياً * } لا عوج فيه ، كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أن أمامنا مهالك لا ينجو منها أحد ، وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك ، لأطعتني ، لو عصيتني فيه عدك كل أحد غاوياً .
ولما بين أنه لا نفع فيما يعبده ، ونبهه على الوصف المقتضي لوجوب الاقتداء به ، بين له ما في عبادة معبوده من الضر فقال : { يا أبت لا تعبد الشيطان } فإن الأصنام ليس لها دعوة أصلاً ، والله تعالى قد حرم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل ولي له ، فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان ، فكان هو المعبود بعبادتها في الحقيقة؛ ثم علل هذا النهي فقال : { إن الشيطان } البعيد من كل خير المحترق باللعنة ، وذكر الوصف الموجب للإملاء للعاصي فقال : { كان للرحمن } المنعم بجميع النعم القادر على سلبها ، ولم يقل : للجبار - لئلا يتوهم أنه ما أملى لعاصيه مع جبروته إلا للعجز عنه { عصياً * } بالقوة من حين خلق ، وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم فأبى فهو عدو لله وله ، والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء ، لأن صديق العدو عدو .

فلما بين له أنه بذلك عاص للمنعم ، خوفه من إزالته لنعمته فقال : { يا أبت إني أخاف } لمحبتي لك وغيرتي عليك { أن يمسك عذاب } أي عذاب كائن { من الرحمن } أي الذي هو ولي كل من يتولاه لعصيانك إياه { فتكون } أي فتسبب عن ذلك أن تكون { للشيطان } وحده وهو عدوك المعروف العداوة { ولياً * } فلا يكون لك نصرة أصلاً ، مع ما يوصف به من السخافة باتباع العدو الدني ، واجتناب الولي العلي .
فلما وصل إلى هذا الحد من البيان ، كان كأنه قيل : ماذا كان جوابه؟ فقيل : { قال } مقابلاً لذلك الأدب العظيم والحكمة البالغة الناشئة عن لطافة العلم بغاية الفظاظة الباعث كثافة الجهل ، منكراً عليه في جميع ما قال بإنكار ما بعثه عليه من تحقير آلهته : { أراغب } قدم الخبر لشدة عنايته والتعجيب من تلك الرغبة والإنكار لها ، إشارة إلى أنه لا يفعلها أحد؛ ثم صرح له بالمواجهة بالغلظة فقال : { أنت } وقال : { عن ءالهتي } بإضافتها إلى نفسه فقط ، إشارة إلى مبالغته في تعظيمها؛ والرغبة عن الشيء : تركه عمداً . ثم ناداه باسمه لا بلفظ النبوة المذكر بالشفقة والعطف زيادة في الإشارة إلى المقاطعة وتوابعها فقال : { يا إبراهيم } ثم استأنف قوله مقسماً : { لئن لم تنته } عما أنت عليه { لأرجمنك } أي لأقتلنك ، فإن ذلك جزاء المخالفة في الدين ، فاحذرني ولا تتعرض لذلك مني وانته { واهجرني } أي ابعد عني { ملياً } أي زماناً طويلاً لأجل ما صدر منك هذا الكلام ، وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى ، ويقاسي من قومه من العناء ، ومن عمه أبي لهب من الشدائد والبلايا - بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً { قال } أي إبراهيم عليه السلام مقابلاً لما كان من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العلم : { سلام عليك } أي أنت سالم مني ما لم أومر فيك بشيء؛ ثم استأنف قوله : { سأستغفر } بوعد لا خلف فيه { لك ربي } أي المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للاسلام الجابّ لما قبله ، لأن هذا كان قبل أن يعلم أنه عدو لله محتوم بشقاوته بدليل عدم جزمه بعذابه في قوله : { إني أخاف أن يمسك } .
ثم علل إقدامه على ذلك إشارة إلى أنه مقام خطر بما له من الإذلال لما له من مزيد القرب فقال : { إنه كان بي } أي في جميع أحوالي { حفيّاً * } أي مبالغاً في إكرامي مرة بعد مرة وكرة إثر كرة ، ثم عطف على عدوه بالإحسان وعده بما سأل فيه الهجرة فقال : { وأعتزلكم } أي جميعاً بترك بلادكم؛ وأشار إلى أن من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله : { وما تدعون } أي تعبدون { من دون الله } الذي له الكمال كله ، فمن أقبل عليه وحده أصاب ، ومن أقبل على غيره فقد خاب ولم يقيد الاعتزال بزمن ، بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم { وأدعوا } أي أعبد { ربي } وحده لاستحقاقه ذلك مني بتفرده بالإحسان إليّ ، ثم دعا لنفسه بما نبههم به على خيبة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه : { عسى ألاّ أكون } أي كوناً ثابتاً كأنه احترز بذلك عما لا بد للأولياء منه في الدنيا من البلاء { بدعاء ربي } المتفرد بالإحسان إلي { شقياً * } كما كنتم أنتم أشقياء بعبادة ما عبدتموه ، لأنه لا يجيب دعاءكم ولا ينفعكم ولا يضركم .

ولما رأى من أبيه ومعاشريه ما رأى ، عزم على نشر شقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد ، فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمة الله :
وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وحقق ما عزم عليه؛ ثم بين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال : { فلما اعتزلهم } أي بالهجرة إلى الأرض المقدسة { وما يعبدون } أي على الاستمرار { من دون الله } الجامع لجميع معاني العظمة التي لا ينبغي العبادة لغيره { وهبنا } أي على ما لنا من العظمة { له } كما هو الشأن في كل كن ترك شيئاً لله { إسحاق } ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سن اليأس وأخذه هو في السن إلى حد لا يولد لمثله { ويعقوب } ولداً لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأما إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإيحائه به تلك المشاعر العظام فأخروه بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه؛ ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته فقال : { وكلاًّ } أي منهما { جعلنا نبياً * } عالي المقدار ، ويخبر بالأخبار كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبياً { ووهبنا لهم } كلهم { من رحمتنا } أي شيئاً عظيماً جداً ، بالبركة في الأموال والأولاد وإجابة الدعاء ، واللطف في القضاء وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة { وجعلنا لهم } بما لنا من العظمة { لسان صدق عليّاً } أي ذكراً صادقاً رفيع القدر جداً يحمدون به ويثنى عليهم من جميع أهل الملل على كر الأعصار ، ومر الليل والنهار ، وعبر باللسان عما يوجد به ، وفي ذلك ترغيب في الهجرة ثانياً بعد ما رغب فيها بقصة أهل الكهف أولاً ، وأشار إليها بقوله في { سبحان } { وقل رب أدخلني مدخل صدق } [ الإسراء : 80 ] الآية .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)

ولما كان موسى أول من نوه الله بأسمائهم ، على لسانه في التوراة ، وأظهر محامدهم ، وشهر مناقبهم ، وتوارث ذلك أبناؤهم منه حتى شاع أمرهم وذاع ، وملأ الأسماع ، وطار في الأقطار ، حتى عم البراري والبحار ، عقب ذكرهم بذكره فقال : { واذكر في الكتاب } أي الذي لا كتاب مثله في الكمال { موسى } أي الذي أنقذ الله به بني إسرائيل من العبودية والذل ختى تمكنوا من آثار آبائهم ، وكان موافقاً لأبيه إبراهيم عليهم السلام في أن كلاً منهما أراد ملك زمانه الذي ادعى الربوبية قتله خوفاً على ملكه منه ، فأنجاه الله منه ، وأمر موسى أعجب لأنه سبحانه أنجاه من الذبح بالذباح ، ثم علل ذكره له بقوله : { إنه كان } أي كوناً عريقاً فيه { مخلصاً } لله تعالى في توحيده وجميع أعماله كما أشارت إليه قراءة الجمهور - من غير كلفة في شيء ، في ذلك لأن الله أخلصه له كما في قراءة الكوفيين بالفتح { وكان رسولاً } إلى بني إسرائيل والقبط { نبياً * } ينبئه الله بما يريد من وحيه لينبىء به المرسل إليهم ، فيرفع بذلك قدره ، فصار الإخبار بالنبوة عنه مرتين : إحداهما في ضمن { رسولاً } والأخرى صريحاً مع إفهام العلو باشتقاقه من النبوة ، وبكون النبأ لا يطلق عليه غالباً إلا على خبر عظيم ، فصار المراد : رسولاً عالياً مقداره ويخبر بالأخبار الجليلة ، وفيه دفع لما يتوهم من أنه رسول عن بعض رسله كما في أصحاب يس؛ وعطف على ذلك دليله الدال على ما صدرت به السورة من الرحمة ، فرحمه بتأنيس وحشته وتأهيل غربته بتلذيذه بالخطاب وإعطائه الكتاب فقال : { وناديناه } أي بما لنا من العظمة { من جانب الطور } أي الجانب { الأيمن } فأنبأناه هنالك - حين كان متوجهاً إلى مصر - بأنه رسولنا ، ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون ، فكان لبني إسرائيل به من العجائب في رحمتهم بإنزال الكتاب ، والإلذاذ بالخطاب ، من جوف السحاب ، وفي إماتتهم لما طلبوا الرؤية ، ثم إحيائهم وغير ذلك ما يجل عن الوصف على ما هو مذكور في التوراة ، وتقدم كثير منه في هذا الكتاب { وقربناه } بما لنا من العظمة تقريب تشريف حال كونه { نجيّاً * } نخبره من أمرنا بلا واسطة من النجوى وهي السر والكلام بين الاثنين كالسر ، والتشاور كما في يوسف ويأتي في المجادلة { ووهبنا له } أي هبة تليق بعظمتنا { من رحمتنا } له لما سألنا { أخاه } أي معاضدة أخيه وبينه بقوله : { هارون } حال كونه { نبياً * } أو هو بدل أي نبوته شددنا به أزره ، وقوينا به أمره ، وكان يخلفه من قومه عند ذهابه إلى ساحة المناجاة ، ومع ذلك فأشركوا بي صورة عجل ، فلا تعجب من غرورهم للعرب مع مباشرتهم لهذه العظائم .

ولما كان إسماعيل عليه الصلاة والسلام هو الذي ساعد أباه إبراهيم عليه السلام في بناء البيت الذي كان من الأفعال التي أبقى الله بها ذكره ، وشهر أمره وكان موافقاً لموسى عليه السلام في ظهور آية الماء الذي به حياة كل شيء وإن كانت آية موسى عليه السلام انقضت بانقضائه ، وآيته هو باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهي التي كانت سبب حياته وماؤها ببركته أفضل مياه الأرض ، وجعل سبحانه آية الماء التي أظهرها له سبب حفظه من الجن والإنس والوحش وسائر المفسدين ، إشارة إلى أنه سبحانه يحيي بولده محمد صلى الله عليه وسلم الذي غذاه بذلك الماء ورباه عند ذلك البيت إلى أن اصطفاه برسالته ، فحسدته اليهود وأمرت بالتعنت عليه - ما لم يحي بغيره ، ويجعله قطب الوجود كما خصه - من بين آل إبراهيم عليه السلام - بالبيت الذي هو كذلك قطب الوجود ، ويشفي به من داء الجهل ، ويغني به من مرير الفقر ، كما جعل ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم ، وكان صلى الله عليه وسلم آخر من شيد قدرهم ، وأعظم من أعلى ذكرهم ، عقب ذكره بذلك فقال : { واذكر في الكتاب } أباك الأقرب { إسماعيل } ابن إبراهيم عليهما السلام الذي هم معترفون بنبوته ، ومفتخرون برسالته وأبوته ، فلزم بذلك فساد تعليلهم إنكار نبوتك بأنك من البشر ، ثم علل ذكره والتنويه بقدره بقوله معلماً بصعوبة الوفاء بالتأكيد : { إنه كان } جبلة وطبعاً { صادق الوعد } في حق الله وغيره لمعونة الله له على ذلك ، بسبب أنه لا يعد وعداً إلا مقروناً بالاستثناء كما قال لأبيه حين أخبرهم بأمر ذبحه { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } فكن أبي كذلك ولا تقولن لشي إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ، وخصه بالمدح به - وإن كان الأنبياء كلهم كذلك - لقصة الذبح فلا يلزم منه تفضيله { وكان رسولاً نبياً } نبأه الله بأخباره ، وأرسله إلى قومه جرهم قاله الأصبهاني . وأتى أهل البراري بدين أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فأحياها الله بنور الإيمان الناشىء عن روح العلم ووصفه بالرسالة زيادة على وصف أخيه إسحاق عليهما السلام وتقدم في أمر موسى عليه السلام سر الجمع بين الوصفين؛ وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي - عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه « أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل عليه السلام » وفي رواية الترمذي « أن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل » { وكان يأمر أهله بالصلاة } التي هي طهرة البدن وقرة العين وخير العون على جميع المآرب { والزكاة } التي هي طهرة المال ، كما أوصى الله بذلك جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وتقدم في هذه السورة أنه سبحانه وتعالى أوصى بذلك عيسى عليه السلام { وكان عند ربه } لعبادته على حسب ما أقامته ربوبيته { مرضياً * } فاقتد أنت به فإنه من أجل آبائك ، لتجمع بين طهارة القول والبدن والمال ، فتنال رتبة الرضا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41