كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

فتكلم رئيس أصحاب الشراب بين يدي فرعون وقال : إني ذكرت يومي هذا ذنبي عند غضب فرعون على عبده ، فقذفني في محبس صاحب الشرطة ، فحبست أنا ورئيس الخبازين - وفي نسخة : الطباخين - فرأينا جميعاً رؤيا في ليلة واحدة ، رأى كل امرىء منا كتفسير رؤياه ، وكان معنا هناك في الحبس فتى عبراني عند صاحب الشرطة فقصصنا عليه ففسر أحلامنا ، وعبر لكل منا على قدر رؤياه ، وكل الذي فسر لنا كذلك أصابنا ، أما أنا فردني الملك إلى موضعي ، وأما ذلك فأمر بصلبه .
فأرسل فرعون فدعا يوسف عليه الصلاة والسلام ، فأحضروه من السجن ، فحلق شعره وغير ثيابه ، ودخل فوقف بين يدي فرعون ، فقال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام : إني رأيت رؤيا وليس لي من يفسرها ، وقد بلغني عنك أنك تسمع الرؤيا فتفسرها بأحسن تأويل! فأجاب يوسف عليه الصلاة والسلام فقال لفرعون : ألعلك تخال أني أجيب فرعون بسلام عن غير أمر الله تعالى .
فقال فرعون ليوسف : إني رأيت في الرؤيا كأني واقف على شاطىء النهر ، وكأن سبع بقرات طلعن من النهر حسنات المنظر سمينات اللحم ، يرعين في المرج ، وكأن سبع بقرات طلعن من النهر بعدهن سمجات قبيحات المنظر مهزولات اللحم جداً ، لم أر على هزالها في جميع أرض مصر ، فابتلعت البقرات المهزولات الضعيفات القبيحات أولئك السبع بقرات السمان ، فدخلن أجوافهن ، فلم يتبين دخولهن ، وكأن منظرهن قبيحاً كالذي كان من قبل ، فانتبهت فاضطجعت فرأيت أيضاً في الرؤيا كأن سبع سنبلات حسنات في قصبة واحدة ممتلئة سماناً حساناً ، وكأن سبع سنبلات مهزولات ضربهن ريح السموم نبتن خلفهن ، فابتلع السنبل المهزول الضعيف السبع سنبلات الممتلئات الحسان ، فقصصت ذلك على السحرة ، فلم أجد من يبين .
فقال يوسف عليه الصلاة والسلام لفرعون : الرؤيا يا فرعون واحدة ، أطلع الله فرعون على ما هو مزيع أن يفعله ، السبع بقرات الحسان والسبع سنبلات الحسان هي سبع سنين : خير ، الرؤيا واحدة ، والسبع بقرات الضعيفات المهزولات اللاتي صعدان بعدهن والسبع سنبلات المهزولات اللاتي ضربها ريح السموم تكون سبع سنين : جوع ، وهذا القول الذي قلت لفرعون .

إن الله أظهر ما هو مزمع عتيد أن يفعله ، وها هذه سبع سنين يأتي الشبع والخصب العظيم جميع أرض مصر ، ويأتي بعدها سبع سنين أخر يكون فيها الجوع ، وينسى جميع الشبع ، والخصب الذي كان في جميع أرض مصر ، فيبيد أهل الأرض من الجوع من أجل الغم الذي يأتي من بعد لكثرته وشدته ، وإنما أعيدت الرؤيا لفرعون ثاني مرة ، لأن الأمر معد بين يدي الرب ، والله معجل فعله .
والآن فلينظر فرعون رجلاً حكيماً فهماً . فيوليه أرض مصر ، فيقاسم أهل مصر على الخمس في السبع السنين ، فيجمعوا جميع أفقال هذه السنين الخصبة الآتية ، ويخزنوا الأفقال تحت يدي فرعون ، ويحفظ القمح في القرى ، وليكن الفقل معداً محفوظاً لأهل مصر لسبع سني الجوع المزمع أن يكون في جميع أرض مصر ، ولا يبيد أهل الأرض بالجوع .
فحسن هذا القول عند فرعون وعند عبيده ، فقال فرعون لقواده : هل يوجد مثل هذا الرجل الذي روح الله حالّ فيه؟ ثم قال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام : إذا أطلعك الله على هذا كله ، ليس أحد فهما مثلك ، أنت المسلط على بيتي ، وعن أمرك وقولي فيك يقبل جميع الشعب ، وإنما أنا أعظم منك بالمنبر فقط ، وقال فرعون ليوسف : انظر فقد وليتك جميع أرض مصر ، وخلع فرعون خاتمه من خنصره ، فوضعه في خنصر يوسف عليه الصلاة والسلام ، وألبسه ثياب كتان ، وطوقه بطوق من ذهب ، وحمله على بعض مراكبه ، ونادى بين يديه : هذا أب ومسلط ، وسلطانه على جميع أرض مصر ، ثم قال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام : إني قد أمرت أن لا يكون أحد يشير بيديه أو يخطو بقدميه دون أمرك في جميع أرض مصر .
ودعا فرعون اسم يوسف : موضح الخفايا ، وزوجه بأسنة - وفي نسخة : بأسنات - بنت قوطفيرع إمام إسكندرية - وفي نسخة : حبر وان - فخرج يوسف عليه السلام والياً على جميع أرض مصر ، وكان قد أتى على يوسف ثلاثون سنة إذ وقف بين يدي فرعون ، فطاف في جميع أرض مصر .
وأغلّت الأرض في جميع السبع سني الخصب ، ملأ الخزائن وجمع الأقفال في القرى ، جمع قمح حقول كل قرية وما أحاط بها فخزنة فيها ، وخزن يوسف عليه الصلاة والسلام من الأقفال مثل كثيب - وفي نسخة : رمل البحر - كثيراً جداً حتى أعيى إحصاء ذلك فصار غير محصى .
فولد ليوسف عليه الصلاة والسلام ابنان قبل دخول سنة الجوع ، ولدت له أسنة - وفي نسخة : أسنات - نبت قوطيفرع حبر وان - وفي نسخة : إمام إسكندرية - فدعا يوسف عليه الصلاة والسلام اسم ابنه بكر منشا ، لأنه قال : إن الله أنساني جميع تعبي - وفي نسخة : شقائي - وما كان منه في بيت أبي ، وسمى الآخر أفراثيم ، وقال : لأن الله كثرني في أرض تعبدي ، فنفدت سنو الشبع الذي كان في أرض مصر ، وبدأت سنو الجوع ليأتي كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام ، فكان الجوع في جميع أرض مصر ، ولم يوجد الخبز في جميع أرض مصر ، فجاع جميع أهل مصر ، فضج الشعب على فرعون من أجل الخبز ، فقال فرعون لجميع المصريين : انطلقوا إلى يوسف عليه السلام فافعلوا جميع ما يأمركم به .

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

ولما كان المعنى - كما تقدم : فجعل إليه خزائن الأرض ، فجاءت السنون المخصبة ، فدبرها بما علمه الله ، ثم جاءت السنون المجدبة فأجدبت جميع أرض مصر وما والاها من بلاد الشام وغيرها ، فأخرج ما كان ادخره من غلال سبع سنين بالتدريج أولاً فأولاً - كما حد له { العليم الحكيم } فتسامع به الناس فجاؤوا للامتيار منه من كل أوب { وجاء إخوة يوسف } العشرة لذلك ، وحلف أبوهم بنيامين أخا يوسف عليه السلام لأمه عنده ، ودل على تسهيله إذنهم بالفاء فقال : { فدخلوا عليه } أي لأنه كان يباشر الأمور بنفسه كما هو فعل الكفاة الحزمة ، لا يثق فيه بغيره { فعرفهم } لأنه كان مرتقباً لحضورهم لعلمه بجدب بلادهم وعقد همته بهم . مع كونه يعرف هيئاتهم في لباسهم وغيره ، ولم يتغير عليه كبير من حالهم . لمفارقته إياهم رجالاً { وهم له منكرون * } ثابت إنكارهم عريق فيهم وصفهم به ، لعدم خطوره ببالهم لطول العهد ، مع ما تغير عليهم من هيئته بالسن وانضاف إليه من الحشم والخدم واللباس وهيئة البلد وهيبة الملك وعز السلطان ، وغير ذلك مما ينكر معه المعروف ، ويستوحش لأجله من المألوف ، وفق ما قال تعالى { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } [ يوسف : 15 ] والدخول : الانتقال إلى محيط ، والمعرفة : تبين الشيء بالقلب بما لو شوهد لفرق بينه وبين غيره مما ليس على خاص صفته .
ولما كان المعنى في قوة أن يقال : فطلبوا منه الميرة فباعهم بعد أن استخبرهم عن أمرهم ، وقال لهم : لعلكم جواسيس؟ وسألهم عن جميع حالهم . فأخبروه بأبيهم وأخيهم منه ، ليعلم صلاحهم ولا يظن أنهم جواسيس ، عطف عليه قوله : { ولما جهزهم } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { بجهازهم } الذي جاؤوا له وقد أحسن إليهم؛ والجهاز : فاخر المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد { قال } أي لهم { ائتوني } أيها العصابة { بأخ لكم } كائن { من أبيكم } يأتي برسالة من أبيكم الرجل الصالح حتى أصدقكم ، أو أنهم طلبوا منه لأخيهم حملاً ، فأظهر أنه لم يصدقهم ، وطلب إحضاره ليعطيه ، فإنه كان يوزع الطعام على قدر الكفاية؛ ثم رغبهم بإطماعهم في مثل ما فعل بهم من الإحسان ، وكان قد أحسن نزلهم ، فقال مقرراً لهم بما رأوا منه : { ألا ترون } أي تعلمون علماً هو كالرؤية { أني أوفي الكيل } أي أتمه دائماً على ما يوجبه الحق { وأنا خير المنزلين * } أضع الشيء في أولى منازله .
ولما رغبهم ، رهبهم فقال : { فإن لم تأتوني به } أي بأخيكم أول قدمة تقدمونها { فلا كيل لكم } وعرفهم أنه لا يمنعهم من غيره فقال : { عندي ولا تقربون * } ومع ذلك فلم يخطر ببالهم أنه يوسف ، فكأنه قيل : فما قالوا؟ فقيل : { قالوا سنراود } أي بوعد لا خلف فيه حين نصل { عن أباه } أي نكلمه فيه وننازعه الكلام ونحتال عليه فيه ، ونتلطف في ذلك ، ولا ندع جهداً؛ ثم أكدوا ذلك - بعد الجملة الفعلية المصدرة بالسين - بالجملة الاسمية المؤكدة بحرفي التأكيد ، فقالوا : { وإنا لفاعلون * } أي ما أمرتنا به والتزامناه ، وقد مضى عند { وراودته } أن المادة - يائية وواوية بهمز وبغير همز - تدور على الدوران ، ومن لوازمه القصد والإقبال والإدبار والرفق والمهلة ، وقد مضى بيان غير المهموز ، وأما المهموز فمنه درأه ، أي دفعه - لأن المدفوع يرد إلى الموضع الذي أتى منه ، والمدارأة : المدافعة والمنازعة مطلقاً ، أي سواء كانت برفق أو بعنف ، ثم كثرت فقصرت على الملاينة ، ويلزم من الدفع حلول المدفوع في موضع لا يريده بغتة ، ومنه : درأ علينا ، أي خرج مفاجأة ، قال القزاز : وأصله من قولهم : جاء السيل درأ ، أي يدرأ بعضه بعضاً ، وهو الذي يأتي من مكان لا يعلم به ، واندرأ فلان علينا بالشر - إذا أتى به من حيث لم ندر ، والدرء : النشوز ، وهو من الدفع ، وكوكب دريء : متوقد متلألىء - كان نوره يدفع بعضه بعضاً ، ومنه درأت النار : أضاءت ، واندرأ الحريق : انتشر ، ودرأ الشيء : بسطه - لأن المبسوط لا يخلو عن دفع ، وتدارؤوا : تدافعوا في الخصومة .

ودرأ البعير : أغد ، ومع الغدة ورم في ظهره ، وناقة دارىء : مغدة ، وذلك لأن الغدة ملزومة للدفع ، لا تنفك عنه بالقتب والركب وغيرهما ، وكل ناتىء في الجسد هذا شأنه ، ومنه الدرء : لقطعة من الجبل مشرقة ، وناقة مدرىء : أنزلت اللبن وأرخت ضرعها عند النتاج - كأنها دفعتهما ، وادرأت الصيد - على « افتعلت » : اتخذت له دريئة ، وقد تقدمت « الدرية » في الواوي ، ومنه : ادرأت فلاناً - ذا اعتمدته ، والدرء : الميل والعوج - لأنه أهل لأن يدفع ليقوم ، وطريق ذو دروء ، أي كور وأخاقيق أي شقوق - فكأنها تدفع صاحبها عن القصد ، وتدرؤوا عليهم : تطاولوا - لأن ذلك لا يخلو عن مدافعة كالنشوز ، ويلزم الدفع القوة ، ومنه رجل ذو تدرا ، أي منعه وقوة ، ورادته بكذا - بتقديم الراء : جعلته قوة له وعماداً يدافع عنه ، والردء : العون والمادة والعدل الثقيل - لأنه يدافع ليعتدل ، وردأ الحائط : دعمه ، وردأه بحجر : رماه به ، لأنه إذا أصابه دفعه ، والإبل : أحسن القيام عليها ، لأن ذلك لا يكون إلا بمدافعة ، وأردأ الستر : أرخاه ، بدفعه له من المكان الذي كان به ، وأردأ الولد : سكنه وأنسه ، فدفع الهم عنه ، وأردأ الشيء : أقره - كأنه لسلب الدفع ، وكذا أردأه أي أفسده ، إما بأنه لم يدافعه بإحسان القيام عليه فأفسده ، أو أنه زاد في الدفع حتى فسد ، ومن ذلك أردأ - إذا فعل رديئاً ، أي فعلا فاسداً ليس بجيد ، وكأن من ذلك الأدرة - بالضم ساكنة وتحرك - وهي عظم الخصيتين في الناس والخيل؛ ومن التدافع : ترأدت الحية : اهتزت في انسيابها ورفعت رأسها ، والريح : اضطربت - فكأن بعضها يدفع بعضاً ، ومنه رأد الضحى : ارتفاعه ، وترأد الضحى : ارتفع ، وكذلك الجارية الرأدة والرؤد - بالضم ، أي الناعمة ، وقال القزاز : السريعة الشباب مع حسن غذاء ، وقال ابن دريد : جارية رأدة - غير مهموز : كثيرة المجيء والذهاب ، فإذا قلت : جارية رؤدة فهي الناعمة .

فإذا فسرت بالذهاب والمجيء فهو من الدوران الذي هو المدار ، وإذا فسرت بالناعمة فهو من الاضطراب اللازم له ، وغصن رؤد - بالضم : رطب - من ذلك ، قال القزاز : وأحسب الجارية الناعمة إنما سميت رؤداً من هذا ، وترأد : اهتز نعمة ، وزيد : قام فأخذته رعدة ، والغصن : تفيأ ، والعنق : التوى - كله من الدوران وما يلزمه من الاضطراب ، ورئد الإنسان : صديقه ، لأنه يراوده ويداوره ، والرأدة : أصل اللحى ، وهو أصول منبت الأسنان ، وهو العظم الذي يدور فيه طرفا اللحيين مما يلي الصدغين؛ ومن الرفق والمهلة : الرؤدة - بالضم ، وهي التؤدة .
ولما أعلمنا سبحانه أنه رغبهم في شأن أخيه ، ورهبهم بالقول ، أعلمنا بأنه رغبهم فيه بالفعل ، فقال عاطفاً على قوله الماضي لهم : { وقال } أي يوسف عليه الصلاة والسلام شفقة على إخوته وإرادة لنصحهم فيما سألهم فيه : { لفتيانه } أي غلمانه ، وأصل الفتى : الشاب القوي ، وسيأتي شرحه عند قوله تعالى : { تفتؤا تذكر يوسف } { اجعلوا بضاعتهم } أي ما بضعوه أي قطعوه من مالهم للتجارة وأخذناه منهم ثمناً لطعامهم الذي دفعناه لهم { في رحالهم } أي عدولهم؛ والرحل : ما أعد للرحيل من وعاء أو مركب { لعلهم يعرفونها } أي بضاعتهم؛ وعبر بأداة التحقق تفاؤلاً لهم بالسلامة ، أو ظناً ، أو علماً بالوحي ، فقال : { إذا انقلبوا } راجعين { إلى أهلهم } أي يعرفون أنها هي بعينها ، رددتها عليهم إحساناً إليهم ، ويجزمون بذلك ، ولا يظنون أن الله أخلف عليهم مثلها نظراً إلى حالهم وكرامة لأبيهم ، ويعرفون هذه النعمة لي { ولعلهم يرجعون * } أي ليكون حالهم وحال من يرجع إلينا إذا عرفوها ، لردها تورعاً ، أو للميرة بها إن لم يكن عندهم غيرها ، أو طمعاً في مثل هذا ، وإنما لم يبادر إلى تعريفهم بنفسه والتعجيل بإدخال السرور على أبيه ، لأن ذلك غير ممكن عادة - لما يأتي من الحكم البالغة والتدبير المتين ، ودل على إسراعهم في الرجوع بالفاء فقال : { فلما رجعوا } أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام { إلى أبيهم } حملهم ما رأوا - من إحسان الصديق وحاجتهم إليه وتبرئتهم لأنفسهم عن أن يكونوا جواسيس - على أن { قالوا ياأبانا } .
ولما كان المضار لهم مطلق المنع ، بنوا للمفعول قولهم : { منع منا الكيل } لأخينا بنيامين على بعيره لغيبته ، ولنا كلنا بعد هذه المرة إن لم نذهب به معنا ليظهر صدقنا؛ والمنع : إيجاد ما يتعذر به على القادر الفعل .

وضده : التسليط ، وأما العجز فضده القدرة { فأرسل } أي بسبب إزالة هذا المنع { معنا أخانا } إنك إن ترسله معنا { نكتل } أي لنفسه كما يكتال كل واحد منا لنفسه - هذا على قراءة حمزة والكسائي بالتحانية ، ولنؤوله على قراءة الجماعة بالنون - من الميرة ما وظفه العزيز ، وهو لكل واحد حمل ، وأكدوا لما تقدم من فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام مما يوجب الارتياب بهم ، فقالوا : { وإنا له } أي خاصة { لحافظون * } أي عن أن يناله مكروه حتى نرده إليك ، عريقون في هذا الوصف ، فكأنه قيل : ما فعل في هذا بعد ما فعلوا إذ أرسل معهم يوسف عليه الصلاة والسلام؟ قيل : عزم على إرساله معهم ، ولكنه أظهر اللجاء إلى الله تعالى في أمره غير قانع بوعدهم المؤكد في حفظه ، لما سبق منهم من مثله في يوسف عليه الصلاة والسلام بأن { قال هل آمنكم } أي أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه مما يسوءني تأميناً مستعلياً { عليه } أي بنيامين { إلا كما آمنتكم } أي في الماضي { على أخيه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام .
ولما كان لم يطلع يوسف عليه الصلاة والسلام على خيانة قبل ما فعلوا به ، وكان ائتمانه لهم عليه إنما هو زمان يسير ، أثبت الجار فقال : { من قبل } فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردوه إليّ - والأمن : اطمئنان القلب إلى سلامة النفس - فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله { فالله } أي المحيط علماً وقدرة { خير حافظاً } منكم ومن كل أحد { وهو } أي باطناً وظاهراً { أرحم الراحمين * } فهو أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه؛ فأرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة { ولما فتحوا } أي أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام { متاعهم } أي أوعيتهم التي حملوها من مصر { وجدوا بضاعتهم } أي ما كان معهم من كنعان بشراء القوت .
ولما كان المفرح مطلق الرد . بنى للمفعول قوله : { ردت إليهم } والوجدان : ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها ، فكأنه قيل : ما قالوا؟ فقيل : { قالوا } أي لأبيهم { ياأبانا ما } أي أي شيء { نبغي } أي نريد ، فكأنه قال لهم : ما الخبر؟ فقالوا بياناً لذلك وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم : { هذه بضاعتنا } ثم بينوا مضمون الإشارة بقولهم : { ردت إلينا } هل فوق هذا من إكرام .
ولما كان التقدير : فنرجع بها إليه بأخينا ، فيظهر له نصحنا وصدقنا ، بنى عليه قوله : { ونمير أهلنا } أي نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه؛ والميرة : الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد { ونحفظ أخانا } فلا يصيبه شيء مما يخشى عليه ، تأكيداً للوعد بحفظه وبياناً لعدم ضرر في سفره ، ويدل على ما في التوراة - من أنه كان سجن أحدهم ليأتوا بأخيهم الأصغر - قوله : { ونزداد كيل بعير } أي فيكون جملة ما نأتي به بعد الرجوع إليه اثني عشر حملاً ، لكل منا حمل ، وللمسجون حملان - لكرّته الأولى والثانية ، وذلك أنه كان لا يعطي إلا حملاً لكل رأس ، فكأنه ما أعطاهم لما جهزهم غير تسعة أحمال ، فكأنه قيل : وهل يجيبكم إلى ذلك في هذه الأزمة؟ فقالوا : نعم ، لأن { ذلك كيل يسير * } بالنسبة إلى ما رأينا من كرم شمائله وضخامه ملكه وفخامة همته ، فكأنه قيل : فما قال لهم؟ فقيل : { قال } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام { لن أرسله } أي بنيامين كائناً { معكم } أي في وقت من الأوقات { حتى تؤتون } من الإيتاء وهو الإعطاء ، أي إيصال الشيء إلى الأخذ { موثقاً } وهو العقد المؤكد .

ولما كان مراده موثقاً ربانياً ، وكان الموثق الرباني - وهو ما كان بأسمائه تعالى لكونه أذن سبحانه فيه وأمر بالوثوق به - كأنه منه ، قال : { من الله } أي الملك الأعظم بأيمان عظيمة : والله { لتأتنَّني } كلكم { به } من الإيتان ، وهو المجيء في كل حال { إلا } في حال { أي يحاط } أي تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب ، لا طاقة لكم بها { بكم } فتهلكوا من عند آخركم ، كل ذلك زيادة في التوثيق ، لما حصل له من المصيبة بيوسف عليه الصلاة والسلام وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله ، وهذا من باب « اعقلها وتوكل » فأجابوه إلى جميع ما سأل { فلما آتوه } أي أعطاه بنوه { موثقهم قال الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { على ما نقول وكيل * } هو القادر على الوفاء به المرجو للتصرف فيه بالغبطة ، لا أنتم .

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)

ولما سمح لهم بخروجه معهم ، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلاً إخوة أهل جمال وبسطة ، وكانوا قد شهروا عند المصريين بعض الشهرة ، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى ، فكانوا مظنة لأن ترمقهم الأبصار ويشار إليهم بالأصابع ، فيصابوا بالعين ، ولم يوصهم في المرة الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين ، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط ، فقال حكاية عنه : { وقال } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر : { يابني } محذراً لهم من شر الحسد والعين - { لا تدخلوا } إذا قدمتم إلى مصر { من باب واحد } من أبوابها؛ والواحد على الإطلاق : الذي لا ينقسم ، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد ، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف { وادخلوا من أبواب } واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جداً ، فقال : { متفرقة } أي تفرقاً كبيراً ، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي ، فإن العين حق ، وهي من قدر الله ، وقد ورد شرعنا بذلك ، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « العين حق » وفي رواية عند أحمد وابن ماجه : « يحضرها الشيطان وحسد بن آدم » ولمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « العين حق ، ولو شيء سابق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا » ولأبي نعيم في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال : « إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر » ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « وإنما لتدرك الفارس فتدعثره » ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين » قال الإمام الرازي : ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه . وقد تقدم معنى ذلك في رواية أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان ، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها ، لأنها من القدر ، لا من من باب التحرز من القدر ، كما روى مسلم وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن » لو « تفتح عمل الشيطان »

معناه - والله أعلم : افعل فعل الأقوياء ، ولا تفعل فعل العجزة ، وذلك بأن تنعم النظر ، تمعن في التأمل وتتأنى ، حتى تعلم المصادر والموارد ، فلا تدع شيئاً يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل عليه ولا يضرك إلا فعلته ، ولا تدع أمراً يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت منه جهدك ، فإنك إذا فعلت ذلك وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديراً بأن لا تقول في نفسك : لو أني فعلت كذا ، فإنك لم تترك شيئاً ، وأما إذا فعلت فعل العجزة ، وتركت الجزم فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب ، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من « لو » .
ولما خاف أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أن الحذر يغني من القدر ، نفى ذلك مبيناً أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه : إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها ، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسباباً تضادها ويتأثر عنها المحذور ، فقال : { وما أغني } أي أجزي وأسد وأنوب { عنكم من الله } أي بعض أمر الملك الأعظم ، وعمم النفي فقال : { من شيء } أي إن أراد بكم ، سواء كنتم مفترقين أو مجتمعين ، وهذا حكم التقدير ، ثم علل ذلك بقوله : { إن } أي ما { الحكم } وهو فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة { إلا الله } أي الذي له الأمر كله ، لا يقدر أحد سواه على التفصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره ، ولهذا المعنى - وهو أنه لا ينفع أصلاً سبب إلا بالله - أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه ، وأمر بها أول كل شيء؛ وروى أبو نعيم في الحلية في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوماً فقال في خطبته : وأعجب ما في الإنسان قلبه ، ولو مواد من الحكمة وأضداد من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع . وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة ، فكل تقصير به مضر . وكل إفراط له مفسد . قال : فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل ، فقال : يا أمير المؤمنين؟ أخبرنا عن القدر ، فقال : بحر عميق فلا تلجه ، فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر ، فقال بيت مظلم فلا تدخله ، فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر ، فقال : سر الله فلا تتكلفه ، فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر ، فقال : أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين ، لا جبر ولا تفويض ، فقال : يا أمير المؤمنين! إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرك ، فقال : عليّ به! فأقاموه ، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال : الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب عنقك! فقال : فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال : قل : أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها .

وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند { إن الله يفعل ما يشاء } [ الحج : 18 ] ما يتصل بهذا .
ولما قصر الأمر كله عليه سبحانه ، وجب رد كل أمر إليه ، وقصر النظر عليه ، فقال منبهاً على ذلك : { عليه } أي على الله وحده الذي ليس الحكم إلا له { توكلت } أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله { وعليه } أي وحده { فليتوكل المتوكلون * } أي الثابتون في باب التوكل ، فإن ذلك من أعظم الواجبات ، من فعله فاز ، ومن أغفله خاب ، ثم إنه سبحانه صدق يعقوب فيما قال ، مؤكداً لما أشار إلى اعتقاده ، فقال : { ولما } وعطفه بالواو يدل على أنهم ما أسرعوا الكرة في هذه المرة خوفاً من أن يقول لهم : لم يفرغ ما عندكم حتى تضطروا إلى الاستبدال به ، والزمان زمان رفق ، لا زمان تبسط { دخلوا } أي أخوة يوسف عليه الصلاة والسلام عند وصولهم إلى مصر { من حيث أمرهم } أي به { أبوهم } من أبواب متفرقة ، قالوا : وكان لمصر أربعة أبواب { ما كان } ذلك الدخول { يغني } أي يدفع ويجزي { عنهم من الله } أي الملك الأعلى الذي لاراد لأمره ، وأعرق في النفي فقال : { من شيء } كما تقدم من قول يعقوب عليه الصلاة والسلام { إلا حاجة } أي شيئاً غير أتم حاجة { في نفس يعقوب } وهو الدخول على ما أمر به شفقة عليهم { قضاها } يعقوب ، وأبرزها من نفسه إلى أولاده ، فعملوا فيها بمراده فأغنى عنهم ذلك الإخلاص من عقوق أبيهم فقط ، فإنهم ابتلوا في هذه السفرة بأمر عظيم لم يجدوا منه خلاصاً ، وهو نسبهم إلى السرقة ، وأسر أخيهم منهم ، قال أبو حيان : وفيه حجة لمن زعم أن « لما » حرف وجوب لوجوب ، لا ظرف زمان بمعنى « حين » ، إذا لو كان ظرف زمان ما جاز أن يكون معمولاً لما « بعد » ما النافية - انتهى .
ولما كان ذلك ربما أوهم أنه لا فائدة في الاحيتاط ، أشار تعالى إلى رده بمدح يعقوب عليه الصلاة والسلام ، حثاً على الاقتداء به في التسبب مع اعتقاده أن الأمر بيد الله فقال : { وإنه } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أمره لبنيه بذلك { لذو علم } أي معرفة بالحكمين : حكم التكليف ، وحكم التقدير ، واطلاع على الكونين عظيم { لما } أي للذي { علمناه } إياه من أصول الدين وفروعه ، ويجوز أن يكون المعنى : لذو علم لأجل تعليمنا أياه .

فاقتدوا به في الاحتياط في تعاطي الأسباب ، مع اعتقاد أنه لا أثر لها إلا أن أمضاها الواحد القهار ، فبهذا التقدير يتبين أن الاستثناء متصل ، وفائدة إبرازه - في صورة الأستثناء عند من جعله منقطعاً - الإشارة إلى تعظيم يعقوب عليه الصلاة والسلام ، وأنه جدير بأن يكون ما يأمر به مغنياً ، لأنه من أمر الله ، فلو كان كل شيء يغني من قدر الله لأغنى ما أشار به ، وإنما فسرت « يغنى » ب « يدفع » لأن مادة « غنى » - بأي ترتيب كان - تدور على الإقامة ، فيكون أغنى للسلب ، وهو معنى للدفع ، بيانه أن غنى بمعنى أقام ، وعاش ، ولقي ، ومغنى الدار : موضع الحلول ، ويلزم من الإقامة الكفاية والتمول ، لأن الفقير منزعج مضطرب ، والغني - كإلى : التزوج ، وإذا فتح مد ، والاسم الغنية - بالضم ، وذلك لأن التزوج لازم الإقامة ، والغانية : المرأة تُطلَب ولا تَطلُب ، أو الغنية بحسنها عن الزينة ، أو الشابة المتزوجة ، أو الشابة العفيفة ذات زوج كانت أم لا ، ومثلها يلزم المنزل ويقصر في الخيام ، وأغنى عنه غناء فلان : ناب عنه منابه وأجزأ مجزأه ، وحقيقته جعل إقامة كذا متجاوزة عنه ، فالمفعول محذوف ، فإذا قال مثلاً : فلان أغنى عني في الحرب ، كان المعنى : أغنى عني ضرب الأبطال أو شدة الحرب ، أي أزال إقامة ذلك عني فجعله متجاوزاً ، ولا شك أن معنى ذلك : دفعه عني ، وكذا كل ما كان من ذلك ، وما فيه غناء ذاك ، أي إقامته والاضطلاع به ، ويلزم أيضاً - من الإقامة التي هي المدار والكفاية التي هي سببها - الغناءُ - بالكسر والمد ، وهو التطريب بالصوت ، والغناء أيضاً : الرمل - لإقامته ، وغنى بالمرأة : تغزل ، أي نظم فيها الغزل ، وغنى بزيد : مدحه أو هجاه - من لوازم الإقامة والكفاية ، ومنه غنى الحمام : صوت؛ ونغى - كرمى : تكلم بكلام يفهم - لأن ذلك يسكن الخاطر عن القلق ، ومنه المناغاة - وهي تكليم الصبي بما يهوى ، ونغيت إليه نغية ، أي ألقيت إليه كلمة ، والنغية - كالنغمة : أول الخبر قبل أن تستثبته ، من تسمية الجزء باسم الكل ، وناغاه : داناه ، ومنه الموج يناغي السماء - إذا ارتفع ، وناغاه : باراه أي عارضه ، والمرأة : غازلها ، أي حادثها - كل ذلك من لوازم الإقامة؛ والغين : حرف هجاء مجهور مستعل - كأنها لقوتها مقيمة في مخرجها غير متزعزعة عنه كالراء والحروف الهوائية وغيرها ، والغين : العطش - لأنه الأصل لاقتضاء الحرارة له والريّ حادث ، والغين : الغيم - لإقامته في الهواء ، والغينة : أرض - لأنها موضع الإقامة ، والأشجار الملتفة بلا ماء ، هي أيضاً موضع لذلك ، لأنها ظليلة ولا ماء بأرضها يمنع من الانتفاع بشيء من ظلها ، والغيناء : الخضراء من الشجر ، وبئر ، وبالقصر : قنة ثبير من الأثبرة السبعة - لأن ذلك كله موضع للإقامة ، ولعل قنة هذا الجبل كثيرة الشجر فترجع إلى الشجرة ، والأغين : الطويل - إما تشبيه بقنة الجبل ، أو بالشجرة ، والغانة : حلقة رأس الوتر في القوس ، وغين على قلبه : غطى عليه أي أقام عليه ساتراً له فصار كالسماء بالنسبة إلى الغيم ، ومنه غين عليه - إذا تغشته الشهوة وألبس أو غشي عليه ، أو أحاط به الرين وهو الطبع والدنس ، والغينة - بالكسر : الصديد وما سل من الميت - كأنه من سلب الإقامة ، وكذا الغين بالكسر - لموضع كثير الحمى ، وغانت نفسي تغين : غثت ، والإبل : غامت ، أي حصل لها داء كالقلاب غير أنه لا يقتل - انتهى .

ولما كان قد يظن أن كل أحد يكون كذلك ، أي يعلم ما علمه ، نفى ذلك سبحانه بقوله : { ولكن أكثر الناس } أي لأجل ما لهم من الاضطراب { لا يعلمون * } أي ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفرغ قواهم في الاهتمام بما وقع التكفل لهم به من أحوال الدنيا ، ومغالبة فطرهم القويمة السليمة بردها إلى ما تدعو إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون فيها طب مخلوق .

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد ، أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقاتل : { ولما دخلوا } أي بنوه عليه الصلاة والسلام { على يوسف } في هذه القدمة الثانية { آوى إليه أخاه } شقيقه بنيامين بعد أن قالوا له : هذا أخونا الذي أمرتنا به قد أحضرناه ، فقال : أصبتم ، وستجدون ذلك عندي؛ والإيواء : ضم النفس بالتصيير إلى موضع الراحة ، وسبب إيوائه إليه أنه أمر كل اثنين منهم أن يأكلوا على حدة ، فبقي بنيامين بلا ثان ، فقال : هذا يأكل معي ، ثم قال ليا : وكل اثنين منكم في بيت من خمسة أبيات أفردها لهم ، وهذا الوحيد يكون معي في بيتي ، وهذا التفريق موافق لما أمرهم به أبوهم في تفريق الدخول ، فكأنه قيل : ماذا قال له ، هل أعلمه بنفسه أو كتم ذلك عنه كما فعل بسائر إخوته؟ فقيل : بل { قال } معلماً له ، لأنه لا سبب يقتضي الكتم عنه - كما سيأتي بيانه ، مؤكداً لما للأخ من إنكاره لطول غيبته وتغير أحواله وقطع الرجاء منه : { إني أنا أخوك } يوسف : ثم سبب عن ذلك قوله : { فلا تبتئس } أي تجتلب البؤس . وهو الكراهة والحزن { بما كانوا } أي سائر الإخوة ، كوناً هم راسخون فيه { يعملون * } مما يسوءنا وإن زعموا أنهم بنوا ذلك العمل على علم ، وقد جمعنا له خير ما يكون عليه الاجتماع ، ولا تعلمهم بشيء من ذلك ، ثم إنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا . وكأنه في المرة الأولى أيضاً في تجهيزهم ليتعرف أخبارهم في طول المدة من حيث لا يشعرون ، ولذلك لم يعطف بالفاء ، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبرها . فلذلك أتت الفاء في قوله : { فلما جهزهم } أي أعجل جهاز وأحسنه { بجهازهم } ويؤيده { فلما جاء أمرنا } [ هود : 66 و 82 ] في قصتي صالح ولوط عليهما الصلاة والسلام - كما مضى في سورة هود عليه الصلاة والسلام { جعل } أي بنفسه أو بمن أمره { السقاية } التي له . وهي إناء يسقي به { في رحل أخيه } شقيقه ، ليحتال بذلك على إبقائه عنده مع علمه بأن البصير لا يقضي بسرقته بذلك ، مع احتمال أن يكون الصواع دس في رحله بغير علمه كما فعل ببضاعتهم في المرة الأولى ، وأما غير البصير فضرر ثبوت ذلك في ذهنه مفتقر لأنه يسير بالنسبة إلى ما يترتب عليه من النفع من ألف إخوته بيوسف عليه الصلاة والسلام وزوال وحشتهم منه بإقامته عنده - كما سيأتي مع مزيد بيان - هذا مع تحقق البراءة عن قرب ، فهو من باب ارتكاب أخف الضررين ، ثم أمهلهم حتى انطلقوا ، ثم أرسل إليهم فحبسوا { ثم } أي بعد انطلاقهم وإمعانهم في السير { أذن } أي أعلم فيهم بالنداء { مؤذن } قائلاً برفيع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه - بما يدل عليه إسقاط الأداة : { أيتها العير } أي أهلها ، وأكد لما لهم من الإنكار { إنكم لسارقون * } أي ثابت لكم ذلك لا محالة حقيقة بما فعلتم في حق يوسف عليه الصلاة والسلام ، أو مجازاً بأنكم فاعلون فعل السارق - كما سيأتي بيانه آنفاً ، مع أن هذا النداء ليس من قول يوسف عليه الصلاة والسلام ، ويحتمل أن لا يكون بأمره حتى يحتاج إلى تصحيحه ، بل يكون قائله فهم ذلك من قوله عليه السلام : صواعي مع الركب ، أو كأنهم أخذوا صواعي فاذهب فآتني به أو بهم - ونحو ذلك مما هو حق في نفسه؛ والعير : القافلة التي فيها الأحمال ، والأصل فيها الحمير ، ثم كثر حتى أطلق على كل قافلة تشبيهاً بها ، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التلطف في بلوغ المراد من إيقاع الأسباب التي تؤدي إليه وتبعث عليه بظاهر جميل وباطن حق مما يخفى على كثير من الناس موقعه ، ويشكل عليه وجهه ، لأنه أنفذ له وأنجح للمطلوب منه ، فكأنه قيل : إن هذه لتهمة عظيمة ، فما قالوا في جوابها؟ فقيل : { قالوا } في جواب الذين لحقوهم { و } الحال أن آل إسرائيل { أقبلوا } ودل - على أن الذين لحقوهم كانوا جماعة المؤذن أحدهم ، كما كما هو شأن ذوي الرئاسة إذا أرسلوا في مهم - بالجمع في قوله : { عليهم } أي على جماعة الملك : المنادي وغيره { ماذا تفقدون * } مما يمكننا أخذه { قالوا نفقد } وكأن السقاية كان لها اسمان ، فعبروا هنا بقولهم : { صواع الملك } والصواع : الجام يشرب فيه { ولمن جاء به } أي أظهره ورده من غير تفتيش ولا عناء { حمل بعير } وهو بالكسر : قدر من المتاع مهيأ لأن يحمل على الظهر ، وأما الحمل في البطن فبالفتح { وأنا به زعيم * } أي ضامن وكفيل أوديه إليه ، وإفراد الضمير تارة وجمعه أخرى دليل على أن القاتل واحد ، وأنه نسب إلى الكل لرضاهم به ، وفي الآية البيان عما يوجبه حال بهت الإنسان للتثبت في الأمر وترك الإسراع إلى ما لا يجوز من القول ، فكأنه قيل : فما قال إخوة يوسف؟ قيل : { قالوا } قول البريء { تالله } أي الملك اوعظم فأقسموا قسماً مقروناً بالتاء ، لأنها يكون فيها التعجب غالباً ، قال الرماني : لأنها لما كانت نادرة في أدوات القسم جعلت للنادر من المعاني ، والنادر من المعاني يتعجب منه ، وقال : إنها بدل من الواو ، والواو بدل من الباء ، فهي بدل من بدل ، فلذلك ضعفت عن التصريف في سائر الأسماء ، ثم أكدوا براءتهم بقولهم : { لقد علمتم } أي بما جربتم من أمانتنا قبل هذا في كرتي مجيئنا { ما جئنا } وأكدوا النفي باللام فقالوا : { لنفسد } أي نوقع الفساد { في الأرض و } لقد علمتم { ما كنا } أي بوجه من الوجوه { سارقين * } أي موصوفين بهذا الوصف قط ، بما رأيتم من أحوالنا : من ردنا بضاعتنا التي وجدناها في رحالنا وغير ذلك مما عاينتم من شرف فعالنا مع علمنا بأنها خَلق لنا لا تصنّع يظهر لبعض الأذكياء بأدنى تأمل ، فكأنه قيل : فما قال الذين من جهة العزيز؟ قيل : { قالوا } قول واثق بأنه في رحالهم : { فما جزاؤه } أي الصواع { إن كنتم كاذبين * } في تبرئكم من السرقة؛ والجزاء : مقابلة العمل بما يستحق عليه من خير أو شر { قالوا } وثوقاً منهم بالبراءة وإخباراً بالحكم عندهم { جزاؤه } أي الصواع { من } .

ولما كان العبرة بنفس الوجدان ، بنوا للمفعول قولهم : { وجد في رحله } ولتحققهم البراءة علقوا الحكم على مجرد الوجدان لا السرقة؛ ثم أكدوا ذلك بقولهم : { فهو جزاءه } أي ليس غير ، فكأنه قيل : هل هذا أمر أحدثتموه الآن أو هو مشروع لكم؟ فقالوا : { كذلك } أي بل هو سنة لنا ، مثل ذلك الجزاء الشديد { نجزي الظالمين * } أي بالظلم دائماً ، نرقّه في سرقته؛ فحينئذ فتش أوعيتهم { فبدأ } أي فتسبب عن ذلك أنه بدأ المؤذن أو غيره ممن أمر بذلك { بأوعيتهم } .
ولما لم يكن - بين فتح أوعيتهم وفتح وعاء أخيه - فاصل يعد فاصلاً ، فكانت بداءته بأوعيتهم مستغرقة لما بينهما من الزمان ، لم يأت بجار ، فقال { قبل وعاء أخيه } أي أخي يوسف عليه الصلاة والسلام شقيقه ، إبعاداً عن التهمة { ثم } أي بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك { استخرجها } أي أوجد إخراج السقاية التي تقدم أنه جعلها في وعاء أخيه { من وعاء أخيه } .
ولما كان هذا كيداً عظيماً في أخذ أخيه بحكمهم ، مع ما توثق منهم أبوهم ، عظمه تعالى بالإشارة إليه بأداة البعد والإسناد إليه قال : { كذلك } أي مثل هذا الكيد العظيم { كدنا ليوسف } خاصة بأن علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه الصلاة والسلام ، ولذلك صنعنا جميع الصنائع التي أعلت يوسف عليه الصلاة والسلام وألجأت إخوته الذين كادوه بما ظنوا أنه أبطل أمره إلى المجيء إليه إلى أن كان آخرها حكمهم على أنفسهم بما حكموا ، ثم علل ذلك بقوله : { ما كان } أو هو استئناف تفسير للكيد ، وأكد النفي باللام فقال : { ليأخذ أخاه } .
ولما كان الأخذ على جهات مختلفة ، قيده بقوله : { في دين الملك } يعني ملك مصر ، على حالة من الحالات ، لأن جزاء السارق عندهم غير هذا { إلا أن يشاء الله } أي الذي له الأمر كله ، ذلك بسبب يقيمه كهذا السبب الذي هو حكم السارق وأهله على أنفسهم ، فلا يكون حينئذ من الملك إلا تخليتهم وما حكموا به على نفوسهم .
ومادة « سرق » بتراكيبها الأربعة : سرق ، وسقر ، وقسر ، وقرس - تدور على الغلبة المحرقة والموجعة ، وتارة تكون بحر ، وتارة ببرد ، وتارة بغير ذلك ، وتلازمها القوة والضعف والكثرة والقلة والمخادعة ، فيأتي الخفاء والليل ، فمن مطلق الغلبة : القسر ، وهو الغلبة والقهر ، وقال ابن دريد : القسر : الأخذ بالغلبة والاضطهاد ، والقسورة : الأسد ، والعزيز كالقسور ، والرماة من الصيادين ، واحده قسور ، ونبات سهلي - كأنه يكثر فيه الصيد ، فتنتابه القساورة ، وقسور النبت : كثر ، وركز الناس ، أي صوتهم الخفي وحسهم - لأن الصيادين يتخافتون؛ والسقر لغة في الصقر - لطير يصيد؛ وقسر : جبل السراة - كأنه موضع الصيد والقسر والغلبة ، والقيسري : الكثير - لأنه ملزوم للغلبة ، وضرب من الجعلان - كأنه سمي لمطلق الكثرة ولأذاه بما يعانيه من النجاسات ، والقيسري - أيضاً من الإبل : العظيم أو الصلب أو الضخم الشديد : وجمل قراسية - بالضم وتخفيف الياء : ضخم ، والقرس - بالكسر : صغار البعوض؛ والقسورة أيضاً من الغلمان : الشاب القوي ، والرامي - لأنه أهل لأن يغلب ، ولقسور أيضاً : الصياد مطلقاً؛ ويلزمه المخادعة والاستخفاء ، ومنه القسورة : نصف الليل أو أوله أو معظمه - لأنه محل الاستخفاء والمقاهرة؛ ومنه السرق ، وهو الأخذ في خفية ، وعبارة القزاز : في ختل وغفلة ، وسرق - كفرح : خفي ، والسوارق : الزوائد في فراش القفل - لغرابتها وخفاء أمرها ، أو لسلبها السرقة بمنعها السارق من فتح القفل ، والمسترق : المستمع مختفياً ، وانسرق عنهم : خنس ليذهب ، ويلزم المخادعة والاختفاء نوع ضعف ، ومنه : سرقت مفاصله - كفرح : ضعفت ، والمسترق : الناقص الضعيف الخلق؛ وانسرق : فتر وضعف - إما منه وإما من السلب ، لأن من فتر أو ضعف يكف عن السرقة والأذى؛ وقسور الرجل : أسن ، وكان منه القارس والقريس أي القديم ، ومسترق العنق : قصيرها - كأنه سرق منها شيء ، وهو يسارق النظر إليه ، أي يطلب غفلته لينظر إليه ، وتسرق : سرق شيئاً فشيئاً ، وسُرَّق - كسكر - كان اسمه الحباب فابتاع من بدوي راحلتين ، ثم أجلسه على باب دار ليخرج إليه بثمنهما فخرج من الباب الآخر فهرب بهما ، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سرقاً ، وكان لا يحب أن يسمى بغيره ، والسرق - محركاً : أجود الحرير أو الحرير الأبيض ، أو الحرير عامة ، فارسي معرب أصله سره ، قال القزاز : ومعناه : جيد ، لأنه أهل لأن يقصد بالسرقة لخفة محمله وكثرة تمنه ، والسرقين معرب سركين يمكن أن يكون من الضعف ، ولعل المعرب يكون خارجاً عن أصل المادة ، لأنه لا أصل له في العربية؛ ومن الأذى بالحر السفر : حر الشمس وأذاه ، يقال : سقرته الشمس - بالسين والصاد - إذا آلمت دماغه ، ومنه اشتقاق سقر ، وهو اسم إحدى طبقات النار ، والسقر : القيادة على الحرم ، والسقر : ما يسيل من الرطب - من التسمية باسم السبب ، لأن الحر سببه ، والقوسرة : القوصرة - ويخففان - لأنه يوضع فيه التمر الذي قد يكون منه السقر ، والساقر : الكافر واللعان لغير المستحقين - لكثرة الأذى ، أو لاستحقاق الكون في سقر ، والساقور : الحر والحديدة يكوى بها الحمار؛ ومن الأذى بالبرد : القرس - وهو البرد الشديد والبارد ، والقرس - ويحرك : أبرد الصقيع وأكثفه ، والقرس - بالتحريك : الجامد ، وأقرس العود جمد ماءه ، ومنه القريس - لسمك طبخ وترك حتى جمد ، وقرس الماء : جمد ، والبرد : اشتد كقرس كفرح ، وآل قرايس ويقال : نبات قراس - كسحاب : أجبل باردة أو هضاب بناحية السراة ، وقرسنا الماء : بردناه .

إذا تقرر ذلك فتصحيح قول المؤذن « إنكم لسارقون » إن نظر إلى الغلبة في خفاء فلا شك أنهم متصفون بذلك لأخذهم يوسف من أبيه عليهما السلام على هذه الحالة ، وإن نظر إلى مطلق الأخذ في خفاء فيكون إطلاق ذلك عليهم مجازاً ، لأن معهم - في حال ندائه لهم وهم سائرون - شيئاً ليس هو لهم هم ذاهبون به في خفاء ، أي أنتم في هذه الحالة فاعلون فعل السارق ، ويقوي إرادة الأول قوله تعالى { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } وقوله تعالى : { من وجدنا متاعنا عنده } كما سيأتي .
ولما كان يوسف عليه الصلاة والسلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته ، بعد ما كان فيه عندهم من الصغار ، كان ذلك محل عجب ، فقال تعالى - التفاتاً إلى مقام التكلم تقوية للكلام بمقام الغيبة والتكلم ، وزاده إشعاراً بعظمة ، هذا الفعل بصوغه في مظهر العظمة منبهاً لمن قد يغفل : { نرفع } أي لنا من العظمة ، وكان الأصل : درجاته ، ولكنه عمم لأنه أدل على العظمة ، فكان أليق بمظهرها ، فقال منبهاً على أنه كان حصل ليوسف عليه الصلاة والسلام من الهضم ما ظن كما ظن أنه لا يرتفع بعده : { درجات من نشاء } أي بالعلم .
ولما كان سبب الرفعة هو الأعلمية بالأسباب ، وذلك أن الخلق لو اجتهدوا في خفض أحد فنصبوا له كل سبب علموه وقدروا عليه ، وأراد الله ضد ذلك ، لقيّض بعلمه سبباً واحداً إن شاء فأبطل جميع تلك الأسباب وقضى برفعته ، نبه تعالى على ذلك بقوله : { وفوق كل ذي علم } أي من الخلق { عليم } عظيم العلم ، لا تكتنه عظمة علمه العقول ، ولا تتخيلها الفهوم ، فهو يسبب من الأسباب ما تطيح له أسباب العلماء وتحير له ألباب العقلاء البصراء ، وهو الله تعالى - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وسعيد بن جبير ، فالتنوين للتعظيم .

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)

ولما تم ذلك ، كان كأنه قيل : إن انتزاع أخيهم منهم - بعد تلك المواثيق التي أكدوها لأبيهم - لداهية تطيش لها الحلوم ، فماذا كان فعلهم عندها؟ فقيل : { قالوا } تسلية لأنفسهم ودفعاً للعار عن خاصتهم { إن يسرق } فلم يجزموا بسرقته ، لعلمهم بأمانته ، وظنهم هذا الصواع دس في رحله وهو لا يشعر ، كما دست بضاعتهم في رحالهم وإنما أوهى ظنهم هذا سكوت أخيهم عن الاعتذار به ، على أنه قد ورد أنهم لاموه فقال لهم : وضعه في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالهم { فقد سرق أخ } أي شقيق { له } ولما كان ما ظنوه كذلك في زمن يسير ، أدخلوا الجار فقالوا : { من قبل } يعنون يوسف عليه الصلاة والسلام ، وذلك أنه قيل : إن عمته كانت لا تصبر عنه ، وكان أبوه لا يسمح بمكثه عندها ، لأنه لا يصبرعنه ، فحزمته من تحت ثيابه بمنطقة أبيها إسحاق عليه السلام وكانت عندها ، ثم قالت : فقدت منطقة أبي ، فاكشفوا أهل البيت ، فوجدوها مع يوسف عليه الصلاة والسلام ، فسمح يعقوب عليه الصلاة والسلام حينئذ لها ببقائه عندها { فأسرها } أي إجابتهم عن هذه القولة القبيحة { يوسف في نفسه } على تمكنه مما يريد بهم من الانتقام .
ولما كان ربما ظن ظان أنه بكتهم بها بعد ذلك ، نفى هذا الظن بقوله تعالى : { ولم يبدها } أي أصلاً { لهم } فكأنه قيل : فما قولته التي أسرها في نفسه؟ فقيل : { قال أنتم شر مكاناً } أي من يوسف وأخيه ، لأن ما نسب إليهما من الشر إنما هو ظاهراً لأمر خير اقتضاه ، وأما أنتم ففعلتكم بيوسف شر مقصود منكم ظاهراً وباطناً ، ونسبة الشر إلى مكانهم أعظم من نسبته إليهم ، وإنما قدم الإخبار بالإسرار مع اقترانه بالإضمار قبل الذكر ، لئلا يظن بادىء بدء أنهم سمعوا ما وصفهم به من الشر { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { أعلم بما تصفون * } منكم ، وأنه ليس كما قلتم؛ والوصف : كلمة مشتقة من أصل من الأصول لتجري على مذكور فتفرق بينه وبين غيره بطريق النقيض كالفرق بين العالم والجاهل ونحوهما ، فكأنه قيل : إن ذلك القول على فحشه ليس مغنياً عنهم ولا عن أبيهم شيئاً ، فهل اقتصروا عليه؟ فقيل : لا ، بل { قالوا } التماساً لما يغنيهم : { ياأيها العزيز } فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم { إن له } أي هذا الذي وجد الصواع في رحله { أباً شيخاً كبيراً } أي في سنه وقدره وهو مغرم به ، لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه { فخذ أحدنا مكانه } وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه { إنا نراك } أي نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه { من المحسنين * } أي العريقين في صفة الإحسان ، فأجر في أمرنا على عادة إحسانك ، فكأنه قيل : فما أجابهم؟ قيل : { قال معاذ الله } أي نعوذ بالذي لا مثل معاذاً عظيماً { أن نأخذ } أي لأجل هذا الأمر { إلا من } أي الشخص الذي { وجدنا متاعنا عنده } ولم يقل : سرق متاعنا ، لأنه - كما أنه لم يفعل في الصواع فعل السارق - لم يقع منه قبل ذلك ما يصحح إطلاق الوصف عليه؛ علل ذلك بقوله : { إنا إذاً } أي إذا أخذنا أحداً مكانه { لظالمون * } أي عريقون في الظلم في دينكم ، فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم .

ذكر ما بعد ما سلف من هذه القصة من التوراة
قال : وكان القهم - وفي نسخة : الجوع - والإرجاف على جميع وجه الأرض ، ففتح يوسف الأهراء ، وأقبل يبيع المصريين ، واشتد الجوع بأرض مصر ، وأقبل جميع أهل الأرض يأتون للامتيار من يوسف .
فبلغ يعقوب عليه الصلاة والسلام أن بمصر طعام ميرة ، فقال يعقوب عليه السلام لبنيه : لا خوف عليكم ، لأنه قد بلغني أن بمصر ميرة فاهبطوا إلى هناك ، فامتاروا لنا فنحيى ولا نموت . فهبط بنو يعقوب عليه الصلاة والسلام العشرة ليمتاروا ميرة من مصر ، فأما بنيامين أخو يوسف فلم يرسله يعقوب مع إخوته ، لأنه قال : لعله أن يعرض له عارض ، فأتى بنو إسرائيل ليمتاروا مع الذين كانوا ينطلقون ، لأن الجوع اشتد في أرض كنعان ، وكان يوسف هو المسلط على الأرض ، وكان يميز جميع شعب الأرض ، فأتى إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام فخروا له سجداً على الأرض ، فرأى يوسف إخوته فأثبتهم وتناكر عليهم وكلمهم بفظاظة وقساوة ، وقال لهم : من أين أنتم؟ فقالوا : أتينا من أرض كنعان لنمتار ميرة ، فذكر يوسف عليه الصلاة والسلام الرؤيا التي قصها عليهم وقال لهم : إنكم جواسيس ، وإنما أتيتم لتفحصوا وتطلعوا الأرض . فقالوا : كلا يا سيدنا! إن عبيدك إنما أتوا ليمتاروا ، نحن أجمعون بنو رجل واحد ، ونحن أبرياء ، وليس عبيدك بطلائع ، فقال لهم يوسف : ليس الأمر كما تقولون ، بل إنما أتيتم لتجسسوا أرضنا . فقالوا له : نحن اثنا عشر رجلاً إخوة عبيدك بنو رجل واحد بأرض كنعان ، والآخر هو عند أبينا يومنا هذا ، والآخر فقدناه ، فقال لهم يوسف : إني إنما قلت لكم : إنكم جواسيس ، من أجل هذا بهذه تمتحنون ، وحق فرعون! لا أخرجنكم من هاهنا حتى يأتي أخوكم الأصغر إلى هاهنا . فنفحص عن أقاويلكم إن كنتم نطقتم بالحق والقسط ، وإلا وحق فرعون! إنكم طلائع ، فقذفهم في الحبس ثلاثة أيام ، ودعا بهم يوسف عليه الصلاة والسلام في اليوم الثالث ، وقال لهم : افعلوا ما آمركم به فتحيوا ، فإني أراقب الله فيكم ، إن كنتم أبرياء فليحبس أحدكم في محبسكم وانطلقوا أنتم بالميرة للجوع الذي في بيوتكم ، فأتوني بأخيكم الأصغر فأصدق قولكم ولا تموتوا ، ففعلوا كما أمرهم ، فقال كل امرىء منهم لصاحبه : حقاً إنا قد استوجبنا السجن على أخينا إذ رأينا كرب نفسه إذا كان يتضرع إلينا فلم نرحمه ولم نتراءف عليه ، فمن أجل ذلك نزلت بنا هذه البلية والشر ، فأجاب روبيل وقال لهم : ألم أقل لكم : لا تأثموا بالغلام ، فلم تقبلوا ، وهو ذا الآن نحن مطالبون بدمه .

ولم يعلموا أن يوسف يفهم كلامهم ، لأنه أوقف ترجماناً بينه وبينهم ، فتنحى عنهم فبكى ، ثم رجع إليهم يكلمهم ، ثم أخذ منهم شمعون فأوثقه تجاههم .
وأمر يوسف بملء أوعيتهم ميرة ، وأمر برد ورق كل امرىء منهم في وعائه ، وأن يزودوا زاداً للطريق ، ففعل ذلك بهم كما أمر يوسف عليه السلام ، فحملوا ميرتهم على حميرهم وانطلقوا ، ففتح بعضهم وعاءه ليلقي قضيماً لحماره في مبيتهم . فرأى ورقه موضوعاً على طرف حمولته . فقال لإخوته : ورقي رد إليّ وهو ذا على طرف حمولتي ، فارتجفت قلوبهم وفزعت نفوسهم ، وتعجب كل امرىء منهم ، فقالوا : يا ليت شعري ما هذا الذي صنعه الله بنا! فأتوا يعقوب أباهم إلى أرض كنعان ، فأخبروه بجميع ما عرض لهم وقالوا : إن الرجل سيد الأرض كلمنا بفظاظة وقساوة . وحسبنا بمنزلة الجواسيس أتينا لنطالع الأرض ، فقلنا : إنا أبرياء عدول ، فلسنا بطلائع ، فنحن اثنا عشر أخاً بنو أب واحد ، فقد واحد منا والآخر عند أبينا يومنا هذا بأرض كنعان ، فقال لنا الرجل سيد الأرض ورئيسها : بهذا أعلم بأنكم أبرار عدول ، خلفوا عندي أحد إخوتكم ، واحملوا ميرة للجوع الذي في بيوتكم . وانصرفوا فأتوني بأخيكم الأصغر معكم ، فأعلم حينئذ أنكم لستم بطلائع ، بل أنتم أبرياء عدول ، وآمر بدفع أخيكم إليكم ، وتتجرون في الأرض ، فبينما هم يفرغون أوعيتهم فإذا هم بصرة كل امرىء منهم على طرف وعائه فرأوا ورقهم مصروراً ففزعوا هم وأبوهم . فقال لهم أبوهم : إنكم قد أثكلتموني ولدي وأفقدتموني إياهما ، لأن يوسف فقدته . وشمعان محبوس ، وتنطلقون ببنيامين أيضاً وقد كملت علي المصائب كلها ، فقال روبيل لأبيه : ثكلتُ ابني جميعاً إن لم آتك به! ادفعه إليّ وأنا أرده إليك ، فقال : لا يهبط ابني معكم ، لأن أخاه يوسف توفي وهو وحده الباقي لأمه ، فتعرض له آفة في الطريق الذي تسلكونه فتنزلون شيبتي إلى الجدث بالشقاء والشحب .
فاشتد الجوع على الأرض ، فلما أكلوا الذي أتوا به من مصر وأفنوه قال لهم يعقوب أبوهم عليه السلام : اهبطوا فامتاروا لنا شيئاً من قمح ، فقال له يهوذا : إن الرجل أنذرنا وتقدم إلينا وقال : لا تعاينوا وجهي إلا وأخوكم معكم ، فإن أنت أرسلت أخانا معنا فإنا نهبط فنمتار ، وإن لم تبعثه لم ننطلق ، فقال لهم أبوهم : ولم أسأتم إلي فأخبرتم الرجل أن لكم أخاً؟ فقالوا : الرجل سأل عنا وعن رهطنا وقال : إن أباكم في الحياة بعد؟ وهل لكم أخ؟ فأخبرناه من أجل هذا الكلام ، أكنا نعلم أنه يقول : اهبطوا معكم بأخيكم؟ وقال يهوذا لإسرائيل أبيه : سرح الغلام فننطلق فنحيى ولا نموت نحن وأنت أيضاً وحشمنا ، أنا أكفل به .

فإن لم آتك به فأقيمه بين يديك فأنا مخطىء بين يدي أبي جميع الأيام .
فقال أبوهم إسرائيل : إذا كان الأمر هكذا فافعلوا ما آمركم به : احملوا في أوعيتكم من ثمار هذه الأرض شيئاً من صنوبر وعسل وعلك البطم وخروب وحب السرو وبطم ولوز ، وخذوا من الورق ضعف الذي في أوعيتكم ، لعل ذلك أن يكون وهماً منهم ، وانطلقوا بأخيكم إلى الرجل ، وارجعوا إليّ كلكم ، وإله المواعيد يظفركم من الرجل برحمة ورأفة ، فيرسل بأخيكم الآخر معكم وبنيامين أيضاً ، فأخذ القوم هذه الهدية وضعفاً من الفضة ، وانطلقوا معهم ببنيامين وأتوا يوسف فوقفوا بين يديه . فرأى يوسف بنيامين معهم فقال لحاجبه : أدخل القوم إلى المنزل ، واذبح ذبيحاً ، وهيىء الغداء ، لأن القوم يتغدون معي ظهراً ، ففعل العبد كما أمره يوسف عليه السلام ، وأدخل القوم إلى منزل يوسف عليه السلام وقالوا : إنهم إنما يدخلوننا لسبب الورق الذي وجدنا في أعدالنا من قبل ، فيريدون أن يتطاولوا علينا ويمكروا بنا ، فيجعلونا عبيداً ودوابنا ملكاً ، فدنوا من الرجل حاجب - وفي نسخة : خازن - يوسف عليه السلام . فكلموه على باب المنزل ، وقالوا له : إنا نطلب إليك يا سيدنا أنا هبطنا أولاً إلى هاهنا فامترنا قمحاً ، فلما طلعنا وصرنا في البيت إذا نحن بورق كل واحد منا في عدله ، فقد رددنا أوراقنا بوزنها معنا وأتينا معها بأوراق أخر لنمتار بها ، ولا نعلم من الذي صيّر أوراقنا في أوعيتنا؟ فقال لهم : السلام لكم ، لا تخافوا ولا تستوفضوا ، إلهكم إله المواعيد إله أبيكم ذخر لكم هذه الذخيرة في أوعيتكم ، لأن ورقكم قد صار في قبضتي ، وأخرج إليهم شمعون ، فأدخل العبد القوم إلى منزل يوسف عليه السلام ، وأتاهم بماء فغسلوا أيديهم وأقدامهم ، وألقى قضمياً لدوابهم ، فأعد القوم هديتهم قبل دخول يوسف عليه السلام وقت القائلة لأنه بلغهم أن غداءهم يكون هناك ، فدخل يوسف إلى منزله ، فأدخلوا هديتهم فوضعوها بين يديه في منزله ، وخروا له سجداً على الأرض ، فسألهم عن سلامتهم وقال : أسالم هو؟ أبوكم الذي أخبرتموني عنه أنه الحياة هو بعد؟ فقالوا : إن أبانا عبدك سالم ، ثم جثوا فسجدوا فرفع بصره فأبصر بنيامين أخاه ابن أمه فقال لهم : هذا أخوكم الذي أخبرتموني عنه؟ فقالوا : نعم؟ فقال له : الله يترأف عليكم يا بني ، فاستعجل يوسف عليه السلام لأنه رق له وتحنن عليه فأراد البكاء ، فدخل إلى مكانه فبكى هناك ، ثم غسل وجهه وخرج فصبر نفسه ، فأمر أن يأتوهم بالغداء ، فوضعوا بين يديه وحده ، وقربوا إليهم وحدهم ، لأنه لا يستطيع أهل مصر أن يأكلوا مع العبرانيين ، لأن هذه نجاسة عند المصريين ، فأمر فاتكأ الأكبر على قدر سنه والأصغر على قدر سنه ، فتعجب القوم ومكثوا محيرين مشدوهين ، فأعطى كل واحد منهم من بين يديه جزءاً ، وأعطى بنيامين أكثر منهم : خمسة أنصبة ، فشربوا .

فأمر خازنه وقال له : أوقر أوعية القوم من البر ما أمكنهم حمله ، وصير ورق كل امرىء منهم على طرف وعائه ، وخذ طاسي طاس الفضة وصيره في وعاء الأصغر مع ورق ميرته ، ففعل العبد كما أمر يوسف عليه السلام ، فلما كان من الغد سرح القوم لينطلقوا هم وحميرهم ، فخرجوا من القرية ، وقبل أن يخرجوا منها قال يوسف لخازنه : قم فامض في طلب القوم وألحقهم وقل لهم : لم كافيتم الشر بدل الخير ، فأخذتم الطاس الذي يشرب فيه سيدي ويعتاف فيه اعتيافاً ، فأسأتم فيما جاء منكم ، فلحقهم وقال لهم هذه الأقاويل ، فقالوا له : لا تقولن يا سيدنا هذه الأقاويل ، معاذ الله أن يفعل عبيدك هذه الفعال! نحن رددنا أوراقنا التي وجدنا في أوعيتنا من أرض كنعان ، فكيف نسرق من بيت سيدك ذهباً أو فضة ، من وجد عنده من عبيدك فليمت ونكن نحن عبيداً لسيدنا! قال لهم : هو على ما تقولون ، من وجد عنده فهو يكون لي عبداً ، وأنتم تكونون فلحين طاهين ، فاستعجل كل منهم وعاءه ، ففتشوا ابتداء بالأكبر وانتهاء إلى الأصغر ، فوجدوا الطاس في وعاء بنيامين ، فمزقوا ثيابهم وخرقوها . وحمل كل امرىء منهم وعاءه على حماره ، ورجعوا إلى القرية ، فدخل يهوذا وإخوته على يوسف وكان في منزله بعد ، فخرجوا بين يديه على الأرض ، فقال لهم يوسف : ما هذا الفعل الذي جاء منكم؟ أما تعلمون أن رجلاً مثلي يعتاف - وفي نسخة : يمتحن - بكأس اعتيافاً؟ لم تتعدون عليه وتأخذونه؟ فقال يهوذا : بماذا نكلم سيدنا! وبماذا ننطق! وبماذا نفلح - وفي نسخة : نحتج - من عند الله نزلت هذه الخطيئة بعبيدك ، هوذا نحن عبيد لسيدنا نحن ومن أصيب الكأس عنده ، فقال : معاذ الله أن أفعل هذا! بل الرجل الذي وجد الكأس عنده يكون لي عبداً ، وأنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم .
فدنا منه يهوذا فقال : أنا أطلب إليك يا سيدي أن تأذن لعبدك بالكلام بين يديك ، يا سيد! ولا تشعل غضبك على عبيدك ، لأنك مثل فرعون ، سأل سيدي عبيده فقال لهم : هل لكم أب أو أخ؟ فقلنا لسيدنا : إن لنا أباً شيخاً وابناً له صغيراً ولد على كبر سنه ، وإن أخاه مات ، وهو الباقي وحده لأمه ، وأبوه يحبه ، وأمرت عبيدك وقلت : اهبطوا به إليّ حتى أعرفه وأعاينه ، فقلنا لسيدنا : لا يقدر الغلام على مفارقة أبيه ، لأنه إن فارقه أبوه توفي ، فقلت لعبيدك : إنه لم يهبط أخوكم الأصغر معكم فلا تعودوا أن تعاينوا وجهي ، فلما صعدنا إلى عبدك أبينا أخبرناه بقول سيدنا فقال لنا عبدك أبونا : ارجعوا فامتاروا شيئاً من بر ، فقلنا لأبينا : لا نقدر على الهبوط إلى أن نهبط بأخينا الأصغر معنا ، لأنا لا نقدر على معاينة وجه الرجل إن لم يكن أخونا معنا ، فقال لنا عبدك أبونا : أنتم تعلمون أن امرأتي ولدت لي ابنين ، فخرج واحد من عندي فقلتم : إنه قتل قتلاً ، فلم أعاينه إلى يوم الناس هذا ، فتحملون أيضاً هذا من عندي فيعرض له صيد فتهبطون بشيخوختي بحزن وشر القبر ، والآن إذا نحن انطلقنا إلى عبدك أبينا وليس الغلام معنا ونفسه حبيبة إليه ، فإذا علم أن الغلام ليس هو معنا يموت فيهبط عبدك شيبة أبينا بالشقاء والتشحيب ، لأن عبدك ضمن الغلام لأبينا ، وقلت : إني إذا لم آتك به أخطىء باقي جميع الأيام ، والآن فليبق عبدك بدل الغلام عبداً لسيدي ، وليصعد الغلام مع إخوته ، لأني أفكر كيف أصعد إلى أبي وليس الغلام معي كيلا أعاين الشر الذي ينزل بأبي .

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)

ولما أياسهم بما قال عن إطلاق بنيامين ، حكى الله تعالى ما أثمر لهم ذلك من الرأي فقال : { فلما } دالاً بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات { استيئسوا منه } أي تحول رجاءهم لتخلية سبيله لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأساً شديداً بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله { خلصوا } أي انفردوا من غيرهم حال كونهم { نجياً } أي ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضاً ، من المناجاة وهي رفع المعنى من كل واحد إلى صاحبه في خفاء ، من النجو وهو الارتفاع عن الأرض - قاله الرماني ، أو تمحضوا تناجياً لإفاضتهم فيه بجد كأنهم صورة التناجي ، فكأنه قيل : فما قالوا؟ فقيل : { قال كبيرهم } في السن وهو روبيل : { ألم تعلموا } مقرراً لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتد توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم { أن أباكم } أي الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه .
ولما كان المقام بالتقرير ومعرفة صورة الحال لتوقع ما يأتي من الكلام ، قال : { قد أخذ عليكم } أي قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر { موثقاً } ولما كان الله تعالى هو الذي شرعه - كما مضى - كان كأنه منه ، فقال : { من الله } أي أيمان الملك الأعظم : لتأتنه به إلا أن يحاط بكم { ومن قبل } أي قبل هذا { ما فرطتم } أي قصرتم بترك التقدم بما يحق لكم في ظن أبيكم أو فيما ادعيتم لأبيكم تفريطاً عظيماً ، فإن زيادة « ما » تدل على إرادته لذلك { في } ضياع { يوسف } فلا يصدقكم أبوكم أصلاً ، بل يضم هذه إلى تلك فيعلم بها خيانتكم قطعاً ، وأصل معنى التفريط ، : التقدم ، من قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا فرطكم على الحوض » .
ولما كان الموضع موضع التأسف والتفجع والتلهف ، أكده ب « ما » النافية لنقيض المثبت كما سلف غير مرة ، أي أن فعلكم في يوسف ما كان إلا تفريطاً لا شك فيه { فلن أبرح } أي أفارق هذه { الأرض } بسبب هذا ، وإيصاله الفعل بدون حرف دليل على أنه صار شديد الالتصاق بها { حتى يأذن لي أبي } في الذهاب منها { أو يحكم الله } أي الذي له الكمال كله ووثقنا به { لي } بخلاص أخي أو بالذهاب منها بوجه من الوجوه التي يعلمها ويقدر على التسبب لها { وهو } أي ظاهراً وباطناً { خير الحاكمين * } إذا أراد أمراً بلغه بإحاطة علمه وشمول قدرته ، وجعله على أحسن الوجود وأتقنها ، فكأنه قيل : هذا ما رأى أن يفعل في نفسه ، فماذا رأى لإخوته؟ فقيل : أمرهم بالرجوع ليعلموا أباهم لإمكان أن يريد القدوم إلى مصر ليرى ابنه أو يكون عنده رأي فيه فرج ، فقال : { ارجعوا إلى أبيكم } أي دوني { فقولوا } أي له متلطفين في خطابكم { ياأبانا } وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها لكم فقولوا : { إن ابنك } أي شقيق يوسف عليه الصلاة والسلام الذي هو أكملنا في البنوة عندك { سرق } .

ولما كانوا في غاية الثقة من أن أحداً منهم لا يلم بمثل ذلك ، أشاروا إليه بقولهم : { وما شهدنا } أي في ذلك { إلا بما علمنا } ظاهراً من رؤيتنا الصواع يخرج من وعائه؛ والشهادة : الخبر عن إحساس قول أو فعل ، وتجوز الشهادة بما أدى إليه الدليل القطعي { وما كنا للغيب } أي الأمر الذي غاب عنا { حافظين * } فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا { واسأل القرية } أي أهلها وجدرانها إن كانت تنطق { التي كنا فيها } وهي مصر ، عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا ، فإن الأمر قد اشتهر عندهم { و } اسأل { العير } أي أصحابها وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليه الصلاة والسلام { التي أقبلنا فيها } والسؤال : طلب الإخبار بأداته من الهمزة وهل ونحوهما ، والقرية : الأرض الجامعة لحدود فاصلة ، وأصلها من قريت الماء ، أي جمعته ، وسيأتي شرح لفظها آخر السورة ، والعير : قافلة الحمير ، من العير - بالفتح ، وهو الحمار ، هذا الأصل - كما تقدم ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير .
ولما كان ذلك جديراً بالإنكار لما يتحقق من كرم أخيهم ، أكدوه بقولهم : { وإنا } أي والله { لصادقون * } فكأنه قيل : فرجعوا إلى أبيهم وقالوا ما قال لهم كبيرهم ، فكأنه قيل : فما قال لهم؟ فقيل : { قال بل } أي ليس الأمر كذلك ، لم تصح نسبة ابني إلى السرقة ظاهراً ولا باطناً ، أي لم يأخذ شيئاً من صاحبه في خفاء بل { سولت } أي زينت تزييناً فيه غي { لكم أنفسكم أمراً } أي حدثتكم بأمر ترتب عليه ذلك ، والأمر : الشيء الذي من شأنه أن تأمر النفس به ، وكلا الأمرين صحيح ، أما النفي فواضح ، لأن بنيامين لم يسرق الصواع ولا همّ بذلك ، ولذلك لم ينسبه يوسف عليه الصلاة والسلام ولا مناديه إلى ذلك بمفرده ، وأما الإثبات فأوضح ، لأنه لولا فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام لما سولت لهم فيه أنفسهم لم يقع هذا الأمر لبنيامين عليه السلام { فصبر جميل } مني ، لأن ظني في الله جميل ، وفي قوله : { عسى الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { أن يأتيني بهم } أي بيوسف وشقيقه بنيامين وروبيل { جميعاً } ما يدل الفطن على أنه تفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليه الصلاة والسلام ، وأن الأمر إلى سلامة واجتماع؛ ثم علل ذلك بقوله : { إنه هو } أي وحده { العليم } أي البليغ العلم بما خفي علينا من ذلك ، فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد { الحكيم * } أي البليغ في إحكام الأمور في ترتيب الأسباب بحيث لا يقدر أحد على نقض ما أبرمه منها ، وترتيب الوصفين على غاية الإحكام - كما ترى - لأن الحال داع إلى العلم بما غاب من الأسباب أكثر من دعائه إلى معرفة حكمتها؛ قال هذه المقالة { وتولى } أي انصرف بوجهه { عنهم } لما تفاقم عليه من الحزن ، وبلغ به من الجهد ، وهاج به باجتماع حزن إلى حزن من الحرق كراهية لما جاؤوا به وإقبالاً على من إليه الأمر { وقال } مشتكياً إلى الله لا غيره ، فهو تعريض بأشد التصريح والدعاء : { ياأسفي } أي يا أشد حزني ، والألف بدل عن ياء الإضافة لتدل على بلوغ الأسف إلى ما لا حد له ، وجناس « الأسف » مع « يوسف » مما لم يتعمد ، فيكون مطبوعاً ، فيصل إلى نهاية الإبداع ، وأمثاله في القرآن كثير { على يوسف } هذا أوانك الذي ملأني بك فنادمني كما أنادمك ، وخصه لأنه قاعدة إخوانه ، انبنى عليها وتفرع منها ما بعدها { وابيضت عينه } أي انقلب سوادهما إلى حال البياض كثرة الاستعبار ، فعمى البصر { من الحزن } الذي هو سبب البكاء الدائم الذي هو سبب البياض ، فذكر السبب الأول ، يقال : بلغ حزنه عليه السلام حزن سبعين ثكلى وما ساء ظنه قط .

ثم علل ذلك بقوله : { فهو } أي بسبب الحزن { كظيم * } أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب ، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة ، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وهو أبلغ منه ، من كظم السقاء - إذا شده على ملئه .
ومادة « كظم » تدور على المنع من الإظهار ، يلزمه الكرب - لأنه من شأن الممنوع مما قد امتلأ منه ، ويلزمه الامتلاء ، لأن ما دونه ليس فيه قوة الظهور ، كظم غيظه -إذا سكت بعد امتلائه منه ، وكظمت السقاء - إذا ملأته وسددته ، وكظم البعير جرته - إذا ردها وكف ، والكظم : مخرج النفس ، لأنه به يمنع من الجري في هواه؛ والكظامة : حبل يشد به خرطوم البعير ، لمنعه مما يريد ، وأيضاً يوصل بوتر القوس العربية ثم يدار بطرف السية العليا ، منعاً له من الانحلال وأيضاً قناة في باطن الأرض يجري فيهما الماء ، لأنه يمنع الماء من أن يأخذ في هواه فيرتفع في موضع النبع فيظهر على وجه الأرض ، وخرق يجري فيه الماء من بئر إلى بئر ، لأنه لا يصنع إلا عند ضعف إحدى البئرين ، فلولاه لفاضت القوية ، فهو تصريف لمائها في غير وجهه ، وكظامة الميزان : المسمار الذي يدور فيه اللسان ، لأنه يربطه فيمنعه من الانفكاك ، ويقال : ما زلت كاظماً يومي كله ، أي ممسكاً عن الأكل وقد امتلأت جوعاً ، وقد يطلق على مطلق النبع ، ومنه كاظمة - لقرية على شاطىء البحر ، لأن البحر قد كظمها عن الانفساح وكذا هي منعته عن الانسياح .

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)

فلما رأوا أنه قد فاتهم ما ظنوا أنه يكون بعد ذهاب يوسف من صلاح الحال مع أبيهم بقصر الإقبال عليهم ، ووقع لأبيهم هذا الفادح العظيم ، تشوف السامع إلى قولهم له ، فاستأنف الإخبار عنه بقوله : { قالوا } أي حنقاً من ذلك { تالله } أي الملك الأعظم ، يميناً فيها تعجب { تفتئوا } أي ما تزال { تذكر يوسف } حريصاً على ذكره قوياً عليه حرص الفتى الشاب الجلد الصبور على مراده { حتى } أي إلى أن { تكون حرضاً } أي حاضر الهلاك مشرفاً عليه متهيئاً له بدنف الجسم وخبل العقل - كما مضى بيانه في الأنفال عند { حرض المؤمنين على القتال } { أو تكون } أي كوناً لازماً هو كالجبلة { من الهالكين * } .
ولما تشوفت النفس إلى ما كان عنه بعد ما رأى من غلطة بنيه ، شفى عيّها بقوله : { قال إنما } أي نعم لا أزال كذلك لأنه من صفات الكمال للإنسان ، لدلالته على الرقة والوفاء ، وإنما يكون مذموماً إذا كان على وجه الشكاية إلى الخلق وأنا لا أشكو إلى مخلوق ، إنما { أشكوا بثي } والبث أشد الحزن ، سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر { وحزني } مطلقاً وإن كان سببه خفيفاً يقدر الخلق على إزالته { إلى الله } أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة تعرضاً لنفحات كرمه ، لا إلى أحد غيره ، وهذا - الذي سمعتوه مني فقلقتم له - قليل من كثير .
ولما كان يجوز أن يكونوا صادقين في أنهم لم يجدوا إلا قميص يوسف ملطخاً دماً ، وأن يكون قطعهم بأكل الذئب له مستنداً إلى ذلك ، وكان يعقوب عليه السلام يغلب على ظنه أن يوسف عليه السلام حي ويظن في الله أن يجمع شمله به ، قال : { وأعلم من الله } أي الملك الأعلى من اللطف بنا أهل هذا البيت ومن التفريج عن المكروبين والتفريح للمغمومين { ما لا تعلمون * } ومادة « فتا » يائية وواوية مهموزة وغير ومهموزة بكل ترتيب وهي فتأ ، وفأت وتفأ وأفت ، وفتى وفوت وتوف وتفو تدور على الشباب ، وتلزمه القوة وشدة العزيمة وسلامة الانقياد : ما فتأ يفعل كذا - مثلثة العين : ما زال كما أفتا ، أي إنه ما زال فاعلاً في ذلك فعل الشاب الجلد الماضي العزم ، وما فتىء أن فعل ، ما برح أي أنه بادر إلى ذلك بسهولة انقياد وشدة عزيمة ، وحقيقته : ما فتىء عن فعل كذا ، أي ما تجاوزه إلى غيره وما نسيه بل قصر فتاءه وهمته وجلده عليه ، وعن ابن مالك في جمع اللغات المشكلة وعزاه للفراء - وصححه في القاموس : فتأ - كمنع : كسر وأطفأ ، وهو واضح في القوة ، وفتىء عنه - كسمع : نسيه وانقذع عنه ، أي انكف أو خاص بالجحد ، أي بأن يكون قبله حرف نفي ، ومعناه أن قوته تجاوزته فلم تخالطه؛ ومن يائيه : الفتاء - كسماء : الشباب ، وكأنه أصل المادة ، والفتي - بالقصر؛ السخي والكريم ، أي الجواد الشريف النفس ، والفتى : السيد الشجاع - لأن ذلك يلزم الشباب ، والفتى : المملوك وإن كان بخيلاً أو شيخاً - لأنه غالباً لا يشتري إلا الشباب ، والفتى : التلميذ ، والتابع كذلك ، والفتى - كغنى : الشاب أيضاً ، والفتوة : الكرم ، وقد تفتى وتفاتى ، وفتوتهم : غلبتهم فيها ، وأفتاه في الأمر : أبانه له ، والفتيا - بالضم والفتوى - ويفتح : ما أفتى به الفقيه ، وهو يرجع إلى الجود وحسن الخلق ، والفتيان : الليل والنهار ، ولذلك يسميان الجديدين ، وفتيت البنت تفتية : منعت اللعب مع الصبيان ، فهو من سلب الشباب ، أي فعله ومن مقلوبه مهموزاً : افتأت عليّ الباطل : اختلقه ، وبرأيه : استبد ، وكلاهما يدل على جرأة وطيش ، وهو بالشاب الذي لم يحنكه الدهر أجدر ، وافتئت - على البناء للمفعول : مات فجأة - كأن ذلك أشد الموت؛ ومن واوية : فات الشيء فوتاً وفواتاً : ذهب فسبق فلم يدرك ، وفاته وافتاته : ذهب عنه فسبقه ، وذلك يدل على قوة السابق ، وبينهما فوت ، أي بون - كأن كلاً منهما سابق للآخر ، وتفاوت الشيئان وتفوتا : تباعد ما بينهما ، ويلزم ذلك الاختلاف والاضطراب ، ويلزمه العيب { فما ترى في خلق الرحمن من تفوت } : من عيب ، يقول الناظر : لو كان كذا كان أحسن ، وموت الفوات : الفجأة ، وهو فوت رمحه ويده ، أي حيث يراه ولا يصل إليه ، والفوت : الفرجة بين إصبعين ، وافتأت عليه برأيه : سبقه به ، وفاته به وعليه : غلبه ، ولا يفتات عليه أي لا يعمل دون أمره ، أي لا أحد أشد منه فيسبقه ، وافتات الكلام : ابتدعه - كما تقدم في المهموز ، وافتات عليه : حكم - لقوته ، والفويت - كزبير : المنفرد برأيه - للمذكر والمؤنث ، وذلك لعدة نفسه شديداً ، وتفوت عليه في ماله : فاته به؛ ومن مقلوبه مهموزاً : تفىء كفرح : احتد وغضب - وذلك لشدته ، وتفيئة الشيء : حينه وزمانه ، وذلك أحسن أحواله ، ودخل على تفيئته أي أثره أي لم يسبقه بكثير ، وذلك أشد له؛ ومن واوية : التفة كقفة : عناق الأرض وهي تصيد ، وفيها خلاف يبين إن شاء الله تعالى في قوله : { جزاء موفوراً } من سورة سبحان؛ ومن مقلوبه واوياً : تاف بصره يتوف : تاه - كأنه لسلب الشدة أو المعنى أنه وقع في توقة ، أي شدة ، وما فيه توفة - بالضم - ولا تافة : عيب أو مزيد أو حاجة وأبطأ وكل ذلك يدل على شدته ، وطلب علي توفة بالفتح ، : عثرة وذنباً - من ذلك لأن العثرة والذنب لا يصيبان شيئاً إلا عن شدتهما وضعفه؛ ومن مقلوبه مهموزاً : الأفت - بالفتح : النافة التي عندها من الصبر والبقاء ما ليس عند غيرها ، والسريع الذي يغلب الإبل على السير ، والكريم من الإبل - ويكسر - والداهية والعجب ، وكل ذلك واضح في القوة ، والإفت - بالكسر : الأول - لأنه أصل كل معدود ، وأفته عن كذا : صرفه .

ولما أخبرهم عليه السلام أن علمه فوق علمهم ، أتبعه استئنافاً ما يدل عليه فقال : { يابني اذهبوا } ثم سبب عن هذا الذهاب وعقب به قوله : { فتحسسوا } أي بجميع جهدكم { من يوسف وأخيه } أي اطلبوا من أخبارهما بحواسكم لعلكم تظفرون بهما ، وهذا يؤكد ما تقدم من احتمال ظنه أن فاعل ذلك يوسف - عليهم الصلاة والسلام .
ولما لم يكن عندهم من العلم ما عنده ، قال : { ولا تيأسوا } أي تقنطوا { من روح الله } أي الذي له الكمال كله؛ والروح - قال الرماني - يقع بريح تلذ ، وكأن هذا أصله فالمراد : من رحمته وفرجه وتيسيره ولطفه في جمع الشتات وتيسير المراد؛ ثم علل هذا النهي بقوله : { إنه لا يبأس } أي لا يقنط { من روح الله } أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام { إلا القوم } أي الذين لهم قوة المحاولة { الكافرون * } أي العريقون في الكفر ، فأجابوه إلى ما أراد ، قتوجهوا إلى مصر لذلك ولقصد الميرة لما كان اشتد بهم من القحط ، وقصدوا العزيز؛ وقوله : { فلما دخلوا عليه } بالفاء يدل على أنهم أسرعوا الكرة في هذه المرة { قالوا } منادين بالأداة التي تنبه على أن ما بعدها له وقع عظيم { يا أيها العزيز } .
ولما تلطفوا بتعظيمه ، ترققوا بقولهم : { مسنا } أي أيتها العصابة التي تراها { وأهلنا } أي الذين تركناهم في بلادنا { الضر } أي لابسنا ملابسة نحسها { وجئنا ببضاعة مزجاة } أي تافهة غير مرغوب فيها بوجه ، ثم سببوا عن هذا الاعتراف - لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم - قولهم : { فأوف لنا } أي شفقة علينا بسبب ضعفنا { الكيل وتصدق } أي تفضيل { علينا } زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه .
ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله ، عللوا ذلك بقولهم : { إن الله } أي الذي له الكمال كله { يجزي المتصدقين * } أي مطلقاً وإن أظهرت - بما أفاد الإظهار - وإن كانت على غني قوي ، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف .

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)

فلما رأى أن الأمر بلغ الغاية ولم يبق شيء يتخوفه ، عرفهم بنفسه فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله حكاية : { قال هل علمتم } مقرراً لهم بعد أن اجترؤوا عليه واستأنسوا به ، والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان { ما } أي قبح الذي { فعلتم بيوسف } أي أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه { وأخيه } في جعلكم إياه فريداً منه ذليلاً بينكم ، ثم في قولكم له لما وجدوا الصواع في رحله : لا يزال يأتينا البلاء من قبلكم يا بني راحيل! وأعلمهم بأن ظنه فيهم الآن جميل تسكيناً لهم فقال : { إذ } أي حين { أنتم جاهلون * } أي فاعلون فعلهم - تلويحاً لهم إلى معرفته وتذكيراً بالذنب ليتوبوا ، وتلطفاً معهم في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب ، وينفث فيه المصدور ، ويشتفي فيه المغيظ المحنق ، ويدرك ثأره الموتور ، بتخصيص جهلهم - بمقتضى « إذا » - بذلك الزمان إفهاماً لهم أنهم الآن على خلاف ذلك ، فكأنه قيل : إنه قد قرب لهم الكشف عن أمره ، لأنه لا يستفهم ملك مثله - لم ينشأ بينهم ولا تتبع أحوالهم وليس منهم - هذا الاستفهام ولا سيما وقد روى أنه لما قال هذا تبسم ، وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله معه من رآه ولو مرة واحدة ، فهل عرفوه؟ فقيل : ظنوه ظناً غالباً ، ولذلك { قالوا } مستفهمين { أإنك } وأكدوا بقولهم : { لأنت يوسف } .
ولما كان المتوقع من مثله فيما هو فيه من العظمة أن يجازيهم على سوء صنيعهم إليه ، استأنف بيان كرمه فقال : { قال أنا يوسف } وزادهم قوله : { وهذا أخي } أي بنيامين شقيقي لذكره لهم في قوله { وأخيه } وليزيدهم ذلك معرفة له ، وثبتها في أمره بتصديقه له مع مكثه عنده مدة ذهابهم وإيابهم ، وليبني عليه قوله : { قد منَّ الله } أي الذي له الجلال والإكرام { علينا } بأن جمع بيننا على خير حال تكون؛ ثم تعليله بقوله : { إنه من يتق } وهو مجزوم لأنه فعل الشرط ، وأثبت قنبل - بخلافه عنه - ياءه في الحالين معاملاً له معاملة الصحيح إشارة إلى وصف التقوى بالصحة الكاملة والمكنة الزائدة والملازمة لها في كل حال { ويصبر } أي يوفه الله أجره لإحسانه { فإن الله } أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال { لا يضيع } أي أدنى إضاعة - أجره ، هكذا كان الأصل ، ولكنه عبر بما يعرف أن التقوى والصبر من الإحسان ، فقال : { أجر المحسنين * } والتقوى : دفع البلاء بسلوك طريق الهدى؛ والصبر : حبس النفس بتجرع مرارة المنع عما يشتهي ، ولعله إنما ستر أمره عنهم إلى هذا الحد لأنه لو أرسل إلى أبيه يخبره قبل الملك لم يأمن كيد إخوته ، ولو تعرف إليهم بعده أو أول ما رآهم لم يأمن من أن تقطع أفئدتهم عند مفاجأتهم بانكشاف الأمر وهو فيما هو فيه من العز ، فإنهم فعلوا به فعل القاتل من غير ذنب قدمه إليهم ، فهم لا يشكون في أنه إذا قدر عليهم يهلكهم لما تقدم لهم إليه من سوء الصنيعة ، وعلى تقدير سلامتهم لا يأمنونه وإن بالغ في إكرامهم ، فإن الأمور العظام - إن لم تكن بالتدريج - عظم خطرها ، وتعدى ضررها ، فإن أرسلهم ليأتوا بأبيهم خيف أن يختلوا أباهما من ملك مصر ويحسنوا له الإبعاد عن بلاده ، فيذهبوا إلى حيث لا يعلمه ، وإن أرسل معهم ثقات من عنده لم يؤمن أن يكون بينهم شر ، وإن سجنهم وأرسل إلى أبيه من يأتي به لم يحسن موقع ذلك من أبيه ، ويحصل له وحشة بحبس أولاده ، وتعظم القاله بين الناس من أهل مصر وغيرهم في ذلك ، ففعل معهم ما تقدم ليظهر لهم إحسانه وعدله ودينه وخيره ، وكفه عنهم وعفوه عن فعلهم بالتدريج ، ويقفوا على ذلك منه قولاً وفعلاً من أخيه الذي ربى معهم وهم به آنسون وله ألفون ، فتسكن روعتهم ، وتهون زلتهم ، ومما يدل على ذلك أنه لما انتفى عن أخيه بنيامين ما اتصفوا به مما ذكر ، تعرف إليه حين قدم عليه ونهاه أن يخبرهم بحقيقة الأمر ، وشرع يمد في ذلك لتستحكم الأسباب التي أرادها ، فلما ظن أن الأمر قد بلغ مداه ، لوح لهم فعرفوه وقد أنسهم حسن عقله وبديع جماله وشكله ورائع قوله وفعله ، فكان موضع الوجل والخجل ، وموضع اليأس الرجاء ، فحصل المراد على وفق السداد - والله الموفق؛ وذلك تنبيه لمن قيل لهم أول السورة

{ لعلكم تعقلون } [ يوسف : 2 ] على الاقتداء بأفعال الهداة المهديين في التأني والاتئاد وتفويض الأمور إلى الحكيم ، وأن لا يستعجلوه في أمر ، وأن يعلموا أن سنته الإلهية جرت بأن الأمور الصعاب لا تنفذ إلا بالمطاولة لترتب الأسباب شيئاً فشيئاً على وجه الإحكام ، وفي ذلك فوائد من أجلها امتحان أولى الطاعة والعصيان - كما ستأتي الإشارة إليه آخر السورة بقوله؛ { حتى إذا استيئس الرسل } [ يوسف : 110 ] الآية والله أعلم .
ولما كان ما ذكر ، كان كأنه قيل : لقد أتاهم ما لم يكونوا يحتسبون فما قالوا؟ فقيل : { قالوا } متعجبين غاية التعجب . ولذلك أقسموا بما يدل على ذلك : { تالله } أي الملك الأعظم { لقد آثرك الله } أي الذي له الأمر كله { علينا } أي جعل لك أثراً يغطي آثارنا بعلوه فالمعنى : فضلك علينا أي بالعلم والعقل والحكم والحسن والملك والتقوى وغير ذلك { وإن } خففوها من الثقيلة تأكيداً بالإيجاز للدلالة على الاهتمام بالإبلاغ في الاعتذار في أسرع وقت { كنا } أي كوناً هو جبلة لنا { لخاطئين * } أي عريقين في الخطأ ، وهو تعمد الإثم ، فكأنه قيل : ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من إساءتهم؟ فقيل : { قال } قول الكرام اقتداء بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام { لا تثريب } أي لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك { عليكم اليوم } وإن كان هذا الوقت مظنة اللوم والتأنيب ، فإذا انتفى ذلك فيه فما الظن بما بعده!
ومادة « ثرب » تدور على البرث - بتقديم الموحدة ، وهو أسهل الأرض وأحسنها؛ ولثبرة - بتقديم المثلثة : أرض ذات حجارة بيض ، فإنه يلزمه الإخلاد ، والدعة ، ومنه : ثابر على الأمر : دوام ، والمثبر - كمنزل : لمسقط الولد أي موضع ولادته ، والمقطع والمفصل ، فيأتي الكسل واللين فيأتي الفساد ، ومنه الثبور للهلاك ، والبثر بتقديم الموحدة : خراج معروف : والماء البثر : الذي بقى منه على الأرض شيء قليل؛ والربث - بتقديم الموحدة أيضاً : حبس الإنسان ، وهو يرجع إلى الإقامة والدوام أيضاً؛ والتثريب : التقرير بالذنب ، فهو إزالة ما على الإنسان من ساتر العفو ، من الثرب وهو شحم يغشى الكرش والأمعاء ويسترهما ، وهو من لوازم الأرض السهلة لما يلزم من خصبها ، فالتثريب إزالته ، وذلك للقحط الناشىء عنه الهلاك ، فأغلب مدار المادة الهلاك .

ولما أعفاهم من الترثيب ، كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله ، فأتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله : { يغفر الله } أي الذي له صفات الكمال { لكم } أي ما فرط منكم وما لعله يكون بعد هذا؛ ولعله عبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشاداً لهم إلى إخلاص التوبه ، ورغبهم في ذلك ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران ، فقال : { وهو } أي وحده { أرحم الراحمين * } أي لجميع العباد ولا سيما التائب ، فهو جدير بإدرار النعم بعد الإعاذة من النقم ، وروى أنهم أرسلوا إليه أنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشياً ونحن نستحي لما فرط منا ، فقال : إن أهل مصر ينظرونني - وإن ملكت فيهم - بعين العبودية فيقولون : سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي ، وأني من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام .

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)

ولما أقر أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى ، بقي ما يخص أباهم من ذلك ، فكأنه وقع السؤال عنه فأجيب بقوله : { اذهبوا بقميصي } ولما كان قوله هذا ربما أوقع في أفهامهم قميصه الذي سلبوه إياه ، احترز عن ذلك بقوله : { هذا فألقوه } أي عقب وصولكم { على وجه أبي يأت } أي يرجع إلى ما كان { بصيراً } أو يأت إلى حالة كونه بصيراً ، فإنه إذا رد إليه بصره وعلم مكاني لم يصبر عن القصد إليّ لما عنده من وفور المحبة وعظيم الشوق ، وكونه قميصاً من ملابس يوسف المعتادة أدخل في الغرابة وأدل على الكرامة؛ والقميص ألصق الثياب بالجسم ، فإظهار الكرامة به أدل على كمال دين صاحبه وعراقته في أمور الإيمان ، وهو يؤول في المنام بالدين ، وذلك أدخل في كمال السرور ليعقوب عليه الصلاة والسلام { وأتوني } أي بأبي وأنتم { بأهلكم } أي مصاحبين لهم { أجمعين * } لا يتخلف منهم أحد ، فرجعوا بالقميص لهذا القصد ، قيل : كان يهوذا هو الذي حمل قميصه لما لطخوه بالدم ، فقال : لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته ، فحمله وهو حافٍ حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما ثمانون فرسخاً { ولما فصلت العير } من العريش آخر بلاد مصر إلى بلاد الشام { قال أبوهم } لولد ولده ومن حوله من أهله ، مؤكداً لعلمه أنهم ينكرون قوله : { إني لأجد } أي لأقول : إني لأجد { ريح يوسف } وصدهم عن مواجهته بالإنكار بقوله : { لولا أن تفندون * } أي لقلت غير مستح ولا متوقف ، لأن التفنيد لا يمنع الوجدان ، وهو كما تقول لصاحبك : لولا أن تنسبني إلى الخفة لقلت كذا ، أي إني قائل به مع علمي بأنك لا توافقني عليه ، « وفصل » هنا لازم يقال : فصل من البلد يفصل فصولاً ، والفصل : القطع بين الشيئين بحاجز ، والوجدان : ظهور من جهة إدراك يستحيل معه انتفاء الشيء ، والريح : عرض يدرك بحاسة الأنف أي الشم ، والتفنيد : تضعيف الرأي بالنسبة إلى الفند ، وهو الخوف وإنكار العقل من هرم ، يقال : شيخ مفند ، ولا يقال : عجوز مفندة ، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فيفندها كبرها؛ ثم استأنف حكاية جوابهم فقال : { قالوا } أي السامعون له ما ظنه بهم ، مقسمين بما دل على تعجبهم ، وهو { تالله } أي الملك الأعظم ، وأكدوا لمعرفتهم أنه ينكر كلامهم وكذا كل من يعرف كماله { إنك لفي ضلالك } أي بحيث صار ظرفاً لك { القديم * } أي خطئك في ظن حياة يوسف؛ قال الرماني : والضلال : الذهاب عن جهة الصواب . فصحح الله قوله وحقق وجدانه ، وعجلوا إليه بشيراً فأسرع بعد الفصول ، ولذلك عبر بالفاء في { فلما } وزيدت { أن } لتأكيد مجيئه على تلك الحال وزيادتها قياس مطرد { جاء البشير } وهو يهوذا بذلك ، معه القميص { ألقاه } أي القميص حين وصل إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام من غير فاصل ما بين أول المجيء وبينه كما أفادته زيادة « أن » لتأكيد ما تفيده « لما » من وقوع الفصل الثاني وهو هنا الإلقاء عقب الأول وترتبه عليه وهو هنا المجيء { على وجهه } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام { فارتد } من حينه { بصيراً } والارتداد : انقلاب الشيء إلى حال كان عليها ، فالتفت الخاطر إلى حاله مع فنده ، فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً : { قال } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام { ألم أقل لكم } : إني أجد ريحه؛ ثم علل هذا التقرير بقوله مؤكداً لأن قولهم قول من ينكر : { إني أعلم من الله } أي المختص بصفات الكمال { ما لا تعلمون * } لما خصني به تعالى من أنواع المواهب ، وهو عام لأخبار يوسف عليه الصلاة والسلام وغيرها ، وهو من التحديث بنعمة الله .

ولما كان ذلك تشوفت النفس إلى علم ما يقع بينه وبين أولاده في ذلك ، فدفع عنها هذا العناء بقوله : { قالوا ياأبانا } منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع : { استغفر } أي اطلب من الله أن يغفر { لنا ذنوبنا } ورد كل ضمير من هذه الضمائر إلى صاحبه في غاية الوضوح ، فلذلك لم يصرح بصاحبه .
ولما سألوه الاستغفار لذنوبهم ، عللوه بالاعتراف بالذنب ، لأن الاعتراف شرط التوبة - كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه » فقالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة : { إنا كنا خاطئين * } أي متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف علية الصلاة والسلام؛ ثم حكى جوابه بقوله مستأنفاً : { قال } أي أبوهم عليه السلام مؤكداً لكلامه : { سوف أستغفر } أي أطلب أن يغفر { لكم ربي } أي الذي لم يزل يحسن إليّ ويربيني أحسن تربية ، فهو الجدير بأن يغفر لبني حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء؛ والربوبية : ملك هو أتم الملك على الإطلاق ، وهو ملك الله تعالى لإنشاء الأنفس باختراعها وتصريفها أتم التصريف من الإيجاد والإعدام والتقليب من حال إلى حال في جميع الأمور من غير تعب؛ ثم علل ذلك بقوله : { إنه هو } أي وحده { الغفور الرحيم * } كل ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم ليقوى أملهم ، فيكون تعالى عند ظنهم بتحقيق الإجابة وتنجيزاً لطلبه؛ ولعله عبر ب « سوف » لتقديم هاتين الجملتين على المسألة لما ذكرته من الأغراض ، وقيل : لأنه أخر الدعاء إلى صلاة الليل ، وقيل : إلى ليلة الجمعة؛ وقيل : يؤخذ منها أن طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ .

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

ولما وقع ما ذكر ، وكان قد أرسل معهم من الدواب والمال والآلات ما يتجهزون به ، أقبلوا على التجهيز كما أمرهم يوسف عليه الصلاة والسلام ، ثم قدموا مصر وهم اثنان وسبعون نفساً من الذكور والإناث ، وكأنهم أسرعوا في ذلك فلذلك قال : { فلما } بالفاء { دخلوا على يوسف } في المكان الذي تلقاهم إليه في وجوه أهل مصر وضرب به مضاربه { آوى إليه أبويه } إكراماً لهما بما يتميزان به ، قيل : هو المعانقة ، والظاهر أنها أمه حقيقة ، وبه قال الحسن وابن إسحاق - كما نقله الرماني وأبو حيان ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها خالته ، وغلب الأب في هذه التثنية لذكورته كما غلب ما هو مفرد في أصله على المضاف في العمرين { وقال } مكرماً للكل { ادخلوا مصر } أي البلد المعروف ، وأتى بالشرط للأمن لا للدخول ، فقال : { إن شاء الله } أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله { آمنين * } من جميع ما ينوب حتى مما فرطتموه في حقي وحق أخي .
ولما ذكر الأمن الذي هو ملاك العافية التي بها لذة العيش ، أتبعه الرفعة التي بها كمال النعيم ، فقال : { ورفع أبويه } أي بعدما استقرت بهم الدار بدخول مصر مستويين { على العرش } أي السرير الرفيع؛ قال الرماني : أصله الرفع . { وخروا } أي انحطوا { له سجداً } الأبوان والإخوة تحقيقاً لرؤياه ممن هو غالب على كل أمر ، والسجود - وأصله : الخضوع والتذلل - كان مباحاً في تلك الأزمنة { وقال } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { ياأبت } ملذذاً له بالخطاب بالأبوة { هذا } أي الذي وقع من السجود { تأويل رؤياي } التي رأيتها ، ودل على قصر الزمن الذي رآها فيه بالجار فقال : { من قبل } ثم استأنف قوله : { قد جعلها ربي } أي الذي رباني بما أوصلني إليها { حقاً } أي بمطابقة الواقع لتأويلها ، وتأويل ما أخبرتني به أنت تحقق أيضاً من اجتبائي وتعليمي وإتمام النعمة عليّ؛ والتأويل : تفسير بما يؤول إليه معنى الكلام؛ وعن سلمان رضي الله عنه أن ما بين تأويلها ورؤياها أربعون سنة . { وقد أحسن } أي أوقع إحسانه { بي } تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة ، وتعدية { أحسن } بالباء أدل على القرب من المحسن من التعدية ب « إلى » وعبر بقوله : { إذا أخرجني من السجن } معرضاً عن لفظ « الجب » حذراً من إيحاش إخوته مع أن اللفظ يحتمله احتمالاً خفياً { وجاء بكم } وقيل : إنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ، يتنقلون في المياه والمناجع ، فلذلك قال : { من البدو } من أطراف بادية فلسطين ، وذلك من أكبر النعم كما ورد في الحديث « من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة » والبدو : بسيط من الأرض يرى فيه الشخص من بعيد ، وأصله من الظهور ، وأنس إخوته أيضاً بقوله مثبتاً الجار لأن مجيئهم في بعض أزمان البعد : { من بعد أن نزغ } عبر بالماضي ليفهم أنه انقضى { الشيطان } أي أفسد البعيد المحترق بوسوسته التي هي كالنخس { بيني وبين إخوتي } حيث قسم النزع بينه وبينهم ولم يفضل أحداً من الفريقين فيه ، ولم يثبت الجار إشارة إلى عموم الإفساد للبينين ، كل ذلك إشارة إلى تحقق ما بشر به يعقوب عليه الصلاة والسلام من إتمام النعمة وكمال العلم والحكمة؛ ثم علل الإحسان إليهم أجمعين بقوله : { إن ربي } أي المحسن إليّ على وجوه فيها خفاء { لطيف } - أي يعلم دقائق المصالح وغوامضها ، ثم يسلك - في إيصالها إلى المستصلح - سبيل الرفق دون العنف ، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك فهو اللطيف - قاله الرازي في اللوامع .

وهو سبحانه فاعل اللطف في تدبيره ورحمته { لما يشاء } لا يعسرعليه أمر؛ ثم علل هذه العلة بقوله : { إنه هو } أي وحده { العليم } أي البليغ العلم للدقائق والجلائل { الحكيم * } أي البليغ الإتقان لما يصنعه طبق ما ختم به يعقوب عليه الصلاة والسلام بشراه في أول السورة ، أي هو منفرد بالاتصاف بذلك لا يدانيه أحد في علم ليتعرض إلى أبطال ما يقيمه من الأسباب ، ولا في حكمة ليتوقع الخلل في شيء منها .

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

ولما ذكر هاتين الصفتين ، تذكر ما وقع له بهما من الأسباب ، فغلب عليه مقام الشهود وازدادت نفسه عن الدنيا عزوفاً ، فقال مخاطباً : { رب قد آتيتني } وافتتح ب « قد » لأن الحال حال توقع السامع لشرح مآل الرؤيا { من الملك } أي بعضه بعد بعدي منه جداً ، وهو معنى روحه تمام القدرة { وعلمتني } وقصر دعواه تواضعاً بالإتيان بالجار فقال : { من تأويل الأحاديث } طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك ، والله غالب على أمره؛ ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال : { فاطر السماوات والأرض } ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعول على غيره في شيء من الأشياء فقال : { أنت وليِّي } أي الأقرب إليّ باطناً وظاهراً { في الدنيا والآخرة } أي لا ولي لي غيرك ، والولي يفعل لمولاه الأصلح والأحسن ، فأحسن بي في الآخرة أعظم ما أحسنت بي في الدنيا .
ولما كان توليه لله لا يتم إلا بتولي الله له ، أتبعه بما يفيده فقال : { توفني } أي اقبض روحي وافياً تاماً في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني { مسلماً } ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص ، حققه بقوله : { وألحقني بالصالحين * } فتوفاه الله كما سأل؛ قالوا : وتخاصم أهل مصر فيه ، كلهم يرجو أن يدفن في محلته يرجو بركته ، ثم اصطلحوا على أن عملوا له صندوقاً من رخام ودفنوه في وسط النيل ، ليفترق الماء على جميع الأرض فتنالها بركته وتخصب كلها على حد سواء ، ويكونوا كلهم في الماء سواء .
ذكر ما بقي من القصة عن التوراة :
قال بعدما مضى : فلم يقدر يوسف على الصبر - يعني على ترفق إخوته - فأمر بإخراج جميع من كان عنده ، فلم يبق عنده أحد حيث ظهر يوسف لإخوته ، فرفع صوته فبكى حتى سمع المصريون فأخبروا في آل فرعون ، فقال يوسف لإخوته : أنا أخوكم يوسف ، هل أبي باق؟ فلم يقدر إخوته على إجابته لأنهم رهبوه ، فقال يوسف لإخوته : ادنوا مني فدنوا فقال لهم : أنا يوسف الذي بعتموني لمن ورد إلى مصر ، والآن فلا تحزنوا ، ولا يشقن عليكم ذلك ، ولا يشتدن عليكم بيعكم إياي إلى ما هنا ، لأن الله أرسلني أمامكم لأعد لكم القوت ، لأن للجوع مذ أتى سنتين ، وستأتي خمس سنين أخر لا يكون فيها زرع ولا حصاد ، فأرسلني الرب أمامكم لأصير لكم بقاء في الأرض وأخلصكم وأستنقذكم ، لتحيوا وتستبشروا على الأرض ، والآن فلستم أنتم الذين بعثتموني إلى هاهنا بل الله أرسلني وجعلني أباً لفرعون وسيداً لجميع أهل بيته ، ومسلطاً على جميع أرض مصر ، فاصعدوا الآن عجلين عليّ بأبي وقولوا له : هكذا يقول ابنك يوسف : إن الله جعلني سيداً لجميع أهل مصر ، فاهبط إليّ ولا تتأخر ، وانزل إلى أرض السدير - وفي نسخة : خشان - فكن قريباً مني أنت وبنوك وأهل بيتك وعمتك وبقرك وجميع مالك ، فأموّنكم هناك ، لأنه قد بقي خمس سنين جوعاً ، لئلا تهلك أنت وأهل بيتك وكل مالك ، وهذه أعينكم تبصر وعينا أخي بنيامين ، إني أكلمكم مشافهة ، وأخبروا أبي بجميع كرامتي ووقاري في أرض مصر ، وبجميع ما رأيتم ، وأسرعوا واهبطوا بأبي إلى ما هاهنا ، فاعتنق أخاه بنيامين أيضاً وبكى ، وقبل جميع إخوته وبكى ، ومن بعد ذلك كلمه إخوته ، فبلغ ذلك فرعون وقيل له : إن إخوة يوسف قد أتوه ، فسر ذلك فرعون ، عبده - وفي نسخة : وجميع قواده - فقال فرعون ليوسف : قل لإخوتك فليفعلوا هكذا ، أوقروا دوابكم ميرة ، وانطلقوا بها إلى أرض كنعان ، وأقبلوا بأبيكم وأهل بيوتاتكم وائتوني فأنحلكم خيرات أرض مصر وخصبها ، وكلوا خصب الأرض ، وهذا أنت المسلط ، فأمر إخوتك أن يفعلوا هذا الفعل ، احملوا من أرض مصر عجلاً لنسائكم وحشمكم ، وأظعنوا بأبيكم فأقبلوا ، ولا تشفقن على أمتعتكم ، لأن جميع خيرات مصر وأرضها وخصبها هو لكم ، ففعل بنو إسرائيل كما أمر فرعون ، ودفع إليهم يوسف عجلاً عن أمر فرعون ، وزودهم جميع أزودة الطريق ، وخلع على كل أمرىء منهم خلعة ، فأما بنيامين فأجازه بثلاثمائة درهم - وفي نسخة : مثقال فضة - وخلع عليه خمس خلع ، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك أيضاً وعشرة حمير موقرة من البر والطعام وأزودة لأبيه للطريق وأرسلهم ، فانطلقوا ، وتقدم إليهم وقال لهم : لا تقع المشاجرة فيما بينكم في الطريق ، فظعنوا من مصر فأتوا أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم ، فأخبروه وقالوا له : إن يوسف بعد في الحياة ، وهو المسلط على جميع أرض مصر ، ورأى يعقوب العجل الذي بعث يوسف لحمله فاطمأنت نفسه وقال : إن هذا لعظيم عندي ، إذ كان ابني يوسف بعد الحياة ، أنطلق الآن فأنظر إليه قبل الموت .

فظعن إسرائيل وجميع ما له ، فأتى بئر السبع ، وقرب قرباناً لإله إسحاق أبيه ، فكلم الله إسرائيل في الرؤيا وقال له : يا يعقوب! فقال : هاأنذا! فقال : إني أنا إيل إله أبيك ، لا تخف من الحدور إلى مصر ، لأني أجعلك هناك إلى شعب عظيم - وفي نسخة : لأني أصير منك أمة عظيمة - أنا أهبط معك ، وأنا أصعدك ، ويوسف يضع يده على عينيك ، فنهض يعقوب من بئر السبع وظعن بنو إسرائيل بيعقوب أبيهم وبحشمهم ونسائهم على العجل الذي بعث فرعون لحمله ، وساقوا دوابهم ومواشيهم التي استفادوها بأرض كنعان ، فأتوا بها مصر يعقوب وجميع نسله وبنوه معه وبنو بنيه وبناته وبنات بناته ، وأدخل إلى مصر كل نسله ،
ثم سماهم واحداً واحداً ، ثم قال : فجميع بني يعقوب الذين ادخلوا مصر سبعون إنساناً ، ثم بعث يعقوب يهوذا بين يديه إلى يوسف عليه الصلاة والسلام ليدله على السدير - وفي نسخة : خشان - فألجم يوسف مراكبه ، وصعد للقاء أسرائيل أبيه إلى خشان - وفي نسخة : السدير - فتلقاه واعتنقه وبكى إذ اعتنقه ، فقال إسرائيل ليوسف : أتوفى الآن بعد نظري إليك يا بني ، فأنت في الحياة بعد ، فقال يوسف لإخوته وآل أبيه : أصعد فأخبر فرعون وأقول : إن إخوتي وآل أبي الذين كانوا بأرض كنعان قد أتوني والقوم رعاء غنم ، لأنهم أصحاب مواش وقد أتوا بغنمهم وبقرهم وبكل شيء لهم ، فإذا دعاكم فقولوا له : إنا عبيدك أصحاب ماشية منذ صبانا ، وحتى الآن نحن وآباؤنا من قبل أيضاً ، لكي تنزلوا أرض خشان - وفي نسخة : السدير - لأن رعاة الغنم هم مرذولون عند المصريين .

فأتى يوسف فأخبر فرعون وقال له : إن أبي وإخوتي أتوني وغنمهم وبقرهم وجميع ما لهم في أرض كنعان ، وهو ذا هم حلول بأرض السدير ، وحمل من إخوته خمسة رهط ، فأدخلهم على فرعون فوقفوا بين يديه ، فقال فرعون لإخوة يوسف : ما صنعتكم؟ فقالوا : إن عبيدك رعاء غنم نحن منذ صبانا ، وآباؤنا أيضاً من قبل . وقالوا لفرعون : إنا أتينا لنسكن هذه الأرض لأنه فقد الحشيش والعشب والكلأ من مرابع غنم عبيدك ، وذلك لأن الجوع اشتد في أرض كنعان ، فأمر عبيدك أن ينزلوا بأرض السدير ، فقال فرعون ليوسف : إن أباك وإخوتك قد أتوا ، وهذه أرض مصر بين يديك ، فأسكن أباك وإخوتك في أحسن الأرض وأخصبها لينزلوا أرض السدير ، وإن كنت تعلم أن فيهم قوماً ذوي قوة وبطش ونفاذ فولهم جميع مالي ، فأدخل يوسف عليه السلام أباه يعقوب عليهم الصلاة والسلام على فرعون فأقامه بين يديه ، فقال فرعون ليعقوب عليه الصلاة والسلام : كم عدد سني حياتك؟ فقال يعقوب عليه السلام لفرعون : مبلغ حياتي مائة وثلاثون سنة ، وإن أيام حياتي لناقصة ، ولم أبلغ سني حياة آبائي في أيام حياتهم ، فبارك يعقوب فرعون ودعا له ، وخرج من بين يديه ، فأسكن يوسف عليه السلام أباه يعقوب عليه السلام وإخوته وأعطاهم وراثة في أرض مصر في أخصب الأرض وأحسنها في أرض رعمسيس - وفي نسخة : أرض عين شمس - كما أمر فرعون ، فقات يوسف أباه وإخوته وجميع أهل بيته بالميرة على قدر الحشم ، ولم تكن ميرة في جميع الأرض كلها لأن الجوع اشتد جداً ، فخرجت جميع أرض مصر وأرض كنعان ، فصار إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كل ورق ألفي في أرض مصر وأرض كنعان ، وذلك ثمن البر الذي كانوا يبتاعونه ، فأورد يوسف الورق بيت مال فرعون ، ونفد الورق من أرض مصر وأرض كنعان ، فأتى جميع المصريين إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقالوا له : أعطنا من القمح حاجتنا فنحيى ولا نموت ، لأن ورقنا قد نفذ ، فقال لهم يوسف : ادفعوا إليَّ مواشيكم إن كانت الأوراق قد نفدت ، فأقوتكم بمواشيكم ، فأتوه بمواشيهم فأعطاهم يوسف من الميرة بخيلهم وبمواشي الغنم وماشية البقر والحمير ، وقاتهم سنتهم تيك بجميع مواشيهم ، فأتوه في السنة الأخرى وقالوا له : لسنا نكتم سيدنا أمرنا ، لأنن أوراقنا وماشيتنا ودوابنا قد نفدت وصارت عند سيدنا ، ولم يبق بين يدي سيدنا غير أنفسنا وأرضنا ، فلم نهلك بين يديك؟ فابتعنا وأراضينا بإطعامك إيانا الخبز ، فنصير نحن عبيداً لفرعون وأرضنا ملكاً له ، وأعطنا البذر فنحيا ولا نموت ، ولا تخلو الأرض وتخرب لفقد سكانها ، فابتاع يوسف لفرعون جميع أرض مصر ، فصارت الأرض لفرعون ، فنقل الشعب من قرية إلى قرية وحولهم من أقاصي الأرض نحو مصر إلى أقطارها ما خلا أرض الأجناد - وفي نسخة : أئمتهم - فإنه لم يبتعها ، لأنه كان يجري على الأجناد - وفي رواية : أئمتهم - وظيفة ونزلا من عند فرعون ، وكانوا يأكلون برهم الموظف لهم من قبل فرعون ، ولذلك لم يبيعوا أرضهم ، فقال يوسف للشعب : إني قد اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون ، وهاأنذا معطيكم البذر لتزرعوا في الأرض ، فإذا دخلت الغلة فأعطوا فرعون الخمس منها ، وتكون لكم لزراعة الحقل أربعة أخماس ، ولمأكل أهل بيوتاتكم وإطعام حشمكم ، فقالوا له : لقد أحييتنا ، فلنظفر من سيدنا برحمة ورأفة ، ونكون عبيداً لفرعون ، فسن يوسف هذه السنة على أرض مصر إلى يوم الناس هذا ، فصار الخمس لفرعون ما خلا أرض أئمتهم - وفي رواية : الأجناد - فإنها لم تكن لفرعون .

فسكن إسرائيل أرض مصر وأرض السدير ، فعظموا واعتزوا فيها واستيسروا وتماجدوا ، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة ، وكانت جميع أيام حياة يعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة ، ودنت أيام وفاة إسرائيل عليه السلام ، فدعا يوسف ابنه عليه السلام وقال له : إن ظفرت منك برحمة ورأفة ، فضع يدك تحت ظهري حتى أستحلفك بالله وأقسم عليك به ، وأنعم عليّ بالنعمة والقسط ، لا تدفني بمصر ، بل أضطجع مع آبائي ، احملني من مصر فادفني في مقبرتهم ، فقال يوسف : أنا فاعل ذلك كقولك وأمرك ، فقال له : أقسم لي ، فأقسم له فتوكأ إسرائيل على عصاه وسجد شكراً .
فلما كان بعد هذه الأقاويل بلغ يوسف عليه السلام أن أباه قد مرض ، فانطلق بابنيه معه : منشا وإفرايم ، فبلغ يعقوب وقيل له : إن ابنك يوسف قد أتاك ، فتقوى إسرائيل وجلس على أريكته ، فقال إسرائيل ليوسف : إن إله المواعيد اعتلن لي بلوز في أرض كنعان ، فباركني وقال لي : هاأنذا مباركك ومكثرك ، وأجعلك أباً لجميع الشعوب ، وأعطي نسلك من بعدك هذه الأرض ميراثاً إلى الأبد ، وأنا إذ كنت مقبلاً من فدانة أرام توفيت عني راحيل أمك في أرض كنعان في الطريق ، وكان بيني وبين الدخول إلى إفراث قدر مسيرة ميل - وفي نسخة : - فرسخ - فدفنتها هناك في طريق إفراث - وهي بيت لحم - ونظر إسرائيل إلى ابني يوسف فقال له : من هذان؟ فقال : ابناي اللذان رزقني الله هاهنا ، فقال أدنهما مني ، فقبلهما واعتنقهما وقال : ما كنت أرجو النظر إلى وجهك فقد أراني الله نسلك أيضاً ، وقال إسرائيل ليوسف عليهما الصلاة والسلام : هاأنذا متوف ، ويكون الله بنصره وعونه معكم ، ويردكم إلى أرض آبائكم ، وهأنذا قد فضلتك على إخوتك بسهم من الأرض التي غلبت عليها الأمورانيون بسيفي وقوسي ، ثم إن يعقوب دعا بنيه وقال؛ اجتمعوا إليّ فأبين لكم ما هو كائن من أمركم في آخر الأيام ، فذكر ذلك ثم قال : وهذا ما أخبرهم به يعقوب أبوهم ، نبأهم بذلك وبارك عليهم كل امرىء منهم على قدره ، ثم أوصاهم وقال لهم : إنني أنتقل إلى شعبي فادفنوني إلى جانب آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحيثاني ، في المغارة التي في الروضة المضاعفة إلى جانب ممري بأرض كنعان التي ابتاعها إبراهيم : روضة من عفرون الحيثاني وراثة المقبرة ، هنالك دفن إبراهيم وسارة حليلته ، وفيها دفن إسحاق ورفقا حليلته ، وهنالك دفنت ليا في الروضة المبتاعة والمغارة التي فيها من بني حاث .

فلما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه بسط رجليه على أريكته فمات ونقل إلى شعبه .
فوقع يوسف عليه فقبله وبكى عليه ، فأمر عبيده الأطباء بتحنيطه ، فحنط الأطباء إسرائيل وتمت له أربعون ليلة ، لأنه هكذا تكمل أيام المحنطين ، وناح المصريون عليه سبعين يوماً ، فقال يوسف لآل فرعون : إن ظفرت منكم برحمة ورأفة فأخبروا فرعون أن أبي أحلفني وأقسم عليّ وقال لي : هاأنا متوف ، فاقبرني في القبر الذي ابتعته في أرض كنعان ، فيأذن لي فأصعد فأدفن أبي ثم أرجع ، فقال له فرعون : اصعد فادفن أباك كما أقسم عليك ، فصعد يوسف ليدفن أباه ، وصعد معه جميع عبيد فرعون وأشياخ بيته وجميع أشياخ مصر وجميع أهل بيت يوسف ، وصعد معه إخوته وآل أبيه ، وأما حشمهم وبقرهم وغنمهم فخلفوها بأرض خشان - وفي نسخة : السدير - وأصعد المراكب والفرسان أيضاً ، فصار في عسكرعظيم منيع ، فأتوا إلى بيادر أطرا - وفي نسخة : أندر العوسج - التي في مجاز الأردن ، فرنوا هناك وناحوا نوحاً عظيماً مراً ، فنظر سكان أرض كنعان إلى التأبل والنواح في أجران العوسج ، فقالوا : إن هذا التأبل عظيم للمصريين ، ولذلك دعي ذلك الموضع « تأبل مصر » ، الذي في مجاز الأردن ، ففعل بنو إسرائيل كما أمرهم ، وحملوه وانطلقوا به إلى أرض كنعان فدفنوه ثم في المغارة المضاعفة التي في الروضة التي ابتاعها إبراهيم وراثة المقبرة من عفرون الحيثاني وهي إمام ممري .
ثم رجع يوسف إلى مصر هو وإخوته وجميع من صعد معه في دفن أبيه ، ومن بعد ما دفن أباه نظر إخوة يوسف إلى أبيهم قد توفى ، ففرقوا وقالوا : لعل يوسف أن يؤذينا وينكأنا ولعله أن يكافئنا على جميع الشر الذي ارتكبنا منه ، فدنوا من يوسف وقالوا له : إن أباك أوصى قبل وفاته وقال : هكذا قولوا ليوسف : نطلب إليك أن تعفو عن جهل إخوتك وعن خطاياهم بارتكابهم الشر منك ، فالآن نطلب إليك أن تعفو عن ذنب عبيد إله أبيك ، فبكى يوسف لما قالوا ذلك ، فدنا إخوته فخروا بين يديه سجداً وقالوا له : هوذا نحن لك عبيد ، فقال لهم : لا تخافوني لأني أخاف الله ، أما أنتم فهممتم بي شراً فصيره الله لي خيراً كما فعل بي يومنا هذا ، فأحيي على يدي خلقاً عظيماً ، والآن فلا خوف عليكم ، أنا أقوتكم وحشمكم ، فعزاهم وملأ قلوبهم خيراً .

ثم أقام يوسف بمصر هو وآل بيته ، فعاش يوسف مائة وعشر سنين ورأى يوسف ولد ولده ، فقال يوسف لإخوته : هاأنذا متوف ، والله سيذكركم ويخرجكم من هذه الأرض إلى الأرض التي أقسم بها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فأقسم يوسف على بني أسرائيل وقال : إن الله سيذكركم ، فأصعدوا عظامي معكم ، فتوفي يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين ، فحنطوه ووضعوه في صندوق بأرض مصر - وسيأتي ما بعد ذلك من استعبادهم وما يتبعه في سورة القصص إن شاء الله تعالى .
وهذا الذي ذكر من القصة في التوراة مصدق لما في القرآن وشاهد بإعجازه ، غير أنه لم يذكر شرح قوله تعالى : { فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً } [ يوسف : 80 ] في أنه بعد أخذ الصواع من رحل أخيه تركهم من غير تعريف لهم بنفسه فمضوا إلى أبيهم فأخبروه بذلك ، ثم عادوا مرة أخرى للميرة والطلب ليوسف وأخيه فعرفهم يوسف عليه السلام بنفسه وجلا لهم الأمر في هذه القدمة الثالثة ، فكأنهم أسقطوا ما في التوراة من ذلك تدليساً وتلبيساً ، وهو لا يضر غيرهم ، فإن ما صار في كتابهم لا يتمشى على قوانين العقل لمن تدبر ، فلم يفدهم ذلك غير التحقق لخيانتهم وجهلهم - والله الهادي إلى الصواب .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)

ولما تم الذي كان من أمرهم على هذا الوجه الأحكم والصراط الأقوم من ابتدائه إلى انتهائه ، قال مشيراً إلى أنه دليل كاف في تصحيح دعوى النبوة مخاطباً لمن لا يفهم هذا الحق فهمه غيره ، مسلياً له مثبتاً لفؤاده وشارحاً لصدره ، منبهاً على أنه مما ينبغي السؤال عنه : { ذلك } أي النبأ العالي الرتبة الذي قصصناه قصاً يعجز البلغاء من حملته ورواته فكيف بغيرهم { من أنباء الغيب } أي أخباره التي لها شأن عظيم { نوحيه إليك } وعبر بصيغة المضارع تصويراً لحال الإيحاء الشريف وإشارة إلى أنه لا يزال معه يكشف له ما يريد { و } الحال أنك { ما كنت لديهم } أي عند إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام في هذا النبأ الغريب جداً { إذ } أي حين { أجمعوا أمرهم } على رأي واحد في إلقاء يوسف عليه الصلاة والسلام في الجب بعد أن كان مقسماً { وهم يمكرون * } أي يدبرون الأذى في خفية ، من المكر وهو القتل - لتعرف ذلك بالمشاهدة ، وانتفاء تعلمك لذلك من بشر مثل انتفاء كونك لديهم في ذلك الحين ، ومن المحقق لدى كل ذي لب أنه لا علم إلا بتعليم ، فثبت أنه لا معلم لك إلا الله كما علم إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فيا له من دليل جل عن مثيل ، وهذا من المذهب الكلامي ، وهو إيراد حجة تكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب ، وهو تهكم عظيم ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما نقله أبو حيان عن ابن الأنباري - عن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام فنزلت مشروحة هذا الشرح الشافي ، مبينة هذا البيان الوافي ، فأمل صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك سبب إسلامهم فخالفوا تأميله ، عزاه الله بقوله : { وما } أي نوحيه إليك على هذا الوجه المقتضي لإيمانهم والحال أنه ما { أكثر الناس } أي كلهم مع ذلك لأجل ما لهم من الاضطراب { ولو حرصت } أي على إيمانهم { بمؤمنين * } أي بمخلصين في إيمانهم واصفين الله بما يليق به من التنزه عن شوائب النقص ، فلا تظن أنهم يؤمنون لإنزال ما يقترحون من الآيات ، أو لترك ما يغيظهم من الإنذار؛ والكثير - قال الرماني : العدة الزائدة على مقدار غيرها ، والأكثر : القسم الزائد على القسم الآخر من الجملة ، ونقيضه الأقل؛ والناس : جماعة الإنسان ، وهو من ناس ينوس - إذا تحرك يمنياً وشمالاً من نفسه لا بجر غيره .
ولما ذكر تعالى ما هم عليه من الكفر ، ذكر ما يعجب معه منه فقال : { وما } أي هم على ذلك والحال أن موجب إيمانهم موجود ، وذلك أنك - مع دعائهم إلى الطريق الأقوم وإيتانك عليه بأوضح الدلائل ما { تسئلهم عليه } أي هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك ، وأعرق في النفي فقال : { من أجر } حتى يكون سؤالك سبباً لأن يتهموك أو يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ليستغني به عن سؤالنا .

ولما نفى عنهم سؤالهم الأجر ، نفى عن هذا الذكر كل غرض دنيوي فقال : { إن هو } أي هذا الكتاب { إلا ذكر } أي تذكير وشرف { للعالمين * } قال الرماني : والذكر : حضور المعنى للنفس ، والعالم : جماعة الحيوان الكثيرة التي من شأنها أن تعلم ، لأنه أخذ من العلم ، وفيه معنى التكثير ، وقد يقال : عالم الفلك وما حواه على طريق التبع للحيوان الذي ننتفع به وهو مجعول لأجله .
ولما كان القرآن العظيم أعظم الآيات بما أنبأ فيه عن الإخبار الماضية والكوائن الآتية على ما هي عليه مضمنة من الحكم والأحكام ، في أساليب البلاغة التي لا ترام ، وغير ذلك ما لا يحصر بنظام ، كما أشار إليه أول السورة ، كان ربما قيل : إن هذا ربما لا يعلمه إلا الراسخون في العلوم الإلهية ، عطف عليه الإشارة إلى أن له تعالى غيره من الآيات إلتي لا تحتاج لوضوحها إلى أكثر من العقل ما لا يحيط به الحصر ، ومع ذلك فلم ينتفعوا به ، فقال : { وكأين من آية } أي علامة كبيرة دالة على وحدانيته { في السماوات } أي كالنيرين وسائر الكواكب والسحاب وغير ذلك { والأرض } من الجبال والشجر والدواب وغير ذلك مما لا يحصيه العد - كما سيأتي بيانه في سورة الرعد مفصلاً { يمرون عليها } مشاهدة بالحس ظاهرة غير خفية { وهم عنها } أي خاصة لا عن ملاذهم وشهواتهم بها { معرضون * } أي عن دلالتها على السعادة من الوحدانية وما يتبعها .
ولما كان ربما قيل : كيف يوصفون بالإعراض وهم يعتقدون أن الله فاعل تلك الآيات ، بين أن إشراكهم مسقط لذلك ، فقال : { ما يؤمن أكثرهم } أي الناس { بالله } أي الذي لا شيء إلا وهو داع إلى الإيمان به ، لأنه المختص بصفات الكمال { إلا وهم مشركون * } به مَن لا يقدر على شيء فضلاً عن أن يأتي بآية ، كانوا يقرون بأن الله خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره ، وكذا المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفران ، وكذا أهل الكتابين يؤمنون بكتابهم ويقلدون علماءهم في الكفر بغيره ، فعلم أن إذعانهم بهذا الإيمان غير تابع لدليل ، وهو محض تقليد لمن زين له سوء علمه فرآه حسناً ، لما سبق فيه من علم الله أنه لا صلاحية له فأفسده بما شابهه به من الشرك ، والآية صالحة لإرادة الشرك الخفي الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل » وهو شرك الأسباب التي قدر الله وصول ما يصل إلى العبد بواسطتها ، فقل من يتخطى من الأسباب إلى مسببها! قال الرازي في اللوامع : وقال الإمام محمد بن علي الترمذي : إنما هو شك وشرك فالشك ضيق الصدر عند النوائب ، ومنه ثوب مشكوك ، والشرك بنور التوحيد ، فعند هذا يتولاه الله تعالى ، وقال الواسطي : إلا وهم مشركون : في ملاحظة الخواطر والحركات .

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)

ولما أخبر الله تعالى عن ارتباكهم في أشراك إشراكهم ، وأنهم يتعامون عن الأدلة في الدنيا ، وكان الأكثر المبهم القطع بعدم إيمانهم من توجيه الأمر والنهي والحث والزجر إلى الجميع وهم في غمارهم ، وكان بعض الناس كالحمار لا ينقاد إلا بالعذاب ، قال سبحانه وتعالى : { أفأمنوا } إنكاراً فيه معنى التوبيخ والتهديد { أن تأتيهم غاشية } أي شيء يغطيهم ويبرك عليهم ويحيط بهم { من عذاب الله } أي الذي له الأمر كله في الدنيا كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم .
ولما كان العاقل ينبغي له الحذر من كل ممكن وإن كان لا يقربه ، قال تعالى : { أو تأتيهم الساعة } وأشار إلى أشد ما يكون من ذلك على القلوب بقوله : { بغتة } أي وهم عنها في غاية الغفلة بعدم توقعها أصلاً؛ قال الرماني : قال يزيد بن مقسم الثقفي :
ولكنهم بانوا ولم أدر بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت
ولما كان هذا المعنى مهولاً ، أكده الله بقوله : { وهم لا يشعرون * } أي نوعاً من الشعور ولو أنه كالشعرة ، إعلاماً بشدة جهلهم في أن حالهم حال من هو في غاية الأمن مما أقل أحواله أنه ممكن ، لأن الشعور إدراك الشيء بما يلطف كدقة الشعر ، وإنما قلت : إنه تأكيد ، لأنه معنى البغتة؛ قال الإمام أبو بكر الزبيدي في مختصر العين : البغتة : المفاجأة ، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : فاجأت الرجل مفاجأة - إذا جئته على غفلة مغافصة ، ثم قال : وفاجأته مفاجأة - إذا لقيته ولم يشعر بك ، وفي ترتيب المحكم : فجئه الأمر وفجأه وفاجأه مفاجأة : هجم عليه من غير أن يشعر به ، ويلزم ذلك الإسراع وهو مدار هذه المادة ، لأنه يلزم أيضاً التغب - بتقديم المثناة محركاً وهو الهلاك ، لأنه أقرب شيء إلى الإنسان إذ هو الأصل في حال الحدث ، والسلامة فيه هي العجب ، والتغب أيضاً : الوسخ والدرن ، وتغب - بكسر الغين : صار فيه عيب ، ويقال للقحط : تغبة - بالتحريك ، والتغب - ساكناً : القبيح والريبة ، وكل ذلك أسرع إلى الإنسان من أضداده إلا من عصم الله ، وما ذاك إلا لأن هذه الدار مبينة عليه .
ولما وصف الله سبحانه له صلى الله عليه وسلم أكثر الناس بما وصف من سوء الطريقة للتقليد الذي منشؤه الإعراض عن الأدلة الموجبة للعلم ، أمر أن يذكر طريق الخلّص فقال : { قل } أي يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحاً وإخلاصاً : { هذه } أي الدعوة إلى الله على ما دعا إليه كتاب الله وسننه صلى الله عليه وسلم { سبيلي } القريبة المأخذ ، الجلية الأمر ، الجليلة الشأن ، الواسعة الواضحة جداً ، فكأنه قيل : ما هي؟ فقال : { أدعوا } كل من يصح دعاؤه { إلى الله } الحائز لجميع الكمال حال كوني { على بصيرة } أي حجة واضحة من أمري بنظري الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وترك التقليد الدال على الغباوة والجمود ، لأن البصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل ديناً ودنيا بحيث يكون كأنه يبصر المعنى بالعين .

ولما كان الموضع في غاية الشرف ، أكد الضمير المستتر تعييناً وتنبيهاً على التأهل لظهور الإمامة ، فقال : { أنا ومن } أي ويدعو كذلك من { اتبعني } لا كمن هو على عمى جائر عن القصد ، حائر في ضلال التقليد ، فهو لا يزال في غفلة هدفاً للحتوف؛ والاتباع : طلب الثاني اللحاق بالأول للموافقة في مكانه أو في أمره الذي دعا إليه ، ومما دخل تحت { قل } عطفاً على { أدعوا } قوله : منبهاً على أن شرط كل دعوة إليه سبحانه اقترانها بتنزيهه عن كل شائبة نقص - { وسبحان الله } أي وأسبح الذي اختص بصفات الكمال سبحاناً ، أي أقدره حق قدره فأثبت له من صفات الكمال ما يليق بجلاله ، وأنزهه عما هو متعال عنه تنزيهاً يعلم هم أنه يليق بجلالة ويرضى به ، وفي تخصيص الله بذلك عقب ما أثبت له ولأتباعه تلويح بنسبة النقص إليهم تواضعاً ، اعتذاراً عما يلحقهم من الوهن وطلباً للعفو عنه { وما أنا } وعدل عن « مشركاً » إلى أبلغ منه فقال : { من المشركين * } أي في عداد من يشرك به شيئاً بوجه من الوجوه ، لأني علمت بما آتاني من البصيرة أنه منعوت بنعوت الكمال ، منزه عن سمات النقص ، متعال عنها ، وأن ذلك أول واجب لأنه الواحد الذي جل عن المجانسة ، القهار الذي كل شيء تحت مشيئته ، وفسرت { سبحان } بما تقدم لأن مادة « سبح » بكل ترتيب تدور على القدر والشدة والاتساع؛ وتارة يقتصر فيه على الكفاية ومنه الحسب : مقدار الشيء . وتارة يقتصر فيه على الكفاية فيلزمه الحصر ومنه : أحسبني الشيء : كفاني ، واحتساب الأجر : الاكتفاء به ، والحساب : معرفة المقدار ، والحسب بمعنى الظن راجع إلى ذلك أيضاً ، والأحسب : الذي ابيضت جلدته من داء وفسدت شعرته ، بمعنى أن ذلك الداء كفاه في الفساد عن كل داء كأنه ما بقي يسع معه داء ، والتحسيب : التكفين بما يسع الميت ، وهو كفاية له لا يحتاج بعده إلى شيء ، ومنه الحبس وهو المنع من مجاوزة الكفاية؛ وتتجاوز الكفاية فيسبح ويتسع مداه فلا ينحصر ومنه : الحسب - بالتحريك ، وهو الشرف؛ ومنه السحب وبه سمي السحاب لانسياحه في الهواء؛ ومنه السبح في الماء ، ومد الفرس يديه في الجري ، والسبحة : صلاة التطوع - لأنه لا حد لها يحصرها ، ولأنها تجاوزت الفرض ، والسبح : الفراغ - للتمكن معه من الانبساط ، والتسبيح : التنزيه - لأنه الإبعاد عن النقص ، قال الرماني : وأصله البراءة من الشيء ، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم : سبحان الله معناه تنزيهاً لله من الصحابة والولد ، وتبرئة من السوء - هذا معناه في اللغة وبذلك جاء الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال سيبويه : زعم أبو الخطاب أن « سبحان الله » كقولك براءة الله من السوء ، كأنه يقول : أبرىء براءة الله من السوء ، وزعم أن مثل ذلك قول الأعشى :

أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمه الفاخر
أي براءة منه ، وبهذا استدل على أن سبحان معرفة إذ لو كان نكرة لانصرف ، قال : وقد جاء في الشعر منوناً نكرة ، قال أمية :
سبحانه ثم سبحاناً يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
وقال ابن جني : سبحان اسم علم لمعنى البراءة والتنزيه بمنزلة عثمان وحمران ، اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون ، وكلاهما علة تمنع من الصرف - انتهى . وقال الزجاج : جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قوله « سبحان الله » تبرئة لله من السوء ، وأهل اللغة كذلك يقولون من غير معرفة بما فيه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ولكن تفسيره يجمعون عليه ، وقد سبح الرجل : قال سبحان الله ، وفي التنزيل { كل قد علم صلاته وتسبيحه } [ النور : 41 ] وسبح لغة في سبّح ، وحكى ثعلب : سبح تسبيحاً وسبحاناً ، قال ابن سيده : وعندي أنا سبحاناً ليس مصدراً لسبّح ، إنما هو مصدر سبح ، وقال النصر : سبحان الله معناه السرعة إليه والخفة في طاعته ، وسبوحة - بفتح السين : البلد الحرام ، وسباح علم الأرض الملساء عند معدن بني سليم ، وسبحات وجه الله : أنواره ، والسبحة : الدعاء ، وأيضاً صلاة التطوع - انتهى . وكله راجع إلى الإبعاد عن السوء ، والسبحان : النفس ، وكل أحد يبرىء نفسه ويرفعها عن السوء .
ولما أوضح أبطال ما تعنتوا به من قولهم « لو أنزل عليه كنز » أتبعه ما يوضح تعنتهم في قولهم { أو جاء معه ملك } بذكر المرسلين ، وأهل السبيل المستقيم ، الداعين إلى الله على بصيرة ، فقال : { وما أرسلنا } أي بما من العظمة . ولما كان الإرسال لشرفه لا يتأتى على ما جرت به الحكمة في كل زمن كما أنه لا يصلح للرسالة كل أحد ، وكان السياق لإنكار التأييد بملك في قوله { أو جاء معه ملك } كالذي في النحل ، لا لإنكار رسالة البشر ، أدخل الجار تنبيهاً على ذلك فقال : { من قبلك } أي إلى المكلفين { إلا رجالاً } أي مثل ما أنك رجل ، لا ملائكة ولا إناثاً - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، والرجل مأخوذ من المشي على الرجل { نوحي إليهم } أي بواسطة الملائكة مثل ما يوحى إليك { من أهل القرى } مثل ما أنك من أهل القرى ، أي الأماكن المبنية بالمدر والحجر ونحوه ، لأنها متهيئة للإقامة والاجتماع وانتياب أهل الفضائل ، وذلك أجدر بغزارة العقل وأصالة الرأي وحدة الذهن وتوليد المعارف من البوادي ، ومكة أم القرى في ذلك لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت ، وكان العرب كلهم يأتونها؛ قال الرماني : وقال الحسن : لم يبعث الله نبياً من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء - انتهى .

وذلك لأن المدن مواضع الحكمة ، والبوادي مواطن لظهور الكلمة ، ولما كانت مكة أو القرى مدينة ، وهي مع ذلك في بلاد البادية ، جمعت الأمرين وفازت بالأثرين ، لأجل أن المرسل إليها جامع لكل ما تفرق في غيره من المرسلين ، وخاتم لجميع النبيين - صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين .
ومادة « قرى » - يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الخمسة عشر - تدور على الجمع ، ويلزمه الإمساك ، وربما كان عنه الانتشار ، فالقرية - بالفتح ويكسر : المصر الجامع ، وأقرى : لزم القرية ، والقاري : ساكنها ، والقارية : الحاضرة الجامعة ، وطير أخضر ، إما للزومها ، وإما لجمع لونه للبصر ، والقريتين - مثنى وأكثر ما يتلفظ به بالياء : مكة والطائف ، وقرية النمل : مجتمع ترابها ، وقريت الماء في الحوض : جمعته ، والمقراة : شبه حوض ، وكل ما اجتمع فيه ماء ، والقريّ : ماء مستجمع ، والمدة تقرى في الجرح - أي تجتمع ، والقواري : الشهود - لجمعهم الأمور ، والقواري : الناس الصالحون - كأنه مخفف من المهموز ، وقريت الضيف قرى بالكسر والقصر ، وبالفتح والمد : أضفته كاقتريته ، والمقراة : الجفنة يقرى فيها الضيف ، والمقاري : القدور ، وقرى البعير وكل ما اجتر : جمع جرته في شدقه ، وقرت الناقة : ورم شدقاها من وجع الأسنان كأنها لا تقدر مع ذلك على جمع الجرة ، فيكون من السلب ، وقرى البلاد : تتبعها يخرج من أرض إلى أرض كاقتراها واستقرها - لجمعه بينها ، وقريّ الماء كغني : مسيله من التلاع ، أو موقعه من الربو إلى الروضة - لأنه مكان اجتماعه ، وقرى الخيل : واد - كأنها اجتمعت فيه ، والقرية - كغنية : العصا لأن الراعي يجمع بها ما يرعاه . وبها يجمع كل ما يراد جمعه ، وأعواد فيها فرض يجعل فيها رأس عمود البيت ، لأنه بها يقام فيجمع من يراد ، وعود الشراع الذي في عرضه من أعلاه ، لأنه يجمع الشراع ملفوفاً ومنشوراً ، وقريت الصحيفة لغة في قرأتها - إذا تلوتها فجمعت علمها وكلامها ، والقارية : أسفل الرمح ، لأنه يجمع زجه ، أو أعلاه ، لأنه يجمع عاليته ، وحد الرمح ، لأنه يجمع مراد صاحبه ، وكذا حد السيف ، والقارية - بالتشديد : طائر أخضر إذا رأوه استبشروا بالمطر - كأنه رسول الغيث أو مقدمة السحاب ، جمعه قواري ، كأنه سمي بذلك لأنه سبب جمع الهم للمطر؛ والقير والقار : شيء أسود تطلى به السفن ، والإبل ، والحباب ، والزقاق ، أو هما الزفت ، وعلى كل تقدير هو ساد للشقوق والمسام فكان الجامع بين أجزاء السفينة وغيرها ، وهذا أقير من هذا أشد مرارة - تشبيه بالقير الطعم ، والمر أيضاً يجمع الفم نحوه بالقبض ، والقيّور - كتنور : الخامل النسب ، شبه به أيضاً لأن القير لما قل احتياج أكثر الناس إليه في كثير من الأوقات صار قليل الذكر - وهذا معنى الخمول ، والقيار كشداد : صاحب القير ، وبئر لبني عجل قرب واسط ، وكأنها سميت لجمعها إياهم ، وقيار اسم فرس ، كأنه لجودته يجمع لصاحبه ما يريد ، والقارة : الدّبة كذلك ، والقارة : حي من العرب سموا لأن ابن الشداخ أراد أن يفرقهم في كنانة فقال شاعرهم :

دعونا قارة لا تجفلونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم
ذكره مختصر العين هنا وغيره في الواو ، واقتار الحديث اقتياراً : بحث عنه - لأن ذلك سبب لجمعه ، والقيِّر - كهيّن : الأسوار من الرماة الحاذق ، لأنه يجمع بذلك ما يريد؛ ورقيت الرجل بالفتح رقية : عوذته ، ونفثت في عوذته - لأن الراقي يجمع ريقه وينفث ، ورقيت في الشيء رقياً - إذا صعدت عليه - كأنك جمعت بين درجه ، والمرقاة بالفتح ويكسر : الدرجة ، لأن العلو من آثار الجمع ، ورقى عليه كلاماً ترقية : رفع ، لأنه جمعه عليه ، ومرقيا الأنف : حرفاه لأنهما الجامعان له؛ والرائق من الماء : الخالص ، لأنه إذا خلص اشتد تلاصق أجزائه لزوال ما كان يتخللها من الغبر ، وراق الماء يريق - إذا انصب ، إما لأنه اجتمع إلى المحل الذي انصب إليه ، أو يكون من السلب كأراقه بمعنى صبه ، وراق السراب يريق وتريق يتريق - إذا تضحضح فوق الأرض أي تردد ، إما من السلب ، وإما تشبيه بالمجتمع ، والريق : تردد الماء على وجه الأرض من الضحضاح أي ليسير ونحوه ، لأنه لا يتردد إلا وهو مجتمع ، والريق : أول كل شيء وأفضله من الرائق بمعنى الخالص ، ولأن الأول يجتمع إليه غيره ، والأفضل يجمع ما يراد ، والريق أيضاً : الباطل ، كالريوق كتنور - تشبيهاً بالسراب ، وريق الفم معروف ، لاجتماعه ، والريق : القوة ، لجمعها المراد ، والريق الرائق : الخالص وكل ما أكل أو شرب على الريق ، ومن ليس في يده شيء ، كأنه خلص عن العلائق فاجتمع همه ، ومن هو على الريق كريقي ككيس ، وهو يريق بنفسه : يجود بها عند الموت ، من راق الماء : انصب ، والمريق - كمعظم : من لا يزال يعجبه شيء ، ولعله من راقه يروقه - إذا أعجبه ، فجمع همه إليه؛ واليارق : ضرب من الأسورة ، لأنه يجمع المعصم ، واليرقان - ويسكن : الاستقامة والطريقة وآفة للزرع . ومرض معروف ، وسيذكر في « أرق » في أول سورة الحجر إن شاء الله تعالى .
ولما كان الاعتبار بأحوال من سلف للنجاة مما حل بهم أهم المهم ، اعترض بالحث عليه بين الغاية ومتعلقها ، فقال : { أفلم يسيروا } أي يوقع السير هؤلاء المكذبون { في الأرض } أي في هذا الجنس الصادق بالقليل والكثير . ولما كان المراد سير الاعتبار سبب عنه قوله { فينظروا } أي عقب سيرهم وبسببه ، ونبه على أن ذلك أمر عظيم ينبغي الاهتمام بالسؤال عنه بذكر أداة الاستفهام فقال { كيف كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولما كان الذين يعتبر بحالهم - لما حل بهم من الأمور العظام - في بعض الأزمنة الماضية ، وكان المخاطبون بهذا القرآن لا يمكنهم الإحاطة بأهل الأرض وإن كان في حال كل منهم عظه ، أتى بالجار فقال : { من قبلهم } في الرضى بأهوائهم في تقليد آبائهم ، وهذا كما تقدم في سورة يونس من أن الآيات لا تغني عمن ختم على قلبه ، والتذكير بأحوال الماضين من هلاك العاصين ونجاة الطائعين ، والاعتراض بين ذلك بقوله { قل انتظروا إني معكم من المنتظرين } وهو يدل على أنه تعالى يغضب ممن أعرض عن تدبر آياته؛ والسير : المرور الممتد في جهة ، ومنه أخذ السير ، وأخذ السيور من الجلد؛ والنظر : طلب إدراك المعنى بالعين أو القلب ، وأصله مقابلة الشيء بالبصر لإدراكه .

ولما كان من الممكن أن يدعي مطموس البصيرة أنه كان لهم نوع خير ، قال على طريقة إرخاء العنان : { ولدار } أي الساعة أو الحالة { الآخرة } أي التي وقع التنبيه عليها بأمور تفوت الحصر منها دار الدنيا فإنه لا تكون دنيا إلا بقصيا { خير للذين اتقوا } أي حملهم الخوف على جعل الائتمار والانزجار وقاية من حياة أهون مآلها الموت ، وإن فرض فيها من المحال أنها امتدت ألف عام ، وكان عيشها كله رغداً من غير آلام .
ولما كان تسليم هذا لا يحتاج فيه إلى أكثر من العقل ، قال مسبباً عنه منكراً عليهم مبكتاً لهم : { أفلا تعقلون * } أي فيتبعوا الداعي إلى هذا السبيل الأقوم .

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

ولما كان المعنى معلوماً من هذا السياق تقديره : فدعا الرجال المرسلون إلى الله واجتهدوا في إنذار قومهم لخلاصهم من الشقاء ، وتوعدهم عن الله بأنواع العقوبات إن لم يتبعوهم ، وطال عليهم الأمر وتراخى النصر وهم يكذبونهم في تلك الإيعادات ويبكتونهم ويستهزئون بهم ، واستمر ذلك من حالهم وحالهم ، قال مشيراً إلى ذلك : { حتى إذا استيئس الرسل } أي يئسوا من النصر يأساً عظيماً كأنهم أوجدوه أو طلبوه واستجلبوه من أنفسهم { وظنوا أنهم قد كذبوا } أي فعلوا فعل اليأس العظيم اليأس الذي ظن أنه قد أخلف وعده من الإقبال على التحذير والتبشير والجواب - لمن استهزأ بهم وقال : ما يحبس ما وعدتمونا به - بإن ذلك أمره إلى الله ، إن شاء أنجزه ، وإن شاء أخره ، ليس علينا من أمره شيء؛ ويجوز أن يراد أنهم لمن استبطؤوا النصر وضجروا مما يقاسون من أذى الأعداء ، واستبطاء الأولياء { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه } كما يقول الآئس { متى نصر الله } مع علمهم بأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء ، عبر عن حالهم ذلك بما هنا - نقل الزمخشري في الكشاف والرازي في اللوامع معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، هذا على قراءة التخفيف ، وأما على قراءة التشديد فالتقدير : وظنوا أنهم قد كذبهم أتباعهم حتى لقد أنكرت عائشة رضي الله عنها قراءة التخفيف ، روى البخاري في التفسير وغيره عن عروة بن الزبير أنه سألها عن القراءة : أهي بالتشديد أم بالتخفيف؟ فقالت : إنها بالتشديد ، قال قلت : فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ، قالت : أجل ، لعمري لقد استيقنوا بذلك! فقلت لها : وظنوا أنهم قد كذبوا أي بالتخفيف - قالت : معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها ، قلت : فما هذه الآية؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر ، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أنهم أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك . { جاءهم نصرنا } لهم بخذلان أعدائهم { فنجي من نشاء } منهم ومن أعدائهم { ولا يرد بأسنا } أي عذابنا لما له من العظمة { عن القوم } أي وإن كانوا في غاية القوة { المجرمين * } الذين حتمنا دوامهم على القطيعة كما قلنا { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم } وحققنا بمن ذكرنا مصارعهم من الأمم ، وكل ذلك إعلام بأن سنته جرت بأنه يطيل الامتحان ، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار ، حثاً للأتباع على الصبر وزجراً للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء .
ومادة « كذب » تدور على ما لا حقيقة له ، وأكثر تصاريفها واضح في ذلك ، ويستعمل في غير الإنسان ، قالوا : كذب البرق والحلم والرجاء والطمع والظن ، وكذبت العين : خانها حسها ، وكذب الرأي : تبين الأمر بخلاف ما هو به ، وكذبته نفسه : منته غير الحق ، والكذوب : النفس ، لذلك ، وأكذبت الناقة وكذبت - إذا ضربها الفحل فتشول أي ترفع ذنبها ثم ترجع حائلاً ، لأنها أخلفت ظن حملها ، وكذا إذا ظن بها لبن وليس بها ، ويقال لمن يصاح به وهو ساكن يرى أنه نائم : قد أكذب ، أي عد ذلك الصياح عدماً ، والمكذوبة من النساء : الضعيفة ، لأنه لما اجتمع فيها ضعف النساء وضعفها عدت عدماً ، والمكذوبة على القلب : المرأة الصالحة - كأنها لعزة الصلاح في النساء جعلت عدماً ، وكذب الوحشي - إذا جرى ثم وقف ينظر ما وراءه ، كأنه لم يصدق بالذي أنفره ، ومنه كذب عن كذا - إذا أحجم عنه بعد أن أراده ، أو لأنه كذب ما ظنه عند الحملة من قتل الأقران ، وكذبك الحج أي أمكنك وكذبك الصيد مثله ، وهو يؤول إلى الحث لأن المعنى أن الحج لعظم مشقته وطول شقته تنفر النفس عنه ، فيكاد أن لا يوجد ، وكذا الصيد لشدة فراره وسرعة نفاره وعزة استقراره يكاد أن لا يتمكن منه فيكون صيده كالكذب لا حقيقة له ، فقد تبين حينئذ وجه كون « كذب » بمعنى الإغراء ولاح أن قوله « ثلاثة أسفار كذبن عليكم : الحج والعمرة والجهاد » معناه أنها لشدة الصعوبة لا تكاد تمكن من أرادها منها ، مع أنه - لقوة داعيته لكثرة ما يرى فيها من الترغيب بالأجر - يكون كالظافر بها ، ويؤيده ما قال ابن الأثير في النهاية عن الأخفش : الحج مرفوع ومعناه نصب ، لأنه يريد أن يأمره بالحج كما يقال : أمكنك الصيد ، يريد : ارمه ، وقال أبو علي الفارسي في الحجة في قول عنترة :

كذب العتيق وماء شن بارد ... إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي
وإن شئت قلت : إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنه قال بقوله لها : عليك العتيق ، أي الزميه ، ولا يريد نفيه ولكن إضرابها عما عداه ، فيكون العتيق في المعنى مفعولاً به إن كان لفظه مرفوعاً ، مثل « سلام عليكم » ونحوه مما يراد به الدعاء واللفظ على الرفع ، وحكى محمد بن السري رحمه الله عن بعض أهل اللغة في « كذب العتيق » أن مضر تنصب به وأن اليمن ترفع به ، وقد تقدم وجه ذلك - انتهى . وأقرب من ذلك جداً وأسهل تناولاً وأخذاً أن الإنسان لا يزال منيع الجناب مصون الحجاب ما كان لازماً للصدق فإذا كذب فقد أمكن من نفسه وهان أمره ، فمعنى « ثلاثة أسفار كذبن عليكم أمكنتكم من أنفسها ، الحج كل سنة بزوال مانع الكفار عنه ، والعمرة كل السنة بزوال المفسدين بالقتل وغيره في أشهر الحل ، والجهاد كل السنة أيضاً لإباحته في الأشهر الحرم وغيرها ، وتخريج مثل : كذبتك الظهائر ، وغيره على هذا بين الظهور ولا وقفة فيه ولكون الكاذب يبادر إلى المعاذير ويحاول التخلص كان التعبير بهذا من باب الإغراء ، أي انتهز الفرصة وبادر تعسر هذا الإمكان .

ولما ذكر سبحانه هذه القصص كما كانت ، وحث على الاعتبار بها بقوله : { أفلم يسيروا } وأشار إلى أنه بذلك أجرى سنته وإن طال المدى ، أتبعه الجزم بأن في أحاديثهم أعظم عبرة ، فقال حثاً على تأملها والاستبصار بها : { لقد كان } أي كوناً هو في غاية المكنة { في قصصهم } أي الخبر العظيم الذي تلي عليك تتبعاً لأخبار الرسل الذين طال بهم البلاء حتى استيأسوا من نوح إلى يوسف ومن بعده - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام { عبرة } أي عظة عظيمة وذكرى شريفة { لأولي الألباب } أي لأهل العقول الخالصة من شوائب الكدر يعبرون بها إلى ما يسعدهم بعلم أن من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام وغيره قادر على أن يعز محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره - إلى غير مما ترشد إليه قصصهم من الحكم وتعود إليه من نفائس العبر؛ والقصص : الخبر بما يتلو بعضه بعضاً ، من قص الأثر ، والألباب : العقول ، لأن العقل أنفس ما في الإنسان وأشرف .
ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن لما بينه من حقائق أحوالهم وخفايا أمورهم ودقائق أخبارهم على هذه الأساليب الباهرة والتفاصيل الظاهرة والمناهيج المعجزة القاهرة ، نبه على ذلك بتقدير سؤال فقال : { ما كان } أي هذا القرآن العربي المشتمل على قصصهم وغيره { حديثاً يفترى } كما قال المعاندون - على ما أشير إليه بقوله : { أم يقولون افتراه } ، والافتراء : القطع بالمعنى على خلاف ما هو به في الإخبار عنه ، من : فريت الأديم { ولكن } كان { تصديق الذي } كان من الكتب وغيرها { بين يديه } أي قبله الذي هو كاف في الشهادة بصدقه وحقيته في نفسه { و } زاد على ذلك بكونه { تفصيل كل شيء } أي يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا والآخرة؛ والتفصيل : تفريق الجملة بإعطاء كل قسم حقه { وهدى ورحمة } وبياناً وإكراماً . ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء لا يتعلق بشيء منه ، قال : { لقوم يؤمنون } أي يقع الإيمان منهم وإن كان بمعنى : يمكن إيمانهم ، فهو عام ، وما جمع هذه الخلال فهو أبين البيان ، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أنه الكتاب المبين ، وانطبق ما تبع هذه القصص - من الشهادة بحقية القرآن ، وأن الرسل ليسوا ملائكة ولا معهم ملائكة للتصديق يظهرون للناس ، وأنهم لم يسألوا على الإبلاغ أجراً - على سبب ما تبعته هذه القصص ، وهو مضمون قوله تعالى : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } [ هود : 12 ] الآية من قولهم { لولا ألقي عليه كنز أو جاء معه ملك } [ هود : 12 ] وقولهم : إنه افتراه ، على ترتيب ذلك ، مع اعتناق هذا الآخر لأول التي تليه ، فسبحان من أنزله معجزاً باهراً ، وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً ، وكيف لا وهو العليم الحكيم - والله سبحانه وتعالى أعلم .

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)

{ بسم الله } الحق الذي كل ما عداه باطل { الرحمن } الذي عم بالرغبة والرهبة بعموم رحمته { الرحيم } الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية { المر } .
لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون ، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه من آياته في السماوات والأرض مع الإعراض ، ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب فقال : { تلك } أي الأنباء المتلوة والأقاصيص المجلوة المفصلة بدر المعاني وبديع الحكم وثابت القواعد والمباني العالية المراتب { آيات } والآية : الدلالة العجيبة في التأدية إلى المعرفة { الكتاب } المنزل إليك { و } جميع { الذي } .
ولما كان تحقق أن هذا الكتاب من عند الملك أمراً لا يطرقه مريه لما له من الإعجاز ، وكذا ما تبعه من بيانه بالسنة لما له من الحق الذي لا يخف على كل عاقل ، وكان ما تحقق أنه كذلك يعلم أن الآتي به لا يكون إلا عظيماً ، بني للمفعول قوله : { أنزل إليك } كائن { من ربك } فثبت حينئذ قطعاً أنه هو { الحق } أي الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة ، الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره ، فهو أبعد شيء عن قولهم : إن وعده بالبعث سحر ، فوجب لثبوت حقيته على كل من اتصف بالعقل أن يؤمن به { ولكن أكثر الناس } أي الآنسين بأنفسهم المضطربين في آرائهم ، { لا يؤمنون * } أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً بأنه الحق في نفسه وأنه من عند الله ، بل يقولون : إنه من عند محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإنه تخييل ليست معاينة - كما قلنا { وما أكثر الناس ولو حرصت بؤمنين } [ يوسف : 103 ] فليس هدى لهم كاملاً ولا رحمة تامة ، هذا التقدير محتمل ، ولكن الذي يدل عليه ظاهر قوله تعالى : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق } [ الرعد : 19 ] أن { الذي } مبتدأ ، و { من ربك } صلة { أنزل } والخبر { الحق } والمقصود من هذه السورة هذه الآية ، وهي وصف المنزل بأنه الحق وإقامة الدليل عليه ، وذلك لأنه لما تم وصف الكتاب بأنه حكيم محكم مفصل مبين ، عطف الكلام إلى تفصيل أول سورة البقرة ، والإيماء إلى أنه حان اجتناء الثمرة في هذه السورة والتي بعدها ، ويلتحم بذلك وصف المصدقين بذلك - كما ستقف عليه .
وقال الإمام أبو جعفر بن زبير رحمه الله في برهانه : هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام { وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }

[ يوسف : 105-106-107-108 ] فبيان آي السماوات في قوله { الله الذي رفع السماوات بغير عند ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } وبيان آي الأرض في قوله : { وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } فهذه آي السماوات والأرض ، وقد زيدت بياناً في مواضع ، ثم في قوله تعالى : { يغشى الّيل النهار } ما يكون من الآيات عنهن ، لأن الظلمة عن جرم الأرض ، والضياء عن نور الشمس وهي سماوية ، ثم زاد تعالى آيات الأرض بياناً وتفصيلاً في قوله تعالى : { وفي الأرض قطع متجاورات } [ الرعد : 4 ] إلى قوله : { لقوم يعقلون } [ الرعد : 4 ] . ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية ، ودليلاً واضحاً على صحة المعاد ، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] وكان قد ورد هنا أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات في الطعوم والألوان والروائح مع اتحاد المادة « يسقى » بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل لذلك ما أعقب قوله تعالى : { وفي الأرض قطع متجاورات } الآية بقوله { وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا أئنّا لفي خلق جديد } ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار ، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } [ الرعد : 6 ] الآية ، ثم أتبع ذلك بما يشعر بالجري على السوابق في قوله { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } [ الرعد : 7 ] ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال { الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الأرحام } الآيات إلى قوله : { وما لكم من دونه من وال } ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم { هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً } [ الرعد : 12 ] ، الآيات وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ، وفي ذلك أكثر آي السورة ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال : { ولو أن قراناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } [ الرعد : 31 ] والمراد : لكان هذا القرآن { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] والتنبيه بعظيم هذه الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض ، وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع من السماوات والأرض وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه ، أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى

{ ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } [ الرعد : 31 ] فهو من نحو { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم } [ الجاثية : 3 ] أي لو فكرتم في آيات السماوات والأرض لأقلتكم وكفتكم في بيان الطريق إليه ولو فكرتم في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيتم « من عرف نفسه عرف ربه » فمن قبيل هذا الضرب من الاعتبار هو الواقع في سورة الرعد من بسط آيات السماوات والأرض ، ثم ذكر القرآن وما يحتمل ، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات . وأما قوله تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [ يوسف : 106 ] فقد أشار إليه قوله تعالى : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون إنما يتذكر أولوا الألباب } وقوله تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله لا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] فالذين تطمئن قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله تعالى { وقليل ما هم } [ ص : 24 ] والمقول فيهم { أولئك هم المؤمنون حقاً } [ الأنفال : 4 ] ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم ، وإليهم الإشارة بقوله : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [ يوسف : 106 ] قال عليه الصلاة والسلام « الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل » فهذا بيان ما أجمل في قوله { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وأما قوله تعالى : { أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } [ يوسف : 107 ] فما عجل لهم من ذلك في قوله : { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله } القاطع دابرهم ، والمستأصل لأمرهم ، وأما قوله تعالى : { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة } [ يوسف : 108 ] الآية ، فقد أوضحت آي سورة الرعد سبيله عليه السلام بينه بما تحملته من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين - كما تقدم ، ثم قد تعرضت السورة لبيان جليّ سالكي تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى : { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } [ الرعد : 20 ] إلى آخر ما حلاهم به أخذاً وتركاً ، ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليته عليه السلام في أمرهم { إنما أنت منذر ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } [ الرعد : 38 ] ، { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } [ الرعد : 40 ] { ويقول الذين كفروا لست مرسلاً } [ الرعد : 43 ] ، والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف ، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات؛ ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم عليه السلام - انتهى .
فلما أثبت سبحانه لهذا الكتاب أنه المختص بكونه حقاً فثبت أنه أعظم الأدلة والآيات ، شرع يذكر ما أشار إليه بقوله : { وكأين من آية } من الآيات المحسوسة الظاهرة الدالة على كون آيات الكتاب حقاً بما لها في أنفسها من الثبات ، والدلالة بما لفاعلها من القدرة والاختيار - على أنه قادر على كل شيء ، وأن ما أخبر به من البعث حق لما له من الحكمة ، والدالة - بما للتعبير عنها من الإعجاز - على كونها من عند الله ، وبدأ بما بدأ به في تلك من آيات السماوات لشرفها ولأنها أدل ، فقال : { الله } أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال وحده { الذي رفع السماوات } بعد إيجادها من عدم - كما أنتم بذلك مقرون؛ والرفع : وضع الشيء في جهة العلو سواء كان بالنقل أو بالاختراع ، كائنة { بغير عمد } جمع عماد كأهب وإهاب أو عمود ، والعمود : جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل ، وأصله منع الميل { ترونها } أي مرئية حاملة لهذه الأجرام العظام التي مثلها لا تحمل في مجاري عاداتكم إلا بعد تناسبها في العظم ، هذا على أن { ترونها } صفة ، ويجوز - ولعله أحسن - أن يكون على تقدير سؤال من كأنه قال : ما دليل أنها بغير عمد؟ فقيل : المشاهدة التي لا أجلى منها .

ولما كان رفع السماوات بعد خلق الأرض وقبل تسويتها ، ذكر أنه شرع في تدبير ما للكونين من المنافع وما فيهما من الأعراض والجواهر ، وأشار إلى عظمة ذلك التدبير بأداة التراخي فقال : { ثم استوى على العرش } قال الرازي في لوامع البرهان : وخص العرش لأنه أعلى خلقه وصفوته ومنظره الأعلى وموضع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه ومحل قربه ، ولم ينسب شيئاً من خلقه كنسبته ، فقال تعالى : { ذو العرش } كما قال { ذو الجلال } و « ذو » كلمة لحق واتصال وظهور ومبدأ ، وقال الرماني : والاستواء : الاستيلاء بالاقتدار ونفوذ السلطان ، وأصله : استوى التدبير ، كما أن أصل القيام الانتصاب ، ثم يقال : قائم بالتدبير - انتهى . وعبر ب « ثم » لبعد هذه الرتبة عن الأطماع وعلوها عما يستطاع ، فليس هناك ترتيب ولا مهلة حتى يفهم أن ما قبل كان على غير ذلك ، والمراد أنه أخذ في التدبير لما خلق كما هو شأن الملوك إذا استووا على عروشهم ، أي لم يكن لهم مدافع ، وإن لم يكن هناك جلوس أصلاً ، وذلك لأن روح الملك التدبير وهو أعدل أحواله والله أعلم { وسخر } أي ذلل تذليلاً عظيماً { الشمس } أي التي هي آية النهار { والقمر } أي الذي هو آية الليل لما فيهما من الحكم والمنافع والمصالح التي بها صلاح البلاد والعباد ، ودخلت اللام فيهما وكل واحد منهما لا ثاني له لما في الاسم من معنى الصفة ، إذا لو وجد مثل لهما لم يتوقف في إطلاق الاسم عليه ، ولا كذلك زيد وعمرو . والتسخير : التهيئة لذلك المعنى المسخر له ليكون بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النار للإنضاج والماء للجريان { كل } أي من الكوكبين { يجري } .

ولما كان السياق للتدبير ، علم أن المراد بجريهما لذلك ، وهو تنقلهما في المنازل والدرجات التي يتحول بها الفصول ، ويتغير النبات وتضبط الأوقات ، وكلما كان التدبير أسرع ، علم أن صاحبه أعلم ولا سيما إن كان أحكم ، فكان الموضع للام لا لإلى ، فعلل بقوله : { لأجل } أي لأجل اختصاصه بأجل { مسمى } هذي أجلها سنة ، وذاك أجله شهر؛ والأجل : الوقت المضروب لحدوث أمر وانقطاعه .
ولما كان كل من ذلك مشتملاً من الآيات على ما يجل عن الحصر مع كونه في غاية الإحكام ، استأنف خبراً هو كالتنبيه على ما فيما مضى من الحكمة ، فقال مبيناً للاستواء على العرش بعد أن أشار إلى عظمة هذا الخبر بما في صلة الموصول من الأوصاف العظيمة : { يدبر الأمر } أي في المعاش والمعاد وما ينظمهما بأن يفعل فيه فعل من ينظر في أدباره وعواقبه ليأتي محكماً يجل عن أن يرام بنقض ، بل هو بالحقيقة الذي يعلم أدبار الأمور وعواقبها ، لا يشغله شأن عن شأن ، مع أن هذا العالم - من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى - محتو عل أجناس وأنواع وفصول وأصناف وأشخاص لا يحيط بها سواه ، وذلك دال قطعاً على أنه سبحانه في ذاته وصفاته متعال عن مشابهة المحدثات واحد أحد صمد ليس له كفواً أحد .
ولما كان هذا بياناً عظيماً لا لبس فيه ، قال { يفصل الآيات } أي التي برز إلى الوجود تدبيرها ، الدالة على وحدانيته وكمال حكمته ، المشتملة عليها مبدعاته ، فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها ، تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم ، لتعلموا أنها فعل الواحد المختار ، لا فعل الطبائع ولا غيرها من الأسباب التي أبدعها ، وإلا فكانت على نسق واحد ، وجمعها لما تقدم من الإشارة إلى كثرتها بقوله : { وكأين من آية في السماوات والأرض } فكأن هذه الألف واللام لذلك المنكر هناك .
ولما كان التدبير وهذا التفصيل دالاًّ على تمام القدرة وغاية الحكمة ، وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة ، علل بقوله : { لعلكم بلقاء ربكم } أي لتكون حالكم حال من يرجى له بما ينظر من الدلالات الإيقان بلقاء الموجد له المحسن إليه بجميع ما يحتاجه التربية { توقنون * } أي تعلمون ذلك من غير شك استدلالاً بالقدرة على ابتداء الخلق على القدرة على ما جرت العادة بأنه أهون من الابتداء وهو الإعادة ، وأنه لا تتم الحكمة إلا بذلك .

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

ولما انقضى ما أراد من آيات السماوات ، ثنى بما فيما ثنى به في آية يوسف من الدلالات فقال : { وهو } أي وحده { الذي مد الأرض } ولو شاء لجعلها كالجدار أو الأزج لا يستطاع القرار عليها ، وهذا لا ينافي أن تكون كرية ، لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح ، كما أن الجبال أوتاد والحيوان يستقر عليها { وجعل فيها } جبالاً مع شهوقها { رواسي } أي ثوابت ، واحدها راسية أي ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن أماكنها لا تتحرك ، فلا يتحرك ما هي راسية فيه . ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي ، صارت الصفة تغني عن الموصوف فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل - قاله أبو حيان ، ولما كانت طبيعة الأرض واحدة كان حصول الجبل في جانب منها دون آخر ووجود المعادن المتخالفة فيها تارة جوهرية ، وتارة خامية ، وتارة نفطية ، وتارة كبريتية - إلى غير ذلك ، دليلاً على اختصاصه تعالى بتمام القدرة والاختيار لأن الجبل واحد في الطبع كما أن تأثير الشمس واحد ، فقال تعالى : { وأنهاراً } أي وجعل فيها خارجة منها ، وأكثر ما تكون الأنهار من الجبال ، لأنها أجسام صلبة عالية ، وفي خلال الأرض أبخرة فتصاعد تلك الأبخرة المتكونة في قعر الأرض ، ولا تزال تخرق حتى تصل إليها فتحتبس بها فلا تزال تتكامل حتى يعظم تكاثفها ، فإذا بردت صارت ماء فيحصل بسببها مياه كثيرة كما تنعقد الأبخرة البخارية المتكاثفة في أعالي الحمامات إذا بردت وتتقاطر ، فإذا تكامل انعقاد تلك المياه وعظمت شقت أسافل الجبال أو غيرها من الأماكن التي تستضعفها لقوتها وقوة الأبخرة المصاحبة لها ، فإن كان لتلك المياه مدد من جهة الفواعل والقوابل بحيث كلما نبع منها شيء حدث عقيبه شيء ، وهكذا على الاتصال فهي النهر ، والنهر : المجرى الواسع من مجاري الماء ، وأصله الاتساع ، ومنه النهار - لاتساع ضيائه .
ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عن المياه فقال : { ومن كل الثمرات } ويجوز أن يكون متعلقاً بما قبله ، ثم يكون كأنه قيل : من ينتفع بهذه الأشياء؟ فقيل : { جعل فيها } أي الأرض { زوجين اثنين } ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوان ينتفع بها ، ويجوز أن يكون متعلقاً بما بعده فيكون التقدير : وجعل فيها من كل الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى تنتفع الأنثى بلقاحها من الذكر أو قربه منها فيجود ثمرها؛ والثمرة طعمة الشجرة ، والزوج : شكل له قرين من نظير أو نقيض ، فكأنه قيل : ما الذي ينضجها؟ فقال : { يغشي اليل النهار } أي والنهار الليل ، فينضج هذا بحره ويمسك هذا ببرده ، فيعتدل فعلهما على ما قدره تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان للحر والبرد للإخراج والإنضاج إلى غير ذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهر لكل ذي عقل أنها بتدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره .

ولما ساق سبحانه هذه الآيات مفصلة إلى أربع وكان فيها دقة ، جمعها وناطها بالفكر فقال : { إن في ذلك } أي الذي وقع التحديث عنه من الآيات متعاطفاً { لآيات } أي دلالات واضحات عجيبات باهرات على أن ذلك كله مستند إلى قدرته واختياره ، ونبه على أن المقام يحتاج إلى تعب بتجريد النفس من الهوى وتحكيم العقل صرفاً بقوله : { لقوم } أي ذوي قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه { يتفكرون * } أي يجتهدون في الفكر ، قال الرماني : وهو تصرف القلب في طلب المعنى ، ومبدأ ذلك معنى يُخطره الله تعالى على بال الإنسان فيطلب متعلقاته التي فيها بيان عنه من كل وجه يمكن فيه ، والختم بالتفكر إشارة إلى الاهتمام بإعطاء المقام حقه في الرد على الفلاسفة ، فإنهم يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية ، وهو كلام ساقط لمن تفكر فيما قرره سبحانه في الآية السالفة من إسقاط وروده من أنه سبحانه هو الذي أوجد الأشياء كلها من عدم ثم أخذ في تدبيرها ، فاختصاص كل شيء من الأجرام العلوية بطبع وصفة وخاصية إنما هو بتخصيص المدبر الحكيم الفاعل بالاختيار ، فصار وجود الحوادث السفلية لو سلم أنه متأثر عن الحوادث العلوية إنما يكون مستنداً إليها باعتبار السببية ، والسبب والمسبب مستند إلى الصانع القديم المدبر الحكيم .
ولما كان الدليل - مع وضوحه - فيه بعض غموض ، شرع تعالى في شيء من تفصيل ما في الأرض من الآيات التي هي أبين من ذلك دليلاً ظاهراً جداً على إبطال قول الفلاسفة ، فقال : { وفي الأرض } أي التي أنتم سكانها ، تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك { قطع متجاورات } فهي متحدة البقعة مختلفة الطبع ، طيبة إلى سبخة ، وكريمة إلى زهيدة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للشجر وعكسها ، ومع انتظام الكل في الأرضية { وجنات } جمع جنة ، وهي البستان الذي تجنه الأشجار { من أعناب } وكأنه قدمها لأن أصنافها - الشاهدة بأن صانعها إنما هو الفعال لما يريد - لا تكاد تحصر حتى أنه في الأصل الواحد يحصل تنوع الثمرة ولذلك جمعها .
ولما كان تفاوت ما أصله الحب أعجب ، قال : { وزرع } أي منفرداً - في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالرفع ، وفي خلل الجنات - في قراءة الباقين بالجر .
ولما كان ما جمعه أصل واحد ظاهر أغرب أخر قوله : { ونخيل صنوان } فروع متفرقة على أصل واحد { وغير صنوان } باعتبار افتراق منابتها وأصولها؛ قال أبو حيان : والصنو : الفرع يجمعه وآخر أصل واحد ، وأصله المثل ، ومنه قيل للعم : صنو وقال الرماني : والصنوان : المتلاصق ، يقال : هو ابن أخيه صنو أبيه أي لصيق أبيه في ولادته ، وهو جمع صنو ، وقيل : الصنوان : النخلات التي أصلها واحد - عن البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم؛ وقال الحسن رضي الله عنه : الصنوان : النخلتان أصلهما واحد - انتهى .

وهو تركيب لا فرق بين مثناه وجمعه إلا بكسر النون من غير تنوين وإعرابها مع التنوين ، وسيأتي في يس إن شاء الله تعالى سر تسمية الكرم بالعنب .
ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم ، وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الموجد المسبب ، لا إلى شيء من الأسباب ، قال : { ويسقى } أي أرضها الواحدة كلها { بماء واحد } فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم بعد أن يتصعد الماء فيها علوّاً ضد ما في طبعه من التسفل ، ثم يتفرق في كل من الورق والأغصان والثمار بقسطه مما فيه صلاحه { ونفضل } أي بما لنا من العظمة المقتضية للطاعة { بعضها } أي بعض تلك الجنات وبعض أشجارها { على بعض } ولما كان التفضيل على أنحاء مختلفة ، بين المراد بقوله : { في الأكل } أي الثمر المأكول ، ويخالف في المطعوم مع اتحاد الأرض وبعض الأصول ، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع ، وهو منبه على اختلاف غيره من الليف والسعف واللون للمأكول والطعم والطبع والشكل والرائحة والمنفعة وغيرها مع أن نسبة الطبائع والاتصالات الفلكية إلى جميع الثمار على حد سواء لا سيما إذا رأيت العنقود الواحد جميع حباته حلوة نضيجة كبيرة إلا واحدة فإنها حامضة صغيرة يابسة .
ولما كان المراد في هذا السياق - كما تقدم - تفصيل ما نبه على كثرته بقوله : { وكأين من آية في السماوات والأرض } الآية ، قال : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم الذي تقدم { لآيات } بصيغة الجمع فإنها بالنظر إلى تفصيلها بالعطف جمع وإن كانت بالنظر إلى الماء مفردة ، وهذا بخلاف ما يأتي في النحل لأن المحدث عنه هناك الماء ، وهنا ما ينشأ عنه ، فلما اختلف المحدث عنه كان الحديث بحسبه ، فالمعنى : دلالات واضحات على أن ذلك كله فعل واحد مختار عليم قادر على ما يريد من ابتداء الخلق ثم تنويعه بعد إبداعه ، فهو قادر على إعادته بطريق الأولى .
ولما كانت هذه المفصلة أظهر من تلك المجملة ، فكانت من الوضوح بحال لا يحتاج ناظره في الاعتبار به إلى غير العقل ، قال : { لقوم } أي ذوي قوة على ما يحاولونه { يعقلون } فإنه لا يمكن التعبير في وجه هذه الدلالة إلا بأن يقال هذه الحوادث السفلية حدثت بغير محدث ، فيقال للقائل : وأنت لا عقل لك ، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث ضرورة ، فعدم العلم بالضروري يستلزم عدم العقل .

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)

ولما ثبت قطعاً بما أقام من الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه أن هذا إنما هو فعل واحد قهار مختار يوجد المعدوم ويفاوت بين ما تقتضي الطبائع اتحاده ، كان إنكار شيء من قدرته عجباً ، فقال عطفاً على قوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [ هود : 17 ] مشيراً إلى أنهم يقولون : إن الوعد بالبعث سحر لا حقيقة له { * إن تعجب } أي يوماً من الأيام أو ساعة من الدهر فاعجب من إنكارهم البعث { فعجب } عظيم لا تتناهى درجاته في العظم { قولهم } بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والدلالات الناطقة بعظيم القدرة على كل شيء منكرين : { إذا كنا تراباً } واختلط التراب الذي تحولنا إليه بالتراب الأصلي فصار لا يتميز ، ثم كرروا التعجب والإنكار بالاستفهام ثانياً فقالوا : { إنا لفي خلق جديد } هذا قولهم بعد أن فصلنا من الآيات ما يوجب أنهم بلقاء ربهم يوقنون ، وهذا الاستفهام الثاني مفسر لما نصب الأول بما فيه من معنى { أنبعث } ، والعجب : تغير النفس بما خفي سببه عن العادة ، والجديد : المهيا بالقطع إلى التكوين قبل التصريف في الأعمال ، وأصل الصفة القطع؛ قال الرماني : وقد قيل : لا خير فيمن لا يتعجب من العجب ، وأرذل منه من يتعجب من غير عجب - انتهى ، يعني : فالكفار تعجبوا من غير عجب : ومن تعجبهم فقد تعجب من العجب .
ولما كان هذا إنكار المحسوس من القدرة ، استحقوا ما يستحق من يطعن في ملك الملك ، فقال : { أولئك } أي الذين جمعوا أنواعاً من البعد مع كل خير { الذين كفروا بربهم } أي غطوا كل ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم ثم رباهم بأنواع اللطف ، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا مبدأهم { وأولئك } أي البعداء البغضاء { الأغلال } أي الحدائد التي تجمع أيدي الأسرى إلى أعناقهم ، ويقال لها : جوامع ، وتارة تكون في الأعناق فقط يعذب بها الناس؛ ولما كان طرفا العنق غليظين ، فلا تكون إحاطة الجامعة منها إذا كانت ضيقة إلا بالوسط ، جعل الأعناق ظروفاً باعتبار أنها على بعض منها ، وذلك كناية عن ضيقها ، فقال : { في أعناقهم } أي بكفرهم وإن لم تكن الأغلال مشاهدة الآن ، فهي لقدرة المهدد بها على الفعل كأنها موجودة ، وهم منقادون لما قدر عليهم من أسبابها كما يقاد المغلول بها إلى ما يريد قائده ، والغل : طوق تقيد به اليد في العنق ، وأصله : انغل في الشيء - إذا انتشب فيه ، وغل المال - إذا خان بانتشابه في المال الحرام { وأولئك } أي الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم { أصحاب النار } . ولما كانت الصحبة تقتضي الملازمة ، صرح بها فقال : { هم } أي خاصة { فيها } أي متمحضة لا يخلطها نعيم { خالدون * } أي ثابت خلودهم دائماً .

ولما تضمنت هذه الآية إثبات القدرة التامة مع ما سبق من أدلتها المحسوسة المشاهدة ، كان أيضاً من العجب العجيب والنبأ الغريب استهزاءهم بها ، فقال معجباً منهم : { ويستعجلونك } أي استهزاء وتكذيباً؛ والاستعجال : طلب التعجيل ، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له { بالسيئة } من العذاب المتوعد به من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جرأة منهم تشير إلى أنهم لا يبالون بشيء منه ولا يوهن قولهم شيء { قبل الحسنة } من الخير الذي تبشرهم به { و } الحال أنه { قد خلت } ولما كان المحدث عنه إنما كان في بعض الزمان ، أدخل الجار فقال : { من قبلهم المثلات } جمع مثله بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات ، سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة ، وهي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله من الأمم الذين اتصلت بهم أخبارهم ، وخاطبتهم بعظيم ما اتفق لهم آثارهم وديارهم ، وما يؤخرهم الله إلا لاستيفاء آجالهم التي ضربها لهم مع قدرته التامة عليهم .
ولما كانوا ربما قالوا : ما نرى إلا تهديداً لا يتحقق شيء منه : قال مؤكداً لإنكارهم واعتقادهم أن المسار والمضار إنما هي عادة الدهر ، عطفاً على ما تقديره : فإن ربك حليم لا يخاف الفوت فلا يستعجل في الأخذ : { وإن ربك } أي المحسن إليك بجعلك نبي الرحمة { لذو مغفرة } أي عظيمة ثابتة { للناس } حال كونهم ظالمين متمكنين في الظلم مستقلين { على ظلمهم } وهو إيقاعهم الأشياء في غير مواضعها ، فلا يؤاخذهم بجميع ماكسبوا { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [ النحل : 61 ] فلذلك يقيم الناس دهراً طويلاً يكفرون ولا يعاقبون حلماً منه سبحانه ، والآية مقيدة بآية النساء { ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] وإن لم يكن توبة ، فإن التائب ليس على ظلمه .
ولما كان يمهل سبحانه ولا يهمل وذكر إمهاله ، ذكر أخذه مؤكداً لمثل ما مضى فقال : { وإن ربك } أي الموجد لك المدبر لأمرك بغاية الإحسان { لشديد العقاب * } للكفار ولمن شاء من غيرهم ، فلذلك يأخذ أخذ عزيز مقتدر إذا جاء الأجل الذي قدره .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)

ولما بين سبحانه أنهم غطوا آيات ربهم المتفضل عليهم بتلك الآيات وغيرها ، عجب منهم عجباً آخر في طلبهم إنزال الآيات مع كونها متساوية الأقدام في الدلالة على الصانع وما له من صفات الكمال ، فلما كفروا بما أتاهم كانوا جديرين بالكفر بما يأتيهم فقال : { ويقول } أي على سبيل الاستمرار { الذين كفروا } استهزاء بالقدرة { لولا } أي هلا ولم لا { أنزل } أي بإنزال أيّ كائن كان { عليه آية } جاحدين عناداً لما أتاه من الآيات { من ربه } أي المحسن إليه تصديقاً له .
ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدة التفاته إلى أيمانهم ، كان كأنه سأل في ذلك لتحصل لهم النجاة ، فأجيب بقوله تعالى - مقدماً ما السياق أولى به لأنه لبيان أن الأكثر لا يؤمن - : { إنما أنت منذر } أي نبي منذر هاد لهم تهديهم ببيان ما أنزله عليك مما يوقع في الهلاك أو يوصل إلى النجاة ، سائر فيهم على حسب ما أحدّه لك ، وأصل الإنذار الإعلام بموضع المخافة ليتقى ، لا أنك مثبت للإيمان في الصدور { ولكل قوم } ممن أرسلنا إليهم نبي { هاد * } أي داع يهديهم إلى مراشدهم ومنذر ينذرهم من مغاويهم ، أي يبين لهم ما أرسلنا به من النذارة والبشارة ، وأعطى كل منذر وهاد آيات تليق به وبقومه على مثلها يؤمن البشر ، فيهدي الله من يعلم فيه قابلية الهدى بما نصب من الآيات المشاهدات ، فلا يحتاج إلى شيء من المقترحات ، ويضل من يعلم فيه دواعي الضلال ولو جاءته كل آية ، لأنه الذي جبلهم على طبائع الخير والشر { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ تبارك : 14 ] فهو كقوله تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] وكقوله في هذه السورة { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } والآية من الاحتباك : ذكر المنذر أولاً يدل على حذفه ثانياً ، وذكر الهاد ثانياً دال على حذف مثله أولاً .
ولما كان ما مضى مترتباً على العلم والقدرة ولا سيما ختم هذه الآية بهاد ، وكان إنكارهم البعث إنكاراً للنشأة الأولى ، وكان سبحانه وتعالى يعلم أن إجابتهم إلى ما اقترحوا غير نافع لهم ، لأنهم متعنتون لا مسترشدون ، شرع سبحانه - بعد الإعراض عن إجابة مقترحاتهم - يقرر من أفعاله المحسوسة لهم المقتضية لاتصافه من العلم والقدرة بما هو كالإعادة سواء إشارة منه تعالى إلى أن إنكار البعث إن كان لاستحالة الإعادة فهي مثل البداءة ، وإن كان لاستحالة تمييز التراب الذي كان منه الحيوان - بعد اختلاطه بغيره وتفرق أجزائه - فتمييز الماء الذي يكون منه الولد من الماء الذي لا يصلح لذلك أعجب ، لأن الماء أشد اختلاطاً وأخفى امتزاجاً ، ومع ذلك فهو يعلمه فقال : { الله } أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة { يعلم } أي علماً قديماً في الأزل بما سيوجد وعلماً يتجدد تعلقه بحسب حدوث الحادثات على الاستمرار { ما تحمل } أي الذي تحمله في رحمها { كل أنثى } أي الماء الذي يصلح لأن يكون حملاً { وما تغيض } أي تنقص { الأرحام } من الماء فتنشفه فيضمحل لعدم صلاحيته لأن يكون منه ولد ، وأصل الغيض - كما قال الرماني : ذهاب المائع في العمق الغامض ، وفعله متعد لازم { وما تزداد } أي الأرحام من الماء على الماء الذي قدر تعالى كونه حملاً فيكون توأماً فأكثر في جماع آخر بعد حمل الأول كما صرح بإمكان ذلك ابن سينا وغيره من الأطباء ، وولدت في زماننا أتان حماراً وبغلاً ، وذلك لأن الزيادة ضم شيء إلى المقدار وكثرته شيئاً بعد شيء فيقدر ذلك ، ولا يمكن أحداً زيادته ولا نقصانه ، وذلك كله يستلزم الحكمة فلذا ختمه بقوله : { وكل شيء } أي من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها { عنده } أي في قدرته وعلمه { بمقدار * } في كيفيته وكميته لا يتجاوزه ولا تقصر عنه ، لأنه عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين ، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات وهو قادر على ما يريد منها ، فالآية بيان لقوله تعالى : { الذين كفروا بربهم } من حيث بين فيها تربيته لهم على الوجه الذي هم له مشاهدون وبه معترفون .

ولما كان هذا عيباً وكان علمه مستلزماً لعلم الشهادة ، وكان للتصريح مزية لا تخفى ، صرح به على وجه كلي يعم تلك الجزيئات وغيرها فقال : { عالم الغيب } وهو ما غاب عن كل مخلوق { والشهادة } قال الرماني : الغيب : كون الشيء بحيث يخفى عن الحس ، والشهادة : كونه بحيث يظهر له .
ولما كان العلم والحكمة لا يتمان إلا بكمال القدرة والعظمة قال : { الكبير } أي الذي يتضاءل عنده كل ما فيه صفات تقتضي الكبر ، قال الإمام أبو الحسن الحرالي : والكبر : ظهور التفاوت في ظاهر وباهر القدر الذي لا يحتاج إلى فكر ، ولذلك كان فطرة للخلق أن الله أكبر ، ولما كان لا ظاهر قدر للخلق لما عليهم من بادي الضروريات والحاجات المعلنة بصغير بالقدر ، ومن حاول منهم أن يكبر بسطوة أو تسلط وفساد زاد صغار قدره بما اكتسب في أعين أرباب البصائر في الدنيا ، ويبدو ذلك منه لعيون جميع الخلق في الأخرى « يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذي يطؤهم الناس بأقدامهم » فلذلك اختصاص معنى أنه لا كبير إلا الله - انتهى . { المتعال * } أي الذي لا يدنو - من أوج علوه في ذات أو صفة أو فعل - عالٍ ، وأخرجه مخرج التفاعل ليكون أدل على المعنى وأبلغ فيه؛ وقال أبو الحسن الحرالي رحمه الله : والتعالي : فوت التناول والمنال بحكم أو حجة ، وأشعر التفاعل بما يجري من توهم المحتجين في أمره بأوهام حجج داحضة { حجتهم داحضة عند ربهم } [ الشورى : 16 ] فهو تعالى يأذن في الاحتجاج والجدال ثم يتعالى بما له من الحجة البالغة { قل فلله الحجة البالغة } [ الأنعام : 149 ] فهو المتعالي علماً وحكماً وحجة ، وحقيقة المتعالي الذي لا يتعالى إلا هو - انتهى . والحاصل أنه لما وصف نفسه مما تقدم ، أشار إلى أن ذلك على ما تحتمله العقول وأن الحق في وصفه الكبر المطلق والتعالي المطلق ، لأن العقول لا تحتمل أكثر من ذلك .

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)

ولما كانت العادة قاضية بتفاوت العلم بالنسبة إلى السر والجهر ، والقدرة بالنسبة إلى المتحفظ بالحرس وغيره ، أتبع ذلك سبحانه بما نفي هذا الاحتمال عنه على وجه الشرح والبيان لاستواء الغيب والشهادة بالنسبة إلى علمه فقال : { سواء منكم } أي في علمه { من أسر القول } أي أخفى معناه في نفسه { ومن جهر به } وفي علمه { و } قدرته { من هو مستخف } أي موجد الخفاء وطالب له أشد طلب { باليل } في أخفى الأوقات فسارب أو كامن فيه ، يظن أن ذلك الاستخفاء يغنيه من القدرة { و } من هو { سارب } أي ذاهب على وجهه الأرض ومتوجه جارٍ في توجهه إلى قصده بسرعة { بالنهار * } متجاهر بسروبه فيه ، فالآية من الاحتباك : ذكر { مستخف } أولاً دال على ضده ثانياً ، وذكر { سارب } ثانياً دال على ضده أو مثله أولاً { له } أي لذلك المستخفي أو السارب - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما { معقبات } أي أعوان وأنصار يتناوبون في أمره بأن يخلف كل واحد منهم صاحبه ويكون بدلاً منه .
ولما كان حفظ جهتي القدام والخلف يستلزم حفظ اليمين والشمال وكان ملأ كل من الجهتين من الحفظة على المخلوق متعذراً ، قال آتياً بالجار : { من بين يديه } أي من قدامه { ومن خلفه } واستأنف بيان فائدة المعقبات فقال : { يحفظونه } أي في زعمه من كل شيء يخشاه { من أمر الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة .
ولما دل هذا على غاية القدرة ، وجرت عادة المتمكنين من ملوك الأرض بالتعدي على جيرانهم واستلاب ممالكهم والعسف في شأنهم ، زيادة في المكنة وتوسعاً في الملك ، ولا سيما إذا كان ذلك الجار ظاناً مع ضعفه وعجزه أن يحفظه مانه من أخذه ، أخبر تعالى من كأنه سأل عن ذلك أنه غير هذا لغناه عنه ، فقال : { إن الله } أي الذي له الإحاطة والكمال كله { لا يغير ما بقوم } أي خيراً كان أوشراً { حتى يغيروا ما } أي الذي { بأنفسهم } مما كانوا يزينونها به من التحلي بالأعمال الصالحة والتخلي من أخلاق المفسدين ، فإذا غيروا ذلك غير ما بهم إذا أراد وإن كانوا في غاية القوة .
ولما كان ملوك الدنيا لا يتمكنون غالباً من جميع مراداتهم لكثرة المعارضين من الأمثال الصالحين للملك ، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره : فإذا غيروا ما بأنفسهم أنزل بهم السوء : { وإذا أراد الله } أي الذي له صفات الكمال { بقوم } أي وإن كانوا في غاية القوة { سوءاً فلا مرد له } من أحد سواه ، وقد تقدم لهذه الآية في الأنفال مزيد بيان .
ولما كان كل أحد دونه في الرتبة لا إمكان له أن يقوم مقامه بوجه ، قال : { وما لهم } وبين سفول الرتب كلها عن رتبته فقال : { من دون } وأعرق في النفي فقال : { من } ولما كان السياق ظاهراً في أنه لا منفذ لهم مما أراده ، أتى بصيغة فاعل منقوص إشارة إلى نفي أدنى وجوه الولاية فكيف بما فوقها فقال : { وال * } أي من ملجأ يعيذهم ، بأن الفعل معهم من الإنجاء والنصرة ما يفعل القريب مع وليه الأقرب إليه ، ثم أخبر تعالى بأمر هو أدلة ما قبله جامع للعلم والقدرة وهو ألطف من ذلك كله ، معلم بجليل القدرة في أنه إذا أراد سوءاً فلا مرد له ، ودقيق الحكمة لأنه مظهر واحد ترجى منه النعمة وتخشى منه النقمة فقال : { هو } أي وحده { الذي يريكم } أي على سبيل التجديد دائماً { البرق } وهو لمع كعمود النار { خوفاً } أي لأجل إرادة الخوف من قدرته على جعله صواعق مهلكة ، والخوف : انزعاج النفس بتوهم وقوع الضر .

ولما لم يكن لهم السبب في إنزال المطر ، لم يعبر بالرجاء وقال : { وطمعاً } أي ولأجل إرادة طمعكم في رحمته بأن يكون غيثاً نافعاً ، ولا بد من هذا التقدير ليكونا فعل فاعل الفعل المعلل ، ويجوز أن يكون المعنى : يريكم ذلك إخافة وإطماعاً فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً ، فتكون الآية من الاحتباك : فعل الإراءة دال على الإخافة والإطماع ، والخوف والطمع دالان على « تخافون وتطمعون » ويجوز أن يكونا حالين من ضمير المخاطبين أي ذوي خوف وطمع { وينشىء } والإنشاء : فعل الشيء من غير سبب مولد { السحاب } وهو غيم ينسحب في السماء ، وهو اسم جنس جمعي ، واحده سحابه { الثقال * } بأنهار الماء محمولة في الهواء على متن الريح؛ والثقل : الاعتماد على جهة الثقل بكثافة الأجزاء { ويسبح الرعد } أي ينزه عن صفات النقص تنزيهاً ملتبساً { بحمده } أي بوصفه بصفات الكمال ، ويروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الرعد ملك وإن لم يصح أنه ملك فتسبيحه دلالته على أن موجده سبحانه منزه عن النقص محيط بأوصاف الكمال { والملائكة } أي تسبح { من خيفته } قال الرماني : والخيفة مضمنة بالحال ، كقولك : هذه ركبة ، أي حال من الركوب حسنة ، وكذلك هذه خيفة شديدة ، والخوف مصدر غير مضمن بالحال . { ويرسل الصواعق } المحرقة من تلك السحائب المشحونة بالمياه المغرقة؛ والصاعقة - قال الرازي : نار لطيفة تسقط من السماء بحال هائلة . { فيصيب بها } أي الصواعق { من يشاء } كما أصاب بها أربد بن ربيعة { وهم } أي والحال أنهم مع ذلك الذي تقدم من إحاطة علمه وكمال قدرته { يجادلون } والجدال : فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج { في الله } أي الملك الأعظم بما يؤدي إلى الشك في قدرته وعلمه . ولما كان لا يغني من قصده بالعذاب شيء قال : { وهو شديد المحال * } لأن المحال - ككتاب : الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك ، يأتي أعداءه بما يريد من إنزال العذاب بهم من حيث لا يحتسبون ، وكلها صالح هنا حقيقة أو مجازاً ، وقال الرماني : والمحال : الأخذ بالعقاب من قولهم : ما حلت فلاناً - إذا فتلته إلى هلكه - انتهى .

ومادة « محل » بجميع تقاليبها تدور على صرف الشيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه جبلته ، وذلك يستلزم القدرة والقوة والشدة ، فالحامل يمسك المحمول بقوته عن أن يهوي إلى جهة السفل ، والحملة : الكرة في الحرب ، ويلزم الحمل المشقة ، ومنه تحمل الشيء وحمل عنه أي حلم فهو حمول : ذو حلم ، والحميل - كأمير : الدعي والغريب - كأنهما محمولان لحاجتهما إلى ذلك ، والكفيل ، لأنه حامل لكل مكفول واحتمل لونه - للمفعول : غضب وامتقع - كأن الغضب صرفه عما كان من عادته ، والمحمل - كمحسن : المرأة ينزل لبنها من غير حبل ، لأن ذلك شيء على غير وجهه ، والحمل - محركة : الخروف - لسهولة حمله ، والحليم : من يحبس غيظه بقوة حلمه - أي عقله - عن أن يستخفه الغضب ، والحلم - بالكسر : الأناة والعقل ، والحلم - بالضم وبضمتين : الرؤيا ، لأنها صرف النفس عما هي عليه ، وهو من شأنها من الغفلة ، ومنه الحلم - بالضم - والاحتلام للجماع في النوم ، والاسم الحلم - كعنق ، وذلك يكون غالباً عند فراغ البال عن الهموم ، وإليه يرجع حلم المال - بالضم : سمن ، والصبي وغيره : أقبل شحمه ، أو هو من الحلمة - محركة : اللحمة الناتئة وسط الثدي كالثؤلول - لصرفها لون الثدي وهيئته عما كان عليه ، وشجر السعدان - لأنه مرعى جيد يسمن ، والصغيرة من القردان أو الضخمة - لشبهها بحلمة الثدي ودود يقع في الجلد قبل الدبغ فيأكله ، لأن ذلك يغيره عن هيئته ، والحالوم : ضرب من الأقط ، لأنه لحراقته يغير اللسان ، ودم حلام : هدر ، لأنه خرج عما عليه عادة الدماء؛ والملح يصرف المملوح عن الفساد ، وأما الماء الملح فمشبه به الطعم ، وكذا الملح - محركاً - للون كالبياض يخالطه سواد ، والملحاء : شجرة سقط ورقها ، شبهت بأرض الملح في عدم الإنبات . ولما عرف الملح بالصلاح شبه به العلم فسمي ملحاً ، وكذا الرضاع والحسن والشحم والسمن والحرمة والذمام وخفقان الطائر بجناحيه يصلح بذلك طيرانه ويتملح به استرواحاً إليه ، وملح الشاة : سمطها ، والملاح - ككتاب : الريح تجري بها السفينة ، وهي أيضاً تصرفها عما يقتضيه حالها من عدم السير ، ومعالجة حياء الناقة منه ، وملحه على ركبته - أي لا وفاء له ، لأن الملح لا يثبت هناك ، أو هو سمين أو حديد في غضبه ، بمعنى أنه لا صلاح له ، وملحه : اغتابه ، شبه بمن يتطعم الملح ليعدل مزاجه ، وكذا الملاح - ككتاب ، وهو هبوب الجنوب عقب الشمال ، وكذا الملاحي - كفرابي وقد يشدد ، وهو عنب أبيض طويل ، ونوع من التين ، ومن الأراك ما فيه بياض وحمرة ، والملح - بضم الميم وفتح اللام من الأحاديث ، وامتلح : خلط كذباً بحق ، والملح - محركة : ورم في عرقوب الفرس ، صرفه عن هيئته المعتادة ، والملاح ككتاب : سنان الرمح ، لتهيئته له بعد الوقوف للنفوذ ، والسترة ، لصرفها البصر عن النفوذ إلى ما وراءها ، وبرد الأرض حين ينزل الغيث ، لأنه يصرف حالها التي كانت عليها إلى أخرى ، والملحة - بالضم : المهابة ، لصرفها المجترىء عن قصده ولأن سببها صرف النفس عن هواها ، والملحاء : الكثيبة العظيمة ، ومنه البركة ، لمنعها الماشي عن حاله في المشي ، ومنه الملحة - بالفتح - للجة البحر ، وملحان : الكانون الثاني لصرفه بقوة برده الزمان عما كان عليه والناس عما كانوا عليه ، والملحاء : لحم في الصلب من الكاهل إلى العجز ، لمنعه من رؤية عظام الصلب ورؤوس الأضلاع؛ والمحل صرف ما في الزمان عن عادته بعدم المطر والإنبات ورفاهة العيش ، وكذا المحل للكيد والمكر والغبار والشدة والمحال ، لما تقدم من تفسيره ، ومنه ماحله : قاواه ، والمتماحل : الطويل المضطرب الخلق ، لخروجه عن العادة ، وتمحل له : احتال ، والممحل - كمعظم - من اللبن : الآخذ طعم حموضة ، والمحالة : البكرة العظيمة - لصرفها بفتلها الشيء عن وجهه ، والفقرة من فقر البعير - لمشابهتها والخشبة التي يستقر عليها الطيانون - لحملها إياهم ومنعها لهم من السقوط ، والمحل - ككتف : من طرد حتى أعيا ، لأنه صرف عما كان من عادته ، ورأيته متماحلاً : متغير اللون؛ واللمح : صرف البصر عما كان عليه ، ولمح البرق : لمع بعد كمونه؛ واللحم من لحمة الثوب - بالضم ، كأنه سد ما حصل بالهزال من فرج ، ومنه : لحم كل شيء : لبه؛ ولحم الأمر - كمنع : أحكمه ، والصائغ الفضة : لأمها ، وكذا كل صدع ، ولحم - كعلم : نشب في المكان ، كأنه وقع فيما يشبه اللحم فالتصق به فأدخله وشغله ، وهذا لحيم هذا ، أي وفقه وشكله - وهو يرجع إلى لحمة الثوب ، واستلحم الطريق : تبعه أو تبع أوسعه - كأنه جعل نفسه مثل لحمة السدى ، واستلحم الطريق : اتسع ، كأنه طلب ما يلحمه أي يسده ، وحبل ملاحم - بفتح الحاء : شديد الفتل ، لأنه سدت فرجه كما تسد اللحمة فرج الثوب ، ونبي الملحمة - من القتال ، لأنه ضرب اللحم بالسيف ، ومن التأليف كما يكون عن لحمة الثوب ، لأن غاية قتاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم خير وألفة ، والتحم الجرح للبرء : التأم - من ذلك ومن اللحم أيضاً لأنه به التأم - والله أعلم .

ولما بين تعالى تصديقاً لقوله { وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } [ يوسف : 105 ] ما له من الآيات التابعة لصفات الكمال التي منها التنزه عما لا يليق بالجلال وأنه شديد المحال ، شرع يبين ضلالهم في اشتراكهم المشار إليه في قوله : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } بما هو علة لختم ما قبلها من أنه لا كفؤ له ، فقال : { له } أي الله سبحانه { دعوة الحق } إن دعاه أحد سمعه فأجابه - إن شاء - بما يشاء ، وإن دعا هو أحداً دعوة أمر ، بين الصواب بما يكشف الارتياب ، أو دعوة حكم لبى صاغراً وأجاب { والذين يدعون } أي يدعو الكافرون ، وبين سفول رتبتهم بقوله : { من دونه } أي الله { لا يستجيبون } أي لا يوجدون الإجابة { لهم } أي الكافرين { بشيء } والاستجابة : متابعة الداعي فيما دعا إليه بموافقة إرادته { إلا كباسط } أي إلا إجابة كإجابة الماء لباسط { كفيه } تثنيه كف ، وهو موضع القبض باليد ، وأصله من كفه - إذا جمع أطرافه { إلى الماء ليبلغ } أي الماء { فاه } دون أن يصل كفاه إلى الماء- بما يدل عليه التعدية ب « إلى » ، فما الماء بمجيب دعاءه في بلوغ فيه { وما هو } أي الماء { ببالغه } أي فيه ، فللكافرين بذلك دعوة الباطل كما أن الماء جماد لا يحس بدعوة هذا فلا يجيبه ، فأصنامهم كذلك .

ولما كان دعاؤهم منحصراً في الباطل ، قال في موضع « وما دعاؤهم » مظهراً تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف : { وما دعاء الكافرين } أي الساترين لما دلت عليه أنوار عقولهم بمعبوداتهم أو غيرها { إلا في ضلال * } لأنه لا يجد لهم نفعاً ، أما معبوداتهم فلا تضر ولا تنفع ، وأما الله فلا يجيبهم لتضييعهم الأساس .

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)

ولما كانت دعوة الأمر واضحة السبل جلية المناهج في جميع كتبه ، وكلها إلى الناظرين وبين دعوة الحكم بقوله : { ولله } أي الملك الأعلى { يسجد } أي يخضع وينقاد ويتذلل كما بين عند قوله { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } [ هود : 119 ] { من في السماوات والأرض } لجميع أحكامه النافذة وأقضيته الجارية { طوعاً } والطوع : الانقياد للأمر الذي يدعى إليه من قبل النفس { وكرهاً } قال الرازي رحمه الله : والكافر في حكم الساجد وإن أباه لما به من الحاجة الداعية إلى الخضوع ، واعلم أن سجود كل صنف هو تذلله وتسخره وانقياده لما أريد له ، فكل موجود جماد وحيوان عاقل وغير عاقل وروحاني وغير روحاني مسخر لأمر من له الخلق والأمر؛ وقال الشيخ محيي الدين النووي رضي الله عنه في شرح المهذب : أصله - أي السجود - الخضوع والتذلل ، وكل من تذلل وخضع فقد سجد ، وسجود كل موات في القرآن طاعته لما سخر له - هذا أصله في اللغة ، ثم قيل لمن وضع جبهته في الأرض : سجد ، لأنه غاية الخضوع .
ولما كانت الظلال مسخرة لما أراد سبحانه ، لا قدرة لأحد على تغيير ذلك بوجه ، قال : { وضلالهم } أي أيضاً تسجد له بامتدادها على الأرض ، تقصر تارة بارتفاع الشمس وتطول أخرى بانحطاطها ، لا يقدرون على منع ظلالهم من ذلك حيث يكون لهم ظلال ، وذلك { بالغدو } جمع غداة ، وهي البكرة : أول النهار { والآصال * } جمع أصيل ، دائماً في جميع البلاد ، وفي وسط النهار في بعض البلاد؛ والظل : ستر الشخص ما بإزائه ، والفيء : الذي يرجع بعد ذهاب ضوئه ، والأصيل : العشيّ ما بين العصر إلى المغرب - كأنه أصل الليل الذي ينشأ منه .
ومادة « صلا » - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الأحد عشر ، وهي : صلو ، صول ، لصو ، لوص ، وصل ، صلي ، صيل ، لصي ، ليص ، أصل ، صأل - تدور على الوصالة ، فالصلاة وصلة بين العبد وربه سواء كانت دعاء أو استغفاراً أو رحمة أو حسن الثناء من الله على رسوله ، أو ذات الأركان ، وصلوات اليهود لمتعبداتهم من ذلك في الأصل ، والصلا : وسط الظهر منا ، أو من كل ذي أربع ، أو ما انحدر من الوركين ، أو الفرجة بين الجاعرة والذنب - يجوز أن يكون من ذلك ، لأنه يقرب من غيره من الأعضاء إذا انثنى الحيوان ، ويجوز أن يكون شبه بالعود المعوج الذي يقوم بإصلائه النار ، وأصلت الناقة وصليت - إذا استرخى صلواها لقرب نتاجها ، والمصلّي من خيل الحلبة : الذي يجيء على إثر السابق ، فإنه يواصله ، وصلى الحمار أتنه : طردها وقحمها الطريق - فكأنه بذلك قومها بعد أن كانت معوجة ، أو أراد مواصلتها؛ صال الرجل صولة - إذا سطا واستطال ، لأن ذلك مواصلة على وجه القهر والغلبة ، وكذا صال الفحل على الإبل - إذا قاتلها ، والعير - إذا حمل على العانة فشلها ، وصال على كذا : وثب ، وصاوله : واثبه ، والتصويل : إخراجك الشيء بالماء ، لأن ذلك سبب الخلوص ، وإذا خلص الشيء تواصلت أجزاؤه ، لأن ذلك المخرج كان حائلاً بينها ، والتصويل - أيضاً : كنس نواحي البيدر ، لأنه سبب لتواصل ما كان متفرقاً ، ومن ذلك المصول - كمنبر : شيء ينقع فيه الحنظل لتذهب مرارته ، وبهاء : المكنسة ، والصيلة - بالكسر : عقدة العذبة - لتواصل محل العقد بعضه ببعض وبه يتماسك اتصال بعض العمامة ببعض ، والجراد يصول في مشواه ، من التصويل ، أي يساط ، بمعنى يخلط بالتقليب فيتواصل منه ما كان متفرقاً ، وصال يصيل - لغة في يصول ، وصيل له - كذا بالكسر : قيض وأتيح ، لأنه صار مقارناً له ، ولصوت الرجل عبته وقذفته - لأنك وصلت به العيب ، وفلان لا يلصو إلى ريبة ، أي لا ينضمُّ إليها ولا ينضاف؛ واللوص : اللمح من خلل باب ونحوه كالملاوصة - كأنه وصلة بالنظر من موضع غير معهود ، أو لأنه سبب الوصلة إلى ما يراد ، ولاوص : نظر كأنه يختل ليروم أمراً ، والشجرة : أراد أن يقطعها بالفأس ، فلاوص في نظره يمنة ويسرة كيف يأتيها وكيف يضربها - لأن حاصل ذلك المواصلة على وجه الشدة كما تقدم في صال عليه ، وتلوص : تلوى وتقلب ، ومنه أليص - أي أرعش ، وألاصه على الشيء : أداره عليه وأراده منه - كأنه طلب منه مواصلته ، واللواص - كسحاب : الفالوذ كالملوص كمعظم ، والعسل الصافي - لأنه أهل للمواصلة ، ولوص : أكل ، واللوص : وجع الأذن والنحر ، واللوصة؛ وجع الظهر - كأنه لشدته لا مواصل للبدن سواه ، ولاص : حاد - أي سلب الوصلة؛ والوصلة - التي هي مدار المادة وكأنها الحقيقة التي تشعبت منها فروعها - هي الضم وهي التئام الشيء بالشيء ، وكل ما اتصل بشيء فالذي بينهما وصلة ، وضدها الفرقة ، والوصل : ضد القطع ، والأوصال المفاصل ومجتمع العظام ، لأنها موضع اتصال العظم بالآخر ، والوصلان - بالكسر والضم : طبقاً الظهر ، ويقال : هما العجز والفخذ ، والوصيلة : الشاة تلد ذكراً ثم تلد أنثى ، فتصل أخاها ، وفيها خلاف كثير كله يدور على الوصلة ، ووصل الشيء بالشيء : لأمه ، ووصل الشيء وإلى الشي : بلغه وانتهى إليه ، وأوصله واتصل : لم ينقطع ، ووصله وواصله - كلاهما يكون في عفاف الحب ودعارته ، والوصائل جمع وصيلة - لثياب حمر مخططة يمنية يتخذها الناس دروعاً يشق من جانبيها ، كأنه لأنها توصل بغيرها أو يقطع بعضها ثم يوصل بها لتصير دروعاً ، والوصيلة : العمارة والخصب والرفقة والسيف - لأن ذلك أهل لأن يوصل ، والوصيلة : كبة الغزل لشدة التباس بعضها ببعض ، والأرض الواسعة - لأن اتصالها لم يحل بينه جبال ، وليلة الوصل : آخر ليالي الشهر ، لأنها تصل بين الشهرين ، وحرف الوصل : الذي بعد الروي - لأنه وصل حركة حرف الروي ، ووصيلك : من يدخل ويخرج معك ، وتَصِلُ : بئر ببلاد هذيل ، واتصل الرجل - إذا انتسب ، لأنه وصل نفسه بمن انتسب إليهم ، والموصول : دابة كالدبر تلسع الناس ، كأنه من السلب؛ وصليت اللحم : شويته - لأنك وصلته بالنار ، وصليته : ألقيته في النار للإحراق ، والصلاء - ككساء : الشواء أو النار كالصلى فيهما ، وكأن منه : صلّىعصاه على النار ، أي أحماها ليقومها - لأن كلاًّ منهما وصله بالنار للإصلاح ، وأصليته النار : أدخلته إياها وأثويته فيها ، وصلى يده بالنار : سخنها - لأنه وصلها بها ، وصلي النار - كرضي : قاسى حرها ، وصليت فلاناً : درايته وخاتلته وخدعته - كل ذلك لإرادة مواصلته لأمر ، والصلاية - ويهمز : الجبهة ، لكثرة مباشرتها الأرض في الصلاة ، ومدق الطيب - لمواصلة الدق ، وصليت للصيد تصلية - إذا نصبت له شركاً ليقع فيه فتصل إليه ، ومنه الحديث « إن للشيطان مصالي وفخوخاً » جمع مصلاة وفخ ، والصليان - بكسر ثم تشديد - قال في مختصر العين : نبت معروف ، وقال القزاز : وهو شجر له جعثن ضخم ، ربما جرد وسطه ونبت ما حوله ، وهو من أفضل المراعي وهو خبز الإبل ، وقيل : إن الخيل تأكله ولونه أصهب - انتهى .

فسمي بذلك لكثرة مواصلة الإبل له؛ ولصيت الرجل كرميت ورضيت - إذا عبته وقذفته بالفجور ، وقال القزاز : وقيل : هو أن يضيفه إلى ربية ، ولصي إليه : انضم إليه لريبة؛ ولاص يليص : حاد ، ولصته أليصه وألصته - إذا أزعجته أو حركته لتنتزعه - كأنه من السلب ، وألصته عن كذا - إذا راودته عنه ، يمكن أن يكون سلباً وأن يكون إيجاباً؛ والأصل : أسفل كل شيء - لأن جميع الأشياء واصله إليه ، وأصل - ككرم : صار ذا أصل أو ثبت أو رسخ كتأصل ، والرأي : جاد - كل ذلك تشبيه بالأصل ، والأصيل : من له أصل ، والعاقب الثابت الرأي ، وقد أصل - ككرم ، والأصيل : العشيّ - لأنه وصلة ما بين النهار والليل ، أو الليل ، أو لأنه لما آذن بتصرم النهار كان كأنه اجتثه من أصله ، ومنه الأصيل - للهلاك والموت كالأصيلة فيهما ، ولقيتهم مؤصلاً أي بالأصيل ، وأخذه بأصلته - محركاً ، وأصيلته أي كله بأصله ، وأصيلتك : جميع مالك أو نخلتك ، والأصل - ككتف : المستأصل ، وأصله علماً : قتله - كأنه أدام مواصلته حتى أتقنه ، والأصلة - محركة : حية قصيرة تساورالإنسان - قاله في مختصر العين ، وفي القاموس : حية صغيرة أو عظيمة تهلك بنفخها ، فإن نظرت إلى المساورة فهو من المواصلة - كما تقدم في صال عليه ، وإن نظرت إلى الهلاك فهو من الاستئصال ، وأصل الماء - كفرح : أسن من حمأة ، واللحم : تغير ، يجوز أن يكون من الوصلة أي لشدة مواصلة الحمأة للماء والهواء للحم ، وأن يكون من الأصيل أي الهلاك بجملته وأصله ، وأن يكون من سلب المواصلة؛ وصؤل البعير - ككرم صآلة : واثب الناس أو صار يقتل الناس ويعدو عليهم ، وصئيل الفرس : صهيله - لمواصلة نغماته ، وهذا وقد مضى عند قوله تعالى في سورة هود عليه السلام { صلواتك تأمرك } إشارة إلى هذا - والله سبحانه وتعالى أعلم .

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)

فلما تبين قطعاً أنه سبحانه المدبر للسماوات والأرض القاهر لمن فيهما ، وتبين قطعاً أنه المختص بربوبيتهما فأمره تعالى أن يوجه السؤال نحوهم عن ذلك - ردّاً على عبدة الأصنام وغيرهم من الملحدين - بقوله : { قل } أي بعد أن أقمت هذه الأدلة القاطعة ، مقرراً لهم { من رب } أي موجد ومدبر { السماوات والأرض } أي وكل ما فيهما .
ولما مضى في غير آية أنهم معترفون بربوبيته مقرون بخلقه ورزقه ثم لم يزعهم ذلك عن الإشراك ، جعلوا هنا كأنهم منكرون لذلك عناداً ، فلم ينتظر جوابهم بل أمره أن يجيبهم بما يجيبون به ، إشارة إلى أنهم لا يتحاشون من التناقض في اتباع الهوى ولا تصونهم عقولهم الجليلة وآراؤهم الأصلية - بزعمهم - عن التساقط في مهاوي الردى ، فقال : { قل الله } أي الذي له الأمر كله ، فثبت حينئذ أن لا ولي إلا هو ، فتسبب عن ذلك توجه الإنكار عليهم في اعتماد غيره ، فأمره بالإنكار في قوله : { قل أفاتخذتم } أي فتسببتم عن انفراده بربوبيتكم أن أوجدتم الأخذ بغاية الرغبة ، فتسببتم الإشراك عما يجب أن يكون سبب التوحيد ، وبين سفول رتبتهم بقوله : { من دونه أولياء } لا يساوونكم في التسبب في الضر والنفع ، بل { لا يملكون لأنفسهم } فكيف بغيرهم { نفعاً } ونكره ليعم ، وقدمه لأن السياق لطلبهم منهم ، والإنسان إنما يطلب ما ينفعه .
ولما كان من المعلوم أنه لا قدرة لأحد على أن يؤثر في آخره أثراً لا يقدر على مثله في نفسه قال : { ولا ضرّاً } فثبت أن من سواهم بالله أضل الضالين ، لأنه يلزمه أن يسوي بين المتضادات ، فكان معنى قوله : { قل هل يستوي } والاستواء : استمرار الشيء في جهة واحده { الأعمى } في عينه أو في قلبه { والبصير * } كذلك { أم هل تستوي } بوجه من الوجوه { الظلمات والنور * } : هل أدتهم عقولهم إلى أن سووا بين هذه المتضادات الشديدة الظهور لغباوة أو عناد حتى سووا من يخلق بمن لا يخلق ، فجعلوا له شريكاً كذلك لغباوة أو عناد { أم جعلوا لله } أي الذي له مجامع العظمة { شركاء } ثم بين ما يمكن أن يكون به الشركة ، فقال واصفاً لهم : { خلقوا كخلقه } وسبب عن ذلك قوله : { فتشابه } والتشابه : التشاكل بما يلتبس حتى لا يفصل فيه بين أحد الشيئين والآخر { الخلق عليهم } فكان ذلك الخلق الذي خلقه الشركاء سبب عروض شبهة لهم ، وساق ذلك في أسلوب الغيبة إعلاماً بأنهم أهل للإعراض عنهم ، لكونهم في عداد البهائم لقولهم ما لا يعقل بوجه من الوجوه ، وهذا قريب مما يأتي قريباً في قوله : { أم بظاهر من القول } [ الرعد : 33 ] . أي بشبهة يكون فيها نوع ظهور لبعض الأذهان .
ولما كان من المعلوم قطعاً أن جوابهم أن الخلق كله لله .

ولم يمنعهم ذلك من تأله سواه ، أمره أن يجيبهم معرضاً عن جوابهم فقال { قل الله } أي الملك الأعلى { خالق كل شيء } إشارة إلى أنهم في أحوالهم كالمنكر لذلك عناداً أو خرقاً لسياج الحياء وهتكاً لجلباب الصيانة ، وإذ قد ثبت أنه المنفرد بالخلق وجب أن يفرد بالتأله فقال : { وهو الواحد } الذي لا يجانسه شيء ، وكل ما سواه لا يخلو عن مجانس يماثله ، وأين رتبة من يماثل من رتبة من لا مثل له { القهار * } الذي كل شيء تحت قهره بأنفسهم وظلالهم ، وهو القادر بما لا يمكن أن يغلبه غالب وهو لكل شيء غالب ، وهذا إشارة - كما مضى في مثله غير مرة في سورة يوسف وغيرها - إلى برهان التمانع ، فإن أربابهم متعددون ، فلو كانت لهم حياة وكانوا متصرفين في الملك لأمكن بينهم تمانع وكان كل منهم معرضاً لأن يكون مقهوراً ، فكيف وهم جماد! فثبت قطعاً أنه لا شيء منهم يصلح للإلهية على تقدير من التقادير؛ قال الرماني : والواحد على وجهين : شيء لا ينقسم أصلاً ، وشيء لا ينقسم في معنى كالدنيا .

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)

ولما كان حمل الماء في العلو لا يمكن إلا عن قهر ، وإنزاله في وقت دون غيره كذلك ، أتبع هذا الختم قوله دليلاً مشاهداً عليه : { أنزل } ولما كان الإنزال قد يتجوز به عن إيجاد ما يعظم إيجاده ، حقق أمره بقوله : { من السماء } ولما كان المنزل منها أنواعاً شتى قال : { ماء فسالت } أي فتسبب عن إنزاله لكثرته أن سالت { أودية } أي مياهها منها الكبير والصغير؛ والوادي : سفح الجبل العظيم الذي يقابله جبل أو تل فيجتمع فيه المطر ، فيجري في فضائه ، ومنه أخذت الدية - لجمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتل { بقدرها } والقدر : اتزان الشيء بغيره من غير زيادة ولا نقصان ، فالمعنى أن المياه ملأت الأودية مع ما ذلك من الدلالة على التفرد بالربوبية مما هو مثال للحق والباطل ، وهو قوله : { فاحتمل } والاحتمال : رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له { السيل } وهو ماء المطر الجاري من الوادي بعظم { زبداً رابياً } أي عالياً بانتفاخه : والزبد : الرغوة التي تعلو الماء ، ومدار المادة على الخفة ، ويلزمها العلو ، ومنه زبد البحر والبعير - للرغوة الخارجة من شدقه ، والغضبان ، وزبدت المرأة القطن - إذا نفشته ، والزباد - كرمان : ضرب من النبت تنفرش أفنانه ، وشاة مزبدة أي سمينة ، ومنه الزباد - للطيب المعروف وهو وسخ يشبه الرغوة يجتمع تحت ذنب نوع من السنانير ، ومنه الزبد - بضم وسكون - لخالص اللبن فإنه أخفه ، يقال منه : زبدت فلاناً أزبده - إذا أطعمته الزبد ، ثم اتسع فيه حتى قيل لمطلق العطية ، ومنه : « نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن زبد المشركين »؛ ومنه الزدب - بكسر ثم سكون ، وهو النصيب ، ويمكن أن يكون من زبد اللبن الزبادُ للنبت ، فإنه مرعى ناجع ، كأنه شبه به أو لأنه سببه ، وكذا شاة مزبدة أي سمينة ويلزم الخفة الإسراع ، يقال : تزبد اليمين - إذا أسرع إليها ، أو إنها شبهت بالزبد في سهولة التقامه .
ولما الزبد أحسن مثل لمعبوداتهم ، وكان لا يختص بالماء الذي هو مائع بطبعه بجمع الأوضار والأقذار بجريه ، ذكر معه ما يشبهه في النفع من الجوامد الصلبة التي تزبد عند الإذابة مع كونها في حال الجمود في غاية الصفاء والخلوص عن الشوائب على ما يظهر ، فقال : { ومما يوقدون } أي إيقاداً مستعلياً { عليه } أي للإذابة { في النار } من المعادن { ابتغاء حلية } تتحلون بها من الأساور والحلق ونحوها { أو } ابتغاء { متاع } تتمتعون به من الدراهم والدنانير والسيوف والأواني ونحوها ، وأصل المتاع : التمتع الحاضر ، فهذا تقسيم حاصر لأنواع الفلز المنوه إليها مع إظهار التهاون به وإن تنافس الناس فيه كما هو شأن الملوك يظهرون المجد والفخار بالاستهانة بما يتنافس الناس فيه { زبد مثله } أي مثل زبد الماء يكشط عن وجهه أو يعلق بأطراف الإناء فيذهب ويبقى ذلك الجوهر خالصاً كالحق إذا زالت عنه الشكوك وانزاحت الشبه .

ولما كان هذا في غاية الحسن والانطباق على المقصود ، كان سامعه جديراً بأن يهتز فيقول : هذا مما لا يقدر على سوقه هكذا إلا الله تعالى ، فيا له من مثل! فأجيب قوله : { كذلك } أي مثل هذا الضرب ، العلي الرتب ، الغريب العجب ، المتين السبب { يضرب الله } أي الذي له الأمر كله { الحق والباطل } أي مثلهما؛ وضرب المثل : تسييره في البلاد يتمثل به الناس .
ولما نبه بهذا الفصل على علو رتبه هذا المثل ، شرع في شرحه ، فقال مبتدئاً بما هو الأهم في هذا المقام ، وهو إبطال الباطل الذي أضلهم ، وهو في تقسيمه على طريق النشر المشوش ، فقال : { فأما الزبد } أي الذي هو مثل للباطل المطلق { فيذهب } متعلقاً بالاشجار وجوانب الأودية لأنه يطفو بخفته ويعلق بالأشياء الكثيفة بكثافته { جفاء } قال أبو حيان : أي مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له؛ وقال ابن الأنباري : متفرقاً ، من جفأت الريح الغيم - إذا قطعته ، وجفأت الرجل : صرعته - انتهى . فهذا مثل الباطل من الشكوك والشبه وما أثاره أهل العناد ، لا بقاء له وإن جال جولة - يمتحن الله بها عباده ليظهر الثابت من المزلزل - ثم ينمحق سريعاً؛ وقال الرماني : والجفاء : بنوّ مكان الشيء به حتى يهلك { وأما ما ينفع الناس } من الماء والفلز الذي هو مثل الحق { فيمكث في الأرض } ينتفع الناس بالماء الذي به حياة كل شيء ، والفلز الذي به التمام ، فالماء والمعدن مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع كما أن الماء يحيى الأراضي الميتة ، والمعادن تحيي موات العيش وتنظم المعاملات المقتضية لاختلاط بعض الناس ببعض وائتلافهم بالحاجة ، والأودية والأواني مثل القلوب يثبت منه فيها ما تحتمله على قدر سعة القلب وضيقه بحسب الطهارة وقوة الفاهمة .
ولما انقضى هذا المثل على هذا البيان الذي يعجز دونه الثقلان ، لأنه أحسن شيء معنى بأوجر عبارة وأوضح دلالة ، كان كأنه قيل : هل يبين كل شيء هذا البيان؟ فقيل : نعم ، { كذلك } أي مثل ذلك الضرب { يضرب الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة { الأمثال } فيجعلها في غاية الوضوح وإن كانت في غاية الغموض .
ومادة « جفا » - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بكل ترتيب ، وهي جفأ جأف فجأ ، جفي جيف فيج ، جفو جوف فوج ، فجو وجف - تدور على الطرح : جفأ الوادي والقدر : رميا بالجفاء أي الزبد وجفأ القدر والوادي : مسح غثاءه أي فطرحه - وجفأه : صرعه ، والبرمة في القصعة : كفاها - أي طرح ما فيها - والباب : أغلقه وفتحه - ضد ، لأنه في كليهما كالمرمي به ، والبقل : قلعه من أصله ، والجفاء - كعزاب : الباطل ، لأنه أهل للقذف به والطرح ، والسفينة الخالية ، لأنا بمعرض قذف الماء لها .

وأجفا ماشيته : أتعبها بالسير ولم يعلفها أي سيرها سيراً كأنها يقذف بها ، وجفأ به : طرحه ، وجفات البلادُ : ذهب خيرها ، فكانت طرحته أو صارت هي أهلاً لأن تطرح وتبعد ، والعام جفأةُ إبلنا ، وهو أن ينتج أكثرُها ، لأنها طرحت أجنّتها .
ومن يائيه : جفيته أجفيه : صرعته ، والجفاية - بالضم : السفينة الفارغة ، والمجفي : المجفو .
ومن واويه : جفا الشيء يجفو - إذا لم يلزم مكانه ، كأنه فصل من مكانه فطرح به ، والجفاء والجفوة : ترك الصلة ، واجتفيته : أزلته عن مكانه ، وجفا عليه كذا : ثقل ، فصار أهلاً لطرحه والانفصال منه ، ورجل جافي الخلقة والخلق : كز غليظ ، لأن الشيء إذا غلظ لم يلتصق التصاق اللطيف ، وأجفى الماشية : أتبعها ولم يدعها تأكل ، وفيه جفوة أي هو جاف ، فإن كان مجفواً قيل : به جفوة .
ومن مقلوبه مهموزاً : جافة : صرعه وذعره أي قذف في قلبه رعباً : والشجرة : قلعها من أصلها ، والجآف - كشداد : الصيّاح ، كأنه يقذف بصوته ، ورجل مجأف : لا ثبات له - كأنه يقذف به من مكانه ، والمجؤوف : الجائع والمذعور ، كأنه من الجوف ، وإنما همزت واوه الأولى لانضمامها مع أنه يمكن تنزيله على أنه قذف فيه ذلك .
ومن يائيه : الجيفة : جثة الميت وقد أراح ، والجيّاف - كشداد : النباش ، وجافت تجيف : أنتنت فصارت متهيئة للطرح والتغييب ، وجيّفه : ضربه ، لما رآه أهلاً للبعد ، وجيّف فلان في كذا وجُيّف أي فَزَّع وأفزع أي طرح في قلبه رعب ، فصار لا تسعه أرض ، بل يقذف بنفسه من مكان إلى آخر .
ومن واويه : الجوف : المطمئن من الأرض ، لأنه يسع ما يطرح فيه ويمسكه ، ومهما طرح من الجبال من شيء استقر به ، والجوف منك : بطنك ، لافتقاره إلى طرح الغذاء فيه ، وأهل الأغوار يسمون فساطيط عمالهم الأجواف - لطرح أنفسهم وأمتعتهم فيها - وجوف الليل : وسطه - تشبيه بالجوف ، والأجوفان : البطن والفرج ، والجوف - محركة السعة ، والجوفاء من الدلاء : الواسعة ، ومن القنا والشجر : الفارغة ، والجائفة : جراحة تبلغ الجوف ، وتلعه جائفة : قعيرة - لأنها لقعرها بالجوف أشبه منها بالجبل ، وجوائف النفس : ما تقعر من الجوف في مقارّ الروح ، والمجوف - كمعظم : من لا قلب له - كأن قلبه طرح من جوفه فصار خالياً . والجُوفان - بالضم : أير الحمار - لسعة جوفه ، وأجفت الباب : رددته - كأنه من السلب ، لأنك سددت جوف البيت ، أو أنه شبه الإغلاق بطرح الباب .
ومن مقلوبه مهموزاً : فجئه الأمر - كسمعه ومنعه : هجم عليه من غير أن يشعر ، كأنه قذف به إليه ، وفجئت الناقة - كفرح : عظم بطنها ، كأنه قذف فيه بشيء ، وفجأ - كمنع : جامع ، لأنه طرحها وطرح نفسه عليها ، والمفاجىء : الأسد ، لأنه يخرج بغتة فيثب من غير توقف .

ومن مقلوبه واوياً : الفجوة : المتسع من الأرض والفرجة - لتهيئها لما يطرح فيها ، والفجوة - أيضاً : ساحة الدار وما بين حوافي الحوافر ، أي ميامنها ومياسرها ، وفجا قوسه : رفع وترها عن كبدها فهي فجواء ، وفجا بابه : فتحه ، فصار كالجوف ، والفجا : تباعد ما بين الركبتين أو الفخذين أو الساقين أو عرقوبي البعير؛ فجي - كرضي فهو أفجى ، وعظم بطن الناقة ، والفعل كالفعل ، والتفجية : الكشف ، لأنك طرحت الغطاء ، والتفجية - أيضاً : التنحية ، وهي واضحة في الطرح ، وأفجى : وسّع النفقة على عياله - كأنه يقذف بها قذفاً .
ومن مقلوبه يائياً : أفاج الرجل - إذا أسرع ، ومنه الفيج - لرسول السلطان على رجليه - كأنه لسرعته يطرح به في الأرض - هذا هو الصحيح الذي صححه صاحب العباب ، لأنه معرب بيك ، وقيل : إنه واوي ، أصله : فيوج ، ثم قيل : فيج - ككيس ، ثم خفف ، وجمعه الفيوج ، وقيل : الفيوج : الذين يدخلون السجن ويخرجون ويحرسون ، وأفاج في الأرض : ذهب ، والقوم : ذهبوا وانتشروا - كأنه قذف بهم ، والفيج : الوهد المطمئن من الأرض ، لأنه موضع لطرح ما في الأعالي .
ومن مقلوبه واوياً : الفوج : الجماعة ، كأنهم اقتطعوا من الجمهور فقذف بهم ، وفاج المسك : فاح وسطع ، أي انتشرت رائحته ، والنهار : برد ، إما بمعنى طرح برده على ما فيه ، وإما لإحواجه الحيوان إلى أن يطرح عليه ما يدفئه ، وأفاج : أسرع وعدا وأرسل الإبل على الحوض قطعة قطعة ، والفاتج : البساط الواسع من الأرض ، لتهيئه لما يطرح فيه ، من تسمية المحل باسم الحال ، وأفاج في عدوه : أبطأ . فهو للسلب ، وفاجت الناقة برجيلها : نفحت بهما من خلفها ، والفائجة : متسع ما بين كل مرتفعين ، كأنه محل طرح ما ينزل منهما .
ومن مقلوبه : وجف يجف وجيفاً : اضطرب ، والوجف ضرب من سير الإبل والخيل ، وجف يجف وأوجفته واستوجف الحب فؤاده : ذهب به ، كأنه طرحه منه .

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)

ولما تم ما للحق والباطل في أنفسهم من الثبات والاضطراب ، ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب جواباً لمن كأنه قال : ما لمن تدبر هذه الأمثال ، وأبعد عما أشارت إليه من الضلال ، أو حاد عما دعت إليه ومال؟ فأجيب بقوله : { للذين استجابوا } أي طلبوا من أنفسهم الإجابة وأوجدوها { لربهم } أي المحسن إليهم شكراً له ، الحالة { الحسنى } أي العظيمة في الحسن ، وهي القرار في الجنة فهو جزاءهم؛ قال أبو حيان : وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمه تعالى ودخول الجنة في الآخرة - انتهى . وقد تقدم في سورة يونس عليه الصلاة والسلام أنهم يزادون ما لا يعلم قدره إلا الذي فعلوا ذلك خوف عقابه ورجاء ثوابه .
ولما ذكر ما للطائعين ، أتبعه جزاء العاصين ، فقال مبتدئاً : { والذين لم يستجيبوا } أي يرغبوا في إيجاد الإجابة { له } وأخبر عن هذا الابتداء قوله معلماً بأن استعجالهم بالعذاب باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة جراءة منهم ناشئة عن جهل صرف تزول عند رؤيتهم عذابه سبحانه ، فيبلغون حينئذ بالافتداء غاية الذل فلا يقبل منهم - : { لو أن لهم } أي في ملكهم وتحت قدرتهم { ما في الأرض } وأكد بقوله : { جميعاً ومثله } وأوضح بقوله : { معه لافتدوا به } أي جعلوا فكاك أنفسهم بغاية جهدهم ، وأكده لادعاء الكفرة أنهم لا يذلون لشيء ولا يوهن قواهم شيء ، والافتداء : جعل أحد الشيئين بدلاً من الآخر على جهة الاتقاء به ، فكأنه قيل : ما الذي دهاهم حتى كان هذا حالهم؟ فقيل - دلالة على أنه لا يقبل منهم الفداء ولو عظم - : { أولئك } أي البعداء البغضاء { لهم سوء الحساب * } والحساب : إحصاء ما على العبد وله ، وسوء المؤاخذة ، وعدم العفو عن شيء { ومأواهم } أي مستقرهم { جهنم } أي الطبقة التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة . ولما كان المأوى إنما يأوى إليه صاحبه للراحة فيه بالاتكاء على فرش ونحوه ، قال معبراً بمجمع المذام : { وبئس المهاد * } .
ولما افترق حال ما أجاب ومن أعرض في الجزاء ، وكان ما مضى مستوفياً طرق البيان بإيضاح الأمر بالجزيئات والأمثلة مع الترغيب والترهيب . فكان جديراً بترتيب الأثر عليه ، تسبب عنه الإنكار على من سوى بين العالم العامل وغيره التفاتاً إلى قوله { هل يستوي الأعمى والبصير } وسوى بين الحق والباطل التفاتاً إلى قوله { كذلك يضرب الله الحق والباطل } فحسن قوله : { أفمن } بفاء السبب { يعلم } علماً نافعاً هو عامل به { إنما } أي الذي { أنزل } أي وجد إنزاله وفرغ منه { إليك من ربك } أي المحسن إليك بأحسن التدبير { الحق } أي الكامل في الحقية ، فهو نير العين للبصر والقلب للاستبصار والاعتبار ، يهتدي بما يعلم إلى طريق الرشد فيسلكها ، وإلى طريق الغي فيتركها ، ويفهم الأشارات ، وينتفع بالأمثال السائرات ، كما يبصر بالبصر طريق النجاة من طريق الهلاك { كمن هو أعمى } لا بصر له ولا بصيرة ، لأنه لا يعمل وإن كان عالماً ، فهو لا ينتفع بالأمثال ، فكأنه قيل : لا يستويان مثلاً أصلاً ، ثم علل هذا الإنكار بقوله : { إنما } أي لأنه إنما يعلم ذلك بالتذكر ، وإنما { يتذكر } أي يطلب الذكر طلباً عظيماً فيعمل { أولوا } أي أصحاب { الألباب * } أي العقول الصافية الخالصة القابلة للتذكر بالتفكر في أن ما أنزل من عند الله ثابت الأركان راسي القواعد ، لا قدر لأحد على إزالة معنى من معانيه ولا هدم شيء من مبانيه وأن ما عداه هلهل النسج رث القوى ، مخلخل الأركان ، دارس الرسم ، منطمس الأعلام ، مجهول المسالك ، مظلم الأرجاء ، جم المهالك ، وأما القلب الذي لا يرجع عن غيه لمثل هذا البيان فكأنه غير قابل للذكرى ، فاستحق أن يعد عدماً ، وأن يخص التذكر بالقلب ، ومن المعلوم أنه لا يستوي من له لب ومن لا لب له؛ واللب والقلب : أجل ما في الشيء وأخلصه وأجوده .

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

ولما منح سبحانه من فيهم أهلية التذكر بالعقول الدالة على توحيده والانقياد لأوامره ، كان كأنه عهد في ذلك ، فقال يصف المتذكرين بما يدل قطعاً على أنه لا لب لسواهم : { الذين يوفون } أي يوجدون الوفاء لكل شيء { بعهد الله } أي بسبب العقد المؤكد من الملك الأعلى بأوامره ونواهيه ، فيفعلون كلاًّ منهما كما رسمه لهم ولا يوقعون شيئاً منهما مكان الآخر؛ والعهد : العقد المتقدم على الأمر بما يفعل أو يجتنب ، والإيفاء : جعل الشيء على مقدار غيره من غير زيادة ولا نقصان .
ولما كان الدليل العقلي محتماً للثبات عليه كما أن الميثاق اللفظي موجب للوفاء به ، قال تعالى : { ولا ينقضون الميثاق * } أي الإيثاق ولا الوثاق ولا مكانه ولا زمانه؛ والنقض : حل العقد بفعل ما ينافيه ولا يمكن أن يصح معه ، والميثاق : العقد المحكم وهو الأوامر والنواهي المؤكدة بحكم العقل .
ولما كان أمر الله جارياً على منهاج العقل وإن كان قاصراً عنه لا يمكن نيله له من غير مرشد ، قال : { والذين يصلون } أي من كل شيء على سبيل الاستمرار { ما أمر الله } أي الذي له الأمر كله؛ وقال : { به أن يوصل } دون « يوصله » ليكون مأموراً بوصله مرتين ، ويفيد تجديد الوصل كلما قطعه قاطع على الاستمرار لما تظافر على ذلك من دليلي العقل والنقل؛ والوصل : ضم الثاني إلى الأول من غير فرج .
ولما كان الدليل يرشد إلى أن الله تعالى مرجو مرهوب قال : { ويخشون ربهم } أي المحسن إليهم ، من أن ينتقم منهم إن خالفوا بقطع الإحسان . ولما كان العقل دالاً بعد تنبيه الرسل على القدرة على المعاد بالقدرة على المبدأ ، وكان الخوف منه أعظم الخوف ، قال تعالى : { ويخافون } أي يوجدون الخوف إيجاداً مستمراً { سوء الحساب * } وهو المناقشة فيه من غير عفو ، ومن أول السورة إلى هنا تفصيل لقوله تعالى أول البقرة { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 1 ] مع نظره إلى قوله آخر يوسف { ما كان حديثاً يفترى } [ يوسف : 111 ] .
ولما كان الوفاء بالعهد في غاية الشدة على النفس ، قال مشيراً إلى ذلك مع شموله لغيره : { والذين صبروا } أي على طاعات الله وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه ، والصبر : الحبس ، وهو تجرع مرارة المنع للنفس عما تحب مما لا يجوز فعله { ابتغاء } أي طلب { وجه ربهم } أي المحسن إليهم ، وكأنه ذكر الوجه إثارة للحياء وحثاً عليه لا ليقال : ما أجلده! ولا لأنه يعاب بالجزع ، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا خوف الشماتة .
ولما كانت أفراد الشيء قد تتفاوت في الشرف ، خص بالذكر أشياء مما دخل في العهد والميثاق تشريفاً لها فقال : { وأقاموا الصلاة } لأنها في الوصلة بالله كالميثاق في الوصلة بالموثق له ، وقال - : { وأنفقوا } وخفف عنهم بالبعض فقال : { مما رزقناهم } - لأن الإنفاق من أعظم سبب يوصل إلى المقاصد ، فهذا إنفاق من المال ، وتلك إنفاق من القوى ، وقال : { سراً وعلانية } إشارة إلى الحث على استواء الحالتين تنبيهاً على الإخلاص ، ويجوز أن يكون المراد بالسر ما ينبغي فيه الإسرار كالنوافل ، وبالعلانية ما يندب إلى إظهاره كالواجب إلا أن يمنع مانع ، وهذا تفصيل قوله تعالى

{ ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } [ البقرة : 3 ] { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] وقال : { ويدرؤون } أي يدفعون بقوة وفطنة { بالحسنة } أي من القول أو الفعل { السيئة } إشارة إلى ترك المجازاة أو يتبعونها إياها فتمحوها ، خوفاً ورجاء وحثاً على جميع الأفعال الصالحة ، فهي نتيجة أعمال البر ودرجة المقربين .
ولما ختم تلك بما يدل على ما بعد الموت ترهيباً ، ختم هذه بمثل ذلك ترغيباً فقال : { أولئك } أي العالو الرتبة { لهم عقبى الدار * } وبينها بقوله : { جنات عدن } أي إقامة طويلة - ومنه المعدن وهي أعلى الجنان؛ ثم استأنف بيان تمكنهم فيها فقال : { يدخلونها } .
ولما كانت الدار لا تطيب بدون الحبيب ، قال عاطفاً على الضمير المرفوع إشارة إلى أن النسب الخالي غير نافع : { ومن صلح } والصلاح : استقامة الحال على ما يدعو إليه العقل والشرع { من آبائهم } أي الذين كانوا سبباً في إيجادهم { وأزواجهم وذرياتهم } أي الذين تسببوا عنهم؛ ثم زاد في الترغيب بقوله سبحانه وتعالى : { والملائكة يدخلون عليهم } لأن الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز .
ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والإكرام ، قال : { من كل باب * } يقولون لهم : { سلام عليكم } والسلام : التحية بالكرامة على انتفاء كل شائب من مضرة ، وبين أن سبب هذا السلام الصبر فقال : { بما صبرتم } أي بصبركم ، والذي صبرتم له ، والذي صبرتم عليه ، إشارة إلى أن الصبر عماد الدين كله . ولما تم ذلك . تسبب عنه قوله : { فنعم عقبى الدار * } وهي المسكن في قرار ، المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها والمرافق التي ينتفع بها؛ والعقبى : الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر .

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)

ولما ذكر ما للناجين ، ذكر مآل الهالكين فقال : { والذين ينقضون عهد الله } أي الملك الأعلى فيعملون بخلاف موجبه؛ والنقض : التفريق الذي ينفي تأليف البناء . ولما كان النقض ضاراً ولو كان في أيسر جزء ، أدخل الجار فقال : { من بعد ميثاقه } أي الذي أوثقه عليهم بما أعطاهم من العقول وأودعها من القوة على ترتيب المقدمات المنتجة للمقاصد الصالحة الدالة على صحة جميع ما أخبرت به رسله عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ والميثاق : إحكام العقد بأبلغ ما يكون في مثله { ويقطعون ما } أي الشيء الذي { أمر الله } أي غير ناظرين إلى ما له من العظمة والجلال ، وعدل عن أن يوصله لما تقدم قريباً فقال : { به أن يوصل } أي لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح { ويفسدون } أي يوقعون الإفساد { في الأرض } أي في أيِّ جزء كان منهم بوصل ما أمر الله به أن يقطع اتباعاً لأهوائهم ، معرضين عن أدلة عقولهم ، مستهينين بانتقام الكبير المتعال . ولما كانوا كذلك ، استحقوا ضد ما تقدم للمتقين ، وذلك هو الطرد والعقاب والغضب والنكال وشؤم اللقاء ، فقال سبحانه وتعالى : { أولئك } أي البعداء البغضاء { لهم اللعنة } أي الطرد والبعد { ولهم سوء الدار * } أي أن يكون دارهم الآخرة سيئة بلحاق ما يسوء فيها دون ما يسر .
ولما تقدم الحث العظيم على الإنفاق ، وأشير إلى أنه من أوثق الأسباب في الوصلة لجميع أوامر الله ، وختم بأن للكافر البعد والطرد عن كل خير والسوء ، كان موضع أن يقول الكفار : ما لنا يوسع علينا مع بعدنا ويضيق على المؤمن مع وصله واتصاله ، وما له لا يبسط له رزقه ليتمكن من إنفاذ ما أمر به إن كان ذلك حقاً؟ فقيل : { الله } أي الذي له الكمال كله { يبسط الرزق } ودل على تمام قدرته سبحانه وتعالى بقوله - جلت قدرته - : { لمن يشاء } فيطيع في رزقه أو يعصي { ويقدر } على من يشاء فيجعل رزقه بقدر ضرورته فيصبر أو يجزع لِحكَم دقت عن الأفكار ، ثم يجعل ما للكافر سبباً في خذلانه ، وفقر المؤمن موجباً لعلو شأنه ، فليس الغنى مما يمدح به ، ولا الفقر مما يذم به ، وإنما يمدح ويذم بالآثار .
ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من أخلصه الله وهم أقل من القليل ، قال عائباً لمن اطمأن إليها : { وفرحوا } أي فبسط لهؤلاء الرزق فبطروا وكفروا وفرحوا { بالحياة الدنيا } أي بكمالها؛ والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى . ولما كانت الدنيا متلاشية في جنب الدار التي ختم بها للمتقين ، قال زيادة في الترغيب والترهيب : { وما الحياة الدنيا في الآخرة } أي في جنبها { إلا متاع * } أي حقير متلاش؛ قال الرماني : والمتاع : ما يقع به الانتفاع في العاجل ، وأصله : التمتع وهو التلذذ بالأمر الحاضر .

ولما كان العقل أعظم الأدلة ، وتقدم أنه مقصور على المتذكرين ، إشارة إلى أن من عداهم بقر سارحة ، وعرف أن ما دعا إليه الشرع هو الصلاح ، وضده هو الفساد ، وكان العقل إنما هو لمعرفة الصلاح فيتبع ، والفساد فيجتنب ، وكان الطالب لإنزال آية إلى غير ذلك لا سيما بعد آيات متكاثرة ودلالات ظاهرة موضعاً لأن يعجب منه ، قال على سبيل التعجب عطفاً على قوله { وفرحوا } مظهراً لما من شأنه الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم التعنت : { ويقول الذين كفروا } أي ستروا ما دعتهم إليه عقولهم من الخير وما لله من الآيات عناداً { لولا } أي هلا ولم لا .
ولما كان ما تحقق أنه من عند الملك لا يحتاج إلى السؤال عن الآتي به ، بني للمفعول قوله : { أنزل عليه } أي هذا الرسول صلى الله عليه وسلم { آية } أي علامة بينة { من ربه } أي المحسن إليه بالإجابة لما يسأله لنهتدي بها فنؤمن به ، وأمره بالجواب عن ذلك بقوله : { قل } أي لهؤلاء المعاندين : ما أشد عنادكم حيث قلتم هذا القول الذي تضمن إنكاركم لأن يكون نزل إلي آية مع أنه لم يؤت أحد من الآيات مثل ما أوتيت ، فعلم قطعاً أنه ليس إنزال الآيات سبباً للايمان بل أمره إلى الله { إن الله } أي الذي لا أمر لأحد معه { يضل من يشاء } إضلاله ممن لم ينب ، بل أعرض عن دلالة العقل ونقض ما أحكمه من ميثاق المقدمات المنتجة للقطع بحقية ما دعت إليه الرسل لما جبل عليه قلبه من الغلظة ، فصار بحيث لا يؤمن ولو نزلت عليه كل آية ، لأنها كلها متساوية الأقدام في الدعوة إلى ما دعا إليه العقل لمن له عقل ، وقد نزل قبل هذا آيات متكاثرة دالات أعظم دلالة على المراد { ويهدي } عند دعاء الداعين { إليه } أي طاعته . بمجرد دليل العقل من غير طلب آية { من أناب } أي من كان قلبه ميالاً مع الأدلة رجاعاً إليها لأنه شاء إنابته كأبي بكر الصديق وغيره ممن تبعه من العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم ، ثم أبدل منهم { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف { وتطمئن قلوبهم } أي تسكن وتستأنس إلى الدليل بعد الاضطراب بالشكوك لإيجادهم الطمأنينة بعد صفة الإيمان إيجاداً مستمراً دالاً على ثبات إيمانهم لترك العناد ، وهذا المضارع في هذا التركيب مما لا يراد به حال ولا استقبال ، إنما يراد به الاستمرار على المعنى مع قطع النظر عن الأزمنة { بذكر الله } الذي هو أعظم الآيات في أن المذكور مستجمع لصفات الكمال ، فالآية من الاحتباك : ذكر المشيئة أولاً دال على حذفها ثانياً ، وذكر الإنابة ثانياً دال على حذف ضدها أولاً .
ولما كان ذلك موضع أن يقول المعاند : ومن يطمئن بذلك؟ فقال : { ألا بذكر الله } أي الذي له الجلال والإكرام ، لا بذكر غيره { تطمئن القلوب * } فتسكن عن طلب غيره آية غيره ، والذكر : حضور المعنى للنفس ، وذلك إشارة إلى أن من لم يطمئن به فليس له قلب فضلاً عن أن يكون في قلبه عقل ، بل هو من الجمادات ، أو إلى أن كل قلب يطمئن به ، فمن أخبر عن قلبه بخلاف ذلك فهو كاذب معاند ، ومن أذعن وعمل بموجب الطمأنينة فهو مؤمن ، ثم أخبر عما لهذا القسم بقوله : { الذين آمنوا } أي أوجدوا وصف الإيمان { وعملوا } أي تصديقاً لدعواهم الإيمان { الصالحات } لطمأنينة قلوبهم إلى الذكر { طوبى لهم } أي خير وطيب وسرور وقرة عين { وحسن مآب * } فكان ذلك مفهماً لحال القسم الآخر ، فكأنه قيل : ومن لم يطمئن أو اطمأن قلبه ولم يذعن بؤسي لهم وسوء مآب .

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)

ولما كان في ذلك فطم عن إنزال المقترحات ، وكان إعراض المقترحين قد طال ، وطال البلاء بهم والصبر على أذاهم ، كان موضع أن يقال من كافر أو مسلم عيل صبره : أولست مرسلاً يستجاب لك كما كان يستجاب للرسل؟ فقيل : { كذلك } أي مثل إرسال الرسل الذي قدمنا الإشارة إليه في آخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام في قولنا { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم } [ الأنبياء : 7 ] الآية ، وفي هذه السورة في قولنا { ولكل قوم هاد } ومثل هذا الإرسال البديع الأمر البعيد الشأن ، والذي دربناك عليه غير مرة من أن المرجع إلى الله والكل بيده ، فلا قدرة لغيره على هدى ولا ضلال ، لا بإنزال الآية ولا غيره { أرسلناك } أي بما لنا من العظمة { في أمة } وهي جماعة كثيرة من الحيوان ترجع إلى معنى خاص لها دون غيرها { قد خلت } .
ولما كانت الرسل لمن تعم بالفعل الزمان كله ، قال : { من قبلها أمم } طال أذاهم لأنبيائهم ومن آمن بهم واستهزاءهم في عدم الإجابة إلى المقترحات وقول كل أمة لنبيها عناداً بعد ما جاءهم من الآيات { لولا أنزل عليه آية } حتى كأنهم تواصوا بهذا القول حتى فعل الرسل وأتباعهم في إقبالهم على الدعاء وإعراضهم عمن يستهزىء بهم - فعل الآئس من الإنزال { لتتلوا } أي أرسلناك فيهم لتتلو { عليهم } أي تقرأ؛ والتلاوة : جعل الثاني يلي الأول بلا فصل { الذي أوحينا إليك } من ذكر الله الذي هو أعظم الآيات { وهم } أي والحال أنهم { يكفرون } لا تمل تلاوته عليهم في تلك الحال فإن لنا في هذا حكماً وإن خفيت ، وما أرسلناك ومن قبلك من الرسل إلا لتلاوة ما يوحى ، لا لطلب الإجابة إلى ما يقترح الأمم من الآيات ظناً أنها تكون سبباً لإيمان أحد ، نحن أعلم بهم ، وهذا كله تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { بالرحمن } إشارة إلى كثرة حلمه وطول أناته ، وتصوير لتقبيح حالهم في مقابلتهم الإحسان بالإساءة والنعمة بالكفر بأوضح صورة وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم من الكفران . ولما تضمن كفرهم بالرحمن كفرهم بالقرآن ومن أنزل عليه ، وكان الكفر بالمنعم في غاية القباحة ، كان كأنه قيل : فماذا أفعل حينئذ أنا ومن اتبعني؟ لا نتمنى إجابتهم إلى مقترحاتهم إلا رجاء إيمانهم ، وكان جوابهم عن الكفر بالموحى أهم ، بدأ به فقال : { قل } عند ذلك إيماناً به { هو } أي الرحمن الذي كفرتم به { ربي } المربي لي بالإيجاد وإدرار النعم ، والمحسن إليّ لا غيره ، لا أكفر إحسانه كما كفرتموه أنتم ، بل أقول : إنه { لا إله إلا هو } أنا به واثق في التربية والنصرة وغيرها .
ولما كان تفرده بالإلهية علة لقصر الهمم عليه ، قال : { عليه } أي وحده لا شريك له { توكلت } والتوكل : التوثيق في تدبير النفس برده إلى الله على الرضى بما يفعل { وإليه } أي لا إلى غيره { متاب * } أي مرجعي ، معنى بالتوبة وحساً بالمعاد ، وهذا تعريض بهم في أن سبب كفرتم إنكار يوم الدين .

ولما فرغ من الجواب عن الكفر بالموحى ، عطف على « هو ربي » الجواب عن الكفر بالوحي فقال : { ولو } إشارة إلى أنه يعتقد في القرآن ما هو أهله بعد ما أخبر عن اعتقاده في الرحمن ، أي وقل : لو { أن قرآناً } كانت به الآيات المحسوسات بأن { سيرت } أي بأدنى إشارة من مشير ما { به الجبال } أي فأذهبت على ثقلها وصلابتها عن وجه الأرض { أو قطعت } أي كذلك { به الأرض } أي على كثافتها فشققت فتفجرت منها الأنهار { أو كلم به الموتى } فسمعت وأجابت لكان هذا القرآن ، لأنه آية لا مثل لها ، فكيف يطلبون آية غيره! أو يقال : إن التقدير : لو كان شيء من ذلك بقرآن غيره لكان به - إقراراً لأعينكم - إجابة إلى ما تريدون ، لكنه لم تجر عادة لقرآن قبله بأن يكون به ذلك ، فلم يكن بهذا القرآن ، لأن الله لم يرد ذلك لحكمه علمها ، وليس لأحد غير الله أمر في خرق شيء من العادات ، لا لولي ولا لنبي ولا غيرهما حتى يفعل لأجلكم بشفاعة أو بغيرها شيئاً لم يرده الله في الأزل { بل } ويجوز أن يكون التقدير : لو وجد شيء من هذا بقرآن يوماً ما لكان بهذا القرآن ، فكان حينئذ يصير كل من حفظ منه شيئاً فعل ما شاء من ذلك ، فسير له ما شاء من الجبال إلى ما أراد من الأراضي لما رام من الأغراض ، وقطع به ما طلب من الأرض أنهاراً وجناناً وغيرها ، وكلم به من اشتهى من الموتى ، ثم إذا فتح هذا الباب فلا فرق بين القدرة على هذا والقدرة على غيره ، فيصير من حفظ منه شيئاً قادراً على شيء ، فبطلت حينئذ حكمة اختصاص الله سبحانه بذلك من أراد من خلص عباده ، وأدى ذلك إلى أن يدعي من أراد من الفجرة أن أمر ذلك بيده ، يفعل فيه ما يشاء متى شاء ، فيصير ادعاءه مقروناً بالفعل شبهة في الشرك ، وليعلم قطعاً أنه ليس في يد أحد أمر ، بل { الله } أي الذي له صفات الكمال وحده { الأمر } وهو ما يصح أن يؤمر فيه وينهى { جميعاً } في ذلك وغيره ، لا لي ولا لأحد من الأنبياء الذين قلتم إني لست أدنى منزلة منهم ، وأما الخوارق التي كانت لهم فلولا أن شاءها لما كانت ، فالأمر إليه وحده ، مهما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وكأن هذا جواب لما حكي في السيرة النبوية أن الكفار تفتنوا به؛ قال ابن إسحاق : ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء ، فاجتمع أشرافهم فأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم فكلموه في الكف عنهم وعرضوا عليه أن يملكوه عليهم وغير ذلك فأبى وقال :

« » إن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل عليّ كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً « ، فقالوا : فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشاً منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليخرق فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق - زاد البغوي : فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه ، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام لميرتنا ، ونرجع في يومنا فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت - رجع إلى ابن إسحاق : وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل! فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله ، وأنه بعثك إلينا رسولاً كما تقدم - زاد البغوي : فإن عيسى كان يحيي الموتى ، ولست بأهون على ربك منه » فكان سؤالهم هذا متضمناً لادعائهم أن دعواه إنزال القرآن لا تصح إلا أن فعل هذه الاشياء .
ولما كان هذا كله إقناطاً من حصول الإيمان لأحد بما يقترح ، تسبب عنه الإنكار على من لم يفد فيه ذلك فقال تعالى : { أفلم } بفاء السبب { ييئس الذين آمنوا } من إيمان مقترحي الآيات بما يقترحون لعلمهم { أن } أي بأنه { لو يشاء الله } أي الذي له صفات الكمال - هداية كل أحد مشيئة مقترنة بوجوده { لهدى الناس } وبين أن اللام للاستغراق بقوله : { جميعاً } أي بأيسر مشيئة ، والعلم بالشيء يوجب اليأس من خلافه ، لكنه لم يهدهم جميعاً فلم يشأ ذلك ، ولا يكون إلا ما شاءه ، فلا يزال فريق منهم كافراً ، فقد وضح أن { ييئس } على بابها ، وكذا في البيت الذي استشهدوا به على أنها بمعنى « علم » يمكن أن يكون معناه : ألم تيأسوا عن أذاي أو عن قتلي علماً منكم بأني ابن فارس زهدم ، فلا يضيع لي ثأر ، وكذا قراءة علي ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - أفلم - يتبين الذين آمنوا - أي أن أهل الضلال لا يؤمنون لآية من الآيات علماً منهم بأن الأمر لله جميعاً ، وأن إيمانهم ليس موقوفاً على غير مشيئته .
ولما علم من ذلك أن بعضهم لا يؤمن ، ضاقت صدور المؤمنين لذلك لما يعاينونه من أذى الكفار فأتبعه ما يسليهم عاطفاً على ما قدرته من نتيجة عدم المشيئة ، فقال : { ولا يزال الذين كفروا } أي ستروا ضياء عقولهم { تصيبهم بما صنعوا } أي مما مرنوا عليه من الشر حتى صار لهم طبعاً { قارعة } أي داهية تزعجهم بالنقمة من بأسه على يد من يشاء ، وهو من الضرب بالمقرعة { أو تحل } أي تنزل نزولاً ثانياً تلك القارعة { قريباً من دارهم } أي فتوهن أمرهم { حتى يأتي وعد الله } أي الملك الأعظم بفتح مكة أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك ، لأنه لا يُبقي على الأرض كافراً ، وفي غير ذلك من الأزمان كزمن فتح مكة المشرفة ، فيكون المعنى خاصاً بالبعض { إن الله } أي الذي له مجامع الكمال { لا يخلف الميعاد } أي الوعد ولا زمانه ولا مكانه؛ والوعد : عقد الخبر بتضمن النفع ، والوعيد : عقده بالزجر والضر ، والإخلاف : نقض ما تضمن الخبر من خير أو شر .

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)

ولما تم الجواب عن كفرهم بالموحي وما أوحاه إليه وما اشتد تعلقه به ، عطف على ذلك تأسية بالموحى إليه صلى الله عليه وسلم ، لأن الحاث على تميز الإجابة إلى الآيات المقترحات استهزاء الكفار ، فقال : { ولقد استهزىء } أي من أدنى الخلق وغيرهم { برسل } .
ولما كان الإرسال لم يعم جميع الأزمان فضلاً عن الاستهزاء ، أدخل الجار فقال : { من قبلك } لعدم إتيانهم بالمقترحات؛ والاستهزاء : طلب الهزوء ، وهو الإظهار خلاف الإضمار للاستصغار { فأمليت } أي فتسبب عن استهزائهم ذلك أني أمليت { للذين كفروا } أي أمهلتهم في خفض وسعة كالبهيمة يملى لها ، أي يمد في المرعى ، ولم أجعل ذلك سبباً لإجابتهم إلى ما اقترحوا ولا معاجلتهم بالعذاب فعل الضيق الفطن { ثم } بعد طول الإملاء { أخذتهم } أي أخذ قهر وانتقام { فكيف } أي فكان أخذي لهم سبباً لأن يسأل من كان يستبطىء رسلنا أو يظن بنا تهاوناً بهم ، فيقال له : كيف { كان عقاب * } فهو استفهام معناه التعجب مما حل بالمكذبين والتقرير ، وفي ضمنه وعيد شديد .
فلما تقرر - بما مضى من قدرته تعالى على الثواب والعقاب وخفضه الأرضين ورفعه السماوات ونصبه الدلالات بباهر الآيات البينات - أن ليس لأحد غيره أمر ما ، وتحرر أن كل أحد في قبضته ، تسبب عن ذلك أن يقال : { أفمن هو قائم } ولما كان القيام دالاً على الاستعلاء أوضحه بقوله : { على كل نفس } أي صالحة وغيرها { بما كسبت } - يفعل بها ما يشاء من الإملاء والأخذ وغيرهما - كمن ليس كذلك ، مثل شركائهم التي ليس لها قيام على شيء أصلاً .
ولما كان الجواب قطعاً : ليس كمثله شيء ، كان كأنه قيل استعظاماً لهذا السؤال : من الذي توهم أن له مثلاً؟ فقيل : الذين كفروا به { وجعلوا لله } أي الملك الأعظم { شركاء } ويجوز أن يقدر ل « من » خبر معناه : لم يوحدوه ، ويعطف عليه { وجعلوا } ، فكأنه قيل : فماذا يفعل بهم؟ فقيل : { قل سموهم } بأسمائهم الحقيقية ، فإنهم إذا سموهم وعرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز ومحل الفقر ، عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء ، ثم قل لهم : أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده { أم تنبئونه } أي تخبرونه إخباراً عظيماً { بما لا يعلم } وعلمه محيط بكل شيء { في الأرض } من كونها آلهة ببرهان قاطع .
{ أم بظاهر من القول } أي بحجة إقناعية تقال بالفم ، وكل ما لا يعلمه فليس بشيء ، وهذا قريب مما مضى في قوله { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه } [ الرعد : 16 ] في أنه لو كان كذلك كان شبهه فيها ظهور ما ، وهذه الأساليب منادية على الخلق بالعجز ، وصادحة بأنه ليس من كلام الخلق .

ولما كان التقدير : ليس لهم على شيء من ذلك برهان قاطع ولا قول ظاهر ، بنى عليه قوله : { بل زين } أي وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان { للذين كفروا } أي لهم ، وعبر بذلك تنبيهاً على الوصف الذي دلاهم إلى اعتقاد الباطل ، وهو ستر ما أدى إليه برهان العقل المؤيد بدليل النقل { مكرهم } أي أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره ، وذلك أنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقاً ، وهم يعلمون بطلان ذلك ، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء ، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى ولتشفع لهم ، أو أنهم غيروا في وجه الحق بما ختلوا به الضعفاء وتمادى بهم الحال حتى اعتقدوه حقاً .
ومادة مكر بأي ترتيب كان : مكر ، ركم ، رمك ، كرم ، كمر؛ تدور على التغطية والستر ، فالمكر : الخديعة ، قالوا : وهو الاحتيال بما لا يظهر ، فإذا ظهر فذلك الكيد ، ويلزم منه الاجتهاد في ضم أشتات الأمر لستر ما يراد ، فمن الضم المكر الذي هو حسن خدالة الساق أي امتلائها ، ويلزم منه خصب البدن ونعمته ، وكان منه المكر - لضرب من النبات ، والواحدة مكرة ، سميت مكرة لارتوائها ، أبو حنيفة : المكر من عشب القيظ ، وهي عشبة غبراء ليس فيها ورق ، وهو ينبت في السهل والرمل - كأنه شبه بالساق لخلوه من الورق أو لأنه لغبرته وتجرده كالمستور ، والمكر : طين أحمر يشبه بالمغرة - كأنه سمي بذلك لما فيه من الكدرة ، والمكرة من البسر : التي ليست برطبة ولكن فيها لين - كأنها سميت به لكون لونها حينئذ يأخذ في الكدرة؛ والركم : إلقاء الشيء بعضه على بعض فهو مركوم وركام ، وتراكم الشيء - إذا تكاثف بعضه على بعض ، وذلك مظنة الخفاء ، والركمة : الطين المجموع وكذا التراب المجموع ، وقال : وجُز عن مرتَكم الطريق - يريد المحجة ، لأن ترابها تلبد فاشتد تلبده ، والرمك والرمكة - بالضم - من ألوان الإبل وهو أكدر من الورقة وهو لون خالطت غبرته سواداً ، فهو أرمك - لأنه مظنة لخفاء ما فيه ، ومنه اشتقاق الرامك ، وهو أخلاط تخلط بالمسك فتجعل سكّاً ، ورمك الرجل بالمقام - إذا أقام به ، لأنه يستره بنفسه وأمتعته ويستتر هو فيه ، وأرمكت غيري - إذا ألزمته مكاناً يقيم فيه ، والرمكة : الأنثى من البراذين - فارسي معرب ، لأنها تستر أصالة العربي إذا ولدته ، ورمكان : موضع معروف - معرفة ، ويقال : رمك الرجل - إذا هزل وذهب ما في يده فستر عنه أو صار هو مستوراً بعد أن كان بحسن حاله مشهوراً ، ورمكت البازي والصقر ترميكاً - إذا أشرت إليه بالطير لأنك سلبت عنه الستر؛ واليرموك : مكان به لهب عظيم ، يستر ما يكون فيه؛ والكريم : ضد اللئيم ، وهو البخيل المهين النفس ، والخسيس الآباء ، فإذا كان شحيحاً ولم تجتمع له هذه الخصال قيل له : بخيل ، ولم يُقل : لئيم ، فالكريم إذن من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها ، وتكرّم - إذا تنزه عن الدناءة ورفع نفسه عنها ، وأصل الكرم في اللغة : الفصل والرفعة ، فإذا قالوا : فلان كريم ، فإنما يريدون رفيعاً فاضلاً ، فيلزم الكرم ستر العيوب ، والله الكريم أي الفاضل الرفيع - كذا قال بعض أهل اللغة ، وقيل : الصفوح عن الذنوب ، وقيل : الذي لا يمن إذا أعطى ، وإذا قالوا : فلان أكرم قومه ، فإنما يريدون : أرفعهم منزلة وأفضلهم قدراً ، وكل هذا يلزم منه السخاء وستر الذنوب ، ومن هذا قيل : فرس كريم ، وشجرة كريمة - إذا كانت أرفع من نظائرها وأفضل ،

{ إني ألقي إليَّ كتاب كريم } [ النحل : 29 ] أي رفيع شريف - كأنه أطلق هنا على ما فيه مجرد فضل تشبيهاً بالكريم في جزء المعنى ، وكارمت الرجل : فعل كل منا في حق صاحبه مقتضى الكرم ، والكرم : شجر العنب ولا يسمى به غيره ، والكروم : قلائد تتخذها النساء كالمخانق ، لدلالتها على قدر صاحبتها ، والكرامة : طبق يوضع على رأس الحب - لأنه غطاءه ، ولا يغطى إلا ما له فضل ، ومنه يقولون : لك الحب والكرامة ، والكرم : القصير من الرجال - كأنه شبه بطبق الحب؛ والكمرة - محركة : طرف قضيب الإنسان خاصة ، سميت بذلك لسترها القلفة ، ورجل مكمور - إذا قطع الخاتن كمرته ، وتكامر الرجلان - إذا تكابرا بأيريهما ، وقال في القاموس : وتكامرا : نظرا أيهما أعظم كمرة ، والكمري : الرطب ما لم يرطب على شجره ، بل سقط بسراً فأرطب في الأرض - كأنه سمي بذلك لأنه يكون أكدر مما يرطب على الشجر ، وهو أيضاً يشبه الكمرة في تكوينها ، والكمري عن ابن دريد : الرجل القصير ، كأنه شبه بالرطبة ، وقال غيره : وهو اسم مكان .
ولما ذكر تزيين مكرهم ، أتبعه الدلالة عليه فقال : { وصدوا } أي فلزموا ما زين لهم ، أو فمكروا به حتى ضلوا في أنفسهم وصدوا غيرهم { عن السبيل } الذي لا يقال لغيره سبيل وهو المستقيم ، فإن غيره جور وتيه وحيرة فهو عدم ، بل العدم أحسن منه ، فلم يسلكوا السبيل ولا تركوا غيرهم يسلكه ، فضلوا وأضلوا ، ليس ذلك بعجب فإن الله أضلهم { ومن يضلل الله } أي الذي له الأمر كله بإرادة ضلاله { فما له من هاد * } فكأنه قيل : فماذا لهم على ما فعلوا من ذلك؟ فقيل : { لهم } أي الذين كفروا { عذاب } وهو الألم المستمر ، ومنه العذب لأنه يستمر في الحلق { في الحياة الدنيا } شاق ، بممانعة حزب الله لهم في صدهم عن السبيل إلى ما يتصل بذلك من قتل وأسر ، ولهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك عذاب { ولعذاب الآخرة أشق } أي أشد في المشقة ، وهي غلظ الأمر على النفس بما يكاد يصدع القلب { وما لهم من الله } أي الملك الأعظم { من واق * } أي مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً في الدنيا ولا في الآخرة ، والواقي فاعل الوقاية ، وهي الحجر بما يدفع الأذية .

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)

ولما توعدهم على تفريطهم في جانب الله ، تشوفت النفس إلى ما لأضدادهم ، فكان كأنه قيل : فما لمن عاداهم في الله؟ فقيل : الجنة ، فكأنه قيل : وما هي؟ فقيل : إنها في الجلال ، وعلو الجمال ، وكرم الخلال ، مما تعالى عن المنال ، إلا بضرب الأمثال ، فقيل : ما مثلها؟ فقيل : { مثل الجنة التي } ولما كان المقصود حصول الوعد الصادق ولا سيما وقد علم أن الوعد هو الله ، بنى للمفعول قوله : { وعد المتقون } والخبر محذوف تقديره : ما أقص عليكم ، وهو أنها بساتين : قصور وأشجار ، فقال الزجاج : الخبر جنة مخبر عنها بما ذكر ليكون تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد { تجري } . ولما كانت - لو عمها الماء الجاري - بحراً لا بساتين ، أدخل الجار للدلالة على أنه خاص ببعض أرضيها فقال : { من تحتها } أي قصورها وأشجارها { الأنهار } وقيل : هذا المذكور هو الخبر كما تقول : صفة زيد أسمر .
ولما كان هذا ريّاً حقيقياً في أرض هي في غاية الخلوص والطيب ، كان سبباً لدوام ثمرها واستمساك ورقها ، فلذلك أتبعه قوله : { أكلها } أي ثمرها الذي يؤكل { دائم } لا ينقطع أبداً { وظلها } ليس كما في الدنيا ، لا ينسخ بشمس ولا غيرها ، قال أبو حيان : تقول : مثلت الشيء - إذا وصفته وقربته للفهم ، وليس هذا ضرب مثل ، فهو كقوله { ولله المثل الأعلى } [ النحل : 60 ] ، أي الصفة العليا - كذا قال ، ويمكن أن يكون ذلك حقيقة ، ويكون هناك محذوف ، وهو جنة من جنان الدنيا تجري من تحتها الأنهار - إلى آخره ، وهو من قول الزجاج .
ثم ابتدأ إخباراً آخر تعظيماً لشأنها وتفخيماً لأمرها في قوله تعالى : { تلك } أي الجنة العالية الأوصاف { عقبى } أي آخر أمر { الذين اتقوا } ثم كرر الوعيد للكافرين فقال : { وعقبى } أي منتهى أمر { الكافرين } بالرحمن ، المتضمن للكفر بالوحي والموحى إليه { النار * } .
ولما وصف العالمين بأن المنزل إليه هو الحق برجاحة العقول وأصالة الأداء المؤدية إلى الصلاح الموجب لكل سعادة ، والكافرين به بضعف العقول الدافع إلى الفساد الموصل إلى سوء الدار ، ومر فيما يلائمه إلى أن ختمه بمثل ما ختم به ذلك ، عطف على ذلك قوله - ويمكن أن يكون اتصاله بما قبله أنه معطوف على محذوف هو علة لختم الآية السالفة ، تقديره : لأنهم ساءهم ما أنزل إليه حسداً وجهلاً - : { والذين آتيناهم } أي بما لنا من العظمة التي استنقذتهم من الضلال { الكتاب } ولم يكفروا بالرحمن ولا بما أنزل ولا بمن أرسل { يفرحون بما } ولما كان المنزل دالاًّ بإعجازه على المنزل ، بنى للمفعول قوله : { أنزل إليك } أي من هذا الكتاب الأعظم لموافقته تلك الكتب لأن كلام الله كله من مشكاة واحدة ، وتخصيصهم لأنهم هم المنتفعون بالكتاب دون غيرهم ، فكأنه ما أنزل إلا إليهم ، وهذا العطف يرجح أن يكون الموصول هناك مرفوعاً بالابتداء { ومن الأحزاب } من أهل الأوثان والكتاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم { من ينكر بعضه } كالتوحيد ونعت الإسلام ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يتبع ذلك مما حرفوه وبدلوه ، ويريد أن يكون الأمر تابعاً فيه لغرضه ، فالمشركون يريدون أن يمدح آلهتهم في بعض الآيات أو أن يسقط وصفها بالعيب ، واليهود يريدون أن ينزل ما يوافق فروع التوراة كما أنزل ما وافق الأصول ، وينكرون النسخ ، وأهل الإنجيل يريدون أن ينزل في المسيح ما يهوون ونحو ذلك؛ قال المفسرون : كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعل مما هو ثابت في كتبهم غير محرف ، فلكفرهم بذلك البعض أمره أن يعلمهم باعتقاده كفروا أو شكروا فقال : { قل إنما أمرت } أي وقع الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغير ممن له الأمر كله { أن أعبد الله } أي الذي لا شيء مثله وحده ، ولذلك قال : { ولا أشرك به } لا أفعل إلا ما يأمرني به من غير نظر إلى سواه ، ديني مقصور على ما أنكرتموه { إليه } وحده { أدعوا وإليه } خاصة { مآب * } أي إيابي ومكانه وزمانه ، معنى بالتوبة عند الفتور عن القيام بحقه ، وحسّاً بالبعث للجزاء؛ والكتاب : الصحيفة التي فيها الخط - وهو الكتابة ، وهي تأليف الحروف التي تقرأ في الصحيفة ، والفرح : لذة القلب التي تجلي الهم بنيل المشتهى ، والحزب : الجماعة التي تقوم بالنائبة .

ولما بينت هذه الآيات من مراتب الإعجاز ما بينت ، أتبع تعالى ذكر ما أنزل قوله : { وكذلك } أي ومثل هذا الإنزال ، البديع المثال ، البعيد المنال؛ ولا يبعد أن يكون عطفاً على { كذلك أرسلناك } أو مثل إنزال كتب أهل الكتاب { أنزلناه } بما لنا من العظمة حال كونه { حكماً عربيّاً } أي ممتلئاً حكمة تقضي بالحق ، فائقاً لجميع الكتب بهذا الوصف؛ والحكم : القطع بالمعنى على ما تدعو إليه الحكمة ، وهو أيضاً فصل الأمر على الحق؛ فالمعنى أنه لا يقدر أحد على نقض شيء منه ، فإن ذلك في الحقيقة هو الحكم ، وما ليس كذلك فليس بحكم ، والعربي : الجاري على مذاهب العرب في كلامها ، فلا تلتفت إلى ما تدعوهم إليه أهويتهم فيقترحونه من تأييدك بملك أو إتحافك بكنز أو تركك لبعض ما يوحى إليك من سبب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وتضليل آبائهم أو غير ذلك من طلباتهم التي لو أتيتهم بها لم يكونوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله - هذا في عباد الأوثان ، وكذا في أهل الكتاب فيما يدعون إليه من العود إلى قبلتهم ونحوه { ولئن اتبعت أهواءهم } في شيء من ذلك من النسخ أو غيره في القلبة أو غيرها ولا سيما مما يطلبونه من الآيات المقترحة كما قال تعالى :

{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم } [ البقرة : 145 ] . ولما كان المراد التعميم في الزمان ، نزع الجار ، وأتى ب « ما » لأنها أعم من « الذي » وأشد إبهاماً ، فهي الخفيّ معنى ، فناسب سياق الوحي الذي هو غيب ، ومعناه غامض - إلا لبعض الأفراد - في الأغبياء بخلاف آية البقرة الأولى فإنها في الملة الإبراهيمية المدركة بنور العقل الناشىء عن نظر المحسوسات فقال : { بعدما جاءك } ولما كان قد أنعم عليه صلى الله عليه وسلم بأشياء غير العلم ، بين المراد بقوله : { من العلم } أي بالوحي بأن ذلك الاتباع لا يردهم سواء كان ذلك الاتباع في أصول الشريعة أو فروعها خفية كانت أو جلية .
ولما كان المشروط استغراق جميع زمان البعد باتباع الأهواء ، قال : { ما لك } حينئذ { من الله } أي الملك الأعلى وأعرق في النفي فقال : { من ولي } أي ناصر يتولى من نصرك وجميع أمرك ما يتولاه القريب مع قريبه . ولما كان مدلول « ما » أعم من مدلول « الذي » لشمولها الظاهر والخفي ، وكان من خالف الخفي أعذر ممن خالف الظاهر ، نفى الأخص من النصير فقال : { ولا واق * } أي يقيك بنفسه فيجعلها دون نفسك ، وقد يوجد من الأنصار من لا يسمع بذلك ، وهذا بعث للأمة وتهييج على الثبات في الدين والتصلب فيه ، والهوى - مقصوراً : ميل الطباع إلى الشيء بالشهوة ، والعلم : تبين الشيء على ما هو به .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)

ولما حسمت الأطماع عن إجابتهم رجاء الاتباع أو خشية الامتناع ، وكان بعضهم قد قال : لو كان نبياً شغلته نبوته عن كثرة التزوج ، كان موضع توقع الخبر عما كان للرسل في نحو ذلك ، فقال تعالى : { ولقد أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { رسلاً } ولما كانت أزمان الرسل غير عامة لزمان القبل ، أدخل الجار فقال : { من قبلك } أي ولم نجعلهم ملائكة بل جعلناهم بشراً ، { و } أثقلنا ظهورهم بما يدعو إلى المداراة والمسالمة بإرضاء الأمم في بعض أهوائهم ، أو فصل الأمر عند تحقق المصارمة بإنجاز الوعيد بأن { جعلنا } أي بعظمتنا { لهم أزواجاً } أي نساء ينكحونهن؛ والزوج : القرين من الذكر والأثى ، وهو هنا الأنثى { وذرية } وهي الجماعة المتفرقة بالولادة عن أب واحد في الجملة ، وفعل بهم أممهم ما يفعل بك من الاستهزاء ، فما اتبع أحد منهم شيئاً من أهواء أمته { و } لم نجعل إليهم الإتيان بما يقترح المتعنتون من الآيات تالفاً لهم ، بل { ما كان لرسول } أي رسول كان { أن يأتي بآية } مقترحة أو آية ناسخة لحكم من أحكام شريعته أو شريعة من قبله أو غير ذلك { إلا بإذن الله } أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة ، فإن الأمور عنده ليست على غير نظام ولا مفرطاً فيها ولا ضائعاً شيء منها بل { لكل أجل } أي غاية أمر قدره وحده لأن يكون عنده أمر من الأمور { كتاب * } قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام والإيتان بالآيات وغيرها ، إثباتاً ونسخاً على ما تقتضيه الحكمة ، والحكمة اقتضت أن النبوة يكفي في إثباتها معجزة واحدة ، وما زاد على ذلك فهو إلى المشيئة؛ ثم علل ذلك بقوله : { يمحوا الله } أي الملك الأعظم { ما يشاء } أي محوه من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه { ويثبت } ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقره ويمضي حكمه كما قال تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننساها } [ البقرة : 106 ] إلى قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 106 ] كل ذلك بحسب المصالح التابعة لكل زمن ، فإنه العالم بكل شيء ، وهو الفعال لما يريد لا اعتراض عليه ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة : يمحو فرض ما يشاء ويثبت فرض ما يشاء . وإثبات واو « يمحوا » في جميع المصاحف مشير - بما ذكر أهل الله من أن الواو معناه العلو والرفعة - إلى أن بعض الممحوات تبقى آثارها عالية ، فإنه قد يمحو عمر شخص بعد أن كانت له آثار جميلة ، فيبقيها سبحانه وينشرها ويعليها ، وقد يمحو شريعة ينسخها ويبقى منها آثاراً صالحة تدل على ما أثبت من الشريعة الناسخة لها ، وأما حذفها باتفاق المصاحف أيضاً في { يمح الله الباطل } في الشورى مع أنه مرفوع أيضاً ، فللبشارة بإزهاق الباطل إزهاقاً هو النهاية - كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وذلك لمشابهة الفعل بالأمر المقتضي لتحتم الإيقاع بغاية الاتقان والدفاع ، وقال : { وعنده } مع ذلك { أم } أي أصل { الكتاب * } لمن وهمه مقيد بأن الحفظ بالكتابة ، وهو اللوح المحفوظ الذي هو أصل كل كتاب ، وقد تقدم غير مرة أنه الكتاب المبين الذي هو بحيث يبين كل ما طلب علمه منه كلما طلب؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : هما كتابان : كتاب سوى أم الكتاب ، يمحو منه ما يشاء ويثبت ، وأم الكتاب الذي لا يغير منه شيء - انتهى .

والمراد - والله أعلم - أنه يكون في أم الكتاب أنا نفعل كذا - وإن كان في الفرع على غير ذلك ، فإنه بالنسبة إلى شريعة دون أخرى ، فإذا نقضت الشريعة الأولى فإنا نمحوه في أجل كذا ، أو يكون المعنى : يمحو ما يشاء من ذلك الكتاب بأن يعدم مضمونه بعد الإيجاد ، ويثبت ما يشاء بأن يوجده من العدم وعنده أم الكتاب؛ قال الرازي في اللوامع : وقد أكثروا القول فيها ، وعلى الجملة فكل ما يتعلق به المشيئة من الكائنات فهو بين محو وإثبات ، محو بالنسبة إلى الصورة التي ارتفعت ، إثبات بالنسبة إلى الصورة الثانية ، والقضاء الأزلي ، والمشيئة الربانية مصدر هذا المحو والإثبات ، فلذلك هو القضاء وهذا هو القدر ، فالقضاء مصدر القدر ، والقدر مظهر القضاء ، والله تعالى وصفاته منزه عن التغير .
ولما تم ما أراد مما يتعلق بتألفهم ، وختم بأنه سبحانه يفعل ما يشاء من تقديم وتأخير ومحو وإثبات ، وكان من مقترحاتهم وطلباتهم استهزاء استعجال السيئة مما توعدوا به ، وكانت النفس ربما تمنت وقوع ذلك للبعض وإثباته ليؤمن غيره تقريباً لفصل النزاع ، قال سبحانه وتعالى : { وإن ما نرينك } أكده لتأكيد الإعلام بأنه لا حرج عليه في ضلالة من ضل بعد إبلاغه ، نفياً لما يحمله عليه صلى الله عليه وسلم شدة رحمته لهم وشفقته عليهم من ظن أنه عليه أن يردهم إلى الحق حتماً { بعض الذي نعدهم } وأنت حي مما تريد أو يريد أصحابك ، فصل الأمر به فثبت وقوعه إقراراً لأعينكم قبل وفاتك؛ والوعد : الخبر عن خير مضمون ، والوعيد : الخبر عن شر مضمون ، والمعنى هاهنا عليه ، وسماه وعداً لتنزيلهم إياه في طلب نزوله منزلة الوعد { أو نتوفينك } قبل أن نريك ذلك ، وهو ممحو الأثر لم يتحقق ، فالذي عليك والذي إلينا مستو بالنسبة إلى كلتا الحالتين { فإنما عليك البلاغ } وهو إمرار الشيء إلى منتهاه ، وهو هنا الرسالة؛ وليس عليك أن تحاربهم ولا أن تأتيهم بالمقترحات { وعلينا الحساب * } وهو جزاء كل عامل بما عمل في الدنيا والآخرة ، ولنا القوة التامة عليه؛ والآية من الاحتباك - كما مضى بيان ذلك في مثلها من سورة يونس عليه السلام .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)

ولما أرشد السياق إلى أن التقدير في تحقيق أنه سبحانه قادر على الجزاء لمن أراد : ألم يروا أنا أهلكنا من قبلهم وكانوا أقوى منهم شوكة وأكثر عدة؟ عطف عليه قوله : { أولم يروا أنا } أي بما لنا من العظمة { نأتي الأرض } التي هؤلاء الكفرة بها ، فكأنه قيل : أي إتيان؟ فقيل : إتيان البأس إذا أردنا ، والرحمة إذا أردنا { ننقصها } والنقص : أخذ شيء من الجملة تكون به أقل { من أطرافها } بما يفتح الله على المسلمين مما يزيد به في أرض أهل الإسلام بقتل بعض الكفار واستسلام البعض حتى يبيد أهلها على حسب ما نعلمه حكمة من تدبير الأمور وتقليبها حالاً إلى حال حتى تنتهي إلى مستقرها بعد الحساب في دار ثواب أو عقاب ، وذلك أن المسلمين كانوا يغزون ما يلي المدينة الشريفة من أطراف بلاد الكفار كما أرشد تعالى إليه بقوله : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } فيفتحونها أولاً فأولاً حتى دان العرب كلهم طوعاً أو كرهاً بعد قتل السادة وذل القادة - ولله غالب على أمره؛ والطرف : المنتهى ، وهو موضع من الشيء ليس وراءه منه شيء ، وأطراف الأرض : جوانبها ، وكان يقال : الأطراف : منازل الأشراف ، يطلبون القرب على الأضياف؛ ثم أثبت لنفسه تعالى أمراً كلياً يندرج ذلك فيه ، فقال لافتاً الكلام من أسلوب التكلم بالعظمة إلى غيبة هي أعظم العظمة بالاسم الأعظم : { والله } أي الملك الأعلى { يحكم } ما يريد لأنه { لا معقب } أي أراد ، لأن التعقيب : رد الشيء بعد فصله { لحكمه } وقد حكم للإسلام بالغلب والإقبال ، وعلى الكفر بالانتكاس والإدبار ، وكل من حكم على غير هذه الصفة فليس بحاكم ، وذلك كاف في الخوف من سطوات قدرته { وهو } مع تمام القدرة { سريع الحساب * } جزاءه محيط بكل عمل لا يتصور أن يفوته شيء فلا بد من لقاء جزائه ، وكل ما هو آت سريع ، وهو مع ذلك يعد لكل عمل جزاءه على ما تقتضيه الحكمة من عدل أو فضل حين صدوره ، لا يحتاج إلى زمان ينظر فيه ما جزاءه؟ ولا : هل عمل أو لا؟ لأنه لا تخفى عليه خافية؛ والسرعة : عمل في قلة المدة على ما تحده الحكمة ، والإبطاء : عمله في طول مدة خارجة عن الحكمة ، والسرعة محمودة ، والعجلة مذمومة ، وهو تعالى قادر على الكفرة وإن كانوا كالقاطعين بأنهم يغلبون ، لما لهم من القوة والكثرة ، مع جودة الآراء وحدة الأفكار والقدرة بالأموال وإن اشتد مكرهم ، فهو لا يغني عنهم شيئاً ، فقد مكروا بك غير مرة ثم لم أزدك إلا علواً { وقد مكر الذين } ولما كان المراد بالمكرة إنما هو بعض الناس في بعض الزمان قال : { من قبلهم } أي بالرسل وأتباعهم ، فكان مكرهم وبالاً عليهم ، فطوى في هذه الجملة مكرهم الذي اجتمعوا عليه غير مرة وأتقنوه بزعمهم ، فكان سبب الرفعة للإسلام وأهله وذل الشرك وأهله ، ودل على ذلك المطوي بواو العطف في قوله { وقد } وطوى في الكلام السابق إهلاك الأمم الماضية في الاستدلال على قدرته على الجزاء الذي هو روح الحساب ودل عليه بواو العطف في { أولم يروا } فتأمل هذا الإبراز في قوالب الإعجاز .

ولما كان ذلك كذلك ، تسبب عنه أن يقال : { فلله } أي الملك الأعظم المحيط علمه وقدرته خاصة { المكر جميعاً } والمكر : الفتل عن البغية بطريق الحيلة ، ويلزمه الستر - كما مضى بيانه ، ولا شيء أستر عن العباد من أفعاله تعالى : فلا طريق لهم إلى علمها إلا من جهته سبحانه ، وسمي فعله مكراً مجازاً لأنه ناشىء عن مكرهم جزاء لهم؛ ثم علل ذلك بقوله : { يعلم } ويجوز أن يكون تفسيراً لما قبله ، لأن علم المكر من الماكر مكن حيث لا يشعر أدق المكر { ما تكسب كل نفس } أي من مكر وغيره ، فيجازيهم إذا أراد بأن ينتج عن كل سبب أقاموه مسبباً يكون ضد ما أرادوا ، ولا تمكنهم إرادة شيء إلا بإرادته ، فستنظرون ماذا يحل بهم من بأسه بواسطتكم أو بغيرها حتى تظفروا بهم فتبيدوهم أجمعين { وسيعلم الكافر } أي كل كافر بوعد لا خلف فيه ، إن كان من الجهل بحيث لا يعلم الأشياء إلا بالتصريح أو الحس { لمن عقبى الدار * } حين نأتيهم ضد مرادهم؛ والكسب : الفعل لاجتلاب النفع أو دفع الضر .
ولما تقدم قوله تعالى : { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية } عطف عليه - بعد شرح ما استتبعه - قوله : { ويقول الذين كفروا } أي أوجدوا الكفر ولو على أدنى الرتب ، قولاً على سبيل التكرار : { لست مرسلاً } لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه لم يقل يوماً : إنه قادر عليها ، فكأنه قيل : فما أقول لهم؟ فقال : { قل كفى } والكفاية : وجود الشيء على مقدار الحاجة؛ ومعنى الباء في { بالله } أي الذي له الإحاطة الكاملة - التأكيد ، لأن الفعل جاز أن يضاف إلى غير فاعله إذا أمر به أزيل هذا الاحتمال من وجهين : جهة الفاعل وجهة صرف الإضافة { شهيداً } أي بليغ العلم في شهادته بلاطلاع على ما ظهر وما بطن { بيني وبينكم } يشهد بتأييد رسالتي وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب ، ويشهد بتكذيبكم بادعائكم القدرة على المعارضة وترككم لها عجزاً ، وهذا على مراتب الشهادة ، لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كما شهد به ، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بأن ما جاءت لأجله كما هو { ومن عنده علم الكتاب } مما أنزله فيه من الأصول والفروع والخبر عما كان يكون على نحو من الأساليب ونمط من المناهيج أخرس الفصحاء ، وأبكم البلغاء ، وأبهت الحكماء ، وهو الله تعالى ، تأييداً وتحقيقاً لدعواي ، ويؤيد أن المراد به « الله » قراءة { من } على أنها جارة ، وفي سوقه هكذا على طريق الإبهام من ترويع النفس بهزّها إلى تطلب المتصف بهذا الوصف ما ليس في التعيين ، فهو إذن كدعوى الشيء مقروناً بدليله ، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أن المنزل حق من عنده وأنهم لا يؤمنون - والله الموفق .

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)

{ كتاب } أي عظيم في درجات من العظمة . لا تحتمل عقولكم الإخبار عنها بغير هذا الوصف ، ودل تعليل وصفه بالمبين بأنه عربي على أن التقدير : { أنزلناه } أي بما لنا من العظمة { إليك } بلسان قومك لتبين لهم .
ولما استجمع التعريف بالأوصاف الموجبة للفلاح المذكورة أول السورة المستدل عليها بكل برهان منير وسلطان مبين ، فصار بحيث لا يتوقف عن اجتناء ثمرته من وقف على حقائق تلك النعوت ، شوق إلى تلك الثمرة بعد تفصيل ما في أول البقرة في التي قبلها كما مضى بما يحث عليه ويقبل بقلب كل عاقل إليه فقال : { لتخرج الناس } أي عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم به وإن كانوا ذوي اضطراب { من الظلمات } التي هي أنواع كثيرة من الضلالات التي أدت إليها الجهالات { إلى النور } الذي هو واحد ، وهو سبيل الله المدعو بالهداية إليه في الفاتحة ، أو لتبين للعرب قومك لأنه بلسانهم بياناً شافياً ، فتجعلهم - بما تقيم عليهم من الحجج الساطعة ، وتوضح لهم من البراهين القاطعة ، وتنصب لهم من الأعلام الظاهرة ، وتحكم لهم من الأدلة الباهرة - في مثل ضوء النهار بما فتح من مقفل أبصارهم ، وكشف عن أغطية قوبهم ، فيكونوا متمكنين من أن يخرجوا من ظلمات الكفر التي هي طرق الشيطان إلى نور الإيمان الذي هو سبيله { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] وشبه الإيمان وما أرشد إليه بالنور ، لأنه عصمة العقل من الخطأ في الطريق إلى الله كما أن النور عصمة البصر من الضلال عن الطريق الحسي ، وإذا خرجوا إلى النور كانوا جديرين بأن يخرجوا جميع الناس { بإذن ربهم } أي المحسن إليهم؛ والإذن : الإطلاق في الفعل بقول يسمع بالأذن ، هذا أصله - قاله الرماني .
ولما كان النور مجملاً ، بينه على سبيل الاستئناف أو البدل بتكرير العامل فقال : { إلى صراط العزيز } الذي تعالى عن صفات النقص فعز عن أن يدخل أحد صراطه الذي هو ربه ، أو يتعرض أحد إلى سالكه بغير إذنه { الحميد } المحيط بجميع الكمال ، فهو المستحق لجميع المحامد لذاته وبما يفيض على عباده من النعم التي يربيهم ويتحمد إليهم بها على كل حال ، فكيف إذا سلكوا سبيله الواضح الواسع السهل! .
ولما أضاف طريق النجاة إلى وصفين يجوز إطلاق كل منهما على الخلق ، بينهما باسمه الشريف العَلم على الاستئناف في قراءة نافع وابن عامر بالرفع . وعلى أنه عطف بيان في قراءة الباقين بالجر لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لاختصاصه بالمعبود بحق ووصفه بما اقتضى توحيده ، فقال : { الله } أي المحيط علماً وقدرة { الذي له ما في السماوات } أي الأجسام العالية من الأراضي وغيرها . ولما كان في سياق الدلالة على الخالق وإثبات توحيده ، أكد بإعادة الموصول مع صلته فقال : { وما في الأرض } أي فويل لمن أشرك به شيئاً منهما أو فيهما ، فإنه لا أبين من أن ما كان مملوكاً لا يصلح لأن يكون شريكاً . ويجوز أن يكون التقدير : فوأل ونجاة وسلامة لمن اهتدى به فخرج من ظلمات الكفر { وويل } مصدر بمعنى الهلاك ، ينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لإفادة أن معنى الهلاك - وهو ضد الوأل الذي هو النجاة - ثابت { للكافرين } الذين ستروا أدلة عقولهم { من عذاب شديد } تتضاعف آلامه وقوته؛ والشدة : تجمع يصعب معه التفكيك .

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

ولما أشار إلى ما للكافرين ، وصفهم بما عاقهم عن قبول الخير وتركهم في أودية الشر فقال : { الذين يستحبون } أي يطلبون أن يحبوا أو يوجدون المحبة بغاية الرغبة متابعة للهوى { الحياة الدنيا } وهي النشأة الأولى التي هي دار الارتحال ، مؤثرين لها { على الآخرة } أي النشأة الأخرى التي هي دار المقام ، وذلك بأن يتابعوا أنفسهم على حبها حتى يكونوا كأنهم طالبون لذلك ، وهذا دليل على أن المحبة قد تكون بالإرادة؛ والمحبة : ميل الطباع إلى الشيء بالشهوة ، فهم يمتنعون خوفاً على دنياهم التي منها رئاستهم عن سلوك الصراط { و } يضمون إلى ذلك أنهم { يصدون } أي يعرضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم { عن سبيل الله } أي طريق الملك الأعظم؛ والسبيل : المذهب المهيأ للسلوك { و } يزيدون على ذلك أنهم { يبغونها } أي يطلبون لها ، حذف الجار وأوصل الفعل تأكيداً له { عوجاً } والعوج : ميل عن الاستقامة ، وهو بكسر العين في الدين والأمر والأرض ، وبالفتح في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح ونحوهما { أولئك } أي البعداء البغضاء { في ضلال بعيد * } أي عن الحق ، إسناد مجازي ، لأن البعيد أهل الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني وبطلبهم العوج فيما قومه الله المحيط بكل شيء قدرة وعلماً .
ولما قدم ما أفهم أنه أرسله صلى الله عليه وسلم بلسان قومه إلى الناس كافة لأن اللسان العربي أسهل الألسنة وأجمعها وأفصحها وأبينها ، فكان في غاية العدالة ، وختم بأن السبيل إليه في غاية الاستقامة والاعتدال ، دلّ على شرف هذا اللسان لصلاحيته لجميع الأمم وخفته عليهم بخصوص لسان كل من الرسل بقومه ، فلذلك أتبعه قوله : { وما أرسلنا } أي بما لنا في العظمة ، وأعرق في النفي فقال : { من رسول } أي في زمن من الأزمان { إلا بلسان } أي لغة { قومه } أي الذين فيهم قوة المحاولة لما يريدون { ليبين } أي بياناً شافياً { لهم } كما تقدم أنا أرسلناك بكتاب عربي بلسان قومك لتبين لهم ولجميع الخلق ، فإن لسانك أسهل الألسنة وأعذبها ، فهو معطوف على { أنزلناه } بالتقدير الذي تقدم ، فإذا تقرر ذلك علم أنه لا مانع حينئذ لأمة من الأمم عن الاستقامة على هذا الصراط إلا إذن الله ومشيئته { فيضل } أي فتسبب عن ذلك أنه يضل { الله } أي الذي له الأمر كله { من يشاء } إضلاله ، وقدم سبحانه هذا اهتماماً بالدلالة على أنه سبحانه خالق الشر كما أنه خالق الخير مع أن السياق لذم الكافرين الذين هم رؤوس أهل الضلال { ويهدي من يشاء } هدايته فإنه سبحانه هو المضل الهادي ، وأما الرسل فمبينون ملزمون للحجة تمييزاً للضال من المهتدي { وهو } أي وحده { العزيز } الذي لا يرام ما عنده إلا به ، ولا يمتنع عليه شيء أراده { الحكيم * } الذي لا ينقض ما دبره ، فلذلك دبر بحكمته إرساله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الخلق كافة باللسان العربي ، لأن المقصود جمع الخلق على الحق ، فجمعهم على لسان واحد أنسب ما يكون لذلك ، ولو أنزل بألسنة كلها لكان منافياً لهذا المقصود ، وإن كان مع الإعجاز بكل لسان كان قريباً من الإلجاء فيفوت الإيمان بالغيب ، ويؤدي أيضاً إلى ادعاء أهل كل لسان أن التعبير عنه بلسانهم أعظم ، فيؤدي ذلك إلى المفاخرة والعصبية المؤدي إلى أشد الفرقة ، وأنسب الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم ، أقرب إليه ، فيكون فهمهم لأسرار شريعته ووقوفهم على حقائقها أسهل ، ويكونون عن الغلط والخطأ أبعد ، فإذا فهموا عنه دعوا من يليهم بالتراجمة وهلم جرا ، فانتشر الأمر وعم وسهل ، وكان مع ذلك أبعد من التحريف وأسلم من التنازع .

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كانت سورة الرعد على ما تمهد بأن كانت تلك الآيات والبراهين التي سلفت فيها لا يبقى معها شك لمن اعتبر بها لتعظيم شأنها وإيضاح أمرها ، قال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } [ إبراهيم : 1 ] أي إذا هم تذكروا به واستبصروا ببراهينه وتدبروا آياته { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض } [ الرعد : 31 ] . ولما كان هذا الهدى والضلال كل ذلك موقوف على مشيئته سبحانه وسابق إرادته وقد قال لنبيه عليه السلام { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } قال تعالى هنا { بإذن ربهم } ، إنما عليك البلاغ . ولما قال تعالى : { وكأين من آية من السماوات والأرض } [ يوسف : 105 ] تم بسطها في سورة الرعد ، أعلم هنا أن ذلك كله له وملكه فقال : { الذي له ما في السماوات وما في الأرض } [ إبراهيم : 2 ] فالسماوات والأرض بجملتهما وما فيهما من عظيم ما أوضح لكم الاعتبار به ، كل ذلك له ملكاً وخلقاً واختراعاً ، { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً } [ آل عمران : 83 ] { وويل للكافرين من عذاب شديد } [ إبراهيم : 2 ] لعنادهم مع وضوح الأمر وبيانه { ويصدون عن سبيل الله } [ التوبه : 34 ] مع وضوح السبيل وانتهاج ذلك الدليل ، ثم قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [ إبراهيم : 4 ] وكأن هذا من تمام قوله سبحانه { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } [ الرعد : 38 ] وذلك أن الكفار لما حملهم الحسد والعناد وبعد الفهم بما جبل على قلوبهم وطبع عليها على أن أنكروا كون الرسل من البشر حتى قالوا : { أبشر يهدوننا } [ التغابن : 6 ] ، { ما أنتم إلا بشر مثلنا } [ يس : 15 ] وحتى قالت قريش : { لولا أنزل عليه ملك } [ الأنعام : 8 ] ، { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } { وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] فما كثر هذا منهم وتبع خلفهم في هذا سلفهم ، رد تعالى أزعامهم وأبطل توهمهم في آيات وردت على التدريج في هذا الغرض شيئاً فشيئاً ، فأول الوارد من ذلك في معرض الرد عليهم وعلى ترتيب سور الكتاب قوله تعالى :

{ أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم } [ يونس : 2 ] ، الآية ثم أتبع ذلك بانفراده تعالى بالخلق والاختراع والتدبير والربوبية ، وفي طي ذلك أنه يفعل ما يشاء لأن الكل خلقه وملكه ، وأنه العليم بوجه الحكمة في إرسال الرسل وكونهم من البشر ، فأرغم الله تعالى بمضمون هذة الآي كل جاحد معاند؛ ثم ذكر تعالى في سورة هود قول قوم نوح { ما نراك إلا بشراً مثلنا } [ هود : 27 ] ، الآية وجوابه عليه السلام { أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون } [ هود : 63 ] أي أني وإن كنت في البشرية مثلكم فقد خصني الله بفضله وآتاني رحمة من عنده وبرهاناً على ما جئتكم به عنه ، وفي هذه القصة أعظم عظة ، ثم جرى هذا لصالح وشعيب عليهما السلام ، وديدن الأمم أبداً مع أنبيائهم ارتكاب هذه المقالات ، وفيها من الحيد والعجز عن مقاومتهم ما لا يخفى وما هو شاهد على تعنتهم ، ثم زاد سبحانه تعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعريفاً بأحوال من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام ليسمع ذلك من جرى له مثل ما جرى لهم فقال مثل مقالتهم ، فقال تعالى : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } [ الرعد : 38 ] وأعلم سبحانه أن هذا لا يحط شيئاً من مناصبهم ، بل هو واقع في قيام الحجة على العباد . ثم تلا ذلك بقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [ إبراهيم : 4 ] أي ليكون أبلغ في الحجة وأقطع للعذر ، فربما كانوا يقولون عند اختلاف الألسنة : لا نفهم عنهم ، إذ قالوا ذلك مع اتفاق اللغات ، فقد قال قوم شعيب عليه السلام { وما نفقة كثيراً مما تقول } [ هود : 91 ] هذا وهو عليه السلام يخاطبهم بلسانهم فكيف لو كان على خلاف ذلك بل لو خالفت الرسل عليهم السلام الأمم في التبتل وعدم اتخاذ الزوجات والأولاد واستعمال الأغذية وغيرها من مألوفات البشر لكان منفراً ، فقد بان وجه الحكمة في كونهم من البشر ولو كانوا من الملائكة لوقع النفار والشرود لافتراق الجنسية ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون } [ الأنعام : 9 ] أي ليكون أقرب إليهم لئلا يقع تنافر فكونهم من البشر أقرب وأقوم للحجة . ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة ، كان عليه الصلاة والسلام يخاطب كل طائفة من طوائف العرب بلسانها ويكلمها بما تفهم ، وتأمل كم بين كتابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنس رضي الله عنه في الصدقة وكتابه إلى وائل بن حجر مع اتحاد الغرض ، وللكتابين نظائر يوقف عليها في مظانها ، وكل ذلك لتقوم الحجة على الجميع ، واستمر باقي سورة إبراهيم عليه السلام على التعريف بحال مكذبي الرسل ووعيد من خالفهم وبيان بعض أهوال الآخرة وعذابها - انتهى .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

ولما ذكر سبحانه الرسل بما ذكره ، توقع السامع تفصيل شيء من أخبارهم ، فابتدأ بذكر من كتابه أجل كتاب بعد القرآن هدى للناس دليلاً على أنه يفعل ما يشاء من الإضلال والهداية ، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وتثبيتاً وتصبيراً على أذى قومه ، وإرشاداً إلى ما فيه الصلاح في مكالمتهم ، فقال مصدراً بحرف التوقع : { ولقد أرسلنا } أي بعظمتنا { موسى بآياتنا } أي البينات؛ ثم فسر الإرسال بقوله : { إن أخرج قومك } أي الذين فيهم قوة على مغالبة الأمور { من الظلمات } أي أنواع الجهل { إلى النور * } بتلك الآيات { وذكرهم } أي تذكيراً عظيماً { بأيام الله } أي الذي له الجلال والإكرام من وقائعه في الأمم السالفة وغير ذلك من المنح لأوليائه والمحن لأعدائه كما أرسلناك لذلك { إن في ذلك } أي التذكير العظيم { لآيات } على وحدانية الله وعظمته { لكل صبار } أي بليغ الصبر بلاء الله ، قال في العوارف : وقال أبو الحسن بن سالم : هم ثلاثة : متصبر ، وصابر ، وصبار ، فالمتصبر من صبر في الله ، فمرة يصبر ومرة يجزع ، والصابر من يصبر في الله ولله ولا يجزع ولكن يتوقع منه الشكوى ، وقد يمكن منه الجزع ، فأما الصبار فذلك الذي صبّره الله في الله ولله وبالله ، فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يجزع ولا يتغير من جهة الوجوب والحقيقة ، لا من جهة الرسم والخليقة ، وإشارته في هذا ظهور حكم العلم فيه مع ظهور صفة الطبيعة . { شكور * } أي عظيم الشكر لنعمائه ، فإن أيامه عند أوليائه لا تخلو من نعمة أو نقمة ، وفي صيغة المبالغة أشارة إلى أن عادته تعالى جرت بأنه إنما ينصر أولياءه بعد طول الامتحان بعظيم البلاء ليتبين الصادق من الكاذب { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } [ البقرة : 214 ] { حتى إذا استيئس الرسل } [ يوسف : 110 ] ، { الم أحسب الناس أن يتركوا } [ العنكبوت : 2 ] وذلك أنه لا شيء أشق على النفوس من مفارقة المألوف لا سيما إن كان ديناً ولا سيما إن كان قد درج عليه الأسلاف ، فلا يقوم بالدعاء إلى الدين إلا من بلغ الذروة في الصبر .
ولما ذكر ما أمر به موسى عليه السلام ، وكان قد تقدم أمره في الشريف إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالاقتداء بالأنبياء الذين هو من رؤوسهم وأولي عزمهم ، كان كأنه قيل : فبين أنت للناس ما نزل إليهم وذكرهم بأيام الله اقتداء بأخيك موسى عليه السلام { و } اذكر لهم خبره فإن أيامه من أعظم أيام الله : أشدها محنة وأجلها منحة { إذ قال موسى } امتثالاً لما أمرناه به { لقومه } مذكراً لهم بأيام الله معهم ثم أيامه مع غيرهم .
ولما كان المراد بالتذكير بالأيام زيادة الترغيب والترهيب ، أشار إلى أن مقام الترهيب هنا أهم للحث على تركهم الضلال بترك عادته في الترفق بمثل ما في البقرة والمائدة من الاستعطاف بعاطفة الرحم بقوله : { ياقوم } فأسقطها هنا إشارة إلى أن المقام يقتضي الإبلاغ في الإيجاز في التذكير للخوف من معاجلتهم بالعذاب فقال : { اذكروا نعمة الله } أي ذي الجلال والإكرام ، وعبر بالنعمة عن الإنعام حثاً على الاستدلال بالأثر على المؤثر { عليكم } ثم أبدل من « نعمة » قوله : { إذ } وهو ظرف النعمة .

ولما كانوا قد طال صبرهم جداً بما طال من بلائهم من فرعون على وجه لا يمكن في العادة خلاصهم منه ، وإن أمكن على بعد لم يكن إلا في أزمنة طوال جداً بتعب شديد ، أشار إلى أسراعه بخلاصهم بالنسبة إليه لو جرى على مقتضى العادة جزاء لهم على طول صبرهم ، فعبر بالإفعال دون التفعيل الذي اقتضاه سياق البقرة فقال : { أنجاكم من } بلاء { آل فرعون } أي فرعون نفسه وأتباعه وأوليائه؛ قال في القاموس : ولا يستعمل إلا لما فيه شرف غالباً ، فكأنهم قالوا : من أيّ بلائهم؟ فقال : { يسومونكم } أي يكلفونكم ويولونكم على سبيل الاستهانة والقهر { سوء العذاب } بالاستعباد .
ولما كان السياق للصبر البليغ ، اقتضى ذلك العطف في قوله : { ويذبحون } أي تذبيحاً كثيراً مميتاً - بما أفاده تعبير الأعراف بالقتل ، ومعرفاً بإعادة التعبير بالذبح أن الموت بالسكين { أبناءكم ويستحيون } أي يطلبوا أن يحيوا { نساءكم } لإفادة أن ذلك بلاء آخر { و } الحال أن { في ذلكم } أي الأمر الشديد المشقة من العذاب المتقدم أو الإنجاء أو هما { بلاء من ربكم } أي المربي لكم المدبر لأموركم { عظيم * } .

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)

ولما ذكرهم بنعمة الأمن رغبهم فيما يزيدها ، ورهبهم مما يزيلها فقال : { وإذ } أي واذكروا إذ { تأذن ربكم } أي أعلم المحسن إليكم إعلاماً بليغاً ينتفي عنه الشكوك قائلاً : { لئن شكرتم } وأكده لما للأنفس من التكذيب بمثل ذلك لأعتقادها أن الزيادة بالسعي في الرزق والنقص بالتهاون فيه { لأزيدنكم } من نعمي ، فإن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود « إن عطائي لعتيد فأرجوه » { ولئن كفرتم } النعمة فلم تقيدوها بالشكر لأنقصنكم ولأعذبنكم { إن عذابي } بإزالتها وغيرها { لشديد * } فخافوه ، فالآية - كما ترى - من الاحتباك .
ولما كان من حث على شيء وأثاب عليه أو نهى عنه وعاقب على فعله يكون لغرض له ، بين أن الله سبحانه متعال عن أن يلحقه ضر أو نفع ، وأن ضر ذلك ونفعه خاص بالعبد فقال تعالى حاكياً عنه : { وقال موسى } مرهباً لهم معلماً أن وبال الكفران خاص بصاحبه { إن تكفروا } والكفر : تضييع حق النعمة بجحدها أو ما يقوم في العظم مقامه { أنتم ومن في الأرض } وأكد بقوله : { جميعاً } فضرره لاحق بكم خاصة غير عائد على الله شيء منه { فإن الله } أي الملك الأعظم { لغني } أي في ذاته وصفاته عن كل أحد ، والغنى هنا المختص بما ينفي لحاق الضرر أو النقص ، والمختص بأنه قادر لا يعجزه شيء ، عالم لا يخفى عليه شيء ، وذلك بنفسه لا بشيء سواه ، ومن لم يكن كذلك لم يكن غنياً { حميد * } أي بليغ الاستحقاق للحمد بما له من عظيم النعم وبما له من صفات الكمال ، وكل مخلوق يحمده بذاته وأفعاله وجميع أقواله كائنة ما كانت ، لأن إيجاده لها ناطق بحمده سبحانه .
ذكر التأذن بذلك المذكر به من التوراة :
قال في السفر الخامس : واختاركم الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً من جميع الشعوب التي على وجه الأرض ، وليس لأنكم أكثر من جميع الشعوب أحبكم الرب واختاركم ، ولكن ليثبت الأيمان التي أقسم لآبائكم ، لذلك أخرجكم الرب بيد منيعة ، وأنقذكم من العبودية ، وخلصكم من يدي فرعون ملك مصر ، لتعلموا أن الله ربكم هو إله الحق ، إله مهيمن يحفظ النعمة والعهد لأوليائه الذين يحفظون وصيته لألف حقب ، ويكافىء شنأته في حياتهم ويجزيهم بالهلاك والتلف ، احفظوا السنن والأحكام والوصايا التي آمركم بها اليوم فافعلوها يحفظ الله الرب العهد والنعمة التي أقسم لآبائكم ، ويحبكم ويبارك عليكم ويكثركم ، ويبارك في أولادكم وفي ثمرة أرضكم وفي بركم وخبزكم وزيتكم ، وفي أقطاع بقركم وجفرات غنمكم ، وتكونوا مباركين من جميع الشعوب ، ولا يكون فيكم عاقر ولا عقيم ولا في بهائمكم ، ويصرف الله عنكم كل وجع ، وجميع الضربات التي أنزل الله بأهل مصر - كما تعلمون - لا ينزلها بكم بل ينزلها بجميع شنأتكم ، وتأكلون جميع خيرات الشعوب التي يعطيكم الله ربكم ، ولا تشفق أعينكم عليهم ، ولا تعبدوا آلهتهم لأنهم فخاخ لكم ، وإن قلتم في قلوبكم : إن هذه الشعوب أكثر منا فكيف نقدر أن نهلكها! فلا تفرقوا منها ولكن اذكروا جميع ما صنع الله ربكم بفرعون ملك مصر وكل أصحابه ، والبلايا العظيمة التي رأيتم بأعينكم ، والآيات والأعاجيب واليد المنيعة والذراع العظيمة ، وكيف أخرجكم الله ربكم! كذلك يفعل الله ربكم بجميع الشعوب التي تخافونها .

ويسلط الله ربكم عليهم عاهات حتى يهلكهم ، والذين يبقون ويختفون منكم لا تخافوهم لأن الله ربكم بينكم . الإله العظيم المرهوب ، فيهلك الله ربكم هذه الشعوب من بين أيديكم رويداً رويداً ، لأنكم لا تقوون أن تهلكوهم سريعاً لئلا يكثر السباع ، ولكن يدفعهم الله ربكم إليكم وتضربونهم ضربة شديدة حتى تهلكوهم ، ويدفع ملوكهم في أيديكم وتهلكون أسماءهم من تحت السماء ، لا يقدر أحد أن يقوم بين أيديكم حتى تهلكوهم وتحرقوا آلهتهم المنحوتة بالنار ، ولا تشتهوا الفضة والذهب الذي عليها وتأخذوه منها لئلا تتنجسوا بها ، لأنها مرذولة عند الله ربكم ، فلا تدخلوا نجاسة إلى بيوتكم لئلا تكونوا منفيين مثلها ، ولكن أرذلوها ونجسوها وصيروها نفاية بخسة لأنها حرام . ثم قال : انظروا! إني أتلو عليكم دعاء ولعناً ، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم ، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم ، وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم - وقد مضى كثير من أمثال هذا عن التوراة ، ولا ريب في أن هذا الترغيب والترهيب والتذكير للتحذير كما أنه كان لبني إسرائيل ، فهو لكل من سمعه من المكلفين .
ولما حذرهم انتقام الله إن كفروا ، ذكرهم أيامه في الأمم الماضية ، وعين منهم الثلاثة الأولى لأنهم كانوا أشدهم أبداناً ، وأكثرهم أعواناً ، وأقواهم آثاراً ، وأطولهم أعماراً ، لأن البطش إذا برز إلى الوجود كان أهول ، لأن النفس للمحسوس أقبل ، فقال دالاً على ما أرشدهم إليه من غناه سبحانه وحمده مخوفاً لهم من سطوات الله سبحانه : { ألم يأتكم } أي يا بني إسرائيل { نبأ الذين } ولما كان المراد قوماً مخصوصين لم يستغرقوا الزمان قال : { من قبلكم } ثم أبدل منهم فقال : { قوم } أي نبأ قوم { نوح } وكانوا ملء الأرض { و } نبأ { عاد } وكانوا أشد الناس أبداناً وأثبتهم جناناً { و } نبأ { ثمود } وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور { و } نبأ { الذين } ولما كان المراد البعض ، أدخل الجار فقال : { من بعدهم } أي في الزمن حال كونهم في الكثرة بحيث { لا يعلمهم } أي حق العلم على التفصيل { إلا الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة ، كفروا فأهلكهم الله ولم يزل غنياً حميداً عند أخذهم وبعده كما كان قبله ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون .

ثم فصل سبحانه خبرهم ، فقال - جواباً لمن كأنه قال : ما كان نبأهم؟ { جاءتهم رسلهم بالبينات } وترك عطفه لشدة التباسه بالمستفهم عنه { فردوا } أي الأمم عقب مجيء الرسل من غير تأمل جامعين في تكذيبهم بين الفعل والقول { أيديهم في أفواههم } وهو أشارة إلى السكوت عن ذلك والتسكيت ، كأنه لا يليق أن يتفوه ولو على سبيل الرد؛ قال الرازي في اللوامع : حكى أبو عبيد : كلمته في حاجتي فرد يده في فيه - إذا سكت ولم يجب . { و } بعد أن فعلوا ذلك لهذه الأغراض الفاسدة { قالوا } أي الأمم { إنا كفرنا } أي غطينا مرائي عقولنا مستهينين { بما } ولما كان رد الرسالة جامعاً للكفر ، وكانوا غير مسلّمين أن المرسل لهم هو الله ، بنوا للمفعول قولهم : { أرسلتم به } أي لأنكم لم تأتونا بما يوجب الظن فضلاً عن القطع ، فلذا لا يحتاج رده إلى تأمل .
ولما كان ما أتى به الرسل يوجب القطع بما يعلمه كل أحد ، فكانوا بما قالوه في مظنة الإنكار ، أكدوا : { وإنا لفي شك } أي محيط بنا ، وهو وقوف بين الضدين من غير ترجيح أحدهما ، يتعاقب على حال الذكر ويضاد العلم والجهل .
ولما كان الدعاء مسنداً إلى جماعة الرسل ، أثبت نون الرفع مع ضمير المتكلمين بخلاف ما مضى في هود ، فقالوا { مما } أي شيء { تدعوننا } أيها الرسل { إليه } أي من الدين { مريب } أي موجب للتهمة وموقع في الشك والاضطراب والفزع ، من أراب الرجل : صار ذا ريبة أي قلق وتزلزل .

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

ولما كان سامع هذا الكلام يشتد تشوفه إلى جوابه ، وكان أصل الدعوة في كل ملة التوحيد ، وكان الشاك فيه شاكاً في الله ، وكان أمر الله من الظهور بحيث لا يشك فيه عاقل حكّم عقله مجرداً عن الهوى ، ساغ الإنكار وإيراد الكلام على تقدير سؤال معرى من التقييد مبهم في قوله : { * قالت رسلهم } ولما كان ما شكوا فيه من الظهور بحيث لا يتطرق إليه ريب ، أنكروا أن يكون فيه شك ، لأن ذلك يتضمن إنكار شكهم وشك غيرهم فقالوا : { أفي الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { شك } .
ولما كان الجواب عاماً لا يخص ناساً دون ناس ، لم يأت بصلة فقال بخلاف قوله : { إن نحن إلا بشر } ثم نبهوهم بالمصنوع على مقصود الدعوة من وجود الصانع وتفرده وظهوره في قولهم : { فاطر السماوات } ولما كان المقام لادعاء أنه في غاية الظهور ، لم يحتج إلى تأكيد بإعادة العامل ، فقال : { والأرض } أي على هذا المثال البديع والنمط الغريب المنتظم الأحوال ، الجميل العوائد ، والمتسق الفصول؛ فلما أوضحوا لهم الأدلة على وحدانيته بينوا لهم بأن ثمرة الدعوة خاصة بهم ، إنه لا يأباها من له أدنى بصيرة ، فقالوا : { يدعوكم } أي على ألسنتنا { ليغفر لكم } .
ولما كان الكافر إنما يدعى أولاً إلى الإيمان ، وكان الإيمان إنما يجب ما كان قبله من الذنوب التي معهم بينهم وبينه دون المظالم ، قال : { من ذنوبكم } ولو عم بالغفران لأفهم ذلك أنهم لا يدعون بعد الإيمان إلى عمل أصلاً { و } لا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة بالإهلاك لمن خالفهم ، بل { يؤخركم } وإن أخطأتم أو تعمدتم وتبتم { إلى أجل مسمى } عنده سبق علمه به ، وهو آجالكم على حسب التفريق ، ولا يستأصلكم بالعذاب في آن واحد كما فعل بمن ذكر من الأمم .
فلما بين لهم الأصيل بدليله فروع عليه ما لا ريب فيه في قصر نفعه عليهم ، علموا أنه لا يتهيأ لهم عن ذلك جواب فأعرضوا عنه إلى أن { قالوا } عناداً { إن } أي ما { أنتم } أي أيها الرسل { إلا بشر } وأكدوا ما أرادوا من نفي الاختصاص فقالوا : { مثلنا } يريدون : فما وجه تخصيصكم بالرسالة دوننا؟ ثم كان كأنه قيل : فكان ماذا؟ فقالوا : { تريدون أن تصدونا } أي تلفتونا وتصرفونا { عما كان } أي كوناً هو كالجبلة ، وأكدوا هذا المعنى للتذكير بالحال الماضية بالمضارع فقالوا : { يعبد آباؤنا } أي أنكم - لكونكم من البشر الذين يقع بينهم التحاسد - حسدتمونا على اتباع الآباء وقصدتم تركنا له لنكون لكم تبعاً { فأتونا } أي فتسبب - عن كوننا لم نر لكم فضلاً وإبدائنا من إرادتكم ما يصلح أن يكون مانعاً - أن نقول لكم : ائتونا لنتيعكم { بسلطان مبين * } أي حجة واضحة تلجئنا إلى تصديقكم مما نقترحه عليكم ، وهذا تعنت محض فإنهم جديرون بأن يعرضوا عن كل سلطان يأتونهم به كائناً ما كان كما ألغوا ما أتوا هم به من البينات فلم يعتدوا به ، فكأنه قيل : فما كان جواب الرسل؟ فقيل : { قالت } .

ولما أرادوا تخصيصهم برد ما قالوا ، قيد بقوله : { لهم رسلهم } مسلمين أول كلامهم غير فاعلين فعلهم في الحيدة عن الجواب { إن } أي ما { نحن إلا بشر مثلكم } ما لنا عليكم فضل بما يقتضيه ذواتنا غير أن التماثل في البشرية لا يمنع اختصاص بعض البشر عن بعض بفضائل؛ والمثل : ما يسد مسد غيره حتى لو شاهده مشاهد ثم شاهد الآخر لم يقع فصل { ولكن الله } أي الذي له الأمر كله فضلنا عليكم لأنه { يمن على من يشاء } أي أن يمن عليه { من عباده } رحمة منه له ، بأن يفضله على أمثاله بما يقسمه له من المزايا كما أنتم به عارفون ، فلم يصرحوا بما تميزوا به من وصف النبوة ، ولم يخصوا أنفسهم بمنّ الله بل أدرجوها في عموم من شاء الله ، كل ذلك تواضعاً منهم واعترافاً بالعبودية؛ والمن : نفع يقطع به عن بؤس ، وأصله القطع ، ومنه { غير منون } ، والمنة قاطعة عن الدنيا .
ولما بينوا وجه المفارقة ، عطفوا عليه بيان العذر فيما طلبوه منهم فقالوا : { وما } أي فما كان لنا أن نتفضل عليكم بشيء من الأشياء لم يؤذن لنا فيه ، وما { كان } أي صح واستقام { لنا أن نأتيكم بسلطان } مما تقترحونه تعنتاً ، وهو البرهان الذي يتسلط به على إبطال مذهب المخالف للحق غير المعجزة التي يثبت بها النبوة { إلا بإذن الله } أي بإطلاق الملك الأعظم وتسويفه ، فنحن نتوكل على الله في أمركم إن أذن لنا في الإتيان بسلطان أو لم يأذن وافقتم أو خالفتم { وعلى الله } أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه وحده { فليتوكل } أي بأمر حتم { المؤمنون * } فكيف بالأنبياء؛ ثم بينوا سبب وجوب التوكل بقولهم : { وما } أي وأي شيء { لنا } في { ألاّ نتوكل على الله } أي ذي الجلال والإكرام { و } الحال أنه { قد هدانا سبلنا } فبين لنا كل ما نأتي وما نذر ، فلا محيص لنا عن شيء من ذلك ، فلنفعلن جميع أوامره ، ولننتهين عن جميع مناهيه { ولنصبرن } أكدوا لإنكار أن يصبر الرسول - مع وحدته - على أذاهم مع كثرتهم وقوتهم { على ما } وعبر بالماضي إشارة إلى أنهم عفوا عن أذاهم في الماضي فلا يجازونهم به ، فهو استجلاب إلى توبة أولئك المؤذين ، وعدلوا عن المضارع لأنهم ينتظرون أمر الله في الاستقبال فقد يأمرهم بالصبر ، فقال : { آذيتمونا } أي في ذلك الذي أمرنا به كائناً فيه ما كان لأنا توكلنا على الله ونحن لا نتهمه في قضائه { وعلى الله } أي الذي له جميع صفات الكمال وحده { فليتوكل المتوكلون * } الذين علموا من أنفسهم العجز سواء كانوا مؤمنين أو لا ، فوكلوا أمراً من أمورهم إلى غيرهم ليكفيهم إياه ، فإنه محيط العلم كامل القدرة ، وكل من عداه عاجز ، والصبر مفتاح الفرج ، ومطلع الخيرات المطلق من الكرب ، والحق لا بد وأن يصير غالباً قاهراً ، والباطل لا بد وأن يصير مغلوباً مقهوراً وإن طال الابتلاء .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)

ولما انقضت هذه المحاورة وقد علم منها كل منصف ما عليه الرسل من الحلم والعلم والحكمة ، وما عليه مخالفهم من الضلال والجهل والعناد ، وكان في الكلام ما ربما أشعر بانقضائه ، ابتدأ تعالى عنهم محاورة أخرى ، عاطفاً لها على ما مضى ، فقال : { وقال الذين كفروا لرسلهم } مستهينين بمن قصروا التجاءهم عليه ، مؤكدين لاستشعارهم بإنكار من رأى مدافعة الله عن أوليائه لقولهم : والذي يحلف به! ليكونن أحد الأمرين : { لنخرجنكم من أرضنا } أي التي لنا الآن الغلبة عليها { أو لتعودن في ملتنا } بأن تكفوا عن معارضتنا كما كنتم دعوى الرسالة ، فإطلاق ملتهم على السكوت عنهم من إطلاق اسم الكل على الجزء على زعمهم مثل { جعلوا أصابعهم في آذانهم } [ نوح : 7 ] وهو مجاز مرسل ، فصبروا على ذلك كما أخبروا به توكلاً على ربهم واستمروا على نصيحتهم لهم بدعائهم إلى الله { فأوحى إليهم } أي كلمهم في خفاء بسبب توعد أممهم لهم ، مختصاً لهم بذلك { ربهم } المحسن إليهم الذي توكلوا عليه ، تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهم ، وأكد لما - لمن ينظر كثرة الكفار وقوتهم - من التوقف في مضمون الخبر ولا سيما إن كان كافراً ، قائلاً : { لنهلكن } بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر؛ والإهلاك : إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس { الظالمين * } أي العريقين في الظلم ، وربما تبنا على بعض من أخبرنا عنه بأنه كفر ، وهو من لم يكن عريقاً في كفره الذي هو أظلم الظلم { ولنسكننكم } أي دونهم { الأرض } أي مطلقها وخصوص أرضهم ، وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال : { من بعدهم } بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا ، فكأنه قيل : هل ذلك خاص بهم؟ فقيل : لا ، بل { ذلك } أي الأمر العالي المرام { لمن خاف مقامي } أي المكان الذي يقوم فيه من أحاسبه : ماذا تكون عاقبته فيه ، وهو أبلغ من : خافني ، { وخاف وعيد * } لا بد أن أهلك ظالمه وأسكنه أرضه بعده ، فاستبشروا بذلك الوعد من الله تعالى { واستفتحوا } على أعدائهم فأفلحوا وأنجحوا { وخاب كل جبار عنيد } فأهلكناهم كلهم ، وكان لنا الغنى والحمد بعد إهلاكهم كما كان قبله؛ والعناد : الامتناع من الحق مع العلم به كبراً وبغياً ، من عند عن الحق عنوداً ، والجبرية : طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة ، فهو ذم للعبد من حيث إنه طالب ما ليس له؛ ثم أتبعه ما هو كدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب ، فهو واقع فيه لا محالة وهو لا يشعر ، وعبر عن غفلته عنه بقوله : { من ورائه جهنم } أي لا بد أنه يتبوأها .
ولما كان المرجع وجود السقي للصديد مطلقاً ، بني للمفعول قوله : { ويسقى } أي فيها { من ماء صديد } وهو غسالة أهل النار كقيحهم ودمائهم { يتجرعه } أي يتكلف بلعه شيئاً فشيئاً لمرارته وحرارته ، فيغص به ويلقى منه من الشدة ما لا يعلم قدره إلا الله { ولا يكاد يسيغه } ولا يقرب من إساغته ، فإن الإساغة جر الشيء في الحلق على تقبل النفس { ويأتيه الموت } أي أسبابه التي لو جاءه سبب منها في الدنيا لمات { من كل مكان } والمكان : جوهر مهيأ للاستقرار ، فهو كناية عن أنه يحصل له من الشدائد ما يميت من قضى بموته { وما هو بميت } أي بثابت له الموت أصلاً .

لأنا قضينا بدوام حياته زيادة في عذابه ، والموت : عرض يضاد الإدراك في البنية الحيوانية { ومن ورائه } أي هذا الشخص ، بعد ذلك في يوم الجزاء الذي لا بد منه ، وما خلقنا السماوات والأرض إلا من أجله { عذاب غليظ * } يأخذه في ذلك اليوم - مع ما قدمته له في الدنيا - وهو غافل عنه أخذ ما يكون من وراء ، فيكون أشد كما هو الحال الآتي بغتة ، أو يكون المعنى أن من بعد هذا العذاب في جهنم عذاباً آخر ، لا تحتمل عقولكم وصفه بأكثر من الغلظ . فلما فرغ من محاوراتهم ، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء ، ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال : { مثل } وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة { الذين كفروا } مستهينين { بربهم } مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق ، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام ، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً .
ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعمل ، ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال : ما مثلهم؟ فقال : { أعمالهم } أي المكارم التي كانوا يعملونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك ، في يوم الجزاء ، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانياً - كما قال الحوفي وابن عطية . وهو وخبره خبر المبتدأ الأول ، ولا يحتاج إلى رابط لأنه نفس المثل الذي معناه الصفة { كرماد } وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار { اشتدت به الريح } أي أسرعت بالحركة على عظم القوة؛ والريح : جسم رقيق مثبت في الجو من شأنه الهبوب ، والرياح خمس : شمال وجنوب وصباً ودبور ونكباء { في يوم عاصف } أي شديد الريح ، فأطارته في كل صوب ، فصاروا بحيث { لا يقدرون } أي يوم الجزاء؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال ، قدم قوله : { مما كسبوا } في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم { على شيء } بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس ، فثبت بمقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد ، بل { ذلك } أي الأمر الشديد الشناعة { هو } أي خاصة { الضلال البعيد * } الذي لا يقدر صاحبه على تداركه .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)

ولما ذكر الآخرة في أول السورة ، ذكر ما هو ثابت لا نزاع فيه ، ثم جرّ الكلام إليه هنا على هذا الوجه الغريب ، وأتبعه مثل أعمال الكفار في الآخرة ، أتبع ذلك الدليل عليه وعلى أنه لا يسوغ في الحكمة في أعمال الضلال إلا الإبطال فقال : { ألم تر أن الله } أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة { خلق السماوات } على عظمها وارتفاعها { والأرض } على تباعد أقطارها واتساعها { بالحق } بالأمر الثابت من وضع كل شيء منها في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة لا بالخيال والتمويه كالسحر ، ومن المعلوم أنهما ظرف ، ولا يكون المظروف الذي هو المقصود بالذات إلا مثل ظرفه أو أعلى منه ، فكيف يظن أنه يخلق شيئاً فيهما سدى بأن يكون باطلاً فلا يبطله ، أو حقاً فلا يحقه ، أم كيف يتوهم أنه - مع القدرة على إخراجهما من العدم وهما أكبر خلقاً وأعظم شأناً - لا يقدر على إعادة من فيهما وهم أضعف أمراً وأصغر قدراً ، أو خلقهما بسبب الحق وهو إعادة الناس إعادة يثبتون بها ويبقون بقاء لا فناء بعده ، فتسبب عن ذلك أنه عظيم القدرة ، فهو بحيث { أن يشأ يذهبكم } أي بنوع من أنواع الإذهاب : الموت أو غيره { ويأت بخلق جديد } غيركم أو يأت بكم بعد أن فنيتم بحيث تعودون - كما أنتم - خلقاً جديداً؛ والجديد : المقطوع عنه العمل في الابتداء ، وأصله القطع ، فالجد أب الأب ، انقطع عن الولادة بالأب ، والجد ضد الهزل ، يقطع به المسافة حساً أو معنى { وما ذلك } الإذهاب والإتيان على عظمه { على الله } أي الملك الأعلى { بعزيز * } وهو الممتنع بوجه من وجوه الامتناع لأنه ليس مثل خلق السماوات والأرض فضلاً عن أن يكون أعظم منه ، فلا وجه لقولكم { هل ندلكم على رجل ينبئكم } [ سبأ : 7 ] ، الآية لأن من قدر على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فثبت بهذا إبعادهم في الضلال الموجب لهلاك أعمالهم - التي هي أسبابهم - الموجب لهلاكهم .
ولما ثبت بهذا البرهان قدرته على الإعادة بعد الموت ، عطف على قوله : { لا يقدرون مما كسبوا على شيء } [ إبراهيم : 18 ] قوله - بياناً لهو أن البعث عنده وسهولته عليه - : { وبرزوا } أي في ذلك اليوم ، عبر بصيغة المضي الذي وجد وتحقق ، لأن أخبار الملوك يجب تحققها لقدرتهم وغناهم عن الكذب ، فكيف بملك الملوك! وفيه من هز النفس وروعتها ما ليس في العبارة بالمضارع لمن تأمل المعنى حق التأمل { لله } أي الملك الأعظم { جميعاً } فكانوا بحيث لا يخفى منهم خافية على ما هو متعارفهم ، لأنه لا ساتر لهم ، فإن البروز خروج لشيء عما كان ملتبساً به إلى حيث يقع عليه الحس في نفسه ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون من العذاب ، فتقطعت بهم الأسباب { فقال الضعفاء } أي الأتباع من أهل الضلال بسبب علمهم أنهم في القبضة لا ملجأ لهم ، تبكيتاً لرؤسائهم وتوبيخاً ، تصديقاً لقوله تعالى :

{ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ] { للذين استكبروا } أي طلبوا الكبر وادعوه فاستتبعوهم به حتى تكبروا على الرسل وأتباعهم ولم يكن لهم ذلك . { إنا كنا } أي كوناً هو كالجبلة { لكم تبعاً } أي تابعين أو ذوي تبع فكنتم سبب ضلالنا ، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم { فهل أنتم مغنون } أي دافعون { عنا من عذاب الله } أي الذي له العظمة كلها فلا يطاق انتقامه ، وأبلغوا بعد التبعيض ب « من » الأولى في التقليل ، فقالوا : { من شيء } كأن العذاب كان محتاجاً إلى أخذهم فأغنوه بشيء غيرهم حتى يجاوزهم لو دفعوه عنهم ، فكأنه قيل : إن ذلك لعادة الرؤساء ، فماذا قالوا؟ فقيل : { قالوا } علماً منهم بأنه لا طاقة لهم على نوع من أنواع التصرف : لا نغني عنكم شيئاً ، بل كل مجزي بما فعل ، علينا إثم ضلالنا في أنفسنا وإضلالنا لكم ، وعليكم ضلالكم وذبكم عنا وتقويتكم لجانبنا حتى استكبرنا فاستغرقنا في الضلال ، ولو أن الله هداكم حتى تبعتم الأدلة التي سمعتموها كما سمعناها وتركتمونا ، لكسر ذلك من شدتنا وأوهى من شوكتنا ، فكان ربما يكون سبباً لهدايتنا كما أنه { لو هدانا الله } أي المستجمع لصفات الكمال { لهديناكم } فكان يكون لنا جزاء اهتدائنا وهدايتنا لكم ، ولكم جزاء اهتدائكم وتقويتكم لنا على ذلك ، ولكنه لم يهدنا فضللنا وكنتم لنا تبعاً فأضللناكم .
ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع ، قالوا : { سواء علينا } أي نحن وأنتم { أجزعنا } والجزع : انزعاج النفس بورود ما يغم { أم صبرنا } لا فائدة لنا في واحد منهما لأن الأمر أطم من ذلك فإنه { ما لنا من محيص } يصلح للمصدر والزمان والمكان ، أي محيد وزوال عن المكروه على كلا التقديرين ، فلم يبق في الجزاء إلا زيادة العذاب بسوء القالة وانتشار السبة ، وهذا الاستفهام ليس على بابه ، بل المراد به التنبيه على أنه حالهم مما ينبغي السؤال عنه وترديد الأمر فيه لينتهي عن مثله .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41