كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

ولما كانوا يكذبون بالوعيد ، أكد الجواب بعد التأكيد بنفس القسم فقال : { إنما } أي الذي { توعدون } أي من الوعد للطائع والوعيد للعاصي ، وإن لم تروا أسبابه ، ولما كان ما توعدوا به لتحقق وقوعه وقربه كأنه موجود يخاطبهم عن نفسه ، عبر عن المصدر باسم الفاعل فقال : { لصادق * } أي مطابق الإخبار به للواقع ، وسترون مطابقته له إذا وقع ، وتعلمون أن ذلك الواقع حق ثابت لا خيال لمطابقته للخبر ، قال ابن برجان : واعلم أن الله عز وجل ما أقسم بقسم إلا مطابقاً معناه لمعان في المقسم من أجله بسراج منير يهدي به الله تعالى من يشاء ، وإنما يعمي عن رؤية ذلك ظواهر إشخاص للمحسوسات ، ويصم عن إسماع ندائها ضوضاء المشاهدات ، ولولا ذلك لنودوا بها من مكان قريب ، وقال البيضاوي : كأنه استدل باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة على اقتداره على البعث .
ولما كان أجل وعيدهم وما يتعلق بالجزاء يوم القيامة وكانوا ينكرونه ، قال : { وإن الدين } أي المجازاة لكل أحد بما كسب يوم البعث ، والشرع الذي أرسلت به هذا النبي الكريم { لواقع * } لا بد منه وإن أنكرتم ذلك ، فيظهر دينه على الدين كله كما وعد بذلك ، ثم نقيم الناس كلهم للحساب .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما ذكر سبحانه المواعيد الأخروية في سورة ق وعظيم تلك الأحوال من لدن قوله { وجاءت سكرة الموت بالحق } إلى آخر السورة ، أتبع سبحانه ذلك بالقسم على وقوعه وصدقه فقال : { والذاريات ذرواً } إلى قوله : { إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع } والدين الجزاء ، أي أنهم سيجازون على ما كان منهم ويوفون قسط أعمالهم { فلا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون } { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } . ولما أقسم الله على صدق وعده ووقوع الجزاء ، عقب ذلك بتكذيبهم بالجزاء وازدرائهم فقال { يسألون أيان يوم الدين } ثم ذكر تعالى حال الفريقين وانتهاء الطريقين إلى قوله : { وفي الأرض آيات للموقنين } فوبخ تعالى من لم يعمل فكره ولا بسط نظره فيما أودع سبحانه في العالم من العجائب ، وأعقب بذكر إشارات إلى أحوال الأمم وما أعقبهم تكذيبهم ، وكل هذا تنبيه لبسط النظر إلى قوله : { ومن كل شيء خلقنا } بقوله : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } أي إن هذا دأبهم وعادتهم حتى كأنهم تعاهدوا عليه وألقاء بعضهم إلى بعض فقال تعالى : { تواصوا به أم هم قوم طاغون } أي عجباً لهم في جريهم على التكذيب والفساد في مضمار واحد ، ثم قال تعالى : { بل هم قوم طاغون } أي أن علة تكذيبهم هي التي اتحدت فاتحد معلولها ، والعلة طغيانهم وإظلام قلوبهم بما سبق { ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها } ثم زاد نبيه عليه السلام أشياء مما ورد على طريقة تخييره عليه السلام في أمرهم من قوله تعالى : { فتول عنهم فما أنت بملوم } ثم أشار تعالى بقوله : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } إلى أن إحراز أجره عليه السلام إنما هو في التذكار والدعاء إلى الله تعالى ، ثم ينفع الله بذلك من سبقت له السعادة { إنما يستجيب الذين يسمعون } ثم أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن تكذيبه سينالهم قسط ونصيب مما نال غيرهم من ارتكب مرتكبهم ، وسلك مسلكهم ، فقال تعالى { وإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم } إلى آخر السورة - انتهى .

ولما أخبر سبحانه عن ثبات خبره ، أتبعه الإخبار عن وهي كلامهم ، فقال مقسماً عليه لمبالغتهم في تأكيد مضامينه مع التناقض بفعله الجميل وصنعه الجليل ، إشارة إلى أنهم لم يتخلقوا من أخلاقه الحسنى بقول ولا فعل : { والسماء ذات الحبك * } أي الآيات المحتبكة بطرائق النجوم المحكمة ، الحسنة الصنعة ، الجيدة الرصف والزينة ، حتى كأنها منسوجة ، الجميلة الصنعة الجليلة الآثار ، الجامعة بين القطع والاختلاط والاتفاق والاختلاف ، وأصل الحبك الإحكام في امتداد واطراد - قاله الرازي في اللوامع . { إنكم } يا معشر قريش { لفي قول } محيط بكم في أمر القرآن والآتي به وجميع أمر دينكم وغيره مما تريدون به إبطال الدين الحق { مختلف * } كاختلاف طرائق السماء التي لا تكاد تنتظم ، ولا يعرف أولها من آخرها ، واختلاف هذه الأشياء المقسم بها من أول السورة واختلاف غاياتها لكنه مع ذلك متدافع ، وإن كنتم تجتهدون في تزيينه وتقريبه للأفهام وتحسينه فإنه لا يكاد إذا عرضه الناقد على الفكر النافذ ينضبط بضابط ولا يرتبط برابط ، بل تارة تقولون : هذا شعر فيلزمكم وصفه بما تصفون به الشعر من الاتساق بالوزن المجرد والروي المتحد ، والعذوبة والرشاقة ، وتارة تقولون : هذا سحر فيلزمكم مع الإقرار بالعجز عنه أنه لا حقائق له والواقع أنه لا يتأمله ذو فهم إلا رأى حقائقه أثبت من الجبال ، وتارة تقولون : أضغاث أحلام ، فيلزمكم أنه لا ينضبط بضابط ، ولا يكون له مفهوم يحصل ، ولا يعجز أحد عن تلفيق مثله ، فقد أبطلتم قولكم : إنه شعر وإنه سحر .

وتارة تقولون : إنه كهانة فيلزمكم أن تعتقدوا منه ما تعتقدون في أقوال الكهان من الإخبار بالمغيبات وإظهار الخبء وفصل الحكم ، فأبطلتم ما مضى من قولكم أضغاث أحلام وسحر وشعر ، وتارة تقولون ، إنه جنون ، فقد نقضتم جميع أقوالكم الماضية وناديتم على أنفسكم بالمباهتة ، تقولون في الآتي به : إنه شاعر وساحر ومجنون وكاهن وكاذب ، وكل قول منها ينقض الآخر ، وأنتم تدعون أنكم أصدق الناس وأبعدهم عن عار الكذب ، وأنكم أعقل الناس وأنصفهم ، فقد تباعد أولاً ما بين أقوالكم ، ثم ما بينها وبين أفعالكم ، فكان اختلاف طرائق النجوم دالاًّ على مانع مختار تام العلم كامل القدرة ، وكذا اختلاف قولكم على هذا الوجه مع ما لكم من العقول دالّ على قاهر لكم على ذلك ، فهما آيتان في الآفاق وفي أنفسكم .

يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)

ولما كان هذا الاختلاف مما لا يكاد يصدق لأنه لا يقع فيه عاقل ، بين سببه بأنهم مغلوبون عليه بقهر يد القدرة فقال : { يؤفك } أي يصرف بأيسر أمر وأسهله عن سنن الاستقامة ، ويقلب من وجهه لقفاه { عنه } أي يصدر صرفه عن هذا القول مجازاً لما يلزمه من عاره ، فهو لأجل ذلك يقوله { من أفك * } أي قلبه قلب قاهر أي تبين بهذا الصرف الذي هو أعظم الصرف أنه حكم في الأزل حكماً ثابتاً جامعاً ، فصار لا يصد عنه قول ولا فعل إلا كان مقلوباً وجهه إلى قفاه لا يمكن أن يأتي منه بشيء على وجهه ، فكأنه لا مأفوك سواه لشدة افكه وعجيب أمره .
ولما كان الكذب الإخبار بما لا حقيقة له وتعمد الافتراء ، وكان الخرص الكذب والافتراء والاختلاف وكل قول بالظن ، قال معلماً بما لهم على قولهم هذا : قتلوا أو قتلتم - هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي استحقوه بقولهم : { قتل الخراصون * } أي حصل بأيسر أمر قتل الكذابين ولا محالة من كل قاتل ، والمتقولين بالظن المنقطعين للكلام من أصل لا يصلح للخرص وهو القطع ، وهم الذين يقولون عن غير سند من كتاب أو سنة أو أثارة من علم ، وهو دعاء أو خبر لأنه مجاب : { الذين هم } خاصة { في غمرة } أي أعماق من العمى والضلال ، غارقون في سكرهم وجهلهم الذي غمرهم ، ولذلك هم مضطربون اضطراب من هو يمشي في معظم البحر فهو لا يكاد ينتظم له أمر من قول ولا فعل ولا حال { ساهون * } أي عريقون في السهو وهو النسيان والغفلة والحيرة وذهاب القلب إلى غيره ما يهمه ، ففاعل ذلك ذو ألوان متخالفة من هول ما هو فيه وشدة كربه .
ولما حكم بسهوهم ، دل عليه بقوله : { يسئلون } أي حيناً بعد حين على سبيل الاستمرار استهزاء بقولهم : { أيان } أي متى وأي حين { يوم الدين * } أي وقوع الجزاء الذي يخبرنا به ، ولولا أنهم بهذه الحالة لتذكروا من أنفسهم أنه ليس أحد منهم يبث عبيده أو أجراءه في عمل من الأعمال إلا وهو يحاسبهم على أعمالهم ، وينظر قطعاً في أحوالهم ، ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم فكيف يظن بأحكم الحاكمين أن يترك عبيدة الذين خلقهم على هذا النظام المحكم وأبدع لهم هذين الخافقين وهيأ لأجلهم فيهما ما لا ضرورة لهم في التزود للمعاد إلى سواه فيتركهم سدى يوجدهم عبثاً .
ولما تقرر أمر القيامة بالتعبير بساهون قال : { يوم } أي نقول يوم { هم على النار يفتنون * } أي يرمون فيحرقون ويعذبون ويصبحون . . . من الاختلاف مقولاً لهم على سبيل القرع والتوبيخ : { ذوقوا فتنتكم } . . . العقوبة من الفتنة المحيطة .

. . واستعجالكم ما توعدون استهزاء وتكذيباً { هذا الذي كنتم به تستعجلون * } أي تطلبون عجلته . . . { إن المتقين } أي الذين كانت التقوى لهم وصفاً ثابتاً { في جنات } أي بساتين عظيمة نحن داخلها . . . { وعيون * } . . . { آخذين . . . ما } أي كل شيء { آتاهم . . . ربهم } أي المحسن إليهم . . . بتمام علمه وشامل قدرته وهو لا يدع لهم لذة إلا أنحفهم بها فيقبلونها بغاية الرغبة لأنها في غاية النفاسة . ولما كان هذا أمراً عظيماً يذهب الوهم في سببه كل مذهب ، علله بقوله مؤكداً لنسبة الكفار لهم إلى الإساءة : { إنهم كانوا } أي كوناً هو كالجبلة . ولما كان الإنسان إما يكون مطيعاً في مجموع عمره أو في بعضه . . . على الطاعة ، وكانت الطاعة تجبُّ ما قبلها ، وتكون سبباً في تبديل السيئات حسنات فضلاً منه سبحانه ، فكان كل من القسمين مطيعاً في جميع زمانه ، نزع الجارّ فقال : { قبل ذلك } أي في دار العمل ، وقيل : أخذوا ما فرض عليهم بغاية القبول لأنهم كانوا قبل فرض الفرائض يعملون على المحبة وهو معنى { محسنين * } أي في معاملة الخالق والخلائق ، يعبدون الله كأنهم يرونه ، ثم فسر إحسانهم معبراً عنه بما هو في غاية المبالغة بقوله : { كانوا } أي لما عندهم من الإجلال له والحب فيه بحيث كأنهم مطبوعون عليه ، ولغاية التأكيد وقع الإسناد إليهم مرتين { قليلاً من الليل } الذي هو وقت الراحات وقضاء الشهوات ، وأكد المعنى بإثبات « ما » فقال : { ما يهجعون * } أي يفعلون الهجوع وهو النوم الخفيف القليل ، فما ظنك بما فوقه لأن الجملة تثبت هجوعهم وهو النوم للراحة ، وكسر التعب وما ينفيه ، وذكر الليل لتحقق المعنى فإن الهجوع النوم ليلاً ، فالمعنى أنهم يحيون أكثر الليل وينامون أقله . ولما كان المحسن لا يرى نفسه إلا مقصراً ، قال دالاًّ على ذلك وعلى أن تهجدهم يتصل بآخر الليل مؤكداً بالإسناد مرتين أيضاً : { وبالأسحار } قال ابن زيد : السحر : السدس الأخير من الليل { هم } أي دائماً بظواهرهم وبواطنهم { يستغفرون * } أي يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين ويسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره وإن اجتهدوا لقول سيد الخلق « لا أحصي ثناء عليك » وإبراز الضمير دال على أن غيرهم لو فعل هذا ليلة لأعجب بنفسه ورأى أنه لا أحد أفضل منه ، وعلى أن استغفارهم في الكثرة يقتضي أنهم يكونون بحيث يظن أنهم أحق بالتذلل من المصرين على المعاصي ، فإن استغفارهم ذلك على بصيرة لأنهم نظروا ما له سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات والحكم البالغة التي لا تحصى فعلموا أنه أهل لأن يطاع ويخشى فاجتهدوا وتركوا الهجوع ، وأجروا الدموع ، ثم قابلوا ذلك بنعمه فإذا الأعمال في غاية التقصير فأقبلوا على الاستغفار عالمين بأنه لا يمكن أن يقدر حق قدره .

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)

ولما ذكر معاملتهم للخالق ، أتبعه المعاملة للخلائق تكميلاً لحقيقة الإحسان فقال : { وفي أموالهم } أي كل أصنافها { حق } أي نصيب ثابت . ولما كان السياق هنا للإحسان ، فكان إحسانهم لفرط محبتهم إلى عباد الله لا يوقفهم عن الواجب بخلاف ما في « سأل » من سياق المصلين مطلقاً ترك وصفه بالمعلومية فقال : { للسائل } أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف { والمحروم * } وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ، ولا يسأل الناس ولا يفطن له ليتصدق عليه ، وهذه صفة أهل الصفة رضي الله عنهم ، فالمحسنون يعرفون صاحب هذا الوصف لما لهم من نافذ البصيرة ولله بهم من العناية .
ولما دل إقسامه بالسماء وما قبلها من الذاريات على ما له في العلويات من الآيات إلى أن ختم بالأموال التي تنبتها الأرض ، فكان التقدير : ففي السماوات آيات للمؤمنين دالات على عظمته واستحقاقه للعبادة بغاية الخضوع رغباً ورهباً ، عطف عليه قوله : { وفي الأرض } مما فيه أيضاً من الاختلاف بالمعادن الكثيرة المتباينة مع اتحاد أصلها والنبات والحيوان والجماد والبر والبحر وغير ذلك من الأسرار الدالة على الفاعل المختار { آيات } أي دلالات عظيمات هي مع وضوحها بعد التأمل خفيات { للموقنين * } الذين صار الإيقان لهم غريزة ثابتة ، فهم لذلك يتفطنون لرؤية ما فيها مع ما يلابسهم منها من الأسباب فيشغلهم ولا يرون أكثر أسباب ما فيها من الآيات فأداهم ذلك إلى الإيقان بما نبهت عليه الرسل مما تستقل به العقول من البعث وغيره ، قال القشيري : من الآيات فيها أنها تحمل كل شيء ، فكذلك العارف يحمل كل أحد ومن استثقل أحداً أو تبرم برؤيته أحداً فلغيبته عن الحقيقة ومطالعة الخلق بعين التفرقة . وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة ، ومن الآيات فيها أنه يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتنبت كل زهر ونور وكذلك العارف يتشرب ما يلقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق عليّ وشيمة زكية .
ولما أشار إلى آيات الآفاق ، أتبعها آيات الأنفس فقال : { وفي أنفسكم } أي من الآيات التي شاركتم بها الجماد ، ثم فارقتموه بالنمو ثم بالحس ثم فارقتم الحيوان الخسيس بالعقل الموصل إلى بدائع العلوم ودقائق الفهوم . ولما كانت أظهر الآيات ، سبب عن التنبيه عليها الإنكار عليهم في ترك الاعتبار بها فقال : { أفلا تبصرون * } أي بأبصاركم وبصائركم فتتأملوا ما في ذلك من الآيات وتتفكروا هل ترون أسباب أكثرها ، فإن كل هذه آيات دالة على قدرة الصانع على كل ما يريد واختياره ، وأنه ما خلق هذا لخلق سدى ، فلا بد أن يجمعهم إليه للعرض عليه ، فالموقنون لا يزالون ينظرون في أمثال هذا بعيون باصرة وأفهام نافذة ، فكلما رأوا آية اعتبروا بها ، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم ، وإيقاناً مع إيقانهم ، وأول نظرهم فما أودعوا من الآيات الحاجة ، فمن تأملها علم أنه عبد ، ومتى علم ذلك علم أن له رباً غير محتاج ، ومن أبصر جميع الصفات والأسماء فنفذ فهمه في شفاف الكائنات ، فارتقى إلى أعلى الدرجات .

ولما بان بما قدمته في { المقسمات أمراً } ما في جهة العلو من الأسباب الموجبة للنعمة والعذاب ، قال : { وفي السماء } أي جهة العلو { رزقكم } بما يأتي من المطر والرياح والحر والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه لمنافع العباد { وما توعدون * } وجميع ما أتتكم به الرسل من الوعد والوعيد والصعقة والزلزال وغير ذلك من الأهوال وموجبات النكال ، وكذا الرحمة والخير والنعمة وكل ما يتعلق به الآمال ، فكما أنكم تصدقون بذلك وأنتم لا ترونه فكذلك صدقوا بالجنة والنار وإن لم تروها ، فإنه لا فرق بين ماء ينزله الله فيكون منه رياض وجنات وشوك وأدواء ومرارات ، وسموم وعقارب وحيات ، وخشاش وسباع وحشرات ، وبين ماء يعيد به الأموات ، ثم يحشرهم إلى جنان ونيران ، فكما أنه لا مرية في إظهار هذا الغيب فكذلك لا لبس في إظهار ذلك الغيب ، ومن المعنى أيضاً أنك لا تشتغل برزق فإنه في السماء ، ولا سبيل لك إلى العروج إليها ، واشتغل بما كلفته من الخدمة لمن عنده الرزق ففي السماء الرزق وإليها يرفع العمل ، فإن أردت أن ينزل إليك رزقك فأصعد إليها الصالح من عملك ، ولهذا قالوا : الصلاة فرع باب الرزق { واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك } .
ولما أقسم بما له من المقدورات لمن وقف مع المحسوسات المشهورات ، فترقوا بذلك إلى أعلى الدرجات ، وانكشف ما له من الكمال انكشافاً تاماً ، وعلم أن في خزائنه سبحانه كل ما أخبرت عنه به الرسل من وعد ووعيد ، سبب عنه قوله مقسماً بنفسه الأقدس لكن بصفة مألوفة فقال : { فورب } أي مبدع ومدبر { السماء والأرض } بما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه { إنه } أي الذي توعدونه من الخير والشر والجنة والنار وتقدم الإقسام عليه أنه صادق { لحق } أي ثابت يطابقه الواقع فقد جمع الحق مع الصدق { مثل ما أنكم } أي وأنتم مساوون لبقية ما في الأرض من الجمادات وغيرها { تنطقون * } نطقاً مجدداً في كل وقت مستمراً ، ليس هو بخيال ولا سحر ، أي أن ذلك لحق مثل ما أن هذا حق ، فالذي جعل لكم قوة النطق من بين ما في الأرض بأسباب لا ترونها وتحصونها ، ومع ما عداكم من ذلك بأسباب مثل ذلك قادر على الإتيان بوعده من الرزق وغيره ما دمتم تحتاجون إلى ذلك بما جعل فيكم من الحياة التي يصح بها العلم الناشىء عنه النطق المحوج إلى الرزق من أي جهة أرادوا ، وإن لم تروا أسبابه كما أنه لو أراد لأنطق جميع من في السماوات والأرض من الجمادات بما يقيمه لها من الأسباب التي أقامها لكم وإن لم تروا ذلك .

ولما بين بما مضى من القسم وما أتبعه من أنه أودع في السماوات والأرض وما بينهما أسباباً صالحة للإتيان بما وعدناه من الخير ، وما توعدنا به من الشر وإن كنا لم نرها وهو قادر مختار ، فصار ذلك كالمشاهد ، ولا وجه للتكذيب بوعد ولا وعيد ، دل عليه وصوره بما شوهد من أحوال الأمم وبدأ - لأن السياق للمحسنين - برأس المحسنين من أهل هذه الأنباء الذي أخبرته الملائكة عليهم السلام بما سببه معه وإن كان على غير العادة . فتعجب زوجته من ذلك مع كونها أعلى نساء ذلك الزمان ، وأتبع قصته قصة لوط ابن أخيه عليهما السلام لاتصال ما بين قصتيهما في الزمان ، ولمناسبة عذابهم لما أقسم به في أول السورة ، فإنه سبحانه أمر الذاريات فاقتلعتهم بقراهم وحملتها كما تحمل السحاب ثم كبتهم فرجمتهم ، والأرض فخسفت بهم ، والملائكة الموكلة بمثل ذلك ، ففعلوا جميع ما أمروا به ورأوهم في قريتهم وقصدوهم بالمكر لأنهم خفي عليهم أمرهم ، وأتوا الخليل عليه السلام وهو أعلى ذلك الزمان وهم في ذلك ولم يعلم أول الأمر بشيء من حالهم ولا ظنهم إلا آدميين ، فقال مفخماً لأمر القصة بتخصيص الخطاب لأعلى الخلق وأنفذهم فهما إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه سواه على طريق الاستفهام على عادة العرب في الإعلام بالأمور الماضية وإن كان المخبر عالماً بأن المخاطب لا علم له بذلك لأن المقصود ليس إلا التنبيه على أن ذلك الأمر مما ينبغي الاهتمام به والبحث فيه ليعرف ما فيه ، من الأمور الجليلة؛ قال أبو حيان : تقرير لتجتمع نفس المخاطب كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب فتقرره : هل سمعت ذلك أم لا؟ فكأنك تقتضي بأن يقول : لا ، ويستطعمك الحديث - انتهى . { هل أتاك } يا أكمل الخلق { حديث ضيف } عبر عنهم بلفظ الواحد إشارة إلى اتحاد كلمتهم { إبراهيم * } وهو خليلنا ، ودل على أنه لم يعرف شيئاً مما أتوا به دالاًّ على أنهم جمع { المكرمين * } أي الذين هم أهل الكرامة ، وأكرمهم إبراهيم عليه السلام بقوله وفعله ، ففي حديثه ذلك آية بينة على ما بين في هذه السورة من قدرة الله تعالى وصدق وعده ووعيده ، مع ما فيه من التسلية لك ولمن تبعك ، والبشارة بإكرام المصدق وإهانة المكذب ، قال القشيري : وقيل : كان عددهم اثني عشر ملكاً ، وقيل : جبريل عليه السلام ، وكان معه تسعة ، وقيل : كانوا ثلاثة : { إذ } أي حديثهم حين { دخلوا عليه } أي دخول استعلاء مخالف لدخول بقية الضيوف { فقالوا سلاماً } أي نحدث ، ثم استأنف الأخبار عن جوابه بقوله : { قال } أي بلسانه : { سلام } أي ثابت دائم ، فهو أحسن من تحيتهم .

ولما كان ما ذكر من دخولهم وسلامهم غير مستغرب عند المخاطبين بهذا ، وكانت القصة قد ابتدئت بما دل على غرابة ما يقص منها ، تشوف السامع إلى ما كان بعد هذا فأجيب بقوله : { قوم } أي ذوو قوة على ما يحاولونه ويقومون فيه { منكرون * } أي حالهم لإلباسه أهل لأن ينكره المنكر ، وقدم هذا على موضعه الذي كان أليق به فيما يظهر بادي الرأي ، وإيضاحاً لأن السياق لخفاء الأسباب على الآدمي وبعدها وإن كانت في غاية الظهور والقرب ولو أنه غاية العلو فإن إنكاره لهم كان متأخراً عن إحضار الأكل لكونهم لم يأكلوا ، وهذا القول كان في نفسه ولم يواجههم به .

فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

ولما أشار إلى أنه حين إنكاره لهم لم يعرف من أي نوع هم ولا خصوص ما هم فيه ، رتب على رده لسلامهم أنه أسرع غاية الإسراع في إحضار ما ينبغي للضيف على ظن أنهم آدميون فقال : { فراغ } أي ذهب في خفية وخفة ومواضع سترة عن أعينهم كما هو من آداب الضيافة خوفاً من أن يمنعوه أو يكدر عليهم الانتظار : { إلى أهله } أي الذين عندهم بقرة { فجاء بعجل } أي فتى من أولاد البقر { سمين * } قد شواه وأنضجه { فقربه إليهم } ولما أخبر بما ينبغي الإخبار به من أمر الضيافة إلا الأكل ، كان من المعلوم أن التقدير : فكان كأنه قيل : فماذا قال لهم حين لم يأكلوا؟ قيل : { قال } أي متأدباً غاية التأدب ملوحاً بالإنكار : { ألا تأكلون * } أي منه .
ولما كان كأنه قيل : فلم يأكلوا ، سبب عنه قوله : { فأوجس } أي أضمر إضمار الحال في جميع سره { منهم خيفة } لأجل إنكاره عدم أكلهم فإنه لما رأى إعراضهم عن الطعام ذهب وهمه في سبب إتيانهم إليه كل مذهب { قالوا } مؤنسين له : { لا تخف } وأعلموه بأنهم رسل الله { وبشروه بغلام } على شيخوخته ويأس امرأته بالطعن في السن بعد عقمها ، وهو إسحاق عليه السلام . ولما كان السياق لخفاء الأسباب كان في الذروة وصفه بقوله : { عليم * } أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه .
ولما كانا بعيدين عن قبول الولد ، تسبب عن ذلك قوله ، دالاًّ على أن الولد إسحاق مع الدلالة على أن خفاء الأسباب لا يؤثر في وجود المسببات : { فأقبلت } أي من سماع هذا الكلام { امرأته } ولما كانت قد امتلأت عجباً ، عبر بالظرف فقال : { في صرة } أي صيحة وكرب من الصرير قد أحاط بها ، فذهب وهمهما في ذلك كل مذهب { فصكت } أي ضربت بسبب تعجبها بأطراف أناملها فعل المتعجب { وجهها } لتلاشي أسباب الولد في علمها بسبب العادة مع معرفتها بأن العبرة في الأسباب وإن كانت سليمة بالمسبب لا بها ، قال البغوي : وأصل الصك ضرب الشيء بالشيء العريض { وقالت } تريد أن تستبين الأمر هل الولد منها أم من غيرها : { عجوز } ومع العجز { عقيم * } فهي في حال شبابها لم تكن تقبل الحبل ، قال القشيري رحمه الله تعالى : قيل : إنها كانت يومئذ ابنة ثمان وتسعين سنة .
ولما كان في هذا أشد تشوف إلى الجواب ، استأنف تعالى الجواب بقوله : { قالوا كذلك } أي مثل ما قلناه من هذه البشرى العظيمة { قال ربك } أي المحسن إليك بتأهيلك لذلك على ما ذكرت من حالك وبتأهيلك من قبل الاتصال بخليله صلى الله عليه وسلم . ولما كان محط تعجبها أن ذلك كان بأيام شبابها أولى ، عللوا إخبارهم تأكيداً له مؤكدين لأن قولها وفعلها فعل المنكر وإن كانت ما أرادت به إلا الاستثبات : { إنه هو } أي وحده { العليم } الذي يضع الأشياء في أحق مواضعها فرتب عظمة هذا المولود على كل من عقمك وعجزك؛ ثم عللوا ذلك بقولهم : { الحكيم * } أي المحيط العلم فهو كذلك لا يعجزه شيء لما تقدم من البرهان في سورة طه أن إحاطة العلم مستلزم شمول القدرة .

ولما كان الخليل عليه السلام أعلم أهل زمانه بالأمور الإلهية ، علم أن اجتماع الملائكة على تلك الهيئة التي يراهم فيها ليس لهذه البشارة فقط ، فلذلك استأنف تعالى الجواب لمن كان كأنه قال : ما كان من حاله وحالهم بعد هذا؟ بقوله : { قال } أي قال مسبباً عما رأى من حالهم : { فما خطبكم } أي خبركم العظيم { أيها المرسلون * } أي لأمر عظيم { قالوا } قاطعين بالتأكيد بأن مضمون خبرهم حتم لا بد منه ، ولا مدخل للشفاعة فيه : { إنا أرسلنا } أي بإرسال من تعلم { إلى قوم مجرمين * } أي هم في غاية القوة على ما يحاولونه وقد صرفوا ما أنعم الله به عليهم من القوة في قطع ما يحق وصله ووصل ما يحق قطعه { لنرسل عليهم } أي من السماء التي فيها ما وعد العباد به وتوعدوا { حجارة من طين * } أي مهيأ للاحتراق والإحراق { مسومة } أي معلمة بعلامة العذاب المخصوص . ولما كان قد رأوا اهتمامه بالعلم بخبرهم خشية من أن يكونوا أرسلوا لعذاب أحد يعز عليه أمره ، أمنوا خوفه بوصف الإحسان فقالوا : { عند ربك } أي المحسن إليك بهذه البشارة وغيرها { للمسرفين * } أي المتجاوزين للحدود غير قانعين بما أبيح لهم .
ولما كان من المعلوم أن القوم يكونون تارة في مدر وتارة في شعر ، وعلم من الآيات السالفة أن العذاب مختص بذوي الإسراف ، سبب عن ذلك مفصلاً لخبرهم قوله تعالى معلماً أنهم في مدر : { فأخرجنا } بما لنا من العظمة بعد أن ذهبت رسلنا إليهم ووقعت بينهم وبين لوط عليهم السلام محاولات معروفة لم تدع الحال هنا إلى ذكرها ، والملائكة سبب عذابهم ، وأهل القرية المحاولون في أمرهم لا يعرفون ذلك ، وهذه العبارة إن كانت إخباراً لنا كانت خبراً عما وقع لنعتبر به ، وإن كانت لإبراهيم عليه السلام كان معناها أن الحكم الأعظم وقع بإخراجهم بشارة له بنجاتهم { من كان فيها } أي قراها . ولما كان القلب عماد البدن الذي به صلاحه أو فساده ، فكان عمله أفضل الأعمال أنه به يكون استسلام الأعضاء أو جماحها ، بدأ به فقال : { من المؤمنين * } أي المصدقين بقلوبهم لأنا لا نسويهم بالمجرمين فخلصناهم من العذاب على قلتهم وضعفهم وقوة المخالفين وكثرتهم ، وسبب عن التعبس والستر والتعرض للظواهر والبواطن قوله : { فما وجدنا } أسند الأمر إليه تشريفاً لرسله إعلاماً بأن فعلهم فعله { فيها غير بيت } واحد وهو بيت لوط ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، وقيل : كان عدة الناجين منهم ثلاثة عشر ، ولما كان الإسلام قد تطلق على الظاهر فقط وإن كان المراد هنا الأخص أخره فقال : { من المسلمين * } أي العريقين في الإسلام الظاهر والباطن لله من غير اعتراض أصلاً وهم إبراهيم وآله عليهم السلام فإنهم أول من وجد منه الإسلام الأتم ، وتسموا به كما مضى في البقرة وسموا به أتباعهم ، فكان هذا البيت الواحد صادقاً عليه الإيمان الذي هو التصديق والإسلام الذي هو الانقياد ، قال البغوي : وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً لأنه ما آمن مؤمن إلا وهو مسلم .

يعني لما بينها من التلازم وإن اختلف المفهومان ، وقال الأصبهاني : وقيل : كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر .
ولما وكان إبقاء آثار المهلكين أدل على قدرة من أهلكهم قال : { وتركنا } أي بما لنا من العظمة { فيها } أي تلك القرى بما أوقعنا بها من العذاب الذي كان مبدؤه أنسب شيء بفعل الذاريات من السحاب فإنا قلعنا قراهم كلها وصعدت في الجو كالغمام إلى عنان السماء ولم يشعر أحد من أهلها بشيء من ذلك ثم قلبت وأتبعت الحجارة ثم خسف بها وغمرت بالماء الذي لا يشبه شيئاً من مياه الأرض كما أن خباثتهم لم تشبه خباثة أحد ممن تقدمهم من أهل الأرض { آية } أي علامة عظيمة على قدرتنا على ما نريد { للذين يخافون } كما تقدم آخر ق أنهم المقصودون في الحقيقة بالإنذار لأنهم المنتفعون به دون من قسا قلبه ولم يعتبر { العذاب الأليم * } أي أن يحل بهم كما حل بهذه القرى في الدنيا من رفع الملائكة لهم في الهواء الذاري إلى عنان السماء وقلبهم وإتباعهم الحجارة المحرقة ، وغمرهم بالماء المناسب لفعلهم بنتنه وعدم نفعه ، وما ادخر لهم في الآخرة أعظم .

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)

ولما قدم سبحانه أحق القصص الدالة على قسمه وما أقسم عليه بما فيها من خفاء الأسباب مع وجودها ، ثم ما فيها من إنزال ما به الوعيد من السماء بالنار والماء الذي أشير إليه بالمقسمات ، مع الفرقة بين المسلم والمجرم ، أتبعها قصة من أيده بحاملات فيها مطر وبرد ونار مضطرمة ، كما مضى بيانه في الأعراف ، ثم بعد ذلك بريح فرقت البحر ونشفت أرضه ودخله فرعون والقبط ، وهو واضح الأمر في أنه سبب لهلاكهم وهم لا يشعرون به ، فقال عاطفاً على المقدر في قصة إبراهيم عليه السلام أو الظاهر في { وفي الأرض } أو على « في » التي في قوله { وتركنا فيها آية للذين يخافون } وهذا أقرب من غيره وأولى : { وفي موسى } أي في قصته وأمره آية على ذلك عظيمة { إذ أرسلناه } بعظمتنا { إلى فرعون } الذي كان قد أساء إلى إبراهيم عليه السلام بعد عظيم إحسانهم إله وإلى جميع قومه بما أحس إليهم يوسف عليه السلام { بسلطان مبين * } أي معجزات ظاهرة في نفسه منادية من شدة ظهورها بأنها معجزة ، فكان فيها دلالة واضحة على صدق وعيده ومع ذلك فلم ينفعهم علمها ولذلك سبب عنه وعقب به قوله : { فتولى } أي كلف نفسه الإعراض بعد ما دعاه علمها إلى الإقبال إليها ، وأشار إلى توليه بقوله : { بركنه } أي بسب ما يركن إليه من القوة في نفسه وبأعوانه وجنوده أو بجميع جنوده - كناية عن المبالغة في الإعراض ، { وقال } معلماً بعجزه عما أتاه به وهو لا يشعر : { ساحر } ثم ناقض كمناقضتكم فقال بجهله عما يلزم على قوله : { أو مجنون * } أي لاجترائه عليّ مع ما لي من عظيم الملك بمثل هذا الذي يدعو إليه ويتهدد عليه .
ولما وقعت التسلية بهذا للأولياء ، قال تعالى محذراً للأعداء : { فأخذناه } أي أخذ غضب وقهر بعظمتنا بما استدرجناه به وأوهناه به من العذاب الذي منه سحاب حامل ماء وبرداً وناراً وصواعق { وجنوده } أي كلهم { فنبذناهم } أي طرحناهم طرح مستهين بهم مستخف لهم كما تطرح الحصيات { في اليم } أي البحر الذي هو أهل لأن يقصد بعد أن سلطنا الريح فغرقته لما ضربه موسى عليه السلام بعصاه ونشفت أرضه ، فأيبست ما أبرزت فيه من الطرق لنجاة أوليائنا وهلاك أعدائنا { وهو } أي والحال أن فرعون { مليم * } أي آتٍ بما هو بالغ في استحقاقه الملامة ، ويجوز أن يكون حالاً من { أليم } بمعنى أنه فعل بهم فعل اللائم من ألامه - إذا بالغ في عذله ، وصار ذا لائمة أي لهم ، من ألام - لازماً ، وأن يكون مخففاً من لأم المهموز فيكون المعنى : فهو مصلح أي فاعل فعل المصلحين في إنجاء الأولياء وإغراق الأعداء بالالتئام والانطباق عليهم ، قال في القاموس : اللوم العدل ، لام لوماً وألامه ولومه للمبالغة ، وألام : أتى ما يلام عليه أو صار ذا لائمة ، ولأمه بالهمز كمنعه ، نسبه إلى اللوم ، والسهم : أصلحه كألامه ولأمه فالتأم ، ولا يضر يونس عليه السلام أن يعبر في حقه بنحو هذه العبارة ، فإن أسباب اللوم تختلف كما أن أسباب المعاصي تختلف في قوله

{ وعصوا رسله } [ هود : 59 ] { وعصى آدم ربه } [ طه : 121 ] وبحسب ذلك يكون اختلاف نفس اللوام ونفس المعاصي .
ولما أتم قصة من جمع له السحاب والماء والنار والريح ، أتبعها قصة من أتاهم بريح ذارية لم يوجد قط مثلها ، وكان أصلها موجوداً بين ظهرانيهم وهم لا يشعرون ، بل قاربت الوصول إليهم وهم يظنونها مما ينفعهم : { وفي عاد } أي آية عظيمة { إذ } أي حين { أرسلنا } بعظمتنا { عليهم } إرسال علو وأخذ { الريح } فأتتهم تحمل سحابة سوداء وهي تذرو الرمل وترمي بالحجارة على كيفية لا تطاق { العقيم * } أي التي لا ثمرة لها فلا تلقح شجراً ولا تنشىء سحاباً ولا تحمل مطراً ولا رحمة فيها ولا بركة فلذلك أهلكهم هلاك الاستئصال ، ثم بين عقمها وإعقامها بقوله : { ما تذر } أي تترك على حال ردية ، وأعرق في النفي فقال : { من شيء } ولما كان إهلاكها إنما هو بالفاعل المختار ، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال : { أتت عليه } أي إتيان إرادة مرسلها ، استعلاها على ظاهره وباطنه ، وأما من أريدت رحمته كهود عليه السلام ومن معه رضي الله عنهم فكان لهم روحاً وراحة لا عليهم { إلا جعلته كالرميم * } أي الشيء البالي الذي ذهلته الأيام والليالي ، فصيره البلى إلى حالة الرماد ، وهو في كلامهم ما يبس من نبات الأرض ودثر - قاله ابن جريج ، وخرج بالتعبير ب « تذر » هود عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين ، فإنهم تركتهم على حالة حسنة لم يمسهم منها سوء كما أشير إلى مثل ذلك بأداة الاستعلاء .
ولما تم ما اقتضاه سياق السورة من قصة أهل الريح الذارية ، أتبعها قصة من أهلكوا بما يحمله السحاب من الريح وما تحمله الريح من صوت الصيحة الراجفة الماحقة فقال : { وفي ثمود } أي قوم صالح عليه السلام آية عظيمة كذلك { إذ } أي حين { قيل لهم } ممن لا يخلف المعياد : { تمتعوا } أي بلبن الناقة وغيره مما مكناكم فين من الزرع والنخيل والأبنية في الجبال والسهول وغير ذلك من جلائل الأمور الذي أمرناكم به ولا تطغوا { حتى حين * } أي وقت ضربناه لآجالكم { فعتوا } أي أوقعوا بسبب إحساننا إليهم العتو ، وهو التكبر والإباء { عن أمر ربهم } أي مولاهم الذي أعظم إحسانه إليهم فعقروا الناقة وأرادوا قتل نبيه عليه السلام { فأخذتهم } بسبب عتوهم أخذ قهر وعذاب { الصاعقة } أي الصيحة العظيمة التي حملتها الريح ، فأوصلتها إلى مسامعهم بغاية العظمة ، ورجت ديارهم رجة أزالت أرواحهم بالصعق ، وقوله : { وهم ينظرون * } دال على أنها كانت في غمام ، وكان فيها نار ، ويجوز - مع كونه من النظر - أن يكون أيضاً من الانتظار ، فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام ، وجعل لهم في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه اليوم الرابع { فما } أي فتسبب عن ذلك أنه ما { استطاعوا } أي تمكنوا ، وأكد النفي فقال : { من قيام } أي بعد مجيئها بأن عاجلتهم بإهلاكها عن القيام .

ولما كان الإنسان قد لا يتمكن من القيام لعارض في رجليه وينتصف من عدوه بما يرتبه من عقله ويدبره برأيه قال : { وما كانوا } أي كوناً ما { منتصرين } أي لم يكن فيهم أهلية للانتصار بوجه ، لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة لأن تهيؤهم لذل سقط بكل اعتبار .
ولما أتم قصة من أهلكوا بما من شأنه الإهلاك وهو الصاعقة ، أتبعهم قصة من أهلكوا بما من شأنه الإحياء ، وهو الماء الذي جل ما يشتمل عليه الحلامات التي أثارتها الذاريات ، وقد كانوا موجودين في الأرض والسماء - وأسبابه مهيأة - وهم لا يحسون بشيء من ذلك ، وأما عبادنا المؤمنون فهيأنا لهم أسباب النجاة من السفينة وغيرها ، وأعلمناهم بها ، فكان كل ما أردنا وقاله عنا أولياؤنا فقال مغيراً للأسلوب تنبياً على العظمة بنفسه الإهلاك لكونه بما من شأن الإحياء والإبقاء والتصرف في الأسباب : { وقوم } أي وأهلكنا قوم { نوح } على ما كان فيهم من الكثرة وقوة المحاولة والقيام بما يريدونه ، ويجوز أن يكون معطوفاً على « فيها » أي وتركناهم آية ، ويحسن هذا الإعراب أنهم هلكوا جميعاً وكانوا جميع أهل الأرض ، وعم عذابهم جميع الأرض ، كانوا لهم الآية ، ويؤيد هذا الإعراب قراءة أي عمرو وحمزة والكسائي بالجر عطفاً على ضمير « فيها » .
ولما كان إهلاكهم على عظمه وانتشاره في بعض الزمان ، أدخل الجارّ فقال : { من قبل } أي قبل هذه الأمم كلها ، ثم علل إهلاكهم بقوله : { إنهم كانوا } خلقاً وطبعاً ، لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم { قوماً } أي أقوياء { فاسقين * } أي عريقين في الخروج عن حظيرة الدين .

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

ولما كان إهلاكهم بالماء الذي نزل من السماء ، وطلع من الأرض بغير حساب ، كان ربما ظن ظان أن كان الخلل كان فيهما ، ثم أصلح بعد ذلك كما يقع لبعض من يصنع من الملوك صنعاً يبالغ في إتقانه فيختل ، قال عاطفاً على ما نصب « يوم » مبيناً أن فعل ذلك ما كان بالاختيار ، دالاًّ على وحدانيته لتمام القدرة الدالة على ما تقدم من أمر البعث : { والسماء بنيناها } بما لنا من العظمة { بأيد } أي بقوة وشدة عظيمة لا يقدر قدرها . ولما كانت السماء أليق لعظمتها وطهارتها بصفات الإلهية ، قال ، وأكد لما يلزم إنكارهم البعث من الطعن في القدرة : { وإنا } على عظمتنا مع ذلك { لموسعون * } أي أغنياء وقادرون ذوو سعة لا تتناهى ، أي قدرة ، من الوسع وهو اللطافة ، وكذلك أوسعنا مقدار جرمها وما فيها من الرزق عن أهلها فالأرض كلها على اتساعها كالنقطة في وسط دائرة السماء بما اقتضته صفة الإلهية التي لا يصح فيها الشركة أصلاً ، ومطيقون لما لا يحصى من أمثال لك ، ومما هو أعظم منه مما لا يتناهى ، ومحيطون بكل شيء قدرة وعلماً ، وجديرون وحقيقون بأن يكون ذكل من أوصافنا فنوصف به لما يشاهد لنا من القوة على كل ما نريد ، فلسنا كمن يعرفون من الملوك لأنهم إذا فعلوا لا يقدرون على أعظم منه وإن قدروا كان ذلك منهم بكلفة ومشقة ، وسترون في اليوم الآخر ما يتلاشى وما تريدون في جنبه ، ومن اتساعنا جعلها بلا عمد مع ما هي عليه من العظمة إلى غير ذلك من الأمور الخارقة للعوائد : { والأرض فرشناها } كذلك بما لنا من العظمة ، فصارت ممهدة جديرة بأن يستقر عليها الأشياء وهي آية على تمهيدنا لأرض الجنة وشقنا لأنهارها وغرسنا لأشجارها { فنعم } أي فتسبب عن ذلك أن يقال في وصفنا : نعم { الماهدون * } أي نحن لكمال قدرتنا ، فما نزل من السماء شيء ولا نبع من الأرض شيء إلا بإرادتنا وتقديرنا واختيارنا من الأزل لأنا إذا صنعنا شيئاً علمنا ما يكون منه من حين إنشائه إلى حين إنباته ، ولا يكون شيء منه إلا بتقديرنا ، وذلك تذكير بالجنة والنار ، فما فوقها من خير فهو آية على الجنة ، وما فيها من جبال ووهاد وعر وخروبة فهو آية على النار .
ولما كان الأشياء المتضادة من الشيء الواحد أدل على القدرة من هذا الوجه ، قال : { ومن كل شيء } أي من الحيوان وغيره { خلقنا } بعظمتنا . ولما كان الفلاسفة يقولون : لا ينشأ عن الواحد إلا واحد ، قال رداً عليهم : { زوجين } أي مثله شيئين كل منهما يراوح الآخر من وجه وإن خالفه من آخر ، ولا يتم نفع أحدهما إلا بآخر من الحيوان والنبات وغيرها ويدخل فيه الأضداد من الغنى والفقر ، والحسن والقبح ، والحياة والموت ، والضياء والظلام ، والليل والنهار ، والصحة والسقم ، والبر والبحر ، والسهل والجبل ، والشمس والقمر ، والحر والبرد ، والسماوات والأرض ، وأن الحر والبرد من نفس جهنم آية بينة عليها ، وبناءهما على الاعتدال في بعض الأحوال آية على الجنة مذكرة بها مشوقة إليها .

ولما كان ذلك في غاية الدلالة على أن كلاًّ من الزوجين يحتاج إلى الآخر وأنه لا بد أن ينتهي الأمر إلى واحد لا مثل له وأنه لا يحتاج بعد ذلك التنبيه إلى تأمل كبير قال : { لعلكم تذكرون * } فأدغم تاء التفعل الدالة على العلاج والاجتهاد والعمل فصار : فتكونوا عند من ينظر ذلك حق النظر على الرجاء من أن يتذكروا قليلاً من التذكر فيهديكم إلى سواء السبيل .
ولما كان كل شيء مما سواه لا بد له من ضد يضاده أو قرين يسد مسده ، وأما سبحانه فلا مثل له لأنه لو كان له مثل لنازعه ، فلم يقدر على كل ما يريد { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] وثبت أنه أهلك القرون الأولى بمخالفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فثبت أن وراء المكلفين عذاباً يحق لهم الفرار منه ، وثبت أن كل شيء غيره محتاج إلى زوجه يثبت حاجة الكل إليه ، وأنه لا كفاية عند شيء في كل ما يرام منه ، وجب أن لا يفزع إلا إلى الواحد الغني فسبب عن ذلك قوله : { ففروا } أي أقبلوا وألجؤوا . ولما درب عباده في هذه السورة بصفة الربوبية كثيراً ، فتأهلوا إلى النفوذ في الغيب ، وكانت العبادة لا تكون خالصة إلا إن علقت بالذات لا لشيء آخر ، ذكر اسم الذات فقال : { إلى الله } أي إلى الذي لا مسمى له من مكافىء ، وله الكمال كله ، فهو في غاية العلو ، فلا يقر ويسكن أحد إلى محتاج مثله فإن المحتاج لا غنى عنده ، ولا يقر سبحانه .
إلا من تجرد عن حضيض عوائقه الجسمية إلى أوج صفاته الروحانية ، وذلك من وعيده إلى وعده اللذين دل عليهما بالزوجين ، فتنقل السياق بالتحذير والاستعطاف والاستدعاء ، فهو من باب « لا ملجأ منك إلا إليك أعوذ بك منك » واستمر إلى آخر السورة في ذكره إشارة إلى علي أمره ، ثم علل بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار : { إني لكم منه } أي لا من غيره { نذير } أي من أن يفر أحد إلى غيره فإنه لا يحصل له قصده .
لما أقام الدليل العقلي الظاهر جداً بما يعلمه أحد في نفسه على ما قاله في هذا الكلام الوحيد قال : { مبين * } ففرار العامة من الجهل إلى العلم عقداً وسعياً ، ومن الكسل إلى التشمير حذراً وحزماً ، ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء ، وفرار الخاصة من الخير إلى الشهود ، ومن الرسوم إلى الأصول ، ومن الحظوظ إلى التجريد ، وفرار خاصة الخاصة مما دون الحق إلى الحق إشهاداً في شهود جلاله واستغراقاً في وحدانيته ، قال القشيري : ومن صح فراره إلى الله صح فراره مع الله - انتهى . وهو بكمال المتابعة ليس غيره ، ومن فهم منه اتحاداً بصفة أو ذات فقد ما حد طريق القوم فعليه لعنه الله .

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)

ولما ثبت أنه لا ملجأ إلا إلى الله الواحد المنزه عن الزوج ، وذلك هو الله الذي له الكمال كله ، وكان ربما وقع في وهم أن في الوجود من غير الزوجين المعروفين من نفزع إليه كما نفزع إلى وزير الملك وبوابه ونحو ذلك مما يوصل إليه ، قال محذراً من سطواته : { ولا تجعلوا } أي بأهوائكم { مع الله } وكرر الاسم الأعظم ولم يضمر تعييناً للمراد لأنه لم يشاركه في التسمية به أحد وتنبيهاً على ما له من صفات الكمال وتعميماً لوجوه المقاصد لئلا يظن ، وقيل « معه » إن المراد النهي عن الجعل من جهة الفرار لا من جهة غيرها { إلهاً } .
ولما كان المراد كمال البيان ، منع مجاز التجريد منع تعنت من يطعن بتكثير الأسماء كما أشار إليه بقوله { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } الآية بقوله : { آخر } ثم علل النهي مع التأكيد لطعنهم في نذارته فقال : { إني لكم منه } أي لا من غيره فإن غيره لا يقدر على شيء { نذير } أي محذر من الهلاك الأبدي بالعقوبة التي لا خلاص منها إن فعلتم ذلك { مبين * } أي لا أقول شيئاً من واضح النقل إلا ودليله ظاهر من صريح العقل . ولما ذكر قولهم المختلف الذي منه تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى السحر والجنون وغير ذلك من الفنون ، ومنه الإشراك مع اعترافهم بأنه لا خالق إلا الله ولا كاشف ضر غيره إلى غير ذلك من أنواع الاضطراب ، وأخبر بهلاكتهم على ذلك وحذرهم منه ودل عليه إلى أن ختم بإنذار من اتخذ إلهاً غيره قال مسلياً : { كذلك } أي مثل قول قومك المختلف العظيم الشناعة ، البعيد من الصواب ، بما له من الاضطراب ، وقع لمن قبلهم ، ودل على هذا المقدر بقوله مستأنفاً : { ما أتى الذين } ولما كان الرسل إنما كان إرسالهم في بعض الأزمان الماضية ولم يستغرقوا جميعها بالفعل ، أثبت الجارّ في قوله : { من قبلهم } وعمم النفي بقوله : { من رسول } أي من عند الله { إلا قالوا } ولو بعضهم برضا الباقين : { ساحر أو مجنون * } لأن الرسول يأتيهم بمخالفة مألوفاتهم التي قادتهم إليها أهواؤهم ، والهوى هو الذي أوجب لهم هذا التناقض الظاهر سواء كانت « أو » للتفصيل بأن بعضهم قال واحداً وبعضهم قال آخر ، أو كانت للشك لأن الساحر يكون لبيباً فطناً آتياً بما يعجز عنه كثير من الناس ، والمجنون بالضد من ذلك ، ثم عجب منهم بقوله : { أتواصوا به } أي أوصى بهذا بعض الأولين والآخرين بعضاً .
ولما ساق هذا في أسلوب الاستفهام إشارة إلى قول ينبغي السؤال عن سببه لما له من الخفاء ، أجاب عنه بأنهم لم يتواصوا به لأن الأولين ما اجتمعوا مع الآخرين : { بل هم } اجتمعوا في وصف أداهم إلى ذلك .

وهو أنهم { قوم } أي ذوو شماخة وكبر { طاغون * } أي عالون في الكفر مسرفون في الظلم والمعاصي مجاوزون للمقدار ، وأشار بالضمير إلى أن الطغيان أمر ذاتي لهم ، فهو يمدح منه سبحانه بأنه هو الذي قهرهم بسوقهم إلى هلاكهم بقدرته التامة وعلمه الشامل .
ولما كان صلى الله عليه وسلم ، يكاد يتلف نفسه الشريفة - بأبي هو وأمي - غماً عليهم وأسفاً لتخلصهم عن الإسلام وخوفاً أن لا يكون وفى بما عليه من التنبيه والإعلام ، سبب تعالى عن حالهم قوله : { فتولَّ عنهم } أي كلف نفسك الإعراض عن الإبلاغ في إبلاغهم بالمجادلة والصدع بالتغليظ بعد ما تقدم منك من الإبلاغ { فما أنت } بسبب الإعراض بعد الإنذار { بملوم * } أي بمستحق الملامة بسبب إعراض من أعرض منهم عنك ، فإني إنما حكمت بذلك لأني إنما قسمت الناس إلى مؤمن تنفعه الذكرى ، وطاغ لا ينفعه شيء ، ولذلك قال : { وذكر } أي بالرفق واللين ، ولما أصروا على التكذيب والإعراض حتى أيس منهم ، أكد ما سببه عن التذكير بقوله : { فإن الذكرى } أي التذكر بالنذارة البليغة { تنفع المؤمنين * } أي الذين قدر الله أن يكونوا عريقين في وصف الإيمان ولا بد من إكثار التذكير ليغلب ما عندهم من نوازع الحظوظ وصوارف الشهوات ، مع ما هم مجبولون عليه من النسيان .

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

ولما كان هذا ربما أوهم أن سواهم غير مقدور عليهم ، قال مؤكداً بالحصر دالاًّ على أنه هو الذي قسم الناس إلى طاغين ومؤمنين بالعطف على ما تقديره : فما حكم عليهم بذلك الضلال والهدى غيري ، وما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب إلا لاستخلاص المؤمنين وإقامة الحجة على الضالين : { وما خلقت الجن والإنس } الذين أكثرهم كافرون { إلا ليعبدون * } أي لينجروا تحت أقضيتي على وجه ينفعون به أنفسهم أو يضرونها لا لشيء يلحقني أنا منه شيء من نفع أو ضرر ، فإني بنيتهم على العجز وأودعتهم نوازع الهوى ، وركبت فيهم غرائز فهيأتهم لاتباع الهدى ، فمن أطاع عقله كان عابداً لي فارّاً إليّ مع جريه تحت الإرادة ، عبادة شرعية أمرية يستفيد بها الثواب ، ومن أطاع الهوى كان عابداً لي مع مخالفته أمري عبادة إرادية قسرية يستحق بها العقاب ، وكل تابع لهواه إذا حقق النظر علم أن الخير في غير ما هو مرتكبه ، فما ألزمه ما هو فيه مع علمه بأن غيره خير منه إلا قهر إرادتي ، فهذه عبادة لغوية ، وذاك عبادة شرعية ، وقد مر في آخر هود ما ينفع هنا ، وهذا كله معنى قول ابن عباس : إلا ليقروا لي بالعبادة طوعاً وكرهاً .
ولما حصر سبحانه خلقهم في إرادة العبادة ، صرح بهذا المفهوم بقوله : { ما أريد منهم } أي في وقت من الأوقات ، وعم في النفي بقوله : { من رزق } أي شيء من الأشياء على وجه ينفعني من جلب أو دفع ، لأني منزه عن لحاق نفع أو ضر ، كما يفعل غيري من الموالي بعبيدهم من الاستكثار بغلاتهم والاستعانة بقواتهم لأني الغني المطلق وكل شيء مفتقر إليّ { وما أريد } أصلاً { أن يطعمون * } أي أن يرزقوني رزقاً خاصاً هو الإطعام ، وفيه تعريض بأصنامهم فإنهم كانوا يعملون معها ما ينفعها ويحضرون لها الأكل ، فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام . ثم لا يصدهم ذلك ، وهذه الآية دليل على أن الرزق أعم من الأكل ، والتعبير بالإرادة دالّ على ما قلت إنه مقصود بالعبادة . وهو الجري تحت الإرادة ، تارة بموافقة الشرع وتارة بمخالفته .
ولما كان الاهتمام بأمر الرزق - وقد ضمنه سبحانه - شاغلاً عن كثير من العبادة ، وكان الإنسان يظن أن الذي حصل له ما حواه من الرزق سعيه ، قال حاصراً ذلك مؤكداً إزالة لتلك الظنون معللاً لافتاً الكلام إلى سياق الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره ، نصاً على المراد وبالغاً من الإرشاد أقصى المراد : { إن الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال المنزه عن شوائب النقص { هو } أي لا غيره { الرزاق } أي على سبيل التكرار لكل حي وفي كل وقت . ثم وصفه بما يبين هوان ذلك فقال : { ذو القوة } أي التي لا تزول بوجه { المتين * } أي الشديد الدائم الشدة .

ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم ، ودل على ذلك حتى بجميع قصد أحوالهم على إرادته . وختم بقوته التي لا حد لها ، سبب عن ذلك إيقاعه بالمتوعدين ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم : { فإن للذين ظلموا } أي الذين أوقعوا الأشياء في غير مواقعها . ولما كان القسم على ما يوعدون بما يحمل المطر ، عبر عن نصيبهم الذي قدره عليهم من ذلك بقوله : { ذنوباً } أي خطاً من العذاب طويل الشر ، كأنه من طوله صاحب ذنب وهو على ذنوبهم { مثل ذنوب أصحابهم } أي الذين تقدم ظلمهم بتكذيب الرسل وهو في مشابهته له كالدلو الذي يساجل به دلو آخر ، وذلك دليل واضح على أن ما يوعدون صادق ، وأن الدين واقع { فلا يستعجلون * } أي يطلبوا أن آتيهم به قبل أوانه اللاحق به ، فإن ذلك لا يفعله إلا ناقص ، وأنا متعال عن ذلك لا أخاف الفوت ولا يلحقني عجز ولا أوصف به ، ولا بد أن أوقعه بهم في الوقت الذي قضيت به في الأزل ، لأنه أحق الأوقات بعقابهم لتكامل ذنوبهم ، وحينئذ تكون فيا له من تهديد ما أفظعه ، ووعيد ما أعظمه وأوجعه ، أمراً لا يدفعه دافع ، ولا يمنع من وقوعه مانع ، ولذلك سبب عنه قوله : { فويل } أي شر حال وعذاب يوجب الندب والتفجع { للذين كفروا } أي ستروا ما ظهر من هذه الأدلة التي لا يسع عاقلاً إنكارها { من يومهم } إضافة إليهم لأنه خاص بهم دون المؤمنين { الذي يوعدون * } في الدنيا والآخرة ، وقد انطبق آخرها على أولها بصدق الوعيد ، وثبت بالدليل القطعي لك القسم الأكيد - والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)

لما ختمت الذاريات بتحقيق الوعيد ، افتتحت هذه بإثبات العذاب الذي هو روح الوعيد ، فقال تعالى : { والطور * } وذلك أنهم لما كانوا يقولون عما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم : إنه سحر خيال لا حقيقة له ، أقسم بالجبل - الذي هو عندهم وعند غيرهم من ذوي العقول - أثبت الأرض وأشدها وأصلبها ، وعبر عنه بالطور الذي هو مشترك بين مطلق الجبل وبين المضاف إلى سينا الذي كان فيه نبوة موسى عليه السلام وإنزال كثير من كتابه وغير ذلك - آيات تعلمها بنو إسرائيل الذين يستنصحونهم ويسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرضون بقولهم فيه فمن آياته أنه كانت فيه الرحمة بمناجاة موسىعليه السلام وما كتب له فيه على ألواح الجوهر وما أنزل عليه من الناموس الذي جعله هدى ورحمة وموعظة وذكراً وتفصيلاً لكل شيء وكان فيه مع الرحمة العذاب بما أتاهم من الصاعقة التي أماتتهم ثم أحياهم الله وبما كانوا يشهدون من السحاب الذي تخلله فيكون كقتار الأتون ، وفيه بروق كأعظم ما يشاهد من النار ، وأبواق تزعق بصوت هائل ، ولما شوهد من اندكاك لجبل عند التجلي وصعق موسى عليه السلام إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف الظلمات ، وأيضاً فالطور كل جبل ينبت ، وإنبات الجبل عجيب ، فإن نباته لا يكون إلا بسبب ، وسبب النبات الماء ، والماء منبث في الأرض لتركبها عليه وهو مواز لما انكشف منه من ماء البحار ، وكلما علت الأرض بعدت عن الماء ، والجبال أبعدها منه ، فسبب إنباته خفي جداً لا يعلمه إلا الله ومن فهمه إياه .
ولما كانت الأرض لوح السماء التي منها الوعيد ، وكانت الجبال أشدها ، فذكر أعظمها آية ، وكان الكتاب لوح الكاتب ، وكانت الكتب الإلهية أثبت الكتب ، وكان طور سينا قد نزل كتاب إلهي قال : { وكتاب } وحقق أمره بقوله : { مسطور * } أي متفق الكتابة بسطور مصفوفة من حروف مرتبة جامعة لكلمات متفقة ككتاب موسى عليه السلام الذي أنزله عليه وكلمه بكثير منه في الطور وتنكيره للتعظيم لأنه إن كان المراد به الكتب الإلهية فهو أثبت الأشياء ، وإن كان المراد صحيفة قريش فقد كانوا ظنوها أثبت العهود ، وذكر أمتن ما يكتب فيه وأشده وأتقنه فقال : { في رق } أي في جلد مهيأ بالقشر للكتابة { منشور * } أي مهيأ للقراءة والاتعاظ بما فيه ، ويمكن أن يكون أراد به جميع الكتب المنزلة عاماً بعد خاص ، قال الرازي : قال الصادق : إن الله تجلى لعبده بكتابه كما تجلى بالطور لما كان محلاً للتجلي خلقاً ، والكتاب لما كان محلاً للتجلي أمراً ، أجراهما في قرن - انتهى . ويجوز أن يكون أراد به سبحانه صحيفة الظلم التي كتبوها بما تعاقدوا عليه من أنهم لا يعاشرون بني هاشم ولا يكلمونهم ولا يبايعونهم ولا يشاورونهم ولا يناكحونهم ولا يؤازرونهم ولا يعاملونهم حتى يسلموا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقوها في جوف الكعبة فانحاز بنو هاشم إلى شعب أبي طالب خلف أبي قبيس وتبعهم بنو المطلب رهط إمامنا الشافعي رضي الله عنه ، فتحيزوا معهم من بين بني عبد مناف ، فكان ذلك سبب شرفهم على مدى الدهر ، فأرسل الله على الصحيفة - بعد أن مضى على ذلك سنتان حين جهدهم العيش ومضّهم الزمان وزلزلتهم القوارع زلزالاً شديداً وهم ثابتون ليظهر الله بذلك شرف من شاء من عباده - الأرضة ، فأبقت ما فيها من أسماء الله تعالى ومحت ما كان من ظلمهم وقطيعتهم ، فكان ذلك سبباً لأن قام في نقضها معشر منهم ، فنقضها الله بهم ، وكانوا إذا ذاك كفرة كلهم ليظهر الله قدرته سبحانه على كل من النقض والإبرام بما شاء ومن شاء { والبيت المعمور * } الذي هو قيام للناس كما كانت قبة الزمان قياماً لبني إسرائيل ، هذا إن كان تعالى أراد به الكعبة التي علقوا فيها الصحيفة بعد أن كانوا لما عمروها اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في موضعه ، وزاد بهم الاختلاف حتى تهيؤوا للقتال وتحالفوا عليه ، فكان منهم لعقة الدم ، ومنهم المطيبون كما هو مشهور في السير ، ثم وفقوا لأن رضوا أن يحكم بينهم أو داخل من باب عينوه ، فكان أول داخل منه النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا بأجمعهم : هذا محمد هذا الأمين ، رضينا بحكمه ، فحكم صلى الله علي وسلم بأن يوضع الحجر الشريف في ثوب ويأخذ رئيس كل قبيلة بطرف من أطرافه ويرفعوه كلهم ، فلما وازى موضعه أخذه هو صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة فوضعه في موضعه ، فكان الفخر له مضاعفاً بحكمه وإصلاحه بينهم ، واختصاصه بوضعه وهو معمور بالزوار والخدمة وكثرة الحاشية .

ولما كان البيت لا بد في مسماه من السقف قال : { والسقف المرفوع * } يريد سقف الكعبة إشارة إلى أنه محكم البناء مغلق الباب متقن السقف إتقاناً هو أعظم من إتقان سقف قبة الزمان التي شاهد فيها بنو إسرائيل من العظمة الإلهية والجلال ما إن سألتموهم عنه أخبروكم به ، ومع ذلك سلط على الصحيفة - التي في جوفه ، ولعلها كانت في سقفه بحيث لا يصل إليها أحد - ما أفسدها تحقيقاً لثبوت ما أراد من أمره تحذيراً مما توعد به ، ويمكن أن يراد به مع ذلك السماء التي فيها ما توعدون ، ومن المعلوم أن لكل ذي عقل أن أقل السقوف لا يرتفع توعدون ، ومن المعلوم أن لكل ذي عقل أن أقل السقوف لا يرتفع بغير عمد إلا بأسباب لا ترى ، فكيف بالسماء التي لها من السعة والعظمة والثخن وما فيها من الكواكب ما لها مما لا يسع العقول شرحه ، وهم لا ينظرون أسبابه كما قال تعالى

{ بغير عمد ترونها } [ الرعد : 2 ] ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إنه العرش وهو سقف الجنة .
ولما كان الماء أقوى من كل ما تقدم ، ختم به فقال : { والبحر المسجور * } أي الذي فيه من الماء أكثر من ملئه وهو ساجره أي مانعه - كما يمنع الكلب بساجوره عن الانسباح ، ولو أراد خلاه فاندفق فجرى فأهلك ما مر عليه من جبل وكتاب وبيت كما شوهد لما شجره سبحانه لبني إسرائيل فانفلق ، ونشفت أرضه ثم لما أراد سببه أن فرعون فعذبهم به فأهلكهم حتى لم يبق منهم أحد .
ولما أقسم بما يدل على نبوة موسى عليه السلام وثلث بما أشار إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وثنى بما هو مشترك بينهما ، وكان الأول مع ذلك دالاً على استقرار الأرض ، والثالث على صلاحيتها للسكنى ، والثاني على الحافظ في ذلك ، وربع بما كمل المنافع ، وحذر من السقوط كما خوف بالأول من الخسف ، وخمس بما دل على ما أريد بالأول من الاستقرار لأنه لو كان ميل لانطلق البحر إلى جهته ، أجاب القسم بقوله : { إن عذاب } ولما كان سبحانه عظيم الإكرام له صلى الله عليه وسلم ، أضاف العذاب إلى صفة الإحسان والتربية الخاصة به ، وأضاف الصفة إلى ضميره إيذاناً بأنه يريه في أمته ما يسره ، وإن مماثلة « ذنوبهم كذنوب أصحابهم » الماضين إنما هي في مجرد الإذلال ، لا في أنه يستأصلهم كما استأصل أولئك فقال : { ربك } أي الذي تولى تربيتك أي عذاب أراده بكل من أراد به لا سيما المعادي لأوليائه سبحانه { لواقع * } أي ثابت نازل بمن أراد نزول ما هو ثقيل من مكان عال كما أنه لو أراد لقلب الأرض التي ثبتها وأوقع السقف الذي رفع ، وأطلق البحر الذي سجر ، كما علم من إطلاقه البحر فلقه على آل فرعون حتى أغرقهم به { ما له من دافع * } لأنه لا شريك لموقعه لما دلت عليه هذه الأقسام من كمال قدرته وجلال حكمته وضبط أعمال العباد للمجازاة سواء قلنا : إن الكتاب هو الذي يكتبه الحفظة أو الذي يضبط الدين ، فلما أوقع الجزاء بهم في الصحيفة ، ونقض معاقدتهم ، وفض جمعهم ، أخرج معاشرك من ذلك الضيق فكذلك يؤيدك حتى توقع بهم وتنقض جمعهم وتكسر شوكتهم ونقتل سرواتهم ويظهر دينك على دينهم ، ويصير من بقي منهم من حزبك وأنصار دينك ، قال البغوي : قال جبير بن مطعم رضي الله عنه : قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر ، فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ { والطور } - إلى قوله - { إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع } فكأنما صدع قلبي حين سمعته ، ولم أكن أسلمت يومئذ ، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب ما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب .

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما توعد تعالى كفار قريش ومن كان على طريقتهم من سائر من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيصيبهم ما أصاب غيرهم من مكذبي الأمم ، المنبه على ذكرهم في السورة قبل ، ثم أشار سبحانه إلى عظيم ما ينالهم من الخزي وأليم العذاب بقوله : { فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } [ الذاريات : 60 ] أقسم سبحانه على صحة ذلك ووقوعه - والعياذ به سبحانه من سخطه وأليم عذابه - فقال تعالى : { والطور } - إلى قوله - { إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع } ثم أومأ سبحانه إلى مستحقيه ومستوجبيه فقال { فويل يومئذ للمكذبين } ثم ذكر ما يعنفون به ويوبخون على ما سلف منهم من نسبته عليه الصلاة والسلام إلى السحر فقال تعالى { ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } [ سبأ : 42 ] { أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون } ثم أعقب بذكر حال المؤمنين المستجيبين ، ثم ذكر إثر إعلامه بحال الفريقين - نعمته على نبيه عليه الصلاة والسلام وعصمته ووقايته مما يقول المفترون فقال تعالى { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } ثم جرت الآي على توبيخهم في مقالتهم ووهن انتقالاتهم ، فمرة يقولون : كاهن ، ومرة يقولون : مجنون ، ومرة يقولون : شاعر يترقب موته . فوبخهم على ذلك كله وبين كذبهم وأرغمهم وأسقط ما بأيديهم بقوله { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } وهذا هو المسقط لما تقولوه أولاً وآخراً ، وهذا الذي لم يجدوا عنه جواباً ، ورضوا بالسيف والجلاء ، لم يتعرضوا لتعاطي معارضته ، وهذا هو الوارد في قوله تعالى في صدر سورة البقرة { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] الآيات ، فما نطقوا في جوابه ببنت شفة { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } [ الإسراء : 88 ] فتبارك من جعله آية باهرة وحجة قاهرة - انتهى .
ولما أثبت وقوع العذاب ، تشوفت نفس الموقن إلى وقته ، قال مستأنفاً لبيان أنه واقع على تلك الصفة : { يوم تمور } أي تتحرك وتضطرب وتجيء وتذهب وتتكفأ تكفأ السفينة وتدور دوران الرحى ، ويموج بعضها في بعض ، وتختلف أجزاؤها بعضها في بعض ، ولا تزول عن مكان؛ قال البغوي : والمور يجمع هذه المعاني فهو في اللغة الذهاب والمجيء والتردد والدوران والاضطراب ، قال الرازي : وقيل : تجيء وتذهب كالدخان ثم تضمحل . { السماء } التي هي سقف بيتكم الأرض { موراً * } أي اضطراباً شديداً { وتسير الجبال } أي تنتقل من أمكنتها انتقال السحاب ، وحقق معناه بقوله : { سيراً } فتصير هباء منثوراً وتكون الأرض قاعاً صفصفاً .

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

ولما حقق العذاب وبين يومه ، بين أهله بقوله مسبباً عن ذلك : { فويل } هي كلمة يقولونها لمن وقع في الهلاك ، ومعناه حلول شر فاضح يكون فيه ندبة وتفجع { يومئذ } أي يوم إذ يكون ما تقدم ذكره { للمكذبين * } أي العريقين في التكذيب وهم من مات على نسبة الصادقين إلى الكذب .
ولما كان التكذيب قد يكون في محله ، بين أن المراد تكذيب ما محله الصدق فقال : { الذين هم } أي من بين الناس بظواهرهم وبواطنهم { في خوض } أي أعمالهم وأقوالهم أعمال الخائض في ماء ، فهو لا يدري أين يضع رجله . ولما كان ذلك قد يكون من دهشة بهم أو غم ، نفى ذلك بقوله : { يلعبون * } فاجتمع عليهم أمران موجبان للباطل : الخوض واللعب ، فهم بحيث لا يكاد يقع لهم قول ولا فعل في موضعه ، فلا يؤسس على بيان أو حجة . ولما صور تكذيبهم بأشنع صورة ، بين ويلهم ببيان ظرفه وما يفعل فيه فقال : { يوم يدّعون } أي يدفعون دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة من كل ما يقيمه الله لذلك ، ذاهبين ومنتهين { إلى نار جهنم } وهي الطبقة التي تلقاهم بالعبوسة والكراهة والغليظ والزفير ، وأكد المعنى وحققه بقوله : { دعاً * } قال البغوي : وذلك أن خزنه جهنم يعلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم فم يدفعون دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم ، مقولاً لهم تبكيتاً وتوبيخاً : { هذه النار } أي الجسم المحرق المفسد لما أتى عليه ، الشاغل عن اللعب { التي كنتم } بجبلاتكم الفاسدة . ولما كان تكذيبهم بها في أقصى درجات التكذيب ، وكان سبباً لكل تكذيب ، كان كأنه مقصور عليه فقال مقدماً للظرف إشارة إلى ذلك ، { بها تكذبون * } أي في الدنيا على التجديد والاستمرار .
ولما كانوا يقولون عناداً : إن القرآن بما فيه من الوعيد سحر ، سبب عن ذلك الوعيد قوله مبكتاً موبخاً متهكماً : { أفسحر هذا } أي الذي أنتم فيه من العذاب مع هذا الإحراق الذي تصلون منه { أم أنتم } في منام ونحوه { لا تبصرون * } بالقلوب كما كنتم تقولون في الدنيا { قلوبنا في أكنة } [ فصلت : 5 ] ولا بالأعين كما كنتم تقولون للمذرين { من بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون } [ فصلت : 5 ] أي أنتم عمي عن المخبر عنه مع إحراقه لهم كما كنتم عمياً عن الخبر أي هل تستطيعون أن تقولوا إنكم لا تبصرون المخبر عنه كما كنتم تقولون في الخبر كذباً وفجوراً ، ثم يقال لهم بعد هذا التبكيت الذي يقطع بأن جوابهم يكون بأن يقولوا : لا وعزة ربنا ما هو بسحر ولا خيال ، بل هو حقيقة ، ونحن في غاية الإبصار على سبيل الإخزاء ، والامتهان والإذلال : { اصلوها } أي باشروا حرها وقاسوه وواصلوه كما كنتم تواصلون أذى عبادي بما يحرق قلوبهم { فاصبروا } أي فيتسبب عن تكذيبكم في الدنيا ومباشرتكم لها الآن أن يقال لكم : اصبروا على هذا الذي لا طاقة لكم به { أو لا تصبروا } فإنه لا محيص لكم عنها { سواء عليكم } أي الصبر والجزع .
ولما كان المعهود أن الصبر له مزية على الجزع ، بين أن ذلك حيث لا تكون المصيبة إلا على وجه الجزاء الواجب وقوعه فقال معللاً : { إنما تجزون } أي يقع جزاؤكم الآن وفيما يأتي على الدوام { ما كنتم } أي دائماً بما هو لكم كالجبلة { تعملون * } مع الأولياء غير مبالين بهم ، فكان هذا ثمرة فعلكم بهم .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)

ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب المشار إليه بكلمات القسم ، أتبعه ما لأضدادهم من الثواب المنبه عليه أيضاً بتلك الكلمات ليتم الخبر ترغيباً وترهيباً ، فقال جواباً لمن كأنه قال : فما لمن عاداهم فيك؟ مؤكداً لما للكفار من التكذيب : { إن المتقين } أي الذين صارت التقوى لهم صفة راسخة { في جنات } أي بساتين دائماً في الدنيا حكماً وفي الآخرة .
ولما كانت البساتين ربما يشقى داخلها أو صاحبها ، نفى هذا بقوله : { ونعيم * } أي نعيم في العاجل ، يعني بما هم فيه من الأنس ، والآجل بالفعل ، وزاد في تحقيق التنعم بقوله : { فاكهين } أي معجبين متلذذين { بما آتاهم ربهم } الذي تولى تربيتهم بعملهم بالطاعات إلى أن أوصلهم إلى ذهاب النعيم ، فهو لأن عظمته من عظمته لا يبلغ كنه وصفه . ولما كان المتنعم قد تكون نعمته بعد عذاب ، فبين أنهم ليسوا كذلك فقال : { ووقاهم } أي قبل ذلك { ربهم } أي المتفضل بتربيتهم بكفهم عن المعاصي والقاذورات { عذاب الجحيم * } أي النار الشديدة التوقد .
ولما كان من باشر النعمة وجانب النقمة في هناء عظيم ، قال مترجماً لذلك على تقدير القول : { كلوا } أي أكلاً هنيئاً { واشربوا } شرباً { هنيئاً } أي لا نقص فيه ، وهو صفة في موضع المصدر أي هنأتم بمعنى أن كل ما تتناولونه مأمون العاقبة من التخمة والسقم ونحوها { بما كنتم } أي كوناً راسخاً { تعملون * } أي مجددين له على سبيل الاستمرار حتى كأنه طبع لكم .
ولما كان النعيم لا يتم إلا بأن يكون الإنسان مخدوماً ، نبه عليه بقوله : { متكئين } أي مستندين استناد راحة ، لأنهم يخدمون فلا حاجة لهم إلى الحركة { على سرر مصفوفة } أي منصوبة واحداً إلى جنب واحد ، مستوية كأنها السطور على أحسن نظام وأبدعه ، قال الأصبهاني : والصفة : مد الشيء على الولاء . ولما كان السرور لا يتم إلا بالتنعم بالنساء قال : { وزوجناهم } أي تزويجاً يليق بما لنا من العظمة .
ولما كانت تلك الدار غنية عن الأسباب ، فكانوا غنيين عن العقد ، قال مشيراً بالباء إلى صرف الفعل عن ظاهره فإنه إذا كان بمعنى النكاح تعدى بنفسه ، وتضمين الفعل « قرناهم » أي جعلناهم أزواجاً مقرونين { بحور } أي نساء هن في شدة بياض العين وشدة سوادها واستدارة حدقتها ورقة جفونها في غاية لا توصف { عين * } أي واسعات الأعين في رونق وحسن .
ولما وصف حال المتقين من أعداء المكذبين وبدأ بهم لشرفهم ، أتبعهم من هو أدنى منهم حالاً لتكون النعمة تامة فقال : { والذين آمنوا } يعني أقروا بالإيمان ولم يبدلوا ولا بالغوا في الأعمال الصالحة . ولما كان من هؤلاء من لا يتبعه ذريته بسبب إيمانه لأنه يرتد عنه ، عطف على فعلهم تمييزاً لهم واحترازاً عمن لم يثبت قوله : { واتّبعتهم } أي بما لنا من الفضل الناشىء عما لنا من العظمة { ذرياتهم } الصغار والكبار وإن كثروا ، والقرار لأعينهم بالكبار بايمانهم والصغار بإيمانهم آبائهم { بإيمان } أي بسب إيمان حاصل منهم ، ولو كان في أدنى درجات الإيمان ، ولكنهم ثبتوا عليه إلى أن ماتوا ، وذلك هو شرط إتباعهم الذريات ، ويجوز أن يراد وهو أقرب : بسبب إيمان الذرية حقيقة إن كانوا كباراً ، وحكماً إن كانوا صغاراً ، ثم أخبر عن الموصول بقوله : { ألحقنا بهم } أي فضلنا لأجل عمل آبائهم { ذرياتهم } وإن لم يكن للذرية أعمال ، لأنه قيل في المعنى : « ولأجل عين ألف عين تكرم » ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة ، فإن كان معها آخذ لعلم أو عمل كانت أجدر ، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة ، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم

« المرء مع من أحب » في جواب من سأل عمن يحب القوم ولم يلحق بهم .
ولما كان ربما خيف أن ينقص الآباء بسبب إلحاق ذرياتهم بهم شيئاً من درجاتهم ، قال : { وما ألتناهم } أي نقصنا الآباء وحبسنا عنهم { من عملهم } وأكد النفي بقوله : { من شيء } بسبب هذا الإلحاق وكان من فوق رتبتهم من الذين يؤمنون والمؤمنين والمتقين وغيرهم أولى منهم ، وإنما فصلهم منهم لأن هؤلاء قد لا يوقنون قبل دخول الجنة العذاب ، قال جامعاً للفريقين ، أو يقال - ولعله أقرب - أنه لما ذكر اتباع الأدنى للأعلى في الخير فضلاً ، أشفقت النفس من أن يكون إتباع في الشر فأجاب تعالى بأنه لا يفعل بقوله : { كل امرىء } أي من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم { بما كسب } أي من ولد وغيره { رهين * } أي مسابق ومخاطر ومطلوب وآخذ شيئاً بدل كسبه وموفي على قدر ما يستحقه ومحتبس به إن كان عاصياً ، فمن كان صالحاً كان آخذاً بسبب صلاح ولده لأنه كسبه ، ولا يؤخذ به ذلاً وهو حسن في نفسه لأجل الحكم بإيمانه سواء كان حقيقة أو حكماً وكل حسن مرتفع ، فلذلك يلتحق بأبيه ، وأما الإساءة فقاصرة على صاحبها يؤخذ بها ويرهن بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره ، والحاصل أن المعالي التي هي كالحياة تفيض من صاحبها على غيره فتحييه ، والمساوئ التي هي كالموت لا يتعدى صاحبها ، قال الرازي في اللوامع : اعلم أن الذوات بقاؤها ودوامها ببقاء صورها ، فحيث ما كانت الصورة المقومة لها أدوم كانت الذوات بها أقوم ، وأن النفوس الإنسانية ذوات وصورها علومها وأخلاقها ، فحيث ما كانت العلوم حق اليقين ثم عين اليقين ، والأخلاق مقومة على نهج الشرع المبين ، كانت النفوس دائمة بدوامها غير مستحيلة ، إذ لا تتطرق الاستحالة إلى اليقين والعمل الحق ، وغير كائنة ولا فاسدة إذ ليس عن اليقين ولا العلوم الحقيقية من عالم الكون والفساد ، وإن لم تبلغ النفس إلى كمال اليقين فتعلقت بدليل صاحبه كما انخرطت في سلكها حتى يخرط الإنسان في سلك محبته ، لو أحب أحدكم حجراً لحشر معه ، فإن الدين هو الحب في الله والبغض في الله ، ولهذا اكتفى الشرع من المكلفين بالإسلام وتسليم وتفويض وتحكيم دون الوقوف على المسائل العويصة بالبراهين الواضحة الصحيحة ، وما لم يبلغ الولد حد التكليف واخترم ألحقوا بآبائهم وحكم عليهم بحكم عقائدهم وآرائهم حتى يكون حكم آبائهم جارياً عليهم وحكم القيامة نافذاً فيهم ، وأما إذا كانت الصورة القائمة بالذوات مستحيلة بأن كانت جهلاً وباطلاً ينقص أوله آخره وآخره أوله ، كانت ذات النفس لا تنعدم ولا تفنى بل تبقى على حال لا يموت فيها ولا يحي ، فإنها لو فنيت لاستراحت ولو بقيت لاستطابت ، فهي على استحالة بين الموت والحياة ، وهذه الاستحالة لا تكون إلا في أجساد وأبدان

{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها } [ النساء : 56 ] انتهى . وهو كما ترى في غاية النفاسة ، ويؤيده « يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل » ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها من النفي ، أي ما نقصناهم لأنه قد سبق في حكمنا بأن يكون « كل امرىء » قدرنا أن يرتهن بما قد ينقصه { بما كسب } أي لا يضر ما كسب ما كسبه غيره « رهين » أي معوق عن النعيم حتى يأتيه بما يطلق من العمل الصالح .

وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)

ولما جمعهم في إلحاق الذرية بهم لأنهم من أعظم النعيم ، وأمنهم مما قد يخشى من نقصهم بنقصه غيرهم ، وعلل ذلك ليكون أرسخ في النفس ، أتبعه بما يشاكله فقال : { وأمددناهم } أي آمنوا والمتقين ومن ألحق بهم من ذرياتهم بما لنا من العظمة زيادة على ما تقدم { بفاكهة } . ولما كانت الفاكهة ظاهرة فيما يعرفونه في الدنيا وإن كان عيش الجنة بجميع الأشياء تفكها ليس فيه شيء يقصد به حفظ البدن قال : { ولحم مما يشتهون * } ليس فيه شيء منه مما لا يعجبهم غاية الإعجاب .
ولما كان هذا النعيم العظيم المقيم يدعو إلى المعاشرة ، بالقرينة العاطرة ، بين أن ذلك حالهم اللازمة الظاهرة ، من الخصال اللائقة الطاهرة ، فقال : { يتنازعون } أي يشربون متجاذبين مجاذبة الملاعبة لفرط المحبة والسرور وتحلية المصاحبة { فيها كأساً } أي خمراً من رقة حاشيتها تكاد أن لا ترى في كأسها . ولما كان في خمر الدنيا غوائل نفاها عنها فقال : { لا لغو } أي سقط مما يضر ولا ينفع { فيها } أي في تنازعها ولا بسبها لأنها لا تذهب بعقولهم ولا يتكلمون إلا بالحسن الجميل { ولا تأثيم * } أي ولا شيء فيها مما يلحق شرَّابها إثما ولا يسوغ نسبه .
ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ولا يعظم إلا بخدم وسقاة قال : { ويطوف عليهم } أي بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف { غلمان } ولما كان أحب ما إلى الإنسان ما يختص به قال : { لهم } ولم يضفهم لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحد في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعاً ، وأفاد التنكير أن كل من دخل الجنة وجد له خدماً لم يعرفهم قبل ذلك { كأنهم } في بياضهم وشدة صفائهم { لؤلؤ مكنون * } أي مصون في الصدف لم تغيره العوارض ، هذا حال الخادم فما ظنك بالمخدوم .
ولما كان ألذ ما إلى الحبيب وأعظم ما يكون من أربه ذكر محبوبه والثناء عليه بما منّ به ، قال تعالى شارحاً لذلك عاطفاً على ما تقديره : فأقبلوا على تعاطي ما ذكر من النعم : { وأقبل بعضهم } لما ازدهاهم من السرور ، وراقهم من اللذة والحبور { على بعض يتساءلون * } أي يسأل بعضهم بعضاً عن السبب الموصل له إلى هذا النعيم الذي لا يقدر مخلوق على وصفه حق وصفه ، ثم استأنف شرح ذلك بقوله : { قالوا } أي قال كل منهم مؤكداً استلذاذاً بما أداهم إلى ما هم فيه لأنه لا يكاد يصدق ، مسندين النعمة بفعل الكون إلى الله الذي جبلهم جبلة خير ، مسقطين الجار إشارة إلى دوام خوفهم ، تنبيهاً على أن الخوف الحامل على الكف عن المعاصي يشترط فيه الدوام ، بخلاف الرجاء الحامل على الطاعات ، فإنه يكفي فيه ما تيسر كما تأتي الإشارة إليه بإثبات الجار : { إنا كنا قبل } أي في دار العمل { في أهلنا } على ما لهم من العدد والعدد والنعمة والسعة ، ولنا بهم من جوالب اللذة والدواعي إلى اللعب { مشفقين * } أي عريقين في الخوف من الله لا يلهينا عنه شيء مع لزومنا لما نقدر عليه من طاعته لعلمنا بأنا لا نقدره لما له من العظمة والجلال والكبرياء والكمال حق قدره ، وأنه لو واخذنا بأصغر ذنوبنا أهلكنا ، قال الرازي : والإشفاق : دوام الحذر مقروناً بالترحم ، وهو أن يشفق على النفس قبل أن تجمح إلى العناد ، وله أقسام : إشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع ، وإشفاق على الخليقة لمعرفة مقاديرها ، وإشفاق على الوقت أن يشوبه تفرق وعلى القلب أن يمازجه عارض وعلى النفس أن يداخلها - انتهى .

ولما حكى عنهم سبحانه أنهم أثبتوا لأنفسهم عملاً تدريباً لمن أريدت سعادته ، فكان بحيث يظن أنهم رأوه هو السبب لما وصلوا إليه ، قالوا نافين لهذا الظن ، مبينين أن ما هم فيه إنما هو ابتداء تفضل من الله تعالى لأن إشفاقهم منه سبحانه لكيلا يعتمد الإنسان على شيء من عمله فلا يزال معظماً لربه خائفاً منه : { فمنّ الله } الذي له جميع الكمال بسب إشفاقنا منه { علينا } بما يناسب كماله فأمّننا { ووقانا } أي وجنبنا بما سترنا به { عذاب السموم * } أي الحر النافذ في المسام نفوذ السم .

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

ولما ذكروا إشفاقهم ، بينوه مؤكدين أيضاً لمثل ذلك بقولهم : { إنا كنا } أي بما طبعنا عليه وهيئنا له . ولما كان الدعاء بمعنى فعل العبادة ، وكانت تقع في بعض الزمان ، أثبت الجار إشارة إلى ذلك مع إسقاطه قبل هذا في الدعاء بالقوة إشارة إلى أن التحلي بالفضائل يرضى منه باليسر ، والتخلي عن الرذائل لا بد فيه من البراءة عن كل قليل وكثير فقيل : { من قبل } أي في الدنيا { ندعوه } أي نسأله ونعبده بالفعل ، وأما خوفنا بالقوة فقد كان في كل حركة وسكنة ، ثم عللوا دعاءهم إياه مؤكدين لأن إنعامه عليهم مع تقصيرهم مما لا يكاد يفعله غيره ، فهو مما يعجب منه غاية العجب فقالوا : { إنه هو } أي وحده { البر } الواسع الجود الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة ، لأنه لا ينقصه إعطاء ولا يزيده منع ، فهو يبر عبده المؤمن بما يوافق نفسه فربما بره بالنعمة وربما بره بالبؤس ، فهو يختار له من الأحوال ما هو خير له ليوسع له في العقبى ، فعلى المؤمن أن لا يتهم ربه في شيء من قضائه { الرحيم * } المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته ، ثم بإفضاله عليه وإن قصر في خدمته .
ولما كان هذا مع تشويقه إلى الجنة والأعمال الموصله إليها وعظاً يرقق القلوب ويجلي الكروب ، سبب عنه قوله : { فذكر } أي جدد التذكير بمثل هذا لكل من يرجو خيره ودم على ذلك ، وسماه تذكيراً لأنه مما يعلمه الإنسان إذا أمعن النظر من نفسه أو من الآفاق ، وعلل التذكير بقوله : { فما أنت } أي وأنت أشرف الناس عنصراً وأكملهم نفساً وأزكاهم خلائق هم بها معترفون لك قبل النبوة { بنعمت ربك } أي بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك من هذا الناموس الأعظم بعد تأهيلك له بما هيأك به من رجاحة العقل وعلو الهمة وكرم الفعال وجود الكف وطهارة الأخلاق وشرف النسب ، وأكد النفي بقوله : { بكاهن } أي تقول كلاماً - مع كونه سجعاً متكلفاً - أكثره فارغ وتحكم على المغيبات بما يقع خلاف بعضه . ولما كان للكاهن والمجنون اتصال بالجن ، أتبع ذلك قوله : { ولا مجنون * } أي تقول كلاماً لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات ، فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلاً؛ وعما قليل يكون عيباً لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك ، فمن اتبعك منهم غسل عاره ، ومن استمر على عناده استمر تبابه وخساره .
ولما كانت نسبته صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من هذا القرآن الآمر بالحكمة إلى أنه أتى به عن الجن الذين طبعهم الفساد مما لا ينبغي أن يتخيله أحد فضلاً أن يقوله له صلى الله عليه وسلم ، ولا يكاد يصدق أن أحداً يرميه به ، فكان في طيه سؤال تقريع وتوبيخ ، نبه على ذلك بالعطف على ما تقديره : أيقولون هذا القول البعيد من أقوال أهل العقول : { أم يقولون } ما هو أعجب في مجرد قوله فضلاً عن تكريره ، فأم معادلة للاستفهام قبلها لا مقطوعة ، وكذا جميع ما بعدها وهو معنى ما نقله البغوي عن الخليل أنه قال : ما في سورة الطور من ذكر « أم » كله استفهام وليس بعطف .

{ شاعر } يقول كلاماً موزوناً بالقصد ، يلزمه التكلف لذلك فيغلب إلزام الوزن قائله حتى يجعل اللفظ هو الأصل ويجعل المعنى تابعاً له ، فيأتي كثير من كلامه ناقص المعاني هلهل النسج مغلوباً فيه على أمره معترفاً إذا وقف عليه بتقصيره متعذراً مما زانه بهزعم من أوزانه ، وساق سبحانه هذا وكذا ما بعده من الأقسام على طريق الاستفهام مع أن نسبتها إليهم محققة ، تنبيهاً على أن مثل هذا لا يقوله عاقل ، وإن قاله أحد لم يكد الناقل عنه يصدق : { نتربص } أي ننتظر { به ريب المنون * } أي حوادث الدهر من الموت وغيره القاطعة ، من المن وهو القطع .
ولما كان كأنه قيل لهم : إنهم ليقولون ذلك ، قال معلماً جوابهم : { قل تربصوا } ولم يعرج على محاججتهم في قولهم هذا تنبيهاً على أنه من السقوط بمنزلة لا يحتاج معها إلى رد مجادلة ، ثم سبب عن أمره لهم بالتربص قوله : { فإني معكم } وأكده تنبيهاً على أنه يرجو الفرح بمصيبتهم كما يرجون الفرح بمصيبته وإن كانت كثرتهم وقوتهم عندهم مانعة من مثل هذا التربص { من المتربصين * } أي العريقين في التربص وإن ظننتم خلاف ذلك ، وأشار بالمعية إلى أنه مساو لهم في ذلك وإن ظنوا لكثرتهم وقوتهم ووحدته وضعفه أن الأمر خلاف ذلك ، قال القشيري : جاء في التفسير أن جميعهم - أي الذي تربصوا به - ماتوا ، قال : ولا ينبغي لأحد أن يؤمل نفاق سوقه بموت أحد لتنتهي النوبة إليه فقل من تكون هذه صفته إلا سبقته المنية ، ولا يدرك ما تمناه من الأمنية .
ولما كان قولهم هذا مما لا يقال أصلاً وإن قيل على بعده كان قوله كأنه على جهة سبق اللسان أو نحو ذلك ، نبه عليه بمعادلة ما تقديره : أقالوا ذلك ذهولاً : { أم تأمرهم } أي نزين لهم تزييناً يصير مآلهم إليه من الانبعاث كالأمر { أحلامهم } أي عقولهم التي يزعمون أنهم اختصوا بجودتها دون الناس بحيث إنه كان يقال فيهم : أولوا الأحلام والنهي { بهذا } أي وهم يعتقدون صحته وأنه العدل السواء لأنه متقيدون بالأحلام والنهي على ما فيه من الفساد بالتناقض بعد اختلال كل قول منه على حدته كما تقدم بيانه ، وهو توبيخ عظيم بالإشارة إلى أنه ليست لهم عقول أصلاً لقولهم هذا ، فإن الكاهن شرطه أن يكون في غاية المعرفة عندهم حتى أنهم يجعلونه حكماً وربما عبدوه ، والمجنون لا يصلح لصالحة لأنه لا يعقل ، والشاعر بعيد الأمر بوزن الكلام وكثرته من سجع الكاهن وغيره وكلام المجنون : { أم هم } بظواهرهم وبواطنهم { قوم } أي ذوو قوة على ما يحاولونه فهم لذلك { طاغون } أي مجازون للحدود ، وذلك عادة لهم بما أفهمه الوصف ، فهم لذلك لا يبالون بالعناد الظاهر في مخالفته لما تأمر به الأحلام والنهى ، ولا يقوله إلا الطغاة السفهاء مع ظهور الحق لهم ، فهم يقولون الكلام المتناقض غير مبالين بأحد ولا مستحيين من أن ينسبوا إلى العدوان والمبالغة في العصيان ، والآية من الاحتباك : ذكر الأحلام أولاً دليلاً على ضدها ثانياً ، والطغيان ثانياً على ضده « العدل السواء » أولاً ، وسره أن ما ذكر أشد تنفيراً من السوء وأعظم تقبيحاً له وتحذيراً منه { أم يقولون } ما هو أفحش عاراً من التناقض : { تقوله } أي تكلف قوله من عند نفسه كذباً وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون ، وهم على كثرتهم وإلمام بعضهم بالعلم وعرافة آخرين في الشعر والخطب والترسل والسجع يعجزونه عن مثله بل عن مثل شيء منه .

ولما كان الكلام حقيقة في النفس ، وكانوا يعلمون بطلان جميع ما يقولونه من ذلك ، كان التقدير : لم يقولوا شيئاً من ذلك حقيقة واعتقاداً { بل لا يؤمنون * } أي لا يقرون بالحق مع علمهم ببطلان قولهم وتناقضه عناداً منهم لا تكذيباً في الباطن .
ولما كان هذا القول أظهر بطلاناً من كل ما قالوه لأن تكذيبهم لهم على تقدير كذبه - على زعمهم - غير موقوف على شيء خارج عن القوة ، طالبهم بالمعارضة لأنهم إذا عارضوه بمثله انفصل النزاع ، ولذلك سبب عما مضى قوله تكذيباً لهم في قولهم هذا الذي أظهروه بألسنتهم يوقفون به غيرهم عن الخير : { فليأتوا } أي على تقدير أرادوه { بحديث } أي كلام مفرق مجدد إتيانه مع الأوقات لا تكلفهم أن يأتوا به جملة { مثله } أي القرآن في البلاغة وصحة المعاني والإخبار بالمغيبات مما كان أو يكون على ما هي عليه والحكم .
ولما كان المقصود هنا مطلق التعجيز للمكذبين لا بقيد الاجتماع كما في سبحان لأن نزول هذه أوائل ما نزل ، تحداهم بالإتيان بالمثل في التنجيم والتطبيق على الوقائع سوراً أو آيات أو دون ذلك ، تحدث وتتجدد شيئاً في أثر شيء - بما أشار إليه التعبير بالحدوث ، ولذلك أعراه عن تظاهرهم بالاجتماع ودعاء المستطاع ، ولكونهم كاذبين في جزمهم بنسبته إلى التقول وغيره ، أشار إلى ذلك بقوله مقرعاً لهم إلهاباً إلى الخوض في المعارضة : { إن كانوا } أي كوناً هم راسخون فيه { صادقين * } أي في أنه تقوله من عند نفسه شيئاً فشيئاً ، كوناً هم عريقون فيه كما يزعمون سواء ادعوا أنه شاعر أو كاهن أو مجنون أو غير ذلك ، لأن العادة تحيل أن يأتي واحد من قوم وهو مساوٍ لهم بما لا يقدرون كلهم على مثله ، والعاقل لا يجزم بشيء إلا وهو عالم به ، ويلزم من علمهم بذلك قدرتهم على مثل ما يأتي به ، فإنه صلى الله عليه وسلم مثلهم في الفصاحة والبلد والنسب ، وبعضهم يزيد عليه بالكتابة وقول الشعر ومخالطة العلماء ، ومزاولة الخطب والرسائل وغير ذلك ، فلا يقدر على ما يعجزون عنه إلا بتأييد إلهي ، وهو المراد من تكذيبهم ، وقد علم من هذا ومما تقدم من نحوه مفرقاً في السور التي فيها مثله أن المتحدى به في كل سورة غير المتحدى به في الأخرى - والله الهادي ، وهذه الأقسام الماضية من تكذيبهم تتأتى أن تكون على تقدير الاعتقاد للإله على ما هو عليه من صفات الكمال فأتباعها قسماً على تقدير التعطيل ، وإذا لم يكن إله لم يكن رسول فيأتي التكذيب ، ثم أتبع ذلك قسماً آخر هو على تقدير إثبات الإله لكن مع الضعف بالشركة ، ولكون الشركة تارة تكون من المتكلم وتارة من غيره ، قدم منها ما للمتكلم على زعمه ، وقدم تقدير شركته بالخلق ثم بضبط الخزائن ثم بالكتابة ثم بسماع الأسرار ثم بضعف السعة بالرضا بالصنف الأردأ .

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)

ولما مضت فضيحتهم بالتحدي ، وكانت عندهم فضيحة التناقض دون فضيحة المعارضة ، فكانوا يقدمونها عليها ، فلم يحدث أحد منهم يوماً من الأيام بشيء مما يعارضه به علماً منهم بأنهم يصيرون بذلك إلى خزي لا يمكن أن يغسل عاره كما صار مسيلمة ، لأنهم كانوا أعقل العرب وكان التقدير كما هدى إليه السياق : فإنك مستوٍ معهم بالنسبة إلى إيجاد الله لكم ، هو سبحانه خالقهم كما أنه خالقك ، ولا خصوصية لك منه على زعمهم : أهو خالقهم كما هو خالقك فيلزمهم أن يأتوا بمثل ما تأتي به ، وكان ذلك على تقدير إقرارهم بالله وادعائهم لكذبه صلى الله عليه وسلم ، عادله سبحانه تبكيتاً لهم وإظهاراً لفضائح هي أشنع مما فروا منه من المعارضة بقوله على تقدير أن يكونوا منكرين للإله أو مدعين لأن يكونوا آلهة : { أم خلقوا } أي وقع خلقهم على هذه الكيفية المتقنة { من غير شيء } فيكونوا مخالفين لصريح العقل إذ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم كتعلقه بالمخلوق ليسلم لهم أنك تأتي بما لا يقدرون على معارضته لأنك أقوى منهم بكونك مستنداً إلى خالق وهم ليسوا مستندين إلى شيء أو ليكونوا لذلك أقوى منك وأعلى ، فيكون لهم التكبر عليك { أم هم الخالقون * } أي الذين لهم هذا الوصف فيكونون قد خلقوا أنفسهم ليكونوا بذلك شركاء فيكون الخالق والمخلوق واحداً ، وهو مثل القسم الذي قبله في عدم الاستناد إلى شيء أو يكون ثبوت هذا الوصف لهم موجباً لأن يكونوا على ثقة مما يقولون وللتكبر عليك ، فإن ادعوا ذلك حكم أدنى الخلق بجنونهم؛ { أم خلقوا } أي على وجه الشركة { السماوات والأرض } فهم لذلك عالمون بما فيها على وجه الإحاطة واليقين حتى علموا أنك تقولته ليصير لهم رده والتهكم عليه .
ولما كان التقدير : لم يكن شيء من ذلك ليكون لهم شبهة في الكلام فيك ، عطف عليه قوله : { بل لا يوقنون * } أي ليس لهم نوع يقين ليسكنوا إلى شيء واحد لكونه الحق أو ليعلموا أن هذه الملازم الفاضحة تلزمهم فيكفوا عن أمثالهم { أم عندهم } أي خاصة دون غيرهم { خزائن } ولما كان ذكر الرحمة لا يقتضيه مقصود السورة الذي هو العذاب ، لم تذكر كما في ص وسبحان فقيل : { ربك } المحسن إليك بإرسالك بهذا الحديث فيعلموا أن هذا الذي أثبت به ليس من قوله لأنه لا تصرف له في الخزائن إلا بهم ، فيصح قولهم : إنك تقولته وحينئذ يلزمهم فضائح لا آخر لها ، منها أن يأتوا بحديث مثله بل أحسن منه من تلك الخزائن { أم هم } لا غيرهم { المسيطرون * } أي الرقباء الحافظون والجبارون والمسلطون الرؤساء الحكماء الكتبة ، ليكونوا ضابطين للأشياء كلها كما هو شأن كتّاب السر عند الملوك فيعلموا أنك تقولت هذا الذكر لأنهم لم يكتبوا به إليك { أم لهم سلّم } يصعدون به إلى السماء { يستمعون } أي يتعمدون السمع لكل ما يكون فيها ومنها { فيه } أي في ذلك السلم وبسببه كما يكون بعض من يحضر مجالس الملوك في الدنيا ويعلم ما يقع فيها ليكونوا ضابطين لما يأتي من الملك فيعلموا أن ما قالوه فيك حق ولما كان من يكون هكذا متمكناً من الإتيان منها بالعجائب ، سبب عنه قوله : { فليأت مستمعهم } إن ادعوا ذلك { بسلطان مبين * } أي حجة قاهرة بينة في نفسها ، موضحة لأنها من السماء على صحة ما يرمونك به .

أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

ولما كان ما مضى على تقدير وجود الإله مع الشركة ، وكان ادعاؤهم الولد عظيماً جداً لدلالته على حاجته وضعفه ، وكان جعله بنات أعظم لأنه دال مع ضعفه على سفهه ، دل على استعظامه بالالتفات إلى خطابهم بعذابهم فقال : { أم له البنات } أي كما ادعيتم { ولكم } أي خاصة { البنون * } لتكونوا أقوى منه فتكذبوا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وتردوا قوله من غير حجة فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوتكم ، وهذه الأقسام كلها على تقدير التكذيب ، وهي هنا بذكر ما على تقدير التصديق ، وإنما وقع الرد فيها لعارض عرض .
ولما كان المكذب بشيء قد يكون معترفاً بأنه من عند إله ، وأن إلهه متصف بجميع صفات الكمال فلا شريك له ، وإنما تكذيبه لقادح لا يقدر عليه ، وكرب رمى بجميع أنكاده إليه ، أعرض عنهم التفاتاً إلى الأسلوب الأول فقال مخاطباً له صلى الله عليه وسلم تنويهاً بذكره ورفعاً لعظيم قدره وتسلية لما يعلم من نفسه الشريفة البراءة منه : { أم تسألهم } أي أيها الطاهر الشيم البعيد عن مواضع التهم { أجراً } على إبلاغ ما أتيتهم به { فهم من مغرم } ولو قل ، والمغرم : التزام ما لا يجب { مثقلون * } أي حمل عليهم حامل بذلك ثقلاً فهم لذلك يكذبون من كان سبباً في هذا الثقل بغير مستند ليستريحوا مما جره لهم من الثقل .
ولما كان من يدعي الانفراد بشيء يحسد من يدعي مشاركته فيه قال : { أم عندهم } أي خاصة بهم { الغيب } أي علمه { فهم يكتبون * } أي يجددون للناس كتابة جميع ما غابة عنهم مما ينفعهم ويضرهم حتى يحسدونك فيما شاركتهم به منه ، فيردوه لذلك ، وينسبوك إلى ما نسبوك إليه مما يعلم كل أحد ترافعك عنه وبعدك منه { أم يريدون } بهذا القول الذي يرمونك به { كيداً } أي مكراً أو ضرراً عظيماً يطفئون به نور الله بزعمهم مع علمهم بأنك صادق فيه ، فهم بسبب إرادتهم ذلك هكذا كان الأصل ، ولكنه قال تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف : { فالذين كفروا } أي ستروا الأجلة تارة عناداً وتارة بالإعراض عن تأملها { هم } أي خاصة { المكيدون * } أي يختص وبال الكيد بلزومه لهم وقطعه لدابرهم لأن من كان الإله عليه كان خاسراً ، وأقرب مآلهم من الكيد الظاهر في بدر عن انتهاء سنين عدتها عدة ما هنا من « أم » وهي خمسة عشرة مرة لأن بدراً كانت في الثانية من الهجرة ، وهي الخامسة عشرة من النبوة ، فقد سبب الله فيها من الأسباب ما أوجب سعيهم إلى هلاكهم بأمور خارقة للعادة ، فلو كانت لهم بصائر لكفتهم في الهداية ، والرد عن الضلالة والغواية .
ولما كان التقدير : أكذلك الأمر عادله بقوله : { أم لهم إله } يمنعهم من التصديق بكتابنا ، أو يستندون إليه للأمان من عذابنا { غير الله } الذي أحاط بجميع صفات الكمال ، فلا يمكن بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير أن يكون معه إله ، ولذلك وصل به قوله : { سبحان الله } أي الملك الأعظم الذي تعالى أن يداني جنابه شائبة نقص { عما يشركون } من الأصنام وغيرها ، وأخر سبحانه هذا القسم وهو من الشركة لكن بالغير لأنه آت على تقدير التصديق للرسول صلى ولأنه دينهم الذي أوقفهم عن الهدى ، فأوقعهم في الردى ، ليحتم بنفسه والتنزيه عن الإقسام فيحصل به غاية القصد والمرام .

والحاصل أنه قسم به سبحانه حالهم في ردهم القرآن إلى التكذيب وغيره ، ولما كان التكذيب - وهو النسبة إلى الكذب وهو عدم المطابقة للواقع - إما في الإرسال ، وإما في المعاني ، وما وقع به الإرسال إما لنقص في الرسول وإما النقص في المرسل ، والذي في الرسول إما أن يكون لأمر خارج عنه أو لأمر داخل فيه ، ولما كان الخارج قد يكون معه نقص دخل بذاته ، ولما كان ذلك قد يكون فيه ما يمدح به ولو من وجه ، وهو الكهانة بدأ بها ، وأتبعه الداخل لذلك بادئاً بما قد يمدح به وهو الشعر . ولما كان القول بجمع الكهانة والشعر والجنون في شخص واحد على غاية من ظهور التناقص لا يخفى ، أتبعها الرمي بالتهكم على عقولهم . ولما كان الكذب في الرمي بالتقول قد يخفى ، أتبعه دليله بالعجز عن المعارضة . ولما قسم ما رموا به الرسول ، أتبعهم ما ألزمهم به في المرسل ، ولما كان ذلك إما أن يكون بالتعطيل أو لا ، وكان التعطيل أشد ، بدأ به وهو الخلق من غير شيء ، ولما كان النقص مع الإقرار بالوجود إما أن يكون بالشركة أولاً ، وكان بالشركة إما أن يكون المكذب هو المشارك أولاً ، وكانت الشركة المكذب أقعد في التكذيب بدأبها ، ولما كانت شركة المكذب إما أن تكون في الخلق أو لا ، وكان الأول إما أن يكون بخلق النفس أو الغير ، وكانت الشركة بخلق النفس ألصق ، بدأ بها قوله : { أم هم الخالقون } ولما كانت الشركة بغير الخلق إما أن يكون بضبط الحواس أو لا ، وكان الثاني إما أن يكون بضبط الكتاب فيها وإليه الإشارة بالمسيطر ، أو بضبط ما يؤمر به فيها وإليه الإشارة بالسلم أو بسفه صاحب الخزائن لرضاه بالبنات ، وكان كل قسم أشد مما بعده رتبه هكذا . ولما انتهى ما يرجع إلى التكذيب ، أتبعه الرد لا للتكذيب بل لأمر آخر ، ولما كان ذلك الأمر إما من الآتي أو من المأتي إليه أو من غيرهما ، كان ما من الآتي ألصق بدأ به وهو المغرم ، ولما كان ما من المأتي إليه إما لحسد أو غيره ، وكان أمر الحسد أشد ، بدأ به وهو المشاركة في الأبناء بما يكون به الفخر والرئاسة وهو علم الغيب - الناظر بوجه للكهانة المبدوء بها في قسم التكذيب ، وآخر ما من الغير وهو الشريك المانع لهم من القبول ، وخلطه بهذا القسم مع كونه قسيماً لما فرض فيه المكذب مشاركاً لخلوه عما قارن تلك الأقسام من التكذيب ، هذا تمام القول في إبطال ما لزمهم فيما تقولوه في أمر القرآن ، وقد تضمن ما ترى من تأصيله وتقسيمه وتفصيله من بيان مقدورات الله وعجائب مصنوعاته ما ألزمهم حتماً التوحيد الملزم بتصديق الرسالة والإذعان للحق مع ما له من الإعجاز في ترتيبه ونظمه وتهذيبه وتسهيله وتقريبه مجلوا أسلوبه العظيم بألفاظ هي الدر النظيم ، ومعان علت عن لاحق بغريزة أو تعليم ، يكاد لها أثبت القلوب يهيم فيطير ، وأبلغ البلغاء في افنان روحها يتدله ويحير ، فكان ذلك كما قال جبير بن مطعم رضي الله عنه كما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور ، وقال البخاري في التفسير : فلما بلغ هذه الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } { أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون } كاد قلبي يطير ، وقال ابن ماجه : فلما سمعه يقرأ { أم من غير شيء أم هم الخالقون } - إلى قوله - { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } كاد قلبي يطير .

وسبق في أول السورة ما ذكره البغوي من هذا الحديث .

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

ولما كان التقدير تسكيناً لقلب من يريد إجابتهم إلى الآيات المقترحات طمعاً في إيمانهم : فلقد تلونا عليهم في هذه السورة وغيرها من الآيات ، وخلونا من المعجزات البينات ، وأتينا من تناقضهم في هذه التقسيمات ، بما يهد الجبال الشامخات ، وبينا من فضائحهم بحسن سوقها وحلاوة ذوقها ، وصحة معانيها وإحكام مبانيها ، ما يزلزل الراسيات ، ويحل العزمات ، ويفرج الأزمات ، ويصد ذوي المروات عن أمثال هذه النقائص الفاضحات ، لما لها من الأدلة الواضحات ، ولكنهم لما ألزمناهم به من العكس لا يؤمنون ، وكدناهم بما أعمينا من بصائرهم فهم لا يعلمون أنهم المكيدون ، عطف عليه قوله : { وإن يروا } أي معاينة { كسفاً } قطعة ، وقيل : قطعاً واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر { من السماء } نهاراً جهاراً { ساقطاً يقولوا } لدداً وتجلداً في البغي إصراراً ، وتعلقهم بما أمكنهم من الشبه تخييلاً على العقول وإيقافاً لذوي الآراء والفهوم دأب الأصيل في نصر الباطل ومكابرة الحق لما لهم من العراقة في عمى القلوب بما لنا من القدرة على صرفهم عن وجوه الأمر : هذا { سحاب } فإن قيل لهم : هو مخالف للسحاب بصلابته ، قالوا : { مركوم * } أي تراكم بعضه على بعض فتصلب ، ولذلك سبب عن هذا الحال الدال على أنهم وصلوا في عمى البصائر إلى أنه لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون ، قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعه : { فذرهم } أي اتركهم على شر أحوالهم { حتى يلاقوا } سعياً بسوء أعمالهم { يومهم } كما أنه هو يسعى إليهم لاستحقاقهم لما فيه { الذي فيه } لا في غيره لأن ما حكمنا به لا يتقدم ولا يتأخر { يصعقون * } بالموت من شدة الأهوال وعظيم الزلزال كما صعق بنو إسرائيل في الطور ، ولكنا لانقيمهم كما أقمنا أولئك إلا عند النفخ في الصور لنحشرهم إلى الحساب الذي يكذبون به ، والظاهر أن هذا اليوم يوم بدر فإنهم كانوا قاطعين بالنصرة فيها فما أغنى أحد منهم عن أحد شيئاً كما قال أبو سفيان بن الحارث : ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا . { يوم لا يغني } أي بوجه من الوجوه { عنهم كيدهم } الذي يرمونه بهذه الأقوال المتناقضة { شيئاً } أي من الإغناء في دفع شيء يكرهونه من الموت ولا غيره كما يظنون أنه يغني عنهم في غير ذلك من أحوال هذه الدار بتثبيط الناس عن اتباع القرآن بما يصفونه به من البهتان { ولا هم ينصرون * } أي لا يتجدد لهم نصر من أحد ما في ساعة ما .
ولما أفهم هذا الكلام السابق أن التقدير : فإن لكل ظالم في ذلك اليوم عذاباً لا يحيط به الوصف ، فإن الإصعاق من أشد ما يكون من العذاب ، عطف عليه قوله مؤكداً لما لهم من الإنكار أي ينصر عليهم المؤمنون وهم من الكثرة والقوة بحيث لا مطمع فيهم لأحد لا سيما لمن هم مثل في الضعف والقلة { وإن } وكان الأصل لهم ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : { للذين ظلموا } أي أوقعوا الأشياء في غير مواقعها كما يقولونه في القرآن ، ويفعلونه من العصيان ويعتقدون من الشرك والبهتان { عذاباً دون ذلك } أي غير عذاب ذلك اليوم الصعب المرير ، أو أدنى رتبة منه ، إن كان المراد بالعصق ما يكون بعد البعث فبعذاب البزرخ في القبور ، وإن كان المراد به الموت فيما يلقونه في الدنيا من عذابي بواسطتكم مثل تحيزكم إلى الأنصار في دار الهجرة ومعدن النصرة وصيرورتكم في القوة بحيث تناصبونهم الحرب ، وتعاطونهم الطعن والضرب ، فتكونوا بعد أن كنتم طوع أيديهم قذى في أعينهم وشجاً في حلوقهم ودحضاً لأقدامهم ونقضاً لإبرامهم ، ومثل القحط الذي حصل لهم والسرايا التي لقيتموها فيها مثل سرية حمزة أسد الله وأسد رسوله ، وعبيدة بن الحارث وعبيد الله بن جحش التي كانت مقدمة لغزوة بدر .

ولما كان بعضهم يبصر هذا مثل عتبة بن ربيعة والوليد بن مغيرة والنضر بن الحارث ويقولون : والله ما هو شاعر ولا كاهن ولا ساحر ولا مجنون ، وليكونن لقوله الذي يقول نبأ ، قال : { ولكن أكثرهم } بسبب ما يرون من كثرتهم وحسن حالهم في الدنيا وقوتهم { لا يعلمون * } أي يتجدد لهم علم بتقويتكم عليهم لأنهم لا علم لهم أصلاً حتى يروا ذلك معاينة .
ولما كان العلم المحيط من الملك القاهر أعظم مسل للولي وأكبر مخيف للعدو ، قال عاطفاً على { فذرهم } أو على ما تقديره : فكن أنت العلماء بذلك ليكون فيه لك أعظم تسلية : { واصبر } أي أوجد هذه الحقيقة لتصبر على ما أنت فيه من أداء الرسالة وما لها من الكلف من أذى الناس وغيره ولكونه في مقام الإعراض عن الكفار وكون إعراضه عنهم أصعب عليه من مقاساة إنذاره وإن نشأ عنها تكذيبهم واستهزاؤهم ، اشتدت العناية هنا بالصبر فقدم ، وأيضاً فإن الإعراض عنهم مقتض لعدهم فانين ، وذلك هو مقام الجمع ، والجمع لا يصلح إلا بالفرق ، فلذلك قدم الأمر بالصبر ، وذكر الحكم إشارة إلى أنه متمكن في مقام الفرق كما أنه عريق في مقام الجمع بخلاف المدثر ، فإن سياقها للإنذار الناشىء عنه غاية الأذى فاشتدت العناية هناك بتقديم ذكر الإله نظراً إلى الفناء عن الفانين وإن كان مباشراً لدعائهم ، وعبر بما يذكر بحسن التربية زيادة في التعزية فاقتضى هذا السياق أن رغبه سبحانه بقوله : { لحكم ربك } أي المحسن إليك فإنه هو المريد لذلك ولو لم يرده لم يكن شيء منه ، فهو إحسان منه إليك وتدريب لك وترقية في معارج الحكم ، وسبب عن ذلك قوله لما يغلب على الطبع البشري في بعض أوقات الامتحان من نوع نسيان : { فإنك بأعيننا } جمع لما اقتضته نون العظمة التي هذا سياقها ، وهي ظاهرة في الجمع وإشارة إلى أنه محفوف بالجنود الذين رؤيتهم من رؤيته سبحانه فهو مكلوء مرعى به وبجنوده وفاعل في حفظه فعل من له أعين محيطة بمحفظه من كل جهة من جهاته .

ولما كانت الطاعة أعظم ناصر وأكبر معز ، وكانت الصلاة أعظمها قال : { وسبح } أي أوقع التنزيه عن شائبة كل نقص بالقلب واللسان والأركان ، متلبساً { بحمد ربك } أي المحسن إليك ، فأثبت له كل كمال مع تنزيهه له عن كل نقص ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يريد إلا ما هو حكمة بالغة { حين تقوم * } أي من الليل في جميع الأوقات التي هي مظنة القيام على الأمور الدنيوية والأشغال النفسانية ، وهي أوقات النهار الذي هو للانتشار بصلاة الصبح والظهر والعصر ، وتحتمل العبارة التسبيح عند كل قيام بكفارة المجلس وهو « سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله أنت أستغفرك وأتوب إليك » فإنها تكفر ما كان في المجلس - كما رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح غريب والنسائي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { ومن الليل } الذي هو محل السكون والراحة { فسبحه } كذلك بالنية والقول كلما انتبهت وبالفعل بصلاة المغرب والعشاء وصلاة الليل ، ولتعظيمه صرح بذلك وقدمه على الفعل ، والضمير يعود على المضاف إليه ، وأشار إلى التهجد بعد دخوله فيما قبله بقوله : { وإدبار النجوم * } أي وسبحه في وقت إدبارهم أي إذا أدبرت ، وذلك من آخر الليل في نصفه الثاني : وكلما قارب الفجر كان أعلى وبالإجابة أولى ، وإلى قرب الفجر تشير قراءة الفتح جمع دابر أي في أعقابها عند خفائها أو أفولها ، وذلك بصلاة الفجر سنة وفرضاً أحق وأولى لأنه وقت إدبارها حقيقة ، فصارت عبادة الصبح محثوثاً عليها مرتين تشريفاً لها وتعظيماً لقدرها فإن ذلك ينجي من العذاب الواقع ، وينصر على العدو الدارع ، من المجاهر المدافع ، والمنافق المخادع ، وقد رجع آخرها على أولها ، ومقطعها على موصلها ، بحلول العذاب على الظالم ، وبعده عن الطائع السالم - والله الموفق .

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)

ولما ختمت الطور بأمره صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والتحميد ، وكان أمره تكويناً لا تكليفاً ، فكان فاعلاً لا محالة ، وذاك بعد تقسيمهم القول في النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن وساحر ومجنون ، وكان لذلك تعلق بالشياطين ، وكانت الشياطين مباينة للقرآن بختلها وبمنعها بالرجوم من النجوم كما بين آخر الشعراء ، افتتحت هذه بالحث على الاهتداء بهدية والاستدلال بدله واتباع أثره ، ولما كان من ذلك تسبيحه بالحمد في إدبار النجوم أقسم أول هذه بالنجم على وجه أعم مما في آخر تلك فعبر بعبارة تفهم عروجه وصعوده لأنه لا يغيب في في الأفق الغربي واحد من السيارة إلا وطلع من الأفق الشرقي في نظير له منها لما يكون عند ذلك من تلك العبارة العالية ، والأذكار الزاكية ، مع ما فيه من عجيب الصنع الدال على وحدانية مبدعه من زينة السماء التي فيها ما توعدون والحراسة من المردة حفظاً لنجوم الكتاب والاهتداء به الدين والدنيا ، وغير ذلك من الحكم التي يعرفها الحكماء ، فقال تعالى : { والنجم } أي هذا الجنس من نجوم السماء أو القرآن لنزوله منجماً مفرقاً وهم يسمون التفريق تنجيماً - أو النبات ، قال البغوي : سمي النجم نجماً لطلوعه وكل طالع نجم . { إذا هوى } أي نزل للأفول أو لرجم الشياطين عند الاستراق كما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما إن كان المراد السمائي ، فكانت عنده العبادة والاستغفار والدعاء للملك الجبار بالأسحار ، أو صعد فكان به اهتداء المصلي والقارئ والساري ، فإنه يقال : هوى هوياً - بالفتح إذا سقط ، وبالضم - إذا علا وصعد ، أو نزل به الملك للإصعاد وللإبعاد إن كان المراد القرآني لما يحصل من البركات في الدين والدنيا والشرح للصدور ، والاطلاع على عجائب المقدور ، أو إذا سقط منبسطاً على الأرض أو ارتفع عنها إن كان المراد النبات ، لما فيه من غريب الصنعة وجليل التقدير الدال على عام القدرة وكمال العلم والتوحد بالملك والغنى المطلق .
ولما أقسم بهذا القسم الجليل ، أجابه بقوله معبراً بالماضي نفياً لما كانوا رموه به وليسهل ما قبل النبوة فيكون ما بعدها بطريق الأولى : { ما ضل } أي عدل عن سواء المحجة الموصلة إلى غاية المقصود أي أنه ما عمل الضالين يوماً من الأيام فمتى تقول القرآن عنده ولا علم فيه عمل المجانين ولا غيرهم ما رموه به وأما { وجدك ضالاً } [ الضحى : 7 ] فالمراد غير عالم ، وعبر بالصحبة مع كونها أدل على القصد مرغبة لهم فيها ومقبلة بهم إليه ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره وهم يعرفون طيب أعرافه وطهارة شمائله وأخلاقه فقال : { صاحبكم } أي في إنذاره لكم في القيامة فلا وجه لكم في اتهامه .

ولما كان الهدى قد يصحبه ميل لا يقرب الموصول إلى القصد وإن حصل به نوع خلل في القرب أو نحوه فقد يكون القصد مع غير صالح قال : { وما غوى * } وما مال أدنى ميل ولا كان مقصوده مما يسوء فإنه محروس من أسبابه التي هي غواية الشياطين وغيرها ، وقد دفع سبحانه عن نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأما بقية الأنبياء فدفعوا أنفسهم { ليس بي ضلالة } [ الأعراف : 61 ] { ليس بي سفاهة } [ الأعراف : 67 ] ، ونحو ذلك - قاله القشيري .
ولما كان قد يكون مع الهدى مصادفة قال : { وما ينطق } أي يجاوز نطقه فمه في وقت من الأوقات لا في الحال ولا في الاستقبال ، نطقاً ناشئاً { عن الهوى } أي من أمره كالكاهن الذين يغلب كذبهم صدقهم والشعراء وغيرهم ، وما تقول هذا القرآن من عند نفسه . ولما أكد سبحانه في نفسه ذلك عند التأكيد تنزيهاً له عما نسب إليه ، فكان ذلك مظنة السؤال عن أصل ما تقوله ، أجاب بالحصر والآية أصرح وأدفع لإنكارهم البالغ فقال : { إن } أي ما { هو } أي الذي يتكلم به من القرآن وبيانه ، وكل أقواله وأفعاله وأحواله بيانه { إلا وحي } أي من الله تعالى ، وأكده بقوله : { يوحى * } أي يجدد إليه إيحاؤه منا وقتاً بعد وقت ، ويجوز أن يجتهد صلى الله عليه وسلم ، فإذا استقر اجتهاده على شيء أوحي مع أن من يرد ما يجتهد فيه إلى ما أوحي إليه بريء من الهوي .
وقال أبو جعفر ابن الزبير في برهانه : لما قطع سبحانه تعليقهم بقوله : ساحر وشاعر ومجنون - إلى ما هو به مما علموا أنه لا يقوم على ساق ، ولكن شأن المنقطع المبهوت أن يستريح إلى ما أمكنه وإن لم يغن عنه ، أعقب الله سبحانه بقسمة على تنزيه نبيه وصفيه من خلقه عما تقوله وتوهمه الضعفاء فقال تعالى : { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى } ثم أتبع سبحانه هذا القسم ببسط الحال في تقريبه عليه السلام وإدنائه وتلقيه لما يتلقاه من ربه وعظيم منزلته لديه ، وفي إبداء ذلك يحركهم عزّ وجلّ ويذكرهم ويوبخهم على سوء نكاياتهم بلطف واستدعاء كريم منعم فقال تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى } والتحمت الآي على هذه الأغراض إلى الإعلام بانفراده سبحانه بالإيجاد والقهر والإعزاز والانتقام ، لا يشاركه في شيء من ذلك غيره فقال : { وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى } . ولما بين ذلك فقال : { فبأي آلاء ربك تتمارى } أي في أيّ نعمة تشكون أم بأي آية تكذبون؟ ثم قال : { هذا نذير من النذر الأولى } وإذا كان عليه الصلاة والسلام . . . فشأن مكذبيه شأن مكذبي غيره - انتهى .
ولما كان الوحي ظاهراً فيما بواسطة الملك ، تشوف السامع إلى بيان ذلك فقال مبيناً له بأوصافه لأن ذلك أضخم في حقه وأعلى لمقداره : { علمه } أي صاحبكم الوحي الذي أتاكم به { شديد القوى * } أفلا تعجبون من هذه البحار الزاخرة التي فأقكم بها وهو أمي فإن معلمه بهذه الصفة التي هو بها بحيث ينفذ كل ما أمره الله به { ذو مرة } أي جزم في قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما أمر به والطاقة لحمله في غير آية النشاط والحدة كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة فهو صعب المراس ماض في مراوته على طريقة واحدة على غاية من الشدة لا توصف لا التفات له بوجه إلى غير ما أمر به ، فهو على غاية الخلوص فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة ، لا بيان في شيء بزواله ومن جملة ما أعطى من القوة والقدرة على التشكل ، وإلى ذلك كله أشار بما سبب عن هذا من قوله : { فاستوى * } فاستقام واعتدل بغاية ما يكون من قوته على أكمل حالاته في الصورة التي فطر عليها { وهو } أي والحال أن جبرائيل عليه السلام ، وجوزوا أن يكون الضمير المنفصل للنبي صلى الله عليه وسلم أي استوى جبرائيل عليهما السلام معه { بالأفق الأعلى * } أي الناحية التي هي النهاية في العلو والفضل من السماوات مناسبة لحالة هذا الاستواء ، وذلك حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم جالساً على كرسي بين السماء والأرض قد سد الأفق .

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)

ولما كان الدنو من الحضرة الإلهية - التي هي مهيئة لتلقي الوحي - من العلو والعظمة بحيث لا يوصف ، أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال : { ثم } أي بعد ذلك الاستواء العظيم { دنا } أي جبرائيل عليه السلام من الجناب الأقدس دنو زيادة في كرامة لا دنو مسافة ، وكل قرب يكون منه سبحانه فهو مع أنه منزه عن المسافة يكون على وجهين : قرب إلى كل موجود من نفسه ، وقرب ولاية حتى يكون سمع الموجود وبصره بمعنى أنه لا يسمع ولا يبصر إلا ما يرضاه - أشار إليه ابن برجان ، فأخذ الوحي الذي أذن له في أخذه في ذلك الوقت { فتدلّى } عقب ذلك من الله رسولاً إلى صاحبكم أي أنزل إليه نزولاً هو فيه كالمتدلي إليه بحبل فوصل إليه ولم ينفصل عن محله من الأفق الأعلى لما له من القوة والاستحكام ، قال البيضاوي : فإن التدلي هو استرتسال مع تعلق كتدلي الثمرة { فكان } في القرب من صاحبكم في رأي من يراه منكم { قاب } أي على مسافة قدر { قوسين } من قسيكم ، قال الرازي في اللوامع : أي بحيث الوتر في القوس مرتين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : القوس الذراع بلغة أزدشنوءة ، وقال ابن برجان : قاب القوسين : ما بين السيين ، وقيل : ما بين القبضة والوتر { أو أدنى * } بمعنى أن الناظر منكم لو رآه لتردد وقال ذلك لشدة ما يرى له من القرب منه صلى الله عليه وسلم ، روى مسلم في الإيمان من صحيحه عن الشيباني قال : « سألت زر بن حبيش عن قوله تعالى { فكان قاب قوسين } فقال : أخبرني ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبرائيل عليه السلام له ستمائة جناح » { فأوحى } أي ألقى سراً من كلام الله بسبب هذا القرب ، وعقبه بقوله : { إلى عبده } أي عبد الله ، وإضماره من غير تقدم ذكره صريحاً لما هو معلوم مما تقدم في آخر الشورى أن كلام الله يكون وحياً بواسطة رسول يوحي بإذنه سبحانه ، والمقام يناسب الإضمار لأن الكلام هو الوحي الخفي ، وعبر بالبعد إشارة إلى أنه لم يكن أحد ليستحق هذا الأمر العظيم غيره لأنه لم يتعبد قط لأحد غير الله ، وكل من عاداه حصل منهم تعبد لغيره في الجملة ، فكان أحق الخلق بهذا الوصف مع أنه كان يتعبد لله في غار حراء وغيره ، وهذه النزلة - والله أعلم - كانت على هذا التقدير في أول الوحي لما كان بحراء وفرق منه صلى الله عليه وسلم فرجع ترجف بوادره ، وقال : زملوني زملوني . وأشار إلى عظمة ما أنزل بقوله : { ما أوحى * } أي إنه يجل عن الوصف فأجمل له ما فصل له بعد ذلك ، هذا الذي ذكر من تفسير لضمائر مظاهر العبارة وإن كان الإضمار في جميع الأفعال لا يخلو عن التباس وإشكال ، ويمكن لأجل احتمال الضمائر لما يناسبها من الظواهر أن يكون ضمير { دنا } وما بعده لله تعالى ، وحينئذ يصير في { عبده } واضحاً كما تقدم في هذا الوجه جعله له سبحانه لأنه لا يجوز لغيره ، روى البخاري في التوحيد في باب { وكلم الله موسى تكليماً } عن أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة « أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم » : أيهم هو؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، وكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبرئيل عليه السلام فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه ، ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء : من هذا؟ فقال : جبرئيل ، قالوا : ومن معك ، قال : معي محمد ، قالوا : وبعث إليه ، قال : نعم ، قالوا : فمرحباً به وأهلاً - ثم ذكر عروجه إلى السماوات السبع ، وأنه لما وصل إلى السماء السابعة علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى منه فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه فيما يوحي الله إليه خمسين صلاة - فذكر مشورة موسى عليهما السلام في سؤال التخفيف حتى صارت خمساً كل واحدة بعشرة ، ودنا الجبار رب العزة في هذا الوجه وهو رب العزة « وهو في غاية الحسن إذا جمعته مع ما يأتي في هذا الوجه المنقول عن جعفر الصادق رضي الله عنه فيكون المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لما استوى بالأفق الأعلى فوصل إلى حد لا يمكن المخلوق الصعود عنه تنزل له الخالق سبحانه ، ولذلك عبر عنه ب { ثم } يعني أنه سبحانه تنزل له تنزلاً لا يمكن الاطلاع على كنه رتبته في العلو والعظمة ، ثم نزل ثم تنزل .

ولما كانت العبارة ربما أوهمت شيأ لا يليق به نفاه صلى الله عليه وسلم بما في الرواية من تخصيص التعبير باسم الجبار فعلم أنه قربه تقريباً يليق به ، وسمى ذلك دنواً فكان الدنو والتدلي تمثيلاً لما وصل منه سبحانه إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم بغاية السهولة واليسر واللطافة مع اتصاله بالحضرات القدسية ، والتعبير بالتدلي لإفهام العلو مثل ما كني بالنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا عن إجابة الدعاء بفتح أبواب السماء كما رويناه في جزء العيشي من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه تمثيلاً بما نعرفه من حال الملوك في أن أحدهم يكون نزوله عن سريره أدنى في إتيان خواصه إليه ، وفتح بابه أدنى لمن يليهم ، وكلما نزل درجة كان الإذن أعم إلى أن يصل إلى الإذن العام لجميع الناس ، هذا علم المخاطبين بأن ذلك على سبيل التمثيل بمن يحتاج إلى هذه الدرجات ، وأما من هو غني عن كل شيء فله سبحانه المثل الأعلى ولا يشبه شيئاً ، ولا يشبهه شيء ، وفي { قرآن الفجر } من سورة سبحان لهذا مزيد بيان ، وقال القاضي عياض في الشفاء ما حاصله أن تلك الضمائر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : قال جعفر بن محمد - يعني الصادق بن الباقر : أدناه ربه حتى كان منه كقاب قوسين ، وقال أيضاً : انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى كيف حجب جبريل عليه السلام عن دنوه ودنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان فتدلى بسكون قلبه إلى ما أدناه وزال عن قلبه الشك والارتياب ، وقال جعفر أيضاً : والدنو من الله تعالى لا حد له ، ومن العباد بالحدود - انتهى .

وحينئذ يكون ضمير « استوى » له صلى الله عليه وسلم ، ويكون المعنى : فتسبب عن تعليم جبريل له استواوه - أي اعتدال علمه - إلى غاية لم يصلها غيره من الخلق علماً وكسباً بالملك والملكوت والحال أنه بالأفق الأعلى ليلة الإسراء ، وتدليه كناية عن وصوله بسبب عظيم حامل السبب للمتدلي ، وعبر به وهو ظاهر في النزول من علو مع عدم الانفصال منه لئلا يوهم اختصاص جهة العلو به سبحانه دون بقية الجهات ، ومنه « أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد » وكذا قيل في الإشارة ب « لا تفضلوني على يونس بن متى » ومن المحاسن جداً أن تكون ألف { تدلى } المقلبة عن ياء في هذا الوجه بدلاً من لام فيكون من التدلل وهو الانبساط وثوقاً بالمحبة ، يقال : تدلل عليه ، أي انبسط ووثق بمحبته فأفرط عليه ، وانبساطه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة إفراط كثرة سؤاله ، وشفاعته في أمته ، وبذلك ظهر إلى عالم الشهادة أنه أرحم الخلق كما كان معلوماً إلى عالم الغيب ، فتسبب عنه زيادة تقريبه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، وإبراز هذا الكلام في هذه الضمائر المتحملة لهذه الوجوه من غير ظاهر يعين المراد يناسب لتلك الحالة ، فإنها كانت حالة غيب وخفاء وستر ، وكان العلم فيها واسعاً ، وسوق الضمائر هكذا يكثر احتمال الكلام للوجوه ، فيتسع العلم مع أنه ليس فيها وجه يؤدي إلى لبس في الدين ولا ركاكة في معنى ولا نظم ولا مجال للعلم - والله أعلم .

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

ولما أثبت هذا الكلام ما أثبت من القرب من النبي صلى الله عليه وسلم ممن أوحى إليه على كلا التقديرين ، قرره على وجه أفاد الرؤية فقال : { ما كذب الفؤاد } أي القلب الذي هو في غاية الذكاء والاتقاد { ما رأى } البصر أي حين رؤية البصر كان القلب ، لا أنها رؤية بصر فقط تمكن فيها - للخلو - عن حضور القلب - النسبة إلى الغلط ، وقال القشيري ما معناه : ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بصره ، بل رآه على الوصف الذي علمه قبل أن رآه فكان علمه حق اليقين ، وفي صحيح مسلم « عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم » هل رأيت ربك؟ قال : نور إليّ أراه « ، وفي صحيح مسلم أيضاً » عن مسروق أنه قال لعائشة رضي الله عنها لما أنكرت الرؤية : ألم يقل الله تعالى { ولقد رآه بالأفق المين } و { لقد رآه نزلة أخرى } فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إنما هو جبرئيل عليه السلام ، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض » قال البغوي : وذهب جماعة إلى أنه رآه فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده ، ثم روي من صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « رآه بفؤاده مرتين » وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس رضي الله عنه ، وقال ابن برجان ما معناه : إن النوم والصعق من آيات الله على لقاء الله وهي مقدمات لذلك ، ولكل حقيقة حق يتقدمها كأشراط الساعة ، والإسراء وإن لم يكن موتاً ولا صعقاً ولا نوماً على أظهر الوجوه فقد خرج عن مشاهدات الدنيا إلى مشاهدات الأفق الأعلى فلا تنكر الرؤية هنالك ، فالإسراء حالة غير حالة الدنيا ، بل هي من أحوال الآخرة وعالم الغيب - والله الهادي .
ولما تقرر ذلك غاية التقرر ، وكان موضع الإنكار عليهم ، قال مسبباً عن ذلك : { أفتمارونه } أي تستخرجون منه بجدالكم له فيما أخبركم به شكاً فيه ولا شك فيه ، وعبر بالمفاعلة في قراءة الجماعة عن حمزة والكسائي ويعقوب إشارة إلى اجتهادهم في تشكيكه ، من مري الشيء : استخرجه ، ومري الناقة : مسح ضرعها ، فأمرى : در لبنها ، والمرية بالكسر والضمر : الشك والجدل { على ما يرى * } على صفة مطابقة القلب والبصر ، وذلك مما لم تجر العادة بدخول الشك فيه ولا قبوله للجدال ، وزاد الأمر وضوحاً بتصوير الحال الماضية بالتعبير بالمضارع إشارة إلى أنه كما لم يهم لم يلبس الأمر عليه ، بل كأنه الآن ينظر .

ولما كان الشيء أقوى ما يكون إذا حسر البصر ، فإذا وافقه كون القلب في غاية الحضور كان أمكن ، فإذا تكرر انقطعت الأطماع عن التعلق بالمجادلة منه ، قال مؤكداً لأجل إنكارهم : { ولقد رآه } أي الله تعالى أو جبرئيل عليه السلام على صورته الحقيقية ، روى مسلم في الإيمان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال { ما كذب الفؤاد ما رأى } { ولقد رآه نزلة أخرى } ، قال : « رآه بفؤاده مرتين » وجعل ابن برجان الإسراء مرتين : الأولى بالفؤاد مقدمة وهذه بالعين .
ولما كان ذلك لا يتأتي إلا بتنزل يقطع مسافات البعد التي هي الحجب ليصير به بحيث يراه البشر ، عبر بقوله : { نزلة } وانتصب على الظرفية لأن الفعلة بمعنى المرة { أخرى } أي ليكمل له الأمر مرة في عالم الكون والفساد وأخرى في المحل الأنزه الأعلى ، وعين الوقت بتعين المكان فقال : { عند سدرة المنتهى * } أي الشجرة التي هي كالسدر وينتهي إليها علم الخلائق وينتهي إليها ما يعرج من تحت وما ينزل من فوق ، فيتلقى هنالك ، وذلك - والله أعلم - ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوة قبل الهجرة بقليل بعد الترقي في معراج الكمالات من السنين على عدد السماوات وما بينهما من المسافات ، فانتهى إلى منتهى يسمع فيه صريف الأقلام ، وعظمها بقوله : { عندها } أي السدرة { جنة المأوى * } الذي لا مأوى في الحقيقة غيره لأنه لا يوازي في عظمه ، وزاد في تعظيمها بقوله : { إذ يغشى السدرة ما يغشى * } أي يغطيها ويركبها وسمره؟ من فراش الذهب والرفرف الأخضر والملائكة والنبق وغير ذلك فإن الغشو النبق { ما يغشى } لا تحتملون وصفه وهو بحيث يكاد أن لا يحصى ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : « وغشيها ، ألا وإني لا أدري ما هي فليس أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها » أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، وأكد الرؤية وقررها مستأنفاً بقوله : { ما زاغ } أي ما مال أدنى ميل { البصر } أي الذي لا بصر لمخلوق أكمل منه ، فما قصر عن النظر فيما أذن له فيه ولا زاد { وما طغى * } أي تجاوز الحد إلى ما لم يؤذن له فيه مع أن ذلك العالم غريب عن بني آدم ، وفيه من العجائب ما يحير الناظر ، بل كانت له العفة الصادقة المتوسطة بين الشره والزهادة على أتم قوانين العدل ، فأثبت ما رآه على حقيقته ، وكما قال السهروردي في أول الباب الثاني والثلاثين من عوارفه : وأخبر تعالى بحسن أدبه في الحضرة بهذه الآية ، وهذه غامضة من غوامض الأدب ، اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما كانوا قد أنكروا الإسراء إنكاراً لم يقع لهم في غيره مثله ، زاد في تأكيده على وجه يعم غيره فقال : { لقد رأى } أي أبصر بسبب ما أهلناه له من الرسالة إبصاراً سارياً إلى البواطن غير مقتصر على الظواهر { من آيات ربه } أي المحسن إليه بما لم يصل إليه أحد قبله ولا يصل إليه أحد بعده ، ومن ادعى ذلك فهو كافر { الكبرى * } من ذلك ما رآه في السماوات من الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام إشارة بكل شيء إلى أمر دقيق جليل وحالة شريفة ، وقال الإمام أبو القاسم السهيلي في الروض الأنف : والذي أقول في هذا أن مأخذ فهمه من علم التعبير ، فإنه من علم النبوة ، وأهل التعبير يقولون : من رأى نبياً بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي في شده أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث ، وحديث الإسراء كان بمكة ، ومكة حرم الله وأمنه ، وقطانها جيران الله لأن فيها بيته ، فأول ما رأى صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام آدم عليه الصلاة والسلام الذي كان في أمن الله وجواره ، فأخرجه إبليس عدوه منها ، وهذه القصة تشبهها الحالة الأولى من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجوار بيته ، فكربه ذلك وغمه فأشبهت قصته في هذا قصة آدم عليه الصلاة والسلام مع أن آدم تعرض عليه أرواح ذريته البر والفاجر منهم ، فكان في السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لأن أرواح أهل الشقاء لا تلج في السماء ولا تفتح لهم أبوابها ، كما قال الله تعالى ، ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وهما الممتحنان باليهود ، أما عيسى عليه السلام فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله إليه ، وأما يحيى عليه السلام فقتلوه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان ، وكانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه لقتلوه فنجاه الله كما نجى عيسى عليه السلام منهم ، ثم سموه في الشاة ولم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره كما قال عند الموت وهكذا فعلوا بابني الخالة يحيى وعيسى لأن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران أمهما جنة ، وأما لقاؤه ليوسف عليه السلام في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حالة يوسف عليه السلام ، وذلك أن يوسف ظفر بإخواته من بعد ما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال

{ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم } [ يوسف : 92 ] الآية ، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوهم فيهم عمه العباس وابن عمه عقيل فمنهم من أطلق ، ومنهم من قبل أفديته ، ثم ظهر عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهم :

« أقول ما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم » ثم لقاؤه إدريس عليه السلام في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله مكاناً علياً وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم ، فكان ذلك مؤذناً بالحالة الرابعة وهو علو شأنه عليه السلام حتى أخاف الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى ما رأى من خوف هرقل : لقد أُمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر ، وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي وملك بني عمان ومنهم من هادنه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس ، ومنهم من تعصى عليه فأظهره الله عليه ، فهذا مقام علي ، وخط بالقلم كنحو ما أوتي إدريس عليه السلام ، ولقاؤه في السماء الخامسة لهارون عليه السلام المحبب في قومه يؤذن بحب قريش وجميع العرب له بعد بعضهم فيه ، ولقاؤه في السماء السادسة لموسى عليه السلام يؤذن بحالة تشبه حالة موسى عليه السلام حين أمر بغزو الشام ، فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها ، وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد هلاك عدوهم ، ولذلك غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيراً ، وافتتح مكة ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه ، ثم لقاؤه في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام لحكمتين : إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسنداً ظهره إليه ، والبيت المعمور جبال مكة ، وإليه تحج الملائكة كما أن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة وإذن في الناس بالحج إليها ، والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم حجه إلى البيت الحرام ، وحج معه في ذلك العام نحو من سبعين ألفاً من المسلمين ، ورؤية إبراهيم عليه السلام عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة - انتهى . وهذا المقام هو الإسراء وما تفرع منه الموصل إلى أعلى ما يكون من تجريد التوحيد ، فجعل سبحانه عنوانه المفروض فيه الحاجز بين الإسلام والشرك وهو الصلاة الجامعة لمعاني الدين الشاملة لجميع البركات بأن جعلت خمسين مستغرقة لجميع الفراغ ثم ردت إلى خمس دون القوى بكثير ثم رتب عليها جزاء الخمسين ورفع كل واحدة من صلاة الجماعة إلى سبع وعشرين صلاة وفضل صلاتي الطرفين : الصبح الثنائية والعصر الرباعية بشهادة فريقي الملائكة وكتابتهما في صحيفتي كل من الجمعين ، فقال حمزة الكرماني في جوامع التفسير : فأسري به في شهر ربيع الأول قبل الهجرة من بيت أم هانىء رضي الله عنها ، ثم ساق حديث الإسراء مساقاً عجيباً جداً طويلاً .

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)

ولما أخبر سبحانه من استقامة طريق نبيه عليه الصلاة والسلام مما ثبتت رسالته بما أوحي إليه وما أراه من آياته التي ظهر بها استحقاقه سبحانه الإلهية متفرداً بها ، سبب عنه الإنكار عليهم في عبادة معبوداتهم على وجه دال على أنها لا تصلح لصالحة فقال : { أفرأيتم } أي أخبروني بسبب ما تلوت عليكم من هذه الآيات الباهرات . هل رأيتم رؤية خبرة بالباطن والظاهر { اللاّت } وهو صنم ثقيف { والعزى } وهي شجرة لغطفان وهما أعظم أصنامهم فإنهم كانوا يحلفون بهما { ومناة } وهو صخرة لهذيل وخزاعة ، ودل على أنها عندهم بعدهما في الربوبية بقوله مشيراً بالتعدد بالتعبير عنه بما عبر به إلى أن شيئاً منها لا يصلح لصالحة حتى ولا أن يذكر : { الثالثة الأخرى * } أي إنه ما كفاهم في خرق سياج منها العقل في مجرد تعديد الإله بجعله الاثنين حتى أضافوا ثالثاً أقروا بأنه متأخر الرتبة فكان الإله عندهم قد يكون سافلاً ويكون ملازماً للإنزال وللسفول بكونه أنثى ، قال الرازي في اللوامع : وأنثوا أسماءها تشبيهاً لها بالملائكة على زعمهم بأنها بنات الله - انتهى ، ولا شك عند من له أدنى معرفة بالفصاحة أن هذا الاستفهام الإنكاري والتعبير بما شأنهم بالولادة التي هي أحب الأشياء إلى الإنسان بل الحيوان لا يوافقه أن يقال بعده ما يقتضي مدحاً بوجه في الوجوه ، فتبين بطلان ما نقل نقلاً واهياً من أنه قيل حين قرئت هذه السورة في هذا المحل : تلك الغرانيق العلا - إلى آخره لعلم كل عربي أن ذلك غاية في الهذيان في هذا السياق ، فلا وصلة بهذا السياق المعجز بوجه .
ولما كان التقدير بما أفهمه السياق ، كيف ادعيتم أنها آلهة أهي كذلك مع أن عادتكم احتقار الإناث من أن تكون لكم أولاداً ، فكيف رضيتم أن تكون لكم آلهة ، وتكونوا لها عباداً مع أنها لم تنزل لكم وحياً ولا أرسلت لكم رسولاً ولا فعلت مع أحد منكم شيئاً مما كرمنا به عبدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا أرتكم قط آية ولا هي متأهلة لشيء من ذلك ، بل لا تملك ضراً ولا نفعاً وادعيتم أنها بناته واستوطنها جنيات هي بناته وادعيتم مع ادعاء مطلق الولدية لمن لا يلم به حاجة ولا شبه له أن له أردأ الصنفين ، فكان ذلك نقصاً مضموماً إلى نقص - وعلا سبحانه تعالى عن صحابة أو ولد ، فاستحققتم بذلك الإنكار الشديد ، وعلم بهذا التقدير الذي هدى إليه السياق بطلان حديث الغرانيق ولا سيما مع تعقيبه بقوله : { ألكم } أي خاصة { الذكر } أي النوع الأعلى { وله } أي وحده { الأنثى * } أي النوع الأسفل .
ولما كان الاستفهام إنكارياً رد الإنكار بقوله فذلكة لفعلهم : { تلك } أي هذه القسمة البعيدة عن الصواب { إذاً } أي إذ جعلتم البنات له والبنين لكم { قسمة ضيزى * } أي جائرة ناقصة ظالمة فيما يحسن للحق للغاية عرجاء غير معتدلة حيث خصصتم به ما أوصلتكم الكراهة له إلى دفنه حياً ، وقد علم أن الآية من الاحتباك : دل ذكر اسمها في أسلوب الإنكار على حذف إنكار كونها آلهة وإنكار تخصيصة بالإناث على حذف ما يدل على أنهم جعلوها بناته .

إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)

ولما أفهم هذا الإنكار بطلان قولهم هذا ، حصر القول الحق فيها فقال مستأنفاً : { إن } أي ما { هي } أي هذه الأصنام { إلا أسماء } أي لا حقائق لها ، فما ادعيتم لها من الإلهية ليس لها من ذلك إلا الأسماء ، وأكد ذلك بقوله مبيناً : { سميتموها } أي ابتدعتم تسميتها أنتم ، واجتث قولهم من أصله فقال : { أنتم وآباؤكم } أي لا غير بمجرد الهوى لم تروا منها آية ولا كلمتكم قط كلمة تعتدونها ، وعلى تقدير أن تتكلم الشياطين على ألسنتها فأي طريقة قويمة شرعت لكم وأي كلام مليح أو بليغ وصل إليكم وأي آية كبرى أرتكموها - انتهى .
ولما علم بهذا أن الله تعالى لم يأمرهم بشيء من ذلك ، صرح به نافياً أن يدل على ما وسموه به دليل فقال : { ما } ولما قدم في الأعراف ترك النافي للتدريج لما تقدم بما اقتضاه ، نفى هنا الإفعال النافي لأصل الفعل سواء كان بالتدريج أو غيره لأن المفصل لباب القرآن فهو للمقاصد ، وذلك كاف في ذم الهوى الذي هو مقصود السورة فقال : { أنزل الله } الذي له جميع صفات الكمال { بها } أي بالاستحقاق للأسماء ولا لما وسمتموها به من الإلهية ، وأعرق في النفي بقوله : { من سلطان } أي حجة تصلح مسلطاً على ما يدعي فيها .
ولما كان هذا النفي المستغرق موجباً للخصم إيساع الحيلة في ذكر دليل على أي وجه كان ، وكان هؤلاء قد أبلسوا عند سماع هذا الكلام ولم يجدوا ما يقولون ولا يجدوا ، فكان من حقهم أن يرجعوا فلم يرجعوا ، أعرض عنهم إيذاناً بشديد الغبن قائلاً : { إن } أي ما { يتبعون } أي في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة ، وأنها تشفع لهم أو تقربهم من الله { إلا الظن } أي غاية أمرهم لمن يحسن الظن بهم ، فالظن ترجيح أحد الجائزين على رغم الظان .
ولما كان الظن قد يكون موافقاً للحق مخالفاً للهوى قال : { وما تهوى الأنفس } أي تشتهي ، وهي - لما لها من النقص - لا تشتهي أبداً إلا بما يهوي بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها ، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما تشوق إليها العقل ، قال القشيري : فالظن الجميل بالله فليس من هذا الباب ، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل ، إنما الظن المعلول في الله وصفاته وأحكامه . { ولقد } أي العجب أنهم يفعلون ذلك والحال أنه قد { جاءهم من ربهم } أي المحسن إليهم { الهدى * } أي الكامل في بابه إلى الدين الحق الناطق بالكتاب الناطق بالصواب على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ، والرأي يقتضي أن من رأى الهدى تبعه ولو أتاه به عدوه ، فكيف إذا أتاه به من هو أفضل منه من عند من إحسانه لم ينقطع عنه قط .

ولما كان التقدير : أعليهم أن يتركوا أهويتهم ويهتدوا بهدى ربهم الذي لا ملك لهم معه { أم } لهم ما تمنوا - هكذا كان الأصل ، ولكنه ذكر الأصل الموجب لاتباع الهوى فقال : { للإنسان } أي الآنس بنفسه المحسن لكل ما يأتي وما يذر { ما تمنى * } أي من اتباع ما يشتهي من جاه ومال وطول عمر ورفاهية عيش ومن كفره وعناده ، وقوله { لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [ فصلت : 50 ] .
ولما كان الاستفهام إنكارياً ، كان المعنى : ليس له ما تمنى ، وكان ذلك دليلاً قطعياً على أنه مربوب مقهور ممن له الأمر كله ، فسبب عنه قوله : { فللّه } أي الملك الأعظم وحده . ولما كانت الأخرى دار اللذات وبلوغ جميع الأماني وحرمانها ، وكانوا يدعون فيها على تقدير كونها جميع ما يتمنون من شفاعة آلهتهم وإجابتها إلى إسعادهم ونحو ذلك ، قدم قوله : { الآخرة } فهو لا يعطي الأماني فيها إلا لمن تبع هداه وخالف هواه { والأولى * } فهو لا يعطي جميع الأماني فيها لأحد أصلاً كما هو مشاهد ، فمن ترك هواه فيها نال أمانيه في الآخرة ، فلهذا قدمها لا للفاصلة فإنه لو قيل « الأخرى » لصلحت للفاصلة .
ولما كان التقدير : فكم من شخص ترونه في الأرض مع أنه في غاية المكنة فيما يظهر لكم لا يصل إلى ربع ما يتمناه ، عطف عليه قوله ، مظهراً لضخامة ملكه وأنه لا يبالي بأحد ، دالاً على الكثرة : { وكم من ملك } أي مقرب ، ودل على زيادة قربه بشرف مسكنه فقال : { في السماوات } أي وهم في الكرامة والزلفى { لا تغني } أي لا تجزي وتسد وتكفي ، ولما كان رد الجمع لحال اجتماعهم أدل على العظمة ، عبر بما يحتمل ذلك فقال : { شفاعتهم } أي عن أحد من الناس { شيئاً } فقصر الأمر ورده بحذافيره إليه بقوله : { إلا } ودل باثبات الجار على أنه مع ما يحده سبحانه لا مطلقاً فقال : { من بعد أن يأذن } أي يمكن ويريد { الله } أي الذي لا أمر لأحد أصلاً معه ، وعبر بأن والفعل دلالة على أنه لا عموم بعد الإذن بجميع الأوقات ، وإنما ذلك يجدد بعد تجدد الإذن على حينه وقبل الأمر الباب؟ لعموم العظمة بقوله : { لمن يشاء } أي بتجدد تعلق مشيئته به لأن يكون مشفوعاً أو شافعاً .
ولما كان الملك قد يأذن في الشفاعة وهو كاره ، قال معلماً أنه ليس كأولئك : { ويرضى * } فحينئذ تغني شفاعتهم إذا كانوا من المأذون لهم - كل هذا قطعاً لأطماعهم وعن قولهم بمجرد الهوى أي آلهتهم تشفع لهم . ولما أخبر باتباعهم للهوى ونفى أن يكون لهم من ذلك ما يتمنونه دل على اتباعهم للهوى بقوله موضع { أنهم } : { إن الذين } وأكد تنبيهاً على أنه قول بالغ في العجب الغاية فلا يكاد يصدق أن عاقلاً بالآخرة يقوله بما جرى لهم على قولهم ذلك وأمثاله بقوله : { لا يؤمنون } أي لا يصدقون ولا هم يقرون { بالآخرة } ولذلك أكد قوله : { ليسمون الملائكة } أي كل واحد وهم رسل الله { تسمية الأنثى } بأن قالوا : هي بنات الله ، كما يقال في جنس الأنثى : بنات { وما } أي والحال أنهم ما { لهم به } أي بما سموهم به ، وأعرق في النفي بقوله : { من علم } ولما نفى علمهم تشوف السامع إلى الحامل لهم على ذلك فقال : { إن } أي ما { يتبعون } أي بغاية ما يكون في ذلك وغيره { إلا الظن } .

ولما كانوا كالقاطعين بأن ذلك ينفعهم ، أكد قوله : { وإن الظن } أي مطلقاً في هذا وغيره ، ولذلك أظهر في موضع الإضمار { لا يغني } إغناءً مبتدئاً { من الحق } أي الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله ، والظن إنما يعبر به في العمليات لا العلميات ولا سيما الأصولية { شيئاً } من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدي أبداً إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين ، فإن المقصود بتحقق الأمر على ما هو عليه في الواقع ، وأما الفروع فإن المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه ، وهو رده إلى الأصول المستنبط منها لعجز الإنسان على القطع في جميع الفروع ، تنبيهاً على عجزه وافتقاره إلى الله ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوته ليكشف له من الأحقاف .

فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

ولما كانوا بعد مجيء الهدى قد أصبروا على الهوى ، وكانت هذه السورة في أوائل ما نزل ، والمؤمنون قليل ، سبب عن ذلك : { فأعرض عن من تولى * } أي كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة من ولى { عن ذكرنا } أي ذكره إيانا ، فأعرض عن الذكر الذي أنزلناه فلم ينله ولم يتدبر معانيه فلا يلتفت إلى شيء علمه فإنه مطموس على قلبه ولو كان ذهنه أرق من الشعر فإنه لا يؤول إلا إلى شر { ولا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] فإنه ما عليك إلا البلاغ .
ولما كان المعرض في وقت قد يقبل في آخر ، دل على دوامه على وجه بليغ بقوله : { ولم يرد } أي في وقت من الأوقات { إلا الحياة الدنيا * } أي الحاضرة ليقصده بالمحسوسات كالبهائم في العمى عن دناءتها وحقارتها ، ثم ترجم جملتي الإعراض والإرادة بقوله : { ذلك } أي الأمر المتناهي في الجهل والقباحة { مبلغهم } أي نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم ، وتهكم بهم بقوله : { من العلم } أنه لا علم لهم لأن عيون بصائرهم عمي ، ومرائبها كثيفة مظلمة لا تكشف عن نظر الآخرة التي هي أصل العلوم كلها ، ثم علل هذه الجملة بقوله مؤكداً قطعاً لطمع من يظن أن وعظه وكلامه يرد أحداً من غيه وإن أبلغ في أمره ودعائه في سره وجهره ، وإعلاماً بأن ذلك إنما هو من الله ، فمن وعظ له سبحانه راجياً منه في إيمانه أوشك أن ينفع به كما فعل في وعظ مصعب بن عمير رضي الله عنه فصغى له أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما في ساعة واحدة كما هو مشهور { إن ربك } أي المحسن إليك بالإرسال وغيره { هو } أي وحده { أعلم بمن ضل عن سبيله } ضلالاً مستمراً ، فلا تعلق أملك بأن يصل علمه إلى ما وراء الدنيا ، وعبر بالرب إشارة إلى أن ضلال هذا من الإحسان إليه صلى الله عليه وسلم لأنه لو دخل في دنيه لأفسد أكثر مما يصلح كما قال تعالى : { ولا أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } [ التوبة : 47 ] وذلك لأنه جبل جبلة غير قابلة للخير { وهو } أي وحده { أعلم بما اهتدى * } أي ظاهراً وباطناً .
ولما كان هذا ربما أوهم أن من ضل على هذه الحالة ليس في قبضه ، قال نافعاً لهذا الإبهام مبيناً أن له الأسماء الحسنى ومقتضياتها في العالم موضع « والحال أنه له » أو عطفاً على ما تقديره : فللّه من في السماوات ومن في الأرض : { ولله } أي الملك الأعظم وحده { ما في السماوات } من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السماوات والأراضي ، فإن كل سماء في التي تليها ، والأرض في السماء { وما في الأرض } وكذلك الأراضي والكل في العرش وهو ذو العرش العظيم .

ولما أمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وسلاه وأعلمه أن الكل في ملكه ، فلو شاء لهداهم ورفع النزاع ، ولكنه له في ذلك حكم تحار فيها الأفكار ، علل الإعراض كما تقدم في الجاثية في قوله : { قل للذين آمنوا يغفروا } [ الجاثية : 14 ] بقوله : { ليجزي } أي يعاقب هو سبحانه كافياً لك ما أهمك من ذلك ، ويجوز أن يكون التقدير : وكما أنه سبحانه مالك ذلك فهو ملكه ليحكم بجزاء كل على حسب ما يستحق ، فإن الحكم نتيجة الملك { الذين أساؤوا } بالضلال { بما عملوا } أي بسببه وبحسبه إما بواسطتك وبسيوفك وسيوف أتباعك إذا أذنت لكم في القتال ، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف بضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة { ويجزي } أي يثبت ويكرم { الذين أحسنوا } أي على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم { بالحسنى * } أي الثبوت الذي هو في غاية الحسن ما بعدها غاية ، فإن الحسنى تأنيث الأحسن .
ولما وعد الذين وقع منهم الإحسان ، وصفهم فقال : { الذين يجتنبون } أي يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا { كبائر الإثم } أي ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد ، وعطف على { كبائر الإثم } قوله : { والفواحش } والفاحشة من الكبائر ما يكرهه الطبع وينكره العقل ويستخسّه .
ولما أفهم هذا التقييد أن من خالط ما دون كان مغفوراً له ، صرح به فقال : { إلا } أي لكن { اللمم } معفو ، فمن خالطه لا يخرج عن عداد من أحسن ، فهو استثناء منقطع ، ولعله وضع فيه { إلا } موضع { لكن } إشارة إلى الصغير يمكن أن يكون كبيراً باستهانته مثلاً كما قال تعالى { وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم } [ النور : 15 ] واللمم هو صغار الذنوب ، والمراد هنا ما يحصل منها في الأحيان كأنه وقع في صحابه فلتة بغير اختيار منه ، لا ما يتخذ عادة أو يكثر حتى يصير كالعادة ، قال الرازي في اللوامع : وأصله مقاربة الذنب ثم الامتناع منه قبل الفعل ، قال ذو النون : ذكر الفاحشة من العارف كفعلها من غيره - انتهى . يقال : وألم بالمكان - إذا قل لبثه فيه ، وقال البغوي : قال السدي : قال أبو صالح أنه سئل عن اللمم فقال : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، قال : فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله عنهما فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم ، ثم قال البغوي : فأصل الملم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة ولا إقامة عليه - انتهى - وعلى هذا يصح أن يكون الاستثناء متصلاً .
ولما كان الملوك لا يغفرون لمن تكررت ذنوبه إليهم وإن صغرت ، فكان السامع يستعظم أن يغفر ملك الملوك سبحانه مثل هذا ، علل ذلك بقوله : { إن ربك } أي المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك { واسع المغفرة } فهو يغفر الصغائر حقاً أوجبه على نفسه ويغفر الكبائر إن شاء بخلاف غيره من الملوك فإنه لو أراد ذلك ما أمكنه اتباعه ، ولو جاهد حتى تمكن من ذلك في وقت فسدت مملكته فأدى ذلك إلى زوال الملك من يده أو اختلاله .

ولما وصف الذين أحسنوا فكان ربما وقع في وهم أنه لا يعلمهم سبحانه إلا بأفعالهم ، وربما قطع من عمل بمضمون الآية أنه ممن أحسن ، قال نافياً لذلك : { هو أعلم بكم } أي بذواتكم وأحوالكم منك بأنفسكم { إذ } أي حين { أنشاكم } ابتداء { من الأرض } التي طبعها طبع الموت : البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم تقوية قريبة ولا بعيدة أصلاً يميز الثواب الذي يصلح لتكونكم منه والذي لا يصلح { وإذ } أي حين { أنتم أجنة } أي مستورون . ولما كان البشر قد يكون في بطن الأرض وإن كان الجنين معروفاً للطفل في البطن ، حقق معناه بقوله : { في بطون أمهاتكم } بعد أن مزج بذلك التراب البارد اليابس الماء والهواء ، فنشأت الحرارة والرطوبة ، فكانت هذه الأربعة الأخلاط الزكية والدنية ، ولكن لا علم لكم أصلاً ، فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشر وإن عملتم مدة من العمر بخلاف ذلك فإنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك وأنتم لا تعلمون إلا ما يكون في أنفسكم حال كونه أنكم لا تحيطون به إذ ذاك علماً .
ولما كان من عادة من سلم من الذنوب أن يفتخر على من قارفها لما بني الإنسان عليه من محبة الفخر لما جبل عليه من النقصان ، وكان حاله قد يتبدل فيسبق عليه الكتاب فيشقى ، سبب عن ذلك قوله : { فلا تزكوا } أي تمدحوا بالزكاة وهو البركة والطهارة عن الدناءة { أنفسكم } أي حقيقة بان يثني على نفسه فإن تزكيته لنفسه من علامات كونه محجوباً عن الله - قال القشيري - أو مجازاً بأن يثني على غيره من إخوانه فإنه كثيراً ما يثني بشيء فيظهر خلافه ، وربما حصل له الأذى بسببه « وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع » الحديث ، ولذلك علل بقوله : { هو أعلم } أي منكم ومن جميع الخلق { بمن اتقى } أي جاهد نفسه حتى حصل فيه تقوى ، فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين ، فكيف بمن صارت له التقوى وصفاً ثابتاً .

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)

ولما أمره سبحانه بالإعراض عمن تولى عن التشرف بذكر الملك الأعظم واللجاء إليه ، ونهى عن التزكية للجهل بالعواقب ، وكان قد ارتد ناس عن الإسلام ، كان سبب ارتدادهم إخباره صلى الله عليه وسلم عن بعض ما رأى من الآيات الكبرى ليلة الإسراء ، وكان لما نزلت عليه صلى الله عليه وسلم سجدة النجم وسجد فيها صلى الله عليه وسلم سجد معه - كما في البخاري - المسلمون والمشركون والجن والإنس ، ولم يكن في ظن أحد من الخلق انقلابهم على أدبارهم بعد حتى ولا في ظن المرتدين ، سبب عن ذلك قوله : { أفرأيت } أي أخبروني { الذي تولّى * } أي عن ذكرنا بعد أن كان حريصاً عليه ، يظن هو وأهله أنه عريق في أهله بإيمانه وأعماله في أيام إيمانه { وأعطى قليلاً وأكدى * } أي قطع ذلك العطاء على مكده وقلته وأبطله وأفسده فصار كالحافر الذي وصل في حفره إلى كدية ، يقال لحافر البئر : أجبل - إذا وصل إلى جبل ، وأكدى - إذا وصل إلى كدية أي صفاة عظيمة شديدة لا تعمل فيها المعاول ، فصار لا يقدر معها على شيء من علمه ، ولا يستطيع النفوذ فيها بشيء من حيله ، وقد كان قبل ذلك لما صادف التراب الليل يظن أنه لا يمنعه مانع مما يريد ، فهذا دليل خبري شهودي على أنه لا علم لأحد من الخلق بما حباه الله في نفسه فضلاً عن غيره ، فلا ينبغي لأحد أن يزكي نفسه ولا غيره ، قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة أسلم ثم ارتد لتعيير بعض المشركين له ، وقوله له « ارجع وأنا أتحمل عنك العذاب » وهي تصلح لكل من ارتد ظاهراً أو نافق أو انهمك في المعاصي بعد إيمانه معرضاً عن الأعمال الصالحة .
ولما كان هذا - وقد وقع في خطر عظيم من إفساد العمل في الماضي وتركه في المستقبل فصار على خطأ عظيم في أحدهما - يتعلق بأصل الدين : الكفر والإيمان ، وكان مثل هذا لا يفعله عاقل بنفسه إلا عن بصيرة ، قال تعالى موبخاً له مقرعاً : { أعنده } أي خاصة { علم الغيب } أي كله بحيث لا يشاركه في مشارك يمكن أن يخفى عليه شيء منه { فهو } أي فيتسبب عن ذلك أنه { يرى * } أي الرؤية الكاملة فيعلم جميع ما ينفعه فيرتكبه وجميع ما يضره فيجتنبه ويعلم أن هذا القليل الذي أعطاه قد قبل وأمن به من العطب فاكتفى به .
ولما كان الغبي قد يظن أن عمل غيره ينفعه ، عبر عنه جامعاً للوعظ والتهويل بقوله : { أم لم ينبأ } أي يخبر إخباراً عظيماً متتابعاً { بما في صحف موسى * } أي التوراة المنسوبة إليه بإنزالها عليه وكذا ما يتبعها من أسفار الأنبياء الذين جاؤوا بعده بتقريرها .

ولما قدم كتاب موسى عليه السلام لكونه أعظم كتاب بعد القرآن مع أنه موجود بين الناس يمكن مراجعته ، قال : { وإبراهيم } ومدحه بقوله دالاً بتشديد الفعل على غاية الوفاء : { الذي وفى } أي أتم ما أمر به وما امتحن به وما قلق شيئاً من قلق ، وكان أول من هاجر قومه وصبر على حر ذبح الولد وكذا على حر النار ولم يستعن بمخلوق ، وخص هذين النبيين لأن المدعين من بني إسرائيل اليهود والنصارى يدعون متابعة عيسى عليه السلام ، ومن العرب يدعون متابعة إبراهيم عليه السلام ، ومن عداهم لا متمسك لهم ولا سلف في نبوة محققة ولا شريعة محفوظة ، ثم فسر الذي في الصحف أو استأنف بقوله : { ألا تزر } أي تأثم وتحمل { وازرة } أي نفس بلغت مبلغاً تكون فيه حاملة { وزر أخرى * } أي حملها الثقيل من الإثم ، يعني فمن يحمل عنه أثم أحد الشقين الذي لزمه فلا بد أن يكون آثماً وهما قبل التولي وما بعده .

وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)

ولما نفى أن يضره إثم غيره نفى أن ينفعه سعي غيره فقال : { وأن ليس للإنسان } كائناً من كان { إلا ما سعى * } فلا بد أن يعلم الحق في أي جهة فيسعى ، ودعاء المؤمنين للمؤمن سعيه بمواددته لهم ولو بموافقته لهم في الدين وكذا الحج عنه والصدقة ونحوهما ، وأما الولد فواضح في ذلك ، وأما ما كان لسبب العلم ونحوهما فكذلك ، وتضحية للنبي صلى الله عليه وسلم في عزامته أصل كبير في ذلك ، فإن من تبعه فقد وادده ، وهذا أصل في التصدق عن الغير وإهداء ما له من الثواب في القراءة ونحوها .
ولما ثبت أنه ليس له ولا عليه إلا ما عمل ، وكان في الدنيا قد يفعل الشيء من الخير والشر ولا يراه من فعله لأجله ولا غيره نفى أن يكون الآخرة كذلك بقوله : { وأن سعيه } أي من خير وشر { سوف } أي من غير شك بوعد لا خلف فيه وإن طال المدى .
ولما كان الاطلاع نفسه مرضياً أو مخزياً لا بالنسبة لأحد بعينه ، بناه للمجهول بقوله : { يرى * } ولما كان المخوف منه المجازاة مطلقاً لا من مجاز معين قال : { ثم يجزاه } ولما كان في هذه الدار ربما وقعت المسامحة ببعض الأشياء والغفلة عن بعضها ، قال : { الجزاء الأوفى * } أي الإثم الأكمل ، إن كان خيراً فمع المضاعفة ، وإن كان غيره فعلى السواء لمن أراد الله ذلك له ويعفو عن كثير ، لكنه تذكرة له .
ولما كانت رؤية الأعمال لا تقطع برؤية المتوكلين بها من الملائكة أو غيرها ممن أقامه الله لذلك ، وكان الرائي كلما كان أكثر كان الأمر أهول ، وكان رؤية الملك الأعظم أخوف ، قال عاطفاً على { لا تزر } مبيناً بحروف الغاية أن الرائين للأعمال كثير لكثرة جنوده سبحانه : { وأن إلى ربك } أي المحسن إليك لا غيره { المنتهى * } أي الانتهاء برجوع الخلائق حساً بالبعث ومعنى بالعمل والعلم ، وإسناد الأمور وإرسال الآمال ، ومكان رجوعهم وزمانه كما كان منه المبتدأ ، أكد ذلك خلقاً لذلك كله وحساباً عليه ، روى البغوي من طريق أبي جعفر الرازي عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال « لا فكرة في الرب » قال : ومثل هذا ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنه لا يحيط به الفكرة » ورواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما : « لا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره » ، هذا هو المراد وهو واضح ، فمن أول الآية باتحاد أو غير ذلك من الإلحاد فعليه لعنة الله وعلى الذاب عنه والساكت عنه .

ولما ذكر تعالى الأمور الاختيارية وقدمها لأنها محط للبلاء وسلب علمها عن أصحابها ، وحذر من عاقبتها بإحاطته بكل شيء ، وكان معنى ذلك أنه القادر على غيره والعالم لا غيره ، عطف عليه قوله ذاكراً للأمور الاضطرارية التي هي في غاية التنافي إكمالاً للدليل على أنه يعلم ما في النفوس دون أصحابها وغيرهم وأنه إليه المنتهى إعادة وإبداء ، يوقف ما يشاء على ما يريد من الأسباب التي تفعل بإذنه من الضحك أو البكاء وغيرهما من الأمور المنافية التي لولا الإلف لها لقضى الإنسان أن المتلبس بأحدهما لا يتلبس بضده أصلاً من غيرها { وأنه } ولما كانت التأثيرات الإدراكية تحال على أسبابها ، أكد الكلام فيها فقال : { هو } أي لا غيره { أضحك وأبكى * } أي ولا يعلم أحد قبل وقت الضحك أو البكاء أنه يضحك أو يبكي ولا أنه يأتيه ما يعجبه أو يحزنه ، ولو قيل له حالة الضحك أنه بعد ساعة يبكي لأنكر ذلك ، وربما أدركه ما أبكاه وهو في الضحك وبالعكس .
ولما كانت الإماتة والإحياء أعظم تنافياً بما مضى ، فكانت القدرة على إيجادها في الشخص الواحد أعظم ما يكون ، وكان ربما نسب إلى من قتل داوى من مرض أو أطلق من وجب قتله ، أكد فقال : { وأنه هو } أي لا غيره . ولما كان الإلباس في الموت أكبر ، وكان الموت انسب للبكاء ، والإحياء أنسب للضحك ، وكان طريق النشر المشوش أفصح ، قدمه فقال : { أمات وأحيا * } وإن رأيتم أسباباً ظاهرية فإنه لا عبرة بها أصلاً في نفس الأمر بل هو الذي خلقها .
ولما كان ذكر الإحياء ، وكان تصنيف الولد إلى نوعيه ظاهراً في اختصاصه ، بل وهو في غاية التعذر على من سواه ، أعراه عن مثل التأكيد في الذي قبله فقال : { وأنه خلق الزوجين } ثم فسرها بقوله : { الذكر والأنثى * } فإنه لو كان ذلك في غيره لمنع البنات لأنها مكروهة لكل أحد ، ثم ذكر ما يظهر ولا بد أنه من صنعه فتسبب أن مادة الاثنين واحدة وهو الماء الذي هو أشد الأشياء امتزاجاً فقال : { من نطفة } وصور كونها منها بقوله : { إذا تمنى * } أي تراق وتدفق بالفعل لا قبل ذلك ليمكن فيه طعن بأنه كان بدءاً أو غيره بل أنتم تعلمون أنه لا يخلق الولد إلا بعد الإمناء بالفعل ، وخرج أصله ما يمكن خلقاً من خلق الله أن يعرف بمجرد رؤيته أهو صالح للأنثى فقط أو للذكر فقط أو لهما أو للأشكال بالخنوثة .
ولما ساق هذه الأشياء دليلاً على إحاطة علمه فلزمها أن دلت على تمام قدرته ، وختمها بالنشأة الأولى فلزم من ذلك الإقرار حتماً بأنه قادر على البعث ، عبر بما يتقضي أنه لما تقدم به وعده على جميع ألسنة رسله صار واجباً عليه بمعنى أنه لا بد من كونه لأنه لا يبدل القول لديه ، لا غير ذلك ، فعبر بحرف الاستعلاء تأكيداً له رداً لإنكارهم إياه فقال : { وأن عليه } أي خاصاً به علماً وقدرة { النشأة } أي الحياة وهو ممدود لابن كثير وأبي عمرو ومقصور لغيرهما مصدر نشأ - إذا حنى وربى وسن { الأخرى * } أي التي ينشأ بها الخلق بعد أن يميتهم .

ولما كان الغنى والفقر من الأمور المتوسطة بين الاختيارية والاضطرارية له بكل الأمرين لسبب وكان مقسوماً بين الإناث والذكور بحكمة ربانية لا ينفع الذكر فيها قوته ولا يضر الأنثى ضعفها ، وكان ذكر النشأة الآخرة كالمعترض إنما أوجب ذكر النشأة الأولى ، تعقب ذكرهما به وكان ذكر الغنى مع أنه يدل على الفقر أليق بالامتنان ، والنسبة إلى الرب ، وكان الغنى الحقيقي إنما يكون في تلك الدار ، أخر ذكره فقال : { وأنه } ولما كان ربما نسب إلى السعي وغيره ، أكد بالفعل فقال : { هو } أي وحده من غير نظر إلى سعي ساع ولا غيره { أغنى } ولما كان الغنى في الحقيقة إنما هو غنى النفس ، وهو رضاها بما قسم لها وسكونها وطمأنينتها ، وإنما سمي ذو المال غنياً لأن المال بحيث تطمئن معه النفس ، فمن كان راضياً بكل ما قسم الله به فهو غني ، وهو في الجنانة مغني وإن كان في الدنيا { وأقنى * } أي أمكن من المال وأرضى بجميع الأحوال قال البغوي : أعطى أصول المال وما يدخر بعد الكفاية ، قال : وقال الأخفش أقنى أفقر - انتهى . ونقل الأصبهاني مثله عن أبي زيد ، فتكون الهمزة للإزالة ويقال ، أفناه بكذا أرضاه ، وأقناه الصد : أمكنه منه .

وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)

ولما كانت الشعرى لأنها تقطع السماء عرضاً أدل النجوم بعد تمام القدرة على الفعل بالاختيار مع أنها مما دخل تحت ذلك الجنس المقسم به أول السورة ، وهي لمرورها في سيرها عرضاً على جميع المنازل التي كانت العرب تستمطر بها وتنسب بالإتيان بالحد الموجب للغنى إليها كانت قد عبدها من دون الله أبو كبشة الخزاعي لكونها عنده أجل الكواكب ، قال تعالى دالاً بالتأكيد على سفاهة من عبدها : { وأنه هو } أي لا غيره { رب الشعرى * } أي الكاملة في معناها وهي العبور ، وأهل علم النجوم يقولون ، إن الأحكام النجومية المنسوبة إليها أصح ما ينسب إلى العالم العلوي ، وهي نجم يضيء خلف الجوزاء ، ويسمى كلب الجبال ، وسميت الجوزاء بالجبار تشبيهاً لها بملك على كرسيه وعلى رأسه تاج ، وقال الرازي في اللوامع : هي أحد كوكبي ذراعي الأسد ، وقال ابن القاص في كتاب دلائل القبلة : وترى عند صلاة الصبح نيرة زائداً نورها على نور سائر الكواكب حولها ، وقد طمس الصبح نور سائر الكواكب ، وأما الشعرى الأخرى فهي الغميصاء - بالغين المعجمة والصاد المهملة - فهي أقل نوراً منها ، ولذلك سميت الغميصاء ، وقال القزاز في جامعه : وقيل : بكت على أختها فغمصت عينها ، أي غارت وذهبت .
ولما دل سبحانه على كمال علمه وشمول قدرته بأمور الخافقين : العلوي والسفلي ، فكان ذلك داعياً إلى الإقبال على ما يرضيه ، وناهياً عن الإلمام بما يسخطه ، شرع في التهديد لمن وقف عن ذلك بما وقع في مصارع الأولين من عجائب قدرته فقال : { وأنه أهلك عاداً } ولم يأت بضمير الفصل لأنه لم يدع في أحد غيره إهلاكهم ، وهول أمرهم بقوله : { الأولى * } أي القدماء في الزمان جداً دلالة على أنه المنصرف في جميع الأزمنة ، وقدمهم لأن الشر أتاهم من حيث ظنوه خيراً وجزموا بأنه من الأنواء النافعة التي كانت عادتهم استمطارها ، وقيل : إن عاداً قبيلتان : والأولى قوم هود عليه السلام والأخرى إرم ذات العماد - قاله جماعة منهم القشيري ، قال البغوي : وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى ، وقال ابن جرير : وعاداً الأولى هم الذين عنى الله بقوله { ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم } [ الفجر : 6 - 7 ] وإنما قيل لهم عاداً الأولى لأن بني لقيم بن هزال هزيل بن عنبل بن عاد كانوا أيأم أرسل الله على هؤلاء عذابه سكاناً بمكة مع إخوانهم من العمالقة ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام فلم يصبهم من العذاب ما أصاب قومه وهم عاد الأخرى ، ثم هلكوا بعد بغي بعضنهم على بعض فتفانوا ، وقال غير ابن جرير : إن إرم هم عاد الأخرى ، وعطف عليهم قوله : { وثموداً } أي أهلكهم ثم سبب عن الإهلاك قوله : { فما أبقى * } أي من الفريقين أحداً ، ومن قال : إن عاداً قبيلتان جعل عدم الإبقاء خاصاً بثمود ، وقراءة عاصم وحمزة ويعقوب بمنع الصرف نص في أنه قوم صالح عليه السلام ، وقراءة الباقين بالصرف أنسب للإهلاك والإعدام .

ولما قدم من كان إهلاكهم بنفس الريح التي هي مبدأ الأمطار الآتية لهم في السحاب ، وأتبعهم من إهلاكهم بها بحملها للصيحة إرجافها بهم ، أتبعهم من كان إهلاكهم بالماء الذي هو غاية السحاب فقال : { وقوم نوح } أي أهلكهم لأجل ظلمهم بالتكذيب ، ولما كان إهلاكهم في بعض الزمان الماضي قال : { من قبل } أي قبل الفريقين فصار في الكلام تهويلان يهزان القلب ويفعلان في النفس وصف هؤلاء بالقبيلتين وأولئك بالأولى ، ولولا تقديمهم ما كان هذا ، وعلل هلاكهم بما يؤذن أنه لا فرق عنده بين قوي وضعيف وقليل وكثير مؤكداً لان ما اشتهر من طغيان عاد يوجب أنهم أطغى الناس : { إنهم كانوا } أي بما لهم من الأخلاق التي هي كالجبال التي لا انفكاك عنها { هم } أي خاصة { أظلم } من الطائفتين المذكورتين { وأطغى * } أي وأشد تجاوزاً في الظلم وعلواً وإسرافاً في المعاصي وتجبراً وعتواً لتمادي دعوة نوح عليه السلام ولأنهم أطول أعماراً وأشد أبداناً ، وكانوا مع ذلك ملء الأرض ، ويجوز أن يكون الضمير للفرق الثلاثة .

وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

ولما ذكر الهلاك بالريح العاصفة الناشئة عنها ثم بالماء الناشئ عن السحاب الناشئ عن الريح ، ذكر الإهلاك بالريح والنار والماء إعلاماً بأنه الفاعل وحده بما أراد من العذاب من العناصر التي سبب الحياة مجتمعة ومنفردة ، فقال مقدماً عن العامل إعلاماً بالتخصيص بما ذكر من العذاب إفادة بإنه تعالى قادر على كل شيء فلم يعذب فرقة بما عذب به الأخرى : { والمؤتفكة } أي المدن المقلبة عن وجوهها إلى أقفائها بقدرة جعلتها من شدتها وعظمتها كأنها انقلبت نفسها من غير قالب وذلك أنه سبحانه فتقها من الأرض ففتقها ثم دفعها في الهواء إلى عنان السماء ثم قلبها وأتبعها حجارة النار الكبريتية وغمرها بالماء الذي لا يشبهه شيء من مياه الدنيا ، ولذلك قال : { أهوى * } أي رفع وحط وأنزل ، فكان الإنزال إهواءً حقيقياً ، والرفع مجازياً لأنه سببه وهي مدن قوم لوط عليه السلام ، وأشار إلى الحجارة والماء بقوله مسبباً عن الإهواء ومعقباً له : { فغشاها } أي أتبعها ما غطاها فكان لها بمنزلة الغشاء ، وهولها بقوله : { ما غشى * } أي أمراً عظيماً من الحجارة وغيرها لا يسع العقول وصفه ، وقد اشتمل ما ذكره سبحانه من الصحف على بيان ما ينفع من الأعمال وما يضر وبيان التوحيد باحاطة الله سبحانه بالنهايات التي لا نهاية بعدها علماً وقدرة لاختصاصه ببيان المصنوعات وببيان البعث للتخويف بالآجل وإهلاك المرتدين للتخويف بالعاجل لمن كان قلبه جافياً عن النفوذ إلى الآجل .
ولما أهلك كل واحدة من هذه الفرقة فلم يبق من فجارها أحد ، وأنجى من أطاعه منهم فلم يهلك منهم أحد ، وكان إهلاكه لكل منها بشيء غير ما هلك به الفريق الآخر ، فدل كل من ذلك على تمام علمه وكمال قدرته ، وكان كمل ما تقدم في هذه السورة من النعم والنقم لكونه كان أتم أوجه الحكم نعمة على كل مؤمن لما فيها من الترغيب في ثوابه والترهيب من عقابه ، خاطب سبحانه رأس المؤمنين لأن خطابه له أشد في تذكير غيره فقال مسبباً عما مضى : { فبأيّ آلاء ربك } أي عطية المحسن إليك التي هي وجه الإنعام والإكرام وهي إشارة المعرفة به سبحانه بمنزلة ظل الشخص من الشخص كما أنه لايتصور ظل إلا لشخص فكذلك فعل الفاعل ولا أثر للمؤثر { تتمارى * } أي تشك بإجالة الخواطر في فكرك في إرادة هداية قومك بحيث لا تريد أن أحداً منهم يهلك وقد حكم ربك بإهلاك كثير منهم لما اقتضته حكمته ، وكان بعض خطرك في تلك الإجالة يشكك بعضاً ، ولما تم الكلام على هذا المنهاج البديع والنمط الرفيع في حسان البيان للمواعظ والشرع والقصص القديمة والإنذار العظيم التام على وجه معجز من وجوه شتى ، أنتج قوله مرغباً مرهباً خاتماً السورة بما بدأ هنا به من ذكره صلى الله عليه وسلم : { هذا } النبي صلى الله عليه وسلم { نذير } أي محذر بليغ التحذير ، ولما كانت الرسل الماضون عليهم الصلاة والسلام قد تقررت رسالتهم في النفوس وسكنت إليها القلوب ، بحيث أنه لا يسع إنكارها ، فكان قد أخبر عن إنكار من كذبهم لأجل تكذيبهم ، وإنجائهم وإنجاء من صدقهم لأجل نصرتهم ، وكان لا فرق بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم في ذلك إلا أن الرحمة به أبلغ وأغلب ، مرعباً في اتباعه مرهباً من نزاعه ، قال : { من النذر الأولى * } يجب له ما وجب لهم وأنتم كالمنذرين الأولين ، فاحذروا ما حل بالمكذبين منهم وارجوا ما كان للمصدقين .

ولما كان كل آت قريباً ، وكانت الساعة - وهي ما أنذر به من القيامة ومما دونها - لا بد من إتيانها لما وقع من الوعد الصادق به المتحف بالدلائل التي لا تقبل شكاً بوجه من الوجوه ، فكان باعتبار ذلك لا شيء أقرب منها ، قال دالاً على ذلك بصيغة الماضي الذي قد تحقق وقوعه وباشتقاق الواقع الفاعل مما منه الفعل : { أزفت الآزفة * } أي دنت الساعة الدانية في نفسها التي وصفت لكم بالفعل بالقرب غير مرة لأنها محط الحكمة وإظهار العظمة ، وما خلق الخلق إلا لأجلها ، المشتملة على الضيق وسوء العيش من القيامة ، وكل ما وعدتموه في الدنيا مما يكون به ظهور هذا الدين وقمع المفسدين . ولما ضاق الخناق من ذكرها على هذا الوجه ، تشوف السامع إلى دفعها ، فاستأنف قوله : { ليس لها } واستدرك بقوله : { من دون الله } أي من أدنى رتبة من رتبة الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { كاشفة * } أي كاشف يوجدها ويقيمها ويجلي علمها ، أو يدفع كربها وهمها وإن بالغ في الكشف وبذلك الجهد فيه ، فالهاء للمبالغة ، ويجوز أن تكون مصدراً كالجاثية والكاذبة والباقية فيكون الهاء للتأنيث .
ولما أفهم هذا أن الله يكشفها أي يكشف كربها ممن يريد من عباده ويثقله على من يشاء ، ويكشف علمها بإقامتها ، ولا حيلة لغيره في شيء من ذلك بوجه ، سبب عنه وعما تقدمه من الإنذار قوله منكراً موبخاً ، { أفمن هذا الحديث } أي القول العظيم الذي يأتيكم على سبيل التجدد بحسب الوقائع والحاجات { تعجبون * } إنكاراً وهو في غاية ما يكون من ترقيق القلوب .
ولما كان المعجب قد يمسك نفسه عن الضحك ، بين أنهم ليسوا كذلك فقال : { وتضحكون } أي استهزاء تجددون ذلك في كل وقت مبتدأ ضحككم منه وهو بعيد من ذلك ، ولما كان إنما يورث الحزن بكونه نزل بالحزن قال : { ولا تبكون * } أي كما هو حق من يسمعه .
ولما كان البكاء قد يكون على التقصير في العمل ، بين أن الأمر أخطر من ذلك فقال : { وأنتم } أي والحال أنكم في حال بكائكم { سامدون * } أي دائبون في العمل جاهدون في العمل ، فإن الأمر جد ، فالدأب في العمل والجد فيه حينئذ علة للبكاء ، فكأنه قيل : ولا تدأبون في العمل فتبكون ، وإنما قلت ذلك لأن « سمد » معناه دأب في العمل ورفع رأسه تكبراً وعلاً ، وسمد الإبل : جد في السير ، وسار سيراً شديداً ، واسمادّ : ورم ، وسمد : قام متحيراً وحزن وسر وغفل ولهاً وقام وحصل ونام واهتم وتكبر وتحير وبطر وأشر ، وسمد الأرض : سهلها ، وأيضاً جعل فيها السماد ، أي السرقين ، والشعر : استأصله ، وهو لك سمداً أي سرمداً ، والسميد : الحواري ، ذكر ذلك مبسوطاً القزاز في جامعه وصاحب القاموس .

فالمادة كما ترى تدور على انتشارها على الدأب في العمل فتارة بذكر مبدئه الباعث عليه ، وتارة الناشئ عنه ، وتارة ما بينهما ، وهو الجد في العمل ، فينطلق الاسم على كل من ذلك تارة حقيقة ومرة بمجاز الأول ، وأخرى بمجاز الكون ، فالقصد باعث ، وكذا الاهتمام والقيام ورفع الرأس ناشئان عنهما ، وذلك أوله ، والسدم بمعنى احرص والهم واللهج بالشيء ، والسديم : الضباب الرقيق ، هو مبدأ الكشف ، والمسدم : البعير المهمل وما دبر ظهره ، كأنه من الإزالة ، وركية سدم : متدفقة - للمعالجة في فتحها ، ولأن تدفقها دأب في العمل ، وكذا سدم الباب أي ردمه ، والدسم : الودك ، لأنه منشط على العمل ومنشأ منه ، والوضر والدنس ، ودسم المطر الأرض : بلها قليلاً ، لأنه مبدأ الكثير ، والقارورة : سدها ، والباب : أغلقه ، لأنه يعالج في فتحه ، والدسمة : غبرة إلى السواد - كأنه مبدأ السواد والدسيم لما لم يكن أبواه من نوع واحد - كأنه مبدأ لكل نوع منهما ولأنه يلزم الخلط في العادة العلاج ، ومنه الدسمة للرديء من الرجال - كأنه لم يكمل فيه النوع ، ولأن نقص الشيء عن عادته يلزمه العلاج والفعل بالاختيار ، والديسم : الرفيق بالعمل المشفق ، وأنا على دسم من الأمر أي طرف منه ، والمسد - محركة : المحور من الحديد ، لأنه آلة الفتل ، وحبل من الليف أو ليف المقل لأنه محل الدأب ، والمساد : نحى السمن ، ودمسه : دفنه ، يصلح أن يكون مبدأ ومقصداً ، ومنه دمس بينهم : أصلح لأنه دفن أحقادهم وعالج في ذلك ، والدمس : إخفاء الشيء والظلام ، لأنه منشئ التعب ، ودمس الموضع : درس - للتعب في معرفته ، ودمس الإهاب : غطاه فيمشط شعره ، والدمس : الشخص ، وبالتحريك : ما غطى ، والدودمس بالضم : حية مجر نفشة الغلاصيم تنفخ فتحرق ما أصابت بنفخها ، ومن آثاره الناشئة عن الورم ، وكذ القيام متحيراً والغفلة والسرور والحزن واللهو والنوم والكبر والتبختر والعلو والعتا ، والسميد أي الحواري ، والسمد بمعنى السرمد : والسمد : الهم مع ندم أو الغيظ مع حزن ، والديماس : الكن ، وما بين ذلك سمد الأرض والشعر والسير الشديد والجد فيه ، وهو نفس الدأب ، وكذا السديم للكثير الذكر ، وماء مسدم وعاشق مسدم : شديد العشق ، والدسيم : ظلمة السواد ، والدسيم ، الكثير الذكر ، ودسم البعير : طلاه بالحناء - والمسد : إداب السير - وبالتحريك : المضفور المحكم الفتل ، ورجل ممسود : مجدول الخلق - شبه به - وهي بها ، ودمس بينهم : أصلح ، وهو من الدفن أيضاً لأنه دفن أحقادهم فنبين أن جعل السمود في الآية بمعنى الدأب في العمل هو الأولى ، وأن كون الجملة حالاً من جعلها معطوفة على { تضحكون } - انتهى والله أعلم .

ولما حث على السمود ، فسره مسبباً عن الاستفهام ومدخوله قوله : { فاسجدوا } أي اخضعوا خضوعاً كثيراً بالسجود الذي في الصلاة { لله } أي الملك الأعظم { واعبدوا * } أي بكل أنواع العبادة فإنه { ما ضل صاحبكم } عن الأمر بذلك { وما غوى } قال الرازي في اللوامع : قال الإمام محمد بن علي الترمذي : تعبدنا ربنا مخلصين أن نكون له كالعبيد وأن يكون لعبيده كما هو لهم - انتهى ، ولو كان السمود بمعنى اللهو كان الأنسب تقديمه على { تبكون } - والله أعلم ، وقد ظهر أن آخرها نتيجة أولها ، ومفصلها ثمرة موصلها - والله الهادي .

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)

لما ختمت النجم بالتهديد باقتراب القيامة التي ينكرونها بعد أن فتحها بالأقسام البلس ( ؟ ) في النجم الذي هو أعم من القمر وغيره بتسييره طلوعاً وأفولاً وصعوداً وهبوطاً ، افتتح هذه بذلك مع الدلالة عليه عقلاً وسمعاً في التأثير في أعظم آيات الله وغير ذلك ليقطع العباد عن الفساد ، ويستعدوا لها قبل مجيئها أحسن استعداد ، فقال دالا على عظيم اقتداره عليها بتأنيث فعلها : { اقتربت الساعة } اشتدت قرباً الساعة : اللحظة التي لا ساعة في الحقيقة غيرها التي تقوم فيها القيامة لأنه قل ما بقي بيننا وبينها بالنسبة إلى ما مضى من زمن آدم عليه السلام لبعث خاتم الأنبياء الذي لم يبق بعد أمته أمة تنتظر ، فيكون في الزمان مهلة لذلك .
ولما كان الإخبار باقترابها يحتاج عند المعاند إلى آية دالة عليه ، وكانت الآيات السماوية أعظم ، فالتأثير فيها أدل على تمام الاقتدار ، وكان القمر أدل على الأنواء التي بها منافع الخلق في معاشهم ، وكانت العرب أعرف الناس بها ، دلهم على التأثير فيه على اقترابها مع الإرهاب من شدائد العذاب بإعدام الأسباب فقال : { وانشق } بغاية السرعة والسهولة { القمر * } آية للرسول المنذر لكم بها ، فكان انشقاقه - مع الدلالة على ذلك بإعجاز القرآن وغيره - دالاً على كونها وقربها أيضاً بالتأثير العظيم الخارق لعادة ما قبله من التأثير في أحد النيرين اللذين هما أعظم الأسباب المقامة للمعايش الدال على القدرة على التأثير في الآخرة الدال ذلك على القدرة على تمام التصرف فيهما من جمعهما وخسفهما واعتدامهما ولسببهما ( ؟ ) الذي هو من أسباب خراب الأرض ، يقول الإنسان عنده : أين المفر؟ المؤذن بطيّ العالم المعلم بأن له رباً فاعلاً بالاختيار مدبراً بالحكم الدال على بعث عباده ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ، فيثيب من تابع رسله ويعاقب من خالفهم ، وانشقاق القمر على حقيقته في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أمر شهير جداً ، وإجماع أهل التفسير عليه كما قاله القشيري ، وقال : رواه ابن مسعود رضي الله عنده ولا مخالف له فيه - انتهى . وذلك أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية « فأراهم انشاق القمر بحيث طلعت فرقة عن يمين حراء وأخرى عن يساره » - رواه الشيخان عن ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما ، ومعلوم أن الأمة تلقت كتابيهما بالقبول فهو يكاد يلحق بالمتواتر وقد أيده القرآن فلم يبق فيه شك ، قال القشيري : وروى أيضاً ابن عمر وحذيفة وابن عباس وجبير بن مطعم رضي الله عنهم ، وقال أبو حيان : سبب نزولها أن مشركي العرب من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين ، ووعدوه بالإيمان إن فعل ذلك ، وكانت ليلة البدر فسأل ربه فانشق - انتهى ، ومن قال : المراد به « سينشق » يحتاج في صرف الماضي عن حقيقته إلى المستقبل إلى صارف وأنى له ذلك ولا سيما وقد تأيدت الحقيقة بالنسبة الصحيحة الشهيرة .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما أعلمهم سبحانه بأن إليه المنتهى ، وأن عليه النشأة الأخرى ، وإذا ذاك يقع جزاء كل نفس بما أسلفت ، أعلمهم سبحانه بقرب ذلك وحسابه ليزدجر من وفقه للازدجار فقال تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } ثم إن سورة ص تضمنت من عناد المشركين وسوء حالهم وتوبيخهم في عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ما يكاد يوجد في غيرها مما تقدمها ، وبعد التنبيه في السورة قبلها والتحريك بآيات لا يتوقف عنها إلا من أضله الله وخذله ، وأثبتت السورة بعد على تمهيد ما تضمنته سورة ص فلم يخل سورة منها من توبيخهم وتقريعهم لقوله في الزمر { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] وقوله : { لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء } [ الزمر : 4 ] وقوله : { قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه } [ الزمر : 14 ] وقوله مثلاً لحالهم : { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون } [ الزمر : 29 ] الآية إلى ما بعد من التقريع والتوبيخ ، وقوله في سورة غافر : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } [ غافر : 4 ] وقوله : { ذلكم بأنه إذ دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله } [ غافر : 12 ] وقوله : { أفلم يسيروا في الأرض } [ غافر : 21 - 82 ] الآية ، وقوله : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } [ غافر : 56 ] وقوله : { ألم تر إلى الذين يجادلون في أيات الله أنى يصرفون } [ غافر : 69 ] { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون } [ غافر : 70 ] إلى قوله : { فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون } [ غافر : 77 ] وقوله : { أو لم يسيروا في الأرض } [ غافر : 82 ] إلى ما تخلل هذه الآيات ، وقوله في فصلت { فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة } [ فصلت : 5 ] { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } [ فصلت : 26 ] { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } [ فصلت : 40 - 44 ] إلى قوله : { أولئك ينادون من مكان بعيد } [ فصلت : 40 - 44 ] وقوله : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] إلى آخر السورة ، وقوله في الشورى : { والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل } [ الشورى : 6 ] { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم } [ الشورى : 13 ] الآية { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] الآية { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ }

[ الشورى : 48 ] وقوله في الزخرف : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً } [ الزخرف : 5 ] الآية ، { وجعلوا له من عباده جزءاً } [ الزخرف : 15 ] إلى ما تردد في هذه السورة مما قرعوا به أشد التقريع ، وتكرر في آيات كثيرة فتأملها مثل قوله تعالى في الدخان { بل هم في شك يلعبون } [ الدخان : 9 ] إلى قوله : { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } [ الدخان : 16 ] وقوله : { إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } [ الدخان : 40 ] إلى قوله هذا { ما كنتم به تمترون } [ الدخان : 50 ] وقوله في الأعراف : { فبأيّ حديث بعده يؤمنون } [ الأعراف : 185 ] إلى قوله : { والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم } [ الجاثية : 11 ] وقوله : { أفرءيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] إلى آخر السورة ، وقوله في الأحقاف : { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } [ الأحقاف : 3 ] ومعظم هذه الآية لم يخرج عن هذا إلى ختامها ، وكذلك سورة القتال ولم يتضمن إلا الأمر بقتلهم وأسرهم وتعجيل حربهم { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } [ محمد : 4 ] وأما سورة الفتح فما تضمنته من البشارة والفتح أشد على الكفار من كل ما قرعوا به ، ولم تخرج عن الغرض المتقدم ، وكذا سورة الحجرات لتضمنها من الأمر بتقدير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله ما يقر عين المؤمن ويقتل العدو الحاسد وما فيها أيضاً من إتلاف أمر المؤمنين وجمع كلمتهم وتآخيهم ، وموقع هذا لا يخفى على أحد ، وأما سورة الذاريات والطور والنجم فما تضمنته مما ذكرناه قبل أوضح شيء ، وبذلك افتتحت كل سورة منها فتأمل مطالعها ففي ذلك كفاية في الغرض - والله تعالى هو أعمل بالصواب ، فلما انتهى ما قصد من تقريع مكذبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغت الآي في هذه السورة من ذلك أقصى غاية ، وتمحض باطلهم وانقطع دابرهم ، ولم يحيروا جواباً فيما عرض عليهم سبحانه في سورة القمر من أحوال الأمم مع أنبيائهم ، وكان القصد من ذلك - والله أعلم - مجرد التعريف بأنهم ذكروا فكذبوا فأخذوا ليتبين لهؤلاء أن لا فرق بينهم وبين غيرهم وأن لا يغرهم عظيم حلمه سبحانه عنهم ، فهذه السورة إعذار عند تبكيتهم وانقطاع حجتهم بما تقدم وبعد أن انتهى الأمر في وعظهم وتنبيههم بكل آية إلى غاية يعجز عنها البشر ، ولهذا افتتح سبحانه هذه السورة بقوله تعالى : { ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر } وختمها سبحانه بقوله : { أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر } وهذا يبين ما قدمنا ، وكان قد قيل لهم : أي فرق بينكم وبين من تقدم حتى ترتكبوا مرتكبهم وتظنوا أنكم ستفوزون بعظيم جزائكم ، فذكر سبحانه لهم قصة كل أمة وهلاكها عند تكذيبها بأعظم إيجاز وأجزل إيراد وأفخم عبارة وألطف إشارة ، فبدأ بقصة قوم نوح بقوله : { كذبت قوم نوح } إلى قوله : { ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر } ثم استمر في ذكر الأمم مع أنبيائهم حسبنا ذكروا في السورة الوارد فيها إخبارهم من ذكر أمة بعد أمة إلا أن الواقع هنا من قصصهم أوقع في الزجر وأبلغ في الوعظ وأعرق في الإفصاح بسوء منقلبهم وعاقبة تكذيبهم ، ثم ختمت كل قصة بقوله : { فكيف كان عذابي ونذر } وتخلل هذه القصص بقوله تعالى : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } وهي إشارة إلى ارتفاع عذر من تعلق باستصعاب الأمور على زواجره وتنبيهاته ومواعظه ويدعي بعد ذلك واستعلاقه فقيل له إنه ميسر قريب المرام ، وهذا فيما يحصل عند التنبيه والتذكير لما عنده بكون الاستجابة بإذن الله تعالى ووراء ذلك من المشكل والمتشابه ما لا يتوقف عليه ما ذكره وحسب عموم المؤمنين الإيمان بجميعه والعمل بمحكمه ، ثم يفتح الله تعالى فهم ذلك على من شرفه به وأعلى درجته ، فيتبين بحسب ما يشرح الله تعالى صدره { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ومن تيسر المقصود المتقدم تكرار قصص الأنبياء مع أممهم في عدة سور أيّ حفظ مها اطلع على ما هو كاف في الاعتبار بهم ، ثم إذا ضم بعضه إلى بعض اجتمع منه ما لم يكن ليحصل من بعض تلك السورة ، فسبحان من جعله حجة باهرة وبرهاناً على صدق الآتي به محمد صلى الله عليه وسلم ، وصراطاً مستقيماً ونوراً مبيناً ، ولما ذكر سبحانه عواقب الأمم في تكذيبهم قال لمشركي العرب : { أكفاركم خير من أولائكم } ومن هذا النمط قول شعيب عليه السلام :

{ ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد } [ هود : 89 ] ثم قال تعالى : { أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر } إي إنكم تعلقتم بتألفكم وجماعتكم فسأفرق ذلك بهزيمتكم يوم بدر بقتل صناديدكم فما حجتكم بعد هذا ، إنما مساق القصص في هذه السورة واعتماد التعريف بحال من ذكر في أن كذبوا وعاندوا ، فأعقب تكذيبهم أخذهم وهلاكهم ، ثم تعقب هذا كله بصرف الكلام في مشركي العرب في قوله : { أكفاركم خير من أولائكم } وليس شيء من السور المذكورة فيها قصص على هذا الاستيفاء كالأعراف وهود ، وبظاهرهما ليس في شيء من ذلك تعقيب بذكر مشركي العرب على الصفة الواردة هنا ، فأنبأ ذلك بكمال المقصود من الوعظ والتحريك بذكره وانقضاء هذا الغرض ، وذلك أنهم ذكروا أولاً بعرض أحوال الأمم والتعريف بما آل إليه أمرهم ، وكان ذلك في صورة عرض من يريد تأديب طائفة من إليه نظرهم قبل أن يظهر منهم تمرد وعناد ، فهو يستلطف في دعائهم ولا يكلمهم تكليم الواجد عليهم ، بل يفهم الإشفاق والاستعطاف وإرادة الخير بهم ثم يذكرهم بذلك ويكرره عليهم المرة بعد المرة وإن تخلل ذلك ما يبين منهم فظاعة التهديد وشدة الوعيد ، فلا يصحبه تعيين المخاطب وصرف الكلام بالكلية إليه ، بل يكون ذلك على طريق التعريض والتوبيخ ، ثم لو كان لا يحتقر بما قبله وما بعده من التلطف حتى إذا تكررت الموعظة فلم تقبل ، فهنا محل الغضب وشدة الوعيد ، وعلى هذا وردت السور المذكور فيها حال الأمم كسورة الأعراف وهود والمؤمنين والظلة والصافات ، وما من سورة منها إلا والتي بعدها أشد في التعريف وأمل في الزجر بعد التعريف ، فتأمل تعقيب القصص في سورة الأعراف بقوله تعالى :

{ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون } [ الأعراف : 174 ] وقوله بعد موعظة بالغة بذكر من حرمه بعد إشرافه عل الفوز وهو الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه فقال بعد ذلك { فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } [ الأعراف : 176 ] وتذكيره إياه لمحنة الغفلة إلى ما ختمت به السورة وذلك غير خاف في التلطف بالموعظة وقال تعالى بعد قصص سورة هود : { وكذلك أخذ ربك } [ هود : 102 ] الآية ، وقال تعالى : { فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء } [ هود : 109 ] - إلى قوله - { وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } [ هود : 109 ] وتكررت الآية إلى آخر السورة يجاري ما ذكر ولم تبق هذه وآي الأعراف في تلطف الاستدعاء ، وقال تعالى في قصص آخر سورة المؤمنين : { فذرهم في غمرتهم حتى حين } [ المؤمنون : 54 ] - إلى قوله - { لا يشعرون } [ المؤمنون : 56 ] ثم قال : { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون } [ المؤمنون : 64 ] استمرت الآي على شدة الوعيد يتلو بعضها بعضاً إلى قوله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] وقوله تعالى بعد : { إنه لا يفلح الكافرون } [ المؤمنون : 17 ] ولم يبين هذه الآي ، وبين الواقعة عقب قصص سورة هود ، وقال في آخر قصص الظلمة : { وإنه لتنزيل رب العالمين } [ الشعراء : 192 ] إلى قوله خاتمة السورة : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } [ الشعراء : 227 ] فوبخهم وعنفهم ونزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن توهمهم وعظيم إفكهم وافترائهم ، وكل هذا تعنيف وإن لم يتقدم له مثله في السورة المذكورة ، ثم هو صريح في مشركي العرب معين لهم في غير تلويح ولا تعريض ، ثم إنه وقع عقب كل قصة في هذه السورة قوله تعالى : { إن في ذلك } وفيه تهديد ووعيد ، وقال تعالى في آخر والصافات : { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون } [ الصافات : 149 ] وهذا أعظم التوبيخ وأشد التقريع ، ثم نزه نبيه سبحانه عن بهتان مقالهم وسوء ارتكابهم وقبح فعالهم ، بقوله : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] فلما أخذوا بكل مأخذ فما أغنى ذلك عنهم قال تعالى في سورة القمر : { ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر } { حكمة بالغة فما تغني النذر } ، ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فتول عنهم } ولم يقع أمره صلى الله عليه وسلم بتركهم والإعراض عنهم والتولي إلى بعد حصول القصص في السورة المذكورة وأخذهم بكل طريق ، وأول أمره بذلك صلى الله عليه وسلم في سورة السجدة { فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون } ثم في سورة والذريات { فتول عنهم فما أنت بملوم } بأشد وعيد وأعظم تهديد بعقب كل قصة بقوله : { ولقد تركناها آية فهل من مذكر } وقوله : { فكيف كان عذابي ونذر } ثم صرف إليهم بما تقدم قوله : { أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر } فبلغ ذلك أعظم مبلغ في البيان وإعذار ، ثم قال تعالى : { وكل شيء فعلوه في الزبر } ففرق سبحانه بسابق حكمته فيهم { إنا كل شيء خلقناه بقدر } وانقضى ذكر القصص فلم يتعرض لها مستوفاة على المساق فيما بعد إلى آخر الكتاب - فسبحان من رحم به عباده المتقين وجعله آية وأي آية باهرة إلى يوم الدين ، وقطع عناد الجاحدين وغائلة المعتدين وجعله بياناً كافياً ونوراً هادياً وواعظاً شافياً - جعلنا الله سبحانه وتعالى ممن اهتدى واعتلق بسببه إنه أهل الاستجابة والعفو والمغفرة - انتهى .

وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)

ولما كان التقدير : فأعرض الكفار عن آية انشقاقه وقالوا : سحر ، مع علمهم بأنه دال قطعاً على صدق من انشق لتصديقه ، عطف عليه الإعلام بحالهم في المستقبل فطماً لمن يطلبه من المؤمنين إجابة مقترحة من مقترحاتهم رجاء إيمانهم فقال : { وإن يروا } أي فيما يأتي { آية } أي أية آية كانت { يعرضوا } أي عن الانتفاع بها كما أن أعرضوا عن هذه لما رأوها ، وقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : أمهلوا حتى يجيء السفار ، فإن قالوا : إنهم رأوا كما رأيتم فليست بسحر ، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر أهل الأرض كلهم ، فجاء السفار وشهدوا برؤيته منشقاً ، ومع ذلك فلم يؤمنوا { ويقولوا } أي على سبيل التجديد منهم والاستمرار : هذا { سحر } أي هذا الذي يأتينا به هذا الرجل من وادي الخيال الذي لا حقيقة له وهو { مستمر * } أي لأنه فارق السحر بأنه لا ينكشف في الحال لأنه محكم ثابت دائم بشموله وإحاطته بجميع الأنواع ، ولذلك يتأثر عنه غاية الخوارق المتباينة الأنواع الكثيرة .
ولما فطم عن التشوف إلى إجابتهم في المقترحات على ما قدرته ، تسبب منهم عن الانشقاق بقوله : { وكذبوا } أي بكون الانشقاق دالاً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجزموا بالتكذيب عناداً أو خبثاً منهم . ولما كان التكذيب في نفسه قد يكون حقاً ، قال مبيناً أنه باطل ، فبين عن حالهم بقوله : { واتبعوا } أي بمعالجة فطرهم الأولى المستقيمة في دعائها إلى التصديق { أهواءهم } أي حتى نابذوا ما دلتهم عليه بعد الفطرة الأولى عقولهم ، قال القشيري : إذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب ، لأن الله سبحانه وتعالى يلبس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر الرشد ، واتباع الرضى مقرون بالتصديق لأن الله تعالى ببركات الاتباع للحق يفتح عين البصيرة فيأتي بالتصديق - والله الهادي . ولما كان ذلك مفظعاً لقلوب المحقين ، سلاهم بالوصول إلى محط تظهر فيه الحقائق وتضمحل فيه الشقاشق ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فسيستقر أمر كل من أمر المحق والمبطل في قراره ، ويطلع على دقائقه وأسراره : { وكل أمر } من أموركم وغيرها { مستقر * } أي ثابت وموجود ، انتهاؤه إلى غاية تظهر فيها حقيقته من غير حيلة تصاحبه إلى رد ذلك القرار ولا خفاء على أحد ، فلا بد أن ينتهي الحق من كل شيء من الآجال والهدايات والضلالات والسعادات والشقاوات وغيرها إلى نهايته فيثبت ثبوتاً لا زوال له ، وينتهي الباطل مما دعاه الخلق فيه إلى غايته فيتلاشى تلاشياً لا ثبات له بوجه من الوجوه ، فإذا استقرت الأمور ظهر ما لهم عليه وعلموا الخاسر من الفائز ، وفي مثل هذا قال ابن عمرو التيمي أخو القعقاع في وقعة السي ( ؟ ) من بلاد العراق :

والموت خيلنا لما التقينا ... بقارن والأمور لها انتهاء
وقرأ أبو جعفر بالجر صفة لأمر ، فيكون معطوفاً على الساعة أي واقترب كل أمر مستقر أي ثابت وهو الحق أي اقترب الظهور وثباته ، وذلك لا يكون إلا وقد كان خفاء الباطل وفواته . ولما حذر وبشر قال معلماً أنه محيط العلم بأمرهم من قبل الإجابه إلى شق القمر وأنه ما شقه لطمع في إيمانهم بلا للأعلام بخذلانهم مؤكداً لمن يتعلق رجاؤه بأن تواتر الآيات ربما أوجب لهم التصديق المتضمن لأن ما جاءهم ليس فيه كفاية : { ولقد جاءهم } من قبيل الانشقاق { من الأنباء } أي الأمور العظيمة المرئية ، المسموعة التي تستحق لعظمتها أن يخبر بها إخباراً عظيماً سيما ما جاء في القرآن من تفصيل أصول الدين وفروعه وأخبار الأولين والآخرين والأولى والأخرى { ما فيه } خاصة { مزدجر * } أي موضع للزجر من شأنه أن يكون لهم به انزجار عظيم عما فيه من الباطل ، ولكن لم يزدجر منهم إلا من أراد الله ، قال القشيري : لأن الله أسبل على أبصارهم سجوف الجهل فعموا عن مواضع الرشد .
ولما كان ما فيه ذلك قد لا يكون محكماً ، بينه بقوله : { حكمة } عظيمة { بالغة } أي لها معظم البلوغ إلى منتهى غايات الحكمة لصحتها وطهارتها ووضوحها ، ففيها مع الزجر ترجية ومواعظ وأحكام ودقائق تجل عن الوصف . ولما تسبب عنها انزجارهم ، سبب عن ذلك قوله : { فما } نفياً صريحاً أو باستفهام إنكاري موبخ { تغن النذر * } الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها - إنما المعني بذلك هو الله تعالى ، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن ، ولعل الإشارة بإسقاط يا « تغني » بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت نمرة الإنذار وهو القبول .
ولما كان صلى الله عليه وسلم التعلق بطلب نجاتهم ، فهو لذلك ربما اشتهى إجابتهم إلى مقترحاتهم ، سبب عن ذلك قوله : { فتول عنهم } أي كلف نفسك الإعراض عن ذلك فما عليك إلا البلاغ ، وأما الهداية فإلى الله وحده . ولما بين اقتراب الساعة بالإجابة إلى بعض مقترحاتهم القائمة مقامها كلها بدلالته على القدرة عليها ، وأتبع ذلك الفطم عن طلب الإجابة إلى شيء فيها لأنها لا تغني شيئاً ، تطلعت النفوس الكاملة إلى وصف الساعة فأجاب عن ذلك على سبيل الاستئناف بذكر ظرفها وذكر . . . ما يقع فيه من الأهوال ، فقال معلقاً بما تقديره : الساعة كائنة على وجه الاقتراب الشديد : { يوم يدع } ويجوز - والله أعلم - أن يكون الناصب له { تول } لأنهم لما أعرضوا حين دعاهم كان جزاءهم أن يعرض عنهم يوم حاجتهم إليه لأن الجزاء من جنس العمل ، فكأنه قيل بعد أن عد القيامة أمراً محققاً لا يأتي النزاع فيه : تول عنهم في ذلك اليوم العبوس الذي أنت فيه الشافع المقبول .

. . واتركهم لأهواله ودواهيه ، فقد بان الخاسر فتوليهم إنما يضرهم ، لأن توليهم عنك لا يضرك شيئاً أصلاً ، وتوليك عنهم يضرهم ضرراً ما بعدهم ضرر - والله أعلم ، وحذف واو « يدعو » للرسم بإجماع المصاحف من غير موجب لأن المقام لبيان اقترابها ، فكأنه إشارة إلى كونها بأدنى دعاء ، وأيضاً ففي حذفه تشبيه للخبر بالأمر إشارة إلى أن هذا الدعاء لا بد على أن يكون على أعظم وجه وأتقنه وأهوله وأمكنه كما يكون كل مأمور من الأمر المطاع ، والوقف على هذا وأمثاله بغير واو لجميع القراء موافقة للرسم لأن القاعدة أن ما كان فيها رواية أتبعت وإن خالفت الرسم أو الأصل ، وما لم يرد فيه عن أحد منهم رواية اتبع فيه الرسم وإن خولف الأصل ، لأن التخفيف معهود في كلام العرب كالوال والمتعال من أسمائه الحسنى ، لكن قال علامة القراءات شمس الدين الجزري في كتابه المسمى بالنشر في هذه الأحرف الأربعة : هذا و { يدع الإنسان } في سبحان و { يمح الله الباطل } في شورى و { سندع الزبانية } في العلق : نص الحافظ أبو عمرو الداني عن يعقوب على الوقف عليها بالواو على الأصل ، ثم قال : قلت : وهو من انفراده ، وقد قرأت به من طريقه { الداع } أي النفخ في الصور { إلى شيء نكر * } عظيم الوصف في النكارة بما تكرهه النفوس فتوجل منه القلوب لأنه لا شيء منه إلا وهو خارج عما تقدمه من العادة .
ولما بين دعاءه بما هال أمره ، بين حال المدعوين زيادة في الهول فقال : { خشعاً أبصارهم } أي ينظرون نظرة الخاضع الذليل السافل المنزلة المستوحش الذي هو بشر حال ، ونسب الخشوع إلى الأبصار لأن العز والذل يتبين من النظر فإن الذل أن يرمي به صاحبه إلى الأرض مثلاً مع هيئة يعرف منها ذلك كما قال تعالى : { خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } وإفراده في قراءة أبي عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي على أن الخشوع بلغ في النهاية من الشدة ونسبته إلى كل بصر على حد سواء ، وجمع على لغة « أكلوني البراغيث » تفي قراءة الباقين بضم الخاء وتشديد الشين مفتوحة أو مستنداً المدعوين ، والإبصار يدل بعض الإشارة إلى أن كل ذلك موزع على الأبصار .
ولما بين من حالهم هكذا ما يدل على نكارة ذلك اليوم ، بين كيفية خروجهم بياناً لما يلزم من تصوره زيادة الذعر فقال : { يخرجون } أي على سبيل التجدد الأشرف فالأشرف { من الأجداث } أي القبور المهيأة لسماع النفخ في الصور { كأنهم } في كثرتهم وتراكم بعضهم على بعض من كبيرهم وصغيرهم وضعيفهم وقويهم { جراد منتشر * } أي منبث متفرق حيران مطاوع لمن نشره بعدما كان فيه من سكون مختلط بعضه ببعض ، لا جهة له في الحقيقة يقصدها لو خلى ونفسه .

مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)

ولما كان الانتشار قد يكون وجه المهل والوقار ، قال مبيناً أن الأمر على خلاف ذلك زيادة في هول ذلك اليوم وتقريراً لما تقدم من وصفه : { مهطعين إلى الداع } أي مسرعين خائفين مقبلين بأبصارهم عليه لا يقلعون عنه ، مادين أعناقهم نحوه مصوبي رؤوسهم لا يلتفتون إلى سواه كما يفعل من ينظر في ذلك وخضوع وصمت واستكانة . ولما بين حال الكل حصر حال المبطلين فقال : { يقول } أي على سبيل التكرار : { الكافرين } أي الذين كانوا في الدنيا عريقين في ستر الأدلة وإظهار الأباطيل المضلة : { هذا } أي الوقت الذي نحن فيه بما نرى من الأهوال { يوم عسر * } أي في غاية العسر الصعوبة والشدة ، وذلك بحسب حالهم فيه .
ولما تقدم أمره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتولي عنهم تهديداً لهم ، وصرح بما أراد من أمر الساعة لما دعا إلى ذلك من تقدم ذكرها ، ولأنها أشد هول يهددون به ، وبياناً أن الخلق ما خلق إلا لأجلها لأنها محط الحكمة ، وختم بعسرها على الكافرين ، تمم ذلك التهديد بعذاب الدنيا ردعاً لأهل الغلظة الموكلين بالمحسوسات ، فذكر عسر يوم كان على الكافرين فيها ، فقال مهدداً لقريش بجعل القصة مثلاً لهم في إهلاكهم وفي أمر الساعة من حيث إنه كما أهلك أهل الأرض في آن واحد بما أرسله من الماء فهو قادر على أن يهلكهم في آن واحد بالصيحة ، وكما صرف هذا التصريف الذي ما سمع بمثله في الإهلاك فهو قادر على أن يصرفه في الإحياء عند البعث على وجه ما عهد مثله تنبت فيه الأجساد وتحيا فيه العباد ، جواباً لمن كأنه قال : هذا ما يوعدونه بعد الموت ، فهل لهم عذاب قبله دال على كمال القدرة : { كذبت } أو أوقعت التكذيب العظيم الذي عموا به جميع الرسالات وجميع الرسل ، وأنث فعلهم تحقيراً لهم وتهويناً لأمرهم في جنب قدرته .
ولما كان ما كان من تصميمهم عليه وعزمهم على عدم الانفكاك عنه لكونه جبلة مستغرقاً لجميع ما بعدهم من الزمان ، وكانوا قد سنوا سنة التكذيب فكان عليهم مع وزرهم وزر من أتى بعدهم ، وكان ما قبلهم من الزمان يسيراً في جنب ما بعده عدماً ، فلذلك ذكر الظرف من غير حرف جر لأنه مع أنه الحق أعظم في التسلية فقال : { قبلهم } أي في جميع ما سلف من الزمان ومضى بعضه بالفعل وبعضه بالقوة لقوة العزم : { قوم نوح } مع ما كان بهم من القوة ولهم من الانتشار في جميع الأقطار .
ولما ذكر تكذيبهم إشارة إلى أنه جبلة لهم جحدوا بها النبوة رأساً فلاحظ لهم في التصديق للحق فلا يفترق حالهم بالنسبة إلى أحد من الناس كان من كان ، فلذلك سبب عن هذا المطلق قوله : { فكذبوا عبدنا } أي على ما له من العظمة نسبة إلينا لكونه لم يتعبد لغيرنا قط مع تشريفنا إياه بالرسالة ، فكان تكذيبهم فراً مما دخل في تكذيبهم المطلق الشامل لكل ما يمكن تكذيبه وهو ميد ( ؟ ) { وقالوا } مع التكذيب أيضاً زيادة على تغطية ما ظهر منه من الهداية : { مجنون } أي فهذا الذي يظهر له من الخوارق من أمر الجن .

ولما كان إعلاء الصوت على النبي كائناً من كان عظيم القباحة جداً زائد الفظاظة فكيف إذا كان مرسلاً فكيف إذا كان من أولي العزم فكيف إذا كان على سبيل الإنكار عليه ، فكيف إذا كان على صورة ما يفعل ممن لا خطر له بوجه ، قال بانياً للمجهول إشارة إلى تبشيعه من غير نظر إلى قائل وإيذاناً بأن ذلك لم يكن من أكابرهم فقط بل من كبيرهم وصغيرهم : { وازدجر * } أي أعملوا أنفسهم في انتهاره وتوعده وتهديده وانتشر ذلك في جميعهم بغاية ما يكون من الغلظة كفاله عن الرسالة ومنعاً له عنها ، والمعنى أنهم قالوا : إنه استظهر عليهم بالجنون .
ولما طال ذلك منهم ومضت عليه أجيالهم جيلاً بعد جيل حتى مضى له من إنذارهم أكثر مما مضى من الزمان لأمة هذا النبي الحاتم إلى يومنا هذا ، وأخبره الله أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن معه ، تسبب عن ذلك الدعاء بالراحة منهم ، فلذلك قال صارفاً وجه الخطاب إلى صفة الإحسان والربوبية والامتنان إيذاناً بأنه أجاب دعاءه ولبى نداءه : { فدعا ربه } أي الذي رباه بالإحسان إليه برسالته معلماً له لما أيس من أجابتهم : { أني مغلوب } أي من قومي كلهم بالقوة والمنعة لا بالحجة ، وأكده لأنه من يأبى عن الملك الأعظم يكون مظنة النصرة ، وإبلاغاً في الشكاية إظهاراً لذل العبودية ، لأن الله سبحانه عالم بسر العبد وجهره ، فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل ، وكذا الإبلاغ فيه { فانتصر * } أي أوقع نصري عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه .
ولما استجاب له سبحانه ، سبب عن دعائه قوله ، عائداً إلى مظهر العظمة إعلاماً بمزيد الغضب الموجب دائماً للاستيعاب بالغضب : { ففتحنا } أي تسبب عن دعائه أنا فتحنا فتحاً يليق بعظمتنا { أبواب السماء } كلها في جميع الأقطار ، وعبر بجمع القلة عن الكثرة لأن عادة العرب أن تستعيره لها وهو أرشق وأشهر من بيبان ، وسياق العظمة يأبى كونه لغيرها . ولما كان المراد تهويل أمر الماء بذكر حاله التي كان عليها حتى كأن المحدث بذلك شاهده جعلت كأنه آية فتحت بها السماء فقال : { بماء منهمر * } أي منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب عظماً وكثرة ، ولذلك لم يقل : بمطر ، لأنه خارج عن تلك العادة ، واستمر ذلك أربعين يوماً { وفجرنا } أي صدعنا بما لنا من العظمة وشققنا وبعثنا وأرسلنا { الأرض عيوناً } أي جميع عيون الأرض ، ولكنه عدل عنه للتهويل بالإبهام ثم البيان ، وإفادة لأن وجه الأرض صار كله عيوناً .

ولما كان الماء اسم جنس يقع على الأنواع المختلفة كما يقع على النوع الواحد ، وكان قد ذكر ماء السماء والأرض ، سبب عن ذلك قوله : { فالتقى الماء } أي المعهود وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا ، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء فقال : { على أمر } ولما تقررت هذه العظمة لهذه الواقعة ، فكان ربما ظن أنه صار جزافاً ، وزاد على الحد المأمور به ، أشار إلى أنه بالنسبة إلى عظمته في غاية الحقارة فقال : { قد قدر * } أي مع كونه مقدوراً عليه في كل وقت بغاية السهولة قد وقع تقديره في الأزل ، فلم يستطع أن يزيد على ذلك قطرة فما فوقها ولا أن يهلك غير من أمرناه بإهلاكه ، وأشار بالتخفيف إلى غاية السهولة في ذلك سبحانه .

وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)

ولما ذكر ما علم منه بقرينة ما ذكر من خرقه للعادة ، وأن إجابته لدعوته عليه الصلاة والسلام ، ذكر تمام الانتصار بنجاته فقال : { وحملناه } أي بما لنا من العظمة على متن ذلك الماء بعد أن صار جميع وجه الأرض مجرى واحداً ، وحذف الموصوف تهويلاً بالحث على تعرفة بتأمل الكلام فقال : { على ذات } أي سفينة ذات { ألواح } أي أخشاب نجرت حتى صارت عريضة { ودسر * } جمع دسار وهو ما يشد به السفينة وتوصل بها ألواحها ويلج بعضها ببعض بمسمار من حديد أو خشب أو من خيوط الليف على وجه الضخامة والقوة الدفع والمتانة ، ولعله عبر عن السفينة بما شرحها تنبيهاً على قدرته على ما يريد من فتق الرتق ورتق الفتق بحيث يصير ذلك المصنوع ، فكان إلى ما هيأه ليراد منه وإن كان ذلك المراد عظيماً وذلك المصنوع .
ولما كان ذلك خارقاً للعادة فكان يمكن أن يكون في السفينة خارق آخر بإسكانها على ظهر الماء من غير حركة ، بين أن الأمر ليس كذلك فقال مظهراً خارقاً آخر في جريها : { تجري } أي السفينة { بأعيننا } أي محفوظة أن تدخل بحر الظلمات ، أو يأتي عليها غير ذلك من الآفات ، بحفظنا على ما لنا من العظمة حفظ من ينظر الشيء كثرة ولا يغيب عنه أصلاً ، وجوزوا أن يكون جمع تكسير لعين الماء ، ثم علل ذلك بقوله : { جزاء } أي لعبدنا نوح عليه السلام ، ولكنه عبر هنا بما يفهم العلة ليحذر السامع وقوع مثل ذلك العذاب له إن وقع منه مثل فعل قومه فقال : { لمن } وعبر عن طول زمان كفرهم بقوله : { كان كفر * } أي وقع الكفر به وهو أجل النعم ، فقال على أهل ذلك الزمان وذلك جزاء من كفر النعم ، ويجوز أن يكون المراد به قومه بين أنه وقع الكفر منهم وقوعاً كأنهم مجبولون عليه حتى كأنه وقع عليهم لتوافق قراءة مجاهد بالبناء . للفاعل .
ولما تم الخبر عن نجاته بحمله فيها ، نبه عن آثارها بقوله : { ولقد تركناها } أي هذه الفعلة العظيمة من جري السفينة على هذا الوجه وإبقاء نوعها دالة على ما لنا من العظمة ، وقيل : تلك السفينة بعينها بقيت على الجودي حتى أدرك بقايا ما هذه الأمة { آية } أي علامة عظيمة على ما لنا من العلم المحيط والقدرة التامة { فهل من مدكر * } أي مجتهد في التذكير بسبب هذا الأمر لما يحق على الخلق من شكر الخالق بما هدت إليه رسله كما قالوه .
ولما قدم تعالى قوله : { فما تغن النذر } وأتبعه ذكر إهلاكه المكذبين ، وكان ما ذكره من شأنهم أمرهم في الجلالة والعظمة بحيث يحق للسامع أن يسأل عنه ويتعرف أحواله ليهتدي بها على ذلك بقوله مسبباً عن التذكير باستفهام الإنكار والتوبيخ : { فكيف كان } أي وجد وتحقق { عذابي } أي لمن كذب وكفر وكذب رسلي { ونذر * } أي الإنذارات الصادرة عني والمنذرون المبلغون عني فإنه أنجى نوحاً عليه السلام ومن آمن معه من أولاده وغيرهم ومتعهم بعد إهلاك عدوهم وجعل الناس الآن كلهم من نسله ، قال القشيري : في هذا قوة لرجاء أهل الدين إذا لقوا في دين الله محنة فجحد غيرهم ما آتاه الله أن يهلك الله عن قريب عدوهم ويمكنهم من ديارهم وبلادهم ويورثهم ما كان إليهم ، وكذلك سنة الله في جميع أهل الضلال - انتهى .

وكان المعنى في تكرير ذلك عليهم بعد التذكير بما أتيناهم به من قصص هذه الأمم ميسراً لفهم صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم كيف كان أخذي لهم وعاقبة تخويفي إياهم لعلهم يتعظون فينفعهم إنذار المنذرين .
ولما كان هذا التفصيل مما أنزل أول القرآن تيسيراً على الأمة ، نبه على ذلك بقوله : { ولقد يسرنا } أي على ما لنا من العظمة { القرآن } أي على ما له من الجمع والفرق والعظمة المناسبة لكونه صفة لنا { للذكر } أي الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والحفظ والتشريف لمن يراعيه ، قال ابن برجان : أنزلناه باللسان العربي وأنزلناه للأفهام تنزيلاً وخاطبناهم بعوائدهم وأعلمنا من قبل أعمالهم وأقبسناهم المعرفة واليقين من قبل ذواتهم وضربنا لهم الأمثال وأطلنا لهم في هذه الأعمال ليتذكروا الميثاق المأخوذ عليهم ، وقال القشيري : يسر قراءته على ألسنة قوم ، وعلمه على قلوب قوم ، وفهمه على قلوب قوم ، وحفظه على قلوب قوم ، وكلهم أهل القرآن وكلهم أهل الله وخاصته - انتهى . والآية ناظرة بالعطف والمعنى إلى { ولقد جاءهم من الأنباء } الآيتين ، فالمعنى أنا ولو شئنا بما لنا من العظمة لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها ، وبلاغات لا يهتدون إلى وجه معناها أصلاً لكننا لم نفعل ذلك بل خاطبناهم بأبلغ من بلاغتهم مع تيسير فهم ما خاطبناهم به فكان في ذلك إعجازان : أحدهما أنه فوق بلاغتهم ، والثاني أنه مع علوه يشترك في أصل فهمه الذكي والغبي . ولما كان هذا القرآن العظيم الجامع ترجمة لأفعاله سبحانه في هذا الوجود الشاهد والغائب الذي أخبرنا عنه وشرحنا لما أنزل علينا من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعرف لنا بها ، وكان سبحانه قد جعل خلق الآدمي جامعاً ، فما من شيء من أفعاله إلا وفي نفسه منه أثر ظاهر ناظر للتفكر في القرآن والتعرف للأسرار منه بالتذكير الذي يكون . . . لما كان الإنسان يعرفه ثم نسيه حتى صار لا يستقل باستحضاره فإذا ذكر به ذكره ، فقال منبهاً على عظيم فعل العلم والقرآن الذي هو طريقه بالتكرار والتعبير بما هو من الذكر على أنه المحفوظ للإنسان بما هيأ له من تيسير أمره { فهل من مدكر * } قال البخاري في آخر صحيحه : قال مطر الوراق : هل من طالب علم فيعان عليه ، وقد تكررت هذه الموعظة في هذه السورة أربع مرات ، وذكرت الجملة الأخيرة منها منفكة عن تيسير القرآن مرتين : مرة في أول القصص وهي قصة نوح عليه السلام ، ومرة كما يأتي في آخرها ، وذلك عقب قصة فرعون وهو قوله : { فكيف كان عذابي ونذر } مثل ذلك ، وكررت { فبأي ألاء ربكما تكذبان } في الرحمن إحدى وثلاثين مرة ، فنظرت في سر ذلك فظهر لي - والله الهادي - أن الذي تقدم في سورة المفصل على هذه السورة أربع سور هذه السورة خاتمتها فأشير إلى التذكر بكل سورة منها حثاً على تدبرها بآية ختمت كلماتها بكلمة عادت حروفها في السور الخمس وأدغم حرف منها في آخر بعد قلب كل منهما ، فكانت هذه الكلمة التي مدلولها الذكر مشيرة إلى الحواس الخمس الظاهرة التي هي مبادئ العلم ، وكان ما في أول هذه المواعظ وآخرها لخلوه عن ذكر القرآن موازياً للحرفين اللذين طرفهما للوهن بالتعبير والقلب لكن كان الحرفان بالإدغام كحرف واحد ، كانت الجملتان الموازيتان لهما كآية واحدة من تلك الأربع ، وكان هذا الأول والآخر مشاراً به إلى هذه السورة التي جمعت التذكير بالسورة الأربع ، وأعريت عن ذكر تيسير القرآن لافتتاح السور السور بمحو وما يقرب من المحو وهو آية الليل والتيسير فيها والساعة التي هي أغيب الغيب ، وكل من فيها سوى الله محو لسلب الأمر كله عنهم وخصت بها الأولى والآخرة لجامع بينهما من غرق العصا في الماء ونجاة المطيعين بعضهم بالسفينة وبعضهم بنفس البحر الذي هو مسرح السفن ، وكانت الموعظة المذكور فيها القرآن في ختام قصة نوح عليه السلام مع عمومها لجميع القرآن إشارة إلى خصوص التذكير بسورة ق لما بينهما من جامع الإحاطة بإحاطة جبل ق بالأرض كلها وطوفان قوم نوح عليه السلام بعموم جميع الأرض والتي في سورة عاد إشارة إلى سورة الذاريات لأن كلاهم كان بالريح ، والتي في قصة ثمود إشارة إلى التذكير بالطور بجامع ما بينهما من الرج والرجف والذل والصعق ، أما في قصة ثمود فظاهر ، وأما في الطور فلما كان من دكه وصعق بني إسرائيل فيه ، وقد ذكر الصعق في آخر الطور ، وما في قصة لوط إشارة إلى النجم لأن مدائنهم ارتفعت إلى عنان السماء ثم أهويت وأتبعت الحجارة ، فلما كان الأمر هكذا ، وكانت النعم محيطة بالإنسان من جهاته الست ، فضربت الحواس الخمس في الجهات الست ، فكانت ثلاثين ، كأنه قيل : هل مذكر بهذا القرآن ، ولا سيما ما تقدم على هذه السورة منه في المفصل ما لله عليه من النعم في نفسه وفي الآفاق المشار إلى القسم الأول منها بمذكر وإلى الثاني بتكرير ذكر الآلاء فكل آية تكرير انتهى إلى العدد المخصوص وإلى المجموع بالمجموع ليعلم أن نعم الله محيطة به على وجه لا يقدر على صنعه إلا الله الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال التي أعظمها - من حيث كونه أساساً يبنى عليه - الوحدانية المنزهة عن الشركة فيخشى من معصيته أن يسلبه نعمه أو واحدة منها فلا يجد من يقوم بها ولا بشيء منها غيره أو يعذبه بشيء مثل عذاب هذه الأمم أو بغير ذلك مما له من إحاطة القدرة والعلم فلا يجد من يرد عنه شيئاً منه سبحانه ، وأما الواحد الزائد فهو إشارة إلى أن المدار في ذلك الإدراك هو العقل والحواس كما أن المقصود بذلك كله واحد وهو الله تعالى ، وكل هذه الأشياء أسباب لمعرفته وأيضاً فالواحد إشارة إلى أن زيادة الآلاء من فضل الله تعالى لا تنقطع كما أن الواحد الذي هو أصل العدد لا يزال ، فكلما أغنت زيادتها ابتدأ دور ثم ابتدأ دور آخر دائماً أبداً ، وللتكرير نكتة أخرى بديعة جداً ، وهي تأكيد التقرير دلالة على اشتداد الغضب المقتضي لأنهى العقوبة كما أن من اشتد غضبه من إنكار شخص لشيء من قتله إذا بينه غاية البيان بأمور متنوعة وهو يتمرد ويلد غاية اللدد يأخذه فيجمع له جمعاً لا يقدر على العدول عن الحق بحضرتهم .

وهو يذعن وهو في قبضته فيذكر تلك المعاني بين ذلك الجمع ، فيصير كلما ذكر له نوعاً منها بحضرتهم ، قال له : هل ظهر لك هذا؟ فيقول ذاك المنكر : نعم ظهر لي ، فلا يريد ذلك إلا غضباً لما تقدم له من عظيم غضبه ولدده فيذكر له معنى آخر ثم يقول : هل ظهر لك هذا؟ فيقول : نعم والله لا يعرج على اعترافه ذلك ويذكر له نوعاً آخر ، ويقول مثل ذلك يريد الزيادة في تبكيته وتخجيله ، وهكذا إلى أن يشتفي - كل ذلك للتنبيه على لدده وكفاية كل نوع منها لما أريد منه من البيان ، وقال في الكشاف : فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين أدكاراً واتعاظاً وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحث عليه والبعث على ذلك كله وأن يقرع لهم العصى مرات ويقعقع لهم السن تارات ، لئلا يغلبهم السهود ويستولي عليهم حكم الغفلة ، وهكذا حكم التكريرات لتكون العبر حاضرة للقلوب مصورة للأذهان مذكورة غير منسية في أوان - انتهى ، ولمثل ما مضى أو قريب منه كرر التهويل بالعذاب ست مرات : أربع منها { فكيف كان عذابي ونذر } واثنان منها { فذوقوا عذابي ونذر } فهما بمنزلة واحدة من الأربع ليرجع الست إلى الخمس الدال عليها { مدكر } إشارة إلى أن الحواس الخمس كما ضربت في الجهات الست لأجل النعم التي هي جلب المصالح ضربت فيها للتذكير بدفع النقم الذي هو درأ المفاسد والتحذير منها ، ومن فوائد تكرر الست الراجعة إلى الخمس مرتين : مرة لجلب النعم وأخرى لدفع النقم أن الحواس مكررة ظاهراً وباطناً ، فمن ذل لسانه بالقرآن ظاهراً صحت حواسه الظاهرة ونورت له الباطنة ، ومن أبى عذب بسبب الباطنة فتفسد الظاهرة ، واختير للموعظتين عدد الست مع إرادة جماعة إلى خمسة لأن الست عدد تام وذلك لأن عدد كسورها إذا جمعت سادتها ولم تزد عنها ولم تنقص وهي النصف والثلث والسدس ، وهذا العدد مساو لدعائم الإسلام الخمس وحظيرته الجهاد التي هي عماد تقوى المتقين أهل مقعد الصدق الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله المشار به إلى الصيام

{ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } [ البقرة : 183 ] والحج { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } [ البقرة : 125 ] والجهاد { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [ البقرة : 214 ] إلى قوله : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [ البقرة : 216 ] وذلك إشارة إلى أن هذا الدين تام لا زيادة فيه ولا نقص لأن النبي الذي أرسل ختام الأنبياء ، وتمام الرسل الأصفياء . ولما كان قوم عاد قد تكبروا بشدتهم وقوتهم ، وكانت حال قريش قريبة من ذلك لقولهم إنهم أمنع العرب وأقواهم وأجمعهم للكمالات وأعلاهم ، كرر ذلك في قصتهم مرتين زيادة في تذكير قريش وتحذيرهم ولا سيما وقد كان بدء عذابهم من بلدهم مكة المشرفة كما هو مشروح في قصتهم ، وكرر الأمر بالذوق في قصة لوط عليه السلام لأنهم عذبوا بما يردع من كان له قلب بالطمس ، فلما لم ينفعهم ذلك أتاهم أكبر منه فكانوا كأمس الدابر ، فلكل مرة من العذاب من الأمر بالذوق ، وخصوا بالأمر بالذوق لما في فاحشتهم الخبيثة ما يستلذونه ، وقد عم عذاب هذه الأمم جميع الجهات بما لقوم نوح ولوط عليهما السلام من جهة الغرق بالماء الماطر وحجارة السجيل ومن البحث من الماء النابع والخسف ، وما في عموم عذابهم من استغراق بقية الجهات - والله الهادي .
ولما انقضت قصة نوح عليه السلام على هذا الهول العظيم ، كان ذلك موجباً للسامع أن يظن أنه لا يقصر أحد بعدهم وإن لم يرسل برسول فكيف إذا أرسل ، فتشوف إلى علم ما كان بعده هل كان كما ظن أم رجع الناس إلى طباعهم؟ وكانت قصة عاد أعظم قصة جرت بعد قوم نوح عليه السلام فيما يعرفه العرب فيصلح أن يكون واعظاً لهم ، وكان عذابهم بالريح التي أهلكتهم ونسفت جبالهم التي كانت في محالهم من الرمال المتراكمة ، فنقلها إلى أمكنة أخرى أقرب دليل إلى أنه تعالى يسير الجبال يوم الدين ، هذا إلى ما في صفها الخارج عن العوائد من تصوير النفخ في الصور تارة للقيامة وتارة للأحياء ، فأجيب بقوله : { كذبت عاد } أي أوقعت التكذيب العام المطلق الذي أوجب تكذيبهم برسولي هود عليه السلام في دعوته لهم إليّ وإنذاره لهم عذابي .

ولما كان عادة الملوك أو بعضهم أنه إذا أهلك قوماً كثيرين من جنده نجا ناس مثلهم بمثل ذنوبهم أن يرفع بهم ، ويستألفهم لئلا يهلك جنده ، فيختل ملكه ، عقب الإخبار بتكذبيهم الإعلام بتعديهم لأنه لا يبالي بشيء لأن كل شيء في قبضته ، ولما كان تكذيبهم إلا بإرادته كا أن عذابه بمشيئته ، قال مسبباً عن ذلك : { فكيف } أي فعلى الأحوال لأجل تكذيبهم { كان عذابي لهم ونذر * } أي وإنذاري إياهم بلسان رسولي ، وكرر في آخر قصتهم هذا الاستخبار ، فكان في قصتهم مرتين كما تقدم من سره - والله أعلم .

إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)

ولما ذكر تكذيبهم وأعقبه تعذيبهم ، علم السامع أنه شديد العظمة فاستمطر أن يعرفه فاستأنف قوله ، مؤكداً تنبيهاً على أن قريشاً أفعالهم في التكذيب كأفعالهم كأنهم يكذبون بعذابهم : { إنا أرسلنا } بعظمتنا ، وعبر بحرف الاستعلاء إعلاماً بالنقمة فقال : { عليهم ريحاً } ولما كانت الريح ربما كانت عياناً ، وصفها بما دل على حالها فقال : { صرصراً } أي شديد البرد والصوت . ولما كان مقصود السورة تقريب قيام الساعة ووصف سيرهم إلى الداعي بالإسراع ، ناسب أن يعبر عن عذابهم بأقل ما يمكن ، فعبر باليوم الذي يراد به الجنس الشامل للقليل والكثير وقد يعبر به عن مقدار من الزمان يتم فيه أمر ظاهر سواء لحظة أو أياماً أو شهوراً أو كثيراً من ذلك أو أقل كيوم البعث ويوم بدر ويوم الموت بقوله تعالى : - { إلى ربك يومئذ المساق } - [ القيامة : 35 ] : { في يوم } وأكد شؤمها بذم زمانها فقال : { نحس } أي شديد القباحة ، قيل : كان يوم الأربعاء آخر الشهر وهو شوال لثمان بقيت إلى غروب الأربعاء ، وحقق لأن المراد باليوم الجنس لا الواحد بالوصف فقال : { مستمر * } أي قوي في نحوسته نافذ ماض فيما أمر به من ذلك شديد أسبابه ، موجود مرارته وجوداً مطلوباً من مرسله في كل وقت ، مستحكم المرارة قويها دائمها إلى وقت إنفاذ المراد .
ولما علم وصفها في ذاتها ، أتبعه وصفها بما يفعل فيه فقال : { تنزع } أي تأخذ من الأرض بعضهم من وجهها وبعضهم من حفر حفروها ليتمنعوا بها من العذاب ، وأظهر موضع الإضمار ليكون نصاً في الذكور ، والإناث فعبر بما هو من النوس تفضيلاً لهم فقال : { الناس } الذين هم صور لا ثبات لهم بأرواح التقوى ، فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور ، فتقطع رؤوسهم من جثثهم وتغير ألوانهم تعتيماً لهم إلى السواد ، ولذا قال : { كأنهم } أي حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم كأنهم { أعجاز } أي أصول { نخل } قطعت رؤوسها . ولما كان الحكم هنا على ظاهر حالهم ، وكان الظاهر دون الباطن ، حمل على اللفظ قوله : { منقعر * } أي منقصف أي منصرع من أسفل قعره وأصل مغرسه ، والتشبيه يشير إلى أنهم طوال قد قطعت رؤوسهم ، وفي الحافة وقع التشبيه في الباطن الذي فيه الأعضاء الرئيسة ، والمعاني اللطيفة ، فأنث الوصف حملاً على معنى النخل لا للطفها - والله أعلم .
ولما طابق ما أخبر به من عذابهم ما هو له به أولاً ، أكد ذلك لما تقدم من سره فقال مسبباً عنه مشيراً إلى أنه لشدة هوله مما يجب السؤال عنه : { فكيف كان } أيها السائل ، ولفت القول إلى الإقرار تنبيهاً للعبيد على المحافظة على مقام التوحيد : { عذابي } لمن كذب رسلي { ونذر * } أي وإنذاري أو رسلي في إنذارهم هل صدق .

ولما أتم سبحانه تحذيره من مثل حالهم بأمر ناظر أتم نظر إلى تدبير ما في سورة الذاريات ، أتبع ذلك التنبيه على أنه ينبغي للسامع أن يتوقع الحث على ذلك ، فقال مؤكداً لما لأكثر السامعين من التكذيب بالقال أو بالحال معلماً أنه سهل طريق الفرار من مثل هذه الفتن الكبار إليه ، وسوى من الاعتماد عليه ، عائداً إلى مظهر العظمة إيذاناً بأن تيسير القرآن لما ذكر من إعجازه لا يكون إلا لعظمة تفوت قوى البشر ، وتعجز عنها القدرة { ولقد يسرنا } على ما لنا من العظمة في الذات والصفات { القرآن } الجامع الفارق كله وما أشارت إليه هذه القصة من مفصله { للذكر } للحفظ والشرف والفهم والتدبير والوعظ والاتعاظ ما صرفنا فيه من أنواع الوعظ مع التنبيه للحفظ بالإيجاز وعذوبة اللفظ وقرب الفهم وجلالة المعاني وجزالة السبك وتنويع الفنون وتكثير الشعب وإحكام الربط { فهل من مدَّكر * } أي تسبب عن هذا الأمر العظيم الذي فعلناه أنه موضع السؤال عن أحوال السامعين : هل فيهم من يقبل على حفظه ثم تدبره وفهمه ويتعظ بما حل بالأمم السالفة ، ويتذكر جميع ما صرف من الأقوال وينزلها على نفسه وما لها من الأحوال ، ويجعل ذلك لوجهنا فيلقيه بتشريفه به أمر دنياه وأخراه .
ولما كان هذا موضع الإقبال على تدبر مواعظ القرآن ، وكان ثمود أعظم وعظ كان بعد عاد لما في صيحتهم الخارجة عن العهود من تصوير الساعة بنفختيها المميتة ثم المحيية ، وقال مؤنثاً فعلهم إشارة إلى سفول هممهم وسفول فعلهم معلماً أن من كذب هلك - على طريق الجواب لمن لعله يقول استبعاداً لتكذيب بعد ما جرى في القصتين الماضيتين من التعذيب : { كذبت ثمود } أي قوم صالح { بالنذر * } الإنذارات والمنذرين كلهم لأنهم شرع واحد ، ثم علل ذلك وعقبه بقوله معلماً بالضمير أن المباشر بهذا الكفر رجالهم لئلا يظن أنهم نساء فقط : { فقالوا } منكرين لما جاءهم من الله غاية الإنكار : { أبشراً } إنكاراً لرسالة هذا النوع ليكون إنكار النبوة إنكاراً لنبوة نبيهم على أبلغ الوجوه ، وأعظم الإنكار بقولهم مقدمين عدم الانفراد عنهم لخصوصيته : { منا } أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا ، وزادوا ذلك تأكيداً فقالوا : { واحداً } أي ليس معه من يؤيده ، ثم فسر الناصب لقوله : { بشراً } بقوله : { نتبعه * } أي نجاهد نفسنا في خلع مألوفنا وخلاف آبائنا والإقرار على أنفسنا بسخافة العقل والعراقة في الجهل ونحن أشد الناس كثرة وقوة وفهماً ودراية ، ثم استنتجوا عن هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين الاستشعار بأن كلامهم أهل لأن يكذب : { إنا إذاً } أي إن اتبعناه { لفي ضلال } أي ذهاب عن الصواب محيط بنا { وسعر * } أي تكون عاقبتنا في ذلك الضلال الكون في أوائل أمر لا ندري عاقبته ، فإنه لم يجرب ولم يختبر ولم يمعن أحد قبلنا سلفاً لنا فيجرنا ذلك إلى جنون وجوع ونار كما يكون من يأتوه في القفار في أنواع من الحر بتوقد حر الجبال وحر الضلال وحر الهموم والأوجال - وذلك من النار التي توعدنا بها ، وهو معنى تفسير ابن عباس رضي الله عنهما له بالعذاب ، وجعل سفيان بن عيينه له جمع سعير ، والمعنى إنا نكون إذا اتبعناك كما تقول جامعين بين الضلال والعذاب بسائر أنواعه .

ولما كان فيما قالوه أعظم تكذيب مدلول على صحته في زعمهم بما أمؤوا إليه من كونه آدمياً مثلهم ، وهو مع ذلك واحد من أحادهم فليس هو بأمثلهم وهو منفرد فلم يتأيد فكره بفكر غيره حتى يكون موضع الوثوق به ، دلوا عليه بأمر آخر ساقوه أيضاً مساق الإنكار ، وأموؤا بالإلقاء إلى أنه في إسراعه كأنه سقط من علو فقالوا : { أألقي } أي أنزل بغتة في سرعة لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن ولم يأتمروا فيه قبل إتيانه به شيء منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع . ولما كان الإلقاء يكون للأجسام غالباً ، فكان لدفع هذا الوهم تقديم النائب عن الفاعل أولى بخلاف ما تقدم في ص فقالوا : { الذكر } أي الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم ، وعبروا بعلى إشارة إلى أن مثل هذا الذي تقوله لا يقال إلا عن قضاء غالب وأمر قاهر فقال : { عليه } ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم : { من بيننا } أي وبيننا من هو أولى بذلك سناً وشرفاً ونبلاً .
ولما كان هذا الاستفهام لكونه إنكارياً بمعنى النفي ، أضربوا عنه بقولهم على وجه النتيجة عطفاً على ما أفهمه الاستفهام من نحو : ليس الأمر كما زعم : { بل هو } لما أبديناه من الشبه { كذاب } أي بليغ في الكذب { أشر * } أي مرح غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه بمرح وتجبر وبطر ، ونشط في ذلك حتى صار كالمنشار الذي هو متفرغ للقطع مهيأ له خشن الأمر سيئ الخلق والأثر فهو يريد الترفع .
ولما كان هذا غاية الذم لمن يستحق منهم غاية المدح ، أجاب تعالى عنه موعظة لعباده لئلا يتقولوا ما يعلمون بطلانه أو يقولوا ما لا يعلمون صحته بقوله : { سيعلمون } بوعد لا خلف فيه . ولما كان المراد التقريب لأنه أقعد في التهديد ، قال : { غداً } أي في الزمن الآتي القريب لأن كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة ، وقراءة ابن عامر وحمزة ورويس عن يعقوب بالخطاب التفات يعلم بغاية الغضب { من الكذاب الأشر * } أي الكذب والأشر وهو احتقار الناس والاستكبار على ما أبدوه من الحق مختص به ومقصود عليه لا يتعداه إلى مرميه وذلك بأنهم جعلوا الكذب ديدنه ولم يتعدهم حتى يدعى شيء منه لصالح عليه الصلاة والسلام ، فكان الكلام معيناً لهم في الكذب قاصراً عليهم بسياقه على هذا الوجه المبهم المنصف الذي فيه من روعة القلب وهز النفس ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى ، وكلما كان الإنسان أسلم طبعاً وأكثر علماً كان له أعظم ذوقاً .

إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)

ولما علم من هذا أنه سبحانه فصل الأمر بينهم ، تشوف السامع إلى علم ذلك فقال تعالى مستأنفاً دالاً بأنهم طالبوه بآية دالة على صدقه : { إنا } أي بما لنا من العظمة { مرسلو الناقة } أي موجدوها ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الحجارة دلالة على إرسالنا صالحاً عليه السلام : مخصصين له من بين قومه ، وذلك أنهم قالوا لصالح عليه السلام : نريد أن نعرف المحق منا بأن ندعو آلهتنا وتدعو إلهك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق ، فدعوا أوثانهم فلم تجبهم ، فقالوا : ادع أنت ، فقال : فما تريدون؟ قالوا : تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة تبعر عشراء ، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان ، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعد ما كذبوا في أن آلهتهم تجيبهم ، وصدق هو صلى الله عليه وسلم في كل ما قال فأخبره ربه سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها { فتنة لهم } أي امتحاناً يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها ويجيبهم عنها ، وسبب سبحانه عن ذلك أمره بانتظارهم فيما يصنعون بعد إخراجهم لما توصلهم إليه عواقب الفتنة فقال : { فارتقبهم } أي كلف نفسك انتظارهم فيما يكون لهم جزاء على أعمالهم انتظار من يحرسهم وهو عالم عليم فإنهم واصلون بأعمالهم إلى الداهية التي تسمى بأم العرقوب ليكونوا كمن جعل في رقبته ، ودل بصيغة الافتعال على أنه يكون له منه أذى بالغ قبل انفصال النزاع فقال : { واصطبر * } أي عالج نفسك واجتهد في الصبر عليهم { ونبئهم } أي أخبرهم إخباراً عظيماً بأمر عظيم ، وهو أن الماء الذي يشربونه وهو ماء بئرهم { أن الماء قسمة بينهم } أي بين ثمود وبين الناقة ، غلب عليها ضمير من يعقل ، يعني إذا بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه في الماء ، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم ، وتوسع الكل بدل الماء لبناً . ولما أخبر بتوزيع الماء ، أعلم أنه على وجه غريب بقوله استئنافاً : { كل شرب } أي من ذلك وحظ منه ومورد البرو وقت يشرب فيه { محتضر * } أي أهل لما فيه من الأمر العجيب أن يحضره الحاضرون حضوراً عظيماً ، وتتكلف أنفسهم لذلك لأنه صار في كثرته وحسنه كماء الحاضرة للبادية وتأهل لأن تعارضه حاضروه من حسنه ويرجعوا إليه وأن يجتمع عليه الكثير ويعودوا أنفسهم عليه .
ولما كان التقدير : فكان الأمر كما ذكرنا ، واستمر الأمد الذي ضربنا فافتتنوا كما أخبرنا { فنادوا } بسبب الفتنة { صاحبهم } قذار بن سالف الذي انتدبوه بطراً وأشراً لقتل الناقة وكذبنا فيها بوعدهم الإيمان وإكرامها بالإحسان وهو أشقى الأولين { فتعاطى } أي أوقع بسبب ندائهم التعاطي الذي لا تعاطي مثله ، فتناول ما لا يحق له أن يتناوله بسبب الناقة وهو سيفه بيده قائماً في الأمر الناشئ عن هذا الأخذ على كل حال ، ورفع رأسه بغاية الهمة ومد يديه مداً عظيماً ورفعها وقام على أصابع رجليه حين عاطوه ذلك أي سألوه فيه فطاوعهم وتناول الناقة بذلك السيف غير مكترث ولا مبال { فعقر * } أي فتسبب عن هذا الجد العظيم أن صدق فيما أثبت لهم الكذب في الوعد بالإحسان إليها والأشر ، وهو إيقاع العقر الذي ما كان في ذلك الزمان عقر مثله وهو عقر الناقة التي هي آية الله وإهلاكها .

ولما وقع كذبهم على هذا الوجه العظيم المبني على غاية الأشر ، حقق الله تعالى صدقه في توعدهم على تقدير وقوع ذلك ، فأوقع عذابهم سبحانه على وجه هو من عظمه أهل لأن يتساءل عنه ، فنبه سبحانه على عظمة بإيراده في أسلوب الاستفهام مسبباً عن فعل الأشقى فقال : { فكيف كان } وحافظ على مقام التوحيد كما مضى فقال : { عذابي } أي كان على حال ووجه هو أهل لأن يجتهد في الإقبال على تعرفه والسؤال عنه { ونذر * } أي إنذاري . ولما علم تفرغ ذهن السائل الواعي ، استأنف قوله مؤكداً إشارة إلى أن عذابهم مما يستلذ وينجح به ، وإرغاماً لمن يستبعد النصيحة الواحد بفعل مثل ذلك ، وإعلاماً بأن القدرة على عذاب من كذب من غيرهم كهي على عذابهم فلا معنى للتكذيب : { إنا } بما لنا من العظمة { أرسلنا } إرسالاً عظيماً ، ودل على كونه عذاباً بقوله : { عليهم صيحة } وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابهم بقوله تعالى : { واحدة } صاحها عليهم جبريل عليه السلام فلم يكن بصيحته هذه التي هي واحدة طاقة ، وتلاشى عندها صياحهم حين نادوا صاحبهم لعقر الناقة . ولما تسبب عنها هلاكهم قال : { فكانوا } كوناً عظيماً { كهشيم المحتظر * } أي محطمين كالشجر اليابس الذي جعله الراعي ومن في معناه ممن يجعل شيئاً يأوي إليه ويحتفظ به ويحفظ به ماشيته في وقت ما لا يقاله ( ؟ ) وهو حظيره أي شيء مستدير مانع في ذلك الوقت لمن يدخل إليه فهو يتهشم ويتحطم كثير منه وهو يعمله فتدوسه الغنم ثم تتحطم أولاً فأولاً ، وكل ما سقط منه شيء فداسته الغنم كان هشيماً ، وكأنه الحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته .

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39)

ولما كان التقدير : فلقد أبلغنا في الموعظة لكل من يسمع هذه القصة ، عطف عليه قوله مؤكداً لأجل من يعرض عن هذا القرآن ويعلل إعراضه عنه بصعوبته : { ولقد يسرنا } أي على ما لنا من القدرة والعظمة { القرآن } أي الكتاب الجامع لكل خير ، الفارق بين كل ملبس { للذكر } أي الحفظ والتذكير والتذكر وحصول النباهة به والشرف إلى الدارين . ولما كان هذا غاية في وجوب الإقبال عليه لجميع المتولين ، قال : { فهل من مدكر * } أي ناظر فيه بسبب قولنا هذا بعين الإنصاف والتجرد عن الهوى ليرى كل ما أخبرنا به فنعينه عليه . ولما كان النذير : كأنه قال المنذرين لم يتعظوا به فزاد في وعظهم ، وكانت قصة لوط عليه السلام مع قومه أعظم ما كان بعد ثمود مما تعرفه العرب بالأخبار ورؤية الآثار ، ومع ما في قصتهم من تصوير الساعة من تبديل الأرض غير الأرض ، استأنف قوله : { كذبت قوم لوط } أي وهم في قوة عظيمة على ما يحاولونه وإن كانوا في تكذيبهم هذا في ضعف وقوع النساء عن التجرد مما دل عليه تأنيث الفعل بالتاء وكذا ما قبلها من القصص { بالنذر * } أي الإنذار والإنذارات والمنذرين ، ودل على تناهي القباحة في مرتكبهم بتقديم الإخبار عن عذابهم فقال : { إنا } أي بما لنا من العظمة { أرسلنا } ودل على أنه إرسال إهانة بقوله : { عليهم } ودل على هوانهم وبلوغ أمره كل ما يراد به بقوله : { حاصباً } أي ريحاً ترمي بحجارة هي دون ملء فكانت مهلكة لهم محرقة خاسفة مفرقة { إلا آل لوط } وهم من آمن به وكان بحيث إذا رأيته فكأنك رأيت لوطاً عليه السلام لما يلوح عليه من أفعاله والمشي على منواله في أقواله وأحواله وأفعاله .
ولما كان استثناؤهم مفهماً إنجاءهم مع التجويز لإرسال شيء عليهم غير مقيد بما ذكر ، قال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال : ما حالهم : { تجيناهم } أي تنجية عظيمة بالتدريج ، وذكر أول الشروع لإنجاءهم فقال : { بسحر * } أي بآخر ليلة من الليالي وهي التي عذب فيها قومه ، فكأنه تنكيره لأنا لا نعرف تلك الليلة بعينها ، ولو قصدت سحر الليلة التي صبحت منها كان معرفة لا ينصرف ، والسحر : السدس الأخير من الليل : الوقت الذي يكون فيه الإنسان لا سيما النساء والأطفال في غاية الغفلة بالاستغراق في النوم ، ويفتح الله فيها أبواب السماء باذن الدعاء ليحصل منه الإجابة لأن الملوك إذا فتحوا أبوابهم كان ذلك إذناً للناس في الدخول لقضاء الحوائج ، فالنزول وفتح الأبواب كناية عن ذلك - والله سبحانه وتعالى متعال عن حاجة إلى نزول أو فتح باب أو غير ذلك .
ولما كان المراد من الموعظين الطاعة التي هي سبب النجاة ، فلذا قال ذاكراً للإنعام معبراً عنه بغاية المقصود منه معرفاً أن انتقامه عدل ومعافاته فضل ، لأن أحداً لا يقدر أن يكافئ نعمه ولا نعمة منها ، معللاً للنجاة : { نعمة من عندنا } أي عظيمة غريبة جداً لشكرهم ، ولما كان كأنه قيل : هل هذا مختص بهم .

. . الإنجاء من بين الظالمين وهو مختص بهم ، أجاب بقوله : { كذلك } أي مثل هذا الإنجاء العظيم الذي جعلنا جزاء لهم { نجزي } بقدرتنا وعظمتنا { من شكر * } أي أوقع الشكر بجميع أنواعه فآمن وأطاع ليس . . . بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كائناً من كان من سوقة أو سلطان جائر شجاع أو جبان ، فاننا عليه بالإنجاء بعد هلاك عدوه ، قال القشيري : والشكر على نعم الدفع أتم من الشكر على نعم النفع ، ولا يعرف ذلك إلا كل موفق كيس فالآية من الاحتباك : ذكر الإنعام أولاً - لأنه السبب الحقيقي - دليلاً على حذفه ثانياً ، والشكر ثانياً - لأنه السبب الظاهر - دليلاً على حذفه أولاً .
ولما كان التقدير دفعاً لعناد . . . استشراف السامع إلى ما كان من حاله صلى الله عليه وسلم معهم قبل العذاب : لقد بالغ في شكرنا بوعظهم ونصحهم ودعائهم إلنيا صرفاً لما أنعمنا به عليه من الرسالة في أتم مواضعه ، عطف عليه إيماء إليه قوله ، مؤكداً لأن تمادي المحذور من العذاب على الإقامة في موجبه يكاد أن لا يصدق : { ولقد أنذرهم } أي رسولنا لوط عليه السلام { بطشتنا } أي أخذتنا لهم المقرونة بشدة ما لنا من العظمة ، ووحد إشارة إلى أنه لا يستهان بشيء من عذابه سبحانه بل الأخذة الواحدة كافية لما لنا من العظمة فهي غير محتاجة إلى التثنية ، ودل على أن إنذاره كان جديراً بالقبول لكونه واضح الحقيقة بما سبب عن ذلك من قوله : { فتماروا } أي تكلفوا الشك الواهي { بالنذر * } أي الإنذار مصدراً والإنذارات أو المنذرين حتى أداهم إلى التكذيب ، فكان سبباً للأخذ .
ولما كان ترك الاحتياط في إعمال الحيلة في وجه الخلاص من إنذار النذير عظيم العرافة في السفه دل على أنهم تجاوزوا ذلك إلى انتهاك حرمة النذير ، فقال مقسماً لأن مثل ذلك لا يكاد يقع فلا يصدق من حكاه : { ولقد راودوه } أي زادوا في التكذيب الموجب للتعذيب أن عالجوا معالجة طويلة تحتاج إلى فتل ودوران { عن ضيفه } ليسلمهم إليهم وهم ملائكة في هيئة شباب مرد ، وأفردوا وإن كان المراد الجنس استعظاماً لذلك لو كان الضيف واحداً { فطمسنا } أي فتسبب عن مراودتهم أن طمسنا بعظمتنا { أعينهم } فسويناها مع سائر الوجوه فصارت بحيث لا يرى لها شق ، قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين ، وذلك بصفقة صفقها لهم جبريل عليه الصلاة والسلام ، وقال القشيري : مسح بجناحيه على وجوههم فعموا ولم يهتدوا للخروج ، وقال ابن جرير : والعرب تقول : طمست الريح الأعلام - إذا دفنتها بما يسفي عليها من التراب .

فانطلقوا هراباً مسرعين إلى الباب لا يهتدون إليه ولا يقعون عليه بل يصادمون الجدران خوفاً مما هو أعظم من ذلك وهم يقولون : عند لوط أسحر الناس ، وما أدتهم عقولهم أن يؤمنوا فينجوا أنفسهم مما حل بهم ، قال القشيري : وكذلك أجرى الله سبحانه سنته في أوليائه بأن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلتبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ويخلصهم من كيدهم . ولما كان . . . أول عذابهم قال : { فذوقوا } أي فتسبب عن ذلك أن قال قائل عن الله بلسان القال أو الحال : أيها المكذبون ذوقوا بسبب تكذيبكم لرسلي في إنذارهم { عذابي ونذر * } أي وعاقبة إنذاري على ألسنة رسلي .
ولما كان بقاؤهم بعد هذا على حال كفرهم عجباً إذ العادة قاضية بأن من أخذ ارعوى ولو كان أفجر الخلق ، وسأل العفو عنه صدقاً أو كذباً خداعاً ومكراً ليخلص مما هو فيه . . . بثباتهم على تكذيبهم حتى عذبوا على قرب العهد فقال مقسماً : { ولقد صبحهم } أي أتاهم في وقت الصباح ، وحقق المعنى بقوله : { بكرة } أي في أول النهار العذاب ، ولو كان أول نهارك الذي أنت به كان معرفة فامتنع . . . { عذاب } أي قلع بلادهم ورفعها ثم قلبها ، وحصبها بحجارة من نار وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان { مستقر * } أي ثابت عليهم غير مزايل بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار فقال لهم لسان الحال إن لم ينطلق لسان القال : { فذوقوا } بسبب أعمالكم { عذابي ونذر * } .

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)

ولما كرر هذا التكرير ، علم منه أن سبب العذاب التكذيب بالإنذار لأي رسول كان ، وكان استئناف كل قصة منبهاً على أنها أهل على حدتها لأن يتعظ بها ، علم أن التقدير : فلقد بلغت هذه المواعظ النهاية لمن كان له قلب ، فعطف عليه قوله مذكراً بالنعمة التي لا عدل لها : { ولقد يسرنا } أي تعالى جدنا وتناهى مجدنا { القرآن } الجامع الفارق { للذكر } ولو شئنا لأعليناه بما لنا من العظمة إلى الحد حتى تعجز القوي عن فهمه ، كما أعليناه إلى رتبة وقفت القوى عن معارضته في نظمه ، أو مطلع لا يتشبث بأذيال أدنى علمه ، إلا الأفراد من حذاق العباد ، فكيف بما فوق ذلك .
ولما كانوا مع ذلك واقفين عن المبادرة إليه والإقبال عليه ، قال تلطفاً بهم وتعطفاً عليهم مسبباً عن ذلك : { فهل } وأكد فقال : { من مدكر * } مفتك لنفسه من مثل هذا الذي أوقع فيه هؤلاء أنفسهم ظناً منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلاً منهم وعدم اكتراث بالعواقب .
ولما كان الآخر ينبغي له أن يحذر ما وقع للأول ، وكان قوم فرعون قد جاء بعد قوم لوط عليه السلام ، فكان ربما ظن أنهم لم ينذروا لأن من علم أن العادة جرت أن من كذب الرسل هلك أنكر أن يحصل ممن تبع ذلك تكذيب ، قال مقسماً : { ولقد جاء آل فرعون } أي ملك القبط بمصر وأشرافه الذين إذا رؤوا كان كأنه رئي فيهم لشدة قربهم منه وتخلقهم بأخلاقهم { النذر * } أي الإنذارات والمنذرون بنذارة موسى وهارون عليهما السلام ، فإن نذارة بعض الأنبياء كنذارة الكل لأنه يأتي أحد منهم إلا وله من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، والمعجزات كلها متساوية في خرق العادة ، وكان قد أنذرهم يوسف عليه السلام ، ولما كان كأنه قيل : فما فعلوا عند مجيء ذلك إليهم ، قال : { كذبوا } أي تكذيباً عظيماً متسهينين { بآياتنا } التي أتاهم بها موسى عليه السلام وغيرها لأجل تكذيبهم بها على ما لها من العظمة المعرفة قطعاً عن أنها من عندنا .
ولما كانت خوارق العادات كما مضى متساوية الأقدام في الدلالة على صدق الآتي بها ، وكانوا قد صمموا على أنه مهما أتاهم بآية كذبوا بها ، كانوا كأنهم قد أتتهم كل آية فلذلك قال : { كلها } وسبب عن ذلك القول : { فأخذناهم } أي بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوح من الإغراق { أخذ عزيز } أي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء { مقتدر * } أي لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقباً لحكمه ، بالغ القدرة إلى حد لا يدرك الوصف كنهه لأن صيغة الافتعال مبناها على المعاجلة من عاجل فعلاً أجهل نفسه فيه ، فكان على أتم الوجوه ، وهذه الغاية هي المرادة ليس غيرها ، فهو تمثيل لأنه سبحانه يخاطبنا بما نعبده ، وبهذه المبالغة فلم يلفت منهم أحد ، وقد ختمت القصص بمثل ما افتتحت به من عذاب المفسدين بالإغراق ليطابق الختم البدء ، وكانت نجاة المصلحين من الأولين بالسفينة ، وكانت نجاة المصلحين من الآخرين بأرض البحر كانت هي سفينتهم ، ليكون الختم أعظم من البدء كما هو شأن أهل الاقتدار .

ولما بلغت هذه المواعظ الانتهاء ، وعلت أقدامها على رتبة السها ، ولم يبين ذلك كفار قريش عن شرادهم ، ولا فتر من جحودهم وعنادهم ، كان لسان حالهم قائلاً : إنا لا نخاف شيئاً من هذا ، فكان الحال مقتضياً لأن يقال لهم إلزاماً بالحجة : { أكفاركم } الراسخون منكم في الكفر الثابتون عليه يا أيها المكذبون لهذا النبي الكريم الساترون لشموس دينه { خير } في الدنيا بالقوة والكثرة أو الدين عند الله أو عند الناس { من أولائكم } أي الكفار أي الكفار العظماء الجبابرة الأشداء الذين وعظناكم بهم في هذه السورة ليكون ذلك سبباً لافتراق حالهم منهم فيأمنوا العذاب مع جامع التكذيب وإن لم يكن لهم براءة من الله { أم لكم } أجمعين دونهم كفاركم وغير كفاركم { براءة } من العذاب من الله { في الزبر * } أي الكتب الآتية من عنده أأمنتم بها من العذاب مع أنهم خير منكم ، فالآية من الاحتباك : أثبت الخيرية أولاً دليلاً على حذفها ثانياً ، والبراءة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً .
ولما بلغوا إلى هذا الحد من التمادي في الكفر مع المواعظ البالغة والاستعطاف المكين ، استحقوا أعظم الغضب ، فأعرض عنهم الخطاب إيذاناً بذلك وإهانة لهم واحتقاراً وإقبالاً على النبي صلى الله عليه وسلم تسلية فقال عاطفاً على ما تقديره : أيدعون جهلاً ومكابرة شيئاً من هذين الأمرين : { أم يقولون } أي هؤلاء الذي أنت بين أظهرهم تعاملهم باللين في القال والقيل والصفح الجميل امتثالاً لأمرنا تعظيماً لقدرك فاستهانوا بك : { نحن جميع } أي جمع واحد مبالغ في اجتماعه فهو في الغاية من الضم فلا افتراق له { منتصر * } أي على كل من يناويه لأنهم على قلب رجل واحد ، فالإفراد للفظ « جميع » ولإفهام هذا المعنى ، أو أن كل واحد محكوم له بالانتصار .

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)

ولما كان لسان الحال ناطقاً بأنهم يقولون : هذا كله فأي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً ونحوها ، وقال بعضهم : لئن بعثنا لأوتينا وولداً ، ولا شك أنهم كانوا في غاية الاستحالة لغلبة المؤمنين لهم على قلتهم وضعفهم ، استأنف الجواب بقوله : { سيهزم } بأيسر أمر من أي هازم كان بوعد لا خلف فيه ، وقراءة الجمهور بالبناء للمفعول مفهمة للعظمة بطريقة كلام القدرين ، فهي أبلغ من قراءة يعقوب بالنون والبناء للفاعل الدالة على العظمة صريحاً { الجمع } الذي تقدم أنه بولغ في جمعه فصدق الله وعده وهزموا في يوم بدر وغيره في الدنيا عن قريب ، ولم يزالوا يضعفون حتى اضمحل أمرهم وزال بالكلية سرهم ، وهي من دلائل النبوة البينة { ويولون الدبر * } أي يقع توليتهم كلهم بهذا الجنس بأن يكون والياً لها من منهم مع الهزيمة لأنه لم يتولهم في حال الهزيمة نوع مسكنة يطمعون بها في الخيار ، وكل من إفراد الدبر والمنتصر وجمع المولين أبلغ مما لو وضع غيره موضعه وأقطع للتعنت .
ولما ونقع هذا في الدنيا ، وكان في يوم بدر ، وكان ذلك من أعلام النبوة ، وكان ربما ظن ظان أن ذلك هو النهاية ، كان كأنه قيل : ليس ذلك الموعد الأعظم : { بل الساعة } القيامة التي يكون فيها الجمع الأعظم والهول الأكبر { موعدهم } أي الأعظم للجزاء المتوعد به { والساعة أدهى } من كل ما يفرض وقوعه في الدنيا ، أفعل تفضيل من الداهية وهي أمر هائل لا يهتدي لدوائه { وأمر * } لأن عذابها للكافر غير مفارق ومزايل . ولما أخبر عن الساعة بهذا الإخبار الهائل ، علله مقسماً لأهلها مجملاً بعض ما لهم عند قيامها بقوله مؤكداً لما أظهروا من التكذيب : { إن المجرمين } أي القاطعين لما أمر الله بأن يوصل { في ضلال } أي عمى عن القصد بتكذيبهم بالبعث محيط بهم مانع من الخلاص من دواهي الساعة وغيرها ، ومن الوصول إلى شيء من مقاصدهم التي هم عليها الآن معتمدون { وسعر } أي نيران تضطرم وتتقد غاية الاتقاد { يوم } أي في ذلك اليوم الموعود به { يسحبون } أي في الساعة دائماً بأيسر وجه إهانة لهم من أي صاحب كان { في النار } أي الكاملة في النارية { على وجوههم } لأنهم في غاية الذل والهوان جزاء بما كانوا يذلون أولياء الله تعالى ، مقولاً لهم من أي قائل اتفق : { ذوقوا } أي لأنهم لا منعة لهم ولا حمية عندهم بوجه { مس سقر * } أي ألم مباشرة الطبقة النارية التي تلفح بحرها فتلوح الجسم وتذيبه فيسيل ذهنه . . . وعصاراً كما يسيل الدبس وعصارة الرطب فتسمى النخلة بذلك مسقاراً .

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

ولما أخبر بقيام الساعة وما يتفق لهم فيها جزاء لأعمالهم التي قدرها عليهم وهي ستر فرضوا بها لاتباع الشهوات واحتجوا على رضاه بها ، وكان ربما ظن ظان أن تماديهم على الكفر لم يكن بإرادته سبحانه ، علل ذلك منبهاً على أن الكل فعله ، وإنما نسبته إلى العباد بأمور ظاهرية ، تقوم عليهم بها الحجة في مجاري عاداتهم ، فقال : { إنا } أي بما لنا من العظمة { كل شيء } أي من الأشياء المخلوقة كلها صغيرها وكبيرها .
ولما كان هذا التعميم في الخلق أمراً أفهمه النصب ، استأنف قوله تفسيراً للعامل المطوي وإخباراً بجعل ذلك الخلق كله على نظام محكم وأمر مقدر مبرم { خلقناه بقدر * } أي قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقودة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب في ذلك اللوح قبل وقوعه تقيسه الملائكة بالزمان وغيره من العد وجميع أنواع الأقيسة - فلا يخرم عنه مثقال ذرة لأنه لا منازع لنا مع ما لنا من القدرة الكاملة والعلم التام ، فهذا العذاب بقدرتنا ومشيئتنا فاصبروا عليه وارضوا به كما كنتم ترضون أعمالكم السيئة ثم تحتجون على عبادنا بأنها مشيئتنا بنحو { ولو شاء الله ما أشركنا } [ الأنعام : 148 ] فقد أوصلكم إلى ما ترون وانكشف أتم انكشاف أنه لا يكون شيء على خلاف مرادنا ، ولا يقال لشيء قدرناه : لم؟ قال الرازي في اللوامع : الكمية ساقطة عن أفعاله كما أن الكيفية والكمية ساقطتان عن ذاته وصفته - انتهى . ولا يكون شيء من أمره سبحانه إلا ما هو على غاية الحكمة ، ولو كان الخلق لا يبعثون بعد الموت ليقع القصاص والقياس العدل ليكون القياس جزافاً لا بقدر وعدل ، لأن المشاهد أن الفساد في هذه الدار من المكلفين من الصلاح أضعافاً مضاعفة ، وقرئ في الشواذ برفع « كل » وجعله ابن جني أقوى من النصب ، وليس كذلك لأن الرفع لا يفيد ما ذكرته ، وما حمله على ذلك إلا أنه معتزلي ، والنصب على ما قدرته قاصم لأهل الاعتزال .
ولما بين أن كل شيء بفعله ، بين يسر ذلك وسهولته عليه فقال : { وما أمرنا } أي كل شيء أردناه وإن عظم أثره ، وعظم القدر وحقر المقدورات بالتأنيث فقال : { إلا واحدة } أي فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك إحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الأرادة الأزلية ، ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما يعقله وأخفه فقال؛ { كلمح بالبصر * } فكما أن لمح أحدكم ببصره لا كلفة عليه فيه ، فكذلك الأفعال كلها ، بل أيسر من ذلك .
ولما أخبر بتمام قدرته ، وكان إهلاك من ذكر من الكفار وإنجاء من ذكر من الأبرار في هذه السورة نحواً مما ذكر من أمر الساعة في السهولة والسرعة ، دل على ذلك بإنجاء أوليائه وإهلاك أعدائه فذكر بهم جملة وبما كان من أحوالهم بأيسر أمر لأن ذلك أوعظ للنفوس وأزجر للعقول ، فقال مقسماً تنبيهاً على عادتهم في الكفر مع هذا الوعظ فعل المكذب بهلاكهم لأجل تكذيبهم عاطفاً على ما تقديره : ولقد أنجينا رسلنا وأشياعهم من كل شيء خطر : { ولقد أهلكنا } أي بما لنا من العظمة { أشياعكم } الذين أنتم وهم شرع واحد في التكذيب ، والقدرة عليكم كالقدرة عليهم ، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم ، فلذلك سبب عنه قوله : { فهل من مدكر * } أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعاف .

. . ، وأن قدرته سبحانه عليه كقدرته عليهم ليرجع عن غيه خوفاً من سطوته سبحانه .
ولما تمت الدلالة على إحاطة القدرة بما شوهد من الأفعال الهائلة التي لا تسعها قدرة غيره سبحانه ، وكانوا يظنون أن أحواله غير مضبوطة لأنه لا يمكن ضبطها ولا يسعها علم عالم ولا سيما إذا ادعى أنه واحد ، شرع في إتمام الإخبار بعظمة القدر بالإخبار بأن أفعالهم كلها مكتوبة فضلاً عن كونها محفوظة فقال : { وكل شيء فعلوه } أي الأشياء في أيّ وقت كان ، كأن بالكتابة { في الزبر * } أي كتب الحفظة فليحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية ، هذا ما أطبق عليه القراء مما أدى إلى هذا المعنى من رفع كل ، لأنه لو نصب لأوهم تعلق الجار بالفعل فيوهم أنهم فعلوا في الزبر كل شيء من الأشياء وهو فاسد .
ولما خصهم ، عم بقوله واعظاً ومخوفاً ومحذراً بأن كل شيء محفوظ فمكتوب فمعروض على الإنسان يوم الجمع : { وكل صغير وكبير } من الجواهر والمعاني منهم ومن غيرهم { مستطر * } أي مكتوب على وجه عظيم من اجتهاد الحفظة في كتابته وتحريره مع يسر ذلك وسهولته .
ولما أخبر عن أحوال الكفرة في الدنيا والآخرة واعظاً بها وإعلاماً بعظمته وعليّ صفاته وسعة مملكته وشامل علمه وقدرته ، ختم بأحوال القسم الآخر من أهل الساعة وهم أهل طاعته تتميماً لذلك وإشارة وبشارة للسالك في أحسن المسالك ، فقال مؤكداً رداً على المنكر : { إن المتقين } أي العريقين في وصف الخوف من الله تعالى الذي أداهم إلى أن لا يفعلوا شيئاً إلا بدليل . ولما كان من البساتين والمياه وما هو ظاهر بكل مراد على عكس ما عليه الضال البعيد عن القصد الواقع في الهلاك والنار قال : { في جنات } أي في بساتين ذات أشجار تسر داخلها ، قال القشيري : والجمع إذا قوبل بالجمع فالأحاد تقابل الأحاد . ولما كانت الجنان لا تقوم وتدوم إلا بالماء قال : { ونهر * } وأفرده لأن التعبير ب « في » مفهم لعمومهم به عموم ما كأنه ظرف وهم مظروفون له ، ولكثرة الأنهار وعظمها حتى أنها لقرب بعضها من بعض واتصال منابعها وتهيئ جميع الأرض لجري الأنهار منها كأنها شيء واحد ، وما وعد به المتقون من النعيم في تلك الدار فرقائقه معجلة لهم في هذه الدار ، فلهم اليوم جنات العلوم وأنهار المعارف ، وفي الآخرة الأنهار الجارية والرياض والأشجار والقصور والزخارف ، وهو يصلح مع ذلك لأن يكون مما منه النهار فيكون المعنى : أنهم في ضياء وسعة لا يزايلونه أصلاً بضد ما عليه المجرم من العمى الناشئ عن الظلام ، ولمثل هذه الأغراض أفرد مع إرادة الجنس لا للفاصلة فقط .

ولما كانت البساتين لا تسكن في الدنيا لأنه ليس فيها جميع ما يحتاجه الإنسان ، بين أن حال تلك غير حال هذه ، فقال مبدلاً مما قبله : { في مقعد } أي تلك الجنان محل إقامتهم التي تراد للقعود { صدق } أي فيما أراده الإنسان صدق وجوده الإرادة ولا يقعد فيه إلا أهل الصدق ، ولا يكون فيه إلا صدقه ، لا لغو فيه ولا تأثيم ، والتوحيد لإرادة الجنس مع أن الإبدال يفهم أنه لا موضع في تلك الجنان إلا وهو الصالح للتسمية بهذا الاسم ولأنهم لاتحاد قلوبهم ورضاهم كأنهم في مقعد واحد على أنه قرئ بالجمع .
ولما كان هذا غير معهود ، بين أن سببه تمكين الله لهم منه لاختصاصه لهم وتقريبه إياهم لإرضائه لهم ، فقال مقيداً لذلك بالتعبير بالعندية لأن عنديته سبحانه تعالى منزهة عن قرب الأجسام والجهات : { عند مليك } أي ملك تام الملك { مقتدر } أي شامل اقدرة بالغها إلى حد لا يمكن إدراكه لغيره سبحانه كما تقدم قريباً ، فهو يوصلهم إلى كل خير ويدفع عنهم كل ضير ، وكما أن لهم في الآخرة عندية الإشهاد فلهم في الدنيا عندية الإمداد ، ولهذا الاسم الشريف سر في الانتصار على الظالمين ، ولقد ختمت السورة كما ترى كما ابتدئت به من أمر الساعة ، وكانت البداية للبداية والنهاية للنهاية ، وزادت النهاية بيان السبب الموجد لها ، وهو قدرته سبحانه وعز شأنه وعظمت رحمته وإحسانه ، وعفوه ومغفرته ورضوانه ، ولتصنيف الناس فيها إلى كافر مستحق للانتقام ، ومؤمن مؤهل لغاية الإكرام ، لم يذكر الاسم الأعظم الجامع الذي يذكر في سياق مقتضى جمع الجلال والإكرام لصنف واحد وهو من يقع منه الإيمان ولا يتدنس بالعصيان ، وهم الذين آمنوا ، ولمشاركتها للسورتين اللتين بعدها في هذا العرض ، وهو الكلام في حق الصنفين فقط من غير ذكر عارض ممن آمن ، أشرك الثلاثة في الخلو عن ذكر الاسم الأعظم . فلم يذكر في واحدة منها وجاء فيها من الصفات ما يقتضي العظمة على أهل الكفران ، وما ينبئ عن الإكرام والإحسان لأهل الإيمان { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ولهذا ختمت هذه بصفة الملك المقتضي للسطوة التامة والإكرام البالغ وعدم المبالاة بأحد كائناً من كان ، لأن الملك من حيث هو ملك إما يقتضي مقامه إهانة العدو وإكرام الولي ، وجعل ذلك على وجه المبالغة أيضاً ، كل ذلك للإعلام بأن تصريفه سبحانه لأحوال الآخرة كما قصد في هذه السورة من تصريفه في أحوال الدنيا من إهلاك الأعداء وإنجاء الأولياء ، وكأن هذه السورة كانت هكذا لأنها جاءت عقب النجم التي شرح فيها الإسراء وكان للنبي صلى الله عليه وسلم من العظمة بخرق العوائد باختراق السماوات ، والوصول إلى أنهى الغاية من المناجاة ، وغيره من سر الملكوت ومحل الجبروت ، بعد أن لوح بمقامه عليه الصلاة والسلام بالطور ليعلم الفرق ويوصف كل بما هو الحق ، فكان ذلك مقتضياً لئلا يكون بعده من الناس إلا مؤمن خالص ، فإن كان غيره فهو معاند شديد الكفر ، وكأنها جعلت ثلاثاً لإرادة غاية التأكيد لهذا المعنى الشديد ، فلما انقضت الثلاثة كان متبركاً به في معظم آيات الحديد ثم توجت كل آية من آيات المجادلة به إشارة إلى أنه قد حصل غاية التشوف إليه ترهيباً لمن يعصي ولا سيما من يظاهر ، وترغيباً في الطاعة للملك الغافر ، والله الموفق لما يريد إنه قوي فعال لما يريد .

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)

ولما ختم سبحانه القمر بعظيم الملك وبليغ القدرة ، وكان الملك القادر لا يكمل ملكه إلا بالرحمة ، وكانت رحمته لا تتم إلا بعمومها ، قصر هذه السورة على تعداد نعمه على خلقه في الدارين ، وذلك من آثار الملك ، وفصل فيها ما أجمل في آخر القمر من مقر الأولياء والأعداء في الآخرة ، وصدرها بالاسم الدال على عموم الرحمة براعة للاستهلال ، وموازنة لما حصل بالملك والاقتدار من غاية التبرك والظهور والهيبة والرعب باسم هو مع أنه في غاية الغيب دال على أعظم الرجاء مفتتحاً لها بأعظم النعم وهو تعليم الذكر الذي هز ذوي الهمم العالية في القمر إلى الإقبال عليه بقوله { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } لأنه لما كان للعظمة الدالة عليها نون { يسرنا } التي هي عماد الملك نظران : نظر الكبرياء والجبروت يقتضي أن يتكلم بما يعجز خلقه من كل جهة في الفهم والحفظ والإتيان بمثله وكل معنى من معانيه ، ونظر الإكرام والرحمة ، وكانت رحمته سابقة لغضبه نظر بها لخلقه لا سيما هذه الأمة المرحومة فيسر لها الذكر تحقيقاً للرحمة بعد أن أبقى من آثار الجبروت الإعجاز عن النظر ، ومن الإعجاز من الفهم الحروف المقطعة أوائل السور ، ومنع المتعنت من أن يقول : إنه لا معاني لها بأن فهم بعض الأصفياء بعض أسرارها ، فقال جواباً لمن كأنه قال : من هذا المليك المقتدر ، فقيل : { الرحمان * } أي العام الرحمة ، قال ابن برجان : وهو ظاهر اسمه الله ، وباطن اسمه الرب ، جعل هذه الأسماء الثلاثة في ظهورها مقام الذات يخبر بها عنه وحجاباً بينه وبين خلقه ، يوصل بها الخطاب منه إليهم ، ثم أسماؤه الظاهرة مبينة لهذه الأسماء الثلاثة - انتهى .
ومن مقتضى اسمه { الرحمن } انبثت جميع النعم ، ولذا ذكر في هذه السورة أمهات النعم في الدارين .
ولما كان لا شيء من الرحمة أبلغ ولا أدل على القدرة من إيصال بعض صفات الخالق إلى المخلوق نوع إيصال ليتخلقوا به بحسب ما يمكنهم منه فيحصلوا على الحياة الأبدية والسعادة السرمدية قال : { علم القرآن * } أي المرئي المشهود بالكتابة والمتلو المسموع الجامع لكل خير ، الفارق بين كل لبس ، وكان القياس يقتضي أن لا يعلم المسموع أحد لأنه صفة من صفاته ، وصفاته في العظم كذاته ، وذاته غيب محض ، لأن الخلق أحقر من أن يحيطوا به علماً ، « وأين الثريا من يد المتناول » فدل تعليمه القرآن على أنه يقدر أن يعلم ما أراد من أراد { وعلم آدم الاسماء كلها } [ البقرة : 31 ] ولا يخفى ما في تقديمه على جميع النعم من المناسبة لأن أجل النعم نعمة الدين التي تتبعها نعمة الدنيا والآخرة ، وهو أعلى مراتب ، فهو سنام الكتب السماوية وعمادها ومصداقها والعبار عليها ، وفائدتها الإيصال إلى مقعد الصدق المتقدم لأنه بين ما يرضي الله ليعمل به وما يسخطه ليجتنب .

وقال الإمام جعفر بن الزبير : من المعلوم أن الكتاب العزيز وإن كانت آية كلها معجزة باهرة وسورة في جليل النظم وبديع التأليف قاطعة بالخصوم قاهرة ، فبعضها أوضح من بعض في تبين إعجازها ، وتظاهر بلاغتها وإيجازها : ألا ترى إلى تسارع الأفهام إلى الحصول على بلاغة آيات وسور من أول وهلة دون كبير تأمل كقوله تعالى { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } [ هود : 44 ] وقوله { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } [ الحجر : 94 ] ، الآيات ، لا يتوقف في باهر إعجازها إلا من طبع الله على قلبه أو سد دونه باب الفهم بأنى له بر لوجه وقوعه ، وسورة القمر من هذا النمط ، ألا ترى اختصار القصص فيه مع حصول أطرافها وتوفية أغراضها ، وما جرى مع كل قصة من الزجر والوعظ والتنبيه والإعذار ، ولولا أني لم أقصد التعليق ما بنيته عليه من ترتيب السور لأوضحت ما أشرت إليه مما لم أسبق إليه ، ولعل الله سبحانه ييسر ذلك فيما باليد من التفسير نفع الله به ويسر فيه ، فلما انطوت هذه السورة على ما ذكرنا وبان فيها عظيم الرحمة في تكرر القصص وشفع العظات ، وظهرت حجة الله على الخلق ، وكان ذلك من أعظم ألطافه تعالى لمن يسره لتدبر القرآن ووفقه لفهمه واعتباره ، أردف ذلك سبحانه بالتنبيه على هذه النعمة فقال تبارك وتعالى { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان } وخص من أسمائه الحسنى هذا الاسم إشعاراً برحمته بالكتاب وعظيم إحسانه به { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] ثم قد تمهد أن سورة القمر إعذار ومن أين للعباد بجميل هذا اللطف وعظيم هذا الحلم حتى يرادوا إلى بسط الدلالات وإيضاح البينات إن تعذر إليهم زيادة في البلاغ ، فأنبأ تعالى أن هذا رحمة فقال { الرحمن علم القرآن } ثم إذا تأملت سورة القمر وجدت خطابها وإعذارها خاصاً ببني آدم بل بمشركي العرب منهم فقط ، فاتبعت سورة القمر بسورة الرحمن تنبيهاً للثقلين وإعذاراً إليهم وتقريراً للجنسين على ما أودع سبحانه في العالم من العجائب والبراهين الساطعة فتكرر فيها التقرير والتنبيه بقوله تعالى : { فبأيّ آلاء ربكما تكذبان } خطاباً للجنسين وإعذاراً للثقلين فبان اتصالها بسورة القمر أشد البيان - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : كيف علمه وهو صفة من صفاته ولمن علمه ، قال مستأنفاً أو معللاً : { خلق الإنسان * } أي قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلاً عن جميع الجمادات وأصله منها ثم عن سائر الناميات ثم عن غيره من الحيوانات ، وجعله أصنافاً ، وفصل بين كل قوم بلسانهم عمن عداهم وخلقه لهم دليل على خلقه لكل شيء موجود

{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } [ القمر : 49 ] والإنسان وإن كان اسم جنس لكن أحقهم بالإرادة بهذا أولهم وهو آدم عليه السلام ، وإرادته - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما - لا تمنع إرادة الجنس من حيث هو .
ولما كان كأنه قيل : فكان ماذا بخلقه ، قال : { علمه البيان * } وهو القوة الناطقة ، وهي الإدراك للأمور الكلية والجزئية والحكم الحاضر والغائب بقياسه على الحاضرة تارة بالتوسم وأخرى بالحساب ومرة بالعيافة والزجر وطوراً بالنظر في الآفاق وغير ذلك من الأمور مع التمييز بين الحسن والقبيح وغير ذلك ما أدعه سبحانه وتعالى له مع تعبيره عما أدركه بما هو غائب في ضميره وإفهامه للغير تارة بالقول وتارة بالفعل نطقاً وكتابة وإشارة وغيرها ، فصار بذلك ذا قدرة على الكمال في نفسه والتكميل لغيره ، فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن ، وهذا وإن كان سبحانه جبلنا عليه وخلقناه به قد صار عندنا مألوفاً ومشهوراً معروفاً ، فهو عند غيرنا على غير ذلك مما أوضحه لنا سبحانه نعمة علينا بمحاجته لملائكته الكرام عن نبينا آدم عليه الصلاة والسلام وما أبدى لهم من علمه وبهرهم من رسم كل شيء بمعناه واسمه .
ولما بين سبحانه النعمة في تعليم القرآن الذي هو حياة الأرواح ، وبين الطريق فيها ، دل على البيان بذكر البينات التي يجمعها أمر ويفرقها آخر ، ولها مدخل في حياة الأشباح ، وعددها على سبيل الامتنان بياناً لأنها من أكبر النعم فقال في جواب من قال : ما بيانه؟ بادئاً بالكوكب الأعظم الذي هو أعظم نوراً وأكبر جرماً وأعم نفعاً ليكون خضوعه لقبول الآثار أدل على خضوع غيره بياناً لحكمته في تدبيره وقوته في تقديره : { الشمس } وهي آية النهار { والقمر } وهو آية الليل اللذان كان بهما البيان الإبراهيمي ، ولعله بدأ لهذه الأمة بغاية بيانه عليه الصلاة والسلام تشريفاً لها بالإشارة إلى علو أفهامها { بحسبان * } أي جريهما ، يجري كل منهما - مع اشتراكهما في أنهما كوكبان سماويان - بحساب عظيم جداً لا تكاد توصف جلالته في دقته وكثرة سعته وعظم ما يتفرع عليه من المنافع الدينية ولدنيوية ، ومن عظم هذا الحساب الذي أفادته صيغة الفعلان أنه على نهج واحد لا يتعداه ، تعلم به الأعوام والشهور والأيام والساعات والدقائق والفصول في منازل معلومة ، ويعرف موضع كل منهما في الآفاق العلوية وما يحدث له وما يتأثر عنه في الكوائن السفلية بحيث أن به انتظام غالب الأمور السفلية إلى غير ذلك من الأمور التي خلقهما الله عليها ولها ، وبين الإنسان وبين كل منهما من المسافات ما لا يعلمه على التحرير إلا العليم الخبير ، وهذا على تطاول الأيام والدهور لا يختل ذرة دلالة على أن صانعه قيوم لا يغفل ، ثم بعد هذا الحساب المستجد والحساب الأعظم الذي قدر لتكوير الشمس وانكدار القمر دلالة على أنه فاعل بالاختيار مع ما أفاد ذلك من تعاقب الملوين تارة بالاعتدال وتارة بالزيادة وأخرى بالنقص ، وغير ذلك من الأمور في لطائف المقدور .

ولما كان سيرهما على هذا المنهاج مع ما لهما فيه من الدؤب فيه بالتغير والتنقل طاعة منهما لمدبرهما ومبدعهما ومسيرهما ، وكان خضوعهما - وهما النيران الأعظمان - دالاً على خضوع ما دونهما من الكواكب بطريق الأولى ، كان ذكرهما مغنياً عن ذكر ما عداهما بخصوصه ، فأتبعهما حضور ما هو للأرض كالكواكب للسماء في الزينة والنفع والضر والصغر والكبر والكثرة والقلة من النبات مقدماً صغاره لعموم نفعه وعظيم وقعه بأن من أكثر الأقوات لجميع الحيوان والملابس من القطن والكتان وغير ذلك من عجيب الشأن ، معبراً بما يصلح لبقية الكواكب فقال : { والنجم } أي وجميع الكواكب السماوية وكل نبت ارتفع من الأرض ولا ساق له من النبات الأرضية التي هي أصل قوام الإنسان وسائر الحيوان { والشجر } وكل ما له ساق ويتفكه به أو يقتات { يسجدان * } أي يخضعان وينقادان لما يراد منهما ويذلان للانتفاع بهما انقياد الساجد من العقلاء لما أمر به بجريهما لما سخرا له وطاعتهما لما قدرا فيه غير إباء على تجدد الأوقات من نمو في النبات ووقوف واخضرار ويبس وإثمار وعطل ، لا يقدر النجم أن يعلو إلى رتبة الشجرة ولا الشجرة أن يسفل إلى وهدة النجم إلى غير ذلك مما صرفنا فيه من سجود الظلال ودوران الجبال والمثال مما يدل على وحدانية الصانع وفعله بالاختيار ، ونفي الطبائع ، ومن تسيير في الكواكب وتدبير في المنافع في الحر والبرد اللذين جعل سبحانه بهما الاعتدال في النبات من الفواكهة والأقوات ، وغير ذلك من وجود الانتفاعات .
ولما كان تغير ما تقدم من الشمس والقمر والنجم والشجر يدل دلالة واضحة على أنه سبحانه هو المؤثر فيه ، وكانت السماء والأرض ثابتتين على حالة واحدة ، فكان ربما أشكل أمرهما كما ضل فيهما خلق من أهل الوحدة أهل الجمود والاغترار والوقوف مع الشاهد وغيرهم ، وكان إذا ثبت أنه تعالى المؤثر فيهما ، فلذلك قال مسنداً التأثير فيهما إليه بعد أن أعرى ما قبلهما من مثله لما أغنى عنه من الدلالة بالتغير والسير والتنقل عطفاً على ما تقديره : وهو الذي دبر ذلك : { والسماء رفعها } أي حساً بعد أن كانت ملتصقة بالأرض ففتقها منها وأعلاها عنها بما يشهد لذلك من العقل عند كل من له تأمل في أن كل جسم ثقيل ما رفعه عما تحته إلا رافع ، ولا رافع لهذه إلا الله فإنه لا يقدر على التأثير غيره ، ولعظمها قدمها على الفعل تنبيهاً على التفكر فيما فيها من جلالة الصنائع وأنواع البدائع ، ومعنى بأنه جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه .

ولما كانت السماء مع علوها الدال على عزة موجدها ومدبرها دالة على عدله باعتدال جميع أحوالها من الحر والبرد والمطر والثلج والندى والطل وغير ذلك في أن كل فصل منها معادل لضده وأنها لا ينزلها سبحانه إلا بقدر معلوم ، وإلا لفسدت الأرض كلها ، ودلنا على أنه شرع لنا مثل ذلك العدل لتقوم أحوالنا وتصلح أقوالنا وأفعالنا بما قامت به السماوات والأرض فقال : { ووضع الميزان * } أي العدل الذي بدر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا .
ولما ذكر أولاً القرآن الذي هو ميزان المعلومات ، ودل على رحمانيته بأنواع من البيان ، الذي رقي به الإنسان فصار أهلاً للفهم ، وذكره نعمة الميزان للمحسوسات ، أقبل بالخطاب عليه لافتاً له عن أسلوب الغيبة تنشيطاً له إلى ارتقاء مراتب الكمال بحسن الامتثال معللاً فقال : { أن } أي لأن { لا تطغوا } أي لا تتجاوزا الحدود { في الميزان * } أي الأشياء الموزونة من الموزونات المعروفة والعلم والعمل المقدر أحدهما بالآخر ، وفي مساواة الظاهر والباطن والقول والفعل ، فالميزان الثاني عام لميزان المعلومات وميزان المحسوسات .
ولما كان التقدير : فاقتدوا بأفعالي وتخلقوا بكل ما آمر به من أقوالي ، عطف عليه قوله : { وأقيموا الوزن* } أي جميع الأفعال التي يقاس لها الأشياء { بالقسط } .
ولما كان المراد العدل العظيم ، بينه بالتأكيد بعد الأمر بالنهي عن الضد فقال : { ولا تخسروا الميزان * } أي توقعوا في شيء من آلة العدل التي يقدر بها الأشياء من الذرع والوزن والعدل والكيل ونحو - نوعاً من أنواع الخسر - بما دل عليه تجريد الفعل فتخسروا ميزان أعمالكم وجزائكم يوم القيامة ، وقد علم بتكرير الميزان ما أريد من التأكيد في الأمر به لما له من الضخامة سواء كان بمعنى واحد أو بمعان مختلفة .
ولما ذكر إنعامه الدال على اقتداره برفع السماء ، ذكر على ذلك الوجه مقابلها بعد أن وسط بينهما ما قامتا به من العدل تنبيهاً على شدة العناية والاهتمام به فقال : { والأرض } أي ووضع الأرض : ثم فسر ناصبها ليكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدة ما فيه من الحكم فقال : { وضعها } أي دحاها وبسطها على الماء { للأنام * } أي كل من فيه قابلية النوم أو قابلية الونيم وهو الصوت بعد أن وضع لهم الميزان الذي لا تقوم الأرض إلا به .

فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)

ولما كان في سياق بيان الرحمة بمزيد الإنعام ، وكان إقامة البينة أعظم نعمة ، وكانت الفواكه ألذ ما يكون ، وكانت برقتها وشدة لطافتها منافية للأرض في يبسها وكثافتها ، فكان كونها فيها عجباً دالاً على عظيم قدرته ، وكان ذكرها يدل على ما تقدمها من النعم من جميع الأقوات ، بدأ بها ليصير ما يتقدمها كالمذكور مرتين ، فقال مستأنفاً وصفها بما هو أعم : { فيها فاكهة } أي ضروب منها عظيمة جداً يدرك الإنسان بما له من البيان تباينها في الصور والألوان ، والطعوم والمنافع - وغير ذلك من بديع الشأن .
ولما كان المراد بتنكيرها تعظيمها ، نبه عليه بتعريف بنوع منها ، ونوه به لأن فيه مع التفكه التقوت ، وهو أكثر ثمار العرب المقصودين بهذا الذكر بالقصد الأول فقال : { والنخل } ودل على تمام القدرة بقوله : { ذات } أي صاحبة { الأكمام * } أي أوعية ثمرها ، وهو الطلع قبل أن ينفتق بالثمر ، وكل نبت يخرج ما هو مكمم فهو ذو كمام ، ولكنه مشهور في النخل لشرفه وشهرته عندهم ، قال البغوي : وكل ما ستر شيئاً فهو كم وكمة ، ومنه كم القميص ، وفيه تذكير بثمر الجنة الذي ينفتق عن نباهم ، وذكر أصل النخل دون ثمره للتنبيه عن كثرة منافعه من الليف والسعف والجريد والجذوع وغيرها من المنافع التي الثمر منها .
ولما ذكر ما يقتات من الفواكه وهو في غاية الطول ، أتبعه الأصل في الاقتيات للناس والبهائم وهو بمكان من القصر ، فقال ذاكراً ثمرته لأنها المقصودة بالذات : { والحب } أي من الحنطة وغيرها ، ونبه على تمام القدرة بعد تنبيه بتمايز هذه المذكورات مع أن أصل الكل الماء بقوله : { ذو العصف } أي الورق والبقل الذي إذا زال عنه ثقل الحب كان مما تعصفه الرياح التي تطيره ، وهو التبن الذي هو من قوت البهائم .
ولما كان الريحان يطلق على كل نبت طيب الرائحة خصوصاً ، وعلى كل نبت عموماً ، أتبعه به ليعم ويخص جميع ما ذكر من سائر النبات وغيره على وجه مذكر بنعمه بغذاء الأرواح بعد ما ذكر غذاء الأشباح فقال : { والريحان * } ولما كان من كفر به سبحانه بإنكاره أو إنكار شيء من صفاته ، أو كذب بأحد من رسله قد أنكر نعمه أو نعمة منها فلزمه بانكاره لتلك النعمة إنكار جميع النعم ، لأن الرسل داعية إلى الله بالتذكير بنعمه ، وكان ما مضى من هذه السورة إلى هنا اثنتي عشرة آية على عدد الكوفي والشامي ، عدد فيها أصول نعمه سبحانه على وجه دل بغاية البيان على أن له كل كمال ، وكان هذا العدد أول عدد زائد إشارة إلى تزايد النعم لأن كسوره النصف والثلث الربع والسدس تزيد على أصله ، وكان قد مضى ذكر الثقلين الجن والإنس في قوله { الأنام } قال تعالى إشارة إلى أنهم المقصودون بالوعظ ، منكراً موبخاً مبكتاً لمن أنكر شيئاً من نعمه أو قال قولاً أو فعل فعلاً يلزم منه إنكار شيء منها مسبباً عما مضى من تعداد هذه النعم المتزايدة التي لا يسوغ إنكارها ولا إنكار شيئ منها فيجب شكرها : { فبأي آلاء } أي نعم عطايا { ربكما } أي المحسن إليكما بما أسدى من المزايا التي أسداها إليكم على وجه الكبرياء والعظمة وهي دائمة لا تنقطع من غير حاجة إلى مكافأة أحد ولا غيرها - أيها الثقلان - المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره ، من آياته وصنائعه وحكمه وحكمته وعزته في خلقه واستسلام الكل له وخضوعهما إليه ، فإن كل هذه النعم الكبار آيات دالة عليه وصنائع محكمة وأحكام وحكم ظهرت بها عزته وبانت بها قدرته { تكذبان * } فمخاطبته بهذا الثقلين دليل على أن هذه الأشياء تعم على الجن كما أنها تعم على الإنس ، وأن لهم من ذلك ما لهم ، وذكره لهذه الآية بعد ذكر هذا العدد من الآيات إشارة إلى أن زيادة النعم إلى حد لا يحصى بحيث أن استيفاء عددها لا تحيط به عقول المكلفين لئلا يظنوا أنه لا نعمة غير ما ذكر في هذه السورة ، والتعبير عنها بلفظ الآلاء من أجل أنها النعم المخصوصة بالملوك لما لها من اللمعان والصف المميز لها من غيرها ولما لرؤيتها من الخير والدعاء ، وهي وإن كانت من الوا فيمكن أخذها من اللؤواء إلى أن الأصل الهمزة واللام ، فإذا انضم إليهما لام أخرى أو ألف ازداد المعنى الذي كان ظهوراً لأن الألف غيب الهمزة وباطنها ، واللام هي عين ما كان فلم يحصل خروج عن ذلك المعنى ، فإذا نظرت إلى الآل كان المعنى أن تلك النعم الكبار الملوكية تظهر للعباد معرفته سبحانه وأنه يؤل إليه كل شيء أولاً من غير نزاع كما أنه كان بكل شيء ، وتكل عن نظرها الأبصار النوافذ كما تكل عن رؤية الأشخاص التي يرفعها الآل لأنها تدل عليه سبحانه .

. . نعم عظيمة وإن كانت نقماً لأنه لا نعمة تدل مثل ما دل عليه سبحانه ، وكرر هذه الآية في هذه السورة من هنا بعد كل آية إلى آخرها لما تقدم في القمر من أن المنكر إذا تكرر إنكاره جداً بحيث أحرق الأكباد في المجاهرة بالعناد حسن سرد ما أنكره عليه ، وكلما ذكر بفرد منه قيل له : لم تنكره؟ سواء أقر به حال التقرير أو استمر على العناد ، فالتكرار حينئذ يفيد التعريف بأن إنكاره تجاوز الحد ، ولتغاير النعم وتعددها واختلافها حسن تكرير التوقيف عليها واحدة واحدة تنبيهاً على جلالتها ، فإن كانت نعمة فالأمر فيها واضح ، وإن كانت نقمة فالنعمة دفعها أو تأخير الإيقاع بها ، ولما تقدم من أن كل تذكير بما أفاده الله تعالى من النعم بالحواس الخمس مضروبة في الجهات الستّ على أنك إذا اعتبرت نفس الآية وجدتها مشيرة إلى ذلك ، فإن كل كلمة منها - إلا الأخيرة في رسم من أثبت ألفها من كتبة المصاحف - خمسة أحرف أن اعتبرت هجاء الأولين والثالثة خمسة في الرسم ستة في الهجاء والنطق ، فهي للحواس وللجهات لأن الكل من الرب ، والكلمة الأخيرة ستة أحرف إن اعتبرت رسمها في المصاحف التي أسقطت ألفها ، فإن في إثباتها وحذفها اختلافاً بين أئمة المصاحف ، وهي إشارة إلى الجهات التي يملك الإنسان التصرف فيها ، أما الحواس فلا اختيار له فيها ، وإن اعتبرت هجاءها بحسب النطق كانت سبعة أحرف إشارة إلى أن النعم أكثر من أن تحصى لما تقدم من أسرار عدد السبعة وإلى أن تكذيب المكلفين متكاثر جداً ، فلذلك كان في غاية المناسبة أن تبسط هذه النعم على عدد ضرب الحواس الخمس في الجهات الست ، وذلك في الحقيقة فائدة ، فإنه من المألوف المعروف والجميل الموصوف أن التكرير عند التكذيب يوجب التكرير عند التقرير ، ويبلغ به النهاية في حسن التأثير ، وزاد العدد على مسطح الخمس في الست واحد إشارة إلى أن نعم الواحدة لا انقطاع لها ، ولذلك فصلت إلى ثمان ذكرت أولاً عقب النعم ، فكانت على عدد السبع الذي هو أول عدد تام لأنه جمع الفرد والزوج وزوج الفرد وزوج الزوج ، وزاد بواحد إشارة إلى أنه كلما انقضى دور من عدد تام جدير لنعم أخرى فهي لا تتناهى لأن موليها له القدرة الشاملة والعلم التام ورحمته سبقت غضبه ، وفي كونها ثمانية إشارة إلى أنها سبب إلى الجنة ذات الأبواب الثمانية إن شكرت ، وفي تعقيبها بسبع نارية إشارة إلى أنها سببيتها للنار أقرب لكونها حفت بالشهوات ، وفي ذلك إشارة إلى أن من اتقى ما توعد عليه بشكر هذه النعم وقي أبواب النار السبعة ، ثم عقبها بثمانية ذكر فيها جنة المقربين إشارة إلى أن من عمل لما وعده كما أمره به الله نال أبواب الجنة الثمانية ، وثمانية أخرى عقب الجنة أصحاب اليمين إشارة إلى مثل ذلك والله أعلم ، وكان ترتيبها في غاية الحسن ، ذكرت النعم أولاً استعطافاً وترغيباً في الشكر ثم الأهوال ترهيباً ودرأ للمفسدة بالعصيان والكفر ثم النعم الباقية لجلب المصالح ، وبدأ بأشرفها فذكر الجنة العليا لأن القلب إثر التخويف يكون أنشط والهمم تكون أعلى والعزم يكون أشد ، فحينئذ هذه الآية الأولى من الإحدى والثلاثين مشيرة إلى أن نعمة البصر من جهة الأمام ، فكأنه قيل : أبنعمة البصر مما يواجهكم أو غيرها تكذبان .

ولما كان قد تقدم في إشارة الخطاب الامتنان بخلق الإنسان ، ثم ذكر أصول النعم عليه على وجه بديع الشأن ، إلى أن ذكر غذاء روحه : الريحان ، أتبع ذلك تفصيلاً لما أجمل فقال : { خلق الإنسان } أي أصل هذا النوع الذي هو من جملة الأنام الذي خلقنا الريحان لهم والغالب عليه الأنس بنفسه وبما ألفه .

ولما كان أغلب عناصره التراب وإن كان من العناصر الأربعة ، عبر عن إشارة به إلى مطابقة اسمه - بما فيه مما يقتضي الأنس الذي حاصله الثبات على حالة واحدة - لمسماه الذي أغلبه التراب لنقله وثباته ما لم يحركه محرك ، وعبر عن ذلك بما هو في غاية البعد عن قابلية البيان فقال : { من صلصال } أي طين يابس له صوت إذا نقر عليه { كالفخار * } أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار لأنه أخذه من التراب ثم خلطه بالماء حتى صار طيناً ثم تركه حتى صار حماء مسنوناً مبيناً ، ثم صوره كما يصور الإبريق وغيره من الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر عليه صوت صوتاً يعلم منه هل فيه عيب أم لا ، كما أن الآدمي بكلامه يعرف حاله وغاية أمره ومآله ، فالمذكور هنا غاية تخليقه وهو أنسب بالرحمانية ، وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة إنشاؤه ، فالأرض أمه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم ، فمن التراب جسده ونفسه ، ومن الماء روحه وعقله ، ومن النار غوايته وحدته ، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه .
ولما كان الجان الذي شمله أيضاً اسم الأنام مخلوقاً من العناصر الأربعة ، وأغلبها في جبلته النار ، قال تعالى : { وخلق الجانّ } أي هذا النوع المستتر عن العيون بخلق أبيهم ، وهو اسم جمع للجن . ولما كان الجن يطلق على الملائكة لاستتارهم ، بين أنهم لم يرادوا به هنا فقال : { من مارج } أي شيء صاف خالص مضطرب شديد الاضطراب جداً والاختلاط ، قال البغوي : وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه ، وقال القشيري ، هو اللهب المختلط بسواد النار - انتهى . ومرجت نارهم - أي اختلطت - ببرد الزمهرير . ولما كان المارج عاماً في النار وغيرها ، بينه بقوله : { من نار * } هي أغلب من عناصر ، فتعين المراد بذكر النار لأن الملائكة عليهم السلام من نور لا من نار ، وليس عندهم مروج ولا اضطراب ، بل هم في غاية الثبات على الطاعة فيما أمروا به ، وقد عرف بهذا كل مضطرب قدره لئلا يتعدى طوره .
ولما كان خلق هذين القبيلين على هذين الوجهين اللذين هما في غاية التنافي مستوراً أحدهما عن الآخر مع منع كل من التسلط على الآخر إلا نادراً ، إظهاراً لعظيم قدرته وباهر حكمته من أعظم النعم ، قال مسبباً عنه : { فبأيِّ آلاء ربكما } أي النعم الملوكية الناشئة عن مبدعكما ومربيكما وسيدكما { تكذبان * } أي بنعمة البصر من جهة الوراء وغيرها من خلقكم على هذا النمط الغريب ، وإيداعكم ما أودعكم من القوى ، وجعلكم خلاصة مخلوقاته ، ومن منع أحد قبيليكم عن الآخر ، وتيسيره لكم الأرزاق والمنافع ، وحملكم على الحنيفية السمحة ، وقدرته على إعادتكم كما قدر على ابتدائكم .

ولما ذكر سبحانه هذين الجنسين اللذين أحدهما ظاهر والآخر مستتر ، إرشاداً إلى التأمل فيما فيهما من الدلالة على كمال قدرته ، فكانا محتاجين إلى ما هما فيه من المحل ، وكان صلاحه مما دبر سبحانه فيه من منازل الشروق الذي هو سبب الأنوار والظهور ، والغروب الذي هو منشأ الظلمة والخفاء ، أتبعه قوله منبهاً على النظر في بديع صنعه الدال على توحيده : { رب } أي هو خالق ومدير { المشرقين } ومدبرهما على كيفية لا يقدر على شيء منها غيره { ورب المغربين * } كذلك ، وهذه المشارق والمغارب هي ما للشتاء من البروج ، السافلة الجنوبية التي هي سبب الأمطار والثلوج ، التي هي سبب الحياة والظهور ، حال كون الشمس منحدرة في آفاق السماء ، وما للصيف من البروج العالية في جهة الشمال التي هي سبب التهشم والأفول والشمس مصعدة في جو السماء ، وما بينهما من الربيع الذي هو للنمو ، والخريف الذي هو للذبول ، فهي آية الإيجاد والإعدام ، فأول المشارق الصيف وقت استواء الليل والنهار عند حلول الشمس بأول البروج الشمالية صاعدة وهو الكبش ، يعتدل الزمان حينئذ بقطعها الجنوبية واستقبالها الشمالية ، ثم آخر مشارقه إذا كانت الشمس في آخر الشمالية وأول الجنوبية عند حلولها برأس الميزان يعتدل الزمان ثانياً لاستقبالها البروج الجنوبية ، ثم بحلولها بآخر القوس ورأس الجدي يكون الانتهاء في قصر الأيام وطول الليالي لتوسطها البروج الجنوبية ، ثم بحلولها كذلك عند خروجها من برج التوأمين إلى السرطان من بروج الشمال ، وهي آخر درجات الشمس ، يكون طول الأيام وقصر الليالي ، فيختلف على هذين الفصلين الحر والبرد ، وكون الشمس في أول برج الحمل هو بمثابة طلوعها من المشرق في أول كل نهار ، وكونها في الاعتدال الثاني عند استقبالها البروج الجنوبية إذا حلت برأس الميزان هو بمثابة غروبها ، ثم بكونها في الانتهائين في طول الأيام حين حلولها برج السرطان هو بمنزلة استوائها في الصيف في كبد السماء كما أن حلولها برأس الجدي عند الانتهاء في الشتاء في قصر الأيام وطول الليالي هو بمثابة استوائها فيما يقابل استواءها في الشتاء في كبد السماء في النهار - ذكر ذلك ابن برجان وقال بعد ذلك : سخر سبحانه لعباده جهنم - أي بواسطة الشمس - وهي أعدى عدو لهم ، فأخرج لهما بواسطتها الزرع والزيتون والرمان والنخيل والأعناب والجنان المعروشات وغير المعروشات ومن كل الثمرات .
ولما كان في هذا من النعم ما لا يحصى ، قال مسبباً : { فبأيَّ آلاء ربكما } الذي دبر لكم هذا التدبير العظيم { تكذبان * } أي بنعمة البصر من جهة اليمين أو غيرها من تسخير الشمس والقمر دائبين دائرين لإدارة الزمان وتجديد الأيام ، وعدد الشهور والأعوام ، واعتدال الهواء واختلاف الأحوال على الوجه الملائم لمصالح الدنيا ومعايشها على منهاج محفوظ وقانون لا يزيغ .

ولما كانت باحة البحر لجري المراكب كساحة السماء لسير الكواكب مع ما اقتضى ذكره من تضمن ذكر المشارق والمغارب للشتاء الحاصل فيه من الأمطار ما لو جرى على القياس لأفاض البحار ، فأغرقت البراري والقفار ، وعلت على الأمصار وجميع الأقطار ، فقال : { مرج } أي أرسل الرحمن { البحرين } أي الملح والعذب فجعلهما مضطربين ، من طبعهما الاضطراب ، حال كونهما { يلتقيان * } أي يتماسان على ظهر الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين وفي باطنها ، فجعل الحلو آية دالة على مياه الجنة ، والملح آية دالة على بعض شراب أهل النار لا يروي شاربه ولا يغنيه ، بل يحرق بطنه ويعييه ، أو بحري فارس والروم هما ملتقيان في البحر المحيط لكونهما خليجين منه .

بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)

ولما كان التقاء المايعين ولا سيما مع الاضطراب الدائم الاختلاط فيحيل ما لأحدهما أو لكل منهما من الصفات إلى الصفات الأخرى ، فتشوفت النفس إلى المانع من مثل ذلك في البحرين ، قال مستأنفاً : { بينهما برزخ } أي حاجز عظيم من القدرة المجردة على الأول وتسيب الأرض على الثاني يمنعهما مع الالتقاء من الاختلاط ، وقال ابن برجان : البرزخ ما ليس هو بصريح هذا ولا بصريح هذا ، فكذلك السهل والجبل بينهما برزخ يسمى الخيف ، كذلك الليل والنهار بينهما برزخ يسمى غبشاً ، كذلك بين الدنيا والآخرة برزخ ليس من هذا ولا من هذا ولا هو خارج عنهما ، وكذلك الربيعان هما برزخان بين الشتاء والصيف بمنزلة غبش أول النهار وغبش آخره ، جعل بين كل صنفين من الموجودات برزخاً ليس من هذا ولا من هذا وهو منهما كالجماد والنبات والحيوان .
ولما كانت نتيجة ذلك كذلك قال : { لا يبغيان * } أي لا يطغيان في هلاك الناس كما طغيا فأهلكا من على الأرض أيام نوح عليه الصلاة والسلام ، ولا يبغي واحد منهما على الآخر بالممارجة ، ولا يتجاوزان ما حده لهما خالقهما ومدبرهما لا في الظاهر ولا في الباطن ، فمتى حفرت على جنب المالح وجدت الماء العذب ، وإن قربت الحفرة منه بل كلما قربت كان أحلى ، فخلطهما الله سبحانه في رأى العين وحجز بينهما في رأى عين القدرة ، هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك ، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء .
ولما كان هذا أمراً باهراً دالاً دلالة ظاهرة على تمام قدرته لا سيما على الآخرة ، قال مسبباً عنه : { فبأيَّ آلاء ربكما } أي الموجد لكما والمربي { تكذبان * } أي بنعمة الإبصار من جهة اليسار أو غيره ، فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلمكم بهذه البرازخ أن موتتكم هذه برزخ وفصل بين الدنيا والآخرة كالعشاء بين الليل والنهار ، ولو استقر أتم ذلك في آيات السماوات والأرض وجدتموه شائعاً في جميع الأكوان .
ولما ذكر المنة بالبحر ذكر النعمة بما ينبت فيه كما فعل بالبر ، فقال معبراً بالمبني للمفعول لأن كلاً من وجوده فيه والتسليط على إخراجه منه خارق من غير نظر إلى مخرج معين ، والنعمة نفس الخروج ، ولذلك قرأ غير نافع والبصريين بالبناء للفاعل من الخروج : { يخرج منهما } أي بمخالطة العذب الملح من غير واسطة أو بواسطة السحاب ، فصار ذلك كالذكر والأنثى ، قال الرازي : فيكون العذب العذب كاللقاح للملح ، وقال أبو حيان : قال الجمهور : إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي يقع فيها الأنهار والمياه العذبة فناسب إسناد ذلك إليهما ، وهذا مشهور عند الغواصين ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة مولاه رضي الله عنه : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر - انتهى .

فتكون الأصداف كالأرحام للنطف وماء البحر كالجسد الغاذي ، والدليل على أنه من ماء المطر كما قال الأستاذ حمزة الكرماني : إن من المشهور أن السنة إذا أجدبت هزلت الحيتان ، وقلت الأصداف والجواهر - انتهى . ثم لا شك في أنهما وإن كانا بحرين فقد جمعها وصف واحد بكونهما ماء ، فيسوغ إسناد الخروج إليهما كما يسند خروج الإنسان إلى جميع البلد ، وإنما خرج من دار منها كما نسب الرسل إلى الجن والإنس بجمعهما في خطاب واحد فقال : { رسل منكم } [ الأنعام : 130 ] وكذا { وجعل القمر فيهن نوراً } [ نوح : 16 ] ومثله كثير { اللؤلؤ } وهو الدر الذي هو في غاية البياض والإشراق والصفاء { والمرجان * } أي القضبان الحمر التي هي في غاية الحمرة ، فسبحان من غاير بينهما في اللون والمنافع والكون - نقل هذا القول ابن عطية عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وقال : وهذا هو المشهور الاستعمال - انتهى ، وقال جمع كثير : إن اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره .
ولما كان ذلك من جليل النعم ، سبب عنه قوله : { فبأيِّ آلاء ربكما } أي المالك لكما الذي هو الملك الأعظم { تكذبان * } مع هذه الصنائع العظمى ، أبنعمة البصر من جهة الفوق أو غير ذلك من خلق المنافع في البحار وتسليطكم عليها وإخراج الحلي الغريبة وغيرها .
ولما كان قد ذكر الخارج منه بماء السماء ، ذكر السائر عليه بالهواء ، وأشار بتقديم الجار إلى أن السائر في الفلك لا تصريف له ، وإن ظهر له تصريف فهو لضعفه كلا تصريف ، فقال : { وله } أي لا لغيره ، فلا تغتروا بالأسباب الظاهرة فتقوا معها فتسندوا شيئاً من ذلك إليها كما وقف أهل الاغترار بالشاهد ، الذين أجمد أهل الأرض أذهاناً وأحقرهم شأناً فقالوا بالاتحاد والوحدة { الجوار } أي السفن الكبار والصغار الفارغة والمشحونة . ولما كانت حياة كل شيء كونه على صفة كماله ، وكانت السفن تبنى من خشب مجمع وتوصل حتى تصير على هيئة تقبل المنافع الجمة ، وكانت تربى بذلك الجمع كما تربى النبات والحيوان ، وكانت ترتفع على البحر ويرفع شراعها وتحدث في البحر بعد أن كانت مستترة بجبال الأمواج قال تعالى : { المنشآت } من نشأ - إذا وربا ، والسحابة : ارتفعت ، وأصل الناشئ كل ما حدث بالليل وبدأ ، ومعنى قراءة حمزة وأبي بكر بكسر الشين أنها رافعة شراعها بسبب استمساكها عن الرسوب ومنشئة للسير ، ومعنى قراءة الباقين أنه أنشأها الصانع وأرسلها ورفع شراعها .
ولما كانت مع كونها عالية على الماء منغمسة فيه مع أنه ليس لها من نفسها إلا الرسوب والغوص قال : { في البحر } ولما كانت ترى على البعد كالجبال على وجه الماء قال : { كالأعلام * } أي كالجبال الطوال .

ولما كان ما فيها من المنافع بالتكسب من البحر بالصيد وغيره والتوصل إلى البلاد الشاسعة للفوائد الهائلة ، وكانت أعمالهم في البحر الإخلاص الذي يلزم منها الإخلاص في البر ، لأنهما بالنسبة إلى إبداعه لهما وقدرته على التصرف فيهما بكل ما يريده على حد سواء ، سبب عن ذلك قوله : { فبأيِّ آلاء ربكما } أي النعمة العظمى { تكذبان * } أبنعمة البصر من تحتكم أو غيرها من الأسفار ، في محل الأخطار ، والإنجاء عند الاضطراب والريح في محل الخسار ، والإرشاد إلى ذلك بعد خلق مواد السفن وتعليم صنعتها وتسخيرها والفلك لعدصي لوهما ( ؟ ) بمثابة جميع الكون ، فخدامها كالملائكة في إقامة الملكوت وتحسين تماسكه بإذن ربهم ، والمسافرون بها الذين أنشئت لأجلهم وزان المأمورين المكلفين المتهيئين الذين من أجلهم خلقت السماوات والأرض وما بينهما فعبر بهم من غربتهم إلى قرارهم ، ومن غيبتهم إلى حضورهم ومشاهدهم ، ومدبرها أمرها في أعلاها يأمرهم بأمره فيعدونه ويسمعون له ، ثم قد يصرف الاعتبار إلى أن تكون آية على قطع المؤمن أيام الدنيا فالدنيا هي البحر ، والسفينة جسمه ، وباطن العبد هو المحمول فيها ، العقل صاحب سياستها ، والقوى خدمتها ، وأمر الله وتدبيره محيط بها ، والإيمان أمنتها ، والتوفيق ريحها ، والذكر شراعها ، والرسول سائقها بما جاء به من عند ربه ، والعمل الطيب يصلح شأنها - ذكر ذلك ابن برجان .
ولما أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من المنافع من الأعيان والمعاني ، واستوفى الأرض بقسميها براً وبحراً ، مضمناً ذلك العناصر الأربعة التي أسس عليها المركبات ، وكان أعجب ما للمخلوق من الصنائع ما في البحر ، وكان راكبه في حكم العدم ، دل على أنه المتفرد بجميع ذلك بهلاك الخلق ، فقال مستأنفاً معبراً بالاسمية الدالة على الثبات وب { من } للدلالة على التصريح تهويلاً بفتاء العاقل على فناء غير العاقل بطريق الأولى : { كل من عليها } أي الأرض بقسميها والسماء أيضاً { فان * } أي هالك ومعدوم بالفعل بعد أن كان هو وغيره من سائر ما سوى إليه ، وليس لذل كله من ذاته إلا العدم ، فهو فان بهذا الاعتبار ، وإن كان موجوداً فوجوده بين عدمين أولهما أنه لم يكن ، وثانيهما أنه يزول ثم هو فيما بين ذلك يتعاوره الإيجاد والإفناء في حين من أحواله وأعراضه وقواه ، وأسباب الهلاك محيطة به حساً ومعنى وهو لا يراها كما أنها محيطة بمن هو في السفينة من فوقه ومن تحته ومن جميع جهاته .

وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)

ولما كان الوجه أشرف ما في الوجود ، وكان يعبر به عما أريد به صاحب الوجه مع أنه لا يتصور بقاء الوجه صاحبه ، فكان التعبير به عن حقيقة ذلك الشيء أعظم وأدل على الكمال ، وكان من المقرر عند أهل الشرع أنه سبحانه ليس كمثله شيء فلا يتوهم أحد منهم من التعبير به نقصاً قال : { ويبقى } أي بعد فناء الكل ، بقاء مستمراً إلى ما لا نهاية له { وجه ربك } أي المربي لك بالرسالة والترقية بهذا الوحي إلى ما لا يحد من المعارف ، وكل عمل أريد به وجهه سبحانه وتعالى خالصاً . ولما ذكر مباينته للمخلوقات ، وصفه بالإحاطة الكاملة بالنزاهة والحمد ، وقال واصفاً الوجه لأن المراد به الذات الذي هو أشرفها معبراً به ولأنها أبلغ من « صاحب » وبما ينبه على التنزيه عما ربما توهمه من ذكر الوجه بليد جامد مع المحسوسات يقيس الغائب - الذي لا يعتريه حاجة ولا يلم بجنابه الأقدس نقص - بالشاهد الذي كله نقص وحاجة { ذو الجلال } أي العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به { والإكرام * } أي الإحسان العام وهو صفة فعله .
ولما كان الموت نفسه فيه نعم لا تنكر ، وكان موت ناس نعمة على ناس ، مع ما ختم به الآية من وصفه بالإنعام قال : { فبأيّ آلاء ربكما } أي المربي لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى { تكذبان * } أي أيها الثقلان الإنس والجان ، أبنعمة السمع من جهة الأمام أو غيرها من إيجاد الخلق ثم إعدامهم وتخليف بعضهم في أثر بعض وإيراث البعض ما في يد البعض - ونحو ذلك من أمور لا يدركها على جهتها إلا الله تعالى .
ولما كان أدل دليل على العدم الحاجة ، وعلى دوام الوجود الغنى ، قال دليلاً على ما قبله : { يسئله } أي على سبيل التجدد والاستمرار { من في السماوات } أي كلهم { والأرض } أي كلهم من ناطق أو صامت بلسان الحال أو القال أو بهما ، ولما كان كأنه قيل : فماذا يفعل عند السؤال ، وكان أقل الأوقات المحدودة المحسوسة { اليوم } عبر به عن أقل الزمان كما عبر به عن أخف الموزونات بالذرة فقال مجيباً لذلك : { كل يوم } أي وقت من الأوقات من يوم السبت وعلى اليهود لعنة الله وغضبه حيث قالوا في السبت ما هو مناف لقوله سبحانه وتعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ] { ولا يؤده حفظهما هو العلي العظيم } [ البقرة : 255 ] { هو في شأن } أي من إحداث أعيان وتجديد معان أو إعدام ذلك ، قال القشيري : في فنون أقسام المخلوقات وما يجريه عليها من اختلفا الصفات - انتهى .

وهو شؤون يبديها لا شؤون يبتدئها تتعلق قدرته على وفق إرادته على ما تعلق به العلم في الأزل أنه يكون أو يعدم في أوقاته ، فكل شيء قانت له خاضع لديه ساجد لعظمته شاهد لقدرته دالّ عليه { وإن من شيء إلا يسبح يحمده } وذلك التعبير - مع أنه من أجل النعم - أدل دليل على صفات الكمال له وصفات النقص للمتغيرات وأنها عدم في نفسها ولأنها نعم قال : { فبأيّ آلاء ربكما } أي المربي لكما بهذا التدبير العظيم لكل ما يصلحكما { تكذبان * } أبنعمة السمع من جهة الخلف أو غيرها من تصريفه إياكم فيما خلقكم له هو أعلم به منكم من معايشكم وجميع تقلباتكم ، وقد تكررت في هذه الآية المقررة على النعم من أولها إلى هنا ثماني مرات عقب النعم إشارة - والله أعلم - إلى أن نعمة الله سبحانه وتعالى لا تحصى لأنها تزيد على السبعة التي هي العدد التام الواحد هو مبدأ لدور جديد من العدد إشارة إلى أنه كلما انقضى منها دور ابتدأ دور آخر ، ووجه آخر وهو أن الأخيرة صرح فيها ب { من في السماوات والأرض } والسبع التي قبلها يختص بأهل الأرض إشارة إلى أن أمهات النعم سبع كالسماوات والأرض والكواكب السيارة ونحو ذلك .
ولما انقضى عد النعم العظام على وجه هو في غاية الإمكان من البيان ، وكان تغير سائر الممكنات من النبات والجماد والملائكة والسماوات والأرض وما حوتا مما عدا الثقلين على نظام واحد لا تفاوت فيه ، وأما الثقلان فأحوالهما لأجل تنازع العقل والشهوات لا تكاد تنضبط ، بل تغير حال الواحد منهم في اللحظة الواحد إلى ألوان كثيرة متضادة لما فيهم من المكر وأحوال المغالبة والبغي والاستئثار باللهو بالأمر والنهي ، وكان أكثرهم يموت بناره من غير أخذ ثأره ، واقتضت الحكمة ولا بد أنه لا بد لهم من يوم يجتمعون فيه يكون بينهما فيه الفصل على ميزان العدل ، خصهما بالذكر فقال آتياً في النهاية بالوعيد لأنه ليس للعصاة بعد الإنعام والبيان إلا التهديد الشديد للرجوع إلى طاعة الملك الديان ، والالتفات في قراءة الجماعة بالنون إلى التكلم أشد تهديداً من قراءة حمزة والكسائي بالتحتية على نسق ما مضى : { سنفرغ } أي بوعد قريب لا خلف فيه من جميع الشؤون التي ذكرت { لكم } أي نعمل علم من يفرغ للشيء فلا يكون له شغل سواه بفراغ جنودنا من الملائكة وغيرهم مما أمرناهم به مما سبقت به كلمتنا ومضت به حكمتنا من الآجال والأرزاق وغير ذلك فينتهي كله ولا يكون لهم حينئذ عمل إلا جمعكم ليقضي بينكم : { أيّه الثقلان * } بالنصفة ، والثقل هو ما يكون به قوام صاحبه ، فكأنهما سميا بذلك تمثيلاً لهما بذلك إشارة إلى أنهما المقصودان بالذات من الخلائق ، وقال الرازي في اللوامع : وصفاً بذلك يعظم ذلك شأنهما ، كأن ما عداهما لا وزن له بالإضافة إليهما - انتهى .

وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم « إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي » وقال جعفر الصادق : سميا بذلك لأنهما مثقلان بالذنوب .
ولما كان هذا من أجلّ النعم التي يدور عليها العباد ، ويصلح بها البلاد ، وتقوم بها السماوات والأرض ، لأن مطلق التهديد يحصل به انزجار النفس عما لها من الانتشار فيما يضر ولا ينفع ، فكيف بالتهديد بيوم الفصل قال : { فبأيّ آلاء ربكما } أي المحسن إليكما بهذا الصنع المحكم { تكذبان * } أبنعمة السمع عن اليمين أو بغيرها من إثابة أمل طاعته وعقوبة أمل معصيته ، وسمى ابن برجان هذا الإخبار الذي لا نون جمع فيه خطاب القبض يخبر فيه عن موجوداته وما هو خالقه ، قال : وذلك إخبار منه عن محض الوحدانية ، وما قبله من { سنفرغ } ونحوه وما فيه نون الجمع إخبار عن وصف ملكوته وجنوده وهو خطاب البسط .
ولما كان التهديد بالفراغ ربما أوهم أنهم الآن معجوز عنهم أو عن بعض أمرهم ، بين بخطاب القبض المظهر لمحض الواحدانية أنهم في القبضة ، لا فعل لأحد منهم بدليل أنهم لا يصلون إلى جميع مرادهم مما هو في مقدورهم ، ولكنه ستر ذلك بالأسباب التي يوجد التقيد بها إسناد الأمور إلى مباشرتها فقال بياناً للمراد بالثقلين : { يا معشر } أي يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق { الجن } قدمهم لمزيد قوتهم ونفوذهم في المسام وقدرتهم على الخفاء والتشكل في الصور بما ظن أنهم لا يعجزهم شيء { والإنس } أي الخواص والمستأنسين والمؤانسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع .
ولما بان بهذه التسمية المراد بالتثنية ، جمع دلالة على كثرتهم فقال : { إن استطعتم } أي إن وجدت لكم طاعة الكون في { أن تنفذوا } أي تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم { من أقطار } أي نواحي { السماوات والأرض } التي يتخللها القطر لسهولة انفتاحها لشي تريدونه من هرب من الله من إيقاع الجزاء بينكم ، أو عصيان عليه في قبول أحكامه وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره أو غير ذلك { فانفذوا } وهذا يدل على أن كل واحدة منها محيطة بالأخرى لأن النفوذ لا يكون حقيقة إلا مع الخرق .
ولما كان نفوذهم في حد ذاته ممكناً ولكنه منعهم من ذلك بأنه لم يخلق في أحد منهم قوته ولا سيما وقد منعهم منه يوم القيامة بأمور منها إحداق أهل السماوات السبع بهم صفاً بعد صف وسرادق النار قد أحاط بالكافرين ولا منفذ لأحد إلا على الصراط ولا يجوزه إلا كل ضامر يخف ، أشار إليه بقوله مستأنفاً : { لا تنفذون } أي من شيء من ذلك { إلا بسلطان } إلا بتسليط عظيم منه سبحانه بأمر قاهر وقدرة بالغة وأنى لكم بالقدرة على ذلك ، قال البغوي : وفي الخبر : يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون : يا معشر الجن الآية .

انتهى ، وهذا حكاية ما يكون من ذلك يوم القيامة لا أنه خاص بهم .
ولما كان هذا نظرهم فيما بينهم وبين بقية الحيوانات بما أعطاهم من القوى الحسية والمعنوية وما نصب لهم ، المصاعد العقلية والمعارض النقلية التي ينفذون بها إلى غاية الكائنات ويتخللون بما يؤديهم إليه علمها إلى أعلى المخلوقات ، ثم نظرهم فيما بين الحيوانات وبين النباتات ثم بينها وبين الجمادات دالاًّ دلالة واضحة على أنه سبحانه وتعالى يعطي من يشاء من يشاء ، فلو أراد قواهم على النفوذ منها ، ولو قواهم على ذلك لكان من أجل النعم ، وأنه سبحانه قادر على ما يريد منهم ، فلو شاء أهلكهم ولكنه يؤخرهم إلى آجالهم حلماً منه وعفواً منه عنهم ، سبب عن ذلك قوله : { فبأيّ آلاء ربكما } أي المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على كل ما يريد { تكذبان * } أبنعمة السمع من جهة اليسار أو غيرها من جعلكم سواء في أنكم لا تقدرون على مخالفة مراده سواء ابتدأ بخلقكم أو اليوم المشهود وقد أشهدكم قبل على أنفسكم وعهد إليكم أو بتكشيط السماوات وقد شاهدتم تكشيط السحاب بعد بسطه أو بالجزاء وقد رأيتم الجزاء العاجل وشاهدتم ما أصاب الأمم الماضية .

يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

ولما سلب عنهم القدرة على النفوذ المذكور تنبيهاً على سلب جميع القدرة عنهم وعلى أن ما يقدرون عليه إنما هو بتقديره لهم نعمة منه عليهم ، ولما كان منهم من بلغ الغاية في قسوة القلب وجمود الفكر فهو يحيل العجز عن بعض الأمور إلى أنه لم يجر بذلك عادة ، لا إلى أنه سبحانه المانع من ذلك ، فعمهم شيء من ذلك سطوته فقال { يرسل عليكما } أي أيها المعاندون ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : حين تخرجون من القبور بسوقكم إلى المحشر { شواظ } أي لهب عظيم منتشر مع التضايق محيط بكم من كل جانب له صوت شديد كهيئته ذي الخلق الضيق الشديد النفس .
ولما كان الشواظ يطلق على اللهب الذي لا دخان فيه وعلى دخان النار وحرها وعلى غير ذلك ، بينه بقوله : { من نار ونحاس } أي دخان هو في غاية الفظاعة فيه شرر متطاير وقطر مذاب ، قال ابن جرير : والعرب تسمي الدخان نحاساً بضم النون وكسرها ، وأجمع القراء على ضمها - انتهى . وجرها أبو عمرو وابن كثير عطفاً على { نار } ورفعه الباقون عطفاً على { شواظ } .
ولما كان ذلك ممكناً عقلاً وعادة ، وكانوا عارفين بأنهم لو وقعوا في مثل ذلك لم يتخلصوا منه بوجه ، سبب عنه قوله : { فلا تنصران * } قال ابن برجان : هذا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « يخرج عنق من نار فيقول بكل جبار عنيد فيلتقطهم من بين الجمع لقط الحمام حب السمسم ، ويغشي المجرمين دخان جهنم من بين المؤمنين ولا يضرهم ، وآية الشواظ وعنق النار هنالك صواعق ما هنا وبروقه والنار المعهودة » .
ولما كان التهديد بهذا لطفاً بهم فهو نعمة عليهم والعفو عن المعالجة بإرسالة لذلك ، سبب عنه قوله : { فبأيِّ آلاء ربكما } أي المربي لكما بدفع البلايا وجلب المنافع { تكذبان * } أبنعمة السمع من فوق أو غيرها ، ألم يكن لكم فيما شهدتموه في الدنيا من دلائل ذلك وآياته ما يوجب لكم الإيمان . ولما كان هذا مما لم تجر عادة بعمومه وإن استطردت بجريانه منه في أشياء منه في أماكن متفرقة كأشخاص كثيرة ، بين لهم وقته بقوله : { فإذا } أي فيتسبب عن هذا الإرسال إنه إذا { انشقت السماء } من هوله وعظمته فكانت أبواباً لنزول الملائكة وغيرهم ، وغير ذلك من آيات الله { فكانت } لما يصيبها من الحر { وردة } أي حمراء مشرقة من شدة لهيبه ، وقال البغوي : كلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى حمرة وصفرة . { كالدهان } أي ذائبة صافية كالشيء الذي يدهن به أو كالأديم الأحمر والمكان الزلق ، وآية ذلك في الدنيا الشفقان عند الطلوع وعند الغروب ، وجواب { إذا } محذوف تقديره : علمتم ذلك علماً شهودياً أو فما أعظم الهول حينئذ ونحو ذا أن يكون الجواب شيئاً دلت عليه الآيات الآتية نحو : فلا يسأل أحد إذ ذاك عن ذنبه ، وحذفه أفخم ليذهب الوهم فيه كل مذهب .

ولما كان حفظ السماء عن مثل ذلك بتأخير إرسال هذا وغيره من الأسباب وجعلها محل الروح والحياة والرزق من أعظم الفواضل قال مسبباً عنه : { فبأيِّ آلاء ربكما } أي المربي لكما هذا التدبير المتقن { تكذبان * } أبنعمة السمع من تحت أو غيرها وليس شيء بما أخبرتكم به من أحوال الآخرة إلا قد أقمت لكم في الدنيا ما تهتدون به إلى العلم بكونه . ولما كان يوم القيامة ذا ألوان كثيرة ومواقف مهولة طويلة شهيرة تكون في كل منها شؤون عظيمة وأمور كبيرة ، ذكر بعض ما سببه هذا الوقت من التعريف بالعاصي والطائع بآيات جعلها الله سبباً في علمها فقال : { فيومئذ } أي فسبب عن يوم انشقت السماء لأنه { لا يسئل } سؤال تعرف واستعلام بل سؤال تقريع وتوبيخ وكلام ، وذلك أنه لا يقال له : هل فعلت كذا؟ بل يقال له : لم فعلت كذا ، على أنه ذلك اليوم طويل ، وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه وتارة لا يسأل ، والأمر في غاية الشدة ، وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً ، فقد مضى في الفاتحة أن اليوم عبارة عن وقت يمتد إلى انقضاء أمر مقدر فيه ظاهر من ليل أو نهار أو غيرهما لقوله تعالى { إلى ربك يومئذ المساق } [ القيامة : 30 ] أي يوم إذا بلغت الروح التراقي وهو لا يختص بليل ولا نهار ، وبناه للمفعول تعظيماً للأمر بالإشارة إلى أن شأن المعترف بالذنب لا يكون خاصاً بعهد دون عهد بل يعرفه كل من أراد علمه ، وأضمر قبل الذكر لما هو مقدم في الرتبة ليفهم الاختصاص فوجد الضمير لأجل اللفظ فقال : { عن ذنبه } أي خاصة وقد سئل المحسن عن حسنته سؤال تشريف له وتنديم لمن دونه .
ولما كان الإنس أعظم مقصود بهذا ، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم منهم ، وكان التعريف بالشاهد المألوف أعظم في التعريف ، وكان علم أحوال الشيء الظاهر أسهل ، قدمهم فقال : { إنس } ولما كان لا يلزم من علم أحوال الظاهر علم أحوال الخفي ، بين أن الكل عليه سبحانه هين فقال : { ولا جان * } ولما كان هذا التمييز من أجل النعم لئلا يؤدي الالتباس إلى ترويع بعض المطيعين عاملاً أو نكاية بالسؤال عنه قال : { فبأيِّ آلاء ربكما } أي الذي ربى كلاًّ منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه { تكذبان * } أبنعمة الشم من الأمام أم من غيرها .
ولما كان الكلام عاماً عرف انه خاص بتعرف المجرم من غيره دون التعزير بالذنب أو غيره من الأحوال فقال معللاً لعدم السؤال : { يعرف } أي لكل أحد { المجرمون } أي العريقون في هذا الوصف { بسيماهم } أي العلامات التي صور الله ذنوبهم فيها فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة ، وظاهرة الدلالة عليهم كما يعرف أن الليل إذا جاء لا يخفى على أحد أصلاً وكذلك النهار ونحوهما لغير الأعمى ، وتلك السيما - والله أعلم - زرقة العيون وسواد الوجوه والعمى والصمم والمشي على الوجوه ونحو ذلك ، وكما يعرف المحسنون بسيماهم من بياض الوجوه وإشراقها وتبسمها ، والغرة والتحجيل ونحو ذلك ، وسبب عن هذه المعرفة قوله مشيراً بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أي آخذ كان { فيؤخذ بالنواصي } أي منهم وهي مقدمات الرؤوس { والأقدام * } بعد أن يجمع بينهما كما أنهم كانوا هم يجمعون ما أمر الله به أن يفرق ، ويفرقون ما أمر الله به أن يجمع ، فيسحبون بها سحباً من كل ساحب أقامه الله لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41