كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

ولما كان أضر أوقات حضورهم ساعة الموت ، وحالة الفوت ، فإنه وقت كشف الغطاء ، عما كتب من القضاء ، وآن اللقاء ، وتحتم السفول أو الارتقاء ، عقب ذلك بذكره تنبيهاً على بذل الجهد في الدعاء والتضرع للعصمة فيه فقال معلقاً بقوله تعالى : { بل لا يشعرون } أو بمبلسون ، منبهاً بحرف الغاية على أنه سبحانه يمد في أزمانهم استدراجاً لهم : { حتى } أو يكون التقدير كما يرشد إليه السياق : فلا أكون من الكافرين المطيعين للشياطين حتى { إذا جاء } وقدم المفعول ليذهب الوهم في فاعله كل مذهب فقال : { أحدهم الموت } فكشف له الغطاء ، وظهر له الحق ، ولاحت له بوارق العذاب ، ولم يبق في شيء من ذلك ارتياب { قال } مخاطباً لملائكة العذاب على عادة جهله ووقوفه مع المحسوس دأب البهائم : { رب ارجعون* } أي إلى الدنيا دار العمل؛ ويجوز أن يكون الجمع لله تعالى وللملائكة ، أو للتعظيم على عادة في مخاطبات الأكابر لا سيما الملوك ، أو لقصد تكرير الفعل للتأكيد .
ولما كان في تلك الحالة على القطع من اليأس من النجاة لليأس من العمل لفوات داره مع وصوله إلى حد الغرغرة قال : { لعلي أعمل } أي لأكون على رجاء من أن أعمل { صالحاً فيما تركت } من الإيمان وتوابعه؛ قال البغوي : قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع ليعمل بطاعة الله ، فرحم الله امرأً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب . وقال ابن كثير : كان العلاء بن زياد يقول : لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله عز وجل .
ولما كان القضاء قد قطع بأنه لا يرجع ، ولو رجع لم يعمل قال ردعاً له ورداً لكلامه : { كلا } أي لا يكون شيء من ذلك ، فكأنه قيل : فما حكم ما قال؟ فقال معرضاً عنه إيذاناً بالغضب : { إنها كلمة } أي مقالته { رب ارجعون } - إلى آخره ، كلمة { هو قائلها } وقد عرف من الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها .
ولما كان التقدير : فهو لا يجاب إليها ، عطف عليه قوله ، جامعاً معه كل من ماثله لأن عجز الجمع يلزم منه عجز الواحد : { ومن ورائهم } أي من خلفهم ومن أمامهم محيط بهم { برزخ } أي حاجز بين ما هو فيه وبين الدنيا والقيامة مستمر لا يقدر أحد على رفعه { إلى يوم يبعثون* } أي تجدد بعثهم بأيسر أمر وأخفه وأهونه .

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

ولما غيَّى ذلك بالبعث فتشوفت النفس إلى ما يكون بعده ، وكان قد تقدم أن الناس - بعد أن كانوا أمة واحدة في الاجتماع على ربهم - تقطعوا قطعاً ، وتحزبوا أحزاباً ، وتعاضدوا بحكم ذلك وتناصروا ، قال نافياً لذلك : { فإذا نفخ } أي بأسهل أمر النفخة الثانية وهي نفخة النشور ، أو الثالثة للصعق { في الصور } فقاموا من القبور أو من الصعق { فلا أنساب } وهي أعظم الأسباب { بينهم } يذكرونها يتفاخرون بها { يومئذ } لما دهمهم من الأمر وشغلهم من البأس ولحقهم من الدهش ورعبهم من الهول وعلموا من عدم نفعها إلا ما أذن الله فيه ، بل يفر الإنسان من أقرب الناس إليه ، وإنما أنسابهم الأعمال الصالحة { ولا يتساءلون* } أي في التناصر لأنه انكشف لهم أن لا حكم إلا الله وأنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً ، فتسبب عن ذلك أنه لا نصرة إلا بالأعمال رحم الله بالتيسير لها ثم رحم بقبولها ، فلذلك قال : { فمن ثقلت موازينه } أي بالأعمال المقبولة ، ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزاناً يعرف أنه لا يصلح له غيره ، وذلك أدل على القدرة { فأولئك } أي خاصة ، ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد الدلالة على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد { هم المفلحون* } لأنهم المؤمنون الموصوفون { ومن خفت موازينه } لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان { فأولئك } خاصة { الذين خسروا أنفسهم } لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال؛ ثم علل ذلك أو بينه بقوله : { في جهنم خالدون* } وهي دار لا ينفك أسيرها ، ولا ينطفىء سعيرها؛ ثم استأنف قوله : { تلفح } أي تغشى بشديد حرها وسمومها ووهجها { وجوههم النار } فتحرقها فما ظنك بغيرها { وهم فيها كالحون* } أي متقلصو الشفاه عن الأسنان مع عبوسة الوجوه وتجعدها وتقطبها شغل من هو ممتلىء الباطن كراهية لما دهمه من شدة المعاناة وعظيم المقاساة في دار التجهم ، كما ترى الرؤس المشوية ، ولا يناقض نفي التساؤل هنا إثباته في غيره لأنه في غير تناصر بل في التلاوم والتعاتب والتخاصم على أن المقامات في ذلك اليوم طويلة وكثيرة ، فالمقالات والأحوال لأجل ذلك متباينة وكثيرة ، وسيأتي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سورة الصافات نحو ذلك .

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)

ولما جرت العادة بأن المعذب بالفعل يضم إليه القيل ، أجيب من قد يسأل عن ذلك بقوله : { ألم } أي يقال لهم في تأنيبهم وتوبيخهم : ألم { تكن آياتي } التي انتهى عظمها إلى أعلى المراتب بإضافتها إليّ . ولما كان مجرد ذكرها كافياً في الإيمان ، نبه على ذلك بالبناء للمفعول : { تتلى عليكم } أي تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئاً فشيئاً . ولما كانت سبباً للإيمان فجعلوها سبباً للكفران ، قال : { فكنتم } أي كوناً أنتم عريقون فيه { بها تكذبون* } وقدم الظرف للإعلام بمبالغتهم في التكذيب؛ ثم استأنف جوابهم بقوله : { قالوا ربنا } أيها المسبغ علينا نعمه { غلبت علينا شقوتنا } أي أهواؤنا التي قادتنا إلى سوء الأعمال اليت كانت سبباً ظاهراً للشقاوة .
ولما كان التقدير : فكنا معها كالمأسورين ، تؤزنا إليها الشياطين أزاً ، عطف عليه قوله { وكنا } أي بما جبلنا عليه { قوماً ضالين* } في ذلك عن الهدى ، أقوياء في موجبات الشقوة ، فكان سبباً للضلال عن طريق السعادة .
ولما تضمن هذا الإقرار الاعتذار ، وكان ذلك ربما سوغ الخلاص ، وصلوا به قولهم : { ربنا } يا من عودنا بالإحسان { أخرجنا منها } أي النار تفضلاً منك على عادة فضلك ، وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك { فإن عدنا } إلى مثل تلك الضلالات { فإنا ظالمون* } فاستؤنف جوابهم بأن { قال } لهم كما يقال للكلب : { اخسئوا } أي انزجروا زجر الكلب وانطردوا عن مخاطبتي ساكتين سكوت هوان { فيها } أي النار { ولا تكلمون* } أصلاً ، فإنكم لستم أهلاً لمخاطبتي ، لأنكم لم تزالوا متصفين بالظلم ، ومنه سؤالكم هذا المفهم لأن اتصافكم به لا يكون إلا على تقدير عودكم بعد إخراجكم .
ولما كانت الشماتة أسر السرور للشامت وأخزى الخزي للمشموت به ، علل ذلك بقوله : { إنه كان } أي كوناً ثابتاً { فريق } أي ناس استضعفتموهم فهان عليكم فراقهم لكم وفراقكم لهم وظننتم أنكم تفرقون شملهم { من عبادي } أي الذين هم أهل للإضافة إلى جنابي لخلوصهم عن الأهواء { يقولون } مع الاستمرار : { ربنا } أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق { آمنا } أي أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل لوجوب ذلك علينا لأمرك لنا به .
ولما كان عظم المقام موجباً لتقصير العابد ، وكان الاعتراف بالتقصير جابراً له قالوا : { فاغفر لنا } أي استر بسبب إيماننا عيوبنا التي كان تقصيرنا بها { وارحمنا } أي افعل بنا فعل الراحم من الخير الذي هو على صورة الحنو والشفقة والعطف .
ولما كان التقدير : فأنت خير الغافرين ، فإنك إذا سترت ذنباً أنسيته لكل أحد حتى للحفظة ، عطف عليه قوله : { وأنت خير الراحمين* } لأنك تخلص مَنْ رحمته من كل شقاء وهوان ، بإخلاص الإيمان ، والخلاص من كل كفران .
ولما تسبب عن إيمان هؤلاء زيادة كفران أولئك قال : { فاتخذتموهم سخرياً } أي موضعاً للهزء والتلهي والخدمة لكم ، قال الشهاب السمين في إعرابه : والسخرة - بالضم : الاستخدام ، وسخريا - بالضم منها والسخر بدون هاء - الهزء والمكسور منه يعني على القراءتين وفي النسبة دلالة على زيادة قوة في الفعل كالخصوصية والعبودية { حتى أنسوكم } أي لأنهم كانوا السبب في ذلك بتشاغلكم بالاستهزاء بهم واستبعادهم { ذكري } أي أن تذكروني فتخافوني بإقبالكم بكليتكم على ذلك منهم .
ولما كان التقدير : فتركتموه فلم تراقبوني في أوليائي ، عطف عليه قوله : { وكنتم } أي بأخلاق هي كالجبلة { منهم } أي خاصة { تضحكون* } كأنهم لما صرفوا قواهم إلى الاستهزاء بهم عد ضحكهم من غيرهم عدماً .

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)

ولما تشوفت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم ، قال : { إني جزيتهم } أي مقابلة على عملهم { اليوم بما صبروا } أي على عبادتي ، ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم كما كما شغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم ، فوزَهم دونكم ، وهو معنى قوله : { أنهم هم } أي خاصة { الفائزون* } أي الناجون الظافرون بالخير بعد الإشراف على الهلكة ، وغير العبارة لإفادة الاختصاص والوضوح والرسوخ ، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف .
ولما كان الفائز - وهو الظافر - من لم يحصل له بؤس في ذلك الأمر الذي فاز به ، وكان قد أشار سبحانه بحرف الغاية وما شاكله إلى أنه مد لأهل الشقاء في الدنيا في الأعمار والأرزاق حتى استهانوا بعبادة السعداء ، فكان ربما قيل : إن أعداءهم فازوا بالاستهزاء بهم والرفعة عليهم في حال الدنيا ، وكان سبحانه قد أسلف ما يرد ذلك من الإخبار بأنه خلدهم في النار وأعرض عنهم وزجرهم عن كلامه ، وكان أنعم أهل الدنيا إذا غمس في النار غمسة ثم سئل عن نعيمه قال : ما رأيت نعيماً قط ، فكان ذلك محزاً لتقريع الأشقياء بسبب تضيع أيامهم وتنديمهم عليها . تشوف السامع إلى أنه هل يسألهم عن تنعيمه لهم في الدنيا الذي كان جديراً منهم بالشكر فقابلوه بالكفر والاستهزاء بأوليائه؟ فأجاب تشوفه ذلك مجهلاً لهم ومندماً ومنبهاً على الجواب أن فوزهم في الدنيا - لقلته التي هي أحقر من قطرة في جنب بحر - عدم ، بقوله : { قال } تأسيفاً على ما أضاعوا من عبادة يسيرة تؤرثهم سعادة لا انقضاء لها وارتكبوا من لذة قليلة أعقبتهم بؤساً لا آخر له - هذا على قراءة الجماعة ، وبين سبحانه بقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي أن القول بواسطة بعض عباده الذين أقامهم لتعذيبهم إعراضاً عنهم تحقيقاً لما أشار إليه { ولا تكلمون } فقال : { قل } أي يا من أقمناه للانتقام ممن أردنا أي لهؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا على ما يرون من قصر مدتها ولعبها بأهلها فكفروا بنا واستهزؤوا بعبادنا : { كم لبثتم في الأرض } على تلك الحال التي كنتم تعدونها فوزاً { عدد سنين* } أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون ، ولعله عبر بما منه الإسنات الذي معناه القحط إشارة إلى أن أيام الدنيا ضيقة حرجة وإن كان فيها سعة ، ولا سيما للكفرة بكفرهم وخبثهم ومكرهم الذي جرهم إلى أضيق الضيق وأسوأ العيش { قالوا } استقصاراً له في جنب ما رأوا من العذاب واستنقاذاً لأنفسهم ظناً أن مدة لبثهم في النار تكون بمقدار مكثهم في الدنيا : { لبثنا يوماً } ولعلهم ذكروا العامل تلذذاً بطول الخطاب ، أو تصريحاً بالمراد دفعاً للبس والارتياب ، ثم زادوا في التقليل فقالوا : { أو بعض يوم } .
ولما كان المكرة في الدنيا إذا أرادوا تمشية كذبهم قالوا لمن أخبروه فتوقف في خبرهم : سل فلاناً ، إيثاقاً بإخبارهم ، وستراً لعوارهم ، جروا على ذلك تمادياً منهم في الجهل بالعليم القدير في قولهم : { فاسأل } أي لتعلم صدق خبرنا أو بسبب ترددنا في العلم بحقيقة الحال لتحرير حقيقة المدة { العادين* } ويحتمل أيضاً قصد الترقيق عليهم بالإشارة إلى أن ما هم فيه من العذاب شاغل لهم عن أن يتصوروا شيئاً حاضراً محسوساً ، فضلاً عن أن يكون ماضياً ، فضلاً عن أن يكون فكرياً ، فكيف إن كان حساباً .

قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

ولما كان ذلك على تقدير تسليمه لا ينفعهم لأن الجزاء بالعذاب على عزمهم على التمادي في العناد على مرّ الآباد ، المصدق منهم بالانهماك في الفساد ، أجابهم إلى قصدهم في عدهم بعبارة صالحة صادقة على مدة لبثهم طال أو قصر ، بقوله على طريق الاستئناف لمن تشوف إلى معرفة جوابهم : { قال } أي الله على قراءة الجماعة ، وبينت قراءة حمزة والكسائي أن إسناد القول إليه سبحانه مجاز عن قول بعض عباده العظماء فقال على طريق الأول : { قل } أي لهؤلاء الذين وقع الإعراض عنهم { إن } أي ما { لبثتم } أي في الدنيا { إلا قليلاً } أي هو من القلة بحيث لا يسمى بل هو عدم { لو أنكم كنتم } أي كوناً هو كالجبلة { تعلمون* } أي في عداد من يعلم في ذلك الوقت ، لما آثرثم الفاني على الباقي ، ولأقبلتم على ما ينفعكم ، وتركتم الخلاعة التي لا يرضاها عاقل ، ولا يكون على تقدير الرضا بفعلها إلا بعد الفراغ من المهم ، ولكنكم كنتم في عداد البهائم ، وفي ذلك تنبيه للمؤمنين الذين هم الوارثون على الشكر على ما منحهم من السرور بإهلاك أعدائهم وإيراثهم أرضهم وديارهم ، مع إعزازهم والبركة في أعمارهم ، بعد إراحتهم منهم في الدنيا ، ثم بإدامة سعادتهم في الآخرة وشقاوة أعدائهم .
ولما كان حالهم في ظنهم أن لا بعث ، حتى اشتغلوا بالفرح ، والبطر و المرح ، والاستهزاء بأهل الله ، حال من يظن العبث على الله الملك الحق المبين ، سبب عن ذلك عطفاً على قوله { فاتخذتموهم سخرياً } إنكاره عليهم في قوله : { أفحسبتم } ويجوز أن يكون معطوفاً على مقدر نحو : أحسبتم أنا نهملكم فلا ننصف مظلومكم من ظالمكم ، فحسبتم { أنما خلقناكم } أي على ما لنا من العظمة { عبثاً } أي عابثين أو للعبث منا أو منكم ، لا لحكمة إظهار العدل والفضل ، حتى اشغلتم بظلم أنفسكم وغيركم؛ قال أبو حيان : والعبث : اللب الخالي عن فائدة . { وأنكم } أي وحسبتم أنكم { إلينا } أي خاصة { لا ترجعون* } بوجه من الوجوه لإظهار القدرة والعظمة في الفصل ، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو يعلى الموصلي في الجزء الرابع والعشرين من مسنده والبغوي في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رقى رجلاً مصاباً بهذه الآية إلى آخر السورة في أذنيه فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده! لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال » وفي سندهما ابن لهيعة . قال ابن كثير : وروى أبو نعيم عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث عن أبيه رضي الله عنه ، قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا { أفحسبتم } - الآية ، قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا .

ولما كان التقدير : ليس الأمر كما حسبتم ، علل ذلك بقوله : { فتعالى الله } أي علا الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن العبث؛ ثم وصفه بما ينافي العبث فقال : { الملك } أي المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة ، وحفظاً ورعاية .
ولما كان بعض ملوك الدنيا قد يفعل ما ينافي شيم الملوك من العبث بما فيه من الباطل ، أتبع ذلك بصفة تنزهه عنه فقال : { الحق } .
أي الذي لا تطرق للباطل إليه في شيء من ذاته ولا صفاته ، فلا زوال له ولا لملكه فأنّى يأتيه العبث .
ولما كان الحق من حيث هو قد يكون له ثان . نفى ذلك في حقه تعالى بقوله : { لا إله إلا هو } فلا يوجد له نظير أصلاً في ذات ولا صفة ، ومن يكون كذلك يكون حائزاً لجميع أوصاف الكمال ، وخلال الجلال والجمال ، متعالياً عن سمات النقص ، والعبث من أدنى صفات النقص ، لخلوه عن الحكمة التي هي أساس الكمال؛ ثم زاد في التعيين والتأكيد للتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره فقال : { رب العرش } أي السرير المحيط بجميع الكائنات ، العالي عليها علواً لا يدانيه شيء؛ ثم وصف العرش لأنه في سياق الحكم بالعدل والتنزه عن العبث بخلاف سياق براءة والنمل فإنه للقهر والجبروت بقوله : { الكريم* } أي الذي تنزل منه الخيرات الحاصلة للعباد ، مع شرف جوهره ، وعلى رتبته ، ومدحه أبلغ مدح لصاحبه ، والكريم من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها وتنزه عن كل دناءة؛ قال القزاز : وأصل الكرم في اللغة الفضل والرفعة . ولما كان التقدير : فمن دعا الله وحده فأولئك هم المفلحون الوارثون في الدارين ، عطف عليه قوله : { ومن يدع مع الله } أي الملك الذي كفوء له لإحاطته بجميع صفات الكمال { إلهاً } ولما كانوا لتعنتهم ينسبون الداعي له سبحانه باسمين أو أكثر إلى الشرك ، قيد بقوله : { آخر } ثم أيقظ من سنة الغفلة ، ونبه على الاجتهاد والنظر في أيام المهلة ، بقول لا أعدل منه ولا أنصف فقال : { لا برهان له } ولما كان المراد ما يسمى برهاناً ولو على أدنى الوجوه الكافية ، عبر بالباء سلوكاً لغاية الإنصاف دون « على » المفهمة للاستعلاء بغاية البيان فقال : { به } أي بسبب دعائه فإنه إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد ، بل وجد البراهين كلها قائمة على نفي ذلك ، داعية إلى الفلاح باعتقاد التوحيد والصلاح ، هذا المراد ، لا أنه يجوز أن يقوم على شيء غيره برهان { فإنما حسابه } أي جزاؤه الذي لا تمكن زيادته ولا نقصه { عند ربه } الذي رباه ، ولم يربه أحد سواه ، وغمره بالإحسان ، ولم يحسن إليه أحد غيره ، الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته منه نفسه ، فلا يخفى عليه شيء من أمره .
ولما أفهم كون حسابه عند هذا المحسن أحد أمرين : إما الصفح بدوام الإحسان ، وإما الخسران بسبب الكفران ، قال على طريق الجواب لمن يسأل عن ذلك : { إنه لا يفلح } ووضع { الكافرون* } موضع ضميره تنبيهاً على كفره وتعميماً للحكم ، فصار أول السورة وآخرها مفهماً لأن الفلاح مختص به المؤمنون .

ولما كان الأمر كذلك ، أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد في إنقاذ عباده حتى بالدعاء لله في إصلاحهم ليكون الختم بالرحمة للمؤمنين ، كما كان الافتتاح بفلاحهم ، فقال عاطفاً على قوله { ادفع بالتي هي أحسن } فإنه لا إحسان أحسن من الغفران ، أو على معنى { قال كم لبثتم } الذي بينته قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي بالأمر : { وقل } ، أو يكون التقدير : فأخلص العبادة له { وقل } لأجل أن أحداً لا يقدره حق قدره : { رب } أيها المحسن إليّ { اغفر وارحم } أي أكثر من تعليق هاتين الصفتين في أمتي لتكثرها ، فإن في ذلك شرفاً لي ولهم ، فأنت خير الغافرين { وأنت خير الرّاحمين* } فَمنْ رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة ، فكان من المؤمنين ، فكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن ، وخيبة كل كافر ، نسأل الله تعالى أن يكون لنا أرحم راحم وخير غافر ، إنه المتولي للسرائر ، والمرجو لإصلاح الضمائر - آمين .

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

{ سورة } أي عظيمة؛ ثم رغب في امتثال ما فيها مبيناً أن تنويهاً للتعظيم بقوله : { أنزلناها } أي بما لنا من العظمة وتمام العلم والقدرة { وفرضناها } أي قررناها وقدرناها وأكثرنا فيها من الفروض وأكدناها { وأنزلنا فيها } بشمول علمنا { آيات } من الحدود والأحكام والمواعظ والأمثال وغيرها ، مبرهناً عليها { بينات } لا إشكال فيها رحمة منا لكم ، فمن قبلها دخل في دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم التي لقناه إياها في آخر تلك فرحمه خير الراحمين ، ومن أباها ضل فدخل في التبكيت بقولنا { ألم تكن آياتي تتلى عليكم } [ المؤمنون : 105 ] ونحوه ، وذلك معنى قوله : { لعلكم تذكرون* } أي لتكونوا - إذا تأملتموها مع ما قبلها من الآيات المرققة والقصص المحذرة - على رجاء - عند من لا يعلم العواقب - من أن تتذكروا ولو نوعاً من التذكر - كما أشار إليه الإدغام - بما ترون فيها من الحكم أن الذي نصبها لكم وفصلها إلى ما ترون لا يترككم سدى ، فتقبلوا على جميع أوامره ، وتنتهوا عن زواجره ، ليغفر لكم ما قصرتم فيه من طاعته ، ويرحمكم بتنويل ما لا وصول لكم إليه إلا برحمته ، وتتذكروا أيضاً بما يبين لكم من الأمور ، ويكشف عنه الغطاء من الأحكام التي اغمت عنها حجب النفوس ، وسترتها ظلمات الأهوية - ما جبل عليه الآدميون ، فتعلموا أن الذي تحبون أن يفعل معكم بحب غيركم أن تفعلوه معه ، والذي تكرهونه من ذلك يكرهه غيركم ، فيكون ذلك حاملاً لكم على النصفة فيثمر الصفاء ، والألفة والوفاء ، فتكونوا من المؤمنين المفلحين الوارثين الداخلين في دعوة البشير النذير بالرحمة .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما قال تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون } [ المؤمنون : 5 ] ثم قال تعالى { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } [ المؤمنون : 7 ] استدعى الكلام بيان حكم العادي في ذلك ، ولم يبين فيها فأوضحه في سورة النور فقال تعالى { الزانية والزاني } - الآية ، ثم أتبع ذلك بحكم اللعان والقذف وانجرّ مع ذلك الإخبار بقصة الإفك تحذيراً للمؤمنين من زلل الألسنة رجماً بالغيب { وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم } وأتبع ذلك بعد بوعيد محبّي شياع الفاحشة ، في المؤمنين بقوله تعالى { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } [ النور : 23 ] الآيات ، ثم بالتحذيرمن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان المشروع ، ثم بالأمر بغض الأبصار للرجال والنساء ونهى النساء عن إبداء الزينة إلا لمن سمى الله سبحانه في الآية ، وتكررت هذه المقاصد في هذه السورة إلى ذكر حكم العورات الثلاث ، ودخول بيوت الأقارب وذوي الأرحام ، وكل هذا مما تبرأ ذمة المؤمن بالتزام ما أمر الله فيه من ذلك والوقوف عندما حده تعالى من أن يكون من العادين المذمومين في قوله تعالى

{ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } [ المؤمنون : 7 ] . وما تخلل الآي المذكورات ونسق عليها مما ليس من الحكم المذكور فلاستجرار الآي إياه واستدعائه ، ومظنة استيفاء ذلك وبيان ارتباطه التفسير ، وليس من شرطنا هنا - والله سبحانه وتعالى يوفقنا لفهم كتابه - انتهى .
ولما كان مبنى هذه الدار على الأنساب في التوارث والإمامة والنكاح وغير ذلك ، ومبنى تلك الدار على الأعمال لقوله تعالى { فلا أنساب بينهم يومئذ } [ المؤمنون : 101 ] وكان قد حث في آخر تلك على الستر والرحمة ، حذر رحمة منه في أول هذه من لبس الأنساب ، وكسب الأعراض وقطع الأسباب ، معلماً أن الستر والرقة ليسا على عمومهما ، بل على ما يحده سبحانه ، فقال مخاطباً للأئمة ومن يقيمونه : { الزانية } وهي من فعلت الزنى ، وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً ، وقدمها لأن أثر الزنى يبدو عليها من الحبل وزوال البكارة ، ولأنها أصل الفتنة بهتك ما أمرت به من حجاب التستر والتصون والتحذر { والزاني } .
ولما كان « ال » بمعنى الاسم الموصول ، أدخل الفاء في الخبر فقال : { فاجلدوا } أي فاضربوا وإن كان أصله ضرب الجلد بالسوط الذي هو جلد { كل واحد منهما } إذا لم يكن محصناً ، بل كان مكلفاً بكراً - بما بينته السنة الشريفة { مائة جلدة } فبدأ بحد الزنى المشار إليه أول تلك بقوله تعالى { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } [ المؤمنون : 7 ] وفي التعبير بلفظ الجلد الذي هو ضرب الجلد إشارة إلى أنه يكون مبرحاً بحيث يتجاوز الألم إلى اللحم .
ولما كان هذا ظاهراً في ترك الشفقة عليهما ، صرح به لأن من شأن كل من يجوز على نفسه الوقوع في مثل ذلك أن يرحمهما فقال : { ولا تأخذكم } أي على حال من الأحوال { بهما رأفة } أي لين ، ولعله عبر بها إعلاماً بأنه لم ينه عن مطلق الرحمة ، لأن الرأفة أشد الرحمة أو أرقها وتكون عن أسباب من المرؤوف به ، وكذا قوله : { في دين الله } أي الذي شرعه لكم الملك المحيط بصفات الكمال - إشارة إلى أن الممنوع منه رحمة تؤدي إلى ترك الحد أو شيء منه أو التهاون به أو الرضى عن منتهكه لا رقة القلب المطبوع عليها البشر كما يحكى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه بكى يوم فتحت قبرص وضربت رقاب ناس من أسراها فقيل له : هذا يوم سرور ، فقال : هو كذلك ، ولكني أبكي رحمة لهؤلاء العباد الذين عصوا الله فخذلهم وأمكن منهم .
ولما علم سبحانه ما طبع عليه عباده من رحمة بعضهم لبعض فحث على هذا الحكم بالأمر والنهي ، زاد في التهييج إليه والحض عليه بقوله : { إن كنتم } أي بما هو كالجبلة التي لا تنفك { تؤمنون بالله } أي الملك الأعظم الذي هو أرحم الراحمين ، فما شرع ذلك إلا رحمة للناس عموماً وللزانيين خصوصاً ، فمن نقص سوطاً فقد ادعى أنه أرحم منه ، ومن زاد سوطاً فقد ظن أنه أحكم وأعظم منه .

ولما ذكر بالإيمان الذي من شرطه التزام الأحكام ، وكان الرجاء غالباً على الإنسان ، أتبعه ما يرهبه فقال : { واليوم الآخر } الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي . ولما كان الخزي والفضيحة أعظم عند بعض الناس من ضرب السيف فضلاً عن ضرب السوط قال : { وليشهد } أي يحضر حضوراً تاماً { عذابهما طائفة } أي جماعة يمكن إطافتها أي تحلقها وحفوفها بكل منهما { من المؤمنين* } العريقين إشهاراً لأمرهما نكالاً لهما ، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة . وفي كل هذا إشارة ظاهرة إلى أن إقامة الحدود والغلظة فيها من رحمته سبحانه المشار إليها بقوله { وأنت خير الراحمين } [ المؤمنون : 118 ] .

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

ولما كان في ذلك من الغلظة على الزاني لما ارتكب من الحرام المتصف بالعار ما يفهم مجانبته ، صرح به ، مانعاً من نكاح المتصف بالزنى من ذكر وأنثى ، إعلاماً بأن وطء من اتصف به من رجل أو امرأة لا يكون إلا زنى وإن كان بعقد ، فقال واصلاً له بما قبله : { الزاني لا ينكح } أي لا يتزوج { إلا زانية أو مشركة } أي المعلوم اتصافه بالزنى مقصور نكاحه على زانية أو مشركة ، وذلك محرم ، فهذا تنفير للمسلمة عن نكاح المتصف بالزنى حيث سويت بالمشركة إن عاشرته ، وذلك يرجع إلى أن من نكحت زانياً فهي زانية أو مشركة ، أي فهي مثله أو شر منه ، ولو اقتصر على ذلك لم يكن منع من أن ينكح العفيف الزانية ، فقال تعالى مانعاً من ذلك : { والزانية لا ينكحها } أي لا يتزوجها { إلا زان أو مشرك } أي والمعلوم اتصافها بالزنى مقصور نكاحها على زان أو مشرك ، وذلك محرم فهو تنفير للمسلم أن يتزوج من اتصفت بالزنى حيث سوى في ذلك بالمشرك ، وهو يرجع إلى أن من نكح زانية فهو زان أو مشرك ، أي فهو مثلها أو شر منها ، وأسند النكاح في الموضعين إلى الرجل تنبيهاً إلى أن النساء لا حق لهن في مباشرة العقد؛ ثم صرح بما أفهمه صدر الاية بقوله مبنياً للمفعول لأن ذلك يكفي المؤمن الذي الخطاب معه : { وحرم ذلك } أي نكاح الزاني والزانية تحريماً لا مثنوية فيه { على المؤمنين* } وعلم من هذا أن ذكر المشرك والمشركة لزيادة التنفير ، ثم إن هذا الحكم فسخ كما قال إمامنا الشافعي رحمه الله موافقة لابن المسيب بقوله تعالى { وأنكحوا الأيامى منكم } [ النور : 32 ] وهو جمع أيم وهو من لا زوج له من الذكور والإناث ، فأحل للزاني أن ينكح من شاء ، وللزانية أن تنكح من شاءت ، وقراءة من قرأ { لا ينكح } بالنهي راجعة إلى هذا ، لأن الطلب قد يجيء للخبر كما يجيء الخبر للطلب - والله أعلم؛ قال الشافعي رحمه الله تعالى ورضي الله عنه في الأم في جزء مترجم بأحكام القرآن وفي جزء بعد كتاب الحج الكبير والصغير والضحايا : ما جاء في نكاح المحدثين ، فذكر الآية وقال : اختلف أهل التفسير في هذه الاية اختلافاً متبايناً ، أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن مجاهد أن هذه الآية نزلت في بغايا من بغايا الجاهلية كانت على منازلهن رايات ، قال في الجزء الآخر : وكن غير محصنات ، فأراد بعض المسلمين نكاحهن فنزلت الآية بتحريم أن ينكحن إلا من أعلن بمثل ما أعلن به أو مشركاً ، وقيل كن زواني مشركات فنزلت لا ينكحهن إلا زان مثلهم مشرك ، أو مشرك وإن لم يكن زانياً ، وحرم ذلك على المؤمنين ، وقيل : هي عامة ولكنها نسخت ، أخبرنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال : هي منسوخة نسختها

{ وأنكحوا الأيامى منكم } [ النور : 32 ] فهي من أيامي المسلمين ، فهذا كما قال ابن المسيب إن شاء الله تعالى ، وعليه دلائل من الكتاب والسنة ، ثم استدل على فساد غير هذا القول بأن الزانية إن كانت مشركة فهي محرمة على زناة المسلمين وغير زناتهم بقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] ولا خلاف في ذلك ، وإن كانت مسلمة فهي بالإسلام محرمة على جميع المشركين بكل نكاح بقوله تعالى { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } [ الممتحنة : 10 ] ولا خلاف في ذلك أيضاً ، وبأنه لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أيضاً في تحريم الوثنيات عفائف كن أو زواني على من آمن زانياً كان أو عفيفاً ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد بكراً في الزنى وجلد امرأة ولم نعلمه قال للزاني : هل لك زوجة فتحرم عليك إذا زنيت ، ولا يتزوج هذا الزاني ولا الزانية إلا زانية أو زانياً ، بل قد يروى أن رجلاً شكا من امرأته فجوراً فقال : طلقها ، قال : إني أحبها ، قال : استمتع بها - يشير إلى ما رواه ابو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إن امرأتي لا تمنع يد لامس ، قال : طلقها ، قال : إني لا أصبر عنها ، قال : فأمسكها » ورواه البيهقي والطبراني من حديث جابر رضي الله عنه ، وقال شيخنا ابن حجر : إنه حديث حسن صحيح - انتهى . قال الشافعي : وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل اراد أن ينكح امرأة أحدثت : أنكحها نكاح العفيفة المسلمة - انتهى بالمعنى . وقال في الجزء الذي بعد الحج : فوحدنا الدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زانية وزان من المسلمين لم نعلمه حرم على واحد منهما أن ينكح غير زانية ولا زان ، ولا حرم واحداً منهما على زوجه؛ ثم قال : فالاختيار للرجل أن لا ينكح زانية وللمرأة أن لا تنكح زانياً ، فإن فعلا فليس ذلك بحرام على واحد منهما ، ليست معصية واحد منهما في نفسه تحرم عليه الحلال إذا أتاه ، ثم قال : وسواء حد الزاني منهما أو لم يحد ، أو قامت عليه بينة أو اعترف ، لا يحرم زنى واحد منهما ولا زناهما ولا معصية من المعاصي الحلال إلا أن يختلف ديناهما بشرك وإيمان - انتهى . وقد علم أنه لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية الأيامى فقط ، بل بما انضم إليها من الإجماع وغيره من الآيات والأحاديث بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقناً كدلالة الخاص على ما تناوله ، فلا يقال : إن الشافعي رحمه الله خالف أصله في أن الخاص لا ينسخ بالعام ، لأن ما تناوله الخاص متيقن ، وما تناوله العام ظاهر مظنون ، وكان هذا الحكم - وهو الحرمة في أول الإسلام بعد الهجرة - لئلا يغلب حال المفسد على المصلح فيختل بعض الأمر كما أشير إليه في البقرة

{ ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] وفي المائدة عند { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } [ المائدة : 5 ] وهو من وادي قوله :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل خليل بالمخالل يقتدي
والجنسية علة الضم ، والمشاكلة سبب المواصلة ، والمخالفة توجب المباعدة وتحرم المؤالفة ، وقد روى أبو داود في الأدب والترمذي في الزهد - وقال : حسن غريب - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل » وروى الإمام أبو يعلى الموصلي في مسنده قال : حدثنا يحيى بن معين حدثنا سعيد بن الحكم حدثنا يحيى بن أيوب حدثني يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : كانت امرأة بمكة مزاحة ، يعني فهاجرت إلى المدينة الشريفة ، فنزلت على امرأة شبه لها ، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت صدق حبي! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » قال : ولا أعلم إلا قال في الحديث : ولا نعرف تلك المرأة ، وسيأتي { والطيبات للطيبين } تخريج « الأرواح جنود مجندة » وقال الإمام أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتاب المجالسة : حدثنا أحمد بن علي الخزاز حدثنا مصعب بن عبدالله عن أبي غزية الأنصاري قال : قال الشعبي : يقال : إن لله ملكاً موكلاً بجمع الأشكال بعضها إلى بعض - انتهى . وعزاه شيخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر في تخريج أحاديث مسند الفردوس إلى أنس رضي الله عنه وقال : بتأليف الأشكال . ويروى أن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه خطب أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من مقدمه عليهم فقال : يا أهل الكوفة ، قد علمنا شراركم من خياركم ، فقالوا : كيف وما لك إلا ثلاثة أيام؟ فقال : كان معنا شرار وخيار ، فانضم خيارنا إلى خياركم ، وشرارنا إلى شراركم ، فلما تقررت الأحكام ، وأذعن الخاص والعام ، وضرب الدين بجرانه ، ولم يخش وهي شيء من بنيانه ، نسخت الحرمة ، وبقيت الكراهة أو خلاف الأولى - والله الموفق . وهذا كله توطئة لبراءة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما يأتي إيضاحه عنه { والطيبات للطيبين } لأنها قرينة خير العالمين وأتقاهم وأعفهم ، ولأن كلاًّ منها ومن صفوان رضي الله عنهما بعيد عما رمى به شهير بضده ، وإليه الإشارة

« بقول النبي صلى الله عليه وسلم : من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً » وفي رواية « ما علمت عليه من سوء قط ، ولا دخل بيتي قط إلا وأنا حاضر » وبقول عائشة رضي الله عنها عن صفوان رضي الله عنه : إنه قتل شهيداً في سبيل الله . وهذا سوى الآيات المصرحة والأعلام المفصحة ، فهو { والطيبون } تلويح قبل بيان ، وتصريح وإشارة بعد عبارة وتوضيح ، ليجتمع في براءة الصديقة رضي الله عنها دليلان عقليان شهوديان اكتنفا الدليل النقلي فكانا سوراً عليه ، وحفظاً من تصويب طعن إليه ، وفي ذلك من فخامة أمرها وعظيم قدرها ما لا يقدره حق قدره إلا الذي خصها به .

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

ولما نفر سبحانه من نكاح من اتصف بالزنى من رجل أو امرأة ، وبدأ - لأن نكاح المرأة للزاني مظنة لزناها - بتنفير الإناث بما يوهم جواز إطلاق الزنى عليهن بمجرد نكاح من علم زناه ، وذلك بعد أن ابتدأ في حد الزنى بالأنثى أيضاً لأن زناها أكبر شراً ، وأعظم فضيحة وضراً ، عطف على ذلك تحريم القذف بما يوجب تعظيم الرغبة في الستر وصيانة الأعراض وإخفاء الفواحش ، فقال ذاكراً الجمع لأن الحكم بإقامة الحد عليه يفهم إقامة الحد على الواحد من باب الأولى ولا إيهام فيه لأن الجمع إذا قوبل بالجمع أفهم التوزيع : { والذين يرمون } أي بالزنى { المحصنات } جمع محصنة ، وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة ، والمراد القذف بالزنى بما أرشد إليه السياق سابقاً ولاحقاً ، ذكوراً كان الرامون أو إناثاً بما أفهمه الموصول ، وخص الإناث وإن كان الحكم عاماً للرجال تنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، ولأن الكلام في حقهن أشنع .
ولما كان إقدام المجترىء على القذف مع ما شرطه فيه لدرء الحد إرادة الستر - بعيداً ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : { ثم لم يأتوا } أي إلى الحاكم { بأربعة شهداء } ذكور { فاجلدوهم } أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم { ثمانين جلدة } لكل واحد منهم ، لكل محصنة ، إن لم يكن القاذف أصلاً ، إن كانوا أحراراً ، وحد العبد نصف ذلك لآية النساء { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى ولا بين حد الزنى وحد القذف { ولا تقبلوا لهم } أي بعد قذفهم على هذا الوجه { شهادة } أي شهادة كانت { أبداً } للحكم بافترائهم ، ومن ثبت افتراؤه سقط الوثوق بكلامه .
ولما كان التقدير : فإنهم قد افتروا ، عطف عليه تحذيراً من الإقدام عن غير تثبيت : { وأولئك } أي الذين تقدم ذمهم بالقذف فسفلت رتبتهم جداً { هم الفاسقون* } أي المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر .
ولما كان من أصل الشافعي رحمه الله أن الاستثناء المتعقب للجمل المتواصلة المتعاطفة بالواو عائد إلى الجميع سواء كانت من جنس أو أكثر إلا إذا منعت قرينة ، أعاد الاستثناء هنا إلى الفسق ورد الشهادة دون الحكم بالجلد ، لأن من تمام التوبة الاستسلام للحد والاستحلال منه ، ولقرينة كونه حق آدمي وهو لا يسقط بالتوبة ، في قوله تعالى : { إلا الذين تابوا } أي رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره وندموا عليه وعزموا على أن لا يعودوا كما بين في البقرة في قوله تعالى { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } [ البقرة : 160 ] وأشار إلى أن الجلد لا يسقط بالتوبة بقوله مشيراً بإدخال الجار إلى أن قبولها لا يتوقف على استغراقها الزمان الآتي : { من بعد ذلك } أي الأمر الذي أوجب إبعادهم وهو الرمي والجلد ، فإن التوبة لا تغير حكم الرامي في الجلد ، وإنما تغيره في رد الشهادة وما تسببت عنه وهو الفسق ، وأشار إلى شروط التوبة بقوله : { وأصلحوا } أي بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال ، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف الطباع .

ولما كان استثناؤهم من رد الشهادة والفسق ، فكان التقدير : فاقبلوا شهادتهم ولا تصفوهم بالفسق ، علله بقوله : { فإن الله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي ستور لهم ما أقدموا عليه لرجوعهم عنه { رحيم* } أي يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم في قبول الشهادة .
ولما كان لفظ المحصنات عاماً للزوجات ، وكان لهن حكم غير ما تقدم ، أخرجهن بقوله : { والذين يرمون } أي بالزنى { أزواجهم } أي من المؤمنات الأحرار والإماء والكافرات { ولم يكن لهم } بذلك { شهداء إلا أنفسهم } وهذا يفهم أن الزوج إذا كان أحد الأربعة كفى ، لكن يرد هذا المفهوم كونه حكاية واقعة لا شهود فيها ، وقوله في الآية قبلها : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } فإنه يقتضي كون الشهداء غير الرامي ، ولعله استثناه من الشهداء لأن لعانه يكون بلفظ الشهادة ، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يقبل في ذلك على زوجته - قال ابن الرفعة في الكفاية : لأمرين : أحدهما أن الزنى تعرض لمحل حق الزوج ، فإن الزاني مستمتع بالمنافع المستحقة له ، فشهادته في صفتها تتضمن إثبات جناية الغير على ما هو مستحق له فلم تسمع ، كما إذا شهد أنه جنى على عبده ، والثاني أن من شهد بزنى زوجته فنفس شهادته تدل على إظهار العداوة ، لأن زناها يوغر صدره بتلطيخ فراشه وإدخال العار عليه وعلى ولده ، وهو أبلغ في العداوة من مؤلم الضرب وفاحش السب ، قال القاضي الحسين : وإلى هذه العلة أشار الشافعي رحمه الله وهي التي حكاها القاضي أبو الطيب في باب حد قاطع الطريق عن الشيخ أبي حامد . { فشهادة أحدهم } أي على من رماها { أربع شهادات } من خمس في مقابلة أربعة شهداء { بالله } أي مقرونة بهذا الاسم الكريم الأعظم الموجب لاستحضار جميع صفات الجلال والجمال { إنه لمن الصادقين* } أي فيما قذفها به { والخامسة أن لعنت الله } أي الملك الأعظم { عليه } أي هذا القاذف نفسه { إن كان من الكاذبين* } فيما رماها به ، ولأجل قطعه بهذه الأيمان الغليظة بصدقه وحكم الله بخلاصه انتفى عنه الولد ، فلزم من نفيه الفرقة المؤبدة من غير لفظ لعدم صلاحيتها أن تكون فراشاً له ، لأن الولد للفراش ، ولا يصح اللعان إلا عند حاكم ، ولا يخفى ما في هذا من الإبعاد عن القذف بوجوب مزيد الاحتياط ، لما في ذلك من التكرير والاقتران بالاسم الأعظم ، والجمع بين الإثبات وما يتضمن النفي ، والدعاء باللعن المباعد لصفة المؤمن ، فإذا فعل الزوج ذلك سقط عنه العذاب بحد القذف وأوجبه على المقذوفة ، فلذلك قال تعالى : { ويدرؤا } أي يدفع { عنها } أي المقذوفة { العذاب } أي المعهود ، وهو الحد الذي أوجبه عليها ما تقدم من شهادة الزوج { أن تشهد أربع شهادات } من خمس { بالله } الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى كما تقدم في الزوج { إنه لمن الكاذبين* } فيما قاله عنها { والخامسة } من الشهادات { أن غضب الله } الذي له الأمر كله فلا كفوء له { عليها } وهو أبلغ من اللعن الذي هو الطرد ، لأنه قد يكون بسبب غير الغضب ، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يعضد الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق ، ولأنها مادة الفساد ، وهاتكة الحجاب ، وخالطة الأنساب { إن كان } أي كوناً راسخاً { من الصادقين* } أي فيما رماها به؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم

« أن هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » البينة وإلا حداً في ظهرك « ، قال يا رسول الله! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : البينة وإلا حداً في ظهرك ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق! إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد ، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه { والذين يرمون أزواجهم } فقرأ حتى بلغ { إن كان من الصادقين } فانصرف النبي صلى الله صلى عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : » إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب؟ « ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة ، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم . فمضت ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء « ، فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن » وقد روى البخاري أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر ، وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدة أسباب معاً أو متفرقة .
ولما حرم الله سبحانه بهذه الجمل الأعراض والأنساب ، فصان بذلك الدماء والأموال ، علم أن التقدير : فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين ، لما فعل بكم ذلك ، ولفضح المذنبين ، وأظهر سرائر المستخفين ، ففسد النظام ، وأطبقتم على التهاون بالأحكام ، فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله : { ولولا فضل الله } أي بما له من الكرم والجمال ، والاتصاف بصفات الكمال { عليكم ورحمته } أي بكم { وأن الله } أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة { تواب } أي رجاع بالعصاة إليه { حكيم* } يحكم الأمور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور ، لفضح كل عاص ، ولم يوجب أربعة شهداء ستراً لكم ، ولأمر بعقوبته بما توجبه معصيته ، ففسد نظامكم ، واختل نقضكم وإبرامكم ، ونحو ذلك مما لا يبلغ وصفه ، فتذهب النفس فيه كل مذهب ، فهو كما قالوا : رب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به ، ثم علل ما اقتضته { لولا } من نحو : ولكنه لم يفعل ذلك إفضالا عليكم ورحمة لكم ، بقوله على وجه التأكيد لما عرف من حال كثير ممن غضب لله ولرسوله من إرادة العقوبة للآفكين بضرب الأعناق ، منبهاً لهم على أن ذلك يجر إلى مفسدة كبيرة : { إن الذين جاءو بالإفك } أي أسوأ الكذب لأنه القول المصروف عن مدلوله إلى ضده ، المقلوب عن وجهه إلى قفاه ، وعرّف زيادة تبشيع له في هذا المقام ، حتى كأنه لا إفك إلا هو لأنه في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أحق الناس بالمدحة لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم ، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أقفائه ، وترك تسميتها تنزيهاً لها عن هذا المقام ، إبعاداً لمصون جانبها العلي عن هذا المرام { عصبة } أي جماعة أقلهم عشرة وأكثرهم أربعون ، فهم لكونهم عصبة يحمى بعضهم لبعض فيشتد أمرهم ، لأن مدار مادة « عصب » على الشدة ، وهم مع ذلك { منكم } أي ممن يعد عندكم في عداد المسلمين ، فلو فضحهم الله في جميع ما أسروه وأعلنوه ، وأمركم بأن تعاقبوهم بما يستحقون على ذلك ، لفسدت ذات البين ، بحمايتهم لأنفسهم وهم كثير ، وتعصّب أودّائهم لهم ، إلا بأمر خارق يعصم به من ذلك كما كشفت عنه التجربة حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال :

« من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي » حين كادوا يقتتلون لولا أن سكنهم النبي صلى الله عليه سلم ، فالله سبحانه برحمته بكم يمنع من كيدهم ببيان كذبهم ، وبحكمته يستر عليهم ويخيفهم ، لتنحسم مادة مكرهم ، وتنقطع أسباب ضرهم .
ولما كان هذا مقتضياً للاهتمام بشأنهم ، أتبعه قوله ، تحقيراً لأمرهم مخاطباً للخلص وخصوصاً النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة وأمها وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم : { لا تحسبوه } أي الإفك { شراً لكم } أيها المؤمنون بأن يصدقه أحد أو تنشأ عنه فتنة { بل هو خير لكم } بثبوت البراءة الموجبة للفخر الذي لا يلحق ، بتلاوتها على مر الدهور بألسنة من لا يحصى من العباد ، في أكثر البلاد ، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والصديقين بذلك ، مع الثواب الجزيل ، بالصبر على مرارة هذا القيل ، وثبوت إعجاز القرآن بعد أعجازه بالبلاغة بصدقه في صيانة من أثنى عليها في ذلك الدهر الطويل ، الذي عاشته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أن ماتت رضي الله تعالى عنها أتقى الناس ديانة ، وأظهرهم صيانة ، وأنقاهم عرضاً ، وأطهرهم نفساً ، فهو لسان صدق في الدنيا ، ورفعة منازل في الآخرة إلى غير ذلك من الحكم ، التي رتبها بارىء النسم ، من الفوائد الدينية والأحكام والآداب .

ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له ، علل ذلك بقوله : { لكل امرئ منهم } أي الآفكين { ما } أي جزاء ما { اكتسب } بخوضه فيه { من الإثم } الموجب لشقائه ، وصيغة الافتعال من « كسب » تستعمل في الذنب إشارة إلى أن الإثم يرتب على ما حصل فيه تصميم وعزم قوي صدقه العمل بما فيه من الجد والنشاط ، وتجرد في الخير إشارة إبى أن الثواب يكتب بمجرد فعل الخير بل ونيته { والذي تولى كبره } أي معظمه بإشاعته والمجاهرة به { منهم له } بما يخصه لإمعانه في الأذى { عذاب عظيم* } أي أعظم من عذاب الباقين ، لأنهم لم يقولوا شيئاً إلا كان عليه مثل وزره من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاَ ، وقصه الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرها شهيرة جداً ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق بعد ما أنزلت آية الحجاب ، وكانت معه الصديقة بنت الصديق زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحمل هودج لها ، فافتقدت عقداً لها ليلة فرجعت إلى الموضع الذي تخلت فيه فالتمسته ، فرحل النبي صلى الله عليه وسلم وحمل جمالوها هودجها وهم يظنونها فيه ، فلما رجعت فلم تجد أحداً اضطجعت مكان هودجها رجاء أن يعلموا بها فيرجعوا ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني رضي الله عنه قد عرس من وراء الجيش ، فأصبح في مكانهم ، فلما رآها وكان يراها قبل الحجاب استرجع وأناخ راحلته فوطىء على يدها ، ولم يتكلم بكلمة غير استرجاعه ، فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها ، ثم أقبل بها حتى لحق بالجيش وهم نزول في نصف النهار ، فتكلم أهل الإفك فيهما رضي الله عنهما ، وكان من سمي منهم عبد الله بن أبي المنافق ، وزيد بن رفاعة ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش وحسان بن ثابت ، قال عروة بن الزبير : في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال تعالى . وهكذا ذكروا حسان منهم وأنا والله لا أظن به أصلاً وإن جاءت تسميته في الصحيح فقد يخطىء الثقة لأسباب لا تحصى ، كما يعرف ذلك من مارس نقد الأخبار ، وكيف يظن به ذلك ولا شغل له إلا مدح النبي صلى الله عليه وسلم والمدافعة عنه والذم لأعدائه وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام معه ، فأقسم بالله أن الذي أيده بجبريل ما كان ليكله إلى نفسه في مثل هذه الواقعة ، وقد سبقني إلى الذب عنه الحافظ عماد الدين بن كثير الدمشقي رحمه الله وكيف لا ينافح عنه وهو القائل :

فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
وهو القائل يمدح عائشة رضي الله عنها ويكذب من نقل عنه ذلك :
حصان رزان ما تزنُّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس ديناً ومنصباً ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت عني قلته ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سورة المتطاول
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب : وأنكر قوم أن يكون حسان خاض في الإفك وجلد فيه ورووا عن عائشة رضي الله عنها أنها برأته من ذلك - انتهى . واستمر أهل الإفك في هذا أكثر من شهر ، والله تعالى عالم بما يقولون ، وأن قولهم يكاد يقطع أكباد أحب خلقه إليه ، وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه ، ولكنه سبحانه أراد لناس رفعة الدرجات ، ولآخرين الهلاك ، فيا لله ما لقي النبي صلى عليه وسلم والصديق وآله رضي الله عنهم وكل من أحبهم وهم خير الناس ، والله سبحانه وتعالى يملي للآفكين ويمهلهم ، وكأن الحال لعمري كما قال أبو تمام الطائي في قصيدة :
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
وحين سمعت عائشة رضي الله عنها بقول أهل الإفك سقطت مغشياً عليها وأصابتها حمى بنافض ، واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في إتيان بيت أبيها فأذن لها فسألت أمها عن الخبر ، فأخبرتها فاستعبرت وبكت ، وكان أبو بكر رضي الله عنه في علية يقرأ فسمع حسها فنزل فسأل أمها فقالت : بلغها الذي ذكر من شأنها ، ففاضت عيناه ، واستمرت هي رضي الله عنها تبكي حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها ، وساعدتها على البكاء امرأة من أولي الوفاء والمؤاساة والكرم والإيثار ومعالي الشيم : الأنصار رضي الله عنهم ، فكانت تبكي معها ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها جاريتها بريرة رضي الله عنها فاستعظمت أن يظن في عائشة رضي الله عنها مثل ذلك فقالت : سبحان الله! والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على المنبر واستعذر ممن تكلم في أهله وما علم عليهم إلا خيراً ، وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق بصلاح صفوان بن المعطل رضي الله عنه وأنه ما علم عليه إلا خيراً ، فكاد الناس يقتتلون فسكنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دخل بعد أن صلى العصر على عائشة رضي الله عنها وهي تبكي والأنصارية معها فوعظها ، فأجابت وأجادت ، فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، قالت عائشة رضي الله عنها : فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فزعت وما باليت ، قد عرفت أني بريئة ، وأن الله غير ظالمي ، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده! ما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يأتي الله بتحقيق ما قاله الناس ، قالت : فرفع عنه وإني لأتيبن السرور في وجهه وهو يمسح عن جبينه العرق ويقول :

« أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك » ، فكنت اشد ما كنت غضباً ، فقال لي أبواي : قومي إليه! فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه ، وأنزل الله تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك } العشر الآيات كلها ، قالت عائشة رضي الله عنها : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول : سبحان الله! والذي نفسي بيده! ما كشفت كنف أنثى قط . قالت : ثم قتل بعد ذلك شهيداً في سبيل الله .

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)

ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقابهم ، وكان من المؤمنين من سمعه فسكت ، وفيهم من سمعه فتحدث به متعجباً من قائله ، أو مستثبتاً في أمره ، ومنهم من كذبه ، أتبعه سبحانه بعتابهم ، في أسلوب خطابهم ، مثنياً على من كذبه ، فقال مستأنفاً محرضاً : { لولا } أي هلا ولم لا { إذ سمعتموه } أيها المدعون للإيمان . ولما كان هذا الإفك قد تمالأ عليه رجال ونساء قال : { ظن المؤمنون } أي منكم { والمؤمنات } وكان الأصل : ظننتم ، ولكنه التفت إلى الغيبة تنبيهاً على التوبيخ ، وصرح بالنساء ، ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفاً للذي ظن السوء من سوء الخاتمة : { بأنفسهم } حقيقة { خيراً } وهم دون من كذب عليها ، فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن بالناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم ، لأن المؤمنين كالجسد الواحد ، أو ظنوا ما يظن بالرجل لو خلا بأمه ، وبالمرأة إذا خلت بابنها ، فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين { وقالوا هذا إفك } أي كذب عظيم خلف منكب على وجهه { مبين* } أي واضح في نفسه ، موضح لغيره ، وبيانه وظهوره أن المرتاب يكاد يقول : خذوني فهو يسعى في التستر جهده ، فإتيان صفوان بعائشة رضي الله عنها راكبة على جملة داخلاً به الجيش في نحر الظهيرة والناس كلهم يشاهدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ينزل عليه الوحي ، إدلالاً بحسن عمله ، غافلاً عما يظن به أهل الريب ، أدل دليل على البراءة وكذب القاذفين ، ولو كان هناك أدنى ريبة لجاء كل منهما وحده على وجه من التستر والذعر ، تعرف به خيانته ، فالأمور تذاق ، ولا يظن الإنسان بالناس إلا ما في نفسه ، ولقد عمل أبو أيوب الأنصاري وصاحبته رضي الله عنهما بما أشارت إليه هذه الآية؛ قال ابن اسحاق : حدثني أبي إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال : بلى وذلك كذب ، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت لا والله ما كنت لأفعله ، قال : فعائشة والله خير منك . وروى البغوي أنه قال : سبحانك هذا بهتان عظيم ، فنزلت الآية على وفق قوله رضي الله عنه . ثم علل سبحانه بيان كذب الآفكين بأن قال موبخاً لمن اختلقه وأذاعه ملقناً لمن ندبه إلى ظن الخير : { لولا } أي هلا ولم لا { جاءو } أي المفترون له أولاً { عليه } إن كانوا صادقين { بأربعة شهداء } كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها .
ولما تسبب عن كونهم لم يأتوا بالشهداء كذبهم قال : { فإذ } أي فحين { لم يأتوا بالشهداء } أي الموصوفين { فأولئك } أي البعداء من الصواب { عند الله } أي في حكم الملك الأعلى ، بل وفي هذه الواقعة بخصوصها في علمه { هم الكاذبون* } أي الكذب العظيم ظاهراً وباطناً .

ولما بين لهم بإقامة الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام أنهم استحقوا الملام ، وكان ذلك مرغباً لأهل التقوى ، بين أنهم استحقوا بالتقصير في الإنكار عموم الانتقام في سياق مبشر بالعفو ، فقال عاطفاً على { ولولا } الماضية : { ولولا فضل الله } أي المحيط بصفات الكمال { عليكم ورحمته } أي معاملته لكم بمزيد الإنعام ، الناظر إلى الفضل والإكرام ، اللازم للرحمة { في الدنيا } بقبول التوبة والمعاملة بالحلم { والآخرة } بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم { لمسكم } أي عاجلاً عموماً { في ما أفضتم } أي اندفعتم على أي وجه كان { فيه } بعضكم حقيقة ، وبعضكم مجازاً بعدم الإنكار { عذاب عظيم* } أي يحتقر معه اللوم والجلد ، بأن يهلك فيتصل به عذاب الآخرة؛ ثم بين وقت حلوله وزمان تعجيله بقوله : { إذ } أي مسكم حين { تلقونه } أي تجتهدون في تلقي أي قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه { بألسنتكم } بإشاعة البعض وسؤال آخرين وسكوت آخرين { وتقولون } وقوله : { بأفواهكم } تصوير لمزيد قبحه ، وإشارة إلى أنه قول لا حقيقة له ، فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل؛ وأكد هذا المعنى بقوله : { ما ليس لكم به علم } أي بوجه من الوجوه ، وتنكيره للتحقير { وتحسبونه } بدليل سكوتكم عن إنكاره { هيناً وهو } أي والحال أنه { عند الله } أي الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته { عظيم* } أي في حد ذاته ولو كان في غير أم المؤمنين رضي الله عنها ، فكيف وهو في جنابها المصون ، وهي زوجة خاتم الأنبياء وإمام المرسلين عليه أفضل الصلاة وأفضل التسليم .
ولما بين فحشه وشناعته ، وقبحه وفظاعته ، عطف على التأديب الأول في قوله { لولا إذ سمعتموه } تأديباً فقال : { ولولا إذ } أي وهلا حين { سمعتموه قلتم } أي حين السماع من غير توقف ولا تلعثم ، وفصل بين آلة التحضيض والقول المحضض عليه بالظرف لأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها ، وأنها لا انفكاك لها عنه ، ولأن ذكره منبه على الاهتمام به لوجوب المبادرة إلى المحضض عليه : { ما يكون } أي ما ينبغي وما يصح { لنا أن نتكلم } حقيقة بالنطق ولا مجازاً بالسكوت عن الإنكار { بهذا } أي بمثله في حق أدنى الناس فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق ، ثم دللتم على شدة نفرتكم منه بأن وصلتم بهذا النفي قولكم : { سبحانك } تعجباً من أن يخطر بالبال ، في حال من الأحوال .
ولما كان تنزيه الله تعالى في مثل ذلك وإن كان للتعجب إشارة إلى تنزيه المقام الذي وقع فيه التعجب تنزيها عظيماً ، حسن أن يوصل بذلك قوله تعليلاً للتعجب والنفي : { هذا بهتان } أي كذب يبهت من يواجه به ، ويحيره لشدة ما يفعل في القوى الباطنة ، لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه؛ ثم هوله بقوله : { عظيم* } والمراد أن الذي ينبغي للإنسان أولاً أن لا يظن بإخوانه المؤمنين ولا يسمع فيهم إلا خيراً ، فإن غلبه الشيطان وارتسم شيء من ذلك في ذهنه فلا يتكلم به ، ويبادر إلى تكذيبه .

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)

ولما كان هذا كله وعظاً لهم واستصلاحاً ، ترجمه بقوله : { يعظكم الله } أي يرقق قلوبكم الذي له الكمال كله فيمهل بحمله ، ولا يمهل بحكمته وعلمه ، بالتحذير على وجه الاستعطاف : { أن } أي كراهة لأن { تعودوا لمثله أبداً } أي ما دمتم أهلاً لسماع هذا القول؛ ثم عظم هذا الوعظ ، وألهب سامعه بقوله : { إن كنتم مؤمنين* } أي متصفين بالإيمان راسخين فيه فإنكم لا تعودون ، فإن عدتم فأنتم غير صادقين في دعواكم الاتصاف به { ويبين الله } أي بما له من الاتصاف بصفات الجلال والإكرام { لكم الآيات } أي العلامات الموضحة للحق والباطل ، من كل أمر ديني أو دنيوي { والله } أي المحيط بجميع الكمال { عليم } فثقوا ببيانه { حكيم* } لا يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه وإن دق عليكم فهم ذلك ، فلا تتوقفوا في أمر من أوامره ، واعلموا أنه لم يختر لنبيه عليه الصلاة والسلام إلا الخلص من عباده ، على حسب منازلهم عنده ، وقربهم من قلبه .
ولما كان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب ، أدبهم تأديباً ثالثاً أشد من الأولين ، فقال واعظاً ومقبحاً لحال الخائضين في الإفك ومحذراً ومهدداً : { إن الذين يحبون } عبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته إلا محب له ، ولا يحبه إلا بعيد عن الاستقامة { أن تشيع } أي تنتشر بالقول أو بالفعل { الفاحشة } أي الفعلة الكبيرة القبح ، ويصير لها شيعة يحامون عليها { في الذين آمنوا } ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان فكيف بمن تسنم ذروته ، وتبوأ غايته { لهم عذاب أليم } ردعاً لهم عن إرادة إشاعة مثل ذلك لما فيه من عظيم الأذى { في الدنيا } بالحد وغيره مما ينتقم الله منهم به { والآخرة } فإن الله يعلم هل كفر الحد عنهم جميع مرتكبهم أم لا { والله } أي المستجمع لصفات الجلال والجمال { يعلم } أي له العلم التام ، فهو يعلم مقادير الأشياء ما ظهر منها وما بطن وما الحكمة في ستره أو إظهاره أو غير ذلك من جميع الأمور { وأنتم لا تعلمون* } أي ليس لكم علم من أنفسكم فاعلموا بما علمكم الله ، ولا تتجاوزوه تضلوا .

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

ولما ختم بالحكم عليهم بالجهل ، وكان التقدير كما أرشد إليه ما يأتي من العطف على غير معطوف : فلولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعجل هلاك المحبين لشيوع ذلك بعذاب الدنيا ليكون موصولاً بعذاب الآخرة ، عطف عليه قوله مكرراً التذكير بالمنة بترك المعاجلة حاذفاً الجواب ، منبهاً بالتكرير والحذف على قوة المبالغة وشدة التهويل : { ولولا فضل الله } أي الحائز لجميع الجلال والإكرام { عليكم ورحمته } بكم { وأن } أي ولولا أن { الله } أي الذي له القدرة التامة فسبقت رحمته غضبه { رؤوف } بكم في نصب ما يزيل جهلكم بما يحفظ من سرائركم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الحدود ، الزاجرة عن الجهل ، الحاملة على التقوى ، التي هي ثمرة العلم ، فإن الرأفة كما تقدم في الحج وغيرها تقيم المرؤوف به لأنها ألطف الرحمة وأبلغها على أقوم سنن حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو ، وتارة يكون هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة ، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب بما للمرؤوف به من الوصلة بسهولة الانقياد وقوة الاستعداد { رحيم* } بما يثبت لكم من الدرجات على ما منحكم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية ، والجواب محذوف تقديره : لترككم في ظلمات الجهل تعمهون ، فثارت بينكم الفتن حتى تفانيتم ووصلتم إلى العذاب الدائم بعد الهم اللازم .
ولما أخبرهم بأنه ما أنزل لهم هذا الشرع على لسان هذا الرسول الرؤوف الرحيم إلا رحمة لهم ، بعد أن حذرهم موارد الجهل ، نهاهم عن التمادي فيه في سياق معلم أن الداعي إليه الشيطان العدو ، فقال ساراً لهم بالإقبال عليهم بالنداء : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان { لا تتبعوا } أي بجهدكم { خطوات } أي طريق { الشيطان } أي لا تقتدوا به ولا تسلكوا مسالكه التي يحمل على سلوكها بتزيينها في شيء من الأشياء ، وكأنه أشار بصيغة الافتعال إلى العفو عن الهفوات .
ولما كان التقدير : فإنه من يتنكب عن طريقه يأت بالحسنى والمعروف ، عطف عليه قوله : { ومن يتبع } أي بعزم ثابت من غير أن يكون مخطئاً أو ناسياً؛ وأظهر ولم يضمر لزيادة التنفير فقال : { خطوات الشيطان } أي ويقتد به يقع في مهاوي الجهل الناشىء عنها كل شر { فإنه } أي الشيطان { يأمر بالفحشاء } وهي ما أغرق في القبح { والمنكر } وهو ما لم يجوزه الشرع ، فهو أولاً يقصد أعلى الضلال ، فإن لم يصل تنزل إلى أدناه ، وربما درج بغير ذلك ، ومن المعلوم أن من اتبع من هذا سبيله عمل بعمله ، فصار في غاية السفول ، وهذا أشد في التنفير من إعادة الضمير في { فإنه على من } والله الموفق .
ولما كان التقدير : فلولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان مع أمره بالقبائح ، عطف عليه قوله : { ولولا فضل الله } أي ذي الجلال والإكرام { عليكم } أي بتطهير نفوسكم ورفعها عما تعشقه من الدنايا إلى المعالي { ورحمته } لكم بإكرامكم ورفعتكم بشرع التوبة المكفرة لما جرّ إليه الجهل من ناقص الأقوال وسفاف الأفعال { ما زكى } أي طهر ونما { منكم } وأكد الاستغراق بقوله : { من أحد } وعم الزمان بقوله : { أبداً ولكن الله } أي بجلاله وكماله { يزكي } أي يطهر وينمي { من يشاء } من عباده ، من جميع أدناس نفسه وأمراض قلبه ، وإن كان العباد وأخلاقهم في الانتشار والكثرة بحيث لا يحصيهم غيره ، فلذلك زكى منكم من شاء فصانه عن هذا الإفك ، وخذل من شاء .

ثم ختم الآية بما لا تصح التزكية بدونه فقال : { والله } أي الذي له جميع صفات الكمال { سميع } أي لجميع أقولهم { عليم* } بكل ما يخطر في بالهم ، وينشأ عن أحوالهم وأفعالهم ، فهو خبير بمن هو أهل للتزكية ومن ليس بأهل لها ، فاشكروا الله على تزكيته لكم من الخوض في مثل ما خاض فيه غيركم ممن خذله نوعاً من الخذلان ، واصبروا على ذلك منهم ، ولا تقطعوا إحسانكم عنهم ، فإن ذلك يكون زيادة في زكاتكم ، وسبباً لإقبال من علم فيه الخير منهم ، فقبلت توبته ، وغسلت حوبته ، وهذا المراد من قوله : { ولا يأتل } أي يحلف مبالغاً في اليمين { أولوا الفضل منكم } الذين جعلتهم بما آتيتهم من العلم والأخلاق الصالحة أهلاً لبر غيرهم { والسعة } أي بما أوسعت عليهم في دنياهم .
ولما كان السياق والسباق واللحاق موضحاً للمراد ، لم يحتج إلى ذكر أداة النفي فقال : { أن يؤتوا } ثم ذكر الصفات المقتضية للإحسان فقال : { أولي القربى } وعددها بأداة العطف تكثيراً لها وتعظيماً لأمرها ، وإشارة إلى أن صفة منها كافية في الإحسان ، فكيف إذا اجتمعت! فقال سبحانه : { والمساكين } أي الذين لا يجدون ما يغنيهم وإن لم تكن لهم قرابة { والمهاجرين } لأهلهم وديارهم وأموالهم { في سبيل الله } أي الذي عم الخلائق بجوده لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام وإن انتفى عنهم الوصفان الأولان ، فإن هذه الصفات مؤذنة بأنهم ممن زكى الله ، وتعدادها بجعلها علة للعفو - دليل على أن الزاكي من غير المعصومين قد يزل ، فتدركه الزكاة بالتوبة فيرجع كما كان ، وقد تكون الثلاثة لموصوف واحد لأن سبب نزولها مسطح رضي الله عنه ، فالعطف إذن للتمكن في كل وصف منها .
ولما كان النهي عن ذلك غير صريح في العفو ، وكان التقدير : فلؤتوهم ، عطف عليه مصرحاً بالمقصود قوله : { وليعفوا } أي عن زللهم بأن يمحوه ويغطوه بما يسلبونه عليه من أستار الحلم حتى لا يبقى له أثر . ولما كان المحو لا ينفي التذكر قال : { وليصفحوا } أي يعرضوا عنه أصلاً ورأساً ، فلا يخطروه لهم على بال ليثمر ذلك الإحسان ، ومنه الصفوح وهو الكريم .
ولما كانت لذة الخطاب تنسي كل عتاب ، أقبل سبحانه بفضله ومنّه وطوله على أولي الفضل ، مرغباً في أن يفعلوا بغيرهم ما يحبون أن يفعل بهم ، مرهباً من أن يشدد عليهم إن شددوا فقال : { ألا تحبون } أي يا أولي الفضل { أن يغفر الله } أي الملك الأعظم { لكم } أي ما قصرتم في حقه ، وسبب نزولها كما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن أباها رضي الله تعالى عنه كان حلف ما بعد برأ الله عائشة رضي الله عنها أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لكونه خاض من أهل الإفك؛ وفي تفسير الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما : أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر رضي الله عنهم أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية .

وناهيك بشهادة الله جل جلاله للصديق بأنه من أولي الفضل فيا له من شرف ما أجلاه! ومن سؤدد وفخار ما أعلاه! ولا سيما وقد صدقه رضي الله عنه بالعفو عمن شنع على ثمرة فؤاده ومهجة كبده ، وهي الصديقة زوجة خاتم المرسلين ، وخير الخلائق أجمعين ، والحلف على أنه لا يقطع النفقة عنه أبداً ، فيا لله من أخلاق ما أبهاها! وشمائل ما أطهرها وأزكاها! وأشرفها وأسندها .
ولما كان الجواب قطعاً كما أجاب الصديق رضي الله عنه : بلى والله! إنا لنحب أن يغفر الله لنا ، وكان كأنه قيل : فاغفروا لمن أساء إليكم ، فالله حكم عدل ، يجازيهم على إساءتهم إليكم إن شاء ، والله عليم شكور ، يشكر لكم ما صنعتم إليهم ، عطف عليه قوله : { والله } أي مع قدرته الكاملة وعلمه الشامل { غفور رحيم* } من صفته ذلك ، إن شاء يغفر لكم ذنوبكم بأن يمحوها فلا يدع لها أثراً ويرحمكم بعد محوها بالفضل عليكم كما فعلتم معهم ، فإن الجزاء من جنس العمل .

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

ولما كان الختم بهذين الوصفين بعد الأمر بالعفو ربما جرّأ على مثل هذه الإساءة ، وصل به مرهباً من الوقوع في مثل ذلك قوله معمماً للحكم : { إن الذين يرمون } أي بالفاحشة { المحصنات } أي اللائي جعلن أنفسهن من العفة في مثل الحصن . ولما كان الهام بالسيىء والمقدم عليه عالماً بما يرمي به منه ، جاعلاً له نصب عينه ، أكد معنى الإحصان بقوله : { الغافلات } أي عن السوء حتى عن مجرد ذكره . ولما كان وصف الإيمان حاملاً على كل خير ومانعاً ن كل سوء ، نبه على أن الحامل على الوصفين المتقدمين إنما هو التقوى ، وصرف ما لهن من الفطنة إلى ما لله عليهن من الحقوق فقال : { المؤمنات } .
ولما ثبت بهذه الأوصاف البعد عن السوء ، ذكر جزاء القاذف كفّاً عنه وتحذيراً منه بصيغة المجهول ، لأن المحذور اللعن لا كونه المعين ، وتنبيهاً على وقوع اللعن من كل من يتأتي منه فقال : { لعنوا } أي أبعدوا عن رحمة الله ، وفعل معهم فعل المبعد من الحد وغيره { في الدنيا والآخرة } ثم زاد في تعظيم القذف لمن هذه أوصافها فقال : { ولهم } أي في الآخرة { عذاب عظيم* } وقيد بوصف الإيمان لأن قذف الكافرة وإن كان محرماً ليس فيه هذا المجموع ، وهذا الحكم وإن كان عاماً فهو لأجل الصديقة بالذات وبالقصد الأول وفيما فيه من التشديد الذي قل أن يوجد مثله في القرآن من الإعلام بعلي قدرها ، وجلي أمرها ، في عظيم فخرها ، ما يجل عن الوصف؛ ثم أتبع ذلك ذكر اليوم الذي يكون فيه أثر ذلك على وجه زاد الأمر عظماً فقال : { يوم تشهد عليهم } أي يوم القيامة في ذلك المجمع العظيم { ألسنتهم } إن ترفعوا عن الكذب { وأيديهم وأرجلهم } إن أنكرت ألسنتهم كذباً وفجوراً ظناً أن الكذب ينفعها { بما كانوا يعملون* } من هذا القذف وغيره؛ ثم زاد في التهويل بقوله : { يومئذ } أي إذ تشهد عليهم هذه الجوارح { يوفيهم الله } أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة وله الكمال كله { دينهم } أي جزاءهم { الحق } أي الذي يظهر لكل أحد من أهل ذلك المجمع العظيم أنهم يستحقونه ، فلا يقدر أحد على نوع طعن فيه { ويعلمون } أي إذ ذاك ، لانقطاع الأسباب ، ورفع كل حجاب { أن الله } أي الذي له العظمة المطلقة ، فلا كفوء له { هو } أي وحده { الحق } أي الثابت أمره فلا أمر لأحد سواه ، { المبين* } الذي لا أوضح من شأنه في ألوهيته وعلمه وقدرته وتفرده بجميع صفات الكمال ، وتنزهه عن جميع سمات النقص ، فيندمون على ما فعلوا في الدنيا مما يقدح في المراقبة وتجري عليه الغفلة؛ قال ابن كثير : وأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة لا سيما التي كانت سبب النزول ، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما ، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن ، وفي بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن قولان أصحهما أنهن كهي ، والله أعلم - انتهى .

وقد علم من هذه الآيات وما سبقها من أول السورة وما لحقها إلى آخرها أن الله تعالى ما غلظ في شيء من المعاصي ما غلظ في قصة الإفك ، ولا توعد في شيء ما توعد فيها ، وأكد وبشع ، ووبخ وقرع ، كل ذلك إظهاراً لشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وغضباً له وإعظاماً لحرمته وصوناً لحجابه .

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)

ولما تضمن ما ذكر من وصفه تعالى علمه بالخفيات ، أتبعه ما هو كالعلة لآية { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } دليلاً شهودياً على براءة عائشة رضي الله تعالى عنها فقال : { الخبيثات } أي من النساء وقدم هذا الوصف لأن كلامهم فيه ، فإذا انتفى ثبت الطيب { للخبيثين } أي من الرجال . ولما كان ذلك لا يفهم أن الخبيث مقصور على الخبيثة قال : { والخبيثون } أي من الرجال أيضاً { للخبيثات } أي من النساء .
ولما أنتج هذا براءتها رضي الله عنها لأنها قرينة أطيب الخلق ، أكده بقوله : { والطيبات } أي منهن { للطيبين } أي منهم { والطيبون للطيبات } بذلك قضى العليم الخبير أن كل شكل ينضم إلى شكله ، ويفعل أفعال مثله ، وهو سبحانه قد اختار لهذا النبي الكريم لكونه أشرف خلقه خلص عباده من الأزواج والأولاد والأصحاب { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] « خيركم قرني » وكلما ازداد الإنسان منهم من قلبه صلى الله عليه وسلم قرباً ازداد طهارة ، وكفى بهذا البرهان دليلاً على براءة الصديقة رضي الله عنها ، فكيف وقد أنزل الله العظيم في براءتها صريح كلامه القديم ، وحاطه من أوله وآخره بهاتين الآيتين المشيرتين إلى الدليل العادي ، وقد تقدم عند آية { الزاني } ذكر لحديث « الأرواح جنود مجندة » وما لاءمه ، لكنه لم يستوعب تخريجه ، وقد خرجه مسلم في الأدب من صحيحه وأبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف » وفي رواية عنه رفعها : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، والأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف » وهذا الحديث روي أيضاً عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعلي ابن أبي طالب وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم ، وقد علق البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها بصيغة الجزم ، ووصله في كتاب الأدب المفرد وكذا الإسماعيلي في المستخرج ، وأبو الشيخ في كتاب الأمثال ، وتقدم عزوه إلى أبي يعلى ، ولفظ حديث ابن عمر رضي الله عنهما « فما كان في الله ائتلف ، وما كان في غير الله اختلف » أخرجه أبو الشيخ في الأمثال ، ولفظ حديث ابن مسعود رضي الله عنه « فإذا التقت تشامّ كما تشامّ الخيل ، فما تعارف منها ائتلف » - الحديث . وأما حديث علي رضي الله عنه فرواه الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن الفضل السقطي وأبو عبد الله بن منده في كتاب الروح عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : يا أبا الحسن! ربما شهدت وغبنا وربما شهدنا وغبت ، ثلاث أسألك عنهن هل عندك منهن علم؟ قال علي : وما هن؟ قال : الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيراً ، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شراً ، فقال علي رضي الله عنه : نعم! سمعت رسول الله صلى الله عليه السلام يقول :

« إن الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف » قال عمر : واحدة ، قال : والرجل يحدث الحديث إذ نسيه فبينا هو وما نسيه إذ ذكره؟ فقال علي رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر ، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت فأضاء ، وبينا القلب يتحدث إذ تجللته سحابة فنسي إذ تجلت عنه فذكر » ، فقال عمر رضي الله عنه : اثنتان ، وقال : والرجل يرى الرؤيا ، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب؟ قال : نعم! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من عبد أو أمة ينام فيستثقل نوماً إلا عرج بروحه إلى العرش ، فالتي لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدق ، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب » ، فقال عمر رضي الله عنه : ثلاث كنت في طلبهن فالحمد لله الذي أصبتهن قبل الموت وكذا أخرج الطبراني حديث سلمان كحديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين ، وأنشدوا لأبي نواس في المعنى :
إن القلوب لأجناد مجندة ... لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف
ولما ثبت هذا كانت نتيجته قطعاً : { أولئك } أي العالو الأوصاف بالطهارة والطيب { مبرؤون } ببراءة الله وبراءة كل من له تأمل في مثل هذا الدليل { مما يقولون } أي القذفة الأخابث لأنها لا تكون زوجة أطيب الطيبين إلا وهي كذلك .
ولما أثبت لهم البراءة ، استأنف الإخبار بجزائهم فقال : { لهم مغفرة } أي لما قصروا فيه إن قصروا ، ولما كان في معرض الحث على الإنفاق على بعض الآفكين قال : { ورزق كريم* } أي يحيون به حياة طيبة ، ويحسنون له إلى من أساء إليهم ، ولا ينقصه ذلك لكرمه في نفسه بسعته وطيبه وغير ذلك من خلال الكرم .
ولما أنهى سبحانه الأمر في براءة عائشة رضي الله عنها على هذا الوجه الذي كساها به من الشرف ما كساها ، وحلاها برونقه من مزايا الفضل ما حلاها ، وكأن أهل الإفك قد فتحوا بإفكهم هذا الباب الظنون السيئة عدواة من إبليس لأهل هذا الدين بعد أن كانوا في ذلك وفي كثير من سجاياهم - إذ قانعاً منهم بداء الشرك - على الفطرة الأولى ، أمر تعالى رداً لما أثار بوسواسه من الداء بالتنزه عن مواقع التهم والتلبس بما يحسم الفساد فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي ألزموا أنفسهم هذا الدين { لا تدخلوا } أي واحد منكم ، ولعله خاطب الجمع لأنهم في مظنة أن يطردوا الشيطان بتزين بعضهم بحضرة بعض بلباس التقوى ، فمن خان منهم منعه إخوانه ، فلم يتكمن منه شيطانه ، فنهي الواحد من باب الأولى { بيوتاً غير بيوتكم } أي التي هي سكنكم { حتى تستأنسوا } أي تطلبوا بالاستئذان أن يأنس بكم من فيها وتأنسوا به ، فلو قيل له : من؟ فقال : أنا لم يحصل الاستئناس لعدم معرفته ، بل الذي عليه أن يقول : أنا فلان - يسمى نفسه بما يعرف به ليؤنس به فيؤذن له أو ينفر منه فيرد { وتسلموا على أهلها } أي الذين هم سكانها ولو بالعارية منكم فتقولوا : السلام عليكم! أأدخل؟ أو تطرقوا الباب إن كان قد لا يسمع الاستئذان ليؤذن لكم { ذلكم } الأمر العالي الذي أمرتكم به { خير لكم } مما كنتم تفعلونه من الدخول بغير إذن ومن تحية الجاهلية ، لأنكم إذا دخلتم بغير إذن ربما رأيتم ما يسوءكم ، وإذا استأذنتم لم تدخلوا على ما تكرهون ، هذا في الدنيا ، وأما في الأخرى فأعظم ، وقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : إذا سلم ثلاثاً فلم يجبه أحد فليرجع .

وكان هذا إذا ظن أن صاحب البيت سمع .
ولما كان كل إنسان لا ينفك عن أحوال يكره أن يطلع عليها أو تقطع عليه ، قال : { لعلكم تذكرون* } أي لتكون حالكم حال من يرجى أن يتذكر برجوعه إلى نفسه عند سماع هذا النهي ، فيعرف أن ما يسوءه من غيره يسوء غيره منه ، فيفعل ما يحب أن يفعل معه خوفاً من المقابلة ، لأن الجزاء من جنس العمل ، وكل ما يجب عليه في غير بيته يستحب له في بيته بنحو النحنحة ورفع الصوت بالذكر ونحوه على ما أشار إليه حديث النهي عن الطروق لكيلا يرى من أهله ما يكره .
ولما كان السكان قد يكونون غائبين ، والإنسان لكونه عورة لا يحب أن يطلع غيره على جميع أموره ، قال : { فإن لم تجدوا فيها } أي البيوت التي ليس بها سكناكم { أحداً } قد يمنعكم ، فالله يمنعكم منها ، تقديماً لدرء المفاسد { فلا تدخلوها } أي أبداً { حتى يؤذن لكم } من آذن ما بإذن شرعي من الساكن أو غيره ، لأن الدخول تصرف في ملك الغير أو حقه فلا يحل بدونه إذنه . ولما كان كأنه قيل : فإن أذن لكم في شيء ما استأذنتم فيه فادخلوا ، عطف عليه قوله : { وإن قيل لكم } من قائل ما إذا استأذنتم في بيت فكان خالياً أو فيه أحد : { ارجعوا فارجعوا } أي ولا تستنكفوا من أن تواجهوا بما تكرهون من صريح المنع ، فإن الحق أحق أن يتبع ، وللناس عورات وأمور لا يحبون اطلاع غيرهم عليها .

ولما كان في المنع نقص يوجب غضاضة ووحراً في الصدر ، وعد سبحانه عليه بما يجبر ذلك ، فقال على طريق الاستئناف : { هو } أي الرجوع المعين { أزكى } أي أطهر وأنمى { لكم } فإن فيه طهارة من غضاضة الوقوف على باب الغير ، ونماء بما يلحق صاحب البيت من الاستحياء عند امتثال أمره في الرجوع مع ما في ذلك عند الله .
ولما كان التقدير : فالله يجازيكم على امتثال أمره ، وكان الإنسان قد يفعل في البيوت الخالية وغيرها من الأمور الخفية ما يخالف ما أدب به سبحانه مما صورته مصلحة وهو مفسدة ، عطف على ذلك المقدر قوله : { والله } أي الملك الأعلى . ولما كان المراد المبالغة في العلم ، قدم الجار ليصير كما إذا سألت شخصاً عن علم شيء فقال لك : ما أعلم غيره ، فقال : { بما تعملون } أي وإن التبس أمره على أحذق الخلق { عليم* } لا يخفى عليه شيء منه وإن دق ، فإياكم ومشتبهات الأمور ، فإذا وقفتم للاستئذان فلا تقفوا تجاه الباب ، ولكن على يمينه أو يساره ، لأن الاستئذان إنما جعل من أجل البصر ، وتحاموا النظر إلى الكوى التي قد ينظر منها أحد من أهل البيت ليعرف من على الباب : هل هو ممن يؤنس به فيؤذن له ، أو لا فيرد ، ونحو هذا من أشكاله مما لا يخفى على متشرع فطن ، يطير طائر فكره في فسيح ما أشار إليه مثل قوله صلى الله عليه السلام : « إذا حدث الرجل فالتفت فهي أمانة » وراه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

ولما كان من الأماكن التي قد لا يوجد بها أحد ما يباح الدخول إليه لخلوه أو عدم اختصاص النازل به كالخانات والربط ، أتبع ما تقدم التعريف بأنه لم يدخل في النهي فقال مستأنفاً : { ليس عليكم جناح } أي ميل بلوم أصلاً { أن تدخلوا بيوتاً } كالخانات والربط { غير مسكونة } ثم وصفها بقوله : { فيها متاع } أي استمتاع بنوع انتفاع كالاستظلال ونحوه { لكم } ويدخل فيه المعد للضيف إذا أذن فيه صاحبه في أول الأمر ووضع الضيف متاعه فيه ، لأن الاستئذان لئلا يهجم على ما يراد الاطلاع عليه ويراد طيه عن علم الغير ، فإذا لم يخف ذلك فلا معنى للاستئذان .
ولما كان التقدير : فالله لا يمنعكم مما ينفعكم ، ولا يضر غيركم ، عطف عليه قوله : { والله } أي الملك الأعظم { يعلم } في كل وقت { ما تبدون } وأكد بإعادة الموصول فقال : { وما تكتمون* } تحذيراً من أن تزاحموا أحداً في مباح بما يؤذيه ويضيق عليه ، معتلين بأصل الإباحة ، أو يؤذن لكم في منزل فتبطنوا فيه الخيانة فإنه وإن وقع الاحتراز من الخونة بالحجاب فلا بد من الخلطة لما بني عليه الإنسان من الحاجة إلى العشرة ، ولذلك اتصل به على طريق الاستئناف قوله تعالى؛ مقبلاً على أعلى خلقه فهماً وأشدهم لنفسه ضبطاً دون بقيتهم ، إشارة إلى صعوبة الأمر وخطر المقام ، مخوفاً لهم بالإعراض عنهم ، بالتردي برداء الكبر ، والاحتجاب في مقام القهر : { قل للمؤمنين } فعبر بالوصف إشارة إلى عدم القدرة على الاحتراز من المخالط بعد الخلطة ، وأنه لا يعف فيها إلا من رسخ الإيمان في قلبه لخفاء الخيانة حينئذ بخلاف ما سبق في المنع من الدخول حيث كان التعبير ب « الذين آمنوا » { يغضوا } أي يخفضوا ولا يرفعوا ، بل يكفوا عما نهوا عنه .
ولما كان الأمر في غاية العسر ، قال : { من أبصارهم } بإثبات من التبعيضية إشارة إلى العفو عن النظرة الأولى ، وأن المأخوذ به إنما هو التمادي ، ولما كان البصر يريد الزنى قدمه .
ولما كان حفظ الفرج لخطر المواقعة أسهل من حفظ البصر ، ولأنه لا يفعل به من غير اختبار ، حذف « من » لقصد العموم فقال : { ويحفظوا فروجهم } أي عن كل حرام من كشف وغيره ولم يستثن الزوجة وملك اليمين استغناء عنه بما سبق في المؤمنون ، ولأن المقام للتهويل في أمر للحفظ والتشديد ، ورغب في ذلك بتعليله بقوله : { ذلك } أي الأمر العالي العظيم من كل من الغض والحفظ الذي أمرتهم به { أزكى لهم } أي أقرب إلى أن ينموا ويكثروا ويطهروا حساً ومعنى ، ويبارك لهم ، أما الحسي فهو أن الزنى مجلبة للموت بالطاعون ، ويورث الفقر وغيرهما من البلايا « ما من قوم ظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالسنة »

رواه أحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، ورواه عنه أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم في كتاب الفتوح ولفظه « ما من قوم يظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالفنا وما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة ، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب الزنى يورث الفقر » رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما وإذا ظهر الزنى ظهر الفقر والمسكنة وراه ابن ماجة والبزار وهذا لفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما - والبيهقي ولفظه : « الزنى يورث الفقر » وفي رواية له « ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم » ورواه عنه ابن إسحاق في السيرة في سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل ولفظه : « إنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقضوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجورالسلطان ، ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، فلولا البهائم ما مطروا ، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم ، فأخذ بعض ما كان في أيديهم ، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله وتجبروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم » وفي الترغيب للمنذري عن ابن ماجة والبزار والبيهقي عنه رضي الله عنه نحو هذا اللفظ ، وفي آخر السيرة عن أبي بكر رضي الله عنه في خطبته عندما ولي الخلافة : لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء . وفي الموطأ عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال « ما ظهر الغلول فب قوم قط إلا ألقى في قلوبهم الرعب ، ولا فشا الزنى في قوم قط إلا كثر فيهم الموت ، ولا نقص قوم قط المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم ، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو » وروى الطبراني في الأوسط عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كثرت الفاحشة كثر الفساد ، وجار السلطان » وفيه : « أمثلهم في ذلك الزمان المداهن . إذا ظهر الربا والزنى في قرية آذن الله في هلاكها » رواه الطبراني عن ابن عبايس رضي الله عنهما ، وأما المعنوي فروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : « ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها »

قال ابن كثير : وروي هذا مرفوعاً عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم ولكن في أسانيدها ضعف . وساق له شاهداً من الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ : « إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم ، من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه » فعلم من ذلك أن من تخلق بما أمره الله هنا كان قلبه موضعاً للحكمة ، وفعله أهلاً للنجح ، وذكره مقروناً بالقبول .
ولما كان الزكاء يتضمن التكثير والتطهير ، وكان الكلام هنا في غض البصر ، وكان ظاهراً جداً في الطهارة ، لم يدع داع إلى التأكيد بالتصريح بالطهارة ، وأما آية البقرة فلما كانت في العضل ، وكان لا يكون إلا عن ضغائن وإحن فكان الولي رما ظن أن منعها عمن عضلها عنه أطهر له ولها . أكد العبارة بفعل الزكاء بالتصريح بما أفهمه من الطهارة .
ولما كان المقام صعباً لميل النفوس إلى الدنايا واتباعها للشهوات ، علل هذا الأمر مرغباً ومرهباً بقوله : { إن الله } أي الذي لا يخفى عليه شيء لما له من الإحاطة الكاملة { خبير } ولما كان وازع الحياء مع ذلك مانعاً عظيماً فلا يخالف إلا بمعالجة وتدرب ، عبر بالصنعة فقال : { بما يصنعون* } أي وإن تناهوا في إخفائه ، ودققوا في تدبير المكر فيه .
ولما بدأ بالقومة من الرجال ، ثنى بالنساء فقال : { وقل للمؤمنات } فرغب أيضاً بذكر هذا الوصف الشريف { يغضضن } ولما كان المراد الغض عن بعض المبصرات وهم المحارم قال : { من أبصارهن } فلا يتبعنها النظر إلى منهي عنه رجل أو غيره ، وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها في النظر إلى لعب الحبشة في المسجد باحتمال أنها كانت دون البلوغ لأنها قالت : فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو . { ويحفظن فروجهن } عما لا يحل لهن من كشف وغيره .
ولما كان النساء حبائل الشيطان ، أمرن بزيادة الستر بقوله : ناهياً عن الزينة ليكون النهي عن مواقعها من الجسد أشد وأولى { ولا يبدين زينتهن } أي كالحلي والفاخر من الثياب فكيف بما وراءها { إلا ما ظهر منها } أي كان بحيث يظهر فيشق التحرز في إخفائه فبدا من غير قصد كالسوار والخاتم والكحل فإنها لا بد لها من مزاولة حاجتها بيدها ومن كشف وجهها في الشهادة ونحوها .
ولما كان أكثر الزينة في ألأعناق والأيدي والأرجل ، وكان دوام ستر الأعناق أيسر وأمكن ، خصها فقال : { وليضربن } من الضرب ، وهو وضع الشيء بسرعة وتحامل ، يقال : ضرب في عمله : أخذ فيه ، وضرب بيده إلى كذا : أهوى ، وعلى يده : أمسك ، وضرب الليل بأوراقه : أقبل ، والضارب : الليل الذي ذهبت ظلمته يميناً وشمالاً وملأت الدنيا ، والضارب : الطويل من كل شيء والمتحرك .
ولما كان المقصود من هذا الضرب بعض الخمار ، وهو ما لا صق الجيب منه ، عداه بالباء فقال : { بخمرهن } جمع خمار ، وهو منديل يوضع على الرأس ، وقال أبو حيان : وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها .

{ على جيوبهن } جمع جيب ، وهو خرق الثوب الذي يحيط بالعنق ، فالمعنى حينئذ يهوين بها إلى ما تحت العنق ويسبلنها من جميع الجوانب ويطولنها ستراً للشعر والصدر وغيرهما مما هنالك ، وكأنه اختير لفظ الضرب إشارة إلى قوة القصد للستر وإشارة إلى العفو عما قد يبدو عند تحرك الخمار عند مزاولة شيء من العقل؛ قال أبو حيان : وكان النساء يغطين رؤوسهن بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهور فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهن . وروى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزلت { وليضربن بخمرهن } شققن مروطهن - وفي رواية : أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي - فاختمرن بها ، يعني تسترن ما قدام ، والإزار هنا الملاء .
ولما كان ذكر الجيب ربما أوهم خصوصاً في الزينة ، عم بقوله : { ولا يبدين } أو كرره لبيان من يحل الإبداء له ومن لا يحل ، وللتأكيد { زينتهن } أي الخفية في أي موضع كانت من عنق أو غيره ، وهي ما عدا الوجه والكفين ، وظهور القدمين ، بوضع الجلباب ، وهو الثوب الذي يغطي الثياب والخمار قاله ابن عباس رضي الله عنهما . { إلا لبعولتهن } أي أزواجهن ، فإن الزينة لهم جعلت . قال أبو حيان : ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ، ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر فالأب والأخ ليس كابن الزوج - انتهى . فقال تعالى : { أو آبائهن } أي فإن لهم عليهن من الشفقة ما يمنع النظر بالشهوة ومثلهم في هذا المعنى سواء الأعمام والأخوال وكل منهما والد مجازاً بدليل { وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل } { أو آباء بعولتهن } فإن رحمتهم لأولادهم مانعة { أو أبنائهن } فإن لهن عليهن من الهيبة ما يبعد عن ذلك { أو أبناء بعولتهن } فإن هيبة آبائهم حائلة { أو إخوانهن } فإن لهم من الرغبة في صيانتهن عن العار ما يحفظ من الريبة { أو بني } عدل به عن جمع التكسير لئلا يتوالى أربع مضمرات من غير فاصل حصين فتنقص عذوبته { إخوانهن أو بني أخواتهن } فإنهم كأبنائهن { أو نسائهن } أي المسلمات ، وأما غير المسلمات فحكمهن حكم الرجال؛ روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى عبيدة رضي الله عنه ينهى عن دخول الذميات الحمام مع المسلمات ، وقال : فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها ، وفي مسند عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما . { وأما ما ملكت أيمانهن } أي من الذكور والإناث وإن كن غير مسلمات لما لهن عليهن من الهيبة ، وحمل ابن المسيب الآية على الإماء فقط؛ قال أبو حيان : قال الزمخشري : وهذا هو الصحيح ، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيّاً كان أو فحلاً ، وعن ميسون بنة بحدل الكلابية أن معاوية رضي الله عنه دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال : هو خصي ، فقالت : يا معاوية! أترى المثلة به تحلل ما حرم الله - انتهى .

وقصة مابور ترد هذا ، وقوله : الكلابية ، قال شيخنا في تخريج الكشاف : صوابه : الكلبية بإسكان اللام . { أو التابعين } أي للخدمة أو غيرها { غير أولي الإربة } أي الحاجة إلى الاستمتاع بالنساء { من الرجال } كالشيوخ الفانين ومن بهم علة منعت شهوتهم ، وكذا من كان ممسوحاً لقصة مابور { أو } من { الطفل } أي جنسه ، والطفل الصغير ما لم يبلغ الحلم أو خمس عشرة سنة ، وهو في الأصل : الرخص الناعم من كل شيء ، وكأنه سمي بذلك لأنه يخرج ملتبساً بالتراب الذي تأكله الحامل ، قال في القاموس : وطفل النبت كفرح وطفل بالضم تطفيلاً : أصابه التراب ، والطفال ، كغراب وسحاب : الطين اليابس . قال القزاز : ويسميه أهل نجد الكلام والعامة تقول لجنس منه : طفل ، { الذين لم يظهروا } أي لم يعلوا بالنظر المقصود للاطلاع { على عورات النساء } لعم بلوغ سن الشهوة لذلك .
ولما نهى عن الإظهار ، نبه على أمر خفي منه فقال : { ولا يضربن بأرجلهن } أي والخلاخيل وغيرها من الزينة فيها . ولما كان ذلك لمطلق الإعلام ، بناه للمفعول فقال : { ليعلم ما يخفين } أي بالساتر الذي أمرن به { من زينتهن } بالصوت الناشىء من الحركة عند الضرب المذكور ، وفي معنى ذلك التطيب ، والنهي عن ذلك يفهم النهي عن موضعه من الجسد من باب الأولى .
ولما أنهى سبحانه ما أمره صلى الله عليه وسلم بالتقدم فيه إلى الرجال والنساء ، وكان من المعلوم أن العبد الحقير المجبول على الضعف الموجب للتقصير لن يقدر على أن يقدر المولى العلي الكبير حق قدره وإن أبلغ في الاجتهاد وزاد في التشمير ، أتبعه التلطف بالإقبال عليهم في الأمر بإقبالهم إليه إشارة إلى أن الأمر في غاية الصعوبة ، وأن الإنسان لكونه محل الزلل والتقصير - وإن اجتهد - لا يسعه إلا إحسان الرحيم الرحمن ، فقال : { وتوبوا إلى الله } أي ارجعوا إلى طاعة الملك الأعلى مهما حصل منكم زيغ كما كنتم تفعلونه في الجاهلية { جميعاً } رجالكم ونسائكم { أيُّه المؤمنون } والتعبير بالوصف إشارة إلى علو مقام التوبة بأنه لا يقدر على ملازمتها إلا راسخ القدم في الإيمان ، عارف بأنه وإن بالغ في الاجتهاد واقع في النقصان ، وهذا الأمر للوجوب ، وإذا كان للراسخين في الإيمان فمن دونه من باب الأولى { لعلكم تفلحون* } أي لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطلوب الذي مضى أول سورة المؤمنون تعليقه بتلك الأوصاف التي منها رعاية الأمانة ولا سيما في الفروج؛ قال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء : إن الإنسان من حيث جبل على النقص لا يخلو عما يوجب عليه التوبة ، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب ، فإن خلا عنه فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله ، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله ، وكل ذلك نقص ، وله أسباب ، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده ، والمراد بالتوبة الرجوع ، ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص ، وإنما يتفاوتون في المقادير .

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

ولما تقدم سبحانه إلى عباده في الأمور العامة للأحوال والأشخاص في الزنى وأسبابه ، فحكم وقرر ، ووعظ وحذر ، أتبعه أسباب العصمة التي هي نعم العون على التوبة فقال مرشداً : { وأنكحوا الأيامى } مقلوب أيايم جمع أيم ، وزن فعيل من آم ، عينه ياء ، وهو العزب ذكراً كان أو أنثى أو بكراً { منكم } أي من أحراركم ، وأغنى لفظ الأيم عن ذكر الصلاح لأنه لا يقال لمن قصر عن درجة النكاح { والصالحين } أي للنكاح { من عبادكم وإمائكم } أي أرقائكم الذكور والإناث ، احتياطاً لمصالحهم وصوناً لهم عن الفساد امتثالاً لما ندب إليه حديث « تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة » .
ولما كان للزواج كلف يهاب لأجلها ، لما طبع الآدمي عليه من الهلع في قلة الوثوق بالرزق ، أجاب من كأنه قال : قد يكون الإنسان غير قادر لكونه معدماً ، بقوله : { إن يكونوا } أي كل من ذكر من حر أو عبد ، والتعبير بالمضارع يشعر بأنه قد يكون في النكاح ضيق وسعة { فقراء } أي من المال { يغنهم الله } أي الذي له الكمال كله ، إذا تزوجوا { من فضله } لأنه قد كتب لكل نفس رزقها فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم ، وعن ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى . وقال البغوي : قال عمر رضي الله عنه : عجبت لمن يبتغي الغنى في بغير النكاح - وقرأ هذه الآية . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : التمسوا الغنى في النكاح ، وتلا هذه الآية ابن جرير . ولأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه : « ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله » ويؤيده ما في الصحيح من حديث الواهبة نفسها حيث زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لم يجد ولا خاتماً من حديد .
ولما كان التقدير : فالله ذو فضل عظيم ، عطف عليه قوله : { والله } أي ذو الجلال والإكرام { واسع عليم* } أي فهو بسعة قدرته يسوق ما كتبه للمرأة على يد الزوج ، وبشمول علمه يسبب أسبابه . ولما أمر سبحانه بما يعصم من الفتنة من غض البصر ثم بما يحصن من النكاح ، وجراً عليه بالوعد بالإغناء ، وكان هذا الوعد فيما بعد النكاح ، وقدم الكلام فيه ترغيباً للإنسان في التوكل والإحصان ، وكان قلبه ما قد يتعذر لأجله إما بعدم وجدان المهر وما يطلب منه تقديمه ، أو بعدم رضى العبد وغيره يكون ولده رقيقاً أو غير ذلك ، أتبعه قوله حاثاً على قمع النفس الأمارة عند العجز : { وليستعفف } أي يبالغ في طلب العفة وإيجادها عن الحرام { الذين لا يجدون نكاحاً } أي قدرة عليه وباعثاً إليه { حتى يغنيهم الله } أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال { من فضله } في ذلك الذي تعذر عليهم النكاح بسببه .

ولما كان من جملة الموانع كما تقدم خوف الرق على الولد لمن له من الرقيق همة علية ، ونفس أبية ، أتبعه قوله : { والذين يبتغون } أي يطلبون طلباً عازماً { الكتاب } أي المكاتبة { مما ملكت أيمانكم } ذكراً كان أو أنثى؛ وعبر ب « ما » إشارة إلى ما في الرقيق من النقص { فكاتبوهم } أي ندباً لأنه معاوضة تتضمن الإرفاق على ما يؤدونه إليكم منجماً ، فإذا أدوه عتقوا { إن علمتم فيهم خيراً } أي تصرفاً صالحاً في دينهم ودنياهم لئلا يفسد حالهم بعد الاستقلال بأنفسهم؛ قال ابن كثير : وروى أبو داود في كتاب المراسيل عن يحيى ابن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلاًّ على الناس » انتهى . ولعله عبر بالعلم في موضع الظن لذلك { وءاتوهم } وجوباً إذا أدوا إليكم { من مال الله } أي الذي عم كل شيء بنعمته ، لأنه الملك العظم { الذي آتاكم } ولو بحط شيء من مال الكتابة .
ولما أمر سبحانه بالجود في أمر الرقيق تارة بالنفس ، وتارة بالمال ، نهاهم عما ينافيه فقال : { ولا تكرهوا فتياتكم } أي إماءكم ، ولعله عبر بلفظ الفتوة هزاً لهم إلى معالي الأخلاق ، وتخجيلاً من طلب الفتوة من أمة { على البغاء } أي الزنى لتأخذوا منهن مما يأخذنه من ذلك .
ولما كان الإكراه على الزنى لا يصح إلا عند العفة ، وكان ذلك نادراً من أمة ، قال : { إن } بأداة الشك { أردن تحصناً } وفي ذلك زيادة تقبيح للإكراه على هذا الفعل حيث كانت النساء مطلقاً يتعففن عنه مع أنهن مجبولات على حبه ، فكيف إذا لم يمنعهن مانع خوف أو حياء كالإماء ، فكيف إذا أذن لهن فيه . فكيف إذا ألجئن إليه ، وأشار بصيغة التفعل وذكر الإرادة إلى أن ذلك لا يكون إلا عن عفة بالغة ، وزاد في تصوير التقبيح بذكر علة التزام هذا العار في قوله : { لتبتغوا } أي تطلبوا طلباً حثيثاً فيه رغبة قوية بإكراههن على الفعل الفاحش { عرض الحياة الدنيا } فإن العرض متحقق فيه الزوال ، والدنيا مشتقة من الدناءة .
ولما نهى سبحانه عن الإكراه ، رغب الموالي في التوبة عند المخالفة فيه فقال : { ومن يكرههن } دون أن يقول : وإن أكرهن ، وعبر بالمضارع إعلاماً بأن يقبل التوبة ممن خالف بعد نزول الآية ، وعبر بالاسم العلم في قوله : { فإن الله } إعلاماً بأن الجلال غير مؤيس من الرحمة ، ولعله عبر بلفظ « بعد » إشارة إلى العفو عن الميل إلى ذلك الفعل عند مواقعته إن رجعت إلى الكراهة بعده ، فإن النفس لا تملك بغضه حينئذ ، فقال : { من بعد إكراههن غفور } أي لهن وللموالي ، يستر ذلك الذنب إن تابوا { رحيم* } بالتوفيق للصنفين إلى ما يرضيه .

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

ولما أتم سبحانه هذه الآيات في براءة عائشة رضي الله عنها ومقدماتها و خواتيمها ، قال عاطفاً على قوله أولها { وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون } : { ولقد أنزلنا } أي بما لنا من العظمة ترغيباً لكم وترهيباً { إليكم } أي لتتعظوا { آيات مبينات } مفصل فيها الحق من الباطل ، موضح بالنقل والعقل بحيث صارت لشدة بيانها تبين هي لمن تدبرها طرق الصواب كما أوضحنا ذلك لمن يتدبره في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وما تقدمها وتتبعها مما هو صلاحكم في الدين والدنيا { ومثلاً } أي وشبهاً بأحوالكم { من الذين خلوا من قبلكم } أي من أحوالهم بما أنزل الله إليهم في التوراة في أحوال المخالطة والزنى وقذف الأبرياء كيوسف ومريم عليهما السلام وتبرئتهم كما قدمت كثيراً منه في سورة المائدة وغيرها مما صار في حسن سبكه في هذا الكتاب ، وبديع حبكه عند أولي الألباب ، كالأمثال السائرة ، والأفلاك الدائرة { وموعظة للمتقين* } بما فيه من الأحكام والفواصل المنبئة عن العلل المذكرة بما يقرب من الله زلفى ، وينور القلب ، ويوجب الحب والألفة ، ويذهب وحر الصدر؛ ثم علل إنزاله لذلك على هذا السنن الأقوم ، والنظم المحكم ، بقوله : { الله } أي الذي أحاطت قدرته وعلمه { نور } أي ذو نور { السماوات والأرض } لأنه مظهرهما بإيجادهما وإيجاد أهلهما وهاديهم بالتنوير بالعلم الجاعل صاحبه بهدايته إلى الصراط المستقيم كالماشي في نور الشمس ، لا يضع شيئاً في غير موضعه كما أن الماشي في النور لا يضع رجلاً في غير موضعها اللائق بها ، ولا شك أن النور هو ما به تظهر به الأشياء وتنكشف ، فهو سبحانه مظهرهما ، وهما وما فيهما دال على ظهوره ، وأنه تام القدرة شامل العلم حاوٍ لصفات الكمال ، منزه عن شوائب النقص ، وفي آخر الشورى ما ينفع جداً هنا .
ولما كان من المحال أن يضل عن نور هو ملء الخافقين أحد من سكانهما ، بين وجه خفائه مع ظهور ضيائه واتساعه وقوة شعاعه ، حتى ضل عنه أكثر الناس ، فقال مبيناً بإضافة النور إلى ضميره أن الإخبار عنه بالنور مجاز لا حقيقة ، منبهاً على أن آياته الهادية تلوح خلال الشبهات الناشئة عن الأوهام الغالبة على الخلق التي هي كالظلمات { مثل نوره } أي الذي هدى به إلى سبيل الرشاد في خفائه عن بعض الناس مع شدة ظهوره ، وهو آياته الدالة عليه من أقواله وأفعاله { كمشكاة } أي مثل كة أي خرق لكن غير نافذ في جدار؛ قال البغوي : فإن كان لها منفذ فهي كوة .
ولما دخل المشكاة في هذا المثل خفياً فقدمها تشويقاً إلى شرحه ، أتبعه قوله شارحاً له : { فيها مصباح } أي سراج ضخم ثاقب . وهو الذبالة - أي الفتيلة - الضخمة المتقدة ، من الصباح الذي هو نور الفجر ، والمصباح الذي هو الكوكب الكبير؛ قال البغوي : وأصله الضوء - انتهى .

فإذا كان في المشكاة اجتمعت أشعته فكان أشد إنارة ، ولو كان في فضاء لافترقت أشعته؛ وأتى ببقية الكلام استئنافاً على تقدير سؤال تعظيماً له فقال : { المصباح في زجاجة } أي قنديل .
ولما كان من الزجاج ما هو في غاية الصفاء ، بين أن هذه منه فقال : { الزجاجة كأنها } أي في شدة الصفاء { كوكب } شبهه بها دون الشمس والقمر لأنهما يعتريهما الخسوف { دريّ } أي متلألىء بالأنوار فإنه إذا كان في زجاجة صافية انعكست الأشعة المنفصلة عنه من بعض جوانب الزجاجة إلى بعض لما فيها من الصفاء والشفيف فيزداد النور ويبلغ النهاية كما أن شعاع الشمس إذا وقع على ماء أو زجاجة صافية تضاعف النور حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك النور؛ والدريّ - قال الزجاج : مأخوذ من درأ إذا اندفع منقضاً فتضاعف نوره .
ولما كان من المصابيح أيضاً ما يكون نوره ضعيفاً بين أن هذا ليس كذلك فقال : { يوقد } أي المصباح ، بأن اشتد وقده . ولما كان هذا الضوء يختلف باختلاف ما يتقد فيه ، فإذا كان دهناً صافياً خالصاً كان شديد ، وكانت الأدهان التي توقد ليس فيها ما يظهر فيه الصفاء كالزيت لأنه ربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض وشعاع يتردد في أجزائه ، قال : { من شجرة } أي زيتها { مباركة } أي عظيمة الثبات والخيرات يطيب منبتها { زيتونة } .
ولما كان الزيت يختلف باختلاف شجرته في احتجابها عن الشمس وبروزها لها ، لأن الشجر ربما ضعف وخبث ثمره بحائل بينه وبين الشمس ، بين أن هذه الشجرة ليست كذلك فقال : { لا شرقية } أي ليست منسوبة إلى الشرق وحده ، لكونها بحيث لا يتمكن منها الشمس إلا عند الشروق لكنها في لحف جيل يظلها إذا تضيفت الشمس للغروب { ولا غربية } لأنها في سفح جبل يسترها من الشمس عند الشروق ، بل هي بارزة للشمس من حين الشروق إلى وقت الغروب ، ليكون ثمرها أنضج فيكون زيته أصفى ، قال البغوي : هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة والكلبي والأكثرين . فهي لزكاء عنصرها ، وطهارة منبتها ، وبروزها للشمس والرياح ، بحيث { يكاد زيتها } لشدة صفائه { يضيء ولو لم تمسسه نار } .
ولما علم من هذا أن لهذا الممثل به أنواراً متظاهرة بمعاونة المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت ، فلم يبق مما يقوي نوره ويزيده إشارقاً ، ويمده بإضاءة نقية ، قال في الممثل له : { نور على نور } أي أن العلم الرباني عظيم الاتساع كلما سرحت فيه النظر ، وأطلقت عنان الفكر ، أتى بالغرائب ولا يمكن أن يوقف له على حد .
ولما كان الإخبار عن مضاعفة هذا النور موجباً لاعتقاد أنه لا يخفى عن أحد ، أشار إلى أنه - بشمول علمه وتمام قدرته - يعمى عنه من يريد مع شدة ضيائه ، وعظيم لألائه ، فقال : { يهدي الله } أي بعظمته المحيطة بكل شيء { لنوره من يشاء } كما هدى الله من هدى من المؤمنين لتبرئة عائشة رضي الله عنها قبل إنزال براءتها .

بكون الله اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولا يختار له إلا طيباً طاهراً وما شاكل ذلك ، وعلم أن قسيم ذلك « ويضل الله عن نوره من يشاء » وعلم أن وجه كونه ضل عنه أكثر الناس إنما هو ستر القادر له بنقص في حس من يريد سبحانه إضلاله ، لا لنقص في النور كما قال الشاعر :
والنجم تستصغر الأبصار صورته ... فالذنب للطرف لا للنجم في الصغر
كما سيأتي إيضاح ذلك عند قوله تعالى { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } [ الفرقان : 25 ] ، ومر آنفاً في حديث علي رضي الله عنه في الأرواح ما ينفع ههنا .
ولما كان كأنه قيل : ضرب الله هذا المثل لكم لتدبروه فتنفعوا به ، عطف عليه قوله : { ويضرب الله } أي بما له من الإحاطة بكمال القدرة وشمول العلم { الأمثال للناس } لعلمه بها ، تقريباً للأفهام ، لعلهم يهتدون { والله } أي الذي له جميع صفات الكمال { بكل شيء } أي منها ومن غيرها { عليم* } يبين كل شيء بما يسهل سبيله فثقوا بما يقول ، وإن لم تفهموه أنفسكم وأمعنوا النظر فيه يفتح لكم سبحانه ما انغلق منه .

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)

ولما كان كأنه قيل : فأي شيء يكون هذه المشكاة؟ قال شافياً على هذا السؤال : { في بيوت } أي في جدران بيوت ، فجمع دلالة على أن المراد بالمشكاة الجنس لا الواحد ، وفي وحدتها ووحدة آلات النور إشارة إلى عزته جداً { أذن الله } أي مكن بجلاله فأباح وندب وأوجب { أن ترفع } حساً في البناء ، ومعنى بإخلاصها للعمل الصالح ، من كل رافع أذن له سبحانه في ذلك ، فعلى المرء إذا دخلها أن يتحصن من العدو بما رواه أبو دواد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال : « أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم » قال عقبة بن مسلم : فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر يوم . { ويذكر } من كل ذاكر أذن له سبحانه { فيها اسمه } أي ذكراً صافياً عن شوب ، وخالصاً عن غش { يسبح } أي يصلي وينزه { له } أي خاصة { فيها بالغدو } أي الإبكار ، بصلاة الصبح { والآصال* } أي العشيات ، ببقية الصلوات ، فيفتحون أعمالهم ويختمونها بذكره ليحفظوا فيما بين ذلك ويبارك لهم فيما يتقلبون فيه ، وجمع الأصيل لتحقق أن المراد الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ قال البغوي : لأن اسم الأصيل يجمعها . { رجال } أيّ رجال { لا تلهيهم تجارة } أي ببيع أو شرى أو غيرهما ، يظهر لهم فيها ربح .
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى الخروج بالبيع عن بعض ما يملك للاقتيات بثمنه أو التبلغ به إلى بعض المهمات التي لا وصول له إليها إلا به ، أو بتحصيل ما لا يملك كذلك مع أن البيع في التجارة أيضاً هو الطلبة الكلية لأنه موضع تحقق الربح الذي لا صبر عنه ، قال : { ولا بيع } أي وإن لم يكن على وجه التجارة ، والبيع يطلق بالاشتراك على التحصيل الذي هو الشرى وعلى الإزالة { عن ذكر الله } أي الذي له الجلال والإكرام مطلقاً بصلاة وغيرها ، فهم كل وقت في شهود ومراقبة لمن تعرف إليهم بصفات الكمال { و } لا يلهيهم ذلك عن { إقام الصلاة } التي هي طهرة الأرواح ، أعادها بعد ذكرها بالتسبيح تصريحاً بها تأكيداً لها وحثاً على حفظ وقتها لأنه من جملة مقوماتها وكذا جميع حدودها ولو بأوجز ما يكون من أدنى الكمال - بما أشار إليه حرف التاء إشعاراً بأن هذا المدح لا يتوقف على أنهى الكمال { و } لا عن { إيتاء الزكاة } التي هي زكاء الأشباح ونماؤها ، وخص الرجال مع أن حضور النساء المساجد سنة شهيرة ، إشارة إلى أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لما روى أبو داود في سننه وابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

« صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها » والمخدع : الخزانة . وللإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خير مساجد النساء قعر بيوتهن » ولأحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أم حميدة امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما أنها قالت : يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك ، قال : « قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي » ، قال : فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيتها وأظلمه ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل .
ولما وصف الرجال المذكورين ما وصفهم به ، ذكر علة فعلهم لذلك زيادة في مدحهم فقال : { يخافون يوماً } وهو يوم القيامة ، هو بحيث { تتقلب فيه } أي لشدة هوله ، تقلباً ظاهراً - بما اشار إليه إثبات التاءين { القلوب والأبصار* } أي بين طمع في النجاة ، وحذر من الهلاك ، ويمكن أن يقال : المشاكي - والله أعلم - هي المساجد ، والزجاج هي الرجال ، والمصابيح هي القلوب ، وتلألؤها ما تشتمل عليه من المعاني الحاملة على الذكر ، والشجرة الموصوفة هي مثال الأبدان ، التي صفاها الله من الأدران ، وطبعها على الاستقامة ، والزيت مثال لما وضع سبحانه فيها من جميل الأسرار ، وقد ورد في بعض الأخبار أن المساجد لأهل السماوات كالنجوم لأهل الأرض ، وفي معجم الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما : « كمشكاة » قال : جوف محمد صلى الله عليه وسلم ، والزجاجة قلبه ، والمصباح النور الذي في قلبه ، والشجرة إبراهيم عليه السلام ، { لا شرقية ولا غربية } : لا يهودي ولا نصراني .
ولما بين تعالى أفعال هؤلاء الرجال التي أقبلوا بها عليه ، وأعرضوا عما عداه ، بين غايتهم فيها فقال : { ليجزيهم } أي يفعلون ذلك ليجزيهم { الله } أي في دار كرامته بعد البعث بعظمته وجلاله ، وكرمه . وجماله { أحسن ما عملوا } أي جزاءه . ويغفر لهم سيئه { ويزيدهم من فضله } على العدل من الجزاء ما لم يستحقوه - كما هي عادة أهل الكرم .
ولما كان التقدير : فإن الله لجلاله ، وعظمته وكماله ، لا يرضى أن يقتصر في جزاء المحسن على ما يستحقه فقط ، عطف عليه بياناً لأن قدرته وعظمته لا حد لها قولَه : { والله } أي الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه { يرزق من يشاء } . ولما كان المعنى : رزقاً يفوق الحد ، ويفوت العد ، عبر عنه بقوله : { بغير حساب* } فهو كناية عن السعة ، ويجوز أن يكون مع السعة التوفيق ، فيكون بشارة بنفي الحساب في الآخرة أيضاً أصلاً ورأساً ، لأن ذلك المرزوق لم يعمل ما فيه درك عليه فلا يحاسب ، أو يحاسب ولا يعاقب؛ فيكون المراد بنفي الحساب نفي عسره وعقابه ، ويجوز أن يزاد الرزق كفافاً ، وقد ورد أنه لا حساب فيه؛ روى ابن كثير من عند ابن أبي حاتم بسنده عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ فنادى بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم ، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون وهم قليل ، ثم يحاسب سائر الخلائق » .
ولما أخبر تعالى أن الذين اتبعوا نور الحق سبحانه ، وصلوا - من جزائه بسبب ما هداهم إليه النور من الأعمال الصالحة - إلى حقائق هي في نفس الأمر الحقائق ، أخبر عن أضدادهم الذين اتبعوا الباطل فحالت جباله الوعرة الشامخة بين أبصار بصائرهم وبين تلك الأنوار بضد حالهم فقال : { والذين كفروا } أي ستروا بما لزموه من الضلال ما انتشر من نور الله { أعمالهم } كائنة في يوم الجزاء { كسراب } وهو ما تراه نصف النهار في البراري لاصقاً بالأرض يلمع كأنه ماء ، وكلما قربت منه بعد حتى تصل إلى جبل ونحوه فيخفى؛ قال الرازي في اللوامع : والسراب شعاع ينكشف فينسرب ويجري كالماء تخيلاً؛ وقال ابن كثير : يرى عن بعد كأنه بحر طام ، وإنما يكون ذلك بعد نصفف النهار ، وأما الآل فإنما يكون أول النهار ، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض - انتهى . وقال البغوي : والآل ما ارتفع عن الأرض ، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه الملاءة ، يرفع فيه الشخوص ، يرى فيه الصغير كبيراً ، والقصير طويلاً ، والرقراق يكون بالعشايا ، وهو ما ترقرق من السراب ، أي جاء وذهب . { بقيعة } جمع قاع ، وهو أرض سهلة مطمئنة فد انفرجت عنها الجبال والآكام - قاله في القاموس . وقال أبو عبد الله القزاز في ديوانه : القيعة والقاع واحد ، وهما الأرض المستوية الملساء يحفن فيها التراب ، الفراء : القيعة جمع قاع كجار وجيرة . وقال الصغاني في مجمع البحرين : والقاع : المستوي من الأرض ، والجمع أقواع وأقوع وقيعان ، صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، والقيعة مثل قاع ، وهو أيضاً من الواو ، وبعضهم يقول : هو جمع؛ وقال ابن جرير : والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ، وفيه يكون السراب . وقال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب : قال الفراء : القاع : مستنقع الماء ، والقاع : المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه المطر فيمسكه ويستوي نباته ، وجمعه قيعة وقيعان .
{ يحسبه الظمآن } أي العطشان الشديد العطش من ضعف العقل { ماء } فيقصده ولا يزال سائراً { حتى إذا جاءه } أي جاء الموضع الذي توهمه به { لم يجده شيئاً } من الأشياء ، فلم يفده قصده غير زيادة العطش بزيادة التعب ، وبعده عن مواطن الرجاء ، فيشتد بأسه ، وتنقطع حليه فيهلك ، وهكذا الكافر يظن أعماله تجديه شيئاً فإذا هي قد أهلكته .

ولما كان الله محيطاً بعلمه وقدرته بكل مكان قال : { ووجد الله } أي قدرة المحيط بكل شيء { عنده } أي عند ذلك الموضع الذي قصده لما تخيل فيه الخير فخاب ظنه { فوفاه حسابه } أي جزاء عمله على ما تقتضيه أعماله على حكم العدل ، فلم يكفِ هذا الجاهل خيبة وكمداً أنه لم يجد ما قصده شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى نار ، لا يفك أسيرها ، ولا يخمد سعيرها .
ولما كان سبحانه لا يحتاج إلى كاتب ، ولا يدخل عليه لبس ، ولا يصعب عليه ضبط شيء وإن كثر ، ولا يقد أحد أن يتأخر عما يريده به بنوع حيلة ، عبر عن ذلك بقوله : { والله } أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل { سريع الحساب* } أي لأنه لا يحتاج إلى حفظ بقلب ، ولا عقد بأصابع ، ولا شيء غير ذلك ، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد وبعد عمله له ، لا يعزب عنه منه ولا من غيره شيء .

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)

ولما بين سبحانه بهذا المثال أنهم لم يصلوا إلى شيء غير التعب ، المثمر للعطب ، وكان هذا لا يفعله بنفسه عاقل ، ضرب مثالاً آخر بين الحامل لهم على الوقوع في ممثول الأول ، وهو السير بغير دليل ، الموقع في خبط العشواء كالماشي في الظلام ، فقال عاطفاً على { كسراب } قوله : { أو } للتخيير ، أي أعمالهم لكونها لا منفعة لها كسراب ، ولكونها خالية عن نور الحق { كظلمات } أو للتنويع ، فإنها إن كانت حسنة الظاهر فكالسراب ، أو قبيحة فكالظلمات ، أو للتقسيم باعتبار وقتين كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة { في بحر } هو مثال قلب الكافر { لجي } أي ذي لج هو اللج ، إشارة إلى أنه عميق لا يدرك له قرار ، لأن اللج معظم الماء ، ويكون جمع لجة أيضاً ، والأوفق هنا أن يكون منسوباً إلى الجمع ، لأنه أهول ، والمقام للتهويل ، قال القزاز في ديوانه : ولجة البحر معروفة وهو المرضع الذي لا ترى منه أرضاً ولا جبلاً ، وبحر لجي : واسع اللجة ، وجمع اللجة لجج ولج . { يغشاه } أي يغطي هذا البحر ويعلوه ، أو يلحق الكائن فيه { موج } وهو مثل ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة ، كائن { من فوقه } أي هذا الموج { موج } آخر { من فوقه } أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول { سحاب } قد غطى النجوم ، وهو مثال الرين والختم والطبع على القلب ، فلا سماء تبصر ولا أرض .
ولما كان هذا أمراً مهولاً ، أشار إلى هوله وتصويره بقوله : { ظلمات } أي من البحر والموجين والسحاب { بعضها } . ولما كان المراد استغراق الجهة ، لم يثبت الجار فقال : { فوق بعض } متراكمة ، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر ، ولذلك قال : { إذا أخرج } أي الكائن في هذا البحر بدلالة المعنى وإن لم يجر له ذكر { يده } وهي أقرب شيء إليه { لم يكد } أي الكائن فيه { يراها } أي يقرب من ذلك فضلاً عن أن يكون ، لأن الله قد ستر عنه كل نور بهذه الظلمات المتكاثفة ، وهو مثال لعمله وأنه عدم لما تقدم من أن العدم كله ظلمة ، فلا عمل له يكون شيئاً ولا يقرب من ذلك لأنه لا أهلية له بوجه { ومن لم يجعل الله } أي الملك الأعظم { له نوراً } من الأنوار ، وهو قوة الإيجاد والإظهار { فما له من نور* } أصلاً ، لأنه سبحانه يستر نوره وإن كان ملء السماوات والأرض عمن يشاء بحجب الأهوية ، لأنه قادر على ما يريد .
ولما كان قيام الأمور ، وظهورها كل ظهور ، إنما هو بالنور ، حساً بالإيجاد ، ومعنى بجعل الموجودات آيات مرئيات تدل على موجدها ، قال تعالى دالاً على ما أخبر به من أنه وحده نور السماوات والأرض ، أي موجدهما بعلمه وقدرته ومن أن من كساه من نوره فإن في يوم البعث الذي يجازي فيه الخلق على ما يقتضيه العلم الذي هو النور في الحقيقة من مقادير أعمالهم ، ومن أعراه من النور هلك : { ألم تر } أي تعلم يا رأس الفائزين برتبة الإحسان علماً هو في ثباته كما بالمشهادة { أن الله } الحائز لصفات الكمال { يسبح له } أي ينزه عن كل شائبة نقص لأجله خاصة بما له فيه من القدرة الكاملة { من في السماوات } .

ولما كان مبنى السورة على شمول العلم والقدرة لم يؤكد فقال : { والأرض } أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله ، أو آلة مقاله ، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل ، وعبر ب « من » لأن المخبر به من وظائف العقلاء .
ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب ، قال مخصصاً : { والطير صافات } أي باسطات أجنحتها في جو السماء ، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله ، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة ، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته .
ولما كان العلم يوصف به ما هو سبب كالكتاب المصنف ونحوه ، ويشتق للشيء اسم فاعل مما لابسه كما يقال : ليله قائم ، ونهاره صائم ، { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } [ المائدة : 13 ] وكانت أسطر القدرة مجودة على كل كائن ، شديدة الوضوح في صفحات كل شيء ، فكانت الكائنات بذلك دالة على خالقها وما له من كل صفة كمال ، صح إطلاق العلم عليها وإسناده إليها فقال : { كل } أي من المخلوقات { قد علم } أي بما كان سبباً له من العلم بما فيه من الآيات الدالة المعلمة بما لموجده من صفات الكمال { صلاته } أي الوجه الذي به وصلته بمولاه ونسبته إليه { وتسبيحه } أي الحال الذي به براءة صانعه من الشين وتعاليه عن النقص ، وقد صرحت بذلك ألسن أحوالها ، نيابة عن بيان مقالها ، هذا بقيامه صامتاً جامداً ، وهذا بنموه مهتزاً رابياً ، إلجاء وقهراً ، وهذا بحركته بالإرادة ، وقصد وجوه منافعه ، وبعده عن أحوال مضاره بمجرد فطرته وما أودع في طبيعته ، وهذا بنطقه وعقله ، ونباهته وفضله ، مع أن نسبة كل منهم إلى الأرض والسماء واحدة ، ويدل على ذلك دلالة واضحة ما روى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن « النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحاً عليه السلام أوصى ابنه عند موته بلا إله إلا الله ، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن حلقة مبهمة قصمتهن ، وسبحان الله وبحمده ، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق وقال الغزالي في الإحياء : وروي » أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : تولت عني الدنيا وقلت ذات يدي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبها يرزقون » ، قال فقلت : وما هي يا رسول الله؟ قال : « سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح ، تأتيك الدنيا راغمة صاغرة ، ويخلق الله من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه »

قال الحافظ زين الدين العراقي : رواه المستغفري في الدعوات عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال : غريب من حديث مالك ، ولا أعرف له أصلاً من حديث مالك « .
ولما كان التقدير : فالله قدير على جميع تلك الشؤون ، عطف عليه قوله : { والله } أي المحيط علماً وقدرة { عليم بما يفعلون* } بما ثبت مما أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم ، وضمائركم وأفعالكم ، وقد تقدم في الأعراف عند { أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } [ الأعراف : 185 ] ما ينفع هنا .
ولما أخبر عما في الكونين بما يستلزم الملك على أنهى وجوه التمام المستلزم للقدرة على البعث ، أخبر عنهما بالتصريح به فقال : { ولله } أي الذي لا ملك سواه { ملك السماوات والأرض } مع كونه مالكاً مسخراً مصرفاً لجميع ذلك ، فهو جامع للملك والملك .
ولما كان التقدير : ومن الله المبدأ للكل بالإيجاد من العدم ، عطف عليه قوله : { وإلى الله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء { المصير* } أي لهم كلهم بعد الفناء ، وإنما طوي هذا المقدر لأنه لا خلف فيه .
ولما أخبر بذلك فتقرر ملكه وقدرته على البعث على حسب ما وعد به بعد أن تحرر ملكه ، دل عليه بتصرفه في العالم العلوي والسفلي بما يدل على القدرة على الإعادة فقال : { ألم تر أن الله } أي ذا الجلال والجمال { يزجي } أي يسوق بالرياح ، وسيأتي الكلام عليها في النمل؛ وقال أبو حيان : إن الإزجاء يستعمل في سوق الثقل برفق . { سحاباً } أي بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل ، وتارة من العلو ، ضعيفاً رقيقاً متفرقاً ، قال أبو حيان : وهو اسم جنس واحده سحابة ، والمعنى : يسوق سحابة إلى سحابة . وهو معنى { ثم يؤلف بينه } أي بين أجزائه بعد أن كانت قطعاً في جهات مختلفة { ثم يجعله ركاماً } في غاية العظمة متراكباً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة { فترى } أي في تلك الحالة المستمرة { الودق } أي المطر ، قال القزاز : وقيل : هو احتفال المطر . { يخرج من خلاله } أي فتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض { وينزل من السماء } أي من جهتها مبتدئاً من { من جبال فيها } أي في السماء ، وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال؛ وبعض فقال : { من برد } هو ماء منعقد؛ وبين أن ذلك بإرداته واختياره بقوله : { فيصيب به } أي البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة { من يشاء } من الناس وغيرهم { ويصرفه عمن يشاء } صرفه عنه؛ ثم نبه على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النار التي ربما نزلت منها صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار فقال : { يكاد سنا } أي ضوء { برقه } وهو اضطراب النور في خلاله { يذهب } أي هو ، ملتبساً { بالأبصار* } لشدة لمعه وتلألئه ، فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر ، ونذيراً بنزول الصواعق؛ ثم ذكر ما هو أدل على الاختيار ، فقال مترجماً لما مضى بزيادة : { يقلب الله } أي الذي له الأمر كلهه بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاماً ، والنقص تارة والزيادة أخرى ، مع المطر تارة والصحو أخرى { الليل والنهار } فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والينوع واليبس ما يبهر العقول؛ ولهذا قال منبهاً على النتيجة : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم { لعبرة لأولي الأبصار* } أي النافذة ، والقلوب الناقدة ، يعبرون منها إلى معرفة ما لمدبر ذلك من القدرة التامة والعلم الشامل الدال قطعاً على الوحدانية .

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)

ولما ذكر أولاً أحوال الخافقين دليلاً على وحدانيته ، وفصل منها الآثار العلوية ، فذكر ما يسقي الأرض ، وطوى ذكر ما ينشأ عنه من النبات للعلم به ، ذكر أحوال ما يتكون به من الحيوانات دليلاً ظاهراً على الإعادة ، وبرهاناً قاهراً على المنكرين لها فقال : { والله } أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة { خلق كل دآبة } أي مما تقدم أنه يسبح له .
ولما ذكر أنواعاً من الحيوان ، نكر بخلاف ما في الأنبياء فقال : { من ماء } أي دافق هو أعظم أجزاء مادته كما خلق النبات من ماء « هامر » كذلك ، وفاوت بينه مع كون الكل من الماء الهامر الذي لا تفاوت فيه { فمنهم } أي الدواب .
ولما كان في سياق التعظيم ، وكان قد آتى كل نفس من الإدراك ما تعرف به منافعها ومضارها ، عبر عن الكل بأداة من يعقل وإن كانوا متفاوتين في التمييز فقال : { من يمشي على بطنه } أي من غير رجل؛ وقدم هذا لكونه أدل على القدرة ، وسماه مشياً استعارة ومشاكلة { ومنهم من يمشي على رجلين } أي ليس غير { ومنهم من يمشي على أربع } أي من الأيدي والأرجل ، وفي هذا تنبيه على من يمشي على أكثر من ذلك ، وإليه الإشارة بقوله : { يخلق الله } وعبر باسم الجلالة إعلاماً بتناهي العظمة؛ وقال : { ما يشاء } دلالة على أنه فعله بقدرته واختياره ، لا مدخل لشيء غير ذلك فيه إلا بتقدير العزيز العليم .
ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر ، وكانوا منكرين له ، أكد قوله : { إن الله } أي الذي الكمال المطلق { على كل شيء } من ذلك وغيره { قدير* } .
ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص ، وقامت أدلة الوحدانية على ساق ، واتسقت براهين الألوهية أي اتساق ، قال مترجماً لتلك الأدلة : { لقد أنزلنا } أي في هذه السورة وما تقدمها ، بما لنا من العظمة { آيات } أي من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال { مبينات } لا خفاء في شيء منها عند أحد من الخلق ، لأن الله قد أراد هدايتكم ، بعضكم بالبيان ، وبعضكم بخلق الإذعان { والله } أي الملك الأعظم { يهدي من يشاء } من العابد كلهم { إلى صراط مستقيم* } بالقوة بإنزال الآيات ، والفعل بخلق الإيمان والإخبات ، فيؤمنون إيماناً ثابتاً .
ولما كان إخفاء هذه الآيات عن البعض بعد بيانها أعجب من ابتداء نصبها ، فكان السياق ظاهراً في أن التقدير : والله يضل من يشاء فيكفرون بالآيات والذكر الحكيم ، وكان الخروج من نورها بعد التلبس بها إلى الظلام أشد غرابة ، عطف على ما قدرته مما دل عليه السياق أتم دلالة قوله دليلاً شهودياً على ذلك مطوي ، معجباً ممن عمي عن دلائل التوحيد التي أقامها تعالى وعددها وأوضحها بحيث صارت كما ذكر تعالى أعظم من نور الشمس : { ويقولون } أي الذين ظهر لهم نور الله ، بألسنتهم فقط : { آمنا بالله } الذي أوضح لنا جلاله ، وعظمته وكماله { وبالرسول } الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما أقام عليها من الأدلة { وأطعنا } أي أوجدنا الطاعة لله وللرسول ، وعظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال : { ثم يتولى } أي يرتد بإنكار القلب ويعرض عن طاعة الله ورسوله ، ضلالاً منهم عن الحق { فريق منهم } أي ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة .

ولما كان ينبغي أن يكون وقوع الارتداد منهم - كما أشير إليه - في غاية البعد وإن كان في أقل زمن ، أشار إليه بأداة التراخي ، وأكد ذلك بقوله مثبتاً الجارّ : { من بعد ذلك } أي القول السديد الشديد المؤكد ، مع الله الذي هو أكبر من كل شيء ، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق { وما أولئك } أي البعداء البضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد { بالمؤمنين* } أي بالكاملين في الإيمان قولاً وعقداً ، وإنما هم من أهل الوصف اللساني ، المجرد عن المعنى الإيقاني .
ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم ، قبح عليهم ما أظهروه ، فقال معبراً بأداة التحقيق : { وإذا دعوا } أي الذين ادعوا الإيمان من أي داع كان { إلى الله } أي ما نصب الملك الأعظم من أحكامه { ورسوله ليحكم } أي الرسول { بينهم } بما أراه الله { إذا فريق منهم } أي ناس مجبولون على الأذى المفرق { معرضون* } أي فاجؤوا الإعراض ، إذا كان الحق عليهم ، لاتباعهم أهواءهم ، مفاجأة تؤذن بثباتهم فيه { وإن يكن } أي كوناً ثابتاً جداً { لهم } أي على سبيل الفرض { الحق } أي بلا شبهة { يأتوا إليه } أي بالرسول { مذعنين* } أي منقادين أتم انقياد لما وافق من أهوائهم لعلمهم أنه دائر مع الحق لهم وعليهم ، لا لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ولما كان سبب فعلهم هذا بعد إظهارهم الطاعة مشكلاً ، ناسب أن يسأل عنه ، فقال تعالى مبيناً له بعد التنبيه على ما يحتمله من الحالات : { أفي قلوبهم مرض } أي نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال { أم ارتابوا } بأن حدثت لهم شبهة أعمتهم عن الطريق { أم } ليس فيهم خلل لا أصلي ولا طارىء ، بل الخلل في الحاكم فهم { يخافون أن يحيف } أي يجور { الله } الغني عن كل شيء ، لأن له كل شيء { عليهم } بنصب حكم جائر وهو منزه عن الأغراض { ورسوله } الذي لا ينطق عن الهوى ، بضرب أمر زائغ وقد ثبتت عصمته عن الأدناس .
ولما لم يكن شيء من ذلك كائناً أضرب عنه فقال : { بل أولئك } أي البعداء البغضاء { هم } أي خاصة { الظالمون } أي الكاملون في الظلم ، لأن قلوبهم مطبوعة على المرض والريب ، لا أن فيها نوعاً واحداً منه ، وليسوا يخافون الجور ، بل هو مرادهم إذا كان الحق عليهم .

ولما نفى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به ، كان كأنه سئل عن حال المؤمنين فقال : { إنما كان } أي دائماً { قول المؤمنين } أي العريقين في ذلك الوصف ، وأطبق العشرة على نصب القول ليكون اسم كان أوغل الاسمين في التعريف ، وهو « أن » وصلتها لأنه لا سبيل عليه للتنكير ، ولشبهه كما قال ابن جني في المحتسب بالمضمر من حيث إنه لا يجوز وصفه كما لا يجوز وصف المضمر ، وقرأ على رضي الله عنه بخلاف وابن أبي إسحاق { قول } بارفع { إذا دعوا } أي من أي داع كان { إلى الله } أي ما أنزل الملك الذي لا كفوء له من أحكامه { ورسوله ليحكم } أي الله بما نصب من أحكامه أو الرسول صلى الله عليه وسلم بما يخاطبهم به من كلامه { بينهم } أي في حكومة من الحكومات لهم أو عليهم { أن يقولوا سمعنا } أي الدعاء { وأطعنا } أي بالإجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم . ولما كان التقدير : فأولئك هم المؤمنون ، عطف عليه قوله : { وأولئك } أي العالو الرتبة { هم } خاصة { المفلحون* } الذين تقدم في أول المؤمنون وصفهم بأنهم يدركون جميع مأمولهم .

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)

ولما رتب سبحانه الفلاح على هذا النوع الخاص من الطاعة ، أتبعه عموم الطاعة فقال : { ومن يطع الله } أي الذي له الأمر كله { ورسوله } أي في الإذعان للقضاء وغيره فيما ساءه وسره من جميع الأعمال الظاهرة { ويخش الله } أي الذي له الجلال والإكرام ، بقلبه لما مضى من ذنوبه ليحمله ذلك على كل خير ، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا وقع أحد منهم في تقصير يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : طهرني ، ويلقن أحدهم الرجوع فلا يرجع ، وفي تطهيره الإتيان على نفسه ، وقع ذلك لرجالهم ونسائهم - رضي الله عنهم أجمعين وأحياناً على منهاجهم وحشرنا في زمرتهم { ويتقه } أي الله فيما يستقبل بأن يجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية من المباحات فيتركها ورعاً .
ولما أفرد الضمائر إشارة إلى قلة المطيع ، جمع لئلا يظن أنه واحد فقال : { فأولئك } العالو الرتبة { هم الفائزون* } بالملك الأبدي ولا فوز لغيرهم .
ولما ذكر سبحانه ما رتب على الطاعة الظاهرة التي هي دليل الانقياد الباطن ، ذكر حال المنافقين فيه ، فقال عاطفاً على { ويقولون } لأنه ليس المراد منه إلا مجرد القول من غير إرادة تقييد بزمان معين : { وأقسموا } وكأنه عبر بالماضي إشارة إلى أنهم لم يسمحوا به أكثر من مرة ، لما يدل عليه من زيادة الخضوع والذل { بالله } أي الملك الذي له الكمال المطلق؛ واستعار من جهد النفس قوله في موضع الحال : { جهد أيمانهم } أي غاية الإقسام { لئن أمرتهم } أي بأمر من الأمور { ليخرجن } مما هم ملتبسون به من خلافه ، كائناً ما كان ، إلى ما أمرتهم به ، وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أينما كنت نكن معك ، إن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا - قاله البغوي . فكأنه قيل : ماذا تفعل في اختبارهم؟ فقيل : الأمر أوضح من ذلك ، فإن لكل حق حقيقة ، ولكل فعل أدلة { قل } أي لهم : { لا تقسموا } أي لا تحلفوا فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى الإقسام ، ولكن المحرك لكم إلى الخروج محبة الامتثال لا إلزام الإقسام ، وفيه إشارة إلى أنهم أهل للاتهام ، وكذا قال المتنبي :
وفي يمينك فيما أنت واعده ... ما دل أنك في الميعاد متهم
ثم علل ذلك بقوله : { طاعة } أي هذه الحقيقة { معروفة } أي منكم ومن غيركم ، وإرادة الحقيقة هو الذي سوغ الابتداء بها مع تنكير لفظها لأن العموم الذي تصلح له كما قالوا من أعرف المعارف ، ولم تعرف ب « ال » لئلا يظن أنها لعهد ذكري أو نحوه ، والمعنى أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها على شمائله ، وكذا المعصية لأنه « ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها » رواه الطبراني عن جندب رضي الله عنه ، وروى مسدد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : لو أن رجلاً دخل بيتاً في جوف بيت فأدمن هناك عملاً أوشك الناس أن يتحدثوا به ، وما من عامل عمل عملاً إلا كساه الله رداء عمله ، إن كان خيراً فخير ، وإن كان شراً فشر .

ولأبي يعلى والحاكم - وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان » ثم علل إظهاره للخبء بقوله : { إن الله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء { خبير بما تعملون* } وإن إجتهدتم في إخفائه ، فهو ينصب عليه دلائل يعرفه بها عباده ، فالحلف غير مغنٍ عن الحالف ، والتسليم غير ضار للمسلم .

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)

ولما نبه على خداعهم ، أشار إلى عدم الاغترار بإيمانهم ، وإلى قبول شهادة التوسم فيهم ، أمر بترغيبهم وترهيبهم ، مشيراً إلى الإعراض عن عقوبتهم فقال : { قل أطيعوا } أيها الذين أقروا بالإيمان { الله } أي الذي لم الكمال المطلق { وأطيعوا الرسول } أي لاذي له الرسالة المطلقة ، ظاهراً وباطناً لا كالمنافقين { فإن تولوا } أي توجد منكم التولية عن ذلك عصياناً له ولو على أدنى وجوه التولية - بما أشار إليه حذف التاء ، تضلوا فلا تضروا إلا أنفسكم ، وهو معنى قوله : { فإنما عليه } أي الرسول { ما حمل } أي من التبليغ ممن إذا حمل أحداً شيئاً فلا بد من حمله له أو حمل ما هو أثقل منه { وعليكم ما حملتم } من القبول ، وليس عليه أن يقسركم على الهداية؛ وأفهم بقوله : { وإن تطيعوه } أي بالإقبال على كل ما يأمركم به { تهتدوا } أي إلى كل خير أنه لا هداية لهم بدون متابعته؛ روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر : « من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب » قال : فقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه : عليكم بالسواد الأعظم! قال فقال رجل : ما السواد الأعظم؟ فنادى أبو أمامة هذه الآية في سورة النور { فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } .
ولما كان ما حمله الرسول صلى الله عليه وسلم مبهماً ، عينه بقوله : { وما على الرسول } أي من جهة غيره { إلا البلاغ المبين* } أي التبليغ الذي يحصل به البلاغ من غير شك ، إما بالإيضاح وحده أو مضموماً إلى السيف فما دونه من أنواع الزواجر .
ولما لاح بهذا الإذن في الكف عن قتل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين لئلا يقول الناس : إن محمداً استنصر بقوم ، فلما نصره الله بهم أقبل يقتلهم . فيمتنع من يسمع ذلك من الدخول في الإسلام ، فتكون مفسدة قتلهم أعظم من مفسدة إبقائهم ، لأن الدين لم يكن حينئذ تمكن تمكناً لا يؤثر فيه مثل ذلك ، تشوفت النفوس إلى أن هذا الحال هل يستمر؟ فجلى الله عنهما هذا الكرب بقوله : بياناً لأن تمكن الدين غير مفتقر إليهم سواء أقبلوا أو أدبروا : { وعد الله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء { الذين آمنوا } وهو مع ذلك كالتعليل لما قبله ترغيباً لمن نظر في الدنيا نوع نظر؛ وقيد بقوله : { منكم } تصريحاً بأهل القرن الأول ، ليكون ظاهراً فس إخراج المنافقين المتولين بالإعراض ، إشارة إلى أنهم لا يزالون في ذل وضعة؛ وقدم هذا القيد اهتماماً به لما ذكر بخلاف ما يأتي في سورة الفتح { وعملوا } تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } من الإذعان للأحكام وغيرها ، وأكد غاية التأكيد بلام القسم ، لما عند أكثر الناس من الريب في ذلك فقال : { ليستخلفنهم في الأرض } أي أرض العرب والعجم ، بأن يمد زمانهم ، وينفذ أحكامهم { كما استخلف } أي طلب وأوجد خلافة بإيجادهم { الذين من قبلهم } أي من الأمم من بني إسرائيل وغيرهم من كل من حصلت له مكنة ، وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد كما كتب في الزبور { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } وكما قال موسى عليه السلام : { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } { وليمكنن لهم } أي في الباطن والظاهر { دينهم } أضافة إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه وأنه أبديّ لا ينسخ { الذي ارتضى لهم } حتى يقيموا الحدود فيه من قتل وغيره على الشريف والوضيع سواء كان الواقعون في ذلك عصبة أم لا ، لا يراعون أحداً ، ولا يخافون لومة لأئم ، لأنه لا يضره إذ ذاك إدباراً مدبر كما قال صلى الله عليه وسلم عن الحرورية كافة

« إنه إن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد ، بعد أن كف عن قتل رأسهم ونهى عن قتله - وهو واحد في غزوة حنين » .
ولما بشرهم بالتمكين ، أشار لهم إلى مقداره بقوله : { وليبدلنهم } وأشار إلى عدم استغراق هذا الأمن العام لجميع الزمان بإثبات الجارّ فقال : { من بعد خوفهم } هذا الذي هم فيه الآن { أمناً } أي عظيماً بمقدار هذا الخوف ، في زمن النبوة وخلافتها؛ ثم أتبع ذلك نتيجته بقوله تعليلاً للتمكين وما معه : { يعبدونني } أي وحدي؛ وصرح بالمراد بياناً لحال العابدة النافعة بقوله : { لا يشركون بي شيئاً } ظاهراً ولا باطناً ، لأن زمانهم يكون زمن عدل ، فلا يتحابون فيه بالرغبة والرهبة ، روى الطبراني في الوسط عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم المدينة ، وآوتهم الأنصار - رضي الله عنهم أجمعين ، رمتهم العرب من قوس واحدة فنزلت { ليستخلفنهم في الأرض } الآية . ولقد صدق الله سبحانه ومن أصدق من الله حديثاً - ففتح سبحانه لهم البلاد ، ونصرهم على جبابرة العباد ، فأذلوا رقاب الأكاسرة ، واستعبدوا أبناء القياصرة ، ومكنوا شرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم ، كما قال صلى الله عليه وسلم « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها » يعرف ذلك من طالع فتوح البلاد ، وأجمعها وأحسنها النصف الثاني من سيرة الحافظ أبي الربيع بن سالم الكلاعي ، وكتاب شيخه ابن حبيش أيضاً جامع ، ولا أعلم شيئاً أنفع في رسوخ الإيمان ، بعد حفظ القرآن ، من مطالعة السير والفتوح ، وسيرة الكلاعي جامعة للأمرين ، ونظمي للسيرة في القصيدة التي أولها :

ما بال جفنك هامي الدمع هامره ... وبحر فكرك وافي الهم وافره
أجمع السير - يسر الله إكمال شرحها ، آمين .
ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه ، وخرجوا على عليّ ثم ابنه الحسن رضي الله عنهما ، نزع الله ذلك الأمن كما أشير إليه ب « من » وتنكير « أمناً » وجاء الخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم - والله المستعان .
ولما كان التقدير : فمن ثبت على دين الإسلام ، وانقاد لأحكامه واستقام ، نال هذه البشرى ، عطف عليه قوله : { ومن كفر } أي بالإعراض عن الأحكام أو غيرها؛ أو هو عطف على { يعبدونني } لأن معناه : ومن لم يعبدني .
ولما كان الفاسق الكامل إنما هو من مات على كفره فحبط عمله ، فكان بذلك كفره مستغرقاً لزمانه دون من مات مسلماً وإن كان كافراً في جميع ما مضى له قبل ذلك ، أسقط الجار فقال : { بعد ذلك } أي الاستخلاف العظيم على الوجه المشروح { فأولئك } البعداء من الخير { هم } خاصة { الفاسقون* } أي الخارجون من الدين خروجاً كاملاً ، لا تقبل معه معذرة ، ولا تقال لصاحبه عثرة ، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره ، ولا يراعى فيهم ملام ، ولا تأخذ بهم رأفة عند الانتقام ، كما تقدم في أول السورة فيمن لزمه الجلد ، ولعل الآية مشيرة إلى أهل الردة .
ولما تمت هذه البشرى ، وكان التقدير : فاعملوا واعبدوا ، عطف عليه قوله : { وأقيموا الصلاة } أي فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم ، مع أنه يصح عطفه على قوله « أطيعوا الله » فيكون من مقول { قل } { وآتوا الزكاة } فهي نظام ما بينكم وبين إخوانكم { وأطيعوا الرسول } أي المحيط بالرسالة في كل ما يأمركم به ، فإنما هو عن أمر ربكم { لعلكم ترحمون* } أي لتكونوا عند من يجهل العواقب على رجاء من حصول الرحمة ممن لا راحم في الحقيقة غيره .

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

ولما كان الكفار من الكثرة والقوة بمكان ، كان الحال جديراً بتأكيد معنى التمكين ، جواباً لسؤال من كأنه قال : وهل ذلك ممكن فقال : { لا تحسبن } أي أيها المخاطب { الذين كفروا } أي وإن زادت كثرتهم على العد ، وتجاوزت عظمتهم الحد ، فإن ذلك الحسبان ضعف عقل ، لأن الملك لا يعجزه من تحت قهره ، ويجوز أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لزيادة تحقيقه ، لأنه على قدر عظمة المخاطب يكون إنجاز الوعد { معجزين } لأهل ودنا { في الأرض } فإنهم مأخوذون لا محالة { ومأواهم } أي مسكنهم ومنزلهم بعد الأخذ { النار } . ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد الصيرورة إليه قال : { ولبئس المصير* } مصيرها! فكيف إذا كان على وجه السكنى .
ولما كان الملل من شيم النفوس ، فكان تدريج الكلام في المقاصد لا سيما الأحكام شيئاً فشيئاً خلال مقاصد أخرى أوقع في القلب ، وأشهى إلى الطبع ، لا سيما إذا كان على وجوه من المناسبات عجيبة ، وضروب من الاتصالات هي مع دقتها غريبة ، زين الله تأصيلها بتفصيلها فابتدأ السورة بطائفة منها ، وفصلها بدر الوعظ ، وجواهر الحكم ، والحث على معالي الأخلاق ، ومكارم الأعمال ، ثم وصلها بالإلهيات التي هي أصولها ، وعن علي مقاماتها تفرعت فصولها ، فلما ختمها بالتمكين لأهل هذا الدين ، وتوهين أمر المعتدين ، شرع في إكمالها ، بإثبات بقية أحوالها ، تأكيداً لما حكم به من التمكين ، وما ختمه من ذلك من التوهين ، وتحذيراً مما ختمه من العذاب المهين ، وتحقيقاً لما ألزم به من الطاعة ، ولزوم السنة والجماعة ، فقال واصلاً بما ختم به الأحكام الأولى ، من الأمر بإنكاح الأيامى ، والكف عن إكراه البغايا ، إثر الذين لم يظهروا على عورات النساء : { يا أيها الذين آمنوا } أي من الرجال والنساء ، إما للتغليب ، وإما لأن النساء أولى بحفظ العورة { ليستأذنكم } تصديقاً لدعوى الإيمان { الذين ملكت أيمانكم } من العبيد والإماء البالغين ، ومن قاربهم ، للدخول عليكم كراهة الاطلاع على عوراتكم والتطرق بذلك إلى مساءتكم { والذين } ظهروا على عورات النساء ، ولكنهم { لم يبلغوا الحلم } وقيده بقوله : { منكم } ليخرج الأرقاء والكفار { ثلاث مرّات } في كل دور ، ويمكن أن يراد : ثلاث استئذانات في كل مرة ، فإن لم يحصل الإذن رجع المستأذن كما تقدم : المرة الأولى من الأوقات الثلاث { من قبل صلاة الفجر } لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم { و } الثانية { حين تضعون ثيابكم } أي التي للخروج بين الناس { من الظهيرة } للقائلة { و } الثالثة { من بعد صلاة العشاء } لأنه وقت الانفصال من ثياب اليقظة ، والاتصال بثياب النوم ، وخص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ، ووضع الثياب ، وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه ، وأسقطها في الأوسط دلالة على استغراقه لأنه غير منضبط ، ثم علل ذلك بقوله : { ثلاث عورات } أي اختلالات في التستر والتحفظ ، وأصل العورة - كما قال البيضاوي : الخلل .

لأنه لما كانت العورة تبدو فيها سميت بها { لكم } لأنها ساعات وضع الثياب والخلوة بالأهل ، وبين حكم ما عدا ذلك بقوله مستأنفاً : { ليس عليكم } أي في ترك الأمر { ولا عليهم } يعني العبيد والخدم والصبيان ، في ترك الاستئذان { جناح } أي إثم ، وأصله الميل { بعدهن } أي في جميع ما سوى هذه الأوقات إذا هجموا عليكم؛ ثم علل الإباحة في غيرها ، مخرجاً لغيرهم ، مبيناً أن حكمة الاستئذان في كل وقت كما مضى بقوله : { طوافون عليكم } أي لعمل ما تحتاجونه في الخدمة كما أنتم طوافون عليهم لعمل ما يصلحهم ويصلحكم في الاستخدام { بعضكم } طواف { على بعض } لعمل ما يعجز عنه الآخر أو يشق عليه فلو عم الأمر بالاستئذان لأدى إلى الحرج .
ولما أعلى سبحانه البيان في هذه الآيات إلى حد يعجز الإنسان لا سيما وهي في الأحكام ، والكلام فيها يعيي أهل البيان ، وكان السامع لما جبل عليه من النسيان ، يذهل عن أن هذا هو الشأن ، في جميع القرآن ، قال مشيراً إلى عظم شأنها ، في تفريقها وبيانها : { كذلك } أي مثل هذا البيان { يبين الله } بما له من إحاطة العلم والقدرة { لكم } أيتها الأمة الخاصة { الآيات } في الأحكام وغيرها وبعلمه وحكمته { والله } الذي له الإحاطة العامة بكل شيء { عليم } بكل شيء { حكيم* } يتقن ما يريده ، فلا يقدر أحد على نقضه ، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ كما قال الشعبي وغيره - أفاده ابن كثير ، وحُكي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير .
ولما بين حكم الصبيان والأرقاء الذين هم أطوع للأمر ، وأقبل لكل خير ، أتبعه حكم البالغين من الأحرار فقال : { وإذا بلغ الأطفال منكم } أي من أحراركم { الحلم } أي السن الذي يكون فيه إنزال المني برؤية الجماع في النوم ، هذا أصله ، والمراد سن مطلق الإنزال { فليستأذنوا } على غيرهم في جميع الأوقات { كما استأذن الذين من قبلهم } على ما بين في أول الآيات القائلة { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا } ونقل ابن كثير عن يحيى بن أبي كثير وسعيد بن جبير أن الغلام إذا كان رباعياً فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه ، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال .
ولما كانت آيات الاستئذان أتقن حاسم لمواد الشر ، وتركها أعظم فاتح لأبواب الفتن ، وكان إخراج الكلام ، في أحكام الحلال والحرام ، مع التهذيب والبيان ، في النهاية من الصعوبة ، وكان فطم النفوس عما ألفت في غاية من العسر شديدة ، أشار سبحانه إلى ذلك بتكرير آية البيان ، إشارة إلى أنها - لما لها من العلو - جديرة بالتأكيد ، وإلى أن البلغاء يستبعدون القدرة على البيان كلما أريد على هذا السنن فقال : { كذلك } أي مثل ذلك البيان الذي بينه في آيات الأحكام { يبين الله } بما له من صفات الكمال { لكم } مع ما لكم من خلال النقص { آياته } أي العلامات الدالة عليه من هذه الفرعيات وما رقت إليه الأصليات ، فأضافها إليه سبحانه تعظيماً لها ، إشارة إلى أنها مقدمة للآيات الإلهيات ، لأن من لم يتفرغ من مكدرات الأفكار ، لم يطر ذلك المطار ، وحثاً على تدبر ما تقدم منها لاستحضار ما دعت إليه من الحكم ، وفصلت به من المواعظ ، وتنبيهاً على ما فيها من العلوم النافعة ديناً ودنيا ، وزاد في الترغيب في العلم والحكمة إشارة إلى أن ذلك سبب كل سعادة فقال : { والله } أي المحيط بكل شيء { عليم حكيم* } روى الطبراني وغيره

« عن أنس رضي الله عنه قال : لما كانت صبيحة احتلمت دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أني قد احتلمت ، فقال : » لا تدخل على النساء « ، فما أتى عليّ يومٌ كان أشد منه » .
ولما ذكر سبحانه اقتبال الشباب ، في تغيير حكم الحجاب ، أتبعه الحكم عند إدبار الشباب ، في إلقاء الظاهر من الثياب ، فقال : { والقواعد } وحقق ألمر بقوله : { من النساء } جمع قاعد ، وهي التي قعدت عن الولد وعن الحيض كبراً وعن الزوج . ولما كان هذا الأخير قطبها قال : { اللاتي لا يرجون نكاحاً } أي لعدم رغبتهن فيه أو لوصولهن إلى حد لا يرغب فيهن معه { فليس عليهن جناح } أي شيء من الحرج في { أن يضعن ثيابهن } أي الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال بدليل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه { من ثيابهن } قال أبو صالح : تضع الجلباب ، وهو ما يغطي ثيابها من فوق كالملحفة ، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار { غير متبرجات بزينة } أي متعمدات - بوضع ما أبيح لهن وضعه إظهار وجوههن مع الزينة ، أو غير متظاهرات بالزينة ، قال في الجمع بين العباب والمحكم : تبرجت المرأة : أظهرت وجهها . وفي القاموس : تبرجت : أظهرت زينتها للرجال - انتهى . ومادة برج تدور على الظهور كما مضى في الحجر؛ وقال البيضاوي : وأصل البرج التكلف في إظهار ما يخفى - انتهى . وكأنه أشير بصيغة التفعل إلى أن ما ظهر منها من وجهها أو زينتها عفواً غير مقصود به الفساد لا حرج فيه .
ولما ذكر الجائز ، وكان إبداء الوجه داعياً إلى الريبة ، أشار إليه بقوله ذاكراً المستحب ، بعثاً على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها : { وأن يستعففن } أي يطلبن العفة بدوام الستر وعدم التخفف بإلقاء الجلباب والخمار { خير لهن } من الإلقاء المذكور .
ولما كان ما ذكر من حالهن من الخلطة على ذلك الوصف معلوماً أنه لا يخلو عن كلام ، كان التقدير : فالله في وضع الحرج عنهن رؤوف بهن رحيم ، عطف عليه قوله : { والله } أي الذي له جميع صفات الكمال { سميع } أي لكلامهن إذا خاطبن الرجال هل يخضعن فيه ويتصنعن في ترخيم الصوت به أو يلقينه على الحالة المعروفة غير المنكرة { عليم* } بما يقصدن به وبكل شيء .

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

ولما أتم سبحانه ما ذكر من حرمات البيوت المستلزمة لصيانة الأبضاع على وجه يلزم منه إحراز الأموال ، أتبعه ما يباح من ذلك للأكل الذي هو من أجلّ مقاصد الأموال اجتماعاً وانفراداً ، فقال في جواب من كأنه سأل : هل هذا التحجير في البيوت سارٍ في الأقارب وغيرهم في جميع الأحوال؟ : { ليس على الأعمى حرج } أي في مؤاكلة غيره وما يأتي من الأحكام ، وإن كره غيره أكله لمد يده كيفما اتفق فإنه مرحوم ، والاستئذان من أجل البصر { ولا على الأعرج } الذي لايرجى { حرج } وإن تقذر منه بعض المترفين فإنه يجامعه في أنه يرحم لنقصه { ولا على المريض } أي مرضاً يرجى بعرج أو غيره { حرج } كذلك لمرضه ، وأخره لرجاء برئه { ولا على أنفسكم } أي ولا على غير من ذكر ، وعبر بذلك تذكيراً بأن الكل من نفس واحدة { أن تأكلوا من بيوتكم } أي التي فيها عيالكم ، وذكرها سبحانه لئلا يحصل من تركها لو تركها ريبة ، وليدخل فيها بيوت الأولاد لأنهم من كسب الأب « أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه » « أنت ومالك لأبيك » { أو بيوت آبائكم } وإن بعدت أنسابكم - ولعله جمع لذلك - فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم { أو بيوت أمهاتكم } كذلك ، وقدم الأب لأنه أجل وهو حاكم بيته دائماً والمال له { أو بيوت إخوانكم } من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع ، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين ، لأنهم أشقاؤكم ، وهم أولياء بيوتهم { أو بيوت أخواتكم } فإنهن بعدهم ، من أجل أن ولي البيت - إذا كن مزوجات - الزوج { أو بيوت أعمامكم } فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو لأب أو أم ، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط فإنه أحق بالاسم { أو بيوت عماتكم } فهن بعد الأعمام لضعفهن ، ولأنه ربما كان أولياء بيوتهن الأزواج { أو بيوت أخوالكم } لأنهم شقائق أمهاتكم { أو بيوت خالاتكم } أخرهن لما ذكر { أو ما ملكتم مفاتحه } أي التصرف فيه بوجه من الوجوه كالوكالة { أو صديقكم } الذي تعرفون رضاه بذلك ولو بقرينة كما هو الغالب ، ولذلك أطلقه ، وإن لم يكن أمكنكم من مفتاحه بل كان عياله فيه ، كل ذلك من غير إفساد ولا حمل ولا ادخار ، وقد عدل الصديق هنا بالقريب ، تنبيهاً على شريف رتبة الصداقة ولطيف سرها ، وخفيف أمرها ، وأفرده لعزته؛ وعن جعفر بن محمد : من عظم حرمة الصديق أن جعله كالنفس والأب ومن معه . قال الأصبهاني : وقالوا : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح ، وبما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل .

ولما ذكر معدن الأكل ، ذكر حاله فقال : { ليس عليكم جناح } أي شيء من الإثم الذي من شأنه أن يميل بصاحبه عن السواء في { أن تأكلوا جميعاً } أي مجتمعين وإن كان بينكم ناقص الخلقة ، لأن من كان معرضاً للآفات جدير بأن يرحم المبتلى ، فلا يستقذره حذراً من انعكاس الحال .
ولما رغب في أول الإسلام - لما كان فيه أكثر الناس من الضيق - في المؤاساة ، والاجتماع مع الضيوف ، ترغيباً ظن به الوجوب ، مع ما كانوا عليه من الكرم الباعث على الجود والاجتماع للأنس بالمحتاج ، خفف عنهم بقوله : { أو أشتاتاً } أي متفرقين لغير قصد الاستقذار ، والترفع والإضرار ، وإن كان الأكل في جماعة أفضل وأبرك - كما يفهمه تقديمه ، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده « أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نأكل ولا نشبع ، قال : » فلعلكم تأكلون متفرقين؟ اجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه « » ولابن ماجه عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة » .
ولما ذكر موطن الأكل وكيفيته ، ذكرالحال التي يكون عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها ، فقال مسبباً عما مضى من الإذن ، معبراً بأداة التحقيق ، بشارة بأنهم يطيعون بعد أن كانوا تحرجوا من ذلك حين أنزل تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ النساء : 29 ] : { فإذا دخلتم } أي بسبب ذلك أو غيره { بيوتاً } أي مأذوناً فيها ، أيّ بيوت كانت مملوكة أو لا ، مساجد أو غيرها { فسلموا } عقب الدخول { على أنفسكم } أي أهلها الذين هم منكم ديناً وقرباً ، وعبر بذلك ترغيباً في السلام ، والإحسان في الإكرام ، ولتصلح العبارة لما إذا لم يكن فيها أحد فيقال حينئذ « السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » فيكون من الاستعمال في الحقيقة والمجاز { تحية } مصدر من المعنى دون اللفظ ، أو أوقعوا الدعاء للمحيي بسلامة وحياة وملك بقاء { من عند الله } أي هي جديرة لتمام حسنها أن تضاف إلى من له الكمال كله سبحانه { مباركة } أي ثابتة أعظم ثبات بكونها موافقة لما شرع الله من خالص قلوبكم { طيبة } تلذذ السمع؛ ثم وصف البيان ، تنبيهاً على ما في هذه الآيات من الحسن والإحسان ، فقال مستأنفاً كما مر غير مرة : { كذلك } أي مثل هذا البيان ، العظيم الشأن { يبين الله } أي المحيط بكل شيء { لكم الآيات } التي لا أكمل منها .
ولما كان الله تعالى ، بعلمه وحكمته ، وعزه وقدرته ، ولطفه وخبرته ، قد خلق عقلاً نيراً يهدي إلى الحق ، وإلى طريق مستقيم ، وقسمه بين عباده ، وخلق فيهم أنواعاً من العوائق لذلك العقل عن النفوذ على سمت الاستقامة ، من الهوى والكسل ، الفتور والملل ، جعلها حجباً تحجبه عن النفوذ ، وتستر عنه المدارك ، و تمنعه من البلوغ ، إلا برياضات ومجاهدات تكل عنها القوى ، وتضعف عندها العزائم ، فلا يكاد الماهر منهم يرتب قياساً صحيحاً ، لغلطه في المقدمات ، فتكون النتيجة حينئذ فاسدة القاعدة ، واهية الأساس ، فكانوا لا يزالون لذلك مختلفين ، حتى يوصلهم الاختلاف إلى الإحن ، والمشاجرة والفتن ، فيجرهم إلى السيف وذهاب النفوس تلف الأرواح ، فأنزل سبحانه لهم في كل وقت شرعاً يليق بذلك الزمان على لسان رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام ، جعل ذلك الشرع يطابق العقل السوي ، والنور الضوي ، والمنهل الروي ، والسبب القوي ، من تمسك به هدي ولم يزغ ، حد فيه سبحانه حدوداً ، وأقام فيه زواجر ، لتظهر حكمته ، ويتضح علمه وقدرته ، فصارت شرائع متفقة الأصول ، مختلفة الفروع ، بحسب الأزمنة ، إشارة إلى أن الفاعل في تغيير الأحكام بحسب الأزمان واحد مختار ، وامتحاناً للعباد ، تمييزاً لأهل الصلاح منهم من أهل الفساد ، وكانت الإغارة على شيء من الأعراض والأموال على غير ما أذن فيه تُذهب العقول ، وتعمي البصائر ، ختم الآية بقوله : { لعلكم تعقلون* } أي لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من ثبات هذا الوصف لكم ، وهو ضبط النفوس وردها عن الأهوية ، باتباع آيات الشرع التي أنزلها الذي كرر وصفه هنا بأنه عليم حكيم ، فلا تتولوا بعد قولكم

{ سمعنا وأطعنا } [ المائدة : 7 ] عن الإذعان للأحكام وأنتم معرضون .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

ولما كان سبحانه قد نفى عنهم الإيمان بالتولي عن الأحكام ، وتلاه بما رأيت أن تظمه أحسن نظام ، حتى ختم بما أومأ إلى أن من عمي عن أحكامه بعد هذا البيان مسلوب العقل ، وكرر في هذه السورة ذكر البيان ، تكريراً أشار إلى لمعان المعاني بأمتن بنان حتى صارت مشخصات للعيان ، وبين من حاز وصف الإيمان ، بحسن الاستئذان ، وكان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أجلّ موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان ، فتصير الأرض برحبها ضيقة لأجله ، محظوراً سلوكها مِن جرّاه ، بمنزلة بيت الغير الذي لا يحل دخوله بغير إذن ، قال معرفاً بذلك على طريق الحصر مقابلاً لسلب { وما أولئك بالمؤمنين } [ المائدة : 43 ] مبيناً عظيم الجناية في الذهاب عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم المقتضي للجمع من غير إذن : { إنما المؤمنون } أي الكاملون الذين لهم الفلاح { الذين آمنوا بالله } أي الملك الأعلى { ورسوله } ظاهراً وباطناً .
ولما كان الكلام في الراسخين ، كان الموضع لأداة التحقيق فقال : { وإذا } أي وصدقوا إيمانهم بأنهم إذا { كانوا معه } أي الرسول صلى الله عليه السلام { على أمر جامع } أي لهم على الله ، كالجهاد لأعداء الله ، والتشاور في مهم ، وصلاة الجمعة ، ونحو ذلك { لم يذهبوا } عن ذلك الأمر خطوة إلى موضع من الأرض ولو أنه بيوتهم ، لشيء من الأشياء ولو أنه أهم مهماتهم ، لأنه أخذ عليهم الميثاق بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره { حتى يستأذنوه } فيأذن لهم ، لأن المأمور به قد صار منزلهم ومأواهم ومتبوأهم ، وصار كل ما سواه من الأماكن والأمور له عليه الصلاة والسلام دونهم ، لا حظ لهم فيه ، فلا يحل لهم أن يدخلوه حساً أو معنى إلا بإذنه ، وهذا من عظيم النتبيه على عليّ أمره ، وشريف قدره ، وذلك أنه سبحانه كما أمرهم بالاستئذان عند الدخول عليه وعلى غيره ، أفرده بأمرهم باستئذانه عند الانصراف عنه صلى الله عليه وسلم ، وجعل رتبة ذلك تالية لرتبة الإيمان بالله والرسول ، وجعلهما كالتسبيب له مع تصدير الجملة بأداة الحصر ، وإيقاع المؤمنين في مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت وصلته بالرتب الثلاث شرحاً له .
ولما نفى عن المؤمنين الذهاب إلى غاية الاستئذان ، فأفهم أن المستأذن مؤمن ، صرح بهذا المفهوم ليكون آكد ، فقال تشديداً في الإخلال بالأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم ، وتأكيداً لحفظ حرمته والأدب معه لئلا يتشوش فكره في أسلوب آخر ، وبياناً لأن الاستئذان مصداق الإيمان : { إن الذين يستأذنونك } أي يطلبون إذنك لهم إذا أرادوا الانصراف ، في شيء من أمورهم التي يحتمل أن تمنع منها { أولئك } العالو الرتبة خاصة { الذين يؤمنون } أي يوجدون الإيمان في كل وقت { بالله } الذي له الأمر كله فلا كفوء له { ورسوله } وذلك ناظم لأشتات خصال الإيمان .

ولما قصرهم على الاستئذان ، تسبب عن ذلك إعلامه صلى الله عليه وسلم بما يفعل إذ ذاك فقال : { فإذا استأذنوك } أي هؤلاء الذين صحت دعواهم؛ وشدد عليهم تأكيداً لتعظيم الأدب معه صلى الله عليه وسلم بقوله : { لبعض شأنهم } وهو ما تشتد الحاجة إليه { فأذن لمن شئت منهم } قيل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة فمن اراد أن يخرج لعذر قام بحياله فيعرف أنه يستأذن فيأذن لمن شاء ، قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده ، وقيل : كذلك ينبغي أن يكون الناي مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم لا يخذلونهم في نازلة من النوازل .
ولما أثبت له بهذا التفويض من الشرف ما لا يبلغ وصفه ، أفهمهم أن حال المستأذن قاصرة عن حال المفوض الملازم كيفما كانت ، فقال : { واستغفر لهم الله } أي الذي له الغنى المطلق ، فلا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، أو يكون الكلام شاملاً لمن صحت دعواه وغيره؛ ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار ، وتطييباً لقلوب أهل الأوزار ، بقوله : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي له هذا الوصف فهو جدير بأن يغفر لهم ما قصروا فيه { رحيم* } أي فكل ما أمرهم به فهو خير لهم وإن تراءى لهم خلافه .
ولما أظهرت هذه السورة بعمومها ، وهذه الآيات بخصوصها ، من شرف الرسول ما بهر العقول ، لأجل ما وقع للمنافق من التجرؤ على ذلك الجناب الأشم ، والمنصب الأتم ، وعلم منه أن له صلى الله عليه وسلم في كل أمره وجميع شأنه خصوصية ليست لغيره ، صرح بذلك تفخيماً للشأن ، وتعظيماً للمقام ، ليتأدب من ناضل عن المنافق ، أو توانى في أمره فقصر عن مدى أهل السوابق ، فقال منبهاً على أن المصائب سبب لإظهار المناقب أو إشهار المعايب { لا تجعلوا } أي ايها الذين آمنوا { دعاء الرسول } أي لكم الذي يوقعه { بينكم } ولو على سبيل العموم ، في وجوب الامتثال { كدعاء بعضكم بعضاً } فإن أمره عظيم ، ومخالفته استحلالاً كفر ، ولا تجعلوا أيضاً دعاءكم إياه كدعاء بعضكم لبعض بمجرد الاسم ، بل تأدبوا معه بالتفخيم والتبجيل والتعظيم كما سن الله بنحو : يا ايها النبي ، ويا أيها الرسول ، مع إظهار الأدب في هيئة القول الفعل بخفض الصوت والتواضع .
ولما كان بعضهم يظهر المؤالفة ، ويبطن المخالفة ، حذر من ذلك بشمول علمه وتمام قدرته ، فقال معللاً مؤكداً محققاً معلماً بتجديد تعليق العلم الشهودي كلما جدد أحد خيانة لدوام اتصافه بإحاطة العلم من غير نظر إلى زمان : { قد يعلم الله } أي الحائز لجميع صفات المجد إن ظننتم أن ما تفعلونه من التستر يخفي أمركم على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو سبحانه يعلم { الذين يتسللون } وعين أهل التوبيخ بقوله : { منكم } أي يتكلفون سلَّ أنفسهم ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء { لواذاً } أي تسللاً مستخفين به بتستر بعضهم فيه ببعض؛ يقال : لاذ بالشيء لوذاً ولواذاً وملاوذة : استتر وتحصن ، فهو مصدر لتسلل من غير لفظه ، ولعله أدخل « قد » على المضارع ليزيد أهل التحقيق تحقيقاً ، ويفتح لأهل الريب إلى الاحتمال طريقاً ، فإنه يكفي في الخوف من النكال طروق الاحتمال؛ وسبب عن علمه قوله : { فليحذر } أي يوقع الحذر { الذين يخالفون } أي يوقعون مخالفته بالذهاب مجاوزين معرضين { عن أمره } أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى خلافه { أن تصيبهم فتنة } أي شيء يخالطهم في الدنيا فيحل أمورهم إلى غير الحالة المحبوبة التي كاونوا عليها { أو يصيبهم عذاب أليم* } في الآخرة ، وهذا يدل على أن الأمر للوجوب حتى يصرف عنه صارف ، لترتيب العقاب على الإخلال به ، لأن التحذير من العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب .

ولما أقام سبحانه الأدلة على أنه نور السماوات والأرض بأنه لا قيام لشيء إلا به سبحانه ، وختم بالتحذير لكل مخالف ، أنتج ذلك أن له كل شيء فقال : { ألا إن لله } اي الذي له جميع المجد جميع { ما في السماوات } ولثبوت أنه سبحانه محيط العلم والقدرة ، لم يقتض المقام التأكيد بإعادة الموصول فقال : { والأرض } أي من جوهر وعرض ، وهما له أيضاً لأن الأرض في السماء ، وكل سماء في التي فوقها حتى ينتهي ذلك إلى العرش الذي صرح في غير آية أنه صاحبه ، وهو سماء أيضاً لعلوه عما دونه ، فكل ما فيه له ، وذلك أبلغ - لدلالته بطريق المجاز - مما لو صرح به ، فدل ذلك - بعد الدلالة على وجوده - على وحدانيته ، وكمال علمه وقدرته .
ولما كانت أحوالهم من جملة ما له ، كان من المعلوم أنها لم تقم في أصلها ولا بقاء لها إلا بعلمه ولأنها بخلقه ، فلذلك قال محققاً مؤكداً مرهباً : { قد يعلم ما أنتم } أيها الناس كلكم { عليه } أي الآن ، والمراد بالمضارع هنا وجود الوصف من غير نظر إلى زمان ، ولو عبر بالماضي لتوهم الاختصاص به ، والكلام في إدخال « قد » عليه كما مضى آنفاً باعتبار أولي النفوذ في البصر ، وأهل الكلال والكدر { ويوم } أي ويعلم ما هم عليه يوم { يرجعون } أي بقهر قاهر لهم على ذلك ، لا يقدرون له على دفاع ، ولا نوع امتناع { إليه } وكان الأصل : ما أنتم عليه ، ولكنه أعرض عنهم تهويلاً للأمر ، أو يكون ذلك خاصاً بالمتولين المعرضين إشارة إلى أنهم يناقشون الحساب ، ويكون سر الالتفاف التنبيه على الإعراض عن المكذب بالقيامة ، والإقبال على المصدق ، صوناً لنفيس الكلام ، عن الجفاة الأغبياء اللئام { فينبئهم } أي فيتسبب عن ذلك أنه يخبرهم تخبيراً عظيماً { بما عملوا } فليعدوا لكل شيء منه جواباً { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { بكل شيء } من ذلك وغيره { عليم* } فلذلك أنزل الآيات البينات ، وكان نور الأرض والسماوات ، فقد رد الختام على المبدأ ، والتحم الآخر بالأول والاثنا - والله الهادي .

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)

{ تبارك } أي ثبت ثبوتاً مع اليمن والخير الذي به سبقت الرحمة الغضب ، والتعالي في الصفات والأفعال ، فلا ثبوت يدانيه ، ولا يكون ذلك كذلك إلا بتمام قدرته ، ولا تتم قدرته إلا بشمول علمه ، وهذا الفعل مطاوع « بارك » وهو مختص بالله تعالى لم يستعمل لغيره ، ولذلك لم ينصرف لمستقبل ولا اسم فاعل؛ ثم وصف نفسه الشريفة بما يدل على ذلك فقال : { الذي } .
ولما كان تكرار الإنذار - الذي هو مقصود السورة - أنفع ، وتفريقه في أوقات متراسلة أصدع للقلوب وأردع ، وكان إيضاح المشكلات ، في الفرق بين الملتبسات ، أعون بما يكون علة ، عبر بما يدل على الفرق وقدمه فقال : { نزل الفرقان } أي الكتاب الذي نزل إلى سماء الدنيا فكان كتاباً ، ثم نزل مفرقاً بحسب المصالح ، فسمي لذلك فرقاناً ، ولأنه الفارق بين ملتبس ، فلا يدع خفاء إلا بينه ، ولاحقاً إلا أثبته ، ولا باطلاً إلا نفاه ومحقه ، فيه انتظام الحياة الأولى والأخرى ، فكان قاطعاً على علم منزله ، ومن علمه الباهر إنزاله { على عبده } أي الذي لا أحق منه بإضافته إلى ضميره الشريف ، لأنه خالص له ، لا شائبة لغيره فيه أصلاً ، ولم يحز مخلوق ما حاز من طهارة الشيم ، وارتفاع الهمم ، ولا شك أن الرسول دال على مرسله في مقدار علمه ، وكثرة جنده ، واتساع ملكه { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] ثم علل إنزاله عليه بقوله : { ليكون } أي العبد أو الفرقان .
ولما كان العالم ما سوى الله ، وكان ربما ادعى مدع أن المراد البعض ، لأنه قد يطلق اللفظ على جزء معناه بدلالة التضمن ، وكان الجمع لا بد أن يفيد ما أفاده المفرد بزيادة ، جمع ليعرف أن المراد المدلول المطابقي ، مع التصريح باستغراق جميع الأنواع الداخلة تحت مفهوم المفرد ، واختار جمع العقلاء تغليباً ، إعلاماً بأنهم المقصودون بالذات فقال : { للعالمين } أي المكلفين كلهم من الجن والإنس والملائكة .
ولما كان كل من الكتاب والمنزل عليه بالغاً في معناه ، عبر بما يصح أن يراد به المنذر والإنذار على وجه المبالغة فقال : { نذيراً* } أي وبشيراً ، وإنما اقتصر على النذارة للإشارة إلى البشارة بلفظ { تبارك } ولأن المقام لها ، لما ختم به تلك من إعراض المتولين عن الأحكام ، ونفى الإيمان عنهم بانتفاء الإسلام ، وفيه إشارة إلى كثرة المستحقين للنذارة ، ولا التفات إلى من قال : إن الرازي والبرهان النسفي نقلا الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرسل الملائكة ، فإن عبارة الرازي في بعض نسخ تفسيره : لكنا أجمعنا على أنه لم يرسل إلى الملائكة ، وفي أكثر النسخ : بينا - بدل : أجمعنا ، على أنه لو اتفقت جميع النسخ عليها لم تضر ، لأنها غير صريحة في إرادة الإجماع ، ولأن الإجماع لا يثبت بنقل واحد لا سيما في مثل هذا الذي تظافرت الظواهر على خلافه ، ولم يرد مانع منه ، وأما البرهان النسفي فمن الرازي أخذ ، وعبر بعبارته ، فصارا واحداً ، وقد بينت ذلك عند قوله تعالى في سورة الأنعام

{ لأنذركم به ومن بلغ } [ الأنعام : 19 ] بياناً شافياً لا ارتياب معه ، بل ولو قيل : إن الآية على ظاهرها ، لا خصوص فيها بالعقلاء ، وتكليف كل شيء بحسبه ، لكان وجهاً ، وبذلك صرح الإمام تاج الدين السبكي في أول الترشيح في قوله : « وأصلي على نبيه محمد المصطفى المبعوث إلى كل شيء » وكذلك المحب الطبري في آخر « القرى لقاصدي أم القرى » وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ما دعا جامداً ولا متحركاً غير الإنسان إلا أجابه بما هو مقتضى { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها } [ الأحزاب : 72 ] دعا غير مرة عدة من أغصان الأشجار فأتته تسجد له ، ثم أمرها بأن ترجع إلى مكانها ففعلت؛ ودعا الضب وغيره من الحيوانات العجم فأطاعته؛ ودعا الأشجار غير مرة فسمعت وسعت إليه؛ وأمر الجبل لما رجف فأذعن؛ وأرسل إلى نخل وأحجار يأمرهن بالاجتماع ليقضي إليهن حاجة ففعلن ، ثم أرسل يأمرهن بالرجوع إلى أماكنهن فأجبن؛ وغمز الأرض فنبع منها الماء؛ وأرسل سهمه إلى البئر فجاشت بالرواء - إلى غير ذلك مما هو مضمن في دلائل النبوة ، بل ولا دعا طفلاً رضيعاً إلا شهد له لكونه على الفطرة الأولى - إلى غير ذلك مما هو دال على ظاهر الآية المقتضي لزيادة شرفه صلى الله عليه وسلم من غير محذور يلزم عليه ولا نص يخالفة - والله الهادي .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما تضمنت سورة النور بيان كثير من الأحكام كحكم الزنى ، ورمي الزوجات به ، والقذف ، والاستئذان ، والحجاب ، وإسعاف الفقير ، والكتابة ، وغير ذلك ، والكشف عن مغيبات ، من تغاير حالات ، تبين بمعرفتها والاطلاع عليها الخبيث من الطيب ، كاطلاعه سبحانه نبيه والمؤمنين على ما تقوله أهل الإفك ، وبيان سوء حالهم ، واضمحلال محالهم ، في قصة المنافقين في إظهارهم ضد ما يضمرون؛ ثم كريم وعده للخلفاء الراشدين { وعد الله الذين آمنوا منكم } [ المائدة : 9 ] ثم ما فضح به تعالى منافقي الخندق { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً } [ النور : 63 ] إلى آخر الآية ، فكان مجموع هذا فرقاناً يعتضد به الإيمان ، ولا ينكره مقر بالرحمن ، يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة رسالته ، ويوضح مضمن قوله { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم } [ النور : 63 ] من عظيم قدره صلى الله عليه وسلم وعليّ جلالته ، أتبعه سبحانه بقوله { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] وهو القرآن الفارق بين الحق والباطل ، والمطلع على ما أخفاه المنافقون وأبطنوه من المكر والكفر { ليكون للعالمين نذيراً } [ الفرقان : 1 ] فيحذرهم من مرتكبات المنافقين والتشبه بهم؛ ثم تناسج الكلام ، والتحم جليل المعهود من ذلك النظام ، وتضمنت هذه السورة من النعي على الكفار والتعريف ببهتهم وسوء مرتكبهم ما لم يتضمن كثير من نظائرها كقولهم

{ ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7 ] الآيات ، وقولهم { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } [ الفرقان : 21 ] وقولهم { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] وقولهم { وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] إلى ما عضد هذه وتخللها ، ولهذا ختمت بقاطع الوعيد ، وأشد التهديد ، وهو قوله سبحانه { فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً } [ الفرقان : 77 ] انتهى .
ولما تقدم ذكر منزل الفرقان سبحانه ، وذكر الفرقان والمنزل عليه على طريق الإجمال ، أتبع ذلك تفصيله على الترتيب ، فبدأ بوصف المنزل سبحانه بما هو أدل دليل على إرادة التعميم في الرسالة لكل من يريد ، فقال : { الذي له } أي وحده { ملك السماوات والأرض } فلا إنكار لأن يرسل رسولاً إلى كل من فيهما { ولم يتخذ ولداً } ليتكبر على رسوله { ولم يكن له شريك في الملك } ليناقضه في الرسالة أو يقاسمه إياها ، فيكون بعض الخلق خارجاً عن رسالته ، أو مراعياً لأمر غير أمره .
ولما كان وقوف الشيء عند حد - بحيث لا يقدر أن يتعداه إلى حد شيء آخر سواه ، فهذا حيوان لا يقدر على جعل نفسه جماداً ولا أعلى من الحيوان ، وهذا جماد لا يمكنه جعل نفسه حيواناً ولا أسفل من رتبة الجماد إلى غير ذلك مما يعجز الخلق عن شرحه دالاً على أنه مخلوق مربوب ، قال تعالى : { وخلق } أي أحدث إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية { كل شيء } أي مما ادعى فيه الولدية أو الشرك وغيره .
ولما كان قد سوى كل شيء لما يصلح له وهيأه لذلك ، قال شارحاً ومحققاً لمعنى « خلق » : { فقدره } في إيجاده من غير تفاوت { تقديراً* } أي لا يمكن ذلك الشيء مجاوزته فيما خلق لأجله وهيىء ويسر له إلى غيره بوجه من الوجوه .
ولما ذكرهم بما ركز في فطرهم من العلم ، عجب منهم لكل ذي عقل في جملة حالية فيما خالفوا ما لهم من المشاهدة ، فقال مضمراً للفاعل إشارة إل استهجان نسبة هذا الفعل إلى فاعل معين توبيخاً لهم وإرشاداً إلى المبادرة من كل سامع إلى نفيه عنه فقال : { واتخذوا } أي كلف أنفسهم عبدة الأوثان أن أخذوا .
ولما كان علوه لا يحد ، فكانت الرتب السافلة لا تحصى ، نبه على ذلك بالجار فقال : { من دونه } أي بعد ما قام من الدليل على أنه الإله وحده من الحيثيات التي تقدمت { آلهة } المتحدون مشاهدون لأنهم كما قال تعالى : { لا يخلقون شيئاً } أي لا أعجز منهم ، لا يكون منهم إيجاد شيء ، فيهم دون من عبدهم .
ولما كان المتعنت ربما ادعى أنهم مع ذلك غير مخلوقين قال : { وهم يخلقون } أي بما يشاهد فيهم من التغير والطواعية لمشيئته سبحانه ، ومن ذلك أن عبدتهم افتعلوهم بالنحت والتصوير .

ولما قرر أنه أنعم على كل شيء ، وكانت النعم أكثر وجوداً ، وكان أدنى نعمة على الشيء خلقه سبحانه له ، أخبر أن ذلك الغير لا يقدر على ضر نفسه ولا بالإعدام ، فقال معبراً بأداة العقلاء تهكماً بعابديهم حيث أقاموهم في ذلك المقام ، أو تغليباً لأنهم عبدوا الملائكة وعزيراً والمسيح عليهم السلام : { ولا يملكون } أي لا يتجدد لهم بوجه من الوجوه أن يملكوا { لأنفسهم ضراً } ولذلك قدمه ، ونكره ليعم .
فلما ثبت بذلك أنهم خلقه ، ولكن كان ربما قال متعنت : إنهم يملكون ذلك ولكنهم يتركونه عمداً ، لأن أحداً لا يريد ضر نفسه ، قال : { ولا نفعاً } أي ولو بالبقاء على حالة واحدة ، وعبدتهم يقدرون على ما أراد الله من ذلك على وجه الكسب ، فهم أعلى منهم وعبادة الأعلى لمن دونه ليست من أفعال العقلاء .
ولما كان الموت والحياة ما ليس لغيرهما من عظيم الشأن ، أعاد العامل فقال : { ولا يملكون } وقدم الموت لأن الحياة أكثر ، فقال مبتدئاً بما هو من باب الضر على نسق ما قبله : { موتاً } أي لأنفسهم ولا لغيرهم { ولا حياة } أي من العدم { ولا نشوراً* } أي إعادة لما طوي من الحياة بالموت ، وعطفها بالواو وإن كان بعضها مسبباً عما قبله إشارة إلى أن كل واحدة منها كافية في سلب الإلهية عنهم بما ثبت من العجز .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)

ولما وصف منزل الفرقان بما لا يحيط به علم أحد غيره من الشؤون ، فاتضح بذلك إعجاز المنزل الذي أبان ذلك ، وهو هذا القرآن ، وأنه وحده الفرقان ، عجب من حال المكذبين به فقال موضع { وقالوا } : { وقال الذين كفروا } مظهراً الوصف الذي حملهم على هذا القول ، وهو ستر ما ظهر لهم ولغيرهم كالشمس والاجتهاد في إخفائه : { إن } أي ما { هذا } أي القرآن { إلا إفك } أي كذب مصروف عن ظاهره ووجه هو أسوأ الكذب { افتراه } أي تعمد كذبه هذا النذير ، فكان قولهم هذا موضع العجب لكونه ظاهر الخلل .
ولما كان الإنسان مطبوعاً على أنه يتكثر بأدنى شيء من المحاسن فيحب أن تظهر عنه ولا ينسب شيء منها إلى غيره ، كان أعجب من ذلك وأظهر عواراً قولهم : { وأعانه } أي محمداً { عليه } أي القرآن { قوم } أي ذوو كفاية حبوه بما يتشرف به دونهم؛ وزادوا بعداً بقولهم : { آخرون } أي من غير قومه؛ فقيل : أرادوا اليهود ، وقيل : غيرهم ممن في بلدهم من العبيد النصارى وغيرهم ، فلذلك تسبب عنه قوله تعالى : { فقد جاءو } أي الكفار في ذلك { ظلماً } بوضع الإفك على ما لا أصدق منه ولا أعدل { وزوراً* } أي ميلاً مع جلافة عظيمة عن السنن المستقيم في نسبة أصدق الناس وأطهرهم خليقة ، وأقومهم طريقة ، إلى هذه الدنايا التي لا يرضاها لنفسه أسقط الناس ، فإنها - مع كنها دنيئة في نفسها - مضمونة الفضيحة؛ قال ابن جرير وأصل الزور تحسين الباطل وتأويل الكلام .
ولما تبين تناقضهم أولاً في ادعائهم في القرآن ما هو واضح المنافاة لوصفه ، وثانياً بأنه أعين عليه بعد ما أشعرت به صيغة الافتعال من الانفراد ، أتبعه تعالى تناقضاً لهم آخر بقوله معجباً : { وقالوا } أي الكفار { أساطير } جمع إسطارة وأسطورة { الأولين } من نحو أحاديث رستم وإسفنديار ، فصرحوا أنه ليس له فيه شيء { اكتتبها } أي تطلب كتابتها له { فهي } أي فتسبب عن تكلفه أنها { تملى } أي تلقى من ملق ما إلقاء جيداً متجدداً مستمراً { عليه } من الكتاب الذي اكتتبها فيه في أوقات الفراغ { بكرة } قبل أن ينتشر الناس { وأصيلاً* } أي وعشياً حين يأوون إلى مساكنهم ، أو دائماً ليتكلف حفظها بعد أن تكلف تحصيلها بالانتساخ أنه أمي ، وهذا كما ترى لا يقوله من له مسكة في عقل ولا مروءة ، فإن من المعلوم الذي لا يخفى على عاقل أن إنساناً لو لازم شيئاً عشرة أيام بكرة وعشياً لم يبق ممن يعرفه ويطلع على أحواله أحد حتى عرف ذلك منه ، فلو أنكره بعد لافتضح فضيحة لا يغسل عنه عارها أبداً ، فكيف والبلد صغير ، والرجل عظيم شهير ، وقد ادعوا أنه مصر على ذلك إلى حين مقالتهم وبعدها لا ينفك ، وعيروه بأنه معدم يحتاج إلى المشي في الأسواق ، و هو يدعوهم إلى المعارضة ولو بسورة من مثله ، وفيهم الكتاب والشعراء والبلغاء والخطباء ، وهو أكثر منه مالاً ، وأعظم أعواناً ، فلا يقدرون .

ولما رموه بهذه الأقوال التي هم فيها في خبط عشواء ، وكانت مع كونها ظاهرة العوار ، عند من له أدنى استبصار ، تروج على بعض العرب بعض الرواج ، مع سعة عقولهم ، وصحة أفكارهم ، لشبه واهية مكنهم فيها التقليد ، وشدة الالف لما هم عليه من الزمن المديد ، أمره سبحانه بجوابهم مستأنفاً فقال : { قل } أي دالاً على بطلان ما قالوه مهدداً لهم : { أنزله } أي القرآن من خزائن علمه خلافاً لجميع ما تقولتموه { الذي يعلم السر } أي كله ، لا يخفى عليه منه خافية فكيف بالجهر! { في السماوات والأرض } فهو يجيبكم عن كل ما تقولتموه فيّ وفي كتابه وإن أسررتموه ، ويبين جميع ما يحتاج إليه العباد في الدارين في كلام معجز لفظاً ومعنى على وجه يتحقق كل ذي لب أنه لا يقوله إلا عالم بجميع المعلومات ، ولا يحيط بجميع المعلومات سواه ، وهذا ظاهر جداً من إخباره بالماضي بما يصدقه العلماء من الماضين ، وحكمه على الآتي بما يكون ضربة لازم ، وإظهاره الخبء وإحكامه لجميع ما يقوله ، وقد جرت عادته سبحانه وتعالى بالانتقام ممن كذب عليه بإظهار كذبه أولاً ، ثم بأخذه ثانياً ، ثم عذابه العذاب الأكبر ثالثاً ، فستنظرون من يفعل به ذلك ، وقد بان لعمري صدقه لما وقع من الأمور الثلاثة .
ولما كان من المعلوم أن العالم بكل شيء قادر على شيء كما مضى تقريره في سورة طه ، وكانت العادة جارية بأن من علم استخفاف غيره به وكان قادراً عليه عاجله بالأخذ ، أجيب من كأنه قال : فما له لا يهلك المكذبين له؟ بقوله مرغباً لهم في التوبة ، مشيراً إلى قدرته بالستر والإنعام ، ومبيناً لفائدة إنزاله إليهم هذا الذكر من الرجوع عما تمادت عليه أزمانهم من الكفر وأنواع المعاصي : { إنه كان } أزلاً وأبداً { غفوراً } أي بليغ الستر لما يريد من ذنوب عباده ، بأن لا يعاتبهم عليها ولا يؤاخذهم بها { رحيماً* } بهم في الإنعام عليهم بعد خلقهم ، برزقهم وتركيب العقول فيهم ، ونصب الأدلة لهم ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب فيهم ، وأمهالهم في تكذيبهم ، أي فليس لإمهالهم ووعظهم بما نزله إليهم سبب إلا رحمته وغفرانه وعلمه بأن كتابه صلاح لأحوالهم في الدارين .
ولما أتم سبحانه ما أراد من ذكر المنزل والمنزل ، وأخبر عن طعنهم في المنزل الذي هو المقصود بالذات من الرسالة ، وأقام تعالى ذلك الدليل على كذبهم ، أتبعه الإخبار عن طعنهم في الرسول الآتي به ، فقال معجباً عقولهم التي يعدونها أصفى العقول أفكاراً ، وأعلاها آثاراً ، فيما أبدوه من ذلك مما ظنوا أنه دليل على عدم الرسالة ، ولا شيء منه يصلح أن يكون شبهة لذي مسكة من أمره ، فضلاً عن أن يكون دليلاً : { وقالوا } أي مستفهمين تهكماً بوصفه ، قادحين فيه بفعله ، قول من هو على ثقة من أن وصف الرسالة ينافيه : { مال هذا } والإشارة على هذا الوجه تفهم الاستهانة والتصغير؛ ثم أظهروا السخرية بقولهم : { الرسول } أي الذي يزعم أنه انفرد عن بقية البشر في هذا الزمان بهذا الوصف العالي { يأكل الطعام } أي مثل ما نأكل { ويمشي في الأسواق } أي التي هي مطالب الدنيا ، كما نمشي .

ولما كانت ترجمة ما مضى : ما له مثلنا وهو يدعي الاختصاص عنا بالرسالة؟ أتبعوه التعنيف على عدم كونه على واحد من وجوه مغايرة على سبيل التنزل جواباً لمن كأنه قال : فماذا يفعل؟ بقولهم : { لولا } أي هلا ، وهي تأتي للتوبيخ ، وهو مرادهم { أنزل } أي من السماء ، من أيّ منزل كان ، منتهياً { إليه } أي على الهيئة التي هو عليها في السماء { ملك } أي من الملائكة الله على هيئاتهم المباينة لهيئات الآدميين { فيكون } بالنصب جواباً للتحضيض ذلك الملك وإن كان هو إنساناً { معه نذيراً* } فيكون ممتازاً بحال ليس لواحد منا ، ليكون أهيب في النذارة ، لما له من الهيبة والقوة ، وكأنهم عبروا بالماضي إعلاماً بأن مرادهم كونه في الظهور لهم على غير الهيئة التي يخبركم بها من تجدد نزول الملك عليه في كل حين مستسراً بحيث لا ينظره غيره ، أو لأن الملك يمكن أن يكون على حالة المصاحبة له للنذارة ، وإنما لا يتحول عنها بصعود إلى السماء ولا غيره ، بخلاف الكنز فإنه للنفقة ، فإن لم يتعهد كل وقت نفد ، وهذا سر التعبير ب « إلى » دون « على » التي هي للتغشي بالوحي ، ولذلك عبروا بالمضارع في قولهم ، متنزلين عن علو تلك الدرجة : { أو يلقى } أي من أي ملق كان .
ولما كان الإلقاء دالاًّ على العلو ، عدلوا عن أداة الاستعلاء التي تقدم التعبير بها في هود عليه السلام من الإنزال إلى حرف النهاية فقالوا : { إليه } أي إن لم تكن له تلك الحالة { كنز } أي يوجد له هذا الأمر ويتجدد له إلقاؤه غير مكترث ولا معبوء به ، برفعه عن مماثلتنا العامة من كل وجه ، وأيضاً التعبير في هذا والذي بعده بالمضارع أدل على تكالبهم على الدنيا وأنها أكبر همهم . ثم تنزلوا أيضاً في قولهم : { أو تكون له } أي إن لم تكن له شيء مما مضى { جنة } أي بستان أو حديقة كما لبعض أكابرنا { يأكل منها } فتفرغه عما يتعاطاه في بعض الأحايين من طلب المعاش ، ويكون غناه أعز له وأجلب للخواطر إليه ، وأحث لعكوف الأتباع عليه ، وأنجع فيما يريده - هذا على قراءة الجماعة بالياء التحتية ، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالنون يكون المعنى : أنا إذا أمكنا منها ، كان ذلك أجلب لنا إلى اتباعه ، وما قالوه كله فاسد إذ لم يدّع هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أتباعه أنه هو ولا أحد من الأنبياء قبله يباين البشر ، ولا أن وصفاً من أوصاف البشر الذاتية ينافي النبوة والرساله ، وأما الاستكثار من الدنيا فهو عائق في الأغلب عن السفر إلى دار الكرامة ، وموطن السلامة ، وحامل على التجبر ، ولا يفرح به إلا أدنياء الهمم ، وخفة ذات اليد لا تقدح إلا في ناقص يسأل الناس تصريحاً أو تلويحاً إرادة لتكميل نقصه بالحطام الفاني ، وقد شرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما له من صفات الكمال ، والأخلاق العوال .

ولما كانوا بهذا واضعين الكلام في غير مواضعه ، بعيدين عن وجه الصواب ، قال معجباً من أمرهم : { وقال الظالمون } فأظهر الوصف الموجب لهم ذلك : { إن } أي ما { تتبعون } إن اتبعتم { إلا رجلاً مسحوراً* } أي يتكلم بما لا يجديه ، فحاله لذلك حال من غلب على عقله بالسحر ، أو ساحراً صار السحر له طبعاً ، فهو يفرق بما جاء به بين المرء وزوجه وولده ونحو ذلك ، وعبروا بصيغة المفعول إشارة إلى هذا ، وهو أنه لكثرة ما يقع منه من ذلك - صار كأنه ينشأ عنه على غير اختياره .

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)

ولما أتم سبحانه ما ذكر من أقوالهم الناشئة عن ضلالهم ، التفت سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له فقال : { انظر } ثم أشار إلى التعجب منهم بأن ما قالوه يستحق الاستفهام بقوله : { كيف ضربوا } وقدم ما به العناية فقال : { لك الأمثال } فجعلوك تارة مثلهم في الاحتياج إلى الغذاء ، وتارة نظيرهم في التوسل إلى التوصل إلىلأرباح والفوائد ، بلطيف الحيلة وغريز العقل ، وتارة مغلوب العقل مختلط المزاج تأتي بما لا يرضى به عاقل ، وتارة ساحراً تأتي بما يعجز عنه قواهم ، وتحير فيه أفكارهم { فضلوا } أي عن جميع طرق العدل ، وسائر أنحاء البيان بسبب ذلك فلم يجدوا قولاً يستقرون عليه وأبعدوا جداً { فلا يستطيعون } في الحال ولا في المآل ، بسبب هذا الضلال { سبيلاً* } أي سلوك سبيل من السبل الموصلة غلى ما يستحق أن يقصد ، بل هم في مجاهل موحشة ، وفيافي مهلكة .
ولما ثبت أنه لا وجود لهم لأنهم لا علم لهم ولا قدرة ، وأنهم لا يمن لهم ولا بركة ، لا على أنفسهم ولا غيرهم ، أثيت لنفسه سبحانه ما يستحق من الكمال الذي يفيض به على من يشاء من عباده ما يشاء فقال : { تبارك } أي ثبت ثباتاً مقترناً باليمن والبركة ، لا ثبات إلا هو { الذي إن شاء } فإنه لا مكره له { جعل لك خيراً من ذلك } أي الذي قالوه على سبيل التهكم؛ ثم أبدل منه قوله : { جنات } فضلاً عن جنة واحدة { تجري من تحتها الأنهار } أي تكون أرضها عيوناً نابعة ، أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى ، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجه في استثمارها إلى سقي .
ولما كان القصر - وهو بيت المشيد - ليس مما يستمر فيه الجعل كالجنة التي هذه صفتها ، عبر فيه بالمضارع إيذاناً بالتجديد كلما حصل خلل يقدح في مسمى القصر فقال : { ويجعل لك قصوراً* } أي بيوتاً مشيدة تسكنها بما يليق بها من الحشم والخدم ، قال البغوي : والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً . وهذه العبارة الصالحة لأن يجعل له سبحانه ذلك في الدنيا مما فتت في أعضادهم ، وخافوا غائلتها فسهلت من قيادهم ، لعلمهم بأن مراسله قادر على ما يريد ، لكنه سبحانه أغناه عن ذلك بتأييده بالأعوان ، من الملائكة والإنس والجان ، حتى اضمحل أمرهم ، وعيل صبرهم ، ولم يشأ سبحانه ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية ، وأخره إلى الآخرة الباقية ، وقد عرض سبحانه عليه ما شاء من ذلك في الدنيا فأباه ، روى البغوي من طريق ابن المبارك ، والترمذي - وقال : حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« عرض عليّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً ، فقلت : لا يا رب! ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ، فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك » وروي عن طريق أبي الشيخ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو شئت لسارت معي جبال الذهب جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً ، فنظرت إلى جبريل عليه الصلاة والسلام فأشار إلي أن ضع نفسك ، فقلت : نبياً عبداً قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً ويقول : » آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد « » وسيأتي في سورة سبأ عند { وأرسلنا له عين القطر } [ سبأ : 12 ] ما يتم هذا ، ولا يبعد عندي أن يكون أشير بالآية الشريفة - وإن كانت في أسلوب الشرط إلى ما فتح عليه صلى الله عليه وسلم من الحدائق التي لم يكن مثلها في بلاد العرب لما فتح الله عليه خيبر ووادي القرى ، وتصرف في ذلك بنفسه الشريفة وأكل منه وإلى ما فتح على أصحابه من بعده من بلاد فارس والروم ذات القصور والجنان التي لا مثل لها ولذلك عبر في الجنات بالماضي ، وفي القصور بالمضارع ، وأتيحوا كنوز كسرى بن هرمز ، فإن اللائق بمقام الملوك أن تكون إشاراتهم أوسع من عباراتهم ، فإذا ذكروا شيئاً ممكناً على سبيل الفرض كان من إرادتهم إيجاده ، ويحبون أن يكتفي منهم بالإيماء ، وأن يعتمد على تلويحهم أعظم مما يعتمد على تصريح غيرهم ، وأن يعد المفروض منهم بمنزلة المجزوم به من غيرهم ، والممكن في كلامهم كالواجب ، فما ظنك بملك الملوك القادر على كل شيء! وهو قد صرف سبحانه الخطاب إلى أعلى الناس فهماً ، وأغزرهم علماً ، وقد أراه سبحانه ما يكون من ذلك من بعده في غزوة الخندق . روى البيهقي في دلال النبوة عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق ليحفره جعل على كل عشرة أربعين ذراعاً ، وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه رجلاً قوياً ، فاختلف فيه المهاجرون والأنصار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » سلمان منا أهل البيت « فخرجت لهم صخرة بيضاء مدورة ، قال عمرو : فكسرت حديدنا . وشقت علينا ، فقلنا : يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة ، فأخبر فأخذ صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ثلاث ضربات صدع فيها في كل ضربة صدعاً ، وكسرها في الثالثة ، وبرقت مع كل ضربة برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم ، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل برقة تكبيرة ، ثم أخذ بيد سلمان فرقي فسأله سلمان للقوم : هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا : نعم! يا رسول الله! بأبينا أنت وأمنا! قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبر ، لانرى شيئاً غير ذلك ، فقال : أضاءت لي من البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، ومن الثانية القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، ومن الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني ، جبريل عليه الصلاة والسلام أن أمتي ظاهرة عليها . فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله! موعود صادق بأن وعدنا النصر بعد الحصر ، فطلعت الأحزاب فقال المسلمون { هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً } [ الأحزاب : 22 ] »

وقال المنافقون في ذلك ما أشار إليه الله تعالى في القرآن؛ ثم إن الله تعالى كذب المنافقين وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، فافتتح أصحابه رضي الله عنهم جميع ما ذكر ، وغلبوا على سائر مملكة الفرس واليمن وأكثر الروم ، وانتثلوا من كنوز كسرى وقيصر ما يفوت الحصر ، وقد كان صلى الله عليه وسلم تصرف في ذلك من ذلك الوقت تصرف الملوك ، لأن وعد الله لا خلف فيه ، بل غائبه أعظم من حاضره غيره ، وموعودة أوثق من ناجز سواه ، فأعطى صلى الله عليه وسلم تميم بن أوس الداري بلد الخليل عليه الصلاة والسلام من أرض الشام من مملكة الروم ، وأعطى خريم بن أوس - الذي يقال له : شويل - كرامة بنت عبد المسيح ابن بقيلة من سبي الحيرة من بلاد العراق من مملكة فارس ، وكل منهم قبض ما أعطاه عند الفتح كما يعرفه من طالع كتب الفتوح علىأيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين ، فعندي أن هذا مما أشارت إليه الاية الشريفة ، نزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عنه وفتحه على أصحابه ، تشريفاً لهم بإزالة أهل الشرك عنه ، وإنعاماً عليهم به تصديقاً لوعده ، وإكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم بنصر أوليائه وتكثير أمته ، وحضر ذلك كثير ممن كان من القائلين { ما لهذا الرسول } [ الفرقان : 7 ] إلى آخره ، وقد كان قادراً على أن يقويه بجميع ذلك قبل موته ، ولكنه لم يفعل لأن ذلك أوضح في الأمر ، لأن نصره على خلاف ما ينصر به أهل الدنيا من غير جنود كثيرة ظاهرة ، ولا أموال وافرة ، ولا ملوك معينة قاهرة ، بل كانت الملوك عليه ، ثم صاروا كلهم أهون شيء عليه ، بيد أصحابه من بعده وأحبابه .
ولما ثبت بما أثبت لنفسه الشريفة من الكمال أنه لا مانع من إيجاد ما ساقوه مساق التوبيخ إلا عدم المشيئة ، لا عجز من الجاعل ولا هوان بالمجعول له ، تسلية له صلى الله عليه وسلم في أسلوب مشير بأنه يعطيه ذلك ، سلاه أيضاً بأن ما نسبوه إليه لا يعتقدون حقيقته ، فأضرب عن كلامهم قائلاً : { بل } أي لا تظن أنهم كذبوا بما جئت به لأنهم يعتقدون فيك كذباً وافتراء للقرآن ، أو نقصاناً لأكلك الطعام ومشيك في الأسواق ، أو في شيء من أحوالك ، أو لا تظن أنهم يكذبون بقدرته تعالى على ما ذكر أنه إن شاء جعله لك بل ، أو المعنى : دع التفكر فيما قالوه من هذا فإنهم لم يقتصروا في التكذيب عليه بل { كذبوا بالساعة } أي بقدرتنا عليها ، واستقر ذلك في أنفسهم دهوراً طويلة ، وأخذوه خلفاً عن سلف ، وأشرب قلوبهم حب هذا الحطام الفاني ، وتقيدت أوهامهم بهذه الظواهر كالبهائم ، فعسر انفكاكهم عن ذلك بما جاءهم من البيان الذي لا يشكون فيه ، فاجترؤوا لذلك على العناد لعدم الخوف من أهوال يوم القيامة كما قال تعالى عن أهل الكتاب

{ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } [ آل عمران : 24 ] { وأعتدنا } أي والحال أنا أعتدنا أي هيأنا بما لنا من العظمة { لمن كذب } من هؤلاء وغيرهم { بالساعة سعيراً* } أي ناراً شديدة الاتقاد بما أعظموا الحريق في قلوب من كذبوهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم { إذا رأتهم } أي إذا كانت بحيث يمكن أن يروها وتراهم لو كانت مبصرة { من مكان بعيد } وهو أقصى ما يمكن رؤيتها منه وهم يساقون إليها { سمعوا لها } أي خاصة { تغيظاً } أي صوتاً في غليانها وفورانها كصوت المتغيظ في تحرقه ونكارته إذا غلا صدره من الغضب { وزفيراً* } أي صوتاً يدل على تناهي الغضب ، وأصله صوت يسمع من الجوف .
ولما وصف ملاقاتها لهم ، وصف إلقاءهم فيها قال : { وإذا ألقوا } أي طرحوا طرح إهانة فجعلوا بأيسر أمر ملاقين { منها } أي النار { مكاناً } ووصفه بقوله : { ضيقاً } زيادة في فظاعتها { مقرنين } بأيسر أمر ، أيديهم إلى أعناقهم في السلاسل ، أو حبال المسد ، أو مع من أغواهم من الشياطين ، والتقرين : جمع شيء إلى شيء في قرن وهو الحبل { دعوا هنالك } أي في ذلك الموضع البغيض البعيد عن الرفق { ثبوراً* } أي هلاكاً عظيماً فيقولون : يا ثبوراه! لأنه لا منادم لهم غيره ، وليس بحضرة أحد منهم سواه؛ قال ابن جرير : وأصل الثبر في كلام العرب الانصراف عن الشيء . فالمعنى حينئذ : دعوا انصرافهم عن الجنة إلى النار الذي تسببوا فيه بانصرافهم عن الإيمان إلى الكفر ، فلم يكن لهم سمير إلا استحضارهم لذلك تأسفاً وتندماً ، فأجيبوا على طريق الاستئناف بقوله تعالى : { لا تدعوا اليوم } أيها الكفار { ثبوراً واحداً } لأنكم لا تموتون إذا حلت بكم أسباب الهلاك { وادعوا ثبوراً كثيراً* } لا يحصره الإحصاء ولا آخر له ، فإنكم وقعتم فيما يوجب ذلك لأن أنواع الهلاك لا تبارحكم أصلاً ولكنه لا موت .

قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)

ولما كانت عادتهم تجويز الممكن من كل ما يحذرون منه من الخلق ، اقتضى الحال سؤالهم : هل أعدوا لما هددوا به من الخالق عدة أم لا؟ في سياق الاستفهام عن المفاضلة بينه وبين ما وعده المتقون ، تنبيهاً على أنه أعلى رتبة من الممكن فإنه واقع لا محالة ، وتهكماً بهم ، فقال تعالى : { قل أذلك } أي الأمر العظيم الهول الذي أوعدتموه من السعير الموصوفة .
ولما كانت عادة العرب في بيان فضل الشيء دون غيره الإتيان بصيغة أفعل تنبيهاً على أن سلب الخير عن مقابله لا يخفى على أحد ، أو يكون ذلك على طريق التنزل و إرخاء العنان ، تنبيهاً للعاقل على أنه يكفيه في الرجوع عن الغي طروق احتمال لكون ما هو عليه مفضولاً قال : { خير أم جنة الخلد } أي الإقامة الدائمة { التي وعد المتقون } أي وقع الوعد الصادق المحتم بها ، ممن وعده هو الوعد ، للذين خافوا فصدقوا بالساعة جاعلين بينهم وبين أهوالها وقاية مما أمرتهم به الرسل؛ ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله : { كانت } أي تكونت ووجدت بإيجاده سبحانه { لهم جزاء } على تصديقهم وأعمالهم { ومصيراً* } أي مستقراً ومنتهى ، وذلك مدح لجزائهم لأنه إذا كان في محل واسع طيب كان أهنأ له وألذ كما أن العقاب إذا كان في موضع ضيق شنيع كان أنكى وأوجع ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ لمن كان يعقل فيجوز الممكنات .
ولما ذكر تعالى نعيمهم بها ذكر ، تنعمهم فيها فقال : { لهم فيها } أي الجنة خاصة لا في غيرها { ما يشاؤون } من كل ما تشتهيه أنفسهم { خالدين } لا يبغون عنه حولاً { كان } أي ذلك كله { على ربك } أي المحسن إليك بالإحسان إلى أتباعك { وعداً } .
ولما أشار سبحانه إلى إيجاب ذلك على نفسه العظيمة بالتعبير ب « على » والوعد ، وكان الإنسان لا سيما مجبولاً على عزة النفس ، لا يكاد يسمح بأن يسأل فيما لا يحقق حصوله ، قال : { مسئولاً* } أي حقيقاً بأن يسأل إنجازه ، لأن سائله خليق بأن يجاب سؤاله ، وتحقق ظنونه وآماله ، فالمعنى أنه إذا انضاف إلى تحتيمه الشيء على نفسه سؤال الموعود به إياه ، أنجز لا محالة ، وهو من وادي { أجيب دعوة الداع إذا دعان } [ البقرة : 186 ] وفيه حث عظيم على الدعاء ، وترجية كبيرة للإجابة ، كما وعد بذلك سبحانه في { أجيب دعوة الداع } [ البقرة : 186 ] و { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] وإن لم ير الداعي الإنجاز فإن الأمر على ما رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى المنذري : بأسانيد جيدة - والحاكم وقال : صحيح الإسناد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : أما أن يجعل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ، قالوا : إذن نكثر؟ قال : الله أكثر »

وللحاكم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه بين يديه فيقول : عبدي! إني أمرتك أن تدعوني ، ووعدتك أن أستجيب لك فهل كنت تدعوني؟ فيقول : نعم! يا رب فيقول : أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجيب لك؟ أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك؟ فيقول : نعم! يا رب! فيقول : إني عجلتها لك في الدنيا ، ودعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجاً؟ قال : نعم! يا رب فيقول : إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا ، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم كذا وكذا فقضيتها؟ فيقول : نعم! يا رب! فيقول : إني عجلتها لك في الدنيا ، ودعوتني يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك فلم تر قضاءها؟ فيقول : نعم! يارب! فيقول أني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له إما أن يكون عجل له في الدنيا ، وإما أن يكون ادخر له في الآخرة ، فيقول المؤمن في ذلك المقام : يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه » ولابن حبان في صحيحه والحاكم وقال : صحيح الإسناد - عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد » وللترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة » وللبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي » وفي رواية لمسلم والترمذي : « لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل ، قيل : يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال : يقول : قد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء » قال المنذري : يستحسر أي يمل ويعيى فيترك الدعاء - انتهى . وقد فهم من الآية ومن الحديث في استثناء الإثم وقطيعة الرحم أن ما لا مانع من سؤاله موعود بإجابته ونواله ، فليدع الإنسان به موقناً بالإجابة .
ولما ذكر لهم حالهم في الساعة معه سبحانه ، أتبعه ذكر حالهم مع معبوداتهم من دونه ، فقال بالالتفات إلى مظهر العظمة على قراءة الجماعة : { ويوم } أي قل لهم ما أمرتك به ، واذكر لهم يوم { يحشرهم } أي المشركين ، بما لنا من العظمة التي نبرزها في ذلك اليوم ، من القبور؛ وقرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وحفص عن عاصم بالياء التحتية فيكون الضمير للرب { وما يعبدون } أي من الملائكة والإنس والجن وغيرهم ممن يعقل وممن لا يعقل؛ ونبه على سفول رتبتهم عن ذلك وعدم أهليتهم بقوله : { من دون الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ، وذكرها بلفظ « ما » إشارة إلى أن ناطقها وصامتها جماد بل عدم بالنسبة إليه سبحانه بما أشار إليه التعبير بالاسم الأعظم الدال على جميع الكمال ، مع أن « ما » موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم وإن كان أكثر استعماله في غير العقلاء ، وعبر سبحانه بقوله : { فيقول } بإعادة ضمير الغيبة بعد التعبير بنون العظمة في « نحشر » في قراءة غير ابن عامر لتقدم الجلالة الشريفة ، تحقيقاً للمراد وتصريحاً به ، وإعلاماً بأن المراد بالنون العظمة لا جمع ، وقرأ ابن عامر بالنون موحداً الأسلوب : { أنتم } أي أيها المعبودات! بإيلاء الهمزة الضمير سؤالاً عن المضل ، لأن ضلال العبدة معروف لا يسأل عنه { أضللتم } بالقهر والخداع والمكر { عبادي هؤلاء } حتى عبدوكم كما في الآية الأخرى

{ ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } [ سبأ : 40 ] في أمثالها من الآيات كما في الحديث القدسي : « إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاحتالهم الشياطين » { أم } .
ولما كان السؤال - كما مضى - عن الفاعل لا عن الفعل ، كان لا بد من قوله : { هم } أي باختيار منهم لإهمالهم استعمال ما أعطيتهم من قويم العقل وسديد النظر { ضلوا } وأوصل الفعل بدون « عن » كما في هداة الطريق بدون « إلى » لكثرة الدور ، وللإشارة إلى قوة الفعل فقال : { السبيل* } أي الذي نهجته ونصبت عليه الأدلة القاطعة ، البراهين الساطعة { قالوا } أي المعبودات الحي منهم والجماد ، المطيع والعاصي : { سبحانك } أي تنزهت عن أن ينسب إلى غيرك قدرة على فعل من الأفعال .
ولما أنتج التنزيه أنهم لا فعل لغيره سبحانه ، عبروا عنه بقولهم : { ما كان ينبغي } أي يصح ويتصور { لنا أن نتخذ } أي نتكلف أن نأخذ باختيارنا من غير إرادة منك { من دونك } وكل ما سواك فهو دونك { من أولياء } أي ينفعوننا ، فإنا مفتقرون إلى من ينفعنا لحاجتنا وفقرنا ، فكيف نترك من بيده كل شيء وهو أقرب إلينا في كل معنى من معاني الولاية من كل شيء من العلم والقدرة وغيرهما إلى من لا شيء بيده ، وهو أبعد بعيد من كل معنى من معاني الولاية ، فلو تكلفنا جعله قريباً لم يكن كذلك ، وهذه عبارة صالحة سواء كانت من الصالحين ممن عبد من الأنبياء والملائكة أو غيرهم ، فإن كانت من الصالحين فمعناها : ما كان ينبغي لنا ذلك فلم نفعله وأنت أعلم ، كما قال تعالى

{ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس } [ آل عمران : 79 ] الآية؛ وإن كانت من الجمادات فالمعنى : ما كنا في حيز من يقدر على شيء من ذلك ، ولكن فعلوه بطراً؛ وإن كانت من مثل فرعون فالمعنى : ما كان لنا هذا ، ولكن هم أنزلونا هذه المنزلة بمجرد دعائنا لهم كما يقول إبليس - فما كان لنا عليهم من سلطان إلا أن دعوناهم فاستجابوا ، وذلك لعدم نظرهم في حقائق الأمور ، فألقى الكل إلى الله يومئذ السلم ، فثبت أنهم ليسوا في تلك الرتبة التي أنزلوهم إياها ، وفائدة السؤال مع شمول علمه تعالى تبكيت المعاندين وزيادة حسراتهم وأسفهم ، وتغبيط المؤمنين إذا سمعوا هذا الجواب ، هذا مع ما في حكايته لنا من الموعظة البالغة ، وقراءة ابي جعفر بالبناء للمفعول بضم النون وفتح الخاء واضحة المعنى ، أي يتخذنا أحد آلهة نتولى أموره .
ولما كان المعنى : إنا ما أضللناهم ، أما إذا قدر من الملائكة ونحوهم فواضح ، وأما من غيرهم فإن المضل في الحقيقة هو الله ، وفي الظاهر بطرهم النعمة ، واتباعهم الشهوات التي قصرت بهم عن إمعان النظر ، وأوقفتهم مع الظواهر ، حسن الاستدراك بقوله : { ولكن } أي ما أضللناهم نحن ، وإنما هم ضلوا بإرادتك لأنك أنت { متعتهم وآباءهم } في الحياة الدنيا بما تستدرجهم به من لطائف المنن ، وأطلت أعمارهم في ذلك { حتى نسوا الذكر } الذي لا ينبغي أن يطلق الذكر على غيره ، وهو الإيمان بكل ما أرسلت به سبحانك رسلك برهان ما يعرفه كل عاقل من نفسه بما وهبته من غريزة العقل من أنه لايصح بوجه أن يكون الإله إلا واحداً ، ما بين العاقل وبين ذكر ذلك إلا يسير تأمل ، مع البراءة من شوائب الحظوظ والحاصل أنك سببت لهم أسباباً لم يقدروا على الهداية معها ، فأنت الملك الفعال لما تريد ، لا فعل لأحد سواك { وكانوا } في علمك بما قضيت عليهم في الأزل { قوماً بوراً* } هلكى .

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)

ولما كان هذا أمراً واقعاً لا محالة ، التفت إليهم مبكتاً فقال معبراً بالماضي بعد « قد » المقربة المحققة : { فقد كذبوكم } أي المعبودون كذبوا العابدين بسبب إلقائهم السلم المقتضي لأنهم لا يستحقون العبادة وأنهم يشفعون لكم مقهورين مربوبين { بما } أي بسبب ما { تقولون } أيها العابدون من أنهم يستحقون العبادة ، وأنهم يشفعون لكم ، وأنهم أضلوكم ، وفي قراءة ابن كثير بالتحتانية المعنى : بما يقول المعبودون من التسبيح لله والإذعان ، في ادعائكم أنهم أضلوكم .
ولما تسبب عن إلقائهم السلم وتخليهم عمن عبدهم أنه لا نفع في أيديهم ولا ضر ، قال : { فما تستطيعون } أي المعبودون { صرفاً } أي لشيء من الأشياء عن أحد من الناس ، لا أنتم ولا غيركم ، من عذاب ولا غيره ، بوجه حيلة ولا شفاعة ولا مفاداة { ولا نصراً } بمغالبة ، وهو نحو قوله تعالى { فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً } [ الإسراء : 56 ] .
ولما كان التقدير : فمن يعدل منكم لسماع هذا الوعظ بوضع العبادة في موضعها نثبه ثواباً جليلاً ، عطف عليه ما المقام له فقال : { ومن يظلم منكم } بوضعها في غير موضعها ، وباعتقاده في الرسل ما لا ينبغي من أنه لا ينبغي لهم أن يكونوا مثل الناس في أكل ولا طلب معيشة ونحو ذلك { نذقه } في الدنيا والآخرة ، بما لنا من العظمة { عذاباً كبيراً* } .
ولما أبطل سبحانه ما وصموا به رسوله صلى الله عليه وسلم وذكر ما جزاهم عليه . وما أعد لهم وله ولأتباعه ، ونفى ما زعموه في معبوداتهم وختمه بتعذيب الظالم ، ذكر ما ظلموا فيه من قولهم { ما لهذا الرسول } ونحوه ، فبين أن ما جعلوه من ذلك وصمة في حقه هو سنته سبحانه في الرسل من قبله أسوة لنوعهم البشري ، وأتبعه سره فقال زيادة في التسلية والتعزية والتأسية : { وما أرسلنا } بما لنا من العظمة . ولما كان المراد العموم ، أعراه من الجار فقال : { قبلك } أي يا محمد أحداً { من المرسلين إلا } وحالهم { إنهم ليأكلون الطعام } ما نأكل ويأكل غيرك من الآدميين { ويمشون في الأسواق } كما تفعل ويفعلون أي إلا وحالهم الأكل والمشي لطلب المعاش كحال سائر الآدميين ، وهو يعلمون ذلك لما سمعوا من أخبارهم ، وهذا تأكيد من الله تعالى فإنهم لا يكذبونه عليه الصلاة والسلام ، ولا يعتقدون فيه نقصاً ، وإبطال لحجتهم بما قالوه من ذلك ، وإقامة للحجة على عنادهم ، وأنهم إنما يقولونه وأمثاله لمما تقدم من رسوخ التكذيب بالساعة في أنفسهم { وجعلنا } أي بالعطاء والمنع بما لنا من العظمة { بعضكم لبعض فتنة } بأن جعلنا هذا نبياً وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملكاً وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيراً وحرمناه الدنيا ، ليظهر ما نعلمه من كل من الطاعة والمعصية في عالم الغيب للناس في عالم الشهادة ، فنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغني أو جزعه ، والملك ومن في معناه من الأشراف بصبرهم على ما أعطيه الرسول من الكرامة والبلوغ بالقرب من الله إلى ما لا يبلغونه مع ما هم فيه من العظمة ، فلأجل ذلك لم أعط رسولي الدنيا ، وجعلته ممن يختار العبوديه والكفاف بطلب المعاش في الأسواق ، لأبتليكم في الطاعة له خالصة ، فإني لو أعطيته الدنيا ، وجعلته ممن يختار الملك ، لسارع الأكثر إلى اتباعه طمعاً في الدنيا ، وهذا معنى { أتصبرون } فإنه علة ما قبله ، أي لنعلم علم شهادة هل تصبرون فيما امتحناكم به أم لا؟ كما كنا نعلمه علم الغيب ، لتقوم عليكم بذلك الحجة في مجاري عاداتكم ، وفيها مع العلية تهديد بليغ لمن تدبر ، ويجوز أن يكون الاستفهام استئنافاً للتهديد .

ولما كان الاختبار ربما أوهم نقصاً في العلم ، وكان إحسانه سبحانه إلى جميع الخلق دون إحسانه إلى سيدهم وعينهم ، وخلاصتهم وزينهم : محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان أعلمهم بتنزيهه وتعظيمه ، وكان امتحانهم بجعله نبياً عبداً مع كونه في غاية الإكرام له ربما ظنوه إهانة ، نفى ما لعله يوهمه كل من الاستفهام والامتحان في حق الله سبحانه وحق نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال صارفاً وجه الخطاب إليه : { وكان ربك } أي المحسن إليك إحساناً لم يحسنه إلى أحد سواك ، لا سيما بجعلك نبياً عبداً { بصيراً* } بكل شيء فهو عالم بالإنسان قبل الامتحان ، لم يفده ذلك علماً لم يكن ، وهو سبحانه يضع الأمور في حاق مواضعها وإن رئي غير ذلك ، فينبغي على كل أحد التسليم له في جميع الأمور فإنه يجر إلى خير كبير ، والتدبر لأقواله وأفعاله بحسن الانقياد والتلقي فإنه يوصل إلى علم غزير ، وما أراد بابتلائك بهم وابتلائهم بك في هذا الأذى الكبير إلا إعلاء شأنك وإسفال أمرهم { ولتعلمن نبأه بعد حين } [ ص : 88 ] .
ولما ذكر هذا الابتلاء بعد أن ذكر أول السورة ما هو سبحانه عليه من العظمة من سعة الملك ، وكثرة الصنائع ، والإحسان إلى جميع الخلق ، وكان من حق كل مربوب أن يتعرف إلى ربه ، كائناً من كان ، لا سيما إذا كان بهذه الصفة ، لينال من إحسانه ، ويتعزز به على أقرانه ، أتبع ذلك أنه كشف الابتلاء عن أنه لا بصر لهم فقال تعالى : { وقال } وأظهر في موضع الإضمار الوصف الذي قدم أنه موجب لعماهم فقال : { الذين لا يرجون } أي ليست لهم عقول لكونهم نسوا { لقاءنا } فهم لا يعملون عملاً يطمعون في إثباتنا لهم عليه بعد الموت على ما يعلمون لنا من العظمة التي من رجاها كانت له فسعد ، ومن أعرض عنها كانت عليه فهلك ، فصارت لذلك عقولهم تبعاً لشهواتهم ، فصاروا يتعرفون إلى جمادات سموها أربابهم ، ويقصدونها ويتمسحون بها رجاء للمحال ، والانهماك في الضلال ، فذكر الرجاء لهذا الغرض مع أنه يلزمه عدم الخوف : { لولا } أي هلا ولم لا .

ولما كان مرادهم لجهلهم أن يروهم كلهم دفعة واحدة ، عبر بالإنزال فقال : { أنزل } أي على أيّ وجه كان من أيّ منزل كان { علينا الملائكة } أي كما أنزلت عليه فيما يزعم { أو نرى ربنا } بما له إلينا من الإحسان وما لنا نحن من العظمة بالقوة بالأموال وغيرها ، فيأمرنا بما يريد من غير حاجة إلى واسطة .
ولما كان هذا القول مما لا ينبغي لبشر أن يجترىء عليه ، لأن فيه اعتراضاً على من لا يحد وصف عظمته ، ولا تدرك مقاصد حكمته ، قال مصدراً بحرف التوقع لما أرشد إليه السياق جواباً لمن كأنه سأل : ما حالهم في هذا؟ { لقد } أي وعزتنا لقد { استكبروا } أي طلبوا بل أوجدوا الكبر . ولما لم يكن لكبرهم ثمرة في الظاهر ، لأنه لا يعود بالضرر على أحد غيرهم ، قال : { في أنفسهم } أي بطلب رؤية الملائكة .
ولما كان حاصل أمرهم أنهم طلبوا رتبة النبي الذي واسطته الملك ، وزادوا عليه رؤية جميع الملائكة الآخذين عن الله ، وزادوا على ذلك بطلب الرؤية ، قال : { وعتو } أي وجاوزوا الحد في الاستكبار بما وراءه من طلبهم رؤية جميع الملائكة ورؤية الملك الجبار ، وزاد في تأكيد هذا المعنى لاقتضاء المقام له بقوله : { عتواً كبيراً* } وبيان أنهم ما قالوا هذا إلا عتواً وظلماً أن ما جاءهم من الآيات التي أعظمها القرآن دلهم قطعاً بعجزهم عن الإتيان بشيء منه على صدقه صلى الله عليه وسلم عن الله في كل ما يقوله ، وفي حسن هذا الاستئناف وفحوى هذا السياق دلالة على التعجب من غير لفظ تعجب فالمعنى : ما أشد استكبارهم وأكبر عتوهم! ثم بين لهم حالهم عند بعض ما طلبوا فقال : { يوم } وناصبه ما دل عليه « لا بشرى » { يرون الملائكة } أي يوم القيامة أو قبله في الغزوات أو عند الاحتضار { لا بشرى } أي من البشر أصلاً { يومئذ للمجرمين } أي لأحد ممن قطع ما أمر الله به أن يوصل ، ولبيان ذلك أظهر موضع الإضمار { ويقولون } أي في ذلك الوقت : { حجراً محجوراً* } أي نطلب منعاً منكم ممنوعاً ، أي مبالغاً في مانعيته ، ويجوز أن يراد بالمفعول الفاعل ، والمعنى واحد في أنهم يريدون أن يكون بينهم وبين الملائكة مانع عظيم يمنعهم منهم؛ قال أبو عبيدة : وهذا عوذة العرب ، يقوله من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة وقال سيبويه : يريد البراءة من الأمر ويبعد عن نفسه أمراً ، فكأنه قال : أحرم ذلك حراماً محرماً ، ومثل ذلك أن يقول الرجل للرجل : أتفعل كذا وكذا؟ فيقول : حجراً أي ستراً وبراءة من هذا ، فهذا ينتصب على إضمار الفعل . وعبر بالمضارع إشارة إلى دوام تجديدهم لهذا القول بعد مفاجأتهم به حال رؤيتهم لهم لعظيم روعتهم منهم ، بخلاف ما بعده فإنه عبر فيه بالماضي إشارة إلى أنه كائن لا محالة .

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)

ولما كان المريد لإبطال الشيء - لشدة كراهته له لا يقنع في إبطاله بغيره ، بل يأتيه بنفسه فيبطله ، عبر بقوله : { وقدمنا } أي بما لنا من العظمة الباهرة في ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة سواء كان في الدنيا أو في الآخرة { إلى ما عملوا من عمل } أي من مكارم الأخلاق من الجود وصلة الرحم والحلم والنجدة في الخير وإغاثة الملهوف وغيره { فجعلناه } لكونه لم يؤسس على الإيمان ، وإنما هو للهوى والشيطان - باطلاً لا نفع فيه ، وهو معنى { هباء } وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من الكوة مما يشبه الغبار ، فهو أشبه شيء بالعدم لأنه لا نفع له أصلاً .
ولما كان الهباء يرى مع السكون منتظماً ، فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب ، معظم دخوله في حيز العدم مع أنه محسوس ، قال مبلغاً في وصف أعمالهم : { منثوراً* } وهو صفة ، وقيل : مفعول ثالث لجعل ، أي جعلنا الأعمال جامعة لحقارة الهباء والتناثر .
ولما علم من هذا أن التقدير : فكاون بحيث إنهم لا قرار لهم إذا كانت النار مقيلهم ، تلاه بحال أضدادهم فقال : { أصحاب الجنة يومئذ } أي يوم إذ يرون الملائكة { خير مستقراً } أي مكاناً يصلح للاستقرار لطيبه ، ويكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرين على سرر متقابلين يتحادثون ، إشارة إلى أن منزل أولئك لا يمكن الاستقرار فيه { وأحسن مقيلاً* } أي مكاناً يمكن فيه الاستراحة في مثل وقت القيلولة للاسترواح بأزوجهم ، والتمتع بما يكون في الخلوات ، روي أن وقت الحساب على طوله يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين أول النهار إلى وقت القائلة فيقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ الناس من الحساب . وعبر بأفعل التفضيل تهكماً بهم أو أنه عبر بذلك لما كان الكلام عاماً لأحوال الدنيا والآخرة ، وهو قاطعون بأنهم في الدنيا أحسن حالاً من المؤمنين ، لما هم فيه من السعة في المال والكثرة والقوة ، وبلفظ الحسن إشارة إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحه الصور ونحوه .
ولما كان للكفرة في هذه الدار من العز والقوة والضخامة ما يتعجبون معه من مصير حالهم وحال أخصامهم إلى ما ذكر ، بين أن الأمر في ذلك اليوم على غير ما نعهده ، فقال عاطفاً على { يوم يرون } : { ويوم تشقق } أي تشققاً عظيماً وإن كان فيه خفاء على البعض - بما أشار إليه حذف تائه { السماء بالغمام } أي كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها ، وأشار إلى جهل من طلبوا نزولهم دفعة واحدة بقوله : { ونزل } أي بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه ، بأمر من لا أمر لغيره { الملائكة } الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد { تنزيلاً* } في أيديهم صحائف الأعمال؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : تشقق السماء في الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الدنيا من الجن والإنس ، ثم تشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا وأهل الأرض جناً وإنساً ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة ، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها ، ثم ينزل الكروبيون ثم حملة العرش .

ولما كان ذلك اليوم سبباً لانكشاف الأمور ومعرفة أنه لا ملك لسواه سبحانه لأنه لا يقضي فيه غيره قال : { الملك يومئذ } أي يوم إذ تشقق السماء بالغمام؛ ثم وصف الملك بقوله : { الحق } أي الثابت معناه ثابتاً لا يمكن زواله؛ ثم أخبر عنه بقوله : { للرحمن } أي العام الرحمة في الدارين ، ومن عموم رحمته وحقية ملكه أن يسر قلوب أهل ورده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل ، ولولا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة ، ومعنى التركيب أن ملك غيره في ذلك اليوم إنما هو بالاسم الذي تقدم له في الدنيا تسميته به فقط ، لا حكم له أصلاً ولا ظاهراً كما كان في الدنيا { وكان } أي ذلك ايوم الذي تظهر فيه الملائكة الذين طلب الكفار رؤيتهم { يوماً على الكافرين } أي فقط { عسيراً* } شديد العسر والاستعار .
ولما كان حاصل حالهم أنهم جانبوا أشرف الخلق الهادي لهم إلى كل خير ، وصاحبوا غيره ممن يقودهم إلى كل شر ، بين عسر ذلك اليوم الذي إنما أوجب جرأتهم تكذيبهم به بتناهي ندمهم على فعلهم هذا فقال : { ويوم يعض الظالم } أي لفرط تأسفه لما يرى فيه من الأهوال { على يديه } أي كلتيهما فيكاد يقطعهما لشدة حسرته وهو لا يشعر ، حال كونه مع هذا الفعل { يقول } أي يجدد في كل لحظة قوله : { يا ليتني اتخذت } أي أرغمت نفسي وكلفتها أن آخذ في الدنيا { مع الرسول سبيلاً* } أي عملاً واحداً من الأعمال التي دعاني إليها ، وأطعته طاعة ما ، لما انكشف لي في هذا اليوم من أن كل من أطاعه ولو لحظة حصلت له سعادة بقدرها ، وعض اليد والأنامل وحرق الأسنان ونحو ذلك كناية عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما ، فتذكر الرادفه دلالة على المردوف فيرتفع الكلام في طبقة الفصاحة إلى حد يجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند المكنى عنه .
ولما تأسف على مجانبة الرسول ، تندم على مصادقة غيره بقوله : { يا ويلتي } أي يا هلاكي الذي ليس لي منادم غيره لأنه ليس بحضرتي سواه . ولما كان يريد محالاً ، عبر بأداته فقال : { ليتني لم أتخذ فلاناً } يعني الذي أضله - يسميه باسمه ، وإنما كنى عنه وهو سبحانه لا يخاف من المناواة ، ولا يحتاج إلى المداجاة ، إرادة للعموم وإن كانت الآية نزلت في شخص معين { خليلاً* } أي صديقاً أوافقه في أعماله لما علمت من سوء عاقبتها ، ثم استأنف قوله الذي يتوقع كل سامع أن يقوله : { لقد } أي والله لقد { أضلني عن الذكر } أي عمّي عليّ طريق القرآن الذي لاذكر في الحقيقة غيره وصرفني عنه ، والجملة في موضع العلة لما قبلها { بعد إذ جاءني } ولم يكن لي منه مانع يظهر غير إضلاله .

ولما كان التقدير : ثم ها هو قد خذلني أحوج ما كنت إلى نصرته ، عطف عليه قوله : { وكان الشيطان } أي كل من كان سبباً للضلال من عتاة الجن والإنس { للإنسان خذولاً* } أي شديد الخذلان يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكره ، لا ينصره ، ولو أراد لما استطاع ، بل هو شر من ذلك ، لأن عليه إثمه في نفسه ومثل إثم من أضله .
ولما ذكر سبحانه أقوال الكفار إلى أن ختم بالإضلال عن الذكر ، وكانوا مع إظهارهم التكذيب به وأنه مفتعل في غاية الطرب له ، والاهتزاز به ، والتعجب منه ، والمعرفة بأنه يكون له نبأ ، أشار إلى ذلك بقوله : عاطفاً على { وقالوا ما لهذا الرسول } معظماً لهذه الشكاية منه صلى الله عليه وسلم ، مخوفاً لقومه لأن الرسل قبله عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا شكوا أنزل بقومهم عذاب الاستئصال : { وقال الرسول } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم : { يا رب } أيها المحسن إليّ بأنواع الإحسان الذي أعظمه الرسالة ، وعبر بأداة البعد هضماً لنفسه مبالغة في التضرع { إن قومي } أي قريشاً الذين لهم قوة وقيام ومنعة { اتخذوا } أي يتكليف أنفسهم ضد ما تجده { هذا القرآن } أي المقتضي للاجتماع عليه والمبادرة إليه { مهجوراً* } أي متروكاً ، فأشار بصيغة الافتعال إلى أنهم عالجوا أنفسهم في تركه علاجاً كثيراً ، لما يرون من حسن نظمه ، ويذوقون من لذيذ معانيه ، ورائق أسالبيه ، ولطيف عجائبه ، وبديع غرائبه ، كما تعرّف به قصة أبي جهل وأبي سفيان بن حرب والأخنس بن شريق حين كانوا يستمعون لقراءته ليلاً ، كل واحد منهم في مكان لا يعلم به صاحباه ، ثم يجمعهم الطريق إذا أصبحوا فيتلاومون ويتعاهدون على أن لا يعودوا ، ثم يعودون حتى فعلوا ذلك ثلاث ليال ثم أكدوا على أنفسهم العهود حتى تركوا ذلك كما هو مشهور في السير .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)

ولما كان في هذا الكلام معنى الشكاية وشدة التحرق ، وعظيم التحزن كما يشير إليه إثبات يا التي للبعد ، على خلاف ما جرت به العادة في نداء الخواص الذين هو أخصهم ، والاستفهام عن سبب هجرانهم مع ما لهم إليه من الدواعي ، كان كأنه قيل : ذلك بأن من فعله عاداك حسداً لك ، وعطف عليه : { وكذلك } أي ومثل ما فعلنا من هذا الفعل العظيم وأنت أعظم الخلق لدنيا { جعلنا } بما لنا من العظمة { لكل نبي } أي من الأنبياء قبلك ، رفعة لدرجاتهم { عدواً من المجرمين } الذين طبعناهم على الشغف بقطع ما يقتضي الوصل فأضللناهم بذلك إهانة لهم فاصبر كما صبروا فإني سأهدي بك من شئت ، وأنصرك على غيرهم ، وأكرم قومك من عذاب الاستئصال تشريفاً لك .
ولما كان موطناً تعلق فيه النفوس متشوقة إلى الهداية بعد هذا الطبع ، والنصرة بعد ذلك الجعل ، كان كأنه قيل : لا تحزن فلنجعلن لك ولياً ممن نهديه للإيمان ، ولننصرنهم على عدوهم كما فعلنا بمن قبلك ، بل أعظم حتى نقضي أممهم من ذلك العجب ، ولا يسعهم إلا الخضوع لكم والدخول في ظلال عزكم ، ولما كان ذلك - لكثرة المعادين - أمراً يحق له الاستبعاد ، قال عاطفاً على ما تقديره؛ ثم نصر إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على من جعلهم أعداءهم ربُّك الذي أرسلهم : { وكفى بربك } أي المحسن إليك { هادياً } يهدي بك من قضى بسعادته { ونصيراً* } ينصرك على من حكم بشقاوته .
ولما ذكر سبحانه شكايته من هجرانهم للقرآن ، وقرر عداوتهم له ونصرته عليهم ، أتبع ذلك بما يدل عليه ، فقال عطفاً على ما مضى من الأشباه في الشبه ، وأظهر موضع الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي حملهم على هذا القول : { وقال الذين كفروا } أي غطوا عدواة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أن القرآن كلام لإعجازه لهم متفرقاً ، فضلاً عن كونه مجتمعاً ، وغطوا ما وضح لهم من آثاره الظاهرة الشاهد بوحدانيته ، وغير ذلك من صفاته العلية : { لولا } أي هلا .
ولما كانوا لشدة ضعفهم لا يكادون يسمحون بتسمية القرآن تنزيلاً فضلاً عن أن يسندوا إنزاله إلى الله سبحانه وتعالى ، بنوا للمفعول في هذه الشبهة التي أوردها قولهم : { نُزِّل عليه } ولما عبروا بصيغة التفعيل المشيرة إلى التدريج والتفريق استجلاباً للسامع لئلا يعرض عنهم ، أشاروا إلى أن ذلك غير مراد فقالوا : { القرآن } أي المقتضي اسمه للجمع؛ ثم صرحوا بالمراد بقولهم : { جملة } وأكدوا بقولهم : { واحدة } أي من أوله إلى آخره بمرة ، ليتحقق أنه من عند الله ، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه هو الذي يرتبه قليلاً قليلاً ، فتعبيرهم بما يدل على التفريق أبلغ في مرادهم ، فإنهم أرغبوا السامع في الإقبال على كلامهم بتوطينه على ما يقارب مراده ، ثم أزالوا بالتدريج أتم إزالة ، فكان في ذلك من المفاجأة بالروعة والإقناط مما أمّل من المقاربة ما لم يكن في « أنزل » والله أعلم .

ولما كان التقدير : وما له ينزل عليه مفرقاً ، وكان للتفريق فوائد جليلة ، أشار سبحانه إلى عظمتها بقوله معبراً للإشارة إلى ما اشتملت عليه من العظمة بأداة البعد : { كذلك } أي أنزلناه شيئاً فشيئاً على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه { لنثبت به فؤادك } بالإغاثة بتردد الرسل بيننا وبينك ، وبتمكينك وتمكين أتباعك من تفهم المعاني ، وتخفيفاً للأحكام ، في تحميلها أهل الإسلام ، بالتدريج على حسب المصالح ، ولتنافي الحكمة في الناسخ والمنسوخ ، لما رتب فيه من المصالح ، وتسهيلاً للحفظ لا سيما والأمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ، وتلقيناً للأجوبه في أوقاتها ، وتعظيماً للإعجاز ، لأن ما تحدى بنجم منه فعجز عنه علم أن العجز عن أكثر منه أولى ، فالحاصل أن التفريق أدخل في باب الإعجاز وفي كل حكمة ، فعلم أن هذا الاعتراض فضول ومماراة بما لا طائل تحته من ضيق الفطن ، وقلة الحلية ، وحرج الخطيرة ، دأب المقطوع المبهوت ، لأن المدار الإعجاز ، وأما كونه جملة أو مفرقاً فأمر لا فائدة لهم فيه ، وليست الإشارة محتملة لأن تكون للكتب الماضية ، لأن نزولها إنما كان منجماً كما بينته في سورة النساء عن نص التوراة المشير إليه نص كتابنا ، لا كما يتوهمه كثير من الناس ، ولا أصل له إلا كذبة من بعض اليهود شبهوا بها على أهل الإسلام فمشت على أكثرهم وشرعوا يتكلفون لها أجوبة ، واليهود الآن معترفون بأن التوراة نزلت في نحو عشرين سنة والله الموفق .
ولما كان إنزله مفرقاً أحسن ، أكده بقوله عطفاً على الفعل الذي تعلق به « كذلك » { ورتلناه ترتيلاً* } أي فرقناه في الإنزال إليك تفريقاً في نيف وعشرين سنة؛ وقال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : بيناه بياناً ، والترتيل : التبين في ترسل وتثبت انتهى . وأصله ترتيل الأسنان وهو تفليجها كنور الأقحوان .
ولما كان التقدير : قد بطل ما أتوا به هذا الاعتراض ، عطف عليه قوله : { ولا يأتونك } أي المشركون { بمثل } أي باعتراض في إبطال أمرك يخيلون به لعقول الضعفاء بما يجتهدون في تنميقه وتحسينه وتدقيقه حتى يصير عندهم في غاية الحسن والرشاقة لفظاً ومعنى { إلا جئناك } أي في جوابه { بالحق } ومن الألف واللام الدالة على الكمال يُعرَف أن المراد به الثابت الذي لا شيء أثبت منه ، فيرهق ما أتوا به لبطلانه ، ويفتضح بعد ذلك الستر فضيحة تخجّل القائل والسامع القابل .
ولما كان التقدير في الأصل : بأحق منه ، وإنما عبر بالحق ، لئلا يفهم أن لما يأتون به وجهاً في الحقيقة ، عطف عليه قوله : { وأحسن } أي من مثلهم { تفسيراً* } أي كشفاً لما غطى الفهم من ذلك الذي خيلوا به وادعوا أنهم أوضحوا به وجهاً من وجوه المطاعن ، فجزم أكثر من السامعين بحسنه .

ولما أنتجت هذه الآيات كلها أنهم معاندون لربهم ، وأنهم يريدن بهذه السؤالات أن يضللوا سبيله ، ويحتقروا مكانته ، ويهدروا منزلته ، علم قطعاً أنه يعمر بهم دار الشقاء ، وكان ذلك أدل على أنهم أعمى الناس عن الطرق المحسوسة ، فضلاً عن الأمثال المعلومة ، والتمثيل للمدارك الغامضة ، وأنهم أحقر الناس لأنه لا ينتقص الأفاضل إلا ناقص ، ولا يتكلم الإنسان إلا فيمن هو خير منه ، قال معادلاً لقوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير } [ الفرقان : 24 ] واصفاً لما تقدم أنه أظهره موضع الإضمار من قوله { الذين كفروا } [ الفرقان : 32 ] { الذين يحشرون } أي يجمعون قهراً ماشين مقلوبين { على وجوههم } أو مسحوبين { إلى جهنم } كما أنهم في الدنيا كانوا يعملون ما كأنهم معه لا يبصرون ولا تصرف لهم في أنفسهم ، تؤزهم الشياطين أزاً ، فإن الآخرة مرآة الدنيا ، مهما عمل هنا رئي هناك ، كما أن الدنيا مزرعة الآخرة ، مهما عمل فيها جنيت ثمرته هناك « روى البخاري عن أنس رضي الله عنهما أن رجلاً قال : يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال : » أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة : يعني الراوي عن أنس : بلى وعزة ربنا « .
ولما وصف المتعنتين في أمر القرآن بهذا الوصف ، استأنف الإخبار بأنهم متصفون بما ألزموا به من أن الإتيان بالقرآن مفرقاً وضع للشيء في غير موضعه فقال : { أولئك } أي البعداء البغضاء { شر } أي شر خلق { مكاناً وأضل سبيلاً* } حيث عموا عن طريق الجنة التي لا أجلى منها ولا أوسع ، وسلكوا طريق النار التب لا أضيق منه ولا أوعر ، وعموا عن أن إنزال القرآن نجوماً أولى لما تقدم من اللطائف وغيرها مما لا يحيط به إلا الله تعالى ، » وسبيلاً « تمييز محول عن الفاعل أصله : ضل سبيلهم ، وإسناد الضلال إليه من الإسناد المجازي .
ولما بين أنهم كذبوه وعادوه ، وأشار بآية الحشر إلى جهنم إلى أنه لا يهلكهم بعامة ، عطف على عامل » لنثبت « تسلية له وتخويفاً لهم قوله : { ولقد آتينا } أي بما لنا من العظمة { موسى الكتاب } كما أتيناك ، بينا فيه الشرائع والسنن والأحكام ، وجعلناه هدى ورحمة ، وأنزلناه إليه منجماً في نحو عشرين سنة يقال : إنها ثمان عشرة كما أنزلنا إليك هذا القرآن في نيف وعشرين سنة ، كما بينت ذلك في آخر سورة النساء وغيرها ، على أن أحداً ممن طالع التوراة لا يقدر على إنكار ذلك ، فإنه بيّن من نصوصها . وزاد في التسلية بذكر الوزير ، لأن الرد للاثنين أبعد ، وفيه إشارة إلى أنه لا ينفع في إيمانهم إرسال ملك كما اقترحوا ليكون معه نذيراً ، فقال : { وجعلنا } بما لنا من العظمة { معه أخاه } ثم بينه بقوله : { هارون } وبين محط الجعل بقوله : { وزيراً } أي معيناً في كل أمر بعثناه به ، وهو مع ذلك نبي ، ولا تنافي بين الوزارة والنبوة .

ولما كانت الواو لا ترتب ، فلم يلزم من هذا أن يكون هذا الجعل بعد إنزال الكتاب كما هو الواقع ، رتب عليه قوله : { فقلنا } أي بعد جعلنا له وزيراً . ولما كان المقصود هنا من القصة التسلية والتخويف ، ذكر حاشيتها أولها وآخرها ، وهما إلزام الحجة والتدمير ، فقال : { اذهبا إلى القوم } أي الذين فيهم قوة وقدرة على ما يعانونه وهم القبط { الذين كذبوا بآياتنا } أي المرئية والمسموعة من الأنبياء الماضين قبل إتيانكما في علم الشهادة ، والمرئية والمسموعة منكما بعد إتيانكما في علمنا . فذهبا إليهم فكذبوهما فيما أرياهم وأخبراهم به من الآيات ، لما طبعناهم عليه من الطبع المهيىء لذلك .
ولما كان السياق للإنذار بالفرقان ، طوي أمرهم إلا في عذابهم فقال : { فدمرناهم } أي لذلك { تدميراً* } بإغراقهم أجمعين عل يد موسى عليه السلام في البحر ، لم نبق منهم أحداً مع ما أصبناهم به قبل ذلك من المصائب ، مع اجتهاد موسى عليه السلام في إحيائهم بالإيمان ، الموجب لإبقائهم في الدارين ، عكس ما فعلناه بموسى عليه السلام من إنجائه من الهلاك بإلقائه في البحر ، وإبقائه بمن اجتهد في إعدامه ، وجعلنا لكل منهما حظاً من بحره { هذا ملح أجاج } هو غطاء جهنم ، { وهذا عذب فرات } [ الفرقان : 53 ] عنصره من الجنة ، فليحذر هؤلاء الذين تدعوهم من مثل ذلك إن فعلوا مثل فعل أولئك .

وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)

ولما هدد المكذبين ، بإهلاك الأولين ، الذين كانوا أقوى منهم وأكثر ، وقدم قصة موسى عليه السلام لمناسبة الكتاب في نفسه أولاً؛ وفي تنجيمه ثانياً ، أتبعه أول الأمم ، لأنهم أول ، ولما في عذابهم من الهول ، ولمناسبة ما بينه وبين عذاب القبط ، فقال : { وقوم } أي ودمرنا قوم { نوح لما كذبوا الرسل } بتكذيبهم نوحاً؛ لأن من كذب واحداً من الأنبياء بالفعل فقد كذب الكل بالقوة ، لأن المعجزات هي البرهان على صدقهم ، وهي متساوية الأقدام في كونها خوارق ، لا يقدر على معارضتها ، فالتكذيب بشيء منها تكذيب بالجميع لأنه لا فرق ، ولأنهم كذبوا من مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما سمعوه من أخبارهم ، ولأنهم عللوا تكذيبهم بأنه من البشر فلزمهم تكذيب كل رسول من البشر . ولما كان كأنه قيل : بأيّ شيء دمروا؟ قال : { أغرقناهم } كما أغرقنا آل فرعون بأعظم مما أغرقناهم { وجعلناهم } أي قوم نوح في ذلك { للناس آية } أي علامة على قدرتنا على ما نريد من إحداث الماء وغيره وإعدامه والتصرف في ذلك بكل ما نشاء ، وإنجاء من نريد بما أهلكنا به عدوه { وأعتدنا } أي هيأنا تهيئة قريبة جداً وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير؛ وكان الأصل : لهم ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : { للظالمين } أي كلهم في أيّ زمان كانوا ، لأجل ظلمهم بوضعهم الأشياء في غير مواضعها { عذاباً أليماً* } لاسيما في الآخرة .
ولما ذكر آخر الأمم المهلكة بعامة وأولها ، وكان إهلاكهما بالماء ، ذكر من بينهما ممن أهلك بغير ذلك ، إظهاراً للقدرة والاختيار ، وطوى خبرهم بغير العذاب لأنه كما مضى في سياق الإنذار فقال : { وعاداً } أي ودمرنا عاداً بالريح { وثموداْ } بالصيحة { وأصحاب الرس } أي البئر التي هي غير مطوية؛ قال ابن جرير : والرس في كلام العرب كل محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك . أي دمرناهم بالخسف { وقروناً بين ذلك } أي الأمر العظيم المذكور ، وهو بين كل أمتين من هذه الأمم { كثيراً* } وناهيك بما يقول فيه العلي الكبير : إنه كثير؛ أسند البغوي في تفسير { أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] في البقرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر ، فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان قال : « أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا ، ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عز وجل » أخرجه الترمذي في الفتن وأحمد والطبراني وابن ماجه في الفتن أيضاً لكن ببعضه وليس عند واحد منهم اللفظ المقصود من السبعين أمة ، وفي بعض ألفاظهم وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء وهذا يدل على أن الذي كان قد بقي من النهار نحو العشر من العشر ، وهذا يقتضي إذا اعتبرنا ما مضى لهذه الأمة من الزمان أن يكون الماضي من الدنيا من خلق آدم عليه السلام في يوم الجمعة الذي يلي الستة الأيام التي خلقت فيها السماوات والأرض أكثر من مائة ألف سنة - والله أعلم .

ولما قدم سبحانه أنه يأتي في هذا الكتاب بما هو الحق في جواب أمثالهم ، بين أنه فعل بالجميع نحو من هذا ، فقال تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتأسية وبياناً لتشريفه بالعفو عن أمته : { وكلاًّ } أي من هذه الأمم { ضربنا } بما لنا من العظمة { له الأمثال } حتى وضح له السبيل ، وقام - من غير شبهة - الدليل { وكلاًّ تبرنا تتبيراً* } أي جعلناهم فتاتاً قطعاً بليغة التقطيع ، لا يمكن غيرنا أن يصلها ويعيدها إلى ما كانت عليه قبل التفتيت .

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)

ولما ذكر الإهلاك بالماء وبغيره ، وكان الإهلاك بالماء تارة بالبحر ، وتارة بالإمطار ، وختم بالخسف ، ذكر الخسف الناشىء عن الأمطار ، بحجارة النار ، مع الغمر بالماء ، دلالة على تمام القدرة ، وباهر العظمة ، وتذكيراً بما يرونه كل قليل في سفرهم إلى الأرض المقدسة لمتجرهم ، وافتتح القصة باللام المؤذنة بعظيم الاهتمام ، مقرونة بحرف التحقيق ، إشارة إلى أنهم لعدم الانتفاع بالآيات كالمنكرين للمحسوسات ، وغير الأسلوب تنبيهاً على عظيم الشأن وهزاً للسامع فقال : { ولقد أتوا } أي هؤلاء المكذبون من قومك ، وقال : { على القرية } - وإن كانت مدائن سبعاً أو خمساً كما قيل - تحقيراً لشأنها في جنب قدرته سبحانه ، وإهانة لمن يريد عذابه ، ودلالة على جمع الفاحشة لهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد كما دل عليه التعبير بمادة « قرا » الدالة على الجمع { التي أمطرت } أي وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة ، ولذا قال : { مطر السوء } وهي قرى قوم لوط ، ثم خسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله في أنواع الخبث؛ قال البغوي : كانت خمس قرى فأهلك الله أربعاً منها ونجت واحدة وهي أصغرها ، وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث .
ولما كانوا يمرون عليها في أسفارهم ، وكان من حقهم أن أن يتعظوا بحالهم ، فيرجعوا عن ضلالهم ، تسبب عن ذلك استحقاقهم للإنكار الشديد في قوله : { أفلم يكونوا } أي بما في جبلاتهم من الأخلاق العالية { يرونها } أي في أسفارهم إلى الشام ليعتبروا بما حل بأهلها من عذاب الله فيتوبوا .
ولما كان التقدير : بل رأوها ، أضرب عنه بقوله : { بل } أي لم يكن تكذيبهم بسبب عدم رؤيتها وعدم علمهم بما حل بأهلها ، بل بسبب أنهم { كانوا } يكذبون بالقيامة كأنه لهم طبع .
ولما كان عود الإنسان إلى ما كان من صحته محبوباً له ، كان ينبغي لهم لو عقلوا أن يعلقوا رجاءهم بالبعث لأنه لا رجوع إلى الحياة ، فهو كرجوع المريض لا سيما المدنف إلى الصحة ، فلذلك قال معبراً بالرجاء تنبيهاً على هذا : { لا يرجون نشوراً* } بعد الموت ليخافوا الله عز وجل فيخلصوا له فيجازيهم على ذلك ، لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة ، واستمروا عليه قرناً بعد قرن حتى تمكن تمكناً لا ينفع معه الاعتبار إلا لمن شاء الله .
ولما أثبت تكذيبهم بالآخرة ، عطف عليه تحقيقاً قوله ، مبيناً أنهم لم يقتصروا على التكذيب بالممكن المحبوب حتى ضموا إليه الاستهزاء بمن لا يمكن أصلاً في العادة أن يكون موضعاً للهزء : { وإذا رأوك } أي مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك لو لم تأتهم بمعجزة ، فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول { إن } أي ما { يتخذونك إلا هزواً } عبر بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، يقولون محتقرين : { أهذا } وتهكموا مع الإنكار في قولهم { الذي بعث الله } أي المستجمع لنعوت العظمة { رسولاً* } فإخراجهم الكلام في معرض التسليم والإقرار - وهو في غاية الجحود - بالغ الذروة من الاستهزاء ، فصار المراد عندهم أن هذا الذي ادعاه من الرسالة مما لا يجوز أن يعتقد .

ثم استأنفوا معجبين من أنفسهم ، مخيلين غيرهم من الالتفات إلى ما يأتي به من المعجزات ، قائلين : { إن } أي إنه { كاد } وعرّف بأن « إن » مخففة لا نافية باللام فقال : { ليضلنا } أي بما يأتي به من هذه الخوارق التي لا يقدر غيره على مثلها ، واجتهاده في إظهار النصح { عن آلهتنا } هذه التي سبق إلى عبادتها من هو أفضل منا رأياً وأكثر للأمور تجربة . ولما كانت هذه العبارة مفهمة لمقاربة الصرف عن الأصنام ، نفوه بقولهم : { لولا أن صبرنا } بما لنا من الاجتماع والتعاضد { عليها } أي على التمسك بعبادتها .
ولما لزم قولهم هذا أن الأصنام تغني عنهم ، نفاه مهدداً مؤكداً التهديد لفظاعة فعلهم بقوله ، عطفاً على ما تقديره : فسوف يرون - أو من يرى منهم - أكثرهم قد رجع عن اعتقاد أن هذه الأصنام آلالهة : { وسوف يعلمون } أي في حال لا ينفعهم فيه العمل وإن طالت مدة الإمهال والتمكين { حين يرون العذاب } أي في الدنيا والآخرة { من أضل سبيلاً* } هم أوالدعي لهم إلى ترك الأصنام الذي ادعوا إضلاله بقولهم { ليضلنا } .
ولما أخبره تعالى بحقيقة حالهم ، في ابتدائهم ومآلهم ، وكان ذلك مما يحزنه صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على رجوعهم ، ولزوم ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم ، سلاه بقوله معجباً من حالهم : { أرأيت من اتخذ } أي كلف نفسه أن أخذ { إلهه هواه } أي أنهم حقروا الإله بإنزاله إلى رتبة الهوى فهم لا يعبدون إلا الهوى ، وهو ميل الشهوة ورمي النفس إلى الشيء ، لا شبهة لهم أصلاً في عبادة الأصنام يرجعون عنها إذا جلت ، فهم لا ينفكون عن عبادتها ما دام هواهم موجوداً ، فلا يقدر على كفهم عن ذلك إلا القادر على صرف تلك الأهواء ، وهو الله وحده وهذا كما تقول : فلان اتخذ سميره كتابه ، أي أنه قصر نفسه على مسامرة الكتاب فلا يسامر غير الكتاب ، وقد يشاركه في مسامرة الكتاب غيره ، ولو قلت : اتخذ كتابه سميره ، لانعكس الحال فكان المعنى أنه أنه قصر نفسه على مطالعة السمير ولم ينظر في كتاب في وقت السمر وقد يشاركه غيره في السمير ، أو قصر السمير على الكتاب والكتاب على السمير كما قصر الطين على الخزفية في قولك : اتخذت الطين خزفاً ، فالمعنى أن هذا المذموم قصر نفسه على تأله الهوى فلا صلاح له ولا رشاد وقد يتأله الهوى غيره ، ولو قيل : من اتخذ هواه إلهه ، لكان المعنى أنه قصر هواه على الإله فلا غيّ له ، لأن هواه تابع لأمر الإله ، وقد يشاركه في تأله الإله غيره؛ قال أبو حيان : والمعنى أنه لم يتخذ إلهاً إلا هواه - انتهى .

فلو عكس لقيل : لم يتخذ هوى إلا إلهه ، وهو إذا فعل ذلك فقد سلب نفسه الهوى فلم يعمل به إلا فيما وافق أمر إلهه ومما يوضح لك انعكاس المعنى بالتقديم والتأخير أنك لو قلت : فلان اتخذ عبده أباه ، لكان معناه أنه عظم العبد ، ولو قيل : إنه اتخذ أباه عبده ، لكان معناه أنه أهان الأب ، وسواء في ذلك إتيانك به هكذا على وزان ما في القرآن أو نكرت أحدهما ، فإنك لا تجد ذوقك فيه يختلف في أنه إذا قدم الحقير شرفه ، وإذا قدم الشريف حقره ، وكذا لو قلت : إتخذ إصطبله مسجداً أو صديقه أباً أو عكست ، ولو كان التقديم بمجرد العناية من غير اختلاف في الدلالة قدم في الجاثية الهوى ، فإن السياق والسباق له ، وحاصل المعنى أنه اضمحل وصف الإله ، ولم يبق إلا الهوى ، فلو قدم الهوى لكان المعنى أنه زال وغلبت عليه صفة الإله ، ولم يكن ينظر إلا إليه ، ولا حكم إلا له ، كما في الطين بالنسبة إلى الخزف سواء - والله أعلم .
ولما كان لا يقدر على صرف الهوى إلا الله ، تسبب عن شدة حرصه على هداهم قوله : { أفأنت تكون } ولما كان مراده صلى الله عليه وسلم حرصاً عليهم ورحمة لهم ردهم عن الغي ولا بد ، عبر بأداة الاستعلاء في قوله : { عليه وكيلاً* } أي من قبل الله بحيث يلزمك أن ترده عن هواه إلى ما أمر به الله قسراً ، لست بوكيل ، ولكنك رسول ، ليس عليك إلا البلاغ ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .
ولما انتفى الرد عن الهوى قسراً بالوكالة ، نفى الرد طوعاً بتقبيح الضلالة ، فذكر المانع منه بقوله معادلاً لما قبله ، منكراً حسبانه ، لا كونه هو الحاسب ، أو أنكر كونه هو الحاسب ، مع ما له من العقل الرزين ، والرأي الرصين ، ويكون { تحسب } معطوفاً على « تكون » : { أم تحسب أن أكثرهم } أي هؤلاء المدعوين { يسمعون } أي سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم { أو يعقلون } ما يرون ولو لم يكن لهم سمع حتى يطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر .
ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي ، أثبت ما أفهمه بقوله : { إن } أي ما { هم إلا كالأنعام } أي في عدم العقل لعدم الانتفاع به { بل هم أضل } أي منها { سبيلاً* } لأنهم لا ينزجرون بما يسمعون وهي تنزجر ، ولا يشكرون للمحسن وهو وليهم ، لا يجانبون المسيء وهو عدوهم ، ولا يرغبون في الثواب ، ولا يخافون العقاب ، وذلك لأنا حجبنا شموس عقولهم بظلال الجبال الشامخة من ضلالهم ، ولو آمنوا لانقشعت تلك الحجب ، وأضاءت أنوار الإيمان ، فأبصروا غرائب المعاني ، وتبدت لهم خفايا الأسرار

{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } [ يونس : 9 ] فكما أن الإنسان - وإن كان بصيراً - لا يميز بين المحسوسات ما لم يشرق عليها نور الشمس ، فكذلك الإنسان - وإن كان عاقلاً ذا بصيرة - لا تدرك بصيرته المعاني المعلومات على ما هي عليه ما لم يشرق عليها نور الإيمان ، لأن البصيرة عين الروح كما أن البصر عين الجسد؛ ولما كان من المعلوم أنهم يسمعون ويعقلون وأن المنفي إنما هو انتفاعهم بذلك ، كان موضع عجب من صرفهم عن ذلك ، فعبقه سبحانه بتصرفه في الأمور الحسية مثالاً للأمور المعنوية ، ولأن عمله في الباطن ينيره إذا شاء بشمس المعارف كعمله في الظاهر سواء ، دليلاً على سلبهم النفع بما أعطاهموه .

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)

ولما بين جمود المعترضين على دلائل الصانع ، وتناهي جهلهم ، وفساد طريقتهم ، وكان المراد من العبد في تعرف ذلك أن ينظر في أفعال سيده بعين الحقيقة نظراً تفنى لديه الأغيار ، فلا يرى إلا الفاعل المختار ، خاطب رأس المخلصين الناظرين هذا النظر ، حثاً لأهل وده على مثل ذلك ، فقال ذاكراً لأنواع من الدلائل الدالة على وجود الصانع ، وإحاطة علمه ، وشمول قدرته ، مشيراً إلى أن الناظر في هذا الدليل - لوضوحه في الدلالة على الخالق - كالناظر إلى الخالق ، معبراً بوصف الإحسان تشويقاً إلى إدامة النظر إليه والإقبال عليه : { ألم تر } وأشار إلى عظم المقام وعلو الرتبة بحرف الغاية مع أقرب الخلق منزلة وأعلاهم مقاماً فقال : { إلى ربك } أي المحسن إليك ، والأصل : إلى فعله؛ وأشار إلى زيادة التعجب من أمره بجعله في معرض الاستفهام فقال : { كيف مد الظل } وهو ظلمة ما منع ملاقاة نور الشمس ، قال أبو عبيد : وهو ما تنسخه الشمس وهو بالغداة ، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال . والظل هنا الليل لأنه ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها مدة تحجب نور الشمس بما قابل قرصها من الأرض حتى امتد بساطه ، وضرب فسطاطه ، كما حجب ظل ضلالهم أنوار عقولهم ، وغفلة طباعهم نفوذَ أسماعهم { ولو شاء لجعله } أي الظل { ساكناً } بإدامة الليل لا تذهبه الشمس كما في الجنة لقوله { وظل ممدود } [ الواقعة : 30 ] وإن كان بينهما فرق ، ولكنه لم يشأ ذلك بل جعله متحركاً بسوق الشمس له .
ولما كان إيجاد النهار بعد إعدامه ، وتبيين الظل به غبّ إبهامه ، أمراً عظيماً ، وإن كان قد هان بكثرة الإلف ، أشار بأداة التراخي ومقام العظمة فقال : { ثم جعلنا } أي بعظمتنا { الشمس عليه دليلاً* } أي يدور معها حيثما دارت ، فلولا هي ما ظهر أن لشيء ظلاًّ ، ولولا النور ما عرف الظلام ، والأشياء تعرف بأضدادها .
ولما كانت إزالته شيئاً فشيئاً بعد مدة كذلك من العظمة بمكان . قال منبهاً على فضل مدخول « ثم » وترتبه متصاعداً في درج الفضل ، فما هنا أفضل مما قبله ، وما قبله أجلّ مما تقدمه ، تشبيهاً لتباعد ما بين المراتب الثلاث في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت : { ثم قبضناه } أي الظل ، والقبض : جمع المنبسط { إلينا } أي إلى الجهة التي نريدها ، لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها؛ قال الرازي رحمه الله في اللوامع : وهذه الإضافة لأن غاية قصر الظل عند غاية تعالي الشمس ، والعلو موضع الملائكة وجهة السماء التي فيها أرزاق العباد ، ومنها نزول الغيث والغياث ، وإليها ترتفع أيدي الراغبين ، وتشخص أبصار الخائفين - انتهى . { قبضاً يسيراً* } أي هو - مع كونه في القلة بحيث يعسر إدراكه حق الإدراك - سهل علينا ، ولم نزل ننقصه شيئاً فشيئاً حتى اضمحل كله ، أو إلا يسيراً ، ثم مددناه أيضاً بسير الشمس وحجبها ببساط الأرض قليلاً قليلاً ، أولاً فأولاً بالجبال والأبنية والأشجار ، ثم بالروابي والآكام والظراب وما دون ذلك ، حتى تكامل كما كان ، وفي تقديره هكذا من المنافع ما لا يحصى ، ولو قبض لتعطلت أكثر منافع الناس بالظل والشمس جميعاً ، فالحاصل أنه يجعل بواطنهم مظلمة بحجبها عن أنوار المعارف فيصيرون كالماشي في الظلام ، ويكون نفوذهم في الأمور الدنيوية كالماشي بالليل في طرق قد عرفها ودربها بالتكرار ، وحديث علي رضي الله عنه في الروح الذي مضى عند « والطبيات للطيبين » في النور شاهد حسي لهذا المر المعنوي - والله الموفق .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

ولما تضمنت هذه الآية الليل النهار ، قال مصرحاً بهما دليلاً على الحق ، وإظهاراً للنعمة على الخلق : { وهو } أي ربك وحده { الذي جعل } ولما كان ما مضى في الظل أمراً دقيقاً فخص به أهله ، وكان أمر الليل والنهار ظاهراً لكل أحد ، عم فقال : { لكم الليل } أي الذي تكامل به مد الظل { لباساً } أي ساتراً للأشياء عن الأبصار كما يستر اللباس { والنوم سباتاً } أي نوماً وسكوناً وراحة ، عبارة عن كونه موتاً أصغر طاوياً لما كان من الإحساس ، قطعاً عما كان من الشعور والتقلب ، دليلاً لأهل البصائر على الموت؛ قال البغوي وغيره : وأصل السبت القطع . وفي جعله سبحانه كذلك من الفوائد الدينية والدنيوية ما لا يعد ، وكذا قوله : { وجعل النهار نشوراً* } أي حياة وحركة وتقلباً بما أوجد فيه من اليقظة المذكرة بالبعث ، المهيئة للتقلب ، برد ما أعدمه النوم من جميع الحواس؛ يحكى أن لقمان قال لابنه : كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر . فالآية من الاحتباك : ذكر السبات أولاً دليلاً على الحركة ثانياً ، والنشور ثانياً دليلاً على الطيّ والسكون أولاً .
ولما دل على عظمته بتصرفه في المعاني بالإيجاد والإعدام ، وختمه بالإماتة والإحياء بأسباب قريبة ، أتبعه التصرف في الأعيان بمثل ذلك ، دالاًّ على الإماتة والإحياء بأسباب بعيدة ، وبدأه بما هو قريب للطافته من المعاني ، وفيه النشر الذي ختم به ما قبله ، فقال : { وهو } أي وحده { الذي أرسل الرياح } فقراءة ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس ، وقراءة غيره بالجمع أدل على الاختيار بكونها تارة صباً وأخرى دبوراً ، ومرة شمالاً وكرة جنوباً وغير ذلك { بشراً } أي تبعث بأرواحها السحاب ، كما نشر بالنهار أرواح الأشباح { بين يدي رحمته } لعباده بالمطر .
ولما كان السحاب قريباً من الريح في اللطافة ، والماء قريباً منهما ومسبباً عما تحمله الريح من السحاب ، أتبعهما به ، ولما كان في إنزاله من الدلالة على العظمة بإيجاده هنالك وإمساكه ثم إنزاله في الوقت المراد والمكان المختار على حسب الحاجة ما لا يخفى ، غير الأسلوب مظهراً للعظمة فقال : { وأنزلنا من السماء } أي حيث لا ممسك للماء فيه غيره سبحانه { ماء } ثم أبدل منه بياناً للنعمة به فقال : { طهوراً* } أي طاهراً في نفسه مطهراً لغيره ، اسم آلة كالسحور والسنون لما يتسحر به ويستن به ، ونقل أبو حيان عن سيبويه أنه مصدر لتطهّر المضاعف جرى على غير فعله . وأما جعله مبالغة لطاهر فلا يفيد غير أنه بليغ الطهارة في نفسه لأن فعله قاصر .
ولما كانت هذه الأفعال دالة على البعث لكن بنوع خفاء ، أتبعها ثمرة هذا الفعل دليلاً واضحاً على ذلك ، فقال معبراً بالإحياء لذلك ، معللاً للطهور المراد به البعد عن جميع ما يدنسه من ملوحة أو مرارة أو كبرتة ونحو ذلك مما يمنع كمال الانتفاع به : { لنحيي به } أي بالماء .

ولما كان المقصود بإحياء الأرض بالنبات إحياء البلاد لإحياء أهلها قال : { بلدة } ولو كان ملحاً أو مراً أو مكبرتاً لم تكن فيه قوة الإحياء . ولما كره أن يفهم تخصيص البلاد ، أجري الوصف باعتبار الموضع ليعم كل مكان فقال : { ميتاً } أي بما نحدث فيه من النبات بعد أن كان قد صار هشيماً ثم تراباً ، ليكون ذلك آية بينة على قدرتنا على بعث الموتى بعد كونهم تراباً .
ولما كان في مقام العظمة ، بإظهار القدرة ، زاد على كونه آية على البعث بإظهار النبات الذي هو منفعة للرعي منفعة أخرى عظيمة الجدوى في الحفظ من الموت بالشرب كما كانت آية الإحياء حافظة بالأكل فقال : { ونسقيه } أي الماء وهو من أسقاه - مزيد سقاه ، وهما لغتان . قال ابن القطاع : سقيتك شراباً وأسقيتك ، والله تعالى عباده وارضه كذلك . { مما خلقنا } أي بعظمتنا .
ولما كانت النعمة في إنزال الماء على الأنعام وأهل البوادي ونحوهم أكثر ، لأن الطير والوحش تبعد في الطلب فلا تعدم ما تشرب ، خصها فقال : { أنعاماً } وقدم النبات لأن به حياة الأنعام ، والأنعام لأن بها كمال حياة الإنسان ، فإذا وجد ما يكفيها من السقي تجزّأ هو بأيسر شيء ، وأتبع ذلك قوله : { وأناسيّ كثيراً* } أي بحفظنا له في الغدران لأهل البوادي الذين يبعدون عن الأنهار والعيون وغيرهم ممن أردنا ، لأنه تعالى لا يسقي جميع الناس على حد سواء ، ولكن يصيب بالمطر من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء ، ويسقي بعض الناس من غير ذلك ، ولذا نكر المذكورات - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء - وتلا هذه الآية . وقال البغوي : وذكر ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل وبلغوا به ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه قال : ليس من سنة بأمطر من أخرى ، ولكن الله قسم الأرزاق ، فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم ، فإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، وإذا عصوا جميعاً صرف الله تعالى ذلك إلى الفيافي والبحار - انتهى . وكان السر في ذلك أنه كان من حقهم أن يطهروا ظواهرهم وبواطنهم ، ويطهروا غيرهم ليناسبوا حاله في الطهورية ، فلما تدنسوا بالقاذورات تسببوا في صرفه عنهم .
ولما ذكر سبحانه أن من ثمرة إنزال القرآن نجوماً إحياء القلوب التي هي أرواح الأرواح ، وأتبعه ما لاءمه ، إلى أن ختم بما جعله سبباً لحياة الأشباح ، فكان موضعاً لتوقع العود إلى ما هو حياة الأرواح ، قال عاطفاً على متعلق { كذلك لنثبت } [ الفرقان : 32 ] منبهاً على فائدة أخرى لتنجيمه أيضاً : { ولقد صرفناه } أي وجهنا القرآن .

كما قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه المراد ههنا ، ويؤيده ما بعده - وجوهاً من البيان ، وطرقناه طرقاً تعيي أرباب اللسان ، في معان كثيرة جداً { بينهم } في كل قطر عند كل قوم { ليذكروا } بالآيات المسموعة ما ركزنا في فطرهم من الأدلة العقلية والمؤيدة بالآيات المرئية ولو على أدنى وجوه التذكر المنجية لهم - بما أشار إليه الإدغام .
ولما كان القرآن قائداً ولا بد لمن أنصف إلى الإيمان ، دل على أن المتخلف عنه إنما هو معاند بقوله : { فأبى } أي لم يرد { أكثر الناس } أي بعنادهم { إلا كفوراً* } مصدر كفر مبالغاً فيه .

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)

ولما كان تعنتهم بأن ينزل عليه ملك فيكون معه نذيراً ، ربما أثار في النفس طلب إجابتهم إلى مقترحهم حرصاً على هدايتهم ، فأومأ أولاً إلى أنه لا فائدة في ذلك بأن مؤازرة هارون لموسى عليهما السلام لم تغن عن القبط شيئاً ، وثانياً بأن المدار في وجوب التصديق للنذير الإتيان بما يعجز ، وكان ذلك موجوداً في آيات القرآن ، المصرفة في كل زمان ومكان بكل بيان ، فكانت كل آية منه قائمة مقام نذير ، قال مشيراً إلى أنه إنما ترك ذلك لحكم يعلمها : { ولو شئنا لبعثنا } أي بما لنا من العظمة ونفوذ الكلمة { في كل قرية نذيراً* } أي من البشر أو الملائكة أو غيرهم من عبادنا ، كما قسمنا المطر لأن الملك - كما قدمنا أول السورة - كله لنا ، ليس لنا شريك يمنع من ذلك بما له من الحق ، ولا ولد يمنع بما له من الدلة ، ولكنا لم نفعل لما في آيات القرآن من الكفاية في ذلك ، ولما في انفرادك بالدعوة من الشرف لك - وغير ذلك من الحكمة { فلا تطع الكافرين } فيما قصدوا من التفتير عن الدعاء به ، بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة ، أو من القلق من صادع الإنذار ، ويخيلون أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك { وجاهدهم } أي بالدعاء { به } أي القرآن الذي تقدم التحديث عنه في { ولقد صرفناه } [ الفرقان : 5 ] بإبلاغ آياته مبشرة كانت أو منذرة ، والاحتجاج ببراهينه { جهاداً كبيراً* } جامعاً لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة ، لأن في ذلك إقبال كثير من الناس إليك واجتماعهم عليك ، فيتقوى أمرك ، ويعظم خطبك ، وتضعف شوكتهم ، وتنكسر سورتهم .
ولما ذكر تصريف الفرقان ، ونشره في جميع البلدان ، بعد إثارة الرياح ونشر السحاب ، وخلط الماء بالتراب ، لجمع النبات وتفريقه ، أتبعه - تذكيراً بالنعمة ، وتحذيراً من إحلال النقمة - الحجز بين أنواع الماء الذي لا أعظم امتزاجاً منه ، وجمع كل نوع منها على حدته ، ومنعه من أن يختلط بالآخر مع اختلاط الكل بالتراب المتصل بعضه ببعض ، فقال عائداً إلى أسلوب الغيبة تذكيراً بالإحسان بالعطف على ضمير « الرب » في آية الظل : { وهو } أي وحده { الذي مرج البحرين } أي الماءين الكثيرين الواسعين بأن جعلهما مضطربين كما تشاهدونه من شأن الماء؛ وقال الرازي : خلى بينهما كأنه أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج ، وأصل المرج يدل على ذهاب ومجيء واضطراب والتباس .
ولما كان الاضطراب موجباً للاختلاط ، وكانت « ال » دائرة بين العهد والجنس ، تشوف السامع إلى السؤال عن ذلك ، فأجيب بأن المراد جنس الماء الحلو والملح ، لأن البحر في الأصل الماء الكثير ، وبأنه سبحانه منعهما من الاختلاط ، مع الموجب له في العادة ، بقدرته الباهرة ، وعظمته القاهرة ، فقال : { هذا عذب } أي حلو سائغ { فرات } أي شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة ، لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض وما كان في بطنها { وهذا ملح } شديد الملوحة { أجاج } أي مر محرق بملوحته ومرارته ، لا يصلح لسقي ولا شرب ، ولعله أشار بأداة القرب في الموضعين تنبيهاً على وجود الموضعين ، مع شدة المقاربة ، لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطىء البحر الملح بالقرب منه جداً خرج الماء عذباً جداً { وجعل } أي الله سبحانه { بينهما برزخاً } أي حاجزاً من قدرته مانعاً من اختلاطهما .

ولما كانا يلتقيان ولا يختلطان ، كان كل منهما بالاختلاط في صورة الباغي على الآخر ، فأتم سبحانه تقرير النعمة في منعهما الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ ، تشبيهاً لكل منهما بالمتعوذ ، ليكون الكلام - مع أنه خبر - محتملاً للتعوذ ، فيكون من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة فقال : { وحجراً } أي منعاً { محجوراً* } أي ممنوعاً من أن يقبل رفعاً ، كل هذا التأكيد إشارة إلى جلالة هذه الآية وإن كانت قد صارت لشدة الإلف بها معرضاً عنها إلى الغاية ، لتعرف بها قدرته ، وتشكر نعمته .
ولما ذكر تعالى قدرته في منع الماء من الاختلاط ، أتبعه القدرة على خلطه ، لئلا يظن أنه ممتنع ، تقريراً للفعل بالاختيار ، وإبطالاً للقول بالطبائع ، فقال معبراً بالضمير كما تقدمه حثاً على استحضار الأفعال والصفات التي تقدمت ، لتعرف الحيثية التي كرر الضمير لأجلها : { وهو } أي وحده { الذي خلق من الماء } بخلطه مع الطين { بشراً } كما تشاهدونه يخلق منه نباتاً وشجراً وورقاً وثمراً { فجعله } أي بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة ، والتدوير في أدوار التربية { نسباً } أي ذكراً ينسب إليه { وصهراً } أي أنثى يصاهر - أي يخالط بها إلى الذكر ، فقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين : عذبا وملحاً ، وخلط ماء الذكر بماء الأنثى متى أراد فصور منه آدمياً ، ومنعه من ذلك إذا أراد ، كما أنه ميز بين العذب والملح ويخلط بينهما إذا أراد بعلمه الشامل وقدرته التامة { وكان ربك } أي المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك { قديراً* } على كل شيء قدرته على ما ذكر من إبداع هذه الأمور المتباعدة من مادة واحدة فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق ، سهل الأخلاق ، ويخذل من يشاء فيجعله مرير الأخلاق كثير الشقاق ، أو ملتبس الأخلاق ، عريقاً في النفاق ، فارغب إلى هذا الرب الشامل القدرة ، التام العلم .
ولما أثبت له بهذه الأدلة القدرة على كل شيء ، قال معجباً منهم في موضع الحال من « ربك » عوداً إلى تهجين سيرتهم في عبادة غيره ، معبراً بالمضارع ، إشارة إلى أنهم لو فعلوا ذلك مرة لكان في غاية العجب ، فكيف وهو على سبيل التجديد والاستمرار؟ ومصوراً لحالهم زيادة في تبشيعها : { ويعبدون } أي الكفرة { من دون } أي ممن يعلمون أنه في الرتبة دون { الله } المستجمع لصفات العظمة ، بحيث إنه لا ضر ولا نفع إلا وهو بيده .

ولما كان هذا السياق لتعداد نعمه سبحانه ، وكان الحامل للإنسان على الإذعان رجاء الإحسان ، أو خوف الهوان ، وكان رجاء الإحسان مقبلاً به إلى المحسن في السر والإعلان ، قدم النفع فقال : { ما لا ينفعهم } أي بوجه .
ولما كان الخوف إنما يوجب الإقبال ظاهراً فقط ، أتبعه قوله : { ولا يضرهم } أي أصلاً في إزالة نعمة من نعم الله عنهم ، فلا أسخف عقلاً ممن يترك من بيده كل نفع وضر وهو يتقلب في نعمه ، في يقظته ونومه ، وأمسه ويومه ، ويقبل على من لا نفع بيده ولا ضر أصلاً؛ وأظهر في موضع الضمير بياناً للوصف الحامل على ما لا يفعله عاقل ، وأفرد تحقيراً لهم فقال : { وكان الكافر } مع علمه بضعفه وعجزه .
ولما كان الكافر لا يمكن أن يصافي مسلماً ما دام كافراً ، وكانت مصافاته لغيره حاصلة إما بالفعل أو بالقوة ، عدت مصارمته لغيره عدماً ، فكانت مصارمته خاصة بأولياء الله ، وكان ذلك أشد لذمه ، دل عليه بتقديم الجار فقال : { على ربه } أي المحسن إليه لا غيره { ظهيراً* } معيناً لشياطين الإنس والجن على أولياء الله ، والتعبير ب « على » دال على أنه وإن كان مهيناً في نفسه حقيراً فاعل فعل العالي على الشيء القوي الغليظ الغالب له ، المعين عليه ، من قولهم : ظهر الأرض لما علا منها وغلظ ، وأمر ظاهر لك ، أي غالب ، والظاهر : القوي والمعين ، وذلك لأنه يجعل لما يعبده من الأوثان نصيباً مما تفرد الله بخلقه ، ثم يجعل لها أيضاً بعض ما كان سماه لله ، ويعاند أولياء الله من الأنبياء وغيرهم ، وينصب لهم المكايد والحروب ، ويؤذيهم بالقول والفعل ، مع علمه بأن الله معهم لما يشاهدونه من خرقه لهم العوائد ، فكان هذا فعل من لا يعبأ بالشيء { لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً } [ الفرقان : 21 ] { أن لا تعلوا على الله } [ الدخان : 19 ] وهو في الحقيقة تهكم بالكفار ، لأنهم يفعلون ما يلزم عليه هذا اللازم الذي لا يدور في خلد عاقل .
ولما كان التقدير تسلية له صلى الله عليه وسلم : فالزم ما نأمرك به ولا يزد همُّك بردهم عما هم فيه ، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلاً ، عطف عليه قوله : { وما أرسلناك } أي بما لنا من العظمة .
ولما كان سياق السورة للإنذار ، لما ذكر فيها من سوء مقالهم ، وقبح أفعالهم ، حسن التعبير في البشارة بما يدل على كثرة الفعل ، ويفهم كثرة المفعول ، بشارة بكثرة المطيع ، وفي النذارة بما يقتضي أن يكون صفة لازمة فقال : { إلا مبشراً } أي لكل من يؤمن { ونذيراً* } لكل من يعصي .

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)

ولما وقع جوابهم عن قولهم { لولا أنزل إليه ملك } [ الفرقان : 7 ] وكان قد بقي قولهم { أو يلقى إليه كنز } [ الفرقان : 8 ] أشير إلى مزيد الاهتمام بجوابه بإبرازه في صورة الجواب لمن كأنه قال : ماذا يقال لهم إذا تظاهروا وطعنوا في الرسالة بما تقدم وغيره؟ فقال : { قل } أي لهم يا أكرم الخلق حقيقة ، وأعدلهم طريقة محتجاً عليهم بإزالة ما يكون موضعاً للتهمة : { ما أسألكم عليه } أي على الإبلاغ بالبشارة والنذارة { من أجر } لتتهموني أني أدعوكم لأجله ، أو تقولوا : لولا ألقي إليه كنز ليغتني به عن ذلك ، فكأنه يقول : الاقتصار عن التوسع في المال إنما يكره لمن يسأل الناس ، وليس هذا من شيمي قبل النبوة فكيف بما بعدها؟ فلا غرض لي حينئذ إلا نفعكم . ثم أكد هذا المعنى بقوله ، مستثنياً لأن الاستثناء معيار العموم : { إلا من } أي إلا أجر من { شاء أن يتخذ } أي يكلف نفسه ويخالف هواه ويجعل له { إلى ربه سبيلاً* } فإنه إذا اهتدى بهداية ربه كان لي مثل أجره ، لا نفع لي من جهتكم إلا هذا ، فإن سيتم هذا أجراً فهو مطلوبي ، ولا مرية في أنه لا ينقص أحداً شيئاً من دنياه ، فلا ضرر على أحد في طي الدنيا عني ، فأفاد هذا فائدتين : إحداهما أنه لا طمع له أصلاً في شيء ينقصهم ، والثانية إظهار الشفقة البالغة بأنه يعتد بمنفعتهم الموصلة لهم إلى ربهم ثواباً لنفسه .
ولما كان المقصود ردهم عن عنادهم ، وكان ذلك في غاية الصعوبة ، وكان هذا الكلام لا يرد متعنتيهم - وهم الأغلب - الذين تخشى غائلتهم ، عطف على « قل » قوله : { وتوكل } أي أظهر العجز والضعف واستسلم واعتمد في أمرك كله ، ولا سيما في مواجهتهم بالإنذار ، وفي ردهم عن عنادهم .
ولما كان الوكيل يحمل عن الموكل ثقل ما أظهر له عجزه فيه ويقوم بأعبائه حتى يصير كمن يحمل عن آخر عيناً محسوسة لا يصير له عليه شيء منها أصلاً ، عبر بحرف الاستعلاء تمثيلاً لذلك فقال : { على الحي } ولا يصح التوكل عليه إلا بلزوم طاعته والإعراض عما سواها .
ولما كان الأحياء من الخلق يموتون ، بين أن حياته ليست كحياة غيره فقال : { الذي لا يموت } أي فلا ضياع لمن توكل عليه أصلاً ، بل هو المتولي لمصالحه في حياته وبعد مماته ، ولا تلتفت إلى ما سواه بوجه فإنه هالك { وسبح بحمده } أي نزهه عن كل نقص مثبتاً له كل كمال .
ولما كان المسلى ربما وقع في فكره أن من سلاه إما غير قادر على نصره ، أو غير عالم بذنوب خصمه ، وكان السياق للشكاية من إعراض المبلغين عن القرآن ، وما يتبع ذلك من الأذى ، أشار بالعطف على غير مذكور إلى أن التقدير : فكفى به لك نصيراً ، وعطف عليه : { وكفى } وعين الفاعل وحققه بإدخال الجار عليه فقال : { به بذنوب عباده } أي وكل ما سواهم عباده { خبيراً* } لا يخفى عليه شيء منها وإن دق ، ثم وصفه بما يقتضي أنه مع ما له من عظيم القدرة بالملك والاختراع - متصف بالأناة وشمول العلم وحسن التدبير ليتأسى به المتوكل عليه فقال : { الذي خلق السماوات والأرض } أي على عظمهما { وما بينهما } من الفضاء والعناصر والعباد وأعمالهم من الذنوب وغيرها

{ ألا يعلم من خلق } [ الملك : 14 ] وقوله : { في ستة أيام } تعجيب للغبي الجاهل ، تدريب للفطن العالم في الحلم والأناة والصبر على عباد الله في دعوتهم إلى الله ، وتذكير بما له من عظيم القدرة وما يلزمها من شمول العلم ، والمراد مقدار ستة من أيامنا ، فإن الأيام ما حدثت إلا بعد خلق الشمس ، والإقرار بأن تخصيص هذا العدد لداعي حكمة عظيمة ، وكذا جميع أفعاله وإن كنا لا ندرك ذلك ، هو الإيمان ، وجعل الله الجمعة عيداً للمسلمين لأن الخلق اجتمع فيه بخلق آدم عليه السلام فيه في آخر ساعة .
ولما كان تدبير هذا الملك أمراً باهراً ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : { ثم استوى على العرش } أي شرع في تدبير لهذا الملك الذي اخترعه وأوجده ، وهم وذنوبهم من جملته كما يفعل الملوك في ممالكهم ، لا غفلة عنده عن شيء أصلاً ، ولا تحدث فيه ذرة من ذات أو معنى إلا بخلق جديد منه سبحانه ، رداً على من يقول من اليهود وغيرهم : إن ذلك إنما هو بما دبر في الأزل من الأسباب ، وأنه الآن لا فعل له .
ولما كان المعصى إذا علم بعصيان من يعصيه وهو قادر عليه لم يمهله ، أشار إلى أنه على غير ذلك ، حاضاً على الرفق ، بقوله : { الرحمن } أي الذي سبقت رحمته غضبه ، وهو يحسن إلى من يكفره ، فضلاً عن غيره ، فأجدر عباده بالتخلق بهذا الخلق رسله ، و الحاصل أنه أبدع هذا الكون وأخذ في تدبيره بعموم الرحمة في إحسانه لمن يسمعه يسبّه بالنسبة له إلى الولد ، ويكذبه في أنه يعيده كما بدأه ، وهو سبحانه قادر على الانتقام منه بخلاف ملوك الدنيا فإنهم لا يرحمون من يعصيهم مع عجزهم .
ولما كان العلم لازماً للملك ، سبب عن ذلك قوله على طريق التجريد : { فاسأل به } أي بسبب سؤالك إياه { خبيراً } عن هذه الأمور وكل أمر تريده ليخبرك بحقيقة أمره ابتداء وحالاً ومآلاً ، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين ، فإنه ما أرسلك إليهم إلا وهو عالبم بهم ، فسيعلي كعبك عليهم ، ويحسن لك العاقبة .
ولما ذكر إحسانه إليهم ، وإنعامه عليهم ، ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم فقال : { وإذا قيل لهم } أي هؤلاء الذين يتقلبون في نعمه ، ويغذوهم بفضله وكرمه ، من أيّ قائل كان : { اسجدوا } أي اخضعوا بالصلاة وغيرها { للرحمن } الذي لا نعمة لكم إلا منه { قالوا } قول عال متكبر كما تقدم في معنى { ظهيراً } : { وما الرحمن } متجاهلين عن معرفته فضلاً عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل ، وقال ابن العربي : إنهم إما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم الصفة ، دون الموصوف .

ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه ، بقولهم : { أنسجد لما تأمرنا } فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره والإنكار على الداعي إليه أيضاً بأداة ما لا يعقل { وزادهم } هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكراً للنعم وطمعاً في الزيادة { نفوراً* } لما عندهم من الحرارة الشيطانية التي تؤزهم أزاً ، فلا نفرة توازي هذه النفرة ، ولا ذم أبلغ منه .
ولما ذكر حال النذير الذي ابتدأ به السورة في دعائه إلى الرحمن الذي لو لم يدع إلى عبادته إلا رحمانيته لكفى ، فكيف بكل جمال وجلال ، فأنكروه ، اقتضى الحال أن يوصل به إثباته بإثبات ما هم عالمون به من آثار رحمانيته ، ففصل ما أجمل بعد ذكر حال النذير ، ثم من الملك ، مصدراً له بوصف الحق الذي جعله مطلع السورة راداً لما تضمن إنكارهم من نفيه فقال : { تبارك } أي ثبت ثباتاً لا نظير له { الذي جعل في السماء } التي قدم أنه اخترعها { بروجاً } وهي اثنا عشر برجاً ، هي للكواكب السيارة كالمنازل لأهلها ، سميت بذلك لظهورها ، وبنى عليها أمر الأرض ، دبر بها فصولها ، وأحكم بها معايش أهلها .
ولما كانت البروج على ما تعهد لا تصلح إلا بالنور ، ذكره معبراً بلفظ السراج فقال : { وجعل فيها } أي البروج { سراجاً } أي شمساً ، وقرأ حمزة والكسائي بصيغة الجمع للتنبيه على عظمته في ذلك بحيث إنه أعظم من ألوف ألوف من السرج ، فهو قائم مقام الوصف كما قال في الذي بعده : { وقمراً منيراً* } أتم - بتنقلهما فيها وبغير ذلك من أحوالهما - التدبير ، أي أن العلم بوجوبه لا شك فيه ، فكيف يشك عاقل في وجوده أو في رحمانيته بهذا العالم العظيم المتقن الصنع الظاهر فيه أمر الرحمانية .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)

ولما ذكر الآيتين ، ذكر ما هما آيتاه فقال : { وهو الذي جعل الليل } أي الذي آيته القمر { والنهار } الذي آيته الشمس { خلفة } أي ذوي حالة معروفة في الاختلاف ، فيأتي هذا خلف ذاك ، بضد ما له من الأوصاف ، ويقوم مقامه في كثير من المرادات ، والأشياء المقدرات ، ويعلم قد التسامح فيها ، ومن فاته شيء من هذا قضاه في ذاك؛ قال ابن جرير : والعرب تقول : خلف هذا من كذا خلفة ، وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله . وفي القاموس أن الخلف والخلفة - بالكسر : المختلف . فعلى هذا يكون التقدير : جعلهما مختلفين في النور والظلام ، والحر والبرد ، غير ذلك من الأحكام . وقال الرازي في اللوامع : يقال : الأمر بينهم خلفة ، أي نوبة ، كل واحد يخلف صاحبه ، والقوم خلفة ، أي مختلفون .
ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء كالعادم لذلك الشيء ، خص الجعل بالمجتني للثمرة فقال : { لمن أراد أن يذكر } أي يحصل له تذكر ولو على أدنى الوجوه - بما دل عليه الإدغام في قراءة الجماهة بفتح الذال والكاف مشددتين ، لما يدله عليه عقله من أن التغير على هذه الهيئة العظيمة لا يكون بدون مغير قادر عظيم القدرة مختار ، فيؤديه تذكره إلى الإيمان إن كان كفوراً ، وقراءة حمزة بالتخفيف من الذكر تشير إلى أن ما يدلان عليه من تمام القدرة وشمول العلم الدال قطعاً على الوحدانية على غاية من الظهور ، لا يحتاج إلى فكر ، بل تحصل بأدنى التفات { أو أراد شكوراً* } أي شكراً بليغاً عظيماً لنعم الله لتحمله إرادته تلك على الشكر إن كان مؤمناً ، بسبب ما أنعم به ربه من الإتيان بكل منهما بعد هجوم الآخر لاجتناء ثمراته ، ولو جعل أحدهما دائماً لفاتت مصالح الآخرة ، ولحصلت السآمة به ، والملل منه ، والتواني في الأمور المقدرة بالأوقات ، الكسل وفتر العزم الذي إنما يثيره لتداركها دخول وقت آخر ، وغير ذلك من الأمور التي أحكمها العلي الكبير .
ولما ذكر عباده الذين خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزب الشيطان ، ولم يصفهم إلى اسم من أسمائه ، إيذاناً بإهانتهم لهوائهم عنده ، وهم الذين صرح بهم قوله أول السورة { نذيراً } وختم بالتذكر والشكر إشارة إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه ، وأشار إليهم سابقاً بتخصيص الوصف بالفرقان ، فأتبع ذلك ذكرهم ، فقال عاطفاً على جملة الكلام في قوله { وإذا قيل لهم } لكنه رفعهم بالابتداء تشريفاً لهم : { وعباد } ويجوز أن يقال ولعله أحسن : أنه سبحانه لما وصف الكفار في هذه السورة بما وصفهم به من الفظاظة والغلظة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعداوتهم له ، ومظاهرتهم على خالقهم ، ونحو ذلك من جلافتهم ، وختم بالتذكر والشكر ، وكان التقدير : فعباد الشيطان لا يتذكرون ولا يشكرون ، لما لهم من القسوة ، عطف على هذا المقدر أضدادهم ، واصفاً لهم بأضداد أوصافهم ، مبشراً لهم بضد جزائهم ، فقال : وعباد { الرحمن } فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان كل الخلق عباده ، وأضافهم إلى صفة وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيراً لهم؛ ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود ، إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بأمر كبير ، فقال : { الذين يمشون } وقال : { على الأرض } تذكيراً بما هم منه وما يصيرون إليه ، وحثاً على السعي في معالي الأخلاق للترقي عنه ، وعبر عن حالهم بالمصدر مبالغة في اتصافهم بمدلوله حتى كانوا إياه ، فقال : { هوناً } أي ذوي هون ، أي لين ورفق وسكينة ووقار وإخبات وتواضع ، لا يؤذون أحداً ولا يفخرون ، رحمة لأنفسهم وغيرهم ، غير متابعين ما هم فيه من الحرارة الشيطانية ، فبرؤوا من حظوظ الشيطان ، لأن من كان من الأرض وإليها يعود لا يليق به إلا ذلك ، والأحسن أن يجعل هذا خبر « العباد » ، ويكون

{ أولئك يجزون الغرفة } [ الفرقان : 75 ] استئنافاً متشوفاً إليه تشوف المستنتج إلى النتيجة .
ولما ذكر ما أثمره العلم من الفعل في أنفسهم ، أتبعه ما أنتجه الحلم من القول لغيرهم فقال : { وإذا } دون « إن » لقضاء العادة بتحقق مدخولها ، ولم يقل : والذين كبقية المعطوفات ، لأن الخصلتين كشيء واحد من حيث رجوعهما إلى التواضع { خاطبهم } خطاباً ما ، بجهل أو غيره وفي وقت ما { الجاهلون } أي الذين يفعلون ما يخالف العلم والحكمة { قالوا سلاماً* } أي ما فيه سلامة من كل سوء ، وليس المراد التحية - نقل ذلك سيبويه عن أبي الخطاب ، قال : لأن الآية فيما زعم مكية ، ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ، ولكنه على قولك : تسليماً لا خير بيننا وبينكم ولا شراً - انتهى . فلا حاجة إلى ادعاء نسخها بآية القتال ولا غيرها ، لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة ، وأسلم للعرض والورع ، وكأنه أطلق الخطاب إعلاماً بأن أكثر قول الجاهل الجهل .
ولما ذكر ما بينهم وبين الخلق من القول والفعل ، وكان الغالب على ذلك أن يكون جلوة نهاراً ، ذكر ما بينهم وبين خالقهم من ذلك خلوة ليلاً ، وذكر هذه المعطوفات التي هي صفات بالواو ، تنبيهاً على أن كل واحدة منها تستقل بالقصد لعظم خطرها ، وكبر أثرها ، فقال : { والذين يبيتون } من البيتوتة : أن يدركك الليل نمت أو لم تنم ، وهي خلاف الظلول؛ وأفاد الاختصاص بتقديم { لربهم } أي المحسن إليهم برحمانيته ، يحيون الليل رحمة لأنفسهم ، وشكراً لفضله .
ولما كان السجود أشد أركان الصلاة تقريباً إلى الله ، لكونه أنهى الخضوع مع أنه الذي أباه الجاهلون ، قدمه لذلك ويعلم بادىء بدء أن القيام في الصلاة فقال : { سجداً } وأتبعه ما هو تلوه في المشقة تحقيقاً لأن السجود على حقيقته فيتمحص الفعلان للصلاة ، فقال : { وقياماً* } أي ولم يفعلوا فعل الجاهلين من التكبر عن السجود ، بل كانوا - كما قال الحسن رحمه الله : نهارهم في خشوع ، وليلهم في خضوع .

ولما ذكر تهذيبهم لأنفسهم للخلق والخالق ، أشار إلى أنه لا إعجاب عندهم ، بل هم وجلون ، وأن الحامل لهم على ذلك الإيمان بالآخرة التي كذب بها الجاهلون { يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } [ المؤمنون : 60 ] وقدموا الدعاء بالنجاة اهتماماً بدرء المفسدة ، وإشعاراً بأنهم مستحقون لذلك وإن اجتهدوا ، لتقصيرهم عن أن يقدروه سبحانه حق قدره فقال : { والذين يقولون ربنا } أي أيها المحسن إلينا { اصرف عنا عذاب جهنم } الذي أحاط بنا لا ستحقاقنا إياه إلا أن يتداركنا عفوك ورحمتك ، بما توفقنا له من لقاء من يؤذينا بطلاقة الوجه ، لا بالتجهم ، ثم علل سؤالهم يقولهم : { إن عذابها كان } أي كوناً جبلت عليه { غراماً* } أي هلاكاً وخسراناً ملحاً محيط بمن تعلق به مذلاً له ، دائماً بمن غرى به ، لازماً له لا ينفك عنه ونحن كنا نسير على من آذانا .
ولما ثبت لها هذا الوصف ، أنتج قوله : { إنها ساءت } أي تناهت هي في كل ما يحصل منه سوء ، وهي في معنى بئست في جميع المذام { مستقراً } أي من جهة موضع استقرار { ومقاماً* } أي موضع إقامة .

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)

ولما ذكر أفعالهم وأقوالهم فيما بينهم وبين الخلق وقدمه ، والخالق وأخره ، لأن وجوبه يكون بعد ذلك ، ذكر أحوالهم في أموالهم ، نظراً إلى قول الكفرة { أو يلقى إليه كنز } [ الفرقان : 8 ] وهداية إلى طريق الغنى لأنه ما عال من اقتصد ، فقال : { والذين إذا أنفقوا } أي للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب { لم يسرفوا } أي يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير ، فيضيعوا الأموال في غير حقها فيكونوا إخوان الشياطين الذين هم من النار ففعلهم فعلها { ولم يقتروا } أي يضيقوا فيضيعو الحقوق؛ ثم بين العدل بقوله : { وكان } أي إنفاقهم { بين ذلك } أي الفعل الذي يجب إبعاده .
ولما علم أن ما بين الطرفين المذمومين يكون عدلاً ، صرح به في قوله : { قواماً* } أي عدلاً سواء بين الخلقين المذمومين : الإفراط والتفريط ، تخلقاً بصفة قوله تعالى { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن نزل بقدر ما يشاء } [ الشورى : 27 ] وهذه صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم و رضي عنهم - كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ، بل كانوا يأكلون ما يسد الجوعة ، ويعين على العبادة ، ويلبسون ما يستر العورة ، ويكنّ من الحر والقر ، قال عمر رضي الله عنه : كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله .
ولما ذكر ما تحلوا به من أصول الطاعات ، بما لهم من العدل والإحسان بالأفعال والأقوال ، في الأبدان والأموال ، أتبعه ما تخلوا عنه من أمهات المعاصي التي هي الفحشاء والمنكر ، فقال : { والذين لا يدعون } رحمة لأنفسهم واستعمالاً للعدل { مع الله } أي الذي اختص بصفات الكمال { إلهاً } وكلمة « مع » وإن أفهمت أنه غير ، لكن لما كانوا يتعنتون حتى أنهم يتعرضون بتعديد الأسماء كما مر في آخر سبحان والحجر ، قال تعالى قطعاً لتعنتهم : { آخر } أي دعاء جلياً بالعبادة له ، ولا خفياً بالرياء ، فيكونوا كمن أرسلت عليهم الشياطين فأزتهم أزاً .
ولا نفى عنهم ما يوجب قتل أنفسهم بخسارتهم إياها ، أتبعه قتل غيرهم فقال : { ولا يقتلون } أي بما تدعو إليه الحدة { النفس } أي رحمة للخلق وطاعة للخالق . ولما كان من الأنفس ما لا حرمة له ، بين المراد بقوله : { التي حرم الله } أي قتلها ، أي منع منعاً عظيماً الملك الأعلى - الذي لا كفوء له - من قتلها { إلا بالحق } أي بأن تعمل ما يبيح قتلها .
ولما ذكر القتل الجلي ، أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد ، فقال : { ولا يزنون } أي رحمة لما قد يحدث من ولد ، إبقاء على نسبه ، ورحمة للمزني بها ولأقاربها أن تنهتك حرماتهم ، مع رحمته لنفسه ، على أن الزنى جارّ أيضاً إلى القتل والفتن ، وفيه التسبب لإيجاد نفس بالباطل كما أن القتل تسبب إلى إعدامها بذلك ، وقد روي في الصحيح

« عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم - وفي رواية : أكبر - عند الله؟ قال : أن تدعو لله نداً هون خلقك ، قال : ثم أيّ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ، قال : ثم أيّ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك ، فأنزل الله تصديق ذلك { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } [ الفرقان : 68 ] الآية » وقد استشكل تصديق الآية للخبر من حيث إن الذي فيه قتل خاص وزنى خاص ، والتقييد بكونه أكبر ، والذي فيها مطلق القتل والزنى من غير تعرض لعظم ، ولا إشكال لأنها نطقت بتعظيم ذلك من سبعة أوجه : الأول : الاعتراض بين المبتدأ الذي هو « وعباد » وما عطف عليه ، والخبر الذي هو { أولئك يجزون } [ الفرقان : 75 ] على أحد الرأيين بذكر جزاء هذه الأشياء الثلاثة خاصة ، وذلك دال على مزيد الاهتمام الدال على الإعظام . الثاني : الإشارة بأداة البعد - في قوله : { ومن يفعل ذلك } أي الفعل العظيم القبح - مع قرب المذكورات ، فدل على أن البعد في رتبها . الثالث : التعبير باللقى مع المصدر المزيد الدال على زيادة المعنى في قوله : { يلق أثاماً* } دون يأثم أو يلق إثماً أو جزاء إثمه .
الرابع : التقييد بالمضاعفة في قوله مستأنفاً : { يضاعف } أي بأسهل أمر { له العذاب } جزاء ما أتبع نفسه هواها بما فيه من الحرارة الشيطانية - هذا في قراءة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم بالرفع وهو بدل « يلق » في قراءة الجماعة ، لأنهما تؤولان إلى معنى واحد ، ومضاعفة العذاب - والله أعلم - إتيان بعضه في أثر بعض بلا انقطاع كما كان يضاعف سيئته كذلك ، وقراءة ابن كثير وأبي جعفر وابن عامر ويعقوب بالتشديد تفيد مطلق التعظيم للتضعيف ، وقراءة الباقين بالمفاعلة تقتضيه بالنسبة إلى من يباري آخر فيه فهو أبلغ . الخامس : التهويل بقوله : { يوم القيامة } الذي هو أهول من غيره بما لا يقايس . السادس : الإخبار بالخلود الذي هو أول درجاته أن يكون مكثاً طويلاً ، فقال عاطفاً في القراءتين على يضاعف : { ويخلد فيه } . السابع : التصريح بقوله : { مهاناً* } ولعله للاحتراز عما يجوز من أن بعض عصاة هذه الأمة - الذين يريد الله تعذيبهم - يعلمون أنهم ينجون ويدخلون الجنة ، فتكون إقامتهم - مع العلم بالمآل - ليست على وجه الإهانة ، فلما عظم الأمر من هذه الأوجه ، علم أن كلاًّ من هذه الذنوب كبير ، وإذا كان الأعم كبيراً ، كان الأخص المذكور أعظم من مطلق الأعم ، لأنه زاد عليه بما صار به خاصاً ، فثبت بهذا أنها كبائر ، وأن قتل الولد والزنى بحليلة الجار أكبر لما ذكر ، فوضح وجه تصديق الآية للخبر ، ولا يقال : إن الإشارة ترجع إلى المجموع ، فالتهويل خاص بمن ارتكب مجموع هذه الذنوب لأنا نقول : السياق يأباه ، لأن تكرار « لا » أفاد - كما حققه الرضي - ورود النفي على وقوع الخصال الثلاث حال الاجتماع والانفراد ، فالمعنى : لا يوقعون شيئاً منها ، فكان معنى { ومن يفعل ذلك } : ومن يفعل شيئاً من ذلك - ليرد الإثبات على ما ورد عليه النفي ، فيحصل التناسب ، وأما عدم منافاة الآية للترتيب فمن وجهين : الأول أن الأصل في التقديم الاهتمام بما سبقت له الآية ، وهو التنفير المفيد للتغليظ ، فيكون كل واحد منها أعلى مما بعده .

الثاني أن الواو لا تنافيه ، وقد وقعت الأفعال مرتبة في الذكر كما رتبت في الحديث ب « ثم » فيكون مراداً بها الترتيب - والله الهادي .
ولما أتم سبحانه تهديد الفجار ، على هذه الأوزار ، أتبعه ترغيب الأبرار ، في الإقبال على الله العزيز الغفار ، فقال : { إلا من تاب } أي رجع إلى الله عن شيء مما كان فيه من هذه النقائص { وآمن } أي أوجد الأساس الذي لا يثبت عمل بدون وهو الإيمان ، أو أكد وجوده { وعمل } . ولما كان الرجوع عنه أغلظ ، أكد فقال : { عملاً صالحاً } أي مؤسساً على أساس الإيمان؛ ثم زاد في الترغيب بالإتيان بالفاء ربطاً للجزاء بالشرط دليلاً على أنه سببه فقال : { فأولئك } أي العالو المنزلة { يبدل الله } وذكر الاسم الأعظم تعظيماً للأمر وإشارة إلى أنه سبحانه لا منازع له { سيئاتهم حسنات } أي بندمهم على تلك السيئات ، لكونها ما كانت حسنات فيكتب لهم ثوابها بعزمهم الصادق على فعلها لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا ، بحيث إذا رأى أحدهم تبديل سيئاته بالحسنات تمنى لو كانت سيئاته أكثر! وورد أن بعضهم يقول : رب! إن لي سيئات ما رأيتها - رواه مسلم في أواخر الإيمان من صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه رفعه .
ولما كان هذا أمراً لم تجر العادة بمثله ، أخبر أنه صفته تعالى أزلاً وأبداً ، فقال مكرراً للاسم الأعظم لئلا يقيد غفرانه شيء مما مضى : { وكان الله } أي الذي له الجلال والإكرام على الإطلاع { غفوراً } أي ستوراً لذنوب كل من تاب بهذا الشرط { رحيماً* } له بأن يعامله بالإكرام كما يعامل المرحوم فيعطيه مكان كل سيئة حسنة؛ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك ، لما نزل صدرها قال أهل مكة : فقد عدلنا بالله ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وأتينا الفواحش ، فأنزل الله { إلا من تاب } [ الفرقان : 7 ] - إلى - { رحيماً } [ الفرقان : 7 ] ؛ وروي عنه أيضاً أنه قال : هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء . أي على تقدير كونها عامة في المشرك وغيره؛ وروي عنه أنه قال في آية النساء : نزلت في آخر ما نزل ، ولم ينسخها شيء .

وقد تقدم في سورة النساء الجواب عن هذا ، وكذا ما رواه البخاري عنه في التفسير : إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا ، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزل { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } [ الفرقان : 68 ] ونزل { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] . ولما أشعرت الفاء بالتسبيب ، ودل تأكيد الفعل بالمصدر على الاحتياج إلى عمل كثير ربما جل عن طوق البشر ، وأشار إلى التطريق له بالوصفين العظيمين ، أتبع ذلك بيان الطريق إليه بما أجرى من العادة فقال : { ومن تاب } أي عن المعصية كفراً كانت أو ما دونه { وعمل } تصديقاً لادعائه التوبة .
ولما كان في سياق الترغيب ، أعراه من التأكيد فقال : { صالحاً } ولو كان كل من نيته وعمله ضعيفاً؛ ورغب سبحانه في ذلك بقوله معلماً أنه يصل إلى الله : { فإنه يتوب } أي يرجع واصلاً { إلى الله } أي الذي له صفات الكمال ، فهو يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات { متاباً* } أي رجوعاً عظيماً جداً بأن يرغبه الله في الأعمال الصالحة ، فلا يزال كل يوم في زيادة في نيته وعمله ، فيخف ما كان عليه ثقيلاً ، ويتيسر له ما كان عسيراً ، ويسهل عليه ما كان صعباً ، كما تقدم في { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } [ يونس : 9 ] ولا يزال كذلك حتى يحبه فيكون سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، بأن يوفقه للخير ، فلا يسمع إلا ما يرضيه ، وهكذا ، ومن أجراه على ظاهره فعليه لعنة الله ، لمخالفته إجماع المسلمين .
ولما وصف عباده سبحانه بأنهم تحلوا بأصول الفضائل ، وتخلوا عن أمهات الرذائل ، ورغب التوبة ، لأن الإنسان لعجزه لا ينفك عن النقص ، وكان قد مدحهم بعد الأولى من صفاتهم بالحلم عن الجهل مدحهم قبل الأخرى من أمداحهم وعقب تركهم الزنى بالإعراض أصلاً عن اللغو الذي هو أعظم مقدمات الزنى فقال : { والذين لا يشهدون } أي يحضرون انحرافاً مع الهوى كما تفعل النار التي الشيطان منها { الزور } أي القول المنحرف عن الصدق كذباً كان أو مقارباً له فضلاً عن أن يتفوهوا به ويقروا عليه؛ قال ابن جرير : وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه أنه بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق ، والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله حتى ظنوا أنه حق وهو باطل ، ويدخل فيه الغنا لأنه أيضاً مما يحسن بترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه ، والكذب أيضاً يدخل فيه بتحسين صاحبه إياه حتى يظن أنه حق .

وعطف عليه ما هو أعم منه فقال : { وإذا مروا باللغو } أي الذي ينبغي أن يطرح ويبطل سواء كان من وادي الكذب أو العبث الذي لا يجدي؛ قال ابن جرير : وهو في كلام العرب كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل ، أو ما يستقبح . { مروا كراماً* } أي آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر ، إن تعلق بهم أمر أو نهي ، بإشارة أو عبارة ، على حسب ما يرونه نافعاً ، أو معرضين إن كان لا يصلح شيء من ذلك لإثارة مفسدة أعظم من ذلك أو نحوه ، رحمة لأنفسهم وغيرهم ، وأما حضورهم لذلك وسكوتهم فلا ، لأن النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الإثم لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به ، وسبب لوجوده والزيادة فيه .

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

ولما ذكر وصفهم الذي فاقوا به ، أشار إلى وصف الجهلة الذي سفلوا به ، فقال : { والذين إذا ذكروا } أي ذكرهم غيرهم كائناً من كان ، لأنهم يعرفون الحق بنفسه لا بقائله { بآيات ربهم } أي الذي وفقهم لتذكر إحسانه إليهم في حسن تربيته لهم بالاعتبار بالآيات المرئية والمسموعة { لم يخروا } أي لم يفعلوا فعل الساقطين المستعلين { عليها } الساترين لها؛ ثم زاد في بيان إعراضهم وصدهم عنها فقال منبهاً على أن المنفي القيد لا المقيد ، وهو الخرور ، بل هو موجود غير منفي بصفة السمع والبصر : { صماً وعمياناً* } أي كما يفعل المنافقون والكفار في الإقبال عليها سماعاً واعتباراً ، والإعراض عنها تغطية لما عرفوا من حقيتها ، وستراً لما رأوا من نورها ، فعل من لا يسمع ولا يبصر كما تقدم عن أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق ، وذلك وصف لعباد الرحمن بفعل ضد هذا ، أي أنهم يسقطون عند سماعها ويبكون عليها ، سقوط سامع منتفع بسمعه ، بصير منتفع ببصره وبصيرته ، سجداً يبكون كما تقدم في أول أوصافهم وإن لم يبلغوا أعلى الدرجات البصيرة - بما أشارت إليه المبالغة بزيادة النون جمع العمى .
ولما ذكر هذه الخصلة المثمرة لما يلي الخلصة الأولى ، ختم بما ينتج الصفة الأولى . فقال مؤذناً بأن إمامة الدين ينبغي أن تطلب ويرغب فيها : { والذين يقولون } علماً منهم بعد اتصافهم بجميع ما مضى أنهم أهل للإمامة : { ربنا هب لنا من أزواجنا } اللاتي قرنتها بنا كما فعلت لنبيك صلى الله عليه وسلم ، فمدحت زوجته في كلامك القديم ، وجعلت مدحها يتلى على تعاقب الأزمان والسنين { وذرياتنا قرة } ولما كان المتقون - الذين يفعلون الطاعة ويسرون بها - قليلاً في جنب العاصين ، أتى بجمع القلة ونكر فقال : { أعين } أي من الأعمال أو من العمال يأتمون بنا ، لأن الأقربين أولى بالمعروف ، ولا شيء أسر للمؤمن ولا أقر لعينه من أن يرى حبيبه يطيع الله ، فما طلبوا إلا أن يطاع الله فتقر أعينهم ، ف « من » إما تكون مثلها في : رأيت منك أسداً ، وإما أن تكون على بابها ، وتكون القرة هي الأعمال ، أي هب لنا منهم أعمالاً صالحة فجعلوا أعمال من يعز عليهم هبة لهم ، وأصل القرة البرد لأن العرب تتأذى بالحر وتستروح إلى البرد ، فجعل ذلك كناية عن السرور { واجعلنا } أي إيانا وإياهم { للمتقين } أي عامة من الأقارب والأجانب .
ولما كان المطلوب من المسلمين الاجتماع في الطاعة حتى تكون الكلمة في المتابعة واحدة ، أشاروا إلى ذلك بتوحيد الإمام وإن كان المراد الجنس ، فقالوا : { إماماً* } أي فنكون علماء مخبتين متواضعين كما هو شأن إمامة التقوى في إفادة التواضع والسكينة ، لنحوز الأجر العظيم ، إذ الإنسان له أجره وأجر من اهتدى به فعمل بعمله

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41