كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

ولما قبح عليهم ما اختاروه لأنفسهم ، قبحه عليهم من جهة مخالفته لأمره تعالى فقال : { وما } أي فعلوا ذلك والحال أنهم ما { أمروا } أي من كل من له الأمر من أدلة العقل والنقل { إلا ليعبدوا } أي ليطيعوا على وجه التعبد { إلهاً واحداً } أي لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة ، وذلك معنى وصفه بأنه { لا إله إلا هو } أي لا يصلح أن يكون معه إله آخر ، فلما تعين ذلك في الله وكانت رتبته زائدة أبعد عما أشركوا به ، نزهه بقوله : { سبحانه } أي بعدت رتبته وعلت { عما يشركون* } في كونه معبوداً أو مشروعاً؛ ذكر أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره وغيره عن عدي ابن حاتم رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : اقطعه ، فقطعته ثم أتيته وهو يقرأ سورة براءة { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } قلت : يا رسول! إنا لم نكن نعبدهم! قال : أجل . أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله فتستحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ قلت : بلى ، قال : تلك عبادتهم .
ولما وهى سبحانه أمرهم من جهة استنادهم ، زاد توهية من جهة مرادهم بالإعلام بأنهم بقتالهم لأهل الطاعة إنما يقاتلون الله وأنه لا ينفذ غرضهم بل يريد غير ما يريدون ، ومن المقرر أنه لا يكون إلا ما يريد ، فقال مستأنفاً أو معللاً لما مضى من أقوالهم وأفعالهم : { يريدون أن يطفئوا } أي بما مضى ذكره من أحوالهم { نور الله } أي دين الملك الأعلى الذي له الإحاطة العظمى ، وشرعه الذي شرعه لعباده على ألسنة الأنبياء والرسل ، كل ذلك ليتمكنوا من العمل بالأغراض والأهوية ، فإن اتباع الرسل حاسم للشهوات ، وهم أبعد الناس عن ذلك .
ولما حقر شأنهم ، هدمه بالكلية بقوله : { بأفواههم } أي بقول خال عن شيء يثبته أو يمضيه وينفذه ، وفي تسمية دينه نوراً ومعاندتهم إطفاء بالأفواه تمثيل لحالهم بحال من يريد إطفاء نور الشمس بنفخه { ويأبى } أي والحال أنه يفعل فعل الأبيّ وهو أنه لا يرضي { الله } أي الذي له جميع العظمة والعز ونفوذ الكلمة { إلا أن يتم نوره } أي لا يقتصر على مجرد إشراقه ، بل وعد - وقوله الحق - بأنه لا بد من إكماله وإطفائه لكل ما عداه وإحراقه . ولما في « يأبى » من معنى الجحد دخل عليه الاستثناء ، أي إنه يأبى كل حالة إلا حالة إتمامه نوره على التجدد والاستمرار { ولو كره الكافرون* } أي العريقون في الكفر فكيف بغيرهم .

ولما أخبر أنه معل لقوله ومكمل ، ومبطل لقولهم مسفل ، علل ذلك بما حاصله أنه شأن الملوك ، وهو أنهم إذا برز لهم أمر شيء لم يرضوا أن يرده أحد فإن ذلك روح الملك الذي لا يجازي الطاعن فيه إلا بالهلك فقال : { هو } أي وحده { الذي أرسل رسوله } أي محمداً صلى الله عليه وسلم { بالهدى } أي لبيان الشافي بالمعجزات القولية والفعلية { ودين الحق } أي الكامل في بيانه وثباته كمالاً ظاهراً لكل عاقل؛ ثم زادهم جرأة على العدو بقوله معللاً لإرساله : { ليظهره } أي الرسول صلى الله عليه وسلم والدين - أدام الله ظهوره { على الدين كله } وساق ذلك كله مساق الجواب لمن كأنه قال : كيف نقاتلهم وهم في الكثرة والقوة على ما لا يخفي؟ فقال : لم لا تقاتلونهم وأنتم لا تعتمدون على أحد غير من كل شيء تحت قهره ، وهم إنما يعتمدون على مخاليق مثلكم ، كيف لا تجسرون عليهم وهم في قتالكم إنما يقاتلون ربهم الذي أنتم في طاعته؟ أم كيف لا تصادمونهم وهو الذي أمركم بقتالهم لينصركم ويظهر آياته؟ ولعل الختم بقوله : { ولو كره المشركون* } أبلغ لأن الكفر قد لا يكون فيه عناد ، والشرك مبناه على العناد باتخاذ الأنداد ، أي لا بد من نصركم خالف من خالف مجرد مخالفة أو ضم إلى ذلك العناد بالاستعانة بمن أراد .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

ولما حقر أمرهم بتقسيم اعتمادهم على رؤسائهم ، وحالهم معروف في أنه لا نفع عندهم ولا ضر ، وأعلى أمر أهل الله باجتماعهم عليه وهو القادر على كل شيء ، وكان الإقبال على الدنيا أعظم أمارة على الخذلان ولو أنه بحق فكيف إذا بالباطل! أقبل سبحانه وعز شأنه على أهل وده مستعطفاً متلطفاً منادياً باسم الإيمان الذي بنى أمره في أول هذا الكتاب على الإنفاق لا على التحصيل ولو كان بحق ، فكيف إذا كان بباطل ، ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون ، منبهاً على سفه من ترك من لا يسأله على بذل الهدى والدعوة إلى دين الحق أجراً وهو سفير محض لا ينطق عن الهوى ، ولم يعتقده رسولاً واتخذ مربوباً مثله وهو يأخذ ماله بالباطل ربواً ، وذلك مقتض لتحقيرهم لا لمطلق تعظيمهم فضلاً عن الرتبة التي أنزلوهم بها وأهلوهم لها مع الترفع عليهم لقصد أكل أموالهم بالباطل فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بإيمان داعيهم من التكذيب ومما يؤول إليه { إن كثيراً من الأحبار } أي من علماء اليهود { والرهبان } أي من زهاد النصارى { ليأكلون } أي يتناولون ، ولكنه عبر به لأنه معظم المراد من المال ، وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأنهم يفعلون ما ينافي مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه { أموال الناس بالباطل } أي بأخذها بالرشى وأنواع التصيد بإظهار الزهد والمبالغة في التدين المستجلب لها بالنذور ونحوها فيكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله من أتاهم بها بالإقبال بقلوب عباده إليهم .
ولما أخبر عن إقبالهم على الدنيا ، أتبعه الإخبار عن إعراضهم عن الآخرة فقال : { ويصدون } أي يحتالون في صرف من يأتيهم بتلك الأموال وغيرهم { عن سبيل الله } أي دين الملك الذي له الأمر كله بإبعادهم عنه بإخفاء الآيات الدالة عليه عنهم خوفاً على انقطاع دنياهم بزوال رئاستهم لو أقبل أولئك على الحق .
ولما كان أكثرهم يكنزون تلك الأموال ، شرع سبحانه على مطلق الكنز ، ففهم من باب الأولى الصد الذي هو سبب الجمع الذي هو سبب الكنز فقال : { والذين } أي يفعلون ذلك والحال أنهم يعلمون أن الذين { يكنزون } أي يجمعون تحت الأرض أو فوقها من قولهم للمجتمع اللحم : مكتنز { الذهب والفضة } أي منهم ومن غيرهم من غير تزكية .
ولما كان من المعلوم أنهما أجل ما الناس ، وكان الكنز دالاً على المكاثرة فيهما ، أعاد الضمير عليهما بما يدل على الأنواع الكثيرة فقال : { ولا ينفقونها } أي ينفقون ما وجب عليهم من هذه الأموال التي جمعوها من هذين النوعين مجتمعين أو منفردين ، ولو ثنى لأوهم أن اجتماعها شرط للترهيب ، وإنما أعاد الضمير عليها من غير ذكر « من » - وهي مرادة - لمزيد الترغيب في الإنفاق والترهيب من تركه ، ويجوز أن يعود الضمير إلى الفضة لأن الذم على كنزها ، والحاجة إليها لكثرتها أقل ، فالذم على كنز الذهب من باب الأولى لأنه أعلى منها وأعز بخلاف الذم على كنز الذهب؛ وقال الحرالي في آل عمران : فأوقع الإنفاق عليهما ولم يخصه من حيث لم يكن ، ولا ينفقون منها كما قال في المواشي [ خذ من أموالهم ] لأن هذين الجوهرين خواتم ينال بها أهل الدنيا منافعهم وقد صرف عنهم الانتفاع بهما فلم يكن لوجودهما فائدة إلا بإنفاقهما لأنهما صنما هذه الأمة ، فكان كسرهما بإذهابهما -انتهى .

{ في سبيل الله } أي الوجه الذي أمر الملك الأعلى بإنفاقها فيه { فبشرهم } أي نقول فيهم بسبب ذلك تهكماً بهم : بشرهم { بعذاب أليم* } عوضاً عما أرادوا من السرور بإنجاح المقاصد .
ولما كان السياق دالاًّ دلالة واضحة على أن هذا العذاب يحصل لهم ويقع بهم ، فنصب بذلك قوله : { يوم يحمى } أي يحصل الإحماء وهو الإيقاد الشديد { عليها } أي الأموال التي جمعوها { في نار جهنم } أي التي لا يقاربها ناركم ، وتلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى بذلك الفقراء وغيرهم من أهل الله لا سيما من منعه ما يجب له من النفقة { فتكوى بها } أي بهذه الأموال { جباههم } التي هي أشرف أعضائهم لأنها مجمع الوجوه والرؤوس وموضع الجاه الذي يجمع المال لأجله لتعبيسهم بها في وجوه الفقراء { وجنوبهم } التي يحوونه لملئها بالمآكل المشتهاة والمشارب المستلذة ولازورارهم بها عن الفقراء { وظهورهم } التي يحوونه لتقويتها وتحميلها بالملابس وتجليتها ولتوليتهم إياها إذا اجتمعوا مع الفقراء في مكان . ثم يقال لهم : { هذا ما كنزتم } وأشار إلى الحامل على الجمع المنافي للعقل بقوله : { لأنفسكم } أي لتنافسوا به وتلتذوا فلم تنفقوه فيما أمر الله { فذوقوا ما } أي وبال وعذاب ما { كنتم تكنزون* } أي تجددون جمعه على سبيل الاستمرار حريصين عليه ، وأشار بفعل الكون إلى أنهم مجبولون على ذلك؛ روى البخاري في التفسير عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر رضي الله عنه بالربذة قلت : ما أنزلك بهذه الأرض قال : كنا بالشام فقرأت { والذين يكنزون الذهب والفضة } - الآية ، قال معاوية : ماهذه فينا ، ما هذه إلا في أهل الكتاب! قلت : إنها لفينا وفيهم؛ وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال ، يعني فما أعطى صاحبه ما وجب عليه فيه فليس بكنز .
ولما تقدم كثير مما ينبني على التاريخ : الحج في غير موضع والأشهر وإتمام عهد من له مدة إلى مدته والزكاة والجزية ، وختم ذلك بالكنز الذي لا يطلق شرعاً إلا على ما لم تؤد زكاته ، وكان مشركو العرب - الذين تقدم الأمر بالبراءة منهم والتأذين بهذه الآيات يوم الحج الأكبر فيهم - قد أحدثوا في الأشهر - بالنسيء الذي أمروا أن ينادوا في الحج بإبطاله - ما غير السنين عن موضوعها الذي وضعها الله عليه ، فضاهوا به فعل أهل الكتاب بالتدين بتحليل أكابرهم وتحريمهم كما ضاهى أولئك قول أهل الشرك في النبوة والأبوة ، قال تعالى : { إن عدة الشهور } أي منتهى عدد شهور السنة { عند الله } أي في حكم وعلم الذي خلق الزمان وحده وهو الإله وحده فلا أمر لأحد معه { اثنا عشر شهراً } أي لا زيادة عليها ولا تغيير لها كما تفعلونه في النسيء { في كتاب الله } أي كلام الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وحكمه الذي هو مجمع الهدى ، فهو الحقيق بأن يكتب ، وليست الشهور ثلاثة عشر ولا أكثر كما كان يفعل من أمرتكم بالبراءة منهم كائنين منة كانوا في النسيء { يوم } أي كان ذلك وثبت يوم { خلق السماوات والأرض } أي اللذين نشأ عنهما الزمان .

والمعنى أن الحكم بذلك كان قبل أن يخلق الزمان { منها } أي الشهور { أربعة حرم } أي بأعيانها لا بمجرد العدد { ذلك } أي الأمر العظيم والحكم العالي الرتبة في الإتقان خاصة { الدين القيم* } أي الذي لا عوج فيه ولا مدخل للعباد ، وإنما هو بتقدير الله تعالى للقمر؛ روى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال - يعني في حجة الوادع : « إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان » ولما بين الأمر سبب عنه قوله : { فلا تظلموا فيهن } أي الأشهر الحرم { أنفسكم } أي بسبب إنساء بعضها وتحريم غيره مكانة لتوافقوا العدد - لا العين - اللازم عنه إخلال كل منها بإيقاع الظلم فيه وتحريم كل من غيرها ، قال قتادة : العمل الصالح والفاسد فيها أعظم منه في غيرها وإن كان ذلك في نفسه عظيماً فإن الله تعالى لعظم من أمره ما شاء؛ وقال أبو حيان ما حاصله : إن العرب تعيد الضمير على جمع الكثرة كالواحدة المؤنثة فلذا قال : « منها أربعة » أي من الشهور ، وعلى جمع القلة لما لا يعقل بنون جمع المؤنث فلذا قال { فلا تظلموا فيهن } أي في الأربعة .
ولما كان إنساؤهم هو لتحل لهم المقاتلة على زعمهم قال : { وقاتلوا المشركين كافة } أي كلكم في ذلك سواء ، في الائتلاف واجتماع الكلمة { كما يقاتلونكم كافة } أي كلهم في ذلك سواء وذلك الحكم في جميع السنة ، لا أنهاكم عن قتالهم في شهر منها ، فأنتم لا تحتاجون إلى تغيير حكمي فيها لقتال ولا غيره إن اتقيتم الله ، فلا تخافوهم وإن زادت جموعهم وتضاعفت قواهم لأن الله يكون معكم { واعلموا أن الله } أي الذي له جميع العظمة معكم ، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف تعليقاً للحكم به وتعميماً فقال : { مع المتقين* } جميعهم ، وهم الذين يثبتون تقواهم على ما شرعه لهم ، لا على النسيء ونحوه ، ومن كان الله معه نصر لا محالة .

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

ولما فهم من هذا إبطال النسيء لأنه فعل أهل الجاهلية فلا تقوى فيه ، كان كأنه قيل : أفما في النسيء تقوى فإن سببه إنما هو الخوف من انتهاك حرمة الله بالقتال في الشهر الذي حرمه؟وذلك أنهم كانوا أصحاب غارات وحروب ، وكانوا يحترمون الأشهر الحرم عن القتال حتى لو رأى الإنسان قاتل أبيه لا مانع منه لم يعرض له ، فكان إذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم تركه ، وكان يشق عليهم ترك ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، فجعلوا النسيء لذلك ، فقيل تصريحاً بما أفهمه ما مضى : ليس فيه شيء من ذلك : { إنما النسيء } أي تأخير الشهر إلى شهر آخر على أنه مصدر نسأ نسيئاً - إذا أخره ، أو هو اسم مفعول ، أي الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها { زيادة في الكفر } أي لأنه على خلاف ما شرعه الله ، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه .
ولما بين ما في النسيء من القباحة ، تحرر أنهم وقعوا على ضد مرادهم فإنهم كانوا لو قاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا وهم معتقدون الحرمة خائفون عاقبتها فكانوا غير خارجين عن دائرة التقوى بالكلية ، فإذا هم بتحليله قد صاروا خارجين عن دائرتها بمراحل لارتكابهم فيه كل عظيمة مع الأمن لاعتقاد الحل بتحليل ذلك الذي اعتقدوه رباُ ، فكان يقول : إني لا أجاب ولا أعاب ، وإنه لا مراد لقضائي ، وإني حللت المحرم وحرمت صفراً - إلى غير ذلك من الكلام الذي لايليق إلا بالإله؛ وذلك الذي معنى قوله تعالى بياناً لما قبله : { يضل به } أي بهذا التأخير الذي هو النسيء { الذين كفروا } أي يحصل لهم بذلك ضلال عما شرعه الله - هذا على قراءة الجماعة والمعنى على قراءة حمزة والكسائي وحفص - بالبناء للمفعول : يضلهم مضل من قبل الله ، وعلى قراءة يعقوب - بالضم : يضلهم الله؛ ثم بين ضلالهم بقوله : { يحلونه } أي ذلك الشهر ، وعبر عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان ، بل بمجرد التشهي فقال : { عاماً ويحرمونه عاماً } هكذا دائماً كلما أرادوا . وليس المراد أنهم كل سنة يفعلون ذلك من غير إجلال لسنة من السنين ، وهذا الفعل نسخ منهم مع أنهم يجعلون النسخ من معايب الدين { ليواطئوا } أي يوافقوا { عدة ما حرم الله } أي المحيط بالجلال والإكرام في كون الأشهر الحرم أربعة { فيحلوا } أي فيتسبب عن هذا الفعل أن يحلوا { ما حرم الله } أي الملك الأعظم منها كلها ، فلا يدع لهم هذا الفعل شهراً إلا انتهكوا حرمته فأرادوا بذلك عدم انتهاك الحرمة فإذا هم لم يدعوا حرمة إلا انتهكوها ، فما أبعده من ضلال!
ولما انهتكت بهذا البيان قباحة فعلهم ، كان كأنه قيل : إن هذا لعجب! ما حملهم على ذلك؟ فقيل : { زين } أي زين مزين ، وقرىء شاذاً بإسناد الفعل إلى الله { لهم سوء أعمالهم } أي حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن فضلوا ولم يهتدوا ، فعل الله بهم ذلك لما علم من طبعهم على الكفر فلم يهدهم { والله } أي الذي له صفات الكمال { لا يهدي } أي يخلق الهداية في القلوب { القوم الكافرين* } أي الذي طبعهم على الكفر فهم عريقون فيه لا ينفكون عنه؛ والنسيء - قال في القاموس - : الاسم من نسأ الشيء بمعنى زجره وساقه وأخره ، قال : وشهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية فنهى الله عز وجل عنه؛ وقال ابن الأثير في النهاية؛ والنسيء فعول بمعنى مفعول ، وقال ابن فارس في المجمل : والنسيء في كتاب الله التأخير ، وكانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول : أنا الذي لا يرد لي قضاء! فيقولون : أنسئنا شهراً ، اي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر - انتهى .

ومادة نسأ تدور على التغريب ، وسبب فعلهم هذا أنهم كانوا ربما أرادوا قتالاً في شهر حرام فيحلونه ، ويحرمون مكانه شهراً من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر؛ قال ابن فارس : وذلك أنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها ، لأن معاشهم في الغارة فيحل لهم الكناني المحرم - انتهى . وكان النسأة من بني فقيم من كنانة ، وكان أول من فعل ذلك منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد ابن فقيم ، وآخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة . نسأ أربعين سنة ، كانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فحرم الأشهر الحرم الأربعة ، فإذا أرادوا أن يحل منها شيئاً أحل المحرم فأحلوه ، وحرم مكانه صفراً فحرموه ، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم ، فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال : اللهم إني قد أحللت لهم أحد الصفرين الصفر الأول ، ونسأت الآخر للعام المقبل - ذكر ذلك أهل السير ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول من نسأ عمرو بن لحي .
وتحقيق معنى ما كانت العرب تفعله واختلاف أسماء الشهور به حتى يوجب دوران السنين فلا تصادف أسماء الشهور مسمياتها إلا الحين بعد الحين عسر قل من اتى فيه بما يتضح به قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما مضى « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض » وها أنا أذكر فيه ما لا يبقى بعده لبس إن شاء الله تعالى ، فمعنى قوله : ونسأت الآخر للعام المقبل ، أنه إذا أحل المحرم وسماه صفراً ابتدأ السنة بعده بالمحرم ثم صفر إلى آخرها ، فيصير بين صفر وذي الحجة الذي وقع النسيء فيه شهران ، وقد كان ينبغي ان يكون بينهما شهر واحد ، فأخر هذا الذي ينبغي إلى العام المقبل ، فالمعنى : وأخرت الصفر الآخر عن محله إلى العام المقبل فإذا جاء العام المقبل انتهى تأخره ، وإذا انتهى رجع إلى محله ، ويمكن أن يتنزل على هذا قول أبي عبيد في غريب الحديث ، قال بعد النصف من الجزء الثالث منه في شرح الاستدارة : إن بدء ذلك - والله أعلم - أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة ، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام ، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم ، فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم ، وهذا هو النسيء الذي قال الله { إنما النسيء } [ براءة : 37 ] الآية ، وكان ذلك في كنانة هم الذين كانوا ينسؤون الشهور على العرب ، والنسيء هو التأخير ، فكانوا يمكثون بذلك زماناً يحرمون صفراً وهم يريدون بذلك المحرم ويقولون : هو أحد الصفرين ، وقد تأول بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا صفر » على هذا ، ثم يحتاجون أيضاً إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع ، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك ، فكذلك يتدافع شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها ، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به ، وذلك بعد دهر طويل ، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم

« إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض » يقول : رجعت الأشهر الحرم إلى موضعها وبطل النسيء ، وقد زعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاماً ، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه ، قال أبو عبيد : الأول أحب إليّ لقول النبي صلى الله عليه وسلم « إن الزمان قد استدار » وليس في التفسير الأخير استدارة ، وعلى هذا التفسير الذي فسرناه قد يكون قوله { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } مصدقاً له لأنهم إذا حرموا العام المحرم وفي قابل صفراً ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضاً أحلوه وحرموا الذي بعده ، فهذا تأويل قوله في التفسير ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً . وقال أبو حيان في النهر ما حاصله : كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات ، فيشق عليهم توالي الأشهر الحرم ، وكان بنو فقيم أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم ، فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم خلفه ابنه قلع ثم خلفه ابنه أمية ثم خلفه ابنه عوف ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام ، كانوا إذا فرغوا من حجهم جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا : أنسئنا شهراً ، فيحل المحرم ، ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ويسمون ذلك الصفر المحرم ويسمون ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول - وهكذا سائر الشهور ، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم الذي هو في الحقيقة صفر؛ وقال البغوي : قال مجاهد : كانوا يحجون في كل شهر عامين ، فحجوا في ذي الحجة عامين وحجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذلك في الشهور ، فوافقت حجة أبي بكر السنة الثانية من ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوادع ، فوافق حجه أشهر الحج المشروع وهو ذو الحجة ، وقال عبد الرزاق في تفسيره : أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال : فرض الله الحج في ذي الحجة ، فكان المشركون يسمون الأشهر : ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة ، ثم يحجون فيه مرة أخرى ، ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ، فيسمونه - أحسبه قال - المحرم صفر ، ثم يسمون رجب بجمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ورمضان شوالاً .

ثم يسمون ذا القعدة شوالاً . ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه ، واسمه عندهم ذو الحجة ، ثم عادوا كمثل هذه الصفة فكانوا يحجون عامين في كل شهر حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج ، فوافق ذلك ذا الحجة ، فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض » وقال ابن إسحاق في السيرة؛ سألت ابن أبي نجيح عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال؛ كانت قريش يدخلون في كل سنة شهراً ، وإنما كانوا يوافقون ذا الحجة كل اثنتي عشرة سنة مرة ، فوفق الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي حج ذا الحجة ، فحج فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض » ، فقلت لابن أبي نجيح : فكيف بحجة أبي بكر وعتاب بن أسيد؟ فقال : على ما كان الناس يحجون عليه ، ثم قال ابن أبي نجيح : كانوا يحجون في الحجة ثم العام المقبل في المحرم ثم صفر حتى يبلغوا اثنى عشر شهراً - انتهى .

وقوله هذا يوهم أن في حج أبي بكر وعتاب رضي الله عنهما اختلالاً ، وتقدم عن المهدوي وغيره التصريح بأنه كان في ذي القعدة - وفيه نظر ، لأن السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه نودي فيها بتحريم النسيء وغيره من أمور الجاهلية ، فلا شك أنه لم يكن في ذلك العام إنساء ، ولما مضى من الشهر الذي حج فيه عشرة أشهر ، وكان الحادي عشر وهو ذو القعدة سار النبي صلى الله عليه وسلم في أواخره إلى الحج موافياً لهلال ذي الحجة ، فلما وقف بعرفة أخبر أن الزمان قد استدار ، فعلم قطعاً أن استدارته كانت في حجة أبي بكر ، وكذا في سنة ثمان وهي السنة التي حج فيها عتاب بالمسلمين ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يعتبرون حساب أهل الجاهلية لا نسأتهم ولا غير نسأتهم ، لأنه يلزم من القول بأنهم اعتبروا أمر النسأة أنهم اعتبروا ما هو زيادة من الكفر ، وهذا ما لا يقوله ذو مسكة ، وقد تقدم النقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى الحج في أواخر ذي القعدة أو بعد انقضائه من سنة تسع ، ووافاه العرب في ذي الحجة : الكفار وغيرهم ، فوقع إعلامهم ببراءة في أيام الحج وأماكنه ، فلو كان حصل في سنة عتاب اختلال في ذي القعدة بنسيء لكان ذو الحجة بحساب الكفار وهو المحرم بحساب الإسلام ، فكان يتأخر مجيء الكفار للحج عن مجيء المسلمين ، فثبت بهذا أيضاً أن حجه رضي الله عنه كان في ذي الحجة ، فحفظ الله أهل الإسلام من أن يقع في حجهم اختلال في سنة من السنين ، وما هي بأول نعمة عليهم - والله الموفق؛ وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي احمد المشهور بابن القاص من أكابر متقدمي أصحاب الشافعي رحمه الله في كتابه دلائل القبلة في باب معرفة عدد أيام السنة : فالسنة اثنا عشر شهراً بالأهلة ، وربما كان الشهر ثلاثين وربما كان تسعاً وعشرين ، فمبلغ السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثماني ساعات وأربعة أخماس ساعة ، وقالت الهند : السنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وست ساعات وخمس ساعة وجزء من أربعمائة جزء من ساعة ، وذلك من دخول الشمس برأس الحمل إلى أن تدخل فيه من قابل ، ففضل ما بين السنة الهلالية والسنة الشمسية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة ، فإذا زيدت عليها هذه الساعات والأيام استقام حسابه مع دوران الشمس ، وكانت العرب تزيده في الجاهليه ، وكان الذي أبدع لهم ذلك رجل من كنانة يقال له القلمس ، وذلك أنه يجمع هذه الزيادة فإذا تمت شهراً زاده في السنة وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهراً ، وسماه نسيئاً ، ويحج بهم تلك السنة في المحرم ، فأنزل الله تعالى { إنما النسيء زيادة في الكفر } فلما كانت السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وافق الحج في تلك السنة ذا الحجة لما أراد الله تعالى بإثبات الحج في تلك السنة ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال :

« أيها الناس! ألا إن السنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق الله السماوات والأرض { منها أربعة حرم ذلك الدين القيم } » يعنى به الحساب القيم ، فالحرم رجب جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، فسمي ذلك الحج الأقوم ، وقال الشاعر :
وأبطل ذو العرش النسي وقلمسا ... وفاز رسول الله بالحج الأقوم - انتهى
والقلمس بفتح اللام وتشديد الميم ، فالنسيء في البيت متروك الهمز ليصح الوزن ، والأقوم منقول حركة الهمزة ، وقوله : إن علة النسيء التطبيق بين السنة الشمسية والقمرية - فيه نظر ، والظاهر أن علته ما ذكر في السير من اضطرارهم إلى القتال ، وأمر الاستدارة في كل من هذه الأقوال واضح الاستنارة ، وليس المراد بها مصادفة كل فصل من فصول السنة لموضعه من الحر والبر ، ومصادفة اسم كل شهر لمسماه بحسب اشتقاقه حتى يكون رمضان في شدة الحر مثلاً وكذلك غيره وإن كان الواقع أن الأمر كان في هذه الحجة كذلك ، لما تقدم من أن غزوة تبوك كان ابتداؤها في شهر رجب ، وكان ذلك كما تقدم في شدة الحر وحين طابت الثمار ، وإنما المراد الأعظم بالاستدارة مصادفة اسم كل شهر لمسماه لا لمسمى شهر آخر لأجل الدوران بالنسيء بدليل أنه صلى الله عليه وسلم ما ذكر إلا لأجله ، فقال في بعض طرق حديث جابر الطويل رضي الله عنه : « إن النسيء زيادة في الكفر ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً » فانظر إلى تعقيبه بحصر الأشهر في الاثنى عشر نفياً لجعلهم إياها سنة النسيء ثلاثة عشر شهراً ، وقال : منها أربعة حرم ، وعينها وقال : أيّ شهر هذا؟ فلما سكتوا قال : ذو الحجة شهر حرام ، كل هذا لبيان أن المراد بالاستدارة رجوع كل شهر عما غيره أهل الجاهلية إلى موضعه الذي وضعه الله به موافقاً اسمه لمسماه ، وجعلت أشهرنا هلالية مع المنع من النسيء لتحصل الاستدارة فيحصل بسببها كل عبادة تعبدنا بها من صوم وعيد وحج وغيره في كل فصل من فصول السنة بخلاف من شهوره بالحساب ، فإن عباداتهم خاصة بوقت من السنة لا تتعداه - والله الموافق له ، وقال القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره ، حثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس قال؛ الشهر الذي انتزعه الله من الشيطان المحرم .

والحاصل أنه لا شك في أن النسيء لم يكن قط إلا للمحرم لما تقدم ، وان الحج لم يكن قط في جاهلية ولا إسلام إلا في شهر يسمى ذا الحجة لما قاله نقلة اللغة والحديث والأخبار ، قال ابن الأثير في النهاية ونشوان اليمني في شمس العلوم والقزاز في ديوانه وابن مكتوم في ترتيب العباب والمحكم : ذو الحجة بالكسر : شهر الحج ، زاد المحكم : سمي بذلك للحج ، وقال القزاز؛ إن الفتح فيه أشهر ، وفي النهاية : يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة ، سمى به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده ، أي يستقون ويسقون؛ وقال المجد في القاموس : يوم عرفة التاسع من ذي الحجة ، وفي كتاب أسواق العرب لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي رواية أبي سعيد السكري أن عكاظ كانت من أعظم أسواق العرب . فإذا أهل أهلها هلال ذي الحجة ساروا بأجمعهم إلى ذي المجاز وهي قريب من عكاظ ، وعكاظ في أعلى نجد ، فأقاموا بها حتى التروية ، ووافاهم بمكة حجاج العرب ورؤوسهم ممن أراد الحج بمن لم يكن شهد تلك الأسواق . قال الأزرقي في تاريخ مكة : فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة ، ثم يخرجون يوم التروية في ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز ، وإنما سمي يوم التروية لترويهم الماء بذي المجاز ، ينادي بعضهم بعضاً : ترووا من الماء ، إنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ ، ثم ذكر أنه لا يحضر ذلك إلا التجار ، قال : ومن لم يكن له تجارة فإنه يخرج من أهله متى أراد ، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية . وروى البيهقي في دلائل النبوة بسندة عن عروة وموسى بن عقبة - فرقهما - قالا : وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة ، ثم أسند عن ابن إسحاق انه قال : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة ، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم ، فكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة أو في الحجة ، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب يحج عليه ، وحج تلك السنة عتاب بن أسيد سنة ثمان ، وحديث اعتماره صلى الله عليه وسلم في ذي العقدة رواه الشيخان ومضى على ما كانت العرب من الطواف عراة ونحوه؛ وذكره الواقدي عن مشايخ قالوا : وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة ، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة ، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلاً فأحرم - فذكرعمرته ثم قال : واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة ، وخلف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين ، وأقام للناس الحج عتاب بن أسيد رضي الله عنه عن تلك السنة وهي سنة ثمان ، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الجمعه لثلاث بقين من ذي القعدة ، قال الواقدي : فأقام بقية ذي القعدة وذا الحجة ، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين - انتهى .

إذا تقرر هذا علم أن الحج لم يكن قط إلا في شهر يسمونه ذا الحجة ، وهو مما لا يدور في خَلَد ولا يقع في وهم فيه تردد ، ولا يحتاج إلى تطويل بذكره ولا إطناب في أمره ، وتارة يوافق اسمه مسماه وتارة لا يوافقه لأجل النسيء ، وعلم أيضاً أن حج عتاب بن أسيد كان في ذي الحجة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة إلى المدينة الشريفة ، أنه ما تأخر عن ذي الحجة إلا لنقل ، وأن حج أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع كان ذي الحجة لذلك ولما تقدم من أن سفره له من المدينة الشريفة كان آخر ذي القعدة أو أول ذي الحجة ولقولهم : إن الأربعة الأشهر التي ضربت للمشركين من يوم النحر ولقولهم : إن الأربعة الأشهر كان آخرها عاشر ربيع الآخر ، وعلم أن ذا الحجة تلك السنة لو كان وافق مسمى ذي القعدة لم يقع ذو الحجة سنة عشر التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه الذي وضعه الله به إلا بأن تكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً بنسيء أو غيره ، وكل من الأمرين باطل ، أما الأول فلأن الله تعالى أبطل النسيء في تلك السنة فيما أبطله من أمور الجاهلية في هذه السورة ، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم بالمناداة بها كما مر ، وأما الثاني فهو أمر خارق للعادة لم يكن مثله من حين خلق الله السماوات والأرض ، والخارق مما تتوفر الدواعي [ على ] نقله ، ولا ناقل لهذا أصلاً فبطل ، وإذا بطل ثبت أن سنة عشر كانت اثني عشر شهراً ولا سيما بعد إنزال الله تعالى في ذلك ما أنزل في هذه السورة ، وإذا كان الأمر كذلك كان الشهر الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم في موضع الشهر الذي وقف فيه الصديق رضي الله عنه سواء بسواء ، وقد ثبت أن الزمان كان فيه قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، فثبت من غير مرية أن شهر الصديق رضي الله عنه كذلك كان ، وثبت أيضاً أن سنة عتاب ابن أسيد رضي الله عنه كذلك كانت بما قدمتُ من أنه لم يكن فيها نسيء لتوافق حج المسلمين والمشركين في سنة تسع .

فدل ذلك على أنها كانت اثنى عشر شهراً ، فكان ذو الحجة فيها في موضعه الذي وضعه الله به كما كانت سنة تسع ، بل ظاهر قوله أبي عبيد : فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه - كما مضى - أن الله حفظ زمن الإسلام كله عن نسيء ، وهو الذي اعتقده ، وقد لاح بذلك أن السبب في قول من قال : إن حج الصديق رضي الله عنه وافق ذا القعدة ، أنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن الزمان قد استدار » أن الاستدارة لم تكن إلا في تلك السنة وليس ذلك مدلول هذا التركيب ما لا يخفي والله الوفق : ثم وجدت النقل الصريح في زوائد معجمي الطبراني : الأوسط والأصغر للحافظ نور الدين الهيثمي بمثل ما فهمته ، قال في تفسير براءة : حدثنا إبراهيم - يعني ابن هشام - البغوي ثنا الصلت بن مسعود الجحدري ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ثنا دواد بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين ولا يصيبون الحج إلا في كل ست وعشرين سنة مرة ، وهو النسيء الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ، فلما كان عام حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس وافق ذلك العام الحج فسماه الله الحج الأكبر ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض » لم يروه عن عمرو إلا داود تفرد به الصلت - انتهى . وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى ، ثم رأيت الهيثمي في مجمع الزوائد قال : رجاله ثقات ، فأكد ذلك الجزم بما فهمت من أنه حسن ، وإنما أطلت هذا بما قد لا يحتاج في إيضاحه إليه لكثرة جدال المجادلين المعاندين ومحال المماحلين الجامدين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

ولما أوعز سبحانه في أمر الجهاد ، وأزاح جميع عللهم وبين أن حسنه لا يختص به شهر دون شهر وأن بعضهم كان يحل لهم ويحرم فيتبعونه بما يؤدي إلى تحريم الشهر الحلال وتحليل الشهر الحرام بالقتال فيه ، عاتبهم الله سبحانه على تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمر لهم بالنفر في غزوة تبوك عن أمره سبحانه ، وكان ابتداؤها في شهر رجب سنة تسع ، فقال تعالى على سبيل الاستعطاف والتذكير بنعمة الإيمان بعد ختم التي قبلها بأنه لا يهدي الكافرين - الذي يعم الحرب وغيره الموجب للجرأة عليهم [ لأن لا هداية له أعمى ، والأعمى لا يخشى ] : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا ذلك { ما لكم } أي ما الذي يحصل لكم في أنكم { إذا قيل لكم } أي من أيّ قائل كان { انفروا } أي اخرجوا مسرعين بجد ونشاط جماعات ووحداناً إمداداً لحزب الله ونصراً لدينه تصديقاً لدعواكم الإيمان ، والنفر : مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاج على ذلك { في سبيل الله } أي بسبب تسهيل الطريق إلى الملك الذي له جميع صفات الكمال ، وقال ابو حيان : بني « قيل » للمفعول والقائل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره إذ أخلد إلى الهوينا والدعة من أخلد وخالف أمره - انتهى . { اثاقلتم } أي تثاقلتم تثاقلاً عظيماً ، وفيه ما لم يذكروا له سبباً ظاهراً بما أشار إليه الإدغام إخلاداً وميلاً { إلى الأرض } أي لبرد ظلالها وطيب هوائها ونضج ثمارها ، فكنتم أرضيين في سفول الهمم ، لا سمائيين بطهارة الشيم .
ولما لم يكن - في الأسباب التي تقدم أنها كانت تحمل على التباطؤ عن الجهاد - ما يحتمل القيام بهم في هذه الغزوة إلا الخوف من القتل والميل إلى الأموال الحاضرة وثوقاً بها والإعراض عن الغنى الموعود به الذي ربما يلزم من الإعراض عنه التكذيب ، فيؤدي إلى خسارة الآخر ، هذا مع ما يلزم على ذلك - ولا بد - من الزهد في الأجر المثمر لسعادة العقبى بهذا الشيء الخسيس؛ قال مبيناً خسة ما أخلدوا إليه تزهيداً فيه وشرف ما أعرضوا عنه ترغيباً منبهاً على أن ترك الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر عظيم منكراً على من تثاقل موبخاً لهم : { أرضيتم بالحياة الدنيا } أي بالخفض والدعة في الدار الدنية الغارة { من الآخرة } أي الفاخرة الباقية؛ قال أبو حيان : و « من » تظافرت أقوال المفسرين أنها بمعنى بدل ، وأصحابنا لا يثبتون أن من تكون للبدل - انتهى . والذي يظهر لي أنهم لم يريدوا أنها موضوعة للبدل ، بل إنه يطلق عليها لما قد يلزمها في مثل هذه العبارة من ترك ما بعدها لما قبلها فإنها لابتداء الغاية ، فإذا قلت : رضيت بكذا من زيد ، كان المعنى أنك أخذت ذلك أخذاً مبتدئاً منه غير ملتفت إلى ما عداه ، فكأنك جعلت ذلك بدل كل شيء يقدر أنه ينالك منه من غير ذلك المأخوذ .

ولما كانوا قد أعطوا الآخرة على الأتباع فاستبدلوا به الامتناع ، كان إقبالهم على الدنيا كأنه مبتدىء مما كانوا قد توطنوه من الآخرة مع الإعراض عنها ، فكأنه قيل : أرضيتم بالميل إلى الدنيا من الآخرة؟ ويؤيد ما فهمته أن العلامة علم الدين أبا محمد القاسم بن الموفق الأندلسي ذكر في شرح الجزولية انهم عدوا ل { من } خمسة معان كلها ترجع إلى ابتداء الغاية عند المحققين ، وبين كيفية ذلك حتى البيانية ، فمعنى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] الذي ابتداؤه من الأوثان ، لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها .
ولما كان الاستفهام إنكارياً كان معناه النهي ، فكان تقدير : لا ترضوا بها فإن ذلك أسفه رأي وأفسده! فقال تعالى معللاً لهذا النهي : { فما } أي بسبب أنه ما { متاع الحياة الدنيا في } أي مغموراً في جنب { الآخرة إلا قليل* } والذي يندب هم المتجر ويدعي البصر به ويحاذر الخلل فيه يعد فاعل ذلك سفيهاً .
ولما كان طول الاستعطاف ربما كان مدعاة للخلاف وترك الإنصاف ، توعدهم بقوله : { إلا تنفروا } أي في سبيله { يعذبكم } أي على ذلك { عذاباً أليماً* } أي في الدارين { ويستبدل } أي يوجد بدلاً منكم { قوماً غيركم } أي ذوي بأس ونجدة مخالفين لكم في الخلال التي كانت سبباً للاستبدال لولايته ونصر دينه .
ولما هددهم بما يضرهم ، أخبرهم أنهم لا يضرون بفتورهم غير أنفسهم فقال : { ولا تضروه } أي الله ورسوله { شيئاً } لأنه متم أمره ومنجر وعده ومظهر دينه؛ ولما أثبت بذلك قدرته على ضره لهم وقصورهم عن الوصول إلى ضره ، كان التقدير : لأنه قادر على نصر دينه ونبيه بغيركم ، فعطف عليه تعميماً لقدرته ترهيباً من عظيم سطوته قوله : { والله } أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة { على كل شيء قدير* } .
ولما وصف سبحانه نفسه الأقدس بما هو له أهل من شمول القدرة وعظيم البأس والقوة ، أتبع ذلك بدليل يتضمن أن المستنفر لهم - وهو نبيه صلى الله عليه وسلم - غير محتاج إليه ومتوقف نصره عليهم كما لم يحتج إليهم - بحياطة القادر له - فيما مضى من الهجر التي ذكرها ، وأن نفع ذلك إنما هو لهم باستجلاب ما عدوه واستدفاع ما أوعدوه في الدارين المشار إلى ذلك كله بقوله { فما متاع الحياة الدنيا } الآية وقوله { إلا تنفروا } - الآية ، فقال : { إلا تنصروه } أي أنتم طاعة لأمر الله ، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم إما على طريق الاستخدام من سبيل الله لأنه الموضح له الداعي إليه ، أو لتقدم اسمه الشريف إضماراً في قوله { إذا قيل لكم } أي من رسول الله صلى عليه وسلم استنصاراً منه لكم ، وإظهاراً في قوله تعالى

{ هو الذي أرسل رسوله } [ التوبة : 34 ] الاية وقوة ما في كل جملة من المناسبة المقتضية لأن تعانق التي بعدها ولا تنفك عنها قصر الفصل بين الظاهر وضميره ، وذكر الغاز والصاحب أوضح الأمر . وذلك أنه سبحانه لما عابهم باتخاذ الرؤساء أرباباً اشتدت الحاجة إلى بيان أنهم في البعد عن ذلك على غاية لا تخفى على متأمل ، فوصفهم بالأكل المستلزم للجسمية المستلزمة للحاجة ، وبأن مأكولهم أموال غيرهم باطلاً ، وبأنهم يغشونهم لصدهم إياهم عن السبيل التي لا يخفى حسنها على من له أدنى نظر؛ ولما كان ذلك شديد الإثارة لتشوف النفوس إلى السؤال عن العرب : هل فعلوا فعلهم واتبعوا سنتهم؟ أجاب بأن عملهم في تحليل النسأة لهم بعض الأشهر الحرم وتحريم بعض أشهر الحل والزيادة في عدة أشهر السنة كعملهم سواء .
ولما أمر بقتال المشركين كافة وحثهم على التقوى ، وكان بعضهم قد توانى في ذلك ، اشتد اقتضاء الحال لمعاتبة على التثاقل عن النفر ، فلما تم ذلك في هذا الأسلوب البديع والطراز الرفيع حث على نصر الرسول الذي أرسله ليظهره على الدين كله فقال جواباً للشرط : { فقد } أي إن لم يتجدد منكم له نصر فإن الله قادر على نصره وسينصره ويغنيه عنكم ولا تضرون إلا أنفسكم فقد { نصره الله } أي الملك الأعظم وحده والأمر في غاية الشدة ، ولا شك عند عاقل أن المستقبل عنده كالماضي { إذ } أي حين { أخرجه الذين } وعبر بالماضي لأن فيهم من أسلم بعد ذلك فقال : { كفروا } أي من مكة وهم في غاية التمالؤ عليه حين شاوروا في قتله أو إخراجه او إثباته ، فكان ذلك سبباً لإذن الله له في الخروج من بينهم حال كونه { ثاني اثنين } أي أحدهما أبو بكر رضي الله عنه ولا ثالث لهما ينصرهما إلا الله { إذ هما في الغار } أي غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لمّا كمنا به ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب ، وذلك قبل أن يصلا إليكم أو يعولا في النصر عليكم { إذ يقول } أي رسول الله صلى الله عليه وسلم { لصاحبه } أي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء { لا تحزن } والحزن : هم غليظ بتوجع يرق له القلب ، حزنه وأحزنه بمعنى؛ وقال في القاموس : أو أحزنه : جعله حزيناً ، وحزّنه : جعل فيه حزناً؛ ثم علل نهيه لصاحبه بقوله معبراً بالاسم الأعظم مستحضراً لجميع ما جمعه من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تخضع دونها صلاب الرقاب وتندك بعظمتها شوامخ الجبال الصلاب { إن الله } أي الذي له الأمر كله { معنا } أي بالعون والنصرة ، وهو كاف لكل مهم ، قوي على دفع ملم ، فالذي تولى نصره بالحراسة في ذلك الزمان كان قادراً على أن يأمر الجنود التي أيده بها أن تهلك الكفار في كل موطن من غير أن يكون لكم في ذلك أمر أو يحصل لكم به أخر ، وكما أنه كان موجوداً في ذلك الزمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى هو على ذلك في هذا الزمان وكل زمان ، فتبين كالشمس أن النفع في ذلك إنما هو خاص بكم ، وأنه سبحانه ما رتب هذا كله على هذا المنوال إلا لفوزكم ، وفي هذه الآية من التنويه بمقدار الصديق وتقدمه وسابقته في الإسلام وعلو منصبه وفخامة أمره ما لا يعلمه إلا الذي أعطاه إياه؛ قال أبو حيان وغيره : قال العلماء : من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه كفر لإنكاره كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة .

ولما كان رضي الله عنه نافذ البصيرة في المعارف الإلهية ، راسخ القدم في ذلك المقام لذلك لم يتلعثم من أول الأمر في عناد جميع العباد بخاع الأنداد ، ثم تدرب فيه مترقياً لثلاث عشرة سنة ، وكان الذي به من القلق إنما هو الخوف من أن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى فيدركه من الحزن لذلك ما يهلكه قبل سروره بظهور الدين وقمع المعتدين ، ولم يكن جنباً ولا سوء ظن ، لما كان ذلك كذلك كان رضي الله عنه حقيقاً لحصول السكينة له عند سماع اسم الشريف الأعظم الدال على ذلك المقام المذكر بتلك العظمة التي يتلاشى عندها كل عظيم ، ويتصاغر في جنبها كل كبير ، ولذلك ذكر هذا الاسم الأعظم وقدم ، وأشرك الصديق في المعية وبدأ بالنهي عن الحزن لأنه المقصود بالذات ومابعده علة له . وأما بنو إسرائيل فلم يكن عندهم من المعرفة إلا ما شاهدوا من إحسانه تعالى إلى موسى عليه السلام بإظهار تلك الآيات على يده حتى استنقذهم بها مما كانوا فيه ، ومنع موسى عليه السلام مع وحدته من سطوات فرعون على عظمته وما كان يواجهه به من المكروه ، فلما رأوا جموعه مقبلة كان حالهم مقتضياً للسؤال عن ذلك المحسن بإظهار تلك الآيات : هل هو مع موسى عليه السلام على ما كان عليه فيمنعهم ام لا؟ فلذلك قد إنكار الإدراك ثم إثبات المعية على سيبل الخصوص به ، وعبر عن الإله باسم الرب الدال على ذلك الإحسان المذكر به فقال { كلا إن معي ربي } [ الشعراء : 62 ] فكأن قيل : ماذا يفعل والبحر أمامنا والعدو وراءنا؟ فقال « سيهدين » أي إلى ما أفعل ، يعرف ذلك من كان متضلعاً بالسير وقصص بني إسرائيل على ما ذكرتها في الأعراف عن التوارة ، مستحضراً لأن الصديق رضي الله عنه كان في صعودهما إلى الغار يذكر الرصد فيتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ليفتديه بنفسه ثم يذكر الطلب فيتأخر ثم يذكر ما عن اليمين والشمال فينتقل إليهما ، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قتلت أنا فأنا رجل واحد ، وإن قتلت أنت هلكت الأمة ، وأنه كان عارفاً بأن الله تعالى تكفل بإظفار الدين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمن لحراسة نفسه الشريفة قبل ذلك ، ولذلك كان به في هذا اليوم من القلق ما ذكر ، وكان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الناس ، ولذلك أتى بالفاء المعقبة في قوله : { فأنزل الله } أي الملك الأعظم { سكينته } أي السكون المبالغ فيه المؤثر للنسك { عليه } أي الصديق - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما - لأن السكينة لم تفارق النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عطف على نصره الله قوله : { وأيده } أي النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف الضمائر هنا لا يضر لأنه غير مشتبه { بجنود لم تروها } أي من الملائكة الكرام { وجعل كلمة } أي دعوة { الذين كفروا } أي أوقعوا الكفر من آمن منهم بعد ذلك وغيره { السفلى } فخيّب سعيهم ورد كيدهم ، ثم ابتدأ الإخبار بما له سبحانه على الدوام من غير انقطاع أصلاً في وقت من الأوقات فقال : { وكلمة الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ، ونصبها يعقوب عطفاً على ما سبق { هي العليا } أي وحدها ، لايكون إلا ما يشاءه دائماً أبداً ، فالله قادر على ذلك { والله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { عزيز } أي مطلقاً يغلب كل شيء من ذلك وغيره { حكيم* } لا يمكن أن ينقض شيء من مراده لما ينصب من الأسباب التي لا مطمع لأحد في مقاومتها فلا محيص عن نفوذها .

ولما بلغت هذه الماعظ من القلوب الواعية مبالغاً هيأها به للقبول ، أقبل عليها سبحانه بالأمر فقال : { انفروا خفافاً وثقالاً } والمراد بالخفة كل ما يكون سبباً لسهولة الجهاد والنشاط إليه ، وبالثقل كل ما يحمل على الإبطاء عنه؛ وقال أبو حيان : والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا - انتهى . قال البغوي : قال الزهري : خرج سعيد بن المسيب رحمه الله الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع؛ وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند صحيح عن أنس أن أبا طلحة رضي الله عنهما قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال : لا أرى ربي يستنفرني شاباً وشيخاً! جهزوني ، فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فما تغير ، { وجاهدوا } أي أوقعوا جهدكم ليقع جهد الكفار .
ولما كانت هذه الآية في سياق المعاتبة لمن تثاقل إلى الأرض عن الجهاد عند الاستنفار في غزوة تبوك ، وكان سبب التثاقل ما كان في ذلك ما كان في ذلك الوقت من العسرة في المال والشدة بالحر وما كان من طيب الظلال في أراضي الجنان وقت الأخذ في استواء الثمار - كما هو مشهور في السير؛ اقتضى المقام هنا تقديم المال والنفس بخلاف ما مضى فإن الكلام كان في المفاضلة بين الجهاد في سبيل الله وخدمة البيت ومن يحجه في هذه السورة التي صادف وقت نزولها بعد مواطن الجهاد وطول المفارقة للأموال ، والأولاد وقدم المال لأن النظر إليه من وجهين : قلته ، ومحبة الإقامة في الحدائق أيثاراً للتمتع بها وخوفاً من ضياعها مع أن بها قوام الأنفس ، فصار النظر إليها هو الحامل على الشح بالأنفس فقال تعالى : { بأموالكم وأنفسكم } أي بهما معاً على ما أمكنكم أو بأحدهما { في سبيل الله } أي الملك الأعلى أي حتى لا يبقى منه مانع { ذلكم } أي الأمر العظيم { خير } أي في نفسه حاصل { لكم } أي خاص بكم ، ويجوز أن يكون أفعل تفضيل بمعنى أن عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كائناً ما كان ، كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله : هل يمكن بلوغ درجة المجاهد؟ فقال : هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ وختم الآية بقوله : { إن كنتم تعلمون* } إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان عاماً فإنما ينتفع به ذوو الأذهان الصافية والمعالم الوافية ، فإن العلم - ولا يعد علماً إلا النافع - يحث على العمل وعلى إحسانه باخلاص النية وتصحيح المقاصد وتقوية العزم وغير ذلك وضده يورث ضده .

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)

ولما كان هذا العتاب مؤذناً بأن فيهم من تباطأ عن الجهاد اشتغالاً بنحو الأموال والأولاد ، وكان ما اشتملت عليه هذه الآيات من الأوامر والزواجر والمواعظ جدير : بأن يخفف كل متثاقل وينشط كل متكاسل ، تشوفت النفوس إلى ما اتفق بعد ذلك فأعلم سبحانه به في أساليب البلاغة المخبرة عن أحوال القاعدين وأقاصيص الجامدين المفهمة ان هناك من غلب عليه الشقاء فلم ينتفع بالمواعظ ، فالتفت من لطف الإقبال إلى تبكيت المتثاقلين بأسلوب الإعراض المؤذن الغضب المحقق للسخط المبين لفضائحهم المبعثر لقبائحهم المخرج لهم ما دخلوا فيه من عموم الدعاء باسم الإيمان فقال : { لو كان } أي ما تدعوا إليه { عرضاً } أي متاعاً دنيوياً { قريباً } أي سهل التناول { وسفراً قاصداً } أي وسطاً عدلاً مقارباً { لا تبعوك } أي لأجل رجاء العرض مع سهولة السفر لأن هممهم قاصرة ومنوطة بالحاضر { ولكن } أي لم يتبعوك تثاقلاً إلى الأرض ورضى بالفاني الحاضر من الباقي الغائب لأنها { بعدت عليهم الشقة } أي المسافة التي تطوى بذرع الأرجل بالمسير فيحصل بها النكال والمشقة فلم يواز ما يحصل لهم بها من التعب ما يرجونه من العرض ، فاستأذنوك ، وفي هذا إشارة إلى ذمهم بسفول الهمم ودناءة الشيم بالعجز والكسل والنهم والثقل ، وإلى أن هذا الدين متين لا يحمله إلا ماضي الهم صادق العزم كما قال الشاعر :
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه ... وأعرض عن ذكر العواقب جانبا
فلله در أولي العزائم والصبر على الشدائد والمغارم! ولما ذمهم بالشح بالدنيا ، أتبعه وصمهم بالسماح بالدين فقال مخبراً عما سيكون منهم علماً من أعلام النبوة : { وسيحلفون } أي المتخلفون باخبار محقق لا خلف فيه { بالله } أي الذي لا أعظم منه عند رجوعكم إليهم جمعاً إلى ما انتهكوا من حرمتك بالتخلف عنك لانتهاك حرمة الله بالكذب قائلين : والله { لو استطعنا } أي الخروج إلى ما دعوتمونا إليه { لخرجنا معكم } يحلفون حال كونهم { يهلكون أنفسهم } أي بهذا الحلف الذي يريدون به حياتها لأنهم كذبوا فيه فانتهكوا حرمة اسم الله { والله } أي والحال أن الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة سبحانه { يعلم إنهم لكاذبون* } فقد جمعوا بين إهلاك أنفسهم والفضيحة عند الله بعلمه بكذبهم في انهم غير مستطيعين ، وجزاء الكاذب في مثل ذلك الغضب المؤيد الموجب للعذاب الدائم المخلد .
ولما بكتهم على وجه الإعراض لأجل التخلف والحلف عليه كاذباً ، أقبل إليه صلى الله عليه وسلم بالعتاب فبي لذيذ الخطاب على الاسترسال في اللين لهم والائتلاف وأخذ العفو وترك الخلاف إلى هذا الحد ، فقال مؤذناً بأنهم ما تخلفوا إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم لأعذار ادعوها كاذبين فيها كما كذبوا في هذا الحلف ، مقدماً للدعاء على العتاب لشدة الاعتناء بشأنه واللطف به صلى الله عليه وسلم : { عفا الله } أي ذو الجلال والإكرام { عنك } وهذا كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا : أصلح الله الأمير ، والملك - ونحو ذلك .

ولما كان من المعلوم أنه لا يأذن إلا لما يرى أنه يرضي الله من تألفهم ونحوه ، بين أنه سبحانه يرضى منه ترك الإذن فقال كناية عن ذلك : { لم أذنت لهم } أي في التخلف عنك تمسكاً بما تقدم من الأمر باللين لهم والصفح عنهم موافقاً لما جبلت عليه من محبة الرفق ، وهذا إنما كان في أول الأمر لخوف التنازع والفتنة ، وأما الآن فقد علا الدين وتمكن أمر المؤمنين فالمأمور به الإغلاط على المنافقين فهلا تركت الإذن لهم { حتى يتبين لك } أي غاية البيان { الذين صدقوا } أي في التزام الأوامر بما أقروا به من كلمة التوحيد { وتعلم الكاذبين* } أي فيما أظهروا من الإيمان باللسان ، فإنك إن لم تأذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره؛ قال أبو حيان : و { حتى } غاية الاستفهام - انتهى . وذلك لأنه وإن كان داخلاً على فعل مثبت فمعناه النفي ، أي ما لك لم تحملهم على الغزو معك ليتحقق بذلك الحمل من يطيع ومن يعصي ، فالحاصل أن الذي فعله صلى الله عليه وسلم حسن موافق لما أمره الله به فإنه لا ينطبق عن الهوى بل عن أمر الله إما بإيحاء واصل جديد ، أو استناد إلى وحي سابق حاصل عتيد ، والذي أشار إليه سبحانه أحسن مثل { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } [ الفتح : 2 ] من باب « حسنات الأبرار سيئات المقربين » ومن باب الترقية من مقام عال إلى مقام اعلى تسييراً فيهم بالعدل لما انكشف أنهم ليسوا بأهل الفضل؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في آخر كتاب العروة في تفاوت وجه الخطاب فيما بين ما أنزل على وفق الوصية أو أنزل على حكم الكتاب : اعلم أن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالرحمة لجميع العالمين وخلقه بالعفو والمعروف ، كما ورد في الكتب السابقة من قوله تعالى : « وأجعل العفو والمعروف خلقه » وبذلك وصاه كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أوصاني ربي من غير ترجمان ولا واسطة بسبع خصال : بخشية الله في السر والعلانية ، وأن أصل من قطعني ، وأصفح عمن ظلمني ، وأعطي من حرمني ، وأن يكون نطقي ذكراً ، وصمتي فكراً ، ونظري عبرة » .
فكان فيما أوصاه به ربه تبارك وتعالى من غير ترجمان ولا واسطة أن يصل من قطعة ويصفح عمن ظلمه ، ولا أقطع له ممن كفر به وصد عنه ، فكان هو صلى الله عليه وسلم - بحكم ما بعث به وجبل عليه ووصى به - ملتزماً للعفو عمن ظلمه والوصل لمن قطعه إلا أن يعلن عليه بالإكراه على ترك ذلك والرجوع إلى حق العدل والاقتصاص والانتصاف المخالف لسعة وصيته الموافق لما نقل من أحكام سنن الأولين في مؤاخذتهم بالحق والعدل إلى جامع شرعته ليوجد فيها نحو مما تقدم من الحق والعدل وإن قل ، ولتفضل شرعته بما اختص هو به صلى الله عليه وسلم من البعثة بسعة الرحمة والفضل

{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان } [ النحل : 9 ] ، { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] فمن القرآن ما أنزل على الوجه الذي بعث له وجبل عليه ووصى به نحو قوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } [ المؤمنون : 96 ] وقوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وقوله تعالى : { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] وقوله تعالى : { فاصفح الصفح الجميل } [ الحجر : 85 ] وقوله تعالى { فاصفح عنهم وقل سلام } [ الزخرف : 89 ] وأصل معناه في مضمون قوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم } [ التوبة : 128 ] فما كان من المنزل على هذا الوجه تعاضدت فيه الوصية والكتاب وقبله هو صلى الله عليه وسلم جبلة وحالاً وعملاً ولم تكن له عنه وقفة لتظافر الأمرين وتوافق الخطابين : خطاب الوصية ، وخطاب الكتاب؛ وهذا الوجه من المنزل خاص بالقرآن العظيم الذي هو خاص به صلى الله عليه وسلم ، لم يؤته أحد قبله { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] ومن القرآن ما أنزل على حكم العدل والحق المتقدم فضله في سنن الأولين وكتب المتقدمين وإمضاء عدل الله سبحانه في المؤاخذين والاكتفاء بوصل الواصل وإبعاد المستغني والإقبال على القاصد والانتقام من الشارد ، وذلك خلاف ما جبل الله عليه نبيه وما وصى به حبيبه صلى الله عليه وسلم ؛ فكان صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه - أي من الكتاب - على مقتضى الحق وإمضاء العدل ترقب تخفيفه وترجى تيسيره حتى يعلن عليه بالإكراه في أخذه والتزام حكمه فحينئذ يقوم لله به ويظهر عذره في إمضائه فيكون له في خطاب التشديدعليه في أخذه أعظم مدح وأبلغ ثناء من الله ضد ما يتوهمه الجاهلون ، فمما أنزل إنباء عن مدحه بتوقفه على إمضاء حكم العدل والحق رجاء تدارك الخلق واستعطاف الحق ما هو نحو قوله تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } [ الكهف : 6 ] ونحو قوله تعالى : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] نحو قوله تعالى : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } [ الحجر : 97 ] ومما أنزل على وجه الإعلان عليه بما هو عليه من الرحمة وتوقفه على الأخذ بسنن الأولين حتى يكره عليه ليقوم عذره ليقوم عذره في الاقتصار على حكم الوصية وحال الجبلة ما هو نحو قوله تعالى :

{ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك } [ هود : 17 ] ونحو قوله تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [ يونس : 99 ] ونحو قوله تعالى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } [ يونس : 94 ] أي لا تتوقف لطلب الرحمة لهم كما - يتوقف الممتري في الشيء أو الشاك فيه لما قد علم أنه لا بد لأمته من حظ من مضاء كلمة العدل فيهم وحق كلمة العذاب عليهم وإجراء بعضهم دون كلهم على سنة من تقدمهم من أهل الكتب الماضية في المؤاخذة بذنوبهم وإنفاذ حكم السطوة فيهم فأخذهم الله بذنوبهم { فكلاً أخذنا بذنبه } [ العنكبوت : 40 ] ولم ينفعهم الرجوع عند مشاهدة الآيات { الآن وقد عصيت قبل } [ يونس : 91 ] { لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم } [ الأنبياء : 13 ] وذلك أن كل مطالع بالعذاب راجع - ولا بد - عن باطله حين لا ينفعه { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] { إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } [ يونس : 98 ] لما أبطن تعالى في قلب نبيهم عليه السلام عزماً على هلاكهم ، أظهر تعالى رحمة عليهم ، ولما ملأ نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة لأمته : كافرهم ومؤمنهم ومنافقهم ، أشار بآي من إظهار مؤاخذتهم وأعلم بكف نبيه صلى الله عليه وسلم عن تألفهم وأحسبه بمؤمنهم دون كافرهم ومنافقهم { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] وكل ذلك معلوم عنده صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه بمضمون قوله تعالى : { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } { سنة الله التي قد خلت من قبل } [ الفتح : 23 ] ، { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } [ يونس : 94 ] ، { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين } [ الحجر : 12-13 ] « ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } [ يونس : 94 ] : » أما أنا فلا أشك ولا أسأل « » ، لأنه قد علم جملة أمر الله أن منهم من يتداركه الرحمة ومن يحق عليه كلمة العذاب ، ولكنه لا يزال ملتزماً لتألفهم واستجلابهم حتى يكره على ترك ذلك بعلن خطاب نحو قوله تعالى : { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلاّ إنها تذكرة فمن شاء ذكره } [ عبس : 1-12 ] ونحو قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم } [ الأنفال : 67- 69 ] فهذه الآي ونحوها يسمعها العالم بموقعها على إكراه لنبي الرحمة حتى يرجع إلى عدل نبي الملحمة من جملة أمداح القرآن له والشهادة بوفائه بعهد ووصية حتى تحقق له تسميته بنبي الرحمة ثابتاً على الوصية ونبي الملحمة إمضاء في وقت لحكم الحق وإظهار العدل ، فهو صلى الله عليه وسلم بكل القرآن ممدوح وموصوف بالخلق العظيم جامع لما تضمنته كتب الماضين وما اختصه الله به من سعة القرآن العظيم ، فهذا وجه تفاوت ما بين الوصية والكتاب في محكم الخطاب؛ والله سميع عليم - انتهى .

لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

ولما فاته صلى الله عليه وسلم معرفتهم بهذا الطريق ، شرع العالم بما في الضمائر يصفهم له بما يعوض عن ذلك ، فقال على طريق الجواب للسؤال : { لا يستئذنك } أي يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه { الذين يؤمنون بالله } أي يجددون الإيمان كل وقت حقاً من أنفسهم بالملك الذي له صفات الكمال { واليوم الآخر } أي الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب { أن } أي في أن { يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه ، فإن الخلص من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون : لا نستأذنه صلى الله عليه وسلم أبداً في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد مرة فأيّ فائدة في الاستئذان! ولنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا ، وكانوا بحيث لو أمرهم صلى الله عليه وسلم بالعقود شق عليهم كما وقع لعلي رضي الله عنه في غزوة تبوك حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى » ! ولما كان التقدير : فمن اتصف بذلك فاعلم أنه متق بأخبار الله ، عطف عليه قوله : { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { عليم بالمتقين* } أي الذين يخافون الله كلهم .
ولما أخبر بالمتقين ، عرف بغيرهم على وجه الحصر تأكيداً لتحقيق صفة العلم بما أخبر به سبحانه ، فصار الاستئذان منفياً عن المؤمنين مرتين ، فثبت للمنافقين على أبلغ وجه { إنما يستئذنك } أي في مثل ذلك فكيف بالاستئذان في التخلف! { الذين لا يؤمنون } أي يتجدد لهم إيمان { بالله } أي الملك الأعلى الذي له نهاية العظمة إيماناً مستجمعاً للشرائط { واليوم الآخر } لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً وإن ادعوا ولما كانت [ هذه ] صفة المصارحين بالكفر ، بين أن المراد المنافقون بقوله : { وارتابت قلوبهم } أي تابعت الوساوس وتعمدت المشي معها حتى تخلقت بالشك؛ ولما كان الشاك لا يزال يتجاذبه حسن الفطرة وسوء الوسوسة ، قال : { فهم } أي فتسبب عن ذلك أنهم { في ريبهم يترددون* } أي بين النفي والإثبات دأب المتحير لا يجزمون بشيء منهما وإن صدقوا أن الله موجود فإن المشركين يصدقون بذلك ولكنه لا ينفعهم للإخلال بشرطه ، وليس استئذانهم في أن يجاهدوا لإرادة الجهاد بل توطئة لأن يقولوا إذا أمرتهم به : إنه لا عدة لنا في هذا الوقت فائذن لنا في التخلف حتى نستعد! وقد كذبوا ، ما ذلك بهم ، إنما بهم أنهم لا يريدون الخروج معك { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له } أي قبل حلوله { عدة } أي قوة واهبة من المتاع والسلاح والكراع بحيث يكونون متصفين بما قدمت إليهم من التحريض على نحو ما وقع الأمر به في الأنفال فيكونون كالحاضرين في صلب الحرب الواقفين في الصف قد استعدوا لها بجميع عدتها { ولكن } لم يريدوا ذلك قط فلم يعدوا له عدة ، فملا أمرت به شرعوا يعتلون بعدم العدة وما ذاك بهم ، إنما مانعم كراهتهم للخروج وذلك بسبب أن { كره الله } أي ذو الجلال والإكرام بأن فعل فعل الكاره فلم يرد { انبعاثهم } أي سيرهم معك مطاوعة لأمرهم بذلك لما علم من عدم صلاحيتهم له { فثبطهم } أي حبسهم عنه حبساً عظيماً بما شغلهم بما بما حبب إليهم من الشهوات وكره إليهم من ارتكاب المشقات بسبب أنهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون غير السيف عقاباً ، قصروا هممهم الدنية على الصفات البهيمية ، فلما استولت عليهم الشهوات وملكتهم الأنفس الدنيات نودوا من قبلها : إلى أين تخرجون؟ { وقيل } أي لهم لما أسرعوا الإقبال إليها { اقعدوا } أي عن جندي لا تصحبوهم ، وفي قوله - : { مع القاعدين* } أي الذين شانهم ذلك كالمرضى والزمنى والصبيان والنساء - من التبكيت ما لا يعلم مقداره إلا أولو الهمم العلية والأنفس الأبية ، وعبر بالمجهول إشارة إلى أنهم يطيعون الأمر بالقعود حقيقة ومجازاً كائناً من كان كما انهم يعصون الأمر بالنفر كائناً من كان لأن أنفسهم قابلة للدنايا غير صالحة للمزايا بوجه .

ولما كان كأنه قيل : ما له ثبطهم وقد كنا قاصدين سفراً بعيداً وعدواً كثيراً شديداً فنحن محتاجون إلى الإسعاد ولو بتكثير السواد! قيل : و { لو } أي فعل ذلك بهم لأنهم لو { خرجوا فيكم } أي وإن كانوا قليلاً معمورين بجماعاتكم { ما زادوكم } أي بخروجهم شيئاً من الأشياء { إلا خبالاً } أي ما أتوكم بشيء زائد على ما عندكم من الأشياء غير الخبال ، والاستثناء مفرغ والمستثنى منه - المقدر الثابت لهم الاتصاف به - هو الشيء ، وذلك لا يقتضي اتصاف أحد منهم بالخبال قبل خروج المنافقين ، والخبال : الفساد ، وهو ينظر على الخداع والأخد على غرة { ولأوضعوا } أي أوقعوا الإيضاع ، حذف المفعول إشارة إلى أن مرادهم الإيضاع نفسه لا بقيد دابة ، وعبر بالإيضاع لأنه للراكب وهو أسرع من الماشي { خلالكم } أي لأسرعوا في السير ذهاباً وإياباً بينكم في تتبع عوراتكم وانتظار زلاتكم ليجدوا منها مدخلاً إلى الفساد بالنميمة وغيرها إن لم يجدوها ، والإيضاع في السير يكون برفق ويكون بإسراع ، والمراد به هنا الإسراع ، ومادة وضع بجميع تراكيبها تدور على الحركة ، وتارة تكون إلى علو وتارة إلى سفول ، ويلزم ذلك السكونُ والمحلُ القابل لذلك ، وعلى ذلك يتمشى العضو والعوض ، وعَوض الذي هو بمعنى الدهر ، وضوع الريح والتصويت بالبكاء ، والضعة لشجرة في البادية ، والوضع للطرح في مكان والسير اللين والسريع؛ والخلال جمع الخلل وهو الفرجة { يبغونكم } أي حال كونهم يريدون لكم { الفتنة } أي بتشتيت الشمل وتفريق الأصحاب وتقدم عند { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ الأنفال : 39 ] أنها الخلطة المميلة المحلية ، أي يريدون لكم الشيء الذي يصيبكم فغير حالتكم إلى ما يسوءكم فيسرهم { وفيكم } أي والحال أنه فيكم { سماعون لهم } أي في غاية القبول لكلامهم لضعف معارفهم وآرائهم .

وربما كان سماعهم منهم مؤدياً إلى مطلوبهم { والله } أي الذي أخبركم بهذا من حالهم وله الإحاطة بكل شيء { عليم } بهم ، فثقوا بأخبارهم . هكذا كان الأصل وإنما قال : { بالظالمين* } إشارة إلى الوصف الذي أوجب لهم الشقاء بمنعهم عن موطن الخير ، وتعميماً للحكم بالعلم بهم وبمن سمع لهم ظالم ، والحاصل أنه شبه سعيهم فيهم بالفساد بمن يوضع بعيره في أرض فيها أجرام شاخصة متقاربة ، فهو في غاية الالتفات إلى معرفة ما فيها من الفرج والتأمل لذلك حذراً من أن يصيبه شيء من تلك الأجرام فيسقيه كأس الحمام ، فلا شغل لهم إلا بغية فسادكم بعدم وصولكم إلى شيء من مرادكم .

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

ولما أخبر سبحانه بذلك ، وحث على قبول أخبارهم بما وصف به ذاته الأقدس من إحاطة العلم ، شرع يقيم الدليل على ما قال بتذكيرهم بأشياء تقدمت مشاهدتها منهم ، فقال معللاً لما أخبر به : { لقد ابتغوا } أي طلبوا طلباً عظيماً كلهم لكم { الفتنة } أي لتشتيتكم { من قبل } أي قبل هذه الغزوة في يوم أحد بكسر قلوب العسكر بالرجوع عنه حتى كاد بعضهم أن يفشل وفي المريسيع بما قال ابن أبيّ { ليخرجن الأعز منها الأذل } [ المنافقون : 8 ] وفي غزوة الخندق بما وقع منهم من التكذيب في أخذ كنوز كسرى وقيصر والإرجاف بكم في نقض بني قريظة وغير ذلك كما صنعوا قبله في غزوة قينقاع والنضير في قصدهم تقوية كل منهم عليكم وفي غير ذلك من أيام الله التي عكس فيها قصودهم وأنعس جدودهم { وقلبوا } أي تقليباً كثيراً { لك الأمور } أي التي لك فيها أذى ظهراً لبطن بإحالة الآراء وتدبير المكايد والحيل لعلهم يجدون فرصة في نقض أمرك ينتهزونها أو ثغرة في حالة يوسعونها ، وامتد بهم الحال في هذا المحال { حتى جاء الحق } أي الثابت الذي لا مراء في مزاولته مما تقدم به وعده سبحانه من إظهار الدين وقمع المفسدين { وظهر أمر الله } أي المتصف بجميع صفات الكمال من الجلال والجمال حتى لا مطمع لهم في ستره { وهم كارهون* } أي لجميع ذلك فلم يبق لهم مطمع في محاولة بمواجهة ولا مخاتلة فصار همهم الآن الاعتزال والمبالغة في إخفاء الأحوال وستر الأفعال والأقوال .
ولما أجملهم في هذا الحكم ، وكان قد أشار إلى أن منهم من كان قد استأذن في الخروج توطئة للاعتذار عنه ، شرع يفصلهم ، وبدأ المفصلين بمن صرح بالاستئذان في القعود فقال عاطفاً على « لقد ابتغوا » : { ومنهم من يقول } أي في جبلته تجديد هذا القول من غير احتشام { ائذن لي } أي في التخلف عنك { ولا تفتني } أي تكن سبباً في فتنتى بالحزم بالأمر بالنفر فأفتتن إما بأن أتخلف فأكون مصارحاً بالمعصية أو أسافر فأميل إلى نساء بني الأصفر فأرتد عن الدين فأنه لا صبر لي عن النساء ، وقائل ذلك هو الجد ابن قيس ، كان من الأنصار منافقاً .
ولما أظهروا أنهم قصدوا البعد من شيء فإذا هم قد ارتكبوا فيه ، انتهزت فرصة الإخبار بذلك على أبلغ وجه بإدخال ناف على ناف لتحصيل الثبوت الأكيد بإقرار المسؤول فقيل : { ألا في الفتنة سقطوا } أي بما قالوا وفعلوا ، فصارت ظرفاً لهم فوضعوا أنفسهم بذلك في جهنم ، وفي التعبير بالسقوط دلالة على انتشابهم في أشراك الفتنة انتشاباً سريعاً بقوة فصار يعسر خلاصهم معه { وإن جهنم لمحيطة } أي بسبب إحاطة الفتنة - التي أسقطوا أنفسهم فيها - بهم ، وإنما قال : { بالكافرين* } تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي حملهم على ذلك .

ولما كان كأنه قيل : ما الفتنة التي سقطوا فيها فأحاطت بهم جهنم بسببها؟ قيل : { إن } أي هي كونهم أن ، ويجوز أن يكون علة لإحاطة جهنم بهم ، وكأنهم - لأجل أنهم من الأوس والخزرج فالأنصار أقاربهم - خصوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعدواة وشديد الحنق ، وكذا ايضاً كان لا يسوءهم ويسرهم من الحسنة والسيئة إلا ما له وقع - بما أذن به التعبير بالإصابة دون المس - لا ما دونه ، حفظاً لقلوب أقاربهم ورعياً لأسرار نسائهم ، فقال إشارة إلى ذلك : { تصبك } أي بتقدير الله ذلك { حسنة } أي بنصر أو غيره { تسؤهم } أي لما في قلوبهم من الضغن والمرض { وإن تصبك مصيبة } أي نكبة وإن صغرت كما وقع يوم أحد { يقولوا } أي سروراً وتبجحاً بحسن آرائهم { قد أخذنا أمرنا } أي عصينا الذي أمرنا ولم نسلم قيادنا لأحد فنكون كالأعمه ، لأن الأمر الحادثة وضد النهي ، ومنه الأمير ، رجل إمرّ وإمرة - بتشديد الميم المفتوحة مع كسر الهمزة وتفتح : ضعف الرأي ، يوافق كل أحد على ما يريد من أمره كله ، وهو الأعمه وزناً ومعنى { من قبل } أي قبل أن تكون هذه المصيبة ، فلم نكن مؤتمرين بأمر فيصيبنا فلم يكن ما أصاب من تبعه ، فكان أمرهم - لو كانوا مطيعين - كان شيئاً متحققاً بيد الآمر ، فلما عصوه كانوا كأنهم قد أخذوه منه .
ولما كان قولهم هذه بعيداً عن الاستقامة ، فكان جديراً بأن لا يقال ، وإن قيل كان حقيقاً بأن يستقال بالمباراة إلى الرجوع عنه والاستغفار منه ، أشار تعالى إلى تماديهم فيه فقال : { ويتولوا } أي عن مقامهم هذا الذي قالوا فيه ذلك وإن طال إلى أهاليهم { وهم فرحون* } أي لمصيبتكم لكفرهم ولخلاصهم منها .
ولما كان قولهم هذا متضمناً لتوهم القدرة على الاحتراس من القدر ، قال تعالى معلماً بجوابهم مخاطباً للرأس لعلو المقام : { قل } أي إنا نحن لا نقول مقالتكم لمعرفتنا بأنا لا نملك ضراً ولا نفعاً ، بل نقول : { لن يصيبنا } أي من الخير والشر { إلا ما كتب } أي قدر { الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، ولما كان قضاء الله كله خيراً للمؤمن إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر ، عبر باللام فقال : { لنا } أي لا يقدر على رده عنا إلا هو سبحانه { هو } أي وحده { مولانا } أي القريب منا الذي يلي جميع أمورنا ، لا قريب منا سواه ، فلو أراد لدفع عنا كل مصيبة لأنه أقرب إلينا منها ، لا تصل إلينا بدون علمه وهو قادر ، فنحن نعلم أن له في ذلك لطيف سريرة تتضاءل دونها ثواقب الأفكار وتخسأ عن الإحاطة بتحقيقها نوافذ الأبصار فنحن لا نتهمه في قضائه لأنا قد توكلنا عليه وفوضنا أمورنا إليه ، والموكل لا يتهم الوكيل { وعلى الله } أي الملك الأعلى لا غيره { فليتوكل المؤمنون* } أي كلهم توكلاً عظيماً جازماً لا معدل عنه ، فالفيصل بين المؤمن والكافر هو إسلام النفس إليه وحده بلا اعتراض عليه يقلبها كيف يشاء ويحكم فيها بما يريد .

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)

ولما تضمن ذلك أن سراءهم وضراءهم لهم خير من حيث إن الرضى بمر القضاء موجب لإقبال القاضي على المقضي عليه بالرأفة والرحمة ، صرح بذلك في قوله : { قل هل تربصون } أي تنتظرون انتظاراً عظيماً { بنا إلا إحدى الحسنيين } أي وهي أن نصيب أعداءنا فنظفر ونغنم ونؤجر أو يصيبونا بقتل أو غيره فنؤجر ، وكلا الأمرين حسن : أما السراء التي توافقوننا على حسنها فأمرها واضح ، وأما الضراء فموجبة لرضى الله عنا ومثوبته لنا بالصبر عليها ورضانا بها إجلالاً له وتسليماً لأمره فهي حسنى كما نعلم لا سوأى كما تتوهمون { ونحن نتربص بكم } أي ننتظر إحدى السوأيين وهي { أن يصيبكم الله } أي الذي له جميع القدرة ونحن من حزبه { بعذاب من عنده } أي لا تسبب لنا فيه كما أهلك القرون الأولى بصائر للناس { أو بأيدينا } أي بسببنا من قتل أو نهب وأسر وضرب وغير ذلك لأن حذركم لا يمنعكم من الله ، وكل ذلك مكروه عندكم .
ولما تسبب عن هذا البيان ان السوء خاصة بحزب الشيطان ، حسن أن يؤمروا تهكماً بهم بما أداهم إلى ذلك تخسيساً لشأنهم فقال : { فتربصوا } أي أنتم { إنا } أي نحن { معكم متربصون* } أي بكم ، نفعل كما تفعلون ، والقصد مختلف ، والآية من الاحتباك : حذف أولاً الإصابة للدلالة عليها بما أثبت ثانياً ، وثانياً إحدى السوأيين للدلالة عليها بإثبات الحسنيين أولاً .
ولما كان جملة ما يصيبهم منهم من العذاب الإنفاق بتزكية ما طهر من أموالهم بالإعانة في سبيل الله خوفاً من اتهامهم بالنفاق في أقوالهم ليفتدوا أنفسهم به من السفر ، قال : { قل أنفقوا } أي أوجدوا الإنفاق لكل ما يسمى إنفاقاً { طوعاً أو كرهاً } أي مظهرين الطواعية أو مظهرين الكراهية؛ ولما كان الإعراض عنهم إنما سببه كفرهم لا إنفاقهم ، لم يربط الجواب بالفاء بل قال : { لن يتقبل منكم } أي يقع تقبل لشيء يأتي من قبلكم أصلاً من أحد له أن يتقبل كائناً من كان ، ولذلك بناه للمفعول ، لأن قلوبكم كارهة ليست لها نية صالحة في الإنفاق ولا في غيره ، فانقسام إنفاقكم إلى طوع وكره إنما هو باعتبار الظاهر ، وكأنه عبر بالتفعل إشارة إلى قبوله منهم ظاهراً؛ ولما كان غير مقبول باطناً على حال من الأحوال علل بقوله : { إنكم كنتم } أي جبلة وطبعاً { قوماً فاسقين* } أي عريقين في الفسق بالغين أنهى غاياته .
ولما علل بالعراقة في الخروج عن الطاعة ، بينه في قوله : { وما منعهم أن تقبل } أي باطناً ، ولذا عبر بالمجرد ، ولذا بناه للمفعول لأن النافع القبول في نفس الأمر لا كونه من معين { منهم نفقاتهم } أي وإن جلت { إلا أنهم كفروا بالله } أي الذي له جميع صفات الكمال من الجلال والجمال لفساد جبلاتهم وسوء غرائزهم .

ولما كان قبول النفقات مهيئاً للطهارة التي تؤثرها الصلاة ، كان السياق لعدم قبولها - ليتسبب عنه النهي عن الصلاة عليهم - أبلغ لأنه أدل على الخبث ، فأكد كفرهم بزيادة الجار إشعاراً بأن الكفر بكل منهما على حياله مانع فقال : { وبرسوله } أي فسقهم بأنهم غير مؤمنين وهو السبب المانع بمفرده من القبول : ثم قدح في شاهدي ما يظهرون من الإيمان وهما الصلاة والزكاة وغيرهما من الإنفاق في الخيرات بما هو لازم للكفر ودال عليه فقال : { ولا يأتون الصلاة } أي المفروضة وغيرها { إلا وهم كسالى } أي في حال كسلهم ، لا يأتونها قط بنشاط { ولا ينفقون } أي نفقة من واجب أو غيره { إلا وهم كارهون* } أي في حال الكراهة وإن ظهر لكم خلاف ذلك ، وذلك كله لعدم النية الصالحة واعتقاد الآخرة ، وهذا لا ينافي طوعاً لأن ذلك بحسب الفرض أو الظاهر وهذا بحسب الواقع .

فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)

ولما انتفى عن أموالهم النفع الأخروي الذي هو النفع ، تسبب عن ذلك الزهد فيها الموجب لعدم الالتفات إليها وعدم اعتقاد أن فيها بركة ودلالة على خير ، فقال - مبيناً ما فيها من الفساد الذي يظن أنه صلاح : { فلا } - بفاء السبب ، فالسياق ابلغ من سياق الآتية بعد النهي عن الصلاة عليهم { تعجبك أموالهم } أي وإن أنفقوها في سبيلي وجهزوا بها الغزاة . فإن ذلك عن غير إخلاص منهم ولا حسن نية ولا جميل طوية ، وإنما هو لما أذلهم من عزة الإسلام وأخافهم من سطوة الانتقام فهو من جملة العذاب ، وعطف عليها الأولاد لمشاركتها لها في الملاذ والقوة والاستعمال في الجهاد ، فقال مؤكداً للنفي بإعادة النافي : { ولا أولادهم } فكأنه قيل : فماذا يراد بإعطائهم ذلك؟ ولو منعوها وأعطيها المخلصون لكان قوة للدين ، فقال : { إنما يريد الله } أي يوقع الإرادة لهم بها الملك الذي له الإحاطة بجميع الحكمة كما أن له الإحاطة بتمام القدرة ، وأبلغ في الحصر بإدخال اللام في قوله : { ليعذبهم } أي لأجل أن يعذبهم { بها في الحياة } أي وإن كان يتراءى أنها لذيذة ، لأن ذلك من شأن الحياة فإنما هي لهم موت في الحقيقة { الدنيا } أي تارة بجمعها وتربيتها وتارة ببذلها كرهاً في سبيل الله أو في تزكيتها وتارة بغيرذلك { وتزهق } أي وإنما يريد بتمكينهم منا لأجل أن يخرج وقت الموت بغاية الصعوبة { أنفسهم } أي بسببها { وهم } أي والحال أنهم { كافرون* } أي عريقون في الكفر ، وهكذا كل من أراد استدراجه سبحانه فإنه في الغالب يكثر أموالهم وأولادهم لنحو هذا لأنهم إذ رأوا زيادتهم بها على بعض المخلصين ظنوا أن ذلك إنما هو لكرامتهم وحسن حالتهم فيستمرون عليها حتى يموتوا فهو سبحانه لم يرد بها منحتهم بل فتنتهم ومحنتهم ، وأما الدين فإن القادر يقويه بغير ذلك فيكون أظهر لدليله وأوضح لسبيله؛ فالحاصل أنه ظهر لهم أنهم أكرموا بها وخفي عنهم أنها سبب لعذابهم في الحياة باتكالهم عليها ، وفي الممات بصعوبته عليهم المشار إليه بالزهوق ، وفي الآخرة بسبب موتهم على حال الكفر باستدراجهم بها ، وأما المؤمن فلا يموت حتى يرى من الثواب ما يسليه عن كل شيء فيشتاق إلى لقاء الله وتخرج نفسه وهو في غاية المحبة لخروجها لأن البدن عائق له عما يرى .
ولما وضح بهذه الأمور منابذتهم للمؤمنين وخروجهم من ربقة الدين المصحح لوصفهم بالفسق ، أوضح لبساً آخر من أحوالهم يقيمونه بالأيمان الكاذبه فقال : { ويحلفون } أي طلبوا لكم الفتنة والحال انهم يجددون الأيمان { بالله } أي على ما له من تمام العظمة { إنهم } أي المنافقين { لمنكم } أي أيها المؤمنون على اعتقادكم باطناً كما هم ظاهراً { وما } أي والحال أنهم ما { هم } صادقين في حلفهم أنهم { منكم ولكنهم قوم } أي مع أن لهم قوة وقياماً فيما يحاولونه { يفرقون* } أي يخافون منكم على دمائهم خوفاً عظمياً يفرق همومهم فهو الملجىء لهم إلى الحلف كذباً على التظاهر بالإسلام ، فكأنه قيل : فما لهم يقيمون بيننا والمبغض لا يعاشر من يبغضه؟ فقيل : لأنهم لا يجدون ما يحميهم منكم { لو يجدون ملجئاً } أي شيئاً يلجؤون إليه من حصن أو جبل أو قوم يمنعونهم منكم { أو مغارات } في الجبال تسعهم ، جمع مغارة - مفعلة من غار في الشيء - إذا دخل فيه ، والغور : ما انخفض من الأرض .

ولما كانت الغيران - وهي النقوب في الجبال - واسعة والوصول إليها سهلاً ، قال : { أو مدخلاً } أي مكاناً يدخلونه يغاية العسر والصعوبة لضيقه أو لمانع في طريقه أو قوماً يداخلونهم وإن كانوا يكرهونهم - بما أرشد إليه التشديد : { لولوا إليه } أي لاشتدوا في التوجه إليه متولين مرتدين عنكم على أعقابهم { وهم يجمحون* } أي حالهم حال الدابة التي كانت مسرعة في طواعية راكبها فإذا هي قد نكصت على عقبها ثم أخذت في غير قصده بغاية الإسراع ونهاية الرغبة والداعية لا يردها بئر تقع فيه ولا مهلكة ولا شيء .
ولما قرر حال من يتخلف عن الجهاد ، وربما بذل ماله فيه افتداء لسفره ، شرع في ذكر من يشاركه في الإنفاق والنفاق ويخالفه فقال : { ومنهم من يلمزك } أي يعيبك عند مشاكليه على طريق الملازمة في ستر وخفاء أو تظاهر وقلة حياء { في الصدقات } أي اللاتي تؤتيها لأتباعك ، ولما أخبر عن اللمز ، أخبر أنه لحظ نفسه لا للدين فقال : { فإن أعطوا منها رضوا } أي عنك { وإن لم يعطوا منها } فاجؤوا السخط الذي يتجدد في كل لحظة ولم يتخلفوا عنه أصلاً ، وعبر عن ذلك بقوله : { إذا هم يسخطون* } فوافقوا الأولين في جعل الدنيا همهم ، وخالفوهم في أن أولئك أنفقوا ليتمتعوا بالتخلف وهؤلاء طلبوا ليتنعموا بنفس المال الذي يأخذونه؛ قيل : إنها نزلت في ذي الخويصرة لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين : اعدل يامحمد! فإني لم أرك تعدل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ » وسيأتي حديثة .
ولما أخبر تعالى عن حالهم السيىء الدنيء الذي لا يجديهم في الدنيا ويهلكهم في الأخرى ، نبههم على ما هو الأصلح لهم من الحال الشريف السني فقال : { ولو أنهم } أي المنافقين { رضوا ما آتاهم الله } أي المنعم بجميع النعم لأن له جميع الكمال { ورسوله } الذي عظمته من عظمته قل ذلك المؤتي أو كثر طال زمنه أو قصر { وقالوا } أي مع الرضى { حسبنا الله } أي كافينا لأن له جميع العظمة فهو الغني المطلق .
ولما كانت الكفاية تارة تكون بالتنجيز العاجل وتارة بالوثوق بالوعد الآجل ، بين أن الثاني هو المراد لأنه أدل على الإيمان فقال : { سيؤتينا الله } أي الملك الأعظم بوعد لا خلف فيه واعتقدوا أن لا حق لأحد فقالوا : { من فضله ورسوله } أي الذي لا يخالف أمره ، على ما قدر لنا في الأزل؛ ثم عللوا ذلك بقولهم : { إنا إلى الله } أي المستجمع لصفات الكمال وحده { راغبون* } أي عريقون في الرغبة ، فلذلك نكتفي بما يأتي من قبله كائناً ما كان ، أي لكان ذلك خيراً لهم لأنه لا ينالهم إلا ما قسم سبحانه لهم شاؤوا أو أبوا .

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

ولما أخبر عن لمزهم في الصدقات وقرر ما هو خير لهم إرشاداً إلى النجاة ، علل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وبين أنه لا يفعل غيره لأنه الحق الذي لا يجوز في شرعه الأكمل غيره لمزوا أو تركوا زهدوا أو رغبوا فقال معبراً بأداة القصر على ما ذكر : { إنما الصدقات } أي هذا الجنس بجميع ما صدق من أفراده ، والظاهر أنه قدم الأهم فالأهم ، فلذا قال الشافعي : إن الفقير أشدهم حاجة لكونه ابتدأ به ، فقال : { للفقراء } أي الذين لا شيء لهم أو لهم شيء يقع موقعاً من كفايتهم { والمساكين } أي الذين لا كفاية لهم بدليل { أما السفينة } [ الكهف : 79 ] وأما { مسكيناً ذا متربة } [ البلد : 16 ] فتقييده دل على أن المطلق بخلافه { والعاملين عليها } أي المؤتمنين في السعاية والولاية على جمعها { والمؤلفة قلوبهم } أي ليسلموا أو يسلم بسببهم غيرهم أو يثبتوا على إسلامهم؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : « بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فقسمه بين أربعة وقال : أتألفهم ، فقال رجل : ما عدلت! فقال : يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين . وفي رواية : فاستأذنه رجل في ضرب عنقه فقال : لا ، دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم - الحديث . ولئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد » ولا يقال : إن العلة مقتضية لقتلهم لا للكف عنهم فإن عمله بالمقام الخضري - كما تقدم - أنه ما من كرامة لنبي إلا وله صلى الله عليه وسلم مثلها أو أعلى منها بنفسه أو بأحد من أمته .
ولما فرغ من هذه الأصناف الأربعة الذين يعطون الصدقة في أيديهم يتصرفون فيها كيف شاؤوا ، كما دل عليه التعبير باللام ، ذكر الذين يعطون الصدقة لقضاء ما بهم كما دل عليه التعبير ب « في » فقال : { وفي الرقاب } أي والمكاتبين بسبب فك رقابهم من الرق { والغارمين } أي الذين استدانوا في غير معصية ، يصرف ما يعطونه إلى قضاء ديونهم فقط { وفي } أي والمجاهدين في { سبيل الله } أي الذي له الأمر كله بالنفقة والحمل والإعانة بالسلاح وغير ذلك ، ونقل القفال عن بعض الفقهاء أنه عمم السبيل فأجاز صرفه إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وعمارة المساجد ونحوها { وابن السبيل } وهو المسافر المنقطع عن بلده ، يعطى ما يوصله إليه ، ففيه إشارة إلى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يفعل ما أدى إلى لمزهم له بسببه إلا بأمر حقاً ، فإنا قد عينّا له أهل الصدقات فهو لا يعدل عنهم لشيء من الأشياء لأنه واقف عند ما يرضينا ، فإن كانوا منهم أعطاهم وإلا منعهم رضي من رضي وسخط من سخط ، وقد فرض ذلك ، أو ثابتة للفقراء حال كونها { فريضة } كائنة { من الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لعلمه بأن في ذلك أعظم صلاح ، وهذا كالزجر عن مخالفة الظاهر { والله } أي الذي له جميع صفات الكمال { عليم } أي بالغ العلم بما يصلح الدين والدنيا ويؤلف بين قلوب المؤمنين { حكيم* } أي فهو يجعل أفعاله من الإحكام بحيث لا يقدر غيره على نقضها؛ قال أبو حيان : « إنما » إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها ، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به ، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه .

وحكمة الزكاة من جهة المالك أن المال محبوب لأنه يحصل المحبوب والتمادي في حبه يوجب الإعراض عن الله المعطي له ، فكان من الحكمة تذكير المالك له بالمالك الحقيقي في أنه أوجب عليه إخراج طائفة منه ليكف منه انصباب النفس بالكلية إليه ويطهر النفس عن محبتها له ويطهره عن محض الإنفاق في الشهوات ، ومن جهة الآخذ أنه لما اجتمعت حاجته إليه وحاجة - المالك - ولو احتمالاً- كان هناك سببان للتسلط على المال : أحدهما اكتساب المالك له ، والثاني احتياج الآخذ إليه ، فروعي السببان بقدر الإمكان ، ورجح المالك بإبقاء الكثير ، وصرف إلى الآخذ اليسير . وأجرى الشافعي الآية على ظاهرها فقال : إن أخرجها ذو المال سقط سهم العامل مع سهم المؤلفة وصرف إلى الستة الأصناف ، وإن قسم الإمام فعلى سبعة ، ويجب أن يعطى من كل صنف ثلاثة أنفس ، ومن لم يوجد من الأصناف رد نصيبه على الباقين ويستوي بين الأصناف لا بين آحاد الصنف . وقال أبو حنيفة : يجوز صرف الكل لواحد من الأصناف لأن الآية أوجبت أن لا تخرج الصدقة عنهم ، لا أن تكون في جميع الأصناف - وهو قول عمر بن الخطاب وحذيفة وابن عباس رضي الله عنهم وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية وميمون بن مهران .
ولما بين الصنفين السالفين ، وختم أمرهما بصفتي العلم والحكمة ، أتبعهما بصنف آخر يؤذي بما يجعله نقصاً في صفات الرسول صلى الله عليه وسلم فليزم الطعن في علم مرسله وحكمته فقال : { ومنهم الذين يؤذون النبي } أي الذي أعلى الله مقداره ، فهو ينبئه بما يريد سبحانه من خفايا الأسرار؛ ولما أخبر بمطلق الأذى الشامل للقول والفعل ، عطف عليه قوله : { ويقولون هو } أي من فرط سماعه لما يقال له { أذن } ومرادهم أنه يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد - كما سمي الجاسوس عيناً؛ قال أبو حيان : كان خذام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخرين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا ، فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا فإن محمداً أذن سامعة ، ثم نأتيه فيصدقنا ، فنزلت ، وقيل غير ذلك .

رجل أذن - إذا كان يسمع مقال كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع - انتهى . ومرادهم أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرف مكر من يمكر به وخداع من يخادعه وكذبوا ، هو أعرف الناس بذلك ، ولكنه يعرض عند المصالح ، لا يليق بمحاسن الدين غيرها ، بينها تعالى بقوله : { قل أذن خير } ثم بين أن نفع ذلك عائد إليهم بقوله : { لكم } ثم فسر ذلك بقوله : { يؤمن } أي يوقع الإيمان للملائكة الذين يأتونه عن الله من التكذيب بأن يصدقهم معترفاً { بالله } أي بسبب ما يخبرونه عنه به حق الإيمان لما له من كمال العلم بما له سبحانه من صفات الجلال والإكرام؛ وحاصله أن فعل الإيمان ضمن فعل التصديق ثم حذف وانتزعت منه حال أقيمت مقامه ثم حذفت وأتى بصلة تدل عليها كما قالوا في قوله تعالى { ولتكبروا الله على ما هداكم } [ البقرة : 185 ] أن التقدير : حامدين على ما هداكم ، فالتقدير هنا : يؤمن مصدقاً بالله ، فهدذا حقيقته وهو يثمر محبة المؤمنين وولايتهم ، ولذا أتبعه قوله : { ويؤمن للمؤمنين } أي الراسخين ، يوقع الإيمان لهم من التكذيب بأن يصدقهم في كل ما يخبرونه به مما يحتمل التصديق ، وذلك لأجل مصالحهم والتأليف بينهم مع ما ثبت من صدقهم ، فإنه لو حملهم على عقله ومبلغ علمه يحبه الكاذب وعاقب الخائن بمجرد علمه وتفرسه ، لقصرت عن ذلك غالب الأفهام وتاهت بسببه أكثر الأوهام ، فنفرت القلوب ووقع من الأغلب الاتهام . ولما كان التصديق بوجود الإله على ما له من صفات الكمال المقتضي للأمر والنهي عدي بالباء ، وهنا كان التصديق إنما هو للإخبار بأيّ شيء كان عدي باللام وأشير - بقصر الفعل وهو متعد - إلى مبالغة في التصديق بحيث كأنه لا تصديق غيره .
ولما بين سبحانه أن تصديقه ظاهراً وباطناً إنما هو للراسخين في الإيمان ، بين أن تصديقه لغيرهم إنما هو الظاهر فقال : { ورحمة } أي وهو رحمة { للذين آمنوا } أي أظهروا الإيمان بألسنتهم { منكم } فهو - والله أعلم - إشارة إلى المنافقين ومن في حكمهم ممن جزم لسانه وقلبه مزلزل ، أي أن إظهار تصديقهم قبولاً لما ظهر منهم وستر قبائح أسرارهم سبب للكف عن دمائهم ، وإظهار المؤمنين لمقتهم ربما كان ذلك سبباً لصدق إيمانهم بما يرون من محاسن الإيمان بتمادي الزمان ، ولا يستبعد كون التعبير بالماضي إشارة إلى المنافقين لا سيما بعد التعبير باسم الفاعل ، فقد قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه المفتاح ما نصه : الباب الرابع في رتب البيان عن تطور الإنسان بترقيه في درج الإيمان وترديه في درك الكفران : اعلم أن الله محيط بكل شيء خلقاً وأمراً أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً وهو حمده ، وله علو في ظهور أمره وكبير خلقه ، واحتجاب في مقابل ذلك من خلقه وأمره بما أبداه من حكمته وأسباب هداه وفتنته ، وذلك العلو هو إلهيته ، والاحتجاب هو ملكه ، وبينهما إقامة كل خلق لما خلق له وتأييد كل أمر من الأمرين لما أقيم له ، وذلك هو ربانيته ولكل فتق من خلفه وأمره رتق سابق .

ولكل تفاوت سواء ، وذلك هو رحمانيته ، ولكل أقرب في مدد الحجاب اختصاص وذلك هو رحيميته ، ولكل أبعد في مدد الحجاب بطش منه شديد في رده إلى القرب وتلك هي نقمته ، ولكل من تنزلاته العلية ظاهراً وباطناً أمر خاص ، ولكل أمر خلق ، يرد بيان القرآن لكل خلق بحسب كنه ذاته واختصاص رتبة قربه ومحل بعده ، وأن الله سبحانه جعل آدم وذرأه خليفة له في جميع أمره وتفصيله ، وأنزل القرآن بناء على جملة ذلك ، فأردأ الأحوال لهذا المستخلف المحل الذي سمي فيه بالإنسان ، وهو حيث أنس بنفسه وغيره ونسي عهد ربه ، فيرد لذلك بناؤه بالذم في القرآن { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] { إن الإنسان لربه لكنود } [ العاديات : 6 ] ثم المحل الذي تداركه فيه تنبه لسماع الزجر من ربه ، وهو له بمنزلة سن الميّز لابن سبع ، ولا يقع إلا عن اجتماع وتراء ، وذلك هو السن المسمون فيه بالناس لنوسهم ، أي ترددهم بين سماع الزجر من ربهم وغلبة أهوائهم عليهم ، فيرد لذلك بناؤهم بذم أكثرهم في القرآن { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ الأعراف : 187 ] - { ولا يشكرون } ثم المحل الذي يتحقق لهم قبول وسماع وإيمان لغائب الأمر والخلق ، لكنهم يتزلزلون عنه كثيراً عند كل عارضة نيل خادعة رفعة ، وهو لهم بمنزلة سن المحتلم الذي قد ذاق طعم بدو النطفة من باطنه الناجم العقل للنظر في حقائق المحسوسات ، وذلك هو السن الذي يسعون فيه { الذين آمنوا } وهو أول سن التلقي ، فلذلك جميع آداب القرآن وتعليمه إنما مورده أهل هذا السن ، كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : إذا سمعت الله عز وجل يقول { يا أيها الذين آمنوا } فأعرها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهي عنه ، وكما أن ما يخص البالغ العاقل من الخطاب لا يدخل فيه الصبي المميز ، وما يخص المميز لا يدخل فيه البالغ ، كذلك خطاب { الذين آمنوا } لم يصل إليه الناس بعد ، وخطاب الناس قد جاوزه { الذين آمنوا } لأنهم قد انزجروا بما قبلت قلوبهم عما ينزجر عنه الناس ، وقد ائتمروا بما يأتمر به الناس؛ وهذه الأسنان الخالية عند أولي البصائر ، وخاص خطابها أشد ظهوراً من أسنان الأبدان عند أصحاب الأبصار ، وعدم التبصرة بهذه المراتب في الأحوال والبيان هي أقفال القلوب المانعة من تدبر القرآن ، وكذلك ما فوق سن « الذين آمنوا » من سن { الذين يؤمنون } وهم في أول حد القرب منزلة بلوغ الأشد ، وسن { الذين آمنوا } و { الناس } في مدد حد البعد ولذلك يخاطبون بحرف « يا » المرسلة إلى حد البعد :

{ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله } [ الصف : 10 ] وفوق ذلك سن المؤمنين وأدنى قرباً ، ولذلك لم يرد في القرآن في خطابهم { يا } البعد ، وهذا السن بمنزلة الاكتهال وسن الشيب ، وتمام سنهم { المؤمنون حقاً } وكذلك إلى سن { المحسنين } إلى غيب سن { الموقنين } إلى ما وراء ذلك ، فإن أسنان الجسم أرابيع ، وأسنان القلب أسابيع ، يعرفها من تطور فيها ، ويجهلها من نبت سن قلبه على الجهل وتطور سن جسمه إلى الهرم « يهرم ابن آدم ويشيب منه اثنتان : الحرص والأمل » فالحرص فقره ولو ملك الدنيا ، والأمل همه وتعبه ، فمن لم يتحقق أسنان القلب وتفاوت خطابها لم ينفتح له الباب إلى فهم القرآن ، ومن لم يتضح له تنزلات الخطاب لم يبن له خطاب الله من خطاب الرحمن من خطاب الملك الديان - انتهى .
ولما بين ما لمن صدقه باطناً أو ظاهراً من الرحمة ، بين ما على من كذبه فآذاه من النقمة فقال : { والذين يؤذون } أي هؤلاء ومن غيرهم { رسول الله } أي الذي أظهر - وهو الملك الأعلى - شرفه وعظمته بالجمع بين الوصفين وأعلاه بإضافته إليه ، وزاد في رفعته بالتبير باسمه الأعظم الجامع ، وهو واسطة بين الحق والخلق في إصلاح أحوالهم فإنما يستحق منهم الشكر والإكرام لا الأذى والإيلام .
ولما كان أذاهم مؤلماً جعل جزاءهم من جنسه فقال : { لهم عذاب أليم * } ثم علل ذلك باستهانتهم بالله ورسوله ، وأخبر أنهم يخشون على دمائهم فيصلحون ظواهرهم حفظاً لها بالأيمان الكاذبة فقال : { يحلفون بالله } أي الذي له تمام العظمة { لكم } أي أنهم ما آذوا النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً ولا أولادكم بالمخالفة عموماً؛ وبين غاية مرادهم بقوله : { ليرضوكم } .
ولما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بأذن بالمعنى الذي أرادوه ، بين أنه لم يكن راضياً بإيمانهم لعدم وقوع صدقتهم في قلبه ولكنه أظهر تصديقهم لما تقدم من الإصلاح فقال : { والله } أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه { ورسوله } أي الذي هو أعلى خلقه ، وبلغ النهاية في تعظيمه بتوحيد الضمير الدال على وحدة الراضي لأن كل ما يرضي أحدهما يرضي الآخر فقال : { أحق أن } أي بأن { يرضوه } ولما كان مناط الإرضاء الطاعة ومدار الطاعة الإيمان ، قال معبراً بالوصف لأنه مجزأه : { إن كانوا مؤمنين* } أي فهم يعلمون أنه أحق بالإرضاء فيجتهدون فيه ، وذلك إشارة إلى أنهم إن جددوا إرضاءه كل وقت كان دليلاً على إيمانهم ، وإن خالفوه كان قاطعاً على كفرانهم .

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)

ولما بين أن حلفهم هذا إنما هو لكراهة الخزي عند المؤمنين وبين من هو الأحق بأن يرضوه ، أقام الدليل على ذلك في استفهام إنكار وتوبيخ مبيناً أنهم فرّوا من خزي منقض فسقطوا في خزي دائم ، والخزي : استحياء في هوان ، فقال : { ألم يعلموا } أي لدلالتهم على الأحق بالإرضاء . ولما كان ذكر الشيء مبهماً ثم مفسراً أضخم ، أضمر للشأن فقال : { أنه } أي الشأن العظيم { من يحادد الله } وهو الملك الأعظم ، ويظهر المحاددة - بما أشار إليه الفك { ورسوله } أي الذي عظمته من عظمته ، بأن يفعل معهما فعل من يخاصم في حد أرض فيريد أن يغلب على حد خصمه ، ويلزمه أن يكون في حد غير حده { فأن له نار جهنم } أي فكونها له جزاء له على ذلك حق لا ريب فيه { خالداً فيها } أي دائماً من غير انقضاء كما كانت نيته المحادة أبداً؛ ثم نبه على عظمة هذا الجزاء بقوله : { ذلك } أي الأمر البعيد الوصف العظيم الشأن { الخزي العظيم* } .
ولما علل فعل المستهينين ، أتبعه تعليل أمر صنف آخر أخف منهم نفاقاً بما عندهم مما يقارب التصديق فقال : { يحذر المنافقون } وعبر بالوصف الدال على الرسوخ تحذيراً لهم من أدنى النفاق فإنه يجر إلى أعلاه { أن تنزل } ولما كانت السورة الفاضحة لهم داهية ونائبة من نوائب الدهر وشدائده ، عدى الفعل بعلى فقال : { عليهم سورة } أي قطعة من القرآن شديدة الانتظام { تنبئهم } أي تخبرهم إخبار عظيماً مستقصي { بما في قلوبهم } لم يظهروا عليه أحداً من غيرهم او أحداً مطلقاً ، لعل هذا الصنف كانوا يسلفون الأيمان لعلها تشكك بعض الناس أو تخفف عنهم إذا نزل ما يهتكهم ، روي أنهم كانوا يقولون ما يؤدي ويدل على النفاق ويقولون : عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا ، وقال بعضهم بعد كلام قالوه : والله إني لأرانا شر خلق الله ولوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا .
ولما كان حذرهم مع العمل ينافيه من كلام النفاق فعل المستهزىء ، قال مهدداً : { قل استهزءوا } أي افعلوا فعل المستهزىء بغاية الرغبة { إن الله } أي المحيط بكمال العلم وتمام القدرة { مخرج } أي كانت له وصف إخراجه { ما تحذرون* } أي إخراجه من قبائحكم؛ وعن الحسن : كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة ، حفرت ما في قلوب المنافقين وأظهرته .
ولما وصفهم بالنفاق ، حققه بعدم مبادرتهم إلى التوبة التي هي فعل المؤمنين ، وباجترائهم على الإنكار مع كون السائل لهم مَنْ بلغ الغاية في الجلال والوقار والكمال فقال : { ولئن سألتهم } أي وأنت من يجب أن يصدقه مسؤوله عما أخرجت السورة مما أظهروا بينهم من الكفر ، وذلك حين قال بعضهم : انظروا إلى هذا الرجل يظن أنه يفتح قصور الشام وحصونها! هيهات هيهات! فأعلمه الله فقال : احبسوا عليّ الركب .

فسألهم { ليقولن إنما } أي ما قلنا شيئاً من ذلك ، إنما { كنا نخوض } أي نتحدث على غير نظام { ونلعب } أي بما لا خرج علينا فيه ويحمل عنا ثقل الطريق ، فكأنه قيل : فماذا يقال لهم إذا حلفوا على ذلك على العادة؟ فقال : { قل } أي لهم تقريراً على استهزائهم متوعداً لهم معرضاً عما اعتذروا إعلاماً بأنه غير أهل لأن يسمع جاعلاً لهم كأنهم معترفون بالاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير ، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته تكذيباً لهم في قولهم : إنك إذن ، بالمعنى الذي أرادوه ، وبياناً لما في إظهارك لتصديقهم من الرفق بهم { أبالله } أي هو المحيط بصفات بصفات الكمال { وآياته } أي التي لا يمكن تبديلها ولا تخفى على ذي بصر ولا بصيرة { ورسوله } أي الذي عظمته من عظمته وهو مجتهد في إصلاحكم وتشريفكم وإعلائكم { كنتم } أي دائماً { تستهزءون* } .
ولما حقق استهزاءهم ، أنتج قوله : { لا تعتذروا } أي لا تبالغوا في إثبات العذر ، وهو ما ينفي الملام ، فإن ذلك لا يغنيكم وإن اجتهدتم لأن القطع حاصل بأنكم { قد كفرتم } أي بقولكم هذا ، ودل - على أن كفرهم أحبط ما كان لهم من عمل - بنزع الخافض تشديداً على من نكث منهم تخويفاً له وتحقيقاً بحال من أصر فقال : { بعد إيمانكم } أي الذي ادعيتموه بألسنتكم صدقاً من بعضكم ونفاقاً من غيره .
ولما كان الحال مقتضياً لبيان ما صاروا إليه بعد إكفارهم من توبتهم أو إصرارهم ، بين أنهم قسمان : أحدهما مطبوع على قلبه ومقضي توبته وحبه ، وهذا الأشرف هو المراد بقوله بانياً للمفعول إعلاماً بأن المقصود الأعظم هو الفعل ، لا بالنظر إلى فاعل معين : { إن نعف } لأن كلام الملك وإن جري في مضمار الشرط فهو مرشد إلى تحققه ليحصل الفرق بين كلام الأعلى والأدنى { عن طائفة منكم } أي لصلاحيتها للتوبة { نعذب طائفة } أي قوم ذوو عدد فيهم أهلية الاستدارة ، وقرأ عاصم ببناء الفعلين للفاعل على العظمة { بأنهم } أي بسبب أنهم { كانوا مجرمين* } أي كسبهم للذنوب القاطعة عن الخير صفة لهم ثابتة لا تنفك ، فهم غير متأهلين للعفو ، وشرح هذه القصة أنه كان يسير بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثلاثة نفر من المنافقين : اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول ، والآخر يضحك ، قيل : كانوا يقولون : إن محمداً يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ، ما أبعده من ذلك! وقيل : كانوا يقولون : إن محمداً يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين في المدينة قرآن ، وإنما هو قوله وكلامه ، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال : احسبوا الركب عليّ ، فدعاهم وقال لهم : قلتم كذا وكذا؟ فقالوا : { إنما كنا نخوض ونلعب } أي كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لقطع الطريق بالحديث واللعب ، قال ابن اسحاق : والذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي ، يقال : هو الذي كان يضحك ، ولا يخوض وكان يمشي مجانباً لهم وينكر بعض مايسمع ، فلما نزلت هذه الآية تاب .

قال : اللهم! لا أزال أسمع آية تقرأ ، تقشعر منها الجلود ، وتجب منها القلوب ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك! لا يقول أحد : أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت ، فأصيب يوم اليمامة ، فما أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره رضي الله عنه . ولعل إطلاقاً الطائفة عليه تعظيماً له وستراً عليه وتبشيراً بتوبة غيره ، ولعل مخشياً كان مؤمناً ولكن كان إيمانه مزلزلاً فلذا عبر هنا بقوله { أكفرتم بعد إيمانكم } والتعبير بذلك أشنع في الذم ولا سيما عند العرب لأنهم يتمادحون بالثبات على أيّ أمر اختاروه ويتذامون بالطيش ، ولعل الجلاس المعنيّ بالقصة الآتية وحده أو مع غيره لم يكن آمن كغيره ممن عني بها ، وما آمن إلا حين تاب ، فلذا عبر هناك بقوله : { وكفروا بعد إسلامهم } ؛ قال أبو حيان : قال ابن عمر : « رأيت وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول { إنما كنا نخوض ونلعب } والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : » أبالله وآياته « - الآية .
ولما بين سبحانه أفعالاً وأقوالاً لطوائف من المنافقين - منهم من كان معه صلى الله عليه وسلم في العسكر - هي في غاية الفساد ، كان ذلك ربما اقتضى أن يسأل عن المتخلفين لو خرجوا ما كان يكون حالهم؟ فقال جواباًُ عن ذلك واستدلالاً على أن إجرام الذين لم يعف عنهم منهم خلق لازم : { المنافقون والمنافقات } أي الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفران { بعضهم } ولما كان مرجعهم الجمود على الهوى والطبع والعادة والتقليد من التابع منهم للمتبوع ، قال : { من بعض } أي في صفة النفاق هم فيها كالجسد الواحد ، أمورهم متشابهة في أقوالهم وأفعالهم وجميع أحوالهم ، والقصد أن حالهم يضاد حال أهل الإيمان ولذلك بينه بقوله : { يأمرون بالمنكر } أي مما تقدم من الخبال والإيضاع في الخلال وغير ذلك من سيء الخصال { وينهون عن المعروف } أي من كل ما يكون فيه تعظيم الإسلام وأهله ، يبغون بذلك الفتنة { ويقبضون أيديهم } أي يشحون فلا ينفقون إلا وهم كارهون .
ولما كان كأن قيل : أما خافوا بذلك من معاجلة العقاب؟ أجاب بقوله : { نسوا الله } أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ، ويصلح أن يكون علة لما تقدم عليه؛ ولما اقدموا على ذلك ، سبب عنه قوله : { فنسيهم } أي فعل بهم فعل الناسي لما استهان به بأن تركهم من رحمته ، فكان ذلك الترك سبباً لحلول نقمته؛ ولما تطبعوا بهذه النقائص كلها ، اختصوا بكمال الفسق فشرح ذلك في أسلوب التعجيب من حالهم فقال مظهراً موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف : { إن المنافقين هم } أي خاصة { الفاسقون * } أي الخارجون عن دائرة ما ينفعهم من الطاعة الراسخون في ذلك ، فقد علم أنهم لو غزوا فعلوا فعل هؤلاء سواء لأن الكل من طينة واحدة .

وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)

ولما بين كثيراً من أحوالهم فاشتد التشوف إلى مآلهم وكان مقصودها بإظهار الإيمان والاعتذار عن النقائض بتأكيد الأيمان إنما هو التقرب إلى المؤمنين والتحبب طمعاً في العيش في أكنافهم وفرقاً من المعاجلة بما يستحقون من إتلافهم ، بين أن لهم على هذا الخداع العذاب الدائم والطرد اللازم ، وجمع معهم المصارحين بالكفر إعلاماً بأنهم إن لم يكونوا أعظم عناداً منهم فهم سواء ، فقال : { وعد الله } وساقه بصيغة البشارة تهكماً بهم وإبلاغاً في مساءتهم { المنافقين والمنافقات } أي المساترين باعتقادهم { والكفار } أي المجاهرين في عنادهم .
ولما كانوا مجبولين على تجهم المؤمنين والانقباض عنهم ، وإن أظهروا خلاف ذلك فهو تصنع ، قال : { نار جهنم } أي النار التي من شأنها تجهم أهلها ولقاؤهم بالعبوسة الزائدة { خالدين فيها } أي لا براح لهم عنها { هي حسبهم } أي كافيتهم في العذاب ، لكن لما كان الخلود قد يتجوز به عن الزمن الطويل فيكون بعده فرج ، قال : { ولعنهم الله } أي طردهم وأبعدهم من رحمته وهو الملك العليم الحكيم الذي لا أمر لأحد معه فأفهم أنه لا فرج لهم ، ثم نفي كل احتمال بقوله : { ولهم } أي بالأمرين { عذاب مقيم* } أي لا وصف له غير الإقامة في الدنيا بما هم مقهورون به من سطوة الإسلام وجنوده الكرام الأعلام ، وفي الآخرة بما لا يعلمه حق علمه إلا الله الملك العلام .
ولما كان حالهم في الإقبال على العاجلة لكونها حاصلة والإعراض عن العاقبة لأنها غائبة متشابهاً لحال من كان قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية ، بين لهم ذلك وختم ببيان سوء أحوالهم وقبح مآلهم بتلاشي أعمالهم فقال ملتفتاً إلى أسلوب الخطاب لأنه أوقع في باب العتاب وأقعد في استجلاب المصالح للمتاب : { كالذين } أي حاصل ما مضى من أمركم أيها المنافقون أنكم مثل الذين؛ ولما كان فاعل ما يذكر إنما هو بعض من مضى أثبت الجارّ فقال : { من قبلكم } أي من الأمم الخالية ، ثم شرع في شرح حالهم وذكر وجه الشبه فقال : { كانوا أشد منكم قوة } لأن الزمان كان إذ ذاك أقرب إلى سن الشباب { وأكثر أموالاً وأولاداً } وهذا ناظر إلى قوله : « فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم { فاستمتعوا } أي طلبوا المتاع والانتفاع في الدنيا بغاية الرغبة معرضين عن العقبى { بخلاقهم } أي نصيبهم الذي قدره الله وخلقه لهم ، وكان الأليق بهم أن يتبلغوا به في السفر الذي لا بد منه إلى الآخره { فاستمتعتم بخلاقكم } أي كالمقتفين لآثارهم والقاصدين لنارهم { كما استمتع } وفي الإتيان بقوله : { الذين } ولما كانوا لم يستغرقوا الزمن الماضي ، أثبت الجارّ فقال : { من قبلكم بخلاقهم } ظاهراً غير مضمر تنبيه على ذمهم بقلة النظر لنفسهم المستلزم لقلة عقولهم حيث كانوا دونهم في القوة أبداناً وأموالاً وأولاداً لم يكفوا عن الاستمتاع والخوض خوفاً مما محق أولئك الأحزاب على قوتهم من العذاب من غير أن ينفعهم سبب من الأسباب { وخضتم } أي ذهبتم في أقوالكم وأفعالكم خبطاً على غير سنن قويم { كالذي } أي كخوضهم الذي { خاضوا } وهو ناظر إلى قولهم { إنما كنا نخوض ونلعب } قال أبو حيان : وهو مستعار من الخوض في الماء ولا يستعمل إلا في الباطل لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام ، وأمور الباطل إنما هي خوض ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :

« رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة » .
ولما آذن هذا النظم لهم بالخسارة ، حصل التشوف إلى عاقبة أمرهم فأخبر عن ذلك بقوله : { أولئك } أي البعداء من الخير ، والظاهر أنه إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد { حبطت } أي فسدت فبطلت { أعمالهم في الدنيا } أي بزوالها عنهم ونسان لذاتها { والآخرة } أي وفي الدار الباقية لأنهم لم يسعوا لها سعيها؛ وزاد في التنبيه على بعدهم مما قصدوا لأنفسهم من النفع فقال : { وأولئك هم } أي خاصة { الخاسرون* } أي لا خاسر في الحقيقة غيرهم لأنهم خسروا خلاقهم في الدارين فخسروا أنفسهم فلا أخسر ممن تشبه بهم ، ولعل في الالتفات إلى مقام الخطاب أيضاً إشارة إلى تحذير كل سامع من مثل هذه الحال لصحة أن يكون مراداً بهذا المقال ، فإن من أسرار القرآن في إعجازه أن تكون عبارته متوجهة إلى شيء وإشارته شاملة لغيره من حيث اتصافه بعلة ذلك الحال أو غير ذلك من الخلال؛ قال الإمام أبو الحسن الحرالي في آخر عروة المفتاح في بيان تناول كلية القرآن لكلية الآية ولكل قارىء يقرؤه من أهل الفهم والإيقان : اعلم أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن نبأ عن جميع الأكوان ، وأن جميع ما أنبأ عنه من أمر آدم إلى زمان محمد عليهما السلام من أمر النبوات والرسالات والخلافات وأصناف الملوك والفراعنة والطغاة وأصناف الجناة وجميع ما أصابهم من المثوبات والمثلات في يوم آدم عليه السلام إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ستة آلاف سنة ونحوها كل ذلك يتكرر بجملته في يوم محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ألف سنة أو نحوها أعداداً بأعداد وأحوالاً بأحوال في خير أو شرف ، لكل من الماضين مثل يتكرر في هذه الأمة الخاتمة كما قال صلى الله عليه وسلم « » لكل نبي قبلي في أمتي نظير « ثم ذكر صلى الله عليه وسلم نظراء » مثل إبراهيم كأبي بكر ، ومثل موسى كعمر ، ومثل هارون كعثمان ، ومثل نوح كعلي ، ومثل عيسى كأبي ذر « وقال صلى الله عليه وسلم : » إني لأعرف النظراء من أمتي بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم كافرهم ومؤمنهم ممن كان وممن هو كائن وممن سيكون بعد ، ولو شئت أن أسميهم لفعلت « »

فما صد أكثر هذه الأمة عن فهم القرآن ظنهم أن الذي فيه من قصص الأولين وأخبار المثابين والمعاقبين من أهل الأديان أجمعين أن ذلك إنما مقصوده الأخبار والقصص فقط ، كلاً وليس كذلك! إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار حتى يسمع السامع جميع القرآن من أوله إلى خاتمته منطبقاً على هذه الأمة وأئمتها هداتها وضلالها ، فحينئذ ينفتح له باب الفهم ويضيء له نور العلم ويتجه له حال الخشية ويرى في أصناف هذه الأمة ما سمع من أحوال القرون الماضية وإنه كما قيل في مثل السائر :
إياك أعني واسمعي ياجارة ... ثم إذا شهد انطباق القرآن على كلية الأمة فكان بذلك عالماً ينفتح له باب ترق ، فيترقى سمعه إلى أن يجد جميع كلية القرآن المنطبق على كلية الأمة منطبقاً على ذاته في أحوال نفسه وتقلباته وتصرفات أفعاله وازدحام خواطره حتى يسمع القرآن منطبقاً عليه فينتفع بسماع جميعه ويعتبر بأي آية سمعها منه فيطلب موقعها في نفسه فيجدها بوجه ما رغبة كانت أو رهبة تقريباً كانت أو تبعيداً إلى أرفع الغايات أو إلى أنزل الدركات ، فيكون بذلك عارفاً ، هذا مقصود التنبيه في هذا الفصل جملة ، ولنتخذ لذلك مثالاً يرشد لتفهم ذلك الانطباق على كلية الأمة علماً وعلى خصوص ذات القارىء السامع عرفاناً ، فاعلم أن أصول الأديان المزدوجه التي لم تترق إلى ثبات حقائق المؤمنين فمن فوقهم من المحسنين والموقنين التي جملتها تحت حياطة الملك والجزاء والمداينة ، الذين تروعهم رائعة الموت أولاً ثم رائعة القيامة ثانياً إلى ما يشتمل عليه يوم الدين من أهوال المواقف الخمسين التي كل موقف منها ألف من السنين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فعدد هذه الأديان سبعة ، ما من دين منها إلا ويوجد في صنف من أصناف هذه الأمة ، وتجده المعتبر في نفسه في وقت ما بقلة أو كثرة بدوام أو خطرة بضعف أو شدة على إثر دين غالب أو عن لمح عين زائل ، وهذه الأديان السبعة هي دين { الذين آمنوا } من هذه الأمة ولم يتحققوا لحقيقة الإيمان فيكونوا من المؤمنين الذين صار الإيمان وصفاً ثابتاً في قلوبهم ، الموحدين المتبرئين من الحول والقوة ، المتحققين لمعناه ، إقداراً لله عليهم بما شاء لا بما يشاؤون { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون - أولئك هم المؤمنون حقاً } [ الأنفال : 2-4 ] ، وأما الذين آمنوا فهم الذين لا يثبتون على حال إيمانهم ولكن تارة وتارة ، ولذلك هم المنادون والمنهيون والمأمورون في جميع القرآن الذين يتكرر عليهم النداء في السورة الواحدة مرات عديدة من نحو ما بين قوله تعالى

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [ التوبة : 119 ] إلى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } [ المائدة : 54 ] إلى ما بين ذلك من نحو قوله تعالى { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا } [ النساء : 137 ] فهؤلاء هم أهل دين ثابت ينتظمون به مع من ليس له ثبات من ماضي الأيان المنتظمين مع من له أصل في الصحة من الأديان الثلاثة في نحو قوله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 62 ] المنتظمين أيضاً مع المغيرين لأديانهم والمفترين لدين لم ينزل الله به من سلطان في نحو قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [ الحج : 17 ] فهذا هو الدين الأول؛ وأما الدين الثاني فهو دين الذين هادوا والذين منهم الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها والذين ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون : سيغفر لنا ، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه والذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون : هذا من عند الله ، والذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، والذين يأكلون الربا وقد نهوا عنه ، والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ، وأما الدين الثالث فدين الذين قالوا : إنا نصارى ، الذين منهم الذين ضلوا عن سواء السبيل الذين غلوا في دينهم وقالوا على الله غير الحق واتخذوا رهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ، وأما الدين الرابع فدين الصابئة الذين منهم متألهو النجوم عباد الشمس والقمر والكواكب ومغيروهم ، هم بالترتيب أول من عبد محسوساً سماوياً؛ وأما الدين الخامس فدين المجوس الثنوية الذين جعلوا إلهين اثنين : نوراً وظلمة ، وعبدوا محسوساً آفاقياً ، وأما الدين السادس فدين الذين أشركوا وهم الذين عبدوا محسوساً أرضياً غير مصور ، وهم الوثنية أو مصوراً وهم الصنمية - فهذه الأديان الستة الموفية لعد الست لما جاء فيه؛ وأما الدين السابع فاعلم أن الله سبحانه حعل السابع أبداً جامعاً لستة خيراً كانت أو شراً ، فالدين السابع هو دين المنافقين الذين ظاهرهم مع الذين آمنوا وباطنهم مع أحد سائر الأديان الخمسة المذكورة إلى أدنى دين مشركها الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا واذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم - فهذه الأديان السبعة متكررة بكليتها في هذه الأمة بنحو مما وقع قبل في الأمم الماضية ، وهو مضمون الحديث الجامع لذكر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم « لتأخذنَّ كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعاً بذراع وشبراً بشبر وباعاً بباع حتى لو أن أحداً من أولئك دخل في حجر ضب لدخلتموه ، قالوا : يارسول الله! كما صنعت فارس والروم؟ قال : فهل الناس إلا هم » وما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هو من مضمون قوله تعالى { كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا } ، وأهل هذه الأديان السبعة - أو منهم - عمرة دركات جهنم السبع على ترتيبهم ، والناجون بالكلية الفائزون هم المؤمنون فمن فوقهم من المحسنين والموقنين ، ومزيد تفضيل في ذلك وتثنية قول بما ينبه عليه بحول الله تعالى من جهات تتبع طوائف من هذه الأمة سنن من تقدمهم في ذلك ، أما وجه تكرار دين الذين أشركوا في هذه الأمة فباتخاذهم أصناماً وآلهة يعبدونها من دون الله محسوسة جمادية كما اتخذ المشركون الأصنام والأوثان من الحجارة والخشب واتخذت هذه الأمة بوجه ألطف وأخفى أصناماً وأوثاناً فإنها اتخذت الدينار والدرهم أصناماً والسبائك والنقر أوثاناً من حيث إن الصنم هو ما له صورة والوثن ما ليس له صورة ، قال صلى الله عليه وسلم :

« صنم أمتي الدينار والدرهم » وقال صلى الله عليه وسلم : « لكل أمة عجل وعجل أمتي الدينار والدرهم » فلا فرق بين ظن المشرك أن الصنم الذي صنعه بيده ينفعه وظن المفتونين من هذه الأمة أن ما اكتسبوا من الدينار والدرهم ينفعهم حتى يشير مثلهم : ما ينفعك إلا درهمك { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] فما من آية نزلت في المشركين في ذكر أحوالهم وتبيين ضلالهم وتفاصيل سرهم وإعلانهم إلا وهي منطبقة على كل مفتون بديناره ودرهمه ، فموقع قول المشركين في أصنامهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] مثله موقع نظيره من قول المفتون : ما أحب المال إلا لأعمل الخير وأستعين به على وجوه البر ، ولو أراد البر لكان ترك التكسب والتمول له أبر : قال صلى الله عليه وسلم « إنما أهلك من كان قبلكم الدينار والدرهم وهما مهلكاكم » فكل من أحبهما وأعجب بجمعهما فهو مشرك هذه الأمة وهما لاته وعزاه اللتان تبطلان عليه قول لا إله إلا الله لأنه تأله ماله؛ قال صلى الله عليه وسلم « لا إله إلا الله نجاة لعباد الله من عذاب الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم » فمن وجد من هذا مسة فليسمع جميع ما أنزل في المشركين من القرآن منطبقاً عليه ومنزلاً إليه وحافاً به حتى يخلصه الله من شركه كما خلص من أخرجه من الظلمات إلى النور من الأولين ، فتخلص هذا المشرك بما له من ظلمته التي غشيت ضعيف إيمانه إلى صفاء نور الإيمان في مضمون قوله تعالى { ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } [ الطلاق : 11 ] فهذا وجه تفضيل يبين نحواً من تكرر دين الشرك في هذه الأمة ، وأما وجه وقوع المجوسية ، ونظيرها في هذه الأمة فإطباق الناس على رؤية الأفعال من أنفسهم خيرها وشرها وإسنادهم أفعال الله إلى خلقه حيث استحكمت عقائدهم على أن فلاناً فاعل وفلاناً فاعل شر وفلاناً يعطي وفلاناً يمنع وفلاناً خير مني وفلاناً أعطاني ، حتى ملؤوا الدواوين من الأشعار والخطب والرسائل أمداحاً لخلق الله على ما لم يفعلوا وذماً لهم على ما لم يمنعوا يحمدون الخلق على رزق الله ويذمونهم على ما لم يؤته الله ويلحدون في أسمائه حتى يكتب بعضهم لبعض « سيدي وسندي وأسنى عُددي عبدك ومملوكك » يبطلون بذلك أخوة الإيمان ويكفرون تسوية خلق الرحمن ويدعون لأنفسهم أفعال الله فيقولون : فعلنا وصنعنا وأحسنا وعاقبنا - كلمة نمرودية ، آتاهم ما لم يشعروا باختصاص الله فيه بأمر كالذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك حين قال : أنا أحيي وأميت ، وهذه هي المجوسية الصرف والقدرية المحضة التي لا يصح دين الإسلام معها ، لأن المسلم من أسلم الخلق والأمر لربه

{ أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } [ آل عمران : 20 ] ، { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] وما سوى ذلك قدرية وهي مجوسية هذه الأمة حيث جعلوا للعبد شركة في فعل الرب وجعلوا له معه تعالى قدرة وقوة ومشيئة واختياراً وتدبيراً ولم يعلموا أن التقدير منع التدبير ، وأنه تعالى هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض؛ قال صلى الله عليه وسلم « القدرية مجوس هذه الأمة » فكل ما أنزل الله عز وجل في القرآن الجامع لذكر جميع الملل والأديان مما عزاه لمن وزع الأفعال بين الحق والخلق من كلام ذي فرعنة أو نمرودية أو ذي سلطان فللمعتقد المدح والذم حظ منه على حسب توغلهم واستغراقهم في الذين زعموا أنهم فيهم شركاء فخافوهم ورجوهم ، فكل خائف من الخلق أو راج منهم من عداد الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة فهم من مجوس هذه الأمة ، فليسمع السامع ما يقرؤه من ذلك حجة عليه ليسأل الله تعالى التخلص منها وليعلم أن ذلك لم يزل حجة عليه وإن كان لم يشعر به قبل . فهذا وجه من وقوع المجوسية في هذه الأمة ، وأما وجه وقوع الصابئة ونظيرها في هذه الأمة - فما غلب على أكثرهم وخصوصاً ملوكها وسلاطينها وذوو الرئاسة منها من النظر في النجوم والعمل بحسب ما تظهره هيئتها عندهم من سعد ونحس والاستمطار بالنجوم والاعتماد على الأنواء وإقبال القلب على الآثار الفلكية قضاء بها وحكماً بحسب ما جرى عليه الخليون الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون - من العناية بها ، قال صلى الله عليه وسلم : « أربعة من أمتي هن بهم كفر وليسوا بتاركيهن » - فذكر منها الاستمطار بالنجوم فالمتعلق خوفهم ورجاؤهم بالآثار الفلكية هم صابئة هذه الأمة كما أن المتعلق خوفهم ورجاؤهم بأنفسهم وغيرهم من الخلق هم مجوس هذه الأمة ، وكما أن المتعلق تشوفهم ورجاؤهم بدرهمهم ودينارهم هم مشركو هذه الأمة وما انطوى عليه سر كل طائفة منهم مما تعلق به خوفهم ورجاؤهم فهو ربهم ومعبودهم الذي إليه تصرف جميع أعمالهم ، واسم كل امرىء مكتوب على وجه ما اطمأن به قلبه فكل ما أنزل في القرآن من تزييف أراء الصابئة فهو حجة عليه وجه يقرؤه أو يسمعه من حيث لا يشعر حتى يقرأ قوم القرآن وهو نذير لهم بين يدي عذاب شديد وهم لا يشعرون ويحسبون أنهم يرحمون به وهم الأخسرون

{ ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [ الإسراء : 82 ] فمما يختص بهذه الطائفة المتصبئة ما هو نحو قوله تعالى { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] - الآيات في ذكر الكوكب والقمر والشمس إلى آيات ذكر التسخير لهن نحو قوله تعالى { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره وسخر لكم الشمس والقمر دائبين } [ إبراهيم : 33 ] { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق } [ يونس : 5 ] { وإنه هو رب الشعرى } [ النجم : 49 ] كل ذلك ليصرف تعالى خوف الخلق ورجاءهم عن الأفلاك والنجوم المسخرة إلى المسخر القاهر فوق عبادة الذي استوى على جميعها ، فهذا وجه من وقوع الصائبة في الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة ، وأما وجه وقوع ما غلب على هذه الأمة وكثر فيها وفشا في أعمالها وأحوالها من تمادي طوائف منهم على نظير ما كان عليه اليهود والنصارى في اختلافهم وغلبة أحوالهم - ملوكهم وسلاطينهم - على أحوال أنبيائهم وعلمائهم وأوليائهم فهو الذي حذرته هذه الأمة وأشعر أولو الفهم بوقوعه فيهم بنحو ما في مضمون قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } [ آل عمران : 105 ] وما أنبأ به صلى الله عليه وسلم « لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لاتبعتموهم » وفي بعض طرقه « حتى لو كان فيهم من أتى أمه جهاراً لكان فيكم ذلك ، قلنا : يارسول الله! اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟ » وإنما قوي وكثر في هذه الأمة حال هاتين الملتين لما آتاهما الله من الكتاب والعلم والحكمة فاختلفوا فيها بالأغراض والأهواء وإيثار عرض الدنيا ، وسامحوا الملوك والولاة وحللوا لهم ما حرم الله وحرموا لهم ما حلل الله ، وتوصلوا بهم إلى أغراضهم في الاعتداء على من حسدوه من أهل الصدق والتقوم ، وكثر البغي بينهم فاستقر حالهم على مثل حالهم ، وسلطت عليهم عقوبات مثل عقوباتهم ، وتمادى ذلك فيهم منذ تبدلت الخلافة ملكاً إلى أن تضع الحرب أوزارها وتصير الملل كلها ملة واحدة ويرجع الافتراق إلى ألفة التوحيد ، فكل من اقتطع واقتصر من هذه الشريعة المحمدية الجامعة للظاهر والباطن حظاً مختصاً من ظاهر أو باطن ولم يجمع بينهما في علمه وحاله وعرفانه فهو بما لزم الظاهر الشرعي دون حقيقة باطنه من يهود هذه الأمة كالمقيمين لظواهر الأحوال الظاهر التي بها تستمر الدنيا على حسب ما يرضى ملوك الوقت وسلاطينهم ، المضيعين لأعمال السرائر ، المنكرين لأحوال أهل الحقائق الشاهد عليهم تعلق خوفهم ورجائهم بأهل الدنيا ، المؤثرين لعرض هذا الأدنى ، فبهذا ظهرت أحوال اليهود في هذه الأمة ، مر الأعراب مع النبي صلى الله عليه وسلم بسدرة خضراء نضرة ، وكان لأهل الجاهلية سدره يعظمونها ويجتمعون عندها وينيطون بها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقالوا : يا رسول الله! اجعل لنا هذه السدرة ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! فقال صلى الله عليه وسلم :

« قلتموها ورب الكعبة كما قالت بنو إسرائيل : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة! إنها السنن » فحيث ظهرت أحداث اليهود من البغي والحسد وتعظيم ما ظهر تعظيمه من حيث الدنيا واستحقار ضعفاء المؤمنين فهنالك أعلام اليهودية ظاهرة ، وكذلك ايضاً من اقتصر من هذه الشريعة الجامعة المحمدية على باطن من إصلاح حال أو قلب مع تضييع ظاهر الأمر ومجامع الخير وتعاضد الإسلام واكتفى بما استبطن وتهاون بما استظهر فهو من نصارى هذه الأمة ، ليس بصاحب فرقان فكيف أن يكون صاحب قرآن ، وذلك أن هذا الدين الجامع إنما يقوم بمعالم إسلام ظاهرة وشعار إيمان في القلوب وأحوال نفس باطنة وحقائق إحسان شهودية ، لا يشهد المحسن مع الله سواه ولا يؤمن المؤمن مع الله بغيره ، ولا يخضع المسلم إلى شيء دونه ، فبذلك يتم ، وقد التزم بمعالم الإسلام طوائف يسمون المتفقهة ، والتزم بشعائر الإيمان طوائف يسمون الأصوليين والمتكلمين ، وترامى إلى الإحسان طوائف يسمون المتصوفه ، فمتى كان المتفقه منكراً لصدق أحوال الصوفية لما لعله يراه من خلل في أحوال المتصوفة فقد تسنن بسنن اليهودية ، ومتى كان المتصوف غير مجل للفقهاء لما لعله يراه من خلل في أحوال المتفقه فقد تسنن بسنن النصارى ، وكذلك حال المتكلم بين الفرقتين لأيهما مال ، وإنما أئمة الدين الذين جمع الله لهم إقامة معالم الإسلام وإيمان أهل الإيمان وشهود أهل الإحسان ، تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فتأتم بهم الصوفية ، وتظهر أنوار قلوبهم على ظلم المتشابهات فيأتم بهم أهل الإيمان ، وتبدو في أعمالهم معالم الإسلام تامة فيأتم بهم أهل الإسلام { عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] « أفضل الناس مؤمن في خلق حسن وشر الناس كافر في خلق سيىء » فأولو الفرقان جامعون ومستبصرون فمن اقتصر على ظاهر وأنكر باطناً لزمته مذام اليهود فيما أنزل من القرآن فيهم بحسب توغله واقتصاره ، ومن اقتصر على باطن دون ظاهر لزمته مذام النصارى فيما أنزل من القرآن فيهم؛ يذكر أن رجلاً من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهب فيها : دلني على موضع طاهر أصلي فيه ، فقال الراهب : طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت ، قال ذلك الصالح المسلم : فخجلت منه ، فاعلم أن كل واحد من هذين الحالين ليس حال صاحب فرقان ولا حال صاحب قرآن لأن صاحب القرآن لا يخجل لهذا القول لأنه حاله ، وقلبه مطهر مما سوى الله ، ومع ذلك لابد أن ينظف ظاهره ، لأن الله سبحانه كما أنه الباطن فيحب صفاء البواطن فإنه الظاهر يحب صلاح الظواهر ، فصاحب القرآن إذا دعي إلى صفاء باطن أجاب ولم يتعلثم وإذا دعي إلى صلاح ظاهر أجاب ولم يتلكأ لقيامه بالفرقان وحق القرآن ، يذكر أن ملكاً رحمه الله دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع فقال له صبي : يا شيخ! قم فاركع ، فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهباً ، فقيل له في ذلك فقال : خشيت أن أكون من

{ الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } [ المرسلات : 48 ] ووقف النبي صلى الله عليه وسلم على سقاية زمزم وقد صنع العباس رضي الله عنه أحواضاً من شراب فضيخ التمر والمسلمون يردون عليه وقد خاضوا فيه بأيديهم ، فأهوى النبي صلى الله عليه وسلم يشرب من شرابهم ، فقال له العباس رضي الله عنه : يا رسول الله! ألا نسقيك من شراب لنا في أسقية؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « أشرب من هذه ألتمس بركة أيدي المسلمين » ، فشرب منه صلى الله عليه وسلم . فصاحب القرآن يعبد الله تبارك وتعالى بقلبه وجسمه لا يقتصر على ظاهر دون باطن ، ولا على باطن دون ظاهر ، ولا على أول دون آخر ولا على آخر دون أول؛ قال صلى الله عليه وسلم « أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره » فمن حق القارىء أن يعتبر القرآن نفسه ويلحظ مواضع مذامه للفرق ويزن به أحوال نفسه من هذه الأديان الستة في هذه الأمة ، وأما وجه وقوع النفاق وأحوال المنافقين فهي داهية القراء وآفة الخليفة؛ قال صلى الله عليه وسلم « أكثر منافقي أمتى قراؤها » وقال بعض كبار التابعين : أدركت سبعين ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه . وأصل مداخله على الخلق من إيثار حرمة الخلق على حرمة الحق جهلاً بالله عز وجل واغتراراً بالناس ، فليزم لذلك محاسنة أولى البر والصدق ظاهراً وتكرههم بقلبه باطناً ، ويتبع ذلك من الذبذبة بين الحالين ما وصف الله تعالى من أحوالهم وما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من علاماتهم حتى قال صلى الله عليه وسلم :

« بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما » وكما قال تبارك وتعالى { لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } ينظر المنافق إلى ما يستسقط به فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم ، كما روي أن الله يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخذ لسيئته ، والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوىء أهل المساوىء فكيف بمعايب أهل المحاسن! ومن أظهر علامات المنافق تبرمه بأعمال الصادق كما ذكر ، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله ، وعن ذلك المنافق غماز لماز بخيل جبان مرتاع ، مستثقل في مجامع الخير أجنبي منها ، مستخف في مواطن الشر متقدم فيها ، طلق اللسان بالغيبة والبهتان ، ثقيل اللسان عن مداومة ذكر الله تبارك وتعالى ، عم عن ذكر الله عز وجل في كل حال ، ناظر إلى الناس بكل وجه ، وهو مع ذلك يصانعهم ولا يصادقهم ، يأخذ من الدين ما ينفعه في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى ، ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر في في العقبى مما لا يضر في الدنيا ، فهذا وجه من وقوع شياع النفاق في هذه الأمة ، فلذلك من حق القارىء أن يستشعر مواقع آي القرآن من نفسه في ذات قلبه وفي أحوال نفسه وأعمال بدنه وفي سره مع ربه وفي علانيته مع خلقه ، فإنه بذلك يجد القرآن كله منطبقاً عليه خاصاً به حتى كأن جميعه لم ينزل إلا إليه حتى إذا رغب في أمر رغب هو فيه من وجه ولا يقول : هذا إنما أنزل في كذا ، وإذا رهب القرآن من أمر رهبه من وجه ما ، وإذا أعلى فكذلك وإذا أسفل فكذلك ، ولا يقول : هذا إنما أنزل في كذا حتى يجد لكل القرآن موقعاً في عمله أيّ عمل كان ومحلاً في نفسه أيّ حال كان ومشعراً لقلبه أيّ ملحظ كان ، فيستمع القرآن بلاغاً من الله سبحانه وتعالى إليه بلا واسطة بينه وبينه ، فعند ذلك يوشك أن يكون ممن يقشعر له جلده ابتداء ثم تلين له جلده وقلبه انتهاء ، وربما يجد من الله سبحانه وتعالى نفح رحمة يفتح له باباً إلى التخلق بالقرآن أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ، كان خُلقه القرآن وبذلك هو ذو الخلق العظيم - والله واسع عليم-انتهى .

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)

ولما قرر سبحانه بهذه الآية تشابههم في التمتع بالعاجل ، وختمها بهذا الختام المؤذن بالانتقام ، اتبع ذلك بتخويفهم من متشابهتهم فيما حل بطوائف منهم ملتفتاً إلى مقام الغيبة لأنه أوقع في الهيبة ، فقال مقرراً لخسارتهم : { ألم يأتهم } أي هؤلاء الأخابث من أهل النفاق { نبأ الذين من قبلهم } أي خبرهم العظيم الذي هو جدير بالبحث عنه ليعمل بما يقتضيه حين عصوا رسلنا؛ ثم أبدل من ذلك قوله : { قوم نوح } أي في طول أعمارهم وامتداد آثارهم وطيب قرارهم بحسن التمتع في أرضهم وديارهم ، أهلكهم بالطوفان ، لم يبق عن عصاتهم إنسان ، وعطف على قوم القبيلة فقال؛ { وعاد } أي في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم ومصانعهم وبنيانهم وتجبرهم في عظيم سلطانهم ، أهلكهم بالريح الصرصر ، لم يبق ممن كفر منهم بشر { وثمود* } أي في تمكنهم من بلاد الحجر عرضها وطولها ، جبالها وسهولها ، أهلكوا بالرجفة لم يبق من الكفار منهم ديار { وقوم إبراهيم } أي في ملك جميع الأرض بطولها والعرض ، سلب الله منهم الملك بعد شديد الهلك { وأصحاب مدين } أي في جمع الأموال ومد الآمال إلى أخذها من حرام وحلال ونقص الميزان والمكيال فعمهم الله بالنكال { والمؤتفكات } أي في إعراضهم عن صيانة أعراضهم في اتباع لذائذ أغراضهم ، فأثمر لهم فعلهم بعد الخسف عموم انقراضهم .
ولما كان كأنه قيل : ما نبأهم؟ قال : { أتتهم رسلهم } أي أتى كل أمة منهم رسولها { بالبينات } أي بالمعجزات الواضحات جداً بسبب أنهم ارتكبوا من القبائح ما أوجب دمارهم { فما } أي فتسبب عن ذلك أنه { ما } { كان الله } أي مع ما له من صفات الكمال مريداً { ليظلمهم } أي لأن يفعل بهم في الإهلاك قبل الإنذار وإنارة البينات فعل من تعدونه فيما بينكم ظالماً ، ولكنه أرسل إليهم الرسل فكذبوا ما أتوهم به من البينات ، فصار العالم بحالهم إذا سمع بهلاكهم وبزوالهم يقول : ما ظلمهم الله { ولكن كانوا } أي دائماً في طول أعمارهم { أنفسهم } أي لاغيرها { يظلمون* } أي بفعل ما يسبب هلاكها ، فإن لم ترجعوا أنتم فنحن نحذركم مثل عذابهم ، ولعله خص هؤلاء بالذكر من بين بقية الأمم لما عند العرب من أخبارهم وقرب ديارهم من ديارهم مع أنهم كانوا أكثر الأمم عدداً ، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء - نبه على ذلك أبو حيان . ولعله قدم أصحاب مدين على قوم لوط وهم بعدهم في الزمان لأن هذا في شأن من وصفوا بأنهم لم يجدوا ما يحميهم مما هم فيه من العذاب بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم من ملجأ أو مغارات أومدخل كما أن من قبل المؤتفكات جمعهم هذا الوصف ، فقوم نوح عليه السلام لم يمنعهم لما أتاهم الماء معقل منيع ولا جبل رفيع مع أنه يقال؛ إنهم هم الذين بنوا الأهرامات ، منها ما هو بالحجارة ليمنعهم من الحادث الذي هددوا به إن كان ماء ، ومنها ما هو بالطوب التي لتحميهم منه إن كان ناراً ، وعاد لما أتتهم الريح بادروا إلى البيوت فقلعت الأبواب وصرعتهم في أجواف بيوتهم ، ولم يغنهم ما كانوا يبنون من المصانع المتقنة والقصور المشيدة والحصون الممنعة ، وحال ثمود معروف في توسعهم في البيوت جبالاً وسهولاً فما منعتهم من الصيحة التي أعقبت الرجفة ، وقوم إبراهيم عليه السلام بنوا الصرح ، ارتفاعه خمسة آلاف ذراع أو فرسخان ليتوصل به نمرود كما زعم - إلى السماء فأتى الله بنيانهم من القواعد ، ألقت الريح رأسه في البحر وخر عليهم الباقي وهم تحته ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ، وأصحاب مدين لما أتاهم العذاب فأخذتهم الرجفة الرجفة لما تغن عنهم مدينتهم ، وإن كانوا هم أصحاب الأيكة فإنهم لما اشتد عليهم الحر يوم الظلة قصدوا المغارات فوجدوها أحر من وجه الأرض فخرجوا منها هاربين ، فجمعتهم الظلة بنسيم بارد خيلته إليهم ولبست به عليهم ، فلما اجتمعوا تحتها أحرقتهم نارها وبقي عليهم عارها ، وأما قوم لوط فأتاهم الأمر بغتة ، لم يشعروا حتى قلبت مدائنهم بعد أن رفعت إلى عنان السماء ، واتبعت حجارة الكبريت تضطرم ناراً ، ولعله خص قوم لوط بالذكر من بين من ليس له هذا الوصف لأن العرب كانوا يمرون على مواضع مدائنهم ويشاهدونها ، وعبر عنهم بالمؤتفكات لأن القصص للمنافقين الذين مبنى أمرهم على الكذب وصرف الأمور عن ظواهرها وتقليبها عن وجوهها ، فالمعنى أن أولئك لما قلبوا فعل النكاح عن وجهه عوقبوا بقلب مدائنهم ، فهؤلاء جديرون بمثل هذه العقوبة لقلب القول عن وجهه ، ومادة « إفك » بكل ترتيب تدور على القلب ، فإذا كافأت الرجل فكأنك قلبت فعله فرددته إليه وصرفته عنك ، وأكاف الدابة شبه بالإناء المقلوب ، والكذب صرف الكلام عن وجهه فهو إفك لذلك - والله أعلم .

ولما بين سبحانه أن المنافقين بعضهم من بعض وما توعدهم به وما استتبعه من تهديدهم بإهلاك من شابهوه ، وختم بما سبب هلاكهم من إصرارهم وعدم اعتبارهم ، عطف ببيان حال المؤمنين ترغيباً في التوبة طعماً في مثل حالهم فقال : { والمؤمنون } { والمؤمنات } أي بما جاءهم عن ربهم { بعضهم أولياء } ولم يقل : من ، كما قال في المنافقين : من { بعض } دلالة على أن أحداً منهم لم يقلد أحداً في أصل الإيمان ولا وافقه بحكم الهوى ، بل كلهم مصوبون بالذات وبالقصد الأول إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل القطعي على حسب فهم كل أحد منهم ، فذلك دليل على صحة إيمانهم ورسوخهم في تسليمهم وإذعانهم؛ ثم بين ولا يتهم بأنهم يد واحدة على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فقال : { يأمرون } أي كلهم على وجه التعاضد والتناصر { بالمعروف } وهو كل ما عرفه الشرع وأجازه { وينهون } أي كذلك { عن المنكر } لا يحابون أحداً .

ولما ذكر الدليل القطعي على صحة الإيمان ، أتبعه أفضل العبادات فقال : { ويقيمون الصلاة } أي يوجدونها على صفة تقتضي قيامها بجميع أركانها وشروطها وحدودها مراقبة لربهم واستعانة بذلك على جميع ما ينوبهم { ويؤتون الزكاة } أي مواساة منهم لفقرائهم صلة للخلائق بعد خدمة الخالق ، وذلك مواز لقوله في المنافقين { ويقبضون أيديهم } ولما خص أمهات الدين ، عم بياناً لأنهم لا ينسون الله طرفة عين بل يذكرونه في كل حال بقوله : { ويطيعون الله } أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه { ورسوله } إشارة إلى حسن سيرتهم وجميل عشرتهم .
ولما ذكر مكارم أفعالهم ، أتبعه حسن مآلهم فقال : { أولئك } أي العظماء الشأن { سيرحمهم الله } أي المستجمع لصفات الكمال بوعد لا خلف فيه ، وهذا مع الجملة قبله مواز لقوله في المنافقين { نسوا الله فنسيهم } وهو إشارة إلى أن الطريق وعر والأمر شديد عسر ، فالسائر مضطر إلى الرحمة ، وهي المعاملة بعد الغفران بالإكرام ، لا قدرة له على قطع مفاوز الطريق إلا بها ، ولا وصول له أصلاً من غير سببها .
ولما بين أن حال المؤمنين مبني على الموالاة وكانت الموالاة فقيرة إلى الإعانة قال : { إن الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { عزيز } أي غالب غير مغلوب بوجه ، فهو قادر على نصر من يوالي حزبه وأن ينيله من ثمرات الرحمة ما يريد من غير أن يقدر أحد على أن يحول بينه وبين شيء من ذلك { حكيم* } أي فلا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل يبرمه ، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين لا يزالون منصورين على كل مفسد ما داموا على هذه الخلال من الموالاة وما معها من حميد الخصال .

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)

ولما ختم الآية بوصف العزة والحكمة المناسب لافتتاحها بالموالاة وتعقيبها بآية الجهاد ، وذلك بعد الوعد بالرحمة إجمالاً ، أتبعها بما هو أشد التئاماً بها بياناً للرحمة وتفصيلاً لها ترغيباً للمؤمنين بالإنعام عليهم بكل ما رامه المنافقون بنفاقهم في الحياة الدنيا ، وزادهم بأنه دائم ، وأخبر بأن ذلك هو الفوز لا غيره فقال : { وعد الله } أي الصادق الوعد الذي له الكمال كله { المؤمنين والمؤمنات } أي الراسخين في التصديق بكل ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم { جنات تجري من تحتها الأنهار } أي فهى لا تزال خضرة ذات بهجة نضرة؛ ولما كان النعيم لا يكمل إلا بالدوام ، قال : { خالدين فيها } كانت الجنان لا تروق إلا بالمنازل والدور الفسيحة والمعازل قال : { ومساكن طيبة } ولما كان بعض الجنان أعلى من بعض ، وكان أعلاها ما شرف بوصف العندية المؤذن بالقرب من بنائه مما يؤكد معنى الدوام ، قال : { في جنات عدن } أي إقامة دائمة وهناء وصحة جسم وطيب مقر وموطن ومنبت ، وذلك كما قال في حق أضدادهم { عذاب مقيم } وما أنسب ذكر هذه الجنة في سياق التعبير بالوصف المؤذن بالرسوخ فإنه ورد في الحديث أنها خاصة بالنبيين والصديقين والشهداء . ولما كان ذلك لا يصفو عن الكدر مع تجويز نوع من الغضب قال مبتدئاً إشارة إلى أنهى التعظيم - : { ورضوان } أي رضى لا يبلغه وصف واصف بما تشير إليه صيغة المبالغة ولو كان على أدنى الوجوه بما أفاده التنوين - { من الله } أي الذي لا أعظم منه عندهم { أكبر } أي مطلقاً ، فهو أكبر من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز ، ولا يقع السرور الذي هو أعظم النعيم إلا برضى السيد ، وإذا كان القليل منه أكبر فما ظنك بالكثير .
ولما تم ذلك على أحسن مقابلة بما وصف به أضدادهم ، قال يصفه زيادة في الترغيب فيه : { ذلك } أي الأمر العالي الرتبة { هو } أي خاصة لا غيره { الفوز العظيم* } أي الذي يستصغر دونه كل شيء من أمور الدنيا والآخرة ، وفي كون ذلك وعداً لمن اتصف لأجل ما اتصف به ترغيب في الجهاد المأمور به بعدها لكونه من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والداعي الأعظم إلى الموالاة .
ولما ثبتت موالاة المؤمنين ومقاطعتهم للمنافقين والكافرين ، وكان ما مضى من الترغيب والترهيب كافياً في الإنانة ، وكان من لم يرجع بذلك عظيم الطغيان غريقاً في الكفران ، أتبع ذلك الأمر بجهادهم بما يليق بعنادهم فقال آمراً لأعظم المتصفين بالأوصاف المذكروة مفخماً لمقداره بأجل أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : { يا أيها النبي } أي العالي المقدار بما لا يزال يتجدد له منا من الأنباء وفينا من المعارف؛ ولما كان الجهاد أعرف في المصارحين ، وكانوا أولى به لشدة شكائمهم وقوة نفوسهم وعزائمهم بدأ بهم فقال؛ { جاهد الكفار } أي المجاهرين { والمنافقين } أي المسائرين كلاًّ بما يليق به من السيف واللسان .

ولما كان صلى الله عليه وسلم مطبوعاً على الرفق موصى به ، قال تعالى : { واغلظ عليهم } أي في الجهادين ولا تعاملهم بمثل ملا عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في العقود ، وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال { المنافقين والمنافقات والكفار } فقدم في كل سياق الأليق به؛ ولما كان المعنى : فإنك ظاهر عليهم وقاهر لهم وهم طعام السيف وطوع العصا ، عطف عليه قوله : { ومأواهم } أي في الآخرة { جهنم وبئس المصير* } .
ولما أتى بالدليل العام على إجرمهم ، أتبعه الدليل الخاص عليه وهو أيضاً دليل على دليل فقال : { يحلفون بالله } أي الملك الأعلى الذي لا شيء أعظم منه قدراً { ما قالوا } أي ما وقع منهم قول ، فقصر الفعل تعميماً للمفعول إعلاماً بأنهم مهما عنفوا على قول كائناً ما كان بادروا إلى الحلف على نفيه كذباً لأنهم مردوا على النفاق فتطبعوا بأعلى الكذب ومرنوا على سيىء الأخلاق ، فصار حاصل هذا أنهم أطعموا في العفو وحذروا من عذاب الباقين بسبب إجرامهم لأنهم يأمرون بالمنكر وما يلائمه مقتفين آثار من قبلهم في الانهماك في الشهوات غير مقلعين خوفاً من الله أن يصيبهم بمثل ما أصابهم ولا رجاء له أن ينيلهم مما أعد للمؤمنين مجترئين على الأيمان الباطلة بأعظم الحلف على أيّ شيء فرض سواء كان يستحق اليمين أو لا غير خائفين من الله أن يهتكهم كما هتك غيرهم ممن فعل مثل أفعالهم؛ ثم دل على عظيم إجرامهم وما تضمنه قوله { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } - الآية ، من كبائر آثامهم ، ويجوز أن تكون هذه الاية واقعة موقع التعليل للآية التي قبلها بأنهم يقدمون على ما يستحقون به الجهاد والغلظة والنار من الحلف كذباً على نفي كل ما ينقل عنهم استخفافاً بالله وبأسمائه { اتخذوا أيمانهم جنة } [ المجادلة : 6 ] فتكون جواباً لمن كأنه قال : أما جهاد الكفار فالأمر فيه واضح ، وأما المنافقون فكيف يجاهدون وهم يتكلون بلفظ الإيمان ويظهرون أفعال أهل الإسلام فقال : لأنهم يحلفون { ولقد } أي والحال أنهم كاذبون لقد { قالوا كلمة الكفر } أي الذي لا أكبر في الكفر منه ، وهي تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما كان هذا السيافق لصنف يجددون الاستخفاف بالله تعالى - بما دل عليه المضارع كل وقت ، دل على أن إقرارهم بالإيمان كذب وأفعالهم صور لا حقائق لها ، فعبر بالإسلام فقال : { وكفروا } أي اظهروا الكفر { بعد إسلامهم } أي بما ظهر من أفعالهم وأقوالهم ، وذلك غاية الفجور؛ ولما كان أعلى شغف الإنسان بشيء ان تحدثه نفسه فيه بما لا يصل إليه ، فيكون ذلك ضرباً من الهوس قال : { وهموا بما لم ينالوا } أي من قتل الرسول صلى الله عليه وسلم أو إخراجه من المدينة ، فجمعوا بين أنواع الكفر القول والفعل والاعتقاد ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في { مأواهم } والتقدير على هذا : يدخلون جهنم حالفين بالله : ما قالوا كلمة الكفر ، ولقد قالوها ، فيكون كقوله

{ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] .
ولما بين من أحوالهم التي لا يحمل على فعلها إلا أمر عظيم ، قال : { وما } أي قالوا وفعلوا والحال انهم ما { نقموا } أي كرهوا شيئاً من الأشياء التي أتتهم من الله { إلا أن أغناهم الله } أي الذي له جميع صفات الكمال وهو غني عن العالمين { ورسوله } أي الذي هو أحق الخلق بأن يجوز عظمة الإضافة إليه سبحانه ، وكان أذاهم هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله مع إعطائه لهم ما أغناهم بخلاف الآية السابقة ، فكان الأقعد في ذمهم تأخير قوله : { من فضله } فهو من باب : ولا عيب فيهم .
ولما نبه على أن هذه المساوىء قابلوا بها المحسن إليهم ، رغبهم بأنه قابل المتاب عليهم ، ورهبهم بأنه لا مرد لما يريد من العذاب بقوله : { فإن يتوبوا } ولما كان المقام جديراً بأن يشتد تشوف السامع إلى معرفة حالهم فيه ، حذف نون الكون اختصاراً تنبيهاً على ذلك فقال { يك } أي ذلك { خيراً لهم } من إصرارهم .
ولما كان للنفوس من أصل الفطرة الأولى داعية شديدة إلى المتاب ، وكان القرآن في وعظه زاجراً مقبول العتاب عظيم الأخذ بالقلوب والعطف للألباب ، أشار إلى ذلك بصيغة التفعيل فقال : { وإن يتولوا } أي يكلفوا أنفسهم الإعراض عن المتاب { يعذبهم الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بحوله وقوته { عذاباً أليماً } أي لا صبر لهم عليه { في الدنيا } أي بما هم فيه من الخوف والخزي والكلف وغيرها { والآخرة } أي بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه { وما لهم في الأرض } أي التي لا يعرفون غيرها لسفول هممهم { من وليّ } أي يتولى أمورهم فيصلح ما أفسد العذاب منهم أو يشفع لهم { ولا نصير* } أي ينقذهم؛ وأما السماء فهم أقل من أن يطمعوا منها بشيء ناصر أو غيره وأغلظ أكباداً من أن يرتقي فكرهم إلى ما لها من العجائب وما بها من الجنود؛ وسبب نزول الآية على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في ظل شجرة فقال : سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله . ما قالوا ، فأنزل الله الآية؛ وقال الكلبي : نزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجساً وعابهم فقال الجلاس : لئن كان محمداً صادقاً لنحن شر من الحمير ، فسمعه عامر بن قيس فقال : أجل ، إن محمداً لصادق وأنتم شر من الحمير ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قاله الجلاس ، فقال الجلاس : كذب عليّ يا رسول الله! فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب علي عامر ، وقام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه ، ثم رفع عامر رضي الله عنه يديه إلى السماء فقال : اللهم! أنزل على نبيك تصديق الصادق منا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون : آمين! فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ { فإن يتوبوا يك } أي التوب { خيراً لهم } فقام الجلاس فقال : يا رسول الله! أسمع الله قد عرض عليّ التوبة ، صدق عامر بن قيس فيما قاله ، لقد قلته ، وانا أستغفر الله وأتوب إليه ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ثم تاب وحسنت توبته .

ولا مانع من أن يكون كل ذلك سبباً لها كما تقدم ويأتي ، والأوفق لها في السببية الخبر الأول للتعبير في الكفر ب « أل » المؤذنة بالكمال ، ومن شتم نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ارتكب كل كفر ، وفي الاية دليل على قبول توبة الزنديق المسر للكفر المظهر للايمان - كما قال أبو حيان وقال : وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وقال مالك : لا تقبل ، فإن جاء تائباً من قبل نفسه من قبل أن يعثر عليه قبلت توبته .

وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)

ولما أقام سبحانه الدليل على ما ذكر بهذه الآية التي ختمها بأنه أغناهم من فضله ، أتبها بإقامة الدليل عليها وعلى أنهم يقبضون أيديهم وعلى اجترائهم على اقبح الكذب فقال : { ومنهم من عاهد الله } أي الذي لا أعظم منه { لئن آتانا } أي من خير ما عنده ، واعتراف بأنه لا حق لأحد عليه بقوله : { من فضله } أي بأي طريق كان من تجارة أو غنيمة أو زراعة أو غيرها ، وأكد لأنه كاذب يظن أن الناس يكذبونه ، وهكذا كل كاذب فقال : { لنصدقن } أي مما آتانا من غير رياء - بما يشير إليه الإدغام { ولنكونن } أي كوناً هو الدال على أنا مجبولون على الخير { من الصالحين* } أي لكل خير نندب إليه { فلما آتاهم } وكرر قوله : { من فضله } تقريراً لما قاله المعاهد تأكيداً للإعلام بأنه لا حق عليه لأحد ولا صنع فيما ينعم به ولا قدرة عليه بوجه { بخلوا به } أي كذبوا فيما عاهدوا عليه وأكدوه غاية التأكيد ، فلم يتصدقوا بل منعوا الحق الواجب إظهاره فضلاً عن صدقة السر { وتولوا } أي كلفوا أنفسهم الإعراض عن الطاعة لمن تفضل عليهم مع معرفتهم بقبح نقض العهد؛ ولما كان التولي قد يحمل على ما بالجسد فقط قال : { وهم معرضون* } أي بقلوبهم ، والإعراض وصف لهم لازم لم يتجدد لهم ، بل كان غريزة فيهم ونحن عالمون بها من حين أوقعوا العهد؛ قال أبو حيان : قال الضحاك : هم نبتل ابن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير وثعلبة بن حاطب وفيهم نزلت الآية - انتهى . وحسن تعقيبها بها أيضاً أن في الأولى كفران نعمة الغني من غير عهد ، وفي هذه كفرانها مع العهد فهو ترق من الأدنى إلى الأعلى ، ودل عظيم شأن العهد بتعظيم الجزاء على خيانته بقوله : { فأعقبهم } أي الله أو التمادي على البخل جزاء على ذلك { نفاقاً } متمكناً { في قلوبهم } أي بأن لا يزالوا يقولون ما لا يفعلون { إلى يوم يلقونه } أي بالموت عند فوت الفوت { بما أخلفوا الله } أي وهو الملك الأعظم { ما وعدوه } لأن الجزاء من جنس العمل؛ ولما كان إخلاف الوعد شديد القباحة ، وكان مرتكبه غير متحاش من مطلق الكذب ، قال : { وبما كانوا يكذبون* } أي يجددون الكذب دائماً مع الوعدد ومنفكاً عنه ، فقد استكملوا النفاق : عاهدوا فغدروا ووعدوا فأخلفوا وحدثوا فكذبوا .
ولما كانت المعاهدة سبباً للإغناء في الظاهر ، وكان ذلك ربما كان مظنة لأن يتوهم من لا علم له أن ذلك لخفاء أمر البواطن عليه سبحانه ، وكان الحكم هنا وارداً على القلب بالنفاق الذي هو أقبح الأخلاق مع عدم القدرة لصاحبه على التخلص منه ، كان ذلك أدل دليل على أنه تعالى أعلم بما في كل قلب من صاحب ذلك القلب ، فعقب ذلك بالإنكار على من لا يعلم ذلك والتوبيخ له والتقريع فقال : { ألم يعلموا أن الله } أي الذي له صفات الكمال { يعلم سرهم } وهو ما أخفته صدورهم { ونجواهم } أي ما فاوض فيه بعضهم بعضاً ، لا يخفى عليه شيء منه { وأن الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { علام الغيوب* } أي كلها ، أي ألم يعلموا أنه تعالى لا يخادع لعلمه بالعواقب فيخشوا عاقبته فيوفوا بعهده ، وفائدة الإعطاء مع علمه بالخيانة إقامة الحجة؛ قال أبو حيان : وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن { ألم تعلموا } بالتاء ، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير - انتهى .

وفائدة الالتفات الإشارة إلى أن هذا العلم إنما ينفع من هيىء للإيمان .
ولما أخبر تعالى أنه لم يكفهم كفران نعمة الغنى من غير معاهدة حتى ارتكبوا الكفران بمنع الواجب مع المعاهدة ، أخبر أنه لم يكفهم أيضاً ذلك حتى تعدوه إلى عيب الكرماء الباذلين بصفة حبهم لربهم ما لم يوجبه عليهم ، فقال تعالى معبراً بصيغة تصليح لجميع ما مضى من أقسامهم إفهاماً لأنهم كلهم كانوا متخلقين بذلك وإن لم يقله إلا بعضهم : { الذين يلمزون } أي يعيبون في خفاء { المطوعين } أي الذين ليس عليهم واجب في أموالهم فهم يتصدقون ويحبون إخفاء صدقاتهم - بما يشير إليه الإدغام { من المؤمنين } أي الراسخين في الإيمان { في الصدقات } ولما كان ما مضى شاملاً للموسر والمعسر ، نص على المعسر لزيادة فضله وإشارة إلى أن الحث على قليل الخير كالحث على كثيره فقال عاطفاً على { المطوعين } : { والذين لا يجدون } أي من المال { إلا جهدهم } أي طاقتهم التي أجهدوا أنفسهم فيها حتى بلغوها .
ولما كان اللمز هو العيب ، وهو ينظر إلى الخفاء كالغمز ، ومادته بكل ترتيب تدور على اللزوم ، والمعنى : يلزمون المطوعين عيباً ولا يظهرون ذلك لكل أحد وإنما يتخافتون به فيما بينهم ، وهو يرجع إلى الهزء والسخرية ، سبب عنه قوله : { فيسخرون منهم } ولما كان لا شيء أعظم للشخص من أن يتولى العظيم الانتقام له من ظالمه ، قال : { سخر الله } أي وهو الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره { منهم } أي جازاهم على فعلهم بأهل حزبه ، وزادهم قوله : { ولهم عذاب أليم* } أي بما كانوا يؤلمون القلوب من ذلك وإذا حوققوا عليه دفعوا عن أنفسهم ما يردعهم عنه بالأيمان الكاذبة ، روى البخاري في التفسير عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل ، فجاء أبو عقيل بنصف صاع ، وجاء إنسان بأكثر منه ، فقال المنافقون : إن الله لغني عن صدقة هذا ، وما فعل هذا الآخر إلا رياء ، فنزلت { الذين يلمزون } - الآية .
ولما كان صلى الله عليه وسلم معروفاً بكثرة الاحتمال وشدة اللين المشير إليه { عفا الله عنك لم أذنت لهم } للمبالغة في استجلابهم والحرص على نجاة جميع الخلق فكان معروفاً بالاستغفار لهم تارة على وجه الخصوص بسؤالهم عند اعتذارهم وحلفهم وتارة على وجه العموم عند استغفاره لجميع المسلمين ، أخبره تعالى من عاقبة أمره بما يزهده فيهم ليعرض عنهم أصلاً ورأساً ، لأنهم تجاوزوا حق الله في ترك الجهاد ومنع الصدقة وحقه صلى الله عليه وسلم في لمزه في الصدقات ووصفه بما يجل عنه إلى حقوق المجاهدين الذين هو سبحانه خليفتهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم مع ما سبق في علمه للمنافقين من أنه لا يغفر لهم فقال : { استغفر } أي اطلب الغفران { لهم أو لا تستغفر لهم } أي استوى في أمرهم استغفارك لهم وتركه { إن تستغفر } أي تسأل الغفران { لهم سبعين مرة } أي على سبيل الحقيقة أو المبالغة؛ ولما كان الإخبار باستواء الأمرين : الاستغفار وتركه ربما كان مسبباً عن الغفران وربما كان مسبباً عن الخسران ، عينه في هذا الثاني فقال : { فلن يغفر الله } أي الذي قضى بشقائهم وهو الذي لا يرد أمره { لهم } وهو يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وجواب الشرط محذوف لدلالته عليه ، والمراد بالسبعين على ما ظهر في المآل المبالغة في أنه لا يغفر لهم لشيء من الأشياء ولو غفر لهم لشيء لكان لقبول شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ، والعرب تبالغ بما فيه لفظ السبعة لأنها غاية مستقصاة جامعه لأكثر أقسام العدد ، وهي تتمة عدد الخلق كالسماوات والأرض والبحار والأقاليم والأعضاء .

ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على رشدهم ونفعهم ، وكان حقيقة نظم الآية التخيير في الاستغفار وتركه ونفي المغفرة بالاستغفار بالعدد المحصور في سبعين ، جعل صلى الله عليه وسلم الآية مقيدة لما في سورة المنافقين فاستغفر لابن أبيّ وصلى عليه وقام على قبره وصرح بأنه لو يعلم انه لو زاد على السبعين قبل لزاد ، واستعظم عمر رضي الله عنه ذلك منه صلى الله عليه وسلم وشرع يمسكه بثوبه ويقول : أتصلي عليه وقد نهاك الله عن ذلك! لأنه لم يفهم من الآية غير المجاز لما عنده من بغض المنافقين ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فرأى التمسك بالحقيقة لما في الرفق بالخليفة من جميل الطريقة بتحصيل الائتلاف الواقع للخلاف وغيره من الفوائد وجليل العوائد ، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول لما نزل النهي الصريح : فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم . أي تفطنت بعد هذا الصريح أن ذلك الأول كان محتملاً وإلا لأنكر الله الصلاة عليه ، وفي موافقة الله تعالى لعمر رضي الله عنه منقبة شريفة له ، وقد وافقه الله تعالى مع هذا في أشياء كثيرة ، روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما توفى عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله رضي الله عنه - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله ان يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه؛ وفي رواية في اللباس ، فأعطاه قميصه وقال : إذا فرغت فآذنا ، فلما فرغ آذنه فجاء ، وفي رواية : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما خيرني الله فقال : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة } وسأزيده على السبعين؛ وفي رواية؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ، قال : إنه منافق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزل الله عز وجل { ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } إلى { وهم فاسقون } فترك الصلاة عليهم ، قال : فعجيب بعد من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم : وله في أواخر الجهاد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : لما كان يوم بدر أتي بالأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم قميصاً فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه ، قال ابن عيينة : كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه ، وفي رواية عنه في اللباس أنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبيّ بعد ما أدخل قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه - انتهى .

فكأن ابنه رضي الله عنه استحى من أن يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم به لما كان يعلم من نفاقه ، أو آذنه صلى الله عليه وسلم به فصادف منه شغلاً فدفنه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إدخاله القبر وقبل تمام الدفن فأخرجه تطييباً لخاطر ابنه الرجل الصالح ودفعاً لما قد يتوهمه من إحنة عليه وتأليفاً لغيره ، فقد روي أنه قال صلى الله عليه وسلم : إني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب ، فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي بعض الروايات أنه هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفنه في قميصه ، وتعطفه عليه ، أدعى إلى تراحم المسلمين وتعاطف بعضهم على بعض ، وقوله : وألبسه قميصه - بالواو لا ينافي الرواية الأولى ، وتحمل الرواية الأولى على أنه وعده إعطاء القميص لمانع كان من التنجيز وقت السؤال ، فحمل الجزم بالإعطاء على الوعد الصادق ثم أنجزه بعد إخراجه من القبر - والله أعلم؛ ووردت هذه الآية على طريق الجواب لمن كأنه قال : ما تقدم من أحوال المنافقين كان انتهاكاً لحرمة الله أو لحق الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد فيه أنه يهينهم بالإماتة على النفاق ، فكان يكفي فيه استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، وأما هذان القسمان فأحدهما أخبر بأنه يميتهم منافقين ، والثاني انتهك حرمة المخلصين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فهل ينفعهم الاستغفار لهم؟ فكأنه قيل : استوى الاستغفار وعدمه في أنه لا ينفعهم ، وختمها بعلة عدم المغفرة في قوله : { ذلك } أي الأمر الذي يبعد فعله من الحكيم الكريم { بأنهم كفروا بالله } أي وهو الملك الأعظم { ورسوله } أي فهم لا يستأهلون الغفران لأنهم لم يهتدوا لإصرارهم على الفسق وهو معنى قائم بهم في الزيادة على السبعين كما هو قائم بهم في الاقتصار على السبعين { والله } أي المحيط علماً وقدرة { لا يهدي القوم الفاسقين } أي أنه لا يهديهم لأنه جبلهم على الفسق ، وكل من لا يهديه لأنه جلبه على الفسق لا يغفر له ، فهو لا يغفر لهم لما علم منهم مما لا يعلمه غيره ، فهو تمهيد لعذر النبي صلى الله عليه وسلم في استغفاره قبل العلم بالطبع الذي لا يمكن معه رجوع .

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)

ولما علل سبحانه عدم المغفرة بفسقهم ، وأتى بالظاهر موضع المضمر إشارة إلى اتصافهم به وتعليقاً للحكم بالوصف ، علل رسوخهم في الفسق بعد أن قدم أن المنافقين بعضهم من بعض فهم كالجسد الواحد بقوله : { فرح المخلفون } أي الذين وقع تخليفهم بإذنك لهم وكراهة الله لانبعاثهم { بمقعدهم } أي قعودهم عن غزوة تبوك ، ولعله عبر بهذا المصدر لصلاحيته لموضع القعود ليكون بدلالته على الفرح أعظم دلالة على الفرح بالموضوع ، وهو مروي عن ابن عباس رضى الله عنهما ، وأظهر الوصف بالتخلف موضع الضمير زيادة في تهجين ما رضوا به لأنفسهم ، وزاده تهجيناً أيضاً بقوله : { خلاف } أي بعد وخلف أو لأجل خلاف { رسول الله } أي الملك الأعظم الذي من تخلف عن حزبه هلك { وكرهوا أن يجاهدوا } .
ولما كان هذا في سياق الأموال تارة بالرضى بنيلها والسخط بحرمانها ، وتارة بقبض اليد عن بذلها ، وتارة بالاستمتاع بالخلاف الذي هو النصيب أعم من أن يكون بالمال أو النفس ، وتارة بعيب الباذلين وغير ذلك من شأنها قدم قوله : { بأموالهم و أنفسهم } على قوله : { في سبيل الله } أي طريق الملك الذي له صفات الكمال ، لأنه ليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإيقان الذي بعث المؤمنين ، ودل ذلك على عراقتهم في الفسق بأن الإنسان قد يفعل المعصية ويحزن على فعلها وهؤلاء سروا بها مع ما فيها من الدناءة ، وقد يسر الإنسان بالمعصية ولا يكره أن يكون بدلها أو معها طاعة وهؤلاء ضموا إلى سرورهم بها كراهية الطاعة ، وقد يكره ولا ينهى غيره وهؤلاء جمعوا إلى ذلك كله نهي غيرهم ، ففعلوا ذلك كله { وقالوا } أي لغيرهم { لا تنفروا في الحر } بعداً من الإسلام وعمّى عن سيد الأحكام ، لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر .
ولما كان هذا قول من لم تخطر الآخرة على باله ، أمره تعالى أن يحذر من يصغي إليهم أو يقبل عليهم بقوله : { قل } أي يا أعلم بخلقنا استجهالاً لهم { نار جهنم } أي التي أعدها الله لمن خالف أمره { أشد حرّاً } ولفت الكلام إلى الغيبة يدل على أن أعظم المراد بهذا الوعظ ضغفاء المؤمنين لئلا يتشبهوا بهم طعماً في الحلم فقال تعالى : { لو كانوا } أي المنافقون { يفقهون* } أي لو كان بهم فهم يعلمون به صدق الرسول وقدرة مرسله على ما توعد به لعلموا ذلك فما كانوا يفرون من الحر إلى أشد حراً منه ، لأن من فر من حر ساعة إلى حر الأبد كان أجهل الجهال ، وقال أبو حيان : لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه ، يعني في قوله { فرح المخلفون } - انتهى .

فتكون الآية حيئنذ جواباً لمن كأنه قال : هذه أحوال من خرج فما حال من قعد؟ وقد خرج بما في هذه الآية من الأوصاف كعب بن مالك ورفيقاه رضي الله عنهم ونحوهم ممن لم يفرح بالقعود ولا اتصف بما ذكر معه من أوصافهم .
ولما كان غاية السرور الضحك ، وكان اللازم لهم في الآخرة البكاء في دار الشقاء الذي هو غاية الحزن لهم ، فيها زفير وشهيق وهم يصطرخون فيها ، قال تعالى مهدداً لهم مسبباً عن قبيح ما ذكر من فعلهم مخبراً في صورة الأمر إيذاناً بأنه أمر لا بد من وقوعه : { فليضحكوا قليلاً } أي فليتمتعوا في هذه الدار بفرحتهم بمقعدهم التمتع الذي غاية السرور به الضحك - يسيراً ، فإنها دار قلعة وزوال وانزعاج وارتحال { وليبكوا كثيراً } أي في نار جهنم التي أغفلوا ذكر حرورها وأهملوا الاتقاء من شديد سعيرها بدل ذلك الضحك القليل كما استبدلوا حرها العظيم بحر الشمس الحقير { جزاء بما كانوا يكسبون* } أي من الفرح بالمعاصي والسرور بالشهوات والانهماك في اللذات .
ولما كان المسرور بشيء الكاره لضده الناهي عنه لا يفعل الضد إلا تكلفاً ولا قلب له ، إليه وكان هذا الدين مبنياً على العزة والغنى ، أتبع ذلك بقوله مسبباً عن فرحهم بالتخلف : { فإن رجعك الله } أي الملك الذي له العظمة كلها فله الغنى المطلق عن سفرك هذا { إلى طائفة منهم } أي وهم الذين يمد الله في أعمارهم إلى أن ترجع إليهم ، وهذا يدل على أنه أهلك سبحانه في غيبته بعضهم ، فأردت الخروج إلى سفر آخر { فاستأذنوك } أي طلبوا أن تأذن لهم { للخروج } أي معك في سفرك ذلك { فقل } عقوبة لهم وغنى عنهم وعزة عليهم ناهياً لهم بصيغة الخبر ليكون صدقك فيه علماً من أعلام النبوة وبرهاناً من براهين الرسالة { لن تخرجوا معي أبداً } أي في سفر من الأسفار لأن الله قد أغناني عنكم وأحوجكم إليّ { ولن تقاتلوا معي عدواً } لأنكم جعلتم أنفسكم في عداد ربات الحجال ولا تصلحون لقتال؛ والتقييد بالمعية كما يؤذن باستثقالهم يخرج ما كان بعده صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عهنم من سفرهم وقتالهم .
ولما أخزاهم سبحانه بما أخزوا به أنفسهم ، علله بقوله : { إنكم رضيتم بالقعود } أي عن التشرف بمصاحبتي ، ولما كانت الأوليات أدل على تمكن الغرائز من الإيمان والكفران وغيرها قال : { أول مرة } أي في غزوة تبوك ، ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته؛ قال أبو حيان : فعلل بالمسبب وهو الرضى الناشىء عن السبب وهو النفاق - انتهى .
ولما أنهى الحكم والعلة ، سبب عنه قوله : { فاقعدوا مع الخالفين* } أي الذين رضوا لأنفسهم بهذا الوصف الذي من جملة معانيه : الفاسد فهم لا يصلحون لجهاد ولا يلفون أبداً في مواطن الامجاد ، وقال بعضهم : المراد بهم الذين تخلفوا بغير عذر في غزوة تبوك ، أو النساء والصبيان أو أدنياء الناس أو المخالفون أو المرضى والزمنى أو أهل الفساد ، والأولى الحمل على جميع ، أي لأن المراد تبكيتهم وتوبيخهم ، ولما أتم سبحانه الكلام في الاستغفار وتعليله إلى أن ختم بإهانة المتخلفين ، وكان القتل المسبب عن الجهاد سبباً لترك الصلاة على الشهيد تشريفاً له ، جعل الموت الواقع في القعود المرضي به عن الجهاد سبباً لترك الصلاة إهانة لذلك القاعد ، فقال عاطفاً على ما أفهمت جملة : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } الآية ، من نحو : فلا تستغفر لهم أصلاً : { ولا تصلِّ } أي الصلاة التي شرعت لتشريف المصلى عليه والشفاعه فيه { على أحد منهم } ثم وصف الأحد بقوله : { مات } وقوله { أبداً } متعلق بالنهي لا بالموت { ولا تقم على قبره } أي لأن قيامك رحمة وهم غير أهل لها ، ثم علل ذلك بقوله : { إنهم كفروا بالله } أي الذي له العظمة كلها ولما كان الموت على الكفر مانعاً من الصلاة على الميت بجميع معانيها لم يحتج إلى التأكيد باعادة الجار فقيل - : { ورسوله } أي الذي هو أعظم الناس نعمة عليهم بما له من نصائحهم بالرسالة ، والمعنى أنهم لعظم ما ارتكبوا من ذلك لم يهدهم الله فاستمروا على الضلالة حتى ماتوا على صفة من وقع النهي على الاستغفار لهم المشار إليها بقوله { والله لا يهدي القوم الفاسقين } وذلك المراد من قوله معبراً بالماضي والمعنى على المضارع تحقيقاً للخبر وأنه واقع لا محالة : { وماتوا وهم } أي والحال أنهم بضمائرهم وظواهرهم { فاسقون* } أي غريقون في الفسق .

ولما كان ابن ابيّ سبب النهي عن الاستغفار لهم ، وكان ابنه عبد الله بن عبد الله من خيار المؤمنين وخلص المحسنين وكان لبعض المنافقين أبناء مثله ، وكان من طبع البشر أن يذكر في كثير من مقاله غلطاً ما يندم عليه ، وكان شديد الوقوف لما حف به من العلائق البدنية وشمله من العوائق بالأوهام النفسانية مع أوهامه وعوائقه قاصراً على قيوده وعلائقه ، فكان لإعادة الكلام وتكريره وترديده ومزيد تقريره تأكيد في النفوس وتعزية وتثبيت في القلوب ، كرر آية الإعجاب لهذه الأسباب لأن يكون حكمها على بال من المخاطب لا ينساه لاعتقاد أن العمل به مهم جداً يفتقر إلى فضل عناية ، وأن ذلك شبيه بما أوهم صاحبه فهو يتكلم فيه ثم ينتقل إلى غيره لغرض صحيح ثم يرجع إليه في أثناء حديثة لشدة اهتمامه به تنبيهاً على ذلك ، ولا يرجع إليه إلا على غاية ما يكون من حسن الربط وبراعة التناسب ، وعطفها بالواو دون الفاء لأن ذلك ليس مسبباً عما قبله كما سبق في الآية الأولى ، أي لا تستغفر لهم ولا تصل عليهم ولا تعجبك قولهم : مستعطفين لك في طلب محبتك وإن زخرفوه وأكدوه بالأيمان التي اتخذوها جنة { ولا تعجبك أموالهم } وأسند النهي إليها إبلاغاً فيه .

ولما لم يكن هنا ما اقتضى تأكيد النفي مما مضى في الآية الأولى ، لم يعد النافي ولا أثبت اللام ولا الحياة فقال : { وأولادهم } أي وإن أظهروا أنهم يجاهدون بها معك ويتقربون بها إلى الله فإن الله لا يريد بهم ذلك فلا ييسره لهم لما علم من مباعدتهم للخير وعدم قابليتهم له فلا يحملك الإعجاب بشيء من ذلك على فعل شيء مما تقدم النهي عنه تأليفاً لأمثالهم للمساعدة بأولادهم وأموالهم وتطييباً لقلوب المؤمنين من أولادهم ، فإنهم إن كانوا مؤمنين لم يضرهم ترك ذلك وإلا فبعداً لهم وسحقاً { إنما يريد الله } أي بعزه وعظمته وعلمه وإحاطته { أن يعذبهم } أي تعذيبهم { بها } فالفعل واقع بخلافة في الآية السابقة { في الدنيا } أي بجمعها ومحبة الإخلاد إليها وإلى الأولاد إن كانوا مثلهم في الاعتقاد وإلا كانوا زيادة عذاب لهم في الدارين { وتزهق } أي تخرج بغاية العسر { أنفسهم وهم } لاغترارهم بها { كافرون* } ولا شك أن خطاب الرأس بغاية العسر { أنفسهم وهم } لاغترارهم بها { كافرون* } ولا شك أن خطاب الرأس بشيء أوقع في قلوب أصحابه فلذلك وقع الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره من أتباعه وجماعته وأشياعه ممن قد يجنح إلى الأسباب ويقف عنده كما هو طبع النفوس في تأمل ما شهد ونسيان ما غاب وعهد تدريباً لهم على الحب في الله والبغض فيه لأنه من أدق أبواب الدين فهماً وأجلها قدراً ، وعليه تبتنى غالب أبوابه ، ومنه تجتنى أكثر ثمراته وآدابه ، وذلك أنه ربما ظن الناظر فيمن بسطت عليه الدنيا أنه من الناجين فيوادّه لحسن قوله غافلاً عن سوء فعله ، أو يظن أن أهل الدين فقراء إلى مساعدته لهم في جهاد أو غيره بما له وذويه روية فيداريه ، فأعلمهم تعالى أن ما هذا سبيله مقطوع البركة نهياً عن النظر إلى الصور وتنبيهاً على قصر الأنظار على المعاني { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } [ المائدة : 100 ] - الآية { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم } [ المنافقون : 41 ] .

وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)

ولما افتتحت قصتهم بأن المتقين لا يتوقفون في الانتداب إلى الجهاد على أمر جديد ولا استئذان ، بل يكتفون بما سبق من عموم الحث عليه والندب إليه فيبادرون إليه الطرف ولا يحاذرون الحتف ، وأن من المنافقين من يستأذن في الجهاد جاعلاً استئذانه فيه باباً للاستئذان في التخلف عنه ، ومنهم من يصرح بالاستئذان في العقود ابتداء من غير تستر ، وعقب ذلك بالنهي عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم ثم مر في ذكر أقسامهم وما لزمهم من فضائحهم وآثامهم ، إلى أن ختم القصة بأن أموالهم إنما هي لفتنتهم لا لرحمتهم ، ولمحنتهم لا لمنحتهم ، أتبع ذلك بدليله من أنهم لا يتوصلون بها إلى جهاد ، ولا يتوسلون إلى دار المعاد ، فقال عاطفاً على ما أفهمه السياق من نحو أن يقال لأنهم لا يفعلون بها خيراً ولا يكسبون أجراً ، أو بانياً حالاً من الكاف في « تعجبك » : { وإذا أنزلت سورة } أي وقع إنزال قطعة من القرآن .
ولما كان الإنزال يدل على المنزل حتماً ، فسره بقوله : { أن آمنوا بالله } أي الذي له الكمال كله { وجاهدوا } أي أوقعوا الجهاد { مع رسوله استأذنك } أي في التخلف من لا عذر له وهم { أولوا الطول } أي أهل الفضل من الأموال والسعة والثروة في غالب الأحوال { منهم } وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم ولا سيما بعد سماع القرآن ، ويجوز أن يكون معطوفاً على خبر { أن } في قوله { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } هذا مع ما تضمن استئذانهم من رذائل الأخلاق ودنايا الهمم المحكي بقوله : { وقالوا ذرنا } أي اتركنا ولو على حالة سيئة { نكن } أي بما يوافق جبلاتنا { مع القاعدين* } أي بالعذر المتضمن - لاسيما مع التعبير بذرنا الذي مادته تدور على ما يكره دون « دعنا » - لما استأنف به أو بين من قوله : { رضوا بأن يكونوا } أي كوناً كأنه جبلة لهم { مع الخوالف } أي النساء { وطبع } أي وقع الطبع المانع { على قلوبهم } أي حتى رضوا لأنفسهم بالتخلف عن سبب السعادة مع الكون في عداد المخدرات بما هو عار في الدنيا ونار في العقبى .
ولما أبهم فاعل الطبع ، نفى دقيق العلم فقال : { فهم } أي بسبب هذا الطبع { لا يفقهون* } أي لا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من العز والسعادة في الدارين ، وما في التخلف من الشقاء والعار فلذلك لا يجاهدون ، فلا شيء أضر من هذه الأموال والأولاد التي أبعدت عن الممادح وألزمت المذام والقوادح ، فقد اكتنفت آية الأموال في أول قصة وآخرها ما يدل على مضمونها .
ولما افتتح القصة بمدح المتقين لمسابقتهم إلى الجهاد من دون استئذان ختمها بذلك وذكر ما أعد لهم فقال معلماً بالغنى عنهم بمن هو الخير المحض تبكيتاً لهم وتقريعاً : { لكن الرسول } أي والذي بعثه لرد العباد عن الفساد إلى السداد { والذين آمنوا } أي إيماناً عظيماً كائناً أو كائنين { معه } أي مصاحبين له ذاتاً وحالاً في جميع ما أرسلناه إليهم به { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } أي بذلوا كلاًّ من ذلك في حبه صلى الله عليه وسلم فتحققوا بشرط الإيمان و « لكن » واقعة موقعها بين متنافسين لأن ما مضى من حالهم كله ناطق بأنهم لم يجاهدوا .

ولما كان السياق لبخلهم بالنفس والمال ، ولسلب النفع من أموالهم وأولادهم ، اقتصر في مدح أوليائه على الجهاد بالنفس والمال ولم يذكر السبيل وقال : { أولئك } دالاً على أنه معطوف على ما تقديره : فأولئك الذين نورت قلوبهم فهم يفقهون ، وقوله : { لهم } أي لا لغيرهم { الخيرات } تعرض بذوي الأموال من المنافقين لأن الخير يطلق على المال وتحليته ب « ال » على استغراقه لجميع منافع الدارين ، والتعبير بأداة البعد إشارة إلى علو مقام أوليائه وبعد مناله إلا بفضل منه تعالى ، وكذا التعريض بهم بقوله : { وأولئك هم } أي خاصة { المفلحون* } أي الفائزون بجميع مرادهم ، لا غيرهم؛ ثم بين الإفلاح الأعظم بقوله : { أعد الله } أي الذي له صفات الكمال { لهم } أي الآن لينعمهم بها بعد موتهم وانتقالهم من هذه الدار التي هي معدن الأكدار { جنات تجري } أي دائماً { من تحتها } أي مع قربها { الأنهار } ثم عرض بهذه الدنيا السريعة الزوال فقال : { خالدين فيها } ثم رغب فيها بقوله : { ذلك } أي الأمر العالي الرتبة { الفوز العظيم* } أي لا غيره .
ولما ختم قصص أهل المدر بذم أولي الطول منهم بتخلفهم ، وكان ذمهم إنما هو لكونهم قادرين على الخروج في ذلك الوجه ، وقدمهم لكثرة سماعهم للحكمة ، وكان أهل الوبر أقدر الناس على السفر لأن مبنى أمرهم على الحل والارتحال ، فهم أجدر بالذم لأنهم في غاية الاستعداد لذلك ، تلاهم بهم فقال : { وجاء المعذرون } أي المبالغون في إثبات الخفايا من الأعذار المانعة لهم من الجهاد - بما أشار إليه الإدغام ، وحقيقة المعذر أن يتوهم أن له عذراً ولا عذر له ، والعذر : إيساع الحيلة في وجه يدفع ما ظهر من التقصير { من الأعراب } قيل : هم رهط عامر بن الطفيل من بني عامر ، وقيل : اسد وغطفان ، قيل : رهط من غفار { ليؤذن } أي ليقع الإذن من أي آذن كان في تخلفهم عن الغزو { لهم } أي فاعتذروا بما كذبوا فيه وقعدوا عن الغزو معك ، هكذا كان الأصل فوضع موضعة : { وقعد الذين كذبوا الله } أي وهو المحيط علماً وقدرة { ورسوله } تنبيهاً على وصفهم وليكون أظهر في شمول الأعراب وغيرهم .
ولما كان منهم المحتوم بكفره وغيره قال : { سيصيب } أي بوعد لا خلف فيه { الذين كفروا } أي حتم بكفرهم { منهم عذاب أليم* } أي في الدارين .

ولما كان من القاعدين من أهل المدر والوبر من له عذر ، استثناهم سبحانه وساق ذلك مساق النتيحة من المقدمات الظاهرة فقال : { ليس على الضعفاء } أي بنحو الهرم { ولا على المرضى } أي بنحو الحمى والرمد { ولا على الذين لا يجدون } ولو بدين يؤدونه في المستقبل { ما ينفقون } أي لحاجتهم وفقرهم { حرج } أي إثم يميل بهم عن الصراط المستقيم ويخرج دينهم .
ولما كان ربما كان أحد من المنافقين بهذ الصفة احترز عنه بقوله : { إذا نصحوا } أي في تخلفهم وجميع أحوالهم { لله } أي الذي له الجلال والإكرام { ورسوله } أي سراً وعلانية ، فإنهم حيئنذ محسنون في نصحهم الذي منه تحسرهم على القعود على هذا الوجه وعزمهم على الخروج متى قدروا ، وقوله : { ما على المحسنين } في موضع « ما عليهم » لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم { من سبيل } أي طريق إلى ذمهم أو لومهم ، والجملة كلها بيان ل { نصحوا لله ورسوله } وقوله : { والله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي محاء للذنوب { رحيم* } أي محسن مجمل إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير والعجز وإن اجتهد ، لا يسعه إلا العفو؛ ثم عطف على ذلك قوله : { ولا على الذين إذا } وأكد المعنى بقوله : { ما أتوك } أي ولم يأتوا بغير قصدك راغبين في الجهاد معك { لتحملهم } وهم لا يجدون محملاً { قلت } أي أتوك قائلاً أو حال قولك ، « وقد » مضمرة كما قالوا في { حصرت صدورهم } [ النساء : 90 ] { لا أجد ما } أي شيئاً { أحملكم عليه } وأجاب { إذا } بقوله ويجوز أن يكون استئنافاً و « قلت » هو الجواب { تولوا } أي عن سماع هذا القول منك { وأعينهم تفيض } أي تمتلىء فتسيل ، وإسناد الفيض إليها أبلغ من حيث أنها جعلت كلها دمعاً : ثم بين الفائض بقوله : { من الدمع } أي دمعاً والأصل : يفيض دمعها ، ثم علل فيضها بقوله؛ { حزناً } ثم علل حزنهم بقوله : { ألا يجدوا } أي لعدم وجدانهم { ما ينفقون } فحزنهم في الحقيقة على فوات مرافقتك والكون في حزبك ، وهذه قصة الكبائين صرح بها وإن كانوا داخلين في { الذين لا يجدون } إظهاراً لشرفهم وتقريراً لأن الناصح - وإن اجتهد - لا غنى له عن العفو حيث بين أنهم - مع اجتهادهم في تحصيل الأسباب وتحسرهم عند فواتها بما أفاض أعينهم - ممن لا سبيل عليه أو ممن لا حرج عليه المغفور له .
ولما نفى السبيل عمن وصفه كر على ذم من انتفى عنه هذا الوصف فقال تعالى : { إنما السبيل } أي باللوم وغيره { على الذين يستأذنونك } أي يطلبون إذنك في التخلف عنك راغبين فيه { وهم أغنياء } أي فلا عذر لهم في التخلف عنك وعدم مواساتك ، وتضمن قوله تعالى مستأنفاً : { رضوا بأن يكونوا } أي كوناً كأنه جبلة لهم { مع الخوالف } انتفاء الضعف والمرض عنهم من حيث إنه علل فعلهم برضاهم بالتخلف فأفهم ذلك أنه لا علة لهم سواه ، وأفهم أيضاً أن كل من كان كذلك كان مثلهم ولو أنه ضعيف أو مريض ، وكرر ذكر الخوالف تكريراً لعيبهم برضاهم بالكون في عداد النساء إذ كان ذلك من أعظم المعايب عند العرب ، وسمى الفاعل للطبع حيث حذفه من الأولى : ولما ذكره ، عظم الأمر فاقتضى ذلك عظم الطبع فنفى مطلق العلم فقال عاطفاً على « رضوا » : { وطبع الله } أي له القدرة الكاملة والعلم المحيط { على قلوبهم } ثم سبب عن ذلك الرضى والطبع قوله : { فهم لا يعلمون* } أي لا علم له فلذلك جهلوا ما في الجهاد من منافع الدارين لهم فلذلك رضوا بما لا يرضى به عاقل ، وهو أبلغ من نفي الفقه في الأولى ، وزاد المناسبة حسناً ضم الأعراب في هذه الآيات إلى أهل الحاضرة وهم بعيدون من الفقه جديرون بعدم العلم .

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

ثم شرع يخبر عن أشياء تقع منهم عند الرجوع دلالة على أن هذا كلامه وأنه عالم بالمغيبات كليها وجزئيها ، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، فقال مبيناً لعدم علمهم : { يعتذرون } أي يثبتون الأعذار لأنفسهم : وأشار إلى بعدهم بالقلوب بقوله : { إليكم } أي عن التخلف { إذا رجعتم إليهم } أي من هذه الغزوة ، كأنه قيل : فماذا يقال في جوابهم؟ فقال للرأس الذي لا تأخذه في الله لومة لائم : { قل لا تعتذروا } أي فإن أعذاركم كاذبة ، ولذلك علل النهي بقوله : { لن نؤمن لكم } أي نصدقكم في شيء منها ، ثم علل عدم تصديقهم بما أوجب لهم القطع بذلك فقال : { من نبأنا الله } أي أعلمنا الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء إعلاماً جليلاً { من أخباركم } أي التي ظننتم جهلاً بالله أنها تخفى فقد علمناها؛ ثم هددهم بقوله : { وسيرى الله } أي لأنه عالم بكل شيء وإن دق قادر على كل شيء { عملكم } أي بعد ذلك أتتبينون أم تثبتون على حالكم هذا الخبيث كما رأى الذي قبل { ورسوله } أي بما يعلمه به سبحانه وحياً أو تفرساً ، ولما كان الكلام في المنافقين ، فكانت الرؤية لنفاقهم الذي يجتهدون في إخفائه ، وكان المؤمنون لا اطلاع لجميعهم عليهم ، لم يذكرهم بخلاف من يأتي بعد فإنهم مؤمنون .
ولما كان هذا ربما أوهمهم أنه لا يعلم إلا ما أوقعوه بالفعل ، نفى ذلك بإظهار وصفه في موضع الإضمار مهدداً بقوله مشيراً بأداة التراخي إلى استبعادهم لقيامهم إلى معادهم : { ثم تردون } أي براد قاهر لا تقدرون على دفاعه بعد استيفاء آجالكم بالموت وإن طالت ثم البعث { إلى عالم الغيب } وهو ما غاب عن الخلق { والشهادة } وهو ما اطلع عليه أحد منهم . فصار بحيث يطلعون عليه وهذا ترجمة عن الذي يعلم الشيء قبل كونه ما يعلم بعد كونه { فينبئكم } أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستوعباً { بما كنتم } أي بجبلاتكم { تعملون* } أي مما أبرزتموه إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم ، ولو تأخرتم لبرز ، وهو تهديد عظيم ، ووقع ترتيبهم للاعتذار على الأسهل فالأسهل على ثلاث مراتب : الأولى مطلق الاعتذار وقد مضى ما فيها؛ الثانية تأكيد ذلك بالحلف للإعراض عنهم فقال سبحانه : { سيحلفون بالله } أي الذي لا أعظم منه { لكم إذا انقلبتم إليهم } أي جهد إيمانهم أنهم كانوا معذورين في التخلف كذباً منهم إرادة أن يقلبوا قلوبكم عما اعتقدتم فيهم { لتعرضوا عنهم } أي إعراض الصفح عن معاتبتهم { فأعرضوا عنهم } إعراض المقت؛ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لا تجالسوهم ولا تكلموهم » ثم علل وجوب الإعراض بقوله { إنهم رجس } أي لا يطهرهم العتاب فهو عبث .

ولما كان من المقرر أنه لا بد لهم من جزاء ، وأن النفس تتشوف إلى معرفته ، قال : { ومأواهم } أي في الآخرة { جهنم جزاء } أي لأجل جزائهم { بما كانوا يكسبون* } أي فلا تتكلفوا لهم جزاء غير ذلك بتوبيخ ولا غيره؛ المرتبة؛ الثالثة الحلف للرضى عنهم فقال : { يحلفون لكم } أي مجتهدين في الحلف بمن تقدم أنهم يحلفون به وهو الله { لترضوا عنهم } خوفاً من غائلة غضبكم { فإن ترضوا عنهم } أي لمجرد أيمانهم المبني على عدم إيمانهم { فإن الله } أي الذي له الغنى المطلق { لا يرضى } عنهم ، هكذا كان الأصل ولكنه قال : { عن القوم الفاسقين* } إشارة إلى تعليق الحكم بالوصف وتعميماً لكل من اتصف بذلك ، والمعنى أنه لا ينفعهم رضاكم وتكونون به مخالفين الله ، فهو في الحقيقة نهي للمؤمنين عن الرضى عنهم ، أبرز في هذا الأسلوب العجيب المرقص ، وفي ذلك رد على من يتوهم أن رضى المؤمنين لو رضوا عنهم يقتضي رضى الله ، فإن ذلك رد نزعة مما يفعل الأحبار والرهبان في رضاهم وغضبهم وتحليلهم وتحريمهم الذي يعتقد أتباعهم أنه عن الله تعالى .
ولما ترتب سبحانه الاستئذان في العقود والرضى بما فيه من الدناءة على عدم الفقه تارة والعلم أخرى وختم بصنف الأعراب ، بين أن الأعراب أولى بذلك لكونهم أعرق في هذا الوصف وأجرأ على الفسق لبعدهم عن معدن العلم وصرفهم أفكارهم في غير ذلك من أنواع المخازي لتحصيل المال الذي كلما داروا عليه طار عنهم فأبعد . فهم لا يزالون في همه قد شغلهم ذلك عن كل هم وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً فقال تعالى : { الأعراب } أي أهل البدو { أشد } أي من أهل المدر { كفراً ونفاقاً } لبعدهم عن دار الهجرة ومعدن العلم وجفائهم بأن مرائي قلوبهم لم تصقل بأنوار الكتاب والسنة { وأجدر أن } أي وأحق بأن { لا يعلموا } ولما كان الإحجام أصعب من الإقدام ، وأطراف الأشياء المختلطة في غاية الإلباس ، قال : { حدود ما أنزل الله } أي المحيط علماً وحكمة بكل شيء { على رسوله } أي الذي أعلم الخلق من القرآن والشرائع والأحكام لعدم إقبالهم عليه شغلاً بغيره فإن الله يعلم ذلك منهم { والله } أي الذي له جميع صفات الكمال { عليم } أي بالغ العلم بكل شيء { حكيم* } أي بالغ الحكمة فهو يضع الأشياء في أتم محالها .
ولما أثبت هذا الوصف لهذا الصنف بين أن أفراده انقسموا إلى من ثبت على ما هو الأليق بحالهم ، وقسم نزع إلى ما هو الأليق بأهل المدر ، كما انقسم أهل المدر إلى مثل ذلك ، وبدأ بالخبيث لأنه الأصل فيهم فقال : { ومن الأعراب } أي المذكورين { من يتخذ } أي يتكلف غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الأريحية والهمم العلية بأن يعد { ما ينفق مغرماً } أي فلا يبذله إلا كرهاً ولا يرى له فائدة أخروية بل يراه مثل الصنائع بالنهب ونحوه { ويتربص } أي يكلف نفسه الربص ، وهو أن يسكن ويصبر وينتظر { بكم الدوائر } أي الدواهي التي تدور بصاحبها فلا يتخلص منها ، وذلك ليستريح من الإنفاق وغيره مما ألزمه به الدين .

ولما تربصوا هذا التربص ، دعا عليهم بمثل ما تربصوا فقال : { عليهم دائرة السوء } أي دائماً لا تنفك إما بإذلال الإسلام وإما بعذاب الاصطلام ، فهم فيما أرادوه بكم على الدوام ، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم السين على أن معناه الشر والضر ، وقراءة الباقين بالفتح على أنه مصدر ، فهو ذم للدائرة .
ولما كان الانتقام من الأعداء وإيقاع البأس بهم لا يتوقف من القادر غالباً إلا على سماع أخبارهم والعلم بها ، جرت سنته تعالى في ختم مثل بقوله : { والله } أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الكاملة { سميع } يسمع ما يقولون { عليم* } أي فهو يعلم ما يضمرون عطفاً على نحو أن يقال : فالله على كل شيء قدير ، ونحوه قوله { إنني معكما أسمع وأرى } .

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)

ولما افتتح الآية الثانية بقوله : { ومن الأعراب من يؤمن } أي لا يزال يجدد إيمانه آثار الدين { بالله واليوم الآخر } علم أن القسم الأول غير مؤمن بذلك ، وإنما وقع منهم الإقرار باللسان من غير إذعان ، والإيمان هو الأصل الذي يترتب عليه الإنفاق عن طيب نفس لما يرجى من ثوابه في اليوم الآخر الذي لولا هو انتفت الحكمة من هذا الخلق على هذا الترتيب : ثم عطف عليه ما يثمره الإيمان فقال : { ويتخذ } أي يحث نفسه ويجاهدها إن عرضت له الوساوس الشيطانية على أن يعد { ما ينفق } أي فيما أمر الله به { قربات } جمع قربة لما تقرب إليه سبحانه { عند الله } أي الذي لا أشرف من القرب منه لأنه الملك الأعظم { وصلوات } أي دعوات { الرسول } أي الذي وظيفته التبليغ فهو لا يقول لهم شيئاً إلا عن الله ، وأطلق القربة والصلاة على سببها .
ولما أخبر عن أفعالهم ، أخبر عن عاقبتهم ومآلهم؛ قال مستأنفاً محققاً لرجائهم ترغيباً في الصدقة بأبلغ تأكيد لما لأعدائهم من التكذيب : { ألا إنها } أي نفقاتهم { قربة لهم } أي كما أرادوا؛ ثم بين ثمرة كونها قربة بقوله : { سيدخلهم الله } أي الذي له صفات الكمال بوعد لا خلف فيه { في رحمته } أي إكرامه فتكون محيطة بهم ثم علل ذلك بقوله معبراً بالاسم الأعظم تنبيهاً على أنه لا يسع الإنسان إلا العفو وإن أعظم الاجتهاد : { إن الله } أي الذي الذي لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره { غفور } أي بليغ الستر لقبائح من تاب { رحيم* } أي بليغ الإكرام ، ذلك وصف له ثابت ، يجلله كل من يستأهله .
ولما ذكر القسم الصالح منهم وكانوا متفاوتين فمنهم السابق وأكثرهم التابع اللاحق ، أتبعه السابقين على وجه شامل حاصر لصنفي البادي والحاضر إشارة إلى أنه - وإن أجره - أصله فقد قدمه وصفه بحيث ساوى أهل الكمال في مطلق الانخراط في ملكهم والفوز بدرجتهم لإحسانه في اتباعهم ترغيباً لأهل القدرة والرحمة في اتباع أهل الرضوان والنعمة فقال : { والسابقون } ولما دل على سبقهم بالعلو في مراتبه دل على قديم دخولهم فيه فقال : { الأولون } أي إلى هذا الدين القيم { من المهاجرين } أي لدار الكفر فضلاً عن أهلها { والأنصار } أي الذين آووا ونصروا { والذين اتبعوهم } أي الفريقين { بإحسان } أي في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقهم { رضي الله } أي الذي له الكمال كله { عنهم } أي بأفعالهم هذه التي هي وفق ما أمر به { ورضوا عنه } أي بما أتاهم عنه من البشرى وقذف في قلوبهم من النور بلطيف الوعظ والذكرى { وأعد لهم } أي جزاء على فعلهم { جنات تجري } ونبه على عموم ريّها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة الجماعة فقال : { تحتها الأنهار } أي هي كثيرة المياه . فكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه نهر؛ ولما كان المقصود من الماء إنما هو السهولة في إنباطه بقربه ويسر جريه وانبساطه أثبته ابن كثير دلالة على ذلك كسائر المواضع ، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف لأنه يخص هذه الأمة ، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رياً وحسناً وزياً .
ولما كان أعظم العيوب الانقطاع ، نفاه بقوله : { خالدين فيها } وأكد المراد من الخلود بقوله : { أبداً } ثم استأنف مدح هذا الذي أعده لهم بقوله : { ذلك } أي الأمر العالي المكانة خاصة { الفوز العظيم* } .

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)

ولما استوفى الأقسام الأربعة : قسمي الحضر وقسمي البدو ثم خلط بين قسمين منهم تشريفاً للسابق وترغيباً للاحق ، خلط بين الجميع على وجه آخر ثم ذكر منهم فرقاً منهم من نجز الحكم بجزائه بإصرار أو متاب . ومنهم من أخر أمره إلى يوم الحساب ، وابتدأ الأقسام بالمستور عن غير علمه ليعلم أهل ذلك القسم أنه سبحانه عالم بالخفايا فلا يزالوا أذلاء خوفاً مما هددهم به فقال مصرحاً بما لم يتقدم التصريح به من نفاقهم : { وممن حولكم } أي حول بلدكم المدينة { من الأعراب } أي الذين قدمنا أنهم أشد كفراً لما لهم من الجفاء { منافقون } أي راسخون في النفاق ، وكأنه قدمهم لجلافتهم وعتوهم ، وأتبعهم من هو أصنع منهم في النفاق فقال : { ومن أهل المدينة } أي منافقون أيضاً؛ ثم بين أنهم لا يتوبون بوصفهم بقوله : { مردوا } أي صُلبوا وداموا وعتوا وعسوا وعصوا وصار لهم به دربة عظيمة وضراوة حتى ذلت لهم فيه جميع أعضائهم الظاهرة والباطنة وصار لهم خلقاً { على النفاق } أي استعلوا على هذا الوصف بحيث صاروا في غاية المكنة منه؛ ثم بين مهارتهم فيه بقوله : { لا تعلمهم } أي بأعيانهم مع ما لك من عظيم الفطنة وصدق الفراسة لفرط توقيهم وتحامي ما يشكل من أمره؛ ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله : { نحن } أي خاصة { نعلمهم } ثم استأنف جزاءهم بقوله : { سنعذبهم } أي بوعد لا خلف فيه { مرتين } أي إحداهما برجوعك سالماً وشفوف أمرك وعلو شأنه وضخامة أركانه وعز سلطانه وظهور برهانه ، فإنهم قطعوا لغباوتهم وجلافتهم وقساوتهم كما أشرت إليه بقولي { ويتربص بكم الدوائر } - أنك لا ترجع هذه المرة من هذه السفرة لما يعرفونه من ثباتك للأقران ، وإقدامك على الليوث الشجعان ، واقتحامك للأهوال ، إذا ضاق المجال ، ونكص الضراغمة الأبطال ، ومن عظمة الروم وقوتهم وتمكنهم وكثرتهم ، وغاب عن الأغبياء وخفي عن الأشقياء الأغنياء أن الله الذي خلقهم أعظم منهم وأكبر ، وجنوده أقوى من جنودهم وأكثر؛ والثانية بعد وفاتك بقهر أهل لردة ومحقهم ورجوع ما أصلته بخليفتك الصديق رضي الله عنه إلى ما كان عليه في أيامك من الظهور وانتشار الضياء والنور والحكم على من خالفه بالويل والثبور ، وسيأتي أنه يمكن أن تكون المرة الثانية إخراب مسجد الضرار والإخبار بما أضمروا في شأنه من خفي الأسرار { ثم يردون } أي بعد الموت { إلى عذاب عظيم* } أي لا يعلم عظمة حق علمه إلا الله تعالى ، وهو العذاب الأكبر الدائم الذي لا ينفك أصلاً .
ولما ذكر هذا القسم المارد الجافي ، ثنى بمقابلة اللين الصافي ، وهي الفرقة التي نجز المتاب عليها والنظر بعين الرحمة إليها فقال : { وآخرون } أي ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة آخرون { اعترفوا بذنوبهم } أي كلفوا أنفسهم ذكرها توبة منهم ندماً وإقلاعاً وعزماً ولم يفزعوا إلى المعاذير الكاذبة وهو المقتصدون .

ولما كان الخلط جمعاً في امتزاج ، كان بمجرد ذكره يفهم أن المخلوط امتزج بغيره ، فالإتيان بالواو في { آخر } يفهم أن المعنى : { خلطوا عملاً صالحاً } بسيىء { وآخر سيئاً } بصالح ، فهو من ألطف شاهد لنوع الاحتباك ، ولعل التعبير بما أفهم ذلك إشارة إلى تساوي العملين وأنه ليس أحدهما بأولى أحدهما بأولى من الآخر أن يكون أصلاً ، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أناس رآهم في المنام شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح كما رواه البخاري في التفسير عن سمرة رضي الله عنه ثم أوجب تحقيق توبتهم الملزومة للاعتراف بقبولها بقوله : { عسى الله } أي بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال { أن يتوب عليهم } فإن { عسى } منه سبحانه وتعالى واجبه لأن هذا دأب الملوك ولعل التعبير بها يفيد - مع الإيذان بأنه لا يجب عليه لأحد شيء وأن كل إحسان يفعله فإنما هو على سبيل الفضل إشارة إلى أنهم صاروا كغيرهم من خلص المؤمنين غير المعصومين في مواقعة التقصير وتوقع الرحمة من الله بالرجوع بهم إلى المراقبة ، فكما أن أولئك معدودون في حزب الله مع هذا التقصير المرجو له العفو فكذلك هؤلاء؛ ثم علل فعله بهم مرجياً للمزيد بقولع : { إن الله } أي ذا الجلال والإكرام { غفور رحيم* } أي لم يزل موصوفاً بقبول المعرض إذا أقبل وإبدال سئيه بحسن فضلاً منه وإكراماً؛ روى البخاري في صحيحه في التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : « أتاني الللية آتيان فابتعثاني فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء ، قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي : هذه جنة عدن ، وهذاك منزلك ، قالا : أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عفا الله عنهم » .
ولما كان من شأن الرضوان قبول القربان ، أمره صلى الله عليه وسلم تطهيراً لهم وتطييباً لقلوبهم بقوله : { خذ } ورحمهم بالتبعيض فقال : { من أموالهم صدقة } أي تطيب أنفسهم بإخراجها { تطهرهم } أي هي من ذنوبهم وتجري بهم مجرى الكفارة { وتزكيهم } أي أنت تزيدهم وتنميهم { بها } بتكثير حسناتهم { وصل } أي اعطف { عليهم } وأظهر شرفهم بدعائك لهم؛ ثم علل ذلك بقوله : { إن صلواتك } أي دعواتك التي تصلهم بها فتكون موصلة لهم إلى الله { سكن لهم } أي تطمئن بها قلوبهم بعد قلق الخوف من عاقبة الذنب لما يعلمون من أن القبول لا يكون إلا ممن حصل له الرضى عنهم ومن أن الله سمع قولك إجابة لك ويعلم صدقك في صلاحهم { والله } أي المحيط بكل شيء { سميع عليم* } أي لكل ما يمكن أن يسمع وما يمكن أن يعلم منك ومنهم ومن غيركم ، فهو جدير بالإجابة والإثابة ، وذلك أن هذا الصنف لما اشتد ندمهم على التخلف أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فسأل عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم فقيل : ندموا على التخلف عنك فحلفوا : لا يطلقهم إلا أنت ، فقال : وأنا أطلقهم حتى أومر بذلك ، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات فقالوا : يارسول الله! هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها! فقال : ما أمرت بذلك ، فلما أنزل الله هذه الآية أخذ الثلث فتصدق به .

ولما ساق توبتهم سبحانه في حيز { عسى } ، وكان الأصل فيها الترجية في المحبوب والإشفاق في المكروه ، وأمر سبحانه بالأخذ من أموالهم لذلك ، وكان إخراج المال شديداً على النفوس لا سيما في ذلك الزمان ، كان ربما استوقف الشيطان من لم يرسخ قدمه في الإيمان عن التوبة وما يترتب عليها من الصدقة لعدم الجزم بأنها تقبل ، فأتبع ذلك سبحانه بقوله : { ألم يعلموا } أي المعترفون بالذنوب حتى تسمح أنفسهم بالصدقة أو غيرهم حتى يرغبوا في التوبة والصدقة { أن الله } أي الذي له الكمال كله { هو } أي وحده { يقبل } أي من شأنه أن يقبل { التوبة } تجاوزاً { عن عباده } أي التائبين المخلصين { ويأخذ } أي يقبل قبول الآخذ لنفسه { الصدقات } أي ممن يتقرب بها إليه بنية خالصة { وأن الله } أي المحيط بصفتي الجلال والإكرام { هو } أي وحده { التواب الرحيم* } أي لم يزل التجاوز والإكرام من شأنه وصفته ، وفي ذلك إنكار على غيرهم من المختلفين في كونهم لم يفعلوا مثل فعلهم من الندم الحامل على أن يعذبوا أنفسهم بالإيثاق في السواري ويقربوا بعض أموالهم كما فعل هؤلاء أو نحو ذلك مما يدل على الاعتراف والندم .

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)

ولما أمره من تطهيرهم بما يعيدهم إلى ما كانوا عليه قبل الذنب ، عطف على قوله { خذ } قوله تحذيراً لهم من مثل ما وقعوا فيه : { وقل اعملوا } أي بعد طهارتكم { فسيرى الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { عملكم } أي بما له من إحاطة العلم والقدرة فاعملوا عمل من يعلم أنه بعين الله { ورسوله } أي بإعلام الله له . ولما كان هذا القسم من المؤمنين فكانت أعمالهم لاخفاء فيها ، قال { والمؤمنون } فزينوا أعمالكم جهدكم وأخلصوا ، وفي الأحاديث « لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها لأظهر الله علمه للناس كائناً ما كان » .
ولما كان هذا السياق للمؤمنين حذف منه « ثم » لكنه لما كان للمذنبين ، أكد بالسين فقال : { وستردون } أي بوعد لا خلف فيه { إلى عالم الغيب والشهادة } أي بعد الموت والبعث { فينبئكم } أي بعلمه بكل شيء { بما كنتم تعملون* } أي ما أظهرتم عمله وما كان في غرائزكم ، فلو تأخرتم تظهرتم ، يجاريكم على حسنة ويزيد من فضله ، وعلى سيئة عدلاً إن شاء ولا يظلم مثقال ذرة .
ولما ذكر القسمين المنجز عذابهم ومثابهم ، ذكر المؤخر أمرهم وهو القسم الظالم لنفسه في الذي بدأ به في سورة فاطر سورة الحشر الآخر ، ولا يبعد أن تكون هذه سورة الحشر الأول لأنه صلى الله عليه وسلم ساق الناس إلى أرض المحشر فقال : { وآخرون } أي ومنهم آخرون { مرجون } أي مؤخرون بين الرجاء والخوف { لأمر الله } أي لما يأمر به فيهم الملك الأعظم الذي له الأمر كله لا يدرون أيعذبون أم يرحمون؛ وقدم قوله - : { إما يعذبهم } إن أصروا - تخويفاً لهم حملاً على المبادرة إلى التوبة وتصفيتها والإخلاص فيها وحثاً على أن يكون الخوف ما دام الإنسان صحيحاً أغلب وثنى بقوله : { وإما يتوب عليهم } أي إن تابوا ترجية لهم وترقيقاً لقلوبهم بالتذكير بمنزل الأُنس الذي أخرجوا أنفسهم منه ومنعوها من حلوله وطيب مستقره ومقيله وحليّ أوقاته وعليّ مقاماته وشهيّ أقواته .
ولما كان ربما قال قائل : ما فائدة التأخير وما المانع من التنجيز؟ قال : { والله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { عليم حكيم* } ترهيباً وترغيباً وتبعيداً وتقريباً واحتراساً مما قد يوهمه الترديد من الشك وتدريباً ، وقراءة غفور رحيم للزيادة في الترجية .
ولما ذكر الذين أقامهم في مقام الخطر أتبعه تعيين طائفة من القسم الأول المستور الموصوف بالمرود ، فألحق بهم الضرر فقال : { والذين } وهو معطوف في قراءة من أثبت الواو على قوله { وآخرون } وخبره على ما يليق بالقصة : منافقون ماردون ، وأما على قراءة المدنيين وابن عامر بحذفها فيكون على تقدير سؤال سائل ، وذلك أنه لما قال تعالى { لا تعلمهم نحن نعلمهم } تشوفت النفس إلى الإعلام بهم ، فلما قال { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } اشتغل السامع بتفهمه ، وربما ظن أنه يأتي في آخر الكلام من تسميتهم ما يغنيه عن السؤال ، فلما إنتقل بقوله { وآخرون مرجون } إلى قسم آخر ، وختم الآية بصفتي العلم والحكمة ليعلم أن الترديد للتقسيم وأنه إن كان شك فهو بالنسبة إلى العباد وأما الله تعالى فمنزه عنه فذكر السامع بالصفتين ما كان دار في خلده ومال إليه قلبه من الإعلام بالماردين على النفاق ، فاشتد تشوفه إليه فكان كأنه قال : منْ منَ الماردين منهم؟ فقال تعالى الذين { اتخذوا مسجداً } أي من الماردين وهم من أعظمهم مهارة في النفاق وإخفاء الكيد والشقاق لأنهم توصلوا إلى ذلك بأن كلفوا أنفسهم الأخذ لأعظم عرى الدين مع المنازعة للفطرة الأولى والحذر من أن يفضحوا ، فكان ختام هذه الآية من بديع الختام فإن احتراس عما يتوهم فيما قلبه ودليل على ما بعده ، ولذلك ختم قصتهم أيضاً بصفتي العلم والحكمة ، ولاح من هذا أن قوله { سنعذبهم مرتين } يمكن أن يراد به : مرة برجوعك ، ومرة بإخرابك مسجدهم وتفريقك لشملهم بعد هتك سرائرهم بكشف ضمائرهم ، وبَيَّنَ سبحانه علة اتخاذهم بقوله : { ضراراً } أي لأهل مسجد قباء أو لحزب الله عامة { وكفراً } أي بالله لاتخاذ دينه هزؤاً { وتفريقاً } أي مما يبيتونه من المكايد باستجلابهم لبعض من يخدعونه من المؤمنين ويطمعون فيه ليأتي مسجدهم ويترك المسجد المؤسس على التقوى { بين المؤمنين } أي الراسخين في الإيمان بما جاء من عند الله ، لأنهم كانوا يجتمعون في مسجد قباء فيغتص بهم { وإرصاداً } أي إعداداً وانتظاراً { لمن حارب الله } أي الملك الأعظم { ورسوله } ولما لم تكن محاربتهم مستغرقة للزمن الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبل } أي قبل اتخاذهم لهذا المسجد بزمن قريب وهو أبو عامر الفاسق ليأتي إليهم فيزيدهم قوة على نفاقهم بأن يصير كهفاً يأوون إليه ورأساً لهم يتجمعون عليه

« وذلك أنه كان من بني غنم بن عوف ، وهو والد حنظلة الغسيل الذي كان من خيار الصحابة ، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له : ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال : الحنيفية دين إبراهيم ، قال : أبو عامر : أنا عليها ، قال صلى الله عليه وسلم : لست عليها ، قال : بلى ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها ، قال : ما فعلت ، ولكني جئت بها بيضاء نقية ، قال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريداً شريداً وحيداً غريباً! فقال صلى الله عليه وسلم : آمين! وسماه الفاسق ، ثم تحيز إلى قريش وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم معهم يوم أحد وقال : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلما قاتل يوم حنين مع هوازن وانهزموا أيس وهرب إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجنود ومخرج محمداً! وكانوا قد حسدوا إخوانهم بني عمرو بن عوف على مسجد قباء لما بنوه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه ويصلي فيه ، فبنوا مسجد الضرار وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم ليأتيهم فيصلي فيه ، وكان يتجهز لتبوك فقال : أنا على جناح سفر وحال شغل ، وإذا قدمنا صلينا فيه إن شاء الله! فلما قدم فكان قريباً من المدينة نزلت الآية ، فدعا مالك بن الدخشم وجماعة وقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ، ففعلوا ، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يتخذ مكانه كناسه يلقي فيها الجيف والقمامه؛ ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً طريداً »

وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو لغرض ليس به إخلاص أو بمال مشتبه فهو لاحق بمسجد الضرار .
ولما أخبر عن سرائرهم ، أخبر عن نفاقهم في ظواهرهم بقوله : { وليحلفن } أي جهد أيمانهم { إن } أي ما { أردنا } أي باتخاذ له { إلا الحسنى } أي من الخصال؛ ثم كذبهم بقوله : { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { يشهد } أي يخبر إخبار الشاهد { إنهم لكاذبون* } وقد بان بهذا كله أن سبب فضيحتهم ما تضمنه فعلهم من عظيم الضرر للإسلام وأهله؛ ثم قال ناهياً عن إجابتهم إلى ما أرادوا به من التلبيس إنتاجاًعن هذا الكلام الذي هو أمضى من السهام : { لا تقم فيه } أي مسجد الضرار { أبداً } أي سواء تابوا أو لا ، وأراد بعض المخلصين أن يأخذه أولاً ، اي لا بد من إخرابه ومحو أثره عن وجه الأرض .
ولما ذمه وذم أهله ، مدح مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، إما الذي بالمدينة الشريفة وإما الذي ببني عمرو بن عوف بقباء على الخلاف في ذلك . وهو الذي اتخذ في أول الإسلام مسجداً إحساناً وإيماناً وجمعاً بين المؤمنين وإعداداً لمن صادق الله ورسوله ، ومدح أهله إرشاداً لكل من كان مال إليه من المؤمنين لقرب أو غيره إلى العوض عنه ، ولعله أبهم تعيينه وذكر وصفه ليكون صالحاً لكل من المسجدين .
لما اتصف بهذا الوصف من غيرهما فقال مؤكداً تعريفاً بما له من الحق ولما للمنافقين من التكذيب : { لمسجد أُسس } أي وقع تأسيسه { على التقوى } أي فأحاطت التقوى به لأنها إذا أحاطت بأوله أحاطت بآخره؛ ولما كان التأسيس قد تطول مدة أيامه فيكون أوله مخالفاً لآخره ، قال : { من أول يوم } أي من أيام تأسيسه ، وفيه إشارة إلى ما تقدم من احتمال أن يريد أحد من أهل الإخلاص أن يتخذه مصلى ، فبين أنه لايصلح لذلك لأن تأسيسه كان لما هو مباعد له { أحق أن تقوم فيه } أي بالصلاة والوعظ وغيره من مسجد لم يقصد به التقوى على التقدير فرض محال إلا في ثاني الحال .
ولما مدحه مدح أهله بقوله : { فيه رجال } أي لهم كمال الرجولية { يحبون أن يتطهروا } أي في أبدانهم وقلوبهم كمال الطهارة - بما أشار إليه الإظهار ، فهم دائماً في جهاد أنفسهم في ذلك فأحبهم الله { والله } أي الذي له صفات الكمال { يحب } أي يفعل ما يفعل المحب من الإكرام بالفضل والإحسان ، ولإثبات ما أفهم الاجتهاد حصل الغنى عن إظهار تاء التفعل أو للندب إلى الطهارة ولو على أدنى الوجوه المجزئة فقال : { المطهرين* } أي قاطبة منهم ومن غيرهم .

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

ولما علم من هذا بطريق الإشارة والتلويح أن التأسيس مثل ابتداء خلق الحيوان ، فمن جبل من أول مرة جبلة شر لا يصلح للخير أبداً ولا يقبله كما قال تعالى { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } [ الأنفال : 23 ] ذكره على سبيل التصريح فسبب عما مضى قوله ممثلاً الباطل ببناء على حرف واد واه جداً على شفير جهنم : { أفمن أسس بنيانه } أي كما أشرت إليه في المسجد المحثوث بالإقبال عليه { على تقوى من الله } أي الملك الأعلى { ورضوان } فكان كمن بنى بنيانه على جبل لا تهدمه الأمطار ولا تؤثر فيه السيول { خير أم من أسس بنيانه } على فسق وفجور وعدم اكتراث بالأمور فكان كمن بنى بنيانه { على شفا } أي حرف ، ومنه الشفه { جرف } أي مكان جفرة السيل وجرفه فصار مشرفاً على السقوط ، ولذلك قال : { هار } أي هائر ، من هار الجرف - إذا أشرف لتخريق السيول على السقوط { فانهار } أي فكان بناؤه لذلك سبباً لأنه سقط سقوطاً لا تماسك معه { به } أي وهو فيه آمناً من سقوطه بقلة عقله وسفاهة رأيه { في نار جهنم } فالجواب : لا شك الأول خير بل ، لا خير في الثاني أصلاً ، والعجب كل العجب من كونه بنى هذا البناء هكذا ، فأجيب بأنه لا عجب لأن الأمر بيد الله ، لا مفر من قضائه ، وهو قد هدى الأول إلى ما فيه صلاحه ، ولم يهد الثاني لما علم فيه من عدم قابلية الخير { والله } الذي له صفات الكمال { لا يهدي القوم } أي الذين لهم قوة المحاولة لما يريدون { الظالمين* } أي المطبوعين على ظلام البصائر ، فهم لا يكفرون في شيء إلا جاء في غير موضعه وعلى غير نظام كخطوات الماشي في الظلام ، وقد علم أن الآية من قبيل الاحتباك : أثبت أولاً التقوى لأن أهل الإسلام أحق بها ، فدلت على حذف ضدها ثانياً ، وأثبت ثانياً ضعف البناء حساً لأن مسجد الضرار أولى به ، فدل على حذف ضده أولاً ، فذكر النهاية المعقولة لأهلها والبداية المحسوسة للناظرين لها؛ وروي عن جابر رضي الله عنه قال : رأيت الدخان من مسجد الضرار؛ وحكي عن خلف بن يسار أنه رأى فيه حجراً يخرج منه الدخان في أول دولة بني العباس .
ولما كان ما تقدم غير قاطع في إخرابه لما ثبت للمساجد من الحرمة ، استأنف الإخبار عن أنه لا يعد في عداد المساجد بوجه ، وإنما هو في عداد بيوت الأصنام فهو واجب الإعدام فقال : { لا يزال بنيانهم } أي نفس المبنى وهو المسجد { الذي بنوا ريبة } أي شكاً ونفاقاً { في قلوبهم } كما أن بيوت الأصنام كذلك لأهلها ، فكان ذلك حثاً على إخرابه ومحوه وقطع أثره . والمعنى أنه جامع لهم على الريبة في كل زمان يمكن أن يكون { إلا أن } ولما كان القطع محصلاً للمقصود من غير نظر إلى قاطع معين ، قال بانياً للمفعول : { تقطع قلوبهم } أي إلا زمان يوجد فيه القطع البليغ الكثير لقلوبهم وعزائمهم ويباعد بينهم ويفرق شملهم بإخراجه ، وقراءة يعقوب ب « إلى » الجارة واضحة في المراد ، أو يكون المراد أنه لايزال حاملاً لهم على التصميم على النفاق إلى أن يموتوا ، فهو كناية عن عدم توبتهم .

ولما كان التقدير : فالله عليم بما أخبركم به فلا تشكوا فيه ، عطف عليه تعميماً للحكم وتعظيماً للأمر قوله : { والله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء { عليم } أي بالغ العلم بكل معلوم { حكيم* } فهو يتقن ما يأمر به .
ولما تقدم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى { ما لكم إذا قيل لكم انفروا } [ التوبة : 38 ] ثم الجزم بالأمر بالجهاد بالنفس والمال في قوله { انفروا خفافاً وثقالاً } [ التوبة : 41 ] وكان أمره تعالى كافياً للمؤمن الذي صدق إيمانه بالإسلام في امتثاله لذلك في منشطه ومكرهه ، وكان كثير منهم قد فعلوا بتثاقلهم ما يقدح في إيمانهم طعماً في ستره بمعاذيرهم وإيمانهم ، اقتضى المقام تبكيت المتثاقلين وتأنيب المنافقين على وجه مهتك لأستارهم مكشف لأسرارهم ، فلما استوفى تعالى في ذلك أقسامهم ، ونكس ألويتهم وأعلامهم ، وختمهم بهذه الطائفة التي ظهر فيها امتثاله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } بأن هدّ مسجدهم وحرقة بالنار وأزال بنيانه وفرقة ، وقدّ أديمه عن جديد الأرض ومزقه ، أتبع ذلك سبحانه بتذكير المؤمنين ما أمرهم به في قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } وقوله { انفروا خفافاً وثقالاًً } ليفعلوا فيه ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ، فساق مساق الجواب لسؤال من كأنه قال : لقد طال المدى وعظم الخطب في هذه السورة في إبانة الفضائح وهتك السرائر وإظهار القبائح ، فلم فعل ذلك وقد جرت عادته بالأمر بالستر وأخذ العفو؟ قوله : { إن الله } أي الملك الذي لا ملك في الحقيقة غيره ولا يخشى إلا عذابه ولا يرجى إلا خيره { اشترى } أي بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة ، ولذلك عبر بما يدل على اللجاج فيها فقال : { من المؤمنين } أي بالله وما جاء من عنده ، وقدم النفس إشارة إلى المبايعة سابقة على اكتساب المال فقال مقدماً للأعز : { أنفسهم } أي التي تفرد بخلقها { وأموالهم } أي التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم .
ولما ذكر المبيع أتبعه الثمن فقال : { بأن لهم الجنة } أي خاصة بهم مقصورة عليهم ، لا يكون لغير مؤمن ، فميزهم حتى يقابل كل بما يستحقه ، فكأنه قيل : اشترى منهم ذلك بماذا؟ فقيل : { يقاتلون في سبيل الله } أي الملك الأعلى بسبب دينه الذي لا يرضي غيره ، قتالاً يكون الدين محيطاً به وظرفاً ، فلا يكون فيه شائبة لغيره؛ ثم سبب عن ذلك ما هو حقيق به ، فقال : { فيقتلون و يقتلون } أعم من يكون ذلك بالقوة أو بالفعل ، فيخصهم بالجنة كما وعدهم ، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أمدح ، لأن من طلب الموت - لا يقف له خصمه فيكون المعنى : فطلبوا أن يكونوا مقتولين فقتلوا أقرانهم ، ويجوز أن يكون النظر إلى المجموع فيكون المعنى أنهم يقاتلون بعد رؤية مصارع أصحابهم من غير أن يوهنهم ذلك ، وعن بعض الأعراب أنه لما سمع هذه الاية قال : بيع والله مربح! لا نقيل ولا نستقيل ، فخرج إلى الغزو فاستشهد .

ولما كان القتل لكونه سبباً للجنة بشارة ووعداً ، أكد ذلك بقوله : { وعداً } وزاده بحرف الإيجاب فقال : { عليه } وأتم التأكيد بقوله : { حقاً } ولما أكد هذه المبايعة الكريمة هذه التأكيدات العظيمة ، زاد ذلك بذكره في جميع الكتب القديمة فقال : { في التوراة } كتاب موسى عليه السلام { والإنجيل } كتاب عيسى عليه السلام { والقرآن } أي الكتاب الجامع لكل ما قبله ولكل خير ، وهؤلاء المذكورون في هذه السورة كلهم ممن ادعى الإيمان وارتدى به حلل الأمان ، ثم إنهم فعلوا بتخلفهم عن الإقباض وتوقفهم عن الإسراع والإيقاض وغير ذلك من أقوالهم ومساوىء أفعالهم فعل الكاذب في دعواه أو الشاك أعم من أن يكون كذب بالآخرة المشتملة على الجنة أو يكون شك في وعد الله بإيراثهم إياها أو بتخصيصهم بها ، وجوز أن يدخلها غيرهم وطمع أن يكون هو ممن يدخلها مع التكذيب ، والله تعالى منزه عن جميع ذلك وهو وفي بعهده { ومن } أي وعد بذلك والحال أنه أوفى المعاهدين فهو مقول فيه على طريق الاستفهام الإنكاري : من { أوفى بعهده من الله } أي الذي له جميع صفات الكمال لأن الإخلاف لا يقدم عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق .
ولما كان ذلك سبباً للتبشير ، لأنه لا ترغيب في الجهاد أحسن منه ، قال مهنئاً لهم : { فاستبشروا } أي فأوجدوا في نفوسكم غاية البشر يا معاشر المجاهدين ولما ذكره في ابتداء العقد يدل على التأكيد ، ذكره في آخر بلفظ يدل على السعة إشارة إلى سعة الجزاء فقال : { ببيعكم الذي بايعتم } أي أوقعتم المبايعة لله { به } فإنه موفيكم لا محالة فذلك هو الأجر الكريم { وذلك } أي إيراثكم الجنة وتخصيصكم بها { هو } أي خاصة لا غيره { الفوز العظيم* } فالحاصل أن هذه الآية واقعة موقع التعليل للأمر بالنفر بالنفس والمال .

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

ولما ثبتت المعاقدة وأحكامها ، وصف المعاقدين على طريق المدح للحث على أوصافهم فقال : { التآئبون } مبتدئاً أوصافهم بالتوبة التي هي أساس العمل الصالح ، ثم ابتدأ المؤسس بمطلق العبادة الشاملة لجميع أنواع الدين من العلم وغيره فقال : { العابدون } أي الذين أقبلوا على العبادة فأخلصوها لله؛ ولما كان التزام الدين لا يعرف إلا بالإقرار باللسان ، أتبع ذلك الحمد الذي تدور مادته على بلوغ الغاية الذي من جملته الثناء اللساني بالجميل الشامل للتوحيد وغيره فقال : { الحامدون } أي المثنون عليه سبحانه ثناء عظيماً ، تطابقت عليه ألسنتهم وقلوبهم فتبعته آثاره؛ ولما كان الإقرار باللسان لا يقبل إلا عند مطابقة القلب ، تلاه بالسياحة التي تدور بكل ترتيب على الاتساع الذي منه إصلاح القلب ليتسع للتجرد عن ضيق المألوفات إلى فضاء الحضرات الإلهيات فقال : { السائحون } ولما كانت الصلاة نتيجة ذلك لكونها جامعة لعمل القلب واللسان وغيرهما من الأركان ، وهي أعظم موصل إلى بساط الأنس في حضرات القدس وأعلى مجرد عن الوقوف مع المألوف . وكان أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود ، وكان جميع أشكال الصلاة موافقاً للعادة إلا الركوع والسجود ، أشار إليها بقوله مخصصاً لها بالذكر تنبيهاً على أن المراد من الصلاة نهاية الخضوع : { الراكعون } فبين أن تمام هذه البشرى لهذه الأمة أن صلاة غيرهم لا ركوع فيها ، وأتمها بقوله : { الساجدون } ولما كان الناصح لنفسه بتهذيب لسانه وقلبه وجميع جوارحه لا يقبل إلا إذا بذل الجهد في نصيحة غيره كما صرح به مثال السفر في السفينة ليحصل المقصود من الدين وهو جمع الكل على الله المقتضي للتعاضد والتناصر الموجب لدوام العبادة والنصرة وبذلك يتحقق التجرد عن كل مألوف مجانس وغير مجانس ، أتبع ذلك قوله : { الآمرون بالمعروف } أي السنة .
ولما كان الدين متيناً فلن يشاده أحد إلا غلبه ، كان المراد من المأمورات مسماها دون تمامها ومنتهاها « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » والمراد من المنهيات تركها كلها ، ومن الحدود الوقوف عندها من غير مجاوزة « وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » رواه البخاري في الاعتصام من صحيحه ومسلم ايضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وكانت العرب - كما تقدم في البقرة عند قوله تعالى { والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] وفي آل عمران عند قوله { الصابرين والصادقين } [ آل عمران : 17 ] عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي - إذا أتبعت بعض الصفات بعضاً من غير عطف علم أنها غير تامة ، فإذا عطفتها أردت التمكن فيها والعراقة والتمام ، فأعلم سبحانه أن المراد فيما تقدم من الأوصاف الإتيان بما أمكن منها ، فأتى بها اتباعاً دون عطف لذلك ، وأشار إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف عند الحدود لا يقنع منه إلا بالتمام لأن المقصر في شيء من ذلك إما راض بهدم الدين وإما هادم بنفسه ، فيجب التجرد التام فيه لأن النهي أصعب أقسام العبادة لأنه متعلق بالغير وهو مثير للغضب موجب للحمية وظهور الخصومة ، فربما كان عنه ضرب وقتل ، فلذلك عطفها ولم يتبعها فقال : { والناهون } أي بغاية الجد { عن المنكر } أي البدعة .

ولما كان فاعل الخير لا ينفعه فعله إلا باستمراره عليه إلى الموت أتبعه قوله : { والحافظون } أي بغاية العزم والقوة { لحدود الله } أي الملك الأعظم التي حدها في هذا الشرع القيم فلم يتجاوزوا شيئاً منها ، فختم بما به بدأ مع قيد الدوام بالرعي والقوة ، والحاصل أن الوصف الأول للتجرد عن ربقة مألوف خاص وهو شرك المعصية بشركه أو غيره ، والثاني للتجرد عن قيود العادات إلى قضاء العبادات ، والثالث لبلوغ الغاية في تهذيب الظاهر . والرابع للتوسع إلى التجرد عن قيود الباطن ، والخامس والسادس للجمع بين كمال الباطن والظاهر ، والسابع للسير إلى إفاضة ذلك على الغير ، والثامن للدوام على تلك الحدود بترك جميع القيود . فمقصود الآية العروج من الحضيض الجسماني إلى الشرف الروحاني؛ ثم أمره صلى الله عليه وسلم بتبشير المتخلق بهذه الأوصاف عاطفاً لأمره به على محذوف تقديره - والله أعلم : فأنذر من تخلى منها بكل ما يسوءه بعد سجنه في دار الشقاوة فإنه كافر وبشرهم ، أي هؤلاء الموصوفين ، هكذا كان الأصل الإضمار ، ولكنه أظهر ختاماً بما به بدأ وتعليقاً يالوصف وتعميماً فقال : { وبشر المؤمنين* } أي المتخلقين بها بكل ما يسرهم بعد تخصيصهم بدار السعادة ، وفي ختم الآيتين بالبشارة تارة من الخالق وتارة من أكمل الخلائق أعظم مزية للمؤمنين ، وفي جعل الأولى من الله أعظم ترغيب في الجهاد وأعلى حث على خوض غمرات الجلاد ، وفي ابتداء الأيتين بالوصف المعشر بالرسوخ في الإيمان الذي هو الوصف المتمم للعشر وختمهما بمثله إشارة إلى أن هذه مائدة لا يخلس عليها طفيلي ، وأن من عدا الراسخين في درجة الإهمال لا كلام معهم ولا التفات بوجه إليهم .
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر بالبراءة من أحياء المشركين وجاء الأمر أيضاً بالبراءة من أموات المنافقين بالنهي عن الدعاء لهم ، جاءت هذه الآية مشيرة إلى البراءة من كل مشرك فوقع التصريح بعدها بما أشارت إليه ، وذلك أنه لما ثبت بهذه الآية في تقديم الجار أن المبايعة وقعت على تخصيص الجنة بالمؤمنين وأنه تعالى أوفى من عاهد ، ثبت أنه لا يجوز أن يدخل غيرهم الجنة وأن غيرهم أصحاب النار ، لأنه قد علم أن الآخرة داران : جنة ونار ، ولما ثبت هذا كله علم قطعاً علم النتيجة من المقدمات الصحيحة أنه { ما كان } أي في نفس الأمر { للنبي } أي الذي لا ينطق إلا بما عنده فيه بيان من الله { والذين آمنوا } أي أقروا بأنهم صدقوا بدعوته فلا يفعلون إلا ما عندهم منه علم { أن يستغفروا } أي يطلبوا المغفرة ويدعوا بها { للمشركين } أي الراسخين في الإشراك في عبادة ربهم { ولو كانوا } أي المشركين { أولي قربى } أي للذين آمنوا { من بعد ما تبين لهم } أي بموتهم على الشرك وإنزال هذه الآية للختم بالتخصيص بالجنة { أنهم أصحاب الجحيم* } أي لا أهلية لهم للجنة .

فإن الاستغفار معناه محو الذنوب حتى ينجو صاحبها من النار ويدخل الجنة وما ينبغي لهم أن يكون لهم إليهم التفات فإن ذلك ربما جر إلى ملاينة تفتر عن القتال الواقع عليه المبايعة ، فما ينبغي إلا محض المقاطعة والمخاشنة والمنازعة . وتقييد النهي بالتبيين يدل على جواز الدعاء للحي فإن القصد بالاستغفار الإقبال به إلى الإيمان الموجب للغفران . ولما أنكر أن يكون لهم ذلك . وكان الخليل عليه السلام المأمور بالاقتداء به واللزوم بملته قد استغفر لأبيه ، بين أنه كان أيضاً قبل العلم بما في نفس الأمر من استحقاقه للتأبيد في النار ، فقال دالاً بواو العطف على أن التقدير : فما استغفر لهم بعد العلم أحد من المؤمنين : { وما كان استغفار إبراهيم } أي خليل الله { لأبيه } أي بعد أن خالفه في الدين { إلا عن موعدة } أي وهي قوله { لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء } [ الممتحنة : 4 ] وأكد صدور الوعد بقوله : { وَعَدَها إياه } أي الخليل لأبيه قبل أن يعلم أنه أبدى الشقاوة ، وقيل : الضمير لأبيه ، كان وعده أنه يسلم فاستغفر له ظناً منه أنه صدق في وعده فأسلم ، والذي يدل على أنه كان قبل علمه بذلك قوله : { فلما تبين له } أي بياناً شافياً قاطعاً { أنه عدو لله } أي الملك الأعلى مؤبد العداوة له بموته على الكفر أو بالوحي بأنه يموت عليه { تبرأ } أي أكره نفسه على البراءة { منه } ثم علل ما أفهمته صيغة التفعل من المعالجة بقوله : { إن إبراهيم لأواه } أي شديد الرقة الموجبة للتأوه من خوف الله ومن الشفقة على العباد؛ قال الزجاج : والتأوه أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء { حليم* } أي شديد التحمل والإغضاء عن المؤذى له ، هكذا خلقه في حد ذاته فكيف في حق أبيه ولو قال له { لأرجمنك واهجرني } [ مريم : 46 ] وأضعاف ذلك؛ قال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل البستي القاضي في تفسيره : حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أخبرني ابن جريح عن أيوب بن هانىء عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله مسعود رضي الله عنه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً وخرجنا معه حتى انتهى إلى المقابر فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فجلس إليه فناجاه طويلاً ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ما الذي أبكاك يا نبي الله فقد فقد أبكانا وأفزعنا ، فأخذ بيد عمر رضي الله عنه ثم أقبل إلينا فأتيناه فقال : أفزعكم بكائي؟ قلنا : نعم يا رسول الله! قال : إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم ياذن لي ونزل عليّ { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى } حتى ختم الآية { وما كان استغفار إبراهيم لأبية إلا عن موعدة وعدها إياه } فأخذني ما يأخذ الولد من الرقة فذلك الذي أبكاني »

وهذا سند حسن ، ولمسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه في الجنائز عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال : « استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت » وللبخاري في التفسير وغيره ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال : « لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أي عم! قل : لا إله إلا الله ، أُحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ - وفي رواية : فكان آخر ما كلمهم أن قال : هو على ملة عبد المطلب - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } وأنزل الله في أبي طالب { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56 ] » ولعله استمر يستغفر له ما بين موته وغزوة تبوك حتى نزلت ، ورُوي في سبب نزولها غير هذا أيضاً ، وقد تقدم أنه يجوز أن تتعدد الأسباب .

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)

ولما كان الاستغفار للمشركين أمراً عظيماً ، وكان فيه نوع ولاية لهم ، أظهر سبحانه للمؤمنين ما منّ عليهم به من عدم المؤاخذة بالإقدام عليه تهويلاً لذلك وقطعاً لما بين أوج الإيمان وحضيض الكفران بكل اعتبار فقال تعالى : { وما كان الله } أي الذي له صفات الكمال؛ ولما كان الضلال سبب الهلاك ، وكان من شرع شريعة ثم عاقب ملتزمها من غير بيان كمن دل على طريق غير موصل فهلك صاحبه فكان الدال بذلك مضلاً ، قال : { ليضل قوماً } أي يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم لما ينهي عنه بناسخ نسخه { بعد إذ هداهم } أي بشريعة نصبها لهم { حتى يبين لهم } أي بياناً شافياً لداء العي { ما يتقون } أي مما هو جدير بأن يحذروه ويتجنبوه خوفاً من غائلته بناسخ ينسخ حال الإباحة التي كانوا عليها .
ولما كان الذي يأمر بسلوك طريق ثم يترك فيها ما يحتاج إلى البيان إنما يؤتى عليه من الجهل أو النسيان . نفي ذلك سبحانه عن نفسه فقال معللاً لعدم الإضلال : { إن الله } أي المحيط بصفات الكمال { بكل شيء عليم* } أي بالغ العلم فلا يتطرق إليه خفاء بوجه من الوجوه في حين من الأحيان فهو يبين لكم جميع ما تأتون وتذرون وما يتوقف عليه الهدى ، وما تركه فهو إنما يتركه رحمة لكم { لا يضل ربي ولا ينسى } [ طه : 52 ] فلا تبحثوا عنه؛ ثم علل علمه بكل شيء بأن قدرته شاملة فهو قادر على نصرة من يريد والانتقام ممن يريد ، فلا ينبغي لأحد أن يحب إلا فيه ولا يبغض إلا فيه ولا يهتم بعداوة أحد ممن عاداه فقال : { إن الله } أي الملك الأعظم { له } أي بكل اعتبار تعدونه من اعتبارات الكمال { ملك السماوات والأرض } فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم ويضركم وهو وليكم ، يبينه لكم ، ومن كان له جميع الملك كان بحيث لا يستعصي على أمره شيء : علم ولا غيره ، لأن العلم من أعظم القوى والقدر ، ولا يكون الملك إلا عالماً قادراً؛ ثم علل قدرته وعلمه بما يشاهد متكرراً من فعله في الحيوان والنبات وغير ذلك فقال : { يحيي ويميت } أي بكل معنى فهو الذي أحياكم وغيركم الحياة الجسمانية وخصم أنتم بالحياة الإيمانية ، وكما جعل غيركم بعضهم أولياء بعض وجمعهم كلهم على ولاية عدوهم الشيطان جعلكم أنتم أولياء ربكم الرحمن فهو وليكم وناصركم { وما } أي والحال أنه ما { لكم } ولما كان ليس لأحد أن يجوز كل ما دون رتبته سبحانه ، أثبت الجار فقال . { من دون الله } أي الملك الذي له الأمر كله ، وأغرق في النفي بقوله : { من ولي } أي قريب يفعل معكم من الحياطة والنصح ما يفعل القريب من النصرة وغيره .

ولما كان الإنسان قد ينصره غير قريبه قال . { ولا نصير* } أي فلا توالوا إلا من كان من حزبه وأهل حبه وقربه ، وفيه تهديد لمن أقدم على ما ينبغي أن يتقي لا سيما الملاينة لأعداء الله من المساترين والمصارحين ، فإن غاية ذلك موالاتهم وهي لا تغني من الله شيئاً .
ولما أشار إلى أنه هو وليهم أحياهم بروح منه مبين لهم ما يصلحهم وأنه لا ولي لهم غيره ، أقام الدليل على ذلك بقوله : { لقد تاب الله } أي الذي له الجلال والإكرام { على النبي } أي الذي لا يزال عنده من الله خبر عظيم يرشده إلى ما يؤذن بتقوية حياته برفع درجاته ، فما من مقام يرقيه إليه إلا رأى أنه لمزيد علوه وتقربه للمقام الذي كان دونه ، فهو في كل لمحة في ارتقاء من كامل إلى أكمل إلى ما لا نهاية له .
ولما أخبر تعالى بعلو رتبة النبي صلى الله عليه وسلم بترقيته في رتب الكمالات والأكمليات إلى ما لا نهاية له على وجه هو في غاية البعث لكل مؤمن على المبادرة إلى التوبة ، أكد ذلك بقوله : { والمهاجرين والأنصار } بمحو هفواتهم ورفع درجاتهم { الذين اتبعوه } أي النبي صلى الله عليه وسلم { في ساعة العسرة } أي أزمنة عزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الزمان بالجدب والضيقة الشديدة والحر الشديد ، وعسرة من الظهر « يعتقب العشرة » على بعير واحد . وعسرة من الزاد « تزودوا التمر المدوّد والشعير المسوّس والإهالة الزنخة » وبلغت بهم الشدة أن اقتسم التمر اثنان ، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء ، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها؛ وسماها ساعة تهويناً لأوقات الكروب وتشجيعاً على مواقعة المكاره فإن أمدها يسير وأجرها عظيم خطير ، فكانت حالهم باتباعه في هذه الغزوة أكمل من حالهم قبلها ، وأشار سبحانه إلى تفاوتهم في الثبات على مقامات عالية ، ترقوا بالتوبة إلى أعلى منها ، وفي قبول وساوس أبعدتهم التوبة عن قبولها بقوله : { من بعد ما كاد } أي قرب قرباً عظيماً { يزيغ } أي تزول عن أماكنها الموجبة لصلاحها ، وأشار ب « من » إلى تقارب ما بين كيدودة الزيغ والتدارك بالتوبة . ولما كان المقام للزلازل ، ناسب التعبير بما منه الانقلاب والفرقة فقال : { قلوب فريق } أي هم بحيث تحصل منهم الفرقة لما هناك من الزلازل المميلة { منهم } أي من عظيم ما نالهم من الشدائد فتميل لذلك عن الحق كأبي خيثمة ومن أحب الراحة وهاب السفر في ذلك الحر الشديد إلى بني الأصفر الملوك الصيد الأبطال الصناديد ، وهم ملء الأرض كثرة وقدر الحصى عدة ومثل الجبال شدة ، ثم عزم الله له فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع سبحانه بالجميع إلى ما كانوا عليه قبيل مقاربة الزيغ من مباعدته ، ولما صاروا كمن لم يقارب الزيغ .

أعلاهم إلى مقام آخر عبرعن عظمته بأداة التراخي فقال : { ثم تاب عليهم } أي كلهم تكريراً للرفعة ، أو على من كاد يزيغ بالثبات على مباعدة الزلات وبالترقي في أعالي الدرجات إلى الممات؛ ونقل أبو حيان عن الحسن أن زيغها همها بالانصراف لما لقيت من المشقة ، قال وقيل : ساء ظنها بما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود -انتهى . ويجوز أن يكون عبر ب { ثم } لوصولهم إلى حالة يبعد معها الثبات فضلاً عن مباعدة مواقع الزلات فثبتها حتى عادت كالحديد من غير سبب ظاهر من « جيش أو غيره » فثبت بذلك أنه مالك الملك متمكن من فعل كل ما يريده وأنه لا ولي لهم سواه : ثم علل لطفه بهم بقوله : { إنه بهم رؤوف رحيم* } والرأفة : شدة الرحمة ، فقدم الأبلغ فيقال فيه ما قيل في { الرحمن الرحيم } فالمعنى أنه يرحمهم أعلى الرحمة بإسباغ جلائل النعم ودفع جلائل النقم ، ويرحمهم أيضاً بإسباغ دقائق النعم ودفع دقائق النقم ، وقيل : الرأفة : إزالة الضر ، والرحمة : إيصال النفع ، ومادة رأف تدور مع السعة على ما أُشير إليه في سورة سبحان على شدة الوصلة . فالرأفة - كما قال الحرالي في البقرة - عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة ، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم ، والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم - انتهى . فتكون الرأفة حينئذ للثابتين والرحمة لمن قارب الزيغ . فيصير الثابت مرحوماً مرتين لأنه منظور إليه بالصفتين ، وتقدم عند الحزبين من البقرة ما ينفع هنا .

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)

ولما صرح بالتوبة على من قارب الزيغ وخلط معهم أهل الثبات إشارة إلى أن كل أحد فقير إلى الغني الكبير وليكون اقترانهم بأهل المعالي ، وجعلهم في حيزهم تشريفاً لهم وتأنيساً لئلا يشتد إنكارهم ، أتبعه التوبة على من وقع منه الزيغ فقال غير مصرح بالزيغ تعليماً للأدب وجبراً للخواطر المنكسرة : { وعلى } أي ولقد تاب الله على { الثلاثة الذين } .
ولما كان الخلع للقلوب مطلق التخليف ، بني للمفعول قوله : { خلفوا } أي خلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجران ونهى الناس عن كلامهم ، وأخر الحكم فيهم ليأتي أمر الله في بيان أمرهم واستمر تخليفهم { حتى إذا ضاقت } أشار إلى عظيم الأمر بأداة الاستعلاء فقال : { عليهم الأرض } أي كلها { بما رحبت } أي مع شدة اتساعها ، أي ضاق عليهم فسيحها ووسعها .
ولما كان هذا قد يراد به الحقيقة ، وكان ضيق المحل قد لا يستلزم ضيق الصدر ، أتبعه الدلالة على أن المراد المجاز فقال : { وضاقت عليهم } بالهم المزعج والغم المقلق { أنفسهم } أي من شدة ما لاقوا من الهجران حتى بالكلام حتى برد السلام؛ ولما كان ذلك لا يقتضي التوبة إلا بالمراقبة ، أتبعه ذلك للتخلف بها قوله : { وظنوا } أي أيقنوا ، ولعله عبر بالظن إيذان بأنهم لشدة الحيرة كانت قلوبهم لا تستقر على حال ، فكان يقينهم لشدة الخواطر كأنه ظن ، أو يقال - وهو حسن - : إن التعبير به عن يقين المخلصين إشارة إلى أن أعلى اليقين في التوحيد لا يبلغ الحقيقة على ما هي عليه أن لا يقدر أحد أن يُقدر لله حق قدره - كما قال صدق الخلق صلى الله عليه وسلم « لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك » وهذا من النفائس فاستعمله في أمثاله { أن لا ملجأ } أي مهرب ومفزع { من الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { إلا إليه } أي بما يرضيه ، وهو مثل لتحيرهم في أمرهم ، وجواب { إذا } محذوف دل عليه صدر الكلام تقديره : تداركهم بالتوبة فردهم إلى ما كانوا عليه قبل مواقعة الذنب .
ولما كان ما عملوه من التخلف عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عظيماً بمجرد المخالفة ثم يترك المواساة ثم بالرغبة عنه صلى الله عليه وسلم ثم بأمور عظيمة شديدة القبح وخيمة فكان يبعد معه الزيادة عن رتبة التوبة ، أعلم سبحانه أنه رقاهم في رتب الكمال بأن جعل ذلك سبباً لتطهيرهم من جميع الأدناس وتنقيتهم من سائر الأردان المقتضي لمزيد القرب بالعروج في مصاعد المعارف - كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم لكعب رضي الله عنه « أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك » ، أتبع ذلك سبحانه الإعلام به بقوله - مشيراً إلى ما بعده لولا فضل الله - بأداة الاستبعاد : { ثم تاب عليهم } أي رجع بهم بعد التوبة إلى مقام من مقامات سلامة الفطرة الذي هو أحسن تقويم يعلو لعلوه بالنسبة إلى ما دونه ، توبة { ليتوبوا } أي ليرجعوا إلى ما تقتضيه الفطرة الأولى من الثبات على ما كانوا عليه من الإحسان في الدين والتخلق بإخلاق السابقين ، ولعله عبر بالظن موضع العلم إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من جلاله للانقطاع إليه مجرد الظن بأنه لا سبب إليه إلا منه لأنه محيط بكل شيء لا يعجزه شيء ، ويمكن أن يكون التعبير - { ثم } إشارة إلى عظيم ما قاسوا من الأهوال وما ترقوا إليه من مراتب الخوف ، وامتنان عليهم بالتوبة من عظيم ما ارتكبوا ، وإنما خصوا عن رفقائهم بأن أرجئوا لأمر الله لعلو مقامهم بما لهم من السابقة ورسوخ القدم في الإسلام ، فالمخالفة اليسيرة منهم أعظم من الكثير من غيرهم لأنهم أئمة الهدى ومصابيح الظلم ، ومن هذا البارق - حسنات الأبرار سيئات المقربين - ثم علل التوبة بأمر يعم غيرهم ترغيباً فقال معبراً بما يشير مع أعلى مقامهم إلى نزوله عن مقام من قبلهم : { إن الله } أي الذي له الكمال كله { هو } أي وحده { التواب } أي البليغ التوبة على من تاب وإن عظم جرمه وتكررت توبته لتكرر ذنوبه { الرحيم* } أي المكرم لمن أراد من عباده بأن يحفظه على ما يرتضيه فلا يزيغ ، ويبالغ في الإنعام عليه .

ولما كان الذي نالوا به الإقبال من مولاهم عليهم - مما وصفهم به من الضيق وما معه - هو التقوى والصدق في الإيمان كما كان ما يجده الإنسان في نفسه مما الموت عنده والقذف في النار أحب إليه من التلفظ به صريح الإيمان بشهادة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، رغب سبحانه في الصدق فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا ذلك { اتقوا الله } أي خافوا سطوة من له العظمة الكاملة تصديقاً لدعواكم فلا تفعلوا إلا ما يرضيه { وكونوا } أي كوناً صادقاً بجميع الطبع والجبلة { مع الصادقين* } أي في كل أمر يطلب منهم ، ولعله أخرج الأمر مخرج العموم ليشمل كل مؤمن ، فمن كان مقصراً كانت آمره له باللحاق ، ومن كان مسابقاً كانت حاثة له على حفظ مقام الاستباق ، ولعله عبر ب { مع } ليشمل أدنى الدرجات ، وهو الكون بالجثت ، وقد روى البخاري توبة كعب أحد هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم في مواضع من صحيحه منها التفسير ، وكذا رواه غيره عن كعب نفسه رضي الله عنه « أنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين : غزوة العسرة - يعني هذه - وغزوة بدر ، وأن تخلفه ببدر إنما كان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب الناس إليها ولا حثهم عليها لأنه ما خرج أولاً إلا لأجل العير ، قال : فأجمعت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان قل ما يقدم من سفر سافره إلا ضحى ، وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي - يعني مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي - ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا ، فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليَّ الأمر ، وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي عليّ النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت النبي صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليّ ، فأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة رضي الله عنها ، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ياأم سلمة! تيب على كعب ، قالت : أفلا أرسل إليه فأشره؟ قال : إذن يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الللية حتى إذا صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا ، وكان إذا استبشر استنار وجهه حتى كأنه قطعة من القمر ، وكنا - أيها الثلاثة الذين خلفوا - خلفنا عن الأمر الذي قبل من هؤلاء الذين اعتذروا حين أنزل الله لنا التوبة ، فلما ذكر الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتخلفين واعتذروا بالباطل ذكروا بشر ما ذكر به أحد ، قال الله عز وجل { يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم } » .

ولما كان ما نالهم من الأهوال إنما نالهم بتخلفهم عن أشرف الخلق ، والذي التفت بهم إلى مرابع الإقبال إنما هو الصدق ، قال تعالى ناهياً بصيغة الخبر ليكون أبلغ ، جامعاً إليهم من كان على مثل حالهم في مطلق التخلف : { ما كان } أي ما صح وما انبغى بوجه من الوجوه { لأهل المدينة } أي التي هي سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي دار الهجرة ومعدن النصرة { ومن حولهم } أي في جميع نواحي المدينة الشريفة { من الأعراب } أي من سكان البوادي الذين أقسموا بالإسلام { أن يتخلفوا } أي في أمر من الأمور { عن رسول الله } أي الملك الأعلى ، ومن شأن المرسل إليه أن لا يبرح عن جنان الرسول لا سيما وهو رأس الصادقين الذين وقع الأمر بالكون معهم { ولا يرغبوا } أي وما كان لهم أن يرغبوا ، ولعله قللهم بصيغة القلة بالنسبة إلى من أيده به صلى الله عليه وسلم من جنوده فقال تعالى : { بأنفسهم عن نفسه } أي التي هي أشرف النفوس مطلقاً بأن يصونوا نفوسهم عما باشره صلى الله عليه وسلم بل يلقونها في المتالف دونه وصيانة لنفسه الشريفة عن أدنى الأذى ، فهى كالتعليل للأمر بالتقوى أي خافوا الله وأصدقوه كما صدق هؤلاء ليتوب عليكم كما تاب عليهم فإنه لم يكن لكم التخلف فهو نهي بليغ مع تقبيح وتوبيخ وإلهاب وتهييج .

ولما علل الأمر بالتقوى ، علل النهي عن التخلف بما يدل على صدق الإيمان فيصير نقيضه دالاً على نقيضه فقال : { ذلك } أي النهي العظيم عن التخلف في هذا الأسلوب النافي للكون { بأنهم لا يصيبهم ظمأ } أي عطش شديد { ولا نصب } أي تعب بالغ { ولا مخمصة } أي شدة مجاعة { في سبيل الله } أي طرق دين الملك الأعظم المتوصلة به إلى جهاد أعدائه ، ورتبت هذه الأشياء ترتيبها في الوجود فإن مطلق الحركة يهيج الحرارة فينشأ العطش وتماديها يورث التعب ، والأغلب أن يكون قبل الجوع .
ولما كان المقصود من إجهاد النفس بما ذكر إرغام الكفار باقتحام أرضهم المتوصل به إلى إيمانهم بالنيل منهم ، أتبع ذلك قوله : { ولا يطؤون موطئاً } أي وطأً أو مكاناً وطؤه { يغيظ الكفار } أي وطؤهم له بأرجلهم أو دوابهم { ولا ينالون من عدو نيلاً } أي كائناً ما كان صغيراً او كبيراً { إلا كتب لهم به } أي في صحائف الأعمال ، بني للمفعول لأن القصد إثباته لا من معين { عمل صالح } أي ترتب لهم عليه أجر جزيل .
ولما كان فاعل هذه الأشياء مقدماً على المعاطب في نفسه ومحصلاً لعرض الجهاد ، أشير على وجه التأكيد في جملة اسمية إلى أنه محسن ، أما في حق نفسه فبإقامة الدليل بطاعته على صدق إيمانه . وأما في غيره من المؤمنين فبحمايتهم عن طمع الكافرين . وأما في حق الكفار فبحملهم على الإيمان بغاية الإمكان ، فقال تعالى معللاً للمجازاة : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { لا يضيع } أي لا يترك تركه ما من شأنه الإهمال { أجر المحسنين* } وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف .

وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

ولما كانت المشقة بالإنفاق العائد ضرره إلى المال ، ووطئ مطلق الأرض الذي قد لا يلزم منه وصول إلى ما يغيظ العدو دون المشقة الحاصلة في النفس بالظمأ وما معه من فعل ما يغيظ العدو وينقصه ، قدم ذلك على قوله : { ولا ينفقون } ولما كان القليل قد يحتقر ، ابتدأ به ترغيباً في قوله : { نفقة صغيرة } ولما كان ربما تعنت متعنت فجعل ذكرها قيداً ، قال : { ولا كبيرة } إعلاماً بأنه معتد به لئلا يترك ، وفيه إشارة إلى آية اللمز للمطوعين في الصدقات { ولا يقطعون وادياً } أي من الأدوية بالسير في الجهاد ، والوادي : كل منفرج بين جبال وآكام ينفذ فيه السيل ، وهو في الأصل فاعل من ودى - إذا سال { إلا كتب لهم } أي ذلك الإنفاق والقطع ، بناه للمفعول لأن القصد الحفظ بالكتابة مطلقاً { ليجزيهم الله } أي ذو الجلال والإكرام ، أي بذلك من فضله { أحسن ما كانوا } أي جبلة وطبعاً { يعملون* } مضاعفاً على قدر الثبات ، وأكدت فاصلة الأولى دون هذه لزيادة تلك في المشقة والنفع ، ولذا صرح فيها الأجر والعمل الصالح - نبه على ذلك الإمام أبو حيان . ومن هنا بل من عند { إن الله اشترى } شرع في عطف الآخر على الأول الذي مضمونه البراءة من المشركين والاجتهاد في قتالهم بعد انقضاء مدتهم حيث وجدوا - إلى أن قال { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } - إلى أن قال { ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } ثم قال { انفروا خفافاً وثقالاً } ثم أتبع ذلك قصص المنافقين كما أنه فعل هنا كذلك أن ختم بقوله { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } الآية ثم أتبعها ذكر المنافقين .
ولما تواترت النواهي للمتخلفين وتواصلت الزواجر وتعاظم التبكيت والتهديد ، طارت القلوب وأشفقت النفوس ، فكان ذلك مظنة أن لا يتخلف بعدها أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن يقوم مقامه فيتمكن حينئذ الأعداء من الأموال والذراري والعيال ، فأتبع ذلك قوله تعالى : { وما كان المؤمنون } أي الذين حثهم على النَّفر الرسوخ في الإيمان { لينفروا كآفة } أي جميعاً فإن ذلك بخل بكثير من الأغراض الصالحة ، وهو تعليم لما هو الأنسب بالدين والدنيا من انقسام الناس قسمين : قسماً للجهاد ، وقسماً للنفقة وحفظ الأموال والأولاد ، كل ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام والعمل بما يرضاه ، ولا يخفى ذلك على المخلص ، ولعل التعبير بالفعل الماضي في قوله مسبباً عما قبله : { فلولا نفر } ليفهم تبكيت من قصد تبكيته من المتخلفين في جميع هذه السورة بأنه كان عليهم أن ينفر مع النبي صلى الله عليه وسلم { من كل فرقة } أي ناس كثير يسهل افتراقهم ، قالوا : وهو اسم يقع على ثلاثة { منهم طائفة } أي ناس لا ينفكون حافين بالنبي صلى الله عليه وسلم يلزمونه ، قيل : والطائفة واحد واثنان ، فالآية حجة على قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ، وكأنه عبر به للإشارة إلى الحث على كثرة النافرين كما هو أصل مدلولها الأغلب فيه { ليتفقهوا } أي ليكلف النافرون أنفسهم الفهم منه صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً { في الدين } أي بما يسمعونه من أقواله ويرونه من جميل أفعاله ويصل إلى قلوبهم من مستنير أحواله ، وهذا غاية الشرف للعلم حيث جعل غاية الملازمة له صلى الله عليه وسلم للجهاد ، هذا إن كان هو صلى الله عليه وسلم النافر في تلك الغزاة ، وإن كان غيره كان ضمير { يتفقهوا } للباقين معه صلى الله عليه وسلم .

ولما كان من العلم بشارة ومنه نذارة ، وكان الإنسان - لما فيه من النقصان - أحوج شيء إلى النذارة ، خصها بالذكر فقال عطفاً على نحو : ليخافوا في أنفسهم فيعملوا في خلاصها : { ولينذروا قومهم } أي يحذروهم ما أمامهم من المخاوف إن فرطوا في جانب التقوى { إذا رجعوا إليهم } أي ما أنذرهموه الرسول صلى الله عليه وسلم ويبشروهم بما بشرهم به؛ ثم بين غاية العلم مشيراً إلى أن من جعل له غاية غيرها من ترفع أو افتخار فقد ضل ضلالاً كبيراً ، فقال موجباً لقبول خبر من بلغهم : { لعلهم } أي كلهم { يحذرون* } أي ليكون حالهم حال أهل الخوف من الله بما حصلوا من الفقه لأنه أصل كل خير ، به تنجلي القلوب فَتقبل على الخير وتعرض عن الشر ، فإن الحذر تجنب الشيء لما فيه من الضرر ، والمراد بالفقه هنا حفظ الكتاب والسنة وفهم معانيهما من الأصول والفروع والآداب والفضائل ، وقال الرماني : الفقه فهم موجبات المعاني المضمنة بها من غير تصريح بالدلالة عليها .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)

ولما علمت المقاصد وتهيأت القلوب لقبول الفوائد ، وأمر بالإنذار بالفقه ، وكان من الناس من لا يرجع إلا بشديد البأس ، أقبل على الكل مخاطباً لهم بأدنى أسنان القلوب ليتوجه إلى الأدنى ويتناول الأعلى منه من باب الأولى فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادَّعوا بألسنتهم الإيمان { قاتلوا } أي تصديقاً لدعواكم ذلك { الذين يلونكم } أي يقربون منكم { من الكفار } فالذين يلونهم إن لم تروا غيره أصلح لمعنى يعرض لما في ذلك من حسن الترتيب ومقتضى الحكمة ولأن الجهاد معروف وإحسان ، والأقربون أولى بالمعروف ، ولتبعدوا العدو عن بلادكم فيكثر صلاحهم ويقل فسادكم وتكونوا قد جمعتم بالتفقه والقتال بين الجهادين : جهاد الحجة وجهاد السيف مع الاحتراس بهذا الترتيب من أن يبقى وراءكم إذا قاتلتم من تخشون كيده .
ولما كانت الملاينة أولى بالمسالمة ، والمخاشنة أولى بالمصارمة ، قال : { وليجدوا } من الوجدان { فيكم غلظة } أي شدة وحمية لأن ذلك أهيب في صدورهم . وأكف عن فجورهم ، وحقيقة الغلطة في الأجسام ، استعيرت هنا للشدة في الحرب ، وهي تجمع الجراءة والصبر على القتال وشدة العدواة ، فإذا فعلوا ذلك كانوا جامعين بين جهاد الحجة والسيف كما قيل :
من لا يعدله القرآن كان له ... من الصغار وبيض الهند تعديل
نبه على ذلك أبو حيان .
ولما كان التقدير : وليكن كل ذلك مع التقوى لا بسبب مال ولا جاه فإنها ملاك الأمر كله ، قال منبهاً على ذلك بقوله : { واعلموا أن الله } أي الذي له الكمال كله { مع المتقين* } فلا تخافوا أن يؤدي شيء من مصاحبتها إلى وهن فإن العبرة بمن كان الله معه .
ولما ذكر هذه السورة أي الطائفة الحاضة بصيغة « لولا » على النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمرة بجهاد الكفار والغلظة عليهم ، وكان لا يحمل على ذلك إلا ما أشار إليه ختم الآية السالفة من التقوى بتجديد الإيمان كلما نزل شيء من القرآن ، وكان قد ذكر سبحانه المخالفين لأمر الجهاد بالتخلف دون أمر الإيمان حين قال { وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } التفت إلى ذلك ليذكر القسم الآخر وهو القاعد عن الإيمان فقال : { وإذا } وأكد بزيادة النافي تنبيهاً على فضل الإيمان فقال : { ما } .
ولما كان المنكي لهم مطلق النزول ، بني للمفعول قوله : { أنزلت سورة } أي قطعة من القرآن ، أي في معنى من المعاني { فمنهم } أي من المنزل إليهم { من يقول } أي إنكاراً واستهزاء ، وهم المنافقون { أيكم } أي أيها العصابة المنافقة { زادته هذه إيماناً } إيهاماً لأنهم متصفون بأصل الإيمان ، لأن الزيادة ضم الشيء إلى غيره مما يشاركه في صفته ، هذا ما يظهرون تستراً ، وأما حقيقة حالهم عند أمثالهم فالاستهزاء استبعاداً لكونها تزيد أحداً في حاله شيئاً ، وسبب شكهم واستفهامهم أن سامعيها انقسموا إلى قسمين : مؤمنين ومنافقين ، ولذلك أجاب تعالى بقوله مسبباً عن إنزالها : { فأما الذين آمنوا } أي أوقعوا الإيمان حقيقة لصحة أمزجة قلوبهم { فزادتهم } أي تلك السورة { إيماناً } أي بإيمانهم بها إلى ما كان لهم من الإيمان بغيرها وبتدبرها ورقة القلوب بها وفهم ما فيها من المعارف الموجبة لطمأنينة القلوب وثلج الصدور .

ولما كان المراد بالإيمان الحقيقة وكانت الزيادة مفهمة لمزيد عليه ، استغنى عن أن يقول : إلى إيمانهم ، لذلك ولدلالة { الذين آمنوا } عليه { وهم يستبشرون* } أي يحصل لهم البشر بما زادتهم من الخير الباقي الذي لا يعدله شيء { وأما الذين } وبين أن أشرف ما فيهم مسكن الآفة فقال : { في قلوبهم مرض } فمنعهم الإيمان وأثبت لهم الكفران فلم يؤمنوا .
ولما كان المراد بالمرض الفساد المعنوي المؤدي إلى خبث العقيدة ، عبر عنه بالرجس فقال : { فزادتهم رجساً } أي اضطراباً موجباً للشك ، وزاد الأمر بياناً بأن المراد المجاز بقوله : { إلى رجسهم } أي شكهم الذي كان في غيرها { وماتوا } أي واستمر بهم ذلك لتمكنه عندهم إلى أن ماتوا { وهم كافرون* } أي عريقون في الكفر ، وسمي الشك في الدين مرضاً لأنه فساد في الروح يحتاج إلى علاج كفساد البدن في الاحتياج ، ومرض القلب أعضل ، وعلاجه أعسر وأشكل ، ودواءه أعز وأطباؤه أقل . ولما زاد الكفار بالسورة رجساً من أجل كفرهم بها ، كانت كأنها هي التي زادتهم ، وحسن وصفها بذلك كما حسن : كفى بالسلامة داء ، وكما قال الشاعر :
أرى بصري قد رابني بعد نصحه ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
قاله الرماني ، فالمؤمنون يخبرون عن زيادة إيمانهم وهؤلاء يخبرون عن عدمه في وجدانهم ، فهذا موجب شكهم وتماديهم في غيهم وإفكهم ، ولو أنهم رجعوا إلى حاكم العقل لأزال شكهم وعرفهم صدق المؤمنين بالفرق بين حالتيهم ، فإن ظهور الثمرات مزيل للشبهات ، والآية من الاحتباك : إثبات الإيمان أولاً دليل على حذف ضده ثانياً ، وإثبات المرض ثانياً دليل على حذف الصحة أولاً .

أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

ولما كان التقدير تسبيباً عما جزم به من الحكم بعراقتهم في الرجس وازديادهم منه : أفلا يرون إلى تماديهم في النفاق وثباتهم عليه؟ عطف عليه تقريرهم بعذاب الدنيا والإنكار عليهم في قوله : { أولا يرون } أي المنافقون ، قال الرماني : والرؤية هنا قلبية لأن رؤية العين لا تدخل على الجملة لأن الشيء لا يرى من وجوه مختلفة { أنهم } أي المنافقين؛ ولما كان مطلق وقوع الفتنة من العذاب ، بنى للمفعول قوله : { يفتنون } أي يخالطون من حوادث الزمان ونوازل الحدثان بما يضطرهم إلى بيان أخلاقهم بإظهار سرائرهم في نفاقهم { في كل عام } أي وإن كان الناس أخصب ما يكونون وأرفعه عيشاً { مرة أو مرتين } فيفضحون بذلك ، وذلك موجب للتوبة للعلم بأن من علم سرائرهم - التي هم مجتهدون في إخفائها - عالم بكل شيء قادر على كل مقدور ، فهو جدير بأن تمتثل أوامره وتخشى زواجره .
ولما كان عدم توبتهم مع فتنتهم على هذا الوجه مستبعداً ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : { ثم لا يتوبون } أي لا يجددون توبة { ولا هم } أي بضمائرهم { يذكرون* } أي أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام ، فلولا أنه حصلت لهم زيادة في الرجس لأوشك تكرار الفتنة أن يوهي رجسهم إلى أن يزيله ولكن كلما أوهى شيئاً خلقه مثله أو أكثر بسبب الزيادات المترتبة على وجود نجوم القرآن ، والتذكر طلب الذكر للمعنى بالكفر فيه ، فالآية ذامة لهم على عدم التوبة بإصابة المصائب لعدم تذكر أنه سبحانه ما أصابهم بها إلا بذنوبهم { ويعفو عن كثير } [ الشورى : 34 ] كما أن أحدهم لا يعاقب فتاة إلا بذنب وما لم يتب فهو يوالي عقابه .
ولما ذكر ما يحدث منهم من القول استهزاء ، أتبعه تأكيداً لزيادة كفرهم وتوضيحاً لتصويره ما يحدث من فعلهم استهزاء من الإيمان والتغامز بالعيون فقال { وإذا } وأكد بالنافي فقال : { ما } ولما كان الغرض نفس الإنزال لا تعيين المنزل ، بني للمفعول قوله { أُنزلت سورة } أي طائفة من القران { نظر بعضهم } أي المنافقين { إلى بعض } أي متغامزين سخرية واستهزاء قائلين : { هل يراكم } وأكدوا العموم فقالوا : { من أحد } أي من المؤمنين إن انصرفتم ، فإن يشق علينا سماع مثل هذا ، ويشق علينا أن يطلع المؤمنون على هذا السر منا .
ولما كان انصرافهم عن مثل هذا المقام مستهجناً ، أشار إلى شدة قبحه بأداة التراخي فقال : { ثم انصرفوا } أي إن لم يكن أحد يراهم ، وإن رآهم أحد من المؤمنين تجشموا المشقة وثبتوا؛ ولما كانوا مستحقين لكل سوء ، أخبر عنهم في أسلوب الدعاء بقوله : { صرف الله } أي الذي له الغنى المطلق والكمال كله { قلوبهم } أي عن الإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله : { بأنهم قوم } وإن كانوا ذوي قوة على ما يحاولونه فإنهم { لا يفقهون* } أي قلوبهم مجبولة على عدم الفهم لما بها من الغلظة ، وهذا دليل على ختام الآية قبلها ، وهاتان الآيتان المختتمتان - ب { لا يفقهون } التاليتان للأمر بالجهاد في قوله { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } الموازي - { انفروا خفافاً وثقالاً } الآية - قد احتوتا مع وجازتهما على حاصل أوصاف المنافقين التالية لآية { انفروا } المختتم ما هو العام منها في أهل الحاضرة في قوله { استأذنك أولوا الطول منهم } ب { يفقهون } ثم عند إعادة ذكرهم ب { لا يعلمون } وتصويب هاتين الآيتين إلى أهل الحاضرة ظاهر لكونهم ممن يحضر نزول الذكر كثيراً مع احتمالهما للعموم ، والختم هنا ب { لا يفقهون } أنسب لأن المقام - وهو النظر في زيادة الإيمان بالنسبة إليهم - يقتضي فكراً وتأملاً وإن كان بالنظر إلى المؤمنين في غاية الوضوح .

ولما أمر صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذه الأشياء الشاقة جداً من أمر هذه السورة ، وكان من المعلوم أنه لا يحمل ذلك إلا من وفقه الله تعالى ، وأما المنافقون فيكرهون ذلك وكان انصرافهم دالاً على الكراهة ، عرفهم أن الأمر كان يقتضي توفر دواعيهم على محبة هذا الداعي لهم المقتضي لملازمته والبعد عما يفعلونه به من الانصراف عنه ، وأن أحواله الداعية لهم إلى محبته أعظم من أحوال آبائهم التي أوجبت لهم منهم من المحبة وعليهم من الحقوق ما هم مفتخرون بالتلبس به والمغالاة فيه ، وأن كل ما يحصل بهذا القرآن من العز والشرف في الدنيا فهو لكل من آمن به فقال : { لقد جاءكم رسول } .
ولما كان الرسول يجب إكرامه والوقوف في خدمته لأجل مرسله ولو تجرد عن غير ذلك الوصف ، شرع يذكر لهم من أوصافه ما يقتضي لهم مزيد إكرامه فقال : { من أنفسكم } أي ترجعون معه إلى نفس واحدة بأنكم لأب قريب ، وذلك أقرب إلى الألفة وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحل واللجاجة { عزيز } أي شديد جداً { عليه ما عنتم } والعزة : امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة ، والعنت : لحاق الأذى الذي يضيق الصدر به ولا يهتدي للمخرج منه { حريص } أي بليغ الحرص { عليكم } أي على نفعكم ، والحرص : شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه ، وقدم الجار لإفادة الاختصاص فقال : { بالمؤمنين } أي العريقين في هذا الوصف كافة خاصة ، ولما ذكر الوصف المقتضي للرسوخ ، قدم ما يقتضي العطف على من يتسبب له بما يقتضي الوصلة فقال : { رءوف } أي شديد الرحمة لمن له منه عاطفة وصلة لما تقدم من معنى الرأفة قريباً .
ولما كان المؤمن يطلق مجازاً على من يمكن منه الإيمان فوصلته الآن ليست بالفعل بل الإمكان ، قال تعميماً لرحمته صلى الله عليه وسلم كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه : { رحيم* } ولأجل مثل هذه الأغراض النفسية رتب سبحانه هذين الوصفين هكذا ، ولكن المعاني المراده تارة يظهرها الله تعالى لعبده منحة له وإكراماً ، وتارة يخفيها إظهاراً لعجزه ونقصانه ثم يظهرها له في وقت آخر إن صدق في التضرع وإظهار الافتقار والتذلل وأدام الطلب ، أو لغيره ممن هو أقل منه علماً وأضعف نظراً وفهماً ، وإذا تأملت كتابي هذا ظهر لك أن كثيراً من الآيات فسرها على غير المراد منها قطعاً أكابر العلماء ، فعلى الأنسان - إذا خفي عليه أمر - أن يقول : لا أعلم ، ولا يظن أنه رتب شيء من هذا الكتاب العزيز لأجل الفواصل ، فلذلك أمر لا يليق بكلام الله تعالى ، وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم السجع ، لأن الساجع يكونُ محطَ نظره الألفاظ ، فيدير المعاني عليها ويتبعها إياها ، فربما عجز اللفظ عن توفية المعنى؛ روى البخاري في الطب وغيره من صحيحه ومسلم في الديات وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه

« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة ، فقال الذي قضى عليه : كيف أغرم من لاشرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهل ، فمثل ذلك بطل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما هذا من إخوان الكهان » من أجل سجعه الذي سجع ، وفي رواية : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « سجع كسجع الأعراب » وذلك - والله أعلم - أنه لو كان نظره إلى المعنى وتصحيحه لأغنى عن هذا السجع أن يقال : كيف أغرم من لاحياة له ، ولوقصد السجع وتهذيب المعنى لأتى مما يدل على نفي الحياة التي جعلها محط أمره فإن ما أتى به لا يستلزم نفيها ، ولو تقيد بالصحة لاغتنى بنفي النطق عن نفي الاستهلال ، فصح بهذا أنه دائر مع تحسين اللفظ صح المعنى أم لا ، وينطبع في عقل عاقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يذم السجع وهو يأتي به ويقصده في القرآن أو في السنة ، ولو كان ذلك لأسرعوا الرد عليه ، وذكر أصحاب فتوح البلاد في فتح مكران من بلاد فارس أن الحكم بن عمرو لما فتحها أرسل بالأخماس مع صحار العبدي ، فلما قدم على عمر رضي الله عنه سأله عن مكران وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه فقال : يا أمير المؤمنين! أرض سهلها جبل ، وماءها وشل وثمرها دقل ، وعدوها بطل ، وخيرها قليل ، وشرها طويل ، والكثير بها قليل ، والقليل بها ضائع ، وما وراءها شر منها؛ فقال ، أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال : لا بل مخبر ، قال : لاوالله! لا يغزوها جيش لي ما أطعت .

فقد جعل الفاروق السجع قسيماً للخير فدل على أن التقيد به عيب لإخلاله بالفائدة أو بتمام الفائدة ، ولعله إنما جوز أن يكون مخبراً لنه انفك عن السجع في آخر كلامه وكرر لفظ « قليل » فكان ما ظنه ، لأنه لو أراد السجع لأمكنه أن يقول والكثير بها ذليل ، والقليل بها ضائع كليل ، وما وراءها شر منها بأقوم قيل؛ وقد نفى سبحانه عن هذا القرآن المجيد تصويب النظر إلى السجع كما نفى عنه الشعر فإنه تعالى قال { وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون } [ الحاقة : 41 ، 42 ] فكما أن قول الشاعر إتيانه بالكلام موزوناً ، فكذلك قول الكاهن إتيانه بالكلام مسجوعاً والقرآن ليس من هذا ولا من هذا . وإن وقع فيه كل من الأمرين فغير مقصود إليه ولا معول عليه ، بل لكون المعنى انتظم به على اتم الوجوه فيؤتي به لذلك ، ثم تبين أنه غير مقصود بالانفكاك عنه في كثير من الأماكن بقرينة ليس لها مجانس في اللفظ لتمام المعاني المرادة عندها فيعلم قطعاً أن ذلك غير مقصود أصلاً لأن مثل ذلك لا يرضى به أقل الساجعين ، بل يراه عجزاً وضيقاً عن تكميل المشاكلة ونقصاً - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، ومما يوجب لك القطع بأن ترتيب هذين الاسمين الشريفين هكذا لغير مراعاة الفواصل قوله تعالى في سورة الحديد { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } [ الحديد : 27 ] وسيأتي إن شاء الله في سورة طه عن الفخر الرازي والقاضي أبي بكر الباقلاني مَنَع النظر إلى السجع في الكتاب العزيز نقلاً عن جميع الأشاعرة ، وإذا تأملت الفواصل في الإتيان بها تارة بكثرة وتارة بقلة ، وتارة تترك بالكلية ويؤتى في كل آية بفاصلة لا توافق الأخرى ، علمت أن هذا المذهب هو الصواب ولا سيما آخر سورة { اقرأ } وإذا تأملت كتب أهل العدد أتقنت علم هذا المستند ، وإذا تأملت ما قلته في هذا النحو من كتابي مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور لم يبق عندك شك في شيء من هذا ، فإياك ان تجنح لهذا القول فتكون قد وقعت في أمر عظيم وأنت لا تشعر ، وأورد سبحانه هذه الآية إيراد المخاطب المتلطف المزيل لما عندهم من الريب بالقسم ، فكأنه قال : ما لكم تنصرفون عن حضرته الشماء وشمائله العلى! والله لقد جاءكم - إلى آخره ، ثم أقبل عليه مسلياً له مقابلاً لإعراضهم إن أعراضوا بالإعراض عنهم والبراءة منهم ملتفتاً إلى السورة الآمر بالبراءة من كل مخالف ، قائلاً مسبباً عن النصيحة بهذه الآية التي لا شك عاقل في مضمونها : { فإن تولوا } أي اجتهدوا في تكليف فطرهم الأولى أو ولوا مدبرين عنك بالانصراف المذكور أو غيره بعد النصيحة لهم بهذه الآية { فقل } اي استعانة بالله تفويضاً إليه { حسبي } أي كافي؛ قال الرماني : وهو من الحساب لأنه جل ثناه يعطى بحسب الكفاية التي تعني عن غيره ، ويزيد من نعمته مالا يبلغ إلى حد ونهاية إذ نعمه دائمة ومننه متظاهر { الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له ، وإنما كان كافياً لأنه { لا إله إلا هو } فلا مكافىء له فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه .

ولما قام الدليل على أنه لا كفؤ له ، وجب قصر الرغائب عليه فقال : { عليه } أي وحده { توكلت } لأن أمره نافذ في كل شيء { وهو رب } اي مالك ومخترع ومدبر؛ ولما كان في سياق القهر والكبرياء بالبراءة من الكفار والكفاية للأبرار ، كان المقام بالعظمة أنسب كآية النمل فقال : { العرش العظيم* } أي المحيط بجميع الأجسام الحاوي لسائر الأجرام الذي ثبت بآية الكرسي وغيرها أن ربه أعظم منه لأن عظمته على الأطلاق فلا شيء إلا هو في قبضته وداخل في دائرة مملكته ، وإذا كان كافي فأنا بريء ممن تولى عني وبعد مني كائناً من كان في كل زمان ومكان فقد عانق آخر السورة أولها وصافح منتهاها مبتدأها وتأكد ما فهمته من سر الالتفات في { فسيحوا } وفي { فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله } والله تعالى أعلم .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)

{ الر } فخم الراء ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم ، وأمالها ورش عن نافع بين بين ، والباقون بالإمالة المحضة ، والأصل في ذلك الفتح ، وكذا ما كان من أمثالها مما ألفاتها ليست منقلبة عن ياء نحو ما ولا ، وإمالتها للتنبيه على أنها أسماء للحروف وليست حروفاً - نقل ذلك عن الواحدي .
لما قدم في أول الأعراف الحث على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه السياق من التحذير من مثل وقائع الأولين ومصارع الماضين ومما استتبع ذلك من توصيل القول قي ترجمة هذا النبي الكريم مع قومه في أول أمره وأثنائه وآخر في سورتي الأنفال وبراءة ، وختم ذلك بأن سور الكتاب تزيد كل أحد مما هو ملائم له متهيىء لقبوله وتبعده عما هو منافر له بعيد من قبول ملاءمته . وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قد حوى من الأوصاف والحلي والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه . والإخبار بأن توليهم عنه لا يضره شيئاً لأن ربه كافيه لأنه لامثل له وأنه ذو العرش العظيم؛ لما كان ذلك كذلك ، أعاد سبحانه القول في شأن الكتاب الذي افتتح به الأعراف وختم سورة التوبة ، وزاده وصف الحكمه وأشار بأداة البعد إلى أن رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال فقال : { تلك } أي الآيات العظيمة جداً التي اشتملت عليها هذه السورة ، أو السور التي تقدمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أن القرآن كلام الله وإلا لما أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف { آيات الكتاب } أي الذكر الجامع لكل خير ، وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كل ما في التوارة والإنجيل من ذلك ، فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً لأنه لم يكن يعرف شيئاً مما في الكاتبين ولا جالس أحداً يعلمه { الحكيم* } فكان فيما مضى - أن كونه من عند الله كاف في وجوب اتباعه - وفيما هنا تأكيد الوجوب بكونه مع ذلك حكيماً والآية : العلامة التي تنبىء عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة ، والحكيم : الناطق بالحكمة . وهي المعروف بما يجتمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقص ، استعير له ذلك لأنه دليل كالناطق بالحكمة لأنه يؤدي إلى المعرفة التي يميز بها طريق النجاة من طريق الهلاك ، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة ، ومحكم لما أتى به ، مانع له من الفساد ، لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور ، وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها؛ وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى

{ إلا تنصروه فقد نصره الله } [ براءة : 40 ] وقوله { عفا الله عنك لما أذنت لهم } [ براءة : 43 ] وقوله { ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } [ براءة : 61 ] وقوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ براءة : 128 ] إلى آخر السورة إلى ما تخلل أثناء آي هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب ووصفه بالرأفة والرحمة ، هذا ما انطوت هي والأنفال عليه من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهوره دينه وعلو دعوته وإعلاء كلمته إلى غير هذا من نعم الله سبحانه عليه ، وكان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب وتوقف الشاك ومثيراً لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم ما منحه عيه السلام ، قال تعالى { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } إلى قوله : { لسحر مبين } ثم قال { إن ربكم الله } الآيات ، فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير ، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه ، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد { ذلكم الله ربكم فاعبدوه } { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكر في عظيم آياته حتى أدتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] وقالوا { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } [ الفرقان : 21 ] وهذه مقالات الأمم المتقدمة { قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا } [ يس : 15 ] { قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } [ المؤمنون : 47 ] { ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم } [ سبأ : 43 ] فقال تعالى متوعداً للغافلين { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا } ، ثم وعد المعتبرين فقال { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } ، وكل هذا بيّن الالتحام جليل الالتئام ، تناسجت آي السور - انتهى .
ولما كان كونه من عند الله مع كونه حكيماً - موجباً لقبوله بادىء بدء والسرور به لما تقرر في العقول وجبلت عليه الفطر من أنه تعالى الخالق الرازق كاشف الضر ومدبر الأمر ، كان ذلك موضع أن يقال : ما كان حال من تلي عليهم؟ فقيل : لم يؤمنوا ، فقيل : ماشبهتهم؟ هل قدروا على معارضته والطعن في حكمته؟ فقيل : لا! بل تعجبوا من إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم وليس بأكثرهم مالاً ولا بأقدمهم سناً ، فرجع حاصل تعجبهم إلى ما قاله تعالى إنكاراً عليهم . فإنه لو أرسل ذا سن قالوا مثل ذلك ، وهل مثل ذلك محل العجب! { أكان } أي بوجه من الوجوه { للناس عجباً } أي الذين فيهم أهلية التحرك إلى المعالي ، والعجب : تغير النفس بما لا يعرف سببه مما خرج عن العادة؛ ثم ذكر الحامل على العجب وهو اسم « كان » فقال بعد ما حصل لهم شوق إليه : { أن أوحينا } أي ألقينا أوامرنا بما لنا من العظمة بواسطة رسلنا في خفاء منهين { إلى رجل } أي هو في غاية الرجولية ، وهو مع ذلك { منهم } بحيث إنهم يعرفون جميع أمره كما فعلنا بمن قبلهم والملك العظيم المُلك المالك التام الملك لا اعتراض عليه فيما به تظهر خصوصيته من إعلاء من شاء .

ولما كان في الإيحاء معنى القول ، فسره بقوله { أن أنذر الناس } أي عامة ، وهم الذين تقدم نداءهم أول البقرة ، ما أمامهم من البعث وغيره إن لم يؤمنوا أصلاً أو إيماناً خالصاً ينفي كل معصية صغيرة أو كبيرة وكل هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات { وبشر } أي خص { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف وعملوا تصديقاً لدعواهم له الصالحات ، أي من الأعمال اللسانية وغيرها ، بالبشارة بقبول حسناتهم وتكفير سيئاتهم والتجاوز عن هفواتهم وترفع درجاتهم كما كان إرسال الرسل قبله وكما هو مقتضى العدل في إثابة الطائع الطائع وعتاب العاصي ، والإنذار : الإعلام بما ينبغي أن يحذر منه ، والتبشير : التعريف بما فيه السرور ، واضاف القدم - الذي هو السابقة بالطاعة - إلى الصدق في قوله تعالى موصلاً لفعل البشارة إلى المبشر به دون حرف جر : { أن لهم } أي خاصة { قدم صدق } أي أعمالاً حقة ثابته قدموها لأنفسهم صدقوا فيها وأخلصوا فيما يسّروا له لأنهم خلقوا له وكان مما يسعى إليه بالأقدام ، وزاد في البشارة بقوله : { عند ربهم } ففي إضافة القدم تنبيه على أنه يجب أن يخلص له الطاعة كإخلاص الصدق من شوائب الكذب ، وفي التعبير بصفة الإحسان إشارة إلى المضاعفة .
ولما ثبت أن الرسول وما أرسل به على وفق العادة ، انتفى أن يكون عجباً من هذه الجهة ، فصار المحل قابلاً لأن يتعجب منهم فيقال : ما قالوا حين أظهروا العجب؟ ومن أيّ وجه رأوه عجباً؟ فقيل : { قال الكافرون } أي الراسخون في هذا الوصف منهم وتبعهم غيرهم مؤكدين ما يحق لقولهم من الإنكار { إن هذا } أي القول وما تضمنه من الإخبار بما لا يعرف من البعث وغيره { لسحر } أي محمد لساحر - كما في قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي { مبين* } أي ظاهر في نفسه ، وهو من شدة ظهوره مظهر لكل شيء أنه كذلك ، فجاؤوا بما هو في غاية البعد عن وصفه ، فإن السحر قد تقرر لكل ذي لب أنه - مع كونه تمويهاً لا حقيقة له - شر محض ليس فيه شيء من الحكمة فضلاَ عن أن يمتطي الذروة منه مع أن في ذلك ادعاءهم أمراً متناقضاً ، وهو أنه من قول البشر كما هي العادة في السحر ، وأنهم عاجزون عنه ، لأن السحر فعل تخفى الحيلة فيه حتى يتوهم الإعجاز به ، فقد اعترفوا بالعجز عنه وكذبوا في ادعاء أنه لسحر لأن الآتي به منهم لم يفارقهم قط وما خالط عالماً لا بسحر ولا غيره حتى يخالطهم فيه شبهة ، فهم يعلمون أن قولهم في غاية الفساد ، فشرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه - مع ما تضمنه من البعث - سحر ، وعلى حقيقة أنه من عنده من غير شبهة ، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها ، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم ، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال : { إن ربكم } أي الموجد لكم والمربي والمحسن { الله } أي من ربى شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب صلاحه ، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي له العظمة كلها قطعاً ، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم { الذي } بدأ الخلق بأن { خلق } أي قدر وأوجد { السماوات والأرض } على اتساعهما وكثرة ما فيهما من المنافع { في ستة أيام } لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء .

ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير ، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي : { ثم استوى } أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك { على العرش } المتقدم وصفه بالعظمة ، وليست « ثم » للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله : { يدبر } لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه { الأمر } كله فلا يخفي عليه عاقبة أمر من الأمور ، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه ، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها ، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه ، بل هو متصف بأنه { ما من شفيع } أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك .
ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد أحداً عند إذنه له إذناً عاماً لجميع الأزمان والأماكن ، أتى بالجار فقال : { إلا من بعد إذنه } فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشيء من الأشياء بغير إذنه فكيف يأتي بكتاب حكيم ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته ، فحصل الأمن أن يكون غيره قاله أو شفع فيمن أبلغه فأبلغه من غير إرادة منه سبحانه ، فتحرر أنه ليس إلا من عنده وأنه أمر بإبلاغه ، وقد عرف من هذا أن { ما من شفيع } في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره أمر من الأمور ولا يغلبه شيء اصلاً فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها والشفيع : السائل في غيره بتبليغ منزلته من عفو أو زيادة منزلة ، وقد وقع ذكر الكتاب والرسول والعرش مرتباً في أول هذه على ما رتب آخر تلك؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه فيها أحد ، وجب أن يعبد عبادة لا يشاركه فيها شيء ، فنبه على ذلك بقوله : { ذلكم } أي العظيم الشأن العالي المراتب { الله } أي الملك الأعلى { ربكم } الذي تقرر له من العظمة والإحسان بالإيجاد والتربية ما لا يبلغه وصف { فاعبدوه } أي فخصُّوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة ، ولولا فضله لم يكن لمن زل أدنى زلة طاعة .

ولما سبب سبحانه عن أوصافه العلى ما وجب له من الأمر بالعبادة ، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها والاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها قام على استحقاقه للأفراد بها من الأدلة التي فيهم شواهدها فقال : { أفلا تذكرون* } أي ولو بأدنى أنواع التذكر بما أشار إليه الإدغام ، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريد ، ويعمل كثيراً مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره إلى غير ذلك من الأمور ليعلم قطعاً أن الفاعل الحقيقي غيره وأنه لا بد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد لا يضر ولا ينفع! .

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

فلما تقرر أنه هو الذي بدأ الخلق ، تقرر بذلك أنه قادر على إعادته فقال : { إليه } أي خاصة { مرجعكم } أي رجوعكم وموضع رجوعكم ووقته حال كونكم { جميعاً } لا يتخلف منكم أحد ، تقدم وعده لكم بذلك { وعد الله } أي الذي له الكمال كله { حقاً } فهو تعليل لعبادته لوحدانيته ، فيحيون بعد الموت ويحشرون إلى موضع جزاء الله تعالى لهم زمانه الذي قدره له ، ويرفع ما كان لهم من المكنة في الدنيا ، فعلم قطعاً أنه لا بد من الرسول ، فاستعدوا للقاء هذا الملك الأعظم بكل ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ثم أوضح التنبيه على قدرته مضمناً له بيان حكمته فقال معللاً لوجوب المرجع إليه مؤكداً عداً لهم في عداد المنكر للابتداء لأجل إنكارهم ما يلزم عنه من تمام القدرة على البعث وغيره : { إنه يبدأ الخلق } أي ينشئه النشأة الأولى ، له هذه الصفة متجددة التعلق على سبيل الاستمرار { ثم يعيده } ليقيم العدل في خلقه بأن ينجز لمن عبده ، وعده بأن يعزه ويذل عدوه وذلك معنى قوله : { ليجزي } .
ولما كان في سياق البعث ، قدم أهل الجزاء وبدأ بأشرافهم فقال : { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف الذي هو الأساس المتقن لكل عمل صالح { وعملوا } أي وصدقوا إيمانهم بأن عملوا { الصالحات } جزاء كائناً { بالقسط } ، واقتصر على العدل دون الفضل ليفهم أن ترك الحشو مخل بالعمل الذي هو محط الحكمة التي هي أعظم مصالح السورة ، والجزاء : الإعطاء بالعمل ما يقتضيه من خير أو شر ، فلو كان الإعطاء ابتداء لم يكن جزاء ، ولو كان ما لا يقتضيه العمل لم يكن جزاء مطلقاً والقسط : العدل { والذين كفروا } أي أوجدوا هذا الوصف { لهم } أي في الجزاء على جهة الاستحقاق { شراب من حميم } أي مسخن بالنار أشد الإسخان { وعذاب أليم } أي بالغ الإيلام { بما كانوا } أي جبلة وطبعاً { يكفرون* } فإن عذابهم من أعظم نعيم المؤمنين الذين عادوهم فيه سبحانه { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } [ سورة المطففين : 34-36 ] وكأنه قال : { يبدأ } مضارعاً لا كما قال في آية أخرى { كما بدأكم تعودون } [ الأنفال : 29 ] حكاية للحال وتصويراً لها تنبيهاً على تأمل ما يتجدد إنشاءه ليكون أدعى لهم إلى تصور القدرة على الإعادة؛ قال الرماني : وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التمكين في الدنيا من تجديد النشأة للجزاء لأنه لا بد - مع التمكين من الحسن والقبيح - من ترغيب وترهيب لا يؤمن معه العذاب على الخلود ليخرج المكلف بالزجر عن القبيح عن حال الإباحة له يرفع التبعة عليه - انتهى . فقد لاح بما ذكر ما تعين في أثناء السورة بتكريره لتوضيحه وتقريره - أن مقصودها وصف الكتاب بما يدل قطعاً على أنه من عنده سبحانه وبإذنه ، لأنه لا غائب عن علمه ولا مداني لقدرته ولا مجترىء على عظمته ، وأنه تام القدرة متفرد بالخلق والأمر فهو قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وأن المراد بالكتاب البشارة والنذارة للفوز عند البعث والنجاة من غوائل يوم الحشر مع أنه سبحانه نافذ القضاء ، فلا تغني الآيات والدلالات البينات عمن حكم بشقاوته وقضى بغوايته ، وأن ذلك من حكمته وعدله فيجب التسليم لأمره وقطع الهمم عن سواه؛ ثم شرع سبحانه يقرر أمر بدئه للخلق وإعادته في سياق مذكر بالنعم التي يجب شكرها ، ويسمى المعرض عن شكره كافراً فقال : { هو } أي غيره { الذي جعل } أي بما هيأ من الأسباب { الشمس } .

ولما كان النور كيفية قابلة للشدة والضعف ، خالف سبحانه في الأسماء مما يدل على ذلك فقال نور الشمس : { ضياء } أي ذات نور قوي ساطع وقدرها منازل ، هكذا التقدير ، لكن لما كانت في تقلبها بطيئة بالنسبة إلى القمر ذكره دونها فقال : { والقمر } أي وجعل القمر { نوراً } أي ذا نور من نورها { وقدره } أي وزاده عليها بأن قدره مسيرة { منازل } سريعاً يقلبه فيها ، وباختلاف حاله في زيادة نوره ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات والحرارات التي دبر الله بها هذا الوجود - إلى غير ذلك من الأسرار التي هي فرع وجود الليل والنهار { لتعلموا } بذلك علماً سهلاً { عدد السنين } أي المنقسمة إلى الفصول الأربعة وما يتصل بذلك من الشهور وغيرها ليمكن لكم تدبير المعاش في أحوال الفصول وغيرها { والحساب } أي غير ذلك مما يدل على بعض تدبيره سبحانه .
ولما كان ذلك مشاهداً لا مرية فيه ، وصل به قوله : { ما خلق الله } أي الذي له الكمال كله { ذلك } أي الأمر العظيم جداً { إلا بالحق } أي خلقاً ملتبساً بالحق الكامل في الحقية لا مرية فيه ، فعلم أنه قادر على إيجاد الساعة كذلك إذ لا فرق ، وإذا كان خلقه كذلك فكيف يكون أمره الناشىء عنه الخلق غير الخلق بأن يكون من السحر الذي مبناه على التمويه والتخييل الذي هو عين الباطل ، أو ما خلقه إلا بسبب إظهار الحق من العدل بين العباد بإعزاز الطائع وإذلال العاصي ، فإنه لا نعيم كالانتصار على المعادي والانتقام من المشانىء ، والجعل : وجود ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها ، والشمس : جسم عظيم النور فإنه يكون ضياء النهار؛ والقمر : جسم نير يبسط نوره على جميع الظاهر من الأرض ويكسفه نور الشمس؛ والنور : شعاع فيه ما ينافي الظلام؛ والحساب : عدد يحصل به مقدار الشيء من غيره .
ولما كان النظر في هذه الآيات من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كثير من الاتصاف بقابلية العلم ، ختم الآية بقوله : { يفصل } أي الله في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالياء التحتية ، وبالالتفات إلى أسلوب العظمة تعظيماً للبيان في قراءة الباقين بالنون { الآيات } أي يبين الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة متفاصلة بياناً شافياً . ولما كان البيان لمن لا علم له كالعدم ، قال : { لقوم } أي لهم قوة المحاولة لما يريدون { يعلمون } أي لهم هذا الوصف على سبيل التجدد والاستمرار؛ ولما كانت لهم المعرفة التامة والنظر الثاقب في منازل القمر عدت من الجلي .

إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)

ولما أشار سبحانه إلى الاستدلال على فناء العالم بتغيره وإلى القدرة على البعث بإيجاد كل من الملوين بعد إعدامه في قوله - مؤكداً له لإنكارهم أن يكون في ذلك دلالة : { إن في اختلاف الليل } أي على تباين أوصافه { والنهار } أي كذلك { وما } أي وفيما { خلق الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { في السماوات والأرض } من أحوال السحاب والأمطار وما يحدث من ذلك الخسف والزلازل والمعادن والنبات والحيونات وغير ذلك من أحوال الكل التي لا يحيط البشر بإحصائها؛ لما أشار إلى ذلك ختمها بقوله : { لآيات } أي دلالات بينة جداً { لقوم يتقون* } أي أن من نظر في هذا الاختلاف وتأمل تغير الأجرام الكبار كان جديراً بأن يخاف من أن تغير أحواله وتضطرب أموره فيتقي الله لعلمه قطعاً بأن أهل هذه الدار غير مهملين ، فلا بد لهم من أمر ونهي وثواب وعقاب؛ والاختلاف : ذهاب كل من الشيئين في غير جهة الآخر ، فاختلاف الملوين : ذهاب هذا في جهة الضياء وذاك في جهة الظلام؛ والليل : ظلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني ، هو جمع ليلة كتمر وتمرة؛ والنهار : اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ والخلق : فعل الشيء على ما تقتضيه الحكمة ، وأصله التقدير؛ ونبه بما خلق في السماوات والأرض على وجوه الدلالات . لأن الدلالة في الشيء قد تكون من جهة خلقه أو اختلاف صورته أو حسن منظره أو كثرة نفعه أو عظم أمره أو غير ذلك .
ولما أُشير بالآية إلى أنقراض الدنيا بأن الحادث لا ثبات له ، وقام الدليل القطعي على المعاد ، ناسب تعقيبها بعيب من اطمأن إليها في سياق مبين أن سبب الطمأنينة إنكار الطمأنينة اعتقاداً أو حالاً؛ ولما كانت ختم تلك ب { يتقون } لاح أن ثمّ من يتقي ومن لا يتقي؛ ولما كان الغرور أكثر ، بدأ به تنفيراً عن حاله ، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم : { إن الذين } ولما كان الخوف والرجاء معدن السعادة ، وكان الرجاء أقرب إلى الحث على الإقبال ، قال مصرحاً بالرجاء ملوحاً إلى الخوف : { لا يرجون لقاءنا } بالبعث بعد الموت ولا يخافون ما لنا من العظمة { ورضوا } أي عوضاً عن الاخرة { بالحياة الدنيا } أي فعملوا لها عمل المقيم فيها مع ما إشتملت عليه مما يدل على حقارتها { واطمأنوا } إليها مع الرضى { بها } طمأنينة من لا يزعج عنها مع ما يشاهدونه مع سرعة زوالها { والذين هم } أي خاصة { عن آياتنا } أي على ما لها من العظمة لا عن غيرها من الأحوال الدنيّة الفانية { غافلون } أي غريقون في الغفلة ، وتضمن قوله تعالى استئنافاً : { أولئك } أي البعداء البغضاء { مأواهم النار بما } أي بسبب ما { كانوا } أي جبلة وطبعاً { يكسبون* } فإن كسبهم كله ضلال - أنه لا يعاجلهم بالعقاب على تأخير المتاب ، وجعلت ملاقاة ما لا يقدر إلا الله ملاقاة الله تفخيماً لشأنها كما جعل إتيان جلائل آيات الله في قوله :

{ إلا أن يأتيهم الله في ظِلل من الغمام } [ البقرة : 210 ] ونحوه ، والاطمئنان : الركون إلى الشيء على تمكن فيه ، فهؤلاء مكنوا الأحوال للدنيا فصار فرحهم وسخطهم لها؛ والغفلة : ذهاب المعنى عن القلب بما يضاد حضوره إياه ، واليقظة نقيضها .
ولما أنقضى هذا القسم حالاً ومآلاً ، أتبعه سبحانه القسم الآخر بقوله مؤكداً لإنكار الكفار هدايتهم : { إن الذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف بما لهم من القوة النظرية التي كمالها معرفة الأشياء وسلطانها معرفة الله تعالى { وعملوا } أي وصدقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا { الصالحات } بالقوة العملية التي سلطانها عبودية الله تعالى ، والصالح : ما جاء بالحث عليه الأنبياء عليهم السلام { يهديهم } أي على سبيل التجدد والاستمرار { ربهم } أي المحسن إليهم { بإيمانهم } أي بسبب تصديقهم وإذعانهم لمعرفة الآيات التي غفل عنها الذين يأملون البقاء ولا يرجون اللقاء ، فقادتهم إلى دار السلام ، وهذا كما كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم بعد إسلامهم يشتد تعجبهم مما كان من تباطئهم عن الإسلام ، وكما ترى أنك تخنق على بعض الكملة فلا يدعك حظ النفس ترى له حسنة ، ثم أنك قد ترضى عنه فتراه كله محاسن .
ولما ذكر أم مآل القسم الأول النار ، ذكر مآل هذا القسم في معرض سؤال من يقول : ماذا تورثهم هدايتهم؟ فقيل له : { تجري } وأشار إلى قرب منال المياه وانكشافها عن كل ما ينتفع به في غير ذلك بإثبات الجار فقال : { من تحتهم } أي تحت غرفهم وأسرّتهم وغير ذلك من مشتهياتهم كقوله تعالى { قد جعل ربك تحتك سرياً } [ مريم : 14 ] وكذا قول فرعون { وهذه الأنهار تجري من تحتي } [ الزخرف : 51 ] { الأنهار } كائنين { في جنّات النعيم } أي التي ليس فيها من غيره .

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

ولما كان الواجب على العباد أولاً تنزيهه تعالى عن النقائض التي أعظمها الإشراك . وكان من فعل ذلك سلم من غوائل الضلال فربح نفسه فعرف ربه وفاز في شهود حضرته بمشاهدة أوصاف الكمال ، أشار التسليك في ذلك بقوله : { دعواهم } أي دعاؤهم العظيم الثابت الكثير الذي يقولونه فيها لا على وجه التكليف ، بل يلهمونه إلهام النفس في الدنيا { فيها } وأشار إلى مجامع التنزيه عن كل شائبة نقص فقال : { سبحانك اللهم } إشارة إلى الأمر الأول هو الأساس وهو المعراج في الآخرة { وتحيتهم } أي لله وفيما بينهم { فيها سلام } إشارة إلى أول نتائج الأساس بأنه لا عطب معه بوجه وهو نزول عن المعراج بالنظر في أحوال الخلق { وآخر دعواهم } أي دعائهم العظيم وهو المعراج الكمالي { أن الحمد } أي الكمال { لله } أي المحيط بجميع أوصاف الجلال والجمال يعني أن التنزيه عن النقص أوجب لهم السلامة؛ ولما سلموا من كل نقص وصلوا إلى الحضرة فغرقوا في بحار الجلال وانكشفت لهم سمات الكمال؛ والدعوى : قول يدعى به إلى أمر؛ والتحية : التكرمة بالحال الجليلة ، وأصله من قولهم : أحياك الله حياة طيبة ، وأشار بقوله : { رب العالمين } إلى نعمة الإيجاد إرشاداً بذلك إلى القدرة على المعاد ، وفيه هبوط عن المعراج الكمالي إلى الخلق ، وذلك إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن الحاجة والنقصان .
ولما أشير في هذه الآية إلى تنزهه تعالى وعلوه وتفرده بنعوت الكمال ، ودل بختمها بالحمدِ على إحاطته وبرب العالمين على تمام قدرته وحسن تدبيره في ابتدائه وإعادته ، اتبعت بما يدل على ذلك من لطفه في معاملته من أنه لا يفعل شيئاً قبل أوانه لأن الاستعجال من سمات الاحتياج . بل وروى أبو يعلى وأحمد بن منيع عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « التأني من الله والعجلة من الشيطان » قال شيخنا ابن حجر : وفي الباب عن سهل وسعد رضي الله عنهما فقال تعالى عاطفاً على قوله { يدبر الأمر } ما معناه أنه تعالى يفعل فعل من ينظر في ادبار الأمور فلا يفعل إلاّ ما هو في غاية الإحكام ، فهو لا يعاجل العصاة بل يمهلهم ويسبغ عليهم النعم وهم في حال عصيانهم له أضل من النِّعم يطلبون خيراته ويستعجلونه بها : { ولو يعجل الله } أي المحيط بصفات الكمال { للناس } أي الذين اتخذوا القرآن عجباً لما لهم من صفة الاضطراب { الشر استعجالهم } أي عاملاً في إرادته لإيقاع الشر بهم مثل عملهم في إرادتهم وطلبهم العجلة { بالخير لقضي } أي حُتم وبت وأدى ، بناه للمفعول في قراءة الجماعة دلالة على هوانه عنده ، ولأن المحذور مجرد فراغه لا كونه من معين .

وبناه ابن عامر للفاعل ونصب الأجل { إليهم } أي الناس خاصة { أجلهم } أي عمرهم أو آخر لحظة تكون منه ، فأهلك من في الأرض فاختل النظام الذي دبره ، ولكنه لا يفعل إلاّ ما تقدم من إمهاله لهم إلى ما سمي من الآجال المتفاوتة . وذلك سبب إضلال من يريد ضلاله . ولعل التعبير بنون العظمة في { فنذر } إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور؛ فكان القياس هداهم لكثرة ما عليه من الدلائل الظاهرة ولكنه تعالى أراد ضلالهم وهو من العظمة بحيث لا يعجزه شيء . ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله { أولئك مأواهم النار } لأن معناه : أولئك يمهلهم الله إلى انقضاء ما ضرب لهم من الآجال مع مبالغتهم في الإعراض . ثم يكون مأواهم النار ولا يعجل لهم ما يستحقونه من الشر { ولو يعجل الله للناس الشر } أي ولو يريد عجلة الشر للناس إذا خالفوه أو إذا استعجلوه به في نحو قولهم { فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] ودعاء الإنسان على ولده وعبده ، مثل استعجالهم أي مثل إرادتهم تعجيل الخير . وعدل عن أن يقال : ولو يستعجل الله للناس الشر { استعجالهم بالخير } أي يعجل ، دفعاً لإيهام النقص بأن من يستعجل الشيء ربما يكون طالباً عجلته من غير لعدم قدرته ، وتنبيهاً على أن الأمر ليس إلاّ بيده { لقضي إليهم أجلهم } فإنه إذا أراد شيئاً كان ولم يتخلف أصلاً .
ولما كان التقدير لأن « لو » امتناعية : ولكنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه لا يفوته شيء بل يمهل الظالمين ويدر لهم النعم ويضربهم بشيء من النقم حتى يقولوا : هذه عادة الدهر ، قد مس آباءنا الضراء والسراء ، سبب عن قوله : { فنذر } أي على أيّ حالة كانت ، ووضع موضع الضمير تخصيصاً وتنبيهاً على ما أوجب لهم الإعراض والجرأة قوله : { الذين } وأشار بنفي الرجاء إلى نفي الخوف على الوجه الأبلغ فقال : { لا يرجون لقآءنا } أي بعد الموت بهذا الاستدراج على ما لنا من العظمة التي من أمنها كان أضل من الأنعام { في طغيانهم } أي تجاوزهم للحدود تجاوزاً لا يفعله من له أدنى روية { يعمهون } أي يحكم مشيئتنا السابقة في الأزل عمياً عن رؤية الآيات صماً عن سماع البينات؛ والتعجيل : تقديم الشيء على وقته الذي هو أولى به؛ والشر : ظهور ما فيه الضر ، وأصله الإظهار من قولهم : شررت الثوب - إذا أظهرته للشمس ، ومنه شرر النار -لظهوره بانتشاره؛ والطغيان : الغلو في ظلم العباد؛ والعمه ، شدةُ الحيرة .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41