كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

« أقروا الطير على مكناتها » ، قلت : إنهم كانوا إذا لم يروا سانحاً ولا بارحاً نفروا الطير لينظروا إلى أيّ جهة تطير - والله أعلم ، وقال أبو حاتم : والأصل في هذا انهم كانوا يزجرون الطير ثم كانوا يزجرون الظبي والثعلب ، وبصوت الإنسان يستدلون بلفظه وبغير ذلك ، ثم نسبت كلها إلى الطير فقيل : يتطير ، أي يستدل بالطير ، وروي عن الأصعمي قال : سألت ابن عون : ما الفال؟ فقال : هو أن تكون مريضاً فتسمع : يا سالم ، وتكون باغياً فتسمع يا واجد ، قال : وكان ابن سيرين يكره الطيرة ويحب الفال ، وفي الحديث :

« أصدق الطير الفال » والفال مأخوذ من الفيال ، وهي لعبة يتقامرون بها ، كانوا يأخذون الدراهم فيخلطونها بالتراب ثم يجمعونه طويلاً ثم يقسمونه بنصفين ويتقارعون عليه ، فمن أصابه القرعة اختار من القسمين واحداً ، فلما كان المفايل يختار منهما ما أحب سمي الفال ، لأنه يتفاءل بما يحبه ، وكان هذا في العرب كثيراً ، وأكثره في بني أسد ، قال الأصمعي : أخبرني سعد بن نصر أن نفراً من الجن تذاكروا عيافة بني أسد فأتوهم فقالوا : ضلت لنا ناقة ، فلو أرسلتم معنا من يعيف ، فقالوا لغليم لهم : انطلق معهم ، فاستردفه أحدهم ، ثم ساروا فلقيتهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها ، فاقشعر الغليم فبكى فقالوا له : ما لك؟ فقال : كسرت جناحاً ، ورفعت جناحاً ، وحلفت بالله صراحاً ، ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً . وكانوا يسمون الذي يجيء عن يمينك فيأخذ إلى شمالك سانحاً ، والذي يجيء عن يسارك فيأخذ غلى يمينك بارحاً ، والذي يستقبلك ناطحاً وكافحاً ، والذي يجيء من خلفك قعيداً ، والذي يعرض في كل وجه متيحاً ، فمنهم من كان يتشاءم بالبارح ويتيمن بالسانح ، ومنهم من كان يتيمن بالبارح ويتشاءم بالسانح ، قال زهير :
جرت سنحاً فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء
وقال الكميت :
ولا السانحات البارحات عشية ... أمر سليم القرن أم مر أعضب
وكانوا يزجرون بعضب القرن وصحته ، والأعضب الذي له قرن واحد ، وأما القائف فهو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل في ولده ، ويروى عن عوسجة ابن معقب القائف : قال : كنا تسرق نخلنا فنعرف آثارهم ، فركبوا الحمر فعرفنا بمس أيديهم والعذوق ، فكان القائف سمي قائفاً لأنه يقفو الأثر ، يقال : قفا الأثر وقاف الأثر أي تبعه ، قال الأصمعي عن أبي طرفة الهذلي قال : رأى قائفان أثر بعير وهما منصرفان من عرفة بعد الناس بيوم أو يومين فقال أحدهما : ناقة ، وقال الآخر : جمل ، فاتبعاه فإذا هما به ، فاطافا به فإذا هو خنثى ، ويقال للرجل إذا كان فطناً عارفاً بالأمور : هو عائف وقائف ، وكان قوم من العرب لا يتطيرون ولا يتهيبون الطيرة ويفتخرون بتركه ويعدون تركه شجاعة وإقداماً ، قال بعض شعرائهم :
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وقال آخر :
ولست بهياب إذا اشتد رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدماً ... إذا صد عن تلك الهناة الخثارم
الخثارم : المطير ، وقيل : العيافة والقيافة ، الطرق والخط ، وهو أيضاً نوع من الكهانة ، وهو أن يخط في الأرض خططاً في الطول ، ثم يخط عليها خططاً في العرض ، ثم يطرق بالحصى او بالشعير أو بخشبات ، ولا يزال يخط ويمحو ويعيد ثم يتكهن عليه ، ومن هذا الباب أيضاً علم الكتف وهو أن ينظر في كتف شاة فيحدث بأشياء تكون في العالم مثل الحروب والأمطار والرياح والجدب والخصب وغير ذلك ، وهذا يقال له : الكتاف ، كأنه أشتق له اسم من الكتف مثل العراف لأن العراف من جنس العيافة ، والعيافة والعرافة ، سواء ، فهذه الأشياء كلها من السحر والكهانة والقيافة والعيافة والخط والطرق والكتف وما أشبهها ، قد جاءت فيها الأخبار والروايات ، ويطول الخطب بها ، وهي كلها مكروهة حرام ، فمنها ما جاء فيها التشديد مثل السحر ، والكهانة ، ومنها ما جاء في القليل منها الرخص والتخفيف مثل القيافة والعيافة والكتف - انتهى .

وهو مسلم له في القيافة ، وأما غيرها فمنازع فيه ، ثم قال : فأكثر هذه الأشياء أصولها من الأنبياء عليهم السلام ، فإذا استعملت بعد النسخ وبعد ما جاء فيها النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت حراماً تدعو إلى الكفر والتعطيل وغير ذلك من أنواع الفساد ، ثم قال : وما كان من أمر مشركي العرب فقد درس دروساً لا يعرف ولا يحتاج إلى ذكر كيفيته إذ كان متلاشياً لا أثر له ، ولكن لا يستغني الفقهاء والعلماء عن معرفته إذ كان له في القرآن ذكر ، وإذ كان واجباً على العلماء تعلم ما في القرآن على حسب طاقتهم ، والجهل به نقص عليهم - والله أعلم بالصواب .

قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)

ولما أشار سبحانه بتسمية كلامهم هذا سؤالاً إلى أن مرادهم : فهل أنتم مغنون عنا شيئاً أو حاملون عنا جزءاً من العذاب؟ وكان كأنه قيل : بم أجاب الرؤساء بعد هذا القول من الأتباع؟ قيل : { قالوا بل } أي لم يكن كفرهم سبباً بل : { لم تكونوا مؤمنين * } أي عريقين في هذا الوصف بجبلاتكم فلذلك تابعتمونا فيما أمرناكم به لأنه كان في طبعكم ، وهذا دليل على أن من لم يكن راسخاً في الإيمان كان منهم ، ثم أكدوا هذا المعنى بقوله نافين لما أشاروا باليمين إليه : { وما كان } أي كوناً ثابتاً { لنا عليكم } وأعرقوا في النفي بقولهم : { من سلطان } أي فأكرهنا بذلك السلطان ، إنما تبعتمونا باختياركم وهو معنى { بل كنتم } أي جبلة وطبعاً { قوماً } أي ذوي قوة وكفاية لما تحاولونه من الأمور { طاغين * } أي مجاوزين لمقاديركم غالين في الكفر مسرفين في المعاصي والظلم ، ولذلك أنكم خلق لا تحتاجون فيه إلى كبير تحرك { فحق علينا } أي كلنا نحن وأنتم بسبب ذلك ، وعبروا بما يدل على ندمهم فقالوا : { قول ربنا } أي الذي قابلنا إحسانه إلينا وتربيته لنا بالكفران ، وقوله هو الحكم بالضلال لما في قلوبنا من القابلية له والإباء للإيمان ، فالحكم بالعذاب .
ولما تصوروا ما صاروا إليه من الخطأ الفاحش عن الطريق الواضح ، وعلموا أن مثل ذلك لا يتركه أحد إلا بقهر قاهر فتصوروا أنه ما قسرهم عليه إلا حقوق الكلمة العليا علموا أنهم مثل ما صاروا إلى حكمها في الكفر يصيرون إلى حكمها في العذاب ، فقالوا لما دهمهم من التحسر مريدين بالتأكيد قطع أطماع الأتباع عما أفهمه كلامهم من أن الرؤساء يغنون عنهم شيئاً : { إنا } أي جميعاً { لذائقون * } أي ما وقع لنا به الوعيد من سوء العذاب .
ولما قضوا علالة التحسر والتأسف والتضجر ، رجعوا إلى إتمام ذلك الكلام فقالوا : { فأغويناكم } أي أضللناهم وأوقعناكم في الغي بسبب حقوق ذلك القول علينا ، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدين أيضاً لرد ما ادعاه الأتباع من أنه ما كان سبب إغوائهم إلا الرؤساء : { إنا } أي جميعاً { كنا غاوين * } أي في طبعنا الغواية ، وهي العدول عن الطريق المثلى إلى المهالك .
ولما قال لهم الرؤساء ما هو الحق من أمرهم مما أوجب الحكم باشتراكهم ، سبب عنه قوله تعالى مؤكداً دفعاً لمن يتوهم اختصاص العذاب بالسبب : { فإنهم } أي الفريقين بسبب ما ذكروا عن أنفسهم { يومئذ } أي يوم إذ كان هذا التقاول بينهم { في العذاب } أي الأكبر { مشتركون * } أي في أصله ، وهم مع ذلك متفاوتون في وصفه على مقادير كفرهم كما كانوا متشاركين في السبب متفاوتين في شدتهم فيه ولينهم - هذا وقد قال البخاري في صحيحه في تفسير حم السجدة : وقال المنهال عن سعيد : قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { ولا يكتمون الله حديثاً } { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا في هذه الآية ، وقال : { السماء بناها } إلى قوله : { دحاها } فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى { طائعين } فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء ، وقال : { وكان الله غفوراً رحيماً } { عزيزاً حكيماً } { سميعاً بصيراً } فكأنه كان ثم مضى ، فقال : { فلا أنساب بينهم } في النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ، إلا من شاء الله فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، وأما قوله { ما كنا مشركين } { ولا يكتمون الله حديثاً } فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين ، فنختم على أفواههم فتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً ، وعنده يود الذين كفروا - الآية ، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ، و { دحاها } أي أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله { دحاها } وقوله : خلق الأرض في يومين ، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين ، وكان الله غفوراً رحيماً ، سمى نفسه ذلك ، وذلك قوله ، أي لم يزل كذلك ، فإن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاًّ من عند الله .

وقال في سورة المرسلات : وسئل ابن عباس رضي الله عنهما { هذا يوم لا ينطقون } { والله ربنا ما كنا مشركين } { اليوم نختم على أفواههم } فقال : إنه ذو ألوان ، مرة ينطقون ومرة يختم عليهم .
ولما أخبر سبحانه باشتراكهم ، استأنف الإخبار بما يهول أمر عذابهم ويشير إلى عمومه في الدارين لكل من شاركهم في الإجرام ، فقال مؤكداً دفعاً لظن من ينكر القيامة وظن من يرى الإملاء للمجرم في الدنيا نعمة وينفي كونه نقمة ، أو يفعل في التمادي في الإجرام فعل المنكر؛ { إنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء { كذلك } أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن { نفعل } بهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه علق بالوصف تعميماً وتعليلاً فقال : { بالمجرمين * } أي كل قاطع لما أمر الله به أن يوصل في الدنيا والآخرة ، نمهل ثم نأخذ أخذاً عنيفاً يصير به المشتركون في الظلم أعداء يتخاصمون ، ويحيل بعضهم على بعض ثم لا ينفعهم ذلك ، بل نشارك بينهم في العقوبة ، ثم علل تعذيبه لهم بقوله مؤكداً للتعجب منهم لأن فعلهم هذا أهل لأن ينكر لأن هذه الكلمة لا يصدق عاقل أن أحداً يستكبر عليها لأنه لا شيء أعدل منها : { إنهم كانوا } أي دائماً { إذ قيل لهم } أي من أيّ قائل كان : { لا إله } أي يمكن ، وإذا نفي الممكن كان الموجود أولى فإنه لا يوجد إلا ما يمكن وجوده وإن كان واجباً { إلا الله } أي الملك الأعلى المباين لجميع الموجودات في ذاته وصفاته وافعاله كما هو الحق ليفردوه بالإلهية كما تفرد بالخالقية كما لا يخفى على من له أدنى مسكة بصفات الكمال ، وقدم النفي لأن التحلية لا تكون إلا بعد التخلية { يستكبرون * } أي يوجدون الكبر عن الإقرار بهذا الحق الذي لا أعدل منه وعن متابعة الداعي إليه ، استكبار من هو طالب للكبر من نفسه ومن غيره لما فيه من العراقة والعتو ، فلم يكن لهم مانع من أبواب جهنم السبعة التي جعلت كل كلمة من هذه الكلمة مع قرينتها الشاهدة بإرساله مانعة من باب منها وإلا كان في شيء من ساعات أيامهم - التي هي بعدد حروفهما أربعة وعشرون - خير ينجيهم من المكارة .

ولما أخبر أنهم استكبروا على توحيد الإله ، أتبعه الإخبار بأنهم تكلموا في رسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يرضاه : فقال : { ويقولون } أي كل حين ما دلوا به على بعدهم عن الإيمان كل البعد بسوقهم لقولهم ذلك في استفهام إنكاري مؤكداً : { إئنا لتاركوا آلهتنا } أي عبادتها ، وكان تأكيد أصل الكلام للإشارة إلى أن تكذيبهم صادر منهم مع علمهم بأن كل عالم بحالهم يراهم جديرين بترك ما هم عليه لما جاء به صلى الله عليه وسلم ، ولذلك أعلم بأن ما هم عليه عناد بسوق تكذيبهم على وجه معلوم التناقض بالبديهة بقوله : { لشاعر مجنون * } فإن الجنون لا نظام معه ، والشعر يحتاج إلى عقل رصين وقصد قويم ، وطبع في الوزن سليم ، أو للإشارة إلى أن إنكار المؤكد إنكار لغيره بطريق الأولى .
ولما كان مرادهم بذلك أن كلامه باطل ، فإن أكثر كلام الشاعر غلو وكذب وكلام المجنون تخليط ، كان كأنه قال في جوابهم : إنه لم يجىء بشرع ولا بجنون : { بل جاء بالحق } أي الكامل في الحقية .
ولما كان ما جاء به أهلاً لكونه حقاً لأن يقبل وإن خالف جميع أهل الأرض ، وكان موافقاً مع ذلك لمن تقرر صدقهم واشتهر اتباع الناس لهم ، فكان أهلاً لأن يقبله هؤلاء الذين أنزلوا أنفسهم عن أوج معرفة الرجال بالحق إلى حضيض معرفة الحق على زعمهم بالرجال ، فكان مآل أمرهم التقليد قال : { وصدق المرسلين * } أي الذين علم كل ذي لب أنهم أكمل بدور أضاء الله بهم الإكوان في كل أوان ، وتقدم في آخر سورة فاطر أنهم عابوا من كذبهم { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم أحد منهم ليؤمنن به فكذبوا } بأن كذبوا سيدهم بهذا الكلام المتناقض .

إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)

ولما وصلوا إلى هذا الحد من الطغيان ، والزور الظاهر والبهتان ، تشوف السامع إلى جزائهم فاستأنف الإخبار بذلك مظهراً له في أسلوب الخطاب إيذاناً بتناهي الغضب ، فقال في قالب التأكيد نفياً لما يترجمونه من العفو بشفاعة من ادعوا أنهم يقربونهم زلفى ، ووعظاً لهم ولأمثالهم في الدنيا فيما ينكرونه حقيقة أو مجازاً : { إنكم } أي أيها المخاطبون على وجه التحقير المجرمين { لذائقوا } أي بما كنتم تضيقون أولياء الله { العذاب الأليم * } .
ولما كان سبحانه الحكم العدل فلا يظلم أحداً مثقال ذرة فلا يزيد في جزائه شيئاً على ما يستحق مع أن له أن يفعل ما يشاء ولا يكون فعله - كيفما كان - إلا عدلاً قال : { وما } أي والحال أنكم ما { تجزون } أي جزءاً من الجزاء { إلا ما } أي مثل ما . ولما كانوا مطبوعين على تلك الخلال السيئة ، بين أنها كانت خلقاً لهم لا يقدرون على الانفكاك عنها بالتعبير بأداة الكون فقال : { كنتم تعملون * } نفياً لوهم من قد يظن أنهم فعلوا شيئاً بغير تقديره سبحانه . ولما كان في المخاطبين بهذا من علم الله أنه سيؤمن ، و استثنى من واو « ذائقوا » قوله مرغباً لهم في الإيمان مشيراً إلى أنهم لا يحملهم على الثبات على ما هم عليه من الضلال إلا غش الضمائر بالرياء وغيره ، فهو استثناء متصل بهذا الاعتبار الدقيق : { إلا عباد الله } فرغبهم بوصف العبودية الذي لا أعز منه ، وأضافهم زيادة في الاستعطاف إلى الاسم الأعظم الدال على جميع صفات الكمال ، وزاد رغباً بالوصف الذي لا وصف أجلّ منه فقال : { المخلصين * } .
ولما خلصهم منهم ، ذكر ما لهم فقال معظماً لهم بأداة البعد : { أولئك } أي العالو القدر بما صفوا أنفسهم عن أكدار الأهوية { لهم رزق معلوم } أي يعلمون غائبه وكائنه وآتيه وطعمه ونفعه وقدره وغبّه وجميع ما يمكن علمه من أموره ، وليسوا مثل ما هم عليه في هذه الدار من كدر الأخطار { لا تدري نفس ماذا تكسب غداً } لأن النفس إلى المعلوم أسكن ، وبالأنس إليه أمكن .
ولما كان أهل الجنة لا يأكلون تقوتأً واحتياجاً ، بل تنعماً والتذاذاً وابتهاجاً ، لأن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد ، فهي غير محتاجة إلى حفظ الصحة قال : { فواكه } أي يتنعمون بها بما كدروا من عيشهم في الدنيا . ولما كان الذي هو نعيم الجسم لا يحمد غاية الحمد إلا مع العز الذي هو غذاء الروح قال : { وهم مكرمون * } بناه للمفعول إشارة إلى أن وجود إكرامهم من كل شيء أمر حتم لا يكون غيره أصلاً .
ولما كان الإكرام لا يتم إلا مع طيب المقام قال : { في جنات النعيم * } أي التي لا يتصور فيها غيره .

ولما كان التلذذ لا يكمل إلا مع الأحباب ، وكانت عادة الملوك الاختصاص بالمحل الأعلى ، بين أنهم كلهم ملوك فقال : { على سرر متقابلين * } أي ليس فيهم أحد وجهه إلى غير وجه الآخر على كثرة العدد . ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالشراب ، وكان المقصود الطواف فيه ، لا كونه من معين ، قال : { يطاف } بالبناء للمفعول وكأنها يدلى إليهم من جهة العلو ليكون أشرف لها وأصون ، فنبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال : { عليهم } أي وهم فوق أسرتهم كالملوك { بكأس } أي إناء فيه خمر ، قالوا : وإن لم يكن في الزجاجة خمر فهي قدح ، ولا تسمى كأساً إلا والخمر فيها { من معين * } أي من خمر جارية في أنهارها ، ظاهرة للعيون تنبع كما تنبع الماء لا يعالجونها بعصير ، ولا يحملهم على الرفق بها والتقصير فيها نوع تقصير ، قال الرازي : إنما سميت به إما من ظهروها للعين أو لشدة جريها من الإمعان في السير أو لكثرتها من المعن ، وهو الكثير ، وسمي الماعون لكثرة الانتفاع به ، ويقال : مشرب ممعون : لا يكاد ينقطع .

بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)

ولما كان أول ما يختار في الشراب لونه ثم طعمه ، قال واصفاً ما في الكأس من الخمر استخداماً : { بيضاء } أي مشرقة صافية هي في غاية اللطافة تتلألأ نوراً ، وأعرق في وصفها بالطيب بجعلها تفسيراً للمعنى في قوله : { لذة للشاربين * } بما كانوا يتجرعون من كأسات الأحزان والأنكاد ، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ، وجمع إشارة إلى أنهم لا يعلونها إلا كذلك بما فيه من مزيد اللذة .
ولما كان قد أثبت لها الكمال ، نفى عنها النقص فقال : { لا فيها غول } أي فساد من تصديع رأس أو إرخاء مفصل أو إخماء كبد أو غير ذلك مما يغتال أي يهلك ، أو يكون سبباً للهلاك { ولا هم عنها } أي عادة بعد شربها { ينزفون * } أي يذهب شيء من عقولهم وإن طال شربهم وكثر لئلا ينقص نعيمهم ولا ينفذ شرابهم أو ما عندهم من الجدة لكل ما يسر به - على قراءة حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف - مبنياً للفاعل مثل أقل وأعسر - إذا صار قليل المال ، أو ذهب عقله ، وقراءة الجماعة بالبناء للمفعول يحتمل أن تكون من نزف ، وحينئذ يحتمل أن تكون من نفاذ الشراب من قولهم : نزفت الركية ، اي ذهب ماؤها ، وأن تكون من ذهاب العقل من قولهم : نزف الرجل بالبناء للفاعل ونزف بالبناء للمفعول بمعنى : ذهب عقله بالسكر ويحتمل أن تكون من أنزف وحينئذ يحتمل أن تكون من ذهاب العقل من أنزف الرجل - إذا ذهب عقله بالسكر ، وأن تكون من عدم الشراب من قولهم : نزف الرجل الخمرة - سواء كان مبنياً للفاعل أو للمفعول - إذا أفناها .
ولما كان ذلك كله لا يكمل إلا بالجماع ، والخمر أدعى شيء إليه ، وهو لا يكمل النعيم به إلا بالاختصاص قال : { وعندهم } نساء من أهل الدنيا وغيرها { قاصرات الطرف } أي لا تطرف واحدة منهن إلى غير زوجها ولا يدعه تناهي حسنها وفرط جمالها طرفها يطرف إلى غيرها { عين * } أي نجل العيون ، جمع عيناء ، كسرت عينه لمناسبة الياء .
ولما كان أحسن الألوان لا سيما عند العرب الأبيض الأحمر المشرب صفرة أكتسبته صفاء وإشراقاً وبهاء ، قال : { كأنهن بيض } أي بيض نعام { مكنون * } أي مصون من دنس يلحقه ، وغبار يرهقه ، ولمحبة العرب لهذا اللون كانت تقول عن النساء بيضات الخدور لأنه لونه أبيض مشرباً صفرة صافية ، وقد صرح امرؤ القيس بهذا في لاميته المشهورة فقال :
كبكر مقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلل
أي مخالطة البياض المائل إلى الحمرة بصفرة ، وهو أصفى الألوان واعدلها ، يشابه لون نور القمر .
ولما كان ذلك الاجتماع إنما هو للسرور ، وكان السرور لا يتم إلا بالمنادمة ، وكان أحلى المنادمة ما يذكر بحلول نعمة أو انحلال نقمة ، تسبب عن ذلك ولا بد قوله إشارة إلى فراغ البال وصحة العقل بالإصابة في المقال : { فأقبل بعضهم } أي أهل الجنة بالكلام ، وأشار إلى أن مجرد الإقبال بالقصد يلفت القلوب إلى سماعه بأداة الاستعلاء فقال : { على بعض } أي لأجل الكلام الذي هو روح ذلك المقام ، وأما المواجهة فقد تقدم أنها دائمة ، وبين حال هذا الإقبال فقال : { يتساءلون * } أي يتحدثون حديثاً بيناً لا خفاء بشيء منه بما أشار إليه الإظهار بما حقه أن يهتم به ويسأل عنه من أحوالهم التي خلصوا منها بعد أن كادت ترديهم ، وسماه سؤالاً لأنه مع كونه أهلاً لأن يسأل عنه - لا يخلو عن سؤال أدناه سؤال المحادث أن يصغي إلى الحديث ، وعبر عنه بالماضي إعلاماً بتحققه تحقق ما وقع .

ولما تشوف السامع إلى سماع شيء منها يكون نموذجاً للباقي ، أشار إلى ذلك بقوله مستأنفاً : { قال قائل منهم } أي في هذا التساؤل ، وشتان ما بينه وبين ما مضى خبره من تساؤل أهل النار .
ولما كان ظنه أنه لا يخلص من شر ذلك القرين الذي يحدث عنه فنجاه الله منه على خلاف الظاهر ، فكان ذلك إحدى النعم الكبرى ، نبه عليه بالتأكيد فقال : { إني كان لي قرين * } أي جليس من الناس كأنه شيطان مبين { يقول } أي مكذباً بالبعث مستبعداً له غاية الاستبعاد مجدداً لقوله في كل وقت ، يريد أن يختدعني بلطافة قياده إلى سوء اعتقاده : { أإنك لمن المصدقين * } أي بالبعث - يوبخني بذلك ويستقصر باعي في النظر استثارة لهمتي وإلهاباً لنخوتي وحميتي ، ويكرر الإنكار بقوله : { أإذ متنا } أي فذهبت أوراحنا { وكنا } أي كوناً راسخاً { تراباً وعظاماً } أي فانمحقت أجسامنا التي هي مراكب الأرواح { أإنا لمدينون * } أي لمجزيون بعد ذلك بما عملنا بأن نبعث ونجازى ، وكان تأكيده للإشارة منه إلى كل عاقل جدير بأن يكذب بما أقررت به لبعده ، أو إلى أنه مكذب به ولو كان مؤكداً .
ولما كان هذا المقال سبباً لعظيم تشوف السامع إلى ما يكون بعده ، وكان أهل الجنة من علو المكان والمكانة وصحة الأجسام وقوة التركيب ونفوذ الأبصار بحيث ينظرون ما شاؤوا من النار وغيرها مما دونهم متى شاؤوا ، استانف قوله مشيراً إلى أن حاله هذت معلم أنه من أهل النار : { قال } أي هذا القائل لشربه هؤلاء الذين هم كما قال بعضهم في موشح :
رب شرب كالعقد قد نظموا ... في ثياب طرازها الكرم
فاغتنمت الهنا كما اغتنموا ... وظننت الكؤوس بينهمو
أنجماً في سما الهناء ترى ... كل نجم يغيب في بدر
{ هل أنتم مطلعون * } أي شافون قلبي بأن تتركوا ما أنتم فيه من تمام اللذة وتكلفوا أنفسكم النظر معي في النار لتسروني بذلك .

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)

ولما كان المحدث عنه المخلصين ، وهم أهل الجنة كلهم أو جلهم ، وكان الضمير يعود لما سبقه بعينه ، وكان مخاطبو هذا القائل إنما هم شربه ، وكان من المعلوم مما مضى من التقابل والتواد والتواصل بالمنادمة والتساؤل أنهم ينتدبون ندبهم إليه ويقبلون قطعاً عليه ، وكان النافع لنا إنما هو قوله فقط في توبيخ عدوه وتغبيط نفسه ووليه ، لم يجمع الضمير لئلا يلبس فيوهم أنه للجميع ، وأعاده عليه وحده لنعتبر بمقاله ، ونتعظ بما قص علينا من حاله فقال : { فاطلع } أي بسبب ما رأى لنفسه في ذلك من عظيم اللذة إلى أهل النار { فرآه } أي ذلك القرين السوء { في سواء الجحيم * } أي في وسطها وغمرتها تضطرم عليه أشد اضطرام بما كان يضرم في قلبه في الدنيا من الحر كلما قال له ذلك المقال ، وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب كمركز الدائرة ، ثم استأنف الإخبار عن مكافأته له بما كان من تقريعه وتوبيخه على التصديق بالآخرة بقوله : { قال } أي لقرينه ذلك .
ولما كان لا يقع في فكر أنه كان يتلفت إلى قوله هذا نوع التفاف لأنه ظاهر البطلان ، ولأن هذا القائل محكوم بأنه من أهل الجنة ، أكد قوله إشارة إلى أنه كان يؤثر فيه قوله في كثير من الأوقات بما يزينه به الشيطان وتحسنه النفوس بالشهوات ، والراحة من كلف الطاعات ، وساقه في أسلوب القسم تنبيهاً على التعجب من سلامته منه فقال : { تالله } وزاد التأكيد بعم ما علقه بالاسم الأعظم بالمخففة من المثقلة فقال : { إن كدت لتردين } أي إنك قاربت أن تهلكني وتجعلني في أردأ ما يكون من الأماكن ، وفي هذا التأكيد غاية الترغيب في الثبات لمن كان قريباً من التزلزل وفي المباعدة لقرناء السوء .
ولما ذكر سوء ما كان يأتي إليه ، ذكر حسن أثر الله سبحانه عنده ، فقال لافتاً الكلام إلى صفة الإحسان لأنه مقامه : { ولولا نعمة ربي } أي المحسن إليّ بما رباني به من تثبيتي عن أتباعك والتجاوز عني في مخالطتك { لكنت } كوناً ثابتاً { من المحضرين * } أي المكرهين على حضور هذا الموطن الضنك الذي أنت فيه ، فيالله ما أعظم إحسان هذه الآية في التنفير من العشرة لقرناء السوء لأنها شديدة الخطر قبيحة الأثر ، ولقد أبان نظره هذا عن أنه لم يكن أعلى لذة مما كان فيه فليس بأدنى منه ، فإنه لا شيء ألذ من رؤية العدو الماكر الذي طالما أحرق الأكباد وشوش الأفكار ، في مثل دلك من الإنكار ، وعظائم الأكدار ، من غمرات النار .
ولما رأى ذاك فيما هو فيه من الجحيم ، ورأى نفسه فيما هي فيه من النعيم ، ما ملك نفسه أن قال كما يعرض لمن يكون في شدة فيأتيه الفرج فجأة فيصير كأنه في منام أو أضغاث أحلام ، لا يصدق ما صار إليه سروراً : { أفما } أي أنحن يا إخواني منعمون مخلدون فيتسبب عن ذلك أنا ما { نحن بميتين * } أي بعد حالتنا هذه ، وأكده لأن مثله لأجل نفاسته لا يكاد يصدق ، ثم أعرق في العموم بما هو معياره فقال : { إلا موتتنا الأولى } أي التي كانت في الدنيا .

ولما ذكر نعمة الخلاص من الموت ، ذكر نعمة الإنقاذ من الأكدار فقال : { وما } { نحن } وأكد النفي فقال : { بمعذبين * } .
ولما تذكر هذا فاستفزه السرور ، وازدهته الغبطة والحبور ، لم يملك نفسه أن قال في أسلوب التأكيد لما له في ذلك من النشاط لما له من خرق العادة منبهاً على عظمته لتعظيم الغبطة : { إن هذا } أي الملك الذي نحن فيه { لهو } أي وحده { الفوز العظيم * } أي الذي لا شيء يعدله . ولما دل هذا السياق على عظيم ما نالوه ، زاد في تعظيمه بقوله : { لمثل هذا } أي الجزاء { فليعمل العاملون * } أي لينالوه فإنهم يغتنون غنى لا فقر بعده بخلاف ما يتنافسون فيه ويتدالجون عليه من أمور الدنيا ، فإنه مع سرعة زواله منغض بكدره وملاله .
ولما فات الوصف هذا التشويق إلى هذا النعيم ، رمى في نعته رمية أخرى سبقت العقول وتجاوزت حد الإدراك وعلت عن تخيل الوهم في استفهام منفر من ضده بمقدار الترغيب فيه لمن كان له لب فقال : { أذلك } الجزاء البعيد المنال البديع المثال { خير نزلاً } فأشار بذلك إلى أنه إنما هو شيء يسير كما يقدم للضيف عند نزوله على ما لاح في جنب ما لهم وراء ذلك مما لا تسعه العقول ولا تضبطه الفهوم : { أم شجرة الزقوم * } أي التي تعرفها بأنها في غاية النتن والمرارة ، من قولهم : تزقم الطعام - إذا تناوله على كره ومشقة شديدة ، وعادل بين ما لا معادلة بينهما بوجه تنبيهاً على ذلك ، ولأنهم كانوا يرون ما سبب ذلك من الأعمال خيراً من أعمال المؤمنين التي سببت لهم النعيم ، فكأنهم كانوا يقولون : إن هذا العذاب خير من النعيم ، فسيق ذلك كذلك توبيخاً لهم على سوء اختيارهم .

إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

ولما كان قد أخبر أن نباتها في النار ، فكان ذلك سبباً لزيادة تكذيبهم لأن عدم إيمانهم كان سبباً لضيق عقولهم ، قال مؤكداً رداً على من يظن أن سبحانه لا يفتن عباده لأنه غني عن ذلك : { إنا جعلناها } أي الشجرة بما لنا من العظمة { فتنة للظالمين * } أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها كمن هو في الظلام بكونها عذاباً لهم في الأخرى وسبباً لزيادة ضلالهم في الدنيا ، ولو وضعوها مواضعها لعلموا أن من جعل في الشجر الأخضر ناراً لا تحرقه يستخرجونها هم متى شاؤوا فيحرقون بها ما شاؤوا من حطب وغيره قادر على أن ينبت في النار شجراً أخضر لا تحرقه النار ، ثم نبه على أن محل الفتنة جعلها فيما ينكرونه ، فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم معللاً لجعلها فتنة تخالطهم فتحيلهم في الدنيا بحرها وفي الأُخرى بأثرها : { إنها } وحقق أمر نباتها بقوله : { شجرة } وزاد الأمر بياناً بقوله : { تخرج } وأكده بالظرف فقال : { في أصل } أي ثابت وقعر ومعظم وقرار { الجحيم } أي النار الشديدة الاضطرام وفروعها ترتفع إلى دركاتها ، ثم زاد ذلك وضوحاً وتصويراً بقوله : { طلعها } أي الذي هو مثل طلع النخل في نموه ثم تشققه عن ثمرة { كأنه رءوس الشياطين * } فيما هو مثل عند المخاطبين فيه ، وهو القباحة التي بلغت النهاية ، وهذا المثل واقع في أتم مواقعه سواء كان الشيطان عندهم أسماً للحية أو لغيرها ، لأن قبح الشياطين وما يتصل بهم في أنهم شر مخص لا يخلطه خير مقرر في النفوس ، ولهذا كان كل من استقبح منظر إنسان أو فعله يقول : كأنه شيطان ، كما انطبع في النفوس حسن الملائكة وجلالتهم فشبهوا لهم الصور الحسان ، ولذلك سمت العرب ثمر شجر يقال له الأستن بهذا الاسم ، وهو شجر خشن مر منتن منكر الصورة .
ولما أثبت أمرها بما هو في غاية الفتنة لها واللطف للمؤمنين ، سبب عن الفتنة بها قوله : راداً لإنكارهم أن يأكلوا مما لا يشتهونه ومكذباً لما كانوا يدعون من المدافعة : { فإنهم } أي بسبب كفرانهم بها وبغيرها مما أمرهم الله { لآكلون منها } أي من هذه الشجرة من شوكها وطلعها وما يريد الله بما يؤلم منها . ولما كانوا قد زادوا في باب التهكم في أمرها ، زاد التأكيد في مقابلة ذلك بقوله : { فمالئون منها } ومن غيرها في ذلك الوقت الذي يريد الله أكلهم منها { البطون * } قهراً على ذلك وإجباراً . ولما أحرق أكبادهم من شديد الجوع زيادة في العذاب ، ولما جرت العادة بأن الآكل المتنعم يتفكه بعد أكله بما يبرد غلة كبده ، قال مشيراً إلى تناهي شناعة متفكههم ، وطويل تلهبهم من عطشهم ، بأداة التراخي وآلة التأكيد لما لهم في ذلك من عظيم الإنكار : { ثم إن لهم عليها } أي على أكلهم منها { لشوباً } أي خلطاً عظيم الإحراق { من حميم * } أي ماء حار كأنه مجمع من مياه من عصارات شتى من قيح وصديد ونحوهما - نسأل الله العافية .

ولما كان ما ذكر للفريقين إنما هو النزل الذي مدلوله ما يكون في أول القدوم على حين غفلة ، وكانوا يريدون الحميم كما يورد الإبل الماء ، وكان قوله تعالى { يطوفون بينها وبين حميم آن } [ الرحمن : 44 ] يدل على أن ذلك خارجها أو خارج غمرتها ، كما تكون الأحواض في الحيشان خارج الأماكن المعدة للإبل ، قال مبيناً أن لهم ما هو أشد شناعة من ذلك ملوحاً إليه بأداة التراخي : { ثم إن مرجعهم } أي بعد خروجهم من دار ضيافتهم الزقومية { لإلى الجحيم * } أي ذات الاضطرام الشديد ، والزفير والبكاء والاغتمام الطويل المديد ، كما أن حزب الله يتقلبون من جنات النعيم إلى جنات المأوى مثلاً إلى جنات عدن إلى الفردوس التي لا يبغون عنها حولاً كما ينقل أهل السعة والأكابر من أهل الدنيا ضيوفهم في البساتين المتواصلة والمناظر ، وينزهونهم في القصور العالية والدساكر .
ولما أخبر عن عذابهم هذا ، وكان سببه الجمود مع العادة الجارية على غير الحق ، والتقيد بما ألفته النفس ومال إليه الطباع ، مما أصّله من يعتقدون أنه أكبر منهم وأتم عقلاً ، علل ذلك تحذيراً من مثله لأنه كان سبب هلاك أكثر الخلق ، وأكده لأنهم ينكرون ضلال من أصّل لهم ، فتلك العوائد من آبائهم وغيرهم فقال : { إنهم ألفوا } أي وجدوا وجدانا ألفوه { آباءهم ضالين * } أي عريقين في الضلال ، فما هم فيه لا يخفى على أحد أنه ضلال يتسبب عنه النفرة عن صاحبه { فهم } أي البعداء البغضاء { على آثارهم } أي التي لا تكاد تبين لأحد لخفاء مذاهبها لوهيها وشدة ضعفها وانطماس معالمها ، لا على غيرها { يهرعون * } أي كأنهم يلجئهم ملجئ إلى الإسراع ، فهم في غاية المبادرة إلى ذلك من غير توقف على دليل ولا استضاءة بحجة بحيث يلحق صاحب هذا الإسراع من شدة تكالبه عليه شيء هو كالرعدة ، وذلك ضد توقفهم وجمودهم فيما أتاهم به رسولنا صلى الله عليه وسلم من شجرة الزقوم وغيرها مما هو في غاية الوضوح والجلاء ، فأمعنوا في التكذيب به والاستهزاء ، وأصروا بعد قيام الدلائل ، فكانوا كالجبال ثباتاً على ضلالهم ، والحجارة الصلاب الثقال رسوخاً في لازب أوحالهم .

وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد المحبة لهداهم والحزن على ضلالهم ، والأسف على غيهم ومحالهم ، وكان الضلال مع العقل أولاً ، ثم مع وجود الرسل الذين هم من الصدق والمعجزات والأمور الملجئة إلى الهدى ثانياً كالمحال ، سلاه سبحانه بقوله على سبيل التأكيد لزيادة التحقيق : { ولقد ضل قبلهم } أي قبل من يدعوهم في جميع الزمان الذي تقدمهم { أكثر الأولين * } بحيث إنه لم يمض قرن بعد آدم عليه السلام إلا وكله أو جله ضلال .
ولما كان ربما ظن أنه لعدم الرسل ، نفى ذلك بقوله مؤكداً لنحو ذلك : { ولقد أرسلنا } أي على ما لنا من العظمة التي توجب الإتيان بما لا ريب فيه من البيان { فيهم منذرين * } أي فأنذروهم بأس الله وبينوا لهم أحسن البيان ، ومع ذلك فغلب عليهم الضلال ، وعناد أهل الحق بالمحال ، حتى أهلكهم الله بما له من شديد المجال ، وهو معنى قوله : { فانظر } أي فتسبب عن الإرسال أنا فعلنا في إهلاكهم من العجائب ما يستحق التعجيب به والتحذير من مثله بأن يقال لمن تخلف عنهم : انظر { كيف } ولما كان ذلك عادة مستمرة لم تختلف أصلاً قال : { كان عاقبة } أي آخر امر { المنذرين } أي في إنا أهلكناهم لتكذيبهم ، فاصبر على الشدائد كما صبروا ، واستمر على الدعاء بالبشارة والنذارة حتى يأتيك أمر الله .
ولما أفهم الحكم على الأكثر بالضلال أن الأقل على غير حالهم ، نبه على حال الطائعين بقوله مستثنياً من ضمير المنذرين : { إلا عباد الله } أي الذين استخلصهم سبحانه بما له من صفات الكمال ، فاستحقوا الإضافة إلى اسمه الأعظم { المخلصين * } أي الذين أخلصهم له فأخلصوا هم أعمالهم فلم يجعلوا فيها شوباً لغيره .
ولما كان مقصود السورة التنزيه الذي هو الإبعاد عن النقائص ، ولذلك كان أنسب الأشياء الإقسام أولها بالملائكة هم أنزه الخلق ، وكان أعلى الخلق من جرد نفسه عن الحظوظ بما يؤتيه الله من المجاهدات والمنازلات والمعالجات حتى يلحق بهم فيجوز مع فضلهم معالي الجهاد ، فكان أحق الأنبياء بالذكر من كان أكثر تجريداً لنفسه من الشواغل سيراً إلى مولاه وتعريجاً عن كل ما سواه ، وكان الأب الثاني من أحقهم بذلك لأنه تجرد في الجهاد بالدعاء إلى الله ألف عام ثم تجرد عن كل شيء على ظهر الماء بين الأرض والسماء ، فقال تعالى مؤكداً لما تقدم من أنه دعا إلى التأكيد من أن مكثه في قومه المدة الطويلة مبعد لأن يكونوا وافقوه ومالوا معه وتابعوه ، ولأن فعل العرب في التكذيب مع ترادف المعجزات وتواتر العظات عمل من هو مكذب بوقوع النصرة للمرسلين ، والعذاب للمكذبين ، عطفاً على تقديره : فقاسى الرسل من الشدائد ما لا تسعه الأوراق ، وجاهدوهم بأنفسهم والتضرع إلى الله تعالى في أمرهم : { ولقد نادانا } لما لنا من العظمة { نوح } بقوله

{ رب إني مغلوب فانتصر } [ القمر : 10 ] ونحوه مما أخبر الله عنه به بعد أمور عظيمة لقيها منهم من الكروب ، والشدائد والخطوب ، لنكشف عنه ما أعياه من أمرهم .
ولما أغنت هذه الجملة عن شرح القصة وتطويلها ، وكان قد تسبب عن دعائه إجابته ، قال بالتأكيد بالاسمية والإشارة إلى القسم والأداة الجامعة لكل مدح وصيغة العظمة إلى أن هول عذابهم وعظم مصابهم بلغ إلى أنه مع شهرته لا يكاد يصدق ، فهو يحتاج إلى اجتهاد كبير وشدة اعتناء ، فكانت الإجابة إجابة من يفعل ذلك وإن كانت الإفعال بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء ، لا تحتاج إلى غير مطلق الإرادة : { فلنعم المجيبون * } أي كنا بما لنا من العظمة له ولغيره ممن كان نعم المجيب لنا ، هذه صفتنا لا تغير لها .

وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

ولما كان معنى هذا : فأجبناه إجابة هي النهاية في استحقاق على الممادح من إيصاله إلى مراده من حمله وحمل من آمن به والانتقام ممن كذبه كما هي عادتنا دائماً ، عطف عليه قوله : { ونجيناه } أي بما لنا من العظمة { وأهله } أي الذين وافقوه في الدين { من الكرب العظيم * } وهو الأذى من الغرق { وجعلنا ذريته هم } أي خاصة { الباقين * } لأن جميع أهل الأرض غرقوا فلم يبق منهم أحد أصلاً ، وأهل السفينة لم يعقب منهم أحد غير أولاده ، فأثبناه على نزاهته إن كان هو الأب الثاني ، فالعرب والعجم أولاد سام ، والسودان أولاد حام ، والترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج أولاد يافث ، فكل من تبع سنته في الخير كان له مثل أجره .
ولما ذكر لأنه بارك في نسله ، أعلم أنه أدام ذكره بالخير في أهله فقال : { وتركنا عليه } أي ثناء حسناً ، لكنه حذف المفعول وجعله لازماً ، فصار المعنى : أوقعنا عليه الترك بشيء هو من عظمته وحسن ذكره بحيث يعز وصفه { في الآخرين * } أي كل من تأخر عن زمانه إلى يوم الدين . ولما كان قد كتب الله في القدم سلامته من كل سوء على كثرة الأعداء وطول الإقامة فيهم وشدة الخلاف قال تعالى مستأنفاً مادحاً : { سلام } أي عظيم { على نوح } من كل حي من الجن والأنس والملائكة لسلام الله عليه . ولما كان لسان جميع أهل الأرض في زمانه عليه السلام واحداً ، فكانوا كلهم قومه ، ولم يكن في زمانه نبي ، فكانت نبوته قطب دائرة ذلك الوقت ، فكان رسالته عامة لأهله ، وكان غير الناس من الخلق لهم تبعاً ، خصه في السلام بأن قال : { في العالمين } أي مذكور فيهم كلهم لفظاً ومعنى يسلم عليه دائماً إلى أن تقوم الساعة ، وخصوصية نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه أرسل إلى جميع الخلق مع اختلاف الألسنة ومع استمرار الرسالة أبد الآباد ، وكون شريعته ناسخة غير منسوخة ، وكون جميع الخلق في القيامة تحت لوائه ، فهناك يظهر تمام ما أوتيه من عموم البعثة إلى ما ظهر منه في الدنيا .
ولما كان التقدير : فعلنا به ذلك لإحسانه ، وكان الضالون ينكرون أن تنجو الدعاء إلى الله وأتباعهم منهم ، أخبر في سياق التأكيد أنه يفعل بكل محسن ما فعل به فقال { إنا } أي على عظمتنا { كذلك } أي مثل ذلك الجزاء بالذكر الحسن والنجاة من كل سوء { نجزي المحسنين * } أي الذين يتجردون من الظلمات النفسانية إلى الأنوار الملكية بحيث لا يغفلون عن المعبود ، ولا ينفكون لحظة عن الشهود .
ولما أفهمت هذه الجملة - ولا بد - إحسانه إلى المحسن ، علل ما أفهمته بقوله : مؤكداً إظهاراً للإقبال عليه بأن ذكره مما يرغب فيه ، وتكذيباً لمن كذبه : { إنه من عبادنا } أي الذين هم أهل لأن نضيفهم إلى مقام عظمتنا { المؤمنين * } أي الراسخين في هذا الوصف ، المتمكنين فيه ، فعلم أن الإيمان هو المراد الأقصى من الإنسان لأنه علل الإنجاء بالإحسان والإحسان بالبيان ، ولما أفهم تخصيص ذريته بالبقاء إهلاك غيرهم ، وقدم ما هو أهل له من مدحه اهتماماً به وترغيباً في مثله ، أخبر عن أعدائه بأنه أوقع بهم لأنهم لم يتحلوا بما كان سبب سعادته من الإيمان بقوله : مشيراً إلى العظمة التي أوجدها سبحانه في إغراقهم بأداة التراخي : { ثم أغرقنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يقوم لها شيء { الآخرين * } أي الذي غايروه في الأقوال والأفعال فاستحقوا أضداد أفعالنا معه وهو أهل الأرض كلهم غير أهل السفينة وكلهم قومه كما هو ظاهر الآيات إذا تؤمل تعبيرها عن الدعوة والإغراق ودعائه عليه السلام عليهم ، وظاهر ما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن الناس يقولون :

« ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض » ، وإنما كانوا قوماً لا أكثر ، لأنهم كانوا على لسان واحد قبل بلبلة الألسن باتفاق أهل التأريخ ، وذلك كما أن العرب يطلق عليهم كلهم على انتشارهم واتساع بلادهم أنهم قوم ، لاجتماعهم في اللسان مع أنهم قبائل لا يحصيهم العد ، ولا يجمعهم نسب واحد إلا في إسماعيل عليه السلام ، وقيل فيما فوقه ، فإن النسابين أجمعوا على أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام ، قالوا : هو من ولد عدنان ، واختلفوا في قحطان أبي اليمن وكذا ثقيف ، فقيل : هما من ولد إسماعيل عليه السلام ، وقيل لا ، ثم من قال : إن ثقيفاً من ولد إسماعيل عليه السلام ، قالوا : هو من ولد عدنان ، وقال بعضهم : لا ، ثم إن من ولد عدنان ربيعة ومضر ، ومن دون مضر كنانة وهذيل والقارة وخزاعة وأسد وتميم ومزينة والرباب وضبة وقيس ، ودون ذلك باهله وأشجع وفزارة وكنانة وقريش وخلائق ، ومن دون ربيعة بكر بن وائل وغيرهم ، ومن دون ذلك شيبان وعبد القيس والنمر وخلائق ، ودون قحطان أبي اليمن لخم وجذام وعائلة وغسان وكندة وهمدان والأزد ، ومنهم الأنصار وخلائق غير ذلك ، فهؤلاء كلهم - على هذا التشعب والانتشار والاختلاف في الأديان ، بل وفي بعض اللغة - يسمون أمة واحدة وقوماً لجمع اللسان لهم في أصل العربية ، وبنو إسحاق ليسوا منهم بلا خلاف ، مع أنهم أولاد عمهم لمخالفتهم لهم في اللسان على أنهم أقرب من قحطان وثقيف في النسب عند من قال إنهم ليسوا من ولد إسماعيل عليه السلام ، وكذا بنو إسحاق عليه السلام افترقوا بافتراق اللسان فبنوا إسماعيل قوم وبنو العيص - وهم الروم - قوم وكذا سائر الأمم إنما يفرق بينهم اللسان وعموم دعوته لبني آدم عليه السلام على هذا الوجه لا يقدح في خصوصية نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم الدعوة والأرسال إلى غير قومه ، أما العموم فإنه أرسل إلى كل من ينوس من الإنس والملائكة والجن ، وأما دعاء الأقوام فالمراد أنه أرسل إلى الموافق في اللسان والمخالف فيه ، وأما غيره فما أرسل إلى من خالفه في اللسان ولا إلى غير جنسه وإن كان يندب له أنه يأمر بالمخالفين في اللسان وينهاهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير وجوب ، ولو سلمنا في نوح عليه السلام أنه لم يبعث إلى جميع أهل الأرض انتقض بآدم عليه السلام فإنه نبي مرسل ، كما روى ذلك الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومحمد بن يحيى بن أبي عمر وأبو بكر بن أبي شيبة والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم والطبراني في معجمه الأوسط عن أبي أمامة الباهلي وأبي ذر رضي الله عنهما وفي بعض طرق أبي ذر التصريح بالإرسال ولا يشك أحد أنه كان رسولاً إلى جميع من أدركه من أولاده ، وهم جميع أهل الأرض ، وكذلك نوح عليه السلام ، لا يشك أحد أنه كان بعد الغرق رسولاً إلى جميع أهل السفينة كما كان قبل ذلك : وهم جميع أهل الأرض ، فما قدمت من أن الخصوصية بالإرسال إلى ذوي الألسن المختلفة من جميع بني آدم ، وإلى المخالف في الجنس من كل من ينوس هو المزيل للإشكال - والله الموفق .

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)

ولما كان لإبراهيم عليه السلام من التجرد عن النعوت البشرية والعلائق النفسانية إلى الأحوال الملكية ما لم يكن لمن بينهما من النبيين من المصارحة بالمعارضة لقومه ، والإبلاغ فيها بكسر الأوثان ، وتوهية مذهب الكفران ، والانفراد عما سوى الله في غمرات النيران ، حتى عن الدعاء بقلب أو لسان فناء عن جميع الأكوان ، ثم الهجرة عن الأوطان ، ثم بالخروج عن الأحباب والأخوان ، بوضع ابنه بكره وسريته في ذلك المكان ، الذي ليس به إنس ولا جان ، ثم بمعالجة ذبحه بأتم قوة وأقوى جنان ، ثم ببناء البيت ذوي الأركان ، قبلة للمتجردين من أهل الإيمان في كل أوان ، عما سوى الملك الديان ، يصفون عند كل صلاة مثل صفوف الملائكة الكرام ، وكان موافقاً لنوح عليه السلام مع ما تقدم في البركة في نسله بحيث إنهم قريب نصف أهل الأرض الآن ، وكان أشهر أمره في النار التي هي ضد أشهر أمر نوح عليه السلام في الماء ، تلاه به فقال مؤكداً إظهاراً أيضاً لما له من الكرامة والمنزلة العالية في الإمامة ، المقتضية للنشاط في الثناء عليه ، المنبهة على ما ينبغي من إتمام العزم في متابعته ، وتكذيباً لمن ادعى أنه ابتدع وخالف من كان قبله : { وإن من شيعته } أي الذين خالط سره سرهم ووافق أمره أمرهم ، في التصلب في الدين والمصابرة للمفسدين { لإبراهيم * } ثم علق بمعنى المشايعة بياناً لما كانت به المتابعة قوله على تقدير سؤال من قال : متى شايعه؟ { إذا } أي حين { جاء ربه } أي المحسن في تربيته { بقلب سليم * } أي بالغ السلامة عن حب غيره ، والمجيء مجاز عن الإخلاص الذي لا شائبة فيه كما أن الآتي إليك لا يكون شيء من بدنه عند غيرك ، ثم أبدل من ذلك ما هو دليل عليه فقال : { إذ قال لأبيه } أي الذي هو أعظم الناس عنده وأجلهم في غينه وأعزهم لديه { وقومه } أي الذين لهم من القوة والجدود ما تهابهم به الأسود : { ماذا } أي ما الذي { تعبدون * } تحقيراً لأمرهم وأمر معبوداتهم منبهاً على أنه لا علة لهم في الحقيقة تحمل على عبادتها غير مكترث بكثرتهم ولا هائب لقوتهم ولامراع لميل الطبع البشري إلى مودتهم .
ولما لوح لهم بالإنكار ، صرح فقال مقدماً للمفعول تخصيصاً : { أئفكاً } أي صرفاً للحق عن وجهه إلى قفاه . ولما جعل معبوداتهم نفس الإفك ، أبدل منه قوله : { آلهة } ثم حقر شأنهم بقوله : { دون الله } أي الذي لا كفوء له { تريدون * } ولما كان قد غلب عليه الشهود عند تحقيره لهم ، سبب عن ذلك تهديداً على فعلهم عظيماً ، فقال مشيراً إلى أنه يكفي العاقل في النهي ظن العطب : { فما ظنكم } ولما كان كفران الإحسان شديداً ، ذكرهم بإحسانه حافظاً لسياق التهديد بالإشارة إلى أنه يكفي في ذلك الخوف من قطع الإحسان فقال : { برب العالمين * } اي الذي توحد بخلق جميع الجواهر والأعراض وتربيتهم فهو مستحق لتوحيدهم إياه في عبادتهم ، أتظنون أنه لا يعذبكم وقد صرفتم ما أنعم به عليكم إلى عبادة غيره ، إشارة إلى إنكار تجويز مثل هذا ، وأن المقطوع به أن محسناً لا يرضى بدوام إدرار إحسانه إلى من ينسبه إلى غيره .

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)

ولما أفهم السياق شدة عداوته صلى الله عليه وسلم ، وكان الله تعالى قد أجرى عادته بأن جعل في النجوم أدلة على بعض المسائل الظنية لا سيما البحرانات في أنواع الأسقام ، وكان أهل تلك البلاد وهم الكسدانيون كما تقدم في الأنعام وكما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وكما دلت عليه كتب الفتوحات - من أشد الناس نظراً في النجوم والاستدلال بها على أحوال هذا العالم في بعض ما كان وبعض ما يكون ، وكان صلى الله عليه وسلم يريد أن يتخلف عن الذهاب معهم إلى المحل الذي يجتمعون فيه للعيد ليكسر الأصنام ويريد إخفاء وقت الكسر عليهم ليتمكن من ذلك ، قال تعالى حاكياً عنه مشيراً إلى ذلك بالتسبب عما مضى : { فنظر نظرة } أي واحدة { في النجوم * } حين طلبوا منه أن يخرج معهم إلى عيدهم لئلا ينكروا تخلفه عنهم موهماً لهم أنه استدل بتلك النظرة على مرض باطني يحصل له ، لأنهم ربما أنكروا كونه مريضاً إذا أخبرهم بغير النظر في النجوم لأن الصحة ظاهرة عليه { فقال } أي عقب هذه النظرة موهماً أنها سببه .
ولما كان بدنه صحيحاً فكان بصدد أن يتوقف في خبره ، أكد فقال : { إني سقيم * } فأوهم أن مراده أنه مريض الجسد وأراد أنه مريض القلب يسبب آلهتهم ، مقسم الفكر في أمرهم لأنه يريد أمراً عظيماً وهو كسرها ، ومادة « سقم » بتقاليبها الخمسة : سقم سمق قسم قمس مقس ، تدور على القسم ، فالسقام كسحاب وجبل وقفل : المرض ، أي لأنه يقسم القوة والفكر ، وقال ابن القطاع : سقم : طاولة المرض . وقسمه جزأه ، والدهر القوم : فرقهم ، والقسم - بالكسر : النصيب والقسم أي بالفتح : العطاء ، ولا يجمع ، والرأي والشك والعيب والماء والقدر والخلق والعادة ، ويكسر فيهما ، والتفريق ظاهر في ذلك كله ، أما العطاء فيفرق المال ويقسمه ، والرأي يقسم الفكر والشك كذلك والعيب يقسم العرض والماء في غاية ما يكون من سهولة القسم ، والقدر يفصل صاحبه من غيره ، وكذا الخلق والعادة ، والمقسم كمعظم : المهموم - لتوزع فكره ، والجميل - لأنه يقسم القول في وصفه ، والقسم محركة : اليمين بالله ، وقد أقسم ، أي أزال تقسيم الفكر ، والقسامة : الحسن - لأنه يوزع فكر الناظر وجونة العطار - كذلك لطيب ريحها والقسام - كسحاب : شدة الحر - لأنها تزعج الفكر فتقسمه ، أو هو أول وقت الهاجرة أو وقت ذرور الشمس ، وهي حينئذ أحسن ما تكون مرآة - فينقسم الفكر فيها لحسنها إذ ذاك وما يطرأ عليها بعده . والقمس : الغوص - لأن الغائص قسم الماء بغوصه ، والقمس أيضاً اضطراب الولد في البطن لأنه يقسم الفكر ، ويكاد أن يقسم البطن باضطرابه ، والقاموس : معظم البحر - لأن البحر قسم الأرض ، ومعظمه أحق بهذا الاسم ، والقوامس : الدواهي - لتقسيمها الفكر ، وانقمس النجم : غرب ، أي أخذ قسمه من الغروب كما أخذه من الشروق ، أو أزال التقسيم بالسير ، ومقسه في الماء : غطه - فانقسم الماء بغمسه فيه ، والقربة : ملأها ، فصير فيها من الماء ما يسهل قسمه ، وأخذه الماء الذي وضعه فيها تقسيم للماء المأخوذ منه ، ومقس الشيء : كسره ، والماء : جرى - فانقسم وقسم الأرض ، وهو يمقس الشعر كيف شاء ، أي بقوله فيقسمه من باقي الكلام ، والتقميس في الماء : الإكثار من صبه ، فإن ذلك تقسيم له ، وسمق سموقاً : علا وطال فصار بطوله يقبل من القسمة ما لا يقبله ما هو دونه .

ولما فهموا عنه ظاهر قوله ، وظنوا فيه ما يظهر من حاله ، ولكنهم لم يسعهم لعظمته فيهم إلا التسليم ، تركوه فقال تعالى مسبباً عن قوله مشيراً إلى استبعادهم مرضه بصيغة التفعل : { فتولوا } أي عالجوا أنفسهم وكلفوها أن انصرفوا { عنه } إلى محل اجتماعهم وإقامة عيدهم وأكد المعنى ونص عليه بقوله : { مدبرين * } أي إلى معبدهم فخلا له الوقت من رقيب { فراغ } أي ذهب في خفية برشاقة وخفة ، ونشاط وهمة ، قال البيضاوي : وأصله الميل بحيلة { إلى آلهتهم } أي أصنامهم التي زعموها آلهة ، وقد وضعوا عندها طعاماً ، فخاطبها مخاطبة من يعقل لجعلهم إياها بذلك في عداد من يعقل { فقال } منكراً عليها متهكماً بها ظاهراً وموبخاً لقومه حقيقة : { ألا تأكلون * } ثم زاد في إظهار الحق والاستهزاء بانحطاطها عن رتبة عابديها فقال : { ما } أي أيّ شيء حصل { لكم } في أنكم { لا تنطقون * } .
ولما أخبر تعالى أنه أظهر ما يعرفه باطناً من الحجة فقال : { فراغ } أي سبب عن إقامته الحجة أنه أقبل مستعلياً { عليهم } بغاية النشاط والخفة والرشاقة يضربهم { ضربا باليمين * } أي بغاية القوة ، وجعل السياق للمصدر إشارة إلى قوة الهمة بحيث صار كله ضرباً . ولما تسبب عن ذلك أنهم لما علموا بكسرها ظنوا فيه لما كانوا يسمعونه منه من ذمها وحلفه بأنه ليكيدنها فأتوه ، أخبر عن ذلك بقوله مسبباً : { فأقبلوا } ودل على أنه من مكان بعيد بقوله : { إليه يزفون * } أي يسرعون ، وقراءة حمزة بالبناء للمفعول أدل على شدة الإسراع لدلاتها على أنهم جاؤوا على حالة كان حاملاً يحملهم فيها على الإسراع وقاهراً يقهرهم عليه من شدة ما في نفوسهم من الوجد .
ولما كان من المعلوم أنهم كلموه في ذلك فطال كلامهم ، وكان تشوف النفس إلى جوابه أكثر ، استأنف الخبر عنه في قوله : { قال } غير هائب لهم ولا مكترث بهم لرؤيته لهم فانين منكراً عليهم : { أتعبدون } وندبهم بالمضارع إلى التوبة والرجوع إلى الله ، وعبر بأداة ما لا يعقل كما هو الحق فقال : { ما تنحتون * } أي إن كانت العبادة تحق لأحد غير الله فهم أحق أن يعبدوكم لأنكم صنعتموهم ولم يصنعوكم .

ولما كان المتفرد بالنعمة وهو المستحق للعبادة ، وكان الإيجاد من أعظم النعم ، وكان قد بين أنهم إنما عبدوها لأجل عملهم الذي عملوه فيها فصيرها إلى ما صارت إليه من الشكل ، قال تعالى مبيناً أنه هو وحده خالقهم وخالق أعمالهم التي ما عبدوا في الحقيقة إلا هي ، وأنه لا مدخل لمنحوتاتهم في الخلق فلا مدخل لها في العبادة : { والله } أي والحال أن الملك الأعظم الذي لا كفوء له { خلقكم } أي أوجدكم على هذه الأشكال { وما تعملون * } أي وخلق عملكم ومعمولكم ، فهو المتفرد بجميع الخلق من الذوات والمعاني ، ومعلوم أنه لا يعبد إلا من كان كذلك لأنه لا يجوز لعاقل أن يشكر على النعمة إلا ربها .

قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)

ولما كان السامع يعلم أنهم لا بد وأن لا يجيبوه بشيء ، فتشوف إلى ذلك ، أجيب بقوله : { قالوا ابنوا له } أي لأجله { بنياناً } أي من الأحطاب حتى تصير كالجبل العظيم ، فاحرقوها حتى يشتد لهبها جداً فيصير جحيماً { فألقوه في } ذلك { الجحيم * } أي معظم النار ، وهي على أشد ما يكون إيقاداً .
ولما كان هذا مسبباً عن إرادتهم لإهانته قال : { فأرادوا به } أي إبراهيم عليه السلام بسبب هذا الذي عملوه { كيداً } أي تدبيراً يبطل أمره ليعلوا أمرهم ولا يبطل بما أظهر عن عجزهم دينهم { فجعلناهم } أي بعظمتنا بسبب عملهم { الأسفلين * } المقهورين بما أبطلنا من نارهم وجعلناها عليه برداً وسلاماً بضد عادتها في العمل ، فنفذ عملنا وهو خارق للعادة وبطل عملهم الذي هو على مقتضى العادة ، فظهر عجزهم في فعلهم كما ظهر عجزهم في قولهم ، بما أظهرناه من الحجة على لسان خليلنا عليه السلام ، وظهرت قدرتنا واختيارنا ، وإنما فسرت الكيد بما ذكرت لأنه المكر والخبث والاحتيال والخديعة والتدبير بحق أو باطل والحرب والخوف ، فكل هذه المعاني - كما ترى - تدور على التدبير وإعمال الفكر وإدارة الرأي .
ولما كان التقدير : فأجمع النزوح عن بلادهم لأنهم عدلوا عن الحجة إلى العناد ، عطف عليه قوله : { وقال } أي إبراهيم عليه السلام لمن يتوسم فيه أن كلامه يحييه من موت الجهل مؤكداً لأن فراق الإنسان لوطنه لا يكاد يصدق به : { إني ذاهب } أي مهاجر من غير تردد ، قالوا : وهو أول من هاجر من الخلق { إلى ربي } أي إلى الموضع الذي أمرني المحسن إليّ بالهجرة إليه ، فلا يحجر عليّ أحد في عبادته فيه .
ولما كان حال سامعه جديراً بأن يقول : من لك بالمعرفة بما يحصل قصدك هذا من التعريف بالموضوع وبما تفعل فيه مما يكون به الصلاح ، وما تفعل في التوصل إليه؟ قال : { سيهدين * } أي إلى جميع ذلك بوعد لا خلف فيه إلى كل ما فيه تربية لي في أمر الهجرة لأنه أمرني بها ، وهو لا يأمر بشيء إلا نصب عليه دليلاً يهدي إليه ، ويسهل لقاصدة المجتهد في أمره سبيله ، وقد اختلفت العبارات عن سير الأصفياء إلى الحضرات القدسية ، فهذه العبارة عن أمر الخليل عليه السلام ، وعبر عن أمر الكليم عليه السلام بقوله { ولما جاء موسى لميقاتنا } [ الأعراف : 143 ] وعن أمر الحبيب عليه السلام بقوله { سبحان الذي أسرى بعبده } [ الأسراء : 1 ] قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وفصل بين هذه المقامات : إبراهيم عيله السلام كان بعين الفرق - يعني أنه بعدما كان فيه من الجمع حين كسر الأصنام من الفناء عما سوى الله رجع إلى حال الفرق لأنه لا بد من ذلك - وموسى عيله السلام بعين الجمع لأنه أخبر عن فعله من غير أن ينسب إليه قولاً ، ثم أخبر أنه قال { رب أرني } فلم ير غيره سبحانه فطلب أن يريه وهذا هو الفناء ، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعين جمع الجمع - لأن لم ينسب إليه قول ولا فعل ، بل هو المراد إلى أن قال { لنريه من آياتنا } فهذا هو الفناء حتى عن الفناء ، ثم قال : { أنه هو السميع البصير } فأثبت له مع ذلك الكمال .

ولما لم يجد له معيناً على الهجرة غير لوط ابن أخيه عليهما السلام ، قال منادياً مناداة الخواص بإسقاط الأداة : { رب } أي أيها المحسن إلي { هب لي من } أي ولداً من { الصالحين * } وأسقط الموصوف لأن لفظ الهبة غلب في الولد ، فتسبب عن دعوته أنا استجبناها له { فبشرناه بغلام } أي بذكر في غاية القوة التي ينشأ عنها الغلمة .
ولما كان هذا الوصف ربما أفهم الطيش ، وصفه بما أبقى صفاءه ونفى كدره فقال : { حليم * } أي لا يعجل بالعقوبة مع القدرة ، لأنه في غاية الرزانة والثبات ، فيكون ذلك إشارة إلى حصول بلاء ما يتبين به أنه سر أبيه أن إبراهيم لحليم ، والحلم لا يكون إلا بعد العلم ، ورسوخ العلم سبب لوجود الحلم ، وهو اتساع الصدر لمساوىء الخلق ومدانىء أخلاقهم ، وهذا الولد هو إسماعيل عليه السلام بلا شك لوجوه : منها وصفه بالحليم ، ووصف إسحاق عليه السلام في سورة الحجر بالعليم ، ومنها أن هذا الدعاء عند الهجرة حيث كان شاباً يرجو الولد ، وهو بكره الذي ولد له بهذه البشرى ، وهو الذي كان بمكة موضع الذبح ، فجعلت أفعاله في ذبحه مناسك للحج في منى كما جعلت أفعال أمه في مكة المشرفة أول أمره عندما أشرف على الموت من العطش مناسك ومعالم هناك ، وأما إسحاق عليه السلام فأتته البشرى فجأة وهو لا يرجو الولد لكبره ويأس أمرأته ، ولذلك راجع في أمره ولم ينقل أنه فارق أمه من بيت المقدس ، ولو كان هو الذبيح لذكره النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه حين سئل عن الأكرم فقال : « يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله » ، والرواية التي وردت بالإشارة إلى أنه الذبيح ضعيفة ، بل صرح شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأن في سندها وضاعاً ، ولأن هذه السورة سورة التنزيه ، فأحق الناس بالذكر فيها - كما سلف - أعرق الناس في قدم التجريد ، وهو أولى الناس بذلك من حين كان حملاً إلى أن عولج ذبحه ، ولم يذكر ظاهراً ، فلو لم يكن المراد بهذا الكلام لكان ترك في هذه السورة - التي حالها هذا - من هو أرسخ الناس في الوصف المقصود بها ، وذلك خارج عن نهج البلاغة التي هي مطابقة المقال لمقتضى الحال ، بل هذا الحال لا يقتضي ذكر إسحاق عليه السلام ، لأنه لم يعلم له تجرد متفق عليه ، وما كان ذكره إلا لبيان جزاء إبراهيم عليه السلام لما اقتضاه مقامه في الاجسان في باب التجريد والفناء - والله الموفق .

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)

ولما كانت البشرى من الله لا تتخلف ، كان التقدير : فولد له غلام كما قلنا { فلما بلغ } أن يسعى كائناً { معه } أي مع أبيه خاصة ومصاحباً له { السعي } الذي يرضى به الأب ويوطن نفسه عنده على الولد ويثق به ، ولا يتعلق مع مبلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي ، ولا معنى لذلك في حق إبراهيم عليه السلام ولا بالسعي ، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه ، ولو أخر عنه لم يفد الاختصاص المفهم لصغر سنه المفيد للإعلام بأن يبلغ في ذلك معه ما لا يبلغه مع غيره لعظيم شفقة الأب ، واستحكام ميل الابن الموجب لطاعته ، واختلف العلماء في تقدير ذلك بالسن فقال بعضهم : ثلاث عشرة سنة ، وبعضهم : سبع سنين ، ولذلك قيده بالأب لأن غيره لا يشفق على الولد فيكلفه ما ليس في وسعه ، وهو لم يبلغ كمال السعي { قال } أي إبراهيم عليه السلام : { يا بني } منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب ، ذاكراً له بالمضارع الحال الذي رآه عليه ومصوراً له ، لا لتكرار الرؤيا فإنه غير محتاج إلى التكرار ولا إلى التروي ، فإن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض ، وأكد لما في طباع البشر من إحالة أن يقال ذلك على حقيقته ، وإعلاماً بأنه منام وحي لا أضغاث أحلام : { إني أرى في المنام } أي وأنت تعلم أن رؤيا الأنبياء وحي { أني أذبحك } أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال ، ولو عبر بالماضي لمضى وتم ، وإنما كان في المنام في هذا الأمر الخطر جداً ليعلم وثوق الأنبياء عليهم السلام بما يأتيهم عن الله في كل حال .
ولما كان الأنبياء عليهم السلام أشفق الناس وأنصحهم ، أحب أن يرى ما عنده ، فإن كان على ما يحب سر وثبته وإلا سعى في جعله على ما يحب فيلقى البلاء وهو أهون عليه ، ويكون ذلك أعظم لأجره لتمام انقياده ، ولتكون المشاورة سنة ، فإنه « ما ندم من استشار » سبب عن ذلك قوله : { فانظر } بعين بصيرتك { ماذا } أي ما الذي { ترى } أي في هذه الرؤيا ، فهو اختبار لصبره ، لا مؤامرة له { قال } تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم : { يا أبت } تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوفير { افعل ما تؤمر } أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى ويتجدد لك به أمر منه سبحانه لأني لا أتهمك في شفقتك وحسن نظرك ، ولا أتهم الله في قضائه ، والقصة دليل على وقوع الأمر بالممتنع لغيره ولأكثر الأوامر منه ، وقد تقدم ذلك في البقرة عند { ءأنذرتهم أم لم تنذرهم } [ البقرة : 6 ] .
ولما علم طاعته ، تشوف السامع إلى استسلامه وصبره ، فاستأنف قوله : { ستجدني } أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه ، لا خلف فيه ، وكان صادق الوعد .

ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال : { إن شاء الله } أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال؛ وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله : { من الصابرين } أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية ، وهو من أعظم ما أريد بقوله { وكان صادق الوعد } [ مريم : 54 ] .
ولو بيد الحبيب سقيت سماً ... لكان السم من يده يطيب
وجعل هذا الأمر العظيم في المنام دلالة على صدق أحوال الأنبياء نوماً ويقظة ، وصدق عزائمهم وانقيادهم لجميع الأوامر في جميع الأحوال ، وروي أن الشيطان وسوس له في ذبحه فعرفه فرماه بسبع حصيات فصار ذلك شريعة في الجمار ، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى .
ولما وثق منه ، بادر إلى ما أمر به ، ودل على قرب زمنه من زمن هذا القول بالفاء فقال : { فلما أسلما } أي ألقيا بالفعل على غاية الإخلاص حين المباشرة بجميع قواهما في يد الأمر ، ولم يكن عند أحد منهما شيء من إباء ولا امتناع ولا حديث نفس في شيء من ذلك { وتلّه } أي صرعه إبراهيم عليهما السلام صرعاً جيداً سريعاً مع غاية الرضا منه والمطاوعة من إسماعيل عليه السلام ، ودل على السرعة باللام الواقعة موقع « على » فقال : { للجبين * } أي أحد شقي الجبهة ، وهي هيئة إضجاع ما يذبح ، وهذا من قولهم : تله - إذا صرعه ، وبه سمي التل من التراب ، وتلك فلاناً في يدك أي دفعته سلماً ، والجبين - قال في الصحاح : فوق الصدغ ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها .
ولما كان من الواضح أن التقدير جواباً لما عالج ذبحه بعزم أمضى من السنان ، وجنان في ثباته أيما جنان ، فمنعناه من التأثير بقدرتنا ، ورددنا شفرته الماضية عن عنقه اللينة بأيدينا وقوتنا ، عطف عليه قوله : { وناديناه } وفخم هذا النداء بحرف التفسير فقال : { إن يا إبراهيم* } ولما كان محل التوقع الثناء عليه قال : { قد صدقت } أي تصديقاً عظيماً { الرؤيا } في أنك تذبحه ، فإنك قد عالجت ذلك ، وبدلت الوسع فيه ، وفعلت ما رأيته في المنام ، فما انذبح لأنك لم تر أنك ذبحته ، فاكفف عن معالجة الذبح بأزيد من هذا . ولما كان التقدير : فجزيناك على ذلك لإحسانك فوق ما تحب ، وجعلناك إماماً للمتقين ، ووهبناك لسان صدق في الآخرين ، وجعلنا آلك هم المصطفين ، وملأنا منهم الخافقين ، علله بأن ذلك سنته دائماً قديماً وحديثاً فقال ما يأتي .
ولما كان صلى الله عليه وسلم في همة الذبح وعزمه ، فكانت تلك الهمة التي تقصر عنها رتبها السها والسماك ، والعزمة التي تتضاءل دون عليّ مكانتها وسني عظمتها عوالي الأفلاك ، لا تسكن عن ثورانها ، ولا تبرد عن غليانها وفورانها ، إلا بأمر شديد ، وقول جازم أكيد ، قال مؤكداً تنبيهاً على أن همته قد وصلت إلى هذا حده ، وأن امتثال الأمر أيسر من الكف بعد المباشرة بالنهي : { إنا كذلك } أي مثل هذا الجزاء العظيم { نجزي المحسنين * } .

ولما كان جزاءه عظيماً جداً ، دل على عظمه بأن علل إكرامه به بقوله معجباً ومعظماً مؤكداً تنبيهاً على أنه خارق للعادة : { إن هذا } أي الأمر والطاعة فيه { لهو البلاؤا } أي الاختبار الذي يحيل ما خولط به كائناً ما كان { المبين * } أي الظاهر في بابه جداً المظهر لرائيه انه بلاء .
ولما قدم ما هو الأهم من نهيه عن علاجه ، ومن البشارة بالجزاء ، ذكر فداءه بما جعله سنة باقية يذكر بها الذكر الجميل على مر الأيام وتعاقب السنين ، ولما كان المفتدى منه من كان الأسير في يده ، وكان إسماعيل في يد إبراهيم عليهما السلام ، وهو يعالج إتلافه ، جعل تعالى نفسه المقدس فادياً لأن الفادي من أعطى الفداء ، وهو ما يدفع لفكاك الأسير ، وجعل إبراهيم عليه السلام مفتدى منه تشريفاً له وإن كان في الحقيقة كالآلة التي لا فعل لها ، والله تعالى هو المفتدى منه حقيقة فقال : { وفديناه } أي الذبيح عن إنفاذ ذبحه وإتمامه تشريفاً له { بذبح } أي بما ينبغي أن يذبح ويكون موضعاً للذبح ، وهو كبش من الجنة ، قيل : إنه الذي قربه هابيل فتقبله الله منه { عظيم * } أي في الجثة والقدر والرتبة لأنه مقبول ومستن به ومجعول ديناً إلى آخر الدهر .

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

ولما كان سبحانه إذا منّ بشيء علم أنه عظيم ، فإذا ذكر الفعل وترك المفعول أراد فخامته وعظمته ، قال : { وتركنا عليه } أي على الذبيح شيئاً هو في الحسن بحيث يطول وصفه . ولما كان بحيث لا ينسى قال : { في الآخرين * } ومن هذا الترك ما تقدم من وصفه بصدق الوعد ، لأنه وعد بالصبر على الذبح فصدق .
ولما عظم الغلام ، استأنف تعظيم والده بما يدل مع تشريفه على سلامته بقوله : { سلام على إبراهيم * } أي سلامة له ولولده وتسليم وتحية وتكريم في الدارين ولما كان هذا خطاباً لمن بعده عليه السلام وهم كلهم محبون مجلون معظمون مبجلون لم يكن هناك حال يحوج إلى تأكيد فقال : { كذلك } أي مثل هذا الجزاء العظيم { نجزي المحسنين * } من غير أن يذكر « أن » المؤكدة ، ولما كانت أهل الملل كلها متفقة على حبه ، وكان كلهم يدعي اتباعه ورتبة قربه ، قال معللاً لجزائه بهذا المدح في سياق التأكيد استعطافاً لهم إلى اتباعه في الإيمان وتكذيباً لمن ينكر أن يكون الإيمان موجباً للإحسان : { إنه من عبادنا } أي الذين يستحقون الإضافة في العبودية والعبادة إلينا { المؤمنين * } فلا يطمع أحد عري عن الإيمان في رتبة أتباعه ، قال الرازي : الإيمان المطلق الحقيقي شهود جلال الله ووحدانيته والطمأنينة إليه في كل محبوب ومكروه ، وترك المشيئة لمشيئته والانقياد لأمره في جميع أحواله . ولما أتم قصته في أمر الذبيح ، وشرع في ذكر ما جازاه به على ذلك ، جعل منه أمر إسحاق عليه السلام فقال : { وبشرناه } أي جزاء على صبره في المبادرة إلى امتثال الأمر في إعدام إسماعيل عليه السلام { بإسحاق } مولوداً زيادة له بعد ما سلمنا إسماعيل عليه السلام حال كونه { نبياً } أي في قضائنا أو بوجوده مقدرة نبوته . ولما كان هذا اللفظ قد يطلق على المتنبىء ، أزال إشكال هذا الاحتمال وإن كان واهياً بقوله : { من الصالحين * } أي العريقين في رتبة الصلاح ليصلح لأكثر الأوصاف الصالحة . ولما أثنى على إبراهيم عيله السلام بما عالج مما لم يحصل لغيره مثله ، وكان من أعظم جزاء الإنسان البركة في ذريته قال : { وباركنا عليه } أي على الغلام الحليم وهو الذبيح المحدث عنه الذي جر هذا الكلام كله الحديث عنه ، وكان آخر ضمير محقق عاد عليه الهاء في « وفديناه » ثم في « وتركنا عليه في الآخرين » وهذا عندي أولى من إعادة الضمير على إبراهيم عليه السلام لأنه استوفى مدحه ، ثم رأيت حمزة الكرماني صنع هكذا وقال : حتى كان محمد صلى الله عليه وسلم والعرب من صلبه . { وعلى إسحاق } أي أخيه ، قال حمزة الكرماني : حتى كان إسرائيل الله والأسباط من صلبه ، وقال غيره : خرج من صلبه ألف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليه السلام .

{ ومن ذريتهما } أي الأخوين ولا شك أن هذا أقرب وأقعد من أن يكون الضمير للأب والابن لأن قران الأخوين في الإخبار عن ذريتهما أولى من قران الابن مع أبيه في ذلك ، فيكون الابن حينئذ من جملة المخبر عنه بذرية الأب { محسن وظالم لنفسه } حيث وضعها بما سبب عن المعاصي في غير موضعها الذي يحبه ، وهذا مما يهدم أمر الطبائع حيث كان البر يوجد من الفاجر والفاجر يوجد من البر .
ولما كان الإنسان ، وإن اجتهد في الإحسان ، لا بد أن يحتاج إلى الغفران ، لما له من النقصان ، لأن رتبة الإلهية لا تصل إلى القيام بحقها العوائق البشرية ، بين أن الظلم المراد هنا إنما هو التجاوز في الحدود بغاية الشهوة فقال : { مبين * } وأما غير ذلك فمغفور كما قرر في نحو { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } « ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة » { وأن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [ النساء : 31 ] .
قصة ذبح إبراهيم لولده عليهما السلام من التوارة وبيان أنهم بدلوها ، قال مترجمهم : فغرس إبراهيم ببئر سبع غرساً ، وبنى هنالك باسم الرب إله العالمين ، وسكن إبراهيم أرض فلسطين - يعني عند تلك البئر - أياماً كثيرة . ولما كان من بعد هذه الخطوب امتحن الله إبراهيم ، وقال له : يا إبراهيم! فقال : لبيك ، فقال له : انطلق بابنك الوحيد إسحاق الذي تحبه إلى أرض الأمورانيين - وفي نسخة : إلى بلدة العبادة - وأصعده إليّ قرباناً على أحد تلك الجبال الذي أقول لك ، فأدلج إبراهيم باكراً فأسرج حماره وانطلق بغلاميه وإسحاق ابنه ، وشق حطباً للقربان ونهض وانطلق إلى الموضع الذي قال الله له ، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم بصره ونظر إلى ذلك الموضع من بعيد فقال لغلاميه : امكثا هاهنا عند الحمار ، وأنا والغلام ننطلق إلى هاهنا نصل ونرجع إليكما ، فأخذ إبراهيم حطب القربان ، وحمله إسحاق ابنه ، وأخذ معه ناراً وسكيناً ، وانطلقا كلاهما جميعاً ، وقال إسحاق لأبيه إبراهيم : يا أبة ، فقال له : لبيك ، فقال له : هذه النار والحطب ، أين حمل القربان ، فقال إبراهيم : الله يعد لنا حملاً للقربان يا بني ، فانطلقا جميعاً حتى انتهيا الى الموضع الذي قال الله ، فبنى هنالك إبراهيم مذبحاً ونضد عليه الحطب وكتف إسحاق فوضعه في أعلى المذبح على الحطب ، ومد يده إبراهيم فأخذ السكين ليذبح ابنه ، فدعاه ملاك الرب من السماء وقال : يا إبراهيم يا إبراهيم ، فقال : لبيك! فقال : لا تبسط يدك على الغلام ولا تصنع به شيئاً لأنك قد أظهرت الآن أنك تتقي الله إذا لم تمنعني ابنك الوحيد ، فمد إبراهيم بصره فإذا كبش معلق في شجرة بقرنيه ، فانطلق إبراهيم فأخذ الكبش فأصعده قرباناً بدل ابنه اسحاق ، فسمى إبراهيم ذلك الموضع « الله يتجلى » كما يقال : الله في هذا الجبل ، الله يتجلى ، فدعا ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال : بي أقسمت ، يقول الرب : بدل ما صنعت هذا الصنيع ولم تمنعني ابنك الوحيد لأباركنك بركة تامة ولأكثرن نسلك مثل كواكب السماء ، ومثل الرمل الذي على شاطئ البحر ويرث زرعك أراضي أعدائي وفي نسخة : أعداءه - ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لأنك أطعتني ، فرجع إبراهيم إلى غلاميه وانصرفوا جميعاً إلى بئر السبع وأقام ثمًّ - وفي نسخة : وسكن إبراهيم بئر السبع - انتهى ما عندهم بلفظه فانظر إليه واجمع بينه وبين ما تقدم في البقرة من قصة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام تجدهم قد بدلوها بلا شك ، لأن الكلام ينقض بعضه بعضاً ، وذلك أنه قال في هذه القصة « انطلق بابنك الوحيد » وكرر وصفه بالوحيد في غير موضع ، وهذا الوصف إنما يكون حقيقة لإسماعيل عليه السلام وهو دون البلوغ ، وأما إسحاق عليه السلام فلم يكن وحيداً ساعة من الدهر ، بل ولد وإسماعيل عليه السلام ابن ثلاث عشرة سنة ونيف بشهادة ما عندهم من التوراة ، وقوله في آخر القصة « ويتبارك بنسلك جميع الشعوب » لا يكون في غاية الملاءمة إلا لإسماعيل عليه السلام ، وأما إسحاق عليه السلام فإنما بورك بنسله الأراضي المقدسة فقط ، ولم يتبعهم من غيرهم إلا قليل ، بل كانوا هم في كل قليل يتبعون غيرهم على عبادة أوثانهم بشهادة توراتهم وأسفار أنبيائهم يوشع بن نون ومن بعده عليهم السلام ، وأما نسل إسماعيل عليه السلام فتبعهم على الدين الحق من جميع الأمم ما لا يحصى عدده ولم يتبعوا هم بعد محمد صلى الله عليه وسلم أحداً من الأمم على عبادة غير الله - هذا وفي المتقدم في سورة البقرة أن هبة سارة أمتها هاجر رضي الله عنها لإبراهيم عليه السلام كان بعد أن سكن كنعان بعشر سنين ، وأن إسماعيل عليه السلام ولد لإبراهيم عليه السلام وهو ابن ست وثمانين سنة ، وأن الله تعالى أمره بالختان وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وأنه في ذلك الوقت بشر بإسحاق عليه السلام ، فختن إسماعيل عليه السلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وثم ولد له إسحاق عليه السلام وقد أتى عليه مائة سنة ، ثم قال ما نصه : وصنع إبراهيم يوم فطم إسحاق ابنه مأدبة عظيمة فأبصرت سارة ابن هاجر المصرية المولود لإبراهيم عليه السلام لاعباً ، فقالت لإبراهيم عليه السلام : أخرج هذه الأمة عني ، لأن ابن الأمة لا يرث مع إسحاق ابني ، فشق هذا الأمر على إبراهيم لمكان ابنه ، فقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام : لا يشقن عليك حال الصبي وأمتك ، أطع سارة في جميع ما تقول لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق ، وابن الأمة أجعله لشعب كثير لأنه من ذريتك ، فغدا إبراهيم عليه السلام باكراً وأخذ خبزاً وإداوة من ماء ، فأعطاها هاجر وحملها الصبي والطعام - إلى آخر ما في البقرة فقوله « إن هاجر طردت بعد فطام إسحاق وابنها تحمل » لا يصح ، وقد تقدم أن عمره يوم فطام إسحاق خمس عشرة سنة ، وتقدم أيضاً أن سارة أمرته بطردها وهي حبلى ، وأنه سلمها لها فطردتها ، وان الملك لقيها فبشرها بإسماعيل ولم يذكر في نسختي - وهي قديمة جداً - شيئاً يدل على رجوعها ، وأما في نسخة عندهم فقال : إن الملك قال لها : ارجعي إلى سيدتك واستكدي تحت يدها - ولم يذكر أنها رجعت ، وقد صح الخبر عندنا بقول نبينا صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم عليه السلام وضع هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام ، عند البيت الحرام وهو يرضع ، واستمرا هناك إلى أن ماتت هاجر رضي الله عنها ، وتزوج إسماعيل عليه السلام وبنى البيت مع أبيه عليهما السلام ، وقوله « لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق عليه السلام » غير مطابق للواقع ، فإن شهرة العرب بإبراهيم عليه السلام أن لم تكم أن أكثر من شهرة بني إسحاق بذلك فهي مثلها ، وخبر الله لا يتخلف ، فدل هذا كله أنهم بدلوا القصة وحرفوها ، فلا متمسك فيها لهم ، ودلالتها على أن الذبيح إسماعيل عليه السلام أولى من دلالتها على غير ذلك لوصفه بالوحيد - والله أعلم كيف كانت القصة قبل التبديل؟ ومما يدل على ما فهمت من تبديلهم لها ما قال البغوي : قال القرظي يعني محمد بن كعب - : سأل عمر بن عبد العزيز رجلاً كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه : أي ابني إبراهيم عليه السلام أمر بذبحه؟ فقال : إسماعيل يا أمير المؤمنين! إن اليهود لتعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله بذبحه ما كان ، ويزعمون أنه أبوهم ، ومن الدليل على أنه إسماعيل عليه السلام أن الله تعالى لما بشر بإسحاق بشر بأنه يولد له يعقوب ، فلا يليق الامتحان به بعد علمه بأنه لا يموت حتى يولد له ، ومن الدليل على ذلك أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل عيله السلام إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في زمان ابن الزبير والحجاج ، قال الشعبي : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : والذين نفسي بيده! لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ، وقال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح : إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال : يا أصيمع! أين ذهب عقلك؟ متى كان إسحاق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بني البيت مع أبيه - انتهى ما قال البغوي .

وفي كتاب الحج من سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان - وهو الحجبي رضي الله عنه : « إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي » ورواه عبد الرزاق في جامعه ولفظه أن عثمان بن شيبة رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : « إني رأيت قرني الكبش فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصلياً » - هكذا قال : عثمان بن شيبة ، ولعله ابن طلحة ، فيكون المتقدم ويكون تسمية أبيه شيبة وهما ، أو يكون شيبة بن عثمان وهو ابن عم الذي عند أبي داود فأنقلب - والله أعلم ، وروى عبد الرزاق أيضاً عن ابن جريح قال : أخبرنا عبد الله بن شيبة بن عثمان ، وسألته هل كان في البيت قرنا كبش؟ قال : نعم ، كانا فيه ، قلت : أرأيتهما؟ قال : حسبت ، ولكن أخبرني عبد الله بن بابيه أن قد رآهما ، قال : وغيره قد رآهما فيه ، قال : ويقولون : إنهما قرنا الكبش الذي ذبح إبراهيم عليه السلام ، قال ابن جريج وقالت صفية ابنة شيبة : كان فيه قرنا الكبش ، قال ابن جريح : وحدثت أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانا فيه . قال : وحدثت عن عجوز قلت : رأيتهما فيه ، ومما يؤيد القول بأنه إسماعيل عليه السلام وصف الله تعالى له بأنه صادق الوعد ، ولا صدق في وعد أعظم من صدقه في وعده بالصبر على الذبح ، وممن قال من بني إسرائيل أنه إسماعيل عليه السلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه - حكاه عن ابن الجوزي ، وعد القائلين بكل من القولين من الصحابة وغيرهم فقال : إن القائلين بأنه إسحاق : عمر وعلي والعباس وابن مسعود وأبو موسى وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم ، وبأنه إسماعيل : ابن عمر ، وأن الرواية اختلفت عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق ، وعطاء ومجاهد والشعبي وأبو الجوزاء ويوسف بن مهران أنه إسماعيل ، فعلم من هذا رجحان القول بأنه إسماعيل ، لأن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما تأخرا بعد من ذكر من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فلولا أنه رجح عندهما ما خالفا أبويهما ، ونقل عكرمة عن ابن عباس بموافقة أبيه لا يقدح في ذلك بل يؤيده لأن الأكثر كما ترى رووا عنه الثاني ، فلولا أنه صح عنده ما رجع عن الأول الذي هو موافق لرأي أبيه ، ولأجل ثباته عليه اشتهر عنه - والله أعلم .

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

ولما ذكر هؤلاء السادة الذين لهم من رتبة التجرد والنزاهة ما تقدم بيانه ، وختمهم بأخوين ما اجتمعا قط ، وكان من أعظم المقاصد بذكرهم المنة على من اتصف بمثل صفاتهم بالقرب والنصرة تسلية وترجية للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه من المؤمنين ممن قارب - من شدة البلاء والقهر - اليأس من النصر ، أتبعهم بأمثالهم في التجرد وابتدأهما بأخوين افترقا حين ولادة الثاني على حالة لا يمكن الاجتماع معها عادة ، ثم اجتمعا في الباطن مع الافتراق في الظاهر ثم افترقا على حالة يبعد الاجتماع معها عادة ثم اجتمعا اجتماعاً لم يفترقا منه إلا بالموت وبدأهما بأول من تجرد منهما من حين ولادته إلى أوان هجرته ، ثم من حين رجعته إلى أن جرد آله - وهم بعض ذرية إبراهيم عليه السلام - وأنقذهم من علائق الكفرة ، ثم تجرد معهم هو وأخوه عن المدن والقرى وأكثر علائق البشر ، ملازمين البراري والفلوات حيث يكثر ظهور الكلمة مع إرسال الله إليهما بمعادن الحكمة إلى أن ماتا عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، فقال مؤكداً تنبيهاً لمن يعد نصر المؤمنين محالاً ، عاطفاً على ما تقديره : فلقد أنشأنا منهما من الأمم ما يعجز الوصف ويفوت الحصر ، ومننا على كثير منهم بالإحسان من ولد إسماعيل عليه السلام إلى أن غير دينه عمرو بن لحي ، ومن ولد إسحاق يعقوب والأسباط عليهم السلام ومن شاء الله من أولادهم : { ولقد مننا } أي أنعمنا إنعاماً مقطوعاً به بما لنا من العظمة ، على أول من أظهر لسان الصدق لإبراهيم عليه السلام وذريته اظهاراً تاماً . وبدأهما بأعرقهما - كما تقدم - في التجرد وأحقها بالتقدم فقال : { على موسى } أحد أعيان المتجردين ، ومن له القدم الراسخ في ذلك { وهارون* } أي عين من تجرد مع أخيه ووافقه أتم موافقة ، ووازره أعظم موازرة ، بما أتيا به من النبوة والكتاب وغير ذلك من أنواع الخطاب .
ولما كان جل المقصود - كما مضى - مقام التجرد ، والإعلام بنصر المستضعفين من المؤمنين ، قال : { ونجيناهما وقومهما } أي بني إسرائيل وقد كانوا مرت لهم دهور في ذل لا يقاربه ذل المؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أول أمرهم { من الكرب العظيم * } أي الاستبعاد ، وما يتبعه من عظائم الأنكاد ، وكان ذلك بهلاك القبط الذين استمروا على الضلال ، وهم أضعاف أضعاف بني إسرائيل ، إلى أن أهلكناهم فلم يفلت منهم إنسان ، فصح لبني إسرائيل حينئذ التجرد وزال عنهم ذل التجبر والتمرد .
ولما بين نعمة النجاة من الأسر ، أتبعها نعمة الالتذاذ بالنصر ، فقال : { ونصرناهم } أي موسى وهارون عليهما السلام وقومهما على كل من نازعهم في ذلك الزمان من فرعون وغيره { فكانوا هم } أي خاصة { الغالبين * } أي على كل من يسومهم سوء العذاب ، وهو فرعون وآله وعلى جميع من ناووه أو ناواهم ، فاحذروا يا معشر قريش والعرب من مثل ذلك ، ولقد كان ما حذرهم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعظم ما يمكن أن يكون إلا نبينا صلى الله عليه وسلم لما كان نبي الرحمة لين الله قلوبهم حتى ردهم إلى ما اغتبطوا به من متابعته ، فصاروا به ملوك الدنيا والآخرة .

ولما كانت فائدة النصرة التمكن من إقامة الدين قال : { وآتيناهما } أي بعظمتنا بعد إهلاك عدوهم { الكتاب المستبين * } أي الجامع البين الذي هو لشدة بيانه طالب لأن يكون بيناً وهو كذلك فإنه ليس شيء من الكتب مثل التوراة في سهولة مأخذها ، وجمع هارون عليه السلام معه في الضمير لأنه مثله في تقبل الكتاب والعمل بجميع ما فيه والثبات على ما يدعو إليه وإن كان نزوله خاصاً بموسى عليه السلام : { وهديناهما الصراط } أي الطريق الواضح في الإيصال إلى المقصود { المستقيم * } أي الذي هو لعظيم تقومه كأنه طالب لأن يكون قويماً ، فهو في غاية المحافظة على القوم فلا يزيغ أصلاً ، ولذلك هو شرائع الدين القيم .
ولما كان الذكر الجميل عند ذوي الهمم العالية والعزائم الوافية هو الشرف قال : { وتركنا عليهما } أي ما تعرفون من الثناء الحسن { في الآخرين * } أي كل من يجيء بعدهما إلى يوم الدين . ولما ظهر بهذا أن لهما من الشرف والسؤدد أمراً عظيماً كانت نتيجته : { سلام } أي عظيم { على موسى } صاحب الشريعة العريق في الاتصاف بمقصود السورة { وهارون * } وزيره وأخيه . ولما كان نصر النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه من الضعفاء على قريش وسائر العرب عند قريش في غاية البعد ، وكان التقدير : فعلنا معهما ذلك لإحسانهما ، علله بما يقطع قلوب قريش في مظهر التأكيد فقال : { إنا كذلك } أي مثل هذا الجزاء { نجزي } أي دائماً في كل عصر { المحسنين * } أي العريقين في هذا الوصف؛ ثم علل إحسانهما وبينه وأكده ترغيباً في مضمونه ، وتكذيباً لمن يقول : إن المؤمنين لا ينصرون ، بقوله : { إنهما من عبادنا } أي الذين محضوا العبودية والخضوع لنا { المؤمنين * } أي الثابتين في وصف الإيمان .

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)

ولما كان إلياس أعظم المتجردين من أتباعهما المجددين لما درس من أحكام التوراة ، وكان ترك أحكامها مع ما وصفت به من البيان وما دعت إليه من الاستقامة في غاية من الضلال تكاد أن لا يصدق مثلها أشار إلى الزيغ عنه بياناً لأن القلوب بيده سبحانه فقال مؤكداً : { وإن إلياس } أي الذي كان أحد بني إسرائيل عند جميع المفسرين إلا ابن مسعود وعكرمة ، وهو من سبط لاوي ، ومن أولاد هارون عليه السلام ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو عم اليسع عليهم السلام ، وأرسلناه إلى من كان منهم في أرض بعلبك ونواحيها ، فلما لم يرجعوا إليه نزعنا عنه الشهوات الإنسانية وخلقناه بالأوصاف الملكية ، ولا يبعد أن يكون الداعي إلى تسميته بهذا الاسم ما سبق في علم الله أنه ييأس ممن يدعوهم إلى الله فيكون ممن يأتي يوم القيامة وما معه إلا الواحد أو الاثنان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الشيخان : البخاري في الرقاق والطب ، ومسلم في الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما : « عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه رهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي ليس معه أحد » ، فجعل سبحانه اسمه مناسباً لأمره في قومه بيأسه منهم حين فر إلى الجبال من شرهم ، ويأسهم من القدرة على قتله ، فإنهم اجتهدوا في ذلك حتى أعياهم ، وأدل دليل على هذا المعنى قراءة ابن عامر بخلاف عنه بوصل الهمزة في الدرج وفتحها في الابتداء ، وإن قال العلماء كما حكاه السمين في إعرابه : إن ذلك من تلاعب العرب بالأسماء العجمية ، قطعوا همزته تارة ووصلوها أخرى ، يعني فخاطبهم سبحانه بما ألفوه من لسانهم { لمن المرسلين } أي إلى من بدل أمر التوارة ونابذ ما دعت إليه { إذ قال لقومه } منكراً عليهم ما من حقه الإنكار بقوله : { ألا تتقون * } أي يوجد منكم تقوى وخوف ، فإن ما أنتم عليه يقتضي شراً طويلاً ، وعذاباً وبيلاً ، وما أنتم عليه من السكون والدعة يقتضي أنه لا خوف عندكم أصلاً ، وذلك غاية الجهل والاغترار بمن تعلمون أنه لا خالق لكم ولا رازق غيره .
ولما كان هذا الإنكار سبباً للإصغاء ، كرره مفصحاً بسببه فقال : { أتدعون بعلاً } أي إلهاً ورباً ، وهم صنم كان لهم في مدينة بعلبك كان من ذهب طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه ، فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ، وهم أربعمائة ويعلمونها الناس ، ويحتمل أن يكون علماً على الصنم المذكور فيكون المفعول الثاني منوياً ، وحذف ليفهم الدعاء الذي لا دعاة يشبهه وهو الدعاء بالإلهية ، ومن قرأ شاذاً « بعلاء » بوزن « حمراء » فهو إشارة إلى كثرة حث امرأة الملك على عبادة بعل وقتل إلياس عليه السلام ، وطاعة زوجها لها في ذلك - كما حكاه البغوي ، فاستحق التأنيث لذلك ، فأنث لكثرة ملابستها له ، والجنسية علة الصنم .

ولما كان دعاؤهم إياه للعبادة بينه بقوله : { وتذرون } ومادة « وذر » تدور على ما يكره ، فالمعنى : وتتركون ترك المهمل الذي من شأنه أن يزهد فيه ، ولو قيل : وتدعون - تهافتاً على الجناس لم يفد هذا وانقلب المراد . ولما كان الداعي لا يدعو إلا بكشف ضر أو إلباس نفع ، فكان لا يجوز أن يدعو إلا من يقدر على إعدام ما يشاء وإيجاد ما يريد ، قال منبهاً لهم على غلطهم في الفعل والترك : { أحسن الخالقين * } أي وهو من لا يحتاج في الإيجاد والإعدام إلى أسباب فلا تعبدونه .
ولما كان الإنسان يعلم يقيناً أنه لم يرب نفسه إلا بالإنشاء من العدم ولا بما بعده ، وكان الإحسان أعظم عاطف للإنسان ، قال مبيناً لمن أراد مذكراً لهم بإحسانه إليهم وإلى من يحامون عنهم ، ويوادون من كان يوادهم بالتربية بعد الإنشاء من العدم الذي هو أعظم تربية مفخماً للأمر ومعظماً بالإبدال في قراءة الجماعة بالرفع : { الله } فذكر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات تنبيهاً على أنه الأول المطلق الذي لم يكن شيء إلا به { ربكم } أي المحسن إليكم وحده . ولما كانوا ربما أسندوا إيجادهم إلى من قبلهم غباوة منهم أو عناداً قال : { ورب آبائكم الأولين * } أي الذين هم أول لكم ، فشمل ذلك آباءهم الأقربين ، ومن قبلهم إلى آدم عليه السلام .
ولما كان من أعظم المقاصد - كما مضى - التسلية والترجية ، سبب عن دعائه قوله : { فكذبوه } ولما كانت الترجية مستبعدة ، سبب عن التكذيب قوله مؤكداً لأجل تكذيبهم : { فإنهم لمحضرون * } أي مقهورون على إقحامنا إياهم فيما نريد من العذاب الأدنى والأكبر ، وذكرهم بالسوء واللعن على مر الآباد وإن كرهوا { إلا عباد الله } أي الذين علموا ما لهم من مجامع العظمة فعملوا بما علموا فلم يدعوا غيره فإنهم لم يكذبوا؛ ثم وصفهم بما أشار إليه من الوصف بالعبودية والإضافة إلى الاسم الأعظم فقال : { المخلصين * } أي لعبادته فلم يشركوا به شيئاً جلياً ولا خفياً ، فإنهم ناجون من العذاب .
ولما جاهد في الله تعالى وقام بما يجب عليه من حسن الثناء ، جازاه سبحانه فقال : عاطفاً على « فإنهم لمحضرون » { وتركنا عليه } أي من الثناء الجميل وجميع ما يسره : { في الآخرين * } أي كل من كان بعده إلى يوم الدين . ولما كان السلام اسماً جامعاً لكل خير لأنه إظهار الشرف والإقبال على المسلم عليه بكل ما يريد ، أنتج ذلك قوله : { سلام } ولما كان في اسمه على حسب تخفيف العرب له لغات إحداهما توافق الفواصل ، فكان لا فرق في تأدية المعنى بين الإتيان بما اتفق منها ، وكان ما كثرت حروفه منها أضخم وأجل وأفخم ، وكان السياق بعد كثير من مناقبه لنهاية المدحة ، كان الأحسن التعبير بما هو أكثر حروفاً وهو موافق للفواصل ليفيد ذلك تمكينه في الفضائل ولتحقق أنه اسم أعجمي لا عربي مشتق من الياس وإن أوهمت ذلك قراءة ابن عامر بوصل همزته فقال : { على آل ياسين * } ومن قرأ آل يس فيجوز أن يكون المراد في قراءته ما أريد من القراءة الأخرى لأن أهل اللغة قالوا : أن الآل هو الشخص نفسه ، ويس إما لغة في إلياس أو اختصرت اللغة الثانية التي هي إلياسين فحذف منها الهمزة المكسورة مع اللام ، ويجوز أن يكون المراد بآله أتباعه ، ويكون ذلك أضخم في حقه لما تقدم مما يدعو إليه السياق ، ويجوز أن يقصد بهذه القراءة جميع الأنبياء المذكورين في هذه السورة الذين هو أحدهم ، أي على الأنبياء المذكورين عقب سورة يس دلالة على ما دعت إليه معانيها من الوحدانية والرسالة والبعث وإذلال العاصي وإعزاز الطائع المجرد لنفسه في حب مولاه عن جميع العوائق ، القاطع للطيران إليه أقوى العلائق ، وخص بهذا هذه القصة لأنها ختام القصص المسلم فيها على أهلها .

إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)

ولما أظهر سبحانه شرف إلياس عليه السلام أو الأنبياء الذين هو أحدهم ، علله مؤكداً له تنبيهاً على أنه لا بد من إعلاء النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على كل من يناويهم وإن كذبت بذلك قريش فقال : { إنا كذلك } أي مثل هذا الجزاء العظيم { نجزي المحسنين * } أي الذين هو من أعيانهم؛ ثم علل الحكم بإحسانه مؤكداً لما مضى في مثله بقوله : { إنه من عبادنا } أي الجديرين بالإضافة إلينا { المؤمنين * } ويستفاد من التأكيد أيضاً التنبيه على رسوخ قدمه في الإيمان وأنه بحيث تشتد الرغبة ويقوى النشاط في الإخبار به على ذلك الوجه .
ولما أتم ما أراد سبحانه من أمور المحسنين من ذرية إبراهيم عليه السلام المرسلين إلى ذريته في التسلية ، والترجية وقدمهم لأن المنة عليهم منه عليه ، والإنسان بابنه أسر منه بقريبه ، وهم الذين أظهر الله بهم وما ترك عليه ، من لسان الصدق في الآخرين . أتبعهم قصة ابن أخيه مع أهل بلاد الأردن من غير قومهم ، فقال مؤكداً للتنبيه على نصر المؤمنين وإن كانوا في القلة والذلة على حال لا يظن انجباره وتكذيباً لليهود المكذبين برسالته أو الشاكين فيها : { وإن لوطاً } أي الذي جرد نفسه من مألوفها من بلاده وعشائره بالهجرة مع عمه إبراهيم عليهما السلام { لمن المرسلين * } ولما كان جل المقصود تبشير المؤمنين وتحذير الكافرين ، وكان مخالفه كثيراً ، وكان هو غريباً بينهم ، قال في مظهر العظمة : { إذ نجيناه } أي على ما لمخالفيه من الكثرة والقوة ، ولم يذكرهم لأنهم أكثر الناس انغماساً في العلائق البشرية والقاذورات البهيمية التي لا تناسب مراد هذه السورة المنبني على الصفات الملكية { وأهله أجمعين * } ولما كان الكفر قاطعاً للسبب القريب كما أن الإيمان واصلاً للسبب البعيد قال : { إلا عجوزاً } أي وهي امرأته فإن كفرها قطعها عن الدخول في حكم أهله فجردوا عنها ، كائنة { في الغابرين * } أي الباقين في غبرة العذاب ومساءة الانقلاب .

ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)

ولما ذكر نجاته وابتدأ بها اهتماماً بالترجية قال مخوفاً معبراً بأداة البعد إفادة مع الترتيب لعظيم رتبة ما دخلت عليه : { ثم دمرنا } أي أهلكنا بما لنا من العظمة { الآخرين * } أي فجردنا الأرض من قاذوراتهم ونزهنا البلاد المقدسة منهم ومن أرجاس فعلاتهم ، فلم نبق منهم أحداً ولا احتجنا في إهلاكهم إلى استئذان أحد . ولما كان المقصود من مثل هذا تحذير المخالفين ، وكان تجار قريش يرون البقعة التي كانت فيها أماكن قوم لوط ، وهي البحيرة المعروفة ، ولا يعتبرون بهم ، عدّوا منكرين للمرور عليهم فأبرز لهم الكلام في سياق التأكيد فقيل : { وإنكم } أي فعلنا بهم هذا والحال أنكم يا معشر قريش { لتمرون عليهم } أي مواضع ديارهم في تجاراتكم إلى الشام { مصبحين * } أي داخلين في الصباح الوقت الذي قلبنا مدائنهم عليهم فيه ، ونص عليه للتذكير بحالهم فيه .
ولما كان لليل منظر في الهول غير منظر النهار قال : { وبالليل } ولما كان أمرهم كافياً للعاقل في التقوى ، أنكر عليهم تماديهم فيما كان سبب أخذهم من تكذيب الناصح فقال : { أفلا تعقلون * } أي يكون لكم عقول فتعتبروا بحالهم ، فتخافوا مثل مآلهم ، قتصدقوا رسولكم فإنكم أجدر منهم بالأخذ لأنه منكم وأنتم تعرفون من شرف أصله وكريم قوله وفعله ما لا يعرفه أولئك من رسولهم .
ولما أكمل سبحانه ما أراد من أمور من كان على أيديهم هلاك في الدنيا أو في الآخرة ، ختم بمن آل أمر قومه إلى سلامة وإيمان ونعمة وإحسان تغليباً للترجية على التأسية والتعزية فقال مؤكداً لأن ما يأتي من ذكر الاباق وبما أوهم شيئاً في أمره : { وإن يونس } أي أحد أنبياء بني إسرائيل وهو يونس بن متى عليه السلام ، حكى البغوي في قصة إلياس عليه السلام أنه لما أرسله الله تعالى إلى سبطه من بني إسرائيل الذين كانوا في مدينة بعلبك ، فكذبوه وأراد ملكهم قتله فاختفى في تلك الجبال ، اشتاق إلى الناس فنزل فمكث عند امرأة من بني إسرائيل وهي أم يونس بن متى عليه السلام ، وكان يونس إذ ذاك رضيعاً ثم رجع إلى الجبال فمات يونس عليه السلام ، فأتت أمه إلى تلك الجبال ، فما زالت تطوف حتى ظفرت بإلياس عليه السلام ، فسألته أن يدعو لابنها فيحييه الله ، فقال لها : إني لم أومر بهذا ، وإنما أنا عبد مأمور ، فجزعت فزاد جزعها وتضرعها إليه ، فرق لها ورحمها وسار معها فوصل إلى بيتها بعد أربعة عشر يوماً من حين مات ، وهو مسجى في ناحية البيت ، فدعا الله فأحياه لها ، وعاد إلياس عليه السلام إلى جبله { لمن المرسلين * } .
ولما كان من أعظم المقاصد التسلية على استكبارهم عن كلمة التوحيد وقولهم : أنه شاعر مجنون ، ذكر من أمر يونس عيله السلام ما يعرف منه صعوبة أمر الرسالة وشدة خطبها وثقل أمرها وشدة عنايته سبحانه بالرسل عليهم السلام وأنه ما اختارهم إلا عن علم فهو لا يقولهم وإن اجتهدوا في دفع الرسالة ليزدادوا ثباتاً لأعبائها وقوة في القيام بشأنها فقال : { إذ أبق } أي هرب حين أرسل من سيده الذي تشرفه الله بالرسالة ضعفاً عن حملها لأن الاباق الهرب من السيد إلى حيث يظن أنه يخفى عليه { إلى الفلك } أي البيت الذي يسافر فيه على ظهر البحر .

ولما كان فعله على صورة فعل المشاحن وكان قصده الإيغال في البعد والإسراع في النقلة قال : { المشحون * } أي الموقر ملأ ، فلا سعة فيه لشيء آخر يكون فيه ، فليس لأهله حاجة في الإقامة لحظة واحدة لانتظار شيء من الأشياء فحين وضع رجله فيه ساروا ، فاضطرب عليهم الأمر وعظم الزلزال حتى أشرف مركبهم على الغرق على هيئة عرفوا بها أن ذلك لعبد أبق من سيده ، فإن عند أهل البحر أن السفينة لا يستقيم سيرها وفيها آبق - نقله الكرماني وغيره عن ابن عباس رضي الله الله عنهما ، فسبب لهم ذلك المساهمة أي المقارعة كما هو رسمهم في مثل ذلك الأمر فاستهموا فساهم ، أي قارع يونس عليه السلام معهم؛ قال البغوي : والمساهمة إلقاء السهام على جهة القرعة . ولما آل وقوع القرعة عليه إلى رميه من السفينة من محل علو إلى أسفل ، عبر عن ذلك بما يدل على الزلق الذي يكون من علو إلى سفل فقال مسبباً عن المساهمة : { فكان من المدحضين * } أي الموقعين في الدحض ، وهو الزلق ، فنزل عن مكان الظفر بأن وقعت القرعة فرموه في البحر { فالتقمه } أي ابتلعه كما تبتلع اللقمة { الحوت } أي المعروف من جهة أنه لا حوت أكبر منه ، فكأنه لا حوت غيره { وهو } أي والحال أن يونس عليه السلام { مليم * } أي داخل في الملامة .

فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)

ولما وقع ما وقع فتجرد عن نفسه وغيرها تجرداً لم يكن لأحد مثل مجموعه لا جرم ، زاد في التجرد بالفناء في مقام الوحدانية فلازم التنزيه حتى أنجاه الله تعالى ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : { فلولا أنه كان } أي خلقاً وخلقاً { من المسبحين * } أي العريقين في هذا المقام ، وهو ما يصح إطلاق التسبيح في اللغة عليه من التنزيه بالقلب واللسان والأركان بالصلاة وغيرها لأن خلقه مطابق لما هيىء له من خلقه ، فهو لازم لذلك في وقت الرخاء والدعة والخفض والسعة ، فكيف به في حال الشدة ، وحمله ابن عباس رضي الله عنهما على الصلاة { للبث في بطنه } أي حيّاً أو بأن يكون غذاء له فتختلط أجزاؤه باجزائه { إلى يوم يبعثون * } أي هو والحوت وغيرهما من الخلائق ، وعبر بالجمع لإفادة عموم البعث ، ولو أفرد لم يفد بعث الحيوانات العجم ، ولو ثنى لظن أن ذلك له وللحوت خاصة لمعنى يخصها فلا يفيد بعث غيرهما ، وقيل : للبث حيّاً في بطنه ، وفي الآية إشارة إلى حديث « تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة » وحث على الذكر وتعظيم لشأنه .
ولما كان التقدير : ولكنه لما كان ذكاراً لله في حال الرخاء ذكرناه في حال الشدة ، فأنجيناه من بطنه ، وأخرجناه منه سالماً ، وكان ذلك أمراً باهراً للعقل ، أبرزه في مظهر العظمة فقال : { فنبذناه } أي ألقيناه من بطن الحوت إلقاء لم يكن لأحد غيره . وكان ذلك علينا يسيراً { بالعراء } أي المكان القفر الواسع الخالي عن ساتر عن نبت أو غيره ، وذلك بساحل الموصل ، وقال أبو حيان : قذفه في نصيبين من ناحية الموصل : { وهو سقيم * } أي عليل جداً مما ناله من جوف الحوت بحيث أنه كان كالطفل ساعة يولد وهو إذ ذاك محمود غير مذموم بنعمة الله التي تدراكته ، فكان مجتبى ومن الصالحين { وأنبتنا } أي بعظمتنا في ذلك المكان لا مقتضى للنبات مطلقاً فيه فضلاً عما لا ينبت إلا بالماء الكثير .
ولما كان سقمه متناهياً بالغاً إلى حد يجل عن الوصف ، نبه عليه بأداة الاستعلاء فقال : { عليه } أي ورفعناها حال إنباتنا إياها فوقه لتظله كما يظل البيت الإنسان . ولما كان الدباء عن النجم ، وكان قد أعظمها سبحانه لأجله ، عبر عنها بما له ساق فقال : { شجرة } ولما كانت هذه العبارة مفهمة لأنها مما له ساق ، نص على خرق العادة بقوله : { من يقطين * } أي من الأشجار التي تلزم الأرض وتقطن فيها وتصلح لأن يأوي إليها ويقطن عندها حتى يصلح حاله ، فإنه تعالى عظمها وأخرجها عن عادة أمثالها حتى صارت عليه كالعريش ، واليقطين : كل ما يمتد وينبسط على وجه الأرض ولا يبقى على الشتاء ولا يقوم على ساق كالبطيخ والقثاء ، والمراد به هنا - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما شجرة القرع لعظم ورقها وبرد ظلها ونعومة ملمسها وأن الذباب لا يقربها ، قال أبو حيان : وماء ورقه إذا رش به مكان لا يقربه ذباب أصلاً ، وقال غيره : فيه ملاءمة لجسد الإنسان حتى لو ذهبت عظمة من رأسه فوضع مكانها قطعة من جلد القرع نبت عليها اللحم وسد مسده ، وهو من قطن بالمكان - إذا أقام به إقامة زائل لا ثابت .

ولما كان النظر إلى الترجية أعظم ، ختم بها إشارة إلى أنه لا يميته صلى الله عليه وسلم حتى يقر عينه بأمته كثرة طواعية ونعمة فقال : { وأرسلناه } أي بعظمتنا التي لا يقوم لها شيء . ولما لم يتعلق الغرض بتعيين المرسل إليهم ، وهل هم الذين أبق عنهم أولاً؟ قال : { إلى مائة ألف } والجمهور على أنهم الذين أرسل إليهم أولاً - قال أبو حيان . ولما كان العدد الكثير لا يمكن ناظره الوقوع فيه على حقيقة عدده ، بل يصير - وإن أثبت الناس نظراً - يقول : هم كذا يزيدون قليلاً أو ينقصونه ، وتارة يجزم بأنهم لا ينقصون عن كذا ، وأما الزيادة فممكنة ، وتارة يغلب على ظنه الزيادة ، وهو المراد هنا ، قال : { أو يزيدون * } لأن الترجية في كثرة الأتباع أقر للعين وأسر للقلب ، وإفهاماً لأن الزيادة واقعة ، وهؤلاء المرسل إليهم هم أهل نينوى وهم من غير قومه ، فإن حدود أرض بني إسرائيل الفرات ، ونينوى من شرقي الفرات بعيدة عنه جداً .
ولما تسبب عن إتيانه إليهم انشراح صدره بعد ما كان حصل له من الضيق الذي أوجب له ما تقدم قال : { فآمنوا } أي تجريداً لأنفسهم من الحظوظ النفسانية ولحوقاً بالصفات الملكية . ولما كان إيمانهم سبب رفع العذاب الذي كان أوجبه لهم كفرهم قال : { فمتعناهم } أي ونحن على ما نحن عليه من العظمة لم ينقص ذلك من عظمتنا شيئاً ولا زاد فيها { إلى حين * } أي إلى انقضاء آجالهم التي ضربناها لهم في الأزل .
ذكر قصة يونس عليه السلام من سفر الأنبياء قال مترجمه : نبدأ بمعونة الله وقوته بكتب نبوة يونان بن متى النبي : كانت كلمة الرب على يونان بن متى ، يقول له : قم فانطلق إلى نينوى المدينة العظيمة وناد فيها بأن شرارتكم قد صعدت قدامي ، وقام يونان ليفر إلى ترسيس من قدام الرب ، وهبط إلى يافا ووجد سفينة تريد تدخل إلى ترسيس فأعطى الملاح أجرة ونزلها ليدخل معهم إلى ترسيس هارباً من قدام الرب ، والرب طرح ريحاً عظيمة في البحر ، فكان في البحر موج عظيم ، والسفينة كانت تتمايل لتنكسر وفرق الملاحون وجأر كل إنسان إلى إلهه ، وطرحوا متاع السفينة في البحر ليخففوا عنهم ، بحق هبط يونان إلى أسفل السفينة ونام فدنا منه سيد الملاحين وقال له : لماذا أنت نائم؟ قم فادع إلهك لعل الله يخلصنا ولا نهلك ، وقال الرجل لصاحبه : تعالوا نقترع ونعلم هذا الشر من قبل من جاء علينا؟ فاقترعوا فجاءت القرعة على يونان ، فقالوا له : أخبرنا ما هذا الشر؟ وماذا هو عملك ، ومن أين أنت ، ومن أيّ شعب أنت ، وأيتها أرضك؟ فقال لهم يونان : أنا عبراني ولله رب السماء أخشى الذي خلق البر والبحر ، ففرق أولئك القوم فرقاً شديداً ، فقالوا له : ماذا صنعت؟ لأن أولئك الناس علموا أنه من قدام إلهه هرب ، فلما أخبرهم قالوا : ما نصنع بك حتى يسكن عنا البحر لأن البحر هو ذا منطلق يزخر علينا؟ قال لهم يونان : خذوني فاطرحوني في البحر فيسكن عنكم البحر لأني أعلم أن هذا الموج العظيم من أجلي هاج عليكم ، فجهد أولئك الناس أن يرجعوا إلى الساحل ، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً ، لأن البحر كان ذاهباً يزخر عليهم ، ودعوا إلى الرب وقالوا : أيها الرب لا يحسب علينا دم زكي ، ولا نهلك بنفس هذا الرجل من أجل أنك أنت الرب ، وكل ما شئت تصنع ، فأخذوا يونان وطرحوه في البحر ، فاستقر البحر من أمواجه ، وفرق أولئك الناس من قدام الرب فرقاً شديداً ، وذبحوا ذبائح للرب ونذروا له النذور ، وهيأ الرب سمكة عظيمة فابتلعت يونان ، وكان يونان في أمعاء السمكة ثلاثة أيام وثلاث ليالي وقال : دعوت الرب في حزني فأجابني ، ومن بطن الجحيم تضرعت إليه ، وسمع صوتي وطرحني في الغوط في قلب البحر ، والأنهار أحاطت بي ، وكل أمواجك واهياجك عليّ جازت ، أنا بحق قلت : إني قد تباعدت من قدام عينيك ، من الآن أترى أعود فأنظر إلى هيكلك المقدس ، وقد أحاطت بي المياه حتى نفسي والأهوال أحاطت بي ، وفي أسفل البحر احتبس رأسي ، وإلى أسفل الجبال هبطت ، والأرض أطبقت أغلاقها في وجهي إلى الدهر ، إذا اغتمت نفسي للرب ذكرت ودخلت صلاتي قدامك إلى هيكلك المقدس ، فكل الذين يحفظون الأنساك البطالة رحمتهم فتركوا ، أنا بحق بصوت الشكر أقرب لك وأذبح ، والذي نذرته أوفيه للرب! فأمر الرب السمكة فقذفت يونان في اليبس ، وأتى الكلام الرب إليه المرة الثانية ، وقال له : قم يا يونان فانطلق إلى نينوى المدينة العظمية وناد فيها بالنداء الذي أقوله لك ، فقام يونان وانطلق إلى نينوى مثل كلمة الرب ، ونينوى كانت مدينة عظيمة للرب مسيرة ثلاثة أيام ، وتبدّأ يونان أن يدخل إلى نينوى مسيرة يوم واحد ونادى وقلال : من الآن وإلى أربعين يوماً نينوى تنقلب ، فآمن أهل نينوى لله وفرضوا الصوم ولبسوا المسوح من عظمائهم حتى صغائرهم ، وانتهت الكلمة إلى ملك نينوى فقام عن كرسيه ونزع تاجه ، واكتسى مسح شعر ، وجلس على الرماد ، ونادى في نينوى وقال الملك وأشرافه : وكل الناس والغدائر والثيران والغنم فلا يذوقون شيئاً من الطعام ولا يرعون ، وماء فلا يشربون ، ولكن فليلبس الناس والغدائر ويدعو الله بالتضرع ، ويرجع كل إنسان عن طريقة السوء ، وعن الاختطاف الذي في يده ، وقالوا : من ذا الذي يعلم أن الله يقبل منا ويترحم علينا ويرد عنا غصبه ورجزه لكيلا نهلك ، ونظر الله إلى أعمالهم أنهم قد تابوا عن طرقهم السوء فرد عنهم غضب رجزه ولم يبدهم ، وحزن يونان حزناً شديداً ، وتكره من ذلك جداً ، وصلى قدام الرب وقال : أيها الرب! ألم تكن هذه كلمتي ، وأنا بعد في بلادي ولذلك سبقت وفررت إلى ترسيس ، قد عرفت بحق أنك الرحمن الإله الرؤوف ، طويل صبرك وكثيرة نعمتك ، وترد السوء الآن يا رب! انزع نفسي مني لأن الموت أنفع لي من الحياة ، فقال له : جداً حزنت يا يونان ، وخرج يونان من المدينة واتخذ له ثمة مظلة وجلس تحتها في الظل لينظر ما الذي يعرض للمدينة ، وأمر الله الرب أصل القرع ، ونبت وارتفع على رأس يونان ، فكان ظل على رأسه فتفرج من شدته وفرح فرحاً كثيراً يونان بأصل القرع .

وفي اليوم الآخر أمر الله الرب دودة في مطلع الصبح فضربت أصل القرع وقرضته ، فلما طلعت الشمس أمر الله ريح السموم فيبست أصل القرع ، وحميت الشمس في رأس يونان ، واغتم وسال الموت لنفسه وقال : إنك يا رب تقدر تنزع نفسي مني ، لأني لم أكن أخبر من إياي ، وقال الرب ليونان : جداً حزنت على أصل القرع ، فقال يونان : جدّاً أحزن حتى الموت ، قال له الرب : أنت أشفقت على أصل القرع الذي لم تعن به ولم تربه ، الذي في ليلة نبت ، وفي ليلة يبس ، فكيف لا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يدرون ما بين يمينهم من شمالهم وكثرة من الغدائر - انتهى . ولعل أصل القرع المذكور هنا كان نبت عليه حين خرج من بطن الحوت ، فلما اتفق له ما ذكر هنا رجع إليه وقد زاد عظمه فبنى تحته عريشاً وجلس تحته ، فكان منه ما كان ، فلا يكون حينئذ ما هنا مخالفاً لما ذكر أهل الأخبار في هذه القصة - والله الموفق .

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)

ولما كان الذي سبق ادعاؤه أمرين أحدهما أن هؤلاء المنذرين يسارعون في اقتفاء آثار آبائهم في الضلال ، والثاني أن أكثر الأولين ضلوا ، وسيقت دليلاً شهودياً على الثاني هذه القصص الست التي ما اهتدى من أهلها أمة بكمالها إلا قوم يونس عليه السلام ، كان ذلك سبباً للأمر بإقامة الدليل على ضلال هؤلاء تبعاً لآبائهم بأمر ليس في بيان الضلال أوضح منه ، فقال متهكماً بهم مخصصاً الأمر به صلى الله عليه وسلم إشارة إلى عظم هذه النتيجة وأنه لا يفهمها حق فهمها سواه صلى الله عليه وسلم : { فاستفتهم } أي فاطلب من هؤلاء الذين يعرضون عن دعوتك إلى أباطيلهم أن يجيبوك فتوة منهم وكرماً : بأي دليل وبأي حجة حكموا بما يقولونه تبعاً لآبائهم في الملائكة الذين تقدم في فاطر أنهم رسل الله ، وفي يس أنهم في غاية الشدة بحيث إن عذاب الأمة الكثيرة يكفي فيه واحد منهم ، وبحيث إن صيحة واحده من أحدهم يميت الأحياء كلهم ، وصيحة أخرى يحي الأموات كلهم ، هذا إلى ما أفادته هذه السورة لهم من الصف والزجر والتلاوة حين ابتدأت بالإقسام بهم لأن لمقصودها نظراً عظيماً إلى أحوالهم في تجرديهم وتقديسهم ، ويلزم من هذا الاستفتاء تنزيههم وتنزيه الذي خلقهم وذلك مقصود السورة ، ولفت الكلام عن مظهر العظمة إلى ما هو دليل عليها فإن الرسول دال على قدر من أرسله فقال : { ألربك } أي خاصة وهو الملك الأعلى الذي رباك وأحسن إليك بهدايتك والهداية بك وغير ذلك من أمرك حتى كنت أكمل الخلق وأعلاهم في كل أمر يكون به الكمال والقرب من الله فاصطفاك لرسالته ، ففي إفراد الضمير إشارة إلى أنه لا يختار إلا الأكمل الأشرف الأفضل .
ولما كان المراد تبكيتهم بكونهم جعلوا الأخس لله ، وكانت الإناث أضعف من الذكور ، ولكنها قد تطلق الأنوثة على غير الحيوان ، وكانت الإناث في بعض الأجناس كالأسحار أشرف ، عدل عن التعبير بالإناث وعبر بما ينص على المراد فقال : { البنات } أي دون البنين ، وهم - مع أنهم مربون مقهورون - يأنفون منهم غاية الأنفة { ولهم } أي دونه { البنون * } مع أن الرب الذي خصوه بأدنى القبيلين تارة يخلق الذكر من تراب ويربيه أحسن تربية ، وأخرى من غيره أو يخرجه من بطن حوت أو غمرات نار أو غير ذلك ، فبأي وسيلة ادعوا له ولداً والولد لا يكون إلا بالتدريج في أطوار الخلق من النطفة إلى ما فوقها ، ولا يرضى بذلك إلا عاجز فكيف بادعاء أدنى الصنفين من الولد ، سبحان ربك رب العزة .
ولما كان دعواهم لأنوثة الملائكة متضمنة لادعاء العلم باختصاصه عند دعوى الولدية بأدنى القبيلتين أو ادعاء العلم بأنه خلقهم إناثاً بمشاهدة منهم أو كتاب منه إليهم ، وأما العقل فإنه لا مدخل له في ذلك ، قال معلماً بأنهم أهل لأن يبكتوا ويستهزأ بهم لأنه لا علم عندهم بإحدى الطريقين ، ولا يقدرون أن يدعوا ذلك لئلا يفتضحوا فضيحة لا تنجبر أصلاً ، عائداً إلى التصريح بمظهر العظمة التي إن لم يقتض اختيار الأكمل لم يقتض الاختصاص بالأدون لأنها منافية بكل اعتبار للدناءة { الملائكة } أي الذين حكموا عليهم بالأنوثة ، وهم من أعظم رسلنا وأجل خواصنا ولم يروا منهم أحداً ولا سبيل لهم إلى العلم بأحوالهم باعترافهم بذلك ، ولما تعين أن المراد بالأنوثة الخساسة ، وكان في بعض الإناث قوة الذكور ، عبر بالأنوثة إلزاماً لهم في حكمهم ذلك بخساستين فقال : { إناثاُ وهم } أي والحال أن هؤلاء الذين ينسبون إلى الله ما لا يليق به { شاهدون * } أي ثابت لهم شهود ذلك لا يغيبون عنه ، فإنا كل يوم نجدد منهم من شئنا ، قال الرازي : وكل واحد من الملائكة نوع برأسه ، أما الآدميون فكلهم نوع واحد ، وهو ناقص في ابتداء الفطرة ، مستكمل ، وله درجات في الترقي إلى أن يبلغ مقام المشاهدة ، وهو أن تتجلى له حلية الحق الأول من ذاته وصفاته وترتيب أفعاله علماً لا ينفصل عنه ولا يغيب فيترقى في إدراكه عن المحسوسات والخيالات ، ويترقى فعله عن أن يكون لمقتضى الغضب أو الشهوة ، وبهذا يقرب من الله تعالى - انتهى .

ولما اشتد تشوف السامع إلى أن يعلم حقيقة قولهم الذي تسبب عنها هذا الاستفتاء أعلم سبحانه بذلك في قوله مؤكداً إشارة إلى أنه قول لا يكاد أن لا يقر أحد أنه قاله ، معجباً منهم فيه منادياً عليهم بما أبان من فضيحتهم بما قدم من استفتائهم : { إلا أنهم من إفكهم } أي من أجل أن صرفهم الأمور عن وجوها عادتهم { ليقولون * } أي قولاً هم مستمرون عليه وإن كانوا لا يقدرون على إبرازه في مقام المناظرة ، وعدل عن مظهر العظمة إلى إسم الجلالة العلم على الذات الجامعة لجميع الصفات إشارة إلى أن كل صفة من صفاته ونعت من نعوته يأبى الولدية فقال : { ولد الله } أي وجد له - وهو المحيط بصفات الكمال - ولد وهم على صفة الأنوثة أي أتى بالولد ، فولد فعل ماض والجلالة فاعل ، وقرىء شاذاً برفع « ولد » على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وجر الجلالة بالإضافة ، والولد فعل بمعنى مفعول كالقبض ، فلذلك يخبر به عن المفرد وغيره والمؤنث وغيره .
ولما أتى سبحانه بالاسم الأعظم إشارة إلى عظيم تعاليه عن ذلك ، صرح به في قوله دالاً على الثبوت مؤكداً لأجل دعواهم أنهم صادقون : { وإنهم لكاذبون * } ودل على كذبهم أيضاً بإنكاره موبخاً لهم في أسلوب الخطاب زيادة في الإغضاب في قوله : { اصطفى } بهمزة الاستفهام الإنكاري ، ومن أسقطها فهي عنده مقدرة مرادة ، أي أخبروني هل اختار هذا السيد الذي أنتم مقرون بتمام علمه وشمول قدرته وعلو سؤدده ما تسترذلونه .

ولما كان التعبير بالبنت أكره إليهم من التعبير بالأنثى ، والتعبير بالابن أحب إليهم من التعبير بالذكور وأنص على المراد لأن الذكر مشترك بين معان ، قال : { البنات } اللاتي تستنكفون أنتم من لحوقهن بكم ، وتستحيون من نسبتهن إليكم ، حتى أن بعضكم ليصل في إبعادهن إلى الوأد { على البنين * } فكان حينئذ نظره لنفسه دون نظر أقلكم فضلاً عن أجلكم ، ولذلك عظم حسناً وتناهى بلاغة قوله : { ما } أي يا معاشر العرب المدعين لصحة العقول وسداد الأنظار والفهوم! أيّ شيء { لكم } من الخير في هذا المقال؟ ثم زاد في التقريع عليه بقوله معجباً منهم : { كيف تحكمون * } أي في كل سألناكم عنه بمثل هذه الأحكام التي لا تصدر عمن له أدنى مسكة من عقله ، وعبر بالحكم لاشتهاره فيما يبت فيأبى النقص ، فكان التعبير به أعظم في تقريعهم حيث أطلقوه على ما لا أوهى منه .
ولما كان هذا شديد المنافاة للعقول ، عظيم البعد عن الطباع ، حسن جداً قوله أيضاً مبكتاً : { أفلا تذكرون * } أي أدنى تذكر بما أشارت إليه قراءة من خفف بما جمعت من التخفيف والحذف ، فإن الأمر في غاية الظهور لما في عقولكم وطباعكم من أنكم لا ترضون لأنفسكم أخس المنازل ، فكيف يختاره لنفسه ربكم الذي بيده كل شيء؟ وإنه لا يكون الولد مطلقاً إلا ممن له جنس ، فيكون محتاجاً إلى جنسه ، والمحتاج لا يكون إلهاً بوجه ، وأشارت قراءة الجماعة بالتشديد والإدغام إلى أن الأمر يحتاج إلى مزيد تذكر بما أشار إليه التشديد مع دقة بما أشار إليه الإدغام لأجل حل شبهة من يرى أفعال من يحيي الموءودة فيظن أن ذلك رغبة منهم في الإناث ، وليس ذلك إلا رغبة في دفع فساد القتل ورحمة للضعيف ، ولم يقرأ بالفك إشارة إلى أن الأمر غني عن الدرجة العليا في التأمل .
ولما قررهم على شهود ذلك بما تضمن إبطاله عقلاً ، فلم يبق من طرق الأدلة إلا السمع ، عادل به قوله : { أم لكم } أي على ادعاء ذلك { سلطان } أي دليل سمعي بخبر سماوي قاهر ، وأشار إلى أنه لا يتكلم في أحوال الملوك إلا بأمر واضح بقوله : { مبين * } .
ولما كان المراد بهذا - ولا بد - البرهان السمعي ، بينه بما سبب عنه من قوله : { فأتوا بكتابكم } أي الذي أتاكم بذلك السلطان من الملك في أنه اختار لنفسه ذلك ، ودل على كذبهم تلويحاً بعد أن أتى به تصريحاً وهو أنكى ما يكون بالإتيان بأداة الشك في قوله : { إن كنتم صادقين * } وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم وإنكار فظيع ، والأساليب التي وردت عليها ناطقة بتسفيه أحلام المدعي لذلك وبجهل نفوسهم ، واستركاك عقولهم ، مع استهزاء وتهكم وتعجيب من أن يخطر مثل ذلك على بال فضلاً عن أن يتخذ معتقداً ، ويتظاهر به مذهباً .

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)

ولما تم إظهار ضلالهم ، بكتهم في أسلوب آخر معرضاً عن خطابهم تخويفاً من إحلال عذابهم فقال : { وجعلوا } أي بعض العرب منابذين لما مضى بيانه من الأدلة { بينه وبين الجنة } أي الجن الذين هم شر الطوائف ، وأنثهم إشارة إلى تحقيرهم عن هذا الأمر الذي أهلوهم له { نسباً } بأن قالوا : إنه - جلت سبحات وجهه وعظم تعالى جده - تزوج بنات سروات الجن ، فأولد منهم الملائكة ، ومن المعلوم أن أحداً لا يتزوج إلا من يجانسه ، فأبعدوا غاية البعد لأنه لا مجانس له . ولما كان النسيب يكرم ولا يهان قال مؤنثاً لضميرهم زيادة في تحقيرهم : { ولقد علمت الجنة } أي مطلقاً السروات منهم والأسافل { إنهم } أي الجن كلهم { لمحضرون * } أي إليه بالبعث كرهاً ليعاملوا بالعدل مع بقية الخلائق يوم فصل القضاء ، والتجلي في مظاهر العز والعظمة والكبرياء ، فهم أقل من أن يدعى لهم ذلك .
ولما ذكر اليوم الأعظم الذي يظهر فيه لكل أحد معاقد الصفات ، وتتلاشى عند تلك المظاهر أعيان الكائنات ، وتنمحي لدى تلك النعوت آثار الفانيات ، وكان ذكره على وجه مبين بُعد الجن عن المناسبة ، كان مجزأ للتنزيه وموضعاً بعد تلك الضلالات للتقديس نتيجة لذلك فقال مصرحاً باسم التسبيح الجامع لجميع أنواعه ، والجلالة إشارة إلى عظم المقام : { سبحان الله } أي تنزه الذي له جميع العظمة تنزهاً يفوت الحصر { عما يصفون * } أي عما يصفه به جميع الخلائق الذين يجمعهم الإحضار ذلك اليوم ، أو الكفار الذين ادعوا له الولد وجعلوا الملائكة من الولد { إلا عباد الله } أي الذين يصلحون للإضافة إلى الاسم الأعظم من حيث إطلاقه على الذات الأعظم ولذلك أظهر ولم يضمر ، لأن الضمير يعود على عين الماضي ، فربما أوهم تقييده بما ذكر في الأول فيفهم تقييد تشريفهم بالتسبيح ، { المخلصين * } من جميع الخلائق أو من العرب وهم من أسلم منهم بعد نزول هذه السورة فإنهم لا يصفونه إلا بما أذن لهم فيه ولأجل أن هذه السورة سورة المتجردين عن علائق العوائق عن السير إليه ، كرر وصف الإخلاص فيها كثيراً .
ولما نزه نفسه المقدس سبحانه عن كل نقص ، دل على ذلك بأنهم وجميع ما يعبدونه من دونه لا يقدرون على شيء لم يقدره ، فقال مسبباً عن التنزيه مؤكداً تكذيباً لمن يظن أن غير الله يملك شيئاً مواجهاً لهم بالخطاب لأنه أنكى وأجدر بالإغضاب : { فإنكم وما تعبدون * } أي من الأصنام وغيرها من كل من زعمتموه إلهاً . وابتدأ الخبر عن « أن » فصدره بالنافي فقال : { ما } وغلب المخاطبين المعبر عنهم بكاف الخطاب على من عطف عليهم وهم معبوادتهم تنبيهاً على أنهم عدم كما حقرهم بالتعبير عنهم بما دون « من » فقال مخاطباً : { أنتم عليه } أي على الله خاصة { بفاتنين * } أي بمغيرين أحداً من الناس بالإضلال { إلا من هو } أي في حكمه وتقديره { صال الجحيم * } أي معذب بعذابه لحكمه عليه بالشقاوة فعلم أنكم لا تقدرون أن تغيروا عليه إلا من غيره هو فبحكمه ضل لا بكم ، نعوذ بك منك ، لا مهرب منك إلا إليك ، والمراد بتقديم الجار أن غيره قد يقدر على أن يفسد عليه من لا يريد فساده ويعجز عن رد المفسد ، فالتعبير بأداة الاستعلاء تهكم بهم بمعنى أنه ليس في أيديكم من الإضلال إلا هذا الذي جعله لكم من التسبب ، فإن كان عندكم غلبة فسموه بها ، وتوحيد الضمير على لفظ « من » في الموضعين للإشارة إلى أن الميت على الشرك بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم من العرب قليل ، وقرئ شاذاً « صالوا » دفعاً لظن أنه واحد .

ولما كان من المعلوم أن هذا الاستفتاء من النبي صلى الله عليه وسلم وقع امتثالاً للأمر المصدر به ، وبطل بهذه الجملة قدرتهم وقدرة معبوداتهم التي يدعون لها بعض القدرة ، قال مؤكداً لذلك ومبطلاً لقدرة المخلصين أيضاً عطفاً على { فإنكم وما تعبدون } : { وما منا } أي نحن وأنتم ومعبوادتكم وغير ذلك ، أحد { إلا له مقام معلوم * } قد قدره الله تعالى في الأزل ، ثم أعلم الملائكة بما أراد منه فلا يقدر أحد من الخلق على أن يتجاوز ما أقامه فيه سبحانه نوع مجاوزة ، فلكل من الملائكة مقام معروف لا يتعداه ، والأولياء لهم مقام مستور بينهم وبين الله لا يطلع عليه أحد ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم مقام مشهور مؤيد بالمعجزات الظاهرة ، لأنهم للخلق قدوة ، فأمرهم على الشهرة ، وأمر الأولياء على السترة - قاله القشيري ، وغير المذكورين من أهل السعادة لهم مقام في الشقاوة معلوم عند الله تعالى وعند من أطلعه عليه من عباده .

وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)

ولما سلب عن الكل كل شيء من القدرة إلا ما وهبهم ، وكان الكفار يدعون أنهم يعبدون الله تعالى وينزهونه وأن الإشراك لا يقدح في ذلك ، بين أن المخلصين خصواً دونهم بمواقف الصفاء ، ومقامات الصدق والوفاء ، لأن طاعتهم أبطلها إشراكهم ، فقال مؤكداً ومخصصاً : { وإنا } أي يا معشر المخلصين { لنحن } أي دونكم { الصافون * } أي أنفسنا في الصلاة والجهاد وأجنحتنا في الهواء فيما أرسلنا به وغير ذلك لاجتماع قلوبنا على الطاعة { وإنا لنحن المسبحون * } أي المنزهون له سبحانه عن كل نقص مما ادعيتموه من البنات وبجوز أن يكون المعنى : لنا هذا الفعل ، وهو الصف والتسبيح ، ولا ينوي له مفعول البتة .
ولما بين ضلالهم وهداه صلى الله عليه وسلم وهدى من اتبعه - بما أشار إليه بصفة الربوبية التي أضافها إليه في قوله « ألربك » أعلم بأنهم زادوا على عيب الضلال في نفسه عيب الإخلاف للوعد والنقض لما أكدوه من العهد ، فقال مؤكداً إشارة إلى أنه لا يكاد يصدق أن عاقلاً يؤكد على نفسه في أمر ثم يخلفه جواباً لمن يقول : هل نزهوه كما نزهه المخلصون : { وإن } أي فعلوا ذلك من الضلال بالشبه التي افتضحت بما كشفناه من ستورها ولم ينزهوا كما نزه المخلصون والحال أنهم { كانوا } قبل هذا { ليقولون } أي قولاً لا يزالون يجددونه مع ما فيه من التأكيد { لو أن عندنا ذكراً } أي على أيّ حال كان من أحواله من كتاب أو غيره { من الأولين } أي من الرسل الماضين { لكنا عباد الله } أي بحيث أنا نصير أهلاً للإضافة إلى المحيط بصفات الكمال { المخلصين * } أي في العبادة له بلا شائبة من شرك أصلاً .
ولما كان هذا الذكر - الذي أتاهم مع كونه أعظم ذكر أتى مصدقاً لكتب الأولين وكان الرسول الآتي به أعظم الرسل ، فكان لذلك هو عين ما عقدوا عليه مع زيادة الشرف - سبباً لكفرهم قال : { فكفروا به } أي فتسبب عما عاهدوا عليه أنهم كفروا بذلك الذكر مع زيادته في الشرف على ما طلبوا بالإعجاز وغيره فتسبب عن ذلك تهديدهم ممن أخلفوا وعده ، ونقضوا مع التأكيد عهده ، فقال : { فسوف يعلمون * } أي بوعيد ليس هو من جنس كلامهم ، بل هو مما لا خلف فيه بوجه . ولما كان التقدير كما أرشد إليه سياق التهديد : فلقد سبقت كلمتنا على من خالف رسلنا بالخذلان المهين ، عطف عليه قوله : { ولقد سبقت } أي في الأزل { كلمتنا } أي على ما لنا من العظمة { لعبادنا } أي الذين أخلصوا لنا العبادة في كل حركة وسكون { المرسلين * } الذين زدناهم على شرف الإخلاص في العبودية شرف الرسالة .

إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)

ولما آذنت اللام بعلوهم ، أوضح ذلك ببيان ما سماه كلمة لانتظامه في معنى واحد بقوله : { إنهم } وزاد في تأكيده في نظير ما عند الكفرة على ما تدل أعمالهم أنه في غاية البعد فقال : { لهم } أي خاصة { المنصورون * } أي الثابت نصرهم في الجدال والجلاد وإن وقع للكفار عليهم في الثاني ظهور ما . ولما خص بذلك المرسلين ، عم فقال : { وإن جندنا } أي من المرسلين وأتباعهم ، ولما كان مدلول الجند في اللغة العسكر والأعوان والمدينة وصنفاً من الخلق على حدة ، قال جامعاً على المعنى دون اللفظ نصاً على المراد : { لهم } أي لا غيرهم { الغالبون * } أي وإن رئي أنهم مغلوبون لأن العاقبة لهم إن لم يكن في هذه الدار فهو في دار القرار ، وقد جمع لهذا النبي الكريم فيهما ، وسمى هذا كله كلمة لانتظامه معنى واحداً ، ولا يضر انهزام في بعض المواطن من بعضهم ولا وهن قد يقع ، وكفى دليلاً على هذا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الثلاثة بعده رضي الله عنهم .
ولما ثبت لا محالة بهذا أنه صلى الله عليه وسلم هو المنصور لأنه من المرسلين ومن جند الله ، بل هو أعلاهم ، سبب عن ذلك قوله : { فتولّ } أي فكلف نفسك الإعراض { عنهم } أي عن ردهم عن الضلال قسراً { حتى حين * } أي مبهم ، وهو الوقت الذي عيناه لنصرك في الأزل { وأبصرهم } أي ببصرك وبصيرتك عند الحين الذي ضربناه لك وقبله : كيف تؤديهم أحوالهم وتقلباتهم كلما تقلبوا إلى سفول .
ولما كانوا قبل الإسلام عمياً صمًّا لأنهم لا يصدقون وعداً ولا وعيداً ، ولا يفكرون في عاقبة ، حذف المفعول من فعلهم فقال متوعداً محققاً بالتوسيف لا مبعداً : { فسوف يبصرون * } أي يحصل لهم الإبصار الذي لا غلط فيه بالعين والقلب بعد ما هم فيه من العمى ، وهذا الحين واضح في يوم بدر وما كان من أمثاله قبل الفتح ، فإنهم كان لهم في تلك الأوقات نوع من القوة ، فلذلك أثبتهم نوع إثبات في أبصرهم .
ولما كانت عادتهم الاستعجال بما يهددون به استهزاء ، كلما ورد عليهم تهديد ، سبب عن ذلك الإنكار عليهم على وجه تهديد آخر لهم فقال : { أفبعذابنا } أي على ما علم له من العظمة بإضافته إلينا { يستعجلون } أي يطلبون أن يعجل لهم فيأتيهم قبل أوانه الذي ضربناه له . ولما علم من هذا أنه لا بشرى لهم يوم حلوله ، ولا قرار عند نزوله ، صرح بذلك في قوله : { فإذا } أي هددناهم وأنكرنا عليهم بسبب أنه إذا { نزل بساحتهم } أي غلب عليها لأن ذلك شأن النازل بالشيء من غير إذن صاحبه ولا يغلب عليها إلا وقد غلب على أهلها فبرك عليهم بروكاً لا يقدرون معه على البروز إلى تلك الساحة وهي الفناء الخالي عن الأبنية كأنه متحدث القوم وموضع راحتهم في أي وقت كان بروكه من ليل أو نهار ، ولكن لما كانت عادتهم الإغارة صباحاً ، قال على سبيل التمثيل مشيراً بالفاء إلى أنه السبب لا غيره { فساء صباح المنذرين * } أي الذين هم أهل للتخويف من هؤلاء وغيرهم وهذا التهديد لا يصلح لأن ينطبق على يوم الفتح ولقد صار من لم يتأهل لغير الإنذار فيه في غاية السوء ، وهم الذين قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ، ومنهم من تعلق بأستار الكعبة فلم يفده ذلك ، ولكنهم كانوا قليلاً ، والباقون إن كان ذلك الصباح على ما ساءهم منظره فلقد سرهم لعمر الله مخبره .

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة لا يستأصل قومه بعذاب ، قال دالاً على ذلك بتكرير الأمر تأكيداً للتسلية ، ووعد النصرة مع ما فيه من زيادة المعنى على الأول ، عاطفاً على « تولّ » الأولى : { وتول } أي كلف نفسك الصبر عليهم في ذلك اليوم الذي ينزل بهم العذاب الثاني والإعراض { عنهم حتى حين * } وكذا فعل صلى الله عليه وسلم فإنه حل بساحتهم يوم الفتح صباحاً ، فلم يقدروا على مدافعة .

وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

ولما كابر بعضهم ودافع ، لم يكن بأسرع من أن ولوا وطلبوا السلامة بالدخول فيما جعله صلى الله عليه وسلم علماً على التأمين ، وقال حماس بن قيس أخو بني بكر لما دخل بيته لامرأته : أغلقي عليّ الباب ، فعيرته بالهزيمة بعن أن كانت تنهاه عن منابذة المسلمين فلا ينتهي ويقول لها : لا بد ، أن أخدمك بعضهم :
إنك لو شهدت يوم الحندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة ... يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلقنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ولما كان هذا منطبقاً على يوم الفتح ، وكان ذلك اليوم قد أحل الكفار محلاًّ صاروا به بحيث لا اعتبار لهم قال : { وأبصر } مسقطاً ضميرهم ، أي أبصر ما تريد من شؤونك التي يهمك النظر فيها ، وأما هم فصاروا بحيث لا يبالي بهم ولا يفكر في أمرهم ولا يلتفت إليهم ، فإنا أبدلنا من عزتهم ذلاًّ ، ومن كثرتهم قلاًّ ، وجردنا تلك الأراضي من قاذورات الشرك ، وأحللنا بها طهارة التنزيه وأقداس التحميد ، وكذا كان ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال لهم وهو على درج الكعبة وهم تحته كالغنم المجموعة في اليوم المطير بعد أن قال « » لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده « : ما تظنون أني فاعل بكم يا معاشر قريش؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، وقال له صفوان بن أمية : اجعلني بالخيار شهرين ، قال : أنت بالخيار أربعة أشهر » ، ولم يكلف أحداً منهم الإسلام حتى أسلموا بعد ذلك طوعاً من عند آخرهم . ولما حاصر الطائف فعسرت عليه انصرف عنها ، فما لبثوا أن أرسلوا إليه رسلهم وأسلموا فحسن إسلامهم ولم يرتد أحد منهم في الردة ، وهذا من معنى { فسوف يبصرون * } .
ولما تقرر له سبحانه من العظمة ما ذكر ، فكان الأمر أمره والخلق خلقه ، ثبت تنزهه عن كل نقص واتصافه بكل كمال ، فلذلك كانت نتيجة ذلك الختم بمجامع التنزيه والتحميد فقال : { سبحان ربك } أي المحسن إليك بإرسالك وإقامة الدليل الظاهر المحرر على صدقك بكل ما يكون من أحوال أعدائك من كلام أو سكوت ، وتأييدك بكل قوة وإلباسك كل هيبة { رب العزة } أي التي هو مختص بها بما أفهمته الإضافة وأفاد شاهد الوجود وحاكم العقل ، وقد علم بما ذكر في هذه السورة أنها تغلب كل شيء ولا يغلبها شيء ، وفي إضافة الرب إليه وإلى العزة إشارة إلى اختصاصه صلى الله عليه وسلم وكل من وافقه في أمره عن جميع الخلق بالعزة وإن رئي في ظاهر الأمر غير ذلك { عما يصفون * } مما يقتضي النقائص لما ثبت من ضلالهم وبعدهم عن الحق .

ولما قدم السلام على من شاء تخصيصه في هذه السورة من رسله عمهم فقال عاطفاً على { سبحان } : { وسلام } أي تنزه له وسلامة وشرف وفخر وعلا { على المرسلين * } أي الواصفين له بما هو له أهل ، الذين اصطفاهم ، الصافين صفًّا ، الزاجرين زجراً ، التالين ذكراً ، من البشر والملائكة المذكورين في هذه السورة وغيرهم لأجل ما حكم لهم من سبحانه في الأزل من العز والنصر { والحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال { لله } أي الجامع لجميع الأسماء الحسنى التي دل عليها مجموع خلقه ، وإلى ذلك أشار بقوله : { رب العالمين * } فهو حينئذ الواحد المعتال ، الذي تنزه عن الأكفاء والأمثال ، والنظراء والأشكال ، في كل شيء من الأقوال والأفعال ، والشؤون والأحوال ، ولقد ترافق آخرها - كما ترى - وأولها ، وتعانق مفصلها وموصلها - والله الهادي إلى الصواب .

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)

ولما نزه ربنا سبحانه نفسه الأقدس في ختام تلك عن كل شائبة نقص ، وأثبت له كل كمال ناصاً على العزة ، وأوجب للمرسلين السلامة ، افتتح هذه بالإشارة إلى دليل ذلك بخذلان من ينازع فيه فقال : { ص } أي إن أمرك - يا من أمرناه باستفتاء العصاة آخر الصافات وبشرناه بالنصر - مهيأ مع الضعف الذي أنتم به الآن والرخاوة والإطباق ، وعلو وانتشار يملأ الآفاق { والقرآن } أي الجامع - مع البيان لكل خير - لأتباع لا يحصيهم العد ، ولا يحيط بهم الحد . ولما كان القسم لا يليق ولا يحسن إلا بما يعتقد المقسم له شرفه قال : { ذي الذكر * } أي الموعظة والتذكير بما يعرف ، والعلو والشرف والصدق الذي لا ريب فيه عند كل أحد ، فكل من سمعه اعتقد شرفه وصدق الآتي به ليملأن شرفه المنزل عليه الأقطار ، وليزيدن على كل مقدار ، كما تقدمت الدلالة عليه بالحرف الأول ، والذين كفروا وإن أظهروا الشك في ذلك وانتقصوه قولاً فإنهم لا ينتقصونه علماً { بل الذين كفروا } بما يظهرون من تكذيبه { في عزة } أي عسر وصعوبة ومغالبة بحمية الجاهلية مظروفون لها ، فهي معمية لهم عن الحق لإحاطتهم بهم ، وأنثها إشارة إلى ضعفها ، وبشارة بسرعة زوالها وانقلابها إلى ذل { وشقاق * } أي إعراض وامتناع واستكبار على قبول الصدق من لساني الحال الذي أفصح به الوجود ، والقال الذي صرح به الذكر فهداهم إلى ما هو في فطرهم وجبلاتهم بأرشق عبارة وأوضح إشارة لو كانوا يعقلون ، فأعرضوا عن تدبره عناداً منهم لا اعتقاداً فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ، وتنكيرهما للتعظيم ، قال الرازي : حذف الجواب ليذهب فيه القلب كل مذهب ليكون أغزر وبحوره أزخر - انتهى .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما ذكر تعالى حال الأمم السالفة مع أنبيائهم في العتو والتكذيب ، وأن ذلك أعقبهم الأخذ الوبيل والطويل ، كان هذا مظنة لتذكير حال مشركي العرب وبيان سوء مرتكبهم وأنهم قد سبقوا إلى ذلك الارتكاب ، فحل بالمعاند سوء العذاب ، فبسط حال هؤلاء وسوء مقالهم ليعلم أنه لا فرق بينهم وبين مكذبي الأمم السالفة في استحقاق العذاب وسوء الانقلاب ، وقد وقع التصريح بذلك في قوله تعالى { كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد } إلى قوله : { إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب } ولما أتبع سبحانه هذا بذكر استعجالهم في قوله { عجل لنا قطناً قبل يوم الحساب } أتبع ذلك بأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال { اصبر على ما يقولون } ثم آنسه بذكر الأنبياء وحال المقربين الأصفياء { وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } - انتهى .
ولما كان للعلم الذي أراد الله إظهاره في هذا الوجود طريقان : حال ومقال ، فأما الحال فهو ما تنطق به أحوال الموجودات التي أبدعها سبحانه في هذا الكون من علوم يدرك منها من أراد الله ما أراد ، وأما المقال فهو هذا الذكر الذي هو ترجمة عن جميع الوجود ، وكان سبحانه قد قدم الذكر لأنه أبين وأظهر ، وأخبر أنهم أعرضوا عنه وشاققوه ، وكان من شاقق الملك استحق الهلاك ، وكان ما أبدوه من المغالبة أمراً غائظاً للمؤمنين ، أتبعه ما يصلح لتخويف الكافرين وترجية المؤمنين مما أفصح به لسان الحال من إهلاك المنذرين ، وهو أبين ما يكون من دلالاته ، وأظهر ما يوجد من آياته ، فقال استئنافاً : { كم أهلكنا } وكأن المنادين بما يذكر كانوا بعض المهلكين ، وكانوا أقرب المهلكين إليهم في الزمان ، فأدخل الجار لذلك ، فقال دالاً على ابتداء الإهلاك : { من قبلهم } وأكد كثرتهم بقوله مميزاً : { من قرن } أي كانوا في شقاق مثل شقاقهم ، لأنهم كانوا في نهاية الصلابة والحدة والمنعة - بما دل عليه « قرن » .

ولما تسبب عن مسهم بالعذاب دلهم قال جامعاً على معنى « قرن » لأنه أدل على عظمة الإهلاك : { فنادوا } أي بما كان يقال لهم : إنه سبب للنجاة من الإيمان والتوبة ، واستعانوا بمن ينقذهم ، أو فعلوا النداء ذعراً ودهشة من غير قصد منادي ، فيكون الفعل لازماً ، وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا تنادوا « مناص » أي عليكم بالفرار ، فأجيبوا بأنه لا فرار لهم .
ولما قرر سبحانه في غير موضع أن التوبة لا تنفع إلا عند التمكن والاختيار لا عند الغلبة والاضطراب ، قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى في جملة حالية بزيادة التاء التي أصلها هاء في « لا » أو في « حين » كما أكدوا بزيادتها في رب وثم ، والهاء في أراق والتاء في مثال والان فقالوا : ربت وثمت وأهراق وتمثال وتالان { ولات } أي وليس الحين { حين مناص * } أي فراراً بتحرك بتقدم ولا تأخر ، بحركة قوية ولا ضعيفة ، فضلاً عن نجاة ، قال ابن برجان : والنوص يعبر به تارة عن التقدم وتارة عن التأخر وهو كالجماح والنفار من الفرس ، ونوص حمار رفعه رأسه كأنه نافر جامح .
ولما كان جعل المنذر منهم ليس محلاًّ للعجب فعدوه عجباً لما ظهر من تقسيمهم القول فيه ، عجب منهم في قوله : { وعجبوا أن } أي لأجل أن { جاءهم } ولما كان تعجبهم من مطلق نذارته لا مبالغته فيها أتى باسم الفاعل دون فعيل فقال : { منذر منهم } أي من البشر ثم من العرب ثم من قريش ولم يكن من الملائكة مثلاً وكان ينبغي لهم أن لا يعجبوا من ذلك فإن كون النذير بما يحل من المصائب من القوم المنذرين - مع كونه أشرف لهم - أقعد في النذارة لأنهم أعرف به وبما هو منطو عليه من صدق وشفقة وغير ذلك ، وهو الذي جرت به العوائد في القديم والحديث لكونهم إليه أميل ، فهم لكلامه أقبل .

ولما كانوا أعرف الناس بهذا النذير صلى الله عليه وسلم في أنه أصدقهم لهجة وأعلاهم همة وأنه منفي عنه كل نقيصة ووصمة ، زاد في التعجيب بأن قال معبراً بالواو دون الفاء لأن وصفهم له بالسحر ليس شبيه هذا العجب : { وقال } ولما كانوا يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون ، ومعاندون لا غافلون ، أظهر موضع الإضمار إشارة إلى ذلك وإيذاناً بشديد غضبه في قوله : { الكافرون هذا } أي النذير .
ولما كان ما يبديه من الخوارق إعجازاً فعلاً وقولاً يجذب القلوب ، وكان أقرب ما يقدحون به فيه السحر قذفوه به ولم يعبروا بصيغة مبالغة لئلا يكون ذلك إيضاحاً جاذباً للقلوب إليه فقالوا : { ساحر } أي لأنه يفرق بما أتى به بين المرء وزوجه ، فاعترفوا - مع نسبتهم له إلى السحر وهم يعلمون أنهم كاذبون في ذلك - أن ما أتى به فوق ما لهم من القوى { كذاب * } أي في ادعائه أن ما سحر به حق ليس هو كسحر السحرة ، وأتوا بوقاحة بصيغة المبالغة وقد كانوا قبل ذلك يسمونه الأمين وهم يعلمون أنه لم يتجدد له شيء إلا إتيانه بأصدق الصدق وأحق مع ترقيه في معارج الكمال من غير خفاء على أحد له أدنى تأمل .

أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)

ولما ذكر قولهم الناشىء عن عجبهم ، ذكر سببه ليعلم أن حالهم هو الذي يعجب منه لا حال من أنذرهم بقوله حاكياً قولهم إنكاراً لمضمون ما دخل عليه : { أجعل } أي صير بسبب ما يزعم أنه يوحى إليه { الآلهة } أي التي نعبدها { إلهاً واحداً } ولما كان الكلام في الإلهية التي هي أعظم أصول الدين ، وكان هو صلى الله عليه وسلم وكل من تبعه بل وكل منصف ينكرون أن يكون هذا عجباً ، بل العجب كل العجب ممن يقبل عقله أن يكون الإله أكثر من واحد ، أكدوا قولهم لذلك وإعلاماً لضعفائهم تثبياً لهم بأنهم على غاية الثقة والاعتقاد لما يقولون ، لم يزلزلهم ما رأوا من منذرهم من الأحوال الغريبة الدالة ولا بد على صدقه ، فسموها سحراً لعجزهم عنها : { إن هذا } أي القول بالوحدانية { لشيء عجاب * } أي في غاية العجب - بما دلت عليه الضمة والصيغة ، ولذلك قرئ شاذاً بتشديد الجيم ، وهي أبلغ قال الاستاذ أبو القاسم القشيري : فلا هم عرفوا الإله ولا معنى الإلهية فإن الإلهية هي القدرة على الاختراع ، وتقدير القادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه ، وذلك يمنع من كمالهما ، ولو لم يكونا كاملي الوصف لم يكونا إلهين ، وكل أمر جر ثبوته سقوطه فهو باطل مطرح - انتهى . وستأتي الإشارة إلى الرد عليهم بقوله : { العزيز الوهاب } ثم بقوله : { وما من إله إلا الله الواحد القهار } .
ولما كان العجب فكيف بالعجاب جديراً بأن يلزم صاحبه ليزداد الناظر عجباً ، بين أنهم فعلوا خلاف ذلك تصديقاً لمن نسبهم إليه من الشقاق فقال : { وانطلق } ولما كان ما فعلوه لا يفعله عاقل فربما ظن السامع أن المنطلق منهم أسقاط من الناس من غيرهم قال : { الملأ } أي الأشراف ، وقال : { منهم } أي لا من غيرهم فكيف بالأسقاط منهم وكيف بغيرهم ، ثم حقق الانطلاق مضمناً له القول لأنه من لوازمه بقوله : { أن امشوا } أي قائلاً كل منهم لذلك آمراً لنفسه ولصاحبه بالجد في المفارقة حالاً ومقالاً ، وإذا وقف على « أن » ابتدئ بكسر الهمزة لأن أصله : امشيوا فالثالث مكسور كما أنه لو قيل لأمرأة : اغزي يبتدأ بالضم لأن الأصل : اغزوي كاخرجي { واصبروا على آلهتكم } أي لزوم عبادتها وعدم الالتفات إلى ما سواها ، قال القشيري : وإذا تواصى الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم .
ولما كان كل منهم قد أخذ ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قلب وسلب لبه ، على ما أشار إليه « ذي الذكر بل » فهو خائف من صاحبه أن يكون قد استحال عن اعتقاد التعدد بما يعرف من تزحزحه في نفسه ، أكدوا قولهم : { إن هذا } أي الصبر على عبادة الآلهة { لشيء يراد * } أي هو أهل للإرادة فهو أهل لئلا ينفك عنه ، أو الذي يدعو إليه شيء يريده هو ولا نعلم نحن ما هو على ما نحن عليه من الحذق ، فهو شيء لا يعلم في نفسه .

ولما كان كأنه قيل : فما حال ما يقوله؟ قالوا جواباً واقفاً مع التقليد والعادة التي وجدوا عليها أسلافهم : { ما سمعنا بهذا } أي الذي تذكره من الوحداينة { في الملة الآخرة } وتقييدهم لها يدل على أنهم عالمون به في الملة الأولى ، وأنهم عارفون بأن إبراهيم عليه السلام ومن وجد من أولاده الذين هم آباؤهم إلى عمرو بن لحي كانوا بعيدين من الشرك ملازمين للتوحيد وأنه لا شبهة لهم إلا كونه سبحانه لم يغير عليهم في هذه المدد الطوال ، وكانوا أيضاً يعرفون البعث ولكنهم تناسوه ، ذكر ابن الفرات في تأريخه يوم حليمة من أيام العرب وقال : إن حجر بن عمرو آكل المرار سار إلى بني أسد فقتلهم وسيرهم إلى تهامة فقال عبيد بن الأبرص من أبيات :
ومنعتهم نجداً فقد حلوا على وحل تهامه ... أنت المليك عليهم وهم العبيد إلى القيامه ... وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن أول من سيب السوايب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وأني رأيته يجر أمعاءه في النار » وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أول من غير دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي بن قميئة » وروى البخاري في فتح مكة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج من البيت صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام فقال : « قاتلهم الله! لقد علموا ما استقسما بها قط » فبطل ما يقال من أن أهل الفترة جهلوا جهلاً أسقط عنهم اللوم ، ويؤيده ما في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله! أين أبي؟ قال : « في النار ، فلما قفى دعاه فقال : إن أبي وأباك في النار » أخرجه مسلم في آخر كتاب الإيمان ، وقد مر في سبحان في قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } ما ينفع هنا ، والقاطع للنزاع في هذا قوله { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدو الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } [ النحل : 36 ] فما تركت هذه الآية أحداً حتى شملته وحكمت عليه بالجنة أو النار .
ولما كان قوله صلى الله عليه وسلم وحده جديراً بأن يزلزلهم فكيف إذا انضم إليه علمهم بأن أسلافهم لا سيما إسماعيل وأبوه إبراهيم عليهما السلام كانوا عليه ، أكدوا قولهم : { إن } أي ما { هذا } أي الذي يقوله { إلا اختلاق * } أي تعمد الكذب مع أنه لا ملازمة بين عدم سماعهم فيها وبين كونه اختلاقاً ، بل هو قول يعرف معانيه بأدنى تأمل ، روى الترمذي - وقال : حسن صحيح - والنسائي وابن حبان في صحيحه وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبري وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مرض أبو طالب فجاءته قريش ، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي طالب مجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه ، قال : وشكوه ألى أبي طالب - زاد النسائي في الكبير وأبو يعلى : وقالوا : يقع في آلهتنا فقال : يا ابن أخي! ما تريد من قومك؟ قال :

« أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية ، قال : كلمة واحدة ، قال : كلمة واحدة ، فقال : وما هي؟ فقال : يا عم ، قولوا » لا إله إلا الله « فقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن إلا اختلاق ، قال : فنزل فيهم القرآن » { ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفورا في عزة وشقاق } إلى قوله : { اختلاق } وفي التفاسير أنهم قالوا : كيف يسع الخلق كلهم إله واحد .
ولما كان مرادهم بهذه التأكيدات الدلالة على أنهم في غاية الثبات على ما كانوا عليه قبل دعائه ، وأبى الله أن يبقى باطلاً بغير إمارة يقرنه بها تفضحه ، وسلطان يبطله ويهتكه ، أتبع ذلك حكاية قولهم الذي جعلوه دليلاً على حرمهم ، فكان دالاً على عدم صدقهم في هذا الحكم الجازم غاية الجزم بالاختلاق المنادى عليهم بأن أصل دائهم والحامل لهم على تكذيبهم إنما هو الحسد ، فقال دالاً بتعبيرهم بالإنزال على أنه صلى الله عليه وسلم كان جديراً بأن يتوهم فيه النبوة بما كان له قبل الوحي من التعبد والأحوال الشريفة وقدموا ما يدل على اختصاصه عناداً لما يعلمون من أحواله المقتضية للخصوصية بخلاف ما يذكر في القمر ، وعبروا بحرف الاستعلاء إشارة إلى أن مثل هذا الذي يذكره لا يقوله إلا من غلب على عقله فقالوا : { أءنزل عليه } أي خاصة { الذكر } أي الذي خالف ما نحن عليه وصار يذكر به ، وزادوا ما دلوا به على الاختصاص تصريحاً فقالوا : { من بيننا } ونحن أكبر سناً وأكثر شيئاً ، وهذا كله كما ترى مع مناداته عليهم بالحسد العظيم ينادي عليهم غاية المناداة بالفضيحة ، لأنه إن كان المدار على رعاية حق الآباء حتى لا يسوغ لأحد تغيير دينهم والطعن عليهم بدين محدث وإن قامت عليه الأدلة وتعاضدت على حقيته البراهين فما لآبائهم غيروا دين آبائهم لأجل ما أحدثه عمرو بن لحي - شخص ليس من قبيلتهم ، وشهدوا على آبائهم بالضلال وهم عالمون بأن ما غيروه دين إسماعيل ومن قبله إبراهيم ومن تبعهما من صالحي أولادهما عليهم السلام ، وإن كان المدار على المحدث حتى ساغ تغيير دين الأنبياء ومن تبعهم بإحسان عليهم السلام بما أحدثه عمرو بن لحي فما لهم لا يغيرون ما ابتدع من الضلال بما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم وسموه محدثاً ، وإن كان المدار على الحق فما لهم لا ينظرون الأدلة ويتبعون الحجج .

ولما كان هذا دالاًّ على أنهم ليسوا على ثقة مما جزموا به قال : { بل } أي إنهم ليسوا جازمين بما قالوا وإن أكدوه غاية التأكيد ، بل { هم في شك } أي تردد محيط بهم مبتدئ لهم { من ذكري } أي فلهذا لا يثبتون فيه على قول واحد ، أي إن أحوالهم في أقوالهم وأفعالهم أحوال الشاك . وعدل عن مظهر العظمة إلى الإفراد لأن هذا السياق للتوحيد فإلافراد أولى به وليكون نصاً على المراد بعد ذكر آلهتهم قطعاً لشبه متعنتيهم .
ولما كانوا في الحقيقة على ثقة من حقيقته وإن كان قولهم وفعلهم قول الشاك قال : { بل } أي ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك . ولما كانوا قد جرت لهم مصايب ومحن ، وشدائد وفتن ، ربما : ظنوا أنه لا يكون شيء من العذاب فوقها ، نفى أن يكونوا ذاقوا شيئاً من عذابه الذي يرسله عند إرادة الانتقام ، فعبر بما يفيد استغراق النفي في جميع الزمن الماضي فقال : { لما يذوقوا } من أول أمرهم إلى الآن { عذاب * } أي الذي أعددته للمكذبين فهم في عزة وشقاق ، ولو ذاقوه لانحلت عرى عزائمهم ، وصاروا أذل شيء وأحقره أدناه وأصغره! وإطباق أهل الرسم وأكثر القراء على حذف يائه رسماً وقراءة إشارة إلى أنه العذاب الأدنى المذهب لحمية الجاهلية ، وإثبات يعقوب وحده لها في الحالين إشارة إلى أنه العذاب المعد لإهلاك الأمم الطاغية لا مطلق العذاب .

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)

ولما أرشد إنكارهم خصوصيته بالذكر بنفي شكهم اللازم منه إثبات أنهم على علم بأنه مرسل ، وأنه أحقهم بالرسالة إلى أن التقدير : أفيهم غيره من هو أهل لتلقي هذا الذكر حتى ينزله الله عليه ويترك هذا البشير النذير صلى الله عليه وسلم ، عادل به قوله : { أم عندهم } أي خاصة دون غيرهم { خزائن رحمة } ولما كان إنزال الوحي إحساناً إلى المنزل عليه ، عدل عن إفراد الضمير إلى صفة الإحسان المفيدة للتربية ، فقال مخاطباً له صلى الله عليه وسلم لأنه أضخم لشأنه ، وأفخم لمقداره ومكانه : { ربك } أي المحسن إليك بإنزاله ليخصوا به من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا { أهم يقسمون رحمة ربك } [ الزخرف : 32 ] ولما كان لا يصلح للربوبية إلا الغالب لكل ما سواه ، المفيض على من يشاء ، ما يشاء ، قال : { العزيز الوهاب * } أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، ويفيض على جهة التفضل ما يشاء على من يريد ، وله صفة الإفاضة متكررة الآثار على الدوام ، فلا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى .
ولما سلب عنهم التصرف في الخزائن ، أتبعه نفي الملك عما شاهدوا منها وهو جزء يسير جداً فقال : { أم لهم } أي خاصة { ملك السماوات والأرض } ولما كان الحكم على ذلك لا يستلزم الحكم على الفضاء قال : { وما بينهما } أي لتكون كلمتهم في هذا الكون هي النافذة ويتكلموا في الأمور الإلهية ويسندوا ما شاؤوا من الأمور الجليلة إلى من شاؤوا ، ثم بين عجزهم وبكتهم وقرعهم ووبخهم بما سبب عن ذلك من قوله : { فليرتقوا * } أي يتكلفوا الرقي إن كان لهم ذلك { في الأسباب * } أي الطرق الموصلة إلى السماء ليستووا على العرش الذي هو أمارة الملك فيدبروا العالم فيخصوا من شاؤوا بالرسالة ليعلم أن لهم ذلك وأنه لا يسوغ لأحد أن يختص دونهم بشيء .
ولما انتفى عنهم بما مضى وعن كل من يدعون ممالأته ومناصرته عن آلهتهم وغيرها خصائص الإلهية ، أنتج ذلك أنهم من جملة عباده سبحانه ، فعبر عن حالهم بأعلى ما يصلون إليه من التجمع والتعاضد الذي دل عليه ما تقدم الإخبار عنه من عزتهم وشقاقهم ، ونفرتهم عن القبول وانطلاقهم ، فقال مخبراً عن مبتدأ حذف لوضوح العلم به : { جند ما } أي ليسوا في شيء مما مضى وإنما هم جند حقيرون من بعض جنودنا متعاونون في نجدة بعضهم لبعض ، قال أبو حيان : ويجوز أن تكون « ما » صفة أريد بها التعظيم على سبيل الهزء بهم أو التحقير لأن « ما » الصفة تستعمل لهذين المعنيين . وبين بعدهم من غير ما أقامهم فيه واستعملهم له من الرتب التي فرضها لهم وسفولهم عنها بقوله واصفاً لجند : { هنالك } أي في الحضيض عن هذه المرامي العالية ، وبين أنه كثيراً ما تحزب أمثالهم على الرسل فما ضروا إلا أنفسهم بقوله واصفاً بعد وصف مفرداً تحقيراً : { مهزوم } أي له الانهزام صفة راسخة ثابتة { من الأحزاب * } أي الذين جرت عادتهم عزة وشقاقاً بالتحزب على الأنبياء ثم تكون عليهم الدائرة ، وللرسل عليهم السلام العاقبة ، فلا تكترث بهم أصلاً قال ابن برّجان : فكان أول جند مهزوم منهم جند غزوة بدر ، ثم انبسط صدق الحديث على جنود كثيرة في وقائع مختلفة .

ولما أوجب ذلك التشوف إلى بيان الأحزاب الماضية ، وكانوا أحقر شيء بالنسبة إليه سبحانه مع شدتهم في أنفسهم ، بين ذلك بالتاء الدالة على الرتبة الثانية المؤخرة ، وهي رتبة التأنيث اللازم منه الضعف فقال : { كذبت } ولما كانت نيتهم التكذيب لا إلى آخر ، عدّوا مستغرقين للزمان فنزع الجار وقيل : { قبلهم } أي مثل تكذيبهم . ولما كان لأول المكذبين من الكثرة والقوة والاجتماع على طول الأزمان ما لم يكن لمن بعدهم ، كانوا مع تقدمهم في الزمان أحق بالتقديم في هذا السياق فقال : { قوم نوح } واستمروا في عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم ، ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام في أن يركبوا معه أو يدعو لهم فينجوا .
ولما كان لقوم هود عليه السلام بعدهم من الضخامة والعز ما ليس لغيرهم مع قوة الأبدان وعلوا الهمم واتساع الملك حتى بنوا جنة في الأرض ، أتبعهم بهم ، ومن مناسبتهم لهم في أن عذابهم بالريح التي هي سبب السحاب الحامل للماء فقال : { وعاد } مسمياً لهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك ، واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح ، ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض ، وهجم عليهم أوائلها وهم يرون هوداً عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم في عافية منها ، ولم يدعهم الشقاق يسألونه في الدعاء لهم ولا يذعنون لما دعاهم إليه .
ولما كان لهم من القوة والملك في جميع الأرض وبناء إرم ذات العماد ما يتضاءل معه ملك كل ملك ، أتبعهم ملكاً ضخماً قهر غيره بعز سلطانه وكثرة أعوانه ، حتى ادعى الألهية في زمانه ، وتكبر بسعة ملكه والأنهار الجارية من تحته مع ما له من الوفاق لهم بأن عذابه كان بالريح باطناً وإن كان بالماء ظاهراً وذلك أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر أرسل الله الريح ففرقته طرقاً وأيبست تلك الطرق ، ولما خلص بنو إسرائيل أمرها الله تعالى فسكنت ، فانطبق البحر على فرعون وآله ، فقال تعالى : { وفرعون } ذكره باسمه نصاً على حقيقة أمره وتصريحاً بكفره إبطالاً لما أظهره الأخابث من شره طعناً في الدين وتشكيكاً لضعفاء المسلمين .
ولما نص على كفره ، وصفه بما يدل مع الدلالة على مشاركة عاد في ضخامة الأمر وعلى كفر قومه فقال : { ذو الأوتاد * } أي الأسباب الموجبة لثبات الملك وتقويته من علو السلطان بكثرة الأعوان والتفرد بالأوامر وسعة العقل ودقة المكر وكثرة الحيل بالسحر وغيره وجودة التدبير بالعدل فيما يزعم وصولة القهر ، قال أبو حيان : وأصله من البيت المطنب بأوتاده - قال الأفوه الأودي :

والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
واستمروا في عزة وشقاق وهم يضربون تارة بالطوفان وتارة بالجراد وتارة بالقمل ، وأخرى بالضفادع وبغير ذلك ، إلى أن رأوا آية البحر التي هي الغاية ولم يردهم شيء من ذلك عن شقاقهم إلى أن غرقوا على كفرهم عن بكرة أبيهم كما صرحت به هذه الآية .

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)

ولما كانت ثمود أضخم الناس بعدهم بما لهم من إتقان الأبنية في الجبال والسهول والتوسع بعمارة الحدائق وإنباط العيون وغير ذلك من الأمور ، مع مناسبتهم لهم في رؤية الآيات المحسوسة الظاهرة العظيمة أتبعهم بهم فقال : { وثمود } واستمروا فيما هم فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها ، ولم يكن لهم في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم .
ولما كان الحامل لثمود على المعصية الموجبة العذاب النساء لأن عاقر الناقة ما اجترأ على عقرها إلا لامرأة منهم جعلت له على عقرها زواجها ، وكان الموجب لعذاب قوم لوط إتيان الذكور ، فالجامع بينهم الشهوة الفرج مع الطباق بالذكور والإناث ، مع أن عذاب ثمود برجف ديارهم ، وعذاب قوم لوط بقلع مدائنهم وحملها ثم قلبها ، أتبعهم بهم فقال معبراً بما يدل على قوتهم مضيفاً لهم إلى نبيهم عليه السلام لأنهم عدة مداين ليس لهم اسم جامع كقوم نوح عليه السلام : { وقوم لوط } أي الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وشقاقهم حتى ضربوا بالعشا وطمس الأعين ، ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولا التمكن مما أرادوا ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم ، بل توعدوه بطلوع النهار .
ولما ذكر أهل المدر ، أتبعهم طائفة من أهل الوبر يقاربونهم في الاستعصاء بالشجر ، مع أن عذابهم بظلة النار كما كان لقوم لوط عليه السلام حجارة من نار فقال : { وأصحاب لئيْكَةِ } ثم عظم أمرهم تهويناً لأمر قريش وردعاً لهم بالحث على استحضار عذابهم فقال : { أولئك } أي العظماء في التجند والاجتماع على من يناوونه { الأحزاب * } أي الذين أقصى رتب هؤلاء في المخالفة أن يكونوا مثل حزب منهم .
ولما كان في معرض المعارضة لتألبهم وشقاقهم ، وتجمعهم على المناواة باطلاً واتفاقهم ، ولما كانوا لما عندهم من العناد وحمية الجاهلية ربما أنكروا أن يكون هلاك هؤلاء الأحزاب لأجل التكذيب ، وقالوا : هو عادة الدهر في الإهلاك والتخالف في أسباب الهلاك ، قال مؤكداً بأنواع التأكيد : { إن } أي ما { كل } من هذه الفرق كان لهلاكه سبب من الأسباب { إلا } أنه { كذب الرسل } أي كلهم بتكذيب رسوله ، فإن من كذب رسولاً واحداً مع ثبوت رسالته فقد استهان بمن أرسله ، وذلك ملزوم لتكذيب جميع من يرسله لتساوي أقدام المعجزات التي ثبتت رسالتهم بها في إيجاب التصديق { فحق } أي فتسبب عن ذلك التكذيب أنه حق { عقاب * } أي ثبت عليه فلم يقدر على التخلص منه بوجه من الوجوه والعدول إلى إفراد الضمير مع أسلوب التكلم لأن المقام للتوحيد كما مضى وهو أنص على المراد ، وتقدم السر في حذف الياء رسماً في جميع المصاحف ، وقراءة عند أكثر القراء وفي إثباتها في الحالين ليعقوب وحده .

ولما كان السياق للشقاق والإذعان للذكر الذي هو الموعظة ذات الشرف :
ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
كان الحال مقتضياً للعقوبة بخلاف ما في « ق » فإن السياق لإنكارهم البعث وصحة النذارة وإثبات المجد ، فكان الوعيد في ذلك كافياً .
ولما كان التقدير : فلقد أعقبنا كلاًّ من أولئك الأحزاب لما حق عليهم العقاب بنوع من الأنواع لا شك فيه عند أحد ولا ارتياب ، عطف عليه قوله : { وما } ولما كانت قريش في شدة العناد والتصميم على الكفر والاستكبار عن الإذعان للحق وتعاطي جميع أسباب العذاب كأنهم ينتظرونه ويستعجلونه ، عبر بما يدل على الانتظار . ولما كانوا لمعرفتهم بصدق الآتي إليهم والقطع بصحة ما يقول كأنهم يرون العذاب ولا يرجعون ، جرد فعل الانتظار فقال : { ينظر } وحقرهم بقوله : { هؤلاء } أي الذين أدبروا عنك في عزة وشقاق ، وغاية جهدهم أن يكونوا من الأحزاب الذين تحزبوا على جندنا فأخذناهم بما هو مشهور من وقائعنا ومعروف من أيامنا بأصناف العذاب ، ولم تغن عنهم كثرتهم ولا قوتهم شيئاً ولم يضر جندنا ضعفهم ولا قلتهم { إلا صيحة } وحقر أمرهم بالإشارة إلى أن أقل شيء من عذابه كافٍ في إهلاكهم فقال { واحدة } ولما كان السياق للتهديد فعلم به أن الوصف بالوحدة للتعظيم ، بينه بقوله : { ما لها } أي الصيحة { من فواق * } أي مزيد أيّ شيء من جنسها يكون فوقها ، يقال : فاق أصحابه فوقاً وفواقاً ، علاهم ، وقرأه حمزة بالضم فيكون كناية عن سرعة الهلاك بها من غير تأخر أصلاً ، فإن الفواق كغراب ما يأخذ المحتضر عند النزاع ، والمعنى أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى زيادة على الصيحة الموصوفة لأنه لا صيحة فوقها ، ففي ذلك تعظيم أقل شيء من عذابه وتحقير أعلى شيء من أمرهم ويجوز أن تكون القرءاتان من فواق الحلب ، قال الصغائي : والفواق والفواق أي بالضم والفتح : ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك سريعة يرضعها الفصيل لتدر قال في القاموس : أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع ، فالمعنى : ما لها من رجوع كما يرجع اللبن في الضرع عن الفواق وكما يرجع المريض بالإفاقة من المرض إلى الصحة ، أو ما لها من انفصال وافتراق بقدر ما يتنفس فيه أحد أقل تنفس وأقصره زمناً كما هي عادة الأصوات المألوفة يكون فيها ترجيع يوجب في الصوت تقطعاً يصير به وقعه ضعيفاً فاتراً ، واعتماده على مخرجه رخواً ، بل هي صماء على نمط واحد لا تفجأ أحداً إلا مات إلا من ثبته الله تعالى ، ويجوز أن يكون من فواق المحتضر ، أي أنه ليس فيها مقدمة للموت غير قرع الصوت ، وهذا موافق لقولهم : ما لها من نظرة وراحة - والله أعلم .

ولما عجب منهم بما مضى ، وأبطل شبههم وعرفهم أنهم قد عرضوا أنفسهم للهلاك تعريضاً قريباً ، أتبع ذلك تعجيباً أشد من الأول فقال : { وقالوا } أي استهزاء غير هائبين ما هددناهم به ولا ناظرين في عاقبته : { ربنا } أي أيها المحسن إلينا { عجل لنا } أي إحساناً إلينا { قطنا } أي نصيباً من العذاب الذي توعدنا به وكتابنا الذي كتبت فيه ذلك وأحصيت فيه أعمالنا ، وأصله من قط الشيء - إذا قطعه ، ومنه قط القلم ، وأكثر استعماله في الكتاب .
ولما كان المراد بهذا المبالغة في الاستهزاء بطلب العذاب في جميع الأزمان التي بينهم وبين القيامة ، أسقطوا حرف الجر وقالوا : { قبل يوم الحساب * } فجعلوا جميع الزمان الذي بينهم وبينه ظرفاً لذلك ، وجعلوا تعجيله من الإحسان إليهم دلالة على الإعراق في الاستهزاء ، وعبر بالقط زيادة في التنبيه على ركوب الهوى من غير دليل فإن مادته دائرة في الأغلب على ما يكره ، واشتقاقه من القط وهو القطع ، فالقط النصيب والصك وكتاب المحاسبة لأنه قطعه من الورق ، والحساب قطعة من الأمور وهو يقطع فيه بما هو له والساعة - لأنها قطعة من الزمان وتقطقط الرجل : ركب رأسه أي تبع هواه الذي هو قطعة من أمره ، وجاءت الخيل قطاقط أي قطعاً وجماعات في تفرقة ، والقط : القطع ، والقطط : القصير الجعد ، والطقطقة : حكاية صوت الحجارة ، فكأنهم قالوا : عجل من ذلك ما يكون مقطوعاً به لا شك فيه ويسمع صوته على غاية الشدة فيهلك ويفرق بين الأحباب ويكتب في كل صك ، ويتلى خبره في سائر الأحقاب ، فإن ذلك هو أنا لا نرجع عنه لشيء أصلاً ، فسبحان الحليم الذي أكرمنا ورحمنا بنبي الرحمة ، فلم يعجل لنا النقمة ، وأقبل بقلوبنا إليه ، وقصر هممنا بعد أن كانت في أشد بعد عليه . ولما بلغ السيل في ركوبهم الباطل عناداً - الزبى ، وتجاوز في طغيانه رؤوس الربى ، وكان سؤالهم في تعجيل العذاب استهزاء مع ما قدموا من الإكذاب ، والكلام البعيد عن الصواب ، ربما اقتضى أن يسأل في تعجيل ما طلبوا ، وربما أوقع في ظن أن إعراضهم والابتلاء بهم ربما كان لشيء في البلاء أو المبلغ ، بين تعالى أن عادته الابتلاء للصالحين رفعة لدرجاتهم ، فقال تعالى مسلياً ومعزياً ومؤسياً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بمن تقدمه من إخوانه الأنبياء والمرسلين ، مذكراً له بما قاسوا من الشدائد وما لاقوا من المحن ، وحاثاً على العمل بأعمالهم آمراً بالتأني والتؤدة والحلم ، ومحذراً من العجلة والتبرم والضجر ، وبدأ بأهل الشرف لأن السياق لشرف القرآن الذي يلزم منه شرف صاحبه تعريفاً بأنه لا يلزم من الشرف الراحة في الدنيا ، ومنبهاً على أن شرفه محوج عن قرب بكثرة الأتباع إلى الحكم بين ذوي الخصومات والنزاع الذي لا قوام له إلا بالحلم والأناة والصبر ، وبدأ من أهل الشرف بمن كان أول أمره مثل أول أمر هذا النبي الكريم في استضعاف قومه له وآخر أمره ملكاً ثابت الأركان مهيب السلطان ، ليكون حاله مثلاً له فيحصل به تمام التسلية : { اصبر } وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال : { على ما } وزاد في الحث عليه بالمضارع فقال : { يقولون } أي يجددون قوله في كل حين من الأقوال المنكية الموجعة المبكية ، فإنه ليس لنقص فيك ، ولكنه لحكم تجل عن الوصف ، مدارها زيادة شرفك ورفعة درجاتك ، وصرف الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء ما يذكر من التسخير لذلك : { واذكر عبدنا } أي الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا ، وأبدل منه أو بقوله : { داود ذا الأيد } أي القوى العظيمة في تخليص نفسه من علائق الأجسام ، فكانت قوته في ذلك سبباً لعروجه إلى المراتب العظام .

ولما كان أعظم الجهاد الإنقاذ من حفائر الهفوات وأوامر الشهوات ، بالإصعاد في مدارج الكمالات ، ومعارج الإقبال ، وكان ذلك لا يكاد يوجد في الآدميين لما حفوا به من الشهوات وركز في طباعهم من الغفلات ، علل قوته بقوله مؤكداً : { إنه أواب * } أي رجاع إلى الله تعالى ليصير إلى ما خلقه عليه من أحسن تقويم بالعقل المحض أطلق العلو درجة درجة على الرجوع ، لأن ذلك دون الرتبة التي تكون نهاية عند الموت ، فكان المقضي له بها أنزل نفسه عنها ، ثم صار يرجع إليها كل لحظة بما يكابد من المجاهدات والمنازلات والمحاولات حتى وصل إليها بعد التجرد عن الهوى كله . ولما كان الإنسان لا يزال يتقرب إلى الله تعالى حتى يحبه فإذا أحبه صار يفعل به سبحانه ، وظهرت على يديه الخوارق ، قال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن جزائه على ذلك الجهاد ، مؤكداً له لما طبع عليه البشر من إنكار الخوارق لتقيده بالمألوفات : { إنا } أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء { سخرنا الجبال } أي التي هي أقسى من قلوب قومك فإنها أعظم الأراضي صلابة وقوة وعلواً ورفعة ، بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف ، ثم قيد ذلك بقوله : { معه } أي مصاحبة له فلم يوجد ذلك التسخير ظاهراً لأحد بعده ولا قبله ، ولما كان وجود التسبيح من الجبال شيئاً فشيئاً أعجب لأنها جماد ، عبر بالفعل المضارع ، فقال مصوراً لتلك الحال معبراً بضمير الإناث إشارة إلى أنها بعد ما لها من الصلابة صارت في غاية اللين والرخاوة ، يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه بصوت الآخر ، لأن ذلك أقرب إلى التمييز والعلم بتسبيح كل على انفراده : { يسبحن } ولم يقل : « مسبحة » أو « تسبح » لئلا يظن أن تسبيحها بصوت واحد ليشكل الأمر في بعضها ، وهو يمكن أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً بمعنى أنهن ينقدن له بالتسبيح قالاً وحالاً انقياد المختار المطيع لله .

ولما كان في سياق الأوبة ، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه مع أنه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال : { بالعشي } أي تقوية للعامل وتذكيراً للغافل . ولما كان في سياق الفيض والتشريف بالقرآن قال : { والإشراق * } أي في وقت ارتفاع الشمس عن انتشاب الناس في الأشغال ، واشتغالهم بالمآكل والملاذ من الأقوال والأفعال ، تذكيراً لهم وترجيعاً عن مألوفاتهم إلى تقديس ربهم سبحانه ، وليس الإشراق طلوع الشمس ، إنما هو صفاؤها وضوءها ، وشروقها طلوعها ، وروت أم هانىء رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها الضحى وقال لها : « هذه صلاة الإشراق » وفي الجامع لعبد الرزاق أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صلاة الضحى في القرآن ، ولكن لا يغوص عليها إلا غائص ، ثم قرأ هذه الآية . وإليها الإشارة أيضاً - والله أعلم - بصلاة الأوابين { واذكر عبدنا داود ذا الأيد أنه أواب } { ووهبنا لداود سليمان نعم العبد أنه أواب } { يا جبال أوبي معه } { والطير محشورة كل له أواب } روى مسلم في صحيحه وعبد بن حميد في مسنده والدارمي في جامعه المسمى بالمسند عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « صلاة الأوابين حين ترمض الفصال » ، ولفظ الدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهو يصلون بعد طلوع الشمس فقال : « صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال » ، ولفظ عبد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فرآهم يصلون الضحى فقال : « هذه صلاة الأوابين وكانوا يصلونها إذا رمضت الفصال » أي بركت من شدة الحر وإحراقه أخفافها ، من الرمض - بالتحريك ، وهو شدة الشمس على الرمل وغيره ، والرمضاء : الشديدة الحر .

وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)

ولما أخبر سبحانه عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها له ، أتبعها أخفها وأكثرها انتقالاً ، وعبر فيها بالاسم الدال على الاجتماع جملة والثبات لأنه أدل على القدرة فقال معبراً باسم الجمع دون الجمع إشارة إلى أنها في شدة الاجتماع كأنها شي واحد ، ذكر حالها في وصف صالح للواحد ، وجعله مؤنثاً إشارة إلى ما تقدم من الرخاوة اللازمة للإناث المقتضية لغاية الطواعية والقبول لتصرف الأحكام : { والطير } أي سخرناها له حال كونها { محشورة } أي مجموعة إليه كرهاً من كل جانب دفعة واحدة - بما دل التعبير بالاسم دون الفعل وهو أدل على القدرة وهي أشد نفرة من قومك وأعسر ضبطاً وهذا كما كان الحصى يسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يد بعض أصحابه ، وكما تحرك الجبل فضربه برجله وقال : « اسكن أحد » فسكن ، وكما حشر الدبر على رأس عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح رضي الله عنه فمنع من أخذه ليتلعب به ، فلما جاء الليل أرسل الله سيلاً فاحتمله إلى حيث لم يعرف له خبر ولا وقف له على أثر { كل } أي كل واحد من الجبال والطير { له أواب * } أي رجاع لأجل داود عليه السلام خاصة عن مألوفه لا بمعنى آخر مما ألفته ، فكلما رجع هو عن حكمه وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق رجعت معه بذلك الجبال والطير ، وجعل الخبر مفرداً إشارة إلى إلى شدة زجلها بالتأديب وعظمته ، والإفراد أيضاً يفيد الحكم على كل فرد ، ولو جمع لطرقه احتمال أن الحكم على المجموع يقيد الجمع ، فكأن داود عليه السلام يفهم تسبيح الجبال والطير ، وينقاد له كل منهما إذا أمره بالتسبيح ، وكل من تحقق بحاله ساعده كل شيء - قاله القشيري ، ففي هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنا متى شئنا جعلنا قومك معك في التسخير هكذا ، فلا تيأس منهم على شدة نفرتهم وقوة سماجتهم وغرتهم ، فإنا جعلناهم كذلك لتروض نفسك بهم وتزداد بالصبر عليهم جلالاً ، وعلواً ورفعة وكمالاً - إلى غير ذلك من الحكم التي لا تسعها العقول ، ولا تيأس من لينهم لك ورجوعهم إليك فإنهم لا يعدون أن يكونوا كالجبال قوة وصلابة ، أو الطير نفرة وطيشاً وخفة ، فمتى شئنا جعلناهم لك مثل ما جعلنا الجبال والطير مع داود عليه السلام ، بل أمرهم أيسر وشأنهم أهون .
ولما كان هذا دالاً على الملك من حيث أنه التصرف في الأشياء العظيمة قسراً ، فكان كأنه قيل : كل ذلك إثباتاً لنبوته وتعظيماً لملكه ، قال : { وشددنا } أي بما لنا من العظمة { ملكه } بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان أشد ملوك الأرض سلطاناً .

ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال : { وآتيناه } أي بعظمتنا { الحكمة } أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه ، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها ، فالحكمة العمل بالعلم . ولما كان تمامه بقطع النزاع قال : { وفصل الخطاب * } أي ومعرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك ، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند وكسوناه عزاً وهيبة ووقاراً يمنع أن يجترىء أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات ، وميز بين المشكلات الغامضات ، وإذا تكلم وقف على المفاصل ، فيبين من سرده للحديث معانيه ، ويضع الشيء في أحكم مبانيه .
ولما كان السياق للتدريب على الصبر والتثبيت الشافي والتدبر التام والابتلاء لأهل القرب ، وكان المظنون بمن أوتي فصل الخطاب أن لا يقع له لبس في حكم ولا عجلة في أمر ، وكان التقدير : هل أتتك هذه الأنباء ، عطف عليه - مبيناً عواقب العجلة معلماً أن على من أعطى المعارف أن لا يزال ناظراً إلى من أعطاه ذلك سائلاً له التفهيم ، استعجازاً لنفسه متصوراً لمقام العبودية التي كرر التنبيه عليها في هذه السورة بنحو قوله : « نعم العبد » قوله في سياق ظاهره الاستفهام وباطنه التنبيه على ما في ذلك من الغرابة خبره العظيم جداً ، وأفرده وإن كان المراد الجمع دلالة على أنهم على كلمة واحدة في إظهار الخصومة لا يظهر لأحد منهم أنه متوسط مثلاً ونحو ذلك .
ولما كان الخصم مصدراً يقع على الواحد فما فوقه ذكراً كان أو أنثى ، وكان يصح تسمية ربقة المتخاصمين خصماً لأنهم في صورة الخصم قال : { إذا } أي خبر تخاصمهم حين { تسوروا } أي صعدوا السور ونزلوا من هم ومن معهم ، آخذاً من السور وهو الوثوب { المحراب * } أي أشرف ما في موضع العبادة الذي كان داود عليه السلام به ، وهو كناية عن أنهم جاؤوه في يوم العبادة ومن غير الباب ، فخالفوا عادة الناس في الأمرين ، وكأن المحراب الذي تسوروه كان فيه باب من داخل باب آخر ، فنبه على ذلك بأن أبدل من « إذ » الأول قوله : { إذ } أي حين { دخلوا } وصرح باسمه رفعاً للبس وإشعاراً بما له من قرب المنزلة وعظيم الود فقال : { على داود } ابتلاء منا له مع ما له من ضخامة الملك وعظم القرب منا ، وبين أن ذلك كان على وجه يهول أمره إما لكونه في موضع لا يقدر عليه أحد أو غير ذلك بقوله : { ففزع } أي ذعر وفرق وخاف { منهم } أي مع ما هو فيه من ضخامة الملك وشجاعة القلب وعلم الحكمة وعز السلطان .

ولما كان كأنه قيل : فما قالوا له؟ قال : { قالوا لا تخف } ولما كان ذلك موجباً لذهاب الفكر في شأنهم كل مذهب ، عينوا أمرهم بقولهم : { خصمان } أي نحن فريقان في خصومة ، ثم بينوا ذلك بقولهم : { بغى بعضنا } أي طلب طلبة علو واستطالة { على بعض } فأبهم أولاً ليفصل ثانياً فيكون أوقع في النفس ، ولما تسبب عن هذا سؤاله في الحكم قالوا : { فاحكم بيننا بالحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، وإنما سألاه ذلك مع العلم بأنه لا يحكم إلا بالعدل ليكون أجدر بالمعاتبة عند أدنى هفوة { ولا تشطط } أي لا توقع البعد ومجاوزة الحد لا في العبارة عن ذلك بحيث يلتبس علينا المراد ولا في غير ذلك ، أو ولا تمعن في تتبع مداق الأمور فإني أرضى بالحق على أدنى الوجوه ، ولذا أتى به من الرباعي والثلاثي بمعناه ، قال أبو عبيد : شط في الحكم وأشط - إذا جار ، ولذا أيضاً فك الإدغام إشارة إلى أن النهي إنما هو عن الشطط الواضح جداً . ولما كان الحق له أعلى وأدنى وأوسط ، طلبوا التعريف بالأوسط فقالوا { واهدنا } أي أرشدنا { إلى سواء } أي وسط { الصراط * } أي الطريق الواضح ، فلا يكون بسبب التوسط ميل إلى أحد الجانبين : الإفراط في تتبع مداق الأمر والتفريط في إهمال ذلك .

إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

ولما كانت هذه الدعوى بأمر مستغرب يكاد أن لا يسمعه أحد إلا أنكره ساق الكلام مؤكداً فقال : { إن هذا } يشير إلى شخص من الداخلين ، ثم أبدل منه قوله : { أخي } أي في الدين والصحبة ، ثم أخبر عنه بقوله : { له تسع وتسعون نعجة } ويجوز أن يكون { أخي } هو الخبر والتأكيد حينئذ لأجل استبعاد مخاصمة الأخ وعدوانه على أخيه ويكون ما بعده استئنافاً { ولي } أي أنا أيها المدعي { نعجة } ولما كان ذلك محتملاً لأن يكون جنساً أكده بقوله : { واحدة } ثم سبب عنه قوله : { فقال } أي الذي له الأكثر : { أكفلنيها } أي أعطنيها لأكون كافلاً لها { وعزني } أي غلبني وقوى عليّ واشتد وأغلظ بي { في الخطاب * } أي الكلام الذي له شأن من جدال وغيره بأن حاورني إلى أن أملّني فسكت عجزاً عن التمادي معه ، ولم يقنع مني بشيء دون مراده .
ولما تمت الدعوى ، حصل التشوف إلى الجواب فاستؤنف قوله : { قال } أي على تقدير صحة ما قلت ، وذلك أنه لما رأى الخصم قد سكت ولم ينكر مما قال المدعي شيئاً ، وربما أظهر هيئة تدل على تصديقه قال ذلك فعوتب وإن كان له مخرج ، كل ذلك تدريباً على التثبت في القضاء وأن لا ينحي نحو القرآئن ، وأن لا يقنع فيه إلا بمثل الشمس ، وأكد قوله في سياق القسم ردعاً للظالم على تقدير صحة الدعوى بالمبالغة في إنكار فعله لأن حال من فعل شيئاً مؤذن بإنكار كونه ظالماً وكون فعله ظلماً . مفتتحاً لقوله بحرف التوقع لاقتضاء حال الدعوى له : { لقد ظلمك } أي والله قد أوقع ما فعله معك في غير موقعه على تقدير صحة دعواك { بسؤال نعجتك } أي بأن سألك أن يضمها ، وأفاد أن ذلك على وجه الاختصاص بقوله : { إلى نعاجه } بنفسه أو بغيره نيابة عنه ولذا لم يقل : بسؤاله ثم عطف على ذلك أمراً كلياً جامعاً لهم ولغيرهم واعظاً ومرغباً ومرهباً ولما كانت الخلطة موجبة لظن الألفة لوجود العدل والنصفة واستبعاد وجود البغي معها ، أكد قوله واعظاً للباغي إن كان وملوحاً بالإغضاء والصلح للمظلوم : { وإن كثيراً من الخلطاء } أي مطلقاً منكم ومن غيركم { ليبغي } أي يتعدى ويستطيل { بعضهم } عالياً { على بعض } فيريدون غير الحق { إلا الذين آمنوا } من الخلطاء { وعملوا } أي تصديقاً لما ادعوه من الإيمان { الصالحات } أي كلها فإنهم لا يقع منهم بغي { وقليل } وأكد قلتهم وعجب منها بما أبهم في قوله : { ما } مثل نعماً ولأمرها { هم } وأخر هذا المبتدأ وقدم الخبر اهتماماً به لأن المراد التعريف بشدة الأسف على أن العدل في غاية القلة ، أي فتأس بهم أيها المدعي وكن منهم أيها المدعى عليه .
ولما أتم ذلك ذهب الداخلون عليه فلم ير منهم أحداً فوقع في نفسه أنه لا خصومة ، وأنهم إنما أرادوا أن يجربوه في الحكم ويدربوه عليه ، وأنه يجوز للشخص أن يقول ما لم يقع إذا انبنى عليه فائدة عظيمة تعين ذلك الكلام طريقاً للوصول إليها أو كان أحسن الطرق مع خلو الأمر عن فساد ، وحاصله أنه تذكر كلام ، والمراد به بعض لوازمه ، فهو مثل دلالة التضمن في المفردات ، وهذا مثل قول سليمان عليه السلام « ائتوني بالسكين أشقه بينهما » وليس مراده إلا ما يلزم عن ذلك من معرفة الصادقة والكاذبة بإباء الأم لذلك وتسليم المدعية كذباً ، وتحقيقه أنه لا ملازمة بين الكلام وإرادة المعنى المطابقي لمفردات ألفاظه بدليل لغو اليمين ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لصفية رضي الله عنها

« عقرى حلقى » ولأم سلمة رضي الله عنها « تربت يمينك » وقوله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث جدهن جد وهزلهن جد » مشير إلى أن الكلام قد لا يراد به معناه ، ومن هنا كان الحكم في ألفاظ الكنايات أنه لا يقع بها شيء إلا إن اقترن بقصد المعنى ، ولما كان هذا القدر معلوماً عطف عليه قوله : { وظن داود } أي بذهابهم قبل فصل الأمر وقد دهمه من ذلك أمر عظيم من عظمة الله لا عهد له بمثله { أنما فتناه } أي اختبرناه بهذه الحكومة في الأحكام التي يلزم الملوك مثلها ليتبين أمرهم فيها . وعلم أنه بادر إلى نسبة المدعى عليه إلى أنه ظلم من قبل أن يسمع كلامه ويسأله المدعي الحكم ، فعاتبه الله على ذلك ، والأنبياء عليهم السلام لعلو مقاماتهم يعاتبون على مثل هذا ، وهو من قصر الموصوف على الصفة قلباً ، أي هذه القصة مقصورة على الفتنة لا تعلق لها بالخصوصة ، ولو كان المراد ما قيل من قصة المرأة التي على كل مسلم تنزيهه وسائر إخوانه عليهم السلام عن مثلها لقيل « وعلم داود » ولم يقل : وظن - كما يشهد بذلك كل من له أدنى ذوق في المحاورات - والله الموفق ، وقال الزمخشري : وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين ، وهو حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام ، وروي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز ، وعنده رجل من أهل الحق ، فكذب المحدث به وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله عز وجل فما ينبغي أن يلتمس خلافها ، وأعظم بأن يقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه صلى الله عليه وسلم فما ينبغي إظهارها عليه ، فقال عمر بن عبد العزيز : لسماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس .

وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود ، وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من ذريته ليجدوا السبيل إلى الطعن فيه .
ولما ظن هذا ، سبب له تحقيق ما وصفه الله من الأوبة فعبر عن ذلك بقوله : { فاستغفر } ولما استغرقته العظمة التي هذا مخرها ، رجع إلى ذكر الإحسان واللطف فقال : { ربه } أي طلب الغفران من مولاه الذي أحسن إليه بإحلاله ذلك المحل العظيم من أن يعود للحكم للأول بدون أن يسمع الآخر { وخر } أي سقط من قيامه توبة لربه عن ذلك ، ولما كان الخرور قد يكون لغير العبادة قال : { راكعاً } أي ساجداً لأن الخرور لا يكون إلا للسقوط على الأرض ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فسره بالسجود فيما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في « ص » وقال : « سجدها داود توبة ونسجدها شكراً » وعبر بالركوع عن السجود ليفهم أنه كان عن قيام وأنه في غاية السرعة لقوة الاهتمام به وتوفر الداعي إليه بحيث إنه وصل إلى السجود في مقدار ما يصل غيره إلى الركوع ، قال ابن التياني في كتابه الموعب : وكل شيء يكب لوجهه فتمس ركبته الأرض بعد أن يطأطىء رأسه فهو راكع . ابن دريد : الراكع الذي يكبو على وجهه - انتهى . والركعة - بالضم : الهوة من الأرض ، كأنها سميت بذلك لأنها تسقط فيها على الوجه ، وكأنها هي أصل المادة ، وقال في القاموس : ركع أي صلى ، فحينئذ يكون المعنى : سقط مصلياً ، ومعلوم أن صلاتهم لا ركوع فيها وقد تقدم ذلك في آل عمران والبقرة { وأناب * } أي تاب أي رجع عن أن يعود لمثلها . ولما كان الحال قد يشكل في الإخبار عن المغفرة لو عبر بضمير الغائب لإيهام أن ربه غير المتكلم ، وكان الغفران لا يحسن إلا مع القدرة ، عاد إلى مظهر العظمة إثباتاً للكمال ونفياً للنقص : فقال : { فغفرنا } أي بسبب ذلك وفي أثره على عظمتنا وتمام قدرتنا غفراً يناسب مقداره ما لنا من العظمة { له ذلك } أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه سبحانه لأجل هذه القصة أن كل من سبه أو دعا عليه وليس أهلاً لذلك أن يكون ذلك له صلاة وبركة ورحمة ، والحاصل أن هذه القضية لتدريب النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر على قومه ، والثاني فإن هذه السورة على ما روي عن جابر بن زيد من أوائل ما أنزل بمكة ، وعلى هذا دل الحديث السابق عن ابن عباس رضي الله عنهما في شكوى المشركين منه صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب الوقوع في آلهتهم فإنه كان في أوائل الأمر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما دعاهم لم يؤمر بذكر آلهتهم فلم يجيبوه ولم يبعدوا عن كل البعد ، ثم أمره الله بذكر ألهتهم فناكروه حينئذ وباعدوه ، وتقدموا ذلك بالشكوى إلى أبي طالب مرة بعد أخرى ليرده عنه ، فكانت هذه الدعوى تدريباً لداود عليه السلام في الأحكام ، وذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم تدريباً له على الأناة في جميع أموره على الداوم .

ولما كان ذكر هذا ربما أوهم شيئاً في مقامه صلى الله عليه وسلم ، سيق في أسلوب التأكيد قوله : { وإن له } أي مع الغفران ، وعظم ذلك بمظهر العظمة لأن ما ينسب إلى العظيم لا يكون إلا عظيماً فقال : { عندنا } وزاد في إظهار الاهتمام بذلك نفياً لذلك الذي ربما توهم فأكد قوله : { لزلفى } أي قربة عظيمة ثابتة بعد المغفرة { وحسن مآب * } أي مرجع في كل ما يؤمل من الخير ، وفوق ذلك فهذا معلم ولا بد بأن هذه القضية لم يجر إلى ذكرها إلا الترقية في رتب الكمال لا غير ذلك ، وأدل دليل على ما ذكرته - أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الحكم لا بامرأة ولا غيرها وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر فكم من باطل مشهور ومذكور هو عين الزور - قوله تعالى عقبها على هيئة الاستثمار منها صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى المواجهة بلذيذ الخطاب ، على نحو ما يجري بين الأحباب { يا داود } .
ولما كان مضمون الخبر لزيادة عظمة مما من شأنه أن تستنكره نفوس البشر ، أكده لذلك وإظهاراً لأنه مما يرغب فيه لحسنه وجميل أثره وينشط غاية النشاط لذكره فقال : { إنا } أي على ما لنا من العظمة { جعلناك } فلا تحسب لشيء من أسبابه حساباً ولا تخش له عاقبة { خليفة } أي من قبلنا تنفذ أوامرنا في عبادنا فحكمك حكمنا ، وحذف ما يعلم أنه مراد من نحو { قلنا } إشارة إلى أنه استقبل بهذا الكلام الألذ عند فراغه من السجود إعلاماً بصدق ظنه ، وقال : { في الأرض } أي كلها إشارة إلى إطلاق أمره في جميعها ، فلا جناح عليه فيما فعل في أي بلد أرادها ، ولم يذكر المخلوف تعظيماً له بالإشارة إلى أن كل ما جوزه العقل فيه فهو كذلك فهو كان خليفة في بيت المقدس بالفعل على ما اقتضاه صريح الكلام بالتعبير بفي ، وأشار الإطلاق والتعبير بآل إلى أنها الأرض الكاملة لانبساط الحق منها بإبراهيم عليه السلام وذريته على سائر الأرض وهو خليفة في جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم فيها صح ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل إلى قومه خاصة فيكون ما يؤديه إليه واجباً عليه ، وأما بقية الناس فأمره معهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مهما فعله منه صح ومضى ، ثم كان خليفة في جميع الأرض حقيقة بالفعل بابنه سليمان عليه السلام فاستوفى الإطلاق { وآل } المكملة أقصى ما يراد منه ، إعلاماً بأن كلام القدير كله كذلك وإن لم يظهر في الحالة الراهنة ، وذلك كما أن المنزل عليه هذا الذكر وبسببه محمد صلى الله عليه وسلم كان خليفة بالفعل في أرض العرب التي هي الأرض كلها لأن الأرض دحيت منها وبيتها لأول بيت وضع للناس وهو قيام لهم ، ومن انبسط القيام بالنور والعدل على جميع الأرض وفي جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم به فيها مضى ، فقد أعطى تميماً الداري رضي الله عنه أرض بلد الخليل من بلاد الشام قبل أن يفتح وصح ونفذ ، وأعطى شويلاً رضي الله عنه بنت بقيلة من أهل الحيرة وصح ذلك ونفذ وقبض كل منهما عند الفتح ما أعطاه صلى الله عليه وسلم الذي هو من ذرية داود عليه السلام ثم في جميع الوجود يوم القيامة يوم الشفاعة العظمى يوم يكون الأنبياء كلهم تحت لوائه ، ويغبطه الأولون والاخرون بذلك المقام المحمود .

ولما تمت النعمة ، سبب عنها قوله : { فاحكم بين الناس } أي الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا { بالحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع . ولما كان أعدى عدو للإنسان نفسه التي بين جنبيه لما لها من الشهوات ، وأعظم جناياته وأقبح خطاياه ما تأثر عنها من غير استناد إلى أمر الله ، مشيراً بصيغة الافتعال إلى أنه سبحانه عفا الخطرات ، وما بادر الإنسان الرجوع عنه والخلاص منه توبة إلى الله تعالى : { ولا تتبع الهوى } أي ما يهوى بصاحبه فيسقطه من أوج الرضوان إلى حضيض الشيطان ، ثم سبب عنه قوله : { فيضلك } أي ذلك الاتباع أو الهوى لأن النفس إذا ضربت على ذلك صار لها خلقاً فغلب صاحبها عن ردها عنه ، ولفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى تعظيماً لأمر سبيله ، وحثاً على لزومه والتشرف بحلوله ، فقال : { عن سبيل الله } أي طريقه التي شرعها للوصول إليه بما أنزل من النقل المؤيد بأدلة ما خلق من العقل ، ولا يوصل إليه بدونها لأن اتباعه يوجب الانهماك في اللذات الجسمانية ، والإهمال لتكميل القوى الروحانية ، الموصلة إلى السعادة الأبدية ، فإن دواعي البدن والروح متضادتان فبقدر زيادة إحداهما تنقص الأخرى .
ولما كانت النفس نزاعة إلى الهوى ، ميالة عن السوى ، قال معللاً للنهي مؤكداً لما للنفس من التعللات عند المخالفة بالكرم والمغفرة الدافع للعذاب : { إن الذين يضلون } أي يوجدون الضلال بإهمالهم التقوى الموجب لاتباع الهوى المقتضي لأن يكون متبعه ضالاً { عن سبيل الله } إعادة تفخيماً لأمره وتيمناً بذكره وإيذاناً بأن سبيله مأمور به مطلقاً من غير تقييد بداود عليه السلام ولا غيره فيه { لهم عذاب شديد } أي بسبب ضلالهم .

ولما أمر سبحانه ونهى ، وذكر أن السبب في النهي كراهة الضلال وعلم منه أن سبب الضلال الهوى ، ذكر سبب هذا السبب فقال معبراً بالنسيان إشارة إلى أنه من شدة ظهوره كما كان محفوظاً فنسي ، وفك المصدر لأنه أصرح لأنه لو عبر بالمصدر لأمكن إضافته إلى المفعول ، واختيرت { ما } دون { إن } لأن صورتها صورة الموصول الاسمي ، وهو أبلغ مما هو حرف صورة ومعنى : { بما نسبوا يوم الحساب } أي عاملوه معاملة المنسي بعضهم بالإنكار وبعضهم بخبث الأعمال ، فإنهم لو ذكروه حقيقة لما تابعوا الهوى المقتضي للضلال على أنه مما لا يجهله من له أدنى مسكة من عقل فإنه لا يخطر في عقل عاقل أصلاً أن أقل الناس وأجهلهم يرسل أحداً إلى مزرعة له يعملها ، ثم لا يحاسبه عليها فكيف إذا كان حكيماً فكيف إذا كان ملكاً فكيف وهو ملك الملوك ، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الإحياء في الكلام على العقل : ثم لما كان الإيمان مركوزاً في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى من أعرض فنسي ، وهم الكفار ، وإلى من جال فكره فتذكر ، وكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها ، ولذلك قال تعالى { لعلهم يتذكرون } { وليتذكر أولوا الألباب } { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به } [ المائدة : 7 ] { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } [ القمر : 17 ] وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد ، وكأن التذكر ضربان : أحدهما أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه ، لكن غابت بعد الوجود ، والآخر أن يكون عن صورة كانت متضمنة فيه الفطرة ، وهذه حقائق ظاهرة لناظر بنور البصيرة ثقيلة على من يستروح إلى السماع والتقليد دون الكشف والعيان - انتهى . وقد علم من هذه القصة وما قبلها أن المعنى : اصبر على ما يقولون الآن ، فلننصرك فيما يأتي من الزمان ، ولنؤيدنك كما أيدنا داود العظيم الشأن .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)

ولما كان التقدير : فما قضيناه في الأزل بيوم الحساب وتوعدنا به سدى ، عطف عليه قوله صارفاً الكلام عن الغيبة إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن العظيم تأبى له عظمته غير الجد العظيم : { وما خلقنا } أي على ما لنا من العظمة ، ويجوز أن تكون الجملة حالية . ولما كان السياق لما وقع من الشقاق عناداً لا جهلاً ، ذكر من السماوات ما لا يمكن النزاع فيه مع أن اللفظ للجنس فيشمل الكل فقال : { السماء } أي التي ترونها { والأرض وما بينهما } مما تحسونه من الرياح وغيرها خلقا { باطلاً } أي لغير غاية أردناها بذلك من حساب من فيهما كما يحاسب أقل من فيكم إجزاء ، ومجازاة من فيهما بالثواب لمن أطاع والعقاب لمن عصى كما يفعل أقل ملوككم فإن أدنى الناس عقلاً لا يبني بناء ضخماً إلا لغاية أرادها ، وتلك الغاية هي الفصل بين الناس الذين أعطيناهم القوى والقدر في هذه الدار ، وبثثنا بينهم الأسباب الموجبة لانتشار الصفاء فيهم والأكدار ، وأعطيناهم العقول تنبيهاً على ما يراد ، وأرسلنا فيهم الرسل ، وأنزلنا إليهم الكتب ، بالتعريف بما يرضينا ويسخطنا ، فنابذوا كل ذلك فلو تركناهم بلا جمع لهم ولا إنصاف بينها لكان هذا الخلق كله باطلاً لا حكمة فيه أصلاً ، لأن خلقه للضر أو النفع أو لا لواحد منهما ، والأول باطل لأنه غير لائق بالرحيم الكريم ، والثالث باطل لأنه كان في حال العدم كذلك ، فلم يبق للإيجاد مرجح ، فتعين الوسط وهو النفع ، وهو لا يكون بالدنيا لأن ضرها أكثر من نفعها ، وتحمل ضر كثير لنفع غير لائق بالحكيم الكريم ، فتعين ما وقع الوعد الصادق به من نفع الآخرة المطابق لما ذكر من عقل العقلاء وسير النبلاء .
ولما كان هذا - وهو منابذة الحكمة - عظيماً جداً ، عظمه بقوله : { ذلك } أي الأمر البعيد عن الصواب { ظن الذين كفروا } أي من أوقع هذا الظن في وقت ما ، فقد أوجد الكفر لأنه جحد الحكمة التي هي البعث لإظهار صفات الكمال والمجازاة بالثواب والعقاب ، ومن جحد الحكمة فقد سفه الخالق ، فكان إقراره بأنه خالق كلا إقرار فكان كافراً به ، ثم سبب عن هذا الظن قوله : { فويل } أي هلاك عظيم بسبب هذا الظن ، وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : { للذين كفروا } أي مطلقاً بهذا الظن وبغيره { من } أي مبتدأ من { النار * } أي الحكم عليهم بها .
ولما كان التقدير : أفنحن نخلق ذلك باطلاً؟ فلا يكون له مآل يظهر فيه حكمته ونحن منزهون عن العبث ، عطف عليه قوله إنكاراً لما يلزم من ترك البعث من التسوية بين ما حقه المفاوتة فيه ، وذلك أشد من العبث وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يقبح منه شيء : { أم نجعل } أي على عظمتنا { الذين آمنوا } أي امتثالاً لأوامرنا { وعملوا } أي تصديقاً لدعواهم الإيمان { الصالحات } من الأعمال كالذين أفسدوا وعملوا السيئات أم نجعل المصلحين في الأرض { كالمفسدين } أي المطبوعين على الفساد الراسخين فيه { في الأرض } أي بالكفر وغيره ، والتسوية بينهم لا يشك عاقل في أنها سفه { أم نجعل } على ما لنا من العز والمنعة الذين اتقوا كالذين فجروا أم نصيّر { المتقين } أي الراسخين من المؤمنين في التقوى الموجبة للتوقف عن كل ما لم يدل عليه دليل { كالفجار * } أي الخارجين من غير توقف عن دائرة التقوى من هؤلاء الذين كفروا أو من غيرهم في أن كلاًّ من المذكورين يعيش على ما أدى إليه الحال في الدنيا ، وفي الأغلب يكون عيش الطالح أرفع من عيش الصالح ، ثم يموت ولا يكون شيء بعد ذلك ، ولا شك أن المساواة بين المصلح والمفسد والمتقي والمارق لا يراها حكيم ولا غيره من سائر أنواع العقلاء فهو لا يفعلها سبحانه وإن كان له أن يفعل ذلك ، فإنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، وقد علم أن الآية من الاحتباك ، وأنه مشير إلى احتباك آخر ، فإنه ذكر { الذين أمنوا } أولاً دليلاً على { الذين أفسدوا } ثانياً ، وذكر { المفسدين } ثانياً دليلاً { على المؤمنين } أولاً ، وأفهم ذلك ذكر { الذين اتقوا } وأضدادهم وسر ما ذكر وما حذف أنه ذكر أدنى أسنان الإيمان تنبيهاً على شرفه وأنه سبب السعادة وإن كان على أدنى الوجوه وذكر أعلى أحوال الفساد ، إشارة إلى أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء وذكر أعلى أحوال التقوى إيماء إلى أنه لا يوصف بها ويستحق جزاءها إلا الراسخ فيها ترغيباً للمؤمن في أن يترقى إلى أوجها .

ولما ثبت بما ذكر من أول السورة إلى هنا ما ذكر في هذا الذكر من البراهين التي لا يأباها إلا مدخول الفكر مخالط العقل ، ثبت أنه ذو الذكر والشرف الأعظم فقال تعالى منبهاً على ذلك تنبيهاً على أنه القانون الذي يعرف به الصلاح ليتبع والفساد ليجتنب مخبراً على مبتدأ تقديره هو : { كتاب } أي له من العظمة ما لا يحاط به ، ووصفه بقوله : { أنزلناه } أي بما من العظمة { إليك } وذلك من عظمته لأنك اعظم الخلق ، ثم أخبر عن مبتدأ آخر مبين لما قبله على طريق الاستئناف فقال : { مبارك } أي دائم الخير كثير النفع ثابت كل ما فيه ثباتاً لا يزول أبداً ولا ينسخه كتاب ولا شيء .
ولما ذكر ما له من العظمة إشارة وعبارة ، ذكر غاية إنزاله المأمور بها فقال : { ليدبروا } بالفوقانية وتخفيف الدال بالخطاب في قراءة أبي جعفر مشرفاً للأمة بضمهم بالخطاب إلى حضرته الشماء صلى الله عليه وسلم ، ولافتاً للقول في قراءة الجماعة بالغيب وتشديد الدال إلى من يحتاج إلى التنبيه على العلل ، لما له من الشواغل الموقعة في الخلل ، وأما هو صلى الله عليه وسلم ففي غاية الإتعام للنظر ، والتدبر بأجلى الفكر ، من حين الإنزال ، لعلمه بعلة الإنزال بحيث إنه من شدة إتعابه لنفسه الشريفة بالتخفيف وضمن له تعالى جمعه وقرآنه { آياته } أي لينظروا في عواقب كل آية وما تؤدي إليه وتوصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر ، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها ، ومهرة نتوج لا يستولدها ، وكان جديراً بأن يضيع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً .

ولما كان كل أحد مأموراً بأن ينتبه بكل ما يرى ويسمع على ما وراءه ولم يكن في وسع كل أحد الوصول إلى النهاية في ذلك ، قنع منهم بما دونها فأدغمت تاء التفعل في فاء الكلمة إشارة إلى ذلك كما تشير إليه قراءة أبي جعفر ، وربما كانت قراءة الجماعة إشارة إلى الاجتهاد في فهم خفاياه - والله أعلم .
ولما كان السياق للذكر ، وأسند إلى خلاصة الخلق ، وكان استحضار ما كان عند الإنسان وغفل عنه لا يشق لظهوره ، أظهر التاء حثاً على بذل الجهد في إعمال الفكر والمداومة على ذلك فإنه يفضي بعد المقدمات الظنية إلى أمور يقينية قطعية إما محسوسة أولها شاهد في الحس فقال : { وليتذكر } أي بعد التدبر تذكراً عظيماً جلياً - بما أشار إليه الإظهار { أولوا الألباب * } أي كل ما أرشد إليه مما عرفه الله لهم في أنفسهم وفي الآفاق فإنهم يجدون ذلك معلوماً لهم بحس أو غيره في أنفسهم أو غيرها ، لا يخرج شيء مما في القرآن عن النظر إلى شيء معلوم للإنسان لا نزاع له فيه أصلاً ، ولكن الله تعالى يبديه لمن يشاء ويخفيه عمن يشاء { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] وأظهره يوم القيامة فإنه مركوز في طبع كل أحد أن الرئيس لا يدع من تحت يده بغير حساب أصلاً .
ولما كان الإنسان وإن أطال التدبر وأقبل بكليته على التذكر لا بد له من نسيان وغفلة وذهول ، ولما كان الممدوح إنما هو الرجاع « لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم » وكان الله تعالى هو الملك الذي لا شريك له والمالك الذي له الملك كله فهو يرفع من يشاء ممن لا يخطر في وهم أن يرتفع ، ويخفض من يشاء ممن علا في الملك حتى لا يقع في خاطر أنه يحصل له خلل ولا سيما إن كان على أعلى خلال الطاعة ليبين لكل ذي لب أن الفاعل لذلك هو الفاعل المختار ، فلا يزال خيره مرجواً ، وانتقامه مرهوباً مخشياً ، قال تعالى : { ووهبنا } أي بما لنا من الحكمة والعظمة { لدواد سليمان } فجاء عديم النظير في ذلك الزمان ديناً ودنياً وعلماً وحكمة وحلماً وعظمة ورحمة ، ولذلك نبه على أمثال هذه المعاني باستئناف الإخبار عما حرك النفس إلى السؤال عنها من إسناد الهبة إلى نون العظمة فقال : { نعم العبد } ولما كان السياق لسرعة الانتباه من الغفلات ، والتفضي من الهفوات ، والتوبة من الزلات ، وبيان أن الابتلاء ليس منحصراً في العقوبات ، بل قد يكون لرفعة الدرجات ، وكان هذا بعيداً من العادات ، علل مدحه مؤكداً له بقوله : { إنه أواب * } أي رجاع إلى الازدياد من الاجتهاد في المبالغة في الشكر والصبر على الضر كلما علا من مقام بالاستغفار منه وعده مع ما له من الكمال مما يرغب عنه .

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)

ولما كانت الخيل من أعظم ما زين للناس من حب الشهوات ، وكان السياق للعزة والشقاق الدالين على عظيم الاحتياج إلى ما يكف ذلك مما أعظمه الخيل ، ذكر فيها آمراً له صلى الله عليه وسلم ، دل على أنه مع ما له من عظمة الملك كثير الأوبة عظيمها لأن من لم يكن ذلك له طبعاً لم يقدر على ما فعل فقال : { إذ } أي اذكر لتقف على شاهد ما أخبرناك به حين { عرض عليه بالعشيّ } أي فيما بعد زوال الشمس { الصافنات } أي الخيول العربية الخالصة التي لا تكاد تتمالك بجميع قوائمها الاعتماد على الأرض اختيالاً بأنفسها وقرباً من الطيران بلطافتها وهمتها وإظهاراً لقوتها ورشاقتها وخفتها ، قال في القاموس : صفن الفرس يصفن صفوناً : قام على ثلاث قوائم وطرف حافز الرابعة ، وقال القزاز : قام على ثلاث قوائم وقائمة يرفعها عن الأرض أو ينال سنبكها الأرض ليستريح بذلك ، وأكثر ما تصفن الخيل العتاق ، قال : وقالوا : كل ذي حافز يفعله ولكنه من الجياد أكثر ، لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص ، وقيل : الصافن الذي يجمع يديه ويثني طرف سنبك إحدى رجليه ، وقيل : الصافن الذي يرفع سنبك إحدى يديه فإذا رفع طرف سنبك إحدى رجليه فهو مخيم ، وقد أخام - إذا فعل ذلك .
ولما تحرر أنه يجوز أن يجمل الصافن على غير العتيق وإن كان قليلاً ، حقق أن المراد الوصف بالجودة واقفة وجارية فقال : { الجياد * } أي التي تجود في جريها بأعظم ما تقدر عليه ، جمع جواد ، فلم تزل تعرض عليه حتى فاتته صلاة آخر النهار ، وكان المفروض على من تقدمنا ركعتين أول النهار وركعتين آخره ، فانتبه في الحال .
ولما كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزته مع زيادة أوبته لتحصل التأسية به في حسن ائتماره وانتهائه والتسلية بابتلائه مع ذلك من شرفه وبهائه ، أشار إلى كثرة الخيل جداً وزيادة محبته له وسرعة أوبته بقوله : { فقال } ولما كان اللائق بحاله والمعروف من فعاله أنه لا يؤثر على ذكر الله شيئاً فلا يكاد أحد ممن شاهد ذلك يظن به ذلك بل يوجهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محامل تليق بما يعرفونه من حال من الإقبال على الله والغنا عما سواه ، أكد قوله تواضعاً لله تعالى ليعتقدوا أنه بشر يجوز عليه ما يجوز عليهم لولا عصمة الله : { إني } ولما كان الحب أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلا بكثرة الاشتغال به ، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحب فهو غير دال عليه إلا بقرائن قال اعترافاً : { أحببت } أي أوجدت وأظهرت بما ظهر مني من الاشتغال بالخيل مقروناً ذلك بأدلة الود { حب الخير } وهو المال بل خلاصة المال وسبب كل خير دنيوي وأخروي

« الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة » أظهرت ذلك بغاية الرغبة غافلاً { عن ذكر ربي } المحسن إليّ بهذه الخيل التي شغلتني وغيرها ، فلم أذكره بالصلاة التي كانت وظيفة الوقت وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له . ولم يزل ذلك بي { حتى توارت } أي الشمس المفهومة من « العشي » { بالحجاب * } وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها فصارت وراءها حقيقة .
ولما اشتد تشوف السامع إلى الفعل الذي أوجب له الوصف بأواب بعد سماع قوله في لومه نفسه ليجمع بين معرفة القول والفعل ، أجيب بقوله : { ردوها } أي قال سليمان عليه السلام : ردوا { عليّ } الخيول التي شغلتني . ولما كان التقدير : فردوها عليه ، نسق به قوله : { فطفق } أي أخذ يفعل ظافراً بمراده لازماً له مصمماً عليه واصلاً له معتمداً على الله في التقوية على العدو لا على الأسباب التي من أعظمها الخيل مفارقاً ما كان سبب ذهوله عن الذكر معرضاً عما يمكن أن يتعلق به القلب متقرباً به إلى الله تعالى كما يتقرب في هذه الملة بالضحايا { مسحاً } أي يوقع المسح - أي القطع - فيها بالسيف إيقاعاً عظيماً . ولما كان السيف إنما يقع في جزء يسير من العضوين أدخل الباء فقال : { بالسوق } أي منها { والأعناق * } يضربها ضرباً بسيف ماض وساعد شديد وصنع سديد يمضي فيها من غير وقفة أصلاً حتى كأنه يمسحه مسحاً على ظاهر جلودها كما يقال : مسح علاوته ، أي ضرب عنقه - والله أعلم .
ولما ظهر بهذا ما له من ضخامة الملك وعز السلطان ، وكانت الأوبة عظيمة جداً ، وكان الثبات على مقام الشهود مع حفظه من جميع جهاته أعظم ، نبه عليه بقوله مؤكداً لما طبعت عليه النفوس من ظن أن الأواب لا ينبغي أن يواجه بالعتاب : { ولقد فتنا } أي بما لنا من العظمة { سليمان } أي مع إسراعه بالرجوع إلى الله والتنبه لما فيه رضاه نوعاً من الفتنة ، الله أعلم بحقيقتها ، فأسفرت تلك الفتنة عن رسوخه في مقام الأوبة فتنبه لما أردنا بها من تدريبه على ما أقمناه فيه كما فعلنا بأبيه داود عليهما السلام فاقتد بهما في الاستبصار بالبلاء ، فإنا نريد بك أمراً عظيماً جليلاً شريفاً كريماً { وألقينا } أي بما لنا من العظمة { على كرسيه } الذي كانت تهابه أسود الفيل .
ولما كانت العبرة إنما هي بالمعاني ، فمن كان معناه ناقصاً كان كأنه جسد لا روح فيه ، له صورة بلا معنى ، قال : { جسداً } فغلب على ذلك المكان الشريف مع ما كنا شرفناه به من هيبة النبوة المقرونة بالملك بحيث لم يكن أحد يظن أن أحداً يقدر على أن يدنو إليه فضلاً عن أن يغلب عليه ، فمكنا هذا الجسد منه تمكيناً لا كلفة عليه فيه ، بل كان ذلك بحيث كأنه ألقى عليه بغير اختياره ليعلم أن الملك إنما هو لنا ، نفعل ما نشاء بمن نشاء ، فالسعادة لمن رجانا والويل لمن يأمن مكرنا فلا يخشانا ، فعما قليل تصير هذه البلدة في قبضتك ، وأهلها مع العزة والشقاق طوع مشيئتك ويكون لك بذلك أمر لا يكون لأحد بعدك كما أنه ما كان لأحد كان قبلك من نفوذ الأمر وضخامة العز وإحلال الساحة الحرام بقدر الحاجة وسعة الملك وبقاء الذكر ، والذي أنت فيه الآن ابتلاء واختبار وتدريب على ما يأتي من الأمور الكبار .

ولما كان المراد بإطلاق الجسد عليه التعريف بأنه لا معنى له ، لا أنه لا روح فيه ، أطلقه ولم يتبعه ما يبين أنه جماد كما فعل في العجل حيث قال « له خوار » فبين بذلك أنه لا روح له ، وإن صح أن هذا الجسد هو صخر الجني وأن سببه سجود الجرادة امرأة سليمان عليه السلام لصورة أبيها بغير علم نبي الله سليمان عليه السلام ولا إرادته ، فالإشارة بذلك في التسلية أنا سلبنا الملك من صفينا لصورة رفع سجود بعض من ينسب إليه لها في بيته أمره ولا إرادته ولا علمه ، فكيف بمن يسجد لهذه الأوثان في البيت الحرام فعما قليل نزيل أمرهم ونخمد شرهم ونمحو ذكرهم .
ولما كانت الإنابة رجوعاً إلى ما كان ، فهي استرجاع لما فات قال : { ثم أناب * } وفسر الإنابة ليعلم أنه تعالى فتنه مع أنه عبد عظيم المنزلة مجاب الدعوة بقوله جوباً لمن سأل عنها : { قال ربّ } أي أيها المحسن إلي { اغفر لي } أي الأمر الذي كانت الإنابة بسببه . ولما قدم أمر الآخرة ، أتبعه قوله : { وهب لي } أي بخصوصي { ملكاً لا ينبغي } أي لا يوجد طلبه وجوداً تحصل معه المطاوعة والتسهل { لأحد } في زمان ما طال أو قصر سواء كان كاملاً في الصورة والمعنى أو جسداً خالياً عن العز كما حصلت به الفتنة من قبل ، وبعّض الزمان بذكر الجار فقال : { من بعدي } حتى أتمكن من كل ما أريد من التقرب إليك وجهاد من عاداك ، ويكون ذلك إمارة لي على قبول توبتي ولا تحصل لي فتنة بإلقاء شيء على مكان حكمي ولا غيره وهذا يشعر بأن الفتنة كانت في الملك وكذا ذكر الإلقاء على الكرسي مضافاً إليه من غير أن ينسب إليه هو صلى الله عليه وسلم شيء ، وهو مناسب لعقر الخيل الذي هو إذهاب ما به العز - والله أعلم ، وبهذا التقدير علم أنه لو ذكر الظرف من غير حرف لأوهم تقيد الدعوة بملك يستغرق الزمان الذي بعده ، ثم علل ما طلبه من الإعطاء والمنع بقوله على سبيل التأكيد إسقاطاً لما غلب على النفوس من رؤية الأسباب : { إنك أنت } أي وحدك { الوهاب * } أي العظيم المواهب مع التكرار كلما أردت ، فتعطي بسبب وبغير سبب من تشاء وتمنع من تشاء .

ولما تسبب عن دعائه الإجابة ، أعلم به سبحانه بقوله : { فسخرنا } أي ذللنا بما لنا من العظمة { له الريح } لإرهاب العدو وبلوغ المقاصد عوضاً عن الخيل التي خرج عنها لأجلنا؛ ثم بين التسخير بقوله مستأنفاً : { تجري بأمره رخاء } أي حال كونها لينة غاية اللين منقادة يدرك بها ما لا يدرك بالخيل { غدوها شهر ورواحها شهر } وكل من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، وهو هنا مبالغة من الرخاوة . ولما كانت إصابته لما يشاء ملازمة لإرادته ، عبر بها عنها لأنها المقصود بالذات فقال : { حيث أصاب * } أي أراد إصابة شيء من الأشياء ، وقد جعل الله لنبينا صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك وهو أن العدو يرعب منه إلى مسيرة شهر من جوانبه الأربعة فيه أربعة أشهر { والشياطين } أي الذين عندهم خفة الريح مع الاقتران بالروح سخرناهم له؛ ثم نبه على منفعتهم بالإبدال منهم فقال : { كل } وعبر ببناء المبالغة في سياق الامتنان فقال : { بناء وغواص * } أي عظيم في البناء صاعداً في جو السماء والغوص نازلاً في أعماق الماء ، يستخرج الدر وغيره من منافع البحر .

وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)

ولما دل على مطلق تسخيرهم ، دل على أنه قهر وغلبة كما هو شأن أيالة الملك وصولة العز فقال : { وآخرين } أي سخرناهم له من الشياطين حال كونهم { مقرنين } بأمره إلى من يشاكلهم أو مقرونة أيديهم بأرجلهم أو بأعناقهم ، وعبر به مثقلاً دون « مقرونين » مثلاً إشارة إلى شدة وثاقهم وعظيم تقرينهم . ولما كانت مانعة لهم من التصرف في أنفسهم ، جعلوا كأنهم بأجمعهم فيها وإن لم يكن فيها إلا بعض أعضائهم مثل { جعلوا أصابعهم في آذانهم } [ نوح : 7 ] فقال : { في الأصفاد * } أي القيود التي يوثق بها الأسرى من حديد أو قيد أو غير ذلك ، جمع صفد - بالتحريك ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان { هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فرددته خاسئاً » ، وقد حكمه الله في بعض الجن ، فحمي من الذين يطعنون دار مولده ودار هجرته ، روى أحمد في مسنده بسند حسن إن شاء الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة ، على كل نقب منهما ملك ، فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون » هذا في البلدين ، وأما المدينة خاصة ففيها أحاديث عدة عن عدة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما ، وقد عوض الله نبينا صلى الله عليه وسلم عن الشياطين التأييد بجيوش الملائكة في غزواته ، وقد كان نبينا عبداً كما اختار فلم يكن له حاجة بغير ذلك .
ولما كان ذلك ملكاً عظيماً ، نبه على عظمته بكثرته ودوامه وعظمة مؤتيه فقال مستأنفاً بتقدير : قلنا له ونحوه : { هذا } أي الأمر الكبير { عطاؤنا } أي على ما لنا من العظمة؛ ثم سبب عن ذلك إطلاق التصرف الذي هو أعظم المقاصد ، فكم من مالك لشيء وهو مغلول اليد عن التصرف فيه ، فقال بادئاً بما يوجب الحب ويقبل بالقلوب دالاً على عظمته وظهور أمره بفك الإدغام : { فامنن } أي أعط من شئت عطاء مبتدئاً من غير تسبب من المعطي : { أو أمسك } أي عمن شئت .
ولما كان هذا عطاء يفوت الوصف عظمه ، زاده تعظيماً بكثرته وتسهيله وسلامة العاقبة فيه فقال : { بغير } أي كائناً كل ذلك من العطاء والمن خالياً عن { حساب * } لأنك لا تخشى من نقصه وربك هو المعطي والآمر ، ولا من كونه مما يسأل عنه في الآخرة لأنه قد أذن لك ، فنفي الحساب عنه يفيد شيئين الكثرة وعدم الدرك في إعطاء أو منع ، وجعله مصدراً مزيداً يفهم أنه إنما ينفي عنه حساب يعتد به لا مطلق حسب بالتخمين كما يكون في الأشياء التي تعيي الحاصر فيقرب أمرها بنوع حدس .

ولما رفع الحرج عنه في الدارين ، أثبت المزيد فقال عاطفاً على ما تقديره : هذا له في الدنيا ، مؤكداً زيادة في الطمأنية لكونه خارقاً لما حكم به من العادة في أنه كل ما زاد عن الكفاف في الدنيا كان ناقصاً للحظ في الآخرة : { وإن له } أي خاصاً به { عندنا } أي في الآخرة { لزلفى } أي قربى عظيمة { وحسن مآب * } أي مرجع .
ولما انقضى الخبر عن الملك الأواب الذي ملك الدنيا بالفعل قهراً وغلبة شرقاً وغرباً ، وكان أيوب عليه السلام في ثروة الملوك وإن لم يكن ملكاً بالفعل ، وكان تكذيب من كذب بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بتسليط الله الشياطين بوسوسته عليهم ، وأمره سبحانه بالصبر على ذلك وقص عليه من أخبار الأوابين تعليماً لحسن الأوبة إن وهن الصبر ، أتبعه الإخبار عن الصابر الأواب الذي لم يتأوه إلا من وسوسة الشيطان لزوجه بما كان يفتنها ليزداد النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذه الأخبار صبراً ويتضاعف إقباله على الله تعالى وتضرعه له اقتداء بإخوانه الذين لم تشغلهم عنه منحة السراء ولا محنة الضراء ، وتذكيراً لقدرة الله على كل ما يريده تنبيهاً على أنه قادر على رد قريش عما هم فيه ونصر المستضعفين من عباده عليهم بأيسر سعي فقال : { واذكر عبدنا } أي الذي هو أهل للإضافة إلى عظيم جنابنا ، وبينه بقوله : { أيوب } وهو من الروم من أولاد عيص بن إسحاق عليهم السلام لتتأسى بحاله فنصبر على قومك وإن رأيت ما لا صبر لك عليه دعوت الله في إصلاحه .
ولما أمره بذكره ، بين أن معظم المراد بعض أحواله الشريفة ليتأسى به فقال مبدلاً منه بدل اشتمال : { إذ } أي اذكر حاله الذي كان حين : { نادى } وصرف القول عن مظهر العظمة إلى صفة الإحسان لأنه موطنه لاقتضاء حاله ذلك فقال : { ربه } : أي المحسن إليه الذي عرف إحسانه إليه في تربيته ببلائه كما عرف امتنانه بظاهر نعمائه وآلائه ، ثم ذكر المنادى به حاكياً له بلفظه فقال مشيراً بالتأكيد إلى أنه - وإن كان حاله فيما عهد من شدة صبره مقتضياً عدم الشكوى - أتاه ما لا صبر عليه : { إني } أي رب أدعوك بسبب أني . ولما كان هنا في سياق التصبير عظم الأمر بإسناد الضر إلى أعدى الأعداء إلهاباً إلى الإجابة وأدباً مع الله فقال : { مسّني } أي وأنا من أوليائك { الشيطان } أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة بتسليطك له { بنصب } أي ضر ومشقة وهم داء ووجع وبلاء يثقل صاحبه فيتبعه ويعيده ويكده ويجهده ويصل به إلى الغاية من كل ذلك ، وقرئ بضم الصاد أيضاً وقرئ بالتحريك كالرُشد والرَشد ، وكان ذلك إشارة إلى أحوال الضر في الشدة والخفة فالمسكن أدناه ، والمحرك أوسطه ، والمثقل بالضم أعلاه { وعذاب * } أي نكد قوي جداً دائم مانع من كل ما يلذ ، ويمكن أن يساغ ويستطعم أجمله ، ونكره تنكير لتعظيم استغنائه على وجازته عن جمل طوال ودعاء عريض إعلاماً بأن السيل قد بلغ الزبى ، وأوهن البلاء القوي ، ولم يذكره بلفظ إبليس الذي هو من معنى اليأس وانقطاع الرجاء دلالة على أنه هو راج فضل الله غير آيس من روحه ، وذلك أن الله تعالى سلطه على إهلاك أهله وولده وماله فصبر ثم سلطه على بدنه إلى أن سقط لحمه واستمر على ذلك مدداً طوالاً ، فلذلك ثم تراءى لزوجته رضي الله عنها في زي طبيب وقال لها : أنا أداويه ولا أريد أن يقول لي ، إذا عوفي أنت شفيتني ، وقيل : قال لها : لو سجد لي سجدة واحدة شفيته ، فأتته وحدثته بذلك فأخبرها وعرفها أنه الشيطان ، وحذرها منه وخاف غائلته عليها ، فدعا الله بما تقدم وشدد النكير والتعظيم لما وسوس لها به بأن حلف ليضربنها مائة ضربة ، ردعاً لها عن الإصغاء إلى شيء من ذلك ، وتهويناً لما يلقاه من بلائه في جنبه .

ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)

ولما تشوف السامع إلى جوابه عن ذلك ، استأنف قوله : { اركض } أي قلنا له : اضرب الأرض وأوجد الركض وهو المشي والتحريك والإسراع والاستحثاث { برجلك } يخرج منها ماء نافع حسن لتغتسل فيه وتشرب منه ففعل فأنبعنا له عيناً ، فقيل له : { هذا } بإشارة القريب إشارة إلى تسهله { مغتسل } أي ماء يغتسل به وموضعه وزمانه { بارد } أي يبرد حر الظاهر { وشراب * } يبرد حر الباطن .
ولما كان التقدير : ففعل اغتسل فبرأ ظاهره وسر باطنه ، عطف عليه قوله صارفاً القول إلى مظهر الجلال تنبيهاً على عظمة الفعل : { ووهبنا } أي بما لنا من العظمة { له أهله } أي الذين كان الشيطان سلط عليهم بأن أحييناهم ، وجمع اعتباراً بالمعنى لأنه أفخم وأقرب إلى فهم المراد فقال : { ومثلهم } وأعلم باجتماع الكل في آنٍ واحد فقال : { معهم } جددناهم له وليعلم من يسمع ذلك أنه لا عبرة بشيء من الدنيا وأنها وكل ما فيها عرض زائل لا ثبات له أصلاً إلا ما كان لنا ، فإنه من الباقيات الصالحات ، فلا يغير أحد بشيء منها ولا يشتغل عنا أصلاً ، ويعلم من هذا من صدقه القدروة على البعث بمجرد تصديقه له ومن توقف فيه سأل أهل الكتاب فعلم ذلك بتصديقهم له ، ثم علل سبحانه فعله ذلك بقوله : { رحمة } ولما كان في مقام الحث على الصبر عظم الأمر بقوله : { منا } فإنه أعظم من التعبير في سورة الأنبياء بعندنا ، ليكون ذلك أحث على لزوم الصبر ، وإذا نظرت إلى ختام الآيتين عرفت تفاوت العبارتين ولاح لك أن مقام الصبر لا يساويه شيء ، لأن الطريق إليه سبحانه لا ينفك شيء منه عن صبر وقهر للنفس وجبر ، لأنها بالإجماع خلاف ما تدعو إليه الطبائع { وذكرى } أي إكراماً وتذكيراً عظيماً { لأولي الألباب * } أي الأفهام الصافية ، جعلنا ذلك لرحمته ولتذكير غيره من الموصوفين على طول الزمان ليتأسى به كل مبتلى ويرجو مثل ما رجا ، فإن رحمة الله واسعة ، وهو عند القلوب المنكسرة ، فما بينه وبين الإجابة إلا حسن الإنابة ، فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره :
لكل شيء إذا فارقته عوض ... وليس لله إن فارقت من عوض
ولما أجمل العذاب الصالح لألم الظاهر ، وذكر المخلص منه ، أتبعه التنبيه على أعظمه وهو ألم الباطن ، بل أبطن الباطن التعلق بالاعتقاد فيما وسوس لزوجه رضي الله عنها بما كاد يزلها فحلف ليضربنها مائة لئلا تعود إلى شيء من ذلك فيزلها عن مقامها كما أزل غيرها فأرشده سبحانه وتعالى إلى المخلص من ذلك الحلف على أخف وجه لأنها كانت صابرة محسنة ، فشكر الله لها ذلك ، وجعل هذا المخلص بعدها سنة باقية لعباده تعظيماً لأجرها وتطييباً لذكرها فقال عاطفاً على { اركض } { وخذ بيدك } أي التي قد صارت في غاية الصحة { ضغثاً } أي حزمة صغيرة من حشيش فيها مائة عود كشمراخ النخلة ، قال الفراء : هو كل ما جمعته من شيء مثل الحزمة الرطبة ، وقال السمين : وأصل المادة يدل على جميع المختلطات { فأضرب به } أي مطلق ضرب ضربة واحدة { ولا تحنث } في يمينك أي تأثم بترك ما حلفت على فعله ، فهذا تخفيف على كل منهما لصبره ، ولعل الكفارة لم تكن فيهم وخصنا الله بها مع شرعه فينا ما أرخصه له تشريفاً لنا ، وكل هذا إعلاماً بأن الله تعالى ابتلاه صلى الله عليه وسلم في بدنه وولده وماله ، ولم يبق له إلا زوجة فوسوس لها الشيطان طمعاً في إيذائهما كما آذى آدم وحواء عليهما السلام ، إلى أن قارب منها بعض ما يريد ، والمراد بالإعلام به تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إن كان مكن الشيطان من الوسوسة لأقاربه والإغواء والإضلال فقد منّ عليه بزوجه أعظم وزراء الصدق وكثير من أقاربه الأعمام وبني الأعمام وغيرهم ، وحفظ له بدنه وماله ليزداد شكره لله تعالى ، وفي القصة إشارة إلى أنه قادر على أن يطيع له من يشاء ، فإنه قادر على التصرف في المعاني كقدرته على التصرف في الذوات ، وأنه سبحانه يهب لهذا النبي الكريم قومه العرب الذين هم الآن أشد الناس عليه وغيرهم فيطيعه الكل .

ولما كان الصبر والأفعال المرضية عزيزة في العباد لا تكاد توجد فلا يكاد يصدق بها ، علل سبحانه هذا الإكرام له صلى الله عليه وسلم وأكده ، فقال على سبيل الاستنتاج مما تقدم رداً على من يظن أن الشكوى إليه تنافي الصبر ، وإشارة إلى أن السر في التذكير به التأسي في الصبر : { إنا } أي على ما لنا من العظمة { وجدناه } أي في عالم الشهادة طبق ما كان لنا في عالم الغيب ليتجدد للناس من العلم بذلك ما كنا به عالمين ، ولما كان السياق للحث على مطلق الصبر في قوله تعالى { واصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] أتى باسم الفاعل مجرداً على مبالغة فقال : { صابراً } ثم استأنف قوله : { نعم العبد } ثم علل بقوله مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك : { إنه أواب * } أي رجاع بكليته إلى الله سبحانه على خلاف ما يدعو إليه طبع البشر ، قال الرازي في اللوامع : قال ابن عطاء : واقف معنا بحسن الأدب لا يغيره دوام النعمة ، ولا يزعجه تواتر البلاء والمحنة ، روى عبد بن حميد في مسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : وضع رجل يده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر ، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالقمل حتى يقتله وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالفقر حتى يأخذ العباة فيحويها وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء » .

ولما ذكر سبحانه من ابتلاه في بدنه وماله وولده ثم جعل له الماء برداً وسلاماً وعافية ونظاماً وشفاء وقواماً ، عطف عليه من ابتلاه بالنار على أيدي الجبابرة فجعلها عليه برداً وسلاماً باعتماده عليه وصبره لديه ، ونجاه من كيدهم ، وجعل أيده بمفرده فوق أيدهم ، ثم ابتلاه بالهجرة لوطنه وأهله وعشيرته وسكنه ، ثم بذبح ابنه ، فصبر على ذلك كله ، اعتماداً على فضل الله ومنّة فقال : { واذكر عبدنا } بالتوحيد في رواية ابن كثير للجنس أو لإبراهيم وحده عليه السلام لأنه أصل من عطف عليه ديناً وأبوة ، فبين الله أساس عطفه عليه في المدح بالعبودية أيضاً ، ثم بين المراد بقوله : { إبراهيم } وعطف على العبد لا على مبينه لئلا يلزم بيان واحد بجماعة إذا أريد به إبراهيم وحده لا الجنس ابنه لصبره على دينه في الغربة بين عباد الأوثان ومباعدي الإيمان ، فلم يلفت لفتهم ولا داناهم ، بل أرسل إلى أقاربه في بلاد الشرق ، فتزوج منه من وافقته على دينه الحق ، واستمر على إخلاص العبادة لا يأخذه في الله لومة لائم إلى أن مضى لسبيله فقال : { وإسحاق } ثم أتبعه ولده الذي قفا أثره ، وصبر صبره ، وابتلى بفقد ولده ، وبهجة كبده ، فصبر أتم الصبر في ذلك الضر ، وأبلغ في الحمد والشكر ، فقال تعالى : { ويعقوب } وألحقهما سبحانه بأبيها بعد أن بينت قراءة الإفراد إصالته في المدح بالعبودية فعطفهما عليه نفسه في قراءة غير ابن كثير { عبادنا } بالجمع كما قال تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم } [ الطور : 21 ] .
ولما اجتعموا بالعطف أو البدل وصفهم بقوله : { أولي الأيدي } أي القوة الشديدة والأعمال السديدة لأن الأيدي أعظم آلات ذلك { والأبصار * } أي الحواس الظاهرة والباطنة التي هي حقيقة بأن تذكر وتمدح بها لقوة إدراكها وعظمة نفوذها فيما هو جدير بأن يراعى من جلال الله ومراقبته في الحركات والسكنات سراً وعلناً ، وعبر عن ذلك بالأبصار لأنها أقوى مبادئه ، ومن لم يكن مثلهم كان مسلوب القوة والعقل ، فلم يكن له عقل فكان عدماً ، فهو أعظم توبيخ لمن رزقه الله قوة وعقلاً ، ثم لا يصرفه في عبادة الله والمجاهدة فيه سبحانه .

إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)

ولما اشتد تشوف السامع لما استحقوا به هذا الذكر ، قال مؤكداً إشارة إلى محبته سبحانه لمدحهم ورداً على من ينسب إليهم أو إلى أحد منهم ما لا يليق كما كذبه اليهود فيما بدلوه من التوراة في حق إسحاق عليه السلام في بعض المواضع معدياً للفعل بالهمزة إشارة إلى أنه جذبهم من العوائق إليه جذبة واحدة هي في غاية السرعة : { إنا أخلصناهم } أي لنا إخلاصاً يليق بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة { بخالصة } أي أعمال وأحوال ومقامات وبلايا ومحن هي سالمة عن شوب ما ، فصاروا بالصبر عليها في غاية الخلوص .
ولما كان سبب الإخلاص تذكر يوم الدين وما يبرز فيه من صفات الجلال والجمال وينكشف فيه من الأمور التي لا توصف عظمتها ، بينها بقوله : { ذكرى الدار } أي تذكرهم تلك الخالصة تذكيراً عظيماً لا يغيب عنهم أصلاً الدار التي لا يستحق غيرها أن يسمى داراً بوجه بحيث نسوا بذكر هذا الغائب ذكر ما يشاهدونه من دار الدنيا فهم لا ينظرون إليه أصلاً بغضاً فيها فقد أنساهم هذا الغائب الثابت الشاهد الزائل عكس ما عليه العامة ، وإضافة نافع وأبي جعفر وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه لخالصة مؤيد لما قلت من أن ذكرى بيان لأنها إضافة الصفة إلى الموصوف ، والمعنى أنهم لا يعملون شيئاً إلا وهو مقرب للآخرة ، فالمعنى أن ذكرهم لها خالص عن سواه لا يشاركه فيه شيء ولا يشوبه شوب أصلاً .
ولما دلت هذه الجملة على هذا المدح البليغ ، عطف عليه ما يلازم الإخلاص فقال مؤكداً لمثل ما تقدم من التنبيه على أنهم ممن يغتبط بمدحهم ، ورداً على من ربما ظن خلاف ذلك بكثرة مصائبهم في الدنيا : { وإنهم عندنا } أي على ما لنا من العظمة والخبرة { لمن المصطفين } المبالغ في تصفيتهم مبالغة كأنها بعلاج { الأخيار * } الذين كل واحد منهم بخير بليغ في الخير ، وإصابتنا إياهم بالمصائب دليل ذلك لا دليل عكسه كما يظنه من طمس قلبه ، والآية من الاحتباك : ذكر { أخلصناهم } أولاً دليل على { اصطفيناهم } ثانياً ، و { المصطفين } دليلاً على { المخلصين } أولاً ، وسر ذلك أن الإخلاص يلزم منه الاصطفاء ، لا سيما إذا أسنده إليه بخلاف العكس بدليل { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه } [ فاطر : 32 ] .
ولما أتم الأمر بذكر الخليل وابنه عليهما السلام الذي لم يخرج من كنفه قط ونافلته المبشر به للتأسي بهم في صبرهم الدين وإن خالفهم من خالفهم ، أتبعه ولده الذي أمر بالتجرد عنه مرة بالإسكان عند البيت الحرام ليصير أصلاً برأسه في أشرف البقاع ، ومرة بالأمر بذبحه في تلك المشاعر الكرام ، فصار ما أضيف إليه من الأحوال والأفعال من المناسك العظام عليه الصلاة والسلام ، وأفرده بالذكر دلالة على أنه أصل عظيم برأسه من أصول الأئمة الأعلام ، فقال : { واذكر إسماعيل } أي أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والانفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرئاسة والذكر في هذه البلدة { واليسع } أي الذي استخلفه إلياس عليه السلام على بني إسرائيل فجمعهم الله عليه بعد ذلك الخلاف الشديد الذي كان منهم لإلياس عليه السلام { وذا الكفل } أي النصيب العظيم بالوفاء بما يكفله من كل أمر عليّ ، وعمل صالح زكي .

ولما تقدم وصف من قبل إبراهيم عليه السلام بالأوبة وخصوا بالتصريح ، لما كان لهم من الشواغل عنها بكل من محنة السراء ومحنة الضراء وكذلك بالعبودية سواء ، وكان الأمر بالذكر مع حذف الوصف المذكور لأجله والإشارة إليه بالتلويح ولا مانع من ذكره - دالاً على غاية المدح له لذهاب الوهم في تطلبه كل مذهب ، قال معمّماً للوصف بالعبودية والأوبة بها جميع المذكورين ، عاطفاً بما أرشد إليه العطف على غير مذكور على ما تقديره : إنهم أوابون ، ليكون تعليلاً لذكرهم بما علل به ذكر أول مذكور فيهم : { وكل } أي من هؤلاء المذكورين في هذه السورة من الأنبياء قائمون بحق العبودية فهم من خيار عبادنا من هؤلاء الثلاثة ومن قبلهم { من الأخيار * } أي كما أن كلاًّ منهم أواب بالعراقة في وصف الصبر - كما مضى في الأنبياء ، وبغير ذلك من كل خير على أن الصبر - جامع لجميع الطريق ، فهم الذين يجب الاقتداء بهم في الصبر على الدين ولزوم طريق المتقين .
ولما أتم سبحانه ما أراد من ذكر هؤلاء الأصفياء عليهم السلام الذين عافاهم بصبرهم وعافى من دعوهم ، فجعلهم سبحانه سبب الفلاح ولم يجعلهم سبباً للهلاك ، قال مؤكداً لشرفهم وشرف ما ذكروا به ، حاثاً على إدامة تذكره وتأمله وتدبره للعمل به ، مبيناً ما لهم في الآخرة على ما ذكر من أعمالهم وما لمن نكب عن طريقهم على سبيل التفصيل : { وهذا } أي ما تلوناه عليك من أمورهم وأمور غيرهم { ذكر } أي شرف في الدنيا وموعظة من ذكر القرآن ذي الذكر ، ثم عطف على قوله { إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد } ما لأضدادهم ، فقال مؤكداً رداً على من ينكر ذلك من كفار العرب وغيرهم : { وإن } ويجوز - وهو أحسن - أن يكون معطوفاً على « هذا » وتقديره : هذا ذكر للصابرين .
ولما أداهم إليه صبرهم في الدنيا وأن لهم على ما وهبناهم من الأعمال الصالحة التي مجمعها الصبر لمرجعاً حسناً ، ولكنه أظهر الوصف الذي أداهم إلى هذا المآب تعميماً لكل من اقتدى بهم حثاً على الاقتداء فقال : { للمتقين } أي جميع العريقين في وصف التقوى الذين يلزمون لتقواهم الصراط المستقيم { لحسن مآب * } أي مصير ومرجع ولما شوق سبحانه إلى هذا الجزاء أبدل منه أو بينه بقوله : { جنات عدن } أي إقامة في استمراء وطيب عيش ونمو وامتلاء وشرف أصل .

ولما كانت من الأعلام الغالبة ، نصب عنها على الحال قوله : { مفتحة } أي تفتيحاً كثيراً وبليغاً من غير أن يعانوا في فتحها شيئاً من نصب أو طلب أو تعب ، وأشار جعل هذا الوصف مفرداً أن تفتحيها على كثرتها كان لهم في آن واحد حتى كأنها باب واحد { لهم } أي لا لغيرهم { الأبواب } التي لها والتي فيها فلا يلحقهم في دخولها ذل الحجاب ولا كلفة الاستئذان ، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والإكرام .

مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)

ولما ذكر إقامتهم ويسر دخولهم ، وصف حالهم إذ ذاك فقال : { متكئين فيها } أي ليس لهم شغل سوى النعيم ولا عليهم كلفة أصلاً . ولما كان المتكىء لا يتم نعيمه إلا إن كان مخدوماً ، دل على سؤددهم بقوله : { يدعون فيها } اي كلما أرادوا من غير مانع أصلاً ولا حاجة إلى قيام ولا قعود يترك به الاتكاء . ولما كان أكلهم إنما هو للتفكه لا لحفظ الجسد من آفة قال : { بفاكهة كثيرة } فسمى جميع مآكلهم فاكهة ، ولما كانت الفاكهة لا يمل منها ، والشراب لا يؤخذ إلا بقدر الكفاية ، وصفها دونه فقال : { وشراب * } .
ولما كان الأكل والشرب داعيين إلى النساء لا سيما مع الراحة قال : { وعندهم } أي لهم من غير مفارقة أصلاً . ولما كان سياق الامتنان مفهماً كثرة الممتن به لا سيما إذا كان من العظيم ، أتى بجمع القلة مريداً به الكثرة لأنه أشهر وأوضح وأرشق من « قواصر » المشترك بين جمع قاصر وقوصرة - بالتشديد والتخفيف - لوعاء التمر فقال : { قاصرات } ولما كن على خلق واحد في العفة وكمال الجمال وحد فقال : { الطرف } أي طرفهن لعفتهن وطرف أزواجهن لحسنهن ، ولما لم تنقص صيغة جمع القلة المعنى ، لكونه في سياق المدح والامتنان ، وكان يستعار للكثرة ، أتى على نمط الفواصل بقوله : { أتراب * } أي على سن واحد مع أزواجهن وهو الشباب ، سمي القرين ترباً لمس التراب جلده وجلد قرينه في وقت واحد ، قال البغوي : بنات ثلاث وثلاثين سنة ، لأن ذلك ادعى للتآلف فإن التحاب بين الأقران أشد وأثبت .
ولما ذكر هذا النعيم لأهل الطاعة ، وقدم ذلك العذاب لأهل المعصية قال : { هذا } أي الذي ذكر هنا والذي مضى { ما } وبني للمفعول اختصاراً وتحقيقاً للتحتم قوله : { توعدون } من الوعد والإيعاد ، وقراءة الغيب على الأسلوب الماضي ، ومن خاطب لفت الكلام للتلذيذ بالخطاب تنشيطاً لهممهم وإيقاظاً لقلوبهم { ليوم الحساب * } أي ليكون في ذلك اليوم .
ولما كان هذا يصدق بأن يوجد ثم ينقطع كما هو المعهود من حال الدنيا ، أخبر أنه على غير هذا المنوال فقال : { إن هذا } أي المشار إليه إشارة الحاضر الذي لا يغيب { لرزقنا } أي للرزق الذي يستحق الإضافة إلينا في مظهر العظمة ، فلذلك كانت النتيجة : { ما له من نفاد * } أي فناء وانقطاع ، بل هو كالماء المتواصل في نبعه ، كلما أخذ منه شيء أخلف في الحال بحيث إنه لا يميز المأخوذ من الموجود بوجه من الوجوه ، فيكون في ذلك تلذيذ وتنعيم لأهل الجنة بكثرة ما عنده ، وبمشاهدة ما كانوا يعتقدونه ويثبتونه لله تعالى من القدرة على الإعادة في كل وقت ، جزاء وفاقاً عكس ما يأتي لأهل النار .

ولما كانت النفوس نزاعة للهوى ميالة إلى الردى ، فكانت محتاجة إلى مزيد تخويف وشديد تهويل ، قال تعالى متوعداً لمن ترك التأسي بهؤلاء السادة في أحوال العبادة ، مؤكداً لما مضى من إيعاد العصاة وتخويف العتاة : { هذا } أي الأمر العظيم الذي هو جدير بأن يجعل نصب العين وهو أنه لكل من الفريقين ما ذكر وإن أنكره الكفرة ، وحذف الخبر بعد إثباته في الأول أهول ليذهب الوهم فيه كل مذهب { وإن للطاغين } أي الذين لم يصبروا على تنزيلهم أنفسهم في منازلها بالصبر على ما أمروا به فرفعوا أنفسهم فوق قدرها ، وتجاوزوا الحد وعلوا في الكفر به وأسرفوا في المعاصي والظلم وتجبروا وتكبروا فكانوا أحمق الناس { لشر مآب * } أي مصير ومرجع ، وأبدل منه أو بينه بقوله : { جهنم } أي الشديدة الاضطرام الملاقية لمن يدخلها بغاية العبوسة والتجهم .
ولما كان اختصاصهم بها ليس بصريح في عذابهم ، استأنف التصريح به في قوله : { يصلونها } أي يدخلونها فيباشرون شدائدها . ولما أفهم هذا غاية الكراهة لها وأنه لا فراش لهم غير جمرها ، فكان التقدير : فيكون مهاداً لهم لتحيط بهم فيعمهم صليها ، سبب عنه قوله : { فبئس المهاد * } أي الفراش هي ، فإن فائدة الفراش تنعيم الجسد ، وهذه تذيب الجلد واللحم ثم يعود في الحال كلما ذاب عاد عقوبة لهم ليريهم الله ما كانوا يكذبون به من الإعادة في كل وقت دائماً أبداً ، كما كانوا يعتقدون ذلك دائماً أبداً جزاء وفاقاً عكس ما لأهل الجنة من التنعيم والتلذيذ بإعادة كل ما قطعوا من فاكهتها وأكلوا من طيرها ، لأنهم يعتقدون الإعادة فنالوا هذه السعادة .
ولما قدم أن لأهل الطاعة فاكهة وشراباً ، وكان ما وصف به مأوى العصاة لا يكون إلا عذاباً ، وكان مفهماً لا محالة أن الحرارة تسيل من أهل النار عصارة من صديد وغيره قال : { هذا } أي العذاب للطاغين { فليذوقوه } ثم فسره بقوله : { حميم } أي ماء حار ، وأشار بالعطف بالواو إلى تمكنه في كل من الوصفين فقال : { وغساق * } أي سيل منتن عظيم جداً بارد أسود مظلم شديد في جميع هذه الصفات من صديد ونحوه وهو في قراءة الجماعة بالتخفيف اسم كالعذاب والنكال من غسقت عينه ، أي سالت ، وغسق الشيء ، أي امتلأ ، ومنه الغاسق للقمر لامتلائه وكماله ، وفي قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد صفة كالخباز والضراب ، تشير إلى شدة أمره في جميع ما استعمل فيه من السيلان والبرد والسواد .
ولما كان في النار - أجارنا الله منها بعفوه ورحمته - ما لا يعد من أنواع العقاب ، قال عاطفاً على هذا ، { وآخر } أي من أنواع المذوقات - على قراءة البصريين بالجمع لأخرى ، ومذوق على قراءة غيرهما بالإفراد ، وهو حينئذ للجنس ، وأخبر عن المبتدأ بقوله : { من شكلة } أي شكل هذا المذوق ولما كان المراد الكثرة في المعذبين وهم الطاغون وفي عذابهم مع افتراقه بالأنواع وإن اتحد في جنس العذاب ، صرح بها في قوله : { أزواج * } أي هم أو هي أو هو ، أي جنس عذابهم أنواع كثيرة .

ولما كان مما أفهمه الكتاب في هذا الخطاب أن الطاغين الداخلين إلى جهنم أصناف كثيرة ، وكانت العادة جارية بأن الأصناف إذا اجتمعوا كانت محاورات ولا سيما إن كانوا من الطغاة العتاة ، تحرك السامع إلى تعرف ذلك فقال تعالى مستأنفاً جوابه بما يدل على تقاولهم بأقبح المقاولة وهو التخاصم الناشىء عن التباغض والتدابر الذي من شأنه أن يقع بين الذين دبروا أمراً فعاد عليهم بالوبال في أن كلاًّ منهم يحيل ما وقع به العكس على صاحبه ، وذلك أشد لعذابهم : { هذا } أي قال أطغى الطغاة لما دخلوها أولاً كما هم أهل له لأنهم ضالون مضلون ورأوا جمعاً من الأتباع داخلاً عليهم : هذا { فوج } أي جماعة كثيفة مشاة مسرعون . ولما كانوا يدخلونها من شدة ما تدفعهم الزبانية على هيئة الواثب قال مشيراً بالتعبير بالوصف مفرداً إلى أنهم في الموافقة فيه والتسابق كأنهم نفس واحدة : { مقتحم } أي رام بنفسه في الشدة بشدة فجاءة بلا روية كائناً { معكم } .
ولما كان أهل النار يؤذي بعضهم بعضاً بالشهيق والزفير والزحام والدفاع والبكاء والعويل وما يسيل من بعضهم على بعض من القيح والصديد وغير ذلك من أنواع النكد ، ولا سيما إن كانوا أتباعاً لهم في الدنيا ، فصاروا مثلهم في ذلك الدخول في الرتبة ، لا يتحاشون عن دفاعهم وخصامهم ونزاعهم ، قالوا استئنافاً : { لا مرحباً } ثم بينوا المدعو عليه فقالوا : { بهم } وهي كلمة واقعة في أتم مواقعها لأنها دالة على التضجر والبغضة مع الصدق في أهل مدلولها الذي هو مصادقة الضيق ، مفعل من الرحب مصدر ميمي وهو السعة ، أي لا كان بهم سعة أصلاً ولا اتسعت بهم هذه الأماكن ولا هذه الأزمان ولا حصلت لهم ولا بهم راحة ، ولذلك عللوا استحقاقهم لهذا الدعاء بقولهم مؤكدين لما كان استقر في نفوسهم وتطاول عليه الزمان من إنكارهم له : { إنهم صالوا النار * } أي ومن صليها صادف من الضيق ما لم يصادفه أحد وآذى كل من جاوره .

قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

ولما كان من المعلوم على ما جرت به العوائد أنهم يتأثرون من هذا القول فيحصل التشوق إلى ما يكون من أمرهم هل يجيبونهم أم تمنعهم هيبتهم على ما كانوا في الدنيا ، اعلم بما يعلم منه انقطاع الأسباب هناك ، فلا يكون من أحد منهم خوف من آخر ، فقال مستأنفاً : { قالوا } أي الأتباع المعبر عنهم بالفوج لسفولهم وبطون أمرهم : { بل أنتم } أي خاصة أيها الرؤساء { لا مرحباً } وبينوا بقولهم : { بكم } أي هذا الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به منا ، ثم عللوا قولهم بما أفهم أنهم شاركوهم في الضلال وزادوا عليهم بالإضلال فقالوا : { أنتم } أي خاصة { قدمتموه } أي الاقتحام في العذاب بما أقحمتمونا فيه من أسبابه وقدمتم في دار الغرور من تزيينه { لنا } ولما كان الاقتحام وهو الوثوب أو الدخول على شيء بسرعة كأنها الوثوب ينتهي منه إلى استقرار ، وكان الفريقان قد استقروا في مقاعدهم في النار ، سببوا عن ذلك قولهم : { فبئس القرار * } أي قراركم .
ولما كان قول الأتباع هذا مفهماً لأنهم علموا أن سبب ما وصلوا إليه من الشقاء هو الرؤساء ، وكان هذا موجباً لنهاية غيظهم منهم ، تشوف السامع لما يكون من أمرهم معهم؟ هل يكتفون بما أجابوهم به أو يكون أمنهم شيء آخر؟ فاستأنف قوله إعلاماً بأنهم لم يكتفوا بذلك وعلموا أنهم لا يقدرون على الانتقام منهم : { قالوا } أي الأتباع : { ربنا } أي أيها المحسن إلينا الذي منعنا هؤلاء عن الشكر له { من قدم لنا هذا } أي العذاب بما قدم لنا من الأسباب التي اقتحمناه ، وقدموا ذلك اهتماماً به وأجابوا الشرط بقولهم : { فزده } أي على العذاب الذي استحقه بما استحققنا به نحن وهو الضلال { عذاباً ضعفاً } أي زائداً على ذلك مثله مرة أخرى بالإضلال ، وقيدوه طلباً لفخامته بقولهم معبرين بالظرف لإفهام الضيق الذي تقدم الدعاء المجاب فيه به ليكون عذاباً آخر فهو أبلغ مما في الأعراف لأن السياق هنا للطاغين وهناك لمطلق الكافرين { في النار * } أي كائناً فيها ، وهذا مثل الآية الأخرى ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيراً أي مثل عذابنا مرّتين .
ولما ذكر من اقتحامهم في العذاب وتقاولهم بما دل على خزيهم وحسرتهم وحزنهم ، أعلم بما دل على زيادة خسرانهم وحسرتهم وهوانهم بمعرفتهم بنجاة المؤمنين الذين كانوا يهزؤون بهم ويذلونهم فقال : { وقالوا } أي الفريقان : الرؤساء والأتباع بعد أن قضوا وطرهم مما لم يغن عنهم شيئاً من تخاصمهم : { ما } أي أيّ شيء حصل { لنا } مانعاً في أنا { لا نرى } أي في المحل الذي أدخلناه { رجالاً } يعنون فقراء المؤمنين { كنا نعدهم } أي في دار الدنيا { من الأشرار * } أي الأراذل الذين لا خير فيهم بأنهم قد قطعوا الرحم ، وفرقوا بين العشيرة وأفسدوا ذات البين ، وغيروا الدين بكونهم لا يزالون يخالفون الناس في أقوالهم وأفعالهم ، مع ما كانوا فيه من الضعف والذل والهوان وسوء الحال في الدنيا ، فيظن أهلها نقص حظهم منه وكثرة مصائبهم فيها لسوء حالهم عند الله وما دروا أنه تعالى يحمي أحباءه منها كما يحمي الإنسان عليله الطعام والشراب ومن يرد به خيراً يصب منه .

ولما كانوا يسخرون من المؤمنين ويستهزئون بهم ، وهم ليسوا موضعاً لذلك ، بل حالهم في جِدهم وجَدهم في غاية البعد عن ذلك ، قالوا مستفهمين ، أما على قراءة الحرميين وابن عامر وعاصم فتحقيقاً ، وأما على قراءة غيرهم فتقديراً : { اتخذناهم } أي كلفنا أنفسنا وعالجناها في أخذهم { سخرياً } أي نسخر منهم ونستهزئ بهم - على قراءة الكسر ، ونسخرهم أي نستخدمهم على قراءة الضم ، وهم ليسوا أهلاً لذلك ، بل كانوا خيراً منا فلم يدخلوا هنا لعدم شرارتهم ، وكأنهم إلى تجويز كونهم في النار معهم ومنعهم من رؤيتهم أميل ، فدلوا على ذلك بتأنيث الفعل ناسبين خفاءهم عنهم إلى رخاوة في أبصارهم على قوتها في ذلك الحين فقالوا : { أم زاغت } أي مالت متجاوزة { عنهم } .
ولما كان تعالى يعيد الخلق في القيامة على غاية الإحكام في أبدانهم ومعانيها فتكون أبصارهم أحد ما يمكن أن تكون وأنفذه « اسمع بهم وابصر يوم يأتوننا فبصرك اليوم حديد » عدوا أبصارهم في الدنيا بالنسبة إليها عدماً ، فلذلك عرفوا قولهم : { الأبصار * } أي منا التي لا أبصار في الحقيقة سواها فلم نرها وهم فينا ومعنا في النار ولكن حجبهم عنا بعض أوديتها وجبالها ولهبها . ف { أم } معادلة لجملة السخرية ، وقد علم بهاذ التقدير أن معنى الآية إلى إنفصال حقيقي معناه : أهم معنا أم لا؟ فهي من الاحتباك : أثبت الاتخاذ المذكور الذي يلزمه بحكم العناد بين الجملتين عدم كون المستسخر بهم معهم في النار أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، وهو كونهم معهم فيها ، وأثبت زيغ الأبصار ثانياً اللازم منه بمثل ذلك كونهم معهم في النار دليلاً على ضده أولاً وهو كونهم ليسوا معهم ، وسر ذلك أن الموضع لتسحرهم ولومهم لأنفسهم ، في غلطهم والذي ذكر عنهم أقعد في ذلك .
ولما كان هذا أمراً رائعاً جداً زاجراً لمن له عقل فتأمله مجرداً لنفسه من الهوى ، وكانت الجدود تمنعهم عن التصديق به ، كان موضعاً لتأكيد الخبر عنه فقال : { إن ذلك } أي الأمر العظيم الذي تقدم الإخبار به { لحق } أي ثابت لا بد من وقوعه إذا وقع مضمونة وافق الواقع منه هذا الإخبار عنه ، ولما كان أشق ما فيه عليهم وأنكأ تخاصمهم جعله هو المخبر به وحده ، فقال مبيناً له مخبراً عن مبتدإ استئنافاً تقديره : هو { تخاصم أهل النار * } لأنه ما أناره لهم إلا الشر والنكد فسمي تخاصماً .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

ولما كانت قد جرت عادتهم عند التخويف أن يقولوا : عجل لنا هذا إن كنت صادقاً فينا ادعيت ، ومن المقطوع به أنه لا يقدر على ذلك إلا الإله فصاروا كأنهم نسبوه إلى أنه ادعى الإلهية ، قال تعالى منبهاً على ذلك آمراً له بالجواب : { قل } أي لمن يقول لك ذلك : { إنما أنا منذر } أي مخوف لمن عصى ، ولم أدّع أني إله ، ليطلب مني ذلك فإنه لا يقدر على مثله إلا الإله ، فهو قصر قلب للموصوف على الصفة ، وأفرد قاصراً للصفة في قوله : { وما } وأعرق في النفي بقوله : { من إله } أي معبود بحق لكونه محيطاً بصفات الكمال . ولما كان السياق للتوحيد الذي هو أصل الدين ، لفت القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه وأبين فقال : { إلا الله } وللإحاطة عبر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى ولو شاركه شيء لم يكن محيطاً وللتفرد قال مبرهناً على ذلك : { الواحد } أي بكل اعتبار فلا يمكن أن يكون له جزء أو يكون له شبيه محتاجاً مكافئاً { القهار * } أي الذي يقهر غيره على ما يريد ، وهذا برهان على أنه الإله وحده وأن آلهتهم بعيدة عن استحقاق الإلهية لتعددها وتكافئها بالمشابهة واحتياجها .
ولما وصف نفسه سبحانه بذلك ، دل عليه بقوله : { رب السماوات } أي مبدعها وحافظها على علوها وسعتها وإحكامها بما لها من الزينة والمنافع ، وجمع لأن المقام للقدرة ، وإقامة الدليل على تعددها سهل { والأرض } على سعتها وضخامتها وكثافتها وما فيها من العجائب .
ولما كان القائل مخيراً كما قال ابن مالك في الكافية الشافية عند اختلاط العقلاء بغيرهم في إطلاق ما شاء من « مَن » التي أغلب إطلاقها على العقلاء و « ما » التي هي بعكس ذلك ، وكان ربما وقع في وهم أن تمكنه تعالى من العقلاء دون تمكنه من غيرهم لما لهم من الحيل التي يحترزون بها عن المحذور ، وينظرون بها في عواقب الأمور ، أشار إلى أن حكمه فيهم كحكمه في غيرهم من غير فرق بالتعبير عنهم ب « ما » التي أصلها وأغلب استعمالها لمن لا يعقل ، وسياق العظمة بالوحدانية وآثارها دال على دخولها في العبادة قطعاً فقال : { وما بينهما } أي الخافقين من الفضاء والهواء وغيرهما من العناصر والنبات والحيوانات العقلاء وغيرها ، ربي كل شيء من ذلك إيجاداً وإبقاء على ما يريد وإن كره ذلك المربوب ، فدل ذلك على قهره ، وتفرده في جميع أمره .
ولما كان السياق للإنذار ، كرر ما يدل على القهر فقال : { العزيز } أي الذي يعز الوصول إليه ويغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، ولما ثبت أنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، وكانت دلالة الوصفين العظيمين على الوعيد أظهر من إشعارها بالوعد ، كان موضع قولهم ، فما له لا يعجل بالهلاك لمن يخالفه فقال : { الغفار * } أي المكرر ستره لما يشاء من الذنوب حلماً إلى وقت الماحي لها بالكلية بالنسبة إلى من يشاء من العباد كما فعل مع أكثر الصحابة رضي الله عنهم حيث غفر لهم ما اقترفوه قبل الإسلام .

ولما ثبت بهذا وحدانيته وقدرته ولم يزعهم ذلك عن ضلالهم ، ولا ردهم عن عتوهم ومحالهم ، مع كونه موجباً لأن يقبل كل أحد عليه ولا يعدل أبداً عنه ، قال آمراً له بما ينبههم على عظيم خطئهم : { قل هو } أي هذا الأمر الذي تلوته عليكم من الأخبار عن الماضي والآتي من القيامة المشتملة على التخاصم المذكور وغيرها والأحكام والمواعظ ، فثبت بمضمونه الوحدانية ، وتحقق بإعجازه مع ثبوت الوحدانية وتمام القدرة وجميع صفات الكمال أنه كلام الله : { نبؤا عظيم * } أي خبر يفوت الوصف في الجلال والعظم بدلالة العبارة والصفة لا يعرض عن مثله إلا غافل لا وعي له ولا شيء من رأى .
ولما كانوا يدعون أنهم أعظم الناس إقبالاً على الغرائب ، وتنقيباً عن الدقائق والجلائل من المناقب ، بكتهم بقوله واصفاً له : { أنتم عنه } أي خاصة لا عن غيره والحال أن غيره من المهملات ولما كان أكثرهم متهيئاً للإسلام والرجوع عن الكفران لم يقل : مدبرون ، ولا « يعرضون » بل قال : { معرضون * } أي ثابت لكم الإعراض في هذا الحين ، وقد كان ينبغي لكم الإقبال عليه خاصة والإعراض عن كل ما عداه لأن في ذلك السعادة الكاملة ، ولو أقبلتم عليه بالتدبر لعلمتم قطعاً صدقي وأني ما أريد بكم إلا السعادة في الدنيا والآخرة ، فبادرتم الإقبال إليّ والقبول لما أقول .
ولما قصر نفسه الشريفة على الإنذار ، وكانوا ينازعون فيه وينسبونه إلى الكذب ، دل على صدقه وعلى عظيم هذا النبأ بقوله : { ما كان لي } وأعرق في النفي بالتأكيد في قوله : { من علم } أي من جهة أحد من الناس كما تعرفون ذلك من حالي له إحاطة ما { بالملإ } أي الفريق المتصف بالشرف { الأعلى } وهم الملائكة أهل السماوات العلى وآدم وإبليس ، وكأن مخاطبة الله لهم كانت بواسطة ملك كما هو أليق بالكبرياء والجلال ، فصح أن المقاولة بين الملأ { إذ } أي حين ، ولما أفرد وصف الملأ إيذاناً بأنهم في الاتفاق في علو رتبة الطاعة كأنهم شيء واحد ، جمع لئلا يظن حقيقة الوحدة فقال : { يختصمون * } أي في شأن آدم عليه السلام ، أول خليفة في الأرض بل الخليفة المطلق ، لأن خلافه أولاده من خلافته ، وفي الكفارات الواقعة من بينه ، كما أنه ما كان لي من علم بأهل النار إذ يختصمون ، ولا بالخصم الذين دخلوا على داود عليه السلام الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض إذ يختصمون ، وقد علمت ذلك علماً مطابقاً للحق بشهادة الكتب القديمة وأنتم تعلمون أني لم أخالط عالماً قط ، فهذا علم من أعلام النبوة واضح في أني لم أعلم ذلك إلا بالوحي لكوني رسول الله وعبر هنا بالمضارع - وإن كان قد وقع ومضى من أول الدهر - تذكيراً بذلك الحال وإعلاماً بما هم فيه الآن من مثله في الدرجات ، كما سيأتي قريباً في الحديث القدسي ، وعبر في تخاصم أهل النار - وهو لم يأت - بالماضي تنبيهاً على أن وقوعه مما لا ريب فيه ، فكأنه وقع وفرغ منه لأنه قد فرغ من قضائه من لا يرد له قضاء ، لأنه الواحد فلا شريك له ولا منازع .

ولما كانوا ربما قالوا في تعنتهم : فلعله مثل ما أوحي إليك بعلم ما لم تكن تعلم ، يوحي إليك بالقدرة على ما لم تكن تقدر عليه ، فتعجل لنا الموت ثم البعث لنرى ما أخبرتنا به من التخاصم مصوراً ، لعلناً نصدقك فيما أتيت به ، قال مجيباً لهم قاصراً للوحي على قصره على النذارة وهي إبلاغ ما أنزل إليه ، لا تعجيل شيء مما توعدوا به : { إن } أي ما { يوحى } أي في وقت من الأوقات ، وبناه للمفعول لأن ذلك كاف في تنبيههم على موضع الإشارة في أن دعواه إنما هي النبوة لا الإلهية { إليّ إلا } ولما كان الوحي قولاً قرأ أبو جعفر بكسر { إنما أنا نذير } أي قصري على النذارة لا أني أنجز ما يتوعد به الله؛ فإنما مفعول يوحى القائم مقام الفاعل في القراءتين وإن اختلف التوجيهان فالتقدير على قراءة الجماعة بالفتح : إلا الإنذار أو إلا كوني نذيراً ، وعلى قراءة الكسر : إلا هذا القول وهو أني أقول لكم كذا { مبين * } أي لا أدع لبساً فيما ابلغه بوجه من الوجوه .

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)

ولما دل على أنه نذير ، وأزال ما ربما أوردوه عليه ، أتبعه ظرف اختصام الملأ الأعلى ، أو بدل « إذ » الأولى فقال : { إذ } أي حين { قال } ودل على أنه هذا كله إحسان إليه وإنعام عليه بذكر الوصف الدال على ذلك ، ولفت القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أقعد في المدح وأدل على أنه كلام الله كما في قوله : { قل من كان عدواً لجبريل } [ البقرة : 97 ] دليلاً يوهم أنه ظرف ليوحى أو لنذير فقال : { ربك } أي المحسن إليك بجعلك خير المخلوقين وأكرمهم عليه فإنه أعطاك الكوثر ، وهو كل ما يمكن أن تحتاج إليه { للملائكة } وهم الملأ الأعلى وإبليس منهم لأنه كان إذ ذاك معهم وفي عدادهم . ولما كانوا عالمين بما دلهم عليه دليل من الله كما تقدم في سورة البقرة أن البشر يقع منه الفساد ، فكانوا يبعدون أن يخلق سبحانه من فيه فساد لأنه الحكيم الذي لا حكيم سواه ، أكد لهم سبحانه قوله : { إني خالق بشراً } أي شخصاً ظاهر البشرة لا ساتر له من ريش ولا شعر ولا غيرهما ليكون التأكيد دليلاً على ما مضى من مراجعتهم لله تعالى التي أشار إليها بالاختصام ، وبين أصله بقوله معلقاً بخالق أو بوصف بشر : { من طين * } اجعله خليفتي في الأرض وإن كان في ذلك فساد لأني أريد أن أظهر حلمي ورحمتي وعفوي وغير ذلك من صفاتي التي لا يحسن في الحكمة إظهارها إلا مع الذنوب « لو لم تذنبوا فتستغفروا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم » قال القشيري : وإخباره للملائكة بذلك يدل على تفخيم شأن آدم عليه السلام لأنه خلق ما خلق من الكونين والجنة والنار والعرش والكرسي والملائكة ، ولم يقل في صفة شيء منها ما قاله في صفة آدم عليه السلام وأولاده ، ولم يأمر بالسجود لشيء غيره .
ولما أخبرهم سبحانه بما يريد أن يفعل ، سبب عنه قوله : { فإذا سويته } أي هيأنه بإتمام خلقه لما يراد منه من قبول الروح وما يترتب عليه { ونفخت فيه من روحي } فصار حساساً متنفساً ، سبه سبحانه إفاضته الروح بما يتأثر عن نفخ الإنسان من لهب النيران ، وغير ذلك من التحريك والإسكان ، والزيادة والنقصان ، وأضافه سبحانه إليه تشريفاً له ، { فقعوا له } أي خاصة { ساجدين * } أي اسجدوا له للتكرمة امتثالاً لأمري سجوداً هو بغاية ما يكون من الطواعية والاختيار والمحبة لتكونوا كأنكم وقعتم بغير اختيار ، ففعلوا ما أمرهم به سبحانه من غير توقف ، ولذلك ذكر فعلهم مع جواز تأنيثه فقال : { فسجد } أي عند ما نفخ فيه الروح { الملائكة } على ما أمرهم الله ، ولما كان إسناد الخبر إلى الجميع قد يراد به أكثرهم ، أكد بقوله : { كلهم } إرادة لرفع المجاز .

ولما كان لا يقدح في ذلك واحد مثلاً أو قليل لا يعبأ بهم لضعف أو نحوه ، رفع ذلك بقوله : { أجمعون* } مع إفادة أن السجود كان في آن واحد إعلاماً بشدة انقيادهم ، وحسن تأهبهم للطاعة واستعدادهم ، ثم زاد في إيضاح العموم بالاستثناء الذي هو معياره فقال : { إلا إبليس } عبر عنه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى أنه في أول خطاب الله له بالإنكار عليه على كيفية علم منها تأبد الغضب عليه وتحتم العقوبة له .
ولما عرف بالاستثناء أنه لم يسجد ، وكان مبنى السورة على استكبار الكفرة بكونهم في عزة وشقاق ، بين أن المانع له من السجود الكبر تنفيراً عنه مقتصراً في شرح الاختصام عليه وعلى ما يتصل به فقال : { استكبر } أي طلب أن يكون أكبر من أن يؤمر بالسجود له وأوجد الكبر على أمر الله ، وكان من المستكبرين العريقين في هذا الوصف كما استكبرتم أيها الكفرة على رسولنا ، وسنرفع رسولنا صلى الله عليه وسلم كما رفعنا آدم صفينا عليه السلام على من استكبر عن السجود له ، ونجعله خليفة هذا الوجود كما جعلنا آدم عليه السلام ، وأشرنا إلى ذلك في هذه السورة بافتتاحها بخليفة واختتامها بخليفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر كل من أحوالهما .
ولما كان الفعل الماضي ربما أوهم أنه حدث فيه وصف لم يكن ، وكان التقدير : فكفر بذلك ، عطفاً عليه بياناً لأنه جبل على الكفر ولم يحدث منه إلا ظهور ذلك للخلق قوله : { وكان } أي جبلة وطبعاً { من الكافرين * } أي عريقاً في وصف الكفر الذي منشؤه الكبر على الحق المستلزم للذل للباطل ، فالآية من الاحتباك : ذكر فعل الاستكبار أولاً ، دليلاً على فعل الكفر ثانياً ووصف الكفر ثانياً دليلاً على وصف الاستكبار أولاً ، وسر ذلك أن ما ذكره أقعد في التحذير بأن من وقع منه كبر جره إلى الكفر .

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)

ولما كان من خالف أمر الملك جديراً بأن يحدث إليه أمر ينتقم به منه ، فتشوف السامع لما كان من الملك إليه ، استأنف البيان لذلك بقوله : { قال } وبين أنه بمحل البعد بقوله : { يا } وبين يأسه من الرحمة ، وأنه لا جواب له اصلاً بتعبيره بقوله : { إبليس ما } أي ، أي شيء { منعك أن تسجد } وبين ما يوجب طاعته ولو أمر بتعظيم ما لا يعقل بقوله معبراً بأداة ما لا يعقل عمن كان عند السجود له عاقلاً كامل العقل : { لما خلقت } فأنا العالم به وبما يستحقه دون غيري ، وما أمرت بالسجود له إلا لحكمة في الأمر وابتلاء للغير ، وأكد بيان ذلك بذكر اليد وتثنيتها فقال : { بيدي } أي من غير توسط سبب من بين هذا النوع وما ذاك إلا لمزيد اختصاص ، والمراد باليد هنا صفة شريفة غير النعمة والقدرة معلومة له سبحانه ولمن تبحر في علمي اللغة والسنّة ، خص بها خلق آدم عليه السلام تشريفاً له وفي تثنية اليد إشارة إلى أنه ربما أظهر فيه معاني الشمال وإن كان كل من يديه مباركاً ، ثم قسم المانع إلى طلب العلو ووجود العلو مع الإنكار عليه في الاستناد إلى شيء منهما ، فقال في صيغة استفهام التقرير مع الإنكار والتقريع ، بياناً لأنه يلزمه لا محالة زيادة على ما كفر به أن يكون على أحد هذين الأمرين : { أستكبرت } أي طلبت أن تكون أعلى منه وأنت تعلم أنك دونه فأنت بذلك ظالم ، فكنت من المستكبرين العريقين في وصف الظلم ، فإن من اجترأ على أدناه أوشك أن يصل إلى أعلاه { أم كنت } أي مما لك من الجبلة الراسخة { من العالين * } أي الكبراء المستحقين للكبر وأنا لا أعلم ذلك فنقصتك من منزلتك فكنت جائراً في أمري لك بما أمرتك به ، فلذلك علوت بنفسك فلم تسجد له ، هذا المراد لا ما يقوله بعض الملاحدة من أن العالين جماعة من الملائكة لم يسجدوا لأنهم لم يؤمروا لأن ذلك قدح في العموم المؤكد هذا التأكيد العظيم ، وفي تفسير العلماء له من غير شبهة ، والآية من الاحتباك؛ دل فعل الاستكبار أولاً على فعل العلو ثانياً ، ووصف العلو ثانياً على وصف الاستكبار أولاً ، وسر ذلك ان إنكار الفعل المطلق مستلزم لإنكار المقيد لأنه المطلق بزيادة ، وإنكار الوصف مستلزم لإنكار الفعل لأنه جزوه مع أن إنكار الفعل من هذا مستلزم لإنكار الفعل من ذاك ، فيكون كل من الفعلين مدلولاً على إنكاره مرتين : تارة بإنكار فعل عديله وأخرى بإنكار وصفه نفسه والوصفان كذلك وفعل الكبر أجدر بالإنكار من فعل العلو و « أم » معادلة لهمزة الاستفهام وإن حذفت من قراءة بعضهم لدلالة « أم » عليها وإن اختلف الفعل ، قال أبو حيان : قال سيبويه : تقول : أضربت زيداً أم قتلته ، فالبدء هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيهما كان ، ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت : أي ذلك كان - انتهى .

ولما صدعه سبحانه بهذا الإنكار ، دل على إبلاسه بقوله مستأنفاً : { قال } مدعياً لأنه من العالين : { أنا خير منه } أي فلا حكمة في أمري بالسجود له ، ثم بين ما ادعاه بقوله : { خلقتني من نار } أي وهي في غاية القوة والإشراق { وخلقته من طين * } أي وهو في غاية الكدورة والضعف ، واستؤنف بيان ما حصل التشوف إليه من علم جوابه بقوله معرضاً عن القدح في جوابه لظهور سقوطه بأن المخلوق المربوب لا اعتراض له على ربه بوجه : { قال فاخرج } أي بسبب تكبرك ونسبتك الحكيم الذي لا اعتراض عليه إلى الجور { منها } أي من الجنة محل الطهر عن الأدواء الظاهرة والباطنة ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل ادعاء أنه أهل لأقرب القرب : { فإنك رجيم * } أي مستحق للطرد والرجم وهو الرمي بالحجارة الذي هو للمبالغة في الطرد .
ولما كان الطرد قد يكون في وقت يسير ، بين أنه دائم بقوله ، مؤكداً إشارة إلى الإعلام بما في نفسه من مزيد الكبر : { وإن عليك } أي خاصة . ولما كان السياق هنا للتكلم في غير مظهر العظمة لم يأت بلام الكلام بخلاف الحجر فقال : { لعنتي } أي إبعادي مع الطرد والخزي والهوان والذل مستعل ذلك عليك دائماً قاهراً لك لا تقدر على الانفكاك عنه بوجه ، وأما غيرك فلا يتعين للعن بل يكون بين الرجاء والخوف لا علم للخلائق بأنه مقطوع بلعنة ما دام حياً إلا من أخبر عنه نبي من الأنبياء بذلك ، ثم غيى هذا اللعن بقوله : { إلى يوم الدين * } أي فإذا جاء ذلك اليوم أخذ في المجازاة لكل عامل بما عمل ولم يبق لمذنب وقت يتدارك فيه ما فاته ، وحينئذ يعلم أهل الاستحقاق للعن كلهم ، ولم يبق علم ذلك خاصاً بإبليس ، بل يقع العلم بجميع أهل اللعنة ، فالغاية لعلم الاختصاص باللعن لا للعن .
ولما كان ذلك ، تشوف السامع إلى ما كان منه فأخبر سبحانه به في سياق معلم أنه منعه التوفيق فلم يسأل التخفيف ولا عطف نحو التوبة ، بل أدركه الخذلان بالتمادي في الطغيان ، فطلب ما يزداد به لعنة من الإضلال والإعراق في الضلال ضد ما أنعم به على آدم عليه السلام ، فقال ذاكراً صفة الإحسان والتسبيب لسؤال الإنظار لما جرأه عليهما من ظاهر العبارة في أن اللعنة مغباة بيوم الدين : { قال رب } أي أيها المحسن إليّ بإيجادي وجعلي في عداد الملائكة الكرام { فأنظرني } أي بسبب ما عذبتني به من الطرد { إلى يوم يبعثون * } أي آدم وذريته الذين تبعثهم ببعث جميع الخلائق : { قال } مؤكداً لأن مثل ذلك في خرقه للعادة لا يكاد يتصور : { فإنك } أي بسبب هذا السؤال { من المنظرين * } وهذا يدل أن مثل هذا الإنظار لغيره أيضاً .

إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

ولما دبج في عبارته بما يقتضي السؤال في أن لا يموت ، فإن يوم البعث ظرف لفيض الحياة لا لغيضها ولبسطها لا لقبضها ، منعه ذلك بقوله : { إلى يوم الوقت } ولما كان تدبيجه في السؤال قد أفهم تجاهله بما هو أعلم الخلق به من تحتم الموت لكل من لم يكن في دار الخلد الذي أبلغ الله تعالى في الإعلام به ، قال : { المعلوم * } وهو الصعقة الأولى وما يتبعها .
ولما كانت هذه الإجابة سبباً لأن يخضع وينيب شكراً عليها ، وأن يطغى ويتمرد ويخيب لأنها تسليط ، وتهيئة للشر ، فاستشرف السامع إلى معرفة ما يكون من هذين المسببين ، عرف أنه منعه الخذلان من اختيار الإحسان بقوله : { قال فبعزتك } أي التي أبت أن يكون لغيرك فعل لا بغير ذلك ، ويجوز أن تكون الباء للقسم { لأغوينهم } أي ذرية آدم عليه السلام { أجمعين * } قال القشيري : ولو عرف عزته لما أقسم بها على مخالفته .
ولما كان عالماً بأن القادر ما خلق آدم عليه السلام وشرفه بما شرفه به ليشقي ذريته كلهم قال : { إلا عبادك } فأضافهم إليه سبحانه تنبيهاً على أن غيرهم قد انسلخوا من التشرف بعبوديته بالنسبة إلى من أطاعوه . ولما كان يمكن أن يكون المستثنى ، من غير البشر قيد بقوله : { منهم المخلصين * } أي الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته فأخلصوا قصدهم لها ، وعرف من الاستثناء أنهم قليل وأن الغواة هم الأصل .
ولما حصل التشوف إلى جوابه ، دل عليه بقوله : { قال فالحق } أي فبسبب إغوائك وغوايتهم أقول الحق { والحق } أي لا غيره أبداً { أقول * } أي لا أقول إلا الحق ، فإن كل شيء قلته ثبت ، فلم يقدر أحد على نقضه ولا نقصه . ولما كانت إجابته بالإنظار ربما كانت سبباً لطمعه في الخلاص ، قطع رجاءه بما أبرزه في أسلوب التأكيد من قوله جواباً لقسم مقدر وبياناً للحق ، وفي قراءة عاصم وحمزة برفع { فالحق } يكون هو المقسم به أي فالحق قسمي ، والجواب { لأملأن } وما بينهما اعتراض مبين أن هذا مما لا يخلف اصلاً { جهنم } أي النار العظيمة التي من شأنها تجهم من حكم بدخوله إياها { منك } أي نفسك وكل من كان على شاكلتك من جنسك من جميع الجن { وممن } .
ولما كان الأغلب على سياقات هذه السورة سلامة العاقبة ، كان توحيد الضمير في { تبع } أولى ، وليفهم الحكم على كل فرد ثم الحكم على المجموع فقال : { تبعك } ولما كان ربما قال متعنت : إن المالىء لجهنم من غير البشر قال : { منهم } أي الناس الذين طلبت الإمهال لأجلهم ، وأكد ضمير { منك } والموصول في { ممن } بقوله : { أجمعين * } لا تفاوت في ذلك بين أحد منكم ، وهذا الخصام الذي بين سبحانه أنه كان بين الملأ الأعلى كان سبباً لهم إلى انكشاف علوم كثيرة منها أن السجود والتحيات والاستغفار والكفارات سبب الوصول إلى الله والقربات ، فصاروا بعد ذلك يختصمون فيها ، فكانت هذه القضية سبباً لاطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أسرار الملك والملكوت ، وإلى ذلك الإشارة بالحديث الذي رواه أحمد والترمذي - وقال : حسن غريب - والدارمي والبغوي في تفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« إني نعست فاستثقلت نوماً فأتاني ربي » - وفي رواية؛ « آتٍ من ربي - في أحسن صورة ، فقال لي يا محمد ، قلت : لبيك ربي وسعديك ، قال : هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، فقلت لا يا رب » - وفي رواية : « قلت : أنت أعلم أي رب مرتين - قال : فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي - أو قال : نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض » - وفي رواية : « ما بين المشرق والمغرب » - وفي رواية الدارمي والبغوي : « ثم تلا هذه الآية { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } قال : يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، قلت : نعم ، في الدرجات والكفارات ، قال : وما هن؟ قلت : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإسباغ الوضوء في المكاره » - وفي رواية : « في السبرات - وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال : من فعل ذك عاش بخير ومات بخير ، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه ، وقال : يا محمد ، قلت : لبيك وسعديك ، قال : إذا صليت فقل » اللهم إني أسالك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون « قال : » والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام « ، قال المنذري : الملأ الأعلى : الملائكة المقربون ، والسبرات - بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة : جمع سبرة ، وهي شدة البرد ، وعزاه شيخنا في تخريج أحاديث الفردوس إلى أحمد والترمذي عن معاذ رضي الله عنه أيضاً وقال : وفي الباب عن ثوبان رضي الله عنه عند أحمد بن منيع وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، وأبي رافع وأبي أمامة وأبي عبيدة وأسامة وجابر بن سمرة وجبير بن مطعم وأسامة بن عمير وأنس رضي الله عنهم عند أحمد ، فهذا اختصام سبب العلم بتفاصيله الاختصام الأول وهو ما في شأن آدم عليه السلام وذريته ، والعلم الموهوب لمحمد صلى الله عليه وسلم بسبب السؤال عن هذا الاختصام كالعلم الموهوب لأبيه آدم عليه عليه السلام بسبب ذلك الاختصام ، وهذا الاختصام - والله أعلم - هو اختلافهم في مقادير جزاء العاملين من الثواب المشار إليه بالدرجات الحامل عليها العقل الداعي إلى أحسن تقويم ، والعقاب المشار إليه بالكفارات الداعي إلى أسبابها الوساوس الشيطانية الرادة إلى أسفل سافلين التي سأل إبليس الإنظار لأجلها ، وسبب اختلافهم في مقادير الجزاء اختلاف مقادير الأعمال الباطنة من صحة النيات وقوة العزائم وشدة المجاهدات ولينها على حسب دواعي الحظوظ والشهوات التي كان سبب علمهم بهذا الاختصام في أمر آدم عليه السلام وما نشأ عنه تفصيله بأمور دقيقة المأخذ المظهرة لأن الفضل ليس بالأمور الظاهرة وإنما هو بما يهبه الله من الأمور الباطنة وسمي تقاولهم في ذلك اختصاماً دلالة على عظمة ما تقاولوا فيه ، لأن الخصومة لا تكون إلا بسبب أمر نفيس ، فالمعنى أن الملائكة كل واحد منهم مشغول بما أقيم فيه من الخدمة ، فليس بينهم تقاول يكون بغاية الجد والرغبة كما هو شأن الخصام إلا في هذا لشدة عجبهم منه لما يعملون من صعوبة هذه الأمور على الآدمي لما عنده من الشواغل والصوارف عنها بما وهبهم الله من العلم جزاء لانقيادهم للطاعة بالسجود بعد ذلك الخصام فنزوع الآدمي عن صوارفه وحظوظه إلى ما للملائكة من الصفوف في الطاعة والإعراض أصلاً عن المعصية غاية في العجب ، وعلمه صلى الله عليه وسلم لما في السماوات وما في الأرض علم عام لما كان في حين الرؤيا ظهر له به ملكوتهما ، ونسبة ذلك كله إلى علم الله تعالى كالنسبة التي ذكرها الخضر لموسى عليهما السلام في نفرة العصفور من البحر ، والذي ذكره العلماء في ذلك أنه تقريب للإفهام فإنه لا نسبة في الحقيقة لعلم أحد من علمه تعالى ولا بنقص علمه أصلاً سبحانه عما يلم بنقص أو يدني إلى وهن

{ قل لو كان البحر مداداً } [ الكهف : 109 ] { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام } [ لقمان : 27 ] { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا } [ المائدة : 109 ] ويقال للنبي صلى الله عليه وسلم في ناس اختلجوا دونه عن حوضه « إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فيقول : فسحقاً سحقاً » .
ولما تم ما أراد من الدليل على أن ما ذكره لهم نبأ عظيم هم عنه معرضون بما أخبر به من الغيب مع ما له من الإعجاز ، فثبت بذلك ما اقتضى أنه صادق في نسبته إلى الله تعالى ، وختم بالتحذير من اتباع إبليس ، أمره بالبراءة من طريقه وأن ينفي عن نفسه ما قد يحمل على التقول بقوله : { قل } أي لأمتك : { ما أسئلكم } سؤالاً مستعلياً ، وعلق به لا « بأجر » قوله : { عليه } أي على التبليغ والإنذار مما أنتم متعرضون له من الهلاك بالإعراض ، فأداة الاستعلاء للاحتراز عن سؤال المودة في القربى وحسن الاتباع فإنهما مسؤولان وهما روح الدين ، ولكن سؤالهما ليس مستعلياً على الإبلاغ بحيث إنهما لو انتفيا انتفى ، وأعرق في النفي بقوله : { من أجر } أي فيكون لكم في الرد شبهة { وما أنا من المتكلفين * } أي المتحلين بما ليسوا من أهله من قول ولا فعل ، الذين يكلفون أنفسهم تزوير الكلام والتصنع فيه وترتيبه على طريق من الطرق بنظم أو نثر سجع أو خطب أو غير ذلك ، أو وضع أنفسهم في غير مواضعها ، كما فعل إبليس ، لست منهم بسبيل ولا أعد في عدادهم بوجه ، لا أفعل أفعالهم ولا أحبهم ولا أتعصب لهم ، فهو أبلغ من « وما أنا متكلفاً » قد عرفتموني طول عمري كذلك ، ومن المعلوم أن ذلك لو كان في غريزتي لما كففت عنه طول زماني النمو من الصبي والشباب اللذين توجد فيهما الغرائز ولا توجد بعدهما ، فإذا ثبت أن ذلك لم يكن لي إذ ذاك ثبت أنه متعذر بعده ، لما تقرر من أنه لا توجد غريزة بعد الوقوف عن النمو في سن الثلاث والأربعين ، فإذا علم أني لست كذلك علم أني مأمور بما أنا فيه من القول والفعل ، فأنا من المكلفين لا المتكلفين ، فكل من قال أو فعل ما لم يؤمر به فهو متكلف ، وروى الثعلبي بسنده من حديث سلمة بن نفيل رضي الله عنه مرفوعاً والبيهقي في الشعب من قول علي بن أرطاة وأبو نعيم في الحلية من قول وهب : علامة المتكلف ثلاث : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم .

ولما أثبت المقتضيات لأنه من عند الله وأزال الموانع ، بين حقيقته التي لا يتعداها إلى ما نسبوه إليه بقوله : { إن } أي ما { هو إلا ذكر } أي عظة وشرف { للعالمين * } أي كلهم يفهم كل فرد ما تحتمله قواه ذكياً كان أو غبياً على ما هو عليه من العلو الذي لا يدانيه فيه كلام بخلاف الشعر والكهانة التي محطها السجع والكذب في الإختبار ببعض المغيبات ، فإنهما مع سفول رتبتهما لا يفهمهما من العالمين إلا ذاك وذاك .
ولما كان التقدير : أنا عالم بذلك ، عطف عليه قوله جواباً لقسم : { ولتعلمن } أي أنتم أيضاً { نبأه } أي صدقي في جميع ما أنبأتكم به فيه وعنه من الأخبار العظيمة وفيما أشار إليه افتتاح هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة بخليفة وختامهم بخليفة من أن عزتكم تصير إلى ذل وشقاقكم يصير إلى مسالمة وألفة ، وكثرتكم تصير إلى قل ، وأن ما أنا فيه الآن يفضي بي إلى خلافة الله في أرضه ، وأن أوسط أمري يصير إلى مثل خلافة الأول في جميع جزيرة العرب التي هي أرض المسجد الأعظم الذي هو قبل المسجد الأقصى الذي هو محل خلافته ، ثم يزاد أمر خلافتي في سائر البلاد ولا يزال حتى يعم الأرض بطولها والعرض على يد ابنه عيسى عليه السلام خاتمة أكابر أتباعي وأنصاري وأشياعي ، وترك الجار إعلاماً باستغراق العلم لزمان البعد فقال : { بعد حين * } أي مبهم عندكم معلوم لي في الدنيا إذا ظهر عبادي عليكم وفي الآخرة مطلقاً ، وإنما أخروا إلى هذا الحين ليبلغ في الإعذار إليهم فتنقطع حججهم وتتناهى ذنوبهم التي يستحقون الأخذ بها ، ولقد والله علموا ذلك ثم ندموا من مات منهم ومن عاش قبل مضي عشرين سنة من إعلاء كلمته وإظهار رسالته وإتمام دينه ، واستمر العلم لهم ولمن بعدهم بما بث فيه من العلوم ، وجمع فيه من شريف الرسوم ، وأظهر مما تقدم الوعد به فيه إلى هذا الزمان ، وإلى أن يفنى كل فان ، ثم يبعثوا إلى الجنان أو النيران ، فقد أثبتت هذه الآية من كون القرآن ذكراً ما أثبتته أول آية فيها على أتم وجه مع زيادة الوعيد ، فانعطف الآخر على الأول ، واتصل به أحسن اتصال وأجمل ، ونظر إلى أول الزمر أعظم نظر وأكمل ، فللّه در هذا الانتظام ، فهو لعمري أضوأ من شمس الضحى وأتم من بدر التمام ، فسبحان من أنزله و - أجمله وفصله ، وفضله وشرفه وكرمه - والله أعلم .

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)

لما تبين من التهديد في ص أنه سبحانه قادر على ما يريد ، ثم ختمها بأن القرآن ذكر للعالمين ، وأن كل ما فيه لا بد أن يرى لأنه واقع لا محالة لكن من غير عجلة ، فكانوا ربما قال متعنتهم : ما له إذا كان قادراً لا يعجل ما يريده بعد حين ، علل ذلك بأنه { تنزيل } أي بحسب التدريج لموافقة المصالح في أوقاتها وتقريبه للأفهام على ما له من العلو حتى صار ذكراً للعالمين ، ووضع موضع الضمير قوله : { الكتاب } للدلالة على جمعه لكل صلاح ، أي لا بد أن يرى جميع ما فيه لأن الشأن العظيم إنزاله على سبيل التنجيم للتقريب في فهمه وإيقاع كل شيء منه في أحسن أوقاته من غير عجلة ولا توان ، ثم أخبر عن هذا التنزيل بقوله : { من الله } أي المتصف بجميع صفات الكمال { العزيز } فلا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء { الحكيم * } الذي يضع الأشياء في محالها التي هي أوفق لها ، فلكونه منه لا من غيره كان ذكراً للعالمين ، صادقاً في كل ما يخبر به ، حكيماً في جميع أموره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما بنيت سورة ص على ذكر المشركين وعنادهم وسوء ارتكابهم واتخاذهم الأنداد والشركاء ، ناسب ذلك ما افتتحت به سورة الزمر من الأمر بالإخلاص الذي هو نقيض حال من تقدم ، وذكر ما عنه يكون وهو الكتاب ، فقال تعالى { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين } { ألا لله الدين الخالص } وجاء قوله تعالى { والذين اتخذوا من دونه أولياء } - الآية في معرض أن لو قيل : عليك بالإخلاص ودع من أشرك ولم يخلص ، فسترى حاله ، وهل ينفعهم اعتذارهم بقولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وهؤلاء هم الذين بنيت سورة ص على ذكرهم ، ثم وبخهم الله تعالى وقرعهم فقال { لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى } - الآية ، فنزه نفسه عن عظيم مرتكبهم بقوله سبحانه { هو الله الواحد القهار } ثم ذكر بما فيه أعظم شاهد من خلق السماوات والأرض وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل وذكر آيتي النهار والليل ثم خلق الكل من البشر من نفس واحدة ، وهي نفس آدم عليه السلام ، ولما حرك تعالى إلى الاعتبار بعظيم هذه الآيات وكانت أوضح شيء وأدل شاهد ، عقب ذلك بما يشير إلى معنى التعجب من توقفهم بعد وضوح الدلائل ، ثم بين تعالى أنه غني من الكل بقوله { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } ثم قال { ولا يرضة لعباده الكفر } فبين أن من اصطفاه وقربه واجتباه من العباد لا يرضى له بالكفر ، وحصل من ذلك مفهوم الكلام أن الواقع من الكفر إنما وقع بإرادته ورضاه لمن ابتلاه به ثم أنس من آمن ولم يتبع سبيل الشيطان وقبيلته من المشار إليهم في السورة قبل فقال تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى }

{ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } [ الأسراء : 7 ] { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ثم تناسجت الآي والتحمت الجمل إلى خاتمة السورة - انتهى .
ولما أخبر أنه من عنده ، علل ذلك بما ثبت به جميع ما مضى من الخير ، فقال صارفاً القول عن الغيبة منبهاً على زيادة عظمته بذكر إنزاله ثانياً ، مبرزاً له في أسلوب العظمة مختبراً أنه خص به أعظم خلقه ، معبراً بالإنزال الظاهر في الكل تجوزاً عن الحكم الجازم الذي لا مرد له : { إنا } أي على ما لنا من العظمة { أنزلنا } أي بما لنا من العظمة ، وقرن هذه العظمة بحرف الغاية المقتضي للواسطة إشارة إلى أن هذا كان في البداية بدلالة اتباعه بالأمر بالعبادة ، بخلاف ما يأتي في هذه السورة فإنه للنهاية بصيرورته خلقاً له صلى الله عليه وسلم ، فكان بحرف الاستعلاء أنسب دلالة على أن ثقله الموجب لتفطر القدم وسبب اللمم خاص به صلى الله عليه وسلم ، ومن قرب منه ويسره وسهولته لأمته فقال : { إليك } أي خاصة بواسطة الملك ، لا يقدر أحد من الخلق أن يدعي مشاركتك في شيء من ذلك ، فتكون دعواه موجبة لنوع من اللبس ، وأظهر موضع الإضمار تفخيماً بالتنبيه على ما فيه من جمع الأصول والفروع واللطائف والمعارف { الكتاب } أي الجامع لكل خير مع البيان القاطع والحكم الجازم بالماضي والآتي ، والكائن ، متلبساً { بالحق } وهو مطابقة الواقع لجميع أخباره ، فالواقع تابع لأخباره ، لا يرى له خبر إلا طابقه مطابقة لاخفاء بشيء منها ، لا حلية له ولا لباس إلا الحق ، فلا دليل على كونه من عنده من ذلك ، فليتبعوا خبره ، ولينظروا عينه وأثره .
ولما ثبت بهذا أنه خصه سبحانه بشيء عجز عنه كل أحد ، ثبت أنه سبحانه الإله وحده ، فتسبب عن ذلك قوله لفتاً للقول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه بلحظ جميع صفات الكمال لأجل العبادة تعظيماً لقدرها لأنها المقصود بالذات : { فاعبد الله } أي الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك { مخلصاً } والإخلاص هو القصد إلى الله بالنية بلا علة { له } أي وحده { الدين * } بمعانقة الأمر على غاية الخضوع لأنه خصك بهذا الأمر العظيم فهو أهل منك لذلك وخسأ عنك الأعداء ، فلا أحد منهم يقدر على الوصول إليك بما يوهن شيئاً من أمرك فأخلص لتكون رأس المخلصين الذين تقدم آخر سورة ص أنه لا سبيل للشيطان عليهم وتقدم ذكر كثير من رؤوسهم ، ووقع الحث على الاقتداء بهم بما ذكر من أمداحهم لأجل صبرهم في إخلاصهم ، قال الرازي : قال الجنيد : الإخلاص أصل كل عمل وهو مربوط بأول الأعمال ، وهو تصفية النية ومنوط بأواخر الأعمال بأن لا يلتفت إليها ولا يتحدث بها ويضمر في جميع الأحوال ، وهو إفراد الله بالعمل ، وفي الخبر « أنا أغنى الشركاء عن الشرك » .

ولما أمره سبحانه بهذا الأمر ، نادى باستحقاقه لذلك وأنه لم يطلب غير حقه ، وأن ذلك لا يتصور أن يكون لغيره ، فقال في جواب من كأنه قال : لم منعه من الالتفات إلى غيره؟ منادياً إشارة إلى أنه لا مكافئ له فلا يسع أحداً يبلغه هذا النداء إلا الخضوع طائعاً أو كارهاً : { ألا لله } أي الملك الأعلى وحده { الدين الخالص } لأنه له الأمر والخلق لا يشركه فيه أحد ، فكما تفرد بأن خلقك وخلق كل ما لك من شيء فكذلك ينبغي أن تفرده بالطاعة ، ولأنه إذا عبده أحد مخلصاً كفاه كل شيء ، وأما غيره فلو أخلص له أحد لم يمكن أن يكفيه شيئاً من الأشياء فضلاً عن كل شيء والدين الذي هو أهل للإخلاص هو الإسلام الذي كان في كل ملة المنبني على القواعد الخمس المثبتة بالإخلاص المحض الناشئ من المراقبة في الأوامر والنواهي وجميع ما يرضي الشارع للدين أو يسخطه ، فتكون جملته لله من غير شهوة ظاهرة أو باطنة في شهرة ولا غيرها ، وإنما استحقه سبحانه دون غيره لأنه هو الذي شرعه ولا أمر لأحد معه فكيف يشركه من لا أمر له بوجه من الوجوه ، وأما ما كان فيه أدنى شرك فهو رد على عامله والله غني حميد ، وهذه كما ترى مناداة لعمري تخضع لها الأعناق فتنكس الرؤوس ولا يوجد لها جواب إلا بنعم وعزته وأي وكبريائه وعظمته ، قال القشيري : وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد اللهم إلا أن يكون بأمره فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فأطاعه لا يخرج عن الاحتساب باحتسابه أمره فيه ، ولولا هذا لما صح أن يكون في العالم مخلص ، قال ابن برجان : وذلك - أي ترك الإخلاص - كله مولد عن حب البقاء في الدنيا ونسيان لقاء الله تعالى ، ثم قال ما معناه : إن ذلك من الشرك ، وهو ثلاثة أنواع : شرك في الإلهية وهو أن يرى مع الله إلهاً آخر ، وهو شرك المجوس والمجسمة : والوثنية ، ويضاهيه غلط القدرية ، الثاني شرك في العبادة بالرياء وإضافة العمل إلى النفس ، والثالث الشرك الخفي وهو الشهوة الخفية ، وهو أن يخفي العمل ويخاف من إظهار ويحب لو اطلع عليه ومدح بأسراره ، ومن أحسن العون على الإخلاص الحياء من الله أن تتزين لغيره بعمل ألهمك إياه وقواك عليه وخلت فيه وزعمت تطلب التقرب إليه فأتاك عدوه إبليس الذي عاداه فيك فتطيعه فيما يضرك ولا ينفعك ، فاستعن على عبادتك بالستر فاستر حسناتك كما تستر سيئاتك ، فإن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفاً ، وذلك كالشجرة إذا ظهرت عروقها ضعف شربها ، وأضر بها حرارة الهواء وبرده ، وتعرضت للآفات من قطع ويبس وغير ذلك ولم تحسن فروعها وخف ورقها فقل نفعها ، وإذا غاصت عروقها غابت عن الآفات وأمنت القطع من أيدي الناس ، فكثر شربها فجرى ماؤها فيها ، فتزايدت لذلك فروعها واخضر ورقها وكثر خيرها وطاب ثمرها لجانيها ، فكذلك العمل إذا كانت له أصول في القلب مستورة زكا في نفسه وطهر من الأدناس وكثر خيره وطاب ثوابه لعامله ، وإذا بدا لم يؤمن عليه من أبصار الناظرين ، وإذا خفي لم يبق ما يخاف منه إلا العجب ومحبة أن يطلع عليه ، وهي الشهوة الخفية ، ومن قولهم « من عرف الله بعد الضلالة وعرف الإخلاص بعد الرياء وأنزل الموت حق منزلته لم يغفل عن الموت والاستعداد له بما أمكنه » انتهى .

ولما أخبر سبحانه عما له وحده ، وكان محط أمر الإنسان بل جميع الحيوان على الهداية إلى مصالحه ليفعلها ومفاسدة ليتركها ، وأرشد السياق إلى أن التقدير : فمن أخلص له الدين هداه في جميع أموره ، وإن اشتد الإشكال ، وتراكمت وجوه الضلال ، عطف عليه الإخبار عمن لزم الضلال ، والغي والمحال ، فقال محذراً من مثل حاله ، بما حكم عليه في مآله : { والذين } ولما كان الإنسان مفطوراً على الخضوع للملك الديان ، ولا يلتفت إلى غيره إلا بمعالجة النفس بما لها من الهوى والطغيان ، عبر بصيغة الافتعال فقال : { اتخذوا } أي عالجوا عقولهم حتى صرفوها عن الله فأخذوا ، ونبههم على خطئهم في رضاهم بالأدنى على الأعلى بقوله : { من دونه } ومعلوم أن كل شيء دونه { أولياء } أي يكلون إليهم أمورهم ، ويدخل فيهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله مع اعترافهم بأن الله تفرد بخلقهم ورزقهم .
ولما كان من العجب العجيب فعلهم ، هذا بين ما وجهوا به فعلهم ليكون آية بينة في أنه لا هدى لهم فقال : { ما } أي قائلين لمن أخلصوا له الدين إذا أنكروا عليهم أن يتخذوا من دونه ولياً : ما { نعبدهم } لشيء من الأشياء { إلا ليقربونا } ونبه سبحانه على بعدهم عن الصواب بالتعبير بالاسم الأعظم مع حرف الغاية فقال : { إلى الله } الذي له معاقد العز ومجامع العظمة ، تقريباً عظيماً على وجه التدريج ويزلفونا إليه { زلفى } أي تقريباً حسناً سهلاً بهجاً زائداً نامياً متعالياً ، قال القشيري : ولم يقولوا هذا من قبل الله ولا بإذنه ، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم ، فرد الله عليهم ، وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القرب بنشاط نفسه من غير أن يقتضيه حكم الوقت ، فكل ذلك اتباع هوى - انتهى - والآية من الاحتباك : ذكر فعل التقريب أولاً دليلاً على فعل الزلف ثانياً ، واسم الزلف ثانياً دليلاً على الاسم من التقريب أولاً ، وسره أنهم أرادوا بهذا الاعتذار المسكت عن قبيح صنيعهم ، فأتى سبحانه في حكايته عنهم بالتأكيد على أبلغ وجه لأن الدلالة على المعنى بلفظين أجدر في ثباته وتكثيره من لفظ واحد وبدأ بأرشق الفعلين وأشهرهما وأخفهما وأوضحهما ، وقد خسر لعمري غاية الخسارة قوم تمذهبوا بأقبح المذاهب وجعلوا عذرهم هذه الآية التي ذم الله المعتذر بها ، وعلى ذلك فقد راج اعتذارهم بها على كثير من العقول ، وهم أهل الاتحاد الذين لا أسخف من عقولهم ولا أجمد من أذهانهم .

ولما كان إنما محط دينهم الهوى ، وكان كل من تبع الهوى لا ينفك عن الاضطراب في نفسه ، فكيف إذا كان معه غيره فكيف إذا كانوا كثيراً فيكثر الخلاف والنزاع وإن لم يحصل ذلك بالفعل كان بالقوة ، ولذلك كلن لكل قبيلة ممن يعبد الأصنام صنم غير صنم الأخرى وكان بعض القبائل يعبد الشعرى ، وبعضهم يعبد الملائكة وبعضهم غير ذلك { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون } [ المؤمنون : 53 ] نبه على ذلك مهدداً لهم بقوله مخبراً مؤكداًَ لأجل إنكارهم : { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال . ولما لم يقيد الحكم بالقيامة وكانوا معترفين بأن المصائب في الدنيا منه قال : { يحكم بينهم } من غير تأكيد آخر أي بين جميع المخالفين في الأديان وغيرها من المتخذين للأولياء من دونه ومن المخلصين وغيرهم فلا بد أن ينصر أهل الحق على جميع أهل الباطل .
ولما كانوا أوزاعاً أكثر قبائلهم على خلاف ما يعتقده غيرها ، قال : { في ما } أي في الدين الذي والأمر الذي . ولما كان تحكيمهم للهوى موفراً لدواعيهم على الاختلاف ، وكان الاتخاذ الذي يبنى الكلام عليه له نظر عظيم إلى علاج الباطن بخلاف سورة يونس اثبت الضمير هنا فقال : { هم } أي بضمائرهم { فيه يختلفون * } أي ليس لهم أصل يضبطهم ، فهو لا يرجعون إلا إلى الخلف كيف ما تقلبوا لأنهم مظروفون لذلك العمل الذي مبناه الهوى هو منشأ الاختلاف ، فكيف إذا انضم إلى ذلك خلاف المخلصين وإنكارهم عليهم الذي أرشد إليه اعتذارهم ، فظهر من هذا أن اختلاف الأئمة في فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لقواعد استنبطوها من ذلك لا يخرجون عنها ليس خلافاً بل وفاق لوحدة ما يرجعون إليه من الأصل الصحيح الثابت عن الله ، ومن هذا إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عمر وأبي وغيرهما رضي الله عنهم لما أنكر كل منهم على من خالفه في القراءة وقال : « إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تختلفوا » ، فلا فرق بين أن يستند كل من الأمرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً أو اجتهاداً لأنه في قوة الاتفاق لوحدة مرجعه - والله الموفق ، ويجوز أن يكون الضمير في « بينهم » لهم ولمعبوداتهم فإنهم ليس منهم معبود صامت ولا ناطق إلا وهو صارخ بلسان حاله إن لم ينطق لسان قاله بأنه مقهور مربوب عابد لا معبود ، فهم مع من يعبدهم في غاية الخلاف .

ولما كان من الأمر الواضح أن الدين لا يكون صالحاً إلا أن انتظم بنظام غير مختل ، وكان الدين إذا كان معوجاً داعياً إلى التفرق منادياً على نفسه بالانخلاع عنه والبعد منه فكان الحال مقتضياً للتعجب ممن تدين به ، فضلاً عمن يدوم عليه ، فضلاً عمن لا ينتبه عند التنبيه ، فضلاً عمن يقاتل دون ذلك ، أجاب من كأنه قال : سبب عكوفهم على هذا الضلال الذي أوجب لهم قطعاً الاختلاف بالفعل أو بالقوة ، فقال مؤكداً تكذيباً لمن ينكر ما تضمنه هذا الإخبار وإن ظهر لبعض العمى غير ذلك مما يبدو من الكذبة والكفرة من أعمال مزينة وأفكار دقيقة فتظن هدى وإنما هي استدراج . ولما أرشد السياق إلى أن المعنى : لأنهم غير مهتدين لأن الله لم يخلق الهداية في قلوبهم ، نسق به قوله : { إن الله } أي الملك القادر القاهر الحكيم . ولما كان الأصل : لا يهديهم وأراد سبحانه التعميم وتعليق الحكم بالوصف تنفيراً عنه قال : { لا يهدي } أي لا يخلق الهداية في قلب { من هو } أي لضميره { كاذب } أي مرتكب الكذب عريق فيه حتى أداه كذبه إلى أن يقول على ملك الملوك أن شيئاً يقرب إليه بغير إذنه ، ويخضع بالعبادة التي هي نهاية التعظيم ، فهي لا تليق بغير من ينعم غاية الإنعام لمن لا يملك ضراً ولا نفعاً ، ولم يعبر في الكذب بصيغة مبالغة لأن الذين السياق لهم لم يقع منهم كذب إلا في ادعائهم أنهم يقربونهم .
ولما كان من كفر في حين من الدهر قد ضاعف كفره لكثرة ما على الوحدانية من الدلائل وما لله عليه من الإحسان ، وكان هؤلاء الذين لهم السياق قد كفروا بتأهيلهم لشركائهم للعبادة ولعبادتهم بالفعل ولادعائهم فيهم التقريب قال { كفار } بصيغة المبالغة ، والأحسن أن يقال : إن المبالغة لإفهام أن الذي لا يهديه إنما هو من ختم عليه سبحانه الموت على ذلك ، قال القشيري : والإشارة إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه ويدعي شيئاً ليس بصادق فيه فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده ، وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدى له بدعواه قبل تحققه بوجوده وذوقه .

لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

ولما أخبر سبحانه بالحكم بينهم ، فكان ذلك مع تضمنه التهديد وافياً بنفي الشريك ، كافياً في ذلك لأن المحكوم فيه لا يجوز أن يكون قسيماً للحاكم ، فلم يبق في شيء من ذلك شبهة إلا عند ادعاء الولدية ، قال نافياً لها على سبيل الاستئناف جواباً لمن يقول : فما حال من يتولى الولد؟ - قال القشيري : والمحال يذكر على جهة الإبعاد أن لو كان كيف حكمه - : { لو أراد الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال { أن يتخذ } أي يتكلف كما هو دأبكم ، ولا يسوغ في عقل أن الإله يكون متكلفاً { ولداً } أي كما زعم من زعم ذلك ، ولما كان الولد لا يراد إلا أن يكون خياراً ، وكان الله قادراً على كل شيء ، عدل عن أن يقول { لاتخذ } إلى قوله : { لاصطفى } أي اختار على سبيل التبني { مما يخلق } أي يبدعه في أسرع من الطرف ، وعبر بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل إشارة إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء أجلّها على سبيل التكرار والاستمرار - كما أشار إليه التعبير بالمضارع فقال : { ما يشاء } أي مما يقوم مقام الولد فإنه لا يحتاج إلى التطوير في إتيان الولد إلا من لا يقدر على الإبداع بغير ذلك .
ولما كان لا يرضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء ، لكنه لم يرد ذلك فلم يكن ، فهذا أقصى ما يمكن أن يجوز خلقاً شريفاً ويسميه ولداً إشارة إلى شدة إكرامه له وتشريفه إياه ، أو يقربه غاية التقريب كما فعل بالملائكة وعيسى عليهم السلام ، فكان ذلك سبباً لغلطكم فيهم حتى دعيتم أنهم أولاد ثم زعمتم أنهم بنات ، فكنتم كاذبين من جهتين ، هذا غاية الإمكان ، وأما أنه يجوز عليه التوليد فلا ، بل هو مما يحيله العقل ، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج ، والإله لا يتصور في عقل أن يكون محتاجاً أصلاً ، قال ابن برجان ما معناه : كان معهود الولادة على وجهين ، فولد منسوب إلى والده بنوة وولادة ورحماً ، فهذا ليس له في الوجود العلي وجود ، ولا في الإمكان تمكن ، ولا في الفعل مساغ بوجه من الوجوه ، وولد بمعنى التبني والاتخاذ ، وقد كانت العرب وغيرها من الأمم يفعلونه حتى نسخة القرآن ، فلا يبعد أن تكون هذه العبارة كانت جائزة في الكتب قبلنا ، فلما أعضل بهم الداء وألحدوا في ذلك عن سواء القصد الذي هو الاصطفاء إلى بنوة الولادة أضلهم الله وأعمى أبصارهم وسد السبيل عن العبادة عن ذلك ، وكشف معنى الاصطفاء ، وأظهر معنى الولاية ، ونسخ ذلك بهذا ، لأن هذا لا يداخله لبس ، وذلك كله لبيان كمال هذه الأمة وعلوها في كل أمر .
ولما كانت نسبة الولد إليه كنسبة الشريك أو أشنع ، وانتفى الأمران بما تقدم من الدليل بالحكم باعترافهم بأن حكمه سبحانه نافذ في كل شيء لشهادة الوجود ، ولقيام الأدلة على عدم الحاجة إلى شيء أصلاً فضلاً عن الولد ، نزه نفسه بما يليق بجلاله من التنزيه في هذا المقام ، فقال : { سبحانه } أي له التنزيه التام عن كل نقيصة ، ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي لتفرده فقال : { هو } أي الفاعل لهذا الفعال ، والقائل لهذه الأقوال ، ظاهراً وباطناً { الله } أي الجامع لجميع صفات الكمال ، ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال : { الواحد } أي الذي لا ينقسم أصلاً ، ولا يكون له مثل فلا يكون له صاحبة ولا ولد ، لأنه لو كان شيء من ذلك لما كان لا مجانساً ولا جنس له ولا شبه بوجه من الوجوه { القهار * } أي الذي له هذه الصفة ، فكل شيء تحت قهره آلهتهم وغيرها على سبيل التكرار والاستمرار ، فصح من غير شك أنه لا يحتاج إلى شيء أصلاً ، وجُعل ما لا حاجة إليه ولا داعي يبعث عليه عبث ينزه عنه العاقل فكيف من له الكمال كله .

ولما أثبت هذه الصفات التي نفت أن يكون له شريك أو ولد ، وأثبتت له الكمال المطلق ، دل عليها بقوله : { خلق السماوات والأرض } أي أبدعهما من العدم { بالحق } أي خلقاً متلبساً بالأمر الثابت الذي ليس بخيال ولا سحر ، على وجه لا نقص فيه بوجه ، ولا تفاوت ولا خلل يقول أحد فيه أنه مناف للحكمة ولما كان من أدل الأشياء على صفتي الوحدانية والقهر ، وتمام القدرة وكمال الأمر ، بعد إيجاد الخافقين اختلاف الملوين ، وكان التكوير - وهو إدارة الشيء على الشيء بسرعة وإحاطته به بحيث يعلو عليه ويغلبه ويغطيه - أدل على صفة القهر من الإيلاج ، قال مبيناً لوقت إيجاد الملوين : { يكور } أي خلقهما أي صورهما في حال كونه يلف ويلوي ويدير فيغطي مع السرعة والعلو والغلة تكويراً كثيراً متجدداً مستمراً إلى أجله { الّيل على النهار } بأن يستره به فلا يدع له أثراً ، ولعظمة هذا الصنع أعاد العامل فقال : { ويكور النهار } عالياً تكويره وتغطيته { على الّيل } فيذهبه كذلك ويدخل في هذا الزيادة في كل منهما بما ينقص من الآخر لأنه إذا ذهب أحدهما وأتى الآخر مكانه ، فكأن الآتي لف على الذاهب وألبسه كما يلف اللباس على اللابس ، أو أنه شبه الذاهب في خفائه بالآتي بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامع الأبصار ، أو أن كلاًّ منهما لما كان يكر على الآخر كروراً متتابعاً شبه ذلك بتتابع أكوار بعضها على بعض ، فتغيب ما تحتها .
ولما كانت الظلمة سابقة على الضياء ، وكان الليل إنما هو ظلمة يسبقها ضياء بطلوع الشمس ، رتب سبحانه هذا الترتيب على حسب الإيجاد ، ولذلك قدم آية النهار فقال معبراً بالماضي بخلقه الآيتين مسخرتين على منهاج معلوم لكل منها لا يتعداه ، وحد محدود لا يتخطاه { وسخر } أي ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر { الشمس } أي التي محت ما كان من الظلام فأوجبت اسم النهار { والقمر } أي آية الليل .

ولما أخبر بقهرهما ، بين ما صرفهما فيه ، فقال بياناً لهذا التسخير : { كل } أي منهما { يجري } أي بقضائنا الذي لا مرد له ، وهذا آية لاختلاف أحوال العبد لأن خلقه جامع ، فيختلف في القبض والبسط والجمع والفرق والأخذ والرد والصحو والسكر ، وفي نجوم العقل ، وأقمار العلم ، وشموس المعرفة ، ونهار التوحيد ، وليل الشك والجحد ، ونهار الوصل وليالي الهجر والفراق ، وكيفية اختلافها وزيادتها ونقصانها - قاله القشيري .
ولما كان مقصود السورة العزة التي محطها الغلبة ، وكان السياق للقهر ، وكان القضاء لعلة لا يتخلف عنها المعلول أدل على القهر من ذكر الغاية مجردة عن العلة قال : { لأجل مسمى } أي لمنتهى الدور ومنقطع الحركة . ولما ثبت بهذا قهره ، قال منادياً رشقاً في قلوب المنكرين : { ألا هو } أي وحده { العزيز } ولما كان ربما قال متعنت : فما له لا يأخذ من يخالفه؟ وكانت صفة القهر والعزة ربما أقنطت العصاة فأخرتهم عن الإقبال ، قال مبيناً لسبب التأخير ومستعطفاً : { الغفار * } أي الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة فيمحو ذنوب من يشاء عيناً ، وأثراً بمغفرته ويأخذ من يشاء بعزته .
ولما كان خلق الحيوان أدل على الوحدانية والقهر بما خالف به الجمادات من الحياة التي لا يقدر على الانفكاك عنها قبل أجله ، وبما له من أمور اضطرارية لا محيص له عنها ، وأمور اختيارية موكولة في الظاهر إلى مشيئته ، وكان أعجبه خلقاً الإنسان بما له من قوة النطق ، قال دالاً على ما دل عليه بخلق الخافقين لافتاً القول إلى خطاب النوع كله إيذاناً بتأهلهم للخطاب ، وترقيهم في عُلا الأسباب ، من غير عطف إيذاناً بأن كلاًّ من خلقهم وخلق ما قبلهم مستقل بالدلالة على ما سيق له : { خلقكم } أي أيها الناس المدعون لإلهية غيره { من نفس واحدة } هي آدم عليه السلام .
ولما كان إيجادنا منها بعد شق الأنثى منها ، قال عاطفاً على ما تقديره : أوجدها من تراب ، مبيناً بلفظ الجعل أن الذكر هو سببها ومادتها منبهاً بأداة التراخي على القهر الذي السياق له بالتراخي في الزمان بتأخير المسبب عن سببه المقتضي له إلى حين مشيئته لأن إيجادها منه كان بعد مدة من إيجاده ، والأصل في الأسباب ترتب المسببات عليها من غير مهلة وعلى التراخي في الرتبة أيضاً بأن ذلك - لكونه شديد المباينة لأصله - من أعجب العجب : { ثم } أي بعد حين ، وعبر بالجعل لأنه كافٍ في نفي الشركة التي هذا أسلوبها وليبين أنه ما خلق آدم عليه السلام إلا ليكون سبباً لما يحدث عنه من الذرية ليترتب على ذلك إظهار ما له سبحانه من صفات الكمال فقال : { جعل منها } أي تلك النفس { زوجها } أي ونقلكم بعد خلقكم منه إليها ثم أبرزكم إلى الوجود الخارجي منها ، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المعنى لأن السياق لإحاطة العلم المدلول عليه بإنزال الكتاب وما تبعه : قدر خلقكم على ما أنتم عليه من العدد والألوان وجميع الهيئات حين خلق آدم بأن هيأه لأن تفيضوا منه ، فلا تزيدون على ما قدره شيئاً ولا تنقصون وأن تفيض منه زوجه ، وذلك قبل خلق حواء منه ، ثم أوجدها فكان الفيض منها فيضاً منه فالكل منه ، ولهذا ورد الحديث في مسند أحمد بن منيع عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« خلق الله آدم يوم خلقه وضرب على كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر ، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم ، فقال للذي في يمينه : إلى الجنة ولا أبالي ، وقال للذي في يساره : إلى النار ولا أبالي » .
ولما كان تنويع الحيوان إلى أنواع متباينة أدل على القدرة التي هي منشأ القهر ، وكان سبحانه موصوفاً بالعلو ، وكان أكثر الأنعام أشد من الإنسان ، فكان تسخيره له وتذليله إنزالاً عن قوته وإيهاناً لشدته ، قال دالاً على ذلك الإنشاء والجعل بلفظ الإنزال : { وأنزل لكم } أي خاصة { من الأنعام } أي الإبل بنوعيها ، والبقر كذلك ، والضأن والمعز . ولما لم يكن عند العرب البخاتي والجواميس لم يذكرها سبحانه ، واقتصر على ما عندهم ، وقال : { ثمانية أزواج } أي من كل نوع زوجين ذكراً وأنثى ، والزوج اسم لواحد معه آخر لا يكمل نفعه إلا به ، وإذا نظرت هذه العبارة مع العبارة عن خلق الإنسان فهمت أن الأنعام خلق كل ذكرها وأنثاها على انفراده ، لا أن أحداً منها من صاحبه ، وذلك أدل على إطلاق التصرف وتنويعه مما لو جعل خلقها مثل خلق الآدمي .
ولما كان تكوينهم في تطويرهم عجباً قال مستأنفاً بياناً لما أجمل قبل : { يخلقكم } أي يقدر إيجادكم أنتم والأنعام على ما أنتم عليه من أخلاط العناصر { في بطون أمهاتكم } ولما كان تطوير الخلق داخل البطن حيث لا تصل إليه يد مخلوق ولا بصره ، قال دالاً على عظمته ودلالته على تمام القدرة والقهر : { خلقاً } ودل على تكوينه شيئاً بعد شيء بإثبات الحرف فقال : { من بعد خلق } أي في تنقلات الأطوار وتقلبات الأدوار . ولما كان الحيوان لا يعرف ما هو إلا في التطوير الرابع ، وكان الجهل ظلمة قال : { في ظلمات ثلاث } ظلمة النطفة ثم العلقة ثم المضغة ، فإذا صار عظاماً مكسوة لحماً عرف هل هو ذكر أو أنثى فزالت عنه ظلمات الجهل ، وصار خلقاً آخر ، وقيل؛ ظلمة البطن والرحم والمشيمة - نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وعزاه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام .

ولما ثبت له سبحانه كمال العظمة والقهر ، قال مستأنفاً ما أنتجه الكلام السابق معظماً باداة البعد رميم الجمع : { ذلكم } أي العالي المراتب شهادتكم أيها الخلق كلكم ، بعضكم بلسان قاله ، وبعضكم بناطق حاله ، الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا أفعاله ، ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد ، أخبر عن اسم الإشارة فقال : { الله } أي الجامع لجميع صفات الكمال ، ونبه على جهلهم مما يعلمون من ربوبيته لعملهم بالشرك عمل جاهل بذلك فقال واصفاً : { ربكم } أي المالك والمربي لكم بالخلق والرزق . ولما كان المربي قد لا يكون ملكاً قال نتيجة لما سبق : { له } أي وحده { الملك } ولما كان المختص بالملك قد لا يكون إلهاً ، قال مثبتاً له الإلهية على ما يقتضيه من الوحدانية وهو بمنزلة نتيجة النتيجة : { لا إله إلا هو } .
ولما تكفل هذا السياق بوجوب الإخلاص في الإقبال عليه والإعراض عما سواه ، لأن الكل تحت قهره ، وشمول نهيه وأمره ، سبب عنه قوله : { فأنى } أي فكيف ومن أي وجه { تصرفون * } أي قهراً عن الإخلاص له إلى الإشراك به بصارف ما وإن كان عظيماً ، ونبه بالبناء للمفعول مع هذا على أنهم مقهورون في فعل ما هم عليه لأنهم تابعون للهلاك المحض ، تاركون للأدلة التي لا خفاء في شيء منها ، ومعلوم أنه لا يترك أحد الدليل في الفيافي العطشة الذي إن تركه هلك إلا قهراً؛ وأن الناس هيئوا لطريق الهدى بما خلقوا عليه من أحسن تقويم بسلامة الفطر واستقامة العقول ، وأشار إلى هذا لأنهم يأنفون من النسبة إلى القهر وأن يفعلوا شيئاً بغير اختيار لما عندهم من الأنفة وعلو الهمم والعظمة .

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)

ولما ظهرت الأدلة وبهرت الحجج ، بين ما على من غطاها بالإصرار ، وما لمن تاب ورجع التذكار ، فقال مستأنفاً لما هو نتيجة ما مضى ، معرفاً لهم نعمته عليهم بأنه ما تعبد لشيء يخصه من نفع أو ضر ، وإنما هو لمصالحهم خاصة بادئاً بما هو من درء المفاسد : { إن تكفروا } أي تستروا الأدلة فتصروا على الانصراف عنه بالإشراك { فإن الله } لأنه جامع لصفات الكمال { غني عنكم } أي فلا يضره كفركم ولا تنفعه طاعتكم ، وأما أنتم فلا غنى لكم عنه بوجه ، ولا بد أن يحكم بينكم فلم تضروا إلا أنفسكم { ولا يرضى } لكم - هكذا كان الأصل بدليل ما سبقه ولحقه ، وإنما أظهر ليعم وليذكرهم بما يجدونه في أنفسهم من أن أحداً منهم لا يرضى لعبده أن يؤدي خرجه إلى غيره بغير إذنه فقال : { لعباده } أي الذين تفرد بإيجادهم وتربيتهم { الكفر } بالإقبال على سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف ، ومعنى عدم الرضى أنه لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه أو يثيب فاعله ويمدحه ، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه { وإن تشكروا } أي بالعبادة والإخلاص فيها { يرضه } أي الشكر الدال عليه فعله { لكم } أي الرضى اللائق بجنابه سبحانه بأن يقركم عليه أو يأمركم به ويثيبكم على فعله ، والقسمان بإرادته ، واختلاف القراء في هائه دال على مراتب الشكر - والله أعلم ، فالوصل للواصلين إلى النهاية على اختلاف مراتبهم في الوصول والاختلاس للمتوسطين والإسكان لمن في الدرجة الأولى منه .
ولما كان في سياق الحكم والقهر ، وكانت عادة القهارين أن يكلفوا بعض الناس ببعض ويأخذوهم بجوائرهم لينتظم لهم العلو على الكل لعدم إحاطة علمهم بكل مخالف لأمرهم ، بين أنه سبحانه على غير ذلك فقال : { ولا تزر وازرة } أي وازرة كانت { وزر أخرى } بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل ، والإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وزر غيره ، وإنما هو وزر نفسه ، فوزر الفاعل على الفعل ، ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي { ثم إلى ربكم } أي وحده لا إلى أحد ممن أشركتموه به { مرجعكم } أي بالبعث بعد الموت إلى دار الجزاء . ولما كان الجزاء تابعاً للعلم ، قال معبراً عنه به : { فينبئكم } أي فيتسبب عن البعث أنه يخبركم إخباراً عظيماً { بما كنتم تعملون } أي بما كان في طبعكم العمل به سواء عملتموه بالفعل أم لا ثم يجازيكم عليه إن شاء .
ولما كان المراد - كما أشار إليه بكان - الإخبار بجميع الأعمال الكائنة بالفعل أو القوة ، حسن التعليل بقوله : { إنه عليم } أي بالغ العلم { بذات الصدور * } أي بصاحبتها من الخواطر والعزوم ، وذلك بما دلت عليه الصحبة - كل ما لم يبرز إلى الخارج ، فهو بما برز أعلم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41