كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

ولما كان من يدخل النار فلا تؤثر في موته قد يكون ذلك إكراماً له من باب خرق العوائد ، احترز عنه بقوله : { ولا يحيى * } أي حياة تنفعه لأنه ما تزكى فلا صدق ولا صلى .
ولما ثبت بهذا أن لهذا هذا الشقاء الأعظم ، فكان التقدير : لأنه لم يزك نفسه لأنه ما كان مطبوعاً على الخشية ، أنتج ولا بد قوله تعالى دالاً على الدين التكليفي وهو اجتناب واجتلاب ، فجمع الاجتناب والاجتلاب بالتزكية بالتبتل بالأبواب والملازمة للأعتاب بامتثال الأمر واجتناب النهي بالمجاهدات المقربات إليه سبحانه وتعالى ، المنجيات بعد ما حذر من المهلكات ، للمسارعة في محابه ومراضيه اجتماعاً على العبادة الموصلة للخالق بعد حصول الكمال والتكميل فإنه لا بد في الحياة الطيبة بعد الانتماء إلى ذي الجاه العريض والاقتداء بمن لا يزيغ من الارتباط بطريقة مثلى يحصل بها الاغتباط ليصل بها إلى المقصود ويعمّر أوقاته بوظائفها لئلا يحصل له خلل ولا ضياع لنفائس الأوقات ولا غفلة يستهويه بها قطاع الطريق : { قد أفلح } أي فاز بكل مراد { من تزكّى * } أي أعمل نفسه في تطهيرها من فاسد الاعتقادات والأخلاق والأقوال والأفعال والأموال وتنمية أعمالها القلبية والقالبية وصدقة أموالها ، وذلك هو التسبيح الذي أمر به أول السورة وما تأثر عنه ، من عمل هذا فهو الأسعد .
ولما كان أعظم الأعمال المزكية الذكر والصلاة قال تعالى : { وذكر } أي بالقلب واللسان ذكر وذكر - بالكسر والضم { اسم ربه } أي صفات المحسن إليه فإنه إذا ذكر الصفة سر بها فأفاض باطنه على ظاهره ذكر اللفظ الدال عليها ، وإذا ذكر اللفظ وهو الاسم الدال عليها انطبع في قلبه ذكر المسمى { فصلّى * } أي الصلاة الشرعية لأنها أعظم الذكر ، فهي أعظم عبادات البدن كما أن الزكاة أعظم عبادات المال ، ومن فعل ذلك استراح من داء الإعجاب وما يتبعه من النقائص الموجبة لسوء الانقلاب ، وكان متخلقاً بما ذكر من أخلاق الله في أول السورة من التخلي عن النقائص بالتزكية ، والتحلي بالكمالات بالذكر والصلاة لأنه لعظمته لا يتأهل لذكره إلا من واظب إلى ذكر اسمه فلا يشقى فلا يصلى النار الكبرى بوعد لا خلف فيه - فالآية من الاحتباك في الاحتباك : ذكر أولاً الصلى دليلاً على حذف ضده ثانياً ، وثانياً التزكية دليلاً على حذف ضدها أولاً ، وقد تكفل ذكر التزكية والذكر ، والصلاة من أسباب التداوي بالإنضاج ثم الأشربة ثم الأغذية ، والآية صالحة لإرادة زكاة الفطر وتكبيرات العيد وصلاته وإن كانت السورة مكية وفرض الصيام بالمدينة ، لأن العبرة بعموم اللفظ لإحاطة علمه سبحانه وتعالى بالماضي والحال والاستقبال على حد سواء؛ قال الرازي في اللوامع : وتقدم زكاة الفطر على صلاة العيد ، وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول : رحم الله امرأً تصدق ثم صلى - ثم يقرأ هذه الآية ، وإن كانت السورة مكية ، فإنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كما قال تعالى :

{ وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 2 ] والسورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح - انتهى ، وأخذه من البغوي ، وزاد البغوي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأمر نافعاً رضي الله عنه بنحو ما قال ابن مسعود رضي الله عنه ، ويقول : إنما نزلت هذه الآية في هذا . وروى البزار : « عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية » وفي السند كثير بن عبد الله - حسّن له الترمذي وضعفه غيره - والله أعلم .
ولما كان التقدير : وأنتم لا تفعلون ذلك ، أو وهم لا يفعلونه - على القراءتين ، عطف عليه قوله بالخطاب في قراءة الجماعة على الالتفات الدال على تناهي الغضب ، منبهاً على المعاملات بسبب التداوي الرابع وهو الاستفراغ بنفي الرذائل والخبائث بالذم على ما ينبغي البراءة منه والحث على ما يتعين تحصيله تحصيلاً لحسن الرعاية : { بل تؤثرون } أي تختارون وتخصون بذلك على وجه الاستبداد ، أيها الأشقياء ، وبالغيب على الأصل عند أبي عمرو { الحياة الدنيا * } أي الدنية بالفناء الحاضرة ، مع أنها شر وفانية ، اشتغالاً بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات ، فاستغرق اشتغالكم بها أوقاتكم ومنعكم عن ذكر اسم الله المنهي إلى ذكر الله والمهيىء له ، وعن تزكية نفوسكم ، فأوقعكم ذلك في داء القبقب وهو البطن ، والدبدب وهو الفرج ، وحب المال المؤدي إلى شر الأعمال ، وتتركون الآخرة { والآخرة } أي والحال أن الدار التي هي غاية الخلق ومقصود الأمر ، العالية المبرئة عن العبث ، المنزهة عن الخروج عن الحكمة { خير } أي من الدنيا على تقدير التسليم لأن فيها خيراً لأن نعيمها خالص لا كدر فيه بوجه { وأبقى * } أي منها على تقدير المحال في الدنيا من أن تماديها إلى وقت زوالها تسمى بقاء ، لأن نعيم الآخرة دائم لا انقطاع له أصلاً ، وما كان باقياً لا يعادل بما يغني بوجه من الوجوه ، فمن علم ذلك - وهو أمر لا يجهل - اشتغل بما يحصل الآخرة وينفي الدنيا بقسميها من الأعيان الحسية والشهوات المعنوية من الرعونات النفسانية والمستلذات الوهمية ، والآية من الاحتباك : ذكر الإيثار والدنو أولاً يدل على الترك والعلو ثانياً ، وذكر الخير والبقاء ثانياً يدل على ضدهما أولاً ، وسر ذلك أنه لا يؤثر الدنيء إلا دنيء فذكره أولاً لأنه أشد في التنفير ، وذكر الخير والبقاء ثانياً لأنه أشد في الترغيب .

ولما كانت هذه النتيجة - التي هي الفلاح بالتزكية وما تبعها - خالصة الكتب المنزلة التي بها تدبير البقاء الأول ، وصفها ترغيباً فيها بوصف جمع القدم المستلزم للصحة بتوارد الأفكار على تعاقب الأعصار ، لأن ما مضت عليه السنون ومرت على قبوله الدهور تكون النفس أقبل للإذعان له وأدعى إلى إلزامه ، وأفاد مع القدم أن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل عليهم الصلاة والسلام بل هو على منهاجهم ، فرد رسالته من بينهم لا يقول به منصف لا سيما وقد زاد عليهم في المعجزات وسائر الكرامات بقوله مؤكداً لأجل من يكذب : { إن هذا } أي الوعظ العظيم بالتسبيح الذي ذكر في هذه السور وما تأثر عنه من التزكية بالذكر الموجب للصلاة والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، لأنه جامع لكل خير ، وهو ثابت في كل شريعة لأنه المقصود بالحكم فهو لا يقبل النسخ { لفي الصحف الأولى * } فمن تبع هذا القرآن الذي هو في هذه الصحف الربانية فقد تحلى من زينة اللسان بما ينقله من البيان الذي هو في غاية التحرير وعظم الشأن وما يعلمه من المغيبات مما يكون أو كان ، ونسيه أهل هذه الأزمان ، فاستراح من ضلال الشعراء والكهان ، الموقعين في الإثم والعدوان ، فإن القرآن جمع المديح الفائق والنسيب الرقيق في وصف الحور والرحيق والفخر الحماسي والهجاء البليغ لأعداء الله ، والترغيب الجاذب للقلوب والترهيب والملح الخبرية والحدود الشرعية - إلى غير ذلك من أمور لا تصل إليها الشعراء ، ولا ينتهي إلى أدنى جنابها بلاغات البلغاء .
ولما كان ذلك عاماً خص من بينه تعظيماً لقدر هذه الموعظة أعظم الأنبياء الأقدمين ، فقال مبدلاً مشيراً إلى الاستدلال بالتجربة : { صحف إبراهيم } قدمه لأن صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه { وموسى * } ختم به لأن الغالب على كتابه الأحكام ، والمواعظ فيه قليلة ، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والإخبار بأنهم يخالفونها كما هو مذكور في أواخرها مع أن ذكر النبيين عليهما الصلاة والسلام على الأصل في ترتيب الوجود والأفضلية ، وقد حث آخرها على التزكي وهو التطهر من الأدناس الذي هو معنى التنزه والتخلق بأخلاق الله بحسب الطاقة ، وكان في إتيانه والتذكير به إعلام بأن الله تعالى لم يهمل الخلق من البيان بعد أن خلقهم لأنه لم يخلقهم سدى ، لأن ذلك من العبث الذي هو من أكبر النقائص وهو سبحانه منزه عن جميع شوائب النقص - فقد رجع آخرها على أولها ، وكان تنزيه الرب سبحانه وتعالى وتنزيه النفس أيضاً غاية معولها - والله الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)

لما ختمت « سبح » بالحث على تطهير النفوس عن وضر الدنيا ، ورغب في ذلك بخيرية الآخرة تارة والاقتداء بأولي العزم من الأنبياء أخرى ، رهب أول هذه من الإعراض عن ذلك مرة ، ومن التزكي بغير منهاج الرسل أخرى ، فقال تعالى مذكراً بالآخرة التي حث عليها آخر تلك مقرراً لأشرف خلقه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك أعظم في تقدير اتباعه وأقعد في تحريك النفوس إلى تلقي الخبر بالقبول : { هل أتاك } أي جاءك وكان لك وواجهك على وجه الوضوح يا أعظم خلقنا { حديث الغاشية * } أي القيامة التي تغشي الناس بدواهيها وشدائدها العظمى وزواجرها ونواهيها ، فإن الغشي لا يكون إلا فيما يكره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم تنزيهه سبحانه عما توهم الظالمون ، واستمرت آي السورة على ما يوضح تقدس الخالق جل جلاله عن عظيم مقالهم ، أتبع ذلك بذكر الغاشية بعد افتتاح السورة بصورة الاستفهام تعظيماً لأمرها ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : « هل أتاك » يا محمد « حديث الغاشية » وهي القيامة ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : في ذلك اليوم يشاهدون جزاءهم ويشتد تحسرهم حين لا يغني عنهم ، ثم عرف بعظيم امتحانهم في قوله : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } مع ما بعد ذلك وما قبله ، ثم عرف بذكر حال من كان في نقيض حالهم إذ ذلك أزيد في الفرح وأدهى ، ثم أردف بذكر ما نصب من الدلائل وكيف لم يغن فقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } - الآيات ، أي أفلا يعتبرون بكل ذلك ويستدلون بالصنعة على الصانع ثم أمره بالتذكار - انتهى .
ولما هول أمرها بانبهامها وعمومها ، زاد في التهويل بما ذكر من أحوالها في تفصيل الناس إلى شقي وسعيد ، وبدأ بالشقي لأن المقام لإنذار المؤثرين للحياة الدنيا ، وسوّغ الابتداء بالنكرة التفصيل فقال : { وجوه } أي كثيرة جداً كائنة { يومئذ } أي إذ تغشى الناس { خاشعة * } أي ذليلة مخبتة من الخجل والفضيحة والخوف والحسرة التي لا تنفع في مثل هذا الوقت { عاملة } أي مجتهدة في الأعمال التي تبتغي بها النجاة حيث لا نجاة بفوات دار العمل فتراها جاهدة فيما كلفتها به الزبانية من جر السلاسل والأغلال وخوض الغمرات من النيران ونحو ذلك كأن يقال له : أدّ الأمانة ثم تمثل له أمانته في قعر جهنم ، فتكلف النزول إليها ثم يحملها على عنقه ويصعد في جبال النيران حنى إذا كاد أن يصل إلى أعلاها سقطت منه فيتكلف النزول إليها وهكذا ، وهذا بما كان يهمل العمل في الدنيا { ناصبة * } أي هي في ذلك في غاية التعب والدؤوب في العمل والاجتهاد - هذه رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وذلك لأنهم لم يخشوا الله في الدنيا فلم يعملوا له فلم ينصبوا في طاعته أجسادهم فاضطرهم في ذلك اليوم إلى أعظم مما أبوه في الدنيا مع المضرة دون المنفعة ، ويجوز أن يراد بها الذين تعبوا ونصبوا في الدنيا أجسامهم وهم على غير دين الإسلام كالرهبان من النصارى بعد النسخ وزنادقة المتصوفة من الفلاسفة وأتباعهم ، بأن يكون ( وجوه ) مبتدأ و ( يومئذ ) خبره أي كائنة يومئذ ، ثم يقدر ما بعده في جواب سؤال سائل يقول : ما شأنها؟ فأجيب بقوله خاشعة ، أي في الدنيا - إلى آخره ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء عنه .

ولما كان العذاب لا يكون إلا على ما يكرهه المعذب ، دل على ذلك وعلى أنه على أنهى ما يكون ببناء الفعل للمفعول في قراءة أبي عمرو ويعقوب وأبي بكر عن عاصم فقال : { تصلى } أي يصليها مصل على أيسر وجه وأسهله بأمر من له الأمر بأن يغمسها قهراً على وجه الإحاطة بها ، والمعنى على قراءة الجماعة بالبناء للفاعل : تدخل وتباشر بأن يدسها فيها أصحابها فيحيط بها من كل جانب وهو يدل على غاية الذل لأن من فعل بنفسه هذا لا يكون إلا كذلك { ناراً حامية * } متناهية في الحر لأنها عملت بالجهل على خلاف ما حده لها نبيها فأخلت بركن للعمل أو شرط لما استولى عليها من الغفلة التي أحاطت بها ، فلم تدع لها موضعاً يصلح لدخول الرحمة منه .
ولما كان من في الحر أحوج شيء إلى ما يبرد باطنه ، قال بانياً عند الكل للمفعول جرياً على قراءة أبي عمرو في الذي قبله : { تسقى } أي يسقى كل من أذن له الملك في ذلك على أهون وجه وأيسره { من عين آنية * } أي بلغت غايتها في الحر فنضجت غاية النضج فصارت إذا قربوها منهم سقط لحم وجوههم ، وإذا شربوا قطعت أمعاءهم مما شربوا في الدنيا من كاسات الهوى التي قطعوا باستلذاذهم لها قلوب الأولياء .
ولما ذكر ما يسقونه على وجه علم منه أنه لا يلذذ ولا يروي من عطش ، أتبعه ما يطعمونه فقال حاصراً له : { ليس لهم } أي هؤلاء الذين أذابوا أنفسهم في عبادة لم يأذن الله فيها { طعام } أصلاً { إلا من ضريع * } أي يبيس الشبرق ، وهو شوك ترعاه الإبل ما دام رطباً ، فإذا يبس تحامته ، وهو سم ، وقال في القاموس : والضريع كأمير : الشبرق أو يبيسه أو نبات رطبه يسمى شبرقاً ، ويابسه يسمى ضريعاً ، لا تقربه دابة لخبثه ، أو شيء في جهنم أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأحرّ من النار ، ونبات منتن يرمى به البحر ، وقال الهروي في الغريبين وعبد الحق في الواعي : الضريع : الشبرق ، وهو نبات معروف بالحجاز ذو شوك ، ويقال شبرق ما دام رطباً ، فإذا جف فهو ضريع ، وقال القزاز في ديوانه : الضريع : يبيس من يبيس الشجر ، وقيل : هو يبيس الشبرق خاصة ، وقيل : هو نبات أخضر يرمى به البحر وهو منتن .

أبو حنيفة رحمه الله تعالى : وهو مرعى لا تعقد عليه السائمة شحماً ولا لحماً وإن لم تفارقه إلى غيره ساءت حالها . وقال ابن الأثير في النهاية : الضريع هو نبت بالحجاز له شوك كبار ، وقال : الشبرق نبات حجازي يؤكل وله شوك ، وإذا يبس سمي الضريع . وهذا ثوب مشبرق وهو الذي أفسد ، وفي نسجه سخافة ، وشبرقت الثوب أيضاً : حرقته ، وقال في القاموس : الشبرق كزبرج : رطب الضريع واحده بهاء ، قال البغوي رحمه الله تعالى : قال مجاهد وقتادة وعكرمة : هو نبت ذو شوك لاطىء بالأرض ، تسميه قريش الشبرق ، فإذا هاج سموه الضريع ، وهو أخبث طعام وأبشعه ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما . ولا يمتنع في قدرة الله سبحانه وتعالى أن يكون الغسلين إذا انفصل عن أبدان أهل النار صار على هيئة الشبرق المسمى ضريعاً ، فيكون طعامهم الغسلين الذي هو الضريع ، ويمكن أن يكون ذلك كناية عن أقبح العيش ولا يراد به شيء بعينه - والله تعالى أعلم ، قال الملوي : وسمي ضريعاً لأن الإنسان يتضرع عند أكله من خشونته ومرارته ونتنه .

لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)

ولما حصر أكلهم في هذا ، وكان الضريع المعروف عند العرب قد يتصور متصور أنه لو أكره شيء على أكله أسمنه أو سد جوعته ، وكان الضريع المأكول لهم في القيامة شوكاً من نار كما ورد تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفى عند فائدة الطعام ، فقال واصفاً الضريع أو الطعام المقدر بعد « إلا » بما يفهمه تحامي الإبل التي ترعى كل نابت وهي أعظم الحيوانات إقبالاً على أنواع الشوك له من أنه ضر بلا نفع { لا يسمن } أي فلا يشبع ولا يقوي لأنه يلزم ما يسمن ، فعدمه يلازم عدمه .
ولما نفى عنه ما هو مقصود أهل الرفاهية وبدأ به لأن المقام له نفي ما يقصد للكفاف فقال تعالى : { ولا يغني } أي يكفي كفاية مبتدئة { من جوع * } فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال ، والمقصود من الطعام أحد الأمرين ، وذلك لأنهم كانوا يأكلون الحرام الذي تنبت عليه لحومهم فيفسدها بفساده وتنمو به نفوسهم فيخبثها بخبثه ويتغذون بالشبه أيضاً ويباشرونها في جميع أوقاتهم ويباشرون العلوم التي تظلم القلوب كالفلسفة والشعر والسحر ونحو ذلك مما يجر إلى البدع . والآية من الاحتباك : نفي السمن أولاً يدل على إثبات الهزال ثانياً ، ونفي الإغناء من الجزع ثانياً يدل على نفي الشبع أولاً ، ومن جعل ذلك صفة الطعام أفسد المعنى لأنه يؤول إلى : ليس لهم طعام منفي عنه الإسمان والإغناء ، بل لهم طعام لا ينفي عنه ذلك .
ولما ذكر الأعداء وقدمهم لما تقدم ، أتبعه الأولياء فقال مستأنفاً ذكر ما لهم من ضد ما ذكر للأعداء : { وجوه يومئذ } أي إذ كان ما ذكر { ناعمة * } أي ذات بهجة وسرور تظهر عليها النعمة والنضرة والراحة والرفاهية بضد تلك الناصبة ، لأن هؤلاء أتبعوا أنفسهم في دار العمل الدنيا وصبروا على التقشف وشظف العيش { لسعيها } أي عملها للآخرة الذي كأنه لا سعي غيره خاصة لعلمها أنه منج { راضية * } لما رأت من ثوابه تود أن جميع سعيها في الدنيا كان لذلك بعد أن كان ذلك السعي الذي هو للآخرة كريهاً إليها في الدنيا لا تباشره إلا بشق الأنفس . ولما ذكر السعي أتبعه ثوابه فقال : { في جنة عالية * } أي في المكان العالي والمكانة العالية والأشجار والغرف وغير ذلك بما صرفوا أنفسهم عن الدنايا ورفعوا هممهم إلى النفائس .
ولما كان ما كان من هذا لا يصفو ، وفيه ما يكره من الكلام قال منزهاً لها عن كل سوء : { لا تسمع } أي أيها الداخل إليها - على قراءة الجماعة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بالبناء للمفعول وهو أبلغ في النفي { فيها لاغية * } أي لغو ما أو نفس تلغو أو كلمة ذات لغو على الإسناد المجازي ، بل المسموع فيها الذكر من التحميد والتمجيد والتنزيه لحمل ما يرى فيها من البدائع على ذلك مع نزع الحظوظ الحاملة على غيره من القلوب بما كانوا يكرهون من لغو أهل الدنيا المنافي للحكمة .

ولما وصف الجنة بأول ما يعتبر فيها وهو عدم المنغص ، أتبعه ما يطلب بعده وهو تناول الملتذات ، وكان الأكل قد فهم من ذكر لفظ الجنة ، ذكر المشروب لذلك ولدلالته إذا كان جارياً على زيادة حسن الجنة وكثرة ما فيها من النباتات المقيتة والمفكهة من النجم والأشجار والري والأطيار ، فقال لأنه ليس كل جنة مما نعرفه فيه ماء جارٍ بنفسه : { فيها } أي الجنة . ولما كان الماء الجاري صالحاً لأن يقسم إلى أماكن كثيرة ، وحد قوله المراد به الجنس الشامل للكثير مقابلة لعين أهل النار في دار البوار : { عين جارية * } أي عظيمة الجري جداً ، فهي بحيث لا تنقطع أصلاً لما لأرضها من الزكاء والكرم وما لمائها من الغزارة وطيب العنصر ، فهو صالح لأن يعم جميع نواحيها أقاصيها وأدانيها وإن عظم اتساعها وتناءت أقطارها وبقاعها ، كما نراه يجري من ساق الشجرة الكبيرة جداً فيسقي جميع أغصانها وأوراقها وثمارها ، ويزيد على ذلك بأن جريه من أسفل إلى فوق ، يجدبه جادب الشوق ويسوقه أي سوق يقدره الخلاق العليم ، والذي قدر على هذا كما هو مشاهد لنا لا نشك فيه قادر على أن يجعل هذه العين - الصالحة للجنس ولو كانت واحدة بالشخص - عامة لجميع مرافق الجنة تجري إلى خيامها ورياضها وبساتينها ومصانعها ومجالسها ويصعدها إلى أعالي غرفها وإن علت ، مقسمة بحسب المصالح ، موزعة على قدر المنافع ، بغاية الإحكام بما كان لداخلها من الخضوع الذي يجري منهم الدموع ويقل الهجوع ويكثر الظمأ والجوع .
ولما لم يبق بعد الأكل والشرب إلا الاتكاء ، قال مفهماً أنهم ملوك : { فيها } معيداً الخبر قطعاً للكلام عن الأول تنبيهاً على شرف العين لأن الماء مما لا حياة بدونه { سرر } أي زائدة الحد في العكثرة ، جمع سرير وهو مقعد عال يجلس عليه الملك ينقل إلى الموضع الذي يشتهيه ، سمي بذلك لأنه يسر النفس ، والمادة كلها للسرور والطيب والكرم ، ولذلك يطلق على الملك والنعمة وخفض العيش { مرفوعة * } أي رفعها رافع عظيم في السمك وهو جهة العلو ليرى الجالس عليها جميع ملكه وما نعم به وما شاء الله من غيره وفي القدر ، لا كما تعهدونه في الدنيا ، بل ارتفاعها نمط جليل من مقدار عظمة رافعها الذي رفع السماء ، فالتنكير للتعظيم ، وبنى الاسم للمفعول للدلالة على أنه ليس له من ذاتها إلا الانخفاض ، وأما ارتفاعها فبقسر القادر على كل شيء ، وهذا يدل على أنها كسماء لا عمد لها ، قال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة ما لم يجىء أهلها ، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها - ثم ترتفع إلى مواضعها - انتهى . وذلك بما كانوا يتواضعون ويباشرون من مشاق العبادات على التراب ورث الأثواب .

وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)

ولما كان المستريح يحتاج إلى تكرار الشرب وما يشرب فيه قال : { وأكواب } جمع كوب وهو إناء لا عروة له ، فهو صالح للمناولة والشرب من كل جهة { موضوعة * } أي ملآى وهي بحيث يسهل عليهم تناولها .
ولما كان من هو بهذه المثابة يحتاج إلى المساند والفرش الزائدة قال تعالى : { ونمارق } أي مساند يستندون إليها ، جمع نمرقة بالفتح والضم وهي الوسادة { مصفوفة * } أي بعضها إلى بعض فهي في غاية الكثرة كأنها الروابي المنضدة على بساط الأرض { وزرابيّ } أي بسط عريضة كثيرة الوبر كأنها الرياض فاخرة ناضرة زائدة عن مواضع استراحاتهم ، وهي جمع زربية { مبثوية * } أي مبسوطة على وجه التفرق في المواضع التي لا يراد التنزه بها من مواضع الرياحين النابتة والأشجار المتشابكة كما بسط سبحانه وتعالى أديم الأرض ورصعه بأنواع النبات الفاخرة بما بسطوا أنفسهم في الدنيا للحق وألانوها له .
ولما أنهى سبحانه ما أراد من تصوير تلك الدار على ما يليق بهذه السور القصار ، وكانوا ينكرون غاية الإنكار فوبخهم بما يعصمهم من الزيغ عن العقائد الحقة في استفهام إنكاري مذكراً لهم بأمورهم في غاية الوضوح في نفسها ، لأن نزول هذه السور كان في أول الأمر قبل أن يتمرنوا على المعارف تدل على قدرته على البعث وعلى قدرته على ما ذكر ما هذه الأمور التي أودعها الجنان للذة الإنسان ، وذلك لما في هذه الأمور التي ذكر بها سبحانه من عجائب الصنع مع تفاوته في جعل بعضها ذا اختيار في الخفض والرفع ، وبعضها على كيفية واحدة لا قدرة له على الانفكاك عنها من علو أو سفول مع التمهد أو التوعر ، فقال مسبباً عما مضى من الإخبار عن أحوال الفريقين في الآخرة وعن قدرته على ما ذكر : { أفلا ينظرون } أي المنكرون من هذه الأمة لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة وما ذكر فيها والنار وما ذكر فيها - نظر اعتبار .
ولما كان لهم من ملابسة الإبل ما ليس لهم من ملابسة غيرها ، وكانت فردة في المخلوقات لا شبيه لها مع ما لها من كثرة المنافع كما قال الحسن رحمه الله تعالى - مع أكلها لكل مرعى واجتزائها بأيسر شيء لا سيما في الماء وطول صبرها عنه مع عظم خلقها وكبر جرمها وشدة قوتها ، فكانت أدل على تمام القدرة والفعل بالاختيار ، قال منبهاً بذكرها على التدبر في الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً بعد ما أشار إلى دلالتها على البعث في البروج بذكر ثمود بعد أن صرح به في سورة سبحانه كما مضى بيانه في الموضعين ويأتي إن شاء الله تعالى في الفجر والشمس ، وأوضح التعبير عنها هنا بما يدل على الخلطة المميلة المحيلة المناسبة لمعنى الغاشية بخلاف التعبير في سورة النحل بالأنعام لأنها سورة النعم { إلى الإبل } ونبه على أن عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدواعي على الاستفهام والسؤال عنه بأداة الاستفهام ، فقال بانياً للمفعول إشارة إلى أن الدال هو التأمل في مجرد خلقها الدال على إحاطة علم الله وعظيم إحسانه وقدرته تعالى وفعله بالاختيار وحسن تدبيره حيث خلقها لجر الأثقال إلى البلاد النائية فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة به من غير معين ، منقادة لمن اقتادها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار الثقال ترعى كل نبات وتحتمل العطش إلى عشر فصاعداً ليتأتى بها قطع المفاوز ، فهي سفن البر مع ما لها من منافع أخر ، قال البيضاوي : ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً ولأنها أعجب ما عند العرب - انتهى ، وتنفعل للبسط وتجد في سيرها فتتأثر بالصوت الحسن جداً ، ومن عجائبها أنها لا تكذب أصلاً فإنها لا تبرك عجزاً عن الحمل - إلا وليس فيها من القوى شيء ، وليس فيها ما تعم كراهته إلا كثرة رغائها فلعله سبحانه نفى عن الجنة اللغو لذلك ، ولعله مثل العين الجارية وقربها بدرها ، والسرر المرفوعة التي حكى أنها تنخفض حتى يتمكن المنتفع بها من ظهورها ثم ترتفع به بالسماء في علوها مع ما يعهدون من بروك الإبل للحمل والركوب ثم ارتفاعها لتمام الانتفاع ، وقرب نصب الأكواب بسنامها والنمارق ببقيتها حال بروكها ، ثم فصل ما دلت عليه الإبل من الأكواب بالجبال التي لا ترتقى مثل جبل السد ، والنمارق بالتي ترتقى ، وبسط الزرابي بمهد الأرض ، قال أبو حيان رحمه الله تعالى : و { كيف } سؤال عن حال والعامل فيه { خلقت * } وإذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته .

ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا المخلوق المفرد الذي هو أدل ما يكون على هذا القول بالطبيعة ، أتبعه ذكر السماء ليتذكر السامع ذلك فيباعد من يقول به فقال : { وإلى السماء } أي التي هي من جملة مخلوقاتنا { كيف رفعت * } أي حصل بأيسر أمر رفعها من الذي خلقها بلا عمد على ما لها من السعة والكبر والثقل والإحكام وما فيها من جبال الكواكب والغرائب والعجائب ، فذلك دال على القدرة التامة التي لا يشارك تعالى فيها أحد قل ولا جل على إيجاد الجنة العالية وعلى رفع السرر فيها لأنه دل على الفعل بالاختيار ونفي حكم الطبيعة حكماً وحتماً ، وذلك دال على كمال قدرته تعالى على كل شيء .
ولما ذكر العالي من الحيوان الملابس للانسان والعالي من الأكوان ، أتبعه أعلى الأرض فقال تعالى : { وإلى الجبال } أي الشامخة وهي أشد الأرض { كيف نصبت * } أي كان نصبها من ناصبها عالية جداً على بقية الأرض بلا موجب فيها لذلك من طبيعة ولا غيرها بل بفعل الفاعل المختار فهي راسخة لا تميل ، فوضعها كذلك على ما فيها من المنافع من المياه الجارية والأشجار المختلفة أعجب من وضع الأكواب والنمارق المزينة ، وبها مع ذلك ثبتت الأرض وحفظت من الميد ، واعتدل أمر الكواكب في تقدير الليل والنهار باعتدال البلاد بالطلق بإعلاء بعضها قبل بعض حتى كانت المطالع والمغارب على ترتيب مطرد ونظام محكم غير منخرم تقدر به الأزمان والفصول والسنون والأيام والشهور - إلى غير ذلك من الأمور ، ولا يكون ذلك لها إلا بقاهر قادر مختار لا شريك له .

ولما كان الخفض لا يكون إلا بخافض قاهر كما أن الرفع كذلك قال تعالى : { وإلى الأرض } أي مع سعتها { كيف سطحت * } أي اتفق بسطها من باسطها حتى صارت مهاداً موضوعاً يمشي عليه بغاية السهولة ، والقدرة على جعلها كذلك على ما هي فيه من الزينة بناضر النبات وغير ذلك من الاختلافات دالة على الفعل بالاختيار ، وليست بدون القدرة على بث الزرابي في الجنة على اختلاف أشكالها وصورها وألوانها .
ولما دل ما ذكر من عجائب صنعه في أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات العلويات والسفليات على كمال قدرته على كل شيء ، فدل على كمال قدرته - على البعث وعلى كل ما ذكر أنه يفعله في الجنة والنار ، وكان الحث على النظر في هذه الأشياء باستفهام إنكاري ، وكان ذلك مفيداً لانتفاء النظر ، قال سبحانه مسبباً عنه : { فذكر } كل من يرجى تذكره وانتفاعه بالتذكير يا أشرف خلقنا بما في غرائزهم وفطرهم من العلم الأولى بما في هذه الأشياء وأمثالها مما يدل على صحة ما نزلنا عليك ليدلهم على كمال قدرة الذي بعثك فينقادوا لك أتم انقياد لا سيما في اعتقاد حقية البعث ، ولا يهمنك كونهم لا ينظرون ولا يتطرفون ، ولعل التذكير يوصل المتذكر إذا أقبل عليه بحسن رغبة إلى أن يعرف أن الإبل تشبه الأنفس المطمئنة الذلولة المطيعة المناقدة ، والسماء تشبه الأرواح القدسية النورانية ، والجبال تشبه العقول والمعارف الثابتة الراسخة ، والأرض تشبه البدن المشتمل على الأعضاء والأركان .
ولما كانت هذه السورة مكية من أوائل ما أنزل ، وكان مأموراً إذ ذاك بالصفح قال : { إنما أنت مذكر * } أي لا مقاتل قاهر قاسر لهم على التذكر والرجوع ، فلا عليك إن لم ينظروا ولم يتذكروا لأنه ما عليك إلا البلاغ ، ولذلك قال { لست } وأشار إلى القهر بأداة الاستعلاء فقال : { عليهم } أي خاصة { بمصيطر * } أي بمتسلط ، وأما غيرهم فسنسلطك عليهم عن قريب ، وقرأها الكسائي بالسين على الأصل .

إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

ولما نفى عنهم تسلط الدنيا ، وكان التقدير : فمن أقبل وآمن فإن الله ينعمه النعيم الأكبر ، قال مستدركاً قسيمهم في صورة الاستثناء : { إلا } أي لكن { من تولى } أي كلف نفسه المطمئنة وفطرته الأولى المستقيمة للإعراض { وكفر * } أي وأصر على كفره ، وأجاب الشرط بقوله مسبباً عنه : { فيعذبه } أشد العذاب الذي لا يطيقه أصلب الحديد ولا أشد الجبال { الله } أي الملك الأعظم بسبب تكبره على الحق ومخالفته لأمرك المطاع ومرادك الذي كله الحسن الجميل ، ولعله صوره وهو منقطع بصورة المتصل بالتعبير بأداته إشارة إلى أن العذاب من الله عذاب منه صلى الله عليه وسلم ، لأن سببه تكذيبهم له ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما « ألا » بالفتح والتخفيف على أنها استفتاحية { العذاب الأكبر * } يعني عذاب الآخرة ، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً فيكون المعنى : أن من أصر على الكفر يسلطه الله عليه فيقتله فيعذبه الله في الدار الآخرة ، ثم علل إخباره عنه عذابه في الآخرة بقوله مؤكداً لما لهم من التكذيب : { إن إلينا } أي خاصة بما لنا من العظمة والكبرياء { إيابهم * } أي رجوعهم وإن أبوا بالموت ثم بالبعث ثم بالحشر .
ولما كان الحساب متأخراً عن ذلك كله ، وعظيماً كماً وكيفاً ، عظمه بأداة التراخي فقال : { ثم إن } أكده لإنكارهم ، وأتى بأداة دالة على أنه كالواجب في أنه لا بد منه فقال : { علينا } أي خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العبث والجور وكل نقص ، لا على غيرنا ، لأن غيرنا لا قدرة له فقد تقدمنا فيه بالوعود الصادقة ، وأكدناها غاية التأكيد { حسابهم * } أي يوم القيامة على النقير والقطمير ، وغير ذلك من كل صغير وكبير ، وذلك يكون في الغاشية يوم ينقسم الناس قسمين : في دار هوان ، ودار أمان ، فقد التف آخرها بأولها ، وتعانق مفصلها بموصلها - والله الهادي للصواب وإليه المآب .

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)

لما ختمت تلك بأنه لا بد من الإياب والحساب ، وكان تغيير الليل والنهار وتجديد كل منهما بعد إعدامه دالاًّ على القدرة على البعث ، وكان الحج قد جعله الله في شرعه له على وجه التجرد عن المخيط ولزوم التلبية والسير إلى الأماكن المخصوصة آية مذكرة بذلك قال : { والفجر * } أي الكامل في هذا الوصف لما له من العظمة حتى كأنه لا فجر غيره ، وهو فجر يوم النحر الذي هو أول الأيام الآخذة في الإياب إلى بيت الله الحرام بدخول حرمه والتحلل من محارمه وأكل ضيافته .
ولما ذكر هذا اليوم بما العبارة به عنه أدل على البعث لأنه ينفجر عن صبح قد أضاء ، ونهار قد انبرم ، وانقضى ، لا فرق بينه وبين ما مضى ، عم فقال معبراً بالمقابل : { وليال عشر * } هي أعظم ليالي العام . وهي آية الله على البعث بالقيام إلى إجابة داعي الله تعالى على هيئة الأموات { والشفع } أي لمن تعجل في يومين { والوتر * } أي لمن أتم - قاله ابن الزبير ، وروى أحمد والبزار برجال الصحيح عن عياش بن عقبة وهو ثقة عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « العشر الأضحى ، والشفع يوم الأضحى ، والوتر يوم عرفة » .
ولما كان تعاقب الليل والنهار أدل على القدرة وأظهر في النعمة ، قال رادّاً لآخر القسم على أوله ، ومذكراً بالنعمة وكمال القدرة ، لأن الليل أخفاهما سُرى وسراً ، فهو أعظمهما في ذلك أمراً ، لأن سير النهار ظاهر لسرايته بخلاف الليل فإنه محوى صرفه فكان أدل على القدرة { والّيل } أي من ليلة النفر { إذا يسر * } أي ينقضي كما ينقضي ليل الدنيا وظلام ظلمها فيخلفه الفجر ويسرى فيه الذين آبوا إلى الله راجعين إلى ديارهم بعد حط أوزارهم ، وقد رجع آخر القسم على أوله - وأثبت الياء في يسري ابن كثير ويعقوب وحذفها الباقون ، وعلة حذفها قد سأل عنها المؤرج الأخفش فقال : اخدمني سنة ، فسأله بعد سنة فقال : الليل يسرى فيه ولا يسري ، فعدل به عن معناه فوجب أن يعدل عن لفظه كقوله تعالى : { وما كانت أمك بغيّاً } [ مريم : 28 ] لما عدل عن « باغية » عدل لفظه فلم يقل : بغية - انتهى ، وهو يرجع إلى اللفظ مع أنه يلزم منه رد روايات الإثبات ، والحكمة المعنوية فيه - والله أعلم - من جهة الساري وما يقع السرى فيه ، فأما من جهة الساري فانقسامهم ليلة النفر إلى مجاور وراجع إلى بلاده ، فأشير إلى المجاورين بالحذف حثاً على ذلك لما فيه من جلالة المسالك ، فكان ليل وصالهم ما انقضى كله ، فهم يغتنمون حلوله ويلتذون طوله من تلك المشاهد والمشاعر والمعاهد ، وإلى الراجعين بالإثبات لما سرى الليل بحذافيره عنهم آبوا راجعين إلى ديارهم فيما انكشف من نهارهم ، وأما من جهة ما وقع فيه السرى فللاشارة إلى طوله تارة وقصره أخرى ، فالحذف إشارة إلى القصير والإثبات إشارة إلى الطويل بما وقع من تمام سراه وما وقع للسارين فيه من قيام وصف الأقدم بين يدي الملك العلام كما قال الإمام تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى حيث قال مشيراً لذلك :

كم ليلة فيك وصلنا السرى ... لا نعرف الغمض ولا نستريح
الأبيات المذكورة عنه في المزمل ، فقد انقسم الليل إلى ذي طول وقصر ، والساري فيه إلى ذي حضر وسفر ، فدلت المفاوتة في ذلك وفي جميع أفراد القسم على أن فاعلها قادر مختار واحد قهار ، ولذلك أتبعه الدلالة بقهر القهارين وإبارة الجبارين ، وأما « بغي » فذكرت حكمته في مريم .
ولما كان هذا قسماً عظيماً في ذكر تلك الليالي المتضمن لذكر المشاعر وما فيها من الجموع والبكاء كما قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
وليلة جمع والمنازل من منى ... وهل فوقها من حرمة ومنازل
وفي تذكيره بالبعث ودلالته عليه دلالة عقلية واضحة بالإيجاد بعد الإعدام مع ما لهذه الأشياء في أنفسها وفي نفوس المخاطبين بها من الجلالة ، نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله : { هل في ذلك } أي المذكور مع ما له من عليّ الأمر وواضح القدر { قسم } أي كاف مقنع { لذي } أي صاحب { حجر * } أي عقل فيحجره ويمنعه عن الهوى في درك الهوى ، فيعليه إلى أوج الهدى ، في درج العلا ، حتى يعلم أن الذي فعل ما تضمنه هذا القسم لا يتركه سدى ، وأنه قادر على أن يحيى الموتى ، قال ابن جرير : يقال للرجل إذا كان مالكاً نفسه قاهراً لها ضابطاً : إنه لذو حجر - انتهى ، فمن بلغ أن يحجره عقله عن المآثم ويحمله على المكارم فهو ذو حجر .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ابتدأ سبحانه لمن تقدم ذكره وجهاً آخر من الاعتبار ، وهو أن يتذكروا حال من تقدمهم من الأمم وما أعقبهم تكذيبهم واجترامهم فقال : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } إلى قوله : { إرم ذات العماد } إلى قوله : { إن ربك لبالمرصاد } أي لا يخفى عليه شيء من مرتكبات الخلائق ولا يغيب عنه ما أكنوه { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به } [ الرعد : 10 ] فهلا اعتبر هؤلاء بما يعاينونه ويشاهدونه من خلق الإبل ورفع السماء ونصب الجبال وسطح الأرض ، وكل ذلك لمصالحهم ومنافعهم ، فالإبل لأثقالهم وانتقالهم ، والسماء لسقيهم وإظلالهم ، والجبال لاختزان مياههم وأقلالهم ، والأرض لحلهم وترحالهم ، فلا بهذه الأمور كلها استبصروا ، ولا بمن خلا من القرون اعتبروا ، { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } على عظيم طغيانها وصميم بهتانها { إن ربك لبالمرصاد } فيتذكرون حين لا ينفع التذكر { إذا دكت الأرض دكاً وجاء ربك والملك صفاً صفاً وجيء يومئذ بجهنم ، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى } - انتهى .

ولما كان التقدير كما هدى إليه السياق : ليبعثن كلهم صاغرين ثم ليحشرن ثم ليحاسبن فيجازى كل أحد بما عمل ، فإن آمنوا بذلك نجوا وإلا عذبهم الذي ثبتت قدرته على العذاب الأكبر بعد العذاب الأدنى بسبب قدرته على البعث بسبب قدرته على ما رأيتم من خلق الإبل والسماء والجبال والأرض على ما في كل من العجائب بسبب قدرته على كل شيء ، وهذا هو المقصود بالذات ، حذف زيادة في تعظيمه واعتماداً على معرفته بما هدى إليه من السياق في جميع السورة وما قبلها . ولما طوى جواب القسم لإرشاد السياق إليه وتعويل المعنى عليه ، وتهويلاً له مع العلم بأنه لا يكون قسم بغير مقسم عليه ، وكان قد علمت القدرة عليه مما أشير إليه بالمقسم به ، أوضح تلك القدرة بأمر العذاب الأدنى - للأمم الماضية ، فقال مخاطباً لمن قال له في آخر تلك { فذكر إنما أنت مذكر } [ الغاشية : 21 ] تسلية له صلى الله عليه وسلم وإشعاراً بأنه لا يتدبره حق تدبره غيره ، وتهديداً لمن كذب من قومه : { ألم تر } أي تنظر بعين الفكر يا أشرف رسلنا فتعلم علماً هو في التيقن به كالمحسوس بالبصر ، وعبر بالاستفهام إشارة إلى أن ما ندبه إلى رؤيته مما يستحق أن يسأل عنه : { كيف فعل ربك } أي المحسن إليك بإرسالك ختاماً لجميع الأنبياء بالأمم الماضية بما شاركوا به هؤلاء من تكذيب الرسل وجعل محط نظرهم الدنيا ، وعملوا أعمال من يظن الخلود ، وبدأ بأشدهم في ذلك وأعتاهم الذين قالوا : من أشد منا قوة؟ فقال : { بعاد * } أي الذين بلغوا في الشدة أن قالوا : من أشد منا قوة؟ وقال لهم نبيهم هود صلى الله عليه وسلم : { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } [ الشعراء : 129 ] ودل على ذلك بناؤهم جنة في هذه الدنيا الفانية التي هي دار الزوال ، والقلعة والارتحال ، والنكد والبلاء والكدر ، والمرض والبؤس والضرر ، فقال مبيناً لهم على حذف مضاف : { إرم } أي أهلها وعمدتها ، وأطلقها عليهم لشدة الملابسة لما لها من البناء العجيب والشأن الغريب ، ثم بينها بقوله : { ذات } أي صاحبة { العماد * } أي البناء العالي الثابت بالأعمدة التي لم يكن في هذه الدار مثلها ، ولذا قال : { التي لم يخلق } أي يقدر ويصنع - بناه للمفعول إرادة للتعميم { مثلها } يصح أن يعود الضمير على « عاد » باعتبار القبيلة ، على « إرم » باعتبار البلدة ، وأوضح هذا بقوله معمماً للأرض كلها : { في البلاد * } أي في بنائها ومرافقها وثمارها ، وتقسيم مياهها وأنهارها ، وطيب أرضها وحسن أطيارها ، وما اجتمع بها مما يفوت الحصر ويعجز القوى ، ولا مثل أهلها الذين بنوها في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم وغير ذلك من أمورهم ، وكان صاحبها شداد قد ملك المعمورة كلها فتحيزها فبناها في برية عدن في ثلاثمائة سنة يضاهي بها الجنة على ما زعم - قلوب ضلت وأضلت وأضلها باريها - قال أبو حيان : على أوصاف بعيد أو مستحيل عادة أن يكون في الأرض مثلها ، فلما تمت على ما أراد قصدها للسكن وعمره إذ ذاك تسعمائة سنة ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فأهلكهم فكانوا كأمس الذاهب ، وأخفى مدينتهم فلم يرها أحد إلا عبد الله بن قلابة ، خرج في طلب إبل ضلت له على زمن معاوية رضي الله عنه فوقع عليها ، ولما خرج منها وانفصل عنها خفيت عنه ، وكان قد حمل معه بعض ما رأى فيها من اللؤلؤ والمسك والزعفران فباعه ، وسمع به معاوية رضي الله عنه فأرسل إليه فحدثه ، فأرسل ، معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأحبار فسأله عن ذلك فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أشقر أحمر قصير ، على حاجبيه خال ، وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذاك الرجل - ذكره شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف وقال : وآثار الوضع عليه لائحة ، وقال جماعة منهم ابن عباس رضي الله عنهما : الأوصاف كلها للقبيلة وهم عاد الأولى ، واسمها إرم باسم جدهم ، وكانوا عرباً سيارة يبنون بيوتهم على الأعمدة على عادة العرب ، ولم يخلق مثلهم أمة من الأمم في جميع البلاد .

وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)

ولما بدأ بهؤلاء لأن أمرهم كان أعجب ، وقصتهم أنزه وأغرب ، ثنى بأقرب الأمم إليهم زماناً وأشبههم بهم شأناً لأنهم أترفوا بما حبوا به من جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم ، فجعلوا موضع ما لزمهم من الشكر الكفر ، واستحبوا العمى على الهدى ، مع ما في آيتهم ، وهي الناقة ، من عظيم الدلالة على القدرة فقال : { وثمود الذين جابوا } أي نقبوا وقطعوا قطعاً حقيقاً كأنه عندهم كالواجب { الصخر بالواد * } أي وادي الحجر أو وادي القرى ، فجعلوا بيوتاً منقورة في الجبال فعل من يغتال الدهر ويفني الزمان ، قال أبو حيان : قيل أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة .
ولما ذكر القبيلتين من العرب ، ذكر بعض من جاورهم من طغاة العجم لما في قصتهم من العتو والجبروت مع ما حوته من الغرائب وخوارق العجائب لا سيما في القدرة على البعث بقلب العصا حية وإعادتها جماداً مع التكرر ، وبإيجاد الضفادع والقمل من كثبان الأرض وغير ذلك فقال : { وفرعون } أي وفعل بفرعون { ذي الأوتاد * } أي الذي ثبّت ملكه تثبيت من يظن أنه لا يزول بالعساكر والجنود وغيرهم من كل ما يظن أنه يشد أمره من الجنات والعيون والزروع والمقامات الكريمة ، فصارت له اليد المبسوطة في الملك .
ولما كان المراد بفرعون هو وجنوده لآن الرأس يكنى به عن البدن ، لأنه جماعة وبه قوامه ، وصفه بوصف يجمع قومه وجميع من ذكر هنا فقال : { الذين } أي فرعون وجنوده وكل من ذكر هنا من الكفرة من عاد وثمود وأتباعهم { طغوا } أي تجاوزوا الحدود { في البلاد * } أي التي ملكوها بالفعل وغيرها بالقوة { فأكثروا } عقب طغيانهم وبسببه { فيها الفساد * } بما فعلوا من الكفر والظلم مما صار سنة لمن سمع به .
ولما كان ذلك موجباً للعذاب ، سبب عنه قوله : { فصب } أي أنزل إنزالاً هو في غاية القوة { عليهم } أي في الدنيا { ربك } أي المحسن إليك المدبر لأمرك الذي جعل ما مضى من أخبار الأمم وآثار الفرق موطئاً لهم { سوط عذاب * } أي جعل عذابهم من الإغراق والرجف وغيرهما في وقته وتمكنه وعلوه وإحاطته كالمصبوب في شدة ضربه ولصوقه بالمضروب وإسراعه إليه والتفافه به كالسوط وفي كونه منوّعاً إلى أنواع متشابكة ، وأصله الخلط ، وإنما سمي هذا الجلد المضفور الذي يضرب به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض ، ولأنه يخلط اللحم والدم ، وقيل : شبه بالسوط ما أحل بهم في الدنيا إشعاراً بالترديد والتكرير إلى أن يهلك المعذب به وإيذاناً بأنه بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى السيف ، هذا سوط الدنيا وسيف الآخرة أشد وأحد وأمضى ، ثم علل أخذه لكل ظالم وانتقامه من كل مفسد بأنه رقيب ، فقال ممثلاً أن العصاة لا يفوتونه مؤكداً تنبيهاً على أن أعمال من ينكر ذلك أو لا يخطر بباله : { إن ربك } أي مولاك المدبر لأمر نبوتك { لبالمرصاد * } أي لا يفوته شيء ، بل هو قادر ومطلع على كل شيء اطلاع من يريده بالإقامة في مكان الرصد وزمانه مع غاية الحفظ والرعي وهو قادر على ما يريد .

ولما ذكر سبحانه أن عادة هؤلاء الفرق كانت الطغيان ، وذكر أن عادة الرب سبحانه فيمن تولى وكفر أنه يعذبه كما هدد به آخر تلك ، ودل على ذلك بما شوهد في الأمم ، وعلل ذلك بأنه لا يغفل ، ذكر عادة الإنسان من حيث هو من غير تقييد بهؤلاء الفرق عن الابتلاء في حالي السراء والضراء ، فقال مشيراً إلى جواب ما كانت الكفار تقوله من أنهم آثر عند الله من المسلمين لا يساعد عليهم في الدنيا وتقلل الصحابة رضي الله عنهم من الدنيا مسبباً عما مضى عطفاً على ما تقديره : هذه كانت عادة هؤلاء الأمم وعادة الله فيهم : { فأما الإنسان } أي الذي أودع الحجر ليعقل هذه الأقسام وما يراد منه من اعتقاد المقسم عليه بها وجبل على النسيان والأنس بنفسه والمحبة لها والرضى عنها .
ولما كان المقصود التعريف بحاله عند الابتداء ، قدم الظرف الدال على ذلك على الخبر فقال : { إذا } وأكد الأمر بالنافي فقال { ما ابتلاه } أي عامله معاملة المختبر بأن خالطه بما أراد مخالطة تميله وتحيله { ربه } أي الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر شكره أو كفره { فأكرمه } أي بأن جعله عزيزاً بين الناس وأعطاه ما يكرمونه به من الجاه والمال { ونعمه * } أي بأن جعله متلذذاً مترفاً بما أعطاه غير تعبان - بسببه { فيقول } سروراً بذلك وافتخاراً : { ربي } أي الموجد لي والمدبر لأمري { أكرمن * } أي فيظن أن ذلك عن استحقاق فيرتفع به { وأما } هو { إذا } وأكد على نمط الأول فقال : { ما ابتلاه } أي ربه ليظهر صبره أو جزعه .
ولما كان قوله في الأول « فأكرمه ونعمه » كناية عن « فوسع عليه » قابله هنا بقوله : { فقدر } أي ضيق تضييق من يعمل الأمر بحساب وتقدير { عليه رزقه } فهو كناية عن الضيق كما أن العطاء بغير حساب كناية عن السعة ، فجعله بمقدار ضرورته الذي لا يعيش عادة بدونه ، ولم يجعله فيه فضلاً عن ذلك ولم يقل « فأهانه » موضع « قدر عليه » تعليماً للأدب معه سبحانه وتعالى وصوناً لأهل الله عن هذه العبارة لأن أكثرهم مضيق عليه في دنياه ، ولأن ترك الإكرام لا ينحصر في كونه إهانة { فيقول } أي الإنسان بسبب الضيق : { ربي } أي المربي لي { أهانن * } فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً ، ويكون ذلك أكبر همه .

كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)

ولما كان نسبة هذا إليه توبيخاً وتقريعاً لقصور نظره فإن الإقتار قد يؤدي إلى سعادة الدارين ، والتوسعة قد تؤدي إلى شقاوتهما ، وهذا أكثر ما يوجد ، قال ردعاً عن مثل هذا القول بأعظم أدوات الزجر معللاً للتوسعة والإقتار : { كلا } أي إني لا أكرم بتكثير الدنيا ولا أهين بتقليلها ، لا التوسعة منحصرة في الإكرام ولا التضييق منحصر في الإهانة والصغار ، وإنما أتتهم الإهانة من حيث إنهم لا يطيعون الله ، وربما كان بالتوسعة ، وربما كانت بالإقتار ، فربما عصى فوسع عليه إهانة له ، وهذا لمن يريد سبحانه به الشقاء فيعجل له طيباته في الدنيا استدراجاً ، وربما عصى فضيق عليه إكراماً له لأن ذلك يكفر عنه ، وفي الصحيح في حديث أقرع وأبرص وأعمى في بني إسرائيل شاهد عظيم لذلك .
ولما زجر عن اعتقاد أن التوسعة للاكرام والتضييق للاهانة ، ذكر أن معيار من جبل على حب الطاعة ومن جبل على حب المعصية بغض الدنيا وحبها ، فقال معرباً عن كلام الإنسان في الشقين وأفرد أولاً لأنه أنص على التعميم وجمع ثانياً إعلاماً بأن المراد الجنس { بل } أي يستهينون بأمر الله بما عندهم من العصيان ، فيوسع على بعض من جبل على الشقاء إهانة له بالاستدراج ويضيق على بعض من لم يجبل على ذلك إكراماً له وردعاً عن اتباع الهوى ورداً إلى الإحسان إلى الضعفاء ، وترجم هذا العصيان الذي هو سبب الخذلان بقوله : { لا يكرمون } أي أكثر الناس { اليتيم * } بالإعطاء ونحوه شفقة عليه ورحمة له لأنه ضعيف لا يرجى من قبله نفع بثناء ولا غيره .
ولما كان الإنسان لا يمنعه من حث غره على الخير إلا حب الدنيا إن كان المحثوث أعظم منه فيدخره لحوائجه وإن كان مثله فإنه يخشى أن يقارضه بذلك فيحثه على مسكين آخر ، وكان الإحسان بالحث على الإعطاء أعظم من الإعطاء لأنه يلزم منه الإعطاء بخلاف العكس ، قال : { ولا يحضون } أي يحثون حثاً عظيماً لأهلهم ولا لغيرهم { على طعام المسكين * } أي بذله له سخاء وجوداً ، فكانت إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغني في ماله بقدر الزكاة .
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي ، دل عليه بأمر في الإنسان فقال تعالى : { ويأكلون } أي على سبيل التجديد والاستمرار { التراث } أي الميراث ، أصله وراث أبدلت الواو تاء ، وكأنه عبر عنه به دلالة على أخذ الظاهر الذي تشير إليه الواو ، والتفتيش عن الباطن المشار إليه بمخرج التاء تفتيشاً ربما أدى إلى أخذ بعض مال الغير : { أكلاً لمّاً * } أي ذا لمٍّ أي جمع وخلط بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يؤرثون النساء ولا الصبيان ويأكلون ما جمعه المؤرث وإن كانوا يعلمون أنه حرام ويقولون : لا يستحق المال إلا من يقاتل ويحمي الحوزة .

ولما كان ذلك قد يفعل عن ضرورة مع الكراهة قال ما هو صريح في المقصود : { ويحبون } أي على سبيل الاستمرار { المال } أي هذا النوع من أي شيء كان ، وأكده بالمصدر والوصف فقال : { حباً جماً * } أي كثيراً مع حرص وشره ، فصار قصارى أمرهم النظر الدنيوي ، ولم يصرفوا أنفسهم عن حبه إلى ما دعا إليه العقل الذي يعقل النفس عن الهوى ، والحجر الذي يحجرها عن الحظوظ ، والنهية التي تنهاها عن الشهوات إلى الإقبال على الله .
ولما كان السياق هادياً إلى أن التقدير : يحسبون أن ذلك يوفر أموالهم ويحسن أحوالهم ويصلح بالهم ، زجر عنه بمجامع الزجر فقال : { كلا } أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ، ثم استأنف ذكر ما يوجب ندمهم وينبههم من رقدتهم ويعرفهم أن حب المال لا يقتضي نموه ، ولو اقتضى نموه ما اقتضى إيجابه للسعادة فقال : { إذ دكت الأرض } أي حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدة المط لا عوج فيها بوجه ، وأشار بالبيناء للمفعول إلى سهولة ذلك لأن الأمر عظيم لعظمة الفاعل الحق ، ولذلك قال : { دكاً دكاً * } أي مكرراً بالتوزيع على كل موضع ناتٍ فيها ، فيكون لكل جبل وأكمة وثنية وعقبة دك يخصه على حدته ليفيد ذلك أنه دك مبالغ فيه فتصير جبالها وأكمامها هباءً منثوراً ثم تستوي حتى لا يكون فيها شيء من عوج ، وهو كناية عن زلازل عظيمة لا تحملها الجبال الرواسي فيكف بغيرها .
ولما دلت التسسوية على مجيء أمر عظيم ، فإن العادة في الدنيا أن الطرق لا تعم بالكنس أو الرش أو التسوية إلا لحضور عظيم كالسلطان ، قال متلطفاً بالمخاطب من أواخر سورة البروج إلى هنا بذكر صفة الإحسان على وجه يفتت أكباد أضداده ، { وجاء ربك } أي أمر المحسن إليك بإظهار رفعتك العظمى في ذلك اليوم الأعظم لفصل القضاء بين العباد بشفاعتك { والملك } أي هذا النوع حال كون الملائكة مصطفين { صفاً صفاً * } أي موزعاً اصطفافهم على أصنافهم كل ، صنف صف على حدة ، ويحيط أهل السماء الدنيا بالجن والإنس ، وأهل كل سماء كذلك ، وهم على الضعف ممن أحاطوا به حتى يحيطوا أهل السماء السابعة بالكل وهم على الضعف من جميع من أحاطوا به من الخلائق ، ومعنى مجيئه سبحانه وتعالى بعد أن ننفي عنه أن يشبه مجيء شيء من الخلق لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، فإذا صححنا العقد في ذلك في كل ما كان من المتشابه قلنا في هذا إنه مثل أمره سبحانه وتعالى في ظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وقهره وسلطانه يحال الملك إذا حضر بنفسه فظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بظهور عساكره كلها خالية عنه ، فمجيئه عبارة عن حكمه وإظهار عظمته وبطشه وكل ما يظهره الملوك إذا جاؤوا إلى مكان ، وهو سبحانه وتعالى شأنه حاضر مع المحكوم بينهم بعلمه وقدرته ، لم يوصف بغيبة أصلاً أزلاً ولا أبداً ، فحضوره في ذلك الحال وبعده كما كان قبل ذلك من غير فرق أصلاً ولم يتجدد شيء غير تعليق قدرته على حسب إرادته بالفصل بين الخلق ، ولو غاب في وقت أو أمكنت غيبته بحيث يحتاج إلى المجيء لكان محتاجاً ، ولو كان محتاجاً لكان عاجزاً ، ولو عجز أو أمكن عجزه في حال من الأحوال لم يصلح للالهية - تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً ، وفي تكرير « صفاً » تنبيه على صرف المجيء عن حقيقته وإرشاد إلى ما ذكرت من التمثيل .

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

ولما كانت جهنم لا تأتي بنفسها لأنها لو أتت بنفسها لربما ظن أنها خارجة عن القدرة بل تقودها الملائكة ، فكلما عالجوها ذهاباً وإياباً حصل للناس من ذلك من الهول ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وكان المهول نفس المجيء بها لا تعيين الفاعلين ، لذلك بني للمفعول قوله : { وجاء } أي بأسهل أمر { يومئذ } أي إذ وقع ما ذكر { بجهنم } أي النار التي تتجهم من يصلاها ، روي أنه يؤتى بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك ، وهو كقوله تعالى : { وبرزت الجحيم لمن يرى } [ النازعات : 36 ] وأبدل من « إذا » توضيحاً لطول الفصل وتهويلاً قوله : { يومئذ } أي إذ وقعت هذه الأمور فرأى الإنسان ما أعد للشاكرين وما أعد للكافرين .
ولما قدم هذه الأمور الجليلة والقوارع المهولة اهتماماً بها وتنبيهاً على أنها ، لما لها من عظيم الموعظة ، جديرة بأن يتعظ بها كل سامع ، ذكر العامل في ظرفها وبدله فقال : { يتذكر الإنسان } أي على سبيل التجديد والاستمرار فيذكر كل ما كان ينفعه في الدنيا وما يضره فيعلم أن حبه للدنيا لم يفده إلا خساراً ، لا زاد بحبها شيئاً لم يكتب له ولا كان ينقصه بذلها شيئاً كما كتب له أو بذلها ، وإذا تذكر ذلك هان عليه البذل ، وليست تلك الدار دار العمل ، فلذلك قال : { وأنى } أي كيف ومن أي وجه { له الذكرى * } أي نفع التذكر العظيم فإنه في غير موضعه ، فلا ينفعه أصلاً بوجه من الوجوه لفوات دار العمل ، ولا يقع بذلك على شيء سوى الندم وتضاعف الغم والهم والآلام .
ولما كان الندم يقتضي أن يعمل الإنسان ما ينافيه ، بين أنه ليس هناك عمل إلا إظهار الندم فاستأنف قوله : { يقول } أي متمنياً المحال على سبيل التجديد والاستمرار : { يا ليتني } وهل ينفع شيئاً « ليت » { قدمت } أي أوقعت التقديم لما ينفعني من الجد والعمل به { لحياتي * } أي أيام حياتي في الدنيا أو لأجل حياتي هذه الباقية التي لا موت بعدها ، ويمكن أن يكون سبب تمنيه هذا علمه بأنه كان في الدنيا مختاراً ، وأن الطاعات في نفسها كانت ممكنة لا مانع له منها في الظاهر إلا صرف نفسه عنها وعدم تعليق ما أتاه الله من القوى بها .
ولما كان هذا غير نافع له ، سبب عنه قوله : { فيومئذ } أي إذ وقعت هذه الأمور كلها { لا يعذب } أي يوقع { عذابه } أي عذاب الله ، أي مثل عذابه المطلق المجرد فكيف بتعذيبه . ولما اشتد التشوف إلى الفاعل ، أتى به على وجه لا أعم منه أصلاً فقال : { أحد * } .
ولما جرت العادة بأن المعذب يستوثق منه بسجن أو غيره ، ويمنع من كل شيء يمكن أن يقتل به نفسه ، خوفاً من أن يهرب أو يهلك نفسه قال : { ولا يوثق } أي يوجد { وثاقه } أي مثل وثاقه فكيف بإيثاقه { أحد * } والمعنى أنه لا يقع في خيال أحد لأجل انقطاع الأنساب والأسباب أن أحداً يقدر على مثل ما يقدر عليه سبحانه وتعالى من الضر ليخشى كما يقع في هذه الدنيا ، بل يقع في الدنيا في أوهام كثيرة أن عذاب من يخشونه أعظم من عذاب الله - وأن عذاب الدنيا بأسره لو اجتمع على إنسان وحده لا يساوي رؤية جهنم بذلك المقام في ذلك المحفل المهول دون دخولها - ولذلك تقدم خوفه على الخوف من الله ، وبنى الكسائي ويعقوب الفعلين للمفعول ، والمعنى على قراءة الجماعة ببنائها للفاعل : لا يعذب أحد عذاباً مثل عذاب الله أي لا يعذب أحد غير الله أحداً من الخلق مثل عذاب الله له ، والحاصل أنه لا يخاف في القيامة من أحد غير الله ، فإنه ثبت بهذا الكلام أن عذابه لا مثل له ، ولم يذكر المعذب من هو فيرجع الأمر إلى أن المعنى : فيومئذ يخاف الإنسان من الله خوفاً لا مثل له ، أي لا يخاف من أحد مثل خوفه منه سبحانه وتعالى ، ويجوز أن يكون الضمير في « عذابه » للإنسان ، أي لا يعذب أحد من الزبانية أحداً غير الإنسان مثل عذابه ، وفي المبني للمفعول : لا يعذب عذاب الإنسان أحد لكن يبعده أنه يلزم عليه أن يكون عذاب الإنسان أعظم من عذاب إبليس - ويجوز أن يكون المعنى : إنه لا يحمل أحد ما يستحقه من العذاب كقوله تعالى :

{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] .
ولما علم أن هذا الجزاء المذكور لا يكون إلا للهلوع الجزوع المضطرب النفس الطائش في حال السراء والضراء ، الذي لا يكرم اليتيم ولا المسكين ويحب الدنيا ، وكان من المعلوم أن من الناس من ليس هو كذلك ، تشوفت النفس إلى جزائه فشفى عيّ هذا التشوف بقوله ، إعلاماً بأنه يقال لنفوسهم عند النفخ في الصور وبعثرة ما في القبور للبعث والنشور : { يا أيتها النفس المطمئنة * } أي التي هي في غاية السكون لا خوف عليها ولا حزن ولا نقص ولا غبون ، لأنها كانت في الدنيا في غاية الثبات على كل ما أخبر به عن الدار الآخرة وغيرها من وعد ووعيد وتحذير وتهديد ، فهم راجون لوعده خائفون من وعيده ، وإذا كانت هذه حال النفس التي شأنها الميل إلى الدنيا فما ظنك بالروح التي هي خير صرف { ارجعي } أي بالبعث { إلى ربك } أي موعد الذي أوجدك ورباك تربية الموفقين ، أو إلى بدنك حال كونك { راضية } أي بما تعطينه . فلا كدر يلحقك بوجه من الوجوه أصلاً كما كنت في دار القلق والاضطراب مطمئنة ساكنة تحت القضاء والقدر سالكة سبيل الرضا إن حصل ابتلاء بالتكريم والتنعيم أو التضييق والتغريم وثوقاً بما عند الله { مرضية * } عند الله وسائر خلقه ، فلا شيء يكرهك بسبب ما كنت مطمئنة تعملين الأعمال الصالحة تحت القضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره ، ثم بيّن ما أجمل من الرجوع فقال سبحانه : { فادخلي } أي بسبب هذا الأمر { في عبادي * } أي في زمرة الصالحين الوافدين عليَّ ، الذين هم أهل للإضافة إليَّ ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها ، وقراءة « عبدي » بالتوحيد للجنس الشامل للقليل والكثير تدل على ذلك { وادخلي جنتي * } أي وهي جنة عدن وهي أعلى الجنان ، قال البغوي : قال سعيد بن جبير : مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر لم نر على صورة خلقه ، فدخل نعشه فلم نر خارجاً منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر فلم ندر من تلاها ، وهذا الآخر هو أولها على ما هو ظاهر المقسم عليه بالفجر من البعث المحتوم ، الذي لولا هو لكان خلق الخلق من العبث المذموم ، المنزه عنه الحي القيوم ، فسبحان الملك الأعظم الذي هذا كلامه ، علت معانيه عن طعن وشرفت أعلامه ، وغر في ذروة الإعجاز تركيبه ونظامه ، « وأين الثريا من يد المتناول » .

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)

لما ختم كلمات الفجر بالجنة التي هي أفضل الأماكن التي يسكنها الخلق ، لا سيما المضافة إلى اسمه الأخص المؤذن بأنها أفضل الجنان ، بعد ما ختم آياتها بالنفس المطمئنة بعد ذكر الأمارة التي وقعت في كبد الندم الذي يتمنى لأجله العدم ، بعد ما تقدم من أنها لا تزال في كبد ابتلاء المعيشة في السراء والضراء ، افتتح هذه بالأمارة مقسماً في أمرها بأعظم البلاد وأشرف أولي الانفس المطمئنة ، فقال مؤكداً بالنافي من حيث إنه ينفي ضد ما ثبت من مضمون الكلام مع القطع بأنه لم يقصد به غير ذلك : { لا أقسم } أي أقسم قسماً أثبت مضمونه وأنفي ضده ، ويمكن أن يكون النفي على ظاهره ، والمعنى أن الأمر في الظهور غني عن الإقسام حتى بهذا القسم الذي أنتم عارفون بأنه في غاية العظمة ، فيكون كقوله { فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } [ الواقعة : 86 ] { بهذا البلد * } أي الحرام وهو مكة التي لا يصل إليها قاصدوها إلا بشق الأنفس ، ولا يزدادون لها مع ذلك إلا حباً ، الدال على أن الله تعالى جعلها خير البلاد ، وقذف حبها في قلوب من اختارهم من كل حاضر وباد ، لأنها تشرفت في أولها وآخرها وأثنائها بخير العباد ، ولم يصفه بالأمن لأنه لا يناسب سياق المشقة بخلاف ما في التين ، فإن المراد هناك الكمالات .
ولما عظم البلد بالإقسام به ، زاده عظماً بالحال به إشعاراً بأن شرف المكان بشرف السكان ، وذلك في جملة حالية فقال : { وأنت } يعني وأنت خير كل حاضر وباد { حال } أي مقيم أو حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه { بهذا البلد * } فتحل قتل ابن خطل وغيره وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة ، وتحرم قتل من دخل دار أبي سفيان وغير ذلك مما فعله الله لك بعد الهجرة بعد نزول هذه السورة المكية بمدة طويله علماً من أعلام النبوة ، أو معنى : يستحل أهله منك وأنت أشرف الخلق ما لا يستحلونه من صيد ولا شجر ، وكرر إظهاره ولم يضمره زيادة في تعظيمه تقبيحاً لما يستحلونه من أذى المؤمنين فيه ، وإشارة إلى أنه يتلذذ بذكره ، فقد وقع القسم بسيد البلاد وسيد العباد ، ولكل جنس سيد ، وهو انتهاؤه في الشرف ، فأشرف الجماد الياقوت وهو سيده ، ولو ارتفع عن هذا الشرف لصار نباتاً ينمو كما في الجنة ، وأشرف جنس النبات النخل ولو ارتفع صار حيواناً يتحرك بالإرادة ، فالحيوان سيد الأكوان ، وسيده الإنسان ، لما له من النطق والبيان ، وسيد الإنسان الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام ، لما لهم من عظيم الوصلة بالملك الديان ، وسيدهم أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم الذي ختموا به لما فاق به من الفضائل التي أعلاها هذا القرآن ، فسيد الخلق محمد بن عبد الله رسول الله أشرف الممكنات وسيدها لأنه وصل إلى أعلى مقام يمكن أن يكون لها ، ولو بقي فوق ذلك مقام يمكن للممكن لنقل إليه ، ولكونه أشرف كانت مكابدته أعلى المكابدات ، يصبر على أذى قومه بالكلام الذي هو أنفذ من السهام ، ووضع السلاء من الجزور على ظهره الشريف - نفديه بحر وجوهنا ومصون جباهنا وخدودنا - وهو ساجد ، ووضع الشوك في طريقه ، والإجماع على قصده بجميع أنواع الأذى من الحبس والنفي والقتل بحيث قال صلى الله عليه وسلم

« ما أوذي أحد في الله ما أوذيت » .
ولما أفهمت هذه الحال أن القسم إنما هو في الحقيقة به صلى الله عليه وسلم ، كرر الإقسام به على وجه يشمل غيره فقال : { ووالد } ولما كان المراد التعجيب من ابتداء الخلق بالتوليد من كل حيوان في جميع أمر التوليد ومما عليه الإنسان من النطق والبيان وغريب الفهم وكان السياق لذم أولي الأنفس الأمارة ، وكانوا هم أكثر الناس ، حسن التعبير بأداة ما لا يعقل لأنها من أدوات التعجيب فقال : { وما ولد * } أي من ذكر أو أنثى كائناً من كان ، فدخل كما مضى النبي صلى الله عليه وسلم فصار مقسماً به مراراً ، وكذا دخل أبواه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام وما صنعا وما صنع الله لهما بذلك البلد ، ومعلوم أن ذكر الصنعة تنبيه على صانعها ، فالمقصود القسم بمن جعل البلد على ما هو عليه من الجلال ، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بما خصه به من الإرسال ، وفاوت بين المتوالدين في الخصال ، من النقص والكمال وسائر الأحوال ، تنبيهاً على ما له من الكمال بالجلال والجمال ، ولعله خص هذه الأشياء بالإقسام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتثبيتاً له على احتمال الأذى ، إشارة إلى أن من كان قد حكم عليه بأنه لا يزال في نكد ، كان الذي ينبغي له أن يختار أن يكون ذلك النكد فيما يرضي الله سبحانه وتعالى ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة المشرفة في أعظم شدة مما يعانيه من أذى الكفار في نفسه وأصحابه رضي الله عنهم لعلو مقامه ، فإن شدة البلاء للأمثل فالأمثل كما مضى مع أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح ، وكل والد ومولود في شدة بالوالدية والمولودية ، وغير ذلك مما لا يحصى من الأنكاد البشرية ، من حين هو نطفة في ظلمات ثلاث في ضيق ممر ومقر ثم ولادة وربط في تابوت وفطام عن الإلف والأهل؟ من المؤدب والمعلم وتوبيخ من المشايخ ومعاندة من الأقران ، ومن يتسلط عليه من النسوان ، مع أنه عرضة للأمراض ، وسائر ما يكره من الأعراض والأغراض ، والفاقات والنوائب والآفات ، والمطالب والحاجات ، لا يحظى بهواه ، ولا يبلغ مناه ، ولا يدرك ما اجتباه ، ولا ينجو غالباً مما يخشاه ، وتفاصيل هذا الإجمال لا تحصى ، ولا حد لها فتستقصى ، إلى الموت وما بعده ، فلذلك كان المقسم عليه قوله : { لقد خلقنا } أي بما لنا من القدرة التامة والعظمة التي لا تضاهى { الإنسان } أي هذا النوع { في كبد * } أي شدة شديدة ومشقة عظيمة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف ، لو وكله سبحانه وتعالى في شيء منها إلى نفسه هلك ، ولولا هذه البلايا لادعى ما لا يليق به من عظيم المزايا ، وقد ادعى بعضهم مع ذلك الإلهية وبعضهم الاتحاد برب العباد - تعالى الله عن قولهم الواضح الفساد ، بما قرنه به سبحانه وتعالى من الموت والمرض وسائر الأنكاد ، فعل سبحانه ذلك ليظهر بما للعبد من الضعف والعجز - مع ما منحه به من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والبطش والعقل - ما له سبحانه من تمام العلم وشمول القدرة ، وليظهر من خلقه له على هذه الصفة ، علم جميع ما في السورة ، فعلم قطعاً إنكار ظنه لتناهي قدرته وتعالي عظمته ، وفساد هذا الظن بشاهد العقل من حيث كونه مصنوعاً ، وبشاهد الوجود من أجل أنه يسلك طريق الشر ولا يقدر على طريق الخير إلا بالتوفيق ، فعلم قطعاً إعجاز السورة لأنه لا قدرة لمخلوق على أن يأتي بجملة واحدة تجمع جميع ما وراءها من الجمل - هذا إلى ما لها من فنون الإيجاز التي وصلت إلى حد الإعجاز ، هذا إلى ما لبقية الجمل من الإعجاز في حسن الرصف وإحكام التركيب والربط والمراعاة بالألفاظ للمعاني إلى غير ذلك مما لا يبلغ كنهه إلى منزله سبحانه وعز شأنه ، وعلم أن الإكرام والإهانة ليستا دائرتين على التنعيم في الدنيا والتضييق كما تقدم شرحه في سورة الفجر ، ولأجل ما علم من كون الإنسان لا يزال في نكد وشدة ونصب من حث احتياجه أولاً إلى مطلق الحركة والسكون ، وثانياً إلى المأكل والمشرب ، وثالثاً إلى ما يترتب عليهما إلى غير ذلك مما يعيي عده ويجهل حده ، توجه الإنكار في قوله تعالى بياناً للأسباب الموقعة له في النكد ، وهي شهوتان : نفسية وحسية ، والنفسية منحصرة في أربع : الأولى أنه يشتهي أن يكون كل من في الوجود في قبضته فأشار إليها { أيحسب } أي هذا الإنسان لضعف عقله مع ما هو فيه من أنواع الشدائد { أن لن يقدر } ولما أكد بالفعلية وخصوص هذا النافي قدم الجار تأكيداً بما يفيد من الاهتمام بالإنسان فقال : { عليه } أي خاصة { أحد * } أي من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه مع ما ينظر من اقتداره على أمثاله بنفسه وبمن شاء من جنوده فيعادي رسله عليهم الصلاة والسلام ويجحد آياته .

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضح سبحانه وتعالى حال من تقدم ذكره في السورتين في عظيم حيرتهم وسوء غفلتهم وما أعقبهم ذلك من التذكر تحسراً حين لا ينفع التندم ، ولات حين مطمع ، أتبع ذلك بتعريف نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بأن وقوع ذلك منهم إنما جرى على حكم السابقة التي شاءها والحكمة التي قدرها كما جاء في الموضع الآخر { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } [ السجدة : 13 ] فأشار تعالى إلى هذا بقوله { لقد خلقنا الإنسان في كبد } أي أنا خلقناه لذلك ابتلاء ليكون ذلك قاطعاً لمن سبق له الشقاء عن التفكر والاعتبار { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً } [ الكهف : 57 ] فأعماهم بما خلقهم فيه من الكبد وأغفل قلوبهم فحسبوا أنهم لا يقدر عليهم أحد ، وقد بين سبحانه وتعالى فعله هذا بهم في قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه } [ الكهف : 28 ] { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } [ يونس : 99 ] فأنت تشاهدهم يا محمد ذوي أبصار وآلات يعتبر بها النظار { ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين } فهلا أخذ في خلاص نفسه ، واعتبر بحاله وأمسه ، { فلا اقتحم العقبة } ولكن إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له - انتهى .
ولما كان الإنسان لا يفتخر بالإنفاق إلا إذا أفضى إلى الإملاق ، فعلم أن مراد الإشارة إلى أن معه أضعاف ما أنفق من حيث إنه حقره بلفظ الإهلاك ، إشارة إلى الثانية والثالثة من شهواته النفسية وهما إرادته أن يكون له الفخار والامتنان على جميع الموجودات ، وإرادته أن يكون عنده من الأموال ما لا تحيط به الأفكار ولا تحويه الأقطار - كما يشير إليه حديث « » لو أن لابن آدم واد من ذهب « و » لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب « » علل سبحانه وتعالى جهله في حسابه ذلك وما تبعه بقوله : { يقول } أي مفتخراً بقدرته وشدته : { أهلكت مالاً لبدا * } ولقصد المبالغة في كثرته جاءت قراءة أبي جعفر بالتشديد على أنه جمع لا بد كركع وراكع فأفهمت أنه بحيث لا يحصى ، بل لو جمع لم تسعه الأرض إلا بأن يكون بعضه على بعض فلا يعد ولا يحد ، أي وذلك قليل من الكثير الذي معي ، قلدت به أعناق الرجال المنن ، واستعبدت به الأحرار في كل زمن ، فصرت بحيث إذا دعوت كثر الملبي ، وإذا ناديت كثر المجيب ، وإذا أمرت عظم الممتثل ، وفاء لصنائعي الماضية ورغبة في نعمي الباقية ، فمن يستعصي عليّ ومن يخالف أمري ، فضلاً عن أن يريد إخمال ذكري أو نقص قدري .
ولما كان الشيء لا يعني إلا إذا كان مجهولاً ولو من بعض الجهات ، أنكر عليه هذا الظن على تقدير وقوعه فإنه لا يوصل إلى ما ظنه إلا به ، بقوله مشيراً إلى شهوته النفسية الرابعة ، وهي أن تكون أموره مستورة فلا يظهر على غيه أحد أصلاً : { أيحسب } أي هذا الإنسان العنيد بقلة عقله { أن لم يره } أي بالبصر ولا بالبصيرة في الزمن الماضي { أحد * } أي في عمله هذا سره وجهره وجميع أمره ، فينقص جميع ما عمل إذا أراد ، وكل ما فاته من آثار هذه الشهوات الأربع ، وهو لا يزال فائتاً له ، كان من إرادة تحصيله في نكد ومعاناة وكبد بحيث يرمي نفسه لتحصيله في المهالك ، ولا يحصل منه على ما يرضيه أبداً ، وهذا كناية عن أنه يعمل من المساوىء أعمال من يظن أنه لا يطلع عليه ، فلذلك نبهه الله تعالى بأنواع التنبيه ليأخذ حذره ويحرز عمره .

ولما أنكر عليه سبحانه وتعالى هذه النقائص قرره على ما أوجب شهوته الحسية المتفرعة إلى أنواع بما يستلزم أن يكون فاعله له المانّ عليه به من بعض فيضه ، عالماً بجميع أمره قادراً على نفعه وضره بنفسه وبمن أراد من جنده ، فقال مشيراً إلى ما يترتب على نظر العين الباصرة الجائلة في العالم الحسي ونظر عين البصيرة الجائلة في العالم المعنوي من شهوته أن يحصل على كل ما يراه بعين باصرته ويعلمه بعين بصيرته من مليح ، ويخلص من كل ما يراه من قبيح ، ومذكراً له بما كان يجب عليه من الشكر باستعمال هذه المشاعر فيما شرع له وكفها عما منع الله منه : { ألم نجعل } أي بما لنا من العظمة التي لا يمكن أحداً أن يضاهيها ولا يقرب منها { له عينين * } يبصر بهما وإلا لتعطل عليه أكثر ما يريد ، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاثة على مقدار مناسب لا يزيد إحداهما على الأخرى شيئاً وقدرنا البياض والسواد أو الزرقة أو الشهلة أو غير ذلك على ما ترون ، وأودعناهما البصر على كيفية يعجز الخلق عن إدراكها .
ولما قدره سبحانه على ما ينشأ عنه شهوتا تحصيل المليح ونفي القبيح ، اتبع ذلك ما ينشأ عنه شهوتا الأمر والنهي وأنواع الكمالات الكمالية فقال : { ولساناً } أي يترجم به عما في ضميره { وشفتين * } أي يستران فاه ويعينانه على الأكل والشرب وعلى النطق بفصاحة وبلاغة على حد معلوم لا يبلغه غيره ، فيجتمع له أمره ويصل إلى مقاصد جمة وأهوال مهمة ، ولم يذكر السمع لأن الكلام يستلزمه ، والمعنى : ألسنا قادرين بالقدرة التي جعلنا له بها ما ذكر على أن نجعل لغيره مثل ما جعلنا له وأكثر فيقاومه ويغلبه .
ولما كان لله تعالى على كل أحد في كل لمحة منة جديدة في إبقاء هذه الآلات الثلاث ، عبر فيها بالمضارع ، ولما كانت النعمة في العقل إنما هي بهبته أولاً ثم بحمله به على الخير ثانياً ، وكان أمره خفياً ، وكان من المعلوم أن كل أحد غير مهدي في كل حركاته وسكناته إلى ما يسعده ، بل كان هذا المنكر عليه لم يؤهل لطريق الخير ، اختير له لفظ الماضي لذلك تحقيقاً لكونه وجعله غريزة لا تتحول وطبيعة لا تتبدل ، بل هي غالبة على صاحبها ، قائدة إلى مضارة أو محابة ومسارة وإن كره ، وهو السبب الذي يكون به الخلاص من شر تلك الأنكاد في دار الإسعاد فقال تعالى : { وهديناه } أي بما آتيناه من العقل { النجدين * } أي طريقي الخير والشر ، وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً فصار موضعاً للتكليف ، روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، يا أيها الناس إنما هما نجدان : نجد خير ونجد شر ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير » قال المنذري : النجد هنا الطريق - انتهى . وهو طريق في ارتفاع ، عبر عن الخير والشر به لإعلائهما الإنسان عن رتبة باقي الحيوان ، ولأن الإنسان لا يختار واحدة منهما إلا بمعاناة وتكلف كمعاناة من يصعد في عقبة ، والنجد لغة الموضع العالي ، والله تعالى يعلي من أراد على ما شاء منهما بخلاف ما كان يقتضيه ظاهر حاله من أنه لا يحب تكلف شيء أصلاً ، ولا يريد الأشياء تأتيه إلا عفواً ، وذلك لأجل إظهار قدرته سبحانه وتعالى ، أما صعوبة طريق الخير فبما حفه به من المكاره حتى صار العمل به ، مع أن كل أحد يعشق اسمه ومعناه ، أشد شيء وأصعبه ، وأشقه وأتعبه ، وأما صعوبة طريق الشر فواضحة جداً مع أن الله يلزمه لمن أراد بتسهيله وتحبيبه وتخفيفه وتقريبه مع أن كل أحد يكره اسمه وينفر من معناه ، وجعل الله تعالى الفطرة الأولى السليمة التي فطر الناس عليها من الاستقامة بحيث تدرك الشر وتنهى عنه ، وتدرك الخير وتأمر به ، غير أن الشهوات والحظوظ تعالجها ، والغالب من أعانه الله ، وإلى ذلك يشير حديث « إذا لم تستحي فاصنع ما شئت » وحديث « البر ما اطمأنت إليه النفس وانشرح له الصدر ، والإثم ما حاك في الصدر وتردد في القلب وإن أفتاك الناس وأفتوك » .
ولما كان معنى ما مضى أن هذا الإنسان عاجز وإن تناهت قوته ، وبلغت الذروة قدرته ، لسبق قوله تعالى : { وخلق الإنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] وأنه معلوم جميع أمره مفضوح في سره كما هو مفضوح في جهره ، كما أشار إليه حديث جندب رضي الله تعالى عنه عند الطبراني « ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها »

وحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عند أحمد وأبي يعلى « لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة يخرج عمله للناس » فهو موصول إليه مقدور عليه ، وأنه كان يجب عليه الشكر على ما جعل له سبحانه وتعالى من القوى التي جعلها لسوء كسبه آلات للكفر ، سبب سبحانه وتعالى عنه قوله تفصيلاً للأشياء الموصلة إلى الراحة في العقبى نافياً لفعلها عنه على سبيل الحقيقة دلالة على عجزه : { فلا اقتحم } أي وثب ورمى بنفسه بسرعة وضغط وشدة حتى كان من شدة المحبة لما يراه فيما دخل فيه من الخير . كأنه أتاه من غير فكر ولا روية بل هجماً { العقبة * } وهي طريق النجاة ، والمقرر في اللغة أنها الطريق الصاعد في الجبل المستعار اسمها لأفعال البر المقرر في النفوس مريحة لا متعب ، مع كونها أعظم فخراً وأعلى منقبة ، لأنا حجبناه عنها بأيدينا وعظيم قوتنا وعجيب قدرتنا ، وذلك أن الخير لما كان محبباً إلى القلوب معشوقاً للنفوس مرغوباً فيه لا يعدل عنه أحد ، جعلناه في بادىء الأمر كريهاً وعلى النفوس مستصعباً ثقيلاً حتى صار لمخالفته الهوى كأنه عقبة كؤود ، لا ينال ما فيه من مشقة الصعود ، إلا بعزم شديد وهمة ماضية ، ونية جازمة ، ورياضة وتدريب ، وتأديب وتهذيب ، وشديد مجاهدة وعظيم مكابدة للنفس والهوى والشيطان ، بحيث يكون متعاطيه في فعله له كالرامي بنفسه فيه بلا روية رمي العاشق له المتهالك عليه ، فكان هذا سبباً لأن هذا الجاهل بنفسه المتعدي لطوره لم يختر لنفسه الخير بما أوتي من البصر الذي يبصر به صنائع الله ، والبصيرة التي يعرف بها ما يضره وما ينفعه شكراً لربه سبحانه وتعالى ويكون ذلك لإحسانه إليه ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وهل جزاء النعمة إلا الشكر ، بل اختار الشر وارتكب الضر مع أنا هيأناه لكل منهما فبانت لنا القدرة . واتضحت في صفاتنا العظمة ، وتحقق له الضعف وظهر منه النقص والعجز ، فوجب عليه لعزتنا الخضوع ، وإجراء مصون الدموع وإظهار الافتقار والذل والصغار ، لنقحمه سبيل الجنة وننجيه من طريق النار ، ومن اقتحم هذه العقبة التي هي للأعمال الصالحة اقتحم عقبة الصراط ، فكانت سهولتها عليه بقدر مكابدته لهذه ، واستراح من تلك المكابدات والأحزان والهموم وصار إلى حياة طيبة كما قال الله تعالى { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] الآية ، واقتحامها بأن يرتحل من عالمه السافل إلى العالم العالي الكامل الذي ليس فيه إلا اللذة ، وذلك هو الاعتراف بحق العبودية ، وتلك هي الحرية لأن الحر من خرج من رق الشهوات إلى خدمة المولى ، فصار طوع أمره في سره وجهره لا حظ لشهوة فيه ولا وصول لحظ إليه ، وذلك يكون بشيئين : أحدهما جذب والآخر كسب ، فالمجذوب محمول .

والكاسب في تعب المجاهدات بسيف الهمة العالية مصول .
ولما بين أنه لا خلاص من النكد إلا بهذا الاقتحام ، شرع في تفسير العقبة بادئاً بتهويل أمرها لعظيم قدرها ، فقال معبراً بالماضي الذي جرت عادة القرآن بأنه إذا عبر به شرح المستفهم عنه : { وما أدراك } أي أيها السامع لكلامنا ، الراغب فيما عندنا { ما العقبة * } أي إنك لم تعرف كنه صعوبتها وعظمة ثوابها ، فلما تفرغ القلب بالاستفهام عما لا يعرفه ، وكان الإنسان أشهى ما إليه تعرف ما أشكل عليه ، فتشوفت النفوس إلى علمها ، قال مشييراً إلى الأولى التي هي العفة التي ثمرتها السخاء وإصلاح قوة الشهوة معبراً بالفك الذي هو أدنى ما يكون من العتق لأنه الإعانة فيه ولو بما قل كما ورد في حديث البراء رضي الله عنه « أعتق النسمة وفك الرقبة » وعتقها أن تفرد بها ، وفكها أن تعين في ثمنها ، وفسر المراد بهذه العقبة بما دل على معادل لا كما يأتي تعيين تقديره فإنها لا تستعمل إلا مكررة قال : { فك } أي الإنسان { رقبة * } أي من الأسر أو الظلم أو الغرم أو السقم شكراً لمن أولاه الخير وتنفيساً للكربة حباً للمعالي والمكارم لا رياء وسمعة كما فعل هذا الظان الضال ولا لطمع في جزاء ولا لخوف من عناء { أو إطعام } أي أوقع الإطعام لشيء له قابلية ذلك { في يوم ذي مسغبة * } أي جوع عام في مكان جوع وزمان جوع - بما أفهمه الوصف والصيغة ، فكان لذلك يحمل على الضنة بالموجود خوفاً من مثل ما فيه المطعم فخالف النفس وآثر عليها اعتماداً على الله { يتمياً } أي إنساناً صغيراً لا أب له يرجى أو يخاف { ذا مقربة * } لا يرجى بإطعامه إلا التودد لأقاربه للتكثير بهم مع أنه يجمع بذلك بين صدقة وصلة وإن كان غنياً { أو مسكيناً } أي شخصاً لا كفاية له { ذا متربة * } أي حاجة مقعدة له على التراب ، لا يقدر على سواه ، فالآية من الاحتباك : ذكر القرب أولاً يدل على ضده ثانياً ، وذكر المتربة ثانياً يدل على ضدها أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر في اليتيم القرب المعطف ، وفي المسكين الوصف المرقق الملطف ، فهو لا يقصد بإطعامه إلا سد فاقته ، ودخل فيه اليتيم البعيد والفقير من باب الأولى وإن كان أجنبياً .

ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

ولما كانت هذه الأفعال خيراً في نفسها تدل على جودة الطبع وعلو الهمة وكرم العنصر وإباء النفس إشارة إلى شدة حسنها لأنه لا يوفق لها إلا مخلص وإن كان غير مستند إلى شرع وإلى ما يفيده من سلالة الطبع وسهولة الانقياد وإلى عظمة الإيمان بالتعبير بأداة التراخي في قوله مشيراً إلى العقبة الثانية وهي الحكمة المزكية للقوة النطقية : { ثم كان } أي بعد التخلق بهذه الأخلاق الزاكية العالية النفيسة الغالية في حال كفره أو مبادىء إسلامه للدلالة على صفار جبلته وجودة عنصره من الراسخين في الإيمان المعبر عنه بقوله : { من الذين آمنوا } أي عند ما دعاه إليه الهادي ، ولم تحمله حمية الأنف وشماخة النفس على الإباء عن أن يكون تابعاً بعد ما كان متبوعاً ، وسافلاً في زعمه إثر ما كان رفيعاً ، بل سدد النظر وقوم الفكر فأيقن أنه يعلي نفسه من الحضيض إلى ما فوق السهى ، يرقيها في درج المعالي إلى ما ليس له انتهاء ، { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } [ طه : 54 ، 128 ] فحينئذ يعلم استقامة طبعه وكرم غريزته وعليَّ همته وحسن نيته وجميل طويته وغزارة عقله وجلالة نبله وفضله واستحقاقه التقدم على الأعلام في الجاهلية والإسلام ، ولذلك كان الصديق رضي الله تعالى عنه أعلى الناس درجة بعد النبيين عليهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، لأن هذه كانت أفعاله رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام كما قال ابن الدغنة حين وجده قد خرج من مكة المشرفة يريد الهجرة حين آذاه الكفار : إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الحق - كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم حين رجع إليها ترجف بوادره من تجلي جبريل عليه الصلاة والسلام له سواء ، فلما سرب في رحيب مسربه ، وشرب من صافي مشربه توفيقاً من الله تعالى لم يتلعثم حين دعاه إلى الدين ولا كانت عنده كبوة ولا تردد ، ثم ترقى في درجات الإسلام إلى أعلى مرام بحيث قال يوم الحديبية لعمر رضي الله عنهما حين أظهر الكراهة للصلح ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم سواء حرفاً بحرف من غير أن يكون حاضره أو ينقل إليه كلامه ، فسار حينئذ حائزاً قصب السبق ، لا مطمع في مداناته ، فكيف بلحاقه ومساواته ، ولكماله وعظمته وجلاله لم يشرب قط خمراً ، وكان إذا ليم على ذلك في الجاهلية قال لعشراء : والله لو وجدت شيئاً يزيد في عقلي لاشتريته بجميع مالي فكيف أشتري بمالي ما يزيل عقلي . وتلك الأعمال لا تصح وإن كانت ممدوحة في كل حال إلا بالإيمان ، أما إن كانت بعده فواضح ، وأما إن كانت قبله فبانعطافه عليها كما قال صلى الله عليه وسلم :

« أسلمت على ما سلف منك من خير » .
ولما كان الإيمان معلياً للإنسان عن درك الهوان إلى عظم الشأن ، حاملاً له على محاسن الأعمال ومكارم الأفعال ، وذلك أنه يقود إلى جميع شرائع الدين العظيمة الشأن ، وكانت موجبة للجهاد الأكبر من حيث مخالفتها للطبع ، وكان ذلك غير مقدور عليه إلا بالشجاعة وهي القوة الثالثة التي إذا هدئت أراحت ، وكانت لا تكون إلا بعظيم الصبر ، وكان الصبر لمرارته لا يدوم إلا بالتعاون قال تعالى : { وتواصوا } أي صبروا وأوصى بعضهم بعضاً { بالصبر } في اقتحام عقبات الأعمال التي لا يجوزها إلا أبطال الرجال من الأمر بالمعروف إلى ما دونه وإن كان فيه الحتوف ، فإن الشجاعة كما قيل صبر ساعة .
ولما كان الإنسان لا بد أن يعرض له من غيره من الخلاف ما يوجب قسوته عليه ، فكانت الرحمة من ثمرات الاصطبار المثمر للعدالة ، وهي التوسط بين مذمتي الإفراط والتفريط في الفسق والبله وهي العقبة الرابعة ، قال مؤكداً بإعادة العامل إشارة إلى قلة العاملين بها : { وتواصوا بالمرحمة * } أي الرحمة العظيمة بحسب زمانها ومكانها بأن يوطنوا أنفسهم على كل ما يحمل على الرحمة العظيمة التي توجب لهم الحب في الله والبغض فيه لأنهم كانوا قبل الإيمان خالصين عن الرياء والإعجاب متهيئين للتزكية فزكاهم الإيمان ، فصاروا في غاية النورانية والعرفان .
ولما كان ذلك من معالي الأخلاق ، وموجبات الفواق والوفاق ، كانت نتيجته لا محالة : { أولئك } أي العظماء الكبراء العالو المنزلة ، ولم يأت بضمير الفصل كما يأتي لأضدادهم ليخلص الفعل له سبحانه وتعالى من غير نظر إلى ضمائرهم الدالة على جبلاتهم لأنه هو الذي جبلها ، وأغنى عنه بالإشارة الدالة على علو مقامهم وبعد مرامهم { أصحاب الميمنة * } أي الجانب الذي فيه اليمن والبركة والنجاة من كل هلكة بقسميهم من السابقين المقربين وأصحاب اليمين الأبرار ، كما مضى شرحه في سورة الواقعة . وهذا تعريض بذلك الذي أتلف ماله في المنافسة . والمشاققة والمعاكسة .
ولما أرشد السياق لمعادلة { فلا اقتحم العقبة } إلى أن التقدير : ولا أحجم عن المعطبة التي هي الأفعال الموجبة للمعتبة مع كونها متعبة ، بل قطع من يستحق الوصل ووصل من يستأهل القطع ، ثم كان من الذين كفروا وتواصوا بالملأمة واكتسبوا السيئات واتبعوا الشهوات وعاملوا بالقسوة ، عطف عليه قوله : { والذين كفروا } أي ستروا ما تظهر لهم مرائي بصائرهم من العلم . ولما كان الكفر بالآيات من أسوأ أنواع الكفر لأنه كفر بما جعله الله علماً على غيب عهده ، وهي جميع ما تدركه الحواس من الأقوال والأفعال الدالة على ذي الجلال لأنها دالة على الصفات الدالة على الموصوف بها الذي ظهر بأفعاله وبطن بعظيم جلاله ، قال : { بآياتنا } أي ما لها من العظمة بالإضافة إلينا والظهور الذي لا يمكن خفاؤه { هم } أي خاصة لسوء ضمائرهم ولفساد جبلاتهم { أصحاب المشأمة * } أي الخصلة المكسبة للشؤم والحرمان والهلكة فهؤلاء مشائيم على أنفسهم ، وكفرهم دال على فساد جبلاتهم فهو يشير إلى أن من كان كفره أخف لم يكن جبلياً ، فيوشك أن يهدى فيكون من أصحاب الميمنة .

ولما كان معنى هذا أنهم في الجانب الذي فيه الشؤم والهلكة ، والبعد من كل بركة ، أنتج قوله : { عليهم } أي خاصة دون غيرهم { نار مؤصدة * } أي مطبقة الباب مع إحاطتها بهم من جميع الجوانب - بما أفهمته أداة الاستعلاء ومع الضيق والوعورة ، وهذا لعمري أشد الضيق والكبد ، والنصب والنكد فالملجأ منه إلى الله الأحد ، الواحد الصمد ، وقد علم أن أوله هو هذا الآخر ، فكان التقاطر فيها مما تشد به الأيدي وتعقد عليه الخناصر - والله تعالى هو المرجو للهداية إلى خير السرائر ، وهو الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب .

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)

لما أثبت في سورة البلد أن الإنسان في كبد ، وختمها بأن من حاد عن سبيله كان في أنكد النكد ، وهو النار المؤصدة ، أقسم أول هذه على أن الفاعل لذلك أولاً وآخراً هو الله سبحانه لأنه يحول بين المرء وقلبه وبين القلب ولبه ، فقال مقسماً بما يدل على تمام علمه وشمول قدرته في الآفاق علويها وسفليها ، والأنفس سعيدها وشقيها وبدأ بالعالم العلوي ، فأفاد ذلك قطعاً العلم بأنه الفاعل المختار ، وعلى العلم بوجوب ذاته وكمال صفاته ، وذلك أقصى درجات القوى النظرية ، تذكيراً بعظائم آلائه ، ليحمل على الاستغراق في شكر نعمائه ، الذي هو منتهى كمالات القوى العملية ، مع أن أول المقسم به مذكر بما ختم به آخر تلك من النار : { والشمس } أي الجامعة بين النفع والضر بالنور والحر ، كما أن العقول كذلك لا أنور منها إذا نارت ، ولا أظلم منها إذا بارت { وضحاها * } أي وضوئها الناشىء عن جرمها العظيم الشأن البديع التكوين المذكر بالنيران إذا أشرقت وقام سلطانها كإشراق أنوار العقول ، والضحى - بالضم والقصر : صدر النهار حين ارتفاعه ، وبالفتح والمد : شدة الحر بعد امتداد النهار ، وشيء ضاح - إذا ظهر للشمس والحر .
ولما افتتح بذكر آية النهار ، أتبعه ذكر آية الليل فقال : { والقمر } أي المكتسب من نورها كما أن أنوار النفوس من أنوار العقول { إذا تلاها * } أي تبعها في الاستدارة والنور بما دل على أن نوره من نورها من القرب الماحق لنوره والبعد المكتسب له في مقدار ما يقابلها من جرمه ، ولا يزال يكثر إلى أن تتم المقابلة فيتم النور ليلة الإبدار عند تقابلهما في أفق الشرق والغرب ، ومن ثم يأخذ في المقاربة فينقص بقدر ما ينحرف عن المقابلة ، ونسبة التبع إليه مجازية أطلقت بالنسبة إلى ما ينظر منه كذلك .
ولما ذكر الآيتين ، ذكر ما هما آيتاه ، وبدا بهما لأنه لا صلاح له إلا بهما كما أنه لا صلاح للبدن إلا بالنفس والعقل فقال : { والنهار } أي الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار { إذا جلاها * } أي جلى الشمس بحلية عظيمة بعضها أعظم من بعض باعتبار الطول والقصر والصحو والغيم والضباب والصفاء والكدر كما أن الأبدان تارة تزكي القلوب والنفوس والعقول وتارة تدنسها ، لأن العقل يكون في غاية الصفاء والدعاء إلى الخير في حال الصغر ثم لا يزال يزيد وينقص بحسب زكاء البدن في حسن الجبلة ، أو نجاسته بسوء الجبلة ، حتى يصير الشخص نوراً محضاً ملكاً ناطقاً إذا طابق البدن العقل فتعاونا على الخير ، أو يصير ظلاماً بحتاً شيطاناً رجيماً إذ خالف البدن العقل بسوء الجبلة وشرارة الطبع .
ولما ذكر معدن الضياء ، ذكر محل الظلام فقال : { والليل } أي الذي هو ضد النهار فهو محل السكون والانقباض والكمون { إذا يغشاها * } أي يغطي الشمس فيذهب ضوءها حين تغيب فتمتد ظلال الأرض على وجهها المماس لنا ، فيأخذ الأفق الشرقي في الإظلام ، ويمتد ذلك الظلام بحسب طول الليل وقصره كما يغطي البدن نور العقل بواسطة طبعه بخبثه ورداءة عنصره ، وذلك كله بمقادير معلومة ، وموازين قسط محتومة ، ليس فيها اختلال ، ولا يعتريها انحلال ، حتى يريد ذو الجلال ، ولم يعبر بالماضي كما في النهار لأن الليل لا يذهب الضياء بمرة بل شيئاً فشيئاً ، ولا ينفك عن نور بخلاف النهار ، فإنه إذا أبدى الشمس ولم يكن غيم ولا كدر جلى الشمس في آن واحد ، فلم يبق معه ظلام بوجه .

ولما ذكر الآيتين ومحل أثرهما ، ذكر محل الكل فقال تعالى : { والسماء } أي التي هي محل ذلك كله ومجلاه كما أن الأبدان محل النفوس ، والنفوس مركب العقول ، ولما رقى الأفكار من أعظم المحسوسات المماسة إلى ما هو دونه في الحس وفوقه في الاحتياج إلى إعمال فكر ، رقي إلى الباطن الأعلى المقصود بالذات وهو المبدع لذلك كله معبراً عنه بأداة ما لا يعقل ، مع الدلالة بنفس الإقسام ، على أن له العلم التام ، والإحاطة الكبرى بالحكمة البالغة ، تنبيهاً على أنهم وصفوه بالإشراك وإنكار الحشر بتلك المنزلة السفلى والمساواة بالجمادات التي عبدوها مع ما له من صفات الكمال التي ليس لغيره ما يداني شيئاً منها ، زجراً لهم بالإشارة والإيماء عن ذلك ومشيراً إلى شدة التعجيب منهم لكونها أداة التعجب فقال : { وما بناها * } أي هذا البناء المحكم الذي ركب فيه ما ذكره إشارة إلى ما وراءه مما يعجز الوصف .
ولما ذكر البناء ذكر المهاد فقال : { والأرض } أي التي هي فراشكم بمنزلة محال تصرفاتكم بالعقل في المعاني المقصودة { وما طحاها * } أي بسطها على وجه هي فيه محيطة بالحيوان كله ومحاط بها في مقعر الأفلاك ، وهي مع كونها ممسكة بالقدرة كأنها طائحة في تيار بحارها ، وهي موضع البعد والهلاك ومحل الجمع - كل هذا بما يشير إليه التعبير بهذا اللفظ إشارة إلى ما في سعي الإنسان من أمثال هذا ، قال أهل البصائر : وليس في العالم الآفاقي شيء إلا وفي العالم النفساني نظيره ، وانشدوا في ذلك :
دواؤك فيك وما تشعر ... وداؤك منك وتستنكر
وتحسب أنك جزء صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
فالسماوات سبع كطباق الرأس التي تتعلق بالقوى المعنوية والحسية كالذاكرة والحافظة والواهمة والمخيلة والمفكرة والحس المشترك وما هو لمقاسم البصر في العين ، ونظير الشمس الروح في إشراقه وحسنه ، ونظير الليل الطبع فإن ما به من نور فإنما هو من الروح كما أن الليل كذلك لا يكون نوره إلا من الشمس بواسطة إفادتها للقمر المنير له والكواكب ، ونظير النهار - الذي هو نير في أصله ومتكدر بما يخيل له من السحب ونحوه - القلب وسحبه الشكوك والأوهام النفسية ، ونظير القمر في ظلمته بأصله وإنارته بالشمس النفس ، فإذا أكسبها القلب المستفيد من الروح النور أنار جميع البدن ، وإذا أظلمت أظلم كله ، والأعضاء الباطنة كالكواكب يقوم بها البدن فينير له الوجود بواسطة الروح والنفس ، والأمطار كالدمع ، والحر كالحزن ، والبرد كالسرور ، والرعد كالنطق ، والبرق كالملح ، والرياح كالنفس - إلى غير ذلك من البدائع لمن تأمل ، والعالم السفلي سبع طباق أيضاً ، قال الملوي : « ونظيرها طبقة الجلد » وهي ثلاث ، وطبقة اللحم وطبقة الشحم وطبقة العروق وطبقة العصب ، والجبال كالعظام والمعادن منها المياه وفيها العذب كالريق والملح كالدمع والمر كما في الأذن والمنتن منه كما في الأنف ، ومنه ما هو جار كالبول ، ومنه ما هو كالعيون وهو الدم ، والسيل كالعرق ، والمعادن المنطبعة كالحديد والرصاص هي وسخ الأرض وهي كالعذرة وما يخرج من الجلد من خبث ، والنبات كالشعور تارة تحلق كالحصاد وتارة تقلع كالنتف ، والحيوانات التي فيها كالقمل ، وطيورها كالبراغيث ، وعامر البدن ما أقبل منه ، وخرابه ما أدبر .

ولما أتم الإشارة إلى النفوس لأهل البصائر ، صرح بالعبارة لمن دونهم فقال تعالى : { ونفس } أي أيّ نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره . ولما كانت النفوس أعجب ما في الكون وأجمع ، عبر فيها بالتسوية حثاً على تدبر أمرها للاستدلال على مبدعها للسعي في إصلاح شأنها فقال تعالى : { وما سواها * } أي عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وعجائب المزاج من الأخلاط المتنافرة التي لاءم بينها بالتسوية والتعديل فجعلها متمازجة وقد أرشد السياق والسباق واللحاق إلى أن جواب القسم مقدر تقديره : لقد طبع سبحانه وتعالى نفوسكم على طبائع متباينة هيأها بها لما يريد من القلوب من تزكية وتدسية بما جعل لكم من القدرة والاختيار ، وأبلغ في التقدم إليكم في تزكية نفوسكم وتطهير قلوبكم لاعتقاد الحشر بما هو أوضح من الشمس لا شبهة فيه ولا لبس لتنجو من عذاب الدنيا والآخرة بالاتصاف بالتقوى ، والانخلاع من الفجور والطغوى .
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم في سورة البلد تعريفه تعالى بما خلق فيه الإنسان من الكبد مع ما جعل له سبحانه من آلات النظر ، وبسط له من الدلائل والعبر ، وأظهر في صورة من ملك قياده ، وميز رشده وعناده { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] { إنا هديناه السبيل } [ الإنسان : 3 ] وذلك بما جعل له من القدرة الكسبية التي حقيقتها اهتمام أو لم؟ وأنى بالاستبداد والاستقلال ، ثم { والله خلقكم وما تعملون } [ الصافات : 96 ] أقسم سبحانه وتعالى في هذه السورة على فلاح من اختار رشده واستعمل جهده وأنفق وجده { قد أفلح من زكاها } وخيبة من غاب هداه فاتبع هواه { وقد خاب من دساها } فبين حال الفريقين وسلوك الطريقين - انتهى .

ولما كان أعجب أمورها الفجور لما غلب سبحانه عليها من الحظوظ والشهوات ، وهي تعلم بما لها من زاجر العقل بصحيح النقل أن الفجور أقبح القبيح ، والتقوى لما أقام عليها من ملك العقل الملكي وغريزة العلم النوراني أحسن الحسن ، وتذوق أن الفجور أشهى شهي ، وأن التقوى أمرّ شيء وأصعبه ، وأثقله وأتعبه ، قال معلماً أن هذا لا يقدر عليه سواه لأنه أعجب من جميع ما مضى لأن البهيمة لا تقدم على ما يضرها وهي تبصر ولو قطعت ، والآدمي يقدم على ما يضره وهو يعلم ويقاتل من منعه منه ، فقال مسبباً عما حذف من جواب القسم : { فألهمها } أي النفس إلهام الفطرة السابقة الأولى قبل { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] { فجورها } أي انبعاثها في الميل مع دواعي الشهوات وعدم الخوف الحامل على خرق سياج الشريعة بسبب ذلك الطبع الذي عدل فيه ذاتها وصفاتها في قسر المتنافرات على التمازج غاية التعديل { وتقواها * } أي خوفها الذي أوجب سكونها وتحرزها بوقايات الشريعة ، فالآية من الاحتباك : ذكر الفجور أولاً دالّ على السكون الذي هو ضده ثانياً ، وذكر التقوى ثانياً دالّ على ضده ، وهو عدم الخوف أولاً ، وإلهامها للأمرين هو جعله لها عارفة بالخير والشر مستعدة ومتهيئة لكل منهما؛ ثم زاد ذلك بالبيان التام بحيث لم يبق لبس ، فزالت الشبه عقلاً بالغريزة والإلهام ونقلاً بالرسالة والإعلام . ودل بالإضافة على أن ذلك كله منسوب إليها ومكتوب عليها وإن كان بخلقه وتقديره لأنه أودعها قوة وجعل لها اختياراً صالحاً لكل من النجدين ، وأوضح أمر النجدين في الكتب وعلى ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد ما وهبه لها من الفطرة القويمة وأخفى عنها سر القضاء والقدرة وعلم العاقبة ، فأقام بذلك عليها الحجة وأوضح المحجة .

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

ولما كان من المعلوم أن من سمع هذا الكلام يعلم أن التقوى لا يكون إلا مأموراً بها ، والفجور لا يكون إلا منهياً عنه ، فيتوقع ما يقال فيهما مما يتأثر عنهما ، قال تعالى : { قد أفلح } أي ظفر بجميع المرادات { من زكاها * } أي نماها وأصلحها وصفاها تصفية عظيمة بما يسره الله له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة وطهرها على ما يسره لمجانبته من مذامّ الأخلاق لأن كلاًّ ميسر لما خلق له ، والدين بني على التحلية والتخلية و « زكى » صالح للمعنيين { وقد خاب } أي حرم مراده مما أعد لغيره في الدار الآخرة وخسر وكان سعيه باطلاً { من دساها * } أي أغواها إغواء عظيماً وأفسدها ودنس محياها وقذرها وحقرها وأهلكها بخبائث الاعتقاد ومساوىء الأعمال ، وقبائح النيات والأحوال ، وأخفاها بالجهالة والفسوق ، والجلافة والعقوق ، وأصل « دسى » دسس ، فالتزكية أن يحرص الإنسان على شمسه أن لا تكسف ، وقمره أن لا يخسف ، ونهاره أن لا يتكدر ، وليله ألا يطفى ، والتدسيس أقله إهمال الأمر حتى تكسف شمسه ، ويخسف قمره ، ويتكدر نهاره ، ويدوم ليله ، وطرق ذلك اعتبار نظائر المذكورات من الروحانيات وإعطاء كل ذي حق حقه ، فنظير الشمس هي النبوة لأنها كلها ضياء باهر وصفاء قاهر ، وضحاها الرسالة وقمرها الولاية ، والنهار هو العرفان ، واليل عدم طمأنينة النفس بذكر الله وما جاء من عنده ، وإعراضها عن الانقياد لقبول ما جاء من النبوة أو الولاية ، والعلماء العاملون هم أولياء الله ، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما : إن لم تكن العلماء أولياء الله فليس الله ولي - رواه عنهما الحافظ أبو بكر الخطيب ، وهو مذكور في التبيان وغيره من مصنفات النووي ، ونظير السماء العزة والترفع عن الشهوات وعن خطوات الشياطين من الإنس والجن ، والأرض نظيرها التواضع لحق الله ولرسوله وللمؤمنين فيكون بإخراجه المنافع لهم كالأرض المخرجة لنباتها ، والتدسية خلاف ذلك ، من عمل بالسوء فقد هضم نفسه وحقرها فأخفاها كما أن اللئام ينزلون بطون الأودية ومقاطعها بحيث تخفى أماكنهم على الطارقين ، والأجواد ينزلون الروابي ، ويوقدون النيران للطارقين ، ويشهرون أماكنهم للمضيفين منازل الأشراف في الأطراف كما قيل :
قوم على المحتاج سهل وصلهم ... ومقامهم وعر على الفرسان
ولما كان السياق للترهيب بما دلت عليه سورة البلد وتقديم الفجور هنا ، وكان الترهيب أحث على الزكاء ، قال دالاًّ على خيبة المدسي ليعتبر به من سمع خبره لا سيما إن كان يعرف أثره : { كذبت ثمود } أنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم لأن كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم وقبيح غايتهم ، وما لهم بسفول الهمم وقباحة الشيم ، وخصهم لأن آيتهم مع أنها كانت أوضح الآيات في نفسها هي أدلها على الساعة ، وقريش وسائر العرب عارفون بهم لما يرون من آثارهم ، ويتناقلون من أخبارهم { بطغواها * } أي أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى بسبب ما كان لنفوسهم من وصف الطغيان ، وهو مجاوزة القدر وارتفاعه والغلو في الكفر والإسراف في المعاصي والظلم ، أو بما توعدوا به من العذاب العاجل وهي الطاغية التي أهلكوا بها ، وطغى - واوي يائي يقال : طغى كدعا يطغو طغوى وطغواناً - بضمها كطغى يطغى ، وطغي كرضي طغياً وطغياناً - بالكسر والضم ، فالطغوى - بالفتح اسم ، وبالضم مصدر ، فقلبت الياء - على تقدير كونه يائياً - واواً للتفرقة بين الاسم والصفة ، واختير التعبير به دون اليائي لقوة الواو ، فأفهم أنهم بلغوا النهاية في تكذيبهم ، فكانوا على الغاية من سوء تعذيبهم .

ولما ذكر تكذيبهم ، دل عليه بقوله : { إذ } أي تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين { انبعث أشقاها * } أي أشد ثمود شقاء وهو عاقر الناقة للمشاركة في الكفر والزيادة بمباشرة العقر ، وهو قدار بن سالف ، أو هو ومن مالاه على عقرها ، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف صلح للواحد والجمع { فقال لهم } أي بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى ، وأظهر ولم يضمر وعين الإظهار بالجلالة إشارة إلى عظيم آيتهم وبديع بدايتهم ونهايتهم فقال : { رسول الله } أي الملك الذي له الأمر كله ، فتعظميه من تعظيم مرسله وهو صالح عليه الصلاة والسلام وكذا الناقة ، وعبر بالرسول لأن وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا ، ولذا قال مشيراً بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظيم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى ، وزاد في التعظيم بإعادة الجلالة : { ناقة الله } أي الملك الأعظم الذي له الجبروت كله فلا يقر من انتهك حرمته واجترأ على ما أضافه إليه ، ولهذا أعاد الإظهار دون الإضمار ، والعامل : دعوا أو احذروا - أو نحو ذلك أي احذروا أذاها بكل اعتبار { وسقياها * } أي الماء الذي جعله الله تعالى لها لسقيها وهو بئرها ، فلا تذودوها عن بئرها في اليوم الذي تكون فيه نوبتها في الشرب ولا تمسوها بسوء ، وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم عنهم بعد مدة أنهم يريدون عقرها فكرر عليهم التحذير { فكذبوه } أي أوقعوا تكذيبه بسبب طغيانهم وعقب أمره هذا الأخير فيما حذر من حلول العذاب ، أو تكون الفاء هي الفصيحة أي قال لهم ذلك فكانت بعده بينه وبينهم في أمرها أمور ، فأوقعوا تكذيبه فيها كلها { فعقروها } أي بسبب ذلك التكذيب بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا به { فدمدم } أي عذب عذاباً تاماً مجلّلاً مغطياً مطبقاً مستأصلاً شدخ به رؤوسهم وأسرع في الإجهاز وطحنهم طحناً مع الغضب الشديد؛ قال الرازي : والدمدمة : تحريك البناء حتى ينقلب ، ودل بأداة الاستعلاء على شدته وإحاطته فقال : { عليهم } ودل على شدة العذاب لشدة الغضب بلفت القول بذكر صفة الإحسان التي كفروها لأنه لا أشد غضباً ممن كفر إحسانه فقال : { ربهم } أي الذي أحسن إليهم فغرَّهم إحسانه فقطعه عنهم فعادوا كأمس الدابر { بذنبهم } أي بسببه .

ولما استووا في الظلم والكفر بسبب عقر الناقة بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا والحث ، قال مسبباً عن ذلك ومعقباً : { فسواها * } أي الدمدمة عليهم فجعلها كأنها أرض بولغ في تعديلها فلم يكن فيها شيء خارج عن شيء كما سوى الشمس المقسم بها وسوى بين الناس فيها ، وكذا ما أقسم به بعدها ، فكانت الدمدمة على قويهم كما كانت على ضعيفهم ، فلم تدع منهم أحداً ولم يتقدم هلاك أحد منهم على أحد ، بل كانوا كلهم كنفس واحدة من قوة الصعقة وشدة الرجفة كما أنهم استووا في الكفر والرضا بعقر الناقة وكل نفس هي عند صاحبها كالناقة قد أوصى الله صاحبها أن يرعى نعمته سبحانه فيها فيزكيها ولا يدسيها ، فإن الناقة عبارة عن مطية يقطع عليها السير حساً أو معنى ، وذلك صالح لأن يراد به النفس التي تقطع بها عقبات الأعمال ، والسقيا ما يعيش المسقيّ به ، وهو صالح لأن يراد به الذكر والعبادة ، فمن لم يرع النعمة ويشكر المنعم فقد عقرها ، فاستحق الدمدمة منه ، وكما أنه سوى بينهم في الدمدمة سوى بين المهتدين في النجاة { ولا } أي والحال أنه لا { يخاف } في وقت من الأوقات أي ربهم ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ويؤيده قراءة أهل المدينة والشام بالفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية وكذلك هي في مصاحفهم { عقباها * } أي عاقبة هذه الدمدمة وتبعتها فإنه الملك الأعلى الذي كل شيء في قبضته لا كما يخاف كل معاقب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء فعلم أنه سبحانه وتعالى يعلي أولياءه لأنهم على الحق ، ويسفل أعداءه لأنهم على الباطل ، فلا يضل بعد ذلك إلا هالك ، بصيرته أشد ظلاماً من الليل الحالك ، وقد رجع آخرها على أولها بالقسم وجوابه المحذوف الذي هو طبع النفوس على طبائع مختلفة والتقدم إليهم بالإنذار من الهلاك ، ونفس القسم أيضاً فإن من له هذه الأفعال الهائلة التي سوى بين خلقه فيها وهذا التدبير المحكم هو بحيث لا يعجزه أمر ولا يخشى عاقبة - والله الموفق للصواب .

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)

لما بين في الشمس حال من زكى نفسه وحال من دساها ، وأوضح في آخرها من مخالفة ثمود لرسولهم ما أهلكهم ، فعلم أن الناس مختلفون في السعي في تحصيل نجد الخير ونجد الشر ، فمنهم من تغلب عليه ظلمة اللبس ، ومنهم من يغلب عليه نهار الهدى ، فتباينوا في مقاصدهم ، وفي مصادرهم ومواردهم ، بعد أن أثبت أنه هو الذي تصرف في النفوس بالفجور والتقوى ، أقسم أول هذه بما يدل على عجائب صنعه في ضره ونفعه على ذلك ، تنبيهاً على تمام قدرته في أنه الفاعل بالاختيار ، يحول بين المرء وقلبه حتى يحمله على التوصل إلى مراده ، بضد ما يوصل إليه بل بما يوصل إلى مضاده ، وعلى أنه لا يكاد يصدق الاتحاد في القصد والاختلاف في السعي والتوصل ، وشرح جزاء كل تحذيراً من نجد الشر وترغيباً في نجد الخير ، وبين ما به التزكية وما به التدسية فقال : { والّيل } أي الذي هو آية الظلام الذي هو سبب الخبط والخلط لما يحدث عنه من الإشكال واللبس في الأحوال والإهلال الموصل إلى ظلمة العدم ، وهو محل الأسرار بما يصل الأخيار ويقطع الأشرار : { إذا يغشى * } أي يغطي ما كان من الوجود مبصراً بضياء النهار على التدريج قليلاً قليلاً ، وما يدل عليه من جليل مبدعه ، وعظيم ماحقه ومطلعه { والنهار } أي الذي هو سبب انكشاف الأمور كالموت الذي يزيل عن الروح علائق البدن فينجلي لها ما كانت فيه من القبائح ، والجهر الذي يشرح النفس بإزالة اللبس { إذا تجلّى * } أي ظهر ظهوراً عظيماً بضياء الشمس ، وأظهر ما كان خفياً فلم يدع لمبصر شيئاً من لبس ، فمن كان يريد السر قصد الليل ، ومن أراد الجهر قصد النهار سواء كان من الأبرار أو من الفجار .
ولما ذكر المتخالطين معنى ، أتبعهما المتخالطين حساً ، فقال مصرحاً فيهما بما هو مراد في الأول ، وخص هذا بالتصريح تنبيهاً على أنه لكونه عاقلاً - عاقد يغلط في نفسه فيدعي الإلهية أو الاتحاد ، أو غير ذلك من وجوه الإلحاد { وما خلق } وحكم التعبير بما الأغلب فيه غير العقلاء ما تقدم في سورة الشمس من تنبيههم على أنهم لما أشركوا به سبحانه وتعالى ما لا يعقل نزلوه تلك المنزلة وقد أحاط بكل شيء ، وهو الذي خلق العلماء ، وهم لا يحيطون به علماً مع ما يفيده « ما » من التعجب منهم في ذلك لكونها صيغة التعجب { الذكر } أي حساً بآلة الرجل ومعنًى بالهمة والقوة { والأنثى } حساً بآلة المرأة ومعنًى بسفول الهمة وضعف القوة وما دلاّ عليه من عظيم الاصطناع ، وباهر الاختراع والابتداع ، فإنه دل فرقه بينهما وهما من غير؟ واحدة وهي التراب على تمام قدرته المستلزم لشمول علمه وفعله بالاختيار ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً الصنعة دلالة على حذفها ثانياً ، وثانياً الصانع دلالة على حذفه أولاً .

ولما ذكر ما هو محسوس التخالف من المعاني والأجرام ، أتبعه ما هو معقول التباين من الأعراض فقال : { إن سعيكم } أي عملكم أيها المكلفون في التوصل إلى مقصد واحد ، ولذلك أكده لأنه لا يكاد يصدق اختلاف وجوه السعي مع اتحاد المراد ، وعبر بالسعي ليبذل كل في عمله غاية جهده { لشتى * } أي مختلف اختلافاً شديداً باختلاف ما تقدم ، وهو جمع شتيت كقتلى وقتيل ، فيكون الإنسان رجلاً وهو أنثى الهمة ، ويكون أنثى وهو ذكر الفعل ، فتنافيتم في الاعتقادات ، وتعاندتم في المقالات ، وتباينتم غاية التباين بأفعال طيبات وخبيثات ، فساع في فكاك نفسه ، وساع في إيثامها ، فعلم قطعاً أنه لا بد من محق ومبطل ومرض ومغضب لأنه لا جائز أن يكون المتنافيان متحدين في الوصف بالإرضاء أو الإغضاب ، فبطل ما أراد المشركون من قولهم { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } [ النحل : 35 ] الآية وما ضاهاها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما بين قبل حالهم في الافتراق ، أقسم سبحانه على ذلك الشأن في الخلائق بحسب تقديره أزلاً { ليبلوهم أيهم أحسن عملاً } [ لا يوجد ليبلوهم بالياء في لغتنا وإنما كما في الكهف آية 7 : لنبلوهم . . . وفي الملك آية 2 : لنبلوكم . . . فقال تعالى : { إن سعيكم لشتى } فاتصل بقوله تعالى { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } [ الشمس : 10 ] إن قوله تعالى { فأما من أعطى واتقى - إلى - العسرى } يلائمه تفسيراً وتذكيراً بما الأمر عليه من كون الخير والشر بإرادته وإلهامه وبحسب السوابق قوله : { فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 8 ] فهو سبحانه الملهم للإعطاء والاتقاء والتصدق ، والمقدر للبخل والاستغناء والتكذيب { والله خلقكم وما تعملون } [ الصافات : 96 ] { لا يسئل عما يفعل } [ الأنبياء : 23 ] ثم زاد ذلك إيضاحاً بقوله تعالى « إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى } فتباً للقدرية والمعتزلة { وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } [ يوسف : 105 ] - انتهى .
ولما طابق بين القسم والمقسم عليه ، ونبه بالقسم والتأكيد مع ظهور المسقم عليه على أنهم في أمنهم مع التحذير كمن يدعي أنه لا فرق وأن مآل الكل واحد كما يقوله أصحاب الوحدة - عليهم الخزي واللعنة شرع في بيان تشتتت المساعي وبيان الجزاء لها ، فقال مسبباً عن اختلافهم ما هو مركوز في الطباع من أنه لا يجوز تسوية المحسن بالمسيء ناشراً لمن زكى نفسه أو دساها نشراً مستوياً إيذاناً بأن المطيع فيه هذه الأمة - ولله الحمد - كثير بشارة لنبيها صلى الله عليه وسلم : { فأما من أعطى } أي وقع منه إعطاء على ما حددنا له وأمرناه به { واتقى * } أي وقعت منه التقوى وهو اتخاذ الوقايات من الطاعات واجتناب المعاصي خوفاً من سطواتنا { وصدق } أي أوقع التصديق للمخبر { بالحسنى * } أي وهي كلمة العدل التي هي أحسن الكلام من التوحيد وما يتفرع عنه من الوعود الصادقة بالآخرة والإخلاف في النفقة في الدنيا وإظهار الدين وإن قل أهله على الدين كله ، وغير ذلك من كل ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم سبحانه وتعالى ، وعدل الكلام إلى مظهر العظمة إشارة إلى صعوبة الطاعة على النفس وإن كانت في غاية اليسر في نفسها لأنها في غاية الثقل على النفس فقال : { فسنيسره } أي نهيئه بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه { لليسرى * } أي الخصلة التي هي في غاية اليسر والراحة من الرحمة المقتضية للعمل بما يرضيه سبحانه وتعالى ليصل إلى ما يرضى به من الحياة الطيبة ودخول الجنة .

ولما ذكر المزكي وثمرته ، أتبعه المدسي وشقوته فقال : { وأما من بخل } أي أوجد هذه الحقيقة الخبيثة فمنع ما أمر به وندب إليه { واستغنى } أي طلب الغنى عن الناس وعما وعد به من الثواب وأوجده بما زعمت له نفسه الخائبة وظنونه الكاذبة . فلم يحسن إلى الناس ولا عمل للعقبى : { وكذب } أي أوقع التكذيب أن يستحق التصديق { بالحسنى * } أي فأنكرها ، ولما كان جامداً مع المحسوسات كالبهائم قال : { فسنيسره } أي نهيئه بما لنا من العظمة وعد لا خلف فيه { للعسرى * } أي للخصلة التي هي أعسر الأشياء وأنكدها ، وهي العمل بما يغضبه سبحانه الموجب لدخول النار وما أدى إليه ، وأشار بنون العظمة في كل من نجد الخير ونجد الشر إلى أن ارتكاب الإنسان لكل منهما في غاية البعد ، أما نجد الخير فلما حفه من المكاره ، وأما نجد الشر فلما في العقل والفطرة الأولى من الزواجر عنه ، وذلك كله أمر قد فرغ منه في الأزل بتعيين أهل السعادة وأهل الشقاوة « وكل كما قال صلى الله عليه وسلم - ميسر لما خلق له » .

وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

ولما كان أهل الدنيا إذا وقعوا في ورطة تخلصوا منها بأموالهم قال : { وما يغني } أي في تلك الحالة { عنه } أي هذا الذي بخل وكذب { ماله } أي الذي بخل به رجاء نفعه ، ويجوز أن يكون استفهاماً إنكارياً فيكون نافياً للإغناء على أبلغ وجه { إذا تردّى * } أي هلك بالسقوط في حفرة القبر والنار ، تفعّل من الردى وهو الهلاك والسقوط في بئر .
ولما كان ربما قال المتعنت الجاهل بما له سبحانه وتعالى من العظمة التي لا اعتراض لأحد عليها : ما له لا ييسر الكل للحسنى ، استأنف جوابه مبيناً من ألزم به نفسه من المصالح تفضلاً منه بما له من اللطف والكرم وما يفعله مما هو له من غير نظر إلى ذلك بما له من الجبروت والكبر ، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه يحب العلم بأنه لا حق لأحد عليه أصلاً : { إن علينا } أي على ما لنا من العظمة { للهدى * } أي البيان للطريق الحق وإقامة الأدلة الواضحة على ذلك .
ولما بين ما ألزمه نفسه المقدس فصار كأنه عليه لتحتم وقوعه فكان ربما أوهم أنه يلزمه شيء ، أتبعه ما ينفيه ويفيد أن له غاية التصرف فلا يعسر عليه شيء أراده فقال : { وإن لنا } أي يا أيها المنكرون خاصاً بنا ، وقدم ما العناية به أشد لأجل إنكارهم لا للفاصلة ، فإنه يفيدها مثلاً أن يقال : للعاجلة والأخرى ، فقال : { للآخرة والأولى * } فمن ترك ما بينا له من طريق الهداية لم يخرج عن كونه لنا ولم يضر إلا نفسه ولنا التصرف التام ، بما نقيم من الأسباب المقربة للشيء جداً ، ثم بما نقيم من الموانع الموجبة لبعده غاية البعد ، فنعطي من نشاء ما نشاء ونمنع من نشاء ما نشاء ، ومن طلب منهما شيئاً من غيرنا فال رأيه وخاب سعيه ، وليس التقديم لأجل الفاصلة ، فقد ثبت بطلان هذا وأنه لا يحل اعتقاده في غير موضع ، منها آخر سورة براءة ، وأنه لا فرق بين أن يعتقد أن فيه شيئاً موزوناً بقصد الوزن فقط ليكون شعراً ، وأن يعتقد أن فيه شيئاً قدم أو أخر لأجل الفاصلة فقط ليكون سجعاً ، على أنه لو كان هذا لأجل الفاصلة فقط لكان يمكن أن يقال : للأولى - أو للأولة - والأخرى مثلاً .
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه ألزم نفسه المقدس البيان ، وأن له كل شيء ، المستلزم لإحاطة العلم وشمول القدرة ، شرح ذلك بما سبب عنه من قوله لافتاً القول إلى تجريد الضمير من مظهر العظمة للترقق بالمخاطبين في تبعيد الوهم وتقريب الفهم فقال : { فأنذرتكم } أي حذرتكم أيها المخالفون للطريق الذي بينته { ناراً تلظّى * } أي تتقد وتتلهب تلهباً هو في غاية الشدة من غير كلفة فيه على موقدها أصلاً ولا أحد من خزنتها - بما أشار إليه إسقاط التاء ، وفي الإدغام أيضاً إشارة إلى أن أدنى نار الآخرة كذلك ، فيصير إنذار ما يتلظى وما فوق ذلك من باب الأولى .

ولما كان قد تقدم غير مرة تخصيص كل من المحسن والمسيء بداره بطريق الحصر إنكاراً لأن يسوى محسن بمسيء في شيء ، وكان الحصر ب « لا » و « إلا » أصرح أنواعه قال : { لا يصلاها } أي يقاسي حرها وشدتها على طريق اللزوم والانغماس { إلا الأشقى * } أي الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر ، فإن الفاسق وإن دخلها لا يكون ذلك له على طريق اللزوم ، ولذلك وصفه بقوله تعالى : { الذي كذب } أي أفسد قوته العلمية بأن أعرض عن الحق تكبراً وعناداً فلم يؤت ماله لزكاة نفسه { وسيجنبها } أي النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه عن قرب - بما أفهمته السين من التأكيد مع التنفيس ، وتجنيبه له في غاية السهولة - بما أفهمه البناء للمفعول { الأتقى * } أي الذي أسس قوته العلمية أمكن تأسيس ، فكان في الذروة من رتبة التقوى وهو الذي اتقى الشرك والمعاصي ، وهو يفهم أن من لم يكن في الذروة لا يكون كذلك ، فإن الفاسق يدخلها ثم يخرج منها ، ولا ينافي الحصر السابق .
ولما ذكر ما يتعلق بالقوة العلمية ، أتبعه ما ينظر إلى القوة العملية فقال : { الذي يؤتي ماله } أي يصرفه في مصارف الخير ، ولذلك بينه بقوله تعالى : { يتزكّى * } أي يتطهر من الأوضار والأدناس بتطهيره لنفسه وتنميتها بذلك الإيتاء بالبعد عن مساوىء الأخلاق ولزوم محاسنها لأنه ما كذب وما تولى ، والآية من الاحتباك : ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً ، وإيتاء المال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً .
ولما كان الإنسان قد يعطي ليزكي نفسه بدفع مانّه ومكافأة نعمه قال : { وما } أي والحال أنه ما { لأحد عنده } وأعرق في النفي فقال : { من نعمة تجزى * } أي هي مما يحق جزاؤه لأجلها . ولما نفى أن يكون بذلك قصد مكافأة ، قال مبيناً قصده باستثناء منقطع : { إلا } أي لكن قصد بذلك { ابتغاء } أي طلب وقصد ، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى وصفه بالشكر فقال : { وجه ربه } الذي أوجده ورباه وأحسن إليه بحيث إنه لم ير إحساناً إلا منه ولا عنده شيء إلا وهو من فضله { الأعلى * } أي مطلقاً فهو أعلى من كل شيء ، فلا يمكن أن يعطي أحد من نفسه شيئاً يقع مكافأة له ، وعبر عن المنقطع بأداة المتصل للإشارة إلى أن الابتغاء المذكور كأنه نعمة ممن آتاه المال لأن الابتغاء - وهو تطلب رضا الله - كان السبب في ذلك الإيتاء بغاية الترغيب ، وقد آل الأمر بهذه العبارة الرشيقة والإشارة الأنيقة مع ما أومأت إليه من الترغيب ، وأعطته من التحبيب إلى أن المعنى : إنه لا نعمى عليه لأحد في ذلك إلا الله ، وعبر بالوجه إشارة إلى أن قصده أعلى القصود فلا نظر له إلا إلى ذاته سبحانه وتعالى التي عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الذات ، وبالنظر إليه تحصل الحياة والرغبة والرهبة ، لا إلى طلب شيء من دنيا ولا آخرة .

ولما كان هذا مقاماً ليس فوقه مقام ، قال تعالى بعد وعده من الإنجاء من النار : { ولسوف يرضى * } أي بإعطاء الجنة العليا والمزيد بوعد لا خلف فيه بعد المذلة في الحياة الطيبة - بما أشارت إليه أداة التنفيس ولا بدع أن يكون هذا الوعد على هذا الوجه الأعلى لأن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً رضي الله عنه في جماعة من الضعفاء المسلمين يؤذيهم المشركون فأعتقهم ، فبين تعالى أنه مطبوع على تزكية نفسه فهو المفلح كما ذكر في سورة الشمس ، وأنه مخلص لإعطائه الضعفاء من الأيتام والمساكين وإعتاقه الضعفاء في كل حال كما ذكر في سورة البلد ، نقل البغوي رضي الله تعالى عنه عن الزبير يعني ابن بكار أنه قال : كان أبو بكر رضي الله عنه يبتاع الضعفاء فيعتقهم فقال له أبوه : أي بني! لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك ، قال : منع ظهري أريد . وقال : إنه أعتق بلالاً وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى ، فقالت : كذبوا وبيت الله ، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان ، فرد الله عليها بصرها ، وأعتق النهدية وابنتها وجارية بني المؤمل . وقال : إنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف استنقاذاً له مما كان فيه من العذاب حين كان يشد يديه ورجليه وقت الهاجرة ويلقيه عرياناً على الرمضاء ويضربه ، وكلما ضربه صاح ونادى : أحد أحد ، فيزيده ضرباً فاشتراه بعبد كان لأبي بكر رضي الله عنه ، كان ذلك العبد صاحب عشرة الآف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركاً ، فلما اشتراه به وأعتقه قال المشركون : ما فعل هذا ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده ، يعني فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم . ومن أبدع الأشياء تعقيبها بالضحى التي هي في النبي صلى الله عليه وسلم وفيها { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] إشارة إلى أنه أقرب أمته إلى مقامه صلى الله عليه وسلم ما عدا عيسى صلى الله عليه وسلم لأنه الأتقى بعد النبيين مطلقاً ، وإلى أن خلافته حق لا مرية فيه لأنه مما وعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرضيه وأنه لا يرضيه غيره كما أنه أرضاه خلافته له في الصلاة ولم يرضه غيره حين نهى عن ذلك بل زجر لما سمع قراءة غيره وقال : « يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضي الله عنه » وقد رجع آخرها على أولها بأن سعي هذا الصديق رضي الله عنه مباين أتم مباينة سعي ذلك الأشقى ، وقال بعضهم : إن المراد بذلك الأشقى أبو جهل ، وأيضاً فإن هذا الختم دال على أن من صفى نفسه وزكاها بالتجلي بالنور المعنوي من إنارة ظلام الليل بما يجليه به من ضياء القيام وغير ذلك من أنواع الخير يرضى بالنور الحسي بعد الموت - والله الموفق للصواب .

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)

ولما حكم في آخر الليل بإسعاد الأتقياء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق مطلقاً ، وكان قد قطع عنه الوحي حيناً ابتلاء لمن شاء من عباده ، وكان به صلى الله عليه وسلم صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وكان الملوان سبب صلاح معاش الخلق وكثير من معادهم ، أقسم سبحانه وتعالى بهما على أنه أسعد الخلائق دنيا وأخرى ، فقال مقدماً ما يناسب حال الأتقى الذي قصد به أبو بكر رضي الله عنه قصداً أولياً من النور الذي يملأ الأقطار ، ويمحو كل ظلام يرد عليه ويصل إليه ، مفهماً بما ذكر من وقت الضياء الناصع حالة أول النهار وآخر الليل التي هي ظلمة ملتف بساقها ساق النهار عند الإسفار : { والضحى * } فذكر ما هو أشرف النهار وألطفه وهو زهرته ، وأضوأه وهو صدره ، وذلك وقت ارتفاع الشمس لأن المقسم لأجله أشرف الخلائق ، وذلك يدل على أنه يبلغ من الشرف ما لا يبلغه أحد من الخلق .
ولما ذكر النهار بأشرف ما فيه مناسبة لأجل المقسم لأجله ، أتبعه الليل مقيداً له بما يفهم إخلاصه لأنه ليس لأشرف ما فيه اسم يخصه فقال : { والّيل } أي الذي به تمام الصلاة؛ ولما كان أوله وآخر النهار وآخره وأول النهار ضوءاً ممتزجاً بظلمة لالتفات ساق الليل بساق النهار ، قيد بالظلام الخالص فقال : { إذا سجى * } أي سكن أهله أو ركد ظلامه وإلباسه وسواده واعتدل فخلص فغطى بظلامه كل شيء ، والمتسجي : المتغطي ، ومع تغطيته سكنت ريحه ، فكان في غاية الحسن ، ويمكن أن يكون الأول مشيراً إلى ما يأتي به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من المحكم ، والثاني مشيراً إلى المتشابه ، وهذا الأربعة الأحوال للنور والظلمة - وهي ضوء ممتزج بظلمة ، وظلمة ممتزجة بضوء ، وضياء خالص وظلام خالص - الحاصلة في الآفاق في الإنسان مثلها ، فروحه نور خالص ، وطبعه ظلام حالك ، وقلبه نور ممتزج بظلمة النفس ، والنفس ظلمة ممتزجة بنور القلب ، فإن قويت شهوة النفس على نورانية القلب أظلم جميعه ، وإن قويت نورانية القلب على ظلمة النفس صار نورانياً ، وإن غلبت الروح على الطبع تروحن فارتفع عن رتبة الملائكة ، وإن غلب الطبع على الروح أنزله عن رتبة البهائم كما قال تعالى : { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } [ الأعراف : 179 ] .
ولما أقسم بهذا القسم المناسب لحاله صلى الله عليه وسلم ، أجابه بقوله تعالى : { ما ودعك } أي تركك تركاً يحصل به فرقة كفرقة المودع ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع { ربك } أي الذي أحسن إليك بإيجادك أولاً ، وجعلك أكمل الخلق ثانياً ، ورباك أحسن تربية ثالثاً ، كما أنه لا يمكن توديع الليل للنهار بل الضحى للنهار الذي هو أشد ضيائه ، ولا يمكن توديع الضحى للنهار ولا الليل وقت سجوه له .

ولما كان ربما تعنت متعنت فقال : ما تركه ولكنه لا يحبه ، فكم من مواصل وليس بواصل ، قال نافياً لكل ترك : { وما قلى * } أي وما أبغضك بغضاً ما ، وحذف الضمير اختصاراً لفظياً ليعم ، فهو من تقليل اللفظ لتكثير المعنى ، وذلك لأنه كان انقطاع عنه الوحي مدة لأنهم سألوه عن الروح وقصة أهل الكهف وذي القرنين فقال : « أخبركم بذلك غداً » ، ولم يستثن ، فقالوا : قد ودعه ربه وقلاه ، فنزلت لذلك ، ولما نزلت كبر صلى الله عليه وسلم فكان التكبير فيها وفيما بعدها سنة كما يأتي إيضاحه وحكمته آخرها ، وقد أفهمت هذه العبارة أن المراتب التقريبية أربع : تقريب بالطاعات ومحبة وهي للمؤمنين ، وإبعاد بالمعاصي وبغض وهي للكفار ، وتقريب بالطاعات مخلوط بتبعيد للمعاصي وهي لعصاة المؤمنين ، وإعراض مخلوط بتقريب بصور طاعات لا قبول لها وهي لعباد الكفار .
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما قال تعالى : { فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 8 ] ثم أتبعه بقوله في الليل : { فسنيسره } [ الليل : 7 - 13 ] وبقوله : { إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى } [ الليل : 7 - 13 ] ، فلزم الخوف واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان للتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم ، أنس تعالى أحب عباده إليه وأعظمهم منزلة لديه ، وذكر له ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال تعالى : { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى } ثم عدد تعالى عليه نعمه بعد وعده الكريم له بقوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } وأعقب ذلك بقوله : { فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر } فقد آويتك قبل تعرضك وأعطيتك قبل سؤالك ، فلا تقابله بقهر من تعرض وانتهار من سأل ، وقد حاشاه سبحانه عما نهاه عنه ولكنه تذكير بالنعم وليستوضح الطريق من وفق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أما هو صلى الله عليه وسلم فحسبك من تعرف رحمته ورفقه { وكان بالمؤمنين رحيماً } [ الأحزاب : 43 ] { عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود ولذلك السورة قبلها برفع القسم في الأولى بقوله : { والليل إذا يغشى } [ الليل : 1 ] تنبيهاً على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم العواقب ، وليناسب هذا حال المتذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصامه به يحصل اليقين واستصغار درجات المتقين ، ثم لما لم يكن هذا غائباً بالجملة عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهل للترقي في درجات المتقين ، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده - بملازمته التقوى والاعتبار - على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة وعياناً ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل ، قال صلى الله عليه وسلم لحارثة :

« وجدت فالزم » وقال مثله للصديق ، وقال تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ يونس : 64 ] { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ فصلت : 30 ] فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام ، ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك الإظلام ، بما منحهم سبحانه وتعالى من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله : { يجعل لكم فرقاناً } [ الأنفال : 29 ] و { يجعل لكم نوراً تمشون به } [ الحديد : 28 ] { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } [ الأنعام : 122 ] فعمل هؤلاء على بصيرة ، واستولوا اجتهاداً بتوفيق ربهم على أعمال جليلة خطيرة ، فقطعوا عن الدنيا الآمال ، وتأهبوا لآخرتهم بأوضح الأعمال { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } [ السجدة : 16 ] { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام أشار قوله سبحانه وتعالى : { والليل إذا يغشى } ولما يؤول إليه الحال في حق من كتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه وتعالى : { والنهار إذا تجلى } ولانحصار السبل وإن تشعبت في طريقي { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [ التغابن : 2 ] { فريق في الجنة وفريق في السعير } [ الشورى : 7 ] أشار قوله سبحانه وتعالى : { وما خلق الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] { ومن كل شيء خلقنا زوجين } [ الذاريات : 49 ] { ففروا إلى الله } [ الذاريات : 50 ] الواحد مطلقاً ، فقد وضح لك إن شاء الله بعض ما يسر من تخصيص هذا القسم - والله أعلم ، أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة في استفتاح القسم بالضحى لما يسره به سبحانه لا سيما إذا اعتبر ما ذكر من سبب نزول السورة ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قد فتر عنه الوحي حتى قال بعض الكفار : قلى محمداً ربه ، فنزلت السورة مشعرة عن هذه النعمة والبشارة - انتهى .
ولما ذكر حاله في الدنيا بأنه لا يزال يواصله بالوحي والكرامة ، ومنه ما هو مفتوح على أمته من بعده روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أريت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كَفراً كَفراً فسرني ذلك » فلما كان ذلك وكان ذكره على وجه شمل الدارين صرح بالآخرة التي هي أعلى وأجل ، ولأدنى من يدخلها فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فكيف بما له صلىلله عليه وسلم ، فقال مؤكداً لذلك كما أكد الأول بالقسم بما لهم فيه من الإنكار : { وللآخرة } أي التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خالصة عن شوائب الكدر أو الحالة المتأخرة لك ليفهم منه أنه لا يزال في ترق من عليّ إلى أعلى منه وكامل إلى أكمل منه دائماً أبداً لا إلى نهاية { خير } وقيد بقوله : { لك } لأنه ليس كل أحد كذلك { من الأولى * } أي الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص كما أن النهار الذي هو بعد الليل خير منه وأشرف ولا سيما الضحى منه ، وقد أفهم ذلك أن الناس على أربعة أقسام : منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء ، ومنهم من له الشر فيهما وهم الكفرة الفقراء ، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشر الآخرة وهم الكفرة الأغنياء ، ومنهم من له صورة شر في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء ، قد قال :

الناس في الدنيا على أربع ... والنفس في فكرتهم حائره
فواحد دنياه مقبوضة ... إن له من بعدها آخره
وواحد دنياه مبسوطة ... ليس له من بعدها آخره
وواحد قد حاز حظيهما ... سعيد في الدنيا وفي الآخره
وواحد يسقط من بينهم ... فذلك لا دنيا ولا آخره
ولما ذكر سبحانه الدنيا والآخرة ، ذكر ما يشملهما مما زاده من فضله ، فقال مصدراً بحرف الابتداء تأكيداً للكلام لأنهم ينكرونه وليست للقسم لأنها إذا دخلت على المضارع لزمته النون المؤكدة ، وضم هذه اللام إلى كلمة التنفيس للدلالة على أن العطاء وإن تأخر وقته لحكمة كائن لا محالة : { ولسوف يعطيك } أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة { ربك } أي الذي لم يزل يحسن إليك بوعد الدنيا ووعد الآخرة { فترضى * } أي فيتعقب على ذلك ويتسبب عنه رضاك . وهذا شامل لما منحه بعد كمال النفس من كمال العلم وظهور الأمر وإعلاء الدين وفتح البلاد ودينونة العباد ونقص ممالك الجبابرة ، وإنهاب كنوز الأكاسرة والقياصرة ، وإحلال الغنائم حتى كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر ، وشامل لما ادخره له سبحانه وتعالى في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود ، والشفاعة العظمى إلى غير ذلك مما لا يدخل تحت الحدود ، وقد أفهمت العبارة أن الناس أربعة أقسام : معطى راض ، وممنوع غير راض ، ومعطى غير راض ، وممنوع راض ، وعن علي رضي الله عنه أنها أرجى آية في القرآن لأنه صلى الله عليه وسلم لا يرضى واحداً من أمته في النار .

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

ولما وعده بأنه لا يزال في كل لحظة يرقيه في مراقي العلا والشرف ، ذكره بما رقاه به قبل ذلك من حين توفي أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين ، فتم يتمه من الأبوين قبل بلوغه لئلا يكون عليه - كما قال جعفر الصادق - حق لمخلوق ، فقال مقرراً له : { ألم يجدك } أي يصادفك أي يفعل بك فعل من صادف آخر حال كونه { يتيماً فآوى * } ولما كان يلزم من اليتم في الغالب عدم العلم لليتيم لتهاون الكافل ، ومن عدم العلم الضلال ، قال مبيناً أن يتمه وإهماله من الحمل على دينهم كان نعمة عظيمة عليه لأنه لم يكن على دين قومه في حين من الأحيان أصلاً : { ووجدك } أي صادفك { ضالاً } أي لا تعلم الشرائع { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] فأطلق اللازم وهو الضلال على الملزوم ، والمسبب على السبب ، وهو عدم العلم ، فكنت لأجل ذلك لا تقدم على فعل من الأفعال لأنك لا تعلم الحكم فيه إلا ما علمت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة المستقيمة من التوحيد وبعض توابعه ، وهذا هو التقوى كما تقدم في الفاتحة ، ولم يرد به حقيقته وإنما أعراه من التعلق بشيء من الشرائع ونحوها بإعدام من يحمله على ذلك ليفرغه ذلك التأمل بنفسه فيوصله بعقله السديد إلى الاعتقاد الحق في الأصول والوقوف في الفروع { فهدى * } أي فهداك هدى محيطاً بكل علم ، فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر ما لم تكن تعلم .
ولما كان العيال يمنعون من التفرغ لعلم أو غيره قال : { ووجدك } أي حال كونك { عائلاً } أي ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم أو فقيراً ، قال ابن القطاع : عال الرجل : افتقر ، وأعال : كثر عياله . { فأغنى * } بما جعل لك من ربح التجارة ثم من كسب الغنائم وقد أفهم ذلك أن الناس أربعة أقسام : منهم من وجد الدين والدنيا ، ومنهم من عدمهما ، ومنهم من وجد الدين لا وجد الدنيا ، ومنهم من وجد الدنيا لا الدين . ولما ذكره بما أنعم عليه به من هذه النعم الثلاث أوصاه بما يفعل في ثلاث مقابلة لها ، فقال مسبباً عنه مقدماً معمول ما بعد الفاء عليها اهتماماً : { فأما اليتيم } أي هذا النوع { فلا تقهر * } أي تغلبه على شيء فإنما أذقتك اليتم تأديباً بأحسن الآداب لتعرف ضعف اليتيم وذله ، وفوق ذلك كفالته وهي خلافة عن الله لأن اليتيم لا كافل له إلا الله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أنا وكافل اليتيم كهاتين » - وأشار بالسبابة والوسطى .
ولما بدأ بما كان بداية له ، ثنى بما هو نهاية له من حيث كونه يصير رأس الخلق فيصير محط الرجال في كل سؤال من علم ومال ، فقال مقدماً له اهتماماً به إشارة إلى أنه جبر الخواطر واستئلاف الخلق من أعظم المقاصد في تمام الدين : { وأما السائل } أي الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال { فلا تنهر * } أي تزجر زجراً مهيناً ، فقد علمت مضاضة العيلة ، بل أعطه ولو قليلاً ، أو رده رداً جميلاً ، وكذا السائل في العلم .

ولما ذكر له تفصيل ما يفعل في اليتيم والفقير والجاهل ، أمره بما يفعل في العلم الذي آتاه إياه إعلاماً بأنه الآلة التي يستعملها في الأمرين الماضيين وغيرهما لأنها أشرف أحوال الإنسان وهي أوفق الأمور لأن يكون مقطع السورة لتوافق مطلعها فقال : { وأما بنعمة ربك } أي الذي أحسن إليك بإصلاح جميع ما يهمك من العلم وغيره وبالهجرة ومبادئها عند تمام عدد آيها من السين وهي إحدى عشرة { فحدث * } أي فاذكر النبوة وبلغ الرسالة فاذكر جميع نعمه عليك فإنها نعم على الخلق كافة ، ومنها إنقاذك بالهجرة من أيدي الكفرة وإعزازك بالأنصار ، وتحديثك بها شكرها ، فإنك مرشد يحتاج الناس إلى الاقتداء بك ، ويجب عليهم أن يعرفوا لك ذلك ويتعرفوا مقدارك ليؤدوا حقك ، فحدثهم أني ما ودعتك ولا قليتك ، ومن قال ذلك فقد خاب وافترى ، واشرح لهم تفاصيل ذلك بما وهبتك من العلم الذي هو أضوأ من ضياء الضحى وقد رجع آخرها على أولها بالتحديث بهذا القسم والمقسم لأجله ، وما للملك الأعلى في ذلك من عميم فضله : ولقد امتثل صلى الله عليه وسلم وابتدأ هذا التحديث الذي يشرح الصدور ، ويملأ الأكوان من السرور ، والنعمة والحبور ، لأنه بأكبر النعم المزيلة لكل النقم بالتكبير كما ورد في قراءة ابن كثير وفي رواية السوسي عن أبي عمرو ، واختلف القراء في ابتدائه وانتهائه ولفظه ، فقال بعضهم : هو من أول الضحى ، وقال آخرون : من آخرها ، وقال غيرهم من أول الشرح ، فمن قال للأول لم يكبر آخر الناس ، ومن قال للآخر انتهى تكبيره بالتكبير في آخرها ، وسببه أن جبريل عليه الصلاة والسلام لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي ، فتلا السورة عليه كبر مسروراً لما كان أحزنه من الفترة ومن قول المشركين : قلاه ربه ، وتحديثاً بالنعم التي حباه الله بها في هذه السورة له ولأمته امتثالاً لما أمر به واختلف عنهم في لفظه ، فمنهم من اقتصر على « الله أكبر » ومنهم من زاد التهليل فقال : « لا إله إلا الله والله أكبر » وهذا هو المستعمل ، ومنهم من زاد « ولله الحمد » والراجح قول من قال : إنه لآخر الضحى إسناداً ومعنى ، لأنها وإن كانت هي السبب والعادة جارية بأن من دهمه أمر عظيم يكبر مع أوله ، لكن شغله صلى الله عليه وسلم بالإصغاء إلى ما يوحى إليه منعه من ذلك ، فلما ختمت السورة تفرغ له ، فكان ذلك الوقت كأنه ابتداء مفاجأة ذلك الأمر العظيم له ، وزاد ما في السورة من جلائل النعم المقتضية للتحميد وما في ذلك من بدائع الصنع الموجب للتهليل ، وقد علم بذلك سبب من ظنه في أولها ، وأما من ظنه لأول الشرح فكونه كان في آخر الضحى ، فإذا وصل بها « ألم نشرح » ألبس الحال ، وتعليق الأشياء بالأوائل هو الأمر المعتاد ، وحكمته مع ما مضى من سببه أن التهليل توحيده سبحانه وتعالى بالأمر ، وامتناع شريك يمنعه من شيء يريده من الوحي وغيره ، والتكبير تفريده له بالكبرياء تنزيهاً له عن شوب نقص يلم به من أن يتجدد له علم ما لم يكن ليكون ذلك سبباً لقطع من وصله بوحي أو غيره ، والتحميد إثبات التفرد بالكمال له على إسباغ نعمه ، وفي ذلك أن هذه السورة آذنت بأن القرآن أشرف على الختام ، لأن عادة الحكماء من المدبرين تخفيف المنازل في الأواخر على السائرين كتخفيف أول مرحلة رفقاً بالمقصرين ، فناسب الذكر بهذا عند الآخر لأن تذكر الانقضاء يهيج مثل ذلك عند السالك ، ولأن تقصير السور ربما أوهم شيئاً مما لا يليق ، فسن التنزيه بتكبيره سبحانه وتعالى عن كل ما يوهم نقصاً ، وإثبات الكمال له بالتوحيد منبه على الحث على تدبر ما في هذه السورة من الجمع للمعاني على وجازتها وقصر آياتها وحلاوتها مع ما في ذلك من تخفيف التعليم ، والتدريب على الحفظ في المبادىء والتحبيب فيه والتهييم ، والتحميد على إتمام النعمة على غاية الإحكام من لدن حكيم عليم .

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

ولما أمره صلى الله عليه وسلم آخر الضحى بالتحديث بنعمته التي أنعمها عليه فصلها في هذه السورة فقال مثبتاً لها في استفهام إنكاري مبالغة في إثباتها عند من ينكرها والتقرير بها مقدماً المنة بالشرح في صورته قبل الإعلام بالمغفرة كما فعل ذلك في سورة الفتح الذي هو نتيجة الشرح ، لتكون البشارة بالإكرام أولاً لافتاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً للشرح . { ألم نشرح } أي شرحاً يليق بعظمتنا { لك } أي خاصة .
ولما عين المشروح له ، فكان المشروح مبهماً ، فزاد تشوف النفس إليه ليكون أضخم له ، بينه ليكون بياناً بعد إبهام فيكون أعظم في التنويه به وأجل في التعريف بأمره فقال : { صدرك * } أي نسره ونفرحه بالهجرة ، فإن هذه السورة مدنية عند ابن عباس رضي الله عنهما ، ونجله ونعظمه ونخرج منه قلبك ونشقه ونغسله ونملأه إيماناً وحكمة ورأفة وعلماً ورحمة ، فانفسح جداً حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق ، فكان مع الحق بعظمته وارتفاعه ، ومع الخلق بفيض أنواره وشعاعه ، وقد كان هذا الشرع حقيقة مراراً ، وكان مجازاً أيضاً بإحلال جميع معانيه ، وكل ذلك على ما لا يدخل تحت الوصف لا يعبر لكم عنه بأثر من أنه شق بعظمتنا ، فالعلم الذي شق به معرفة الله والدار الآخرة والدين والدنيا ، والحمة التي درّت فيه هي وضع الشيء في محله ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وقرأ أبو جعفر المنصور بفتح جاء « نشرح » وخرجها ابن عطية على التأكيد بالنون الخفيفة ثم أبدل ألف من النون ، ثم حذف النون تخفيفاً ، وقال أبو حيان بأن اللحياني حكى في نوادره عن بعض العرب النصب بلم والجزم بلن ، وسره هنا أن الفتح في اللفظ مناسب غاية المناسب للشرح ، ووجه قراءة الجمهور أنه لما دل على الفتح بالشرح دل بالجزم على أنه مع ذلك رابط لما أودعه من الحكم ضابط له ، هاد بما فيه من رزانة العلم ، ووقار التقى والحلم ، قال ابن برجان : ففرق ما بين النبي والولي في ذلك أن النبي شرح صدره ظاهراً فأعلى ظاهراً ، والولي شرح ذلك منه باطناً فعلى به باطناً ، والكافر ضيق ذلك منه وأبقى بظلمته وحظوظ الشيطان منه فهو لا يستطيع قبول الهداية ولا الصعود في معارج العبرة إلا على مقدار ما يستطيع الصعود في السماء { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } [ الأنعام : 125 ] .
ولما كانت سعة الصدر بالعلم والحكمة هي الجمال باجتماع المحاسن ، وكان ذلك مع حمل ما يعني من أعظم النكد ، وكان الجمال بجمع المحاسن لا يكمل إلا إذا جمع إلى الجمال الجلال بانتفاء الرذائل ، وكان الاستفهام الإنكاري إذا اجتمع مع النفي صار إثباتاً ، لأنه نفي للنفي ، قال عاطفاً عليه ما لا يعطف إلا مع الإثبات { ووضعنا } أي حططنا وأسقطنا وأبطلنا حطاً لا رجعة له ولا فيه بوجه بما لنا من العظمة ، مجاوزاً { عنك وزرك * } أي حملك الثقيل الذي لا يستطاع حمله ، ولذلك وصفه بقوله : { الذي أنقض ظهرك * } أي جعله وهو عماد بدنك تصوت مفاصله من الثقل كما يصوت الرحل الجديد إذا لز بالحمل الثقيل ، وذلك هو ما دهمه عندما أمر بإنذار قومه ومفاجأتهم بما يكرهون عن عيب دينهم وتضليل آبائهم وتسفيه حلومهم في التدين بدين لا يرضاه أدنى العقلاء إذا تأمل شيئاً من تأمل مع التجرد من حظ النفس مع ما عندهم من الأنفة والحمية وإلقاء الأنفس في المهالك لأدنى غضب ، فقال :

« يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة » فخفف سبحانه وتعالى عنه ذلك بما أظهر له من الكرامات وأيده به من المعجزات ، وضمن له من الحماية إلى أمور لا يحيط بها علماً إلا الذي أيده بها { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] حتى خف ذلك عليه ، فصار أشفق أهله عليه يمنعه من بعض الإبلاغ ويمسك بثوبه لئلا يخرج إلى النار فيقول لهم ذلك فيحصل له ما يكره فيجذب نفسه منه ويخرج إليهم فيخبرهم كما وقع في أمر الإسراء وغيره ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أن جبريل عليه الصلاة والسلام شق صدره فأخرج منه قلبه فشرحه وأخرج منه علقة سوداء فأنقاه وغسله ثم ملأه علماً وإيماناً وحكمة ، يعني فصار يحتمل ما لا يحتمله غيره ، وخف عليه ما يثقل على غيره ، ولا شك أن ذلك وزر لغوي ، وهو واضح ، وشرعي بالمال على تقدير ترك الامتثال اللازم للاستثقال ، وقد أعاذه الله من ذلك .
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : معنى هذه السورة من معنى السورة قبلها ، وحاصل السورتين تعداد نعمه سبحانه وتعالى عليه ، فإن قلت : فلم فصلت سورة ألم نشرح ولم ينسق ذكر هذه النعم في سورة واحدة ، قلت : من المعهود في البشر فيمن عدد على ولده أو عبده نعماً أن يذكر له أولاً ما شاهد الحصور عليه منها بسببه مما يمكن أن يتعلق في بعضها بأن ذلك وقع جزاء لا ابتداء ، فإذا استوفى له ما قصده من هذا ، أتبعه بذكر نعم ابتدائية قد كان ابتداؤه بها قبل وجوده كقول الأب مثلاً لابنه : ألم أختر لأجلك الأم والنفقة حيث استولدتك وأعددت من مصالحك كذا وكذا ، ونظير ما أشرنا إليه بقوله سبحانه لزكريا عليه الصلاة والسلام { ولم تك شيئاً } [ مريم : 9 ] وقد قدم له { إنا نبشرك بيحيى } [ مريم : 7 ] والية { إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } وتوهم استبداد الكسبية في وجود الولد غير خافية في حق من قصر نظره ولم يوفق فابتدىء بذكرها ثم أعقب بما لا يمكن أن يتوهم فيه ذلك ، وهو قوله :

{ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } [ مريم : 9 ] وله نظائر من الكتب وعليه جاء ما ورد في هاتين السورتين - والله أعلم - انتهى .
ولما شرفه في نفسه بالكمال الجامع للجلال إلى الجلال ، وكان ذلك لا يصفو إلا مع الشرف عند الناس قال : { ورفعنا } أي بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة { لك } أي خاصة رفعة تتلاشى عندها رفعة غيرك من الخلق كلهم { ذكرك * } عند جميع العالمين العقلاء وغيرهم بالصدق والأمانة والحلم والرزانة ومكارم الأخلاق وطهارة الشيم وانتفاء شوائب النقص حتى ما كانت شهرتك عند قومك قبل النبوة إلا الأمين ، وكانوا يضربون المثل بشمائلك الطاهرة ، وأوصافك الزاهرة الباهرة ، ثم بالنبوة ثم بالرسالة ثم بالهجرة ، وبأن جعلنا اسمك مقروناً باسمنا في كلمة التوحيد والإيمان والأذان والإقامة والتشهد والخطبة ، فلا أذكر إلا وذكرت معي ، ومن الكرامة الظفر على أعدائك والكرامة لأوليائك ، وجعل رضاك رضاي وطاعتك طاعتي ، وأمر ملائكتي بالصلاة عليك ، ومخاطبتي لك بالألقاب العلية والسمات المعزة المعلية من الرسول والنبي ، ونحو ذلك على حسب الأساليب ومناسبات التراكيب إلى غير ذلك من فضائل ومناقب وشمائل لا تضبط بالوصف ، قال الرازي : ثم جعل لأمته من ذلك أوفر الحظ ، قيل : يا رسول الله ، من أولياء الله؟ قال : « الذين إذا ذُكروا ذُكر الله » وفي حديث : « الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله » وقال : « خياركم من تذكر الله رؤيته ، ويزيد في علمكم منطقه ، ويزهدكم في الدنيا عمله » فمنتهى قسمة الثناء أن خلط ذكره بذكره .
ولما ذكر هذه المآثر الشريفة التي هي الكمال ، وكان الكمال لا يصفو إلا مع مساعدة الأقدار ، فإن الهمم إذا عظمت اتسعت مجالاتها ، فإذا حصل فيها تعطيل حصل فيها نكد حسبه ، بين أنه أزال عنه العوائق في عبارة دالة على أن سبب المنحة بهذه الكمالات هو ما كان صلى الله عليه وسلم فيه من الصبر على الأكدار ، وتجرع مرارات الأقدار ، فقال مؤكداً ترغيباً في حمل مثل ذلك رجاء في الإثابة بما يليق من هذه المعالي مبالغاً في الحث على تحمله بذكر المعية إشارة إلى تقارب الزمنين بحيث إنهما كانا كالمتلازمين مسبباً عما مضى ذكره من حاله من الضحى : { فإن } أي فعل بك سبحانه هذه الكمالات الكبار بسبب أنه قضى في الأزل قضاء لا مرد له ولا معقب لشيء منه أن { مع العسر } أي هذا النوع خاصة { يسراً * } أي عظيماً جداً يجلب به المصالح ويشرح به ما كان قيده من القرائح ، فإن أهل البلاء ما زالوا ينتظرون الرخاء علماً منهم بالفطرة الأولى التي فطر الناس عليها أنه المتفرد بالكمال ، وأنه الفاعل بالاختيار لنسمه الكوائن بأضدادها ، وقد أجرى سنته القديمة سبحانه وتعالى بأن الفرج مع الكرب ، فلما قاسى صلى الله عليه وسلم مما ذكر في الضحى من اليتم الشديد وضلال قومه العرب خاصة كلهم الذين ألهمه الله تعالى مخالفتهم في أصل الدين بتجنب الأوثان ، وفي فرعه بالوقوف مع الناس في الحج في عرفة موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومن العيلة ما لم يحمله أحد حتى كان بحيث يمتن سبحانه وتعالى عليه بإنقاذه منه في كتابه القديم وذكره الحكيم ، وكان مع تحمل ذلك قائماً بما يحق له من الصبر ويعلو إلى معالي الشكر « فيحمل » - كما قالت الصديقة الكبرى خديجة رضي الله تعالى عنها - « الكَلَّ ، ويقري الضيف ، ويصل الرحم ، ويعين على نوائب الحق » .

ثم حمل أعباء النبوة فكان يلقى من قومه من الأذى والكرب والبلاء ما لم يحمله غيره ، بشره الله تعالى بأنه ييسر له جميع ذلك ويلين قلوبهم فيظهر دينه على الدين كله ، ويغني أصحابه رضي الله عنهم بعد عيلتهم ، ويكثرهم بعد قلتهم ، ويعزهم بعد ذلتهم ، ويصير هؤلاء المخالفون له أعظم الأعضاد ، وينقاد له المخالف أتم انقياد ، ويفتح له أكثر البلاد ، ليكون هذا العطاء في اليسر بحسب ما كان وقع من العسر ، فإنه قضى سبحانه وتعالى قضاء لا يرتد أنه يخالف بين الأحوال ، دليلاً قاطعاً على أنه تعالى وحده الفعال ، وأن فعله بالاختيار ، لا بالذات والإجبار .
ولما كان العسر مكروهاً إلى النفوس ، وكان لله سبحانه وتعالى فيه حكماً عظيمة ، وكانت الحكم لا تتراءى إلا للأفراد من العباد ، كرره سبحانه وتعالى على طريق الاستئناف لجواب من يقول : وهل بعده من عسر؟ مؤكداً له ترغيباً في أمره ترقباً لما يتسبب عنه مبشراً بتكريره مع وحدة العسر وإن كان حمل كل واحد منهما على شيء غير ما قصد به الآخر ممكناً فقال : { إن مع العسر } أي المذكور فإنه معرفة ، والمعرفة إذا أعيدت معرفة كانت غير الأولى سواء أريد العهد أو الجنس { يسراً * } أي آخر لدفع المضار والمكاره ، فإن النكرة إذا أعيدت نكرة احتمل أن تكون غير الأولى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنها غيرُها » فقال الحسن البصري : إن الآية لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين » وقد روى هذا من أوجه كثيرة ، وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه » وللطبراني عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو كان العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ، قال الحافظ نور الدين الهيثمي : وفيه أبو مالك النخعي وهو ضعيف ، ورواه الطبراني أيضاً في الأوسط والبزار عن أنس رضي الله عنه بنحوه ، قال الهيثمي : وفيه عائذ بن شريح وهو ضعيف ، وروى الفراء عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول :

« لن يغلب عسر يسرين » وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن الحسن به مرسلاً ، ومن طريقه أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب ورواه الطبري من طريق ابن ثور عن معمر ، ورواه ابن مردويه من طريق أخرى موصولاً وإسناده ضعيف ، وفي الباب عن عمر ذكره مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه بلغه أن أبا عبيدة رضي الله عنه حضر بالشام فكتب إليه كتاباً فيه « ولن يغلب عسر يسرين » ومن طريقه رواه الحاكم ، قال ذلك شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف ، وقال : وهذا أصح طرقه - انتهى ، وهذا من جهة أن اليسر نكرة والعسر معرفة ، وقد اشتهر أن النكرة إذا أعيدت نكرة فالثاني غير الأول ، والمعرفة بالعكس ، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في أول تلويحه في الكلام على المعرفة والنكرة : الكلام فيما إذا أعيد اللفظ الأول إما مع كيفيته من التنكير والتعريف أو بدونها ، وحينئذ يكون طريق التعريف هو اللام أو الإضافة ليصح إعادة المعرفة نكرة وبالعكس ، وتفصيل ذلك أن المذكور أولاً إما أن يكون نكرة أو معرفة ، وعلى التقديرين إما أن يعاد نكرة أو معرفة فيصير أربعة أقسام ، وحكمها أن ينظر إلى الثاني ، فإن كان نكرة فهو مغاير للأول ، وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على كونه معهوداً سابقاً بالذكر ، إن كان معرفة فهو الأول حملاً له على المعهود الذي هو الأصل في اللام والإضافة ، وذكر في الكشف أنه إذا أعيدت النكرة نكرة فالثاني مغاير للأول وإلا فعينه فإن المعرفة تستغرق الجنس ، والنكرة تتناول البعض ، فيكون داخلاً في الكل سواء قدم أو أخر ، وفيه نظر ، أما أولاً فلان التعريف لا يلزم أن تكون للاستغراق بل العهد هو الأصل ، وعند تقدم المعهود لا يلزم أن تكون النكرة عينه ، وأما ثانياً فلان معنى كون الثاني عين الأول أن يكون المراد به هو المراد بالأول ، والجزء بالنسبة إلى الكل ليس كذلك ، وأما ثالثاً فإن إعادة المعرفة نكرة مع مغايرة الثاني للأول كثير في الكلام ، قال الله تعالى : { ثم آتينا موسى الكتاب تماماً } [ الأنعام : 154 ] إلى قوله : { وهذا كتاب أنزلناه } [ الأنعام : 155 ] وقال تعالى : « اهبطوا بعضكم لبعض عدو » [ البقرة : 36 ] وقال تعالى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } [ الأنعام : 165 ] إلى غير ذلك ، وقال غيره : { أيسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] ومنه قول الشاعر :
إذا الناس ناس والزمان زمان ... فإن الثاني لو كان عين الأول لم يكن في الإخبار به فائدة - انتهى .

قال : واعلم أن المراد أن هذا هو الأصل عند الإطلاق وخلو المقام عن القرائن وإلا فقد تعاد النكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية } [ الأنعام : 37 ] { ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة } [ الروم : 54 ] يعني قوة الشباب ، ومنه باب التأكيد اللفظي ، وقد تعاد النكرة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } إلى قوله : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } [ الأنعام : 156 ] وقال غيره : { فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير } [ النساء : 128 ] المراد بالنكرة خاص وهو الصلح بين الزوجين ، وبالمعرفة عام في كل صلح جائز { زدناهم عذاباً فوق العذاب } [ النحل : 88 ] فإن الشيء لا يكون فوق نفسه - انتهى . قال : وقد تعاد المعرفة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب } [ المائدة : 48 ] وقال غيره : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء } [ آل عمران : 26 ] الأول عام والثاني خاص ، { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن : 60 ] الأول العمل والثاني الثواب { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] الأولى القاتلة والثانية المقتولة - انتهى ، قال : وقد تعاد المعرفة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى : { أنما إلهكم إله واحد } [ الكهف : 110 ] ومثله كثير ، والمعرفة مثل النكرة في حالتي الإعادة معرفة والإعادة نكرة في أنها إن أعيدت معرفة كان الثاني هو الأول ، وإن أعيدت نكرة كان غيره ، ثم مثل بالآية التي هنا ، وقال : وهذا مبني على أن تنكير { يسراً } للتفخيم وتعريف العسر للعهد ، أي العسر الذي أنتم عليه أو الجنس أي الذي يعرفه كل أحد ، فيكون اليسر الثاني مغايراً للأول بخلاف العسر - انتهى . وقال في الكشاف : وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس ، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً عن منكر تناول بعضاً غير البعض الأول بغير الإشكال .
ولما علم من هذا أن المواد تكون بحسب الأوراد الشداد لما على الممدود من الشكر ، ولما علم للشاكر من الوعد بالمزيد ، قال مسبباً عما أعطاه من اليسر بعد ذلك العسر ندباً له إلى الشكر وإعلاماً بأنه لا ينفك عن تحمل أمر في الله : { فإذا فرغت } أي بما آتاك من اليسر يسر من جهادك الذي أنت فيه في وقت المخاطبة بهذا الكلام مما يوجب عسراً في المآل أو الحال ، وعقبه العسر في أي موضع كان لا سيما عند دخول الناس في الدين أفواجاً ، أو من العبادة الثقيلة العظيمة بسماع الوحي وتحمله ، أو من الغرض بالتيسير الذي بشرناك به { فانصب * } أي بالغ في التعب بعبادة أخرى من التسبيح والاستغفار ، أو النفل لمن أولاك هذا المعروف { وإلى ربك } أي المحسن إليك بما ذكر في هاتين السورتين خاصة { فارغب * } أي بالسؤال لأنه القادر وحده كما قدر على تربيتك فيما مضى وحده ، لأنه المختص بالعظمة ، فلا قدرة أصلاً إلا لمن يعطيه ما يريده منها ، والرغب شعار العبد دائماً في كل حال أي افعل ذلك { ألم نشرح لك صدرك؟ } فقد اتصل هذا الآخر بالأول اتصال المعلول بالعلة ، ولاءم ما بعدها بذلك أيضاً بعينه ملاءمة الشمس بالأهلة ، وآخر هذه السورة مشير إلى الاجتهاد في العبادة عند الفراغ من جهاد الكفار في جزيرة العرب بعد انقضاء ما يوازي عدد آي هذه السورة من السنين بعد الهجرة ، وهي ثمان ، رغبة في الأخرى التي هي خير من الأولى ، إشارة إلى قرب الأجل بما أشارت إليه سورة النصر - كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

ولما كان التين أحسن الفواكه تقويماً فيما ذكروا من فضيلته ، وهو مع كونه فاكهة شهية حلوة جداً - غذاء يقيم الصلب وقوت كالبر وسريع الهضم ، ودواء كثير النفع يولد دماً صالحاً وينفع الرئة والكلى ويلين الطبع ويحلل البلغم ويزل رمل المثانة ويفتح سدد الكبد والطحال ، فكان جامعاً لجميع منافع المتناولات من الغذاء والتفكه والتحلي والتداوي ، فهو كامل في مجموع ما هو فيه من لذة طعمه وكثرة نفعه ، وكونه كفاكهة الجنة بلا شائبة تعوق عن أكله من صنوان يتعب أو نوى يرمى ، مع أنه ينتفع به رطباً ويابساً ، وهو مع ذلك في سرعة فساده وسوء تغيره أسفلها رتبة وأردؤها مغبة ، فهو كالفطرة الأولى في مبدئه سهولة وحسناً وقبولاً لكل من الإصلاح والتغير ، كآخر الهرم عند نهايته في عظيم تغيره بحيث إنه لا ينتفع بشيء منه إذا تغير ، وغيره من الفواكه إذا فسد جانب منه بقي آخر فكان في هذا كالقسم للسافل من الإنسان أقسم الله تعالى به فقال : { والتين } بادئاً به لأن القسم المشار به إليه أكثر ، فالاهتمام به أكبر .
ولما كان الزيتون في عدم فساد يطرقه أو تغير يلحقه ، وفيه الدسومة والحرافة والمرارة ، وهو إدام ودواء مع تهيئه للنفع بكل حال في أكله بعد تزييته والتنوير بدهنه والادهان به لإزالة الشعث وتنعيم البشرة وتقوية العظم وشد العصب وغير ذلك من المنافع مع لدنه وما يتبع ذلك من فضائله الجمة كالمؤمن تلاه به فقال : { والزيتون * } ولما كان مع ذلك مشاراً بهما إلى مواضع نباتهما وهي الأرض المقدسة من جميع بلاد الشام إيماء إلى من كان بها من الأنبياء والتابعين لهم بإحسان لا سيما إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي كانت مهاجره فأحياها الله تعالى بعباده وتردد الملائكة إليه بالوحي ومن بعده أولاده الذين طهرها الله بهم من الشرك وأنارها بهم بالتوحيد ، وختمهم بعيسى عليه الصلاة والسلام أحد أولي العزم المشرف بكونه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، وكانت الكناية بالشجرتين عن البلد المراد به سكانه أبلغ من التصريح بالمراد من أول وهلة ، ساقه على هذا المنهج العزيز ، ولم يبق ممن لم يسكنها من أشرافهم إلا موسى وهارون وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، فأشار إلى الأولين بقوله معبراً بما يدل على أحسن التقويم لأن الطور الجبل ذو النبت من النجم والشجر المثمر وغيره : { وطور } أي جبل المكان المسمى بهذا الاسم .
ولما كان الكلام في التقويم ، كان المناسب له صورة جمع السلامة فقال تعالى : { سينين * } أي وما كان بالجبل ذي النبت الحسن الذي كلم الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام من لذيذ المناجاة وعجائب المواعدة وحكم الكلام مع أن فيه من الأشجار والأماكن ما يكنّ من الحر والبرد ، وفيه لخلوه وحسنه وعلوه جمع الخاطر للمتفرد وطمأنينة النفس للتخلي للعبادة والتحصن مما يخشى لعلوه وصعوبته ، وفيه ما يصلح للزرع من غير كلفة ، وفيه ما يأكله الناس والدواب مع الماء العذب والفناء الرحب والمنظر الأنيق ، وسنين وسيناء - اسم للموضع الذي هذا الجبل به ، وأشار سبحانه وتعالى إلى الأخيرين من أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ختاماً للقسم بأكمل المقسم به كما جعل المنزل عليه ذلك الذي هو ختام الرسل أكمل النوع المقسم لأجله ليكون في البدء بما يرد بعد حسن التقويم الى الفساد والختم بما هو أشرف المذكورين بكل اعتبار طباق حاز أعلى الأسرار : { وهذا البلد } أي مكة ، صرح هنا بهذين المكانين ترشيحاً لأن المراد بالأولين مواضع نبتهما مع تلك الإشارة اللطيفة بذكر اسميهما إلى مناسبتهما للمقسم من أجله { الأمين * } أي الذي يأمن فيه من حل به من البشر والطير والوحش ، فكان بذلك كالرجل الأمين الذي يأتمنه آخر على نفسه وما يعز عليه فيؤديه إليه ويوقره عليه ، وأمانته شاملة لكل ما يخشى حتى الفقر والعيلة والجوع وتغير الدين بعد تقرره مع أن به البيت الذي جعله الله هدى للعالمين وقياماً للناس فهو مدار الدين والدنيا ، وكان به من الأسرار بالوحي وآثاره ما لم يكن في بلد من البلاد ، وذلك إشارة إلى أنه تعالى كما جعل النبي المبعوث منه في آخر الزمان في أحسن تقويم جعله في أحسن تقويم البلدان إذ كان آمنا من غير ملك مرهوب - والناس يتخطفون من حوله ، وهو محل الأنس بالناس كما أن الذي قبله محل الأنس بالانفراد ، وهو مجمع المرافق ومعدن المنافع ومحل ذوي الوجاهة ديناً ودنيا ، ومحل الرفعة والمناصب مع ما حازه المكانان من تنزل الكتب السماوية وإشراق الأنوار الإلهية الدينية فيهما ، وفي ذلك تخويف لهم بأنهم إن لم يرجعوا عن غيهم أخافه إخافة لم يخفها بلداً من بلاد العرب فيكونون بذلك قد ردوا أسفل سافلين في البلد ، كما ردوا في الأخلاق بالشقاق واللداد .

ولما كان هذا القسم مع كونه جامعاً لبدائع المصنوعات التي هي لما ذكر من حكمها دالة على كمال علم خالقها وتمام قدرته جامعاً لأكثر الذين آمنوا ، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه أباهم مذكراً مرتين بالأرض المقدسة من القدس ومكة ، فتوقع أكمل الخلق وأفطنهم المخاطب بهذا الذكر المقسم عليه علماً منه ببلوغ القسم إلى غايته واستوائه على نهايته ، أجيب بقوله تعالى محققاً : { لقد خلقنا } أي قدرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة الباهرة والعزة الغالبة القاهرة { الإنسان } أي هذا النوع الذي جمع فيه الشهوة والعقل وفيه الأنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه ، ولهذا قالت الملائكة عليهم الصلاة والسلام

{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] لأنهم علموا أنه إذا جمع الغضب والشهوة إلى العقل جاءت المنازعة فيتولد الفساد من الشهوة والسفك من الغضب { في أحسن تقويم * } أي كائن منا روحاً وعقلاً أو أعم من ذلك بما جعلنا له من حسن الخلق والخلق بما خص به من انتصاب القامة وحسن الصورة واجتماع خواص الكائنات ونظائر سائر الممكنات بعد ما شارك فيه غيره من السمع والبصرة والذوق واللمس والشم الجوارح التي هيأته لما خلق له حتى قيل إنه العالم الأصغر كما مضى بسط ذلك في سورة الشمس ثم ميزناه بما أودعناه فيه بما جعلناه عليه من الفطرة الأولى التي لا تبديل لها من الطبع الأول السليم الذي هيأناه به وقويناه بقدرتنا لقبول الحق ، وبمثل ما قلته في حمل الآية على الفطرة الأولى قال الأصفهاني في تفسير { كان الناس أمة واحدة } [ البقرة : 213 ] في البقرة ، وقال ابن برجان هنا : مفطور على فطرة الإسلام الدين القيم ، ثم لما منحناه به من العقل المدرك القويم ، فكما جعلنا له شكلاً يميزه عن سائر الحيوان منحناه عقلاً يهديه إلى العروج عن درك النيران إلى درج الجنان بالإيمان والأعمال الصالحة البالغة نهاية الإحسان ، بدليل من فيه من الأنبياء الذين أكملهم محمد على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام والتابعين له بإحسان الذين ملؤوا الأرض علماً وحكمةً ونوراً ، قال البغوي : خلقه سبحانه وتعالى مديد القامة يتناول مأكوله بيده مزيناً بالعقل والتمييز - انتهى ، والعقل هو المقصود في الحقيقة من الإنسان لأن من أسمائه اللب ، ومن المعلوم أن المقصود من كل شيء لبه وهو الشرع كما مضى في آخر النساء ، والظاهر أن عقول الناس بحسب الخلق متقاربة وأنها إنما تفاوتت بحسب الجبلة فبعضهم جعل سبحانه وتعالى عنصره وجبلته في غاية الفساد فلا تزال جبلته تردي على عقله فيتناقص إلى أن يصير إلى أسوأ الأحوال ، فكل ميسر لما خلق له ، وبعضهم يصرف عقله بحسب ما هيأه الله له إلى ما ينجيه ، وبعضهم يصرفه لذلك إلى ما يرديه ، لأنك تجد أعقل الناس في شيء وأعرفهم به أشدهم بلادة في شيء آخر ، وأغباهم في شيء أذكاهم في شيء آخر - فاعتبر ذلك ، وبذلك انتظم أمر الخلق في أمر معاشهم بالعلوم والصنائع والأحوال - والله الهادي ، وهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى منزه عن التركيب والصورة لأنه لو كان في شيء منهما لكان هو الأحسن لأن كل صفة يشترك فيها الخلق والحق فالمبالغة للحق كالعالم والأعلم والكريم والأكرم - قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري في تفسيره ، وصيغة « أفعل » لا تدل على ما قاله الزنادقة ، وإن عزي ذلك إلى بعض الأكابر من قولهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لأن الدرجة الواحدة تتفاوت إلى ما لا يدخل تحت حصر كتفاوت أفراد الإنسان في صوره وألوانه ، وغير ذلك من أكوانه وبديع شأنه ، وقد بينت ذلك في تصنيف مفرد لهذه الكلمة سميته : تهديم الأركان من « ليس في الإمكان أبدع مما كان » ، وأوضحته غاية الإيضاح والبيان ، وجرت فيه فتن تصم الآذان ، ونصر الله الحق بموافقة الأعيان ، وقهر أهل الطغيان ، ثم أردفته بكتاب « دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان ثم شفيت الأسقام ، ودمغت الأخصام ، وخسأت الأوهام ، بالقول الفارق بين الصادق والمنافق ، وهو نحو ورقتين في غاية الإبداع في قطع النزاع ، ويمكن أن تكون صيغة أفعل مفيدة بالنسبة إلى شيء أراده الله بحيث إن نتفطن له نحن لأن من المجمع عليه عند أهل السنة وصرح به الأشعري وغيره في غير موضع من كتبهم أن الله تعالى لا تتناهى مقدوراته ، وممن صرح بما صرح به الأشعري وأكثر في الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتبه الإحياء وغيره ولا سيما كتابه » تهافت الفلاسفة « وبين أن هذا من قواعدهم لنفيهم صفة الإرادة وقولهم بأن فعله بالذات ، وبين فساد ذلك ، وأنه سبحانه وتعالى قادر على اختراع عالم آخر وثالث متفاوتة بالصغر والكبر ، وعلى كل ممكن ، وعرف أن الممكن هو المقدور عليه ، وأنه يرجع إلى المقدور عليه أيضاً ممكن ، وعرف الممتنع بانه إثبات الشيء مع نفيه ، وإثبات الأخص مع نفي الأعم ، وإثبات الاثنين مع نفي الواحد ، وقال : وما لا يرجع إلى ذلك فهو ممكن ، فدخل فيه عالم أبدع من هذا العالم - والله الموفق لما يريد .

ولما كان الإنسان مع هذه المحاسن قد سلط الله سبحانه وتعالى عليه شهوات وهيأ طبعه لرذائل وأخلاق دنيئات ، وأهوية وحظوظ للأنفس مميلات ، وكان أكثر الخلق بها هالكاً لتتبين قدرة الله سبحانه وتعالى ، لم يستثن بل حكم على الجنس كله بها كما حكم عليه بالتقويم ، فقال تعالى دالاً بأداة التراخي على أن اعوجاجه بعد ذلك العقل الرصين والذهن الصافي المستنير في غاية البعد لولا القدرة الباهرة والقوة القاسرة القاهرة : { ثم رددناه } أي بما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل ، فعطل منافع ما خلقناه له فضيع نفسه وفوّت أساب سعادته ونكسناه نحن في خلقه ، فصار بالأمرين في خلقه وخلقه نفساً وهوى أو أعم من ذلك بالنكس { أسفل سافلين * } أي إلى ما تحت رتبة الجمادات المستقذرات ، فصار يعمل الأعمال السيئات المقتضية بعد حسن الجمع لغاية الشتات ، أما رده في خلقه فبأن سلطنا عليه الشهوات التي ركبناها في النفوس ، وجعلناها داعية إلى كل بؤس ، فغلبت على عقله فأعمته حتى أوردته الموارد ، وأوقعته في المهاوي والمعاطب ، حتى أنه ليركب كثيراً من أموره وهو قاطع بأنه باطل شنيع ، لا يقدم على مثله عاقل ، فصار يعبد من دون الله ما هو دون البشر بل ومطلق الحيوان مما لا ضر فيه ولا نفع ، وصار يركب الظلم والعدوان والإفك والبهتان ، وما لا يحصى بالعد من أنواع الفواحش والعصيان ، ويظلم أبناء جنسه وغيرهم ، ويجتهد في الفجور ، ويتصرف بما لا يشك هو في أنه لا يقره عليه من له أدنى نظر ممن يلزمه أمره ويعنيه شأنه ، فصار بذلك أحط رتبة من البهائم بل من أدنى الحشرات المستقذرات لأنها وإن كانت لها شهوات إلا أنها ليس لها عقل تغطيه بها وتطمس نوره بظلامها ، فلا تنسب إلى أنها فوّتت شيئاً لعدم تكليفها لعدم العقل الموجب للشرف ، وأما هو فاستعمل ما خلقناه له من الآلات ، وما فضلناه به من الكمالات ، في غير ما خلقناه له فاستحق العذاب المهين ، ثم يموت من غير مجازاة على شيء من ذلك أو على كثير منه ، فلا بد في الحكمة حينئذ من بعثه ، وله بعد البعث عند ربه على ذلك عذاب مقيم ، وأما في خلقه فبالهرم حتى صار بعد تلك القوى ضعيفاً ، وبعد ذلك العز ذليلاً مهيناً ، وبعد ذلك العلم الغزير والفكر المنير لا يعلم شيئاً ، وصار يستقذره وينكره من كان يألفه ويستعطره ، وقال ابن برجان : أما رده في طريق الديانة فبالكفر والتكذيب ، وأما فيما سبيله الجزاء فبالمسخ في دار البرزخ وتحويل صورته إلى ما غلب عليه خلقته وعمله في الدنيا من الدواب والهوام والبهائم ، وفي الآخرة تزرق عيناه ويشوه خلقه ، وقال الإمام أبو العباس الأقليشي في شرح « المقدم المؤخر » من شرحه للاسماء الحسنى : إن الله تعالى خلقه .

أي الإنسان - أولاً في أحسن تقويم ، ثم ركبه في هذا الجسم الذي يجذبه إلى أسفل سافلين ، فإن قدم عقله على هواه صعد إلى أعلى عليين ، وكان من المقربين المقدمين ، وإن قدم هواه هبط إلى إدراك الجحيم ، وكان من المبعدين المؤخرين .
ولما حكم بهذا الرد على جميع النوع إشارة إلى كثرة المتصف به منهم ، وكان الصالح قليلاً جداً ، جعله محط الاستثناء فقال : { إلا الذين آمنوا } أي بالله ورسله فكانوا من ذوي البصائر والمعارف ، فغلبنا بلطفنا عقولهم بما دعت إليه وأعانت عليه الفطرة الأولى على شهواتهم ، وحميناهم من أرذل العمر ، فكانوا كلما زدناهم سناً زدنا أنوار عقولهم ونقصنا نار شهواتهم بما أضعفنا من إحكام طبائعهم وتعلقهم بهذا العالم ، وأحكمنا من مدارك أنوار الحق وإشراقاته منهم ، وأعظمنا من قوى أرواحهم .
ولما كان الإنسان قد يدعي الإيمان كاذباً قال : { وعملوا } أي تصديقاً لدعواهم الإيمان { الصالحات } أي من محاسن الأعمال من الأقوال والأفعال ثابتة الأركان على أساس الإيمان ، محكمة بما آتيناهم من العلم غاية الإحكام ، متقنة غاية الإتقان ، فإنا حفظناهم - وقليل ما هم - بما كملناهم به وشرفناهم على جميع الحيوانات وسائر من سواهم فلم نمكن منهم الشهوات ولا غيرها ، وأقمناهم على ما اقتضاه منهاج العقل ، فتبعوا الرسل بسبب إبقائنا لهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم ، لم يدنس محياها بشهوة ولا حظ ولا هوى ، فسهل انقيادهم ، فأداهم ذلك إلى العدل والنصفة والإحسان ، وجميع مكارم الأخلاق ومعالي الأمور ، ولم يزيغوا عن منهاج الرسل في قول ولا عمل ، فالآية كما ترى من الاحتباك : حذف أولاً بما أفهمته الآية عمل السيئات ، وثانياً الإبقاء على أصل الخلق في أحسن تقويم على الفطرة الأولى ، ليكون نظمها في الأصل { ثم رددناه أسفل سافلين } بعمل السيئات فله على ذلك عذاب مهين { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنا أبقيناهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم .

ولما كان السياق لمدح المؤمنين ، حسن أن يعد أعمالهم التي تفضل عليهم بها سبباً كما منّ عليهم به من الثواب فقال : { فلهم } أي فتسبب عن ذلك أن كان لهم في الدارين على ما وفقوا له مما يرضيه سبحانه وتعالى { أجر } أي عظيم جداً وهو مع ذلك { غير ممنون * } أي مقطوع أو يمن عليهم به حتى في حالة المرض والهرم لكونهم سعوا في مرضاة الله سبحانه وتعالى وعزموا عزماً صادقاً أنهم لا ينقصون من أعمال البر ذرة ولو عاشوا مدى الدهر ، وذلك الأجر جزاء لأعمالهم فضلاً منه بالأصل والفرع حتى أنهم إذا عجزوا بالهرم كتب لهم أجر ما كانوا يعملون في حال الصحة ، ولمن تابع هواه في السفول عذاب عظيم لأنه رد أسفل سافلين .
ولما ثبت بهذا أنه لا يجوز في الحكمة تركهم بغير جزاء مع ما يشاهد من ظلم بعضهم لبعض معاندة لما يقتضيه قويم العقل الذي لا شك فيه ، فكان ذلك بحيث لا يرضاه أحد منهم ولا يقر مخلوق عبيداً في ملكه على مثله بأن يبغي بعضهم على بعض فيهملهم بل لا بد أن يحجز بينهم أو يأخذ للمظلوم من الظالم ، ولو كان ذلك المالك أقل الناس وأجهلهم فكيف إن كان عاقلاً فكيف إن كان حاكماً فكيف إن كان لا يخاف أحداً فكيف إن كان عدلاً مقسطاً قد ثبتت إحاطة علمه وقدرته سبحانه وتعالى ، حسن كل الحسن أن يكون ذلك سبباً للإنكار على من يظن أن الله يهمل عباده من الحكم بينهم لمجازاة كل من المطيع والعاصي بما عمل مع ما ترى من ظلم بعضهم لبعض ، وأن الظالم قد يموت قبل القصاص ، فقال مسبباً عن الوعد بما أفصح به الكتاب من إثابة المؤمنين الذي طالما بغى عليهم الظلمة ، وانتقصهم حقوقهم الفسقة ، والوعيد بما أفهمه الخطاب لعتاب المجرمين الذين طالما بغوا على غيرهم : { فما } أي فتسبب عن إقامة الدليل على تمام القدرة وعلى بغي العبيد بعضهم على بعض أنه يقال لك تصديقاً لك فيما أخبرت به من أن الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد موتهم ليجازي كلاًّ بما عمل وإنكاراً على من كذبك : ما { يكذبك } أي أيّ شيء ينسبك إلى الكذب يا أشرف الخلق وأكملهم نفساً وأتقاهم عرضاً وأطهرهم خلقاً وخلقاً ، وعبر ب « ما » إشارة إلى أن الكذب بهذا مع هذا الدليل القطعي الذي تضمنته هذه السورة في عداد ما لا يعقل بل دونه { بعد } أي بعد مشاهدة بغي بعض الناس على بعض استعمالاً لحال النكس ، وأعراه من الجار إشارة إلى أن من آمن قبل الغرغرة واتصل إيمانه ذلك بموته كان ممن له أجر غير ممنون { بالدين * } أي الجزاء لكل أحد بما يستحقه على سبيل العدل والإنصاف لأجل تلك الأعمال التي غلبت فيها الحظوظ على العقول ، فوقع بها من الظلم والأذى ما لا يسع عاقلاً من العباد أن يحسن عنده ترك فاعلها من غير جزاء حتى كان أكثر أفعال العباد ظلماً ، ومن شأن الملوك الإنصاف بين عبيدهم ورعاياهم ، فكيف بالله سبحانه وتعالى الذي شرع لعباده ذلك ، وقد ثبت بما له من هذا الخلق العظيم ، على هذا النظام المحكم والمنهاج الأقوم أنه الحكيم ، الذي لا حكيم غيره ، العليم الذي لا عليم سواه .

ولما صح أن تارك الظالم بغير انتقام والمحسن بلا إكرام ليس على منهاج العدل الذي شرعه الله تعالى ، حسن جداً تكرير الإنكار بقوله سبحانه وتعالى : { أليس الله } أي على ما له من صفات الكمال ، وأكده بالجار في قوله : { بأحكم الحاكمين * } أي حتى يدع الخلق يهلك بعضهم بعضاً من غير جزاء ، فيكون خلقهم عبثاً ، بل هو أحكم الحاكمين علماً وقدرة وعدلاً وحكمة بما شوهد من إبداعه الخلق ومفاوتته بينهم ، وجعل الإنسان من بينهم على أحسن تقويم ، فلا بد أن يقيم الجزاء ويضع الموازين القسط ليوم القيامة فيظهر عدله وحكمته وفضله ، وهذا الآخر هو أولها قسماً من جهة النبوات التي ظهر بها حكمه وحكمته ، ومقسماً عليه من حيث إن الخلق في أحسن تقويم يقتضي العدل لا محالة ، والرد أسفل سافلين يتقاضى الحكم حتماً لأجل ما يقع من الظلم والتشاجر بين من استمر على الفطرة القويمة ومن رد لأسفل سافلين ، وقد اشتملت هذه السورة على وجازتها على جميع مقاصد التوراة إجمالاً ، وزادت الدلالة على الآخرة ، وذلك أن قسمها هو قوله في التوراة « أتانا ربنا من سيناء وشرق بنا من جبل ساعر ، وظهر لنا من جبال فاران » والخلق في أحسن تقويم هو خلق آدم عليه الصلاة والسلام المذكور في أولها وخلق زوجه وما يحتاجان إليه من السماء والأرض ، وخلق الأصفياء من أولادهما وما جاؤوا به من الخير ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات هو ما فيها من الشرائع والأحكام ، وقوله بعد ما تقدم من المعبر بالمقسم عنه « معه ربوات الأطهار عن يمينه أعطاهم وحببهم إلى الشعوب ، وبارك على جميع أطهاره » والرد أسفل سافلين هو ما ذكر أولها من العصاة من قابيل ومن بعده إلى آخرها ، على ما أشار إليه من عصيان بني إسرائيل الموجب للعنهم ، فقد اكتنفت بأول التوراة وآخرها وأوسطها ، وابتدأ بآخرها لأنه في النبوات ، وهي أهم المهم لأنها المنجية من شر قطاع الطريق ، وآخرها أدل ما فيها على النبوات لا سيما الثلاث العظام - المشار إليه بقسم هذه السورة - والله سبحانه وتعالى أعلم بالغيب .

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)

لما أمره سبحانه وتعالى في الضحى بالتحديث بنعمته ، وذكره بمجامعها في { ألم نشرح } فأنتج ذلك إفراده بما أمره به في ختمها من تخصيصه بالرغبة إليه ، فدل في الزيتون على أنه أهل لذلك لتمام قدرته الذي يلزم منه أنه لا قدرة لغيره إلا به ، فأنتج ذلك تمام الحكمة فأثمر قطعاً البعث للجزاء فتشوف السامع إلى ما يوجب حسن الجزاء في ذلك اليوم وبأيّ وسيلة يقف بين يدي الملك الأعلى في يوم الجمع الأكبر من خصال الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فأرشد إلى ذلك في هذه السورة ، فقال بادئاً بالتعريف بالعلم الأصلي ذاكراً أصل من خلقه سبحانه وتعالى في أحسن تقويم وبعض أطواره الحسنة والقبيحة تعجيباً من تمام قدرته سبحانه وتعالى وتنبيهاً على تعرفها وإنعام النظر فيها ، وقدم الفعل العامل في الجار والمجرور هنا لأنه أوقع في النفس لكونها أول ما نزل فكان الأمر بالقراءة أهم : { اقرأ } وحذف مفعوله إشارة إلى انه لا قراءة إلا بما أمره به ، وهي الجمع الأعظم ، فالمعنى : أوجد القراءة لما لا مقروء غيره ، وهو القرآن الجامع لكل خير ، وأفصح له بأنه لا يقدر على ذلك إلا مبعونة الله الذي أدبه فأحسن تأديبه ، ورباه فأحسن تربيته ، فقال ما أرشد المعنى إلى أن تقديره : حال كونك مفتتحاً القراءة { باسم ربك } أي بأن تبسمل ، أو مستعيناً بالمحسن إليك لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى بما خصك به في { ألم نشرح } أو بذكر اسمه ، والمراد على هذا بالاسم الصفات العلى ، وعبر به لأنه يلزم من حسن الاسم حسن مدلوله ، ومن تعظيم الاسم تعظيم المسمى وجميع ما يتصف به وينسب إليه ، قالوا : وهذا يدل على أن القراءة لا تكون تامة إلا بالتسمية ، ولكونه في سياق الأمر بالطاعة الداعي إليها تذكر النعم لم يذكر الاسم الأعظم الجامع ، وذكر صفة الإحسان بالتربية الجامع لما عداه وتأنيساً له صلى الله عليه وسلم لكونه أول ما نزل حين حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بنفسه يتعبد بربه في غار حراء ، فجاءه جبرائيل عليه الصلاة والسلام بخمس آيات من أول هذه السورة إلى قوله « ما لم يعلم » ولهذا السر ساقه مساق البسملة بعبارة هي أكثر تأنيساً في أول الأمر وأبسط منها ، فأشار إلى الاسم الأعظم بما في مجموع الكلام من صفات الكمال ، وأشار إلى عموم منة الرحمن بصفة الخلق المشار إلى تعميمها بحذف المفعول ، وإلى خصوص صفة الرحيم بالأكرمية التي من شأنها بلوغ النهاية ، وذلك لا يكون بدون إفاضة العمل بما يرضي ، فيكون سبباً للكرامة الدائمة ، وبالتعليم الذي من شأنه أن يهدي إلى الرضوان ، وأشار إلى الاستعاذة بالأمر بالقرآن لما أفهمه قوله سبحانه وتعالى :

{ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة } [ الإسراء : 45 ] - أي من شياطين الإنس والجن- { حجاباً مستوراً } [ الإسراء : 45 ] وقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] .
ولما خصه تشريفاً بإضافة هذا الوصف الشريف إليه ، وصفه على جهة العموم بالخلق والأمر إعلاماً بأن له التدبير والتأثير ، وبدأ بالخلق لأنه محسوس بالعين ، فهو أعلق بالفهم ، وأقرب إلى التصور ، وأدل على الوجود وعظيم القدرة وكمال الحكمة ، فكانت البداءة به في هذه السورة التي هي أول ما نزل أنسب الأمور لأن أول الواجبات معرفة الله ، وهي بالنظر إلى أفعاله في غاية الوضوح فقال : { الذي خلق * } وحذف مفعوله إشارة إلى أنه له هذا الوصف وهو التقدير والإيجاد على وفق التقدير الآن وفيما يكون ، فكل شيء يدخل في الوجود فهو من صنعه ومتردد بين إذنه ومنعه وضره ونفعه .
ولما كان الحيوان أكمل المخلوقات ، وكان الإنسان أكمل الحيوان وزبدة مخضه ، ولباب حقيقته وسر محضه ، وأدل على تمام القدرة لكونه جامعاً لجميع ما في الأكوان ، فكان خلقه أبدع من خلق غيره ، فكان لذلك أدل على كمال الصانع وعلى وجوب إفراده بالعبادة ، خصه فقال : { خلق الإنسان } أي هذا الجنس الذي من شأنه الأنس بنفسه وما رأى ما أخلاقه وحسه ، وما ألفه من أبناء جنسه .
ولما كانت العرب تأكل الدم ، وكان الله تعالى قد حرمه لأنه أصل الإنسان وغيره من الحيوان وهو مركب الحياة ، فإذا أكل تطبع آكله بخلق ما هو دمه ، قال معرفاً بأنه سبحانه وتعالى بنى هذه الدار على حكمة الأسباب مع قدرته على الإيجاد من غير تطوير في تسبيب : { من علق * } أي خلق هذا النوع من هذا الشيء وهو دم شديد الحمرة جامد غليظ ، جمع علقة ، وكذا الطين الذي يعلق باليد يسمى علقاً ، وهم مقرّون بخلق الآدمي من الأمرين كليهما ، فالآية من أدلة إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه على استعمال المشترك في معنييه ، ولعله عبر به ليعم الطين فيكون - مع ما فيه من الإشارة إلى بديع الصنعة - إشارة إلى حرمة أكل ما هو أصلنا من الدم والتراب قبل أن يستحيل ، فإذا استحال وصف بالحلال لأن الاستحالات لها مدخل في الإحلالات في النكاح وغيره ، واحمرار النطفة ليس استحالة لأنها كانت حمراء قبل قصر الشهوة لها ، وربما ضعفت الشهوة عن قصرها فنزلت حمراء ، فإذا تحول الدم لحماً صار إلى جنس ما يحل ، وكذا إذا تحول التراب بمخالطة الماء تمراً أو حباً حل .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين } [ التين : 7 - 8 ] وكان معنى ذلك : أيّ شيء حمل عل هذا بعد وضوح الأمر لك وبيانه وقد نزهه سبحانه وتعالى عن التكذيب بالحساب وأعلى قدره عن ذلك ، ولكن سبيل مثل هذا إذا ورد كسبيل قوله تعالى :

{ لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] وبابه ، وحكم هذا القبيل واضح في حق من تعدى إليه الخطاب وقصد بالحقيقة به من أمته صلى الله عليه وسلم من حيث عدم عصمتهم وإمكان تطرق الشكوك والشبهة إليهم ، فتقدير الكلام : أيّ شيء يمكن فيه أن يحملكم على التوقف أو التكذيب بأمر الحساب ، وقد وضح لكم ما يرفع الريب ويزيل الإشكال ، ألم تعلموا أن ربكم أحكم الحاكمين؟ أفيليق به وهو العليم الخبير أن يجعل اختلاف أحوالكم في الشكوك بعد خلقكم في أحسن تقويم؟ أفيحسن أن يفعل ذلك عبثاً؟ وقد قال تعالى : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً } [ ص : 27 - ولكن قراءتنا - وما خلقنا السماء - لا بالجمع ] فلما قرر سبحانه العبيد على أنه أحكم الحاكمين مع ما تقدم ذلك من موجب نفي الاسترابة في نوع الحق إذا اعتبر ونظر ، ووقعت في الترتيب سورة العلق مشيرة إلى ما به يقع الشفاء ، ومنه يعلم الابتداء والانتهاء ، وهو كتابه المبين ، الذي جعله الله تعالى تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمحسنين ، فأمر بقراءته ليتدبروا آياته فقال { اقرأ باسم ربك } مستعيناً به فسوف يتضح سبيلك وينتهج دليلك { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً } [ الفرقان : 1 ] وأيضاً فإنه تعالى أعلم عباده بخلقه الإنسان في أحسن تقويم { ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 5 ] وحصل منه على ما قدم بيانه افتراق الطرفين وتباين القائلين ، كل ذلك بسابق حكمته وإرادته { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } وقد بين سبحانه لنا أقصى غاية ينالها أكرم خلقه وأجل عباده لديه من الصنف الإنساني ، وذلك فيما أوضحت السورتان قبل من حال نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم وجليل وعده الكريم له في قوله { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] وفضل حال ابتداء { ألم نشرح } على تقدم سؤال { رب اشرح } [ طه : 25 ] إلى ما أشارت إليه آي السورتين من خصائصه الجليلة ، وذلك أعلى مقام يناله أحد ممن ذكر ، فوقع تعقيب - ذلك بسورة تضمنت الإشارة إلى حال من جعل في الظرف الآخر من الجنس الإنساني ، وذلك حال من أشير إليه من لدن قوله تعالى : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } إلى قوله : { كلا لا تطعه } ليظهر تفاوت المنزلتين وتباين ما بين الحالتين ، وهي العادة المطردة في الكتب ، ولم يقع صريح التعريف هنا كما وقع في الظرف الآخرة ليطابق المقصود ، ولعل بعض من لم يتفطن يعترض هنا بأن هذه السورة من أول ما أنزل فكيف يستقيم مرادك من ادعاء ترتيبها على ما تأخر عنها نزولاً ، فنقول له : وأين غاب اعتراضك في عدة سور مما تقدم بل في معظم ذلك ، وإلا فليست سورة البقرة من المدني ، ومقتضى تأليفنا هذا بناء ما بعدها من السور على الترتيب الحاصل في مصحف الجماعة إنما هو عليها وفيها بعد من المكي ما لا يحصى ، فإنما غاب عنك نسيان ما قدمناه في الخطبة من أن ترتيب السور ما هي عليه راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام أكان ذلك بتوقيف منه أو باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم على ما قدمناه ، فارجع بصرك ، وأعد في الخطبة نظرك ، والله يوفقنا إلى اعتبار بيناته وتدبر آياته ، ويحملنا في ذلك على ما يقربنا إليه بمنه وفضله - انتهى .

ولما أتم سبحانه ما أراد من أمر الخلق وهو الإيجاد بالأسباب بالتدريج ، أخذ في التنبيه على عالم الأمر وهو الإبداع من غير أسباب ، فقال مكرراً للأمر بالقراءة تنبيهاً على عظم شأنها وتأنيساً له صلى الله عليه وسلم ومسكناً لروعه ومعلماً أن من جاءه الأمر من قبله ليس كأربابهم : { اقرأ } ولما كان قد قال صلى الله عليه وسلم عند هذا الأمر إخباراً بالواقع كما يقول لسان الحال لو لم ينطق بلسان المقال : ما أنا بقارىء ، فكان التقدير : فربك الذي رباك فأحسن تربيتك وأدبك فأحسن تأديبك أمرك بالقراءة وهو قادر على جعلك قارئاً ، عطف عليه قوله : { وربك } أي يكون التقدير : والحال أن الذي خصك بالإحسان الجم { الأكرم * } أي الذي له الكمال الأعظم مطلقاً من جهة الذات ومن جهة الصفات ومن جهة الأفعال ، فلا يلحقه نقص في شيء من الأشياء أصلاً لأن حقيقته البعيد عن اللوم الجامع لمساوىء الأخلاق ، فهو الجامع لمعالي الأخلاق ، وليس غيره يتصف بذلك ، فهو يعطيك ما لا يدخل تحت الحصر ، وأشار إلى أن من ذلك أنه يفيض على أمته الأمية من العلم والحظ ما لم يفضه على أمة قبلها على قصر أعمارهم ، فقال مشيراً إلى العلم التعليم ، مشعراً بوصفه سبحانه بالمنح بالعلم إلى ترتيب الحكم بالأكرمية على هذا الوصف الناقل للإنسان من الحال العقلي السافل إلى هذا الحال العالي الكامل { الذي علّم } أي بعد الحلم عن معاجلتهم بالعذاب والعقاب جوداً منه من غير مانع من خوف عاقبة ولا رجاء منفعة { بالقلم * } أي الكتابة به . ولما نبه بذلك على ما في الكتابة من المنافع التي لا يحيط بها غيره سبحانه وتعالى ، لأنها انبنت عليها استقامة أمور الدنيا والدين في الدنيا والآخرة ، وهي كافية في الدلالة على دقيق حكمته تعالى ولطيف تدبيره ، زاد ذلك عظمة على وجه يعم غيره فقال : { علّم } أي العلم الضروري والنظري { الإنسان } أي الذي من شأنه الأنس بما هو فيه لا ينتقل إلى غيره بل ينساه إن لم يلهمه ربه إياه { ما لم يعلم * } أي بلطفه وحكمته لينتظم به حاله في دينه من الكتاب والسنة ودنياه من المعاملات والصنائع ، فيفيض عليه من علمه اللدني الذي لا سبب له ظاهر ما يعرف به ترتيب المقدمات بالحدود والوسطى ، فيعلم النتائج ، وما يعرف به الحدسيات ، وذلك بعد خلق القوى ونصب الدلائل وإنزال الآيات ، ولو كان ذلك بالأسباب فقط لتساوى الناس في مدة التعليم وفي أصل المعلوم كما تساووا في مدة الحمل وأصل الإنسانية ، وقد ذكر سبحانه مبدأ الإنسان ومنتهاه بنقله من أخس الحالات إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته ، قال الملوي : ولو كان شيء من العطاء والنعم أشرف من العلم لذكره عقب صفة الأكرمية - انتهى ، وفي ذلك إشارة إلى مزيد كرم العلماء بالتعليم ، وفي الآية الإشارة إلى مطالعة عالمي الخلق والأمر ، قال الرازي ، وفي كل من العالمين خصوص وعموم - انتهى ، فالمعنى أنه يعلمك أيها النبي الكريم وإن كنت أمياً لا تعلم الآن شيئاً كما علم بالقلم من لم يكن يعلم ، فتكون أنت - بما أشارت إليه صفة الأكرمية على ما أنت فيه من الأمية - أعلم من أهل الأقلام - وأعلى من كل مقام سام .

ولما كان الدم أكثر الأخلاط وأشدها هيجاناً ، فإن مرضه لا يشبهه شيء من أمراض بقية الأخلاط ، وكان مع ذلك سريع البرء إن أصيب علاجه وعولج بأمر قاهر أقوى منه ، وكان العلم قرين الغنى في الأغلب ، وكان زلة العالم تفوق زلة غيره ، قال معرفاً بعد التعريف بالإلهيات بأمر النفس مبيناً لقسم الإنسان المردود أسفل سافلين مقرراً لحاله ، ورادعاً له عن ضلاله : { كلا } أي ارتدع أيها العالم عن الطغيان إن نلت الغنى حقاً { إن الإنسان } أي هذا النوع الذي هو نوعك ومن شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه { ليطغى * } أي من شأنه - إلا من عصمه الله سبحانه - أن يزيد على الحد الذي لا ينبغي له مجاوزته كما يزيد الخلط الدموي ، وأكده لما لأكثر الخلق من التكذيب به فإنه لا طاغي يقر بأنه طغى { أن } أي لأجل أن { رآه } أي علم الإنسان نفسه علماً وجدانياً { استغنى * } أي وجد له الغنى ، هذا هو الطبع الغالب في الإنسان متى استغنى عن شيء عمي عن مواضع افتقاره ، فتغيرت أحواله معه ، وتجاوز فيه ما ينبغي له الوقوف عنده « ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب » ومن كان مفتقراً إلى شيء كان منطاعاً له كما في حديث آخر أهل النار خروجاً منها يقسم لربه أنه لا يسأل غير ما طلبه ، فإذا أعطيته واستغنى به سأل غيره حتى يدخل دار القرار ، ولعله نبه بهذا على أن هذه الأمة المحتاجة ستفتح لها خزائن الأرض فيطغيها الغنى كما أطغى من قبلها وإن كانوا هم ينكرون ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم حين بشرهم بالفتوحات وقال : « إنه يغدى على أحدكم بصفحة ويراح عليه بأخرى ثم قال لهم : أنتم اليوم خير أم يومئذ ، فقالوا : بل يومئذ ، نتفرغ لعبادة ربنا ، فقال : بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ ، قال صلى الله عليه وسلم : والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى أن يبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم »

أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
ولما كان لا دواء لذلك مثل تذكر الجزاء ، قال معرفاً أن الإنسان لا يزال مفتقراً إلى مولاه في حياته ومماته وغناه وفقره ، محذراً له سوء حالاته مؤكداً لأجل إنكارهم ذلك : { إن إلى ربك } أي المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك ، لا إلى غيره من التراب ونحوه { الرجعى * } أي الرجوع الأعظم الثابت الذي لا محيد عنه ، أما في الدنيا فلا محيد عن الإقرار به ، فإنه لا يقدر أحد على شيء إلا بتقديره ، وأما في الآخرة فبما أثبت في برهانه في سورة التين ، فيحاسب الناس بأعمالهم ، ويجازي كل أحد بما يستحق من ثواب أو عقاب ، ففيه وعيد للطاغي وتحقير - لغنى ينقطع .
ولما أخبر بطغيانه وعجل بذكر دوائه لأن المبادرة بالدواء لئلا يتحكم الداء واجبة ، دل على طغيانه مخوفاً من عواقب الرجعى في أسلوب التقرير لأنه أوقع في النفس وأروع للّب لأن أبا جهل قال : « لئن رأيت محمداً يعفر وجهه لأفضخن رأسه بصخرة ، فجاء ليفعل ما زعم فنكص على عقبيه ويبست يداه على حجره فسئل عما دهاه ، فقال : إن بيني وبينه لهولاً وأجنحة ، وفي رواية : لخندقاً من النار ، وفي رواية : لفحلاً من الإبل ، فما رأيت مثله ، ولو دنوت منه لأكلني » وأصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، فقال : { أرءيت } تقدم في الأنعام أن هذا الفعل إذا لم يكن بصرياً كان بمعنى أخبر ، فالمعنى : أخبرني هل علمت بقلبك علماً هو في الجلاء كرؤية بصرك { الذي ينهى * } أي على سبيل التجديد والاستمرار .
ولما كان أفحش ما يكون صد العبد عن خدمة سيده ، قال معبراً بالعبودية منكراً للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال العبودية : { عبداً } أي من العبيد { إذا صلّى * } أي خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي وصلته به ، وهي أعظم أنواع العبادة لأنها مع كونها أقرب وصلة إلى الحق انقطاع وتجرد بالكلية عن الخلق ، فكان نهيه له عن ذلك نهياً عن أداء الحق لأهله حسداً أو بغياً ، فكان دالاًّ على أن من طبع أهل كل زمان عداوة أهل الفضل وصدهم عن الخير لئلا يختصوا بالكمال .

أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

ولما كان هذا أمراً خارجاً عن الحد في الطغيان ، وكان السؤال إنما هو عن رؤية حاله في نهيه العبد عن الصلاة ، لا عن رؤية ذاته ، فتشوف السامع إلى معرفة ذلك الحال ، كرر التقرير بزيادة التعجيب من حاله والتحذير ، فقال مكرراً العامل زيادة في التأكيد وبياناً لأن هذا في الحقيقة أول السؤال عن الحال : { أرءيت } أي أخبرني عن حاله { إن كان } أي هذا الناهي ، وعبر بأداة الاستعلاء إشارة إلى أنه في غاية الثبات والتمكن فقال : { على الهدى * } أي الكامل في الهداية فكف عن نهي هذا المصلي عن خدمة مولاه الذي هو معترف بسيادته وإن ادعى كذباً أن له شريكاً كما أنه لا ينهى عن السجود للأصنام .
ولما ذكر ما لعله يكون عليه في تكميل نفسه ، ذكر ما لعله يعانيه من إنجاء غيره فقال : { أو أمر } أي ذلك الناهي { بالتقوى * } أي التي هي عماد الدين ، وهي عمارة الباطن بالنور الناشئة عن الهدى ، وعمارة الظاهرة لذلك ، المترشحة من عمارة الباطن ، الموجب لذلك ، فأمر هذا المصلي بملازمة خدمة سيده المجمع على سيادته ، ولا شك في توحيده بالربوبية بالإقبال على ما يرضيه من أفعال العبادة ، ليكون ذلك وقاية لفاعل من سخطه فيأمن الهلاك ، والجواب محذوف تقديره : ألم يكن خيراً له فليتدبر كل أمر من أموره فلا يقدم عليه حتى يعلم بالدليل أنه هدى وتقوى .
ولما كان التقدير حتماً كما هدى إليه السياق ما قدرته من جواب السؤالين ، بنى عليه قوله زيادة في التوبيخ والتعجيب والتقريع استفهاماً عن حال لهذا الناهي مناف للحال الأول معيداً الفعل إيضاحاً لذلك : { أرءيت } أي أخبرني أيها السامع ولا تستعجل { إن كذب } أي أوقع هذا الناهي التكذيب بأن المصلي على الهدى بخدمة سيده المتفق على سيادته ، فكان بذلك مرتكباً للضلال الذي لا شك في كونه ضلالاً ، ولا يدعو إليه إلا الهدى .
ولما كان المكذب قد لا يترك من كذبه ، أشار إلى أن حال هذا على غير ذلك فقال : { وتولى * } أي وكلف فطرته الأولى بعد معالجتها الإعراض عن قبول الأمر بالتقوى ، وذلك التولي إخراب الباطن بالأخلاق السيئة الناشئة عن التكذيب وإخراب الظاهر بالأعمال القبيحة الناشئة عن التكذيب ، والجواب محذوف تقديره : ألم يكن ذلك التولي والتكذيب شراً له لأن التكذيب والتولي من غير دليل شر محض ، فكيف إذا كان الدليل قائماً على ضدهما .
ولما عجب من حالته البعيدة عن العقل مع نفسه ومع أبناء جنسه ، أنكر عليه معجباً من كونه يعلم أنه ليس بيده شيء ، المنتج لأنه مراقب وحاله مضبوط غاية الضبط وينسى ذلك ، فقال ذاكراً مفعول « أرءيت » الثاني وهو لا يكون إلا جملة استفهامية : { ألم يعلم } أي يقع له عمل يوماً من الأيام { بأن الله } أي وهو الملك الأعلى { يرى * } أي له صفتا البصر والعلم على الإطلاق ، فهو يعلم كل معلوم ويبصر كل مبصر ، ومن كان له ذلك كان جديراً بأن يهلك من يراه على الضلال والإضلال وينصر من يطيع أمره على كل من يعاديه ، وإنما جاء هذا الاستفهام الإنكاري على هذا الوجه لأنهم يعترفون بكل ما أنكر عليهم فيه ويلزمهم بما يفعلون من عداوة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا منكرين له ، وذلك هو عين التناقض الذي لا أشنع عندهم منه ، هذا ويمكن ، وهو أحسن ، أن تنزل الآية على الاحتباك فيقال : لما كان السؤال عن حال الناهي لأن الرؤية علميه لا بصرية ، فتشوف السامع إلى معرفتها ، وكان للناهي حالان : طاعة ومعصية ، بدأ بالأولى لشرفها على الأسلوب الماضي في التقرير على سبيل التعجيب فقال : « أرءيت » أي أخبرني « إن كان » الناهي ثابتاً في نهيه هذا متمكناً « على الهدى » أي الكامل « أو » كان قد « أمر » في ذلك الأمر أو في أمر ما من عبادة الأوثان وغيرها « بالتقوى » وحذف جواب السؤال عن هذا الحال لدلالة جواب الحال الثاني عليه ، وهو ألم يعلم بأن الله يرى كل ما يصح أن يرى ، فينهى عنه إن كان مكروهاً ولا يقر عليه ويحاسب به ليزن هذا الناهي أفعاله بما شرعه سبحانه من الدليل العقلي والسمعي فيعلم أهي مما يرضيه ليقره عليه كما يقر سائر ما يرضيه أو يسخطه فيمنعه منه .

ولما ذكر ما يمكن أن يكون عليه حال الناهي من السداد ، ذكر ما يمكن أن يكون عليه من الفساد ، فقال مقرراً معجباً معيداً العامل لزيادة التعجيب على النمط الأول : « أرأيت إن كذب » أي هذا الناهي بالحق في وقت النهي - ولما كان لا يلزم من التكذيب التولي قال : « وتولى » أي عن الدين بنهيه هذا ، فكان على الضلال والهوى متمكناً في ذلك بحيث إنه لا يصدر عنه فعل إلا فاسداً « ألم يعلم بأن الله يرى » فيحاسب نفسه بما أرشد إليه سبحانه من البراهين فيعلم أن ما هو عليه من الرشد إن كان الله يقره عليه ويمكنه منه أو الغواية إن كان ينهاه عنه ولا يقره عليه ، كما فعل بهذا الذي أقسم : ليرضخن رأس هذا المصلي ، وأقدم عليه بصخرته وهو عند نفسه في غاية القدرة على ذلك بزعمه فمنعه الله منه ورده عنه فرجع على عقبيه خاسئاً ظاهراً عليه الجبن والرعب وغيرهما مما يتحاماه الرجال ، ويأنف منه الضراغمة الأبطال ، والاحتباك هنا بطلب « أرءيت » جملة ليس هو من التنازع لأنه يستدعي إضماراً والجمل لا تضمر ، إنما هو من باب الحذف لدليل ، فحذف الكون على الضلال ثانياً لدلالة الكون على الهدى عليه أولاً ، وحذف « ألم يعلم بأن الله يرى » أولاً لدلالة ذكره آخراً عليه .

ولما كان هذا الخبيث معرضاً عن هذا العلم الذي هو معترف به كله ، وإنما كان إعراضه لما عنده من الحظوظ والشهوات الموقعة له - بحكم الرد أسفل سافلين - إلى رتبة البهائم ، أتى بأعظم أدواث الردع فقال : { كلا } أي ليس عنده علم بشيء من ذلك لسفول رتبته عن رتبة البهائم ولا في يده شيء من الأشياء ، فهو لا يقدر على شيء مما رامه من الأذى ، فليرتدع عن تعاطي ذلك لأنه لا يضر إلا نفسه .
ولما كان نفي العلم عنه يوهم أنه في عداد الغافلين الذي لا ملامة عليهم ، بين أن انتفاء العلم عنه ليس عن غفلة يعذر صاحبها ، إنما هو عن تهاون بالخير ورضى بالعمى والتقليد ، فهو من قسم الضال الذي فرط في استعمال القوة العلمية المذكور في الفاتحة ، فاستأنف الإخبار عنه في جواب من يقول : فما يفعل به؟ معبراً بأداة الشك إقامة له ولغيره في محل الرجاء لانتهائه إبقاء للتكليف ومؤكداً لأنهم منكرون : { لئن لم ينته } أي يفتعل هذا الناهي لهذا العبد المطيع فيقف ويكف عما هو فيه من نهيه وتكذيبه وتوليه .
ولما كان الحال غير محتاج إلى أكثر من التأكد لإيقاع الفعل ، عبر بالحقيقة ولم ينقلها إشارة إلى أن هذا الناهي أقل من أن يحتاج فيه إلى فعل شديد ، بل أقل نفحة من العذاب تكفي في إهلاكه ، وما كان أصل التأكيد إلاّ تطيبباً لقلوب الأولياء وتكذيباً للأعداء فقال : { لنسفعاً } أي والله لنأخذن ونقبضن قبضاً وأخذاً بشدة وعنف مع الجر والاجتذاب واللطم والدفع والغيظ أخذ من يعض مأخوذه ويذله ويسود وجهه ويقذره { بالناصية * } أي بالشعر الذي في مقدم رأسه وهو أشرف ما فيه ، والعرب لا تأنف من شيء أنفتهم من أخذ الناصية ، وإذا انتهكت حرمة الأشرف فما بالك بغيره ، واستغنى بتعريف العهد عن الإضافة .
ولما كان من المعلوم أن من صار في القبضة على هذه الهيئة المهينة المزرية فهو هالك ، اغتنى به عن أن يقول : ولنسحبنه بها على وجهه إلى النار ، ووصفها بما يدل على ذلك فقال مبدلاً لأن البدل وصف بما قربه من المعرفة : { ناصية } أي عظيمة القبح { كاذبة } أي متعمدة للكذب { خاطئة * } فهي صادر عنها الذنب من الكذب وغيره من غير تعمد ، فأغلب أحوالها على غير صواب تارة عن عمد وتارة عن غير عمد ، وما ذاك إلا لسوء جبلة صاحبها حتى كاد لا يصدر عنه فعل سديد ، ووصفها بما هو لصاحبها على الإسناد المجازي مبالغة في تكذيبه في أنه لا يقدر على منع المهتدي أو إذلاله أو شيء من أذاه إلا إن أذن له صاحب الأمر كله فيما يكون سبباً لزيادة رفعته ، وفي العدول عن الحقيقة ، كأن يقال : ناصية كاذب خاطىء ، بالإضافة إلى هذا المجاز ، من الجزالة والفخامة والجلالة ما لا يخفى .

ولما كان هذا هو غاية الإهانة ، وكان الكفار إنما يقصدون بأعراضهم الشماخة والأنفة والعز عن أن يكونوا أتباعاً أذناباً ، وإنما عزهم بقومهم ، وأقرب من يعتز به الإنسان أهل ناديه ، وهم القوم الذين يجتمعون نهاراً ليحدث بعضهم بعضاً ويستروح بعضهم إلى بعضهم لما عندهم من التصافي لأنهم لا يتركون أشغالهم نهاراً ويجتمعون لذلك إلا عن ذلك ، قال تعالى مسبباً عن أخذه على هذا الوجه المزري : { فليدع } أي دعاء استغاثة { ناديه * } أي القوم الذين كانوا يجتمعون معه نهاراً يتحدثون في مكان ينادي فيه بعضهم بعضاً من أنصاره وعشيرته ليخلصوه مما هو فيه ، والذي نزلت فيه هو أبو جهل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً .
ولما كان كأنه قيل : فلو دعا ناديه يكون ماذا؟ قال : { سندع } أي بوعد لا خلف فيه { الزبانية * } أي الأعوان الموكلين بالنار ليجروه إليها ، وهم في الأصل الشرط ، الواحد زبنية كهبرية ، من الزبن وهو الدفع أو زبني على النسبة ، أصلها زباني والتاء عوض عن الياء ، وهم كل من عظم خلقه ، واشتد بطشه ، وقد اجتمعت المصاحف العثمانية على حذف الواو من هذا الفعل خطأ ، ولا موجب لحذفه من العربية لفظاً ، وكأن المعنى في ذلك - والله أعلم - أن لا يظن أنهم دعوا لرفعة لهم في ذواتهم يستعان بهم بسببها لأن معنى الواو عند الربانيين العلو والرفعة ، إشارة إلى أنهم لا قوة لهم إلا بالقوي العزيز ، أو يقال : إن الحذف دال على تشبيه الفعل بالأمر ليدل على أن هذا الدعاء أمر لا بد من إيقاع مضمونه ، ومن إجابة المدعوين إلى ما دعوا إليه ، وأن ذلك كله يكون على غاية الإحكام ، والاتساق بين خطه ومعناه والانتظام ، لا سيما مع التأكيد بالسين ، الدال على تحتم الاتحاد والتمكين ، أو يكون المعنى : إنا ندعوهم بأيسر دعاء وأسهل أمر ، فيكون منهم ما لا يطاق ولا يستطاع دفاعه بوجه ، فكيف لو أكدنا دعوتهم وقوينا عزمتهم .
ولما كان الذي تقدم نهي الناهي للمصلي والسفع بناصيته إن لم ينته وأمره بدعاء ناديه ، وكان الحكم في الأول أنه لا يجيبه إلى ترك الصلاة ، وفي الثاني أن الناهي لا ينتهي عن عصيانه بالتهديد وأنه لا يفيده دعاء ناديه ، فالكل منفي ، حسن كل الحسن الإتيان بأداة الردع فقال : { كلا } أي لا يقدر على دعاء ناديه ولا ينتهي عن أذاه للمطيع بالتهديد فليرتدع عن كل من ذلك .
ولما كان كأنه قيل : فما أفعل؟ قال معرفاً أن من علم أن طبع الزمان وأهله الفساد ، وجب عليه الإقبال على شأنه والإعراض عن سائر العباد { لا تطعه } أي في نهيه لك عن الطاعة بالصلاة أو غيرها .

ولما كان نهيه عن الصلاة التي هي عماد الدين ، وكانت الصلاة يعبر عنها بالسجود لأنه - مع أنه جزؤها - هو أشرفها ، وهو أيضاً يطلق على مطلق العبادة ، قال تعالى مشيراً إلى النصر له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على كل من يمنعهم عبادته : { واسجد } أي دم على صلاتك وخضوعك بنفسك وجدد ذلك في كل وقت . ولما كان السجود أقرب مقرب للعبد إلى الله قال : { واقترب * } أي اجتهد بسرك في بلوغ درجة القرب إلى ربك والتحبب إليه بكل عبادة لا سيما الصلاة فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وقد شرح هذا المقام كما تقدم في الفاتحة قوله صلى الله عليه وسلم « أعوذ بعفوك من عقوبتك » فإن هذه الجملة أفادت - كما قال الإمام الغزالي في كتاب الشكر - مشاهدة أفعال الله فقط ، فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله ، فاستعاذ بفعله من فعله ، قال : ثم اقترب ففني في مشاهدة الأحوال ، وترقى إلى مصادر الأفعال ، وهي الصفات ، فقال : « أعوذ برضاك من سخطك » وهما صفتان ، ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد فاقترب وترقى من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات فقال « وأعوذ بك منك » فراراً منه إليه من غير رؤية فعل وصفة ، ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ومستعيذاً ومثنياً ففني عن مشاهدة نفسه إذا رأى ذلك نقصاناً فاقترب فقال « أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك » فقوله : « لا أحصي » خبر عن - فناء نفسه وخروجه عن مشاهدتها ، وقوله : « أنت كما أثنيت » بيان أنه المثني والمثنى عليه ، وأن الكل منه بدأ وإليه يعود ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، فكان أول مقامه نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل ، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذا انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من مرتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية ، فكان يستغفر الله من الأولى ، ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : « إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة » فكان ذلك لترقيه إلى سبيعن مقاماً بعضها يعد نقصاً لنقص أوائلها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات مقامات الخلق ، ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى أواخرها ، فكان استغفاره لذلك .

ولما قالت عائشة رضي الله عنها : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد؟ قال : « أفلا أكون عبداً شكوراً » معناه : أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات ، فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى { ولئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] انتهى . وهو على ما ترى من النفاسة فمن أكثر من الدعاء في سجوده فقمن أن يستجاب له ، والصلاة لا تكون إلا بالقراءة فإذا فعلت ذلك احتجبت عن الأغيار بحجاب منيع ، فازددت صفاء وصنت حالك عن الغير - كما يرشد إليه ما في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام « ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه - والله أعلم » فقد رجع آخرها إلى الأول ، على أحسن وجه وأجمل وأكمل - والله الهادي .

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

لما ذكر الله سبحانه وتعالى كتابه في هذا الذكر العربي المعجز ، ذكر إنزاله مستحضراً في كل قلب ، كان ذلك مغنياً عن إعادته بصريح اسمه ، فكان متى أضمره علمه المخاطب بما في السياق من القرائن الدالة عليه ، وبما له في القلب من العظمة وفي الذهن من الحضور لا سيما في هذه السورة لافتتاح العلق بالأمر بقراءته ، وختمها بالصلاة التي هي أعظم أركانها ، فكانت دلالتها عليه دلالة هي في غاية الوضوح ، فكان كأنه قال : واقترب بقراءة القرآن في الصلاة ، فكان إضماره أدل على العظمة الباهرة من إظهاره ، لدلالة الإضمار على أنه ما تم شيء ينزل غيره فهو بحيث لا يحتاج إلى التصريح به ، قال مفخماً له بأمور : إضماره ، وإسناد إنزاله إليه ، وجعل ذلك في مظهر العظمة ، وتعظيم وقت إنزاله المتضمن لعظمة البلد الذي أنزل فيه - على قول الأكثر ، والنبي الذي أنزل عليه ، مؤكداً لأجل ما لهم من الإنكار ، { إنا } أي لما لنا من العظمة { أنزلناه } أي هذا الذكر كله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا مرتباً هذا الترتيب الذي جمع الله الأمة المعصومة عليه ، وهو الموجود الآن ، وكذا كان إنزال أول نجم منه ، وهو أول السورة الماضية إنزالاً مصدقاً لأن عظمته من عظمتنا بما له من الإعجاز في نظمه ، ومن تضاؤل القوى عن الإحاطة بعلمه ، وأول ما أنزل منه صدرها إلى خمس آيات منها آخرها « ما لم يعلم » على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مجاور في هذا الشهر الشريف بجبل حراء من جبال مكة المشرفة ، ثم صار ينزل مفرقاً بحسب الوقائع حتى تم في ثلاث وعشرين سنة ، وكلما نزل منه نجم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بترتيبه في سورته عن أمر الله تعالى حتى تم في السور على ما هو عليه الآن ما هو عليه في بيت العزة .
ولما عظمه بما ذكر ، زاده عظماً بالوقت الذي اختار إنزاله فيه ليكون طالعه سعيداً لما كان أثره حميداً فقال : { في ليلة القدر * } أي الليلة التي لها قدر عظيم وشرف كبير ، والأعمال فيها ذات قدر وشرف ، فكانت بذلك كأنها مختصة بالقدر فلا قدر لغيرها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ورد تعريفاً بإنزال ما تقدم الأمر بقراءته لما قدمت الإشارة إلى عظيم أمر الكتب ، وأن السلوك إليه سبحانه إنما هو من ذلك الباب ، أعلم سبحانه وتعالى بليلة إنزاله وعرفنا بقدرها لنعتمدها في مظان دعائنا وتعلق رجائنا ونبحث في الاجتهاد في العمل لعلنا نوافقها وهي كالساعة في يوم الجمعة في إبهام أمرها مع جليل قدرها ومن قبيل الصلاة الوسطى ، ولله سبحانه في إخفاء ذلك أعظم رحمة ، وكان في التعريف بعظيم قدر هذه الليلة التعريف بجلالة المنزل فيها ، فصارت سورة القدر من تمام ما تقدم ووضح اتصالها - انتهى .

ولما علم من السياق تعظيمها بعظمة ما أنزل فيها وبالتعبير عنها بهذا ، قال مؤكداً لذلك التعظيم حثاً على الاجتهاد في إحيائها لأن للإنسان من الكسل والتداعي إلى البطالة ما يزهده في ذلك : { وما أدراك } أي وأي شيء أعلمك وأنت شديد التفحص { ما ليلة القدر * } أي لم تبلغ درايتك وأنت أعلم الناس غاية فضلها ومنتهى عليّ قدرها على ما لك من سعة العلم وإحاطة الفكر وعظيم المواهب .
ولما ثبتت عظمتها بالتنبيه على أنها أهل لأن يسأل عن خصائصها ، قال مستأنفاً : { ليلة القدر * } أي التي خصصناها بإنزالنا له فيها { خير من ألف شهر * } أي خالية عنها أو العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، قالوا : وهي مدة ملك بني أمية سواء ، وتسميتها بذلك لشرفها ولعظيم قدرها ، أو لأنه يفصل فيها من أم الكتاب مقادير الأمور ، فيكتب فيها عن الله حكم ما يكون من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل ، من قولهم : قدر الله على هذا الأمر يقدره قدراً ، أي قضاه ، وهي الليلة المرادة في سورة الدخان بقوله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] وذكر الألف إما للمبالغة بنهاية مراتب العدد ليكون أبلغ من السبعين في تعظيمها أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شخصاً من مؤمني بني إسرائيل لبس السلاح مجاهداً في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون منه فتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطاهم الله سبحانه وتعالى ليلة من قامها كان خيراً من ذلك ، وأبهمها في العشر الأخير من شهر رمضان في قول الجمهور على ما صح من الأحاديث ليجتهدوا في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة والصلاة الوسطى في الخمس ، واسمه الأعظم في الأسماء ، ورضاه في سائر الطاعات ليرغبوا في جميعها ، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها ، وقيام الساعة في الأوقات ليجتهدوا في كل لحظة حذراً من قيامها ، والسر في ذلك أن النفيس لا يوصل إليه إلا باجتهاد عظيم إظهاراً لنفاسته وإعظاماً للرغبة فيه وإيذاناً بالسرور به ، لكن جعل السورة ثلاثين كلمة سواء يرجح أنهم السابعة والعشرون التي وازاها قوله هي - كما نقل عن أبي بكر الوراق .
ولما عظمها ، ذكر وجه العظم ليكون إعلاماً بعد إبهام وهو أوقع في النفس فقال مستأنفاً : { تنزل } أي تنزلاً متدرجاً هو أصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء { الملائكة } أي هذ النوع العظيم الذي هو خير كله { والروح } أي جبريل عليه الصلاة والسلام ، خصه بياناً لفضله أو هو مع أشراف الملائكة أو هو خلق أكبر من الملائكة أو هو أمر تسكن إليه نفوس العارفين ويحصل به اليمن والبركة { فيها } وأشار إلى خفاء ذلك التنزل بإسقاط تاء التنزل مع ما تقدم من الإشارات ، ودل على زيادة البركة في ذلك التنزل وعظيم طاعة الملائكة بقوله : { بإذن ربهم } أي بعلم المحسن إليهم المربي لهم وتمكينه ، وتنزلهم إلى الأرض أو السماء الدنيا أو تقربهم من المؤمنين ، متبدىء تنزلهم { من كل أمر * } أي الأمور الكلية التي يفرقون فيها بإذن الله تفاصيل الأمور التي يريدها سبحانه في ذلك العام في أوقاتها من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل ، أو من أجل تقدير كل شيء يكون في تلك السنة ، وعبر عن الشيء بالأمر إعلاماً بأنهم لا يفعلون شيئاً إلاّ بأمره .

ولما ذكر سبحانه هذه الفضائل ، كانت النتيجة أنها متصفة بالسلامة التامة كاتصاف الجنة - التي هي سببها - بها ، فكان ذلك أدل على عظمتها فقال تعالى : { سلام } أي عظيم جداً { هي } أي ما هي إلا سلامة وخير ليس فيها شر ، ولا يزال ذلك السلام والبركة فيها { حتى } أي إلى { مطلع الفجر * } أي طلوعه ووقت طلوعه وموضع طلوعه ، لا يكون فيه شر كما في غير ليلتها ، فلا تطلع الشمس في صبيحتها بين قرني الشيطان إن شاء الله تعالى ، وذلك سر قراءة الكسائي بالكسر - والله أعلم ، واختير التعبير ب « حتى » دون « إلى » ليفهم أن لما بعدها حكم ما قبلها ، فيكون المطلع في حكم الليلة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل ليلة القدر في كوكبة من الملائكة ومعه لواء أخضر يركزه فوق الكعبة ، ثم يفرق الملائكة في الناس حتى يسلموا على كل قائم وقاعد وذاكر وراكع وساجد إلى أن يطلع الفجر ، فمن تأمل هذه السورة علم منه ما للقرآن من العظمة فأقبل عليه بكليته يتلوه حق تلاوته كما أمر في سورة « اقرأ » فأمن من غير شك من هول يوم الدين المذكور في التين ، ومن تلاوته بحقه تعظيم ليلة القدر لما ذكر من شرفها ، وذلك جاز إلى الحرص عليها في كل السنة ، فإن لم يكن ففي كل رمضان ، فإن لم يكن ففي جميع ليالي العشر الأخيرة منه ، ليكون له من الأعمال بسبب فضلها ومضاعفة العمل فيها ما لا يحصيه إلى الله تعالى بحيث إنه ربما يكون خيراً من عمل من اجتهد فيما قبلنا ألف سنة ، ورجوع آخرها بكون هذا التنزل في ليلة القدر على أولها في غاية الوضوح لأن أعظم السلام فيها نزول القرآن ، ولعل كونها ثلاثين كلمة إشارة إلى إن خلافة النبوة التي هي ثلاثون سنة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم التي آخرها يوم نزل أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما فيه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين هي كليلة القدر في الزمان ، وما بعدها كليالي العام فيه الفاضل وغيره ، وتلك المدة كانت لخمسة خلفاء أشارت إليهم حروف الكلمة الأخير منها ، فالألف لأبي بكر رضي الله عنه وهي في غاية المناسبة له ، فإن الربانيين قالوا : هو اسم للقائم المحيط الأعلى الغائب عن مقامه لكنها الحاضر معه وجوداً كالروح ، وكذا كان رضي الله عنه حاضراً مع الأمة بوجوده وهو غائب عنهم بتوجهه ، وجميع قلبه إنما هو مع الله عز وجل ، واللام لعمر رضي الله عنه وهي شديدة المناسبة له فإنها صلة بين باطن الألف وظاهر الميم الذي هو لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه للتمام ، وكذلك فعل - وصل بين السيريتن وصلاً تاماً بحيث وصل ضعف الصديق في بدنه وقوته في أمر الله بقوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتظم به الأمر انتظاماً لا مزيد عليه ، والفاء لعثمان رضي الله تعالى عنه وهو إشارة لبدء خلوص منته لتنقل بمزيد أو نقص ، وآيته الفطرة الأولى ، وآيتها المحسوسة اللبن أول خروجه إذا أصابه أقل شيء من الهواء الممدود غيّره ، وكذلك الفطرة إذا أصابها أقل شيء من الهوى المقصود غيّرها ، وكذا كان حاله رضي الله تعالى عنه ، حصلت له آفات الإحسان إلى أقاربه الذي قاده إليه قويم فطرته حتى حصلت له الآفات الكبار رضي الله عنه ، والجيم لعلي رضي الله عنه وهو إشارة إلى الجمع ، والإجمال الذي يحصل عنده عنا وهو أنسب الأمور له رضي الله تعالى عنه فإنه حصل به الجمع بعد الافتراق العظيم بقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه شهيداً مظلوماً ، وحصل به الإجمال لكن لم يتم التفصيل بسبب ما حصل من العناد ، والراء إشارة إلى الحسن رضي الله تعالى عنه وهي تطوير وتصيير وتربية ، وهي لكل مرب مثل زوج المرأة وسيد العبد ، ولذلك فعل رضي الله عنه لما رأى الملك يهلك بقتل المسلمين رباه بنزوله عن الأمر لمعاوية ، فكان كالسيد أذن لعبده وربي أمره به ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيداً - رضي الله عنهم أجمعين ، والله أعلم بالصواب .

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)

لما أخبر سبحانه وتعالى أن الليلة الشريفة التي صانها بنوع خفاء في تنزل من يتنزل فيها وفي تعيينها لا تزال قائمة على ما لها من تلك الصفة حتى يأتي الفجر الذي يحصل به غاية البيان ، أخبر أن أهل الأديان سواء كان لها أصل من الحق أم لا لم يصح في العادة الجارية على حكمة الأسباب في دار الأسباب أن يتحولوا عما هم فيه إلا بسبب عظيم يكون بيانه أعظم من بيان الفجر ، وهو القرآن المذكور في القدر والرسول المنزل عليه ذلك فقال : { لم يكن } أي في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال كوناً هو كالجبلة والطبع ، وهذا يدل على ما كانوا عليه قبل ذلك من أنهم يبدلون ما هم عليه من الكفر أو الإيمان بكفر أو بدعة ثم لا يثبتون عليه لأن ذلك ليس في جبلاتهم ، وإنما هو خاطر عارض كما هو محكيّ عن سيرتهم من بعد موسى عليه الصلاة والسلام لما كانت تسوسهم الأنبياء عليهم السلام كما دل على بعض ذلك قوله تعالى : { فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا } [ المائدة : 71 ] وكذا المشركون كانوا يبدلون دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام ولا ينفصلون عنه بالكلية ، وتارة يعبدون الأصنام ، وتارة الملائكة ، وأخرى الجن ، ولم يكونوا يثبتون على حالة واحدة ثباتاً كلياً مثل ثباتهم على الإسلام بعد مجيء البينة ونسيانهم أمور الجاهلية بالكلية حتى نسوا الميسر ، فلم يكن أحد من أولادهم يعرف كيفيته وكذا السائبة وما معها وغيرها ذلك من خرافاتهم { الذين كفروا } أي سواء كانوا عريقين في الكفر أم لا .
ولما كان العالم أولى باتباع الحق وأشد جرماً عند فعل ما يقتضي اللوم ، بدأ بقوله : { من أهل الكتاب } أي من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً ، فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى ، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا { والمشركين } أي بعبادة الأصنام والنار والشمس ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق بأن لم يكن لهم كتاب { منفكين } أي منفصلين زائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا يبقى لهم به علقة ، ويثبتون على ذلك الانفكاك ، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً ، من فك الكتاب والختم والعظم - إذا زايل ما كان ملتصقاً ومتصلاً به ، أو عما في أنفسهم من ظن اتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به بما كان أهل الكتاب يستفتحون به والمشركون يقسمون بالله جهد أيمانهم { لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } [ فاطر : 42 ] فيصيروا بذلك أحزاباً وفرقاً { حتى } أي إلى أن { تأتيهم } عبر بالمضارع لتجدد البيان في كل وقت بتجدد الرسالة والتلاوة { البينة * } أي الآية التي هي في البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا ظهوراً وضياء ونوراً ، وذلك هو الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء كان التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو الفرقان ، ولذلك أبدل منها قوله : { رسول } أي عظيم جداً ، وزاد عظمته بقوله واصفاً له : { من الله } أي الذي له الجلال والإكرام { يتلوا } أي يقرأ قراءة متواترة ذلك الرسول بعد تعليمنا له { صحفاً } جمع صحيفة وهي القرطاس والمراد ما فيها ، عبر بها عنه لشدة المواصلة { مطهرة * } أي هي في غاية الطهارة والنظافة والنزاهة من كل قذر بما جعلنا لها من البعد من الأدناس بأن الباطل من الشرك بالأوثان وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها وأنها لا يمسها إلا المطهرون ، وقراءته وإن كان أمياً لمثل ما فيها قراءة لها .

ولما عظمه بأن وصف صحفه التي هي محل المكتوب بالطهارة ، بين سبب ذلك فقال : { فيها } أي تلك الصحف { كتب } جمع كتاب أي علوم هي لنفاستها حقيقة بأن تكتب { قيمة * } أي هي في غاية الاستقامة لنطقها بالحق الذي لا مرية فيه ليس فيها شرك ولا عوج بنوع من الأنواع ، فإذا أتتهم هذه البينة انفكوا وانفكاكهم أنهم كانوا مجتمعين قبل هذا ، أهل الكتاب يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم لما عندهم من البشائر الصريحة به ، والمشركون يقولون : لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم ، ويقولون : نحن نعرف الحق لأهله ولا ندفعه بوجه ، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بما لا شبهة فيه تفرقوا ، فبعضهم آمن وبعضهم كفر .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هي من كمال ما تقدمها لأنه لما أمره عليه الصلاة والسلام بقراءة كتابه الذي به اتضحت سبيله وقامت حجته ، وأتبع ذلك بالتعريف بليلة إنزاله وتعظيمها بتعظيم ما أهلت له مما أنزل فيها ، أتبع ذلك بتعريفه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الكتاب هو الذي كانت اليهود تستفتح به على مشركي العرب وتعظم أمره وأمر الآتي به ، حتى إذا حصل ذلك مشاهداً لهم كانوا هم أول كافر به ، فقال تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة - إلى قوله : وذلك دين القيمة } وفي التعريف بهذا تأكيد ما تقدم بيانه مما يثمر الخوف وينهج بإذن الله التسليم والتبرؤ من ادعاء حول أو قوة ، فإن هؤلاء قد كانوا قدم إليهم في أمر الكتاب والآتي به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد كانوا إليهم في أمر الكتاب والآتي به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد كانوا يؤملون الانتصار به عليه الصلاة والسلام من أعدائهم ويستفتحون بكتابه ، فرحم الله من لم يكن عنده علم منه كأبي بكر وعمر وأنظارهما رضي الله عنهم أجمعين ، وحرم هؤلاء الذين قد كانوا على بصيرة من أمره وجعلهم بكفرهم شر البرية ، ورضي عن الآخرين ورضوا عنه ، وأسكنهم في جواره ومنحهم الفوز الأكبر والحياة الأبدية وإن كانوا قبل بعثه عليه الصلاة والسلام على جهالة وعمى ، فلم يضرهم إذا قد سبق لهم في الأزل « أولئك هم خير البرية » انتهى .

ولما كان التقدير : فإذا أتتهم انفكوا ، فلقد تفرق المشركون بعد إتيانك وأنت البينة العظمى إليهم إلى مهتد وضال ، والضال إلى مجاهر ومساتر ، وكذا أهل الكتاب ، ثم ما اجتمع العرب على الهدى إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، عطف على هذا الذي أفهمه السياق قوله معلماً بزيادة القبح في وقوع الذنب من العالم بإفرادهم بالتصريح عن المشركين : { وما تفرق } أي الآن وفيما مضى من الزمان تفرقاً عظيماً { الذين } ولما كانوا في حال هي أليق بالإعراض ، بنى للمفعول قوله : { أوتوا الكتاب } أي عما كانوا عليه من الإطباق على الضلال أو الوعد باتباع الحق المنتظر في محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذا كان فعلهم في عيسى صلى الله عليه وسلم من قبل ، فاستمر بعضهم على الضلال وبالغ في نقض العهد والعناد ، ووفى بعض بالوعد فاهتدى ، وكان تفرقهم لم يعد تفرقاً إلا زمناً يسيراً ، ثم اجتمعوا فلم يؤمن منهم من يعد خلافته لباقيهم تفرقاً لكونه قليلاً من كثير ، فلذلك أدخل الجارّ فقال : { إلا من بعد } وكان ذلك الزمن اليسير هو بإسلام من أسلم من قبائل العرب الذين كانوا قد أطبقوا على النصرانية من تنوخ وغسان وعاملة وبكر بن وائل وعبد القيس ونحوهم وكذا من كان تهود من قبائل اليمن وأسلم ، ثم أطبق اليهود والنصارى على الضلال فلم يسلم منه إلى من لا يعد لقلته مفرقاً لهم { ما } أي الزمن الذي { جاءتهم } فيه أو مجيء { البينة * } فكان حالهم كما قال سبحانه { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق ، لا تفرقهم فيه ، وكأنه أشار إلى المشركين بالعاطف ولم يصرح بذكرهم لأنهم كانوا عكس أهل الكتاب لم يتفرقوا إلا زمناً يسيراً في أول الأمر ، فكان الضال منهم أكثر ، ثم أطبقوا على الهدى لما لهم من قويم الطبع ومعتدل المزاج ، فدل ذلك على غاية العوج لأهل الكتاب لأنهم كانوا لما عندهم من العلم أولى من المشركين بالاجتماع على الهدى ، ودل ذلك على أن وقوع اللدد والعناد من العالم أكثر ، وحصوله الآفة لهم من قوة ما لطباعهم من كدر النقص بتربيته وتنميته بالمعاصي من أكل السحت من الربا وغيره من الكبائر والتسويف بالتوبة ، فألفت ذلك أبدانهم فأشربته قلوبهم حتى تراكم ظلامها ، وتكاثف رينها وغمامها ، فلما دعوا لم يكن عندهم شيء من نور تكون لهم به قابلية الانقياد للدعاء .

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

ولما كان حال من ضل على علم أشنع ، زاد في فضيحتهم فقال : { وما } أي فعلوا ذلك والحال أنهم ما . ولما كان المقصود بروز الأمر المطاع ، لا تعيين الآمر ، قال بعد وصف الصحف بأنه ثبت أنها قيمة بانياً للمفعول : { أمروا } أي وقع أمرهم بما أمروا به ممن إذا أطلق الأمر لم يستحق أن ينصرف إلا إليه ، في تلك الكتب التي وجب ثبوت اتباعها وأذعنوا له { إلا ليعبدوا } أي لأجل أن يعبدوا { الله } أي الإله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد غيره بأن يوجدوا عبادته ويجددوها في كل وقت ، والعبادة امتثال أمر الله تعالى كما أمر على الوجه المأمور به من أجل أنه آمر ، مع المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم ، وذلك مع الاقتصاد لئلا يمل الإنسان فيخل أو يحصل له الإعجاب فتفسد عبادته ، حال كونهم { مخلصين } أي ثابتاً غاية الثبات إخلاصهم { له الدين } بحيث لا يكون فيه شوب شيء مما يكدره من شرك جلي ولا خفي بأن يكون الامتثال لكونه أمر لرضاه لا لشي من نفع ولا دفع ، ويكون ذلك على الصواب ، فإن كثيراً من العاملين يكون مخلصاً ، ويكون بناؤه بغير أساس صالح ، فلا ينفعه بل يكون وبالاً عليه ، فإنه ضيع الأصل كالرهبان وكذا كثير ممن يعتقد ولاية شخص وهو لا يعرف أن يميز بين الولي والعدو والمكرم والمستدرج ، وحقيقة الإخلاص بأنه إفراد الحق في الطاعة بالقصد مع نسيان الخلق في الأعمال والتوصل إليه بالتوقي من ملاحظتهم مع التنقي عن مطالعة النفس برؤية العبد نفسه عبداً مأموراً لا يريد ثواباً ، جاعلاً كل شيء وسيلة إلى الله ، وعلامته عدم رؤية العمل ، ويعرف ذلك بالخوف وعدم الالتفات إلى طلب الثواب ، وبالحياء منه لكونه يرى أنه ما قام بحق السيد على ما ينبغي كما قال تعالى : { يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } [ المؤمنون : 60 ] قال القشيري : ويقال : الإخلاص تصفية العمل من الخلل ، وقال الرازي : الإخلاص النية الصافية لأن النية دائمة ، والعمل ينقطع ، والعمل يحتاج إلى النية ، والنية لا تحتاج إلى العمل ، ولأجل ما أفهمه التعبير بالاسم من التمكن والثبات أكده بقوله : { حنفاء } أي في غاية الميل مع الدليل إلى القوم بحيث لا يكون عندهم اعوجاج أصلاً ، بل مهما حصل أدنى زيغ عرضوه على الدليل فمالوا معه بما لهم من الحنف فقادهم إلى الصلاح فصاروا في غاية الاستقامة ، وتلك هي العبادة الإحسانية ، وأصل الحنف في اللغة : الميل ، قال الملوي : وخصه العرف بالميل إلى الخير ، ولذا سمي الأحنف بن قيس لميل في رجليه إلى داخل من جهة القدام إلى الوراء ، وسموا الميل إلى الشر إلحاداً ، فالحنيف المطلق الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمس : اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين ، وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات الحقة ، وعن توابعها من الخطايا والسيئات إلى العمل الصالح وهو مقام التقى ، وعن المكروهات إلى المستحبات وهو المقام الأول من الورع ، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى الذي يعني ، وهو المقام الثاني من الورع ، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد ، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص الناظر أحدهما إلى الحق ، والثاني إلى الخلق ، فالإخلاص لمقام المشتغل بالمصفى له لأنه إفراد الحق بالقصد في الطاعة ، والخوف لمقام المشتغل بالمصفى منه لأنه الميل عن سائر المخلوقات إلى الله تعالى وإلى ما يرضيه .

ولما ذكر أصل الدين ، أتبعه الفروع ، فبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين وموضع التجرد عن العوائق فقال : { ويقيموا } أي يعدلوا من غير اعوجاج ما ، بجميع الشرائط والأركان والحدود { الصلاة } لتصير بذلك أهلاً لأن تقوم بنفسها ، وهي التعظيم لأمر الله تعالى .
ولما ذكر صلة الخالق ، أتبعها وصلة الخلائق فقال : { ويؤتوا الزكاة } أي بأن يحضروها لمستحقيها شفقة على خلق الله إعانة على الدين ، ولكنهم حرفوا ذلك وبدلوه بطباعهم المعوجة ، وتدخل الزكاة عند أهل الله في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل ووجاهة وغير ذلك - كما هو واضح من قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } [ البقرة : 3 - والأنفال : - 3 ] .
ولما كان هذا ديناً حسناً بيناً فضلوا عنه على ما عندهم من الأدلة ، زاد في توبيخهم بمدحه فقال : { وذلك } أي والحال أن هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور الذي هو في غاية العلو والخير { دين القيمة * } أي الملة أو النفوس أو الكتب التي لا عوج فيها ، وهو على الأول من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وعن الخليل أنه قال : هو جمع قيم ، والقيم والقائم واحد ، والمعنى دين القائمين لله تعالى بالتوحيد ، ودل على ما قدرته في أمر المشركين بذكرهم في نتيجة ما مضى في قوله مؤكداً لأجل إنكارهم : { إن الذين كفروا } أي وقع منهم الستر لمرائي عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك وإن لم يكونوا عريقين فيه { من أهل الكتاب } أي اليهود والنصارى { والمشركين } أي العريقين في الشرك ، ودل بالإتيان بالوصف هنا والفعل في أولئك - والله أعلم - على أن المشرك يرجع عن شركه ويؤمن إن لم يكن عريقاً في الشرك بخلاف أهل الكتاب متى تلبس أحد منهم بكفر لا يرجع عنه وإن كان تلبسه به على أضعف الوجوه ، وكذا كل من ينسب إلى علم ولا سيما إن كان بليداً متى عرضت له شبهة بعد رجوعه عنها ، فلذلك جمع بينهم في قوله : { في نار جهنم } أي النار التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة تكون عذاباً لأجسامهم { خالدين فيها } أي يوم القيامة أو في الحال لسعيهم في موجباتها ، واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته .

ولما كان معظم السياق للعبادة والترغيب فيها من القراءة والسجود والانفكاك عن الكفر ، لم يذكر التأبيد بلفظه ، بل اكتفى بما دل عليه وقال في نتيجة ما مضى : { أولئك } أي البعداء البغضاء { هم } أي خاصة بما لضمائرهم من الخبث { شر البرية * } أي الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم ، وفرطوا في حوائجهم ومآربهم ، وهذا نار لأرواحهم حين ينادى عليهم به .
ولما ذكر الأعداء وبدأ بهم ، لأن السياق لذم من جمد من المألوف وترك المعروف ، أتبعه الأولياء فقال مؤكداً لما للكفار من الإنكار : { إن الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان من الخلق كلهم الملائكة وغيرهم { وعملوا } أي تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } أي هذا النوع ، ولما كان نعيم القلب أعظم ، قدمه على نعيم البدن إبلاغاً في مدحهم فقال : { أولئك } أي العالو الدرجات { هم } أي خاصة { خير البرية * } .
ولما خصصهم بالخيرية ، ذكر ثوابهم ، فقال ذاكراً جنة أبدانهم معظماً لهم بالتعبير عن إنعامه عليهم بلفظ الجزاء المؤذن بأنه مقابلة ما وصفوا به : { جزاؤهم } أي على طاعاتهم ، وعظمه بقوله : { عند ربهم } إليهم المربي لهم وأي المحسن { جنات عدن } أي إقامة لا تحول عنها { تجري } أي جرياً دائماً لا انقطاع له . ولما كان عموم الماء مانعاً من تمام اللذة ، قرب وبعض بقوله : { من تحتها } أي تحت أرضها وغرفها وأشجارها { الأنهار } .
ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال : { خالدين فيها } ولما كان النظر إلى الترغيب في هذا السياق أتم حثاً على اتباع الدليل المعروف ، والمفارقة للحال المألوف ، أكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله : { أبداً } .
ولما كان هذا كله ثمرة الرضا ، وكان التصريح به أقر للعين لأنه جنة الروح ، قال مستأنفاً أو معللاً : { رضي الله } أي بما له من نعوت الجلال والجمال { عنهم } أي بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق . ولما كان الرضا إذا كان من الجانبين ، كان أتم وأعلى لهم قال : { ورضوا عنه } لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه متفضل في جميع ذلك ، لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقدره أحد حق قدره ، فلو أخذ الخلق بما يستحقونه أهلكهم ، وأعظم نعمه عليهم ما منّ عليهم به من متابعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك كان سبباً لكل خير .
ولما كان ذلك ربما ادعى أنه لناس مخصوصين في زمان مخصوص ، قال معمماً له ومنبهاً على الوصف الذي كان سبب أعمالهم التي كانت سبب جزائهم : { ذلك } أي الأمر العالي الذي جوزوا به { لمن خشي ربه * } أي خاف المحسن إليه خوفاً يليق به ، فلم يركن إلى التسويف والتكاسل ، ولم يطبع نفسه بالشر بالجري مع الهوى في التطعم بالمحرمات بل كان ممن يطلب معالي الأخلاق فيستفتي قلبه فيما يرضي ربه ، فكان تواتر إحسانه يزيده خوفاً فيزيده شكراً ، فإن الخشية ملاك الأمر ، والباعث على كل خير ، وهي للعارفين ، قال الملوي ما معناه : إن الإنسان إذا استشعر عقاباً يأتيه أو خسراً ، لحقته حالة يقال لها الخوف وهي انخلاع القلب عن طمأنينة الأمن وقلقه واضطرابه لتوقع مكروه ، فإن اشتد سمي وجلاً لجولانه في نفسه ، فإذا اشتد سمي رهباً لأدائه إلى الهرب ، وهي حالة المؤمنين الفارين إلى الله ومن غلب عليه الحب لاستغراق في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة إذ لا ينفك عن خوف إبعاد أو صد لغفلة أو ذلة ، ومن غلب عليه التعظيم لاستغراق في شهود الجلاليات صار في الإجلال ، ووراء هذا الخشية

{ إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] فمن خاف ربه هذا الخوف انفك من جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه سبحانه ، ولم يقدح في البينة ولا توقف فيها ، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب ، فكان جديراً بأن يقدح في كل ما أدى إلى العمارة ، وقد رجع آخر السورة على أولها بذلك ، وبتصنيف الناس صنفين : صنف انفك عن هوى نفسه فأنجاها ، وصنف استمر في أسرها فأرداها ، وقد ذكرت في « مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور » سر تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لأبيّ رضي الله عنه بقراءة هذه السورة عليه بخصوصها ، وحاصله أن سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة رضي الله عنهم قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما ، قال : فسقط في نفسي من التكذيب أشد مما كان في الجاهلية ، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقاً ، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً ، ثم قص عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف ، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل وفيها أن الله يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً ، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة ، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا ، وأن اليهود اختلفوا في السبت ، وسورة { لم يكن } على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها بزيادة ، وفيها التحذير من الشك بعد البيان ، وتقبيح حال من فعل ذلك ، وأن حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد ، فيكون شر البرية ، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليه رضي الله عنه تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوراً فيكون أرسخ في النفس وأثبت في القلب وأعشق للطبع ، فاختصه الله بالتثبيت وأراد له الثبات ، فكان من المريدين المرادين لما وصل إليه قلبه ببركة ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لصدره من كشفه الحجب ونفي الشياطين والنظر إلى سبحات القدس وشهود تلك الحضرة الشماء ، وصيرورته إلى أن يكون أصفى الصحابة رضي الله عنهم مراقبة لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم بما يتذكر من الأمر الشريف بتخصيصه بذلك ، فيصير كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بأذني قلبه إلى روح النبوة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة .

ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم : « أقرؤكم أبيّ » رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه وهو صحيح ورواه بعضهم مرسلاً ، ومما فيه ولم أذكره في المصاعد سنة التواضع حتى لا يمنع أحداً ما يراه من علوه من القراءة على من هو دونه فإنه ما منع أكثر أهل الكتاب من الإسلام إلا رؤية ما كانوا عليه من العلم بكتب الله وسنن الرسل عليهم الصلاة والسلام وجهل العرب بذلك ، فنظروا إلى ما كان ولم ينظروا إلى الحالة الراهنة الآن ، فحلق الحسد أديانهم وسلبهم إيمانهم ، وصاروا أشقى الناس - كما نبه عليه أول السورة - نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة - آمين .

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

لما ختم تلك بجزاء الصالح والطالح في دار البقاء على ما أسلفوه في مواطن الفناء ، ذكر في هذه أول مبادىء تلك الدار وأوائل غاياتها ، وذكر في القارعة ثواني مبادئها وآخر غاياتها ، وأبلغ في التحذير بالإخبار بإظهار ما يكون عليه الجزاء ، فقال معبراً بأداة التحقق لأن الأمر حتم لا بد من كونه : { إذا } .
ولما كان المخوف الزلزلة ولو لم يعلم فاعلها ، وكان البناء للمفعول يدل على سهولة الفعل ويسره جداً ، بنى للمفعول قوله : { زلزلت الأرض } أي حركت واضطربت زلزلة البعث بعد النفخة الثانية بحيث يعمها ذلك لا كما كان يتفق قبل ذلك من زلزلة بعضها دون بعض وعلى وجه دون ذلك ، وعظم هذا الزلزال وهوّله بإبهامه لتذهب النفس فيه كل مذهب ، فقال كاسراً الزاء لأنه مصدر ، ولو فتحها لكان اسماً للحركة ، قال البيضاوي : وليس إلا في المضاعف . { زلزالها * } أي تحركها واضطرابها الذي يحق لها في مناسبته لعظمة جرم الأرض وعظمة ذلك اليوم ، ولو شرح بما يليق به لطال الشرح ، وذلك كما تقول : أكرم التقي إكرامة وأهن الفاسق الشقي إهانة ، أي على حسب ما يليق به .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : وردت عقب سورة البرية ليبين بها حصول جزاء الفريقين ومآل الصنفين المذكورين في قوله : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } - إلى قوله : { أولئك شر البرية } وقوله : { إن الذين آمنوا } - إلى آخر السورة . ولما كان حاصل ذلك افتراقهم على صنفين ولم يقع تعريف بتباين أحوالهم ، أعقب ذلك بمآل الصنفين واستيفاء جزاء الفريقين المجمل ذكرهم فقال تعالى : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم } إلى آخر السورة - انتهى .
ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال : { وأخرجت } وأظهر ولم يضمر تحقيقاً للعموم فقال : { الأرض } أي كلها { أثقالها } أي مما هو مدفون فيها كالأموات والكنوز التي كان أمرها ثقيلاً على الناس ، وهو جمع ثقل بالكسر ، وذلك حين يكون البعث والقيام متأثراً ذلك الإخراج عن ذلك الزلزال ، كما يتأثر عن زلزال البساط بالنفض إخراج ما في بطنه وطيه وغضونه من وسخ وتراب وغيره ، وما كان على ظهرها فهو ثقل عليها لأنها يعطيها الله قوة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوة أن تخرج النبت الصغير اللطيف الطري الذي هو أنعم من الحرير فيشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاول والحديد ، ويشق النواة مع ما لها من الصلابة التي تستعصي بها على الحديد فينفلق نصفين وينبت منها ما يريده سبحانه وتعالى ، ويفلق قشر الجوز واللوز ونوى الخوخ وغيره مما هو في غاية الصلابة كما نشاهده ، ويخرج منه الشجر بشق الأرض على ضعفه ولينه وصلابتها وبكونه على ظهرها حتى يصير أغلظ شيء وأشده ، وكذا الحب سواء ، فالذي قدر على ذلك هو سبحانه وتعالى قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن ويشق جميع منافذه على التحذير من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل إلى هناك بيكار ولا منشار ، ثم يخرج من البطن ، فكذا إخراج الموتى من غير فرق ، كل عليه هين - سبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه .

ولما كان الإنسان إذا رأى هذا عجب له ولم يدرك سببه لأنه أمر عظيم فظيع يبهر عقله ويضيق عنه ذرعه ، عبر عنه بقوله : { وقال الإنسان } أي هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما تأكد عنده من أمر البعث بما له من الأنس بنفسه والنظر في عطفه ، على سبيل التعجب والدهش أو الحيرة ، ويجوز أن يكون القائل الكافر كما يقول : { من بعثنا من مرقدنا } [ يس : 52 ] فيقول له المؤمن : { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } [ يس : 52 ] { ما لها * } أي أيّ شيء للأرض في هذا الأمر الذي لم يعهد مثله .
ولما طال الكلام وأريد التهويل ، أبدل من « إذا » قوله معرفاً للإنسان ما سأل عنه : { يومئذ } أي إذ كان ما ذكر من الزلزال وما لزم عنه ونصبه وكذا ما أبدل منه بقوله : { تحدث } أي الأرض بلسان الحال بإخراج ما في بطنها من الموتى والكنوز وغيرها على وجه يعلم الإنسان به لم زلزلت ولم أخرجت ، وأن الإنذار بذلك كان حقاً ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : تحدث بلسان المقال . { أخبارها * } أي التي زلزلت وأخرجت ما أخرجت لأجلها ، وكل شيء عمل عليها شهادة منها على العاملين فتقول : عمل فلان كذا وكذا - تعدد حتى يود المجرم أنه يساق إلى النار لينقطع عنه تعداد ذلك الذي يلزم منه العار ، وتشهد للمؤمن بما عمل حتى يسره ذلك ، فيشهد للمؤذن كل ما امتد إليه صوته من رطب ويابس .
ولما كان من المقرر أنه لا يكون شيء إلا بإذنه تعالى ، وكان قد بنى الأفعال لما لم يسم فاعله ، فكان الجاهل ربما خفي عليه فاعل ذلك قال : { بأن } أي تحدث بسبب أن { ربك } أي المحسن إليك بإحقاق الحق وإزهاق الباطل لإعلاء شأنك { أوحى } وعدل عن حرف النهاية إيذاناً بالإسراع في الإيحاد فقال : { لها * } أي بالإذن في التحديث المذكور بالحال أو المقال .
ولما أخبر تعالى بإخراج الأثقال التي منها الأموات ، اشتد التشوف إلى هيئة ذلك الإخراج وما يتأثر عنه ، فقال مكرراً ذكر اليوم زيادة في التهويل : { يومئذ } أي إذ كان ما تقدم وهو حين يقوم الناس من القبور { يصدر } أي يرجع رجوعاً هو في غاية السرعة والاهتداء إلى الموضع الذي ينادون منه لا يغلط أحد منهم فيه ولا يضل عنه { الناس } من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم { أشتاتاً * } أي متفرقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال من مؤمن وكافر ، وآمن وخائف ، ومطيع وعاص .

ولما ذكر ذلك ، أتبعه علته فقال بانياً للمفعول على طريقة كلام القادرين : { ليروا } أي يرى الله المحسن منهم والمسيء بواسطة من يشاء من جنوده أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه وتعالى كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم { أعمالهم * } فيعلموا جزاءها أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله ، ثم سبب عن ذلك قوله مفصلاً الجملة التي قبله : { فمن يعمل } من محسن أو مسيء مسلم أو كافر { مثقال } أي مقدار وزن { ذرة خيراً } أي من جهة الخير { يره * } أي حاضراً لا يغيب عنه شيء منه لأن المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة ، فالكافر يوقف على أنه جوزي به في الدنيا أو أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان ، فهو صورة بلا معنى ليشتد ندمه ويقوى حزنه وأسفه ، والمؤمن يراه ليشتد سروره به .
ولما ذكر الخير ، أتبعه ضده فقال : { ومن يعمل } أي كائناً من كان { مثقال ذرة شراً } أي من جهة الشر { يره } فما فوقه ، فالمؤمن يراه ويعلم أنه قد غفر له ليشتد فرحه ، والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه ، والذرة النملة الصغيرة أو الهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة ، وقد رجع آخرها على أولها بتحديث الأخبار وإظهار الأسرار ، وقد ورد في حديث الأعرابي أن هذه السورة جامعة لهذه الآية الأخيرة ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنها أحكم آية في القرآن ، وكان رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم يسميها الفاذة الجامعة ، ومن فقه ذلك لم يحقر ذنباً وإن دق لأنه يجتمع إلى أمثاله فيصير كبيراً كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : « إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالباً » وروي كما ذكرته في كتابي « مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور » في حديث « إنها تعدل نصف القرآن » وفي حديث آخر أنها تعدل ربع القرآن ، ولا تعارض ، فالأول نظر إليها من جهة أن الأحكام تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة ، وهذه السورة اشتملت على أحكام الآخرة إجمالاً ، وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وأن كل أحد يرى كل ما عمل ، والثاني نظر إليه باعتبار ما تضمنه الحديث الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر » فاقتضى هذا الحديث أن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دل عليه القرآن ، وأيضاً فأمر الدين أربعة أجزاء : أمر المعبود ، وأمر العبيد ، وأمر العبادة ، وأمر الجزاء ، فهذه السورة تكفلت بأمر الجزاء ، وسورة الكافرون ربع لأنها في أمر العبادة على وجه الخصوص والخفاء وإن كانت على وجه التمام والوفاء ، وسورة النصر ربع لأنها لأمر العبادة على وجه العموم والجلاء والظهور والعلاء - والله الهادي للصواب وإليه المآب .

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

لما ختم الزلزلة بالجزاء لأعمال الشر يوم الفصل ، افتتح هذه ببيان ما يجر إلى تلك الأعمال من الطبع ، وما ينجر إليه ذلك الطبع مما يتخيله من النفتع ، موبخاً من لا يستعد لذلك اليوم بالاحتراز التام من تلك الأعمال ، معنفاً من أثر دنياه على أخراه ، مقسماً بما لا يكون إلا عند أهل النعم الكبار الموجبة للشكر ، فمن غلب عليه الروح شكر ، ومن غلب عليه الطبع - وهم الأكثر - كفر فقال : { والعاديات } أي الدواب التي من شأنها أن تجري بغاية السرعة ، وهي الخيل التي ظهورها عز وبطونها كنز ، وهي لرجل وزر ولرجل أجر ، فمن فاخر بها ونادى بها أهل الإسلام وأبطره عزها حتى قطع الطريق وأخاف الرفيق كانت له شراً ، ومن جعلها في سبيل الله كانت له أجراً ، ومن حمل عليها ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها وكانت له ستراً ، وإنما أقسم بها ليتأمل ما فيها من الأسرار الكبار التي باينت به أمثالها من الدواب كالثور مثلاً والحمار ليعلم أن الذي خصها بذلك فاعل مختار واحد قهار ، فالقسم في الحقيقة به سبحانه .
ولما كانت دالة على الضابحات بالالتزام ، قال ناصباً به أو ب « تضبح » مقدراً : { ضبحاً * } والضبح صوت جهير من أفواهها عند العدو الشديد ، ليس بصهيل ولا حمحمة ولا رغاء وهو النفس ، وليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب ، وأصله للثعلب واستيعر للخيل ، وحكاه ابن عباس رضي الله عنهما فقال : أح أح ، أو الضبح عدو دون التقريب .
ولما ذكر عدوها ، أتبعه ما ينشأ عنه ، فقال عاطفاً بأداة التعقيب لأن العدو بحيث يتسبب عنه ويتعقبه الإيراء : { فالموريات } أي المخرجات للنار بما يصطك من نعلها بالأحجار ، لا سيما عند سلوك الأوعار .
ولما كان الإيراء أثر القدح قال : { قدحاً * } أي تقدح ضرباً بعنف كضرب الزند ليوري النار ، ونسب الإيراء إليها لإيجادها صورته وإن لم يكن لها قصد إليه .
ولما ذكر العدو وما يتأثر عنه ، ذكر نتيجته وغايته فقال : { فالمغيرات } أي بإغارة أهلها عليها على العدو والإغارة والركض الشديد لإرادة القتل والنهب . ولما كانت الإغارة الكائن عنها الثبور والويل أروع ما تكون في أعقاب الليل قال : { صبحاً * } أي ذات دخول في الصباح .
ولما كان الأعداء حال الإغارة يكون مختلفاً تارة يميناً وتارة شمالاً وتارة أماماً وتارة وراء بحسب الكر والفر في المصاولة والمحاولة تارة أثر الهارب ، وأخرى في مصاولة المقبل المحارب ، فينشأ عنها الغبار الكثير لإثارة الهواء له واصطدام بعضه ببعض لتعاكسه بقوة الدفع من قوائمها وما تحركه منه ، وكان المقسم به منظوراً فيه إلى ذاته ونتيجة القسم منظوراً فيها إلى الفعل بادىء بدء مع قطع النظر بالأصالة عن الذات ، عطف على اسم الفاعل بعد حله إلى أن وصلتها فقال : { فأثرن به } أي بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدة العدو { نقعاً * } أي غباراً مع الاعناق والصياح والزجر بالعنق حتى صار ذلك الغبار منحبكاً ومنعقداً عليها .

ولما كان المغير يتوسط الجمع عند اختلال حالهم فيفرق شملهم لأنهم متى افترقوا حصل فيهم الخلل ، ومتى اختلفوا تخللهم العدو ففرق شملهم قال : { فوسطن به } أي بذلك النقع أو الفعل والوقت والموضع { جمعاً } أي وهو المقصود بالإغارة ، فدخلت في وسط ذلك الجمع لشجاعتها وقوتها وطواعيتها وشجاعة فرسانها .
ولما أقسم بالخيل التي هي أشرف الحيوان كما أن الإنسان المقسم لأجله أشرف ما اتصف منه بالبيان ، وتجري به أفكاره كخيل الرهان ، وتقدح المعاني تارة مقترنة بأشرف اللمعان ، وأخرى بأخس ما يقع به الاقتران ، من الزور والبهتان ، والإلحاد والطغيان ، وتغير منه ثواقب الأذهان ، تارة على شبه الخصوم بالبرهان ، وأخرى بما يغير به من الشبه الملتبسة في وجوه المعاني الحسان ، وينثر تارة المعاني الصحيحة على أهل الطغيان ، من ذوي البدع والكفران ، وأخرى الفاسدة على حزب الملك الديان ، وتتوسط تارة جمع أولي الطغيان ، وأخرى جمع أولي الإيمان ، وكانت الإغارة في الغالب لأجل قهر المغار عليهم على أموالهم عدواناً إن كان ذلك في غير الجهاد ، وإن كانت في الجهاد فقل من يخلص في ذلك الحال ، فيكون عمله ليس إلا لله كما أشار إليه الحديث القدسي : « إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه » قال مجيباً للقسم بذكر المقسم عليه حاكماً على النوع باعتبار عد المخلص لقلته عدماً ، مؤكداً لما لهم من تكذيب ذلك فإن كل أحد يتبرأ من مثل هذا الحال : { إن الإنسان } أي هذا النوع بما له من الأنس بنفسه والنسيان لما ينفعه { لربه } أي المحسن إليه بإبداعه ثم إبقائه وتدبيره وتربيته { لكنود * } أي كفور نكد لسوء المعاملة حيث يقدم بما أحسن به الله إليه من الصافنات الجياد وبما آتاه من قوة الجنان والأركان على ما نهاه عنه ، ومصدره الكنود بالضم وهو كفران النعمة ، فالمراد هنا - بالتعبير عنه بهذه الصيغة التي هي للمبالغة - من يزدري القليل ولا يشكر الكثير ، وينسى كثير النعمة بقليل المحنة ، ويلوم ربه في أيسر نقمة ، وقال الفضيل بن عياض : هو من أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان ، والشكور ضده .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : أقسم سبحانه على حال الإنسان بما هو فقال : « إن الإنسان لربه لكنود » أي لكفور ، يبخل بما لديه من المال كأنه لا يجازي ولا يحاسب على قليل ذلك وكثيره من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وكأنه ما سمع بقوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } { وإنه لحب الخير } أي المال { لشديد } لبخيل ، { وإنه على ذلك لشهيد } فإن الله على ذلك لمطلع فلا نظر في أمره وعاقبة مآله { إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور } أي ميز ما فيها من الخير والشر ليقع الجزاء عليه { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } لا يخفى عليه شيء من أمرهم { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } - انتهى .

ولما كان إقدام الإنسان على الظلم عجباً ، فإذا كان يشهد على نفسه بالظلم كان أعجب ، قال مؤكداً لما لأكثر الخلق قبل البعث والمحاققة من إنكار كفرانه : { وإنه } أي الإنسان { على ذلك } أي الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه { لشهيد * } لأنه مقر إذا حوقق بأن جميع ما هو فيه من إحسان ربه وبأن ربه نهاه عن المخالفة ، أو أنه لا أمر عنده منه بما فعل ، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتحرك بحركة يمكن أن يكرهها الملك الذي هو في خدمته ولا شيء له إلا منه بغير إذنه ، وأنه إن تحرك بغير ذلك كان كافراً لإحسانه مستحقاً لعقابه ، لا يقدر على إنكار شيء منه .
ولما كان من العجائب أن يكفر أحد إحسان المنعم ، وهو شاهد على نفسه ، ذكر الحامل له على ذلك حتى هان عليه فقال : { وإنه } أي الإنسان من حيث هو مع شهادته على نفسه بالكفر الذي يقتضي سلب النعم { لحب } أي لأجل حب { الخير } أي المال الذي لا يعد غيره لجهله خيراً { لشديد * } أي بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه ، أو بليغ القوة في حبه لأن منفعته في الدنيا وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأن أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه وهو معرض عن الدين حيث كانت منفعته آجلة غائبة مع علمه بأن المعرّف بما يرضى من خدمة ربه الحاث عليها الداعي إليها فهو لحب عبادة الله ضعيف متقاعس ، وكان حبه الخير يقتضي عنه الشكر الذي يتقاضى الزيادة ، ولا يتخيل أن شديداً عامل في الحب لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها ، وإنما ذلك المتقدم دليل على المعمول المحذوف .
ولما كان المال فانياً لا ينبغي لعاقل أن يعلق أمله به فضلاً عن أن يؤثرة على الباقي ، نبهه على ذلك بتهديد بليغ ، فقال مسبباً عن ذلك معجباً ، موقفاً له على ما يؤول إليه أمره : { أفلا يعلم } أي هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه .
ولما كان الحب أمراً قلبياً ، لا يطلع عليه إلا عالم الغيب ، وكان البعث من عالم الغيب ، وكان أمراً لا بد منه ، وكان المخوف مطلق كونه ، لم يحتج إلى تعيين الفاعل ، فبنى للمفعول قوله مهدداً مؤذناً بأنه شديد القدرة على إثارة الخفايا ، معلقاً بما يقدره ما يؤول إليه أمره من أن الله يحاسبه ويجازيه على أعماله ، وأنه لا ينفعه مال ولا غيره ، ولا ينجيه إلا ما كان من أعماله موافقاً لأمر ربه مبنياً على أساس الإيمان واقعاً بالإخلاص : { إذا بعثر } أي أثير بغاية السهولة وأخرج وفرق ونظر وفتش بغاية السهولة .

ولما كان الميت قبل البعث جماداً ، عبر عنه بأداة ما لا يعقل فقال : { ما في القبور * } أي أخرج ما فيها من الموتى الذين تنكر العرب بعثهم فنشروا للحساب ، أو من عظامهم ولحومهم وأعصابهم وجلودهم وجميع أجسامهم ، وقلب بعضه على بعض حتى أعيد كل شيء منه على ما كان عليه ، ثم أعيدت إليه الروح ، فكان كل أحد على ما مات عليه .
ولما كان المخوف إنما هو ما يتأثر عن البعث من الجزاء على الأعمال الفاسدة قال : { وحصل } أي أخرج وميز وجمع فعرف أنه معلوم كله بغاية السهولة كما أشار البناء للمفعول { ما في الصدور * } أي من خير أو شر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلاً ، وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال ، وهذا يدل على أن النيات يحاسب بها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها .
ولما كان علم ما في الصدور أمراً باهراً للعقل ، قال جامعاً نظراً إلى المعنى لما عبر عنه بالإفراد بالنظر إلى اللفظ ، لأن العلم بالكل يلازمه العلم بالبعض بخلاف العكس مؤكداً إشارة إلى أنه مما لا يكاد يصدق ، معللاً للجملة المحذوفة الدالة على الحساب : { إن ربهم } أي المحسن إليهم بخلقهم وزرقهم وتربيتهم وجعلهم أقوياء سويين { بهم } قدم هذا الجار والمجرور لا للاختصاص ، بل للاشارة إلى نهاية الخبر . ولما كانت الخبرة للإحاطة بالشيء ظاهراً وباطناً ، وكان يلزم من الخبرة بالشيء بعد كونه بمدد طوال الخبرة به حال كونه من باب الأولى قال : { يومئذ } أي إذ كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة { لخبير * } أي محيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم ، فكيف بظواهرها جواهر وأعراضاً ، أقوالاً وأفعالاً ، خفية كانت أو ظاهرة ، سراً كانت أو علانية ، خيراً كانت أو شراً ، ومن المعلوم أن فيها الظلم وغيره ، ومنهم المحسن وغيره ، فلأجل علمه سبحانه بذلك غاية العلم يحاسبهم لئلا يقع ما ينافي الحكمة وهو أن تستوي الحسنة والسيئة ، فالقصد بالقيد وتقديم الظرف الإبلاغ في التعريف بأنه سبحانه وتعالى محيط العلم بذلك كما إذا قيل لك : تعرف فلاناً؟ فقلت : ولا أعرف إلا هو ، فإن قصدك بذلك أن معرفتك به في غاية الإتقان ، لا نفي معرفة غيره ، وفيه إشعار بأن كل أحد يعرف غاية المعرفة في ذلك اليوم أنه سبحانه وتعالى عالم بأحواله لا ذهول له عن شيء من ذلك كما يقع في هذه الدار من أن الإنسان يعمل أشياء كثيرة وهو غافل عن أن ربه سبحانه مطلع عليه فيها ، ولو نبه لعلم ، فلإحاطته سبحانه وتعالى بجميع أحوالهم كان عالماً بأن الإنسان لربه لكنود ، وقد رجع آخرها إلى أولها ، وتكفل مفصلها بشرح مجملها - والله الهادي للصواب .

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

لما ختم العاديات بالبعث ذكر صيحته فقال : { القارعة * } أي الصيحة أو القيامة ، سميت بها لأنها تقرع أسماع الناس وتدقها دقاً شديداً عظيماً مزعجاً بالأفزاع ، والأجرام الكثيفة بالتشقق والانفطار ، والأشياء الثابتة بالانتثار .
ولما كانت تفوق الوصف في عظم شأنها وجليل سلطانها ، عبر عن ذلك وزاده عظماً بالإلهام والإظهار في موضع الإضمار مشيراً بالاستفهام إلى أنها مما يستحق السؤال عنه على وجه التعجيب والاستعظام فقال : { ما القارعة } وأكد تعظيمها إعلاماً - بأنه مهما خطر ببالك من عظمها فهي أعظم منه فقال : { وما أدراك } أي وأيّ شيء أعلمك وإن بالغت في التعرف ، وأظهر موضع الإضمار لذلك فقال : { ما القارعة * } أي أنك لا تعرفها لأنك لم تعهد مثله .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال الله سبحانه وتعالى : « أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور » كان ذلك مظنة لأن يسأل : متى ذلك؟ فقيل : يوم القيامة الهائل الأمر ، الفظيع الحال ، الشديد البأس ، والقيامة هي القارعة ، وكررت تعظيماً لأمرها كما ورد في قوله تعالى { الحاقة ما الحاقة } [ الحاقة : 1 - 2 ] وفي قوله سبحانه : { فغشيهم من اليم ما غشيهم } [ طه : 78 ] ثم زاد عظيم هوله إيضاحاً بقوله تعالى { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } والفراش ما تهافت في النار من البعوض ، والمبثوث : المنتشر { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } والعهن : الصوف المصبوغ ، وخص لإعداده للغزل إذ لا يصبغ لغيره بخلاف الأبيض فإنه - لا يلزم فيه ذلك ، ثم ذكر حال الخلق في وزن الأعمال وصيرورة كل فريق إلى ما كتب له وقدر - انتهى .
ولما ألقى السامع جميع فكره إلى تعرف أحوالها ، قال ما تقديره : تكون { يوم يكون } أي كوناً كأنه جبلة { الناس } أي الذين حالهم النوس على كثرتهم واختلاف ذواتهم وأحوالهم ومراتبهم ومقاديرهم وانتشارهم بعد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور { كالفراش } أي صغار الجراد لأنها تتفرش وتتهافت على النار ، أو هو طير غير ذلك لا دم له ، يتساقط في النار وليس ببعوض ولا ذباب ، وقال حمزة الكرماني : شبههم بالفراش التي تطير من هنا ومن هنا ولا تجري على سمت واحد وهي همج يجتلبها السراج ، وقال غيره : وجه الشبه الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما تتطاير الفراش ، وكثرة التهافت في النار وركوب بعضهم بعضاً - وموج بعضهم في بعض من شدة الهول كما قال تعالى { كأنهم جراد منتشر } [ القمر : 7 ] { المبثوث * } أي المنتشر المتفرق .
ولما كانت الجبال أشد ما تكون ، عظم الرهبة بالإخبار بما يفعل بها فقال تعالى : { وتكون الجبال } على ما هي عليه من الشدة والصلابة وأنها صخور راسخة { كالعهن } أي الصوف المصبغ لأنها ملونة كما قال تعالى :

{ ومن الجبال جدد بيض وحمر } [ فاطر : 27 ] أي وغير ذلك { المنفوش * } أي المندوف المفرق الأجزاء الذي ليس هو بمتلبد شيء منه على غيره ، فتراها لذلك متطايرة في الجو كالهباء المنثور حتى تعود الأرض كلها لا عوج فيها ولا أمتاً .
ولما كان اليوم إنما يوصف لأجل ما يقع فيه ، سبب عن ذلك قوله مفصلاً لهم : { فأما من ثقلت } أي بالرجحان . ولما كانت الموزونات كثيرة الأنواع جداً ، جمع الميزان باعتبارها فقال : { موازينه * } أي مقادير أنواع حسناته باتباع الحق لأنه ثقيل في الدنيا واجتناب الباطل ، والموزون الأعمال أنفسها تجسداً وصحائفها { فهو } بسبب رجحان حسناته { في عيشة } أي حياة تتقلب فيها ، ولعله ألحقها الهاء الدالة على الوحدة - والمراد العيش - ليفهم أنها على حالة واحدة - في الصفاء واللذة وليست ذات ألوان كحياة الدنيا { راضية * } أي ذات رضى أو مرضية لأن أمه - جنة عالية { وأما من خفت } أي طاشت { موازينه * } أي بأن غلبت سيئاته أو لم تكن له حسنة لاتباعه الباطل وخفته عليه في الدنيا { فأمه } أي التي تؤويه وتضمه إليها كما يقال للأرض : أم - لأنها تقصد لذلك ، ويسكن إليها كما يسكن إلى الأم ، وكذا المسكن ، وهو يفهم أنه مخلوق منها غلب عليه طبع الشيطان لكون العنصر الناري أكثر أجزائه ، وعظمها بالتنكير والتعبير بالوصف المعلم بأنه لا قرار لها فقال : { هاوية * } أي نار نازلة سافلة جداً فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً وهو في عيشة ساخطة ، فالآية من الاحتباك ، ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً ، وذكر الأم ثانياً دليلاً على حذفها أولاً .
ولما كانت مما يفوت الوصف بعظيم أهوالها وشديد زلزالها ، جمع الأمر فيها فقال منكراً أن يكون مخلوق يعرف وصفها : { وما أدراك } أي وأيّ شيء أعلمك وإن اشتد تكلفك { ما هيه * } أي الهاوية لأنه لم يعهد أحد مثلها ليقيسها عليه ، وهاء السكت إشارة إلى إن ذكرها مما يكرب القلب حتى لا يقدر على الاسترسال في الكلام أو إلى - أنها مما ينبغي للسامع أن يقرع بهذا الاستفهام عنها سمعه فيسكت لسماع الجواب وفهمه غاية السكوت ويصغي غاية الإصغاء .
ولما هوّلها بما ذكر ، أتبعها ما يمكن البشر معرفته من وصفها فقال { نار حامية * } أي قد انتهى حرها ، هذا ما تتعارفونه بينكم ، وأما التفاصيل فأمر لا يعلمه إلا الله تعالى ، وهذا نهاية القارعة ، فتلاؤم الأول للآخر واضح جداً وظاهر - والله أعلم .

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

ولما أثبت في القارعة أمر الساعة ، وقسم الناس فيها إلى شقي وسعيد ، وختم بالشقي ، افتتح هذه بعلة الشقاوة ومبدأ الحشر لينزجر السامع عن هذا السبب ليكون من القسم الأول ، فقال ما حاصله : انقسمتم فكان قسم منكم هالكاً لأنه { ألهكم } أي أغفلكم إلا النادر منكم غفلة عظيمة عن الموت الذي هو وحده كاف في البعث على الزهد فكيف بما بعده { التكاثر * } وهو المباهاة والمفاخرة بكثرة الأعراض الفانية من متاع الدنيا : المال والجاه والبنين ونحوها مما هو شاغل عن الله ، فكان ذلك موجباً لصرف الهمة كلها إلى الجمع ، فصرفكم ذلك إلى اللهو ، فأغفلكم عما أمامكم من الآخرة والدين الحق وعن ذكر ربكم وعن كل ما ينجيكم من سخطه ، أو عن المنافسة في الأعمال الموصلة إلى أعلى الدرجات بكثرة الطاعات ، وذلك كله لأنكم لا تسلمون بما غلب عليكم من الجهل الذي سببه شهوة النفس وحب الراحة فخفت موازينكم ، وحذف هذا الشيء الملهو عنه لتعظيمه والدلالة على أنه ليس غيره مما يؤسف على اللهو عنه .
ولما كانوا ينكرون البعث ، ويعتقدون دوام - الإقامة في القبور ، عبر بالزيارة إشارة إلى أن البعث لا بد منه ولا مرية فيه ، وأن اللبث في البرزخ وإن طال فإنما هو كلبث الزائر عند مزوره في جنب الإقامة بعد البعث في دار النعيم أو غار الجحيم ، وأن الإقامة فيه محبوبة للعلم بما بعده من الأهوال والشدائد والأوجال ، فقال : { حتى } أي استمرت مباهاتكم ومفاخرتكم إلى أن { زرتم المقابر * } أي بالموت والدفن ، فكنتم فيها عرضة للبعث لا تتمكنون من عمل ما ينجيكم لأن دار العمل فاتت كما أن الزائر ليس بصدد العلم عند المزور ، لا يمكثون بها إلا ريثما يتكمل المجموعون بالموت كما أن الزائر معرض للرجوع إلى داره وحل قراره ، فلو لم يكن لكم وازع عن الإقبال على الدنيا إلا الموت لكان كافياً فكيف والأمر أعظم من ذلك؟ فإن الموت مقدمة من مقدمات العرض ، قال أبو حيان : سمع بعض الأعراب الآية فقال : بعث القوم للقيامة ورب الكعبة ، فإن الزائر منصرف لا مقيم ، وروى ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأها ثم قال : ما أرى المقابر إلا زيارة ، ولا بد لمن زار أن يرجع إلى بيته ، إما إلى الجنة أو إلى النار .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها ، أعقب بذكر ما شغل وصد عن الاستعداد لها وألهى عن ذكرها ، وهو التكاثر بالعدد والقرابات والأهلين فقال : { ألهاكم التكاثر } وهو في معرض التهديد والتقريع وقد أعقب بما يعضد ذلك وهو قوله { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } ثم قال : { كلا لو تعلمون علم اليقين } وحذف جواب « لو » والتقدير : لو تعلمون علم اليقين لما شغلكم التكاثر ، قال صلى الله عليه وسلم :

« لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً » الحديث ، وقوله تعالى « لترون الجحيم » جواب لقسم مقدر أي والله لترون الجحيم ، وتأكد بها التهديد وكذا ما بعد إلى آخر السورة - انتهى .
ولما كان الاشتغال بالتكاثر في غاية الدلالة على السفه لأن من المعلوم قطعاً أن هذا الكون على هذا النظام لا يكون إلا بصانع حكيم ، وكان العقلاء المنتفعون بالكون في غاية التظالم ، وكان الحكيم لا يرضى أصلاً أن يكون عبيده يظلم بعضهم بعضاً ثم لا يحكم بينهم ولا ينظر في مصالحهم علم قطعاً أنه يبعثه ليحكم بينهم لأنه كما قدر على إبدائهم يقدر على إعادتهم ، وقد وعد بذلك وأرسل به رسله وأنزل به كتبه ، فثبت ذلك ثبوتاً لا مرية فيه ولا مزيد عليه ، وكان الحال مقتضياً لأن يردع غاية الردع من أعرض عما يعنيه وأقبل على ما لا يعنيه ، فقال سبحانه معبراً بأم الروادع ، وجامعة الزواجر والصوادع : { كلا } أي ارتدعوا أتم ردع وانزجروا أعظم زجر عن الاشتغال بما لا يجدي ، فإنه ليس الأمر كما تظنون من أن الفخر في المكاثرة بالأعراض الدنيوية ولم تخلقوا لذلك ، إنما خلقتم لأمر عظيم ، فهو الذي يهمكم فاشتغلتم عنه بما لا يهمكم - فكنتم لاهين كمن كان يكفيه كل يوم درهم فاشتغل بتحصيل أكثر ، وكذا من ترك المهم من التفسير واشتغل بالأقوال الشاذة أو ترك المهم من الفقه واشتغل بنوادر الفروغ وعلل النحو وغيرها وترك ما هو أهم منه مما لا عيش له إلا به .
ولما كان الردع لا يكون إلا عن ضار يجر وبالاً وحسرة ، دل على ذلك بقوله استئنافاً : { سوف } أي بعد مهلة طويلة يتذكر فيها من تذكر { تعلمون * } أي يتجدد لكم العلم بوعد لا خلف فيه بما أنتم عليه من الخطإ عند معاينة ما يكشفه الموت ويجر حزنه الفوت من عاقبة ذلك ووباله .
ولما كان من الأمور ما لو شرح شأنه على ما هو عليه لطال وأدى إلى الملال ، دل على أن شرح هذا الوعيد مهول بقوله مؤكداً مع التعبير بأداة التراخي الدالة على علو الرتبة : { ثم كلا } أي ارتدعوا ارتداعاً أكبر من ذلك لأنه { سوف تعلمون * } أي يأتيكم العلم من غير شك وإن تأخر زمنه يسيراً بالبعث .
ولما كان هذا أمراً صادعاً ، أشار إلى أنه يكفي هذه الأمة المرحومة التأكيد بمرة ، فقال مردداً للأمر بين تأكيد الردع ثالثاً بالأداة الصالحة له ولأن تكون لمعنى - حقاً كما يقوله ائمة القراءة : { كلا } أي - ليشتد ارتداعهم عن التكاثر فإنه أساس كل بلاء فإنكم { لو تعلمون } أيها المتكاثرون .

ولما كان العلم قد يطلق على الظن رفع مجازه بقوله : { علم اليقين * } أي لو يقع لكم علم على - وجه اليقين مرة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم ، فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون - فحذف هذا الجواب بعد حذف المفعول للتفخيم فهو إشارة إلى أنه لا يقين غيره ، والمعنى أن أعمالكم أعمال من لا يتيقنه ، قال الرازي : واليقين مركب الأخذ في هذا الطريق ، وهو غاية درجات العامة ، وأول خطوة الخاصة ، قال عليه الصلاة والسلام : « خير ما ألقي في القلب اليقين » وعلم قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق ، والآية من الاحتباك : ذكر الإلهاء أولاً وحذف سببه وهو الجهل لدلالة الثاني عليه ، وذكر ثانياً العلم الذي هو الثمرة وحذف ما يتسبب عنه من عدم اللهو الذي هو ضد الأول ، وزاد في التفخيم لهذا الوعيد بإيضاح المتوعد به بعد إبهامه مع قسم دل عليه بلامه ، فقال : { لترون } أي بالمكاشفة وعزتنا ، ولا يصح أن يكون هذا جواباً لما قبله لأنه محقق { الجحيم * } أي النار التي تلقى المعذبين بها بكراهة وتغيظ وعتو وشديد توقد ، فالمؤمن يراها وينجو منها سواء خالطها أم لا والكافر يخلد فيها .
ولما كان هذا توعداً على التكاثر لأنه يقتضي الإعراض عن الآخرة فيوقع في غمرات البلايا الكبار ، أكد فقال مفخماً له بحرف التراخي : { ثم لترونها } وعزة الله ، ورقي العلم عن رتبة الأول فقط فقال تعالى : { عين اليقين * } أي الرؤية التي هي نفس اليقين ، وذلك هو المعاينة بغاية ما يكون من صفاء العلم لكونه لا ريبة فيه فإن المشاهدة أعلى أنواع العلم ، قال الرازي : وهو المغني بالاستدراك عن الاستدلال ، وعن الخبر بالعيان ، وخرق الشهود حجاب - العلم - انتهى . ويجوز أن يكون هذا الثاني بالملامسة والدخول ، فالمؤمن وارد والكافر خالد .
ولما كان من أهول الخطاب التهديد برؤية العذاب ، زاد في التخويف بأنه لأجل أن يكون ما يعذب به العاصي عتيداً ، فإذا أوجب السؤال النكال كان حاضراً لا مانع من إيقاعه في الحال ، ولو لم يكن حاضراً كان لمن استحقه في مدة إحضاره محال ، فقال مفخماً بأداة التراخي : { ثم } أي بعد أمور طويله عظيمة مهولة جداً { لتسئلن } وعزتنا { يومئذ } أي إذ ترون الجحيم { عن النعيم * } أي الذي أداكم التكاثر إليه حتى عن الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء هل كان استمتاعكم به على وجه السرف لإرادة الترف أو كان لإرادة القوة للنشأة إلى الخير فلم يخرج عن السرف ، فالمؤمن المطيع يسأل سؤال تشريف ، والعاصي يسأل سؤال توبيخ وتأفيف ، ولام النعيم قد تكون لمطلق الجنس وإليه يشير حديث أبي هرير رضي الله عنه عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ضاف أبا الهيثم بن التيهان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأطعمهم بسراً ورطباً وسقاهم ماء بارداً وبسط لهم بساطاً في ظل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

« إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه : ظل بارد ورطب طيب وماء بارد » وقد يكون للكمال فيكون من أعلام النبوة كما في حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه عند أحمد من وجه حسن إن شاء الله أنهم قالوا عند نزولها : أي نعيم وإنما هما الأسودان : التمر والماء ، وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر ، قال : « إن ذلك سيكون » له شاهد عند الطبراني عن ابن الزبير رضي الله عنهما ، وعند الطبراني أيضاً عن الحسن البصري مرسلاً ، فقد التحم آخرها بأولها على وجه هو من ألطف الخطاب ، وأدق المسالك في النهي عما يجر إلى العذاب ، لأن العاقل إذا علم أن بين يديه سؤالاً عن كل ما يتلذذ به علم أنه يعوقه ذلك في زمن السؤال عن لذاذات الجنة العوال الغوال ، فكان خوفه من مطلق السؤال مانعاً له عن التنعم بالمباح فكيف بالمكروه فكيف ثم كيف بالمحرم؟ فكيف إذا كان السؤال من ملك تذوب لهيبته الجبال؟ فكيف إذا كان السؤال على وجه العتاب؟ فكيف إذا جر إلى العذاب؟ فتأمل كلام خالقك ما ألطف إشاراته وأجل عباراته ، في نذاراته وبشاراته - والله أرحم .

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

لما كانت لذة هذه الدنيا الظاهرة التنعم بما فيها من المتاع ، وكان الإنسان مسؤولاً بما شهد به ، ختم التكاثر عن ذلك النعيم متوعداً برؤية الجحيم ، فكان ساكن هذه الدار على غاية الخطر ، فكان نعيمه في غاية الكدر ، قال دالاًّ على ذلك بأن أكثر الناس هالك ، مؤكداً بالقسم والأداة لما للأغلب من التكذيب لذلك إما بالمقال أو بالحال : { والعصر * } أي الزمان الذي خلق فيه أصله آدم عليه الصلاة والسلام وهو في عصر يوم الجمعة كما ورد في الحديث الصحيح في مسلم ، أو الصلاة الوسطى أو وقتها الذي هو زمان صاحب هذا الشرع الذي مقداره فيما مضى من الزمان بمقدار وقت العصر من النهار أو بعضه ، أو زمان كل أحد الذي هو الخلاصة بالنسبة إليه تنبيهاً له على نفاسته إشارة إلى اغتنام إنفاقه في الخير إشفاقاً من الحشر ، أو وقت الأصيل لأنه أفضله بما يحويه من الفراغ من الأشغال واستقبال الراحة والحصول على فائدة ما أنفق فيه ذلك النهار ، وبما دل عليه من طول الساعة وربح من كان له فيها بضاعة باختتام الأعمال وتقوض النهار ، والدال على البعث ، أو جميع الدهر الذي أوجد فيه سبحانه وتعالى المخلوقات وقدر فيه المقدورات بما ظهر فيه من العجائب الدالة على ما لله تعالى من العز والعظمة الداعي إلى صرف الهمة إليه وقصرها عليه : { إن الإنسان } أي هذا النوع الذي هو أشرف الأنواع لكونه في أحسن تقويم كما أن العصر خلاصة الزمان ، والعصر يكون لاستخراج خلاصات الأشياء { لفي خسر * } أي نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم وصرف أعصارهم في أغراضهم لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر والإعراض عن الغائب والاغترار بالفاني أعم من أن يكون الخسر قليلاً أو جليلاً بحسب تنوع الناس إلى أكياس وأرجاس ، فمن كان كافراً كان في كفران ، ومن كان مؤمناً عاصياً كان في خسران إن كان بالغاً في المعصية وإلا كان في مطلق الخسر ، وهو مدلول المصدر المجرد ، وفي هذا إشارة إلى العلم بالاحتياج إلى إرسال الرسل لبيان المرضي لله من الاعتقادات والعبادات إيماناً وإسلاماً وإدامة لذلك ليكون فاعله من قبضة اليمين وتاركه من أصحاب الشمال .
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما قال تعالى : { ألهاكم التكاثر } وتضمن ذلك الإشارة إلى قصور نظر الإنسان وحصر إدراكه في العاجل دون الآجل الذي فيه فوزه وفلاحه ، وذلك لبعده عن العلم بموجب الطبع { إنه كان ظلوماً جهولاً } [ الأحزاب : 72 ] أخبر سبحانه أن ذلك شأن الإنسان بما هو إنسان فقال { والعصر إن الإنسان لفي خسر } فالقصور شأنه ، والظلم طبعه ، والجهل جبلته ، فيحق أن يلهيه التكاثر ، ولا يدخل الله عليه روح الإيمان { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } إلى آخرها ، فهؤلاء الذين

{ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } [ النور : 37 ] انتهى .
ولما كان الحكم على الجنس حكماً على الكل لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك ، وكان فيهم من خلصه الله سبحانه وتعالى مما طبع عليه الإنسان بجعله في أحسن تقويم ، وحفظه عن الميل مع ما فيه من النقائص ، استثناهم سبحانه وتعالى لأنهم قليل جداً بالنسبة إلى أهل الخسر فقال دالاًّ بالاستثناء على أن النفوس داعية إلى الشر مخلدة إلى البطالة واللهو ، فالمخلص واحد من ألف كما في الحديث الصحيح { إلا الذين آمنوا } أي أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به من توحيده سبحانه وتعالى والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولعل حكمة التعبير بالماضي الحث على الدخول في الدين ولو على أدنى الدرجات ، والبشارة لمن فعل ذلك بشرطه بالنجاة من الخسر .
ولما كان الإنسان حيواناً ناطقاً ، وكان كمال حيوانيته في القوة العملية للحركة بالإرادة لا بمقتضى الشهوة القاسرة البهيمية قال تعالى : { وعملوا } أي تصديقاً بما أقروا به من الإيمان { الصالحات } أي هذا الجنس ، وهو اتباع الأوامر واجتناب النواهي في العبادات كالصلاة والعادات كالبيع فكانوا بهذا مسلمين بعد أن كانوا مؤمنين فاشتروا الآخرة بالدنيا فلم يلههم التكاثر ، ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية فلم يلقهم شيء من الخسر .
ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر - إلا بتكميل غيره ، وحينئذ يكون وارثاً لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل ، وكان الدين لا يقوم ، وإذا قام لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناشىء عن نور القلب ، ولا يتأتى ذلك إلا بالاجتماع ، قال مخصصاً لما دخل في الأعمال الصالحة تنبيهاً على عظمه : { وتواصوا } أي أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال أو المقال : { بالحق } أي الأمر الثابت ، وهو كل ما حكم الشرع بصحته فلا يصح بوجه نفيه من قول أو عمل أو اعتقاد أو غيره من فعل أو ترك ، فكانوا محسنين ، والتكميل في القوة العملية باجتلاب الخيور .
ولما كان الإنسان ميالاً إلى النقصان ، فكان فاعل ذلك الإحسان معرضاً للشنآن من أهل العدوان ، وهم الأغلب في كل زمان ، قال تعالى : { وتواصوا } لأن الإنسان ينشط بالوعظ وينفعه اللحظ واللفظ { بالصبر } أي الناشىء عن زكاة النفس على العمل بطاعة الله من إحقاق الحق وإبطال الباطل والنفي له والمحق وعلى ما يحصل بسبب ذلك من الأذى باجتناب الشرور إلى الممات الذي هو سبب موصل إلى دار السلام ، فكانوا مكملين للقوة العملية حافظين لما قبلها من العلمية ، وذلك هو حكمة العبادات فإن حكمة الشيء هي الغاية والفائدة المقصودة منه ، وهي هنا أمران : خارج عن العامل وهو الجنة ، وداخل قائم به وهو النور المقرب من الحق سبحانه وتعالى ، واختير التعبير بالوصية إشارة إلى الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستعمال اللين بغاية الجهد ، والصبر هو خلاصة الإنسان وسره وصفاوته وزبدته وعصارته ، الذي لا يوصل إليه إلا بضغط الإنسان لنفسه وقسرها على أفعال الطاعة وقهرها على لزوم السنة والجماعة حتى يصير الصبر لها بالتدريب عادة وصناعة ، فقد عانق آخرها أولها ، وواصل مفصلها موصلها ، وهي أربع عشرة كلمة تشير إلى أن في السنة الرابعة عشرة من النبوة يكون الإذن في الجهاد الذي هو رأس الأمر بالمعروف بالفعل لإظهار الحق وهي سنة الهجرة التي تم فيها بدره ، وعم نوره وقدره ، وجم عزه ونصره ، فإذا ضممت إليها أربع كلمات البسملة كانت موازية في العدد لسنة خمس من الهجرة ، وكان فيها غزوة بدر الموعد وغزوة الأحزاب ، وقد وقع فيهما أتم الصبر من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ممن وافقه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لإظهار الحق والصواب ، فإنهم في بدر خذلوا من ركب عبد القيس أو من نعيم بن مسعود وموافقة المنافقين وخوفوا حتى كاد يعمهم الرعب والفشل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم

« والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد » وأنزل الله فيها { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا } [ آل عمران : 173 ] الآيات ، وفي الأحزاب زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأسفرت عاقبة الصبر فيها عما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذهابهم : « الآن نغزوهم ولا يغزوننا » فإذا ضممت إليها الضمائر الأربعة أشارت إلى سنة تسع ، وقد كانت فيها غزوة تبوك وهي غزوة العسرة لما كان فيها من الشدة التي أسفرت عاقبة الصبر فيها عن إقبال الوفود ، بفخامة العز والجدود وتواتر السعود ، بلطف الرحيم الودود ، وبذلك كان نور الوجود ، وتواتر الفضل والجود من الإله المعبود - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خيار الوجود .

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

لما بين الناجين من قسمي الإنسان في العصر ، وختم بالصبر ، حصل تمام التشوف إلى أوصاف الهالكين ، فقال مبيناً لأضلهم وأشقاهم الذي الصبر على أذاه في غاية الشدة ليكون ما أعد له من العذاب مسلاة للصابر : { ويل } أي هلاك عظيم جداً { لكل همزة } أي الذي صار له الهمز عادة لأنه خلق ثابت في جبلته وكذا { لمزة * } والهمز الكسر كالهزم ، واللمز الطعن - هذا أصلهما ، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم ، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة : الهمزة الذي يشتم الرجل علانية ، ويكسر عينيه عليه ويهمز به ، واللمزة الذي يعيب الناس سراً - انتهى . وقال البغوي : وأصل الهمز الكسر والعض على الشيء بالعنف ، والذي دل على الاعتياد صيغة فعل بضم وفتح كما يقال ضحكة للذي يفعل الضحك كثيراً حتى صار عادة له وضرى به ، والفعلة بالسكون للمفعول وهو الذي يهمزه الناس ويلمزونه ، وقرىء بها وكأنه إشارة إلى من يتعمد أن يأتي بما يهمز به ويلمز به فيصير مسخرة يضحك منه - والله أعلم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال سبحانه وتعالى { إن الإنسان لفي خسر } أتبعه بمثال من ذكر نقصه وقصوره واغتراره ، وظنه الكمال لنفسه حتى يعيب غيره ، واعتماده على ما جمعه من المال ظناً أنه يخلده وينجيه ، وهذا كله هو عين النقص ، الذي هو شأن الإنسان ، وهو المذكور في السورة قبل ، فقال تعالى { ويل لكل همزة لمزة } فافتتحت السورة بذكر ما أعد له من العذاب جزاء له على همزه ولمزه الذي أتم حسده ، والهمزة العياب الطعان واللمزة مثله ، ثم ذكر تعالى ماله ومستقرة بقوله : { لينبذن في الحطمة } أي ليطرحن في النار جزاء له على اغتراره وطعنه - انتهى .
ولما كان الذي يفعل النقيصة من غير حاجة تحوجه إليها أقبح حالاً وكان المتمول عندهم هو الرابح ، وهم يتفاخرون بالربح ويعدون الفائز به من ذوي المعالي ، قال مقيداً ل « كل » بالوصف مبيناً الخاسر كل الخسارة : { الذي جمع } ولما كان مطلق الجمع يدل على الكثرة جاء التشديد في فعله لأبي جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي ، وخلت تصريحاً بما علم تلويحاً ودلالة على أن المقصود به من جعل الدنيا أكبر همه ، والتخفيف لمن عداهم اكتفاء بأصل مدلوله بخلاف عدد ، فإن مجرده يكون لما قل ، ولهذا أجمعوا على التضعيف فيه : { مالاً } أي عظيماً ، وأكد مراد الكثرة بقوله : { وعدده } أي جعله بحيث إذا أريد عدده طال الزمان فيه وكثر التعداد ، أو ادخره وأمسكه إعداداً لما ينوبه في هذه الدنيا المنقضية ، وزاده قيداً آخر في بيان حاله فقال : { يحسب } لقلة عقله { أن ماله } أي ذلك الذي عدده { أخلده * } أي أوصله إلى رتبة الخلد في الدنيا ، فأحب ذلك المال كما يحب الخلود ، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنه عمل - بانهماكه في المعاصي والإعراض عن الله عز وجل والإقبال على التوسع في الشهوات والأعراض الزائلات - عمل من يظن أنه لا يموت ، ويجوز أن يكون استئنافاً ، وفيه تعريض بأنه لا يفيد الخلد إلا الأعمال الصالحة المسعدة في الدار الآخرة .

ولما كان هذا الحسبان لشدة وهيه وبيان ضعفه لا يحتاج إلى إقامة دليل على فساده ، اكتفى فيه بأداة الردع الجامعة لكل زجر فقال : { كلا } أي لا يكون ما حسبه لأنه لا يكون له ما لا يكون لغيره من أمثاله بل يموت كما مات كل حي مخلوق .
ولما كان كأنه قيل : فما الذي يفعل به بعد الموت؟ قال مقسماً دالاًّ باللام الداخلة على الفعل على القسم : { لينبذن } أي ليطرحن بعد موته طرح ما هو خفيف هين جداً على كل طارح كما دل عليه التعبير بالنبذ وبالبناء للمفعول { في الحطمة * } أي الطبقة من النار التي من شأنها أن تحطم أي تكسر وتهشم بشدة وعنف كل ما طرح فيها فيكون أخسر الخاسرين ، وعبر بها في مقابلة الاستعداد بالمال الحامل على الاستهانة بالخلق ، قال الأستاد أبو الحسن الحرالي : فلمعنى ما يختص بالحكم يسمي تعالى باسم من أسمائها من نحو جهنم فيما يكون مواجهة ومن نحو الحطمة فيما يكون جزاء لقوة قهر واستعداد بعدد ، ونحو ذلك في سائر أسمائها ، وعظم شأنها سبحانه وتعالى بقوله : { وما أدراك } أي وأيّ شيء أعلمك ولو بمحاولة منك للعلم واجتهاد في التعرف مع كونك أعلم الخلق { ما الحطمة } أي ما الدركة النارية التي سميت هذا الاسم لهذه الخاصية فإنه ليس في الوجود الذي شاهدتموه ما يقاربها ليكون مثالاً لها ، ثم فسرها بقوله : { نار الله } أي الملك الأعظم الذي عدل المشركون عنه إلى شركائهم ، فعظمة هذه النار من عظمته ، وانتقامه من نقمته { الموقدة * } أي التي وجد وتحتم إيقادها بإيقاده ، ومن الذي يطيق محاولة ما أوقده؟ فهي لا يزال لها هذا الاسم ثابتاً .
ولما وصف الهامز الهازم ، وصف الحاطم فقال تعالى : { التي } ولما كان لا يطلع على أحوال الشيء إلا من قبله علماً قال : { تطلع } اطلاعاً شديداً { على الأفئدة * } جمع فؤاد وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدة ذكائه ، فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص ، واطلاعها عليه بأن تعلو وسطه وتشتمل عليه اشتمالاً بالغاً ، سمي بذلك لشدة توقده ، وخص بالذكر لأنه ألطف ما في البدن وأشده تألماً بأدنى شيء من الأذى ، ولأنه منشأ العقائد الفاسدة ومعدن حب المال الذي هو منشأ الفساد والضلال ، وعنه تصدر الأفعال القبيحة .
ولما كان الاطلاع على الفؤاد مظنة الموت ، وفي الموت راحة من العذاب ، أشار إلى خلودهم فيها وأنهم لا يموتون ولا ينقطع عنهم العذاب ، فقال مؤكداً لأنهم يكذبون بها : { إنها } وأشار إلى قهرهم وغلبتهم فقال : { عليهم } وآذن بسهولة التصرف في تعذيبهم وانقطاع الرجاء من خلاصهم بقوله معبراً باسم المفعول : { مؤصدة * } أي مطبقة بغاية الضيق ، من أوصدت الباب - إذا أطبقته .

ولما كانت عادتهم في المنع من التصرف أن يضعوا خشبة عظيمة تسمى المقطرة فيها حلق توثق فيها الرجل ، فلا يقدر صاحبها بعد ذلك على حراك ، قال مصوراً لعذابهم بحال من ضمير « عليهم » : { في } أي حال كونهم موثقين في { عمد } بفتحتين وبضمتين جمع عمود { ممددة * } أي معترضة كأنها موضوعة على الأرض ، فهي في غاية المكنة فلا يستطيع الموثق بها على نوع حيلة في أمرها فهو تأكيد ليأسهم من الخروج بالإيثاق بعد الإيصاد ، وهذا أعظم الويل وأشد النكال ، فقد رجع آخرها إلى أولها ، وكان لمفصلها أشد التحام بموصلها - والله الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

لما قدم في الهمزة أن كثرة الأموال المسببة بالقوة بالرجال ربما أعقبت الوبال ، دل عليه في هذه بدليل شهودي وصل في تحريقه وتغلغله في الأجسام وتجريفه إلى القلوب في العذاب الأدنى كما ذكر فيما قبلها للعذاب الأكبر الأخفى ، محذراً من الوجاهة في الدنيا وعلو الرتبة ، مشيراً إلى أنها كلما عظمت زاد ضررها بما يكسبه من الطغيان حتى ينازع صاحبها الملك الأعلى ، ومع كونه شهودياً فللعرب ولا سيما قريش به الخبرة التامة ، فقال مقرراً منكراً على من يخطر له خلاف ذلك : { ألم تر } أي تعلم علماً هو في تحققه كالحاضر المحسوس بالبصر ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد تلك الوقعة فإنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر مع إعلام الله له أخبارها ، وخصه صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأن ذلك لا يعلمه ويعمل به إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن وفقه الله الحسن اتباعه ، لما للإنسان من علائق النقصان ، وعلائق الحظوظ والنسيان ، وقرىء « تر » باسكان الراء ، قالوا جداً في إظهار أثر الجازم ، وكان السر في هذه القراءة الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر ، من لم يعتن به ويسارع إلى تعمده لا يدركه حق إدراكه .
ولما كان للناظر في الكيفية من التدقيق والوقوف على التحقيق في وجوه الدلالات على كمال علم الله وقدرته وإعزاز نبيه بالإرهاص لنبوته والتمكين لرسالته لتعظيم بلده وتشريف قومه ما ليس للناظر إلى مطلق الفعل قال : { كيف } دون أن يقول : ما { فعل } أي فعل من له أتم داعية إلى ذلك الفعل ، وفعل الرؤية معلق عن « كيف » لما فيه من معنى الاستفهام فلا يتقدم عامله عليه ، بل ناصبه فعل ، وجملة الاستفهام في موضع نصب بالفعل المعلق { ربك * } أي المحسن إليك ومن إحسانه إحسانه إلى قومك بك وبهذه الواقعة الخارقة للعادة إرهاصاً لنبوتك كما - هو معلوم من أخبار الأنبياء المتقدمين فيما يقع بين أيدي نبواتهم من مثل ذلك ليكون مؤيداً لادعائهم النبوة بعد ذلك ، وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالخطاب والتعبير بالرب مع التشريف له والإشارة بذكره التعريض بحقارة الأصنام التي سموها أرباباً لهم ، يعلم ذلك منهم علم اليقين من آمن ، ومن استمر على كفره فسيعلم ذلك حق اليقين عندما يسلط الله عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالبلد الحرام ، ويحلها له على أعلى حال ومرام { بأصحاب الفيل * } أي الذين قصدوا انتهاك حرمات الله سبحانه وتعالى فيخربوا بيته ويمزقوا جيرانه بما أوصلهم إلى البطر من الأموال والقوة التي منّ عليهم سبحانه وتعالى بها ، فحسبوا أنها تخلدهم فبان أنها توردهم المهالك ضد ما حسبوه ، وهم الحبشة الذين كانوا غلبوا على بلاد اليمن ، بنى أميرهم وهو أبو يكسوم أبرهة بن الصباح الأشرم بيعة بصنعاء وسماها القليس وزن قبيط ، وأراد أن يصرف إليها - فيما زعم - حج العرب ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً - يعني تغوط ولطخها به ، فأغضب ذلك الأشرم فسأل فقيل له : نرى الفاعل من أهل البيت الذي بمكة - فحلف : ليهدمنَّ الكعبة ، ومن عجائب صنع الله أنه ألهمه سبحانه وتعالى تسميتها هذا الاسم الذي هو مشتق من القلس الذي أحد معانيه أنه ماء خرج من الحلق ملء الفم ، فهو مبدأ القيء الذي هو أخو الغائط الذي آل أمرها إليه ، فكان سبب هلاكها بهلاك بانيها ، وذلك أنه غضب من ذلك فخرج بجيشه لهدم بيت الله الكعبة ومعه أفيال كثيرة منها فيل عظيم اسمه محمود ، فقاتله بعض العرب فهزمهم وقتل منهم ، فلما دوّخهم دانوا له ، فلما وصل إلى المغمس خرج إليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، فعرض عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ، وقيل : بل كانت طلائعه أخذت له مائتي بعير فطلبها منه فقال : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، فزهدت فيك حين تكلمني في مائتي بعير ، وتترك كلامي في بيت هو دينكم وفي عزكم؟ فقال : أنت وذاك ، فرد عليه إبله فساقها ومضى ، وأمر قريشاً أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في الجبال ، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :

يا رب لا أرجو لهم سواكا ... فامنعهم أن يقربوا قراكا
- وقال :
لا هم إن المرء يم ... نع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدواً محالك
جروا جميع تلادهم ... في الفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلاً وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك
ثم ترك الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه فلما أصبح أبرهة تهيأ للدخول إلى الحرم وعبأ جيشه وقدم الفيل فبرك فعالجوه فلم تفد فيه حيلة ، فوجهوه إلى غير الحرم فقام يهرول فوجهوه إلى الحرم فبرك ، وكان هذا دأبه في ذلك اليوم فبينما هم كذلك إذا أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل ، كل طائر منها في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، الحجر منها أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ، فرمتهم بها ، فكان الحجر منها يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعاً ، وأهل مكة ومن حضر من العرب في رؤوس الجبال - ينظرون إلى صنع الله تعالى بهم وإحسانه إليهم - أي أهل مكة - وكان ذلك إرهاصاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك كان عام مولده ، وقال حمزة الكرماني : وفي رواية : يوم مولده ، وكأنه كان سبباً لضعفهم حتى ذهب سيف بن ذي يزن إلى كسرى وأتى منه بجيش فاستأصل بقيتهم - كما هو مشهور في السير ، ومأثور في الخبر ، ووفدت قريش لتهنئته بالنصرة عليهم ، وكان رئيسهم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبشره سيف بأنه يولد له ولد اسمه محمد فأعلمه بأن ولد وأن أباه توفي ، فأخبره سيف بأنه النبي المبعوث في آخر الزمان ، وأن يثرب مهاجره ، وأنه لو علم أنه يعيش إلى زمن بعثته لأتى يثرب وجعلها قراره حتى ينصر النبي صلى الله عليه وسلم بها - ويظهر نبوته .

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده وما أعقبه ذلك ، أتبع هذا أصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم ، وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم حتى هموا بهدم البيت المكرم ، فتعجلوا النقمة ، وجعل الله كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، أي جماعات متفرقة ، ترميهم بحجارة من سجيل حتى استأصلتهم وقطعت دابرهم فجعلهم كعصف مأكول ، وأثمر لهم ذلك اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم - انتهى .
ولما قرره بالكيفية تنبيهاً على ما فيها من وجوه الدلالة على مقدمات الرسالة ، أشار إلى تلك الوجوه مقدماً عليها تقريراً آخر جامعاً لقصتهم ومعلماً بغصتهم فقال : { ألم يجعل } أي بما له من الإحسان إلى العرب لا سيما قريش { كيدهم } أي في تعطيل الكعبة بتخريبها وبصرف الحج إلى كنيستهم على زعمهم وقد كان كيدهم عظيماً غلبوا به من ناوأهم من العرب { في تضليل * } أي مظروفاً لتضييع عما قصدوا له من نسخ الحج إلى الكعبة أولاً ومن هدمها ثانياً وإبطال وبعد عن السداد وإهمال بحيث صار بكونه مظروفاً لذلك معموراً به لا مخلص له منه ، وهذا مشير إلى أن كل من تعرض لشيء من حرمات الله كبيت من بيوته أو ولي من أوليائه أو عالم من علماء الدين وإن كان مقصراً نوع تقصير وقع في مكره ، وعاد عليه وبال شره « من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب » وإلى أن من جاهر بالمعصية أسرع إليه الهلاك بخلاف من تستر ، وإلى أن الله تعالى يأتي من يريد عذابه من حيث لا يحتسب ليدوم الحذر منه ولا يؤمن مكره ولو كان الخصم أقل عباده ، لم يخطر للحبشة ما وقع لهم أصلاً ولا خطر لأحد سواهم أن طيوراً تقتل جيشاً دوّخ الأبطال ودانت له غلب الرجال ، يقوده ملك جبار كتيبته في السهل تمشي ورجله على القاذفات في رؤوس المناقب .
ولما كان التقدير : فمنعهم من الدخول إلى حرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام فضلاً عن الوصول إلى بلده الرسول صلى الله عليه وسلم ، عطف عليه أو على « يجعل » معبراً بالماضي لأنه بمعناه وهو أصرح والتعبير به أقعد قوله؛ { وأرسل } وبين أنه إرسال عذاب بقوله : { عليهم } أي خاصة من بين من كان هناك من كفار العرب ، وأشار إلى تحقيرهم وتخسيسهم عن أن يعذبهم بشيء عظيم لكونهم عظموا أنفسهم وتجبروا على خالقهم بالقصد القبيح لبيته فقال تعالى معلماً بأنه سلط عليهم ما لا يقتل مثله في العادة : { طيراً } وهو اسم جمع يذكر على اللفظ ، ويؤنث على المعنى ، وقد يقع على الواحد ، ولذلك قال مبيناً الكثرة { أبابيل * } أي جماعات كثيرة جداً متفرقة يتبع بعضها بعضاً من نواحي شتى فوجاً فوجاً وزمرة زمرة ، أمام كل فرقة منها طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق ، قال أبو عبيدة : يقال : جاءت الخيل أبابيل من هاهنا وهاهنا ، وهو جمع إبالة بالكسر والتشديد وهي الحزمة الكبيرة - شبهت بها الجماعة من الطير في تضامّها ، وفي أمثالهم : ضغث على إبالة ، أي بلية على أخرى .

ولما تشوف السامع إلى فعل الطير بهم ، قال مستأنفاً : { ترميهم } أي الطير { بحجارة } أي عظيمة في الكثرة والفعل ، صغيرة في المقدار والحجم ، كان كل واحد - منها في نحو مقدار العدسة ، في منقار كل طائر منها واحد وفي كل رجل واحد .
ولما كان الشيء إذا كان مصنوعاً للعذاب كان أشد فعلاً فيه قال : { من سجيل * } أي طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو كما بين في سورة هود عليه الصلاة والسلام ، قال حمزة الكرماني : قال أبو صالح : رأيت تلك الحجارة مخططة بالحمرة . ولما تسبب عن هذا المرمى هلاكهم ، وكان ذلك بفعل الله سبحانه وتعالى القادر على ما أراد لأنه الذي خلق الأثر قطعاً لأن مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك ، قال : { فجعلهم } أي ربك المحسن إليك بإحسانه إلى قومك لأجلك بذلك { كعصف مأكول * } أي ورق زرع وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود ويجوفه لأن الحجر كان يأتي في الرأس فيخرق بما له من الحرارة وشدة الوقع كل ما مر به حتى يخرج من الدبر ويصير موضع تجويفه أسود لما له من النارية ، أو أكل حبة فبقي صفراً منه أو كتبن أكلته الدواب وراثته ، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن كقوله تعالى : { كانا يأكلان الطعام } [ المائدة : 75 ] وهذا الإهلاك في إعجابه هو من معاني الاستفهام التقريري في أولها ، فقد تعانق طرفاها ، والتف أخراها بأولاها - والله أعلم بمراده .

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

لما كان ما فعله سبحانه - من منع هذا الجيش العظيم - الذي من قوته طاعة أكبر ما خلق الله من الحيوان البري فيما نعلمه له - من دخول الحرم الذي هو مظهر قدرته ومحل عظمته الباهرة وعزته والمذكر بخليله عليه الصلاة والسلام وما كان من الوفاء بعظيم خلته - كرامة لقريش عظيمة ظاهره عاجلة حماية لهم عن أن تستباح ديارهم وتسبى ذراريهم لكونهم أولاد خليله وخدام بيته وقطان حرمه ومتعززين به ومنقطعين إليه ، وعن أن يخرب موطن عزهم ومحل أمنهم وعيشهم وحرزهم ، ذكرهم سبحانه وتعالى ما فيه من النعمة الآجلة إكراماً ثانياً بالنظر في العاقبة ، فقال مشيراً إلى أن من تعاظم عليه قصمه ، ومن ذل له وخدمه أكرمه وعظمه : { لإيلاف قريش * } أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك وهو إيقاعهم الإيلاف وهو ألفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم ، وذلك ملزوم لألفهم أولاً في أنفسهم ، فإذا كان لهم الألف بحرمهم بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه ، وكان لهم الألف بينهم ، فكان بعضهم يألف بعضاً ، قوي أمرهم فألفوا غيرهم أي جعلوه يألف ما ألفوه إياه أي سنوه له وأمروه به ، أو يكون اللام متعلقاً بفعل العبادة بدلالة { فليعبدوا } أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من ألفهم وإيلافهم ، وعلى التقديرين الألف علة للعبادة أو لما يوجب الشكر بالعبادة ، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى وأنه إذا أراد شيئاً يسر سبببه لأن التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز ، ويرفع من يشاء وإن ذل ، ليثمر اعتقاد ذلك حبه والانقطاع لعبادته والاعتماد عليه في كل نفع ودفع ، وقريش ولد النضر ابن كنانة واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب ، وقال البغوي : وقال أبو ريحانة : سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهما : لم سموا بهذا؟ فقال : لدابة تكون في البحر هي أعظم دوابه ، يقال لها القرش ، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى ، قال : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم ، وأنشد للجمحي :
وقريش هي التي تسكن البحر بها ... سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجة البحر على ... سائر الجيوش جيوشا
وقال الزمخشري : هي دابة عظيمة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار ، والتصغير للتعظيم - انتهى . وقيل : سموا بذلك لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم ، فإن القرش - كما تقدم - الجمع ، وكان المجمع لهم قصياً ، والقرش أيضاً الشديد ، وقيل : هو من تقرش الرجل - إذا تنزه عن مدانيس الأمور ، ومن تقارشت الرماح في الحرب - إذا دخل بعضها في بعض .

والمادة كلها للشدة والاختلاط ، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم . وكما أجرى سبحانه وتعلى مدحهم على الألسنة جعلهم موضعاً للمدح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم » وقال صلى الله عليه وسلم : « الأئمة من قريش » قال العلماء : وذلك أن طيب العنصر يؤدي إلى محاسن الأخلاق ، ومحاسن الأخلاق تؤدي إلى صفاء القلب ، وصفاء القلب عون على إدراك العلوم ، وبإدراك العلوم تنال الدرجات العلا في الدنيا والآخرة ، وصرف الاسم هنا على معنى الحي ليكون الاسم بمادته دالاًّ على الجمع ، وبصرفه دالاًّ على الحياة إشارة إلى كمال حياتهم ظاهراً وباطناً ، قال سيبويه في معد وقريش وثقيف : صرف هذه الأحياء أكثر ، وإن جعلتها اسماً للقبائل - يعني فمنعتها - فجائز حسن ، والذي يدل على تعلق اللام بفعل دلت عليه الفيل أن السورتين في مصحف أبيّ رضي الله عنه سورة واحدة من غير فصل ، وأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة رويا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : صلى بنا عمر رضي الله عنه المغرب فقرأ في الأولى بالتين والزيتون ، وفي الثانية ألم تر كيف ولئيلاف قريش .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لاخفاء في اتصالهما أي أنه سبحانه وتعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ومنعهم عن بيته وحرمه لانتظام شمل قريش ، وهم سكان الحرم وقطان بيت الله الحرام ، وليؤلفهم بهاتين الرحلتين فيقيموا بمكة وتأمن ساحتهم - انتهى .
ولما علل بالإيلاف وكان لازماً ومتعدياً ، تقول : آلفت المكان أولفه إيلافاً فأنا مؤلف وآلفت فلاناً هذا الشيء أي جعلته آلفاً له ، وكان الإتيان بالشيء محتملاً لشيئين ثم إبدال أحدهما منه أضخم لشأنه وأعلى لأمره ، أبدل منه قوله : { إلافهم } أي إيلافنا إياهم { رحلة الشتاء * } التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن لأنها بلاد حارة ينالون بها متاجر الجنوب { والصيف * } التي يرحلونها إلى الشام في زمنه لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله والناس يتخطفون من حولهم ، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم ، والرحلة بالكسر هيئة الرحيل ، وقرىء بالضم وهي الجهة التي يرحل إليها ، وكانوا معذورين لذلك لأن بلدهم لا زرع به ولا ضرع ، فكانوا إذا ضربوا في الأرض قالوا : نحن سكان حرم الله وولاة بيته ، فلا يعرض أحد بسوء ، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف ، وكان يقسم ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، وفي ذلك يقول الشاعر :

قل للذي طلب السماحة والندى ... هلا مررت بآل عبد مناف
الرائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلم للإضياف
والخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يكون فقيرهم كالكاف
القائلين بكل وعد صادق ... والراحلين برحلة الإيلاف
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
سفرين سنّهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وتبع هاشماً على ذلك إخوته ، فكان هاشم يؤلف إلى الشام وعبد شمس إلى الحبشة ، والمطلب إلى اليمن ، ونوفل إلى فارس ، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هذه الإخوة - أي عهودهم - التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي ، وأفرد الرحلة في موضع التثنية لتشمل كل رحلة - كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس ، إشارة لهم بالبشارة بأنهم يتمكنون عن قريب من الرحلة إلى أي بلد أرادوا لشمول الأمن لهم وبهم جميع الأرض بما نشره الله سبحانه وتعالى من الخير في قلوب عباده في سائر الأرض بواسطة هذا النبي الكريم الذي هو أشرفهم وأعظمهم وأجلهم وأكرمهم .
ولما كان هذا التدبير لهم من الله كافياً لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن ، وكان شكر المنعم واجباً ، فإذا أنعم بما يفرغ المنعم عليه للشكر كان وجوبه عليه أعظم ، سبب عن الإنعام عليهم بذلك قوله : { فليعبدوا } أي قريش على سبيل الوجوب شكراً على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران { رب هذا البيت * } أي الموجد له والمحسن إلى أهله بتربيتهم به وبحفظه من كل طاغ ، وتأثيره لأجل حرمته في كل باغ ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة وجعل ما داموا عابدين له موصولاً بعز الآخرة ، فتتم النعمة وتكمل الرحمة ، والمراد به الكعبة ، عبر عنها بالإشارة تعظيماً إشارة إلى أن ما تقدم في السورة الماضية من المدافعة عنهم معروف أنه بسببه لا يحتاج إلى تصريح ، وأن ذلك جعله متصوراً في كل ذهن حاضراً مشاهداً لكل مخاطب ، وفي هذا التلويح من التعظيم ما ليس للتصريح ، ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت فقال تعالى : { الذي أطعمهم } أي قريشاً بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين آمنين من أن يهاجوا ، وبإهلاك الذين أرادوا إخراب البيت الذي به نظامهم ، إطعاماً مبتدئاً { من جوع * } أي عظيم فيه غيرهم من العرب ، أو كانوا هم فيه قبل ذلك لأن بلدهم مهيأ لذلك لأنه ليس بذي زرع ، فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع ، فكفاهم ذلك وحده ولم يشركه أحد في كفايتهم ، فليس من الشكر إشراكهم في عبادته ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي دعا لهم بالرزق ونهى أشد النهي عن عبادة الأصنام ، ولم يقل : أشبعهم لأنه ليس كلهم كان يشبع ، ولأن من كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده

« ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب » .
ولما ذكر السبب في إقامة الظاهر ، ذكر السبب في إقامة العيش بنعمة الباطن فقال : { وآمنهم } أي تخصيصاً لهم { من خوف * } أي شديد جداً من أصحاب الفيل ومما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات وبالأمن من الجذام بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومن الطاعون والدجال بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن ذلك تسبب الاتحاف بما خصهم به من الإيلاف ، فعلم أن آخرها علة لأولها ، ويجوز أن يكون إلفهم للبلد وقع أولاً فحماه الله لهم مما ذكر ، فيكون ذلك مسبباً عن الإلف فيكون أولها علة لآخرها ، فقد التقى الطرفان ، والتأم البحران المغترفان ، وكما التقى آخر كل سورة مع أولها فكذلك التقى آخر القرآن العظيم بأوله بالنسبة إلى تسع سور هذه أولها إذا عددت من الآخر إليها ، فإن حاصلها المن على قريش بالإعانة على المتجر إيلافاً لهم بالرحلة فيه والضرب في الأرض بسببه واختصاصهم بالأمر بعبادة الذي منّ عليهم بالبيت الحرام وجلب لهم به الأرزاق والأمان ، ومن أعظم مقاصد التوبة - المناظرة لهذه بكونها التاسعة من الأول - البراءة من كل مارق ، وأن فعل ذلك يكون سبباً للألفة بعد ما ظن أنه سبب الفرقة ، وذكر مناقب البيت ومن يصلح لخدمته ، والفوز بأمانه ونعمته ، والبشارة بالغنى على وجه أعظم من تحصيله بالمتجر وأبهى وأبهر ، وأوفى وأوفر ، وأزهى وأزهر ، وأجل وأفخر ، بقوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم } الآيات ، [ التوبة : 17 ] وقوله تعالى : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } [ التوبة : 28 ] فعلم بهذا علماً جلياً أنه شرع سبحانه في رد المقطع على المطلع من سورة قريش الذين أكرمهم الله بإنزال القرآن بلسانهم وأرسل به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كما أكرمهم ببناء البيت في شأنهم ، وتعظيمه لغناهم وأمانهم ، ومن أعظم المناسبات في ذلك كون أول السورة التي أخذ فيها في رد المقطع على المطلع شديد المشابهة للسورة المناظرة لها حتى أن في كل منهما مع التي قبلها كالسورة الواحدة فإن براءة مع الأنفال كذلك حتى قال عثمان رضي الله تعالى عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبين أمرها ، فلم يتحرر له أنها مستقلة عنها ، ولذلك لم يكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، وكانت هذه التي من الآخر مقطوعاً بأنها مستقلة مع ما ورد من كونها مع التي قبلها سورة واحدة في مصحف أبيّ رضي الله تعالى عنه ، وقراءة عمر رضي الله عنه لهما على وجه يشعر بذلك كما مضى إشارة إلى أن الآخر يكون أوضح من الأول ، ومن أغرب ذلك أن السورتين اللتين قبل سورتي المناظرة بين أمريهما طباق ، فالأولى في الآخر وهي الفيل أكرم الله فيها قريشاً بإهلاك أهل الإنجيل ، والأولى في الأول وهي الأنفال أكرمهم الله فيها بنصر أهل القرآن عليهم بإهلاك جبابرتهم ، فكان ذلك سبباً لكسر شوكتهم وسقوط نخوتهم المفضي إلى سعادتهم ، وعلم أن البراءة وغيرها إنما عمل لإكرامهم لأنهم المقصودون بالذات وبالقصد الأول بالإرسال والناس لهم تبع كما أن جميع الرسل تبع للرسول الفاتح الخاتم الذي شرفوا بإرساله إليه صلى الله عليه وسلم ، وكان عدد التسع مشيراً إلى أن قريشاً أهل لأن يتصلوا بعروج الأسرار في الملكوت إلى الفلك التاسع ، وهو العرش الذي هو مقلوب الشرع ، فهم يصعدون بأسرار الشرع - التي من أعظمها الصلاة - من الأسفل إلى الأعلى من الطرفين معاً كما أنه يتنزل عليهم بالبركات من الجانبين ، وإذا ضممت التسع الأولى إلى الأخرى كانت ثمان عشرة ، فكانت مشيرة إلى ركعات الصلوات مضموماً إليها الوتر ، وإلى ظهور الدين ظهوراً كاملاً على غالب أقطار الأرض كما كان في سنة ثمان وعشرين ، وهي الثامنة عشر من موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك في أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه فإنه كان فيها قد تمزق ملك كسرى وضعف جداً ، وكذا ملك الروم مع ما كان من زوال أمر القبط بالكلية ، ومن بديع الإشارات أيضاً أنك إذا نظرت إلى نزول براءة وجدته سنة تسع من الهجرة في غزوة تبوك وعقب الرجوع منها ، فكان كونها تاسعة ونزولها في السنة التاسعة مشيراً إلى كون الدين يظهر على كل مخالف بعد تسع سنين ، وهي السنة الثامنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم في وسط خلافة الفاروق حين ظهر المسلمون على الفرس والروم ، فقتلوا رجالهم ، وانتثلوا أموالهم ، كما كان قد ظهر عند نزولها على عباد الأوثان من العرب ، ومن الغريب أن قصة الفيل كانت سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي قبل النبوة بأربعين سنة بعدد كلمات السورتين : الفيل وقريش ، فإن الفيل ثلاث وعشرون وقريش سبع عشرة ، وذلك - والله أعلم - إشارة إلى أن ابتداء الأمن - بإهلاكهم والإشباع بنهب ما كان معهم من أموالهم ومتاعهم - كان لمولده صلى الله عليه وسلم وتشريف الوجود بوجوده ، ويكون ذلك ظاهراً كما كان السبب - الذي هو وجوده صلى الله عليه وسلم - ظاهراً ، وإلى أن وسطه يكون بنبوته صلى الله عليه وسلم ، ويكون ذلك باطناً كما أن السبب - وهو الوحي باطن ، ثم كان أمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السنة الثامنة الموازية لعدد كلمات البسملتين على يد النجاشي ملك الحبشة الذين كان الأمن أولاً بإهلاكهم ، وإذا ضممت إليها أحد عشر ضميراً - سبعة في الفيل وأربعة في قريش - كانت تسعاً وخمسين توازيها إذا حسبت من المولد سنة ست من الهجرة ، وفيها كانت عمرة الحديبية وهي الفتح السببي الخفي ، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في بروك ناقته الشريفة حين بركت فقالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : خلأت القصوى - أي حرنت :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41