كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)

ولما كان إسماعيل عليه السلام قد رفع بالسكنى حياً إلى أعلى مكان في الأرض رتبة ، وكان أول نبي رمى بالسهام ، وكان إدريس عليه السلام - مع رفعته إلى المكان العلي - أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار ، وأول من نظر في علم النجوم والحساب ، وخط بالقلم ، وخاط الثياب ولبس الجبة وكان أغربهم قصة ، وأعجبهم أمراً ، وأقدمهم زمناً ، ختم به هذه القصص تأييداً لهذا النبي الكريم ، بما بين له من القصص التي هي أغرب مما أمر اليهود بالتعنت فيه ، وإشارة إلى أن الله تعالى يؤتي أتباعه من علوم إدريس الأرضية والسماوية مما يستحق أن يحفظ بالخط ويودع بطون الكتب لضيق الصدور عن حفظه ما لم يؤته أمة من الأمم ، وأنه يجمع شملهم ، وترهيباً للمتعنتين بأنهم إن لم ينتهوا وضع فيهم السلاح كما فعل إدريس عليه السلام بكفار زمانه فقال : { واذكر في الكتاب } أي الجامع لكل ما يحتاج إليه من القصص المتقدمين والمتأخرين { إدريس } أي الذي هو أبعد ممن تعنت بهم اليهود زماناً ، وأخفى منهم شأناً ، وهو جد أبي نوح عليه السلام واسمه حنوخ بمهملة ونون وآخره معجمة { إنه كان صديقاً } أي صادقاً في أقواله وأفعاله ، ومصدقاً بما أتاه عن الله من آياته على ألسنة الملائكة { نبياً * } ينبئه الله تعالى بما يوحيه إليه من الأمر العظيم ، رفعة لقدره ، فينبىء به الناس الذين أرسل إليهم { ورفعناه } جزاء منا له على تقواه وإحسانه ، رفعة تليق بعظمتنا ، فأحللناه { مكاناً علياً * } أي الجنة أو السماء الرابعة ، وهي التي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بها ليلة الإسراء؛ قال ابن قتيبة في المعارف : وفي التوراة أن أخنوخ أحسن قدام الله فرفعه إليه - انتهى . وفي نسخة ترجمه التوراة وهي قديمة جداً وقابلتها مع بعض فضلاء الربانيين من اليهود وعلى ترجمة سعيد الفيومي بالمعنى وكان هو القارىء ما نصه : وكانت جميع حياة حنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة ، فأرضى حنوخ الله ففقد لأن الله غيبه ، وفي نسخة أخرى : لأن الله قبله ، وفي أخرى : لأن الله أخذه . وهو قريب مما قال ابن قتيبة ، لأن أصل الكلام عبراني ، وإنما نقله إلى العربي المترجمون ، فكل ترجم على قدر فهمه من ذلك اللسان ، ويؤيد أن المراد الجنة ما في مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي عن معجمي الطبراني - الأوسط والأصغر إن لم يكن موضوعاً : حدثنا محمد بن واسط ثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي ثنا حجاج بن محمد بن أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد ابن أسلم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

« إن إدريس عليه السلام كان صديقاً لملك الموت فسأله أن يريه الجنة والنار ، فصعد بإدريس فأراه النار ففزع منها ، وكاد يغشى عليه فالتف عليه ملك الموت بجناحه ، فقال ملك الموت : أليس قد رأيتها؟ قال : بلى! ولم أر كاليوم قط ، ثم انطلق به حتى أراه الجنة فدخلها فقال له ملك الموت : انطلق! قد رأيتها ، قال : إلى أين؟ قال ملك الموت : حيث كنت ، قال إدريس : لا والله! لا أخرج منها بعد إذ دخلتها ، فقيل لملك الموت : أليس أنت أدخلته إياها وأنه ليس لأحد دخلها أن يخرج منها » .
وقال : لا يروى عن أم سلمة إلا بهذا الإسناد ، وقال الحافظ نور الدين : إبراهيم المصيصي متروك . قلت وفي لسان الميزان لتلميذه شيخنا حافظ العصر ابن حجر عن الذهبي أنه كذاب ، وعن ابن حبان أنه كان يسوي الحديث ، أي يدلس تدليس التسوية . وفي تفسير البغوي عن وهب قريب من هذا ، وفيه أنه سأل ملك الموت أن يقبض روحه ويردها إليه بعد ساعة ، فأوحى الله إليه أن يفعل ، وفيه أنه احتج في امتناعه من الخروج بأن كل نفس ذائقة الموت وقد ذاقه ، وأنه لا بد من ورود النار وقد وردها ، وأنه ليس أحد يخرج من الجنة ، فأوحى الله إلى ملك الموت : بإذني دخل الجنة - يعني : فخلِّ سبيله - فهو حي هناك . وفي تفسير البغوي أيضاً عن كعب وغيره أن إدريس عليه السلام مشى ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال : يا رب! فكيف بمن يحملها؟ اللهم! خفف عنه من ثقلها ، فخفف عنه فسأل ربه عن السبب فأخبره فسأل أن يكون بينهما خلة ، فأتاه فسأله إدريس عليه السلام أن يسأل ملك الموت أن يؤخر أجله ، فقال : لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها ، وأنا مكلمه ، فرفع إدريس عليه السلام فوضعه عند مطلع الشمس ، ثم أتى ملك الموت وكلمه فقال : ليس ذلك إليّ ، ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيتقدم في نفسه ، قال : نعم! فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً ، قال : وكيف ذلك؟ قال : لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس ، قال : فإني أتيتك وتركته هناك ، قال : انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات ، فوالله ما بقي من أجل إدريس - عليه السلام - شيء ، فرجع الملك فوجده ميتاً . ومن جيد المناسبات أن إسماعيل وإدرس عليهما الصلاة والسلام اشتركا في البيان بالعلم واللسان ، فإسماعيل عليه السلام أول من أجاد البيان باللسان ، وإدريس عليه السلام أول من أعرب الخطاب بالكتاب ، فقد روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أول من فتق لسانه بهذه العربية إسماعيل عليه السلام »

ولأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام » .
ولما انقضى كشف هذه الأخبار ، العلية المقدار ، الجليلة الأسرار ، شرع سبحانه ينسب أهلها بأشرف نسبهم ، ويذكر أمتن سببهم هزاً لمن وافقهم في النسب إلى الموافقة في السبب فقال : { أولئك } أي العالو الرتب ، الشرفاء النسب { الذين أنعم الله } بما له من صفات الكمال التي بها أقام آدم عليه السلام وهم في ظهره ، مع ما طبعه عليه من الأمور المتضادة حتى نجاه من مكر إبليس ، ونجى بها نوحاً عليه السلام وهم في صلبه من ذلك الكرب العظيم ، وإبراهيم عليه السلام وهم في قواه مع اضطرام النار وإطفاء السن وإصلاد العظم ، وأعلى بها إسرائيل عليه السلام وبنيه في سوط الفراق وامتهان العبودية وانتهاك الاتهام حتى كان أبناؤه معدن الملوك والأنبياء ، ومحل الأتقياء والأصفياء ، إلى غير ذلك من جليل الأنبياء وعظيم الأصطفاء والاجتباء { عليهم } بما خصهم به من مزيد القرب إليه ، وعظيم المنزلة لديه؛ وبين الموصول بقوله : { من النبيين } أي المصطفين للنبوة الذين أبنأهم الله بدقائق الحكم ، ورفع محالهم بين الأمم ، وأنبؤوا الناس بجلائل الكلم ، وأمروهم بطاهر الشيم .
ولما كانوا بعض بني آدم الذين تقدم أنا كرمناهم ، قال إشارة إلى ما في ذلك من النعمة عليهم وهم يرونها : { من ذرية ءادم } صفينا أبي البشر الذي خلقه الله من التراب بيده ، وأسجد له ملائكته ، وإدريس أحقهم بذلك .
ولما كان في إنجاء نوح عليه السلام وإغراق قومه من القدرة الباهرة ما لا يخفى ، نبه عليه بنون العظمة في قوله مشيراً إلى أعظم النعمة عليهم بالتبعيض ، وإلى أن نبيهم من ذريته كما كان هو من ذرية إدريس عليه السلام الذي هو من ذرية آدم ، فكما كان كل منهم رسولاً فكذلك هو وإبراهيم أقربهم إلى ذلك : { وممن حملنا مع نوح } صفينا أول رسول أرسلناه بعد افتراق أهل الأرض وإشراكهم ، من خلص العباد ، وأهل الرشاد ، وجعلناه شكوراً ، وإبراهيم أقربهم إلى ذلك { ومن ذرية إبراهيم } خليلنا الذي كان له في إعدام الأنداد ما اشتهر به من فضله بين العباد ، وإسماعيل وإسحاق أولاهم بذلك ، ثم يعقوب { وإسراءيل } صفينا ، وهم الباقون : موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم بنت داود - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام - فكما كان هؤلاء رسلاً وهم من ذرية إبراهيم الذي هو من ذرية نوح فكذا نبيكم الذي هو من ذرية إسماعيل الذي هو من إبراهيم لصلبه وهو أول أولاده كما كان إسرائيل من ذريته ، فالإرسال من ذرية من هو ابنه لصلبه أولى من الإرسال من ذرية من بينه وبينه واسطة ، وإلا كان بنو إسرائيل أشرف منكم وأبوهم أشرف من أبيكم ، فلا تردوا الكرامة ، يا من يتنافسون في المفاخرة والزعامة { وممن هدينا } إلى أقوم الطرق { واجتبينا } أي فعلنا بهم فعل من يتخير الشيء وينتقيه بأن أسبغنا عليهم من النعم ما يجل عن الوصف؛ وعطف الأوصاف بالواو إشارة إلى التمكن فيها .

ولما ذكر ما حباهم به ، ذكر ما تسبب عن ذلك فقال مستأنفاً { إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن } العام النعمة ، فكيف بهم إذا أعلاهم جلال أو خصتهم رحمة من جلائل النعم ، من فيض الجود والكرم ، فسمعوا خصوص هذا القرآن { خروا سجداً } للمنعم عليهم تقرباً إليه ، لما لهم من البصائر المنيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم { وبكياً * } خوفاً منه وشوقاً إليه ، فوصفهم بسرعة الخشوع من ذكر الله الناشىء عن دوام الخضوع والناشىء عنه الإسراع بالسجود في حالة البكاء ، وجعلهما حالتين بالعطف بالواو لعراقة المتحلي بهما في كل منهما عل انفراده ، وعبر بالاسم في كل من السجود والبكاء ، إشارة إلى أن خوفهم دائم كما أن خضوعهم دائم لعظمة الكبير الجليل ، لأن تلك الحضرة لا تغيب عنهم أصلاً ، وإن حصل غير البكاء فللتأنيس لمن أرسلوا إليه ليوصلوه إلى قريب من رتبتهم بحسن عشرتهم على تفاوت المراتب ، وتباين المطالب ، وحذف ذكر الأذقان لدلالتها - كما تقدم في سبحان - على نوع دهشة ، فهي - وإن أعلت صاحبها عمن لم يبلغها - حالة دون مقام الراسخين في حضرة الجلال ، لأنهم - مع كونهم في الذروة من مقام الخوف - في أعلى درجات الكمال من حضور الفكر وانشراح الصدر - لتلقي واردات الحق وإلقائها إلى الخلق ، انظر إلى ثبات الصديق رضي الله عنه - لعلو مقامه عن غيره - عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أوفاهم من المحبة مشرباً ، وأصفاهم مورداً ، وأوفرهم حزناً ، وأكثرهم غماً وهماً ، حتى أنه اعتراه لذلك مرض السل حتى مات به وجداً وأسفاً ومن هنا تعلم السر في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الأنبجانية التي ألهت في الصلاة بأعلامها في الصلاة إلى أبي جهم لأنه رضي الله عنه ربما كان من أهل الجمع في الصلاة فلا يرى غيره سبحانه فناء عن كل فان بخلاف النبي فإنه لكماله متمكن في كل من مقامي الجمع والفرق في كل حالة ولهذا يرى من خلفه في الصلاة ولا يخفى عليه خشوعهم .
ولما كان من المقاصد العظيمة تبكيت اليهود ، لأنهم أهل الكتاب وعندهم من علوم الأنبياء ما ليس عند العرب وقد استرشدوهم واستنصحوهم ، فقد كان أوجب الواجبات عليهم محض النصح لهم ، فأبدى سبحانه من تبكيتهم ما تقدم إلى أن ختمه بأن جميع الأنبياء كانوا لله سجداً ولأمره خضعاً ، عقب ذلك بتوبيخ هو أعظم داخل فيه وهو أشد مما تقدم لمن خاف الله ورسله فقال : { فخلف من بعدهم } أي في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعاً { خلف } هم في غاية الرداءة { أضاعوا الصلاة } الناهية عن الفحشاء والمنكر التي هي طهرة الأبدان ، وعصمة الأديان ، وأعظم الأعمال ، بتركها أو تأخيرها عن وقتها والإخلال بحدودها ، فكانوا لما سواها أضيع ، فأظلمت قلوبهم فأعرضوا عن داعي العقل { واتبعوا } أي بغاية جهدهم { الشهوات } التي توجب العار في الدنيا والنار في الآخرة ، فلا يقربها من يستحق أن يعد بين الرجال ، من تغيير أحكام الكتاب وتبديل ما فيه مما تخالف الأهواء كالرجم في الزنا ، وتحريم الرشى والربا ، ونحو ذلك ، وأعظمه كتم البشارة بالنبي العربي الذي هو من ولد إسماعيل { فسوف يلقون } أي يلابسون - وعدا لا خلف فيه بعد طول المهلة - جزاء فعلهم هذا { غيّاً * } أي شراً يتعقب ضلالاً عظيماً ، فلا يزالون في عمى عن طريق الرشاد لا يستطيعون إليه سبيلاً ، وهم على بصيرة من أنهم على خطأ وضلال ، ولكنهم مقهورون على ذلك بما زين لهم منه حتى صارت لهم فيه أتم رغبة ، وذلك أعظم الشر ، ولم يزل سبحانه يستدرجهم بالنعم إلى أن قطعوا بالظفر والغلبة حتى أناخت بهم سطوات العزة ، فأخذوا على غرة ، ولا أنكأ من الأخذ على هذه الصفة بعد توطين النفس على الفوز ، وهو من وادي قوله

{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } [ الإسراء : 97 ] مع قوله { أسمع بهم وأبصر } وجزاء من كان هذا ديدنه في الدنيا والآخرة معروف لكل من له أدنى بصيرة أنه العار ثم النار ، وأيضاً فإن من ضل أخطأ طريق الفلاح من الجنة وغيرها فخاب ، ومن خاب فقد هلك؛ قال أبو علي الجبائي : والغي هو الخيبة في اللغة - انتهى . ويجوز أن يراد بالغي الهلاك ، إما من قولهم - أغوية - وزن أثفية - أي مهلكة ، وإما من تسمية الشيء باسم ما يلزمه .

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

ولما أخبر تعالى عنهم بالخيبة ، فتح لهم باب التوبة ، وحداهم إلى غسل هذه الحوبة ، بقوله : { إلا من تاب } أي مما هو عليه من الضلال ، بإيثار سفساف الأعمال ، على أوصاف الكمال ، فحافظ على الصلاة ، وكف نفسه عن الشهوات { وءامن } بما أخذ عليه به العهد { وعمل } بعد إيمانه تصديقاً له { صالحاً } من الصلوات والزكاة وغيرها ، ولم يؤكدهما لما أفهمته التوبة من إظهار عمل الصلاة التي هي أم العبادات { فأولئك } العالو الهمم ، الطاهرو الشيم { يدخلون الجنة } التي وعد المتقون { ولا يظلمون } من ظالم ما { شيئاً * } من أعمالهم؛ ثم بينها بقوله : { جنات عدن } أي إقامة لا ظعن عنها بوجه من الوجوه { التي وعد الرحمن } الشامل النعم { عباده } الذين هو أرحم بهم من الوالدة بولدها؛ وعبر عنهم بوصف العبودية للإشعار بالتحنن ، وعداً كائناً { بالغيب } الذي لا اطلاع لهم عليه أصلاً إلا من قبلنا ، فآمنوا به فاستحقوا ذلك بفضله سبحانه على إيمانهم بالغيب .
ولما كان من شأن الوعود الغائبة - على ما يتعارفه الناس بينهم - احتمال عدم الوقوع ، بين أن وعده ليس كذلك بقوله : { إنه كان } أي كوناً هو سنة ماضية { وعده مأتيّاً * } أي مقصوداً بالفعل ، فلا بد من وقوعه ، فهو كقوله تعالى { إن كان وعد ربنا لمفعولاً } [ الإسراء : 108 ] .
ولما كانت الجنة دار الحق ، وكان أنكأ شيء لذوي الأقدار الباطل ، وكان أقل ما ينكأ منه سماعه ، نفى ذلك عنها أبلغ وجه فقال : { لا يسمعون فيها لغواً } أي شيئاً ما من الباطل الذي لا ثمرة له . ولما كانت السلامة ضد الباطل من كل وجه ، قال : { إلا } أي لكن { سلاماً } لا عطب معه ولا عيب ولا نقص أصلاً فيه ، وأورد على صورة الاستثناء من باب قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ويحسن أن يراد باللغو مطلق الكلام؛ قال في القاموس : لغا لغواً : تكلم . أي لا يسمعون فيها كلاماً إلا كلاماً يدل على السلامة ، ولا يسمعون شيئاً يدل على عطب أحد منهم ولا عطب شيء فيها .
ولما كان الرزق من أسباب السلامة قال : { ولهم رزقهم } أي على قدر ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بد من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا يمن عليهم به { فيها بكرة وعشياً * } أي دواماً ، لا يحتاجون إلى طلبه في وقت من الأوقات ، وفي تفسير عبد الرزاق عن مجاهد : وليس فيها بكرة ولا عشي ، لكنهم يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا . أي أنهم خوطبوا بما يعرفون كما أشار إليه تأخير الظرف إذ لو قدم لأوهم بعدهم عن ذلك بالجنة .
ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل ، أشار إلى علو رتبتها وما هو سببها بقوله : { تلك الجنة } بأداة البعد لعلو قدرها ، وعظم أمرها { التي نورث } أي نعطي عطاء الإرث الذي لا نكد فيه من حين التأهل له بالموت ولا كد ولا استرجاع { من عبادنا } الذين أخلصناهم لنا ، فخلصوا عن الشرك نية وعملاً { من كان } أي جبلة وطبعاً { تقياً * } أي مبالغاً في التقوى ، فهو في غاية الخوف منا لاستحضاره أنه عبد؛ قال الرازي في اللوامع : وما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار ، والعبد يكون ذليلاً بأوصافه ، عزيزاً بأوصاف الحق تعالى - انتهى .

وذلك إشارة إلى سبب إيراثها التقوى .
ولما كرر سبحانه الوصف بالتقى في هذه السورة ثلاث مرات ، وختمه بأنه سبب للمقصود بالذات ، وهو الراحة الدائمة بالوراثة لدار الخلد على وجه الإقامة المستمرة ، وصفة الملك الذي لا كدر فيه بوجه ولا تخلف عن مراد ، أتبعه ما بعده إشارة إلى ما تنال به التقوى ، وهو الوقوف مع الأمر مراقبة للأمر على { وبالحق أنزلناه } [ الإسراء : 105 ] لأنه لما كان العلم واقعاً بأن جميع سورة الكهف شارحة لمسألتين من مسائل قريش ، وبعض سورة سبحان شارح للثالثة ، ولطول الفصل صدرت قصة ذي القرنين بقوله { ويسألونك } إعلاماً بعطفها على مسألة الروح المصدرة بمثل ذلك ، وجاءت سورة مريم كاشفة - تبكيتاً لأهل الكتاب الكاتمين للحق - عن أغرب من تلك القصص وأقدم زماناً وأعظم شأناً من أخبار الأنبياء المذكورين ومن أسرع التبديل بعدهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات ، فثبت بذلك أن هذا كله مرتب لإجابة سؤالهم وأنه كلام الله قطعاً ، إذ لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم ما وعدهم الإجابة في الغد إلا وهو قادر عليها ، لما هو معلوم قطعاً من رزانة عقله ، وغزارة فطنته ، ومتانة رأيه ، ولو قدر على ذلك ما تركهم يتكلمون في عرضه بما الموت أسهل منه ، لما علم منه من الشهامة والأنفة والبعد عما يقارب الشين ، وبان بذلك أن الله سبحانه وعز شأنه ما أجمل أمر الروح ولا أخر الإجابة خمس عشرة ليلة أو أقل أو أكثر من عجز ولا جهل ، وثبت بذلك كله وبما بين من صنعه لأهل الكهف ولذي القرنين وفي ولادة يحيى وعيسى وإسحاق عليهم الصلاة والسلام تمام قدرته المستلزم لكمال علمه ، وكان الإخبار عن ذلك مطابقاً للواقع الذي ثبت بعضه بالنقل الصحيح وبعضه بأدلة العقل القاطعة ، ثبت مضمون قوله تعالى { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } وأن هذا الكتاب قيم لا عوج فيه ، فعطف عليه الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لجبرئيل عليه الصلاة والسلام « لقد أبطات عليّ يا جبرئيل حتى سؤت ظناً » ونحوه مما ذكر في أسباب النزول ، فقال على لسان جبرئيل عليه الصلاة والسلام : { وما نتنزل } أي أنا ولا أحد من الملائكة بإنزال الكتاب ولا غيره { إلا بأمر ربك } المحسن إليك في جميع الأمر في التقديم والتأخير لئلا يقع في بعض الأوهام أنه حق في نفسه ، ولكنه نزل بغير أمره سبحانه ، ووقع الخطاب مقترناً بالوصف المفهم لمزيد الإكرام تطييباً لقلبه صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنه محسن إليه ، ولفظ التنزل مشير إلى الإكرام ، وهو التردد مرة بعد مرة ووقتاً غب وقت ، ولا يكون إلا لذلك لأن النزول للعذاب يقتضي به الأمر في مثل لمح البصر ، وكان هذا عقب ذكر القيامة بذكر الجنة كما كان المعطوف عليه عقب

{ فإذا جاء وعد الآخرة } [ الإسراء : 7 ] وكما كان ختام مسائلهم بذكر الآخرة في قوله { فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء } [ الكهف : 98 ] - إلى آخر السورة ليكون ذلك أشد تثبيتاً للبعث وأعظم تأكيداً ، وإن استطلت هذا العطف مع بعد ما بين المعطوف والمعطوف عليه واستعظمته واستنكرته لذلك واستبعدته فقل : لما كشفت هذه السورة عن هذه القصص الغريبة ، وكان المتعنتون ربما قالوا : نريد أن يخبرنا هذا الذي ينزل عليك بجميع أنباء الأقدمين وأخبار الماضين ، قال جواباً عن ذلك أن قيل : ما أنزلنا عليك بأخبار هؤلاء إلا بأمر ربك ، وما نتنزل فيما يأتي أيضاً إلا بأمر ربك؛ ثم علل ذلك بقوله : { له ما بين أيدينا } أي من المكان والزمان وما فيهما { وما خلفنا } من ذلك { وما بين ذلك } وهو نحن والمكان والزمان اللذان نحن بهما وما فوقه وتحته ، ونحن نعلم ذلك ونعمل على حسب ما نعلم ، فلا نتصرف في ملكه إلا بأمره { وما كان } على تقدير من التقادير { ربك نسياً * } أي ذا نسيان لشيء من الأشياء فيترك تفصيل أمر الروح ، ويؤخر الجواب عن الوقت الذي وعدتهم فيه لخفاء شيء من ذلك عليه ، ولا ينسى ما يصلحك فيحتاج إلى مذكر به ، ولا ينسى أحداً منا فينزل في وقت نسيانه له بل هو دائم الاطلاع على حركتنا وسكناتنا ، فنحن له في غاية المراقبة ، وهو سبحانه يصرفنا بحسب الحكمة في كل وقت تقتضيه حكمته ، لا يكون شيء من ذلك إلا في الوقت الذي حده له وأراده فيه ، ولا يخرج شيء من الأشياء وإن دق عن مراده . ويجوز أن يقال في التعبير بصيغة فعيل أنه لا يتمكن العبد من الغيبة عن السيد بغير إذنه إلا أن كان بحيث يمكن أن يغفل وأن تطول غفلته وتعظم لكونه مجبولاً عليها ، أو أنه لما استلبث الوحي في أمر الأسئلة التي سألوا عنها من الروح وما معها خمس عشرة ليلة أو أكثر أو أقل - على اختلاف الروايات ، فكان ذلك موهماً للأغبياء أنه نسيان ، وكان مثل ذلك لا يفعله إلا كثير النسيان ، نفى هذا الوهم بما اقتضاه من الصيغة ونفى قليل ذلك وكثيرة في السورة التي بعدها ضماً لدليل العقل بقوله

{ لا يضل ربي ولا ينسى } [ طه : 52 ] لما اقتضاه السياق ، فأتى في كل أسلوب بما يناسبه مع الوفاء بما يجب من حق الاعتقاد ، وهذه الآية مع { وبالحق أنزلناه } و { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } [ الإسراء : 88 ] مثل { قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } [ هود : 3 ] - الآيتين في سورة هود عليه السلام ، على ما قدمت في بيانه غير أن ما جمع هناك فصل هنا في أول الجواب على أسئلتهم بآية { قل لئن اجتمعت } وأثنائه بآية { وبالحق أنزلناه } وآخره بهذه الآية ، لتكون الآيات رابطة على هذه الأجوبة وتوابعها وضابطة لها كالشهب والحرس الشديد بالنسبة إلى السماء ، فلا يبغيها متعنت من جهة من جهاتها كيداً إلا رد خاسئاً ، ولا يرميها بقادح ألا كان رميه خاطئاً .
ولما وصف سبحانه وتعالى بنفوذ الأمر واتساع العلم على وجه ثبت به ما أخبر به عن الجنة ، فثبت أمر البعث ، أتبع ذلك ما يقرره على وجه أصرح منه وأعم فقال مبدلاً من { ربك } : { رب السماوات والأرض } اللتين نحن من جملة ما فيهما من عباده { وما بينهما } منا ومن غيرنا من الأحياء وغيرها { فاعبده } بالمراقبة الدائمة على ما ينبغي له من مثلك { واصطبر } أي اصبر صبراً عظيماً بغاية جهدك على كل ما ينبغي الاصطبار عليه كذلك { لعبادته } أي لأجلها فإنها لا تكون إلا عن مجاهدة شديدة؛ ثم علل ذلك بقوله : { هل تعلم له سمياً * } أي متصفاً بوصف من أوصافه اتصافاً حقيقياً ، أو مسمى باسمه ، العلمَ الواقع موقع لأنه لا مماثل له حتى ولا في مجرد الاسم ، وإيراده بصورة الاستفهام كالدعوى بدليلها .

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)

ولما تبين بذلك وبما ذكر في هاتين السورتين مما سألوا عنه ومن غيره شمولُ علمه وتمام قدرته لا سيما في إيجاد البشر تارة من التراب ، وتارة من ذكر وأنثى في حكم العدم ، وتارة من أنثى بلا ذكر ، وثبت ذلك كله ، فانكشفت الشبه ، وتضاءلت موجبات المراء ، وانقمعت مخيلات الفتن ، عجب منها في إنكارهم البعث وهم يشاهدون ما ذكر من قدرته وعلمه ، عاطفاً على التعجب في قولهم { وقالوا ءاذا كنا } تعجيباً أشد من ذلك فقال : { ويقول } بلفظ المضارع المؤذن بالتجدد بعد هذا البيان المقتضي حتماً لاعتقاده البعث فضلاً عن إنكار مرة من المرات ، ليخبر عنها بصيغة الماضي ، فكيف بالمداومة على ذلك المشار إليها بصيغة المضارع؛ وعبر بالمفرد وإن كان للجنس لأن الإنكار على الواحد يستلزم الإنكار على المتعدد فقال : { الإنسان } أي الذي خلقناه ولم يك شيئاً ، مع ما فضلناه به من العقل ، ونصبنا له من الدلائل ، فشغله الإنس بنفسه عن التأمل في كمال ربه منكراً مستبعداً : { أءذا ما مت } ثم دل على شدة استبعاده لذلك بقوله مخلصاً للام الابتداء إلى التوكيد سالخاً لها عما من شأنها الدلالة عليه من الحال لتجامع ما يخلص للاستقبال : { لسوف أخرج } أي يخرجني مخرج { حياً * } أي بعد طول الرقاد ، وتفتت الأجزاء والمواد ، وجاء بهذه التأكيدات لأن ما بعد الموت وقت كون الحياة منكرة على زعمه ، والعامل في { إذا } فعل من معنى { أخرج } لا هو ، لمنع لام الابتداء لعمله فيما قبله؛ ثم قابل إنكاره الباطل بإنكار هو الحق فقال عطفاً على يقول أو على ما تقديره : ألا يذكر ما لنا من تمام القدرة بخلق ما هو أكبر من ذلك من جميع الأكوان : { أو لا يذكر } بإسكان الذال على قراءة نافع وابن عامر وعاصم إشارة إلى أنه أدنى ذكر من هذا يرشده إلى الحق ، وقراءة الباقين بفتح الذال والكاف وتشديدهما يشير إلى أنه - لاستغراقه في الغفلة - يحتاج إلى تأمل شديد { الإنسان } أي الآنس بنفسه ، المجترىء بهذا الإنكار على ربه وقوفاً مع نفسه { أنا خلقناه } وأشار الجار إلى سبقه بالعدم فقال : { من قبل } أي من قبل جدله هذا أي بما لنا من القدرة والعظمة .
ولما كان المقام لتحقيره بكونه عدماً ، أعدم من التعبير عن ذلك ما أمكن إعدامه ، وهو النون ، لتناسب العبارة المعتبر فقال : { ولم يك شيئاً * } أصلاً ، وإنا بمقتضى ذلك قادرون على إعادته فلا ينكر ذلك .
ولما كان كلام الكافر صورته صورة استفهام ، وهو جحد في الحقيقة وإنكار ، وكان إنكار المهدَّد لشيء يقتدر عليه المهدد سبباً لأن يحققه لما مقسماً عليه ، قال تعالى مجيباً عن إنكاره مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عنهم مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره : { فوربك } المحسن إليك بالانتقام منهم .

ولما كان الإنكار للبعث يلزم منه الاحتقار ، أتى بنون العظمة ، استمر في هذا التحلي بهذا المظهر إلى آخر وصف هذا اليوم فقال : { لنحشرنهم } بعد البعث { والشياطين } الذين يضلونهم بجعل كل واحد منهم مع قرينه الذي أضله ، في سلسلة { ثم لنحضرنهم } بعد طول الوقوف { حول جهنم } التي هم بها مكذبون ، يحيطون بها لضيق رأسها وبعد قعرها ، حال كونهم { جثياً * } على الركب من هول المطلع وشدة الذل ، مستوقرين تهيؤوا للمبادرة إلى امتثال الأوامر { ثم لننزعن } أي لنأخذن أخذاً بشدة وعنف { من كل شيعة } أي فرقة مرتبطة بمذهب واحد .
ولما كان التقدير : لننزعن أغناهم ، وهم الذين إذا نظرت إلى كل واحد منهم بخصوصه حكمت بأنه أغنى الناس ، علم أنهم بحيث يحتاج إلى السؤال عنهم لإشكال أمرهم فقال : { أيهم أشد على الرحمن } الذي غمرهم بالإحسان { عتياً * } أي تكبراً متجاوزاً للحد ، انتزاعاً يعلم به أهل الموقف أنه أقل من القليل ، وأوهى أمراً من القتيل ، وأن له سبحانه - مع صفة الرحمة التي غمرهم إحسانها وبرها - صفات أخرى من الجلال والكبرياء والجبروت والانتقام .
ولما تقدم ما هو في صورة الاستفهام ، أتبعه ما يزيل ما قد يقع بسببه من بعض الأوهام ، فقال : { ثم } وعزتنا! { لنحن } لشمول علمنا وكمال قدرتنا وعظمتنا { أعلم } من كل عالم { بالذين هم } لظواهرهم وبواطنهم { أولى بها } أي جهنم { صلياً * } وبالذين هم أولى بكل طبقة من دركاتها من جميع الخلق من المنتزعين وغيرهم ، فلا يظن بنا أنا نضع أحداً في غير دركته أو غير طبقته من دركته؛ وعطف هذه الجمل بأداة البعد مقرونة بنون العظمة لبعد مراتبها وتصاعدها في ذرى العليا وترقيها ، تهويلاً للمقام وتعظيماً للأمر لاستبعادهم له ، على أنه يمكن أن تكون الحروف الثلاثة للترتيب الزماني ، وهو في الأولين واضح ، وأما في الثالث فلأن العلم كناية عن الإصلاء ، لأن من علم ذنب عدوه - وهو قادر - عذبه ، فكأنه قيل : لنصلين كلاًّ منهم النار على حسب استحقاقه لأنا أعلم بأولويته لذلك .
ولما كانوا بهذا الإعلام ، المؤكد بالإقسام ، من ذي الجلال والإكرام ، جديرين بإصغاء الأفهام ، إلى ما يوجه إليها من الكلام ، التفت إلى مقام الخطاب ، إفهاماً للعموم فقال : { وإن } أي وما { منكم } أيها الناس أحد { إلا واردها } أي داخل جهنم؛ ثم استأنف قوله : { كان } هذا الورود؛ ولما كان المعنى أنه لا بد من من إيقاعه ، أكده غاية التأكيد فأتى بأداة الوجوب فقال : { على ربك } الموجد لك المحسن إليك بإنجاء أمتك لأجلك { حتماً } أي واجباً مقطوعاً به { مقضياً * } لا بد من إيقاعه؛ قال الرازي في اللوامع : ما من مؤمن - إلا الأنبياء - إلا وقد تلطخ بخلق سوء ولا ينال السعادة الحقيقية إلا بعد تنقيته ، وتخليصه من ذلك إنما يكون بالنار .

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)

ولما كان الخلاص منها بعد ذلك مستبعداً ، قال مشيراً إليه بأداة البعد : { ثم ننجي } أي تنجية عظيمة على قراءة الجماعة ، ومطلق إنجاء على قراءة الكسائي ، وكأن ذلك باختلاف أحوال الناس مع أن المطلق لا ينافي المقيد { الذين اتقوا } أي كانوا متقين منها بأن تكون عليهم حال الورود برداً وسلاماً { ونذر الظالمين } أي نترك على أخبث الأحوال الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها واستمروا على ذلك فكانوا في أفعالهم خابطين كالأعمى { فيها جثياً * } كما كانوا حولها لا يهتدون إلى وجه يخلصون به منها .
ولما كان هذا جديراً بالقبول لقيام الأدلة على كمال قدرة قائله ، وتنزهه عن إخلاف القول ، لبراءته من صفات النقص ، قال معجباً من منكره عاطفاً على قوله { ويقول الإنسان } : { وإذا تتلى عليهم } أي الناس ، من أيّ تال كان { ءاياتنا } حال كونها { بينات } لا مرية فيها ، بأن تكون محكمات ، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو ببيان النبي صلى الله عليه وسلم فهي حال مؤكدة أو كاشفة { قال الذين كفروا } بآيات ربهم البينة ، جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم { للذين ءامنوا } أي لأجلهم أو مواجهة لهم ، إعراضاً عن الاستدلال بالآيات ، ووجوه دلالتها البينات ، بالإقبال على هذه الشبهة الواهية - وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا - من قولهم : { أي الفريقين } نحن - بما لنا من الاتساع ، أم أنتم - بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال { خير مقاماً } أي موضع قيام أو إقامة - على قراءة ابن كثير بضم الميم والجماعة بفتحها : { وأحسن ندياً * } مجمعاً ومتحدثاً باعتبار ما في كل من الرجال ، وما لهم من الزي والأموال ، ويجعلون ذلك الامتحان بالإنغام والإحسان دليلاً على رضى الرحمن ، مع التكذيب والكفران ، ويغفلون عن أن في ذلك - مع التكذيب بالبعث - تكذيباً مما يشاهدونه منا من القدرة على العذاب بإحلال النقم ، وسلب النعم ، ولو شئنا لأهلكناهم وسلبنا جميع ما يفتخرون به { وكم أهلكنا } بما لنا من العظمة .
ولما كان المراد استغراق الزمان ، لم يأت بالجار إعلاماً بأن المتقدمين كلهم كانوا أرغد عيشاً وأمكن حالاً فقال : { قبلهم من قرن } أي شاهدوا ديارهم ، ورأوا آثارهم؛ ثم وصف كم بقوله : { هم } أي أهل تلك القرون { أحسن } من هؤلاء { أثاثاً } أي أمتعة { ورئياً * } أي منظراً ، فكأنه قيل : فما يقال لهم؟ فقال : { قل } أي لهم رداً عليهم وقطعاً لمعاذيرهم وهتكاً لشبههم : هذا الذي افتخرتم به لا يدل على حسن الحال في الآخرة ، بل على عكس ذلك ، فقد جرت عادته سبحانه أنه { من كان في الضلالة } مثلكم كوناً راسخاً بسط له في الدنيا وطيب عيشه في ظاهر الحال فيها ، ونعم بأنواع الملاذ ، وعبر عن أن ذلك لا يكاد يتخلف عن غير من حكم بإلزامه المسكنة من اليهود بلام الأمر ، إيذاناً بوجوده وجود المأمور به الممتثل في قوله : { فليمدد } وأشار إلى التحلي لهم بصفة الإحسان بقوله : { له الرحمن } أي العام الامتنان { مداً * } في العاجلة بالبسط في الآثار ، والسعة في الديار ، والطول في الأعمار ، وإنفاقها فيما يستلذ من الأوزار الكبار ، فيزيده العزيز الجبار بذلك ضلالة ، فيا له من خسار ، وتباب وتبار ، لمن له استبصار ، ولا نزال نمد هل استدراجاً { حتى } وحقق أخذهم بأداة التحقيق فقال : { إذا رأوا } أي كل من كفر بالله بأعينهم وإن ادعوا أنهم يتعاضدون ويتناصرون ، ولذلك جمع باعتبار المعنى { ما يوعدون } من قبل الله { إما العذاب } في الدنيا بأيدي المؤمنين أو غيرهم ، أو في البرزخ { وإما الساعة } التي هم بها مكذبون ، وعن الاستعداد لها معرضون ، ولا شيء يشبه أهوالها ، وخزيها ونكالها .

ولما كان الجواب : علموا أن مكانهم شر الأماكن ، وأن جندهم أضعف الجنود ، عبر عنه بقوله تهديداً : { فسيعلمون } إذا رأوا ذلك { من هو شر مكاناً } أي من جهة المكان الذي قوبل به المقام { وأضعف جنداً * } هم أو المؤمنون ، أي أضعف من جهة الجند الذي أشير به إلى النديّ ، لأن القصد من فيه ، وكأنه عبر بالجند لأن قصدهم المغالبة وما كل من في النديّ يكون مقاتلاً .
ولما كان هذا لكونه استدراجاً زيادة في الضلال ، قابله بقوله ، عطفاً على ما تقدم تقديره تسبيباً عن قوله { فليمدد } وهو : فيزيده ضلالاً ، أو على موضع { فليمدد } : { ويزيد الله } وعبر بالاسم العلم إشارة إلى التجلي لهم بجميع الصفات العلى ليعرفوه حق معرفته { الذين اهتدوا هدى } عوض ما زوى عنهم ومنعهم من الدنيا لكرامتهم عنده مما بسطه للضلال لهوانه عليه؛ فالآية من الاحتباك : ذكر السعة بالمد للضال أولاً دليلاً على حذف الضيق بالمنع للمهتدي ثانياً ، وزيادة الهداية ثانياً دليلاً على حذف زيادة الضلال أولاً ، وأشار إلى أنه مثل ما خذل أولئك بالنوال ، وفق هؤلاء لمحاسن الأعمال ، بإقلال الأموال فقال : { والباقيات } ثم وصفها احترازاً من أفعال أهل الضلال بقوله : { الصالحات } أي من الطاعات والمعارف التي شرحت لها الصدور ، فأنارت بها القلوب ، وسلمت من إحباط الذنوب ، فأوصلت إلى علام الغيوب { خير عند ربك } مما متع به الكفرة ومدوا به - على تقدير التنزل إلى تسميته خيراً ، وإضافة الرب إليه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه يربيها تربية تبلغ أقصى ما يرضيه في كل تابعيه؛ ثم بين جهة خيرية هذا بقوله : { ثواباً } أي من جهة الثواب { وخير مرداً * } أي من جهة العاقبة يوم الحسرة وهو كالذي قبله ، أو على قولهم : الصيف أحر من الشتاء بمعنى أنه في حره أبلغ منه في برده . فالكفرة يردون إلى خسارة وفناء ، والمؤمنون إلى ربح وبقاء .

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)

ولما تضمن هذا من التهديد بذلك اليوم ما يقطع القلوب ، فيوجب الإقبال على ما ينجي منه ، عجب من حال من كفر به ، موبخاً له ، منكراً عليه ، عاطفاً على ما أرشد إليه السياق فقال معبراً عن طلب الخير بالرؤية التي هي الطريق إلى الإحاطة بالأشياء علماً وخبرة ، وإلى صحة الخبر عنها : { أفرءيت } أي أرأيت الذي يعرض عن هذا اليوم فرأيت { الذي } زاد على ذلك بأن { كفر بآياتنا } الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات { وقال } جراءة منه وجهلاً؛ أو يقال : إنه لما هول أمر ذلك اليوم . وهتك أستار مقالاتهم ، وبين وهيها ، تسبب عن ذلك التعجيبُ ممن يقول : { لأوتين } أي والله في الساعة على تقدير قيامها ممن له الإيتاء هنالك { مالاً وولداً * } أي عظيمين ، فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز .
ولما كان ما ادعاه لا علم له به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما ، أنكر عليه قوله ذلك بقوله : { أطلع الغيب } الذي هو غائب عن كل مخلوق ، فهو في بعده عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع عليه ، وتفرد به الواحد القهار { أم اتخذ } أي بغاية جهده { عند الرحمن } العام الرحمة بالإنعام على الطائع والانتقام من العاصي ثواباً للطائع { عهداً * } عاهده عليه بأنه يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها له على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله .
ولما كان كل من الأمرين : إطلاع الغيب واتخاذ العهد ، وكذا ما ادعاه لنفسه ، وما يلزم عن اتخاذ العهد من القرب ، منتفياً قال : { كلاًّ } أي لم يقع شيء من هذين الأمرين ، ولا يكون ما ادعاه فليرتفع عنه صاغراً .
ولما كان النفي هنا عن الواحد مفهماً للنفي عما فوقه اكتفى به ، ولما رد ذلك استأنف الجواب لسؤال من كأنه قال : فماذا يكون له؟ بقوله مثبتاً السين للتوكيد في هذا التهديد : { سنكتب ما يقول } أي نحفظه عليه حفظ من يكتبه لنوبخه به ونعذبه عليه بعد الموت فيظهر له بعد طول الزمان أن ما كان فيه ضلال يؤدي إلى الهلاك لا محالة ، ويجوز أن تكون السين على بابها من المهلة ، وكذا الكتابة ، والإعلام بذلك للحث على التوبة قبل الكتابة ، وذلك من عموم الرحمة { ونمد له من العذاب مداً * } باستدراجه بأسبابه من كثرة النعم من الأموال والأولاد المحببة له في الدنيا ، المعذبة له فيها ، بالكدح في جمعها والمخاصمة عليها الموجبة له التمادي في الكفر الموجب لعذاب الآخرة ، وإتيان بعضه في إثر بعض { إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } [ التوبة : 85 ] { ونرثه } بموته عن جميع ذلك؛ ثم أبدل من ضميره قوله : { ما يقول } أي من المال والولد فنحول بينه وبينهم بعد البعث كما فعلنا بالموت كحيلولة الوارث بين الموروث وبين الموروث عنه { ويأتينا } في القيامة { فرداً * } مسكيناً منعزلاً عن كل شيء لا قدرة له على مال ولا ولد ، قلا عز له ، ولا قوة بشيء منهما؛ روى البخاري في التفسير عن خباب رضي الله عنه قال : كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفاً ، فجئت أتقاضاه فقال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد ، قلت : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يحييك ، وفي رواية : حتى تموت ثم تبعث ، قال : وإني لمبعوث من بعد الموت؟ قلت : نعم! قال : فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالاً وولداً فأقضيك ، فنزلت هذه الآية { أفرأيت الذي - إلى قوله : فرداً } .

ولما أخبر تعالى بالبعث ، وذكر أن هذا الكافر يأتيه على صفة الذل ، أتبعه حال المشركين مع معبوداتهم ، فقال معجباً منهم عاطفاً على قوله ويقول الإنسان : { واتخذوا } أي الكفار ، وجمع لأن نفي العز عن الواحد قد لا يقتضي نفيه عما زاد { من دون الله } وقد تبين لهم أنه الملك الأعلى الذي لا كفوء له { ءالهة ليكونوا لهم } أي الكافرين { عزاً * } لينقذوهم من العذاب .
ولما بين أنه لا يعزه مال ولا ولد ، وكان نفع الأوثان دون ذلك بلا شك ، نفاه بقوله : { كلاًّ } بأداة الردع ، لأن ذلك طلب للعز من معدن الذل من العبيد الذين من اعتز لهم ذل ، فإنهم مجبولون على الحاجة ، ومن طلب العز للدنيا طلبه من العبيد لا محالة ، فاضطر قطعاً - لبنائهم على النقص - إلى ترك الحق واتباع الباطل ، فكانت عاقبة أمره الذل وإن طال المدى ، فإن الله تعالى ربما أمهل المخذول إلى أن ينتهي في خذلانه إلى أن يستحق لباس الذل؛ ثم بين سبحانه ذلك بما يكون منهم يوم البعث فقال : { سيكفرون } أي الآلهة بوعد لا خلف فيه وإن طال الزمان { بعبادتهم } أي المشركين ، فيقولون لهم { ما كنتم إياناً تعبدون } [ يونس : 28 ] { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } [ البقرة : 166 ] { ويكونون عليهم } أي الكفار؛ ووحد إشارة إلى اتفاق الكلمة بحيث إنهم لفرط تضامنهم كشيء واحد فقال : { ضداً * } أي أعداء فيكسبونهم الذل ، وكذا يفعل الكفار مع شركائهم ويقولون { والله ربنا ما كنا مشركين } فيقع بينهم العداوة كما قال تعالى { ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً } [ العنكبوت : 25 ] .
ولما كان من المستبعد عندهم جواز رجوعهم عنهم فضلاً عن كفرهم بهم ، دل على وقوعه بما يشاهد منهم من الأفعال المنافية لرزانة الحلم الناشئة عن وقار العلم ، فقال : { ألم تر أنا } بما لنا من العظمة { أرسلنا الشياطين } الذين خلقناهم من النار ، إرسالاً مستعلياً بالإبعاد والإحراق { على الكافرين } أي العريقين في الكفر { تؤزهم أزاً * } أي تحركهم تحريكاً شديداً ، وتزعجهم في المعاصي والدنايا التي لا يشكون في قباحتها وعظيم شناعتها وهم أشد الناس عيباً لفاعليها وذماً لمرتكبيها إرعاجاً عظيماً بحيث يكونون في تقلبهم ذلك مثل الماء الذي يغلي في القدر ، ومثل الشرر المتطاير الذي هو أشد شيء منافاة لطبع الطين وملاءمة لطبع النار ، فلما ثبت بذلك المدعى ، تسبب عنه النهي عما اتصفوا به من خفة السفه وطيش الجهل فقال : { فلا تعجل عليهم } بشيء مما تريد به الراحة منهم .

ولما كانت مراقبة ناصر الإنسان لعدوه في الحركات والسكنات أكبر شاف للولي ومفرح ، وأعظم غائط للعدو ومزعج ومخيف ومقلق ، علل ذلك بقوله دالاًّ على أن زمنهم قصير جداً بذكر العد : { إنما نعد لهم } بإمهالنا لهم وإدرارنا النعم عليهم { عداً * } لأنفاسهم فما فوقها لا نغفل عنهم بوجه ، فإذا جاء أجلهم الذي ضربناه لهم ، محونا آثارهم ، وأخلينا منهم ديارهم ، لا يمكنهم أن يفوتونا ، فاصبر فما أردنا بإملائنا لهم إلا إشقاءهم وإرداءهم لا تنعيمهم وإعلاءهم ، فهو من قصر الموصوف على صفته إفراداً .

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)

ولما بين مآل حال الكافرين في آلهتهم ودليله ، أتبعه بوقته فقال : { يوم } أي يكفرون بعبادتهم يوم { نحشر المتقين } أي العريقين في هذا الوصف؛ ولما تقدمت سورة النعم العامة النحل ، وأتبعت سورة النعم الخاصة بالمؤمنين وبعض العامة ، مثل { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] ، ثم سورتي الخاصة بالصالحين الكهف وهذه ، قال : { إلى الرحمن } فيدخلهم دار الرضوان ، فذكر الاسم الدال على عموم الرحمة ، وكرره في هذه السورة تكريراً دل على ما فهمته ، وربما أيد ذلك افتتاح النحل بنعمة البيان على هذا الإنسان التي عبر عنها بالخصيم ، وختام هذه بالقوم اللد من حيث رد مقطع هذه التي كانت بالنظر إلى النعم شيئاً واحداً على مطلعها { وفداً * } أي القادمين في إسراع ورفعة وعلى ، كما تقدم الوفود على الملوك ، فيكونون في الضيافة والكرامة .
ولما ذكر ما يدل على كرامة أوليائه ، أتبعه ما يدل على إهانة أعدائه فقال : { ونسوق المجرمين } أي بالكفر وغيره من المعصية ، كالبهائم سوقاً عنيفاً مزعجاً حثيثاً { إلى جهنم } بسطوة المنتقم الجبار { ورداً * } أي عطاشاً { لا يملكون الشفاعة } أي لا يملك أحد من القسمين أن يَشفَع ولا أن يشفَّع فيه { إلا من اتخذ } أي كلف نفسه واجتهد في أن أخذ { عند الرحمن عهداً * } بما وفقه له من الإيمان والطاعة التي وعده عليها أن يشفع أو أن يشفع فيه؛ فالآية من الاحتباك : ذكر الرحمن أولاً دليلاً على المنتقم ثانياً ، وجهنم ثانياً دليلاً على حذف الجنة أولاً .
ولما أبطل مطلق الشفعاء ، وكان الولد أقرب شفيع ، وكانوا قد ادعوا له ولداً ، أبطل دعواهم فيه لينتفي كل شفيع خاص وعام ، فينتفي كل عز راموه بشفاعة آلهتهم وغيرها . فقال عاطفاً على قوله : { واتخذوا من دون الله آلهة } موجباً منهم : { وقالوا } أي الكفرة { اتخذ الرحمن } أي الذي لا منعم غيره ، فكل أحد محتاج إليه وهو غني عن كل أحد { ولداً * } قالت اليهود : عزير ، والنصارى : المسيح ، والمشركون : الملائكة ، مع قيام الأدلة على استحالته عليه سبحانه؛ ثم استأنف الالتفات إلى خطابهم بأشد الإنكار ، إيماء إلى تناهي الغضب فقال : { لقد } أي وعزتي! لقد { جئتم شيئاً إدّاً * } أي عظيماً ثقيلاً منكراً؛ ثم بين ثقله بقوله : { تكاد السماوات } على إحكامها ، مع بعدها من أصحاب هذا القول { يتفطرن } أي يأخذن في الانشقاق { منه } أي من هذا الشيء الإدّ { وتنشق الأرض } على تحتها شقاً نافذاً واسعاً { وتخر } أي تسقط سريعاً { الجبال } على صلابتها { هداً * } كما ينفسخ السقف تحت ما لا يحتمله من الجسم الثقيل ، لأجل { أن ادعوا } أي سموا { للرحمن } الذي كل ما سواه نعمة منه { ولداً * } هذا المفعول الثاني ، وحذف الأول لإرادة العموم { وما ينبغي } أي ما يصح ولا يتصور { للرحمن أن يتخذ ولداً * } لأنه غير محتاج إلى الولد بوجه ، ومع ذلك فهو محال ، لأن الولد لا يكون إلا مجانساً للوالد ، ولا شيء من النعم بمجانس للمنعم المطلق الموجد لكل ما سواه ، فمن دعا له ولداً قد جعله كبعض خلقه ، وأخرجه عن استحقاق هذا الاسم ، ثم أقام الدليل على غناه عن ذلك واستحالته عليه ، تحقيقاً لوحدانيته ، وبياناً لرحمانيته ، فهدم بذلك الكفر بمطلق الشريك بعد أن هدم الكفر بخصوص الولد فقال : { إن } أي ما { كل من } أي شيء من العقلاء ، فهو نكرة موصوفة لوقوعها بعد كل وقوعها بعد رب { في السماوات والأرض } الذين ادعوا أنهم ولد وغيرهم { إلا } .

ولما كان من العبد من يعصي على سيده ، عبر بالإتيان فقال : { ءاتي الرحمن } العام بالإحسان ، أي منقاد له طوعاً أو كرهاً في كل حالة وكل وقت { عبداً * } مسخراً مقهوراً خائفاً راجياً ، فكيف يكون العبد ابناً أو شريكاً؟ فدلت الآية على التنافي بين العبودية والولدية ، فهي من الدليل على عتق الولد والوالد إذا اشتريا .

لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)

ولما كان من المستبعد معرفة الخلائق كلهم ، أتبعه بقوله : { لقد } أي والله لقد { أحصاهم } كلهم إحاطة بهم { وعدهم } ولما كان ذلك لا يكاد يصدق ، أكده بالمصدر فقال : { عداً * } قبل خلقهم من جميع جهات العبد ولوازمها ، فلم يوجد ولم يولد ، ولم يعدم أو يصب أحد منهم إلا في حينه الذي عده له ، وقد يكون الإحصاء قبل الوجود في عالم الغيب والعد بعد الوجود { وكلهم } أي وكل واحد منهم { ءاتيه يوم القيامة } بعد بعثه من الموت { فرداً * } على صفة الذل ، موروثاً ماله وولده الذي كنا أعطيناه في الدنيا قوة له وعزاً ، لأنه لا موجود غيره يقدر على حراسة نفسه من الفناء ، فهو لا شك في قبضته ، فكيف يتصور في بال أو يقع في خيال أن يكون شيء من ذلك له ولداً أو معه شريكاً .
ولما عم بهذا الحكم الطائع والعاصي ، وكان ذلك محزناً لأهل الطاعة باستشعار الذل في الدارين ، تحركت النفس إلى معرفة ما أفادتهم الطاعة ، واستأنف الجواب لذلك مبشراً لهم بقوله : { إن الذين آمنوا وعملوا } تصديقاً لادعائهم الإيمان ، الأعمال { الصالحات سيجعل } تحقيقاً عما قليل عند بيعة العقبة { لهم الرحمن } الذي خصهم بالرضا بعد أن عمهم بالنعمة ، جزاء على انقيادهم له ، لأنه كان إما باختيارهم وإما برضاهم { وداً * } أي حباً عظيماً في قلوب العباد ، دالاً على ما لهم عندهم من الود؛ قال الأصبهاني : من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي تكسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع غيره أو غير ذلك ، وإنما هو اختراع ابتدأ اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم - انتهى . والمراد - والله أعلم - أنه لا يجعل سبحانه في قلب أحد من عباده الصالحين عليهم إحنة ، لأن الود - كما قال الإمام أبو الحسن الحرالي : خلو عن إرادة المكروه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الروم ما يزيد ذلك وضوحاً؛ روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله إذا أحب عبداً دعا جبرئيل فقال : يا جبرئيل! إني أحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبرئيل فقال : يا جبرئيل! إني أبغض فلاناً فأبغضه ، فيبغضه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه ، فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء في الأرض » .
ولما كان إنزال هذا القول الثقيل ثم تيسيره حفظاً وعملاً سبباً لما جعل لأهل الطاعة في الدنيا من الود بما لهم من التحلي والتزين بالصالحات ، والتخلي والتصون من السيئات ، الدال على ما لهم عند مولاهم من عظيم العز والقرب ، وكان التقدير : والذين كفروا ليكسبنهم الجبار بغضاً وذلاًّ ، فأخبر كلاًّ من الفريقين بما له بشارة ونذارة ، قال مسبباً عن إفصاح ذلك وإفهامه : { فإنما يسرناه } أي هذا القرآن ، الذي عجز عن معارضته الإنس والجان ، والكتاب القيم والوحي الذي لا مبدل له بسبب إنزالنا إياه { بلسانك } هذا العربي المبين ، العذب الرصين { لتبشر به المتقين } وهم الذين يجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية ، فلا يبطلون حقاً ولا يحقون باطلاً ، ومتى حصلت لهم هفوة بادروا الرجوع عنها بالمتاب ، بما لهم عندنا من العز الذي هو ثمرة العز المدلول عليه بما لهم منه في الدنيا ، لا لتحزنهم بأن ينزل فيه ما يوهم تسويتهم بأهل المعصية في كلتا الدارين { وتنذر به قوماً لدّاً * } أشد في الخصومة ، يريدون العز بذلك ، لما لهم عندنا من الذل والهوان الناشىء عن المقت المسبب عن مساوىء الأعمال ، وأنا نهلكهم إن لم يرجعوا عن لددهم ، والألد هو الذي يتمادى في غيه ولا يرجع لدليل ، ويركب في عناد الحق ما يقدر عليه من الشر ، ولا يكون هذا إلا ممن يحتقر من يخاصمه ويريد أن يجعل الحق باطلاً ، تكبراً عن قبوله ، فينطبق عليه ما رواه مسلم في الإيمان عن صحيحه ، وأبو داود في اللباس من سننه ، والترمذي في البر من جامعه ، وابن ماجه في السنة من سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط - » وفي رواية : « وغمص - الناس » وكلاهما بمعنى الاحتقار ، ومن كان هذا سبيله مرن على ذلك ومرد عليه ، فكان جديراً بأن يركبه الله أبطل الباطل : الكفر عند الموت ، فتحرم عليه الجنة ، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } [ الأعراف : 49 ] فيا ذل من تكبر على الحق! ويا عز من تشرف بالذل للحق والعز على الباطل! ولعمري لقد أجرى الله عادته - ولن تجد لسنة الله تحويلاً أن من تعود الجراءة بالباطل كان ذليلاً في الحق ، وإليه يشير قوله تعالى في وصف أحبابه { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] .
ولما كان التقدير بعدما أرشد إليه السياق من مفعول { ينذر } : فإنا قادرون على إهلاكهم وجميع ما نريد منهم ، عطف عليه قوله : { وكم أهلكنا } بما لنا من العظمة ، ولما كان المراد التعميم ، أثبت الظرف عرياً عن الجار ، وأكد الخبر بإثبات من بعده فقال : { قبلهم من قرن } كانوا أشد منهم شدة ، وأكثر عدة ، وأوثق عدة ، فلم يبق إلا سماع أخبارهم ، ومشاهدة آثارهم؛ ثم قال تصويراً لحالهم ، وتقريراً لمضمون ما مضى من مآلهم : { هل تحس منهم من أحد } ببصر أو لمس { أو تسمع لهم ركزاً * } أي صوتاً خفياً فضلاً عن أن يكون جلياً ، فقد ختمت السورة بما بدئت به من الرحمة لأوليائه ، والود لأصفيائه ، والنعمة للذين خلفوا بعدهم من أعدائه ، بعد الرحمة للفريقين بهذا الكتاب بشارة ونذارة فحلت الرحمة على أوليائه ، وزلت عن أعدائه والله الموفق .

طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)

{ طه* } أي تخلص بالغ من كل ما يخشى وظهر عظيم وطيب منتشر في كل قطر إلى نهاية الوطن الذي هو التاسع ، ممن له الإحاطة التامة بكل غيب ، وإليه يرجع الأمر كله ، كما اجتمعت أسماؤه كلها في غيب هو الذي جعل العزة للمهتدين والهدى للمتقين .
هذه السورة والتي قبلها من أقدم السور المكية ، قال هشام في تهذيب السيرة : قال ابن اسحاق : حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أم أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال : قالت : لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي ، أمنا على ديننا وعبدنا الله تبارك وتعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم . فذكر إرسالهم إليه بهدايا ليردهم إليه ، وأن بطارقته كلموه في ذلك ، وأنه أبى حتى يسمع كلامهم ، وأنه طلبهم فأجمع أمرهم على أن يقولوا الحق كائناً فيه ما كان ، فدخلوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فقال لهم : ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ولم تدخلوا به في دين أحد من هذه الملل . قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : أيها الملك ! كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم و حسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم . وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . قالت : فعدد عليه أمور الإسلام . فصدقناه وآمنا به ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان . فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك! فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ فقال له جعفر : نعم! فقال له النجاشي : فاقرأه عليّ فقرأ عليه صدراً من كهيعص ، فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم؛ ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، ثم ذكر تأمينه لهم ورد هدايا قريش ورسلهم خائبين . وقال ابن هشام : وقال ابن إسحاق : فحدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة رضي الله عنها قالت : والله! إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر رضي الله عنه في بعض حاجاتنا إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليّ وهو على شركه ، وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا ، فقال : إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت : نعم! والله لنخرجن في أرض الله ، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجاً ، فقال : صحبكم الله ، ورأيت له رقة لم أكن أراها ، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا ، فجاء عامر رضي الله عنه بحاجته تلك فقلت له : يا أبا عبد الله! لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا! قال : أطمعت في إسلامه؟ قلت : نعم! قال : لايسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب .

يأساً منه . لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام ، قال ابن إسحاق : وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب ، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهم ، وكانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر ، وكان نعيم بن عبد الله بن النحام . رجل من قومه بني عدي بن كعب . قد أسلم رضي الله عنه ، وكان أيضاً يستخفي بإسلامه فرقاً من قومه ، وكان خباب بن الأرت رضي الله عنه يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها يقرئها القرآن ، فخرج عمر يوماً متوشحاً بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطاً من أصحابه رضي الله عنهم قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة ، فلقيه نعيم بن عبد الله رضي الله عنه فقال : أين تريد يا عمر؟ قال أريد محمداً هذا الصابىء الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله ، فقال له نعيم رضي الله عنه : والله! لقد غرتك نفسك من نفسك ياعمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال : وأيّ أهل بيتي؟ قال : ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه فعليك بهما فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت رضي الله عنه وعنهما ، معه صحيفة فيها طه يقرئهما إياها ، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب بن الأرت رضي الله عنه في مخدع لهم أو في بعض البيت ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب عليهما ، فلما دخل قال : ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له : ما سمعت شيئاً؟ قال : بلى! والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه ، وبطش بختنه سعيد بن زيد رضي الله عنه فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها ، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه رضي الله عنهما : نعم! قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله ، فاصنع ما بدا لك! فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته : أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً أنظر ما هذا الذي جاء به محمد؟ وكان عمر كاتباً ، فلما قال ذلك قالت له أخته : إنا نخشاك عليها ، قال : لاتخافي ، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها ، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت : يا أخي! إنك نجس على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهر ، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها ، فلما قرأ منها صدراً قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب رضي الله عنه خرج إليه فقال له : يا عمر! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فإني سمعته أمس وهو يقول : اللهم! أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر! فقال له عمر عند ذلك : فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم ، فقال له خباب : هو في بيت عند الصفا ، معه فيه نفر من أصحابه ، فأخذ عمر سيفه فتوحشه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب ، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلال الباب فرآه متوحشاً السيف فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال : يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب متوحشاً السيف! فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه : فأذن له ، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن له ، فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال : ما جاء بك يا ابن الخطاب! فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة ، فقال عمر : يا رسول الله! جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم ، فتفرق أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكانهم ، وقد عزّوا في أنفسهم حين أسلم عمر بن الخطاب مع إسلام حمزة رضي الله عنهما ، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتصفون بهما من عدوهم ، فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن أسلام عمر رضي الله عنه حين أسلم .

وكان إسلام عمر بعد إسلام حمزة رضي الله عنهما بثلاثة أيام ، كما ثبت ذلك في حاشية شرح العقائد عن فوائد تمام الرازي ، وصفوة الصفوة لابن الجوزي؛ قال ابن هشام : قال ابن إسحاق : وحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : لما أسلم عمر قال : أي قريش أنقل للحديث؟ قال : قيل له : جميل بن معمر الجمحي ، فغدا عليه ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال له : أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال : فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه . واتبعه عمر رضي الله عنه واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش! وهم في أنديتهم حول الكعبة . ألا! إن ابن الخطاب قد صبأ قال : يقول عمر رضي الله عنه من خلفه : كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على روؤسهم قال : وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول : افعلوا ما بدا لكم ، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها أو تركتموها لنا ، قال : فبينما هو على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال : ما شأنكم؟ قالوا : صبأ عمر ، قال : فمه! رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم؟ هكذا عن الرجل! قال : فوالله لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه . وفي الروض الأنف للامام أبي القاسم السهيلي أن يونس روى عن ابن إسحاق أن عمر قال حين أسلم رضي الله عنه :
الحمد لله ذي المن الذي وجبت ... له علينا أياد ما لها غير
وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا ... صدق الحديث نبي عنده الخبر
وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدى ... ربي عشية قالوا قد صبا عمر
وقد ندمت على ما كان من زلل ... بظلمها حين تتلى عندها السور
لما دعت ربها ذا العرش جاهدة ... والدمع من عينها عجلان يبتدر
أيقنت أن الذي تدعوه خالقها ... فكاد يسبقني من عبرة درر
فقلت أشهد أن الله خالقنا ... وأن أحمد فينا اليوم مشتهر
نبي صدق أتى بالحق من ثقة ... وافى الأمانة ما في عوده خور

إذا تقرر هذا ، علم أن المقصود من السورة - كما تقدم - تشريف هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بإعلامه بالرفق بأمته ، والإقبال بقلوبهم حتى يملؤوا الأرض كثرة ، كما أنزل عليهم السكينة وهم في غاية الضعف والقلة ، وحماهم ممن يريد قتلهم ، ولين قلب عمر رضي الله عنه بعد ما كان فيه من الغلظة وجعله وزيراً ، ثم حماه بعدوه ، وتأمينه صلى الله عليه وسلم من أن يستأصلوا بعذاب ، وبأنه يموت نبيهم قبلهم لا كما وقع للمهلكين من قوم نوح وهود عليهما السلام ومن بعدهم - بما دل عليه افتتاح هذه بنفي الشقاء وختم تلك بجعل الود وغير ذلك ، والداعي إلى هذا التأمين أنه سبحانه لما ختم تلك بإهلاك القرون وإبادة الأمم بعد إنذار القوم اللد ، ولم يختم سورة من السور الماضية بمثل ذلك ، كان ربما أفهم أنه قد انقضت مدتهم ، وحل بوارهم ، وأتى دمارهم ، وأنه لا يؤمن منهم - لما هم فيه من اللد - إلا من قد آمن ، فحصل بذلك من الغم والحزن ما لا يعلم قدره إلا الله ، لأن الأمر كان في ابتدائه ، ولم يسلم منهم إلا نفر يسير جداً ، فسكن سبحانه الروع بقوله : { ما أنزلنا } بعظمتنا { عليك } أي وأنت أعلم الخلق { القرآن } أي أعظم الكتب ، الجامع لكل خير ، والدافع لكل ضير ، الذي يسرناه بلسانك { لتشقى* } أي بتعب قلبك بكونك من أقل المرسلين تابعاً بعد استئصال قومك وشقائهم بإنذارك { إلا } أي لكن أنزلناه { تذكرة } أي تذكيراً عظيماً { لمن يخشى* } ممن أشرنا في آخر التي قبلها إلى بشارته إيماء إلى أنه سيكون فيهم من المتقين من تناسب كثرته إعجاز هذا القرآن ودوامه ، وما فيه من الجمع المشار إليه بالتعبير بالقرآن لجميع ما في الكتب السالفة من الأحكام أصولاً وفروعاً ، والمواعظ والرقائق ، والمعارف والآداب ، وأخبار الأولين والآخرين ، ومصالح الدارين ، وزيادته عليها بما شاء الله ، لأن كثرة الأمة على قدر جلالة الكتاب ، والتعبير عن « لكن » بالإشارة إلى أنه يمكن أن يكون من باب :
ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وأشار بالمصدر الجاري على غير الفعل في قوله : { تنزيلاً } إلى أنه يتمهل عليهم ترفقاً بهم ، ولا ينزل هذا القرآن إلا تدريجاً ، إزالة لشبههم ، وشرحاً لصدورهم ، وتسكيناً لنفوسهم ، ومداً لمدة البركة فيهم بتردد الملائكة الكرام إليهم ، كما أنه لم يهلكهم بمعاصيهم اكتفاء ببينة ما في الصحف الأولى ، بل أرسل إليهم رسولاً لئلا يقولوا : ربنا لولا - كما اقتضته حكمته وتمت به كلمته ، ولما كان رجوعهم إلى الدين على ما يشاهد منهم من الشدة والأنفة والشماخة التي سماهم الله بها قوماً لدّاً في غاية البعد ، شرع سبحانه يذكر بقدرته إشارة إلى أن القلوب بيده يقلبها كيف شاء كما صورها كيف شاء ، وأن شأنه الرفق والأناة ، فقال ملتفتاً من التكلم إلى الغيبة ليدل على ما اقتضته النون من العظمة مقدماً ما اقتضى الحال تقديمه من سكن المدعوين المعتنى بتذكرتهم وهداية أريد منهم : { ممن خلق الأرض } المنخفضة .

ولما قدم الأرض إعلاماً بالاعتناء برحمها بالترفق بسكانها ليملأها بالإيمان منهم تحقيقاً لمقصود السورة تشريفاً للمنزل عليه ، أتبعها محل الإنزال على سبيل الترقي من بيت العزة إلى ما كنزه في خزانة العرش فقال : { والسماوات العلى* } في ستة أيام ، ولو شاء كانتا في لحظة .
ولما كان القادر قد لايكون ملكاً ، قال دالاًّ على ملكه مادحاً له بالقطع خبراً لمبتدأ محذوف : { الرحمن } مفتتحاً بالوصف المفيض للنعم العامة للطائع والعاصي؛ ثم ذكر خبراً ثانياً دالاً على عموم الرحمة فقال : { على العرش } الحاوي لذلك كله { استوى* } أي أخذ في تدبير ذلك منفرداً ، فخاطب العباد بما يفهمونه من قولهم : فلان استوى ، أي جلس معتدلاً على سرير الملك ، فانفرد بتدبيره وإن لم يكن هناك سرير ولا كون عليه أصلاً ، هذا روح هذه العبارة ، كما أن روح قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما « القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء » أنه سبحانه وتعالى عظيم القدرة على ذلك ، وهو عليه يسير خفيف كخفته على من هذا الحالة ، وليس المراد أن هناك إصبعاً أصلاً - نبه على ذلك حجة الإسلام الغزالي ، ومنه أخذ الزمخشري أن يد فلان مبسوطة كناية عن جواد وإن لم يكن هناك بد ولا بسط أصلاً .
ولما كان الملك قد لا يكون مالكاً ، قال مقدماً الأشرف على العادة : { له ما في السماوات } أي كله من عاقل وغيره { وما في الأرض } جميعه { وما بينهما } أي السماوات والأرض { وما تحت الثرى* } وهو التراب النديّ ، سواء قلنا : إنه آخر العالم فما تحته العدم المحض أم لا؟ فبكون تحته النور أو الحوت أو غيرهما .

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)

ولما كان الملك لا ينتظم غاية الانتظام إلا بإحاطة العلم ، وكان الملك من الآدميين قد لا يعلم أحوال أقصى ملكه كما يعلم أحوال أدناه لا سيما إذا كان واسعاً ولذلك يختل بعض أمره ، اعلم أنه سبحانه بخلاف ذلك ، فقال حثاً على مراقبته والإخلاص له : { وإن تجهر بالقول } أي بهذا القرآن للبشارة والنذارة أو لغير ذلك أو بغيره ، فإنه علام به وغير محتاج إلى الجهر ، فلا يتكلف ذلك في غير ما أمرت بالجهر به لغرض غير الإسماع { فإنه يعلم السر } وهو ما يناجي به الاثنان مخافتة { وأخفى* } من ذلك ، وهو ما في الضمائر مما تخيلته الأفكار ولم يبرز إلى الخارج وغيره من الغيب الذي لم يعلمه غيره تعالى بوجه من الوجوه ، ومنه ما سيكون من الضمائر . ولما كان من هو بهذه الأوصاف من تمام العلم والقدرة ربما ظن أن له منازعاً ، نفى ذلك بقوله معلماً أن هذا الظن باطل قطعاً لا شبهة له وأن ما مضى ينتج قطعاً : { الله } مفتتحاً بالاسم الأعظم الحاوي لصفات الكبر وغيرها { لا إله إلا هو } ثم علل ذلك بقوله : { له } أي وحده { الأسماء الحسنى* } أي صفات الكمال التي لا يصح ولا يتصور أن يشوبها نقص ما ، بل هو متصف بها دائماً اتصافاً حقيقياً لا يمكن انفكاكه ، كما يكون لغيره من الاتصاف ببعض المحاسن في بعض الأحايين ثم يعجز عنه في وقت آخر أو بالنسبة إلى زمان آخر .
ولما أتبع ذلك قصة موسى عليه السلام مصدرة باستفهام مقترن بواو عطف ، وأرشد ذلك إلى أن المعنى : هل تعلم له سمياً ، أي متصفاً بأوصافه أو بشيء منها له بذلك الوصف مثل فعله ، ولما كان الجواب قطعاً : لا ، ثبت أن لا متصف بشيء من أوصافه ، فعطف على هذا المقدر قصة موسى عليه السلام ، ويكون التقدير : هل علمت بما ذكرناك به في هذه الآيات أنا نريد ما هو علينا يسير بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل من إسعادك في الدارين تكثير أجرك ، وتفخيم أمرك ، بتكثير أتباعك ، وعطف عليه القصة شاهداً محسوساً على ما له من الاتصاف بما انتفى عن غيره من الأسماء الحسنى ، ولاسيما ما ذكر هنا من الاتصاف بتمام القدرة والتفرد بالعظمة ، وأنه يعلي هذا المصطفى بإنزال هذا الذكر عليه وإيصاله منه إليه النصرة على الملوك وسائر الأضداد ، والتمكين في أقطار البلاد ، وكثرة الأتباع ، وإعزاز الأنصار والوزراء والأشياع ، وغير ذلك بمقدار ما بين ابتداء أمرهما من التفاوت ، فإن ابتداء أمر موسى عليه السلام أنه أتى النار ليُقبس أهله منها ناراً أو يجد عندها هدى .

فمنح بذلك من هدى الدارين والنصرة على الأعداء كما سيقص هنا ما منح ، وهذا النبي الكريم كان ابتداء أمره أنه يذهب إلى غار حراء فيتعبد الليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك اجتذاباً من الحق له قبل النبوة بمدد ، تدريباً له وتقوية لقلبه ، فأتته النبوة وهو في مضمارها سائر ، وإلى أوجها بعزمه صائر بل طائر ، وموسى عليه السلام رأى حين أتته النبوة آية العصا و اليد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه ، كما أسنده ابن إسحاق في السيرة . وروى مسلم وغيره عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إني لأعرف حجراً كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث » فقال تعالى مقرراً تنبيهاً على أنه يذكر له منه ما يكفي في تسليته وتقوية قلبه ، وتبكيت اليهود الذين توقفوا في أمره صلى الله عليه وسلم وغشوا قريشاً حين تكلفوا طيّ شقة البين إليهم ورضوا بقولهم لهم وعليهم ليكون فائدة الاستفهام أن يفرغ أذنه الشريفة للسماع وقلبه للوعي العظيم : { وهل أتاك } أي يا أشرف الخلق! { حديث موسى* } نادباً إلى التأسي بموسى عليه السلام في تحمل أعباء النبوة وتكليف الرسالة والصبر على مقامات الشدائد ، وشارحاً بذكر ما في هذه السورة من سياق قصة ما أجمل منها في سورة مريم ، ومقرراً بما نظمه في أساليبها ما تقدم أنه مقصد السورة من أنه يسعده ولا يشقيه ، ويعزه على جميع شانئيه بإعزازه على أهل بلده بعد إخراجهم له ، كما أعز موسى عليه السلام من خرج من بلادهم خائفاً يترقب ، ترغيباً في الهجرة ثالثاً بعد ما رغب فيها أولاً بقصة أصحاب الكهف وثانياً بقصة أبيه إبراهيم عليه السلام ، وأنه يعلي قومه على جميع أهل الأرض ، وينقذهم به بعد ضعفهم من كل شدة ويغني فقرهم ويجعلهم ملوك الأرض ، يذل بهم الجبابرة ، ويهلك من علم شقاوته منهم كما فعل بقوم موسى ، وأشار بإنجاء موسى عليه السلام على يد عدوه وإلقائه المحبة عليه وهداية السحرة دون فرعون وقومه ، وعبادة بني إسرائيل العجل بعد ما رأوا من الآيات والنعم والنقم ، ثم رجوعهم عنها إلى عظيم قدرته على التصرف في القلوب لمن كان يبخع نفسه لكفرهم بهذا الحديث أسفاً ، وكذا ما في قصة آدم عليه السلام من قوله { فنسي ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] وقوله { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } [ طه : 122 ] ولعله أشار بقوله { واحلل عقدة من لساني } [ طه : 27 ] إلى ما أنعم الله به عليه من تيسير هذا الذكر بلسانه ، وأرشد بدعاء موسى عليه السلام بشرح الصدر وتيسير الأمر وطلب وزيراً من أهله إلى الدعاء بمثل ذلك حتى دعا المنزل عليه هذا القرآن بأن يؤيد الله الدين بأحد الرجلين ، فأيده بأعظم وزير : عمر بن الخطاب رضي الله عنه - كما مضى هذا إلى تمام ما اشتمل عليه سياق قصة موسى عليه السلام هنا ، إتماماً لتبكيت اليهود على تعليمهم قريشاً أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح ، وما ذكر معها من دقائق ، من أمر قصة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، لا يعلمها أحد منهم أو إلا حذّاقهم ، منها أن الموعد كان يوم الزينة ، ومنها إيمان السحرة إيماناً كاملاً ، ومنها التهديد بتصليبهم في جذوع النخل ، ومنها إلقاء السامري لأثر الرسول ، فإني لم أر أحداً من اليهود يعرف ذلك ، وأخبرني بعض فضلائهم أنه لا ذكر لذلك عندهم .

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما ذكر سبحانه قصة إبراهيم عليه السلام وما منحه وأعطاه ، وقصص الأنبياء بعده بما خصهم به ، وأعقب ذلك بقوله تعالى { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم } [ مريم : 58 ] وكان ظاهر الكلام تخصيص هؤلاء بهذه المناصب العلية ، والدرجات المنفية الجليلة لا سيما وقد اتبع ذلك بقوله { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً } [ مريم : 59 ] كان هذا مظنة إشفاق وخوف فاتبعه تعالى بملاطفة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ملاطفة المحبوب المقرب المجتبى فقال { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } وأيضاً فقد ختمت سورة مريم يقوله { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً } بعد قوله { وتنذر به قوماً لداً } وقد رأى عليه الصلاة والسلام من تأخر قريش عن الإسلام ولددها ما أوجب إشفاقه وخوفه عليهم . ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام يحزنه تأخير إيمانهم ، ولذلك قيل له { فلا تحزن عليهم } فكأنه عليه الصلاة والسلام ظن أنه يستصعب المقصود من استجابتهم ، أو ينقطع الرجاء من إنابتهم فيطول العناء والمشقة ، فبشره سبحانه وتعالى بقوله : { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } فلا عليك من لدد هؤلاء وتوقفهم ، فيستجيب من انطوى على الخشية إذا ذكر وحرك إلى النظر في آيات الله كما قيل له في موضع آخر { فلا يحزنك قولهم } [ يونس : 65 ] ثم تبع ذلك سبحانه تعريفاً وتأنيساً بقوله { الرحمن على العرش استوى } إلى أول قصص موسى عليه السلام ، فأعلم سبحانه أن الكل خلقه ملكه ، وتحت قهره وقبضته لا يشذ شيء عن ملكه . فإذا شاهد آية من وفقه لم يصعب أمره ، ثم اتبع ذلك بقصة موسى عليه السلام ، وما كان منه في إلقائه صغيراً في اليم ، وما جرى بعد ذلك من عجيب الصنع وهلاك فرعون وظهور بني إسرائيل ، وكل هذا مما يؤكد القصد المتقدم ، وهذا الوجه الثاني أولى من الأول - والله أعلم ، انتهى . { إذ } أي حديثه حين { رأى ناراً } وهو راجع من بلاد مدين { فقال لأهله امكثوا } أي مكانكم واتركوا ما أنتم عليه من السير؛ ثم علل أمره بقوله : { إني ءانست } أي أبصرت في هذا الظلام إبصاراً بيناً لا شبهة فيه من إنسان العين الذي تبين به الأشياء ، وهو مع ذلك مما يسر من الإنس الذين هم ظاهرون ما ترك بهم { ناراً } فكأنه قيل ، فكان ماذا؟ فقال معبراً بأداة الترجي لتخصيصه الخبر الذي عبر به في النمل بالهدى : { لعلي ءاتيكم } أي أترجى أن أجيئكم { منها بقبس } أي بشعلة من النار في رأس حطبة فيها جمرة تعين على برد هذه الليلة { أو أجد على } مكان { النار هدى* } أي ما أهتدي به لأن الطريق كانت قد خفيت عليهم { فلما أتاها } .

ولما كان في الإبهام ثم تعيين تشويق ثم تعظيم ، بنى للمفعول قوله : { نودي } من الهدى الذي لا هدى غيره؛ ثم بين النداء بقوله : { يا موسى* } ولما كان المقام للتعريف بالأيادي تلطفاً ، قال مؤكداً ، تنبيهاً له على تعرف أنه كلامه سبحانه من جهة أنه يسمعه من غير جهة معينة وعلى غير الهيئة التي عهدها في مكالمة المخلوقين ، مسقطاً الجار في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي حفص بالفتح ، وحاكياً بقول مقدر عند الباقين : { إني أنا ربك } أي المحسن إليك بالخلق والرزق وغيرهما من مصالح الدارين { فاخلع نعليك } كما يفعل بحضرات الملوك أدباً ، ولتنالك بركتها ولتكون مهيأً للإقامة غير ملتفت إلى ما وراءك من الأهل والولد ، ولهذا قال أهل العبارة : النعل يدل على الولد .
ثم علل بما يرشد إلى أنه تعالى لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان فقال : { إنك بالواد المقدس } أي المطهر عن كل ما لا يليق بأفنية الملوك؛ ثم فسره بقوله : { طوى* } ولما كان المعنى : فإني اخترته تشريفاً له من بين البقاع لمناجاتك ، عطف عليه قوله : { وأنا اخترتك } أي للنبوة { فاستمع } أي أنصت ملقياً سمعك معملاً قلبك للسماع { لما } أي اخترتك للذي ، وقدم استمع اهتماماً به { يوحى* } أي يقال لك مني سراً مستوراً عن غيرك سماعه وإن كان في غاية الجهر ، كما يفعل الحبيب مع حبيبه من صيانة حديثهما عن ثالث بما يجعل له من الخلوة إعلاماً بعلو قدره وفخامة أمره؛ ثم فسر الموحى بأول الواجبات وهو معرفة الله تعالى؛ فقال مؤكداً لعظم الخبر وخروجه عن العادات : { إنني أنا الله } فذكر الاسم العلم لأن هذا مقامه إذ الأنسب للملطوف به - بعد التعرف إليه بالإكرام - الإقامة في مقام الجلال والجمال .
ولما كان هذا الاسم العلم جامعاً لجميع معاني الأسماء الحسنى التي علت عن أن يتصف بها أو بشيء منها حق الاتصاف غيره تعالى ، حسن تعقيبه بقوله : { لا إله إلا أنا } ولما تسبب عن ذلك وجوب إفراده بالعبادة ، قال : { فاعبدني } أي وحدي : ثم خص من بين العبادات معدن الأنس والخلوة ، وآية الخضوع والمراقبة وروح الدين فقال : { وأقم الصلاة } أي التي أضاعها خلوف السوء ، إشارة إلى أنها المقصود بالذات من الدين ، لأنها أعلى شرائعه لأنها حاملة على المراقبة ، بما فيها من دوام الذكر والإعراض عن كل سوء ، وذلك معنى { لذكري* } وذلك أنسب الأشياء لمقام الجلال ، بل هي الجامعة لمظهري الجمال والجلال؛ ثم علل الأمر بالعبادة بأنه لم يخلق الخلق سدى ، بل لا بد من إماتتهم ، ثم بعثهم لإظهار العظمة ونصب موازين العدل ، فقال مؤكداً لإنكارهم معبراً بما يدل على سهولة ذلك عليه جداً : { إن الساعة ءاتية } أي لاريب في إتيانها ، فهي أعظم باعث على الطاعة .

ولما كان بيان حقيقة الشيء مع إخفاء شخصه ووقته وجميع أحواله موجباً في الغالب لنسيانه والإعراض عنه ، فكان غير بعيد من إخفائه أصلاً ورأساً ، قال مشيراً إلى هذا المعنى : { أكاد أخفيها } أي أقرب من أن أجدد إخفاءها ، فلذا يكذب بها الكافر بلسانه والعاصي بعصيانه فالكافر لا يصدق بكونها والمؤمن لا يستعد غفلة عنها ، فراقبني فإن الأمر يكون بغتة ، ما من لحظة إلا وهي صالحة للترقب؛ ثم بين سبب الإتيان بها بقوله : { لتجزى } أي بأيسر أمر وأنفذه { كل نفس } كائنة من كانت { بما تسعى* } أي توجد من السعي في كل وقت كما يفعل من أمر ناساً بعمل من النظر في أعمالهم ومجازاة كل بما يستحق .

فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)

ولما كانت - لما تقدم - في حكم المنسي عند أغلب الناس قال : { فلا يصدنك عنها } أي إدامة ذكرها ليثمر التشمير في الاستعداد لها { من لا يؤمن بها } بإعراضه عنها وحمله غيره على ذلك بتزيينه بما أوتي من المتاع الموجب للمكاثرة المثمرة لامتلاء القلب بالمباهاة والمفاخرة ، فإن من انصد عن ذلك غير بعيد الحال ممن كذب بها ، والمقصود من العبارة نهي موسى عليه السلام عن التكذيب ، فعبر عنه بنهي من لا يؤمن عن الصد إجلالاً لموسى عليه السلام ، ولأن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب ، ولأن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدل على السبب ، فكأنه قيل : كن شديد الشكيمة صليب المعجم ، لئلا يطمع أحد في صدك وإن كان الصاد هم الجم الغفير ، فإن كثرتهم تصل إلى الهوى لا إلى البرهان ، وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل ، وزجر بليغ عن التقليد ، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله نبه عليه الكشاف . ثم بين العلة في التكذيب بها والكسل عن التشمير لها بقوله : { واتبع } أي بغاية جهده { هواه } فكان حاله حال البهائم التي لا عقل لها ، تنفيراً عن مثل حاله؛ ثم أعظم التحذير بقوله مسبباً : { فتردى* } أي فتهلك ، إشارة إلى أن من ترك المراقبة لحظة حاد عن الدليل ، ومن حاد عن الدليل هلك .
ولما كان المقام مرشداً إلى أن يقال : ما جوابك يا موسى عما سمعت؟ وكان تعالى عالماً بأنه يبادر إلى الجواب بالطاعة في كل ما تقدم ، طوى هذا المقال مومئاً إليه بأن عطف عليه قوله : { وما تلك } أي العالية المقدار { بيمينك يا موسى* } مريداً - بعد تأنيسه بسؤاله عما هو أعلم به منه - إقامة البينة لديه بما يكون دليلاً على الساعة من سرعة القدرة على إيجاد ما لم يكن ، بقلب العصا حية بعد تحقق أنها عصاه يقرب النظر إليها عند السؤال عنها ليزداد بذلك ثباتاً ويثبت من يرسل إليهم { قال هي } أي ظاهراً وباطناً { عصاي } ثم وصل به مستأنساً بلذيذ المخاطبة قوله بياناً لمنافعها خوفاً من الأمر بإلقائها كالنعل : { أتوكأ } أي أعتمد وأرتفق وأتمكن { عليها } أي إذا أعييت أو أعرض لي ما يحوجني إلى ذلك من زلق أو هبوط أو صعود أو طفرة أو ظلام ونحو ذلك؛ ثم ثنى بعد مصلحة نفسه بأمر رعيته فقال : { وأهشُّ } أي أخبط الورق ، قال ابن كثير : قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك : والهش أن يضع الرجب المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود ولا يخبط فهذا الهش ، قال : وكذا قال ميمون بن مهران ، وقال أبو حيان : والأصل في هذه المادة الرخاوة .

يقال : رجل هش . { بها على غنمي } .
ولما كان أكمل أهل ذلك الزمان ، خاف التطويل على الملك فقطع على نفسه ما هو فيه من لذة المخاطبة كما قيل : اجلس على البساط وإياك والانبساط ، وطمعاً في سماع كلامه سبحانه وتعالى ، فقال مجملاً : { ولي فيها مآرب } أي حوائج ومنافع يفهمها الألبّاء . ولما كان المحدث عنه لايعقل ، وأخبر عنه بحمع كثرة ، كان الأنسب معاملته معاملة الواحدة المؤنثة فقال : { أخرى* } تاركاً للتفصيل ، فكأنه قيل : فماذا قيل له؟ فقيل : { قال ألقها } أي العصا ، وأنسه بقوله سبحانه وتعالى : { يا موسى * فألقاها } أي فتسبب عن هذا الأمر المطاع أنه ألقاها ولم يتلعثم { فإذا هي } أي في الحال ظاهراً وباطناً { حية } عظيمة جداً يطلق عليها لعظمعا بنهاية أمرها اسم الثعبان ، والحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير { تسعى* } سعياً خفيفاً يطلق عليها لأجله في أول أمرها اسم الجان ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها صارت حية صفراء لها عرف كعرف الفرس ، وجعلت تتورم حتى صارت ثعباناً - انتهى . فهي في عظم الثعبان وسرعة الجان .
ولما كان ذلك أمراً مخيفاً ، استشرف السامع إلى ما يكون من حاله عند مثل هذا بعد ذلك ، فاستأنف إخباره بقوله : { قال } أي الله تبارك وتعالى على ما يكون منها عند فرعون لأجل التدريب : { خذها ولا تخف } مشيراً إلى أنه خاف منها على عادة الطبع البشريّ؛ ثم علل له النهي عن الخوف بقوله { سنعيدها } أي بعظمتنا عند أخذك لها بوعد لا خلف فيه { سيرتها } أي طريقتها { الأولى* } من كونها عصا ، فهذه آية بينة على أن الذي يخاطبك هو ربك الذي له الأسماء الحسنى ، فنزلت عليه السكينة ، وبلغ من طمأنينته أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ، فإذا هي عصاه ، ويده بين شعبتيها .
ولما أراه آية في بعض الآفاق ، أراد أن يريه آية في نفسه فقال : { واضمم يدك } من جيبك الذي يخرج منه عنقك { إلى جناحك } أي جنبك تحت العضد تنضم على ما هي عليه من لونها وما بها من الحريق ، وأخرجها { تخرج } فالآية من باب الاحتباك ، والجناح : اليد ، والعضد ، والأبط ، والجانب - قاله في القاموس ، فلا يعارض هذا ما في القصص لأنه أطلق الجناح هناك على اليد وهي أحق به ، وهنا على الجنب الذي هو موضعها تسمية للمحل باسم الحال { بيضاء } بياضاً كالشمس تتعجب منه .
ولما كان البرص أبغض شيء إلى العرب ، نافياً له ولغيره ، ولم يسمه باسمه لأن أسماعهم له مجاجة ، ولأن نفي الأعم من الشيء أبلغ من نفيه بخصوصه : { من غير سوء } أي مرض لا برص ولا غيره ، حال كونها { آية أخرى* } افعل ما أمرتك به من إلقاء العصا وضم اليد ، أو فعلنا ذلك من إحالة العصا ولون اليد من مناداتك لمناجاتك { لنريك } في جميع أيام نبوتك { من آياتنا الكبرى* } ليثبت بذلك حنانك ، ويزداد إتقانك ، فكأنه قيل : لماذا يفعل بي هذا؟ فقيل : لنرسلك إلى بعض المهمات { اذهب إلى فرعون } أي لترده عن عتوه : ثم علل الإرسال إلية بقوله ، مؤكداً لأن طغيان أحد بالنسبة إلى شيء مما للملك الأعلى مما يستبعد : { إنه طغى* } أي تجاوز حده من العبودية فادعى الربوبية ، وأشار إلى ما حصل له من الضيق من ذلك بما عرف من أنه أمر عظيم ، وخطب جسيم ، يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح قلب ضابط كما صرح به في سورة الشعراء - بقوله { قال رب اشرح } أي وسع { لي } ولما أبهم المشروح ليكون الكلام أوكد بتكرير المعنى في طريقي الإجمال والتفصيل ، قال رافعاً لذلك الإبهام : { صدري* } للإقدام على ذلك ، وإلى استصعابه بقوله : { ويسر لي } ثم بين ذلك الإبهام بقوله : { أمري* } وإلى استعجازه نفسه عن الإبانة لهم عن المراد بقوله : { واحلل } ولما كان المعنى هنا ما لا يحتمل غيره إذ إنه لم يسأل بقاءه في غير حال الدعوة ، عدل عن طريق الكلام الماضي فقال : { عقدة من لساني* } أي مما فيه من الحبسة عن الإتيان بجميع المقاصد من الجمرة التي وضعها في فيه وهو عند فرعون ، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولما كان سؤاله هذا إنما هو الله ، ولذلك اقتصر على قدر الحاجة فلم يطلب زوال الحبسة كلها ، أجابه بقوله : { يفقهوا قولي* } وإلى اعتقاد صعوبة المقام مع ذلك كله بطلب التأييد بنصير يهمه أمره بقوله : { واجعل لي } أي مما تخصني به؛ وبين اهتمامه بالإعانة كما يقتضيه الحال فقدم قوله : { وزيراً } أي ملجأ يحمل عني بعض الثقل ويعاونني { من أهلي* } لأني به أوثق لكونه عليّ أشفق ، ثم أبدل منه قوله : { هارون } وبينه بقوله : { أخي* } أي لأنه أجدر أهلي بتمام مناصرتي؛ وأجاب الدعاء في قراءة ابن عامر فقال : { اشدد } بقطع الهمزة مفتوحة { به أزري* } أي قوتي وظهري { وأشركه } بضم الهمزة مسنداً الفعلين إلى ضميره على أنهما مضارعان ، وقراءة الباقين بوصل الأول وفتح همزة الثاني على أنهما أمران ، مسندين إلى الله تعالى على الدعاء { في أمري* } أي النبوة .

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)

ولما أفهم سؤاله هذا أن له فيه أغراضاً ، أشار إلى أنها ليست مقصودة له لأمر يعود على نفسه بذكر العلة الحقيقية ، فقال : { كي نسبحك } أي بالقول والفعل بالصلاة وغيرها { كثيراً* } فأفصح عن أن المراد بالمعاضدة إنما هو لتمهيد الطريق إليه سبحانه .
ولما كان التسبيح ذكراً خاصاً لكونه بالتنزيه الذي أعلاه التوحيد ، أتبعه العام فقال : { ونذكرك } أي بالتسبيح والتحميد { كثيراً } فإن التعاون والتظاهر أعون على تزايد العبادة أنه مهيج للرغبات؛ ثم علل طلبه لأخيه لأجل هذا الغرض بقوله : { إنك كنت بنا بصيراً* } قبل الإقامة في هذا الأمر في أنك جبلتنا على ما يلائم ذكرك وشكرك ، وأن التعاضد مما يصلحنا ، وكل ذلك تدريب لمن أنزل عليه الذكر على مثله وتذكير بنعمة تيسيره بلسانه ليزداد ذكراً وشكراً .
ولما تم ذلك ، كان موضع توقع الجواب ، فأتبعه قوله : { قال } أي الله : { قد أوتيت } بأسهل أمر { سؤلك } أي ما سألته { يا موسى } من حل عقدة لسانك وغير ذلك ولو شئت لم أفعل ذلك ولكني فعلته منة مني عليك .
ولما كان إنجاؤه من فرعون يث ولد في السنة التي يذبح فيها الأبناء - قالوا : وهي الرابعة من ولادة هارون عليه السلام - بيد فرعون وفي بيته أمراً عظيماً ، التفت إلى مقام العظمة مذكراً له بذلك تنويراً لبصيرته وتقوية لقلبه ، إعلاماً بأنه ينجيه منه الآن ، كما أنجاه في ذلك الزمان ، ويزيده بزيادة السن والنبوة خيراً ، فيجعل عزه في هلاكه كما جعل إذ ذاك عزه في وجوده فقال : { ولقد مننا } أي أنعمنا إنعاماً مقطوعاً به على ما يليق بعظمتنا { عليك } فضلاً منا { مرة أخرى* } غير هذه؛ ثم ذكر وقت المنة فقال : { إذ } أي حين { أوحينا } أي بما لنا من العظمة { إلى أمك } أي بالإلهام { ما } يستحق لعظمته أن { يوحى* } به ، ولا يعلمه إلا نبي أو من هو قريب من درجة النبوة؛ ثم فسره بقوله : { أن اقذفيه } أي ألقي ابنك { في التابوت } وهو الصندوق ، فعلوت من التوب الذي معناه تفاؤلاً به ، وقال الحرالي : هو وعاء ما يعز قدره ، والقذف مجاز عن المسارعة إلى وضعه من غير تمهل لشيء أصلاً ، إشارة إلى أنه فعل مضمون السلامة كيف ما كان ، والتعريف لأنه نوع من الصناديق أشد الناس معرفة به بنو إسرائيل { فاقذفيه } أي موسى عليه السلام عقب ذلك بتابوته ، أو التابوت الذي فيه موسى عليه السلام { في اليم } أي البحر وهو النيل .
ولما كانت سلامته في البحر من العجائب ، لتعرضه للغرق بقلب الريح للتابوت ، أو بكسره في بعض الجدر أو غيرها ، أو بجريه مستقيماً مع أقوى جرية من الماء إلى البحر الملح وغير ذلك من الآفات ، أشار إلى تحتم تنجيته بلام الأمر عبارة عن معنى الخبر في قوله ، جاعلاً البحر كأنه ذو تمييز ليطيع الأمر : { فليلقه } أي التابوت الذي فيه موسى عليه السلام أو موسى بتابوته { اليم بالساحل } أي شاطىء النيل ، سمي بذلك لأن الماء يسحله ، أي ينشره إلى جانب البيت الذي الفعل كله هرباً من شر صاحبه ، وهو فرعون ، وهو المراد بقوله : { يأخذه } جواباً للأمر ، أي موسى { عدو لي } ونبه على محل العجب بإعادة لفظ العدو في قوله : { وعدو له } فإنه ما عادى بني إسرائيل بالتذبيح إلا من أجله { وألقيت عليك محبة } أي عظيمة؛ ثم زاد الأمر في تعظيمها إيضاحاً بقوله : { مني } أي ليحبك كل من رآك لما جبلتك عليه من الخلال الحميدة ، والشيم السديدة ، لتكون أهلاً لما أريدك له { ولتصنع } أي تربى بأيسر أمر تربية بمن هو ملازم لك لا ينفك عن الاعتناء بمصالحك عناية شديدة { على عيني* } أي مستعلياً على حافظيك غير مستخفى في تربيتك من أحد ولا مخوف عليك منه ، وأنا حافظ لك حفظ من يلاحظ الشيء بعينه لا يغيب عنها ، فكان كل ما أردته ، فلما رآك هذا العدو أحبك وطلب لك المراضع ، فلما لم تقبل واحدة منهن بالغ في الطلب ، كل ذلك إمضاء لأمري وإيقافاً لأمره به نفسه لا بغيره ليزداد العجب من إحكام السبب ، ثم ذكر ظرف الصنع فقال : { إذ } أي حين { تمشي أختك } أي في الموضع الذي وضعوك به لينظروا لك مرضعة { فتقول } بعد إذ رأتك ، لآل فرعون : { هل أدلكم على من يكفله } أي يقوم بمصالحه من الرضاع والخدمة ، ناصحاً له ، فقالوا : نعم! فجاءت بأمك فقبلت ثديها { فرجعناك } أي فتسبب عن قولها هذا أن رجعناك { إلى أمك } حين دلتهم عليها { كي تقر } أي تبرد وتسكن { عينها } وتربيك آمنة عليك غير خائفة ، ظاهرة غير مستخفية { ولا تحزن } بفراقك أو بعدم تربيتها لك وبذلها الجهد في نفعك { وقتلت نفساً } أي بعد أن صرت رجلاً من القبط دفعاً عن رجل من قومك فطلبت بها وأرادوا قتلك { فنجيناك } بما لنا من العظمة { من الغم } الذي كان قد نالك بقتله خوفاً من جريرته ، بأن أخرجناك مهاجراً لديارهم نحو مدين { وفتناك فتوناً } أي خلصناك من محنة بعد محنة مرة بعد مرة ، على أنه جمع فتن أو فتنة ، على ترك الاعتداد بالتاء ، ويجوز أن يكون مصدراً كالشكور ، إذن الفتون ولادته عام الذبح وإبقاؤه في البحر ثم منعه الرضاع من غير ثدي أمه ثم جره لحية فرعون ، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة ، ثم قتله القبطي ، ثم خروجه إلى مدين في الطريق الهيع خائفاً يترقب ، ثم إيجار نفسه عشر سنين ، ثم إضلاله الطريق ، ثم تفرق غنمه في ليلة مظلمة { فلبثت سنين } أي كثيرة { في أهل مدين } مقيماً عند نبينا شعيب عليه السلام يربيك بآدابه ، وصاهرته على ابنته { ثم جئت } أي الآن { على قدر } أي وقت قدّرته في الأزل لتكليمي لك ، وهو بلوغ الأشد والاستواء ، وإرسالك إلى فرعون لأمضي فيه قدري الذي ذبح أبناء بني اسرائيل خوفاً منه ، فجئت غير مستقدم ولا مستأخر { يا موسى * واصطنعتك } أي ربيتك بصنائع المعروف تربية من يتكلف تكوين المربى على طريقة من الطرائق { لنفسي * } أي لتفعل من مرضاتي في تمهيد شرائعي وإنفاذ أوامري ما يفعله من يصنع للنفس من غير مشارك ، فهو تمثيل لما حوله من منزلة التقريب والتكريم .

فلما تمهد ذلك كله بعد علم نتيجته ، أعادها في قوله : { اذهب أنت } كما تقدم أمري لك به { وأخوك } كما سألت { بآياتي } التي أريتك وغيرها مما أظهره على يديك { ولا تنيا } أي تفترا وتضعفا { في ذكري* } الذي تقدم أنك جعلته غاية دعائك ، بل لتكن - مع كونه ظرفاً محيطاً بجميع أمرك - في غاية الاجتهاد فيه وإحضار القلب له ، وليكن أكثر ما يكون عند لقاء فرعون أن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه ، فإن ذلك أعون شيء على المراد ، ثم بين المذهوب إليه بقوله ، مؤكداً لنفس الذهاب لأنه لشدة الخطر لا يكاد طبع البشر يتحقق جزم الأمر به فقال : { اذهبا إلى فرعون } ثم علل الإرسال إليه بقوله ، مؤكداً لما مضى ، ولزيادة التعجيب من قلة عقله ، فكيف بمن تبعه { إنه طغى* } ثم أمرهما بما ينبغي لكل آمر بالمعروف من الأخذ بالأحسن فالأحسن والأسهل فالأسهل ، فقال مسبباً عن الانتهاء إليه ومعقباً : { فقولا له قولاً ليناً } لئلا يبقى له حجة ، ولا يقبل له معذرة { لعله يتذكر } ما مر له من تطوير الله له في أطوار مختلفة ، وحمله فيما يكره على ما لم يقدر على الخلاص منه بحيلة ، فيعلم بذلك أن الله ربه ، وأنه قادر على ما يريد منه ، فيرجع عن غيّه فيؤمن { أو يخشى* } أي أو يصل إلى حال من يخاف عاقبة قولكما لتوهم الصدق فيكون قولكما تذكرة له فيرسل معكما بني إسرائيل ، ومعنى الترجي أن يكون حاله حال من يرجى منه ذلك ، لأنها من ثمرة اللين في الدعاء ، جرى الكلام في هذا وأمثاله على ما يتعارفه العباد في محاوراتهم ، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون ، فالمراد : اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم ، وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلما ، وأما علمه تعالى فقد أتى من وراء ما يكون - قاله سيبويه في باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء .

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)

ولما كان فرعون في غاية الجبروت ، وكان حاله حال من يهلكهما إلا أن يمنعهما الله ، وأراد علم ما يكون من ذلك { قالا ربنا } أي أيها المحسن إلينا . ولما كان مضمون إخبارهما بالخوف مع كونهما من جهة الله - من شأنه أن لا يكون وأن ينكر ، أكد فقالا مبالغين فيه بإظهار النون الثالثة إبلاغاً في إظهار الشكوى ليأتي الجبر على قدر ما يظهر من الكسر : { إننا نخاف } لما هو فيه من المكنة { أن يفرط } أي يجعل { علينا } بالعقوبة قبل إتمام البلاغ عجلة من يطفر ويثب إلى الشيء { أو أن يطغى* } فيتجاوز إلى أعظم مما هو فيه من الاستكبار { قال لا تخافا } ثم علل ذلك بما هو مناط النصرة والحيطة للولي والإهلاك للعدو ، فقال مؤكداً إشارة إلى عظم الخبر ، وتنبيهاً لمضمونه لأنه خارج عن العوائد ، وأثبت النون الثالثة على وزان تأكيدهما : { إنني معكما } لا أغيب كما تغيب الملوك إذا أرسلوا رسلهم { أسمع وأرى* } أي لي هاتان الصفتان ، لا يخفى عليَّ شيء من حال رسولي ولا حال عدوه ، وأنتما تعلمان من قدرتي ما لا يعلمه غيركما .
ولما تمهد ذلك ، تسبب عنه تعليمهما ما يقولان ، فقال مؤكداً للذهاب أيضاً لما مضى : { فأتياه فقولا } أي له؛ ولما كان فرعون ينكر ما تضمنه قولهما ، أكد سبحانه فقال : { إنا } ولما كان التنبيه على معنى المؤازرة هنا - كما تقدم مطلوباً ، ثنى فقال : { رسولا ربك } الذي رباك فأحسن تربيتك بعد أن أوجدك من العدم ، إشارة إلى تحقيره بأنه من جملة عبيد مرسلهما تكذيباً له في ادعائه الربوبية ، ثم سبب عن إرسالكما إليه قولكما : { فأرسل معنا } عبيده { بني إسرائيل } ليعبدوه ، فإنه لا يستحق العبادة غيره { ولا تعذبهم } بما تعذبهم به من الاستخدام والتذبيح؛ ثم علل دعوى الرسالة بما يثبتها ، فقال مفتتحاً بالحرف التوقع لأن حال السامع لادعاء الرسالة أن يتوقع دلالة على الإرسال : { قد جئناك بآية } أي علامة عظيمة وحجة وبرهان { من ربك } الذي لا إحسان عليك إلا منه ، موجبة لقبول ما ادعيناه من العصا واليد وغيرهما ، فأسلم تسلم ، وفي تكرير مخاطبته بذلك تأكيد لتبكيته في ادعاء الربوبية ، ونسبته إلى كفران الإحسان ، فسلام عليك خاصة إن قبلت هدى الله { والسلام } أي جنسه { على } جميع { من اتبع } بغاية جهده { الهدى* } عامة ، وإذا كان هذا الجنس عليهم كان من المعلوم أن العطب على غيرهم ، فالمعنى : وإن أبيت عذبت { إنا } أي لأنا { قد أوحي إلينا } من ربنا { أن العذاب } أي كله ، لأن اللام للاستغراق أو الماهية ، وعلى التقديرين يقتضي قدر ثبوت هذا الجنس ودوامه لما تفهمه الاسمية { على } كل { من كذب وتولى* } أي أوقع التكذيب والإعراض ، وذلك يقتضي أنه إن كان منه شيء على مصدق منقضياً ، وإذا انقضى كان كأن لم يوجد ، وفي صرف الكلام عنه تنبيه على أنه ضال مكذب وتعليم للأدب .

ولما كان التقدير : فأتياه فقولا : إنا رسولا ربك - إلى آخر ما أمر به ، وتضمن قولهما أن لمرسلهما القدرة التامة والعلم الشامل ، فتسبب عنه سؤاله عن تعيينه ، أستأنف الإخبار عن جوابه بقوله : { قال } أي فرعون مدافعاً لهما بالمناظرة لا بالبطش ، لئلا ينسب إلى السفه والجهل : { فمن } أي تسبب عن كلامكما هذا الذي لا يجترىء على مواجهتي به أحد من أهل الأرض أن أسألكما : من { ربكما } الذي أرسلكما ، ولم يقل : ربي ، حيدة عن سواء النظر وصرفاً للكلام على الوجه الموضح لخزيه .
ولما كان موسى عليه السلام هو الأصل في ذلك ، وكان ربما طمع فرعون بمكره وسوء طريقه في حبسه تحصل في لسانه ، أفرده بقوله : { يا موسى * قال } له موسى على الفور : { ربنا } أي موجدنا ومربينا ومولانا { الذي أعطى كل شيء } مما تراه في الوجود { خلقه } أي ما هو عليه مما هو به أليق في المنافع المنوطة به ، والآثار التي تتأثر عنه من الصورة و الشكل والمقدار واللون والطبع وغير ذلك مما يفوت الحصر ، ويجل عن الوصف .
ولما كان في إفاضة الروح من الجلالة والعظم ما يضمحل عنده غيره من المفاوتة ، أشار إلى ذلك بحرف التراخي فقال : { ثم هدى * } أي كل حيوان منه مع أن فيها العاقل وغيره إلى جميع منافعه فيسعى لها ، ومضاره فيحذرها ، فثبت بهذه المفاوتة والمفاصلة مع اتحاد نسبة الكل إلى الفاعل أنه واحد مختار ، وأن ذلك لو كان بالطبيعة المستندة إلى النجوم أو غيرها كما كان يعتقده فرعون وغيره لم يكن هذا التفاوت .
ولما لم يكن لأحد بالطعن في هذا الجواب قبل لأنه لا زلل فيه ولا خلل مع رشاقته واختصاره وسبقه بالجمع إلى غاية مضماره - صرف الكلام بسرعة خوف من الاتضاح ، بزيادة موسى عليه السلام في الإيضاح ، فيظهر الفساد من الصلاح ، إلى شيء يتسع فيه المجال ، ولا يقوم عليه دليل ، فيمكن فيه الرد ، فأخبر عنه سبحانه على طريق الاستئناف بقوله : { قال فما } أي تسبب عما تضمن هذا من نسبة ربك إلى العلم بكل موجود أني أقول لك : فما { بال } أي خبر { القرون الأولى* } الذي هو في العظمة بحيث إنه ما خالط أحداً إلى أحاله وأماله ، وهو وأن كان حيدة ، هو من أمارات الانقطاع ، غير أنه فعل راسخ القدم في المكر والخداع .
ولما فهم عنه موسى عليه السلام ما أراد أن ترتب على الخوض في ذلك مما لا طائل تحته من الرد والمطاولة ، ولم تكن التوراة نزلت عليه إذ ذاك ، وإنما نزلت بعد هلاك فرعون لم يمش معه في ذلك { قال } قاطعاً له عنه : { علمها عند ربي } أي المحسن إليّ بإرسالي وتلقيني الحجاج .

ولما كانت عادة المخلوقين إثبات الأخبار في الكتب ، وكان تعالى قد وكل بعباده من ملائكته من يضبط ذلك ، قال مخاطباً له بما يعرفون من أحوالهم : { في كتاب } أي اللوح المحفوظ . ولما كان ربما وقع في وهم واهم أن الكتاب لا يكون إلاخوفاً من نسيان الشيء أو الجهل بالتوصل إليه مع ذكر عينه ، نفى ذلك بقوله : { لا يضل ربي } أي الذي رباني كما علمت ونجاتي من جميع ما قصدتموه لي من الهلاك ولم يضل عن وجه من وجوهه ، ولا نسي وجهاً يدخل منه شيء من خلل { ولا ينسى* } أي لا يقع منه نسيان لشيء أصلاً من أخباره ولا لغيرهم ، وفي ذلك إشارة إلى تبكيت اليهود بأن ثبوت النبوة إن كان يتوقف على أن يخبر النبي عن كل ما يسأل عنه لزم أن يتوقفوا في نبوة نبيهم عليه السلام لأنه لم يخبر فرعون عما سأله عنه من أمر القرون؛ ثم وصل بذلك ما كان فيه قبل من الدليل العقلي على وحدة الصانع واختياره فقال : { الذي جعل لكم } أيها الخلائق { الأرض } أي أكثرها { مهداً } تفترشونها ، وجعل بعضها جبالاً لا يمكن القرار عليها ، وبعضها رخواً تسرح فيه الأقدام وبعضها جلداً - إلى غير ذلك مما تشاهدون فيها من الاختلاف { وسلك لكم فيها سبلاً } أي سهّل طرقاً تسلكونها في أراضي سهلة وحزنة وسطها بين الجبال والأودية والرمال ، وهيأ لكم فيها من المنافع من المياه والمراعي ما يسهل ذلك ، وجعل فيها ما لا يمكن استطراقه أصلاً ، من أن نسبة الكل إلى الطبيعة واحدة ، فلولا أن الفاعل واحد مختار لم يكن هذا التفاوت وعلى هذا النظام البديع { وأنزل من السماء ماء } تشاهدونه واحداً في اللون والطعم .
ولما كان ما ينشأ عنه أدل على العظمة وأجلى للناظر وأظهر للعقول . استغرق صلى الله عليه وسلم في بحار الجلال ، فاستحضر أن الآمر له بهذا الكلام هو المتكلم به في الحقيقة فانياً عن نفسه وعن جميع الأكوان ، فعبر عن ذلك ، عادلاً عن الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع بما له من العظمة بقوله : { فأخرجنا } أي بما لنا من العظمة التي تنقاد لها الأشياء المختلفة { به أزواجاً } أي أصنافاً متشاكلة ليس فيها شيء يكون واحداً لا شبيه له { من نبات شتى* } أي مختلفة جداً في الألوان والمقادير والمنافع والطبائع والطعوم؛ ثم أشار إلى تفصيل ما فيها من الحكمة بقوله حالاً من فاعل { أخرجنا } : { كلوا } أي ما دبره لكم بحكمته منها { وارعوا } أي سرحوا في المراعي { أنعامكم } ما أحكمه لها ولا يصلح لكم ، فكان من متقن تدبيره أن جعل أرزاق العباد بعملها تنعيماً لهم ، وجعل علفها مما يفضل عن حاجتهم ، ولا يقدرون على أكله ، وقد دلت هذه الأوصاف على تحققه سبحانه قطعاً بأنه لا يضل ولا ينسى من حيث إنه تعالى أبدع هذا العالم شاملاً لكل ما يحتاجه من فيه لما خلقهم له من السفر إليه والعرض عليه في جميع تقلباتهم على اختلافها ، وتباين أصنافها ، وتباعد أوصافها ، وعلى كثرتهم ، وتنائي أمزجتهم ، ولم يدعه ناقصاً من شيء من ذلك بخلاف غيره ، فإنه لو عمل شيئاً واجتهد كل الاجتهاد في تكميله فلا بد أن يظهر له فيه نقص ويصير يسعى في إزالته وقتاً بعد وقت .

ولما كمل هذا البرهان القويم ، دالاً على العليم الحكيم ، قال منبهاً على انتشار أنواره ، وجلالة مقداره ، مؤكداً لأجل إنكار المنكرين : { إن في ذلك } أي الإنشاء هذه الوجوه المختلفة { لآيات } على منشئه { لأولي النهى * } العقول التي من شأنها أن تنهى صاحبها عن الغيّ ، ومن عمي عن ذلك فلا عقل له أصلاً لأن عقله لم ينفعه ، وما لا ينفع في حكم العدم ، وذكر ابن كثير هنا ما عزاه ابن إسحاق في السيرة لزيد بن عمرو بن نفيل ، وابن هشام لأمية بن أبي الصلت :
وأنت الذي من فضل منّ ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولاً منادياً
فقلت ألا يا اذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان باغيا
فقولا له آأنت سويت هذه ... بلا وتد حتى استقلت كما هيا
وقولا له آأنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق إذن بك بانيا
وقولا له آأنت سويت وسطها ... منيراً إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يخرج الشمس بكرة ... فيصبح ما مست من الزرع ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى ... فيخرج منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه ... وفي ذاك آيات لمن كان واعيا

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)

ولما أخبر سبحانه وتعالى عما خلق في الأرض من المنافع الدالة على تمام علمه وباهر قدرته ، على وجه دالّ على خصوص القدرة على البعث ، وكان من الفلاسفة تناسخيتهم وغيرهم من يقر الله بالوحدانية ولا يقر بقول أهل الإسلام : إن الروح جسم لطيف سار في الجسم سريان النار في الفحم ، بل يقول : إنها ليست بجسم ولا قوة في جسم ولا صورة لجسم وليست متصلة به اتصال انطباع ولا حلول فيه ، بل اتصال تدبير وتصرف ، وأنها إذا فارقت البدن اتصلت بالروحانيين من العالم العقلي الذي هو عالم المجردات وانخرطت في سلك الملائكة المقربين ، أو اتصلت ببعض الأجرام السماوية من كوكب أو غيره كاتصالها بالبدن الأول وانقطع تعلقها به فلم تعد إليه حتى ولا يوم البعث عند من يقول منهم بالحشر ، وصل بذلك قوله تعالى ، يرد عليهم ، معبراً بالضمير الذي يعبر به الهيكل المجتمع من البدن والنفس : { منها } أي الأرض لا من غيرها { خلقناكم } إذ أخرجناكم منها بالعظمة الباهرة في النشأة الأولى بخلق أبيكم آدم عليه السلام { وفيها } لا في غيرها كما أنتم كذلك تشاهدون { نعيدكم } بالموت كذلك أجساماً وأرواحاً ، فتصيرون تراباً كما كنتم ، وللروح مع ذلك وأن كانت في عليين تعلق ببدنها بوجه ما ، يدرك البدن به اللذة بالتذاذها والألم بتألهما ، وقد صح أن الميت يقعد في قبره ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام ، لا يقدر أحد منكم أن يخلص من تلك العظمة المحيطة بجليل عظمته ولا بدقيق حكمته { ومنها } لا من غيرها { نخرجكم } يوم البعث بتلك العظمة بعينها { تارة أخرى* } كما بدأناكم أول مرة مثل ما فعلنا في النبات سواء ، فقد علم أن هذا فعل الواحد المختار ، لا فعل الطبائع ، فمرة جعلكم أحياء من شيء ليس له أصل في الحيوانية أصلاً ، وكرة ردكم إلى ما كنتم عليه قبل الحياة تراباً لا روح فيه ولا ما يشبهها ، فلا ريب أن فاعل ذلك قادر على أن يخرجكم منها أحياء كما ابتدأ ذلك ، بل الإعادة أهون في مجاري العادة .
ولما كان ما ذكر مما علق بالأرض من المرافق وغيره على غاية من الوضوح ، ليس وراءها مطمح ، فكان المعنى : أرينا فرعون هذا الذي ذكرنا لكم من آياتنا وغيره ، وكان المقام لتعظيم القدرة ، عطف عليه قوله : { ولقد أريناه } أي بالعصا واليد وغيرهما مما تقدم من مقتضى عظمتنا { آياتنا } أي التي عظمتها من عظمتنا { كلها } بالعين والقلب لأن من قدر على مثل ذلك فهو قادر على غيره من أمثاله من خوارق العادات ، لأن الممكنات بالنسبة إلى قدرته على حد سواء ، لا سيما والذي ذكر أمهات الآيات كما سيومأ إليه إن شاء الله تعالى في سورة الأنبياء { فكذب } أي بها { وأبى* } أي أن يرسل بني إسرائيل؛ وهذا أبلغ من تعديد ما ذكر في الأعراف ، فكأنه قيل : كيف صنع في تكذيبه وإبائه؟ فقيل : { قال } حين لم يجد مطعناً مخيلاً للقبط بما يثيرهم حمية لأنفسهم لأنه علم حقية ما جاء به موسى وظهوره ، وتقبل العقول له ، فخاف أن يتبعه الناس ويتركوه ، ووهن في نفسه وهناً عظيماً بتأمل كلماته مفردة ومركبة يعرف مقداره : { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا } هذه التي نحن مالكوها { بسحرك يا موسى* } فخيل إلى أتباعه أن ذلك سحر ، فكان ذلك - مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال - صارفاً لهم عن اتباع ما رأوا من البيان ، ثم وصل بالفاء السببية قوله مؤكداً إيذاناً بعلمه أن ما أتى به موسى ينكر كل من يراه أن يقدر غيره على معارضته : { فلنأتينك } أي والإله الأعظم! بوعد لا خلف فيه { بسحر مثله } تأكيداً لما خيل به؛ ثم أظهر النصفة والعدل إيثاقاً لربط قومه فقال : { فاجعل بيننا وبينك موعداً } أي من الزمان والمكان { لا نخلفه } أي لا نجعله خلفنا { نحن ولا أنت } بأن نقعد عن إتيانه .

ولما كان من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال : { مكاناً } وآثر ذكر المكان لأجل وصفه بقوله : { سوى * } أي عدلاً بيننا ، لا حرج على واحد منا في قصده أزيد من حرج الآخر ، فانظر هذا الكلام الذي زوقه وصنعه ونمقه فأوقف به قومه عن السعادة واستمر يقودهم بأمثاله حتى أوردهم البحر فأغرقهم ، ثم في غمرات النار أحرقهم ، فعلى الكيس الفطن أن ينقد الأقوال والأفعال ، والخواطر والأحول ، ويعرضها على محك الشرع : الكتاب والسنة ، فما وافق لزمه وما لا تركه .
ولما كان مجتمع سرورهم الذي اعتادوه حاوياً لهذه الأغراض زماناً ومكاناً وغيرهما ، اختاره عليه السلام لذلك ، فاستؤنف الخبر عنه في قوله تعالى : { قال موعدكم } أي الموصوف { يوم الزينة } أي عيدكم الذي اعدتم الاجتماع فيه في المكان الذي اعتدتموه ، فآثر هنا ذكر الزمان وإن كان يتضمن المكان لما فيه من عادة الجمع كما آثر فيما تقدم المكان لوصفه بالعدل { وأن يحشر } بناه للمفعول لأن القصد الجمع ، لا كونه من معين { الناس } أي إغراء ولو بكره { ضحى* } ليستقبل النهار من أوله ، فيكون أظهر لما يعمل وأجلى ، ولا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر ، وعرف المحق من المبطل ، وأنتم أجمع ما تكونون وأفرغ ، فيكل حد المبطلين وأشياعهم ، والمتكبرين على الحق وأتباعهم ، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر { فتولى فرعون } عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله { فجمع كيده } أي مكره وحيلته وخداعه ، الذي دبره على موسى بجمع من يحصل بهم الكيد ، وهم السحرة ، حشرهم من كل أوب ، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً ، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناء بالسحر وأمهر ما كانوا وأكثر { ثم أتى * } للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس ، مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد ، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها .

قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)

ولما تشوف السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك ، استأنف سبحانه الخبر عنه بقوله : { قال لهم } أي لأهل الكيد وهم السحرة وغيرهم { موسى } حين رأى اجتماعهم ناصحاً لهم : { ويلكم } يا أيها الناس الذين خلقهم الله لعبادته { لا تفتروا } أي لا تتعمدوا أن تصنعوا استعلاء { على الله كذباً } بجعلكم آياته العظام الثابتة سحراً لا حقيقة له ، وادعائكم أن ما تخيلون به حق وليس بخيال ، وإشراككم به؛ وسبب عنه قوله : { فيسحتكم } أي يهلككم؛ قال الرازي . وأصله الاستئصال { بعذاب } أي عظيم تظهر به خيبتكم { وقد خاب } كل { من افترى * } أي تعمد كذباً على الله أو على غيره { فتنازعوا } أي تجاذب السحرة { أمرهم بينهم } لما سمعوا هذا الكلام ، علماً منهم بأنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جميع جنوده وأتباعه لم يسلم منه إلا من الله معه { وأسروا النجوى* } أي كلامهم الذي تناجوا به وبالغوا في إخفائه ، فإن النجوى الإسرار ، لئلا يظهر فرعون وأتباعه على عوارهم في اختلافهم الذي اقتضاه لفظ التنازع ، فكأنه قيل : ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل : { قالوا } أي السحرة بعد النظر وإجالة الرأي ما خيلهم به فرعون تلقناً منه وتقرباً إليه بما ينفر الناس عن موسى وهارون عليهما السلام ويثبطهم عن اتباعهما وإن غلبا ، لأنه لا ينكر غلبة ساحر على ساحر آخر : { إن هذان } أي موسى وهارون وقرىء : هاذان - بالألف ، على لغة من يجعل ألف المثنى لازمة في كل حال؛ قال أبو حيان : وهي لغة لطوائف من العرب لبني الحارث بن كعب وبعض كنانة خثعم وزبيد وبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذره . { لساحران } لا شك في ذلك منهما { يريدان } أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها { أن يخرجاكم } أيها الناس { من أرضكم } هذه التي ألفتموها ، وهي وطنكم خلفاً عن سلف { بسحرهما } الذي أظهراه لكم وغيره .
ولما كان كل حزب بما لديهم فرحون قالوا : { ويذهبا بطريقتكم } هذه السحرية التي تعبتم في تمهيدها ، وأفنى فيها أسلافكم أعمارهم ، حتى بلغ أمرها الغاية ، وبدينكم الذي به قوامكم { المثلى* } أي التي هي أمثل الطرق ، فيكونا آثر بما يظهرانه منها عند الناس منكم ، ويصرفان وجوه الناس إليها عنكم ، ويبطل ما لكم بذلك من الارزاق والعظمة عند الخاص والعام وغير ذلك من الأغراض { فأجمعوا كيدكم } أي لا تدعوا منه شيئاً إلا جئتم به ولا تختلفوا تضعفوا { ثم ائتوا } إلى لقاء موسى وهارون لمباراتهما { صفاً } أي متسابقين متساوين في السباق ليستعلي أمركم عليهما فتفلحوا ، والاصطفاف أهيب في صدور الرائين .
ولما كان التقدير : فمن أتى كذلك فقد استعلى ، عطف عليه قولهم محققاً : { وقد أفلح اليوم } في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط { من استعلى* } أي غلب ووجد علوه ، أي ففعلوا ما تقدم وأتوا صفاً ، فلما أتوا وكانوا خبيرين بأن يقولوا ما ينفعهم في مناصبة موسى عليه السلام ، استؤنف الإخبار عنه بقوله تعالى : { قالوا } أي السحرة منادين ، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع لم يضر : { يا موسى إما أن تلقي } ما معك مما تناظرنا به أولاً { وإما أن نكون } أي نحن { أول من ألقى* } ما معه { قال } أي موسى مقابلاً لأدبهم بأحسن منه ولأنه فهم أن مرادهم الابتداء ، وليكون هو الآخر فيكون العاقبة بتسليط معجزته على سحرهم فلا يكون بعدها شك : لا ألقي أنا أولاً { بل ألقوا } أنتم أولاً ، فانتهزوا الفرصة ، لأن ذلك كان مرادهم بما أفهموه من تعبير السياق والتصريح بالأول ، فألقوا { فإذا حبالهم وعصيهم } التي ألقوها { يخيل إليه } وهو صفينا تخييلاً مبتدئاً { من سحرهم } الذي كانوا قد فاقوا به أهل الأرض { أنها } لشدة اضطربها { تسعى* } سعياً ، وإذا كان هذا حاله مع أنه أثبت الناس بصراً وأنفذهم بصيرة فما ظنك بغيرة! { فأوجس } أي أضمر بسبب ذلك ، وحقيقته : أوقع واجساً أي خاطراً وضميراً .

ولما كان المقام لإظهار الخوارق على يديه ، فكان ربما فهم أنه أوقعه في نفس أحد غيره ، كان المقام للاهتمام بتقديم المتعلق ، فقال لذلك لا لمراعاة الفواصل : { في نفسه } أي خاصة ، وقدم ما المقام له والاهتمام به فقال : { خيفة موسى* } مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك على ما هو طبع البشر ، وللنظر إلى الطبع عبر بالنفس لا القلب مثلاً .

قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)

ولما كان ذلك ، وكان المعلوم أن الله معه ، وأنه جدير بإبطال سحرهم ، استأنف الخبر عنه بقوله : { قلنا } بما لنا من العظمة : { لا تخف } من شيء من أمرهم ولا غيره ، ثم علل ذلك بقوله ، وأكده أنواعاً من التأكيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من سحرهم لعظمه : { إنك أنت } أي خاصة { الأعلى* } أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها { وألق } وأشار إلى يمن العصا وبركتها بقوله : { ما في يمينك } أي من هذه العصا التي قلنا لك أول ما شرفناك بالمناجاة { وما تلك بيمينك يا موسى } ثم أريناك منها ما أريناك { تلقف } بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك - بما أشار إليه حذف التاء { ما صنعوا } أي فعلوه بعد تدرب كبير عليه وممارسة طويلة؛ ثم علل ذلك بقوله : { إنما } أي أن الذي { صنعوا } أي أن صنعهم مما رأيته وهالنا أمُره .
ولما كان المقصود تحقير هذا الجيش أفرد ونكر لتنكير المضاف وتحقيره فقال : { كيد ساحر } أي كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات ، سواء كان واحداً أو جمعاً ، ولو جمع لخيل أن المقصود العدد ، ولما كان التقدير : فهم لا يفلحون ، عطف عليه قوله : { ولا يفلح الساحر } أي هذا الجنس { حيث أتى* } أي كيف ما سار وأيّه { سلك } فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له ، فامتثل ما أمره به ربه من إلقاء عصاه ، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً ، فعلم كل من رأى ذلك حقيته وبطلان ما فعل السحرة ، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه ، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه الصلاة والسلام وحذف ذكر الإلقاء وما سببه من التلقف لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية : { فألقي السحرة } أي فألقاهم ما رأوا من أمر الله بغاية السرعة وبأيسر أمر { سجداً } على وجوههم؛ قال الأصبهاني : سبحان الله! ما أعظم شأنهم! ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة الشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين . فكأن قائلاً قال : هذا فعلهم فما قالوا؟ فقيل : { قالوا آمنا } أي صدقنا .
ولما كان سياق هذه السورة مقتضياً لتقديم هارون عليه السلام قال : { برب هارون وموسى* } بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه سبحانه لا يشقيه بهذا القرآن بل يهدي الناس به ويذلهم له ، فيجعل العرب على شماختها أذل شيء لوزرائه وأنصاره وخلفائه وإن كانوا أضعف الناس ، وقبائلهم أقل القبائل ، مع ما في ذلك من الدليل على صدق إيمانهم وخلوص ادعائهم بتقديم الوزير المترجم ترقياً في درج المعرفة ممن أوصل ذلك إليهم إلى من أمره بذلك ثم إلى من أرسله شكراً للمنعمين بالتدريج

« لا يشكر الله من لم يشكر الناس » وهذا لما أوجب تقديمه هنا لا لهذا فقط ، وذكروا اسم الرب إشارة إلى أنه سبحانه أحسن إليهما بإعلاء شأنهما على السحرة ، وعلى من كانوا يقرون بالربوبية ، وهو فرعون الذي لم يغن عنهم شيئاً ، فكانوا أول النهار سحرة ، وآخر شهداء بررة ، وهذه الآية في أمثالها من أي هذه السور وغيرها مما قدم فيه ما يتبادر أن حقه التأخير وبالعكس لأنحاء من المعاني دقيقة ، هي التي حملت بعض من لم يرسخ إلى أن يقول : إن القرآن يراعي الفواصل كما يتكلف بلغاء العرب السجع ، وتبعه جمع من المتأخرين تقليداً ، وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين قال : « سجع كسجع الجاهلية أو قال : الكهان » وقد علم مما ذكرته أن المعنى الذي بنيت عليه السورة ما كان ينتظم إلا بتقديم هارون ، ويؤيد ذلك أنه قال هنا { إنا رسولا } وفي الشعراء { رسول } ، وقد قال الإمام فخر الدين الرازي كما حكاه عنه الشيخ أبو حيان في سورة فاطر من النهر : لا يقال في شيء من القرآن : أنه قدم أو أخر لأجل السجع ، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ ، بل فيه وفي المعنى ، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن : ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن وذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه ، ثم رد على المخالف بأن قال : والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم ، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعاً لأن السجع يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع . وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن ، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى ، وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ . ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره . ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى ، ثم استدل على ذلك بأشياء نفيسة أطال فيها وأجاد - رحمه الله ، وقد تقدم في آخر سورة التوبة ما ينفع جداً في هذا المرام .
ولما كان موسى عليه السلام هو المقصود بالإرسال إلى فرعون ، استأنف تعالى الإخبار عن فرعون عندما فجئه ذلك فقال : { قال } أي فرعون للسحرة منكراً عليهم ، وأضمر اسمه هنا ولم يظهره كما في الأعراف لأن مقصود السورة الرفق بالمدعوين والحلم عنهم ، وهو غير متأهل لذكر اسمه في هذا المقام : { آمنتم } أي بالله { له } أي مصدقين أو متبعين لموسى { قبل أن ءاذن لكم } في ذلك ، إبهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن؛ ثم استأنف قوله معللاً مخيلاً لأتباعه صداً لهم عن الاقتداء بهم : { إنه لكبيركم } أي في العلم { الذي علمكم السحر } فلم تتبعوه لظهور الحق ، بل لإرادتكم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن ، وهذا على عادته في تخييل أتباعه فيما يوقفهم عن اتباع الحق .

ولما خيلهم ، شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة فقال : { فلأقطعن } أي سبب ما فعلتم { أيديكم } على سبيل التوزيع { وأرجلكم } أي من كلٍّ يداً ورجلاً { من خلاف } فإذا قطعت اليد اليمنى قطعت الرجل اليسرى { ولأصلبنكم } وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم من المصلوب فيه تمكين المظروف في ظرفه فقال : { في جذوع النخل } تبشيعاً لقتلكم ردعاً لأمثالكم { ولتعلمن أينا } أنا أورب موسى الذي قال : إنه أوحى إليه أن العذاب على من كذب وتولى { أشد عذاباً وأبقى* } أي من جهة العذاب ، أي أينا عذابه أشد وأطول زماناً .

قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

ولما علموا ما خيل به على عقول الضعفاء ، نبهوهم فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً : { قالوا لن نؤثرك } أي نقدم أثرك بالاتباع لك لنسلم من عذابك الزائل { على ما جاءنا } به موسى عليه السلام { من البينات } التي عايناها وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضاهاتها . ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل الخارق ، ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله ، إشارة إلى عليّ قدره فقالوا : { والذي } أي ولا نؤثرك بالاتباع على الذي { فطرنا } أي ابتدأ خلقنا ، إشارة إلى شمول ربوبيته سبحانه وتعالى لهم وله ولجميع الناس ، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استحقه ، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم .
ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به ، علماً بأن ما فعله فهو بإذن الله ، قالوا : { فاقض ما } أي فاصنع في حكمك الذي { أنت قاض } ثم عللوا ذلك بقولهم : { إنما تقضي } أي تصنع بنا ما تريد أن قدرك الله عليه { هذه الحياة الدنيا* } أي إنما حكمك في مدتها على الجسد خاصة ، فهي ساعة تعقب راحة ، ونحن لانخاف إلا ممن يحكم على الروح وإن فني الجسد ، فذاك هو الشديد العذاب ، الدائم الجزاء بالثواب أو العقاب ، ولعلهم أسقطوا الجار تنزلاً إلى أن حكمه لو فرض أنه يمتد إلى آخر الدنيا لكان أهلاً لأن لا يخشى لأنه زائل وعذاب الله باق . ثم عللوا تعظيمهم لله واستهانتهم بفرعون بقولهم : { إنا ءامنا بربنا } أي المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره { ليغفر لنا } من غير نفع يلحقه بالفعل أو ضرر يدركه بالترك { خطايانا } التي قابلنا بها إحسانه : ثم خصوا بعد العموم فقالوا : { وما أكرهتنا عليه } وبينوا ذلك بقولهم : { من السحر } لتعارض به المعجزة ، فإن كان الأكمل لنا عصيانك فيه لأن الله أحق بأن يتقى . روي أن الذي كان من القبط من السحرة اثنان فقط ، والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر ، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون إن الساحر إذا نام بطل سحره ، فهذا لا يقدر على معارضته ، فأبى عليهم وأكرههم على المعارضة .
ولما كان التقدير : فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة ، عطفوا عليه مستحضرين لكماله : { والله } أي الجامع لصفات الكمال { خير } جزاء منك فيما وعدتنا به { وأبقى* } ثواباً وعقاباً ، والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون ، ويؤيده قوله تعالى { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] - قاله أبو حيان . وسيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم؛ ثم عللوا هذا الختم بقولهم : { إنه من يأت ربه } أي الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه { مجرماً } أي قاطعاً ما أمره به أن يوصل { فإن له جهنم } دار الإهانة { لا يموت فيها } أبداً مع شدة عذابها .

بخلاف عذابك الذي إن اشتد أمات فزال سريعاً ، وإن خف لم يُخِفْ وكان آخره الموت وإن طال { ولا يحيى * } فيها حياة ينتفع بها { ومن يأته } أي ربه الذي أوجده ورباه { مؤمناً } أي مصدقاً به .
ولما قدم أن مجرد الكفر يوجب العذاب . كان هذا محلاًّ يتوقع فيه الإخبار عن الإيمان بمثل ذلك فقال : { قد } أي ضم إلى ذلك تصديقاً لإيمانه أنه { عمل } أي في الدنيا { الصالحات } التي أمر بها فكأن صادق الإيمان مستلزم لصالح الأعمال { فأولئك } أي العالو الرتبة { لهم } أي لتداعي ذواتهم بمقتضى الجبلة { الدرجات العلى* } التي لا نسبة لدرجاتك التي وعدتنا بها منها؛ ثم بينوها بقولهم : { جنات عدن } أي أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها { تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت غرفها وأسرتها وأرضها؛ فلا يراد موضع منها لأن يجري فيه نهر إلا جرى؛ ثم بين بقوله : { خالدين فيها } أن أهلها هيئوا أيضاً للإقامة .
ولما أرشد السياق والعطف على غير معطوفٍ عليه ظاهر إلى أن التقدير : ذلك الجزاء العظيم والنعيم المقيم جزاء الموصوفين ، لتزكيتهم أنفسهم ، عطف عليه قوله : { وذلك جزاء } كل { من تزكى* } أي طهر نفسه بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة ، وفي هذا تسلية للصحابة رضوان الله عليهم فيما كان يفعل بهم عند نزول هذه السورة إذ كانوا مستضعفين .

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)

ولما بين سبحانه استكبار فرعون المدعى في قوله { فكذب وأبى } وختمه سبحانه بأنه يهلك العاصي كائناً من كان ، وينجي الطائع ، أتبع ذلك شاهداً محسوساً عليه كفيلاً ببيان أنه لم يغن عن فرعون شيء من قوته ولا استكباره ، فقال عاطفاً على « ولقد أريناه آياتنا » : { ولقد أوحينا } أي بعظمتنا لتسهيل ما يأتي من الأمور الكبار { إلى موسى } غير مكترثين لشيء من أقوال فرعون ولا أفعاله ، وهذا الإيحاء بعد ما تقدم من أمر السحرة بمدة مديدة جرت فيها خطوب طوال كانت بسببها الآيات الكبار ، وكأنها حذفت لما تدل عليه من قساوة القلوب ، والمراد هنا الانتهاء لما تقدم من مقصود السورة { أن أسر } أي ليلاً ، لأن السري سير الليل؛ وشرفهم بالإضافة إليه فقال : { بعبادي } أي بني إسرائيل الذين لفت قلب فرعون حتى أذن في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم أو يكف عنهم العذاب ، فاقصد بهم ناحية بحر القلزم { فاضرب لهم } أي اعمل بضرب البحر بعصاك ، ولذلك سماه ضرباً .
ولما كان ضرب البحر بالعصا سبباً لوجود الطريق الموصوفة ، أوقع الفعل عليها فقال : { طريقاً في البحر } ووصفها بالمصدر مبالغة فقال : { يبساً } حال كونها أو كونك { لا تخاف } والمراد بها الجنس ، فإنه كان لكل سبط طريقاً { دركاً } أي أن يدركك شيء من طغيان البحر أو بأس العدو أو غير ذلك .
ولما كان الدرك مشتركاً بين اللحاق والتبعة ، أتبعه بقوله : { ولا تخشى* } أي شيئاً غير ذلك أصلاً إنفاذاً لأمري وإنقاذاً لمن أرسلتك لاستنقاذهم ، وسوقه على هذا الوجه من إظهار القدرة والاستهانة بالمعاند مع كبريائه ومكنته استدلالاً شهودياً على ما قرر أول السورة من شمول القدرة وإحاطة العلم للبشارة بإظهار هذا الدين بكثرة الأتباع وإبارة الخصوم والإسعاد برد الأضداد وجعل بغضهم وداً ، وإن كانوا قوماً لداً؛ ثم أتبع ذلك قوله عطفاً على ما تقديره : فبادر امتثال الأمر في الإسراء وغيره : { فأتبعهم } أي أوجد التبع والمسير وراء بني إسرائيل على ذلهم وضعفهم { فرعون بجنوده } على كثرتهم وقوتهم وعلوهم وعزتهم ، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه { فغشيهم } أي فرعون وقومه { من اليم } أي البحر الذي من شأنه أن يؤم؛ وأوجز فهول فقال : { ما غشيهم * } أي أمر لا تحتمل العقول وصفه حق وصفه ، فأهلك أولهم وآخرهم؛ وقطع دابرهم ، لم يبق منهم أحداً ، وما شاكت أحداً من عبادنا المستضعفين شوكة { وأضل فرعون } على تحذلقه { قومه } مع ما لهم من قوة الأجساد ومعانيها .
ولما كان إثبات الفعل لا يفيد العموم ، نفى ضده ليفيده مع كونه أوكد وأوقع في النفس وأروع لها فقال : { وما هدى* } أي ما وقع منه شيء من الهداية ، لا لنفسه ولا لأحد من قومه ، فتم الدليل الشهودي على تمام القدرة على إنجاء الطائع وإهلاك العاصي .

ولما كان هذا موجباً للتشوف إلى ما وقع لبني إسرائيل بعده ، قال تعالى شافياً لهذا الغليل ، أقبلنا على بني إسرائيل ممتنين بما مضى وما يأتي قائلين : { يا بني إسرائيل } معترفين لهم أنا نظرنا إلى السوابق فأكرمناهم لأجل أبيهم .
ولما كان درء المفاسد وإزالة الموانع قبل جلب المصالح واستدرار المنافع قال : { قد أنجيناكم } بقدرتنا الباهرة { من عدوكم } الذي كنتم أحقر شيء عنده .
ولما تفرغوا لإنفاذ ما يراد منهم من الطاعة قال : { وواعدناكم } أي كلكم - كما مضى في البقرة عن نص التوراة - للمثول بحضرتنا والاعتزاز بمواطن رحمتنا { جانب الطور الأيمن } أي الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام ، وهو جانبه الذي يلي البحر وناحية مكة واليمن .
ولما بدأ بالمنفعة الدينية ، ثنى بالمنفعة الدنيوية فقال : { ونزلنا عليكم } بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم { المن والسلوى* } لإبقاء أشباحكم ، فبدأ بالإنجاء الممكن من العبادة ، ثم أتبعه بنعمة الكتاب الدال عليها ، ثم بالرزق المقوي ، ودل على نعمة الإذن فيه بقوله : { كلوا } ودل على سعته بقوله : { من طيبات ما } ودل على عظمته بقوله : { رزقناكم } من ذلك ومن غيره .
ولما كان الغنى والراحة سبب السماحة ، قال : { ولا تطغوا فيه } بالادخار إلى غد في غير يوم الجمعة ولا بغير ذلك من البطر وإغفال الشكر بصرفه في غير الطاعة { فيحل } أي ينزل ويجب في حينه الذي هو أولى الأوقات به - على قراءة الجماعة بالكسر ، ونزولاً عظيماً وبروكاً شديداً - على قراءة الكسائي بالضم { عليكم غضبي } فتهلكوا لذلك { و } كل { من يحلل عليه غضبي } منكم ومن غيركم { فقد هوى* } أي كان حاله حال من سقط من علو .

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)

ولما كان الإنسان محل الزلل وإن اجتهد ، رجاه واستعطفه بقوله : { وإني لغفار } أي ستار بإسبال ذيل العفو { لمن تاب } أي رجع عن ذنوبه من الشرك وما يقاربه { وءامن } بكل ما يجب الإيمان به { وعمل صالحاً } تصديقاً لإيمانه .
ولما كانت رتبة الاستمرار على الاستقامة في غاية العلو ، عبر عنها بأداة التراخي فقال : { ثم اهتدى* } أي استمر على العمل الصالح متحرياً به إيقاعه على حسب أمرنا وعلى أقرب الوجوه المرضية لنا ، له إلى ذلك غاية التوجه كما يدل عليه صيغة افتعل ، وكأنه لما رتب الله سبحانه منازل قوم موسى عليه السلام عامة والسبعين المختارين منهم خاصة في الجبل - كما مضى عن نص التوراة في سورة البقرة ، وواعده الكلام بعد ثلاثين ليلة ولم يعين له أولها ، وكأنه لاشتياقه إلى ما رأى من التعرف إليه بمقام الجمال لم يتوقف على خصوص إذن من الله تعالى في أول وقت الإتيان اكتفاء بمطلق الأمر السابق في الميعاد ، فتعجل بعشرة أيام عن الوقت الذي علم الله أن الكلام يقع فيه بعد الثلاثين التي ضربها لذلك ، وأمر موسى عليه السلام قومه عند نهوضه ، وتقدم إليهم في اتباعه والكون في أثره للحلول في الأماكن التي حدها الله لهم وأمر السبعين المختارة بمثل ذلك ، وكأنهم لما مضى تلبثوا لما رأوا من مقام الجلال ، فلما مضت الثلاثون بعد ذهاب موسى لم يكن أتى الوقت الذي أراد الله أن تكون المناجاة فيه ، فزاده عشراً فظن بنو اسرائيل الظنون في تلك العشرة ، ووقع لهم ما وقع من اتخاذ العجل .
ولما كان ذلك - والله أعلم بما كان ، وكان أعظم ما مضى في آية الامتنان عليهم والتعرف بالنعم إليهم المواعدة لهدايتهم بالآيات المرئية والمسموعة ، وختم ذلك بالإشارة إلى الاجتهاد في الإقبال على الهدى ، أتبع ذلك ذكر ضلالهم بعد رؤية ما يبعد معه كل البعد إلمام من رآه بشيء من الضلال ، كل ذلك لإظهار القدرة التامة على التصرف في القلوب بضد ما يظن بها ، وكان تنجز المواعيد ألذ شيء للقلوب وأشهاه إلى النفوس ، وكان السياق مرشداً حتماً إلى أن التقدير : فأتوا إلى الطور لميعادنا ، وتيمموا جانبه الأيمن بأمرنا ومرادنا ، وتعجل موسى صفينا الصعود فيه مبادراً لما عنده من الشوق إلى ذلك المقام الشريف وتأخر مجيء قومه عن الإتيان معه ، فقلنا : ما أخر قومك عن الأتيان معك؟ فعطف عليه قوله : { وما أعجلك } أي أيّ شيء أوجب لك العجلة في المجيء { عن قومك } وإن كنت بادرت مبادرة المبالغ في الاسترضاء ، أما علمت أن حدود الملوك لا ينبغي تجاوزها بتقدم أو تأخر؟ { يا موسى* } فهلا أتيتم جمله وانتظرتم أمراً أمراً جديداً بخصوص الوقت الذي استحضركم فيه { قال } موسى ظناً منه أنهم أسرعوا وراءه : { هم } وأتى باسم الإشارة وأسقط منه هاء التنبيه لأنه لا يليق بخطاب الله ، قال ابن هبيرة : ولم أر أحداً من الأصفياء خاطب ربه بذلك ، وإنما خاطب به الكفار لغباوتهم

{ قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك } [ النحل : 86 ] في أمثالها وأما آخر الزخرف فقد ذكر التعبير بها في موضعه { أولاء } أي هم في القرب بحيث يسار إليهم ، كائنين { على أثري } أي ماشين على آثار مشيي قبل أن ينطمس لم أسبقهم إلا بشيء جرت العادة في السبق بمثله بين الرفاق ، هذا بناء منه على ما كان عهد إليهم ، وأكد فيه عليهم : ثم اعتذر عن فعله فقال : { وعجلت } أنا بالمبادرة { إليك } وجرى على عادة أهل القرب كما يحق له فقال : { رب } أي أيها المسارع في إصلاح شأني والإصلاح إليّ { لترضى* } عني رضاً أعظم مما كان { قال } الرب سبحانه : { فإنا } أي قد تسبب عن عجلتك عنهم أنا { قد فتنا } أي خالطنا بعظمتنا مخالطة مميلة محيلة { قومك } بتعجلك .
ولما كانت الفتنة لم تستغرق جميع الزمن الذي كان بعده ، وإنما كانت في بعضه ، أدخل الجارّ فقال : { من بعدك } أي خالطناهم بأمر من أمرنا مخالطة أحالتهم عما عهدتهم عليه ، وكان ذلك بعد تمام المدة التي ضربتها لهم ، وهي الثلاثون بالفعل وبالقوة فقط ، من أول ما فارقتهم بضربك لتلك المدة باعتبار أن أول إتيانك هو الذي كان سبب الفتنة لزيادة أيام الغيبة بسببه لأنا زدنا في آخر المدة بمقدار ما عجلت به في أولها ، فلما تأخر رجوعك إليهم حصل لهم الفتون بالفعل ، فظنوا مرجمات الظنون .
ولما عمتهم الفتنة إلا اثني عشر ألفاً من أكثر من ستمائة ألف ، أطلق الضلال على الكل فقال : { وأضلهم السامري* } أي عن طريق الرشد بما سبب لهم؟ روى النسائي في التفسير من سننه ، وأبو يعلى في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث الفتون أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون عليه السلام ، وأجلهم ثلاثين يوماً ، وذهب فصامها ليلها ونهارها ، ثم كره أن يكلم ربه وريح فمه متغير ، فمضغ شيئاً من نبات الأرض فقال له ربه : أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشراً ، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم خرجتم من مصر ، ولقوم فرعون عندكم عواريّ وودائع ، ولكم فيها مثل ذلك ، وأنا أرى أن تحسبوا ما لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عاريّة ، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا ، فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد النار فأحرقه فقال : لا يكون لنا ولا لهم ، وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل ، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا ، فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام : يا سامري! ألا تلقي ما في يدك - وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك اليوم ، فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلاً ، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلاً أجوف ليس فيه الروح ، له خوار ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا والله! ما كان له صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل في دبره فتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك ، فتفرق بنو إسرائيل فرقاً ، فقالت فرقة : يا سامري! ما هذا وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربكم ، ولكن موسى أضل الطريق ، فقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى .

فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنّا نتبع موسى ، وقالت فرقة : هذا عمل الشيطان ، وليس بربنا ، ولن نؤمن به ولن نصدق ، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به - الحديث .
ثم سبب عن إخباره سبحانه له بذلك قوله : { فرجع موسى } أي لما أخبره ربه بذلك { إلى قومه } أي الذين لهم قوة عظيمة على ما يحاولونه { غضبان أسفاً* } أي شديد الحزن أو الغضب؛ واستأنف قوله : { قال } لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم : { يا قوم } وأنكر عليهم بقوله : { ألم يعدكم ربكم } الذي طال إحسانه إليكم { وعداً حسناً } أي بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً ، ويكفر عنكم خطاياكم ، وينصركم على أعدائكم - إلى غير ذلك من إكرامه .
ولما جرت العادة بأن طول الزمان ناقض للعزائم ، مغير للعهود ، كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري في هذا البيت :
لا أنسينك إن طال الزمان بنا ... وكم حبيب تمادى عهده فنسي
وكان عليه الصلاة والسلام قريب العهد بهم ، أنكر طول العهد بقوله ، مستأنفاً عما تقديره : هل ترك ربكم مواعيده لكم وقطع معروفه عنكم : { أفطال عليكم العهد } أي زمن لطفه بكم ، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما يعتري أهل الرذائل الانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر { أم أردتم } بالنقض مع قرب العهد وذكر الميثاق { أن يحل عليكم } بسبب عبادة العجل { غضب من ربكم } أي المحسن إليكم ، وكلا الأمرين لم يكن ، أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلا يظن بأحد إرادته ، والحاصل أنه يقول : إنكم فعلتم ما لا يفعله عاقل { فأخلفتم } أي فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم { موعدي* } في إجلال الله والإتيان إلى الموضع الذي ضربه لكم لكلامه لي وإنزال كتابه عليّ إحساناً إليكم وإقبالاً عليكم ، وكأنه أضاف الموعد إليه أدباً مع الله تعالى وإعظاماً له ، أو أنه لما كان إخلاف الموعد المؤكد المعين الذي لا شبهة فيه ، لما نصب عليه من الدلائل الباهرة ، وأوضحه من البراهين الظاهرة ، لا يكون إلا بنسيان لطول العهد ، أو عناد بسوء قصد ، وكان من أبلغ المقاصد وأوضح التقرير إلجاء الخصم بالسؤال إلى الاعتراف بالمراد ، سألهم عن تعيين أحد الأمرين مع أن طول العهد لا يمكن ادعاؤه ، فقال ما معناه : أطال عليكم العهد بزيادة عشرة أيام فنسيتم فلم يكن عليكم في الإخلاف جناح؟ أم أردتم أن يحل عليكم الغضب فعاندتم؟ فكانت الآية من الاحتباك : ذكر طول العهد الموجب للنسيان أولاً دليل على حذف العناد ثانياً ، وذكر حلول الغضب ثانياً دليل على انتفاء الجناح أولاً ، وسر ذلك أن ذكر السبب الذي هو طول العهد أدل على النسيان الذي هو المسبب ، وإثبات الغضب - وهو المسبب - أنكأ من إثبات سببه الذي هو العناد .

قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)

ولما تشوف السامع إلى جوابهم ، استأنف ذكره فقال : { قالوا } : لم يكن شيء من ذلك .
ولما كان المقصود من هذا السياق كله إظهار عظيم القدرة ، عبر عن ذلك بقوله ، حكاية عنهم للاعتراف بما قررهم موسى عليه السلام به من العناد معتذرين عنه بالقدرة ، والاعتذار به لا يدفع العقوبة المرتبة على الذنب : { ما أخلفنا موعدك بملكنا } أي لقد صدقت فيما قلت ، ولكنا لم نفعل ذلك ونحن بملك أمرنا - هذا على قراءة الجماعة بالكسر ، وعلى قراءة نافع وعاصم بالفتح المعنى : ولنا ملكة نتصرف بها في أنفسنا ، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالضم كأنهم قالوا : ولنا سلطان قاهر لأمورنا - على أنهم قد ذكروا أن القراءات الثلاث لغات لمعنى واحد ، قال في القاموس : ملكه يملكه ملكاً مثلثة : احتواه قادراً على الاستبداد به ، والمعنى أن السامري زين لهم ذلك ، ووسوس به الشيطان فما دورا إلا وقد تبعوه حتى كانوا كأنهم يقادون إليه بالسلاسل ، وقيل هذا كلام من لم يعبده ، اعتذروا بأنهم كانوا قليلاً ، لا قدرة لهم على مقاومة من عبده ، وهذا كله إشارة إلى أنه تعالى هو المتصرف في القلوب ، فهو قادر على أن يرد كفار قريش والعرب من بعد عنادهم ، ولددهم وفسادهم { ولكنا } كنا { حملنا أوزاراً } أي أثقالاً من النقدين هي أسباب الآثام ، كما تقدم في الأعراف أن الله أمرهم في التوراة أن يستعيروها من القبط فخربوهم بها ، وكأن هذا ما كان خيانة في ذلك الشرع ، أو أن الله تعالى أباح لهم ذلك في القبط خاصة { من زينة القوم } الذين لم نكن نعرف قوماً غيرهم ، وغيرهم ليس حقيقاً بإطلاق هذا اللفظ عليه وهم القبط ، فقضى لنا أن نقذفها في النار ، وتوفرت الدواعي على ذلك واشتدت بحيث لم نتمالك { فقذفناها فكذلك } أي فتعقب هذا أنه مثل ذلك الإلقاء { ألقى السامري* } وهو لصيق انضم إليهم من قبط مصر ، ألقى ما كان معه ، أما من المال وإما من أثر الرسول ، كما مضى ويأتي ، وكأن إلقاءه كان آخراً .
ولما كان خروج التمثال عقب إلقاءه ، حعل كأنه المتسبب في ذلك ، فقيل مع العدول عن أسلوب التكلم استهجاناً لنسبة أمر العجل إلى المتكلم : { فأخرج لهم } أي لمن شربه وعبده ، وجعل الضمير للغيبة يؤيد قول من جعل هذا كلام من لم يعبد العجل ، والمعنى عند من جعله من كلام العابدين أنهم دلوا بذلك على البراءة منه والاستقذار له .
ولما كان شديد الشبه للعجول ، قيل : { عجلاً } وقدم قوله : { جسداً } لنعرف أن عجليته صورة لا معنى - على قوله : { له خوار } لئلا يسبق إلى وهم أنه حي ، فتمر عليه لمحة على اعتقاد الباطل { فقالوا } أي فتسبب عن ذلك أن السامري قال فتابعه عليه من أسرع في الفتنة أول ما رآه : { هذا } مشرين إلى العجل الذي هو على صورة ما هو مثل في الغباوة { إلهكم وإله موسى * فنسى * } أي فتسبب عن أنه إلهكم أن موسى نسي - بعدوله عن هذا المكان - موضعه فذهب يطلبه في مكان غيره ، أو نسي أن يذكره لكم .

ولما كان هذا سبباً للإنكار على من قال هذا ، قال : { أفلا يرون } أي أقالوا ذلك؟ فتسبب قولهم عن عماهم عن رؤية { أن } أي أنه { لا يرجع إليهم قولاً* } والإله لا يكون أبكم { ولا يملك لهم ضراً } فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون فيقولوا ذلك خوفاً من ضره { ولا نفعاً* } فيقولوا ذلك رجاء له .
ولما كان الذنب مع العلم أبشع ، والضلال بعد البيان أشنع ، قال عاطفاً على قوله { قال يا قوم ألم يعدكم } أو على قوله « قالوا ما أخلفنا » : { ولقد قال لهم هارون } أي مع أن من لم يعبده لم يملكوا رد من عبده .
ولما كان قولهم في بعض ذلك الزمان ، قال : { من قبل } أي من قبل رجوع موسى ، مستعطفاً لهم : { يا قوم } ثم حصر أمرهم ليجتمع فكرهم ونظرهم فقال : { إنما فتنتم } أي وقع اختباركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه وثباتكم عليه { به } أي بهذا التمثال في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة . وأكد لأجل إنكارهم فقال : { وإن ربكم } أي الذي أخرجكم من العدم ورباكم بالإحسان { الرحمن } وحده الذي فضله عام ونعمه شاملة ، فليس على البر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه قبل أن يوجد العجل ، وهو كذلك بعده . ومن رحمته قبول التوبة ، فخافوا نزع نعمه بمعصيته ، وارجوا إسباغها بطاعته { فاتبعوني } بغاية جهدكم في الرجوع إليه { وأطيعوا أمري* } في دوام الشرف بالخضوع لديه ، ودوام الإقبال عليه ، بدفع عنكم ضيره ، ويفض عليكم خيره .
ولما كان هذا موضع أن يسأل من جوابهم لهذا الأمر الواضح الذي لا غبار عليه ، قيل : { قالوا } بفظاظة وجمود : { لن نبرح عليه } أي على هذا العجل { عاكفين } أي مقيمين مستديرين مجتمعين وإن حاربنا في ذلك { حتى يرجع إلينا موسى* } فدافعهم ، فهمّوا به ، وكان معظمهم قد ضل ، فلم يكن معه من يقوى بهم ، فخاف أن يجاهد بهم الكافرين فلا يفيد ذلك شيئاً ، ويقتل بعضهم فيحمى له آخرون من ذوي رحمة الأقربين ، فيصير بين بني إسرائيل فرقة يبعد ضم شتاتها وتلافي دهمائها ، وكانوا قد غيوا الرجوع برجوع موسى عليه السلام مع أنه لم يأمره بجهاد من ضل ، إنما قال له { وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } [ الأعراف : 142 ] فرأى من الإصلاح اعتزلهم إلى أن يأتي ، فلما ذكر ما قال هارون عليه السلام ، التفتت النفس إلى علم ما قال له موسى عليه السلام لأنه خليفته عليهم ، مع كونه راساً في نفسه ، فدفع هذا العناء بقوله ، مسقطاً أخذه برأس أخيه لما تقدم من ذكره ويأتي هنا من الدلالة عليه ، ولم تدع إليه ضرورة في هذه السورة التي من أعظم مقاصدها الدلالة على تليين القلوب : { قال } أي موسى : { يا هارون } أنت نبي الله وأخي ووزيري وخليفتي فأنت أولى الناس بأن ألومه ، وأحقهم بأن أعاتبه { ما منعك إذ } أي حين { رأيتهم ضلوا* } عن طريق الهدى ، واتبعوا سبيل الردى ، من اتباعي في سيرتي فيهم من الأخذ على يد الظالم طوعاً أو كرهاً ، اتباعاً لا تزيغ فيه عما نهجته لك بوجه من الوجوه شيئاً من زيغ ، وعبر عن هذا التأكيد بزيادة « لا » في قوله : { ألاَّ تتبعن } كما تقدم غير مرة أن النافي إذا زيد في الكلام كان نافياً لضد مضمونه فيفيد إثباتاً للمضون ونفياً لضده ، فيكون ذلك في غاية التأكيد { أفعصيت } أي أتكبرت عن اتباعي فتسبب عن ذلك أنك عصيت { أمري* } وأخذ بلحيته وبرأسه يجره إليه غضباً لله تعالى ، فكأنه قيل : ما قال له؟ فقيل : { قال } مجيباً له مستعطفاً بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له من الرقة والشفقة : { يبنؤم } فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه لأنه يسوءها ما يسوءه ، وهي أرق من الأب { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } أي بشعره؛ ثم علل ذلك بقوله : { إني خشيت أن تقول } إن اشتددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال { فرقت بين بني إسرائيل } بفعلك هذا الذي لم يُجْدِ شيئاً لقلة من كان معك وضعفكم عن ردهم { ولم ترقب قولي* } { اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } ولم تقل وارددهم ولو أدى الأمر إلى السيف ، وهذا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بالصفح والحلم والمدافعة باللين عند ضعف الناصر وقلة المعين .

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)

ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان رأس الهداة ، تشوف السامع إلى ما كان من غيره ، فاستأنف تعالى ذكره بقوله : { قال } أي موسى عليه السلام لرأس أهل الضلال معرضاً عن أخيه بعد قبول عذره . جاعلاً ما نسب إليه سبباً لسؤاله عن الحامل له عليه : { فما خطبك } أي أمرك هذا العجيب العظيم الذي حملك على ما صنعت وأخبرني العزيز العليم أنك أنت أضللتهم به { يا سامري * قال } السامري مجيباً له : { بصرت } من البصر والبصيرة { بما لم يبصروا به } من أمر الرسول الذي أجاز بنا البحر { فقبضت } أي فكان ذلك سبباً لأن قبضت { قبضة } أي مرة من القبض ، أطلقها على المقبوض تسمية للمفعول بالمصدر { من أثر } فرس ذلك { الرسول } أي المعهود { فنبذتها } في الحلي الملقى في النار ، أو في العجل { وكذلك } أي وكما سولت لي نفسي أخذ اثره { سولت } أي حسنت وزينت { لي نفسي } نبذها في الحلي فنبذتها ، فكان منها ما كان ، ولم يدعني إلى ذلك داع ولا حملني عليه حامل غير التسويل .
ولما كان فعله هذا مفرقاً لبني إسرائيل عن طريق الحق التي كانوا عليها ، وجامعاً لهم على تمثال حيوان هو من أخس الحيوانات ، وعلى نفسه بكونه صار متبوعاً في ذلك الضلال ، لكونه كان سببه ، عوقب بالنفرة من الإنسان الذي هو أشرف الحيوان ، ليكون ذلك سبباً لضد ما تسبب عن فعله ، فيعاقب بالدنيا بعقوبة لا شيء أشد منها وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً فلا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد ، بل يكون وحيداً طريداً ما دام حياً ، فلذلك استؤنف الإخبار عن هذا بقوله تعالى : { قال } أي له موسى عليه السلام : { فاذهب } أي تسبب عن فعلك أني أقول لك : اذهب من بيننا ، أو حيث ذهبت { فإن لك في الحياة } أي ما دمت حياً { أن تقول } لكل من رأيته : { لا مساس } أي لا تمسني ولا أمسك ، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك لإرادة الإله الحق ذلك بك وترغيبك فيه - بما أفادته اللام ، لتعلم أنت ومن تبعك أنكم كنتم على أعظم ضلال في ترك القادر على كل شيء ، واتباع ما لا قدرة له على شيء { وإن لك } بعد الممات { موعداً } للثواب إن تبت ، وللعقاب إن أبيت { لن تخلفه } مبنياً للفاعل وللمفعول ، أي لا يكون خلفك ولا تكون أنت خلفه ، بل يكون كل منكما مواجهاً لصاحبه ، لا انفكاك له عنه ، كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس ، فاختر لنفسك ما يحلو .
ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين ، أتبعه عجز العجل فقال : { وانظر إلى إلهك } أي بزعمك { الذي ظلت } أي دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف { عليه عاكفاً } أي مقبلاً مقارباً مواظباً جهاراً { لنحرقنه } أي بالنار وبالمبرد - كما سلف عن نص التوراة ، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان فهان على المبارد { ثم لننسفنه } أي لنذرينه إذا صار سحالة { في اليم } أي البحر الذي أغرق الله فيه آل فرعون وهو أهل لأن يقصد فيجمع الله سحالته التي هي من حيلهم وأموالهم فيحميها في نار جهنم ويكويهم ويجعلها من أشد العذاب عليهم ، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله الذي أمره بذلك ، وتحقيقاً للصدق في الوعد فقال : { نسفاً } .

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)

ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان ، أخبرهم بالحق على وجه الحصر فقال : { إنما إلهكم } جميعاً { الله } أي الجامع لصفات الكمال؛ ثم كشف المراد من ذلك وحققه بقوله : { الذي لا إله إلا هو } أي لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره لأنه { وسع كل شيء علماً* } تمييز محول عن الفاعل ، أي أحاط علمه بكل شيء ، فكان على كل شيء ممكن قديراً ، فكان كل شيء إليه فقيراً ، وهو غني عن كل شيء ، وجوده يباين وجود غيره ، وذاته تباين ذات غيره ، وصفاته تباين صفات غيره ، وأما العجل الذي عبدوه فلو كان حياً كان مثلاً في الغباوة ، فلا يصلح للإلهية بوجه ولا في عبادته شيء من حق ، وكان القياس على ما يتبادر إلى الذهن حيث نفى عنه العلم بقوله { ألا يرجع إليهم قولاً } والقدرة بقوله { ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً } أن يثبتا هنا للاله الحق ، ولكنه اعتنى بإثبات العلم الواسع لاستلزامه للقدرة على كل ما يمكن أن يتعلق به ، بإفادة الأسباب لشيء المراد ، ومنع الموانع عنه فيكون لا محالة ، ولو لم يكن كذلك لكان التخلف للجهل إما بما يفيد مقتضياً أو يمنع مانعاً ، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } [ الأعراف : 188 ] ولا يستلزم إثبات القدرة المحيطة العلم الشامل لخروج قسم المحال الذي ليس من شأن القدرة أن تتعلق به .
ولما تمت هذه القصة على هذا الأسلوب الأعظم ، والسبيل الأقوم ، متكفلة بالدلالة على القدرة على ما وقعت إليه الإشارة من البشارة أول السورة بتكثير هذه الأمة ورد العرب عن غيهم بعد طول التمادي في العناد ، والتنكب عن سبيل الرشاد ، إلى ما تخللها من التسلية بأحوال السلف الصالح والتأسية ، مفصلة من أدلة التوحيد والبعث ، وغير ذلك من الحكم ، بما يبعث الهمم ، على معالي الشيم ، كان كأنه قيل : هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع والمثال الرفيع؟ فقيل : نعم { كذلك } أي مثل هذا القص العالي ، في هذا النظم العزيز الغالي ، لقصة موسى ومن ذكر معه { نقص عليك } أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء؛ وأشار إلى جلالة علمه بقوله : { من أنباء } أي أخبار { ما قد سبق } من الأزمان والكوائن الجليلة ، زيادة في علمك ، وإجلالاً لمقدارك ، وتسلية لقلبك ، وإذهاباً لحزنك ، بما اتفق للرسل من قبلك وتكثيراً لأتباعك وزيادة في معجزاتك ، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة وتأكد الحجة على من عابه : { وقد ءاتيناك } من عظمتنا تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك { من لدنا } أي من عندنا من الأمر الشريف بمزيد خصوصيته بنا ولطيف اتصاله بحضرتنا من غيب غيباً { ذكرا* } عظيماً جليلاً جامعاً لما أظهرناه من أمرنا في التوراة ، وما ابطنّاه من سرنا في الإنجيل ، وما أودعناه من سكينتنا في الزبور ، مع ما خصصناه به من لطائف المزايا ، وعظائم الأسرار ، يعرف بمجرد تلاوته أنه من عندنا لما يُشهد له من الروح ، ويُذاق له من الإخبات والسكون ، ويرى له من الجلالة في الصدور مع القطع بأن أحداً لا يقدر أن يعارضه ، وضمناه تلك القصص مع ما زدنا فيه على ذلك من المواعظ والأحكام ودقائق اشارات الحقائق ، متكفلاً بسعادة الدارين وحسنى الحسنيين ، فمن أقبل عليه كان مذكراً له بكل ما يريد من العلوم النافعة .

ولما اشتمل هذا الذكر على جميع أبواب الخير ، فكان كل مل ليس له فيه أصل شقاور محضة وضلالاً بعيداً ، قال يقص عليه من أنباء ما يأتي كما قص من أنباء ما قد سبق : { من أعرض عنه } أي عن ذلك الذكر ، وهو عام في جميع من يمكن دخوله في معنى « من » من العالمين { فإنه يحمل } ولما كان المراد استغراق الوقت قال : { يوم القيامة وزراً* } أي حملاً ثقيلاً من العذاب الذي سببه الوزر وهو الذنب ، جزاء لإعراضه عنه واشتغاله بغيره { خالدين فيه } وجمع هنا حملاً على المعنى بعد الإفراد للفظ ، تنبيهاً على العموم لئلا يغفل عنه بطول الفصل ، أو يظن أن الجماعة يمكنهم المدافعة ، ويمكن أن يراد بالوزر الحمل الثقيل من الإثم ، ويكون الضمير في « فيه » للعذاب المسبب عنه فيكون استخداماً كقوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
ولما كانوا منكرين ليوم القيامة ، صرح بذكره ثانياً مع قرب العهد ، قارعاً لأسماعهم به ، مجرياً له إجراء ما هو به جدير من أنه متحقق لا مرية فيه فقال : { وساء } أي وبئس؛ وبين أصحاب السوء فقال : { لهم } أي ذلك الحمل { يوم القيامة حملاً } ثم شرح لهم بعض أحوال ذلك اليوم من ابتدائه ، فقال مبدلاً من « يوم القيامة » : { يوم ينفخ } أي بعظمتنا - على قراءة أبي عمرو بالنون مبنياً لفاعل ، ودل على تناهي العظمة بطريقة كلام القادرين في قراءة الباقين بالياء مبنياً للمفعول { في الصور } فيقوم الموتى من القبور { ونحشر } أي بعظمتنا { المجرمين } منهم الذين قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وعدل عن أن يقول : ونحشرهم - لبيان الوصف الذي جره لهم : الإعراض عن الذكر { يومئذ } أي يوم القيامة ، ويكون لهم ما تقدم { زرقاً } أي زرق العيون والجسوم على هيئة من ضرب فتغير جسمه ، حال كونهم { يتخافتون } .
ولما كان التخافت - وهو المسارّة بالكلام - قد يكون بين اثنين من قبيلتين ، فيكون كل منهما خائفاً من قومه أقل عاراً مما لو كانا من قبيلة واحدة ، لأنه يدل على أن ذلك الخوف طبع لازم ، قال دالاً على لزومه وعمومه : { بينهم } أي يتكلمون خافضي أصواتهم من الهيبة والجزع .

ولما كانت الزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لعدم إلفهم لها ، والمخافتة أبغض الأصوات إليهم لأنها تدل عندهم على سفول الهمة والجبن وكانوا من الزرقة أشد نفرة لأن المخافتة قد يتعلق بها غرض . رتبهما سبحانه كذلك ، ثم بين ما يتخافتون به فقال : { إن } أي يقول بعضهم لبعض : ما { لبثتم } أي في الدنيا استقصاراً لمدة إقامتهم في غيب ما بدا لهم من المخاوف ، أو غلطاً ودهشة { إلا عشراً* } أي عقداً واحداً ، لم يزد على الآحاد إلا بواحد ، وهو لو أنه سنون سن من لم يبلغ الحلم ، فكيف إذا كان شهوراً أو أياماً فلم يعرفوا لذة العيش بأيّ تقدير كان .

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)

ولما كان علم ما يأتي أخفى من علم ما سبق ، أتى فيه بمظهر العظمة فقال : { نحن أعلم } من كل أحد { بما يقولون } أي في ذلك اليوم { إذ يقول أمثلهم طريقة } في الدنيا فيما يحسبون ، أي أقربهم إلى أن تكون طريقته مثل ما يطلب منه : { إن } أي ما { لبثتم } ودل على أن المعدود المحذوف من الأول الأيام بقوله : { إلا يوماً } أي مبدأ الآحاد ، لا مبدأ العقود كما قال في الاية الأخرى { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } [ المؤمنون : 113 ] { يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون } [ الروم : 55 ] فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين ، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، ويجوز أن يكون المراد أن من قال : إن لبثهم يوم واحد ، أمثلهم في نفس الأمر ، لأن الزمان وإن طال إنما هو يوم متكرر ، ليس مراداً لنفسه ، وإنما هو مراد لما يكون فيه فإن كان خيراً كان صاحبه محموداً ولم يضره قصره ، وإن كان شراً كان مذموماً ولم ينفعه طوله ، ويجوز أن يكون أنث أولاً إرادة لليالي ، لأنها محل الراحة المقصودة بالذات ، فكان كأنهم قالوا : لم يكن لنا راحة إلا بزمن يسير جداً أكثر أول العقود ، ونص الأمثل على اليوم الذي يكون الكد فيه للراحة في الليل إشارة إلى أنهم ما كان لهم في اللبث في الدنيا راحة أصلاً ، ولم يكن سعيهم إلا نكداً كله كما يكون السعي في يوم لا ليلة يستراح فيها . وإن كانت فيه راحة فهي ضمنية لا أصلية .
ولما أخبر عن بعض ما سبق ثم عن بعض ما يأتي من أحوال المعرضين عن هذا الذكر فيما ينتجه لهم إعراضهم عنه ، وختم ذلك باستقصارهم مدة لبثم في هذه الدار ، أخبر عن بعض أحوالهم في الإعراض فقال : { ويسألونك عن الجبال } ما يكون حالها يوم يتفخ في الصور؟ شكا منهم في البعث وقوفاً مع الوهم في أنها تكون موجودة على قياس جمودهم لا محالة ، لأنها أشد الأشياء قوة ، وأطولها لبثاً ، وأبعدها مكثاً ، فتمنع بعض الناس من سماع النفخ في الصور ، وتخيل للبعض بحكم رجع الهواء الحامل للصوت أنه آتٍ من غير جهته فلا يستقيم القصد إلى الداعي { فقل } أي فتسبب عن علمنا بأنهم يسألونك هذا السؤال أنا نقول لك : قل ، أو يكون على تقدير شرط ، أي فإذا سألوك فقل لهم ، وهذا بخلاف ما نزل بعد وقوع السؤال عنه مثل الروح وقصة ذي القرنين فإن الأمر بجوابه على طريق الاستئناف لما هناك من استشراف النفس للجواب { ينسفها } أي يقلعها من أماكنها ويذريها بالهواء { ربي } المحسن إليّ بنصري في يوم القيامة نصراً لا يبلغ كنهه { نسفاً } عند النفخة الأولى { فيذرها } أي أماكنها { قاعاً } أي أرضاً ملساء { صفصفاً* } أي مستوياً كأنه صف واحد لا اثر للجبال فيه { لا ترى } أي بالبصر ولا بالبصيرة { فيها } أي مواضع الجبال { عوجاً } بوجه من الوجوه ، وعبر هنا بالكسر هو للمعاني ، ولم يعبر بالفتح الذي يوصف به الأعيان ، ومواضع الجبال أعيان لا معاني ، نفياً للاعوجاج على أبلغ وجه ، بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأراضي لا تفقوا على الحكم باستوائها ، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا مقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك { ولا أمتاً* } أي شيئاً مرتفعاً كالكدية أو نتوّاً يسيراً أو شقاً أو اختلافاً؛ وقال البيضاوي والزمخشري : الأمت النتوّ اليسير ، قال الغزالي في الدرة الفاخرة : ينفخ في الصور فتطاير الجبال ، وتفجر الأنهار بعضها في بعض ، فيمتلىء عالم الهواء ماء ، وتنتثر الكواكب وتتغير السماء والأرض ، ويموت العالمون فتخلو الأرض والسماء؛ قال : ثم يكشف سبحانه عن بيت في سقر فيخرج لهيب النار فيشتعل في البحور فتنشف ، ويدع الأرض جمرة سوداء ، والسماوات كأنها عكر الزيت والنحاس المذاب ، ثم يفتح تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة ، فيمطر به الأرض ، وهو كمنيّ الرجال فتنبت الأجسام على هيئتها ، الصبى صبي ، والشيخ شيخ ، وما بينهما ، ثم تهب من تحت العرش نار لطيفة فتبرز الأرض ليس فيها جبل ولا عوج ولا أمت ، ثم يحيى الله إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة القدس ، فتخرج الأرواح من ثقب في الصور بعددها كل روح إلى جسدها حتى الوحش والطير فإذا هم بالساهرة .

ولما أخبر سبحانه بنزول ما يكون منه العوج في الصوت قال : { يومئذ } أي إذ ينفخ في الصور فتنسف الجبال { يتبعون } أي أهل المحشر بغاية جهدهم { الداعي } أي بالنفخ منتصبين إليه على الاستقامة { لا عوج له } أي الداعي في شيء من قصدهم إليه ، لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعريج ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء؛ وقال أبو حيان : أي لا عوج لدعائه ، بل يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس .
ولما أخبر بخشوعهم في الحديث والانقياد للدعوة ، أخبر بخشوع غير ذلك من الأصوات التي جرت العادة بكونها عن الاجتماع فقال : { وخشعت الأصوات } أي ارتخت وخفيت وخفضت وتطامنت لخشوع أهلها { للرحمن } أي الذي عمت نعمه ، فيرجى كرمه ، ويخشى نقمه { فلا } أي فيتسبب عن رخاوتها أنك { تسمع إلا همساً* } أخفى ما يكون من الأصوات ، وقيل : أخفى شيء من أصوات الأقدام .

يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)

ولما تقرر ما للأصوات من الانخفات ، وكان قد أشير فيما مضى إلى وقوع الشفاعة من بعض أخصائه بإذنه ، وكان الحشر للحساب بمعرض التقريب لبعض والتبعيد لبعض ، وكانت العادة جارية بأن المقرب يشفع للمبعد ، لما بين أهل الجمع من الوصل والأسباب المقتضية لذلك ، وكان الكفار يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم قال نافياً لأن تقع شفاعة بغير إذنه ، معظماً ذلك اليوم بالإنذار منه مرة بعد مرة : { يومئذ } أي إذ كان ما تقدم { لا تنفع الشفاعة } أي لا تكون شفاعة ليكون لها نفع ، لأنه قد ثبت بما مضى أنه لا صوت ، وتقرر في تحقيق المحصورات من علم الميزان أن السالبة الحقيقية لا تستدعي وجود الموضوع في الخارج ، وإنما حول العبارة لأن المقصود بالذات النفع ، فنفيه بادىء بدا أفظع ، وقرع السمع به أولاً أهول وأفزع { إلا } أي إلا شفاعة { من أذن له الرحمن } العام النعمة { ورضي له قولاً* } ولو الإيمان المجرد .
ولما نفي أن تقع الشفاعة بغير إذنه ، علل ذلك - كما سلف في آية الكرسي - بقوله : { يعلم ما بين أيديهم } أي الخلائق وهو كل ما يعلمونه { وما خلفهم } وهو كل ما غاب عنهم علمه ، أي علمه سبحانه محيط بهم ، فهو يمنع قلوبهم في ذلك اليوم بما يوجد من الأسباب أن تهم بما لا يرضاه { ولا يحيطون به علماً* } ليحترزوا عما يقدره عليهم ، و { علماً } تمييز منقول من الفاعل ، أي ولا يحيط علمهم به - قال أبو حيان . والأقرب عندي كونه منقولاً عن المفعول الذي تعدى إليه الفعل بحرف الجر ، أي ولا يحيطون بعلمه ، فيكون ذلك أقرب إلى ما في آية الكرسي . ولما ذكر خشوع الأصوات ، أتبعه خضوع دونها فقال : { وعنت الوجوه } أي ذلت وخضعت واستسلمت وجوه الخلائق كلهم ، وخصها لشرفها ولأنها أول ما يظهر فيه الذل { للحي } الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل ، وكل ما سواه جماد حيث ما نسبت حياته إلى حياته { القيوم } الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت { وقد خاب } أي خسر خسارة ظاهرة { من حمل } منهم أو من غيرهم { ظلماً* } .
ولما ذكر الظالم ، أتبعه الحكيم فقال : { ومن يعمل } ولما كان الإنسان محل العجز وإن اجتهد ، قال { من الصالحات } أي التي أمره الله بها بحسب استطاعته ، لأنه « لن يقدر الله أحد حق قدره » « ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه » { وهو مؤمن } ليكون بناؤها على الأساس ، وعبر بالفاء إشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سبباً لذلك الحال فقال : { فلا يخاف ظلماً } بأن ينسب إليه سوء لم يقترفه لأن الجزاء من جنس العمل ، وقراءة ابن كثير بلفظ النهي محققة للمبالغة في النفي { ولا هضماً } أي نقصاً من جزائه وإن كان هو لم يوف المقام حقه لأنه لا يستطيع ذلك ، وأصل الهضم الكسر ، وأما غير المؤمن فلو عمل أمثال الجبال من الأعمال لم يكن لها وزر .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)

ولما اشتملت هذه الآية على الذروة من حسن المعاني ، فبشرت ويسرت ، وأنذرت وحذرت ، وبينت الخفايا ، وأظهرت الخبايا ، مع ما لها من جلالة السبك وبراعة النظم ، كان كأنه قيل تنبيهاً على جلالتها : أنزلناها على هذا المنوال العزيز المثال { وكذلك } أي ومثل هذا الإنزال { أنزلناه } أي هذا الذكر كله بعظمتنا { قرآناً } جامعاً لجميع المعاني المقصودة { عربياً } مبيناً لما أودع فيه لكل من له ذوق في أساليب العرب .
ولما كان أكثر هذه الآيات محذراً ، قال : { وصرفنا } أي بما لنا من العظمة { فيه من الوعيد } أي ذكرناه مكررين له محولاً في أساليب مختلفة ، وأفانين متنوعة مؤتلفة .
ولما ذكر الوعيد ، أتبعه ثمرته فقال : { لعلهم يتقون } أي ليكون الناظر لهم بعد ذلك على رجاء من أن يتقوا ويكونوا به في عداد من يجدد التقوى كل حين ، بأن تكون له وصفاً مستمراً ، وهي الحذر الحامل على اتخاذ الوقاية مما يحذر { أو } في عداد من { يحدث } أي يجدد هذا التصريف { لهم ذكراً* } أي ما يستحق أن يذكر من طرق الخير ، فيكون سبباً للخوف الحامل على التقوى ، فيردهم عن بعض ما تدعو إليه النفوس من النقائض والبؤس .
ولما بلغت هذه الجمل نهاية الإعجاز ، فاشتملت على غاية الحكمة ، دالة على أن لقائلها تمام العلم والقدرة والعدل في أحوال الدراين ، تسبب عن سوقها كذلك أن بان له من العظمة ما أفهمه قوله ، معظماً لنفسه الأقدس بما هو له أهل بعد تعظيم كتابه تعليماً لعباده ما يجب له من الحق دالاً بصيغة التفاعل على مزيد العلو : { فتعالى الله } أي بلغ الذي لا يبلغ الواصفون وصفه حق وصفه من العلو أمراً لاتحتمله العقول ، فلا يلحقه شيء من إلحاد الملحدين ووصف المشركين { الملك } الذي لا يعجزه شيء ، فلا ملك في الحقيقة غيره { الحق } أي الثابت الملك ، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما؛ ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة .
ولما كانت هذه الآيات في ذم من أعرض عن هذا الذكر ، كان تقدير : فلا تعرض عنه ، بل أقبل عليه لتكون من المتقين الذاكرين ، ولما كان هذا الحث العظيم ربما اقتضى للمسابق في التقوى المبالغة في المبادرة إليه فيستعجل بتلقفه قبل الفراغ من إيحائه ، قال عاطفاً على هذا المقدر : { ولا تعجل بالقرآن } أي بتلاوته .
ولما كان النهي عاماً لجميع الأوقات القبلية ، دل عليه بالجار لئلا يظن أنه خاص بما يستغرق زمان القبل جملة واحدة فقال : { من قبل أن } ولما كان النظر هنا إلى فراغ الإيحاء لا إلى موح معين ، بنى للمجهول قوله : { يقضى } أي ينهى { إليك وحيه } من الملك النازل إليك من حضرتنا به كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة ، بل رتلناه لك ترتيلاً ، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً ، وموصلاً توصيلاً - كما أشرنا إليه أول السورة ، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه ولا تساوقه بالقراءة ، فإذا فرغ فاقرأه فإنا نجمعه في قلبك ولا نسقيك بإنسائه وأنت مصغ إليه ، ولا بتكليفك للمساوقة بتلاوته { وقل رب } أي المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ { زدني علماً* } أي بتفهيم ما أنزلت إليّ منه وإنزال غيره كما زدتني بإنزاله وتحفيظه ، لتتمكن من معرفة الأسباب المفيدة لتبع الخلق لك ، فإنه كما تقدم على قدر إحاطة العلم يكون شمول القدرة ، وفي هذا دليل على أن التأني في العلم بالتدبر وبإلقاء السمع أنفع من الاستعجال المتعب للبال المكدر للحال ، وأعون على الحفظ ، فمن وعى شيئاً حق الوعي حفظه غاية الحفظ؛ وروى الترمذي وابن ماجة والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

« اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد لله على كل حال ، وأعوذ بالله من حال أهل النار » أفاده ابن كثير في تفسيره .
ولما قرر سبحانه بقصة موسى عليه السلام ما أشار إليه أول السورة بما هو عليه من الحلم والتأني على عباده ، والإمهال لهم فيما هم عليه من النقص بالنسيان للعهود والنقض للمواثيق ، وأتبعها ذكر مدح هذا الذكر الذي تأدت إلينا به ، وذم من أعرض عنه ، وختمه بما عهد إليه صلى الله عليه وسلم في أمره نهياً وأمراً ، أتبع ذلك سبحانه قصة آدم عليه السلام تحذيراً من الركون إلى ما يسبب النسيان ، وحثاً على رجوع من نسي إلى طاعة الرحمن ، وبياناً لأن ذلك الذي قرره من حلمه وإمهاله عادته سبحانه من القدم ، وصفته التي كانت ونحن في حيز العدم ، وأنه جبل الإنسان على النقص ، فلو أخذهم بذنوبهم ما ترك عليها من دابة ، فقال عاطفاً على قوله { وكذلك أنزلناه حكماً عربياً } [ الرعد : 37 ] أو { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } مؤكداً لما تقدم فيه وعهد به من أمر القرآن ، ومحذراً من الإخلال بذلك ولو على وجه النسيان ، ومنجزاً لما وعد به من قص أنباء المتقدمين مما يوافق هذا السياق : { ولقد عهدنا } بما لنا من العظمة { إلى آدم } أبي البشر الذي أطلعناه على كثير منها في النهي عن الأكل من الشجرة { من قبل } أي في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم { فنسي } عهدنا وأكل منها مع علمه من تلك العظمة بما لا ينبغي أن ينسى معه ذلك العهد المؤكد بذلك الجلال ، فعددنا عليه وقوعه في ذلك المنهيّ ناسياً ذنباً لعلو رتبته عندنا ، فهو من باب « حسنات الأبرار سيئات المقربين » فكيف بما فوق ذلك! { ولم نجد } بالنظر إلى ما لنا من العظمة { له عزماً* } أي قصداً صلباً ماضياً وإرادة نافذة لا تردد فيها كإرادات الملائكة عليهم السلام ، والمعنى أنه لم يتعلق علمنا بذلك موجوداً ، ومع ذلك عفونا عنه ولم نزحزحه عن رتبة الاصطفاء .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

ولما كان المقصود من السورة - كما سلف - الإعلام بالحلم والأناة والتلطف بالنائي والقدرة على المعرض ، ذكر فعله آدم عليه السلام هذه في هذه السورة بلفظ المعصية مع التصريح بأنها على وجه النسيان ، وذكر ذلك أولاً مجملاً ثم أتبعه تفصيله ليكون ذلك مذكوراً مرتين ، تأكيداً للمعنى المشار إليه ، تقريراً وتحذيراً من الوقوع في منهيّ ، وإرشاداً لمن « غلب عليه » طبع النقص إلى المباردة إلى الندم وتعاطي أسباب التوبة ليتوب الله عليه ما فعل بآدم عليه السلام فقال : { وإذ } أي اذكر هذا واذكر حين { قلنا } بما لنا من العظمة ، أي اذكر قولنا في ذلك الوقت { للملائكة } أي المجبولين على مضي العزم والتصميم على القصد من غير مانع تردد ولا عائق فتور { اسجدوا لآدم } الذي خلقته بيدي ، فلم نأمرهم بذلك إلا بعد أن اصطفيناه ونحن عالمون بما سيقع منه ، وأنه لا يقدح في رتبة اصطفائه ، فإن الحلم والكرم من صفاتنا ، والرحمة من شأننا ، فلا تيأس من عودنا بالفضل والرحمة على من بالغ في مقاطعتنا من قومك الذين وصفناهم باللدد { فسجدوا } أي الملائكة { إلا إبليس } الذي نسب الله إلى الجور والإخلال بالحكمة فكفر فأيس من الرحمة وسلب الخير فأصر على إضلال الخلق بالتلبيس ، فكأنه قيل : ما كان من حاله في عدم سجوده؟ فقيل : { أبى* } أي تكبر على آدم فعصى أمر الله { فقلنا } بسبب ذلك بعد أن حلمنا عنه ولم نعاجله بالعقوبة : { يا آدم إن هذا } الشيطان الذي تكبر عليك { عدو لك } دائماً لأن الكبر الناشىء عن الحسد لا يزول { ولزوجك } لأنها منك { فلا يخرجنكما } أي لا تصغيا إليه بوجه فيخرجكما ، ووجه النهي إليه والمراد : هما ، تنبيهاً على أن لها من الجلالة ما ينبغي أن تصان عن أن يتوجه إليها نهي ، وأسند الإخراج إليه لزيادة التحذير والإبلاغ في التنفير ، وزاد في التنبيه بقوله : { من الجنة } أي فإنه لا يقصر في ضركما وإرادة إنزالكما عنها .
ولما نص سبحانه على شركتها له في الإخراج فكان من المعلوم شركتها له في آثاره ، وكانت المرأة تابعة للرجل ، فكان هو المخصوص في هذه الدار بالكل في الكد والسعي ، والذب والرعي ، وكان أغلب تعبه في أمر المرأة ، أفرد بالتحذير من التعب لذلك وعدّاً لتعبها بالنسبة إلى تعبه عدماً ، وتعريفاً بأن أمرها بيده ، وهو إن تصلب قادها إلى الخير ، وإلا قادته إلى الضير ، وعبر عن التعب بالشقاء زيادة في التحذير منه فقال : { فتشقى } أي فتتعب ، ولم يرد شقاوة الآخر ، لأنه لو أرادها ما دخل الجنة بعد ذلك ، لأن الكلام المقدر بعد الفاء خبر ، والخبر لا يخلف . ثم علل شقاوته على تقدير الإخراج بوصفها بما لا يوجد في غيرها من الأقطاب التي يدور علها كفاف الإنسان ، وهي الشبع والريّ والكسوة والكن .

ذاكراً لها بلفظ النفي لنقائضها ليطرق سمعه بأسماء أصناف الشقوة التي حذره منها ليصير بحيث يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها ، فإذا مضت عليه القدرة الباهرة علم أنه لا يغني حذر من قدر ، فقال : { إن لك } أي علينا { ألا تجوع فيها } أي يوماً ما { ولا تعرى* } فلا يتجرد باطنك ولا ظاهرك { وأنك لا تظمؤا } بالتهاب القلب { فيها ولا تضحى* } أي لا يكون بحيث يصيبك حر الشمس ، والمعنى أنه لا يصيبك حر في الباطن ولا في الظاهر { فوسوس } أي فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في الزمان أن وسوس { إليه الشيطان } المحترق المطرود ، وهو إبليس ، أي ألقى إليه وجه الخفاء بما مكناه من الجري في هذا النوع مجرى الدم ، وقذف المعاني في قلبه ، وكأنه عبر ب « إلى » ، لأن المقام لبيان سرعة قبول هذا النوع للنقائص وإن أتته من بعد ، أو لأنه ما أنهى إليه ذلك إلا بواسطة زوجه ، لذلك عدى الفعل عند ذكرهما بالام ، وكأنه قيل : ما دس إليه؟ فقيل : { قال يا آدم } ثم ساق له الغش مساق العرض ، إبعاداً لنفسه من التهمة والغرض؛ وشوقه إليه أولاً بقوله : { هل أدلك } فإن النفس شديدة الطلب لعلم ما تجهله؛ وثانياً بقوله : { على شجرة الخلد } أي التي من أكل منها خلد ، فإن الإنسان أحب شيء في طول البقاء؛ وثالثاً بقوله : { وملك لا يبلى* } أي لا يخلق أصلاً ، فكأنه قال له بلسان الحال أو القال : نعم ، فقال : شجرة الخلد هذه - مشيراً إلى التي نهي عنها - ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها .
{ فأكلا } أي فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل { منها } هو وزوجه ، متبعين لقوله ناسيين ما عهد إليهما { فبدت لهما } لما خرقا من ستر النهي وحرمته { سوءاتهما } وقوعاً لما حذرا منه من إخراجهما مما كانا فيه { وطفقا } أي شرعا { يخصفان } أي يخيطان أو يلصقان { عليهما من ورق الجنة } ليسترا عوراتهما { وعصى آدم } وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً ، لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء ودوام المراقبة مع ربط الجأش ويقظة الفكر { ربه } أي المحسن إليه بما لم ينله أحداً من بنيه من تصويره له بيده وإسجاد ملائكته له ومعاداة من عاداه { فغوى* } من الغواية وهي الضلال ، ولذلك قالوا : المعنى : فضلّ عن طريق السداد ، فأخطأ طريق التوصل إلى الخلد بمخالفة أمره ، وهو صفيه ، لم ينزله عن رتبة الاصطفاء ، لأن رحمته واسعة ، وحلمه عظيم ، وعفوه شامل ، فلا يهمنك أمر القوم اللد ، فإنا قادرون على أن نقبل بقلوب من شئنا منهم فنجعلهم من أصفى الأصفياء ، ونخرج من أصلاب من شئنا منهم من نجعل قلبه معدن الحكمة والعلم .
ولما كان الرضى عنه - مع هذا الفعل الذي أسرع فيه اتباع العدو وعصيان الولي بشيء لا حاجة به إليه - مستبعداً جداً ، أثبت ذلك تعالى مشيراً إليه بأداة التراخي فقال : { ثم اجتباه ربه } أي المحسن إليه { فتاب عليه } أي بسبب الاجتباء بالرجوع إلى ما كان عليه من طريق السداد { وهدى* } بالحفظ في ذلك كما هو الشأن في أهل الولاية والقرب .

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)

ولما كانت دور الملوك لا تحتمل مثل ذلك ، وكان قد قدم سبحانه عنايته بآدم عليه السلام اهتماماً به ، وكان الخبر عن زوجه وعن إبليس لم يذكر ، فكانت نفس السامع لم تسكن عن تشوفها إلى سماع بقية الخبر ، أجاب عن ذلك بأنه أهبط من داره المقدسة الحامل على المخالفة والمحمول وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها ، فقال على طريق الاستئناف : { قال } أي الرب الذي انتهكت حرمة داره : { اهبطا منها } أيها الفريقان : آدم وتبعه ، وإبليس { جميعاً } .
ولما كان السياق لوقوع النسيان وانحلال العزم بعد أكيد العهد ، حرك العزم وبعث الهم بإيقاع العداوة التي تنشأ عنها المغالبة ، فتبعث الهمم وتثير العزائم ، فقال في جواب من كأنه قال : على أيّ حال يكون الهبوط : { بعضكم لبعض عدو } وهو صادق بعداوة كل من الفريقين للفريق الآخر : فريق إبليس - الذين هم الجن - بالإضلال ، وفريق الإنس بالاحتراز منهم بالتعاويذ والرقى وغير ذلك ، وبعداوة بعض كل فريق لبعضه { فإما } أي فتسبب عن ذلك العلم بأنه لا قدرة لأحد منكم على التحرز من عدوه إلا بي ولا حرز لكم من قبلي إلا اتباع أمري ، فإما { يأتينكم } أي أيها الجماعة الذين هم أضلّ ذوي الشهوات من المكلفين { مني هدى } تحترزون به عن استهواء العدو واستزلاله { فمن اتبع } عبر بصيغة « افتعل » التي فيها تكلف وتتميم للتبع الناشىء عن شدة الاهتمام { هداي } الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول المؤيد بدلالة العقل ، وللتعبير بصيغة « افتعل » قال : { فلا يضل } أي بسبب ذلك ، عن طريق السداد في الدنيا ولا في الآخرة أصلاً { ولا يشقى* } أي في شيء من سعيه في واحدة منهما ، فإن الشقاء عقاب الضلال ، ويلزم من نفيه نفي الخوف والحزن بخلاف العكس ، فهو أبلغ مما في البقرة ، فإن المدعو إليه في تلك مطلق العبادة ، والمقام في هذه للخشية والبعث على الجد بالعداوة { إلا تذكرة لمن يخشى } وللإقبال على الذكر { من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً } والتحفظ من المخالفة ولو بالنسيان { فنسي ولم نجد له عزماً } . قال الرازي في اللوامع : والشقاء : فراق العبد من الله ، والسعادة وصوله إليه؛ وقال الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما : ضمن الله عز وجل لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة { ومن أعرض } أي فعل دون فعل الرضيع بتعمد الترك لما ينفعه بالمجاورة { عن ذكري } الذي هو الهدى { فإن له } ضد ذلك { معيشة } حقرها سبحانه بالتأنيث ثم وصفها بأفظع وصف وهو مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع وغيره فقال : { ضنكاً } أي ذات ضنك أي ضيق ، لكونه على ضلال وإن رأى أن حاله على غير ذلك في السعة والراحة ، فإن ضلاله لا بد أن يرديه ، فهو ضنك لكونه سبباً للضيق وآئلاً إليه ، من تسمية السبب باسم المسبب ، مع أن المعرض عن الله لا يشبع ولا يضل إلى أن يقنع ، مستولٍ عليه الحرص الذي لا يزال أن يطيح ببال من يريد الازدياد من الدنيا ، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق ، عن مناوأة الخصوم ، وتعاقب الهموم ، مع أنه لا يرجو ثواباً ، ولا يأمن عقاباً ، فهو لذلك في أضيق الضيق ، لا يزال همه أكبر من وجده

« لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانياً ، ولو أن له واديين لا بتغى لهما ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب » متفق عليه عن أنس رضي الله عنه ، وهكذا حال من أتبع نفسه هواها ، وأما المقبل على الذكر بكليته فهو قانع راض بما هو فيه ، مستكثر من ذكر الله الشارح للصدور الجالي للقلوب فهو أوسع سعة ، فلا تغتر بالصور وانظر إلى المعاني .
ولما ذكر حاله في الدنيا ، أتبعه قوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى* } وكان ذلك في بعض أوقات ذلك اليوم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خرج من القبر خرج بصيراً ، فإذا سيق إلى المحشر عمي ، أو يكون ذلك - وهو أقرب مفهوم العبارة - في بعض أهل الضلال ليجتمع مع قوله { أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا } [ مريم : 38 ] وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الظلم ظلمات يوم القيامة » ثم استأنف قوله : { قال } مذكراً بالنعمة السابقة استعطافاً لأن من شأن مسلف نعمة أن يربيها وإن قصر المنعم عليه ، وغاية ذلك إنما يكون مهما بقي للصلح موضع : { رب } أي أيها المحسن إليّ المسبغ نعمه عليّ { لم حشرتني } في هذا اليوم { أعمى وقد كنت } أي في الدنيا ، أو في أول هذا اليوم { بصيراً* } فكأنه قيل : بم أجيب؟ فقيل : { قال } له ربه : { كذلك } أي مثل هذا الفعل الشنيع فعلت في الدنيا ، والمعنى : مثل ما قلت كان؛ ثم فسر على الأول ، وعلل على الثاني ، فقال : { أتتك آياتنا } على عظمتها التي هي من عظمتنا { فنسيتها } أي فعاملتها بإعراضك عنها معامله المنسي الذي لا يبصره صاحبه ، فقد جعلت نفسك أعمى البصر والبصيرة عنها ، كما قال تعالى : { الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } [ الكهف : 101 ] { وكذلك } أي ومثل ذلك النسيان الفظيع ، وقدم الظرف ليسد سوقه للمظروف ويعظم اختباره لفهمه فقال : { اليوم تنسى* } أي تترك على ما أنت عليه بالعمى والشقاء بالنار ، فتكون كالشيء الذي لا يبصره أحد ولا يلتفت إليه { وكذلك } أي ومثل ذلك الجزاء الشديد { نجزي من أسرف } في متابعة هواه فتكبر عن متابعة أوامرنا { ولم يؤمن بآيات ربه } فكفر إحسانه إما بالتكذيب وإما بفعله فعل المكذب .
ولما ذكر أن هذا الضال كان في الدنيا معذباً بالضنك ، وذكر بعض ما له في الآخرة ، قال مقسماً لما له من التكذيب : { ولعذاب الآخرة } بأيّ نوع كان { أشد } من عذاب الدنيا { وأبقى* } منه ، فإن الدنيا دار زوال ، وموضع قلعة وارتحال .

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

ولما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين ، وأحاديث المكذبين ، بسبب العصيان على الرسل ، سبباً عظيماً للاستبصار والبيان ، كانوا أهلاً لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم فقال تعالى : { أفلم يهد } أي يبين { لهم كم أهلكنا قبلهم } اي كثرة إهلاكنا لمن تقدمهم { من القرون } بتكذيبهم لرسلنا ، حال كونهم { يمشون في مساكنهم } ويعرفون خبرهم بالتوارث خلفاً عن سلف أنا ننصر أولياءنا ونهلك أعدائنا ونفعل ما شئنا! والأحسن أن لا يقدر مفعول ، ويكون المعنى : أو لم يقع لهم البيان الهادي ، ويكون ما بعده استئنافاً عيناً كما وقع البيان بقوله استئنافاً : { إن في ذلك } أي الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة { لآيات } عظيمات البيان { لأولي النهى* } أي العقول التي من شأنها النهي عما لا ينفع فضلاً عما يضر ، فإنها تدل بتواليها على قدرة الفاعل ، وبتخصيص الكافر بالهلاك والمؤمن بالنجاة على تمام العلم مع عموم القدرة ، وعلى أنه تعالى لا يقر على الفساد وإن أمهل - إلى غير ذلك ممن له وازع من عقله .
ولما هددهم بإهلاك الماضين ، ذكر سبب التأخير عنهم ، عاطفاً على ما أرشد إلى تقديره السياق ، وهو مثل أن يقال : فلو أراد سبحانه لعجل عذابهم : { ولولا كلمة } أي عظيمة ماضية نافذة { سبقت } أي في الأزل { من ربك } الذي عودك بالإحسان بأنه يعامل بالحلم والأناة ، وأنه لا يستأصل مكذبيك ، بل يمد لهم ، ليرد من شاء منهم ويخرج من أصلاب بعضهم من يعبده ، وإنما ذلك إكراماً لك رحمة لأمتك لأنا كما قلنا أول السورة { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } بإهلاكهم وإن كانوا قوماً لداً ، ولا بغير ذلك ، وما أنزلناه إلا لتكثر أتباعك ، فيعملوا الخيرات ، فيكون ذلك زيادة في شرفك ، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم « وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً » { لكان } أي العذاب { لزاماً } أي لازماً أعظم لزوم لكل من أذنب عند أول ذنب يقع منه لشرفك عنده وقربك لديه { و } لولا { أجل مسمى* } ضربه لكل شيء لكان الأمر كذلك أيضاً ، لكنه سبقت رحمته غضبه فهو لا يعجل ، وضرب الأجل فهو لا يأخذ قبله ، وكل من سبق الكلمة وتسمية الأجل مستقل بالإمهال فكيف إذا اجتمعا ، فتسبب عن العلم بأنه لا بد من استيفاء الأجل وإن زاد العاصي في العصيان تسليم الأمور إلى الله وعدم القلق في انتظار الفرج فقال : { فاصبر على ما يقولون } لك من الاستهزاء وغيره .
ولما كان الصبر شديداً على النفس منافراً للطبع ، لأن النفس مجبولة على النقائص ، مشحونة بالوسواس ، أمر منه لأجل من يحتاج إلى الكمال بما ينهض بها من حضيض الجسم إلى أوج الروح بمقامي التحلي بالكمالات والتخلي عن الرعونات ، وبدأ بالأول لأنه العون على الثاني ، وذكر أشرف الحلي فقال : { وسبح بحمد ربك } أي اشتغل بما ينجيك من عذابه ، ويقربك من جنابه ، بأن تنزه من أحسن إليك عن كل نفص ، حال كونك حامداً له بإثبات كل كمال ، وذلك بأن تصلي له خاصة وتذكره بالذاكرين ، غير ملتفت إلى شيء سواه { قبل طلوع الشمس } صلاة الصبح { وقبل غروبها } صلاة العصر والظهر؛ وغير السياق في قوله : { ومن آناء الّيل } أي ساعاته ، جمع إنو - بكسر ثم سكون ، أي ساعة ، لأن العبادة حينئذ أفضل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب ، لأن العبادة إذ ذاك أشق وأدخل في التكليف فكانت أفضل عند الله { فسبح } أي بصلاة المغرب والعشاء ، إيذاناً بعظمة صلاة الليل ، وكرر الأمر بصلاتي الصبح والعصر إعلاماً بمزيد فضلهما ، لأن ساعتيهما أثناء الطي والبعث فقال : { وأطراف النهار } ويؤيد ما فهمته من أن ذلك تكرير لهما ما في الصحيحين عن جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال :

« إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا » ، ثم قرأ هذه الاية . وإلا لم يكن في الآية مزيد حث عليهما خاصة ، على أن الفظ « آناء وأطراف » صالح لصلاة التطوع من الرواتب وغيرها ليلاً ونهاراً ، وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض ، لأن الليل محل الراحة ، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر ، لأن النهار موضع النشاط واليقظة ، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المراد بما قبل الطلوع الصبح ، وما قبل الغروب العصر فقط ، وببعض الآناء المغرب والعشاء ، وأدخل الجار لكونهما وقتين ، وبجميع الأطراف الصبح والظهر والعصر ، لأن النهار له أربعة أطراف : أوله ، وآخره وآخر نصفه الأول ، وأول نصفه الثاني ، والكل مستغرق بالتسبيح ، ولذلك نزع الجار ، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر ، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها ، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين : التقديم والتكرير ، وإلى ذلك الإشارة بالحديث ، وإذا أريد إدخال النوافل حملت الأطراف على الساعات - والله الهادي .
ولما كان الغالب على الإنسان النسيان فكان الرجاء عنده أغلب ، ذكر الجزاء بكلمة الإطماع لئلا يأمن فقال : { لعلك ترضى * } أي افعل هذا لتكون على رجاء من أن يرضاك ربك فيرضيك في الدنيا والآخرة ، بإظهار دينك وأعلاء أمرك ، ولا يجعلك في عيش ضنك في الدنيا ولا في الآخرة - هذا على قراءة الكسائي وأبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول ، والمعنى على قراءة الجماعة بالبناء للفاعل : لتكون على رجاء من أن تكون راضياً دائماً في الدنيا والآخرة ، ولا تكون كذلك إلا وقد أعطاك ربك جميع ما تؤمل .

ولما كانت النفس ميالة إلى الدنايا ، مرهونة بالحاضر من فاني العطايا ، وكان تخيلها عن ذلك هؤ الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها ، قال مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك : { ولا تمدن } مؤكداً له بالنون الثقيلة { عينيك } أي لا تطوّل نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها قاصداً للاستحسان { إلى ما متعنا به } بما لنا من العظمة التي لا ينقصها تعظم أعدائنا به في هذه الحياة الفانية { أزواجاً } أي أصنافاً متشاكلين { منهم } أي من الكفرة { زهرة } أي تمتيع { الحياة الدنيا } لا ينتفعون به في الآخرة لعدم صرفهم له في أوامر الله ، فهو مصدر من المعنى مثل جلست قعوداً ، ثم علل تمتيعهم بقوله تعالى : { لنفتنهم فيه } أي لنفعل بهم فعل المختبر ، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى ، وفي الآخرة بالعذاب الأليم ، فصورته تغر من لم يتأمل معناها حق التأمل ، فما أنت فيه خير مما هم فيه { ورزق ربك } الذي عود به أولياءه - وهو في دار السفر- الكفاف الطيب المقرون بالتوفيق { خير } من زهرتهم ، لأنه يكفي ولا يطغي وزادك ما يدني إلى جنابه فيعلي { وأبقى* } فإنه وفقك لصرفه في الطاعة فكتب لك من أجره ما توفاه يوم الحاجة على وجه لا يمكن أحداً من الخلق حصره ، وتكون الدنيا كلها فضلاً عما في أيديهم أقل من قطرة بالنسبة إلى بحره ، وإضافة رزقه دون رزقهم إليه سبحانه - وإن كان الكل منه - للتشريف ، وفي التعبير بالرب إيذان بالحل ، وفيه إشارة إلى ظهوره عليهم وحياته بعدهم كما هو الشأن في الصالحين والطالحين .
ولما أمر بتزكية النفس أتبعه الإعلام بأن منها تزكية الغير ، لأن ذلك أدل على الإخلاص ، وأجدر بالخلاص ، كما دل عليه مثل السفينة الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يأمر بالمعروف ومن يتركه فقال { وأمر أهلك بالصلاة } كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام ، ليقودهم إلى كل خير { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] ولم يذكر الزكاة لدخولها في التزهيد بالآية التي قبلها .
ولما كانت شديدة على النفس عظيمة النفع ، قال { واصطبر } بصيغة الافتعال { عليها } أي على فعلها ، مفرغاً نفسك لها وإن شغلتك عن بعض أمر المعاش ، لأنا { لا نسألك رزقاً } أي نكلفك طلبه لنفسك ولا لغيرك ، فإن ما لنا من العظمة يأبى أن نكلفك أمراً ، ولا نكفيك ما يشغلك عنه .
ولما كانت النفس بكليتها مصروفة إلى أمر المعاش ، كانت كأنها تقول : فمن أين يحصل الرزق؟ فقال : { نحن } بنون العظمة { نرزقك } لك ولهم ما قدرناه لكم من أيّ جهة شئنا من ملكنا الواسع وإن كان يظن أنها بعيدة ، ولا ينفع في الرزق حول محتال ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا تدأبوا في تحصيله والسعي فيه ، فإن كلاًّ من الجاد فيه والمتهاون به لا يناله أكثر مما قسمناه له في الأزل ولا أقل ، فالمتقي لله المقبل على ذكره واثق بوعده قانع راض فهو في أوسع سعة ، والمعرض متوكل على سعيه فهو في كد وشقاء وجهد وعناء أبداً { والعاقبة } أي الكاملة ، وهي التي لا عاقبة في الحقيقة غيرها ، وهي الحالة الجميلة المحمودة التي تعقب الأمور ، أي تكون بعدها { للتقوى* } أي لأهلها ، ولا معولة على الرزق وغيره توازي الصلاة ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة - أخرجه أحمد عن حذيفة وعلقه البغوي في آخر سورة الحجر ، وقال الطبراني في معجمه الأوسط : ثنا أحمد - هو ابن يحيى الحلواني - ثنا سعيد - هو ابن سليمان - عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله الضيق أمرهم بالصلاة ، ثم قرأ { وأمر أهلك بالصلاة } الآية .

لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن سلام إلا بهذا الإسناد ، تفرد به معمر ، وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير في تفسيره : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي عبد الله بن أبي زياد القطران ناسيارنا جعفر عن ثابت قال : « كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة نادى أهله : يأهلاه! صلوا صلوا » ، قال ثابت : وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة ، وقد روى الترمذي وابن ماجه كلاهما في الزهد - وقال الترمذي : حسن غريب - من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله تعالى : تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك » وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : « من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد ، كفاه الله هم دنياه ، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديتها هلك » وروى أيضاً من حديث عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمر ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة » .

ولما قدم في هذه السورة ما ذكر من قصص الأولين وأخبار الماضين ، مبكتاً بذلك من أمر قريش بالتعنت من اليهود ، فلم يقدروا على إنكار شيء منه ولا توجيه طعن إليه ، وخلله ببدائع الحكم ، وغرائب المواعظ في أرشق الكلم ، وختم ذلك بأعظم داع إلى التقوى ، عجب منهم في كونهم لا يذعنون للحق أنفة من المجاهرة بالباطل ، أو خوفاً من سوء العواقب ، فقال : { وقالوا } ولعله عطف على ما يقدر في حيز قوله { أفلم يهد لهم إلى قوله : إن في ذلك لآيات } من أن يقال : وقد أبوا ذلك ولم يعدوا شيئاً منه آية : { لولا } أي هلا ولم لا { يأتينا } أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم { بآية } أي مثل آيات الأولين { من ربه } المحسن إليه ، دالة على صدقه .
ولما تضمن هذا أنهم لم يعدوا شيئاً من هذه البينات - التي أدلى بها على من تقدمه - آية مكابرة ، استحقوا الإنكار ، فقال : { أولم } أي ألم يأتهم من الآيات في هذا القرآن مما خصصتك به من الأحكام والحكم في أبلغ المعاني بأرشق النظوم ما أعجز بلغاءهم ، وأبكم فصحاءهم ، فدل قطعاً على أنه كلامي ، أو لم { تأتهم بينة ما } أي الأخبار التي { في الصحف الأولى* } من صحف إبراهيم وموسى وعيسى وداود عليهم السلام في التوارة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب الإلهية كقصتي آدم وموسى المذكورتين في هذه السورة وغيرهما مما تقدم قصة لها كما هي عند أهلها على وجوه لا يعلمها إلا قليل من حذاقهم من غير أن يخالط عالماً منهم أو من غيرهم ، ومن غير أن يقدر أحد منهم على معارضة ما أتى به في قصتها من النظم المنتج قطعاً أنه لا معلم له إلا الله المرسل له ، وأن أتى به منها شاهد لما في الصحف الأولى من ذلك بالصدق ، لأنه كلام الله ، فهو بينة على غيره لإعجازه ، فجميع الكتب الإلهية مفتقرة إلى شهادته افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة ، ولا افتقار له بعد العجز عنه إلى شيء أصلاً ، فهو أعظم من آيات جميع الأنبياء اللاتي يطلبون مثلها بما لا يقايس .
ولما تبين بذلك أنهم يطعنون بما لا شبهة لهم فيه أصلاً ، أتبعه ما كان لهم فيه نوع شبهة لو وقع ، فقال عاطفاً على { ولولا كلمة } : { ولو أنا أهلكناهم } معاملة لهم في عصيانهم بما يقتضيه مقام العظمة { بعذاب من قبله } أي من قبل هذا القرآن المذكور في الآية الماضية وما قاربها ، وفي قوله { ولا تعجل بالقرآن } صريحاً ، وكذا في مبنى السورة { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } { لقالوا } يوم القيامة : { ربنا } يا من هو متصف بالإحسان إلينا { لولا } أي هلا ولم لا { أرسلت } ودلوا على عظمته وعلو رتبته بحرف الغاية فقالوا : { إلينا رسولاً } أي يأمرنا بطاعتك { فنتبع } أي فيتسبب عنه أن نتبع { آياتك } التي يجيئنا بها .

ولما كان اتباعهم لا يستغرق زمان القبل قالوا : { من قبل أن نذل } بالعذاب هذا الذل { ونخزى* } بالمعاصي التي عملناها على جهل هذا الخري فلأجل ذلك أرسلناك إليهم وأقمنا بك حجة عليهم ، ونحن نترفق بهم ، ونكشف عن قلوب من شئنا منهم ما عليها من الرين بما ننزل من الذكر ونجدد من الآيات حتى نصدق أمرك ونعلي شأنك ونكثر أتباعك وننصر أشياعك .
ولما علم بهذا أن إيمانهم كالمتنع ، وجدالهم لا ينقطع ، بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه ، وإن عذبوا قبله تظلموا ، كان كأنه قيل : فما الذي أفعل معهم؟ فقال : { قل كل } أي مني ومنكم { متربص } أي منتظر حسن عاقبة أمره ودوائر الزمان على عدوه { فتربصوا } فإنكم كالبهائم ليس لكم تأمل ، ولا تجوزون الجائز إلا عند وقوعه { فستعلمون } أي عما قريب بوعد لا خلف فيه عند كشف الغطاء { من أصحاب الصراط } أي الطريق الواضح الواسع { السويّ } أي الذي لا عوج فيه ولا نتوّ ، فهو من شأنه أن يوصل إلى المقاصد .
ولما كان صاحب الشيء قد لا يكون عالماً بالشيء ولا عاملاً بما يعلم منه ، قال { ومن اهتدى* } أي من الضلالة فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره ، نحن أم أنتم؟ ولقد علموا يقيناً ذلك يوم فتح مكة المشرفة ، واشتد اغتباطهم بالإسلام ، ودخلوا رغبة في الحلم والكرم ، ورهبة من السيف والنقم ، وكتنوا بعد ذلك يعجبون من توقفهم عنه ونفرتهم منه ، وهذا معناه أنه صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه هم السعداء الأغنياء الراضون في الدنيا والآخرة ، وهو عين قوله تعالى : { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } فقد انطبق الآخر على الأول ، ودل على أن العظيم يعامل بالحلم فلا يعجل - والله أعلم .

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)

{ بسم } الحكيم العدل الذي تمت قدرته وعم أمره { الله } الملك الذي لا كفوء له { الرحمن } الذي ساوى بين خلقه في رحمة إيجاده { الرحيم* } الذي ينجي من شاء من عباده في معاده .
لما ختمت طه بإنذارهم بأنهم سيعلمون الشقي والسعيد ، وكان هذا العلم تارة يكون في الدنيا بكشف الحجاب بالإيمان ، وتارة بمعانية ظهور الدينن وتارة بإحلال العذاب بإزهاق الروح بقتل أو غيره ، وتارة ببعثها يوم الدين ، افتتحت هذه بأجلى ذلك وهو اليوم الذي يتم فيه كشف الغطاء فينتقل فيه الخبر من علم اليقين إلى عين اليقين وحق اليقين وهو يوم الحساب ، فقال تعالى : { اقترب للناس } أي عامة أنتم وغيركم { حسابهم } أي في يوم القيامة؛ وأشار بصيغة الافتعال إلى مزيد القرب لأنه لا أمة بعد هذه ينتظر أمرها ، وأخر الفاعل تهويلاً لتذهب النفس في تعيينه كل مذهب ، ويصح أن يراد بالحساب الجزاء ، فيكون ذلك تهديداً بيوم بدر والفتح ونحوهما ، ويكون المراد بالناس حينئذ قريشاً أو جميع العرب ، والحساب : إحصاء الشيء والمجازاة عليه بخير أو شر { وهم } أي الحال أنهم من أجل ما في جبلاتهم من النوس ، وهو الاضطراب الموجب لعدم الثبات على حالة الأمن ، أنقذه الله منهم من هذا النقص وهم قليل جداً { في غفلة } فهي تعليل لآخر تلك على ما تراه ، لأنهم إذا نشروا علموا ، وإذا أبادتهم الوقائع علموا هم بالموت ، ومن بقي منهم بالذل المزيل لشماخة الكبر ، أهل الحق من أهل الباطل ، وقوله : { معرضون* } كالتعليل للغفلة ، أي أحاطت بهم الغفلة بسبب إعراضهم عما يأتيهم منا ، وسيأتي ما يؤيد هذا في قوله آخرها { بل كنا ظالمين } وإلا فالعقول قاضية بأنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما تقدم قوله سبحانه { لا تمدن عينيك } [ طه : 131 ] - إلى قوله - { فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى } [ طه : 131 ] قال تعالى { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } أي لا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة لمن ناله بغير حق ، ونسأل عن قليل ذلك وكثيره { ولتسألن يومئذ عن النعيم } [ التكاثر : 8 ] والأمر قريب { اقترب للناس حسابهم } وأيضاً فإنه تعالى لما قال { وتنذر به قوماً لداً } [ مريم : 97 ] وهم الشديدو الخصومة في الباطل ، ثم قال { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } [ مريم : 74 ] إلى آخرها ، استدعت هذه الجملة بسط حال ، فابتدئت بتأنيسه عليه الصلاة السلام وتسليتة ، حتى لا يشق عليه لددهم ، فتضمنت سورة طه من هذا الغرض بشارته بقوله { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } [ طه : 2 ] وتأنيسه بقصة موسى عليه السلام وما كان من حال بني إسرائيل وانتهاء أمر فرعون ومكابدة موسى عليه السلام لرد فرعون ومرتكبه إلى أن وقصه الله ، وأهلكه ، وأورث عباده أرضهم وديارهم ، ثم اتبعت بقصة آدم عليه السلام ليرى نبيه صلى الله عليه وسلم سنته في عباده حتى أن آدم عليه السلام وإن لم يكن امتحانه بذريته ولا مكابدته من أبناء جنسه - فقد كابد من إبليس ما قصه الله في كتابه ، وكل هذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه إذا تقرر لديه أنه سنة الله تعالى في عبادة هان عليه لدد قريش ومكابدتهم ، ثم ابتدئت سورة الأنبياء ببقية هذا التأنيس ، فبين اقتراب الحساب ووقوع يوم الفصل المحمود فيه ثمرة ما كوبد في ذات الله والمتمنى فيه أن لو كان ذلك أكثر والمشقة أصعب لجليل الثمرة وجميل الجزاء ، ثم اتبع ذلك سبحانه بعظات ، ودلائل وبسط آيات ، وأعلم أنه سبحانه قد سبقت سنته بإهلاك من لم يكن منه الإيمان من متقدمي القرون وسالفي الأمم

{ ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها } [ الأنبياء : 6 ] وفي قوله { أفهم يؤمنون } [ الأنبياء : 6 ] تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر قريش ومن قبل ما الكلام بسبيله ، وقد تضمنت هذه السورة إلى ابتداء قصة إبراهيم عليه السلام من المواعظ والتنبيه على الدلالات وتحريك العباد إلى الاعتبار بها ما يعقب لمن اعتبر به التسليم والتفويض لله سبحانه والصبر علىلابتلاء وهو من مقصود السورة ، وفي قوله { ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين } [ الأنبياء : 9 ] إجمال لما فسره النصف الأخير من هذه السورة من تخليص الرسل عليهم السلام من قومهم وإهلاك من أسرف وأفك ولم يؤمن ، وفي ذكر تخليص الرسل وتأييدهم الذي تضمنه النصف الأخير من لدن قوله { ولقد ءاتينا إبراهيم رشده } [ الأنبياء : 51 ] إلى آخر السورة كمال الغرض المتقدم من التأنيس وملاءمة ما تضمنته سورة طه وتفسير لمجمل { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً } [ مريم : 98 ] انتهى .
ولما أخبر سبحانه عن غفلتهم وإعراضهم ، علل ذلك بقوله : { ما يأتيهم } وأعرق في النفي بقوله : من { ذكر } أي وحي يذكر بما جعل في العقول من الدلائل عليه سبحانه ويوجب الشرف لمن أتبعه { من ربهم } المحسن إليهم بخلقهم وتذكيرهم ، قديم لكونه صفة له { محدث } إنزاله { إلا استمعوه } أي قصدوا سماعه وهو أجد الجد وأحق الحق { وهم } أي والحال أنهم { يلعبون* } أي يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء به ووضعه في غير مواضعه وجعلهم استماعهم له لإرادة الطعن فيه ، فهو قريب من قوله { لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه } [ فصلت : 26 ] { لاهية قلوبهم } أي غارقة قلوبهم في اللهو ، مشغولة به عما حداها إليه القرآن ، ونبهها عليه الفرقان ، وحذرها منه البيان ، قال الرازي في اللوامع : لاهية : مشتغلة من لهيت ألهى : أو طالبة للهو ، من لهوت ألهو - انتهى . ويمكن أن يراد بالناس مع هذا كله العموم ويكون من باب قوله تعالى

{ وما قدروا الله حق قدره } [ الأنعام : 91 ] وقوله صلى الله عليه وسلم « لا أحصي ثناء عليك » وأن يخص بالكفار .
ولما ذكر ما يظهرونه في حال الاستماع من اللهو واللعب ، ذكر ما يخفونه من التشارو في الصد عنه وإعمال الحيلة في التنفير منه والتوثق من بعضهم لبعض في الثبات على المجانبة له فقال عاطفاً على { استمعوا } : { وأسروا } أي الناس المحدث عنهم { النجوى } أي بالغوا في إسرار كلامهم بسبب الذكر ، لأن المناجاة في اللغة السر - كذا في القاموس ، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : والنجوى : الكلام بين اثنين كالسر والتشاور .
ولما أخبر بسوء ضمائرهم ، أبدل من ضميرهم ما دل على العلة الحاملة لهم على ذلك فقال : { الذين ظلموا } ثم بين ما تناجوا به فقال : { هل } أي فقالوا في تناجيهم هذا ، معجبين من ادعائه النبوة مع مماثلته لهم في البشرية : هل { هذا } الذي أتاكم بهذا الذكر { إلا بشر مثلكم } أي خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب والحياة والموت ، فكيف يختص عنكم بالرسالة؟ ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له ، فحينئذ تسبب عن هذا الإنكار في قولهم : { أفتأتون السحر وأنتم } أي والحال أنكم { تبصرون* } بأعينكم أنه بشر مثلكم ، وببصائركم أن هذه الخوارق التي يأتي بها يمكن أن تكون سحراً ، فيا لله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم فلم يجوزوا أن يكون عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان وجزموا بأنه من الشيطان الداعي إلى الهوان ، باصطلاء النيران ، والعجب أيضاً أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم لما يخص الله به بعض الناس عن بعض الذكاء والفطنة ، وحسن الخلائق والأخلاق ، والقوة والصحة ، وطول العمر وسعة الرزق - ونحو ذلك من القيافة والعيافة والرجز والكهانة ، ويأتون أصحابها لسؤالهم عما عندهم من ذلك من العلم .
ولما كان الله تعالى لا يقر من كذب عليه ، فضلاً عن أن يصدقه ويؤيده ، ولا يخفى عليه كيد حتى يلزم منه نقص ما أراده ، قال دالاً لهم على صدقه منبهاً على موضع الجحة في أمره - على قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، وجواباً لمن كأنه قال : فماذا يقال لهؤلاء؟ - على قراءة الباقين : { قال ربي } المحسن إليّ بتأييدي بكل ما يبين صدقي ويحمل على أتباعي { يعلم القول } سواء كان سراً أو جهراً .
ولما كان من يسمع من هاتين المسافتين يسمع من أيّ مسافة فرضت غيرهما قطعاً ، لم يحتج إلى جمع على أنه يصح إرادة الجنس فقال : { في السماء والأرض } على حد سواء ، لأنه لا مسافة بينه وبين شيء من ذلك { وهو } أي وحده { السميع العليم* } يسمع كل ما يمكن سمعه ، ويعلم كل ما يمكن علمه من القول وغيره ، فهو يسمع سركم ، ويبطل مكركم ، ويسمع ما أنسبه إليه من هذا الذكر ، فلو لم يكن عنه لزلزل بي ، وقد جرت سنته القديمة في الأولين ، بإهلاك المكذبين ، وتأييد الصادقين ، وإنجائهم من زمن نوح عليه السلام إلى هذا الزمان ، ولعلمه بحال الفريقين .

وستعلمون لمن تكون له العاقبة ، وقد أشار إلى هذا في هؤلاء الأنبياء عليهم السلام الذين دل بقصصهم في هذه السورة على ما تقدمها من الأحكام والقضايا { وكنا به عالمين } [ الأنبياء : 51 ] { إذ قال لأبيه وقومه وكنا لحكمهم شاهدين } و { كنا بكل شيء عالمين } [ الأنبياء : 88 ] { وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون } [ الأنبياء : 109 ] { إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون } [ الأنبياء : 110 ] { إن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] { ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } [ النور : 55 ] .

بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)

ولما كانت أقوالهم في أمر القرآن قد اضطربت ، والإضطراب من أمارات الباطل ، وكان وصفهم له بأنه سحر مما يهول السامع ويعلم منه أنه معجز ، فربما أدى إلى الاستبصار في أمره ، أخبر أنهم نزلوا به عن رتبة السحر على سبيل الاضطراب فقال : { بل قالوا } أي عن هذا الذكر الحكيم أنه { أضغاث أحلام } أي تخاليط نائم مبناه الباطل وإن كان ربما صدق بالأخبار ببعض المغيبات التي كشف الزمان عن أنها كما أخبر القرآن ، ثم أنزلوا عن ذلك إلى الوصف موجب لأعظم النفرة عنه وعمن ظهر عنه فقالوا : { بل افتراه } أي تعمد وصفه من عند نفسه ونسبه إلى الله .
ولما كان ذلك لا ينافي كون مضمونه صادقاً في نفسه ، قالوا { بل هو شاعر } أي يخيل ما لا حقيقة له كغيره من الشعراء ، تتربص به ريب المنون لأنه بشر كما تقدم ، فلا بد أن يموت ونستريح بعد موته ، وإليه أشار في آخر التي قبلها { قل كل متربص } [ طه : 135 ] إلى أخره ، فاضطربت أقوالهم وعوّلوا أخيراً على قريب من السحر في نفي الحقيقة .
ولما كانوا يصفون القرآن بجميع هذه الأوصاف جملة ، يقولون لكل شخص ما رأوه أنسب له منها ، نبه الله سبحانه كل من له لب على بطلانها كلها بتناقضها بحرف الإضراب إشارة إلى أنه كان يجب على من قالها على قلة عقله وعدم حيائه أن لا ينتقل إلى قول منها إلا بعد الإعراض عن الذي قبله ، وأنه مما يضرب عنه لكونه غلطاً ، ما قيل إلا عن سبق لسان وعدم تأمل ، ستراً لعناده وتدليساً لفجوره ، ولو فعل ذلك لكانت جديرة بانكشاف بطلانها بمجرد الانتقال فكيف عند اجتماعها . ولما كانت نسبته إلى الشعر أضعفها شأناً ، وأوضحها بطلاناً ، لم يحتج إلى إضراب عنه ، وعبروا في الأضغاث بوصف القرآن تأكيداً لعيبه ، وفي الافتراء والشعر بوصفه صلى الله عليه وسلم لذلك .
ولما أنتج لهم ذلك على زعمهم القدح في أعظم المعجزات ، سببوا عن هذا القدح طلب آية فقالوا : { فليأتنا } أي دليلاً على رسالته { بآية } أي لأنا قد بينا بطعننا أن القرآن ليس بآية؛ ثم خيلوا النصفة بقولهم : { كما } أي مثل ما ، وبنوا الفعل للمفعول إشارة إلى أنه متى صحت الرسالة كان ذلك بزعمهم من غير تخلف لشيء أصلاً فقالوا : { أرسل الأولون* } أي بالآيات مثل تسبيح الجبال ، وتسخير الريح ، وتفجير الماء ، وإحياء الموتى ، وهذا تناقض آخر في اعترافهم برسالة الأولين مع معرفتهم أنهم بشر ، وإنكارهم رسالته صلى الله عليه وسلم لكونه بشراً ، ولم يستحيوا بعد التناقض من المكابرة فيما أتاهم به من انشقاق القمر ، وتسبيح الحصى ، ونبع الماء ، والقرآن المعجز ، مع كونه أمياً - إلى غير ذلك .

ولما أشار سبحانه إلى فساد طعنهم بما جعله هباء منثوراً ، وتضمن قولهم الذي سببوه عنه القرار بالرسل البشريين وأياتهم ، أتبعه بيان ما عليهم فيه ، فبين أولاً أن الآيات تكون سبباً للهلاك ، فقال جواباً لمن كأنه قال : رب أجبهم إلى ما اقترحوه ليؤمنوا : { ما ءامنت } أي بالإجابة إلى الآيات المقترحات .
ولما كان المراد استغراق الزمان ، جرد الظرف عن الخافض فقال : { قبلهم } أي قبل كفار مكة المقترحين عليك ، وأعرق في النفي فقال : { من قرية } ولما كان المقصود التهويل في الإهلاك ، وكان إهلاك القرية دالاً على إهلاك أهلها من غير عكس ، دل على إهلاك جميع المقترحين تحذيراً من مثل حالهم بوصفها بقوله في مظهر العظمة المقتضي لإهلاك المعاندين : { أهلكناها } أي على كثرتهم { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } [ الإسراء : 17 ] ، { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } [ الشعراء : 208 ] ، { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] « وما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر » وأشار بذلك إلى أنه لم يسلم عند البأس إلا قرية واحدة وهم قوم يونس لأنهم آمنوا عند رؤية المخايل وقيل الشروع في الإهلاك ، وهو إشارة إلى أن سبب الإيمان مشيئته سبحانه لا الآيات .
ولما كانوا كمن قبلهم إن لم يكونوا دونهم ، حسن الإنكار في قوله : { أفهم يؤمنون* } أي كلا! بل لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم حين لا ينفع الإيمان ، وقد قضينا في الإزل أن لا نستأصل هذه الأمة إكراماً لنبيها ، فنحن لا نجيبهم إلى المقترحات لذلك .
ولما بين أولاً أن الآيات تكون سبباً للهلاك ، فلا فائدة في الإجابة إلى ما اقترحوه منها بعد بطلان ما قدحوا به في القرآن ، بيّن ثانياً بطلان ما قدحوا به في الرسول بكونه بشراً ، بأن الرسل الذين كانوا من قبله كانوا بإقرارهم من جنسه ، فما لهم أن ينكروا رسالته هو مثلهم ، بل عليهم أن يعترفوا له عندما أظهر من المعجز كما اعترفوا لأولئك ، كل ذلك فطماً عن أن يتمنى أحد إجابتهم إلى التأييد بملك ظاهر ، فقال عاطفاً على ما « آمنت » : { وما أرسلنا } .
ولما كان السياق لإنكار أن يكون النبي بشراً ، وكان الدهر كله ما خلا قط جزء منه من رسالة ، إما برسول قائم ، وإما بتناقل أخباره ، كان تعميم الزمان أنسب فقال من غير حرف جر : { قبلك } أي في جميع الزمان الذي تقدم زمانك في جميع طوائف البشر { إلا رجالاً نوحي إليهم } بالملائكة سراً من غير أن يطلع على ذلك الملك غيرهم كما اقتضته العظمة من التخصيص والاختيار والإسرار عن الأغيار ، وذلك من نعم الله على خلقه ، لأن جعل الرسل من البشر أمكن للتلقي منهم والأخذ عنهم .
ولما لم يكن لهم طريق في علم هذا إن يقبلوا خبره عن القرآن إلا سؤال من كانوا يفزعون إليهم من أهل الكتاب ليشايعوهم على ما هم عليه من الشك والارتياب ، قال : { فسألوا أهل الذكر } ثم نبه على أنهم غير محتاجين فيه إلى السؤال بما كان قد بلغهم على الآجال من أحوال موسى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم عليهم الصلاة والسلام بقوله ، معبراً بأداة الشكك محركاً لهم إلى المعالي : { إن كنتم } أي بجبلاتكم { لا تعلمون* } أي لا أهلية لك في اقتناص علم ، بل كنتم أهل تقليد محض وتبع صرف .

ولما بين أنه على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلاً ، بين أنه على سنتهم في جميع الأوصاف التي حكم بها على البشر من العيش والموت فقال : { وما جعلناهم } أي الرسل الذين اخترنا بعثهم إلى الناس ليأمروهم بأوامرنا . ولما كان السبب في الأكل ترتيب هذا الهيكل الحيواني على ما هو عليه لا كونه متكثراً ، وحد فقال { جسداً } أي ذوي جسد لحم ودم متصفين بأنهم { لا يأكلون الطعام } بل جعلناهم أجساداً يأكلون ويشربون ، وليس ذلك بمانع من إرسالهم؛ قال ابن فارس في المجمل : وفي كتاب الخليل : إن الجسد لا يقال لغير الإنسان من خلق الأرض . ثم عطف على الأول قوله : { وما كانوا خالدين* } أي بأجسادهم ، بل ماتوا كما مات الناس قبلهم وبعدهم ، أي لم يكن ذلك في جبلتهم وإنما تميزوا عن الناس بما يأتيهم عن الله سبحانه ، ورسولكم صلى الله عليه وسلم ليس بخالد ، فتربصوا كما أشار إليه ختم طه فإنه متربص بكم وأنتم عاصون للملك الذي اقترب حسابه لخلقه وهو مطيع له ، فأيكم أحق بالأمن؟ ولما بين أن الرسل كالمرسل إليهم بشر غير خالدين ، بين سنته فيهم وفي أممهم ترغيباً لمن اتبع ، وترهيباً لمن امتنع ، فقال عاطفاً بأداة التراخي في مظهر العظمة على ما أرشد إليه التقدير من مثل : بل جعلناهم جسداً يأكلون ويشربون ، ويعيشون إلى انقضاء آجالهم ويموتون ، وأرسلناهم إلى أممهم فحذروهم وأنذروهم وكلموهم كما أمرناهم ، ووعدناهم أن من آمن بهم أسعدناه ، ومن كفر واستمر أشقيناه ، وأنا نهلك من أردنا من المكذبين ، فآمن بهم بعض وكفر آخرون؛ فلم نعاجلهم بالأخذ بل صبرنا عليهم ، وطال بلاء رسلنا بهم { ثم صدقناهم } بما اقتضت عظمتنا ، وأكد الأمر بتعدية الفعل من غير حرف الجر فقال : { الوعد } أي بإنجائهم؛ وأشار بأداة التراخي إلى أنهم طال بلاؤهم بهم وصبرهم عليهم ، ثم أحل بهم سطوته ، وأراهم عظمته ، ولذا قال مسبباً عن ذلك : { فأنجيناهم } أي الرسل بعظمتنا ، ولكون السياق لأنهم في غاية الغفلة التي نشأ عنها التكذيب البليغ الذي اقتضى تنويع القول به إلى سحر وأضغاث وافتراء وشعر ، فاقتضى مقابلته بصدق الوعد منه سبحانه ، عبر بالإنجاء الذي هو إقلاع من وجدة العذاب في غاية السرعة { ومن نشآء } أي من تابعيهم . إشارة إلى أن سبب الإنجاء المشيئة لا أن التصديق موجب له ، لأنه لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء { وأهلكنا } أي بما يقتضيه الحكمة { المسرفين* } كلهم الذين علمنا أن الإسراف لهم وصف لازم لا ينفكون عنه .

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)

ولما انقضى ما لزمهم بسبب الإقرار برسلية البشر من الإقرار برسلية رسولهم صلى الله عليه وسلم لكونه مساوياً لهم في النوع والإتيان بالمعجز ، وما فعل بهم وبأممهم ترغيباً وترهيباً ، وختم ذلك بأنه أباد المسرفين ، ومحا ذكرهم إلا بالبشر ، التفت إلى الذكر الذي طعنوا فيه ، فقال مجيباً لمن كأنه قال : هذا الجواب عن الطعن في الرسول قد عرف ، فما الجواب عن الطعن في الذكر؟ معرضاً عن جوابهم لما تقدم من الإشارة بحرف الإضراب إلى أن ما طعنوا به فيه لا يقوله عاقل ، مبيناً لما لهم فيه من الغبطة التي هم لها رادون ، والنعمة التي هم بها كافرون : { لقد } أي وعزتنا لقد { أنزلنا } بما لنا من العظمة { إليكم } يا معشر قريش بل العرب قاطبة { كتاباً } أي جامعاً لجميع المحاسن لا يغسله الماء ولا يحرقه النار { فيه ذكركم } طوال الدهر بالخير إن أطعتم ، والشر إن عصيتم ، وبه شرفكم على سائر الأمم بشرف ما فيه من مكارم الأخلاق التي كنتم تتفاخرون بها وبشرف نبيكم الذي تقولون عليه الأباطيل ، وتكثرون فيه القال والقيل .
ولما تم ذلك على هذا الوجه ، نبه أنه يتعين على كل ذي لب الإقبال عليه والمسارعة إليه ، فحسن جداً قوله منكراً عليهم منبهاً على أن علم ذلك لا يحتاج إلى غير العقل المجرد عن الهوى : { أفلا تعقلون* } .
ولما كان التقدير : فإن عدلتم بقبوله شرفناكم ، وإن ظلمتم برده عناداً أهلكناكم كما أهلكنا من كان قبلكم ، عطف عليه قوله : { وكم قصمنا } أي بعظمتنا { من قرية } جعلناها كالشيء اليابس الذي كسر فتباينت أجزاؤه ، والإناء الذي فت فانكب ماؤه؛ وأشار بالقصم الذي هو أفظع الكسر إلى أنها كانت باجتماع الكلمة وشدة الشكيمة كالحجر الرخام في الصلابة والقوة ، و « كم » في هذا السياق يقتضي الكثرة ، ثم علل إهلاكها وانتقالها بقوله : { كانت ظالمة } ثم بين الغنى عنها بقوله : { وأنشأنا } أي بعظمتنا .
ولما كان الدهر لم يخل قط بعد آدم من إنشاء وإفناء ، فكان المراد أن الإنشاء بعد الإهلاك يستغرق الزمان على التعاقب ، بياناً لأن المهلكين ضروا أنفسهم من غير افتقار إليهم ، اسقط الجار فقال : { بعدها قوماً } أي أقوياء ، وحقق أنهم لا قرابة قريبة بينهم بقوله : { ءاخرين* } ثم بين حالها عند إحلال البأس بها فقال : { فلما أحسوا * } أي أدرك أهلها بحواسهم { بأسنا } أي بما فيه من العظمة { إذا هم } أي من غير توقف أصلاً { منها } أي القرية { يركضون* } هاربين عنها مسرعين كمن يركض الخيل - أي يحركها - للعدو ، بعد تجبرهم على الرسل وقولهم لهم { لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا } [ إبراهيم : 13 ] فناداهم لسان الحال تقريعاً تبشيعاً لحالهم وتفظيعاً : { لا تركضوا } وصور التهكم بهم بأعظم صورة فقال : { وارجعوا } إلى قريتكم { إلى ما } .

ولما كان التأسيف إنما هو على العيش الرافه لا على كونه من معط معين ، بني للمفعول قوله : { أترفتم فيه } أي منها ، ويجوز أن يكون بني للمجهول إشارة إلى غفلتهم عن العلم لمن أترفهم أو إلى أنهم كانوا ينسبون نعمتهم إلى قواهم ، ولو عدوها من الله لشكروه فنفعهم . ولما كان أعظم ما يؤسف عليه بعد العيش الناعم المسكن ، قال : { ومساكنكم } أي التي كنتم تفتخرون بها على الضعفاء من عبادي بما أتقنتم من بنائها ، وأوسعتم من فنائها ، وعليتم من مقاعدها ، وحسنتم من مشاهدها ومعاهدها { لعلكم تسألون* } في الإيمان بما كنتم تسألون ، فتابوا بما عندكم من الأنفة ومزيد الحمية والعظمة ، أو تسألون في الحوائج والمهمات ، كما يكون الرؤساء في مقاعدهم العلية ، ومراتبهم البهية ، فيجيبون سائلهم بما شاؤوا على تؤدة وأحوال مهل تخالف أحوال الراكض العجل { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } [ إبراهيم : 44 ] .
ولما كان كأنه قيل : بما أجابوا هذا المقال؟ قيل { قالوا } حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس : { يا ويلنا } إشارة إلى أنه حل بهم لأنه لا ينادي إلا القريب ، وترفقاً له كما يقول الشخص لمن يضربه : يا سيدي - كأنه يستغيث به ليكف عنه ، وذلك غباوة منهم ، وعمى عن الذي أحله بهم ، لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب؛ ثم عللوا حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم : { إنا كنا } أي جبلة لنا وطبعاً { ظالمين* } حيث كذبنا الرسل ، وعصينا أمر ربنا ، فاعترفوا حيث لم ينفعهم الاعتراف لفوات محله { فما } أي فتسبب عن إحلالنا ذلك البأس بهم أنه ما { زالت تلك } أي الدعوة البعيدة عن الخير والسلامة ، وهي قولهم : يا ويلنا { دعواهم } يرددونها لا يكون دعوى لهم غيرها ، لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم ، وترفقهم له غير نافعهم { حتى جعلناهم } بما لنا من العظمة { حصيداً } كالزرع المحصود .
ولما كان هذا وما بعده مثل حلو حامض في الزمان ، جعلا خبراً واحداً ليكون « جعل » مقتصراً على مفعولين فقال : { خامدين* } أي جامعين للانقطاع والخفوت ، لا حركة لهم ولا صوت ، كالنار المضطرمة إذا بطل لهيبها ثم جمرها وصارت رماداً ، ولم يك ينفعهم إيمانهم واعترافهم بالظلم وخضوعهم لما رأوا بأسنا .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)

ولما ذمهم باللعب وبين أنه يفعل في إهلاك الظلم وإنجاء العدل فعل الجاد بإحقاق الحق بالانتقام لأهله ، وإزهاق الباطل باجتثاثه من أصله ، فكان التقدير : وما ينبغي لنا أن نفعل غير ذلك من أفعال الحكمة العرية عن اللعب ، فلم نخلق الناس عبثاً يعصوننا ولا يؤاخذون ، عطف عليه قوله : { وما خلقنا } أي بعظمتنا التي تقتضي الجد ولا بد .
ولما كان خلق السماء واحدة يكفي في الدلالة على الحكمة فكيف بأكثر منها! وحّد فقال : { السماء } أي على علوها وإحكامها { والأرض } على عظمها واتساعها { وما بينهما } مما دبرناه لتمام المنافع من أصناف البدائع وغرائب الصنائع { لاعبين* } غير مريدين بذلك تحقيق الحقائق وإبطال الأباطيل ، بل خلقنا لكم ذلك آية عظيمة كافية في الوصول إلينا ليظهر العدل في جزاء كل بما يستحق ، مشحونة بما يقوت الأجسام ، ويهيج النفوس ، ويشرح الصدور ، ويريح الأرواح ويبعث إلى الاعتبار ، كلَّ من له استبصاراً ، للدلالة على حكمتنا ووجوب وحدانيتنا فاتخذتم أنتم ما زاد على الحاجة لهواً صاداً عن الخير ، داعياً إلى الضير .
ولما نفى عنه اللعب ، أتبعه دليله فقال : { لو أردنا } أي على عظمتنا { أن نتخذ لهواً } يكون لنا ومنسوباً في لهوه إلينا ، واللهو - قال الأصفهاني : صرف الهم عن النفس بالقبيح . { لاتخذناه } أي بما لنا من العظمة { من لدنا } أي مما يليق أن ينسب إلى حضرتنا بما لنا من تمام القدرة وكمال العظمة ، وباهر الجلالة والحكمة ، وذلك بأن يكون محض لهو لا جد فيه أصلاً ، ولا يخلطه شيء من الكدر ، ولا يتوقف من يراه في تسميته لهواً ، لا يكون له عنده اسم غير ذلك كما لو أن شمساً أخرى وجدت لم يتوقف أحد في تسميتها شمساً كما قال تعالى في السورة الماضية { وقد ءاتيناك من لدنا ذكراً } [ طه : 99 ] أي فهو بحيث لا يتوقف أحد في أنه من عندنا ، وأنه ذكر وموعظة كما مضى ، لكنا لم نرد ذلك فلم يكن ، وما اتخذتموه لهواً فإنا خلقناه لغير ذلك بدليل ما فيه من الشواغل والمنغصات والقواطع فاتخذتموه أنتم من عند أنفسكم لهواً ، فكان أكثره لكم ضراً وعليكم شراً ، وخص الحرالي { عند } بما ظهر ، و { لدن } بما بطن ، فعلى هذا يكون المراد : من حضرتنا الخاصة بنا الخفية التي لا يطلع عليها غيرنا ، لأن ما للملك لا يكون مبتذلاً ، وكذلك لم يذكر إلا ما يتحقق المكذبون بالبعث رؤيته فوحد السماء هنا وجمعها في غير هذا الموضع لاقتضاء الحال ذلك .
ولما كان هذا مما ينبغي أن تنزه الحضرة القدوسية عنه وعن مجرد ذكره ولو على سبيل الفرض ، أشار إلى ذلك بأداة شرط أخرى فقال : { إن كنا فاعلين* } أي له ، ولكنه لا يليق بجنابنا فلم نفعله ولا نكون فاعلين له { بل } وإشعار لهذا المعنى بالقذف والدمغ تصويراً للحق بجعل الحق كأنه جرم صلب كالصخرة قذف بها على جرم رخو أجوف فقال : { نقذف } أي إنما شأننا أن نرمي رمياً شديداً { بالحق } الذي هو هذا الذكر الحكيم الذي أنزلناه جداً كله وثباتاً جميعه لا لهو فيه ولا باطل ، ولا هو مقارب لشيء منهما ، ولا تقدرون أن تتخذوا شيئاً منه لهواً اتخاذاً يطابقكم عليه منصف ، فنحن نقذف به { على الباطل } الذي أحدثتموه من غير أنفسكم { فيدمغه } أي فيمحقه محق المكسور الدماغ { فإذا هو } في الحال { زاهق } أي ذاهب الروح أي هالك؛ ثم عطف على ما أفادته « إذا » قوله : { ولكم } أي وإذا لكم أيها المبطلون { الويل مما تصفون* } أي من وصفكم لكل شيء بما تهوى أنفسكم من غير إذن منا لكم ، لأنكم لا تقفون على حقائق الأمور ، فإن وصفتم القرآن بشيء مما تقدم ثم قذفنا عليه بما يبين بطلانه ، بان لكل عاقل أنه يجب عليكم أن تنادموا الويل بميلكم كل الميل ، وإن وصفتم الله أو الدنيا أو غيرهما فكذلك إنما أنتم متعلقون بقشور وظواهر لا يرضاها إلا بعيد عن العقل محجوب عن الإدراك؛ ثم عطف أيضاً على ما لزم من ذلك القذف قوله : { وله من في السماوات } أي الأجرام العالية وهي ما تحت العرش ، وجمع السماء هنا لا قتضاء تعميم الملك ذلك .

ولما كانت عقولهم لا تدرك تعدد الأراضي ، وحد فقال : { والأرض } أي ومن فيها ، وذلك شامل - على أن التعبير بمن لتغليب العقلاء - للسماوات والأرض ، لأن الأرض في السماوات ، وكل سماء في التي فوقها ، والعليا في العرش وهو سبحانه ذو العرش العظيم - كما سيأتي قريباً ، فدل ذلك دلالة عقلية على أنه مالك الكل وملكه .
ولما كانوا يصفون الملائكة بما لهم الويل من وصفه ، خصهم بالذكر معبراً عن خصوصيتهم وقربهم بالعندية تمثيلاً بما نعرف من أصفياء الملوك عند التعبير بعند من مجرد القرب في المكانة لا في المكان فقال : { ومن عنده } أي هم له حال كونهم { لا يستكبرون عن عبادته } بنوع كبر طلباً ولا إيجاداً { ولا يستحسرون* } أي ولا يطلبون أن ينقطعوا عن ذلك فأنتج ذلك قوله : { يسبحون } أي ينزهون المستحق للتنزيه بأنواع التنزيه من الأقوال والأفعال التي هي عبادة ، فهي مقتضية مع نفي النقائص إثبات الكمال { الّيل والنهار } أي في جميع آنائهما دائماً . ولما لم يصرح هنا بإنكار منهم ، ولا ما يستلزمه من الاستكبار ، لم يؤكد لا عطف بالواو فقال : { لا يفترون* } عن ذلك في وقت من الأوقات بخلاف ما في { فصلت } فإن الأمر فيها مبني على حد استكبارهم المستلزم لأنكارهم المقتضي للتأكيد ، وكل هذا في حيز { إذا } أي إذا أنزلنا شيئاً من القرآن منبهاً على أقاويلكم مبيناً لأباطيلكم ، فاجأه ظهور الزهوق للباطل ، والويل لكم والملك له سبحانه منزهاً عن كل نقص ثابتاً له بالعبادة كل كمال ، ويجوز أن يعطف على { نقذف } .

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)

ولما كانوا عند هذا البيان جديرين بأن يبادروا إلى التوحيد فلم يفعلوا ، كانوا حقيقين بعد الإعراض عنهم - بالتوبيخ والتهكم والتعنيف فقال تعالى : { أم اتخذوا } أي أعلموا أن كل شيء تحت قهره نافذ فيه أمره فرجعوا عن ضلالهم ، أم لم يعلموه ، أو عملوا ما ينافيه فاتخذوا { ءالهة } .
ولما كانت معبوداتهم أصناماً أرضية من حجارة ونحوها قال : { من الأرض } أي التي هم مشاهدون لأنها وكل ما فيها طوع مشيئته { هم } أي خاصة { ينشرون* } أي يحيون شيئاً مما فيها من الأجسام النامية حتى يستحقوا بذلك صفة الإلهية ، وإفادة السياق الحصر تفيد أنه لو وقع الإنشاء لأحد على وجه يجوّز مشاركة غيره له لم يستحق العبادة ، وفي هذا الاستفهام تهكم بهم بالإشارة إلى أنهم عبدوا ما هو من أدنى ما في الأرض مع أنه ليس في الأرض ما يستحق أن يعبد ، لأن الإنسان أشرف ما فيها ، ولا يخفى ما له من الحاجة المبعدة من تلك الرتبة الشماء .
ولما كان الجواب قطعاً : لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف ، ولا شيء غيره سبحانه يستحق وصف الإلهية ، أقام البرهان القطعي على صحة نفي إله غيره ببرهان التمانع ، وهو أشد برهان لأهل الكلام فقال : { لو كان فيهما } أي السماوات والأرض ، أي في تدبيرهما .
ولما كان الأصل فيما بعد كل من « إلا » و « غير » أن يكون من جنس ما قبلهما وإن كان مغايراً له في العين ، صح وضع كل منهما موضع الآخر ، واختير هنا التعبير بأداة الاستثناء والمعنى للصفة إذ هي تابعة لجميع منكور غير محصور الإفادة إثبات الإلهية له سبحانه مع النفي عما عداه ، لأن { لولا } - لما فيها من الامتناع - مفيدة للنفي ، فالكلام في قوة أن يقال « ما فيهما » { ءالهة إلا الله } أي مدبرون غير من تفرد بصفات الكمال ، ولو كان فيهما آلهة غيره { لفسدتا } لقضاء العادة بالخلاف بين المتكافئين المؤدي إلى ذلك ، ولقضاء العقل بإمكان الاختلاف اللازم منه إمكان التمانع اللازم منه إمكان عجز أحدهما اللازم منه أن لا يكون إلهاً لحاجته ، وإذا انتفى الجمع ، انتفى الاثنان من باب الأولى ، لأن الجمع كلما زاد حارب بعضهم بعضاً فقل الفساد كما نشاهد .
ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر لها إلا واحداً ، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله قال : { فسبحان الله } أي فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال { رب العرش } أي الذي هو نهاية المعلومات من الأجسام ، ورب ما دونه من السماوات والأراضي وما فيهما المتفرد بالتدبير ، كما يتفرد الملك الجالس على السرير { عما يصفون* } مما يوهم نقصاً ما ، ثم علل ذلك بقوله : { لا يسأل } أي من سائل ما { عما يفعل } أي لا يعترض عليه لأنه لا كفوء له في علم ولا حكمة ولا قدرة ولا عظمة ولا غير ذلك ، فليس في شيء من أفعاله لإتقانها موضع سؤال ، فمهما أراد كان ومهما قال فالحسن الجميل ، فلو شاء لعذب أهل سماواته وأهل أرضه ، وكان ذلك منه عدلاً حسناً ، وهذا مما يتمادح به أولو الهمم العوال ، كما قال عامر الخصفي في هاشم بن حرملة بن الأشعر :

أحيا أباه هاشم بن حرملة ... يوم الهباءات ويوم اليعمله
ترى الملوك عنده مغربلة ... يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له
قال ابن هشام في مقدمة السيرة قبل « أمر البسل » بقليل : أنشدني أبو عبيدة هذه الأبيات وحدثني أن هاشم قال لعامر : قل فيّ بيتاً جيداً أثبك عليه ، فقال عامر البيت الأول فلم يعجب هاشماً ، ثم قال البيت الثاني فلم يعجبه ، ثم قال الثالث فلم يعجبه ، فلما قال الرابع « ويقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له » أعجبه فأثابه عليه ، ومن أعجب ما رأيت في حكم الأقدمين أن الشهر ستاني قال في الملل : وقد سأل بعض الدهرية أرسطاطاليس فقال : إذا كان لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه؟ فقال : « لِمَ » غير جائز عليه ، لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة له من معلّ فوقه ولا علة فوقه ، وليس بمركب فتحمل ذاته العلل ، فلم عنه منفية . { وهم يسألون* } من كل سائل لما في أفعالهم من الاختلال بل يمنعون عن أكثر ما يريدون .
ولما قام الدليل ، ووضح السبيل ، واضمحل كل قال وقيل ، فانمحقت الأباطيل ، قال منبهاً لهم على ذلك : { أم } أي أرجعوا عن ضلالهم لما بان لهم غيهم فيه فوحدوا الله أم { اتخذوا } ونبه على أن كل شيء دونه وأثبت أن آلهتهم بعض من ذلك بإثبات الجار فقال منبهاً لهم مكرراً لما مضى على وجه أعم ، طالباً البرهان تلويحاً إلى التهديد : { من دونه ءالهة } من السماء أو الأرض وغيرهما .
ولما كان جوابهم : اتخذنا ، ولا يرجع أمره بجوابهم فقال : { قل هاتوا برهانكم } على ما ادعيتموه من عقل أو نقل كما أثبت أنا ببرهان النقل المؤد بالعقل .
ولما كان الكريم سبحانه لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضم إليه دليل النقل ، أتبعه قوله مشيراً إلى ما بعث الله به الرسل من الكتب : { هذا ذكر } أي موعظة وشرف { من معي } ممن آمن بي وقد ثبت أنه كلام الله بعجزكم عن معارضته فانظروا هل تجدون فيه شيئاً يؤيد أمركم { وذكر } أي وهذا ذكر { من قبلي } فاسألوا أهل الكتابين هل في الكتاب منهما برهان لكم .
ولما كانوا لا يجدون شبهة لذلك فضلاً عن حجة اقتضى الحال الإعراض عنهم غضباً ، فكان كأنه قيل : لا يجدون لشيء من ذلك برهاناً { بل أكثرهم } أي هؤلاء المدعوين { لا يعلمون الحق } بل هم جهلة والجهل أصل الشر والفساد ، فهم يكفرون تقليداًُ { فهم } أي فتسبب عن جهلهم ما افتتحنا به السورة من أنهم { معرضون* } عن ذكرك وذكر من قبلك غفلة منهم عما يراد بهم وفعلاً باللعب فعلَ القاصر عن درجة العقل ، وبعضهم معاند مع علمه الحق ، وبعضهم يعلم فيفهم - كما أفهمه التقييد بالأكثر .

ولما كان التقدير بياناً لما في الذكرين : ولو أقبلوا على الذكر لعلموا أنا أوحينا إليك في هذا الذكر أنه لا إله ألا أنا ، ما أرسلناك إلا لنوحي إليك ذلك ، عطف عليه قوله : { وما أرسلنا } أي بعظمتنا .
ولما كان الإرسال بالفعل غير مستغرق للزمان المتقدم لأنه كما أن الرسالة لا يقوم بها كل أحد ، فكذلك الإرسال لا يصلح له كل زمن ، أثبت الجار فقال : { من قبلك } وأعرق في النفي فقال : { من رسول } في شيع الأولين { إلا نوحي إليه } من عندنا { أنه لا إله إلا أنا } ولم يقل : نحن ، لئلا يجعلوها وسيلة إلى شبهة ، ولذا قال : { فاعبدون* } بالإفراد ، وترك التصريح بالأمر بالتخصيص بالعبادة لفهمه من المقام والحال ، فإنهم كانوا قبل ذلك يعبدونه ولكنهم يشركون تنبيهاً على أن كل عبادة فيها شوب شرك عدم .
ولما دل على نفي مطلق الشريك عقلاً ونقلاً ، فانتفى بذلك كل فرد يطلق عليه هذا الاسم ، عجب من ادعائهم الشركة المقيدة بالولد ، فقال عاطفاً على قوله { وأسروا النجوى } [ طه : 62 ] : { وقالوا } قيل : الضمير لخزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وقيل : لليهود حيث قالوا : إنه سبحانه صاهر الجن فكانت منهم الملائكة : { اتخذ } أي تكلف كما يتكلف من يكون له ولد { الرحمن } أي الذي كل موجود من فيض نعمته { ولداً } .
ولما كان ذلك أعظم الذنب ، نزه نفسه سبحانه عنه بمجمع التنزيه فقال : { سبحانه } أي تنزه عن أن يكون له ولد ، فإن ذلك يقتضي المجانسة بينه وبين الولد ، ولا يصح مجانسة النعمة للمنعم الحقيقي { بل } الذي جعلوهم له ولداً وهم الملائكة { عباد } من عباده ، أنعم الله عليهم بالإيجاد كما أنعم على غيرهم لا أولاد ، فإن العبودية تنافي الولدية { مكرمون* } بالعصمة من الزلل ، ولذلك فسر الإكرام بقوله : { لا يسبقونه } أي لا يسبقون إذنه { بالقول } أي بقولهم ، لأنهم لا يقولون شيئاً لم يأذن لهم فيه ويطلقه لهم .
ولما كان الواقف عما لم يؤذن له فيه قد لا يفعل ما أمر به قال : { وهم بأمره } أي خاصة إذا أمرهم { يعملون* } لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل وذلك غاية الطاعة؛ ثم علل إخباره بذلك بعلمه بما هذا المخبر به مندرج فيه فقال : { يعلم ما بين أيديهم } أي مما لم يعملوه { وما خلقهم } مما عملوه ، أو يكون الأول لما عملوه والثاني لما لم يعلموه ، لأنك تطلع على ما قدامك ويخفى عليك ما خلفك ، أي أن علمه محيط بأحوالهم ماضياً وحالاً ومآلاً ، لا يخفى عليه خافية؛ ثم صرح بلازم الجملة الأولى فقال : { ولا يشفعون } أي في الدنيا ولا في الآخرة { إلا لمن ارتضى } فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه ، وبلازم الجملة الثانية فقال : { وهم من خشيته } أي لا من غيرها { مشفقون* } أي دائماً .

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)

ولما نفى الشريك مطلقاً ثم مقيداً بالولدية ، أتبعه التهديد على ادعائه بتعذيب المتبوع الموجب لتعذيب التابع فقال : { ومن يقل منهم } أي من كل من قام الدليل على أنه لا يصلح للإلهية حتى العباد المكرمون الذين وصف كرامتهم وقرب منزلتهم عنده وأثنى عليهم كما رواه البيهقي في الخصائص من الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما : { إني إله } ولما كانت الرتب التي تحت رتبة الإلهية كثيرة ، بعّض ليدل على من استغرق بطريق الأولى فقال : { من دونه } أي من دون الله { فذلك } أي اللعين الذي لا يصلح للتقريب أصلاً ما دام على ذلك { نجزيه } أي بعظمتنا { جهنم } لظلمه ، فأفهم تعذيب مدعي الشرك تعذيب أتباعه من باب الأولى ، وهو على سبيل الفرض والتمثيل في الملائكة من إحاطة علمه بأنه لا يكون ، وما ذاك إلا لقصد تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد ، وفي دلائل النبوة للبيهقي في باب التحدث بالنعمة والخصائص أن هذه الآية مع قوله تعالى { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } [ الفتح : 2 ] دليل على فضله صلى الله عليه وسلم على أهل السماء .
ولما كان مقتضياً للسؤال عن غير هذا من الظلمة ، قيل : { كذلك } أي مثل هذا الجزاء الفظيع جداً { نجزي الظالمين* } كلهم ما داموا على ظلمهم .
ولما أنكر سبحانه اتخاذهم آلهة من دونه تارة بقيد كونها أرضية ، وتارة بقيد كونها سماوية ، وتارة مطلقة ، لتعم كلا من القسمين وغيرهما ، واستدل على ذلك كله بما لم تبق معه شبهة ، فدل تفرده على أنه لا مانع له مما يريد من بعث ولاغيره ، وكان علمهم لا يتجاوز ما في السماوات والأرض ، قال مستدلاً على ذلك أيضاً مقرراً بما يعلمونه ، أو ينبغي أن يسألوا عنه حتى يعلموه لتمكنهم من ذلك { فاسألوا أهل الذكر } جلياً له في أسلوب العظمة : { أولم } أي ألم يعلموا ذلك بما أوضحنا من أدلته ولم يروا ، ولكنه أظهر للدلالة على أنهم يغطون أنوار الدلائل عناداً فقال : { ير } أي يعلم علماً هو كالمشاهدة { الذين كفروا } أي ستروا ما يعلمون من قدرة الله فأدى ذلك إلى الاستهانة والتنقص فصار ذنبهم غير مغفور ، وسعيهم غير مشكور ، وحذف ابن كثير الواو العاطفة على ما قدرته مما هدى إليه السياق أيضاً ، لا للاستفهام بما دل عليه ختام الآية التي قبل من البعث والجزاء المقتضي للإنكار على من أنكره ، فكان المعنى على قراءته : نجزي كل ظالم بعد البعث ، ألم ير المنكرون لذلك قدرتنا عليه بما أبدعنا من الخلائق ، وإنما أنكر عليهم عدم الرؤية بسبب أن الأجسام وإن تباينت لا ينفصل بعضها عن بعض إلا بقادر يفصل بينها ، فمن البديهي الاستحالة أن يرتفع شيء منها عن الآخر منفصلاً عنه بغير رافع لا سيما إذا كان المرتفع ثابتاً من غير عماد ، فكيف وهو عظيم الجسم كبير الجرم؟ وذلك دال على تمام القدرة والاختيار والتنزه عن كل شائبة نقص من مكافىء وغيره ، فصح الإنكار عليهم في عدم علم ذلك بسبب أنهم عملوا بخلاف ما يعلمونه { أن السماوات والأرض } .

ولما كان المراد الإخبار عن الجماعتين لا عن الأفراد قال : { كانتا } ولما كان المراد شدة الاتصال والتلاحم ، أخبر عن ذلك بمصدر مفرد وضع موضع الاسم فقال : { رتقاً } أي ملتزقتين زبدة واحدة على وجه الماء ، والرتق في اللغة : السد ، الفتق : الشق { ففتقناهما } أي بعظمتنا أي بأن ميزنا إحداهما عن الأخرى بعد التكوين المتقن وفتقنا السماء بالمطر ، والأرض بأنواع النبات بعد أن لم يكن شيء من ذلك ، ولا كان مقدوراً على شيء منه لأحد غيرنا؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء والضحاك وقتادة : كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففضل الله تعالى بينهما بالهواء . وعن مجاهد وأبي صالح والسدي : كانتا مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانت مرتتقة واحدة ففتقها فجعلها سبع طبقات .
ولما كان خلق الماء سابقاً على خلق السماوات والأرض ، قال : { وجعلنا } أي بما اقتضته عظمتنا { من الماء } أي الهامر ثم الدافق { كل شيء حي } مجازاً من النبات وحقيقة من الحيوان ، خرج الإمام أحمد وغيره « عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني عن كل شيء ، فقال : كل شيء خلق من ماء » ولذلك أجاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الذي وجده على ماء بدر وسأله : ممن هو؟ بقوله : « نحن من ماء » .
ولما كان هذا من تصرفه في هذين الكونين ظاهراً ومنتجاً لأنهما وكل فيهما ومن فيهما بصفة العجز عن أن يكون له تصرف ما ، تسبب عنه إنكار عدم إيمانهم فقال : { أفلا يؤمنون* } أي بأن شيئاً منهما أو فيهما لا يصلح للإلهية ، لا على وجه الشركة ولا على وجه الانفراد ، وبأن صانعهما ومبدع النامي من حيوان ونبات منهما بواسطة الماء قادر على البعث للحساب للثواب أو العقاب ، بعد أن صار الميت تراباً بماء يسببه لذلك .
ولما كان من القدرة الباهرة ثبات الأرض من غير حركة ، وكان الماء أدل دليل على ثباتها ، وكانت الأرض أقرب في الذكر من السماء ، أتبع ذلك قوله : { وجعلنا } بما لنا من العظمة { في الأرض } جبالاً { رواسي } أي ثوابت ، كراهة { أن تميد بهم } وتضطرب فتهلك المياه كل شيء حي فيعود نفعها ضراً وخيرها شراً .
ولما كان المراد من المراسي الشدة والحزونة لتقوى على الثبات والتثبيت ، وكان ذلك مقتضياً لإبعادها وحفظها عن الذلة والليونة ، بين أنه أخرق فيها العادة ليعلم أنه قادر مختار لكل ما يريد فقال : { وجعلنا } بما لنا من القدرة الباهرة والحكمة البالغة { فيها } أي الجبال مع حزونتها { فجاجاً } أي مسالك واسعة سهلة؛ ثم أبدل منها قوله : { سبلاً } أي مذللة للسلوك ، ولولا ذلك لتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد { لعلهم يهتدون* } إلى منافعهم في ديارهم وغيرها ، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية وغيرها فيعلموا أن وجودها لو كان بالطبيعة كانت على نمط واحد مساوية للأرض متساوية في الوصف ، وأن كونها على غير ذلك دال على أن صانعها قادر مختار متفرد بأوصاف الكمال .

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

ولما دلهم بالسماوات والأرض على عظمته ، ثم فصل بعض ما في الأرض لملابستهم له ، وخص الجبال لكثرتها في بلادهم ، أتبعه السماء فقال : { وجعلنا } أي بعظمتنا { السماء } وأفردها بإرادة الجنس لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا الدنيا ولأن الحفظ للشيء الواحد أتقن { سقفاً } أي للأرض لا فرق بينها وبين ما يعهد من السقوف إلا أن ما يعهد لا يسقط منه إلا ما يضر ، وهذه مشحونة بالمنافع فأكثر ما ينزل منها ما لا غنى للناس عنه من الآت الضياء وعلامات الاهتداء والزينة التي لا يقدر قدرها .
ولما كان ما يعرفون من السقوف على صغرها لا تثبت إلا بالعمد ، ويتمكن منه المفسدون ، وتحتاج كل قليل إلى إصلاح وتعهد ، بين أن هذا السقف على سعته وعلوه على غير ذلك فقال : { محفوظاً } أي عن السقوط بالقدرة وعن الشياطين بالشهب ، فذكّر باعتبار السقف ، وأشار إلى كثرة ما حوى من الآيات مؤنثاً باعتبار السماء أو العدد الدال عليه الجنس ، لأن العدد أولى بالدلالة على كثرة الآيات والنجوم مفرقة في الكل فقال : { وهم } أي أكثر الناس { عن آياتها } أي من الكواكب الكبار والصغار ، والرياح والأمطار ، وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار ، أي الدالة على قدرتنا على كل ما نريد من البعث وغيره وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال ، من الجلال والجمال { معرضون* } لا يتفكرون فيما فيها من التسيير والتدبير بالمطالع والمغارب والترتيب القويم الدال على الحساب الدائر عليه سائر المنافع .
ولما ذكر السماء ، ذكر ما ينشاء عنها فقال : { وهو } أي لا غيره { الذي خلق الّيل والنهار } ثم أتبعهما آيتيهما فقال : { والشمس } التي هي آية النهار وبها وجوده { والقمر } الذي هو آية الليل . ولما ذكر أعظم آياتها فأفهم بقية الكواكب ، استأنف لمن كأنه قال : هل هي كلها في سماء واحدة؟ : { كل } أي من ذلك { في فلك } فكأنه قيل : ماذا تصنع؟ فقيل تغليباً لضمير العقلاء . . . ونقلهم إليها : { يسبحون* } أي كل واحد يسبح في الفلك الذي جعل به .
ولما ذكر الصارم البتار ، للأعمار الطوال والقصار ، من الليل والنهار ، كان كأنه قيل : فيفنيان كل شديد ، ويبليان كل جديد ، فعطف عليه قوله : { وما جعلنا } أي بما لنا من العظمة التي اقتضت تفردنا بالبقاء { لبشر } وحقق عدم هذا الجعل بإثبات الجار فقال : { من قبلك الخلد } ناظراً إلى قوله { وما كانوا خالدين } بعد قوله { هل هذا إلا بشر مثلكم } وهذا من أقوى الأدلة على أن الخضر عليه السلام مات ، ويجاب بأن الحياة الطويلة ليست خلداً كما في حق عيسى عليه السلام ، لكن قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعد اليوم »

وقوله : « » لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض اليوم أحد « وقوله : » « وددنا أن موسى عليه السلام صبر فقص علينا من أمرهما » في أمثال ذلك ، يدل على موته دلالة لا تقبل ادعاء حياته بعدها إلا بأظهر منه .
ولما كان قولهم { بل هو شاعر } [ الأنبياء : 5 ] مشيراً إلى أنهم قالوا نتربص به ريب المنون كما اتفق لغيره من الشعراء ، وكان ينبغي أن لا ينتظر أحد لآخر من الأذى إلا ما يتحقق سلامته هو منه ، توجه الإنكار عليهم والتسلية له بمنع شماتتهم في قوله : { أفائن } أي أيتمنون موتك فإن { مت فهم } أي خاصة { الخالدون* } فالمنكر تقدير خلودهم على تقدير موته الموجب لإنكار تمنيهم لموته ، فحق الهمزة دخولها على الجزاء ، وهو فهم ، وإنما قارنت الشرط لأن الاستفهام له الصدر .
ولما تم ذلك ، أنتج قطعاً : { كل نفس } أي منكم ومن غيركم { ذائقة الموت } أي فلا يفرح أحد ولا يحزن بموت أحد ، بل يشتغل بما يهمه ، وإليه الإشارة بقوله : { ونبلوكم } أي نعاملكم معاملة المبتلي المختبر المظهر في عالم الشهادة الشاكر والصابر والمؤمن والكافر كما هو عندنا في علام الغيب بأن نخالطكم { بالشر } الذي هو طبع النفوس ، فهي أسرع شيء إليه ، فلا ينجو منه إلا من أخلصناه لنا { والخير } مخالطة كبيرة ، وأكد البلاء بمصدر من معناه مقرون بالهاء تعظيماً له فقال : { فتنة } أي كما يفتن الذهب إذا أريدت تصفيته بمخالطة النار له ، على حالة عظيمة محيلة مميلة لكم لا يثبت لها إلا الموفق { وإلينا } أي بعد الموت لا إلى غيرنا { ترجعون* } للجزاء حيث لا حكم لأحد أصلاً لا ظاهراً ولا باطناً كما هذه الدار بنفوذ الحكم فلا يكون إلا ما نريد فاشتغلوا بما ينجيكم منا ، ولا تلتفتوا إلى غيره ، فإن الأمر صعب ، وجدوا فإن الحال جد .

وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)

ولما أخبر سبحانه عن إعراضهم عن الساعة تكذيباً ، واستدل على كونها منزهة عن الغيب في خلق هذا العالم وتعاليه عن جميع صفات النقص واتصافه بأوصاف الكمال إلى أن ختم ذلك بمثل ما ابتدأ به على وجه أصرح ، وكان فيه تنبيههم على الابتلاء وكان الابتلاء على قدر النعم ، فكان صلى الله عليه وسلم أعظم شيء ابتلوا به لأنه لا نعمة أعظم من النعمة به ، ولا شيء أظهر من آياته عطف على قوله « وأسروا النجوى » قوله : { وإذا رءاك } أي وأنت أشرف الخلق وكلك جد وجلال وعظمة وكمال { الذين كفروا } فأظهر منبهاً على أن ظلمهم الذي أوجب لهم ذلك هو الكفر وإن كان في أدنى رتبة ، تبشيعاً له وتنبيهاً على أنه يطمس الفكر مطلقاً .
ولما كان من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم في غاية البعد عن الهزء ، قال منبهاً على أنهم أعرقوا في الكفر حتى بلغوا الذروة : { إن } أي ما { يتخذونك } أي حال الرؤية ، وسيعلم من يبقى منهم عما قليل أنك جد كلك { إلا هزواً } أي جعلوك بحمل أنفسهم على ضد ما يعتقد عين ما ليس فيك شيء منه؛ ثم بين استزاءهم به بأنهم يقولون إنكاراً واستصغاراً : { أهذ الذي يذكر } أي بالسوء { ءالهتكم } قال أبو حيان : والذكر يكون بالخير والشر ، فإذا لم يذكر متعلقه فالقرينة تدل عليه - انتهى . فإذا دلت القرينة على أحدهما أطلق عليه { وهم } أي والحال أنهم على حال كانوا بها أصلاً في الهزء ، وهي أنهم { بذكر الرحمن } الذي لا نعمة عليهم ولا على غيرهم إلا منه ، وكرر الضمير تعظيماً بما أتوا به من القباحة فقال : { هم } أي بظواهرهم وبواطنهم { كافرون } أي ساترون لمعرفتهم به ، فلا أعجب ممن هو محل للهزء لكونه أنكر ذكر من لا نعمة منه ولا نقمة أصلاً بالسوء ، وهو يذكر من كل نعمة منه بالسوء ويهزأ به .
ولما كان من آيات الأولين التي طلبوها العذاب بأنواع الهول ، وكانوا هم أيضاً قد طلبوا ذلك واستعجلوا به { عجل لنا قطنا } [ ص : 26 ] ونحو ذلك ، وكان الذي جرأهم على هذا حلم الله عنهم بإمهاله لهم ، قال معللاً لذلك : { خلق } وبناه للمفعول لأن المقصود بيان ما جبل عليه والخالق معروف { الإنسان } أي هذا النوع .
ولما كان مطبوعاً على العجلة قال : { من عجل } فلذا يكفر ، لأنه إذا خولف بادر إلى الانتقام عند القدرة فظن بجهله أن خالقه كذلك ، وأن التأخير ما هو إلا عن عجز أو عن رضى؛ ثم قال تعالى مهدداً للمكذبين : { سأوريكم } حقاً { ءاياتي } القاصمة والعاصمة ، بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن عندكم من أتباعه المستضعفين وخلافتهم بين أيديكم وجعلهم شجاً في حلوقكم حتى يتلاشى ما أنتم عليه وغيره ذلك من العظائم { فلا تستعجلون* } أي تطلبوا أن أوجد العجلة بالعذاب أو غيره ، فإني منزه عن العجلة التي هي من جملة نقائصكم .

ولما ذم العجلة وهي إرادة الشيء قبل أوانه ، ونهى عنها ، قال دالاً عليها عاطفاً على عامل { هذا } : { ويقولون } أي في استهزائهم بأولياء الله : { متى هذا } وتهكموا بقولهم : { الوعد } أي بإتيان الآيات من الساعة ومقدماتها وغيرها ، وزادوا في الإلهاب والتهييج تكذيباً فقالوا : { إن كنتم صادقين* } أي عريقين في هذا الوصف جداً - بما دل عليه الوصف وفعل الكون .
ولما غلوا في الاستهزاء فكانوا أجهل الجهلة باستحالة الممكن ، استأنف الجواب عن كلامهم بنفي العلم عنهم في الحال والمآل دون المعاينة على طريق التهكم والاستهزاء بهم : { لو يعلم الذين كفروا } وذكر المفعول به فقال : { حين } أي لو تجدد لهم علم ما بالوقت الذي يستعجلون به؛ وذكر ما أضيف إليه ذلك الوقت فقال : { لا يكفون } أي فيه بأنفسهم { عن وجوههم } التي هي أشرف أعضائهم { النار } استسلاماً وضعفاً وعجزاً { ولا عن ظهورهم } التي هي أشد أجسادهم ، فعرف من هذا أنها قد أحاطت بهم وأنهم لا يكفون عن غير هذين من باب الأولى { ولا هم ينصرون* } أي ولا يتجدد لهم نصر ظاهراً ولا باطناً بأنفسهم ولا بغيرهم ، لم يقولوا شيئاً من ذلك الكفر والاستهزاء والاستعجال ، ولكنهم لا يعلمون ذلك بنوع من أنواع العلم إلا عند الوقوع لأنه لا أمارة لها قاطعة بتعيين وقتها ولا تأتي بالتدريج كغيرها ، وهذا معنى { بل تأتيهم } أي الساعة التي هي ظرف لجميع تلك الأحوال وهي معلومة لكل أحد فهي مستحضرة في كل ذهن { بغتة فتبهتهم } أي تدعهم باهتين حائرين؛ ثم سبب عن بهتهم قوله : { فلا يستطيعون ردها } أي لا يطلبون طوع ذلك لهم في ذلك الوقت ليأسهم عنه { ولا هم ينظرون* } أي يمهلون من ممهل ما ليتداركوا ما أعد لهم فيها ، فيا شدة أسفهم على التفريط في الأوقات التي أمهلوا فيها في هذه الدار ، وصرفهم إياها في لذات أكثرها أكدار .

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)

ولما كان التقدير حاق بهم هذا باستهزائهم بك ، تبعه ما يدل على أن الرسل في ذلك شرع واحد ، تسلية له صلى الله عليه وسلم وتأسية ، فقال عاطفاً على { وإذا رءاك } : { ولقد } مؤكداً له لمزيد التسلية بمساواة إخوانه من الرسل وبتعذيب أعدائه . ولما كان المخوف نفس الاستهزاء لا كونه من معين ، بني للمفعول قوله : { استهزئ برسل } أي كثيرين .
ولما كان معنى التنكير عدم الاستغراق ، أكده بالخافض فقال : { من قبلك فحاق } أي فأحاط { بالذين سخروا منهم } لكفرهم { ما كانوا } بما هو لهم كالجبلة { به يستهزءون* } من الوعود الصادقة كبعض من سألوه الإتيان بمثل آياتهم كقوم نوح ومن بعدهم .
ولما هددهم بما مضى مما قام الدليل على قدرته عليه ، وختمه - لوقوفهم مع المحسوسات - بما وقع لمن قبلهم ، وكان الأمان عن مثل ذلك لا يكون إلا بشيء يوثق به ، أمره أن يسألهم عن ذلك بقوله : { قل من يكلؤكم } أي يحفظكم ويؤخركم ويكثر رزقكم ، وهو استفهام توبيخ .
ولما استوى بالنسبة إلى قدرته حذرهم وغفلتهم ، قال : { بالّيل } أي وأنتم نائمون . ولما كانت مدافعة عذابه سبحانه غير ممكنة لنائم ولا يقظان قال : { والنهار } أي وأنتم مستيقظون . ولما كان لا منعم بكلاية ولا غيرها سواه سبحانه ، ذكرهم بذلك بصفة الرحمة فقال : { من الرحمن } الذي لا نعمة بحراسة ولا غيرها إلا منه حتى أمنتم مكره ولو بقطع إحسانه ، فكيف إذا ضربتم بسوط جبروته وسطوة قهرة وعظموته .
ولما كان الجواب قطعاً : ليس لهم من يكلؤهم منه وهو معنى الاستفهام الإنكاري ، قال مضرباً عنه : { بل هم } أي في أمنهم من سطواته { عن ذكر ربهم } الذي لا يحسن إليهم غيره { معرضون* } فهم لا يذكرون أصلاً فضلاً عن أن يخشوا بأسه وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان .
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير : أصحيح هذا الذي أشرنا إليه من أنه لا مانع لهم منا ، عادله بقوله إنكاراً عليهم : { أم لهم ءالهة } موصوفة بأنها { تمنعهم } نوبَ الدهر . ولما كانت جميع الرتب تحت رتبته سبحانه ، أثبت حرف الابتداء فقال محقراً لهم : { من دوننا } أي من مكروه هو تحت إرادتنا ومن جهة غير جهتنا .
ولما كان الجواب قطعاً : ليس لهم ذلك ، وهو بمعنى الاستفهام ، استأنف الإخبار بما يؤيد هذا الجواب ، ويجوز أن يكون تعليلاً ، فقال : { لا يستطيعون } أي الآلهة التي يزعمون أنها تنفعهم ، أو هم - لأنهم لا مانع لهم من دوننا - { نصر أنفسهم } من دون إرادتنا فكيف بغيرهم ، أو يكون ذلك صفة الآلهة على طريق التهكم { ولا هم } أي الكفار أو الآلهة { منا } أي بما لنا من العظمة { يصحبون* } بوجه من وجوه الصحبة حتى يصير لهم استطاعة بنا ، فانسدت عليهم أبواب الاستطاعة أصلاً ورأساً .

ولما لم يصلح هذا لأن يكون سبباً لاجترائهم ، أضرب عنه قائلاً في مظهر العظمة ، إشارة إلى أن اغترارهم به سبحانه - مع ما له من دلائل الجلال - من أعجب العجب ، بانياً على نحو « لا كالىء لهم منه ولا مانع » : { بل متعنا } أي بعظمتنا { هؤلاء } أي الكفار على حقارتهم ، أو الإضراب عن عدم استطاعتهم للنصر ، والمعنى أن ما هم فيه من الحفظ إنما هو منا لأجل تمتيعهم بما لا يتغير به إلا مغرور ، لا من مانع يمنعهم { وءاباءهم } من قبلهم بالنصر وغيره { حتى طال عليهم العمر } فكان طول سلامتهم غاراً لهم بنا ، فظنوا أنه لا يغلبهم على ذلك التمتيع شيء ، ولا ينزع عنهم ثوب النعمة .
ولما أقام الأدلة ونصب الحجج على أنه لا مانع لهم من الله ، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في اعتقاد غيره فقال : { أفلا يرون } أي يعلمون علماً هو في وضوحه مثل الرؤية بالبصر { أنا } بما لنا من العظمة ، وصور ما كان يجريه من عظمته على أيدي أوليائه فقال : { نأتي الأرض } أي التي أهلها كفار ، إتيانَ غلبة لهم بتسليط أوليائنا عليهم .
ولما كان الإتيان على ضروب شتى ، بيّنه بقوله : { ننقصها من أطرافها } بقتل بعضهم وردّ من بقي عن دينه إلى الإسلام ، فهم في نقص ، وأولياؤنا في زيادة .
ولما كانت مشاهدتهم لهذا مرة بعد مرة قاضية بأنهم المغلبون ، تسبب عنه إنكار غير ذلك فقال : { أفهم } أي خاصة { الغالبون* } أي مع مشاهدتهم لذلك أم أولياؤنا .

قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

ولما تبين الخلف في قولهم على كثرته وادعائهم الحكمة والبلاغة ، وفعلهم على كثرتهم وزعمهم القوة والشجاعة ، ثبت أن أقواله الناقضة لذلك من عند الله بما ثبت من استقامة معانيها وإحكامها ، بعدما اتضح من إعجاز نظومها وحسن التئامها ، فأمره أن يبين لهم ذلك بقوله : { قل إنما أنذركم } أيها الكفار { بالوحي } أي الآتي به الملك عن الله فلا قدح في شيء من نظمه ولا معناه والحال أنكم لا تسمعون - على قراءة الجماعة والحال أنك لا تسمعهم - على قراءة ابن عامر بضم الفوقانية وكسر الميم ونصب الصم خاصة ، ولكنهم لما كانوا لا ينتفعون بإنذاره لتصامّهم وجعلهم أصابعهم في آذانهم وقت الإنذار عدهم صماً ، وأظهر الوصف لتعليق الحكم به فقال : { ولا يسمع الصم الدعاء } أي ممن يدعوهم ، أو يكون معطوفاً على ما تقديره : فإن كانت أسماعكم صحيحة سمعتم فأجبتم ، ونبه بقوله : { إذا ما ينذرون* } على أن المانع لهم مع الصمم كراهة الإنذار ، وبالبناء للمفعول على منذر .
ولما كان المنذر لا يترك الاستعداد لما ينذر به من العذاب إلا إذا كان قوياً على دفعه . بيّن أنهم على غير ذلك فقال : { ولئن } أي لا يسمعون والحال أنه لا قوة بهم ، بل إن { مستهم } أي لاقتهم أدنى ملاقاة { نفحة } أي رائحة يسيرة مرة من المرات { من عذاب ربك } المحسن إليك بنصرك عليهم { ليقولن } وقد أذهلهم أمرها عن نخوتهم . وشغلهم قدرها عن كبرهم وحميتهم : { يا ويلنا } الذي لا نرى الآن بحضرتنا غيره { إنا كنا } أي بما لنا مما هو في ثباته كالجبلات { ظالمين* } أي عريقين في الظلم في إعراضنا وتصامّنا ترفقاً وتذللاً لعله يكف عنهم .
ولما بيّن ما افتتحت السورة من اقتراب الساعة بالقدرة عليه واقتضاء الحكمة له ، وأن كل أحد ميت لا يستطيع شيئاً من الدفع عن نفسه فضلاً عن غيره ، وختمت الآيات بإقرار الظالم بظلمه ، وكانت عادة كثير من الناس الجور عند القدرة ، بين أنه سبحانه بخلاف ذلك فذكر بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل فقال عاطفاً على قوله { بل تأتيهم بغتة } : { ونضع } فأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى هوانه عنده وإن كان لكثرة الخلائق وأعمال كل منهم متعذراً عندنا { الموازين } المتعددة لتعدد الموزونات أو أنواعها . ولما كانت الموازين آلة العدل ، وصفها به مبالغة فقال { القسط } أي العدل المميز للأقسام على السوية .
ولما كان الجزاء علة في وضع المقادير ، عبر باللام ليشمل - مع ما يوضع فيه - ما وضع الآن لأجل الدنيوية فيه فقال : { ليوم القيامة } الذي أنتم عنه - لإعراضكم عن الذكر - غافلون . ولما جرت العادة بأن الملك قد يكون عادلاً فظلم بعض أتباعه ، بين أن عظمته في إحاطة علمه وقدرته تأبى ذلك ، فبنى الفعل للمجهول فقال : { فلا } أي فتسبب عن هذا الوضع أنه لا { تظلم } أي من ظالم ما { نفس شيئاً } من عملها { وإن كان } أي العمل { مثقال حبة } هذا على قراءة الجماعة بالنصب .

والتقدير على قراءة نافع بالرفع : وإن وقع أو وجد { من خردل } أو أحقر منه ، وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة ، وزاد في تحقيره بضمير التأنيث لإضافته إلى المؤنث فقال : { أتينا بها } بما لنا من العظمة في العلم والقدرة وجميع صفات الكمال فحاسبناه عليها ، والميزان الحقيقي . ووزن الأعمال على صفة يصح وزنها معها بقدرة من لا يعجزه شيء .
ولما كان حساب الخلائق كلهم على ما صدر منهم أمراً باهراً للعقل ، حقره عند عظمته فقال : { وكفى بنا } أي بما لنا من العظمة { حاسبين* } أي لا يكون في الحساب أحد مثلنا ، ففيه توعد من جهة أن معناه أنه لا يروج عليه شيء من خداع ولا يقبل غلطاً ، ولا يضل ولا ينسى ، إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس أو شوب نقص ، ووعد من جهة أنه لا يطلع على كل حسن فقيد وإن دق وخفي .
ولما قدم في قوله { ما يأتيهم من ذكر من ربهم } - الآية وغيره أنهم أعرضوا عن هذا الذكر تعللاً بأشياء منها طلب آيات الأولين ، ونبه على إفراطهم في الجهل بما ردوا من الشرف بقوله { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } ومر إلى أن ختم بالتهديد بعذابه ، وأنه يحكم بالقسط ، وكان كتاب موسى عليه السلام بعد القرآن أعظم الكتب السماوية ، وكان أهل الكتاب قد أعرضوا عنه غير مرة على زمن موسى عليه السلام بعبادة العجل وغيره وبعد موته مع كون المرسل ، به اثنان تعاضدا على إبلاغه وتقرير أحكامه بعد أن بهرا العقول بما أتيا به من الآيات التي منها - كما بين في سورة البقرة والأعراف - التصرف في العناصر الأربعة التي هي أصل الحيوان الذي بدأ الله منها خلقه . ومقصود السورة الدلالة على إعادته ، ومنها ما عذب به من أعرض عن ذكر موسى وهارون عليهما السلام الذي هو ميزان العدل لما نشر من الضياء المورث للتبصرة الماحقة للظلام ، فلا يقع متبعه في ظلم ، وكان الحساب تفصيل الأمور ومقابلة كل منها بما يليق به ، وذلك بعينه هو الفرقان ، قال سبحانه بعد آية الحساب عاطفاً على « لقد أنزلنا » : { ولقد ءاتينا } أي بما لنا من العظمة { موسى وهارون } أي أخاه الذي سأل أن يشد أزره به { الفرقان } الذي تعاضدا على إبلاغه والإلزام بما دعا إليه حال لكونه مبيناً لسعادة الدارين ، لا يدع لبساً في أمر من الأمور { وضياء } لا ظلام معه ، فلا ظلم للمستبصر به ، لأن من شأن من كان في الضياء أن لا يضع شيئاً إلا في موضعه { وذكراً } أي وعظاً وشرفاً .

ولما كان من لا ينتفع بالشيء لا يكون له منه شيء ، قال : { للمتقين* } أي الذين صار هذا الوصف لهم شعاراً حاملاً لهم على التذكير لما يدعو إليه الكتاب من التوحيد الذي هو أصل المراقبة؛ ثم بين التقوى بوصفهم بقوله : { الذين يخشون } أي يخافون خوفاً عظيماً { ربهم } أي المحسن إليهم بعد الإيجاد بالتربية وأنواع الإحسان { بالغيب } أي في أن يكشف لهم الحجاب { وهم من الساعة } التي نضع فيها الموازين وقد أعرض عنها الجاهلون مع كونها أعظم حامل على كل خير ، مبعد من كل ضير { مشفقون* } لأنهم لقيامها متحققون ، وبنصب الموازين فيها عالمون .
ولما ذكر فرقان موسى عليه السلام ، وكان العرب يشاهدون إظهار اليهود للتمسك به والمقاتلة على ذلك والاغتباط ، حثهم على كتابهم الذي هو أشرف منه فقال : { وهذا } فأشار إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم { ذكر } أي عظيم ، ودلهم على أنه أثبت الكتب وأكثرها فوائد بقوله : { مبارك } ودلهم على زيادة عظمته بما له من قرب الفهم والإعجاز وغيره بقوله : { أنزلناه } ثم أنكر عليهم رد ووبخهم في سياق دال على أنهم أقل من أن يجترئوا على ذلك ، منبه على أنهم أولى بالمجاهدة في هذا الكتاب من أهل الكتاب في كتابهم فقال : { أفأنتم له } أي لتكونوا دون أهل الكتاب برد ما أنزل لتشريفكم عليهم وعلى غيرهم مع أنكم لا تنكرون كتابهم { منكرون* } أي أنه لو أنكره غيركم لكان ينبغي لكم مناصبته ، فكيف يكون الإنكار منكم؟

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)

ولما كان مقصود السورة الدلالة على القدرة على ما استبعده العرب من إعادة الحيوان بعد كونه تراباً ، وبدأ ذكر الأنبياء بمن صرفه في العناصر الأربعة كما تقدم قص ذلك من التوراة في سورتي البقرة والأعراف إشارة إلى من استبعد عليه ما جعله إلى بعض عبيده أعمى الناس ، تلاه من الأنبياء بمن سخر له واحداً من تلك العناصر ، مرتباً لهم على الأخف في ذلك فالأخف على سبيل الترقي ، فبدأهم بذكر من سخر له عنصر النار ، مع التنبيه للعرب على عماهم عن الرشد بإنكاره للشرك بعبادة الأوثان على أبيه وغيره ، ودعائهم إلى التوحيد ، والمجاهدة في الله على ذلك حق الجهاد ، وهو أعظم آباء الرادين لهذا الذكر ، والمستمسكين بالشرك تقليداً للآباء ، إثباتاً للقدرة الباهرة الدالة على التوحيد الداعي إليه جميع هؤلاء الأصفياء ، هذا مع مشاركته بإنزال الصحف عليه لموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومشاركته لهما في الهجرة ، وإذا تأملت ما في سورتي الفرقان والشعراء ازداد ما قلته وضوحاً ، فإنه لما أخبر تعالى أنهم قالوا { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] بدأ بقصة موسى الذي كتب له ربه في الألواح من كل شيء ، وقومه مقرّون بعظمة كتابه وأنه أوتي من الآيات ما بهر العقول ، وكفر به مع ذلك كثير منهم . ولما قال في الشعراء { ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث } [ الآية : 5 ] كما هنا ، صنع كما صنع هنا من البداءة بقصة موسى عليه السلام وإيلائها ذكر إبراهيم عليه السلام فقال تعالى : { ولقد ءاتينا } بما لنا من العظمة { إبراهيم رشده } أي صلاحه و إصابته وجه الأمر واهتداءه إلى عين الصواب وأدل الدلالة وأعرف العرف وأشرف القصد الذي جلبناه عليه؛ وقال الرازي في اللوامع : والرشد قوة بعد الهداية - انتهى . وأضافة إليه إشارة إلى أنه رشد يليق به على علو مقامه وعظم شأنه لا جرم ظهر عليه أثر ذلك من بين أهل ذلك الزمان كلهم فآثر الإسلام على غيره من الملل { من قبل } أي قبل موسى وهارون عليهما السلام { وكنا } بما لنا من العظمة { به } ظاهراً وباطناً { عالمين* } بأنه جبلة خير يدوم على الرشد ويترقى فيه إلى أعلى درجاته لما طبعناه عليه بعظمتنا من طبائع الخير؛ وتعليقُ { إذ قال } أي إبراهيم { لأبيه وقومه } ب { عالمين } إشارة إلى أن قوله لما كان بإذن منا ورضى لنا نصرناه - وهو وحده - على قومه كلهم ، ولو لم يكن يرضينا لمنعناه منه بنصر قومه عليه وتمكين النار منه ، فهو مثل ما مضى في قوله { قل ربي يعلم القول في السماء والأرض } ومفهوم هذا القيد لا يضر لأنه لا يحصي ما ينفيه من المنطوقات ، وإن شئت فعلقه ب { آياتنا } ؛ ثم ذكر مقول القول في قوله منكراً عليهم محقراً لأصنامهم في أسلوب التجاهل لإثبات دعوى جهلهم بدليل : { ما هذه التماثيل } أي الصور التي صنعتموها مماثلين بها ما فيه روح ، جاعلين بها ما لا يكون إلا لمن لا مثل له ، وهي الأصنام { التي أنتم لها } أي لأجلها وحدها ، مع كثرة ما يشابهها وما هو أفضل منها { عاكفون* } أي موقعون الإقبال عليها مواظبون على ذلك ، فبأي معنى استحقت منكم هذا الاختصاص ، وإنما هي مثال للحي في الصورة وهو أعلى منها بالحياة التي أفاضها الله عليه .

ولما أتاهم بهذا القاصم ، استأنف الخبر سبحانه عن جوابهم بقوله : { قالوا } مسوين أنفسهم بالبهائم التي تقاد ولا علم بما قيدت له : { وجدنا ءاباءنا لها } خاصة { عابدين* } فاقتدينا بهم لا حجة لنا غير ذلك . ولما غلوا في الجهل غير محتشمين من إقرارهم على أنفسهم به ، بالاستناد إلى محض التقليد بعد إفلاسهم من أدنى شبهة فضلاً عن الدليل ، استأنف الله تعالى الإخبار عن جوابه بقوله : { قال } أي منبهاً لهم بسوط التقريع على أن الكلام مع آبائهم كالكلام معهم : { لقد كنتم } وأكد بقوله : { أنتم } لأجل صحة العطف لأن الضمير المرفوع المتصل حكمه حكم جزء الفعل ، هذا مع الإشارة إلى الحكم على ظواهرهم وبواطنهم { وءاباؤكم } أي من قبلكم { في ضلال } قد أحاط بكم إحاطة الظرف بالمظروف والمسلوك بالسلك { مبين* } ليس به نوع من الخفاء .

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)

ولما لم تكن عادته مواجهة أحد بما يكره ، استأنف الإخبار عنهم بما يدل عليه فقال : { قالوا } ظناً منهم أنه لم يقل ذلك على ظاهره : { أجئتنا } في هذا الكلام { بالحق } الذي يطابقه الواقع { أم أنت من اللاعبين* } فظاهر كلامك غير حق { قال } بانياً على ما تقديره : ليس كلامي لعباً ، بل هو جد ، وهذه التماثيل ليست أرباباً { بل ربكم } الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة { رب السماوات والأرض } أي مدبرهن القائم بمصالحهن { الذي فطرهن* } أي أوجدهما وشق بهما ظلمة العدم ، وأنتم وتماثيلكم مما فيهما من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجردة عن الهوى { وأنا على ذلكم } الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره { من الشاهدين* } أي الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لأنهم لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس ، لا كما فعلتم أنتم حين اضطركم السؤال إلى الضلال .
ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق ، أتبعه البرهان على إبطال الباطل فقال : { وتالله } وهو القسم ، والأصل في القسم الباء الموحدة ، والواو بدل منها ، والتاء بدل من الواو ، وفيها - مع كونها بدلاً - زيادة على التأكيد بالتعجب : قال الأصبهاني : كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده - انتهى . وفيها أيضاً أنها تدل على رجوع التسبب باطناً ، فكأنها إشارة إلى أنه بعد أن تسبب في ردهم عن عبادتها ظاهراً بما خاطبهم به ، تسبب من ذلك ثانياً باطناً بإفسادها { لأكيدن } أكد لأنه مما ينكر لشدة عسره؛ والكيد : الاحتيال في الضرر { أصنامكم } أي هذه التي عكفتم عليها ناسين الذي خلقكم وإياها ، أي لأفعلن بها ما يسوءكم بضرب من الحيلة .
ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أيّ جزء تيسر له منه ، أسقط الجارّ فقال : { بعد أن تولوا } أي توقعوا التولي عنها ، وحقق مراده بقوله : { مدبرين* } لأنزلكم من الدليل العقلي على تحقيق الحق إذ لم تكونوا من أهله إلى الدليل الحسي على إبطال الباطل .
ولما كانوا في غاية التعظيم لأصنامهم لرسوخ أقدامهم في الجهل ، لم يقع في أوهامهم قط أن إبراهيم عليه السلام يقدم على ما قال ، وعلى تقدير إقدامه الذي هو عندهم من قبيل المحال لا يقدر على ذلك ، فتولوا إلى عيدهم ، وقصد هو ما كان عزم عليه فشمر في إنجازه تشميراً يليق بتعليقه اليمين بالاسم الأعظم { فجعلهم } أي عقب توليهم { جذاذاً } قطعاً مهشمة مكسرة مفتتة ، من الجذ وهو القطع { إلا كبيراً } واحداً { لهم } أي للأصنام أو لعبادها فإنه لم يكسر وجعل الفأس معه { لعلهم } أي أهل الضلال { إليه } وحده { يرجعون* } عند إلزامه لهم بالسؤال فتقوم عليهم الحجة ، إذ لو ترك غيره معه لربما زعموا أن كلاًّ يكل الكلام إلى الآخر عند السؤال لغرض من الأغراض ، فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال علم أنه لا بد لهم عند ذلك من أمر هائل ، فاستؤنف الإخبار عنه بقوله : { قالوا } أي أهل الضلال : { من فعل هذا } الفعل الفاحش { بآلهتنا } ثم استأنفوا الخبر عن الفاعل فقالوا مؤكدين لعلمهم أن ما أقامه الخليل عليه السلام على بطلانها يميل القلوب إلى اعتقاد أن هذا الفعل حق : { إنه من الظالمين* } حيث وضع الإهانة في غير موضعها ، فإن الآلهة حقها الإكرام ، لا الإهانة والانتقام { قالوا } أي بعضهم لبعض : { سمعنا } ولم يريدوا تعظيمه مع شهرته وشهرة أبيه وعظمتهما فيهم ليجترىء عليه من لا يعرفه فنكروه بقولهم : { فتى } أي شاباً من الشبان { يذكرهم } أي بالنقص والعيب { يقال له إبراهيم* } يعنون : فهو الذي يظن أنه فعله { قالوا } مسببين عن هذا كارهين لأن يأخذوه سراً فيقال : أخذ بغير بينة ، وهم كفرة وهو قد خالفهم في دينهم فإلى الله المشتكى من قوم يأخذون أكابر أهل دينهم بغير بينة بل ولا ظنة { فأتوا به } إلى هنا أي إلى بيت الأصنام { على أعين الناس } أي جهرة ، والناس ينظرون إليه نظراً لا خفاء معه حتى كأنه ماشٍ على أبصارهم ، متمكناً منها تمكن الراكب على المركوب ، وعبر بالعين عن البصر ليفهم الأكابر ، ويجمع القلة لإفادة السياق الكثرة ، فيفيد الأمران قلة ما ، لئلا يتوهم من جمع الكثرة جميع الناس مطلقاً { لعلهم } إذا رأوه { يشهدون* } أي أنه فعل بالآلهة هذا الفعل ، أو أنه ذكرها بسوء ، فيكون ذلك مسوغاً لأخذه بذلك ، أو يشهد بفعله بعضهم ، لأن الشيء إذا حضر كانت أحواله بالذكر أولى منها إذا كان غائباً ، وكان هذا عين ما قصده الخليل عليه السلام أن يبين - في هذا المحفل الذي لا يوجد مثله - ما هم عليه من واضح الجهل المتضمن قلة العقل .

قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)

ولما كان إحضاره معلوماً أنهم لا يتأخرون عنه ، استأنف أخباره لما يقع التشوف له فقال : { قالوا } منكرين عليه مقررين ، له بعد حضوره على تلك الهيئة : { ءأنت فعلت هذا } الفعل الفاحش { بآلهتنا يا إبراهيم * قال } متهكماً لهم وملزماً بالحجة : { بل فعله كبيرهم } غيره من أن يعبد معه من هو دونه ، وهذا على طريق إلزام الحجة؛ وتقييده بقوله : { هذا } إشارة إلى الذي تركه بغير كسر يدل على أنه كان فيهم كبير غيره . وكذا التنكير فيما مضى من قوله { إلا كبيراً لهم } وهذا - مع كونه تهكماً بهم وكناية عن أنهم لا عقل لهم لعبادتهم من يعلمون أنه لا يقدر على فعل ما - تنبيه على قباحة الشرك ، وأنه لا يرضى به إله بل يهلك من عبد غيره وكل ما عبد من دونه إن كان قادراً ، غيره على مقامه العظيم ، ومنصبه الجسيم .
ولما أخبر بذلك ، ولم يكن أحد رآه حتى يشهد على فعله ، وكانوا قد أحلوهم بعبادتهم ووضع الطعم لهم محل من بعقل ، سبب عنه أمرهم بسؤالهم فقال : { فاسألوهم } أي عن الفاعل ليخبروكم به { إن كانوا ينطقون* } على زعمكم أنهم آلهة يضرون وينفعون ، فإن قدروا على النطق أمكنت منهم القدرة وإلا فلا ، أما سؤال الصحيح فواضح ، وأما غيره فكما يسأل الناس من جرح أو قطعت يده أو رجله أو ضرب وسطه وبقيت فيه بقية من رمق ، وإسناده الفعل ما لا يصح إسناده إليه وأمره بسؤاله بعد الإضراب عن فعله متضمن لأنه هو الفاعل .
ولما كان روح الكلام إقراره بالفعل وجعلهم موضع الهزء لأنهم عبدوا ما لا قدرة له على دفاع أصلاً تسبب عنه قوله تعالى الدال على خزيهم : { فرجعوا } أي الكفرة { إلى أنفسهم } بمعنى أنهم فكروا فيما قال فاضطرهم الدليل إلى أن تحققوا أنهم على محض الباطل وأن هذه الشرطية الممكنة عقلاً غير ممكنة عادة { فقالوا } يخاطب بعضهم بعضاً مؤكدين لأن حالهم يقتضي إنكارهم لظلمهم : { إنكم أنتم } خاصة { الظالمون* } لكونكم وضعتم العبادة في غير موضعها ، لا إبراهيم فإنه أصاب في إهانتهم سواء المحزّ ووافق عين الغرض ، وفي أنكم بعد أن عبدتموها ولا قدرة لها تركتموها بلا حافظ .
ولما كان رجوعهم إلى الضلال بعد هذا الإقرار الصحيح الصريح في غاية البعد ، عبر بأداته مشيراً إلى ذلك فقال : { ثم نكسوا } أي انقلبوا في الحال غير مستحيين مما يلزمهم من الإقرار بالسفه حتى كأنهم قلبهم قالب لم يمكنهم دفعه { على رءوسهم } فصار أعلاهم أسفلهم برجوعهم عن الحق إلى الباطل ، من قولهم : نكس المريض - إذا رجع إلى حاله الأول ، قائلين في مجادلته عن شركائهم : { لقد علمت } يا إبراهيم! { ما هؤلاء } لا صحيحهم ولا جريحهم { ينطقون* } فكانوا بما فاهوا به ظانين أنه ينفعهم ، ممكنين لإبراهيم عليه السلام من جلائل المقاتل .

ولما تسبب عن قولهم هذا إقرارهم بأنهم لا فائدة فيهم ، فاتجهت لإبراهيم عليه السلام الحجة عليهم ، استأنف سبحانه الإخبار عنها بقوله : { قال } منكراً عليهم موبخاً لهم مسبباً عن إقرارهم هذا : { أفتعبدون } ونبههم على أن جميع الرتب تتضاءل دون رتبة الإلهية بقوله : { من دون الله } أي من أدنى رتبة من تحت رتبة الملك الذي لا ضر ولا نفع إلا بيده لاستجماعه صفات الكمال . ولما كانوا في محل ضرورة بسبب تكسير أصنامهم ، راجين من ينفعهم في ذلك ، قدم النفع فقال : { ما لا ينفعكم شيئاً } لترجوه { ولا يضركم* } شيئاً لتخافوه .
ولما أثبت أن معبوداتهم هذه في حيز العدم ، فكانوا لعبادتها دونها ، استأنف تبكيتهم لذلك بأعلى كلمات التحقير التي لا تقال إلا لما هو غاية في القذارة فقال : { أف } أي تقذر وتحقير مني ، وفي الأحقاف ما يتعين استحضاره هنا ، ثم خص ذلك بهم بقوله : { لكم ولما تعبدون } ولما كانت على وجه الإشراك ، وكانت جميع الرتب تحت رتبته تعالى ، وكانت أصنامهم هذه في رتب منها سافلة جداً أثبت الجار فقال : { من دون الله } أي الملك الأعلى لدناءتكم وقذارتكم .
ولما تسبب عن فعلهم هذا وضوح أنه لا يقر به عاقل ، أنكر عليهم ووبخهم على ترك الفكر تنبيهاً على أن فساد ما هم عليه يدرك ببديهة العقل فقال : { أفلا تعقلون* } أي وأنتم شيوخ قد مرت بكم الدهور وحنكتكم التجارب .
ولما وصل بهم إلى هذا الحد من البيان ، فدحضت حجتهم ، وبان عجزهم ، وظهر الحق ، واندفع الباطل ، فانقطعوا انقطاعاً فاضحاً ، أشار سبحانه إلى الإخبار عن ذلك بقوله استئنافاً : { قالوا } عادلين إلى العناد واستعمال القوة الحسية : { حرقوه } بالنار لتكونوا قد فعلتم فيه فعلاً هو أعظم مما فعل بآلهتكم { وانصروا آلهتكم } التي جعلها جذاذاً؛ وأشاء التعبير - بأداة الشك وفعل الكون واسم الفاعل إلى أن أذاه لا يسوغ ، وليس الحامل عليه إلا حيلة غلبت على الفطرة الأولى السليمة - في قوله : { إن كنتم فاعلين* } أي النصرة لها ، فإن النار أهول المعاقبات وأفظعها ، فهي أزجر لمن يريد مثل هذا الفعل ، واتركوا الجدال فإنه يورث ضد ما تريدون ، ويؤثر عكس ما تطلبون ، فعزموا على ذلك فجمعوا الحطب شهراً ووضعوه في جوبة من الأرض أحاطوا بها جداراً كما في الصافات حتى كان ذلك الحطب كالجبل ، وأضرموا فيه النار حتى كان على صفة لم يوجد في الأرض قط مثلها ، حتى إن كان الطائر ليمر بها في الجو فيحترق ، ثم ألقوه فيها بالمنجنيق فقال : حسبي الله ونعم الوكيل - أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولأبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال : اللهم! إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد ، عبدك » وقال البغوي : أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النار ، وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء ، فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل . فأراد الله الذي له القوة جميعاً سلامته منها ، فعبر عن ذلك بقوله سبحانه استئنافاً لجواب من زاد تشوفه إلى ما كان من أمره بعد الإلقاء فيها : { قلنا } أي بعظمتنا { يا نار كوني } بإرادتنا التي لا يتخلف عنها مراد { برداً } . ولما كان البرد قد يكون ضاراً قال : { وسلاماً } فكانت كذلك ، فلم تحرق منه إلا وثاقه .
ولما كان المراد اختصاصه عليه السلام بهذا قيده به ، ولما كان المراد حياته ولا بد ، عبر بحرف الاستعلاء فقال : { على إبراهيم* } أي فكان ما أردنا من سلامته ، وروى البغوي من طريق البخاري عن أم شريك رضي الله عنها « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وقال : كان ينفخ النار على إبراهيم » وقال ابن كثير : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عبيد الله بن أخي وهب ثنا عمي عن جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال : حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت : دخلت على عائشة رضي الله عنها فرأيت في بيتها رمحاً فقلت : يا أم المؤمنين! ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت : نقتل به هذه الأوزاغ ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفىء عنه غير الوزغ ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله » .
ولما قدم ما نبه على شدة الاهتمام به لإفهامه أنه حكم بسلامته من كيدهم عند همهم به فكيف بما بعده! قال عاطفاً على ما تقديره : فألقوه فيها : { وأرادوا به كيداً } أي مكراً بإضراره بالنار وبعد خروجه منها { فجعلناهم } أي بما لنا من الجلال .
ولما كانوا قد أرادوا بما صنعوا له من العذاب أن يكون أسفل منهم أهل ذلك الجمع ، وكان السياق لتحقيق أمر الساعة الذي هو مقصود السورة ، وكان الصائر إليها المفرط فيها بالتكذيب بها قد خسر خسارة لا جبر لها لفوات محل الاستدراك ، قال : { الأخسرين* } لأن فضيحتهم في الدنيا الموجبة للعذاب في الأخرى كانت بنفس فعلهم الذي كادوه به ، ولم يذكر سبحانه شعيباً عليه السلام مع أنه سخر له النار في يوم الظلة فأحرقت عصاه ، لأن فعل النار بقومه كان على ما هو المعهود من أمرها بخلاف فعلها مع إبراهيم عليه السلام ، فإنه على خلاف المعتاد ، وقد وقع مثل هذا لبعض أتباع نبيناً صلى الله عليه وسلم ، وهو أبو مسلم الخولاني ، طلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له : أتشهد أني رسول الله؟ قال : ما أسمع ، قال : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم! فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائماً يصلي فيها وقد صارت عليه برداً وسلاماً ، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر رضي الله عنهما وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله .

ولما كان إنجاؤه - وهو وحده - ممن أرادوا به هذا الأمر العظيم من العجائب فكيف إذا انضم إليه غيره ، ولم يكن في ذلك الغير آية تمنعهم عنه كما كان في إبراهيم عليه السلام ، قال : { ونجيناه } أي بعظمتنا { ولوطاً } أي ابن أخيه وصديقه لكونه آمن به وصدقه ، من بلادهما كوثى بلاد العراق ، منتهيين إلى الأرض المقدسة ، ولعله عبر بإلى الدالة على تضمين « انتهى » للدلالة على أن هناك غاية طويلة ، فإنهما خرجا من كوثى من أرض العراق إلى حران ثم من حران { إلى الأرض } المقدسة { التي باركنا فيها } بأن ملأناها من الخيرات الدنيوية و الأخروية بما فيها من المياه التي بها حياة كل شيء من الأشجار والزروع وغيرها ، وما ظهر منها من الأنبياء عليهم السلام الذي ملؤوا الأرض نوراً { للعالمين* } كما أنجيناك أنت يا أشرف أولاده وصديقك أبا بكر رضي الله عنه إلى طيبة التي شرفناها بك ، وبثثنا من أنوارها في أرجاء الأرض وأقطارها ما لم نبث مثله قط ، وباركنا فيها للعالمين ، بالخلفاء الراشدين وغيرهم من العلماء والصالحين ، الذين انبثت خيراتهم العلمية والعملية والمالية في جميع الأقطار .
ولما أولد له في حال شيخوخته وعجز امرأته مع كونها عقيماً ، وكان ذلك دالاً على الاقتدار على البعث الذي السياق كله له ، قال : { ووهبنا } دالاً على ذلك بنون العظمة { له إسحاق } أي من شبه العدم ، وترك شرح حاله لتقدمه ، أي فكان ذلك دالاًّ على اقتدارنا على ما نريد لا سيما من إعادة الخلق في يوم الحساب؛ ولما كان قد يظن أنه - لتولده بين شيخ فانٍ وعجوز مع يأسها عقيم - كان على حالة من الضعف ، لا يولد لمثله معها ، نفى ذلك بقوله : { ويعقوب نافلة } أي ولد إسحاق زيادة على ما دعا به إبراهيم عليهما السلام؛ ثم نمى سبحانه أولاد يعقوب - وهو إسرائيل - وذرياتهم إلى أن ساموا النجوم عدة ، وباروا الجبال شدة { وكلاًّ } من هؤلاء الأربعة؛ وعظم رتبتهم بقوله : { جعلنا صالحين* } أي مهيئين - لطاعتهم لله - لكل ما يريدونه أو يرادون له أو يراد منهم ، وهذا إشارة إلى أن العاصي هالك ، لا يصلح لشيء وإن طال عمره ، واشتد أمره ، لأن العبرة بالعاقبة .

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)

ولما ذكر أنه أعطاهم رتبة الصلاح في أنفسهم ، ذكر أنه أعطاهم رتبة الإصلاح لغيرهم ، فقال معظماً لإمامتهم : { وجعلناهم أئمة } أي أعلاماً ومقاصد يقتدى بهم في الدين بما أعطاهم من النبوة . ولما كان الإمام قد يدعو إلى الردى ، ويصد عن الهدى ، إذا كانت إمامته ظاهرة لا يصحبها صلاح باطن ، احترز عن ذلك بقوله : { يهدون } أي يدعون إلينا من وفقناه للهداية { بأمرنا } وهو الروح الذي هو العمل المؤسس على العلم بإخبار الملائكة به عنا ، ولإفهام ذلك عطف عليه قوله معظماً لوحيه إليهم : { وأوحينا إليهم } أي أيضاً { فعل } أي أن يفعلوا { الخيرات } كلها وهي شرائع الدين ، ولعله عبر بالفعل دلالة على أنهم امتثلوا كل ما أوحي إليهم .
ولما كانت الصلاة أم الخيرات ، خصها بالذكر فقال : { وإقام الصلاة } قال الزجاج : الإضافة عوض عن تاء التأنيث . يعني فيكون من الغالب لا من القليل ، وكان سر الحذف تعظيم الصلاة لأنها مع نقصها عن صلاتنا - لما أشار إليه الحذف - بهذه المنزلة من العظمة فما الظن بصلاتنا .
ولما كانت الصلاة بين العبد والحق ، وكان روحها الإعراض عن كل فان ، عطف عليها قوله : { وإيتاء الزكاة } أي التي هي مع كونها إحساناً إلى الخلق بما دعت الصلاة إلى الانسلاخ عنه من الدنيا ، ففعلوا ما أوحيناه إليهم { وكانوا لنا } دائماً جبلة وطبعاً { عابدين* } أي فاعلين لكل ما يأمرون به غيرهم ، فعل العبد مع مولاه من كل ما يجب له من الخدمة ، ويحق له من التعظيم والحرمة .
ولما كان سبحانه قد سخر لصديقه لوط عليه السلام إهلاك من عصاه في أول الأمر بحجارة الكبريت التي هي من النار ، وفي آخره بالماء الذي هو أقوى من النار ، تلاه به فقال : { ولوطاً } أي وآتيناه أو واذكر لوطاً؛ ثم استأنف قوله : { ءاتيناه } أي بعظمتنا { حكماً } أي نبوة وعملاً محكماً بالعلم { وعلماً } مزيناً بالعمل { ونجيناه } بانفرادنا بالعظمة .
ولما كانت مادة « قرا » تدل على الجمع ، قال : { من القرية } المسماة سدوم ، أي من عذابهم وجميع شرورهم ، وأفرد تنبيهاً على عمومها بالقلع والقلب وأنه كان في غاية السهولة والسرعة ، وقال أبو حيان : وكانت سبعاً ، عبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة . { التي كانت } قبل إنجائنا له منها { تعمل الخبائث } بالذكران ، وغير ذلك من الطغيان ، فاستحقوا النار التي أمر المؤلفات ، بما ارتكبوا من الشهوة المحظورة لعدهم لها أحلى الملذذات ، والغمر بالماء القذر المنتن الذي جعلناه - مع أنا جعلنا من الماء كل شيء حي - لا يعيش فيه حيوان ، فضلاً عن أن يتولد منه ، ولا ينتفع به ، لما خامروا من القذر الذي لا ثمرة له .
ولما كان في هذا إشارة إلى إهلاك القرية ، وأن التقدير : ودمرنا عليهم بعد انفصاله عنهم ، علله بقوله : { إنهم كانوا } أي بما جلبوا عليه { قوم سوء } أي ذوي قدرة على الشر بانهماكهم في الأعمال السيئة { فاسقين* } خارجين من كل خير ، ثم زاد الإشارة وضوحاً بقوله : { وأدخلناه } أي دونهم بعظمتنا { في رحمتنا } أي في الأحوال السنية ، والأقوال العلية ، والأفعال الزكية ، التي هي سبب الرحمة العظمى ومسببة عنها؛ ثم علل ذلك بقوله : { إنه من الصالحين* } أي لما جلبناه عليه من الخير .

ولما أتم سبحانه قصة لوط المناسبة لقصة الخليل عليهما السلام بحجارة الكبريت ، ولقصة نوح عليه السلام بالماء الذي غمرت به قراه السبع ، أتبع ذلك قصة نوح عليه السلام الذي سخر له من الماء ما لم يسخره لغيره لغمره جميع الأرض دانيها وقاصيها ، واطيها وعاليها ، فقال : { ونوحاً إذ } أي اذكره حين { نادى } أي دعا ربه { إني مغلوب فانتصر } [ القمر : 10 ] و { لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] ونحوه من الدعاء .
ولما كان دعاؤه لم يستغرق الأزمنة الماضية ، أثبت الجار فقال : { من قبل } أي من قبل لوط ومن تقدمه { فاستجبنا } أي أردنا الإجابة وأوجدناها بعظمتنا { له } في ذلك النداء؛ ثم سبب عن ذلك قوله : { فنجيناه } أي بعظمتنا تنجية عظيمة { وأهله } الذين أدام ثباتهم على الإسلام وصلتهم به { من الكرب العظيم* } من الأذى والغرق؛ قال أبو حيان : والكرب : أقصى الغم ، والأخذ بالنفس ، وهو هنا الغرق ، عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق . { ونصرناه } أي مخلصين له ومانعين ومنتقمين { من القوم } أي المتصفين بالقوة { الذين كذبوا } أي أوقعوا التكذيب له { بآياتنا } أي بسبب إتيانه بها ، وهي من العظمة على أمر لا يخفى .
ولما كان التقدير : ثم أهلكناهم ، علله بقوله : { إنهم كانوا قوم سوء } لا عمل لهم إلا ما يسوء { فأغرقناهم } أي بعظمتنا التي أتت عليهم كلهم { أجمعين* } حتى من قطع الكفر بين نوح عليه السلام وبينه من أهله فصار لا يعد من أهله ، لاختلاف الانتساب بالدين .
ولما كان ربما قيل : لم قدم إبراهيم ومن معه على نوح وهو أبوهم ومن أولي العزم ، وموسى وهارون على إبراهيم وهو كذلك ، أشار بقصة داود وسليمان - على جميعهم الصلاة والسلام - إلى أنه ربما يفضل الابن الأب في أمر ، فربما قدم لأجله وإن كان لا يلزم منه تقديمه مطلقاً ، مع ما فيها من أمر الحرث الذي هو أنسب شيء لما بعد غيض الماء في قصة نوح عليه السلام ، هذا في أوله وأما في آخره فما ينبته مثال للدنيا في بهجتها وغرورها ، وانقراضها ومرورها ، ومن تصريف داود عليه السلام في الجبال وهي أشد التراب الذي هو أقوى من الماء ، وفي الحديد وهو أقوى من تراب الجبال ، وسليمان عليه السلام في الريح وهي أقوى من التراب فقال : { وداود } أي أول من ملك ابنه من أنبياء بني إسرائيل { وسليمان } ابنه ، أي اذكرهما واذكر شأنهما { إذ } أي حين { يحكمان في الحرث } الذي أنبت الزرع ، وهو من إطلاق اسم السبب على المسبب كالسماء على المطر والنبت ، قيل : كان ذلك كرماً ، وقيل : زرعاً { إذ نفشت } أي انتشرت ليلاً بغير راع { فيه غنم القوم } الذي لهم قوة على حفظها فرعته؛ قال قتادة : النفش بالليل ، والهمل بالنهار .

{ وكنا } أي بعظمتنا التي لا تقر على خلاف الأولى في شرع من الشروع { لحكمهم } أي الحكمين والمتحاكمين إليهما { شاهدين } لم يغب عنا ذلك ولا شيء من أمرهم هذا ولا غيره ، فذلك غيرنا على داود عليه السلام تلك الحكومة مع كونه ولينا وهو مأجور في اجتهاده لأن الأولى خلافها ، فإنه حكم بأن يمتلك صاحب الحرث الغنم بما أفسدت من الكرم ، فكأنه رأى قيمة الغنم قيمة ما أفسدت { ففهمناها } أي الحكومة بما لنا من العلم الشامل والقدرة الكاملة على رفع من نشاء { سليمان } فقال : تسلم الغنم لصاحب الكرم ليرتفق بلبنها ونسلها وصوفها ومنافعها ، ويعمل صاحبها في الكرم حتى يعود كما كان فيأخذ حرثه ، وترد الغنم إلى صاحبها ، وهذا أرفق بهما . وهذا أدل دليل على ما تقدمت الإشارة إليه عند { قل ربي يعلم القول } ، و { كنا به عالمين إذ قال لأبيه } وفيه رد عليهم في غيظهم من النبي صلى الله عليه وسلم في تسفيه الآباء والرد عليهم كما في قصة إبراهيم عليه السلام لأنه ليس بمستنكر أن يفضل الابن أباه ولو في شيء ، والآية تدل على أن الحكم ينقض بالاجتهاد إذا ظهر ما هو أقوى منه .
ولما كان ذلك ربما أوهم شيئاً في أمر داود عليه السلام ، نفاه بقوله دالاً على أنهما على الصواب في الاجتهاد وإن كان المصيب في الحكم إنما هو أحدهما { وكلاًّ } أي منهما { ءاتينا } بما لنا من العظمة { حكماً } أي نبوة وعملاً مؤسساً على حكمة العلم ، وهذا معنى ما قالوه في قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن من الشعر حكماً - أي قولاً صادقاً مطابقاً للحق { وعلماً } مؤيداً بصالح العمل ، وعن الحسن رحمه الله : لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا ، ولكنه أثنى على سليمان عليه السلام بصوابه ، وعذر داود عليه السلام باجتهاده انتهى . وأتبعه من الخوارق ما يشهد له بالتقدم والفضل فقال : { وسخرنا } أي بعظمتنا التي لا يعيبها شيء .
ولما كان هذا الخارق في التنزيه ، لم يعد الفعل اللام زيادة في التنزيه وإبعاداً عما ربما أوهم غيره فقال مقدماً ما هو أدل على القدرة في ذلك لأنه أبعد عن النطق : { مع داود الجبال } أي التي هي أقوى من الحرث ، حال كونهن { يسبحن } معه ، ولو شئنا لجعلنا الحرث أو الغنم يكلمه بصواب الحكم ، ولم يذكر ناقة صالح لأنها مقترحة موجبة لعذاب الاستئصال ، فلم يناسب ذكرها هنا ، لما أشار إليه قوله تعالى { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } ، « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » وهذه الآيات التي ذكرت هنا ليس فيها شيء مقترح { والطير } التي سخرنا لها الرياح التي هي أقوى من الجبال وأكثر سكناها الجبال ، سخرناها معه تسبح { وكنا فاعلين* } أي من شأننا الفعل لأمثال هذه الأفاعيل ، ولكل شيء نريده بما لنا من العظمة المحيطة ، فلا تستكثروا علينا أمراً وإن كان عندكم عجباً ، وقد اتفق نحو هذا لغير واحد من هذه الأمة ، كان مطرف بن عبد الله ابن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه ابنته ، هذا مع أن الطعام كان يسبح بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم والحصا وغيره .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41