كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

القطان، حدثنا أبو الأزهر: حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري، حدثنا محمد بن عمر (1) عن محمد بن المنكدر عن ربيعة الديلي.
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن
دينكم ودين آبائكم.
قلت من هذا ؟ قيل هذا أبو لهب.
ثم رواه من طريق شعبة عن الاشعث بن سليم عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى (2).
كذا قال أبو جهل، والظاهر أنه أبو لهب، وسنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته وذلك بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى.
وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه، وسجاياه، واعتماده فيما يحامي به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
قال يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى بن (3) عبد الله عن موسى بن طلحة، أخبرني عقيل بن أبي طالب.
قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا.
فقال: يا عقيل انطلق فأتني بمحمد، فانطلقت إليه فاستخرجته من كنس (4) - أو قال خنس - يقول بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء.
فقال: " ترون هذه الشمس ؟ " قالوا نعم ! قال: " فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعل (5) منه بشعلة ".
فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا.
رواه البخاري في التاريخ عن محمد بن العلاء عن يونس بن بكير.
ورواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار عنه به - وهذا لفظه (6) -.
ثم روى البيهقي من طريق يونس عن ابن إسحاق حدثني يعقوب بن
__________
(4) وهو محمد بن محمد بن محمش الفقيه.
(5) في الدلائل: الحسين.
(1) في الدلائل: عمرو.
(2) الخبران في الدلائل ج 2 / 185 - 186 وفي مسند أحمد ج 3 / 492.
(3) في الاصل ونسخ البداية المطبوعة: عن عبد الله بن موسى، والصواب ما أثبتناه من دلائل البيهقي: بن عبد الله،
عن موسى.
(4) في الدلائل: كبس أو قال من حفش، والكبس: الكن يأوي إليه الانسان.
(5) في البخاري: تشعلوا وفي الدلائل: تستشعلوا.
(6) رواه البيهقي في الدلائل 2 / 186 - 187 والبخاري في التاريخ الكبير (4 / 1 / 51).

عتبة (1) بن المغيرة بن الاخنس أنه حدث.
أن قريشا حين قالت لابي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا، فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الامر ما لا أطيق أنا ولا أنت.
فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك.
فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلمه، وضعف عن القيام معه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري (2) ما تركت هذا الامر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه " ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الامر برسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال أمض على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشئ أبدا.
قال ابن إسحاق ثم قال أبو طالب في ذلك: والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا فأمضي لامرك ما عليك غضاضة * أبشر وقر بذاك منك عيونا (3) ودعوتني وعلمت أنك ناصحي * فلقد صدقت وكنت قدم أمينا (4) وعرضت دينا قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سبة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا ثم قال البيهقي: وذكر ابن إسحاق لابي طالب في ذلك أشعارا، وفي [ كل ] ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء لا معقب لحكمه (5).
وقال يونس بن بكير: حدثني محمد بن إسحاق [ قال ]: حدثني رجل من أهل مصر قديما منذ بضع (6) وأربعين سنة عن عكرمة، عن ابن عباس، في قصة طويلة جرت بين
مشركي مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام رسول الله قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا وإني أعاهد الله لاجلس له غدا بحجر، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلما أصبح أبو جهل - لعنه الله - أخذ حجرا ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا
__________
(1) في الدلائل: عقبة، وفي السيرة فكالاصل.
وهو يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس الثقفي، ثقة من السادسة مات سنة ثمان وعشرين (تقريب التهذيب) 2 / 385 / 376.
(2) قال السهيلي: خص الشمس باليمين لانها الآية المبصرة، وخص القمر بالشمال لانها الآية الممحوة..وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم النيرين حين ضرب المثل بهما لان نورهما محسوس والنور الذي جاء به من عند الله.
(3) فامضي: كذا بالاصول باثبات الياء للوزن.
(4) في سبل الهدى: 1 / 437: وكنت ثم أمينا.
(5) الخبر في سيرة ابن هشام 1 / 284 - 285 دون ذكر الاشعار.
وفي دلائل النبوة للبيهقي 2 / 187 - 188.
(6) في الاصل: بضعا وهو تحريف.

رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان قبلته الشام (1).
فكان إذا صلى صلى بين الركنين الاسود واليماني (2)، وجعل الكعبة بينه وبين الشام.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال من قريش.
فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم ؟ فقال قمت إليه لافعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الابل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط فهم أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ذلك جبريل، ولو دنا منه لاخذه " (3).
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو النضر (4) [ محمد بن محمد بن يوسف ] الفقيه، حدثنا عثمان [ بن سعيد ] الدارمي حدثنا عبد الله بن صالح
[ قال ] حدثنا الليث بن سعد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبان بن صالح عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عباس بن عبد المطلب.
قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل - لعنه الله - فقال: إن لله علي إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ على رقبته، فخرجت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضبانا حتى جاء المسجد فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط.
فقلت هذا يوم شر، فاتزرت ثم اتبعته فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق) فلما بلغ شأن أبي جهل (كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى) فقال إنسان لابي جهل: يا أبا الحكم هذا محمد ؟ فقال أبو جهل ألا ترون ما أرى ؟ والله لقد سد أفق السماء علي فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد (4).
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لاطأن على عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لو فعل لاخذته الملائكة عيانا ".
ورواه البخاري عن يحيى عن عبد الرزاق
__________
(1) في سيرة ابن هشام: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام.
(2) كذا في الاصول والبيهقي، وفي السيرة: بين الركنين اليماني والحجر الاسود.
قال ابن بطوطة في رحلته، عندما كلامه على الاركان: ومن عند الحجر الاسود مبتدأ الطوف، وهو أول الاركان التي يلقاها الطائف، فإذا استلمه تقهقر ؟ عنه قليلا، وجعل الكعبة الشريفة عن يساره ومضى في طوافه، ثم يلقى بعده الركن العراقي، وهو إلى جهة الشمال، ثم يلقى الركن الشمامي وهو إلى جهة الغرب، ثم يلقى الركن اليماني وهو إلى جهة المغرب، ثم يعود إلى الحجر الاسود وهو إلى جهة الشرق.
(رحلة ابن بطوطة - الجزء الاول -).
(3) الخبر في سيرة ابن هشام من حديث طويل ج 1 / 318 - 319 ودلائل البيهقي ج 2 / 190 - 191 ورواه النسوي باسناده إلى أبي هريرة وفيه: فقالوا: مالك: فقال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا (راجع السهيلي - الروض الآنف - ودلائل البيهقي 2 / 189).
(4) دلائل النبوة ج 2 / 191.

به (1).
قال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس.
قال، مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي.
فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد ؟ لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني، فانتهزه النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال جبريل: (فليدع ناديه سندع الزبانية) والله لو دعا ناديه لاخذته زبانية العذاب.
وراه (ورواه) أحمد والترمذي وصححه النسائي من طريق داود به (2).
وقال الامام أحمد حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو زيد حدثنا فرات عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس.
قال قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا عند الكعبة يصلي لاتيته حتى أطأ عنقه، قال فقال: " لو فعل لاخذته الزبانية عيانا ".
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن الوليد بن العيزار عن ابن عباس.
قال قال: أبو جهل لئن عاد محمد يصلى عند المقام لاقتلنه، فأنزل الله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) حتى بلغ من الآية: (لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية).
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فقيل ما يمنعك ؟ قال: قد اسود ما بيني وبينه من الكتائب.
قال ابن عباس: والله لو تحرك لاخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الاعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم عن أبي هريرة.
قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا نعم ! قال: فقال واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لاطأن على رقبته، ولاعفرن وجهه بالتراب.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته.
قال فما فجئهم منه إلا وهو ينكص (3) على عقبيه، ويتقي بيديه، قال فقيل له مالك ؟ قال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة.
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ".
قال وأنزل الله تعالى - لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - (كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى) إلى آخر السورة (4).
وقد رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم والبيهقي من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي به.
وقال الامام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا
شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله [ بن مسعود ].
قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.
فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره ؟ فقال عقبة بن أبي معيط: أنا،
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 248، والبخاري في 65 كتاب التفسير - تفسير سورة العلق (4) باب فتح الباري 8 / 724 وأخرجه الترمذي في تفسير سورة العلق.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 256 وأخرجه الترمذي في تفسير سورة العلق ح 3349 وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
(3) أي رجع يمشي إلى ورائه.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه (50) كتاب المنافقين 6 باب ح 38 ص 2154، والامام أحمد في مسنده 2 / 37 والبيهقي في الدلائل ج 2 / 189.

فأخذه فألقاه على ظهره.
فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم عليك بهذا الملا من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف - أو أمية بن خلف - " شعبة الشاك قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي - أو أمية بن خلف - فإنه كان رجلا ضخما فتقطع.
وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من صحيحه ومسلم من طرق عن أبي (1) إسحاق به.
والصواب أمية بن خلف فإنه الذي قتل يوم بدر، وأخوه أبي إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه - والسلا هو الذي يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة.
وفي بعض ألفاظ الصحيح أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا (2) حتى جعل بعضهم يميل على بعض، أي يميل هذا على هذا من شدة الضحك لعنهم الله.
وفيه أن فاطمة لما ألقته عنه أقبلت عليهم فسبتهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا دعوته، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا على الملا منهم
جملة وعين في دعائه سبعة.
وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم: وهم عتبة، وأخوه شيبة أبنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف.
قال أبو (3) إسحاق: ونسيت السابع.
قلت: وهو عمارة بن الوليد وقع تسميته في صحيح البخاري (4) قصة الاراشي قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثنا عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي.
قال: قدم رجل من إراش (5) بإبل له إلى مكة فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها.
فأقبل
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة ابن.
والحديث في البخاري في 58 كتاب الجزية 21 باب حديث 3185 وفي 4 كتاب الوضوء 69 باب الحديث 240.
وعند مسلم في صحيحه 32 كتاب الجهاد 39 باب حديث 108.
(2) استضحكوا: أي حملوا أنفسهم على الضحك والسخرية، ثم أخذهم الضحك جدا فجعلوا يضحكون يميل بعضهم على بعض من كثرة الضحك.
(3) في الاصل ونسخ البداية المطبوعة: " ابن " وما أثبتناه من البخاري ومسلم.
(4) في كتاب الصلاة من رواية اسرائيل عن أبي إسحاق.
قال ابن حجر: واستشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد في المذكورين لانه لم يقتل ببدر بل ذكر أصحاب المغازي أنه مات بأرض الحبشة..والجواب: أن كلام ابن مسعود في أنه رآهم صرعى في القليب محمول على الاكثر، ويدل عليه أن عقبة بن أبي معيط لم يطرح في القليب بل قتل صبرا بعد أن رحلوا عن بدر مدة.
(5) إراش: اسم موضع (معجم البلدان).

الاراشي حتى وقف على نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد.
فقال: يا معشر قريش من رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي ؟ فقال أهل المجلس ترى ذلك - يهزون به (1) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من
العداوة، إذهب إليه فهو يعديك عليه.
فأقبل الاراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقام معه.
فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم اتبعه فانظر ما يصنع ؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه.
فقال: من هذا ؟ قال محمد فاخرج ! فخرج إليه وما في وجهه قطرة دم (2)، وقد انتقع لونه.
فقال: أعط هذا الرجل حقه، قال: لا تبرح حتى أعطيه الذي له.
قال فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للاراشي إلحق لشأنك.
فأقبل الاراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال جزاه الله خير، فقد أخذت (3) الذي لي، وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا ويحك ماذا رأيت ؟ قال عجبا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه فقال: اعط هذا الرجل حقه.
فقال: نعم ! لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه [ إياه ].
ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له ويلك مالك فوالله ما رأينا مثل ما صنعت ؟ فقال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بأبي وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الابل ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فوالله لو أبيت لاكلني (4).
فصل وقال البخاري: حدثنا عباس (5) بن الوليد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني الاوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم [ بن الحارث ] التيمي، حدثني عروة بن الزبير.
سألت ابن [ عمرو بن ] العاص فقلت: أخبرني بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله ؟ قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) [ المؤمنين: 28 ] الآية.
تابعه ابن إسحاق قال أخبرني يحيى بن عروة عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عمرو.
وقال عبدة عن هشام عن أبيه قال قيل لعمرو بن العاص.
وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة حدثني عمرو بن العاص.
قال
__________
(1) في دلائل البيهقي: يهوون، أي يشيرون.
(2) في البيهقي: وما في وجهة بايحة.
(3) في البيهقي: أخذ.
(4) الخبر رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 193 - 194.
(5) في الاصل ونسخ البداية المطبوعة: " عياش " وهو تحريف وأثبتنا ما في البخاري.

البيهقي وكذلك رواه سليمان بن بلال عن هشام بن عروة كما رواه عبدة.
انفرد به البخاري.
وقد رواه في أماكن من صحيحه وصرح في بعضها بعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أشبه لرواية عروة عنه، وكونه عن عمرو أشبه لتقدم هذه القصة (1).
وقد روى البيهقي عن الحاكم عن الاصم (2) عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عروة عن أبيه عروة.
قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته (3) ؟ فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعاتنا، وسب آلهتنا، وصرنا منه (4) على أمر عظيم - أو كما قال - قال فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفتها في وجهه فمضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها.
فقال (5): " أتسمعون يا معشر قريش ؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ".
فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع (6) حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه [ أحسن ما يجد من القول ] حتى إنه ليقول انصرف أبا القاسم راشدا فما كنت بجهول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه.
فبينما هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم أنا الذي أقول ذلك " ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر يبكي (7) دونه ويقول: ويلكم (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) ثم انصرفوا عنه.
فإن ذلك لاكبر ما رأيت قريشا بلغت منه قط.
__________
(1) الحديث في سيرة ابن هشام 1 / 309.
والبخاري في صحيحه في 62 كتاب فضائل الصحابة (5) باب حديث 3678، وفي 63 كتاب مناقب الانصار 29 باب حديث 3856 وفي 65 كتاب التفسير (40) باب تفسير سورة المؤمن حديث 4815.
(2) الحاكم: محمد بن عبد الله الحافظ، والاصم: أبو العباس محمد بن يعقوب.
(3) العبارة في سيرة ابن هشام: أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته ؟ (4) في دلائل البيهقي: وصبرنا منه، وفي سيرة ابن هشام.
لقد صبرنا منه.
(5) في السيرة والدلائل: فوقف ثم قال: (6) في السيرة والدلائل: واقع.
(7) في الاصل ونسخ البداية المطبوعة: " ينكى " وهو تحريف.

فصل في تأليب الملا من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واجتماعهم بعمه أبي طالب القائم في منعه ونصرته وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم فأبى عليهم ذلك بحول الله وقوته قال الامام أحمد: حدثنا وكيع عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال " (1).
وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال محمد بن إسحاق: وحدب (2) على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لدينه (3) لا يرده عنه شئ، فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شئ أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأبو البختري - واسمه العاص بن هشام (4) بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، والاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو جهل - واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، ونبيه ومنبه، إبنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد (5) بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، والعاص بن وائل بن سعيد بن سهم.
قال ابن إسحاق أو من مشى منهم.
فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا،
__________
(1) مسند أحمد ج: 3 / 120.
(2) حدب: أصل الحدب: انحناء الظهر، ثم استعير فيمن عطف على غيره ورق له، وقد يكون الحدب أيضا مستعملا في معنى المخالفة إذا قرن بالقعس، كقول الشاعر: وإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعسوا * لينتزعوا ما خلف ظهرك فاحدب (3) في السيرة: لامره.
(4) قال السهيلي: الذي قاله ابن إسحاق: العاص بن هشام هو قول الكلبي، والذي قاله ابن هشام: " أبو البختري: العاص بن هاشم " هو قول الزبير بن أبي بكر وقول مصعب، وهكذا وجدت في حاشية كتاب الشيخ أبي بحر سفيان بن العاص.
(5) في السيرة: ابن سعد.

فإما أن تكفه عنا، وأما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه ؟ فقال لهم أبو طالب: قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما
هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى (1) الامر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا.
وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه، ثم أنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى.
فقالوا [ له ]: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا [ له ] - ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا باسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خذلانه.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس أنه حدث: أن قريشا حين قالوا لابي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني، فقالوا كذا وكذا الذي قالوا له، فابق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الامر ما لا أطيق، قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بدو (2) وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الامر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته " قال: ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب.
فقال: أقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمتك لشئ أبدا.
قال ابن إسحاق ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوته مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له - فيما بلغني -: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك ؟ وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامنا فنقتله فإنما هو رجل برجل ! قال: والله لبئس ما تسومونني ؟ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه ! هذا والله ما لا يكون أبدا.
قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما
تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا ؟ فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدالك - أو كما قال - فحقب (3) الامر، وحميت
__________
(1) من السيرة، وفي الاصول سرى، وشرى الامر: كثر واشتد.
(2) في السيرة: بداء، والبداء الاسم من بدا والمراد: ظهر له رأي.
(3) حقب الامر: زاد واشتد، وهو من قولك.
حقب البعير: إذا راغ عنه الحقب من شدة الجهد والنصب وإذا عسر عليه البول أيضا لشدة الحقب على ذلك الموضع.

الحرب، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضها.
فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عدي، ويعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم: ألا قل لعمرو والوليد ومطعم * ألا ليت حظي من حياطتكم بكر من الخور حبحاب كثير رغاؤه * يرش على الساقين من بوله قطر (1) تخلف خلف الورد ليس بلاحق * إذ ما علا الفيفاء قيل له وبر (2) أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الامر بل لهما أمر ولكن تحرجما * كما حرجمت من رأس ذي علق الصخر (3) أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا * هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر هما أغمزا للقوم في أخويهما * فقد أصبحا منهم أكفهما صفر (4) هما أشركا في المجد من لا أباله * من الناس إلا أن يرس له ذكر وتيم ومخزوم وزهرة منهم * وكانوا لنا مولى إذا بغي النصر فوالله لا تنفك منا عداوة * ولا منكم ما دام من نسلنا شفر (5) قال ابن هشام: وتركنا منها بيتين أقذع فيهما.
فصل
في مبالغتهم في الاذية لاحاد المسلمين المستضعفين قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب.
وقد قام أبو طالب، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون، في بني هاشم وبني عبد المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله
__________
(1) الخور: الضعاف.
والحجاب: القصير، ويروى خبخاب هو الضعيف.
(2) وبر: دويبة على شكل الهرة، ويحتمل أن يكون أراد أنه يصفر في العين لعلو المكان أو بعده.
(3) تجرجما، وجرجمت في السيرة.
ذو علق: جبل في ديار بني أسد.
(4) أغمزا: أغمز فلان في فلان، أو من فلان: إذا صغر شأنه وعابه واستضعفه.
(5) في السيرة: ولا منهم ما كان من نسلنا شفر.
وشفر: أي أحد.

الملعون ].
فقال (1) في ذلك يمدحهم ويحرضهم على ما وافقوه عليه من الحدب والنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها وإن حصلت اشراف عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فان محمدا * هو المصطفى من سرها وكريمها تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها (2) وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذ ما ثنوا صعر الرقاب نقيمها (3) ونحمي حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها (4)
بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (5) فصل فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعا من الآيات وخرق العادات على وجه العناد، لا على وجه طلب الهدي والرشاد فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا ولا ما إليه رغبوا، لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردون.
قال الله تعالى: (واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون، ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون) [ الانعام: 109 - 111 ] وقال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم)
__________
(1) فقال: أي أبو طالب.
(2) الغث: هنا من ليس له نسب، والغث في الاصل: اللحم الضعيف.
(3) في ابن هشام: الخدود بدل الرقاب.
(4) في ابن هشام: اجحارها، والاجحار جمع جحر يريد بيوتها ومساكنها.
والاحجار: المراد بها الحصون والمعاقل.
(5) في نسخ البداية المطبوعة: " الزواء " وهو تحريف.
والذواء: الذي جفت رطوبته.
والاروم: الاصول جمع أرومة.

[ يونس: 96 - 97 ].
وقال تعالى: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) [ الاسراء: 59 ].
وقال تعالى:
(وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) [ الاسراء: 90 - 93 ] وقد تكلمنا على هذه الآيات وما يشابهها في أماكنها في التفسير ولله الحمد.
وقد روى يونس وزياد (1) عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم - وهو شيخ من أهل مصر يقال له محمد بن أبي محمد - عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس.
قال: اجتمع علية من أشراف قريش - وعدد أسماءهم (2) - بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه، وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، [ فأتهم ] فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدء (3)، وكان [ عليهم ] حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم.
فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك (4)، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك.
لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الاحلام، وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك.
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكان يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك، بذلنا [ لك ] أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك ؟ فقال [ لهم ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق
__________
(1) يونس بن بكير وزياد البكائي وهما راويا السيرة عن ابن إسحاق.
(2) ذكر اسماءهم ابن إسحاق في السيرة: وهم: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث بن كلدة، وأبو البختري بن هشام، والاسود بن المطلب، وزمعة بن الاسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف.
1 / 315.
(3) في السيرة: بداء.
(4) في السيرة: لنكلمك.

بلادا، ولا أقل ماء (1)، ولا أشد عيشا منا.
فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول: أحق هو أو باطل ؟ فإن فعلت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بهذا بعثت [ إليكم ] إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والاخرة، وإن تردوا علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي فإنك تقوم في الاسواق وتلتمس المعايش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم: " ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة.
وإن تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ".
قالوا فاسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال: " ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك " فقالوا: يا محمد ما علم ربك أنا سنجلس
معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به ؟ فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب - فقال [ له ]: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله.
ثم سألوك لانفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله [ ويصدقوك ويتبعوك ] فلم تفعل، [ ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله، فلم تفعل ] ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب.
فوالله لا أو من لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى منه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة ومنشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك (2).
ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته بما طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه (3).
وهذا
__________
(1) في الاصل " مالا " وهو تحريف، وأثبتناه من السيرة.
(2) في السيرة: " أني أصدقك "، وقد أسلم أبو أمية هذا قبل فتح مكة.
(3) الخبر في سيرة ابن هشام ج 1 / 315 وما بعدها.
وما بين معقوفتين في الخبر زيادة استدركت من السيرة.

المجلس الذي اجتمع عليه هؤلاء الملا مجلس ظلم وعدوان وعناد، ولهذا اقتضت الحكمة الالهية، والرحمة الربانية، ألا يجابوا إلى ما سألوا لان الله علم أنهم لا يؤمنون بذلك فيعاجلهم بالعذاب * كما قال الامام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن الاعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا، فقيل له إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن
تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الامم.
قال: " لا بل أستأني بهم " فأنزل الله تعالى: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) [ الاسراء: 59 ] الآية.
وهكذا رواه النسائي من حديث جرير (1).
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عمران بن حكيم، عن ابن عباس.
قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: أدع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، قال وتفعلوا ؟ قالوا نعم قال فدعا فأتاه جبريل فقال إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة، قال: " بل التوبة والرحمة ".
وهذان إسنادان جيدان، وقد جاء مرسلا عن جماعة من التابعين منهم سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغير واحد.
وروى الامام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن المبارك حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد، عن القاسم عن (2) أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عرض علي ربي عزوجل أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت لا يا رب أشبع يوما وأجوع يوما - أو نحو ذلك - فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك " لفظ أحمد.
وقال الترمذي هذا حديث حسن، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني شيخ من أهل مصر (3) - قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة - عن عكرمة عن ابن عباس.
قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلوهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الاول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الانبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله، وقالا إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.
قال فقالت له أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول ما كان من أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث
__________
(1) أخرجه النسائي في التفسير، في السنن الكبرى تحفة الاشراف 4 / 402.
(2) في الاصل ابن أبي أمامة وهو تحريف، والصواب ما أثبتناه وهو القاسم بن عبد الرحمن لم يرو إلا عن أبي أمامة من الصحابة.
(3) في السيرة: حدثني بعض أهل العلم.
وفي دلائل البيهقي: حدثني رجل من أهل مكة

عجيب (1)، وسلوه عن رجل طواف طاف مشارق الارض ومغاربها ما كان [ نبؤه ] (2)، وسلوه عن الروح ما هي ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبراهم بها، فجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا.
فسألوه عما أمروهم به.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخبركم غدا بما سألتم عنه " ولم يستثن.
فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة (3) لا يحدث له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف (4) أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشئ مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عزوجل بسورة [ أصحاب ] (5) الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم [ وخبر ] (5) ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقال الله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) [ الاسراء: 85 ].
وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير مطولا فمن أراده فعليه بكشفه من هناك.
ونزل قوله: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) ثم شرع في تفصيل أمرهم واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء تحقيقا لا تعليقا في قوله: (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت) ثم ذكر قصة موسى لتعلقها بقصة الخضر، ثم ذي القرنين ثم قال: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا) ثم شرح أمره وحكى خبره.
وقال في سورة سبحان: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) أي خلق عجيب من خلقه، وأمر من أمره، قال لها كوني فكانت.
وليس
لكم الاطلاع على كل ما خلقه، وتصوير حقيقته في نفس الامر يصعب عليكم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته، ولهذا قال: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) وقد ثبت في الصحيحين (6) أن اليهود سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فتلا عليهم هذه الآية - فإما أنها نزلت مرة ثانية أو
__________
(1) في السيرة: عجب.
(2) سقطت من الاصل واستدركت من السيرة والدلائل.
(3) قال السهيلي عن موسى بن عقبة إن الوحي إنما أبطأ عنه ثلاثة أيام ثم جاءه جبريل بسورة الكهف.
(4) أرجف أهل مكة: خاضوا في الاخبار السيئة التي من شأنها إيقاع الناس في البلبلة والاضطراب لابعادهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) ما بين معكوفتين سقط من الاصل واستدركت من السيرة ودلائل البيهقي.
(6) أخرجه البخاري في 96 كتاب الاعتصام بالسنة (3) باب ح 7297.
ومسلم في صحيحه في 50 كتاب صفات المنافقين 4 باب ح 32 ص 2152 عن ابن مسعود قال البيهقي: وحديث ابن مسعود، يدل على أن سؤال اليهود عن الروح، ونزول الآية فيه كان بالمدينة.

ذكرها جوابا - وإن كان نزولها متقدما ومن قال إنها إنما نزلت بالمدينة واستثناها من سورة سبحان ففي قوله نظر، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ولما خشي أبو طالب دهم (1) العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تاركه لشئ أبدا حتى يهلك دونه.
فقال: ولما رأيت القوم لا ود فيهم * وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعداوة والاذى * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل وقد حالفوا قوما علينا أظنة * يعضون غيظا خلفنا بالانامل صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة * وأبيض غضب من تراث المقاول (2)
وأحضرت عند البيت رهطي وأخوتي * وأمسكت من أثوابه بالوصائل قياما معا مستقبلين رتاجه * لدى حيث يقضي حلفه كل نافل (3) وحيث ينيخ الاشعرون ركابهم * بمفضى السيول من إساف ونائل موسمة الاعضاد أو قصراتها * مخيسة بين السديس وبازل (4) ترى الودع فيها والرخام وزينة * بأعناقها معقودة كالعثاكل (5) أعوذ برب الناس من كل طاعن * علينا بسوء أو ملح بباطل ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة * ومن ملحق في الدين ما لم نحاول وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراق ليرقى في حراء ونازل وبالبيت حق البيت من بطن مكة * وبالله إن الله ليس بغافل وبالحجر المسود إذ يمسحونه * إذا اكتنفوه بالضحى والاصائل وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل وأشواط بين المروتين إلى الصفا * وما فيهما من صورة وتماثل (6) ومن حج بيت الله من كل راكب * ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
__________
(1) في ابن هشام: دهماء.
(2) عضب: قاطع.
المقاول: الملوك.
يحتمل أن يكون هذا السيف من هبات أو هدايا الملوك لابيه عبد المطلب (3) النافل: المتبرئ.
(4) موسمة: معلمة، والقصرات جمع قصرة: وهي أصل العنق.
والمخيسة: المذللة.
والسديس من الابل: الذي دخل في السنة الثامنة.
والبازل: الذي خرج نابه وذلك في السنة التاسعة.
(5) العثاكل: جمع عثكول وأصلها عثاكيل حذفت الياء للضرورة: وهي الاغصان التي ينبت عليها الثمر.
(6) تماثل: أصلها تماثيل حذفت الياء للضرورة، وهي الصور.

وبالمشعر الاقصى إذا عمدوا له * الال إلى مفضي الشراج القوابل (1)
وتوقافهم فوق الجبال عشية * يقيمون بالايدي صدور الرواحل وليلة جمع والمنازل من منى * وهل فوقها من حرمة ومنازل وجمع إذا ما المقربات أجزنه * سراعا كما يخرجن من وقع وابل وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل وكندة إذ هم بالحصاب عشية * تجيز بهم حجاج بكر بن وائل حليفان شدا عقد ما احتلفا له * وردا عليه عاطفات الوسائل وحطمهم سمر الرماح وسرحه * وشبرقه وخد النعام الجوافل (2) فهل بعد هذا من معاذ لعائذ * وهل من معيذ يتقي الله عادل يطاع بنا أمر العدا ود أننا * يسد بنا أبواب ترك وكابل (3) كذبتم وبيت الله نترك مكة * ونظعن الا أمركم في بلابل كذبتم وبيت الله نبذي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل (4) ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم بالحديد اليكم * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل (5) وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه * من الطعن فعل الانكب المتحامل (6) وإنا لعمر الله إن جد ما أرى * لتلتبسن أسيافنا بالاماثل بكفي فتى مثل الشهاب سميدع * أخي ثقة حامي الحقيقة باسل (7)
__________
(1) المشعر الاقصى: عرفة.
إلال: جبل عرفة قال النابغة: يزرن إلالا سيرهن التدافع وسمي كذلك لان الحجيج إذا رأوه الوا في السير واجتهدوا فيه ليدركوا الموقف.
والشراج: جمع شرج: وهو سيل الماء.
(2) السمر: شجر الطلع.
والصفاح: وهو عرض الجبل.
والسرح: شجر عظام.
والشبرق: نبات يقال ليابسه الحلى، ولرطبه الشبرق.
الوخد: السير السريع.
والجوافل: المسرعة.
(3) في السيرة والاكتفاء: يطاع بنا العدى وودوا لو أننا.
وترك وكابل: جبلان.
(4) في سيرة ابن هشام: نبزى بدل نبذي.
نبزى: نغلب عليه، والمراد هنا: لا نبزى محمدا فحذف لا من جواب القسم.
(5) الروايا: الابل التي تحمل الماء واحدتها رواية.
والصلاصل: المزادات لها صلصلة بالماء.
(6) يركب ردعه: أي يخر صريعا لوجهه.
(7) السميدع: السيد.

شهورا وأياما وحولا محرما * علينا وتأتي حجة بعد قابل (1) وما ترك قوم - لا أبالك - سيدا * يحوط الذمار غير ذرب مواكل (2) وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * نمال (تمال) اليتامى عصمة للارامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في رحمة وفواضل لعمري لقد أجرى أسيد وتكره * إلى بغضنا وجزانا لآكل (3) وعثمان لم يربع علينا وقنقذ * ولكن أطاعا أمر تلك القبائل (4) أطاعا أبيا وابن عبد يغوثهم * ولم يرقبا فينا مقالة قائل (5) كما قد لقينا من سبينع ونوفل * وكل تولى معرضا لم يجامل (6) فان يلفيا أو يمكن الله منهما * نكل لهما صاعا بصاع المكايل وذاك أبو عمرو أبي غير بغضنا * ليظعننا في أهل شاء وجامل يناحي بنا في كل ممسى ومصبح * فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل ويؤلي لنا بالله ما أن يغشنا * بلى قد تراه جهرة غير خائل (7) أضاق عليه بغضنا كل تلعة * من الارض بين أخشب فمجادل
وسائل، أبا الوليد ماذا حبوتنا * بسعيك فينا معرضا كالمخاتل وكنت امرءا ممن يعاش برأيه * ورحمته فينا ولست بجاهل فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح * حسود كذوب مبغض ذي دغاول (8) ومر أبو سفيان عني معرضا * كما مر قيل من عظام المقاول يفر إلى نجد وبرد مياهه * ويزعم أني لست عنكم بغافل ويخبرنا فعل المناصح أنه * شفيق ويخفي عارمات الدواخل أمطعم لم أخذ لك في يوم نجدة * ولا معظم عند الامور الجلائل
__________
(1) في السيرة: مجرما بدل محرما، والحول المجرم: الكامل يقال: تجرم العام والشتاء، وتصرم الصيف.
(2) الذرب: الفاحش النطق.
والمواكل: العاجز الذي يكل أموره كلها إلى غيره.
(3) أسيد وبكره: وهو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
(4) عثمان هو بن عبيدالله أخو طلحة.
وقنفذ: بن عمير جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
(5) أبي: الاخنس بن شريف حليف بني زهرة بن كلاب وسمي الاخنس - وهو علاج - لانه خنس بالقوم يوم بدر (سيرة ابن هشام).
(6) سبيع ابن خالد، أخو بلحرث بن فهر، ونوفل: بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن العدوية.
وكان من شياطين قريش وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة بن عبيدالله في حبل حين أسلما.
(7) في ابن هشام: غير حائل.
(8) الدغاول: الغوائل، وقيل: الامور الفاسدة.

ولا يوم خصم إذ أتوك ألدة * أولى جدل من الخصوم المساجل (1) أمطعم إن القوم ساموك خطة * وإني متى أوكل فلست بوائل جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل يميران قسط لا يخيس شعيرة * له شاهد من نفسه غير عائل (2)
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا * بني خلف قيضا بنا والغياطل (3) ونحن الصميم من ذؤابة هاشم * وآل قصي في الخطوب الاوائل وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا * علينا العدى من كل طمل وخامل (4) فعبد مناف أنتم خير قومكم * فلا تشركوا في أمركم كل واغل لعمري لقد وهنتم وعجزتم * وجئتم بأمر مخطئ للمفاصل وكنتم حديثا حطب قدر وأنتم * الآن أحطاب أقدر ومراجل (5) ليهن بني عبد مناف عقوقنا * وخذلاننا وتركنا في المعاقل فإن نك قوما نتئر ما صنعتم * وتحتلبوها لقحة غير باهل (6) فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا * وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل (7) ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة * إذا ما لجأنا دونهم في المداخل ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم * لكنا أسى عند النساء المطافل فكل صديق وابن أخت نعده * لعمري وجدنا غبة غير طائل سوى أن رهطا من كلاب بن مرة * براء إلينا من معقة خاذل ونعم ابن أخت القوم غير مكذب * زهير حساما مفردا من حمائل (8) أشم من الشم البهاليل ينتمي * إلى حسب في حومة المجد فاضل
__________
(1) المساجل: أصله من المساجلة، وجمعه مسجل بكسر الميم وهو الخصم المدافع وتروى المساحل بالحاء المهملة البلغاء والخطباء.
(2) في ابن هشام: لا يخس: لا ينقص.
ويخيس: من قولهم خاس بالعهد: نقضه.
(3) الغياطل: بنو سهم.
(4) الطمل: الرجل الفاحش، وقيل: اللص.
(5) في السيرة: حطاب بدل أحطاب.
وحطاب جمع حاطب والمراد: كنتم متفقين لا تحطبون إلا لقدور واحدة، فأنتم الآن بخلاف ذلك
(6) لقحة: الناقة ذات اللبن.
والباهل: الناقة التي لا صرار لها على أخلافها فهي مباحة الحلب.
(7) قبله بيتان سقطا من الاصل، وهما في سيرة ابن هشام: وسائط كانت في لؤي بن غالب * نفاهم إلينا كل صقر حلاحل ورهط نفيل شر من وطئ الحصى * وألام حاف من معد وناعل (8) قبله أبيات وردت في ابن هشام ج 1 / 298.

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد * وإخوته دأب المحب المواصل فمن مثله في الناس أي مؤمل * إذا قاسه الحكام عند التفاضل حليم رشيد عادل غير طائش * يوالي إلها ليس عنه بغافل كريم المساعي ماجد وابن ماجد * له إرث مجد ثابت غير ناصل وأيده رب العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير زائل (1) فوالله لولا أن أجئ بسبة * تجر على أشياخنا في المحافل لكنا تبعناه على كل حالة * من الدهر جدا غير قول التهازل لقد علموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعنى بقول الا باطل فاصبح فينا أحمد في أرومة * يقصر عنها سورة المتطاول (2) حدبت بنفسي دونه وحميته * ودافعت عنه بالذرى والكلاكل قال ابن هشام: هذا ما صح لي من هذه القصيدة وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.
قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وابلغ في تأدية المعنى فيها جميعا، وقد أوردها الاموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر والله أعلم.
فصل قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت
كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم (3) ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم، فكان بلال مولى أبي بكر لبعض بني جمح، مولدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الاسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، [ فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ] (4) ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، تعبد اللات والعزى فيقول: - وهو في ذلك - أحد أحد.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب لذلك، وهو يقول أحد أحد، فيقول أحد أحد والله يا بلال، ثم يقبل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بني
__________
(1) هذا البيت والذي قبله سقطا من السيرة.
(2) السورة: بفتح السين: الشدة والبطش، وبضمها: المنزلة.
(3) في ابن هشام: يصيبه.
(4) ما بين معقوفتين سقط من الاصل واستدركت من ابن هشام.
ج 1 / 339.

جمح فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لاتخذنه حنانا (1).
قلت: قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفي بعد البعثة في فترة الوحي، وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول (يا أيها المدثر) فكيف يمر ورقة ببلال، هو يعذب وفيه نظر (2).
ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبي بكر ببلال وهو يعذب، فاشتراه من أمية بعبد له أسود فاعتقه وأراحه من العذاب وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والاماء، منهم بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عميس (3) التي أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها، والنهدية وابنتها اشتراها من بني عبد الدار بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبدا فقال أبو بكر: حل يا أم فلان، فقالت حل أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال فبكم هما ؟ قالت بكذا وكذا.
قال قد أخذتهما
وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها.
قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها ؟ قال: [ أو ] ذلك إن شئتما.
واشترى جارية بني مؤمل - حي من بني عدي - كان عمر يضربها على الاسلام.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله.
قال قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: يا بني إني أراك تعتق ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعنونك (يمنعونك) ويقومون دونك ؟ قال فقال أبو بكر: يا أبة إني إنما أريد ما أريد.
قال: فتحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى) إلى آخر السورة (4).
وقد تقدم ما رواه الامام أحمد وابن ماجه من حديث عاصم بن بهدلة عن زر عن ابن مسعود.
قال أول من أظهر الاسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه [ أبي طالب ]، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.
ورواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا (5).
__________
(1) أي لاجعلن قبره موضع حنان فاتمسح به متبركا.
(2) وقد تقدم التعليق حول وفاة ورقة بعد فترة الوحي، كما جاء في البخاري، وأن ورقة لم يبق إلى إسلام بلال.
فليراجع في مكانه من هذا الجزء.
(3) كذا في الاصول: وفي ابن هشام: أم عبيس، وان التي أصيب بصرها حين أعتقها أبو بكر هي زنيرة - كما عند ابن هشام - فقالت قريش عند ذلك: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى.
فقالت: كذبوا وبيت الله، فرد الله بصرها.
(راجع ترجمتها في الاستيعاب لابن عبد البر على هامش الاصابة 4: 322 والاصابة ج 4 / 311).
(4) الخبر في سيرة ابن هشام 1 / 339 - 340 - 341.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 284 وقال: صحيح الاسناد، ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
وأخرجه أبو نعيم في حلية الاولياء 1 / 149 وابن عبد البر في الاستيعاب.

قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه - وكانوا أهل بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة.
فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول - فيما بلغني -: " صبرا آل ياسر موعدكم الجنة " (1) وقد روى البيهقي عن الحاكم عن إبراهيم بن عصمة العدل، حدثنا السرى بن خزيمة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبي عبيدالله، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: " أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة " (2) فأما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الاسلام.
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد.
قال: أول شهيد كان في أول الاسلام استشهد أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة في قلبها (3).
وهذا مرسل.
قال محمد بن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن (4) رأيك، ولنضعن شرفك.
وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك.
وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به لعنه الله وقبحه.
قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال نعم والله ! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي [ نزل ] به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له، اللات والعزى إلهان من دون الله فيقول نعم ! افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم.
قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدره فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم) [ النحل: 106 ] الآية فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الاهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الاعمش، عن مسلم،
عن مسروق، عن خباب بن الارت.
قال: كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد.
فقلت لا والله لاأكفر بمحمد حتى تموت
__________
(1) سيرة ابن هشام: 1 / 342.
(2) الخبر في دلائل البيهقي 2 / 282 وفيه: أو آل ياسر.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 388 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 293 عن عثمان وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(3) قال البيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أول شهيد كان في الاسلام استشهد أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة في قبلها (ج 2 / 282 - راجع الاستيعاب 4 / 330 على هامش الاصابة، والاصابة 4 / 335).
(4) في نسخة البداية المطبوعة: ولنفلين رأيك، وهو تحريف.
ونفيلن رأيك: أي نقبحنه ونخطئنه .

ثم تبعث.
قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك ؟ فأنزل الله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا) إلى قوله: (ويأتينا فردا) [ مريم: 77 - 80 ] أخرجاه في الصحيحين وغيرهما من طرق عن الاعمش به (1).
وفي لفظ البخاري كنت قينا بمكة، فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فذكر الحديث.
وقال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا بيان واسماعيل (2).
قالا: سمعنا قيسا يقول سمعت خبابا يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت [ يا رسول الله ] ألا تدعو الله [ لنا ] ؟ فقعد وهو محمر وجهه.
فقال: " قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عزوجل " زاد بيان " والذئب على غنمه " وفي رواية " ولكنكم تستعجلون " انفرد به البخاري دون مسلم (3).
وقد روى من وجه آخر عن خباب وهو مختصر من هذا والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وابن
جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب عن خباب.
قال شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة الرمضاء فما أشكانا - يعني في الصلاة - وقال ابن جعفر: فلم يشكنا.
وقال أيضا: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت سعيد بن وهب يقول: سمعت خبابا يقول: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرمضاء فلم يشكنا، قال شعبة يعني في الظهيرة.
ورواه مسلم والنسائي والبيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن وهب عن خباب.
قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء - زاد البيهقي في وجوهنا وأكفنا - فلم يشكنا.
وفي رواية شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا.
وروا ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع عن الاعمش عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب العبدي عن خباب.
قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا.
والذي يقع لي - والله أعلم - أن هذا
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 5 / 110 - 111.
وأخرجه الترمذي في التفسير - تفسير سورة مريم.
وأخرجه مسلم في (50) كتاب المنافقين ح (36).
والبخاري في 34 كتاب البيوع 29 باب ح 2091 وفي 15 كتاب الاجارة (15) باب ح 2275 وفي 44 كتاب الخصومات (10) باب ح 2425.
وفي كتاب التفسير - تفسير سورة مريم 3 باب ح 4732 (فتح الباري).
(2) من البخاري والبيهقي.
وفي نسخ البداية المطبوعة: بنان وهو تحريف، وبيان بن بشر وإسماعيل بن أبي خالد.
(3) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 29 باب ح 3852 عن الحميدي.
وقال البيهقي: وأخرجاه من أوجه آخر عن إسماعيل، والخبر ليس في مسلم إنما خرجه البخاري أيضا في الاكراه عن مسدد فتح الباري 12 / 315 وفي علامات النبوة في الاسلام عن إسماعيل فتح الباري 6 / 619.
وأخرجه أبو داود: في الجهاد عن اسماعيل.
وأحمد في مسنده 5 / 109.

الحديث مختصر من الاول وهو أنهم شكوا إليه صلى الله عليه وسلم ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء، وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم، وغير ذلك من أنواع العذاب كما تقدم
عن ابن إسحاق وغيره، وسألوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم على المشركين أو يستنصر عليهم فوعدهم ذلك ولم ينجزه لهم في الحالة الراهنة وأخبرهم عمن كان قبلهم أنهم كانوا يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم ولا يصرفهم ذلك عن دينهم، ويبشرهم أن الله سيتم هذا الامر ويظهره ويعلنه وينشره وينصره في الاقاليم والآفاق حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.
ولهذا قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في وجوهنا واكفنا فلم يشكنا، أي لم يدع لنا في الساعة الراهنة، فمن استدل بهذا الحديث على عدم الابراد أو على وجوب مباشرة المصلى بالكف كما هو أحد قولي الشافعي ففيه نظر والله أعلم.
باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق وإن أظهروا المخالفة عنادا وحسدا وبغيا وجحودا قال إسحاق بن راهويه: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس.
أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا، قال لم ؟ قال ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله، قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له [ أو أنك كاره له ].
قال وماذا أقول ؟ فوالله مامنكم رجل أعرف بالاشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكر.
قال: إن هذا إلا سحر يؤثر بأثره عن غيره فنزلت: (ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا) [ المدثر: 11 - 13 ] الآيات هكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن عبد الله بن محمد [ بن علي ] الصنعاني بمكة عن إسحاق به.
وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا (1).
فيه أنه قرأ عليه: (إن الله يأمر بالعدل
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 198، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2 / 506 وقال: هذا حديث صحيح الاسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه.

والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) [ النحل: 90 ] وقال البيهقي عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، [ قال ]: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير - أو عكرمة عن ابن عباس - أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم (1) فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا.
فقيل: يا أبا عبد شمس، فقل، واقم لنا رأيا نقوم به (2)، فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع.
فقالوا نقول كاهن ؟ فقال ما هو بكاهن رأيت الكهان.
فما هو بزمزمة الكهان.
فقالوا نقول مجنون ؟ فقال ما هو بمجنون ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
فقالوا (3) نقول شاعر ؟ فقال ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر: برجزه وهزجه، وقريضه ومقبوضه، ومبسوطه فما هو بالشعر.
قالوا فنقول هو ساحر ؟ قال ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجني فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وان أقرب القول لان تقولوا هذا ساحر، فتقولوا هو ساحر يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره وأنزل الله في الوليد: (ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا) [ المدثر: 11 - 13 ] الآيات وفي أولئك النفر (الذين جعلوا القرآن عضين، فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) (4) [ الحجر: 91 - 93 ].
قلت: وفي ذلك قال الله تعالى إخبارا عن جهلهم وقلة عقلهم: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليئتنا بآية كما أرسل الاولون) [ الانبياء: 5 ] فحاروا ماذا يقولون فيه فكل شئ يقولونه باطل، لان من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ.
قال الله تعالى: (أنظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) [ الاسراء: 48 ].
وقال الامام عبد بن حميد في مسنده حدثني أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر عن الاجلح - وهو ابن عبد الله الكندي - عن الذيال بن حرملة الاسدي عن جابر بن عبد الله.
قال: اجتمع قريش يوما فقالوا أنظروا
__________
= وقال البيهقي: وكذلك رواه معمر عن عباد بن منصور عن عكرمة مرسلا، ورواه أيضا معتمر بن سليمان عن أبيه فذكره أتم من ذلك مرسلا.
(1) من البيهقي، وفي نسخة البداية المطبوعة: المواسم وهو تحريف.
(2) في ابن هشام: نقول به بدل نقوم به.
(3) من البيهقي، وفي نسخ البداية المطبوعة: فقال وهو تحريف.
(4) عضين: أي أصنافا.
والخبر رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 198 وما بعدها .

أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه ؟ فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.
فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة (1) قط أشأم على قومه منك فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا.
والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى: أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباه فأختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فرغت ؟ " قال نعم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) إلى أن بلغ: " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) [ فصلت: 2 - 3 ].
فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا ؟ قال لا، فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك ؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.
قالوا: فهل أجابك ؟ فقال نعم ! ثم قال لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم عن الاصم عن عباس الدوري عن يحيى بن معين عن محمد بن فضيل عن الاجلح به.
وفيه كلام، وزاد: وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت وعنده أنه لما قال: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) أمسك عتبة (2) على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه فأتوه.
فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.
فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا.
وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابني بشئ والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم) حتى بلغ: (فان اعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن
__________
(1) السخلة: تطلق على الذكر والانثى من أولاد الضأن.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: عقبة وهو تحريف.

ينزل عليكم العذاب (1).
ثم قال البيهقي: عن الحاكم عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار عن
يونس عن محمد بن إسحاق [ قال: ] حدثني يزيد بن زياد (2) مولى بني هاشم عن محمد بن كعب قال حدثت أن عتبة بن ربيعة (3)، وكان سيدا حليما.
قال - ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد -: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ويكف عنا.
قالوا: بلى يا أبا الوليد ! فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فيما قال له عتبة وفيما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال والملك وغير ذلك.
وقال ابن إسحاق (4) فقال عتبة: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون.
فقالوا: بلى يا أبا الوليد ! فقم إليه وكلمه.
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة (5) في العشيرة والمكان في النسب، وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت [ به ] جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.
فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.
قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا الوليد اسمع ".
قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الامر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت نريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة.
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال نعم ! قال اسمع مني، قال افعل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حم تنزل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها فلما سمع بها عتبة انصت لها وألقى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمدا عليها ليسمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجدها ثم قال: " سمعت يا أبا الوليد ؟ قال سمعت.
قال: " فأنت وذاك " ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله
__________
(1) دلائل البيهقي 2 / 203.
(2) من السيرة ودلائل البيهقي، وفي نسخ البداية المطبوعة: بن أبي زياد وهو تحريف.
(3) عتبة بن ربيعة (2000 ه = 624000 م) بن عبد شمس، أبو الوليد: كبير قريش وأحد ساداتها في الجاهلية.
كان موصوفا بالرأى والحلم والفضل، نافذ القول.
نشأ يتيما في حجر حرب ابن أمية، أول ما عرف منه توسطه للصلح في حرب الفجار.
أدرك الاسلام وطغى فشهد بدرا مع المشركين.
أحاط به علي وحمزة وعبيدة بن الحارث فقتلوه.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: زياد بن إسحاق وهو تصحيف.
(5) في نسخ البداية المطبوعة: الشطر وهو تحريف، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام والسطة: الشرف.

لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
فلما جلسوا إليه قالوا ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي.
خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ [ عظيم ]، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم (1).
ثم ذكر يونس عن ابن إسحاق شعرا قاله أبو طالب يمدح فيه عتبة.
وقال البيهقي (2): أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الاصبهاني أخبرنا أبو قتيبة سلمة بن الفضل الادمي بمكة، حدثنا أبو أيوب أحمد بن بشر الطيالسي، حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا المثنى بن زرعة عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر.
قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة (حم تنزيل من الرحمن الرحيم) أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم أطيعوني في هذا الامر اليوم، وأعصوني فيما بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه.
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
ثم روى البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن ابن إسحاق حدثني الزهري.
قال:
حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والاخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رأكم بعض سفهائكم لاوقعتم في نفسه شيئا.
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، قال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا، فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقالوا لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود.
فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الاخنس بن شريق أخذه عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها [ وأشياء لا أعرفها ولا أعرف ما يراد بها ] (3) فقال الاخنس: وأنا والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال ماذا سمعت، تنازعنا
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام ج 1 / 314 ودلائل البيهقي 2 / 204 - 205 وما بين معقوفتين في الحديث من السيرة والدلائل.
(2) دلائل البيهقي 2 / 206.
(3) ما بين معقوفتين سقط من الاصل والدلائل واستدرك لمقتضى السياق من الاكتفاء للكلاعي.

نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، واعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نسمع (1) به أبدا ولا نصدقه.
فقام عنه الاخنس بن شريق ثم قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس حدثنا أحمد حدثنا يونس عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن المغيرة بن شعبة.
قال: إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في
بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي جهل: " يا أبا الحكم، هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله ".
فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا ؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت ؟ فنحن نشهد أن قد بلغت ؟ فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك (2).
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقبل علي فقال: والله إني لاعلم أن ما يقول حق، ولكن [ يمنعني ] شئ.
إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة.
فقلنا نعم، ثم قالوا فينا السقاية، فقلنا نعم.
ثم قالوا فينا الندوة، فقلنا نعم.
ثم قالوا فينا اللواء، فقلنا نعم.
ثم أطعموا وأطعمنا.
حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي، والله لا أفعل (3).
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الاصم، حدثنا محمد بن خالد، حدثنا أحمد بن خلف، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق.
قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان، وهما جالسان.
فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بني عبد شمس.
قال أبو سفيان: وتعجب أن يكون منا نبي ؟ فالنبي يكون فيمن أقل منا وأذل.
فقال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع.
فأتاهما فقال: " أما أنت يا أبا سفيان، فما لله ورسوله غضبت ولكنك حميت للاصل.
وأما أنت يا أبا الحكم، فوالله لتضحكن قليلا ولتبكين كثيرا " فقال: بئسما تعدني يا ابن أخي من نبوتك.
هذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة.
وقول أبي جهل - لعنه الله - كما قال الله تعالى مخبرا عنه وعن أضرابه: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا، أهذا الذي بعث الله رسولا ؟ إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها.
وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) [ الفرقان: 41 - 42 ].
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) [ الاسراء: 110 ] قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا
__________
(1) في الدلائل: لا نؤمن به.
(2) في الدلائل: ما اتبعتك، وهو مناسب أكثر.
(3) دلائل النبوة 2 / 207.

القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به، قال فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن (ولا تخافت بها) عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك (وابتغ بين ذلك سبيلا) وهكذا رواه صاحبا الصحيح من حديث أبي بشر جعفر بن أبي حية به (1).
وقال محمد بن إسحاق (2): حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن - وهو يصلي - تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله بعض ما يتلو، وهو يصلي، استرق السمع، دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا، فأنزل الله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك) فيتفرقوا عنك (ولا تخافت بها) فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به (وابتغ بين ذلك سبيلا).
باب هجرة أصحاب رسول الله، من مكة إلى أرض الحبشة قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين، وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد.
والاهانة البالغة.
وكان الله عزوجل قد حجرهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنعه بعمه أبي طالب، كما تقدم تفصيله ولله الحمد والمنة.
وروى الواقدي أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة (3)، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة.
وهم عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو حذيفة بن عتبة، وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام،
ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وحاطب بن عمرو (4)، وسهيل بن بيضاء، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 23، 215.
(2) سيرة ابن هشام ج 1 / 335.
(3) نقل البيهقي في الدلائل قال: وأما الهجرة الثانية وهي فيما زعم الواقدي سنة خمس من مبعث النبي 2 / 297.
ووافق الطبري الواقدي في أن مخرجهم في الهجرة الاولى كان في رجب في السنة الخامسة من حين نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، 2 / 221 دار القاموس الحديث.
ويرى البيهقي أن الهجرة الاولى اقتصرت على عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم راجع الدلائل ج 2 / 297.
(4) كذا في الطبري، وفي ابن هشام: يقال: أبو حاطب بن عمرو.

أجمعين.
قال ابن جرير وقال آخرون بل كانوا اثنين وثمانين رجلا، سوى نسائهم وأبنائهم، وعمار بن ياسر، نشك.
فإن كان فيهم فقد كانوا ثلاثة وثمانين رجلا.
وقال محمد بن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عزوجل، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء.
قال لهم: " لو خرجتم إلى أرض الحبشة ؟ فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق - حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه " فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم.
فكانت أول هجرة كانت في الاسلام فكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان، وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وكذا روى البيهقي من حديث يعقوب بن سفيان عن عباس العنبري عن بشر بن موسى عن الحسن بن زياد البرجمي، حدثنا قتادة.
قال: أول من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه وسمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة - يعني أنس بن مالك - يقول: خرج
عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد قد رأيت ختنك ومعه امرأته.
قال: " على أي حال رأيتهما ؟ " قالت رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة (2)، وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صحبهما الله، أن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام " (3).
قال ابن إسحاق: وأبو حذيفة بن عتبة، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو - وولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة - والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة - وولدت له بها زينب - وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة - حليف آل الخطاب، وهو من بني عنز بن وائل وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو - ويقال أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر - وهو أول من قدمها فيما قيل - وسهيل بن بيضاء - فهؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة فيما بلغني.
قال ابن هشام.
وكان عليهم عثمان بن مظعون، فيما ذكر بعض أهل العلم.
قال ابن إسحاق: ثم خرج جعفر بن أبي طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس، وولدت له بها عبد الله بن جعفر.
وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة.
__________
(1) سيرة ابن هشام 1 / 344.
(2) في البيهقي: الدبانة.
(3) دلائل البيهقي 2 / 297 وذكر الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 80 - 81 وقال: رواه الطبراني وفيه عثمان ابن خالد العثماني وهو متروك.

وقد زعم موسى بن عقبة أن الهجرة الاولى إلى أرض الحبشة كانت حين دخل أبو طالب ومن حالفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعب، وفي هذا نظر والله أعلم.
وزعم أن خروج جعفر بن أبي طالب إنما كان في الهجرة الثانية إليها.
وذلك بعد عود بعض من كان خرج أولا، حين بلغهم أن
المشركين أسلموا وصلوا، فلما قدموا مكة - وكان فيمن قدم عثمان بن مظعون - فلم يجدوا ما أخبروا به من إسلام المشركين صحيحا، فرجع من رجع منهم ومكث آخرون بمكة.
وخرج آخرون من المسلمين إلى أرض الحبشة، وهي الهجرة الثانية - كما سيأتي بيانه.
قال موسى بن عقبة: وكان جعفر بن أبي طالب فيمن خرج ثانيا.
وما ذكره ابن إسحاق من خروجه في الرعيل الاول أظهر كما سيأتي بيانه والله أعلم.
لكنه كان في زمرة ثانية من المهاجرين أولا، وهو المقدم عليهم والمترجم عنهما عند النجاشي وغيره، كما سنورده مبسوطا.
ثم إن ابن إسحاق سرد الخارجين صحبة جعفر رضي الله عنهم.
وهم عمرو بن سعيد بن العاص، وامرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث [ بن حمل ] بن شق الكناني.
وأخوه خالد، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعي.
وولدت له بها سعيدا، وأمة التي تزوجها بعد ذلك الزبير، فولدت له عمرا وخالدا.
قال وعبد الله بن جحش بن رئاب، وأخوه عبيد الله، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وقيس بن عبد الله من بني أسد بن خزيمة، وامرأته بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وهو من موالي سعيد بن العاص قال ابن هشام: وهو من دوس.
قال وأبو موسى [ الاشعري ] (1) عبد الله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة.
وسنتكلم معه في هذا.
وعتبة بن غزوان، ويزيد بن زمعة بن الاسود، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد، وطليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير (2) بن عبد [ بن قصي ] (3)، وسويبط بن سعد بن حرملة (4)، وجهم بن قيس العبدوي (5)، ومعه امرأته أم حرملة بنت عبد الاسود بن جذيمة (6)، وولداه عمرو بن جهم وخزيمة بن جهم، وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار، وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة، وعامر بن أبي وقاص أخو سعد، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف بن ضبيرة.
وولدت بها عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة، والمقداد بن الاسود، والحارث بن خالد بن صخر التيمي، وامرأته ريطة بنت الحارث بن جبلة (7)، وولدت له بها موسى وعائشة وزينب وفاطمة، وعمرو بن عثمان بن
__________
(1) من سيرة ابن هشام.
(2) من سيرة ابن هشام، وفي نسخ البداية المطبوعة والاستيعاب: كثير.
(3) زيادة من شرح السيرة لابي ذر.
(4) من السيرة وفي نسخ البداية المطبوعة حريملة وهو تحريف.
(5) العبدوي نسبة إلى عبدالدار، وهو بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
(6) من السيرة وفي نسخ البداية المطبوعة: خزيمة.
(7) في السيرة: جبلة.

عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وشماس بن عثمان بن الشريد المخزومي - قال (1) وإنما سمي شماسا لحسنه وأصل اسمه عثمان بن عثمان - وهبار بن سفيان بن عبد الاسد المخزومي، وأخوه عبد الله، وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو (2) بن مخزوم، وسلمة بن هشام بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة، ومعتب بن عوف بن عامر - ويقال له عيهامة - وهو من حلفاء بني مخزوم.
قال: وقدامة وعبد الله أخوا عثمان بن مظعون، والسائب بن عثمان بن مظعون، وحاطب بن الحارث بن معمر، ومعه امرأته فاطمة بنت المجلل، وابناه منها محمد والحارث، وأخوه خطاب، وامرأته فكيهة بنت يسار، وسفيان بن معمر بن حبيب، وامرأته حسنة، وابناه منها جابر وجنادة، وابنها من غيره، وهو شرحبيل بن عبد الله - أحد الغوث بن مزاحم بن تميم، وهو الذي يقال له شرحبيل بن حسنة (3)، وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح، وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وعبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد (4) بن سهم، وهشام بن العاص بن وائل بن سعيد (4)، وقيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وأخوه عبد الله، وأبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدي، وإخوته الحارث ومعمر والسائب وبشر وسعيد ابناء الحارث، وسعيد بن قيس بن عدي لامه وهو سعيد بن عمرو التميمي، وعمير بن رئاب بن حذيفة بن مهشم بن سعيد (4) بن سهم، وحليف لبني سهم: وهو محمية بن جزء الزبيدي، ومعمر بن عبد الله العدوي، وعروة بن عبد العزى،
وعدي بن نضلة بن عبد العزى، وابنه النعمان، وعبد الله بن مخرمة العامري، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسليط بن عمرو، وأخوه السكران، ومعه زوجته سؤدة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة، وامرأته عمرة بنت السعدى، وأبو حاطب بن عمرو العامري، وحليفهم سعد بن خولة - وهو من اليمن، وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وسهيل بن بيضاء - وهي أمه، واسمها دعد بنت جحدم بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن ضبة بن الحارث، وعمرو بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث، وعياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة، وعثمان بن عبد غنم بن زهير أخوات، وسعيد (5) بن عبد قيس بن لقيط، وأخوه الحارث الفهريون.
قال ابن إسحاق: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم
__________
(1) القائل: ابن هشام.
كما في السيرة.
(2) في السيرة: عمر.
(3) قاله ابن هشام.
(4) " سعد " في السيرة وقد تقدم التعليق حوله فليراجع.
(5) في السيرة: سعد.

الذين خرجوا بهم صغارا وولدوا بها - ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه.
قلت: وذكر ابن إسحاق أبا موسى الاشعري فيمن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة غريب جدا.
وقد قال الامام أحمد حدثنا حسن بن موسى سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود.
قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن نحوا من ثمانين رجلا، فيهم عبد الله بن مسعود وجعفر، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن
مظعون، وأبو موسى (1) فأتوا النجاشي.
وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد (2) بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا.
قال فأين هم ؟ قالا: في أرضك، فابعث إليهم، فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه، فسلم ولم يسجد، فقالوا له: مالك لا تسجد للملك ؟ قال إنا لا نسجد إلا لله عزوجل قال وما ذاك ؟ قال إن الله بعث إلينا رسولا ثم أمرنا أن لا نسجد لاحد إلا لله عزوجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم، قال فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه ؟ قال نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد.
قال فرفع عودا من الارض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنه الذي نجد في الانجيل.
وأنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم، أنزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لاتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه.
وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا.
وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته.
وهذا إسناد جيد قوي وسياق حسن.
وفيه ما يقتضي أن أبا موسى كان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة،
__________
(1) سقط اسم أبي موسى من روايتي البيهقي وعيون الاثر.
وسقط اسم عبد الله بن عرفطة من رواية البيهقي.
(راجع عيون الاثر 1 / 118 دلائل البيهقي 2 / 298).
(2) في رواية ابن اسحاق: لم يذكر مع عمرو إلا عبد الله بن أبي ربيعة في رواية زياد، وفي رواية ابن بكير لعمارة بن الوليد ذكر.
وقيل عمرو بن العاص ذهب إلى الحبشة مرتين مرة قبل بدر مع عمارة ومرة بعد بدر ومعه عبد الله بن أبي ربيعة.
ولعمرو وعمارة خلال وجودهما في الحبشة قصة طويلة رواها كثيرون منهم أبو الفرج الاصفهاني في كتاب الاغاني.
وعبد الله بن أبي ربيعة كان اسمه بحيرى فسماه رسول الله حين أسلم عبد الله وهو والد عمر بن عبد الله بن أبي
ربيعة الشاعر مات في خلافة عثمان.

إن لم يكن ذكره مدرجا من بعض الرواة والله أعلم.
وقد روي عن أبي إسحاق السبيعي من وجه آخر.
فقال الحافظ أبو نعيم في الدلائل حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل.
وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا الحسن بن علوية القطان حدثنا عباد بن موسى الختلي، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا إسرائيل.
وحدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه حدثنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - حدثنا عبيدالله (1) بن موسى، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى.
قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي (2)، فبلغ ذلك قريشا فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية، فقبلها وسجدا له ثم قال عمرو بن العاص: إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك.
قال لهم النجاشي في أرضي ؟ قالا نعم ! فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد.
أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي، وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه، وعمارة عن يساره.
والقسيسون جلوس سماطين.
وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.
فلما انتهينا بدرنا (3) من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك.
فقال جعفر: لا نسجد إلا لله عزوجل.
فلما انتهينا إلى النجاشي قال ما منعك أن تسجد ؟ قال لا نسجد إلا لله.
فقال له النجاشي: وما ذاك ؟ قال إن الله بعث فينا رسولا - وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر.
فأعجب النجاشي قوله، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص، قال: أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم، فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم ؟ قال يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته
أخرجه من العذراء البتول التي لم يقر بها بشر ولم يفرضها ولد: فتناول النجاشي عودا من الارض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه.
مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى.
ولولا ما أنا فيه من الملك لاتيته حتى أقبل نعليه، أمكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعام وكسوة.
وقال ردوا على هذين هديتهما، وكان عمرو بن العاص رجلا قصيرا، وكان عمارة رجلا جميلا، وكانا أقبلا في البحر، فشربا ومع عمرو امرأته، فلما شربا قال عمارة لعمرو مر امرأتك فلتقبلني.
فقال له عمرو: ألا تستحي ؟ فأخذ عمارة عمرا فرمي به في البحر، فجعل عمرو: يناشد عمارة
__________
(1) في دلائل النبوة لابي نعيم ص 205: عبد الله.
(2) في دلائل أبي نعيم ودلائل البيهقي أرض الحبشة.
(3) في دلائل البيهقي: فزبرنا.

حتى أدخله السفينة، فحقد عليه عمرو في ذلك.
فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك، فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في إحليله فطار مع الوحش.
وهكذا رواه الحافظ البيهقي في الدلائل من طريق أبي على الحسن بن سلام السواق عن عبيدالله بن موسى فذكر بإسناده مثله إلى قوله: فأمر لنا بطعام وكسوة قال وهذا إسناد صحيح وظاهره يدل على أن أبا موسى كان بمكة، وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة، والصحيح عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى: أنهم بلغهم مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم باليمن فخرجوا مهاجرين في بعض وخمسين رجلا في سفينة، فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة، فوافقوا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عندهم، فأمره جعفر بالاقامة، فأقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر.
قال وأبو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي، فأخبر عنه.
قال ولعل الراوي وهم في قوله: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق والله أعلم (1).
وهكذا رواه البخاري في باب هجرة الحبشة.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا
بريد (2) بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى.
قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فأقمنا معه حتى قدمنا فوافينا (3) النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لكم أنتم أهل السفينة هجرتان " وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب وأبي عامر عبد الله بن براد [ بن يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى ] كلاهما عن أبي أسامة به، وروياه في مواضع أخر مطولا والله أعلم.
وأما قصة جعفر مع النجاشي فإن الحافظ ابن عساكر رواها في ترجمة جعفر بن أبي طالب من تاريخه من رواية نفسه، ومن رواية عمرو بن العاص.
وعلى يديهما جرى الحديث، ومن رواية ابن مسعود كما تقدم.
وأم سلمة كما سيأتي.
فأما رواية جعفر فإنها عزيزة جدا.
رواها ابن عساكر عن أبي القاسم السمرقندي عن أبي الحسين بن النقور عن أبي طاهر المخلص عن أبي القاسم البغوي.
قال حدثنا أبو عبد الرحمن الجعفي عن عبد الله بن عمر بن أبان حدثنا أسد بن عمرو البجلي عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه.
قال: بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية من أبي سفيان إلى النجاشي.
فقالوا له - ونحن عنده -: قد صار إليك ناس من سفلتنا (4) وسفهائنا، فادفعهم إلينا، قال: لا حتى أسمع كلامهم.
قال فبعث إلينا
__________
(1) دلائل النبوة ج 1 / 299 - 300.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: يزيد وهو تحريف، وما أثبتناه من البخاري.
(3) في البخاري: فوافقنا.
(4) قال الاستاذ حسن في تاريخ الاسلام السياسي 1 / 87: " لم يفكر الرسول في هجرة المسلمين إلى إحدى القبائل العربية، لانها كانت ترفض دعوته في مواسم الحج مجاملة لقريش أو تمسكا بدينها الوثني، وكذلك لم يفكر في =

فقال: ما يقول هؤلاء ؟ قال قلنا هؤلاء قوم يعبدون الاوثان، وإن الله بعث إلينا رسولا فآمنا به وصدقناه.
فقال لهم النجاشي أعبيد هم لكم ؟ قالوا: لا.
فقال: فلكم عليهم دين ؟ قالوا لا.
قال فخلوا سبيلهم.
قال فخرجنا من عنده فقال عمرو بن العاص إن هؤلاء يقولون في عيسى غير
ما تقول، قال إن لم يقولوا في عيسى مثل قولي لم أدعهم في أرضي ساعة من نهار.
فأرسل إلينا فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الاولى، قال ما يقول صاحبكم في عيسى بن مريم ؟ قلنا يقول: هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول، قال فأرسل فقال ادعوا لي فلان القس، وفلان الراهب.
فأتاه ناس منهم فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقالوا أنت أعلمنا، فما تقول ؟ قال النجاشي - وأخذ شيئا من الارض - قال ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا، ثم قال أيؤذيكم أحدا ؟ قالوا: نعم ! فنادى مناد من آذى أحدا منهم فاغرموه أربعة دراهم ثم قال أيكفيكم ؟ قلنا لا، فأضعفها.
قال فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وظهر بها قلنا له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر وهاجر إلى المدينة، وقتل الذين كنا حدثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل إليه، فردنا.
قال نعم ! فحملنا وزودنا.
ثم قال أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا صاحبي معكم أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله.
وقل له يستغفر لي.
قال جعفر: فخرجنا حتى أتينا المدينة فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنقني، ثم قال: " ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر ؟ " ووافق ذلك فتح خيبر، ثم جلس فقال رسول النجاشي: هذا جعفر فسله ما صنع به صاحبنا ؟ فقال نعم فعل بنا كذا وكذا وحملنا وزودنا، وشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وقال لي قل له يستغفر لي.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم دعا ثلاث مرات " اللهم اغفر للنجاشي " فقال المسلمون آمين.
ثم قال جعفر فقلت للرسول انطلق فأخبر صاحبك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال ابن عساكر حسن غريب.
وأما رواية أم سلمة فقد قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، عن أم سلمة رضي الله عنها.
أنها قالت: لما ضاقت مكة [ علينا ] وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم،
__________
= الهجرة إلى مواطن أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين، لان كلا من الجاليتين اليهودية والمسيحية كانت تنازع الاخرى وتنافسها في النفوذ الادبي ببلاد العرب، فهما والحالة هذه لا تقبلان منافسا ثالثا خصوصا إذا كان من العرب الذين كانوا يحتقرونهم، أما اليمن وكانت مستعمرة للفرس ولم يدينوا بدين سماوي فلم يطمئن الرسول
إلى الالتجاء إليها، وكذلك كان شأن الحيرة التي كانت - في ذلك الوقت - بعيدة عن مكة أما الشام فهي بعيدة كذلك.
فضلا عما كان يسودهما - الشام والحيرة - من الاضطراب، إلى جانب أن لقريش صلات وثيقة ومصالح متبادلة وزيارات متبادلة.
لذلك اتجه الرسول إلى بلاد الحبشة لما كان يعرف في ملكها من العدل والتسامح وقال بروكلمان ص 40: إن النبي كان لا يعتبر أن دينه - في ذلك الوقت - يختلف اختلافا كبيرا عن النصرانية فالنجاشي أقرب ممثل سياسي للنصرانية يمكن أن يحتمي به.

وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه لا يصل إليه شئ مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه " فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلما.
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا، غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجونا من بلاده، وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيئوا له هدية على حدة، وقالوا لهما ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم أدفعوا إليه هداياه فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.
فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، فكلموه فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا (1)، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم.
فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل فقالوا نفعل.
ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدون إليه من مكة الادم - وذكر موسى بن عقبة أنهم أهدوا إليه فرسا وجبة ديباج - فلما أدخلوا عليه هداياه.
قالوا له: أيها الملك: إن فتية منا سفهاء (2) فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فانهم أعلا بهم عينا (3)، فانهم لن
يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك.
فغضب ثم قال: لا لعمر الله ! لا أردهم عليهم حتى أدعوهم، فأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجأوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أدخل (4) بينهم وبينهم، ولم أنعم عينا - [ وذكر موسى بن عقبة أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردهم إليهم.
فقال: لا والله ! حتى أسمع كلامهم وأعلم على أي شئ هم عليه ؟ فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له.
فقال: أيها الرهط ألا تحدثوني مالكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم ؟ فأخبروني ماذا تقولون في عيسى وما دينكم ؟ أنصارى أنتم ؟ قالوا: لا.
قال أفيهود أنتم ؟ قالوا: لا.
قال: فعلى دين قومكم ؟ قالوا: لا.
قال فما دينكم ؟ قالوا: الاسلام.
قال وما الاسلام ؟ قالوا نعبد الله لا نشرك به شيئا.
قال: من جاءكم بهذا ؟ قالوا جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء وأداء الامانة، ونهانا أن نعبد
__________
(1) في الدلائل للبيهقي: في سفهاء من سفهائنا.
(2) في نسخة من الدلائل: من سفهائنا.
(3) في الدلائل: فهم أعلاهم عينا.
أي أبصر بهم.
أي عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم.
(4) في الدلائل: ولم أخل.
والعبارة في ابن هشام: وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

الاوثان وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له، فصدقناه وعرفنا كلام الله وعلمنا أن الذي جاء به من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا وعادوا النبي الصادق وكذبوه وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادة الاوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا.
قال: والله إن هذا لمن المشكاة (1) التي خرج منها أمر موسى.
قال جعفر: وأما التحية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام، وأمرنا بذلك فحييناك بالذي يحيي بعضنا بعضا.
وأما عيسى ابن مريم فعبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وابن العذراء البتول.
فأخذ عودا وقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا
وزن هذا العود.
فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك.
فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس في حين رد على ملكي فأطع الناس في دين الله.
معاذ الله من ذلك.
وقال يونس عن ابن إسحاق ] (2) فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شئ أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم.
فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا ماذا تقولون ؟ فقالوا وماذا نقول، نقول والله ما نعرف.
وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن من ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه ؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية، ولا نصرانية.
فقال له جعفر: أيها الملك كنا قوما على الشرك نعبد الاوثان ونأكل الميتة ونسئ الجوار، يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئا ولا نحرمه.
فبعث الله إلينا نبيا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له ونصل الارحام ونحمي الجوار ونصلي لله عزوجل، ونصوم له، ولا نعبد غيره.
وقال زياد عن ابن إسحاق: فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الارحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قال (3) - فعدد عليه أمور الاسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الاوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما
__________
(1) المشكاة: قال صاحب لسان العرب: " وفي حديث النجاشي: إنما يخرج من مشكاة واحدة.
المشكاة: الكوة غير النافذة، وقيل هي الحديدة التي يعلق عليها القنديل " أراد أن القرآن والانجيل كلام الله تعالى، وأنهما من شئ واحد.
(2) ما بين معقوفتين لم يرد في ابن هشام ولا في الدلائل.
(3) في ابن هشام: قالت، أي أم سلمة، عدوا: في الاصل وأثبتنا ما في ابن هشام.

قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال [ له ] النجاشي: هل معك شئ مما جاء به [ عن الله ] ؟ [ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله ] (1).
فقال له جعفر ! نعم: قال هلم فاتل علي مما جاء به، فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم [ حين سمعوا ما تلا عليهم ].
ثم قال [ لهم ]: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عينا (2).
فخرجنا من عنده وكان أتقى (3) الرجلين فينا عبد الله بن [ أبي ] ربيعة.
فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما استأصل به خضراءهم (4)، ولاخبرته أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد.
فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحما ولهم حقا.
فقال: والله لافعلن ! فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عنه.
فبعث والله إليهم ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم (5) عنه ؟ فقالوا: نقول والله الذي قاله الله فيه، والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فدلى النجاشي يده إلى الارض فأخذ عودا (6) بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد.
فتناخرت بطارقته.
فقال: وإن تناخرتم والله ! اذهبوا فأنتم سيوم في الارض - السيوم الآمنون في الارض، ومن سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ثلاثا ما أحب أن لي دبرا وإني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسانهم الذهب.
وقال زياد عن ابن إسحاق ما أحب أن لي دبرا من ذهب.
قال ابن هشام: ويقال زبرا (7) وهو الجبل بلغتهم.
ثم قال النجاشي:
فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه.
ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها.
وأخرجا من بلادي فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.
قالت: فأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم نشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في
__________
(1) سقطت من ابن هشام واستدركت من دلائل النبوة للبيهقي.
(2) العبارة في ابن هشام: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
(3) من ابن هشام، وفي الاصول ونسخ البداية المطبوعة: أبقى وهو تحريف.
وفي الدلائل: أبقى.
(4) خضراءهم: شجرتهم التي منها تفرعوا.
(5) في السيرة والدلائل: سألكم.
(6) في الدلائل: عويدا.
(7) في السيرة: ويقال: دبرا من ذهب، والدبر: الجبل.

ملكه، فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط هو أشد منه، فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعوا الله ونستنصره للنجاشي فخرج إليه سائرا فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون ؟ وقال الزبير - وكان من أحدثهم سنا - أنا، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه.
فجائا الزبير فجعل يليح (1) لنا بردائه ويقول ألا فابشروا، فقد أظهر الله النجاشي.
قلت: فوالله ما علمنا [ أننا ] فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي (2) ثم اقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة، وأقام من أقام.
قال الزهري: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة.
فقال عروة: أتدري ما قوله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس
فيه ؟ فقلت لا ! ما حدثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة.
فقال عروة: فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا ولم يكن لاب النجاشي ولد غير النجاشي فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإن له اثنا عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك، لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف، فعدوا عليه فقتلوه وملكوا أخاه.
فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه فلا يدبر أمره غيره، وكان لبيبا حازما من الرجال، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا قد غلب هذا الغلام على أمر عمه فما نأمن أن يملكه علينا وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله، فكلموه فيه فليقتله أو ليخرجنه من بلادنا، فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الفتى منك، وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه وأنا لا نأمن أن يملك علينا فيقتلنا، فأما أن تقتله وإما أن تخرجه من بلادنا.
قال: ويحكم قتلتم أباه بالامس واقتله اليوم.
بل أخرجه من بلادكم.
فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من تاجر من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة فانطلق به فلما كان العشى هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته ففزعوا إلى ولده فإذا هم محمقون (3) ليس في أحد منهم خير فمرج (4) على الحبشة
__________
(1) في ابن هشام: يلمع.
(2) العبارة في ابن هشام: ومكن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
والخبر بطوله في السيرة ج 1 / 357 - 361 بتغيير طفيف في الالفاظ، وفي دلائل النبوة للبيهقي ج 2 / 303 - 304.
(3) محمقون: المحمق الذي يلد الحمقى.
(4) مرج: قلق واضطراب أمرهم.
وفي هذا دليل على طول المدة في مغيب النشاجي عنهم، راجع الروض الآنف.

أمرهم.
فقال بعضهم لبعض تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي بعتم الغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب، فخرجوا في طلبه فأدركوه فردوه فعقدوا عليه تاجه واجلسوه على سريره وملكوه، فقال التاجر: ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي، فقالوا: لا نعطيك.
فقال: إذا والله لاكلمنه، فمشى إليه فكلمه فقال أيها الملك إني ابتعت غلاما فقبض مني الذي باعوه ثمنه، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي ولم يردوا علي مالي، فكان أول ما خبر به من صلابة حكمه وعدله أن قال: لتردن عليه ماله، أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء.
فقالوا: بل نعطيه ماله فأعطوه إياه، فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة حين رد علي ملكي، وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه (1).
وقال موسى بن عقبة: كان أبو النجاشي ملك الحبشة، فمات والنجاشي غلام صغير فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك، فرغب أخوه في الملك فباع النجاشي من بعض التجار (2)، فمات عمه من ليلته وقضى، فردت الحبشة النجاشي حتى وضعوا التاج على رأسه هكذا ذكره مختصرا، وسياق ابن إسحق أحسن وأبسط فالله أعلم.
والذي وقع في سياق ابن إسحاق إنما هو ذكر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، والذي ذكره موسى بن عقبة والاموي وغير واحد أنهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة.
وهكذا تقدم في حديث ابن مسعود وأبي موسى الاشعري.
والمقصود أنهما حين خرجا من مكة كانت زوجة عمر ومعه وعمارة كان شابا حسنا فاصطحبا في السفينة وكان عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص، فألقى عمرا في البحر ليهلكه فسبح حتى رجع إليها.
فقال له عمارة: لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك، فحقد عمرو عليه فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشي فوشى به عمرو فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله وساح في البرية مع الوحوش.
- وقد ذكر الاموي - قصة مطولة جدا وأنه عاش إلى زمن أمارة عمر بن الخطاب، وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه فجعل يقول أرسلني أرسلني وإلا
مت فلما لم يرسله مات من ساعته فالله أعلم.
وقد قيل أن قريشا بعثت إلى النجاشي في أمر المهاجرين مرتين الاول مع عمرو بن العاص وعمارة والثانية مع عمرو، وعبد الله بن أبي ربيعة.
نص عليه أبو نعيم في الدلائل والله أعلم.
وقد قيل: إن البعثة الثانية كانت بعد وقعة بدر قاله
__________
(1) سيرة ابن هشام 1 / 364 ودلائل البيهقي 1 / 301.
(2) الخبر في دلائل البيهقي من طريق اسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة 2 / 295 وفيه: فقال التاجر: دعه حتى إذا أردت الخروج فآذني فأدفعه إليك فآذنه التاجر بخروجه فأرسل بالنجاشي حتى أوقفه عند السفينة ولا يدري النجاشي ما يراد به، فأخذ الله عزوجل عمه الذي باعه صعقا فمات.

الزهري، لينالوا ممن هناك ثأرا فلم يجبهم النجاشي رضي الله عنه وأرضاه إلى شئ مما سألوا فالله أعلم.
وقد ذكر زياد (1) عن ابن إسحاق: أن أبا طالب لما رأى ذلك من صنيع قريش كتب إلى النجاشي أبياتا يحضه فيها على العدل وعلى الاحسان إلى من نزل عنده من قومه: ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر * وعمرو وأعداء العدو الاقارب وما نالت أفعال النجاشي جعفرا * وأصحابه أو عاق ذلك شاغب (2) ونعلم، ابيت اللعن، أنك ماجد * كريم فلا يشقى إليك المجانب (3) ونعلم بأن الله زادك بسطة * وأسباب خير كلها بك لازب (4) وقال يونس (5) عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير.
قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمشهور أن جعفرا هو المترجم رضي الله عنهم.
وقال زياد البكائي عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.
قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور، ورواه أبو داود عن محمد بن عمرو الرازي عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق به لما مات النجاشي رضي الله عنه كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
وقال زياد عن محمد بن إسحاق:
حدثني جعفر بن محمد عن أبيه.
قال اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا.
وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا.
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قبائه عند المنكب الايمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له.
فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم ؟ قالوا: بلى ! قال: فكيف أنتم بسيرتي فيكم ؟ قالوا خير سيرة.
قال: فما بكم ؟ قالوا فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبده ورسوله.
قال ؟ فما تقولون أنتم في عيسى ؟ قالوا:
__________
(1) هو زياد البكائي راوي السيرة عن ابن هشام.
(2) في ابن هشام: وهل نالت، بدل وما نالت، وفي نسخة لابن هشام: فهل نال أفعال.
(3) في ابن هشام: لديك بدلا من إليك.
أبيت اللعن: تحية كانوا يحيون بها الملوك في الجاهلية.
(4) بعده في ابن هشام: وأنك فيض ذو سجال غزيرة * ينال الاعادي نفعها والاقارب (5) يونس: هو يونس بن بكير راوي السيرة عن ابن هشام.

يقول هو ابن الله.
فقال النجاشي - ووضع يده على صدره على قبائه -: وهو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا، وإنما يعني على ما كتب، فرضوا وانصرفوا.
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات (1).
وقال البخاري: موت النجاشي: حدثنا أبو الربيع حدثنا ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن جابر.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين مات النجاشي - مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة.
(2).
وروى ذلك من حديث أنس بن مالك وابن مسعود وغير واحد
وفي بعض الروايات تسميته أصحمة، وفي رواية مصحمة وهو أصحمة بن بحر (3) وكان عبدا صالحا لبيبا زكيا وكان عادلا عالما رضي الله عنه وأرضاه.
وقال يونس عن ابن إسحاق اسم النجاشي مصحمة وفي نسخة صححها البيهقي أصحم وهو بالعربية عطية قال وإنما النجاشي اسم الملك: كقولك كسرى، هرقل.
قلت: كذا ولعله يريد به قيصر فإنه علم لكل من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم، وكسرى علم على من ملك الفرس، وفرعون علم لمن ملك مصر كافة، والمقوقس لمن ملك الاسكندرية وتبع لمن ملك اليمن والشحر، والنجاشي لمن ملك الحبشة وبطليموس لمن ملك اليونان وقيل الهند وخاقان لمن ملك الترك.
وقال بعض العلماء إنما صلى عليه لانه كان يكتم إيمانه من قومه فلم يكن عنده يوم مات من يصلي عليه فلهذا صلى عليه صلى الله عليه وسلم.
قالوا: فالغايب إن كان قد صلي عليه ببلده لاتشرع الصلاة عليه ببلد أخرى ؟ ولهذا لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم في غير المدينة، لا أهل مكة ولا غيرهم وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة لم ينقل أنه صلى على أحد منهم في غير البلدة التي صلى عليه فيها فالله أعلم.
قلت: وشهود أبي هريرة رضي الله عنه الصلاة على النجاشي، دليل على أنه إنما مات بعد فتح خيبر التي قدم بقية المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يوم فتح خيبر ولهذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والله ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر بن أبي طالب " وقدموا معهم بهدايا وتحف من عند النجاشي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبتهم أهل السفينة اليمنية أصحاب أبي موسى الاشعري وقومه من الاشعريين رضي الله عنهم، ومع جعفر
__________
(1) أخرجه البخاري في 23 كتاب الجنائز (4) باب ومسلم في 11 كتاب الجنائز 22 باب ح 62 ومالك في الموطأ في كتاب الجنائز.
(2) المصدر السابق: وكان موت النجاشي في رجب من سنة تسع ونعاه رسول الله، وصلى عليه بالبقيع.
(3) في الاصل أصحمة بن أبجر، وأثبتنا ما في القاموس.

وهدايا النجاشي ابن أخي النجاشي ذونخترا أو ذو مخمرا أرسله ليخدم النبي صلى الله عليه وسلم عوضا عن عمه رضي الله عنهما وأرضاهما.
وقال السهيلي: توفي النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة وفي هذا نظر والله أعلم.
وقال البيهقي أنبأنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطوسي حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا هلال بن العلاء الرقي حدثنا أبي، العلاء بن مدرك، حدثنا أبو هلال بن العلاء عن أبيه عن أبي غالب عن أبي أمامة.
قال قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.
فقال: " إنهم كانوا لاصحابي مكرمين وإني أحب أن أكافيهم ".
ثم قال وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الاصبهاني: أنبأنا أبو سعيد بن الاعرابي حدثنا هلال بن العلاء حدثنا أبي، حدثنا طلحة بن زيد، عن الاوزاعي، عن يحي بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة.
قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمهم فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.
فقال: " إنهم كانوا لاصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافيهم ".
تفرد به طلحة بن زيد عن الاوزاعي.
وقال البيهقي حدثنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو عمرو بن السماك، حدثنا حنبل بن إسحاق، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو.
قال: لما قدم عمرو بن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرج إليهم، فقالوا: ما شأنه ماله لا يخرج ؟ فقال عمرو: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبي.
قال ابن إسحاق: ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردهم النجاشي بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى غاظوا (1) قريشا فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر [ بن الخطاب ] فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه (2).
قلت: وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب (3).
وقال زياد
البكائي: حدثني مسعر بن كدام عن سعد بن إبراهيم.
قال: قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.
قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
__________
(1) في السيرة: عازوا: أي غلبوا قريشا.
(2) سيرة ابن هشام: 1 / 366.
(3) في 62 كتاب فضائل الصحابة (6) باب وفي 63 كتاب مناقب الانصار 35 باب والبيهقي في الدلائل عنه ج 2 / 215

الحبشة.
[ قال ابن إسحاق ] حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله (1) بنت أبي حثمة قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عمر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر فوقف علي وهو على شركه، فقالت: وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة علينا، قالت: فقال إنه الانطلاق يا أم عبد الله، قلت نعم ! والله لنخرجن في أرض من أرض الله إذا آذيتمونا وقهرتمونا ؟ حتى يجعل الله لنا مخرجا (2).
قالت فقال صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى - خروجنا.
قالت فجاء عامر بحاجتنا تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا.
قال: أطمعت في إسلامه قالت قلت: نعم ! قال لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب، قالت: يأسا منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الاسلام (3).
قلت: هذا يرد قول من زعم أنه كان تمام الاربعين من المسلمين فإن المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين، اللهم إلا أن يقال إنه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين ويؤيد هذا ما ذكره ابن إسحاق ههنا في قصة إسلام عمر وحده رضي الله عنه، وسياقها فإنه قال: وكان إسلام
عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل كانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد، وهم مستخفون باسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام، رجل من بني عدى قد أسلم أيضا مستخفيا بإسلامه [ فرقا ] من قومه، وكان خباب بن الارت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذكروا (4) له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين من بين رجال ونساء ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.
فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر ؟ قال أريد محمدا هذا الصابي الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله.
فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الارض وقد قتلت محمدا ؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال: وأي أهل بيتي، قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة فقد والله أسلما وتابعا محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه، فعليك بهما فرجع عمر
__________
(1) واسمها: ليلى بنت أبي حثمة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب وكانت من المهاجرين الاوائل إلى الحبشة.
(2) وفي نسخة من السيرة: فرجا.
(3) الخبر في سيرة ابن هشام 1 / 367 ودلائل البيهقي 4 / 221.
(4) من ابن هشام وفي الاصل فذكروا.

عائدا إلى أخته فاطمة، وعندها خباب بن الارت معه صحيفة فيها طه يقريها إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع (1) لهم - أو في بعض البيت - وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى الباب قراءة خباب عليها: فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت ؟ قالا (2) له ما سمعت شيئا.
قال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا
على دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد.
فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك، فلما رأى عمر ما باخته من الدم ندم على ما صنع وارعوى، وقال لاخته أعطيني هذه الصحيفة التي كنتم تقرؤن آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمدا ؟ وكان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها، قال لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت يا أخي إنك نجس، على شركك، وإنه لا يمسه إلا المطهرون فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها فلما قرأ منها صدرا.
قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.
فلما سمع ذلك خباب بن الارت خرج إليه فقال له: والله يا عمر إني لارجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الاسلام بأبي الحكم بن هشام - أو بعمر بن الخطاب - فالله الله يا عمر.
فقال [ له ] عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.
فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلل الباب فإذا هو بعمر متوشح بالسيف فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال: يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف، فقال حمزة، فأذن له فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ايذن له " فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة فقال ما جاء بك يا ابن الخطاب ؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال عمر: يا رسول الله جئتك لاومن بالله ورسوله، وبما جاء من عند الله، قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوهم قال ابن إسحاق فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر حين أسلم رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي عن أصحابه عطاء ومجاهد وعمن
__________
(1) مخدع: بضم الميم وفتحها، البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير (النهاية لابن الاثير).
(2) قالا له: أي فاطمة أخته وزوجها سعيد بن زيد.

روى ذلك: أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول: كنت للاسلام مباعدا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة (1) فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك فلم أجد فيه منهم أحدا فقلت لو أني جئت فلانا الخمار لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها، فخرجت فجئته فلم أجده قال: فقلت لو أني جئت الكعبة فطفت سبعا أو سبعين، قال فجئت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين الاسود واليماني، قال فقلت حين رأيته والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول فقلت: لئن دنوت منه لاستمع منه لاروعنه.
فجئت من قبل الحجر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة.
قال: فلما سمعت القرآن رق له قلبي، وبكيت ودخلني الاسلام، فلم أزل في مكاني قائما حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين - وكان مسكنه في الدار الرقطاء التي كانت بيد معاوية -.
قال عمر: فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس ودار ابن أزهر أدركته، فلما سمع حسي عرفني فظن أني إنما اتبعته لاوذيه، فنهمني (2) ثم قال ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة ؟ قال قلت جئت لاومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله قال فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " قد هداك الله يا عمر " ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته.
قال ابن إسحاق فالله أعلم أي ذلك كان.
قلت: وقد استقصيت كيفية إسلام عمر رضي الله عنه وما ورد في ذلك من الاحاديث والآثار مطولا في أول سيرته التي أفردتها على حدة ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق وحدثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر.
قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث ؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي فغدا عليه، قال عبد الله [ بن عمر ] وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل - وأنا غلام أعقل كما رأيت - حتى جاءه فقال له: اعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعته أنا حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلا صوته: يا معشر قريش - وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن ابن الخطاب قد صبا.
قال يقول عمر من خلفه كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم.
قال وطلح (3) فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد
__________
(1) الحزورة: بفتح الحاء وسكون الزاي وفتح الواو: سوق مكة وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه.
(2) نهمني، من النهم: الزجر.
(3) طلح: أعيا.

كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
قال فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال ما شأنكم ؟ فقالوا صبأ عمر، قال فمه ؟ رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا ؟ خلوا عن الرجل.
قال فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه.
قال فقلت لابي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبة من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك ؟ قال: ذاك أي بني العاص بن وائل السهمي (1)، وهذا إسناد جيد قوي، وهو يدل على تأخر إسلام عمر لان ابن عمر عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة وكانت أحد في سنة ثلاث من الهجرة وقد كان مميزا يوم أسلم أبوه، فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين، وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين والله أعلم (2).
وقال البيهقي: حدثنا الحاكم أخبرنا الاصم أخبرنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس عن ابن
إسحاق.
قال ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا وهو بمكة - أو قريب من ذلك - من النصارى حين ظهر خبره من أرض الحبشة فوجدوه في المجلس، فكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عزوجل وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقال: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال - قالوا لهم: لا نجاهلكم سلام عليكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نألون أنفسنا خيرا.
فيقال إن النفر من نصارى نجران، والله أعلم أي ذلك كان.
ويقال والله أعلم أن فيهم نزلت هذه الآيات: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون، وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام 1 / 373 - 374.
(2) في اسلام عمر تعددت الروايات والاحاديث فعن أسلم قال: أسلم في ذي الحجة السنة السادسة من النبوة وعن ابن المسيب قال: أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة وقال البيهقي عن ابن اسحق: قال أسلم والمسلمون يومئذ بضع وأربعون رجلا وإحدى عشرة امرأة.
وقال ابن الاثير في الكامل: أسلم بعد تسعة وثلاثين رجلا وثلاث وعشرين امرأة، وكان اسلامه بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة.
وقيل في إسلامه غير هذا.
قال بروكلمان: وكان من آثار ذلك أن قرر المكيون التعويض عن هذه الخسارة - إسلام عمر - اللجوء إلى تدابير جديدة اقسى، فقاطعوا محمدا وجميع أتباعه وحاصروهم في الحي الذي يسكنونه في شعب أبي طالب.
(أنظر ابن الاثير الكامل - بروكلمان تاريخ الشعوب الاسلامية).

أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لانبتغي الجاهلين).
فصل قال البيهقي في الدلائل: باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ثم روى عن الحاكم عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن ابن إسحاق.
قال: هذا كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي (1) الاصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسوله فأسلم تسلم (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.
أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك.
هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة وفي ذكره ههنا نظر، فإن الظاهر أن هذه الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الارض يدعوهم إلى الله عزوجل قبيل الفتح كما كتب إلى هرقل عظيم الروم قيصر الشام، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى صاحب مصر، وإلى النجاشي.
قال الزهري: كانت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم واحدة، يعني نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية وهي من سورة آل عمران، وهي مدنية بلا خلاف فإنه من صدر السورة، وقد نزل ثلاث وثمانون آية من أولها في وفد نجران كما قررنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.
فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الاول، وقوله فيه إلى النجاشي الاصحم لعل الاصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم والله أعلم.
وأنسب من هذا ههنا ما ذكره البيهقي أيضا عن الحاكم عن أبي الحسن محمد بن عبد الله الفقيه - بمرو - حدثنا حماد بن أحمد حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق.
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه وكتب معه كتابا: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي الاصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى [ بن مريم ] روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت
بعيسى فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرهم ودع التجبر فإني أدعوك وجنودك إلى الله
__________
(1) في دلائل البيهقي ج 2 / 308 وفي الحاكم 2 / 623: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الاصحم..وفي الحاكم: النجاشي الاصحم عظيم الجيش.

عزوجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى.
فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الاصحم بن أبجر سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته لا إله إلا هو الذي هداني إلى الاسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والارض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقرينا ابن عمك وأصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقا ومصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبي الله باريحا بن الاصحم بن أبجر فإني لا أملك إلا نفسي وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق (1).
فصل في ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحالفهم فيما بينهم عليهم، على أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصرهم إياهم في شعب أبي طالب مدة طويلة، وكتابتهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة، وما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة ودلائل الصدق.
قال موسى بن عقبة عن الزهري: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية.
فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله.
فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا.
فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا (2) على ذلك، اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا (3) في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين (4)، واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الاسواق فلا يتركوا لهم طعاما
__________
(1) دلائل البيهقي ج 2 / 309 - 310.
(2) في دلائل البيهقي: واجتمعوا، وما أثبتناه مناسب أكثر.
(3) كتبها: منصور بن عكرمة العبدري كما في طبقات ابن سعد.
راجع في تعاقد قريش على بني هاشم، وبني المطلب وكتابتهم صحيفة هذا العقد: ابن هشام 1 / 371 ابن سعد 1 / 139 الطبري 2 / 325 النويري 16 / 258 السيرة الحلبية 1 / 449 الدرر في اختصار المغازي والسير، وسبل الهدى والرشاد.
(4) كان هذا العقد والحصار لبني هاشم وبني عبد المطلب في ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة وظلوا محاصرين إلى السنة العاشرة، وقيل بل إلى السنة التاسعة.

يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد به مكرا واغتيالا له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه، وبعث الله على صحيفتهم الارضة فلحست كلما كان فيها
من عهد وميثاق.
ويقال كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيه إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم، وأطلع الله عزوجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي طالب.
فقال أبو طالب: لا والثواقب (1) ما كذبني فانطلق يمشي بعصابته من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم، أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فعله (2) أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها.
فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوعا إليهم فوضعوها بينهم.
وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم.
فقالوا أبو طالب: إنما أتيتكم لاعطيكم أمرا لكم فيه نصف (3)، إن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني - إن الله برئ من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هوله فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم.
فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فافيقوا فوالله لا نسلمه أبدا حتى يموت من عندنا آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم.
قالوا: قد رضينا بالذي تقول ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا والله إن كان هذا قط إلا سحر من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم، والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وعلى المسلمين ] (4) والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه.
فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون فإنا
__________
(1) الثواقب: النجوم جمع ثاقب وهو النجم المضئ.
(2) في ابن سعد: فلعله.
(3) نصف: النصف هي المرأة بين الحدثة والمسنة، والمراد هنا: الامر الوسط بيننا وبينكم لا حيف فيه علينا، ولا عليكم.
(4) من دلائل البيهقي.

نعلم إن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم طمس [ الله ] ما كان فيها من اسمه وما كان فيها من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم ؟ فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم منهم أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الاسود وهشام بن عمرو (1)، وكانت الصحيفة عنده (2) وهو من بني عامر بن لؤي - في رجال من أشرافهم ووجوههم: نحن برءاء مما في هذه الصحيفة.
فقال أبو جهل لعنه الله: هذا أمر قضى بليل وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمدح النفر الذين تبرؤا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي (3).
قال البيهقي: وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ - يعني من طريق ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير - يعني كسياق موسى بن عقبة رحمه الله - وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال: إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك فالله أعلم.
قلت: والاشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية التي قدمنا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضا فذكرها ههنا أنسب والله أعلم.
ثم روى البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إسحاق.
قال: لما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي بعث به وقامت بنو هاشم وبنو المطلب دونه، وأبوا أن يسلموه وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه.
فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب وعرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني (4) عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا ثم ذكر القصة بطولها
في دخولهم شعب أبي طالب وما بلغوا فيه من فتنة الجهد الشديد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع حتى كره عامة قريش ما أصابهم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة، وذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الارضة فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان فأخبر الله تعالى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك
__________
(1) زاد ابن سعد: عدي بن قيس، ولم يأت على ذكر هشام بن عمرو.
(2) قال ابن سعد في الطبقات: علقوا الصحيفة في جوف الكعبة وفي رواية أخرى: كانت عند أم الجلاس بنت مخربة الحنظلية خالة أبي جهل.
(3) الابيات في سيرة ابن هشام 1 / 373 من قصيدة مطلعها: ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب (4) في الدلائل وسيرة ابن هشام: بني المطلب وهو الصواب.

عمه أبو طالب، ثم ذكر بقية القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم.
وقال ابن هشام عن زياد عن محمد بن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا منه أمنا وقرارا.
وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الاسلام يفشو في القبائل فاجتمعوا وأئتمروا على أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي.
قال ابن هشام: ويقال النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشل بعض أصابعه.
وقال الواقدي: كان الذي كتب الصحيفة طلحة بن أبي طلحة العبدوي.
قلت: والمشهور أنه منصور بن عكرمة كما ذكره ابن إسحاق، وهو الذي
شلت يده فما كان ينتفع بها وكانت قريش تقول بينها: أنظروا إلى منصور بن عكرمة.
قال الواقدي: وكانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة.
قال ابن إسحاق: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم.
وحدثني حسين بن عبد الله: أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة، حين فارق قومه، وظاهر عليهم قريشا.
فقال: يا ابنة عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها وظاهر عليها ؟ قالت: نعم ! فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة.
قال ابن إسحاق: وحدثت أنه كان يقول - في بعض ما يقول - يعدني محمد أشياء لا أراها، يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يدي بعد ذلك، ثم ينفخ في يده فيقول تبا لكما لا أرى فيكما شيئا مما يقول محمد.
فأنزل الله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب).
قال ابن إسحاق: فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا قال أبو طالب: ألا أبلغا عني على ذات بيننا * لؤيا وخصا من لؤي بني كعب ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصه الله بالحب (1)
__________
(1) علق السهيلي على عجز هذا البيت قال: " وهو مشكل جدا لان لا في باب التبرئة لا تنصب مثل هذا إلا منونا، تقول: لا خيرا من زيد في الدار، وإنما تنصب بغير تنوين إذا كان الاسم غير موصول بما بعده.
وأشبه ما يقال في بيت أبي طالب أن خيرا مخفف من خير (كهين وميت) وقوله ممن من متعلقة بمحذوف، كأنه قال: لا خير أخير ممن خصه الله.
وخير وأخير: لفظان من جنس واحد.
فحسن الحذف استثقالا لتكرار اللفظ.

وأن الذي الصقتموا من كتابكم * لكم كائن نحسا كراغية السقب (1) أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمر على من ذاقه حلب الحرب فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا * لعزاء من عض الزمان ولا كرب ولما تبن منا ومنكم سوالف * وأيد أترت بالقساسية الشهب (2) بمعترك ضيق ترى كسر القنا * به والنسور الطخم يعكفن كالشرب (3) كأن مجال (4) الخيل في حجراته * ومعمعة الابطال معركة الحرب أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة عن الرعب قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ولم يصل إليهم شئ إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو جهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هاشم (5) بن الحارث بن أسد.
فقال: مالك وله.
فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل، قال: فأبى أبو جهل - لعنه الله - حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيشمتون بهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا مناديا بأمر الله تعالى لا يتقي فيه أحدا من الناس.
__________
(1) راغية السقب: من هو الرغاء، وهو أصوات الابل.
والسقب: ولد الناقة، وأراد به هنا ولده ناقة صالح عليه السلام.
(2) أترت: قطعت.
القساسية سيوف تنسب إلى قساس وهو جبل لبني أسد فيه معدن الحديد.
(3) النسور الطخم: ذات الرؤوس السود.
(4) من ابن هشام، وفي الاصل ونسخ البداية المطبوعة وبعض نسخ ابن هشام: ضحال ولا معنى لها.
(5) من ابن هشام وابن سعد، وفي الاصل: هشام وهو تحريف.

[ المستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم وما ظهر فيهم ] (1) فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزؤن به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل [ فيه ] القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار.
فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه، وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى: " ويل لكل همزة لمزة) السورة بكمالها فيه.
والعاص بن وائل ونزول قوله: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا) [ مريم: 77 ] فيه.
وقد تقدم شئ من ذلك.
وأبا جهل بن هشام وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك (2) [ الذي تعبد ] (3) ونزول قول الله فيه: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) [ الانعام: 108 ] الآية.
والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة (4) - ومنهم من يقول علقمة بن كلدة قاله السهيلي - وجلوسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه حيث يتلو القرآن ويدعو إلى الله، فيتلو عليهم النضر شيئا من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهما من الحروب في زمن الفرس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الاولين اكتتبها كما اكتتبها، فأنزل الله تعالى: (وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) [ الفرقان: 5 ] وقوله: (ويل لكل أفاك أثيم) [ الجاثية: 7 ].
قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم [ في المجلس ]، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه
وعليهم: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون) [ الانبياء: 98 - 100 ].
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس.
فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام والله ما مقام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم (5).
فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا
__________
(1) سقطت من الاصول: واستدرك لزيادة الايضاح.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل آلهتك وهو تحريف.
(3) ما بين معقوفتين استدركت من ابن هشام.
(4) قال الخشني: والصواب علقمة بن كلدة.
(5) حصب جهنم: كل ما أوقدت به.
قال أبو ذؤيب الهذلي: فأطفئ ولا توقد ولا تك محصبا * لنار العداة أن تطير شكاتها

محمدا: أكل من نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى.
فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: " كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، أنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته " فأنزل الله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون) [ الانبياء: 101 - 102 ] أي عيسى وعزير ومن عبد من الاحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى.
ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون) [ الانبياء: 26 - 29 ] والآيات بعدها.
ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا آلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) [ الزخرف: 57 - 58 ] وهذا الجدل الذي
سلكوه باطل.
وهم يعلمون ذلك لانهم قوم عرب ومن لغتهم أن ما لما لا يعقل، فقوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الاحجار التي كانت صور أصنام، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيح، ولا عزيرا، ولا أحدا من الصالحين لان اللفظ لا يتناولهم لا لفظا ولا معنى.
فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل كما قال الله تعالى: (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) ثم قال: (إن هو) أي عيسى (إلا عبد أنعمنا عليه) أي بنبوتنا (وجعلناه مثلا لبني اسرائيل) أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا، وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى كما قال في الآية الاخرى: (ولنجعله آية للناس) أي أمارة ودليلا على قدرتنا الباهرة (ورحمة منا) نرحم بها من نشاء.
وذكر ابن إسحاق: الاخنس بن شريق ونزول قوله تعالى فيه: (ولا تطع كل حلاف مهين) [ نون: 10 ] الآيات، وذكر الوليد بن المغيرة حيث.
قال: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو (1) الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين.
ونزل قوله فيه: (وقال لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) [ الزخرف: 31 ] والتي بعدها، وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط: ألم يبلغني أنك جالست محمدا ؟ وسمعت منه وجهي من وجهك حرام [ أن أكلمك - وأستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ] (2) إلا أن تتفل في وجهه ففعل ذلك عدو الله عقبة - لعنه الله -،
__________
(1) في ابن هشام: عمرو بن عمير.
(2) ما بين معكوفتين من سيرة ابن هشام.

فأنزل الله: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتنا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا) [ الفرقان: 27 - 28 ] والتي بعدها.
قال ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد
أرم (1).
فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم، ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: نعم ! أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا ثم يدخلك النار.
وأنزل الله تعالى: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) [ يس: 78 - 79 ] إلى آخر السورة.
قال واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني وهو يطوف عند باب الكعبة - الاسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل [ وكانوا ذوي أسنان في قومهم ] (2).
فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الامر.
فأنزل الله فيهم: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) إلى آخرها.
ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم.
قال: أتدرون ما الزقوم ؟ هو تمر يضرب بالزبد ثم قال هلموا فلنتزقم فأنزل الله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الاثيم) [ الدخان: 43 - 44 ] قال: ووقف الوليد بن المغيرة فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه وقد طمع في إسلامه فمر به ابن أم مكتوم (3) - عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة - الاعمى فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك عليه حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا، وتركه (4) فأنزل الله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الاعمى) إلى قوله: (مرفوعة مطهرة) وقد قيل ان الذي كان يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم أمية بن خلف فالله أعلم (5).
__________
(1) أرم: بلى.
(2) ما بين معقوفتين من ابن هشام.
(3) وكان اسمه عبد الله وقيل عمرو.
(4) الخبر في سيرة ابن هشام ج 1 / 389 وما بعدها.
(5) ذكر البيهقي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: المستهزئون: الوليد بن المغيرة، والاسود بن عبد يغوث الزهري والاسود بن المطلب أبو زمعة والحارث بن عنطلة السهمي والعاص بن وائل.
- فالاسود بن عبد يغوث بن وهب بن زهرة، ابن خال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البلاذري عنه: " كان إذا رأى المسلمين قال لاصحابه: قد جاءكم ملوك الارض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد.
- أما الاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى فكان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام شق عليه فدعا عليه أن يعمي الله بصره ويثكله ولده.
- الحارث بن قيس السهمي ابن العنطلة: نسب إلى أمه، نزل فيه في قول: " ارأيت من اتخذ الهه هواه " لانه كان يعبد حجرا فإذا رأى حجرا أحسن منه تركه وأخذ الاحسن.

ثم ذكر ابن إسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة وكان النقل ليس بصحيح، ولكن كان له سبب، وهو ما ثبت في الصحيح وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما مع المشركين، وأنزل الله عليه (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم) يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد.
فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والانس، وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى القى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) [ الحج: 52 ] وذكروا قصة الغرانيق وقد أحببنا الاضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضيعها، إلا أن أصل القصة في الصحيح.
قال البخاري حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس.
قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس انفرد به البخاري دون مسلم.
وقال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت الاسود عن عبد الله.
قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم والنجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصا - أو تراب - فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد قتل كافرا ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث شعبة.
وقال الامام أحمد حدثنا إبراهيم حدثنا رباح عن معمر عن ابن
طاووس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه.
قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن أسلم يومئذ المطلب.
فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرأها إلا سجد معه.
وقد رواه النسائي عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به.
وقد يجمع بين هذا والذي قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارا، وذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية والله أعلم.
والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم، فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها،
__________
= كان يقول: لقد عز محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلا الدهر والاحداث ومرور الايام.
- العاص بن وائل السهمي.
قال الجمهور ومنهم ابن عباس في أكثر الروايات عنه: المستهزئون كانوا خمسة وقال في رواية كانوا ثمانية: وقد عدهم البيهقي كما ذكرنا خمسة أما الثلاثة فهم: مالك بن الطلاطلة بن عمرو بن غبشاف ذكره ابن الكلبي والبلاذري وكان سفيها فدعا عليه رسول الله واستعاذ بالله من شره.
وذكر البلاذري ممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو الاصداء، وكان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعلمك أهل الكتاب أساطيرهم ويقول للناس هو معلم مجنون فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لعلى جبل إذا اجتمعت عليه الاروى فنطحته حتى قتلته.

فظنوا صحة ذلك فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة وكلاهما محسن مصيب فيما فعل فذكر ابن إسحاق أسماء من رجع منهم، عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وامرأته سهلة بنت سهيل [ بن عمرو ]، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعتبة بن غزوان، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وسويبط بن سعد [ بن حرملة ]، وطليب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود،
وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وشماس (1) بن عثمان، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة - وقد حبسا (2) بمكة حتى مضت بدرا وأحدا والخندق - وعمار بن ياسر - وهو ممن شك فيه أخرج إلى الحبشة أم لا.
ومعتب بن عوف، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وخنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل - وقد حبس بمكة إلى بعد الخندق - وعامر بن ربيعة، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة.
وعبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو - وقد حبس (3) حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا - وأبو سبرة بن ابي رهم، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، وامرأته سودة بنت زمعة - وقد مات بمكة (4) قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله صلى الله عليه وسلم - وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو (5) بن الحارث بن زهير وسهيل بن بيضاء (6)، وعمرو بن أبي سرح فجميعهم ثلاثة وثلاثون رجلا رضي الله عنهم.
وقال البخاري: وقالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريت دار هجرتكم [ أريت سبخة ] (7) ذات
__________
(1) اسم شماس: عامر، وشماس لقب غلب عليه.
أمه صفية بنت ربيعة بن عبد شمس شهد بدرا وقتل يوم أحد وهو ابن أربع وثلاثين سنة.
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفن في أحد كما هو في ثيابه التي مات فيها بعد أن مكث يوما وليلة.
قال حسان بن ثابت يرثيه: اقنى حباءك في ستر وفي كرم * فإنما كان شماس من الناس قد ذاق حمزة سيف الله فاصطبري * كأسا رواء ككأس المرء شماس (2) وحبسهما أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام وهما عما سلمة وأخوا عياش لامه، قيل قد احتالا على عياش أن أمه حلفت ألا يدخل رأسها وهي ولا تغتسل حتى تراه.
فرجع معهما فأوثقاه.
(3) يكنى عبد الله: أبا سهيل وكان الذي حبسه أبوه وأوثقه في مكة وفتنه في دينه، كان أحد الشهود في صلح الحديبية استشهد يوم اليمامة وهو ابن ثمان وثلاثين سنة.
(4) هذا قول ابن إسحاق ووافقه عليه الواقدي، أما موسى بن عقبة وأبو معشر فيقولان أن السكران مات بالحبشة (أنظر الطبقات لابن سعد ج 4 / 204).
(5) يقال فيه: عامر بن الحارث، ولم يذكره ابن عقبة ولا أبو معشر فيمن هاجر إلى أرض وذكره ابن عقبة في البدريين.
(الطبقات ج 4 / 213).
(6) سهيل بن بيضاء: بيضاء هي أمه وأسمها دعد بنت جحدم بن عمرو بن عائش بن ظرب بن الحارث بن فهر وأبوه وهب بن ربيعة.
أسلم وشهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ومات في المدينة سنة تسع من الهجرة.
(7) من البخاري.
السبخة: الارض تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت شيئا.

نخل بين لابتين " فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة.
وفيه عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم حديث أبي موسى وهو في الصحيحين، وسيأتي حديث أسماء بنت عميس بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة إن شاء الله وبه الثقة.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله.
قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله إنا كنا نسلم عليك فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا ؟ " قال إن في الصلاة شغلا " وقد روى البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخر عن سليمان بن مهران عن الاعمش به، وهو يقوي تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في الصحيحين كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله: (وقوموا لله قانتين) [ البقرة: 238 ] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
على أن المراد جنس الصحابة، فإن زيدا أنصاري مدني، وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة، فتعين الحمل على ما تقدم.
وأما ذكره الآية وهي مدنية فمشكل ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك وإنما كان المحرم له غيرها معها والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكان ممن دخل منهم بجوار (1)، [ فيمن سمي لنا ] (2) عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الاسد في جوار خاله أبي طالب، فإن أمه (3) برة بنت عبد المطلب.
فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن
حدثه عن عثمان.
قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء، وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والاذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير (4) في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.
قال [ له ] لم يا ابن أخي ؟ لعله آذاك أحد من قومي، قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عزوجل، ولا أريد أن أستجير بغيره.
قال: فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية كما جرتك علانية.
قال: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد
__________
= لابتان: أي الحرتان، وهي الارض فيها حجارة سود كأنها احترقت بالنار.
والحديث أخرجه البخاري من حديث عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة في 39 كتاب الكفالة (4) باب فتح الباري 4 / 475 - 476.
(1) في الاصل: وكان ممن دخل معهم بجوار، وهو تحريف.
وأثبتنا ما في سيرة ابن هشام.
(2) ما بين معكوفتين سقط من الاصل واستدرك من ابن هشام.
(3) في ابن هشام: وأم أبي سلمة برة بنت عبد المطلب.
(4) في سيرة ابن هشام: كبير بدل كثير.

جاء يرد علي جواري.
قال: صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.
ثم انصرف عثمان رضي الله عنه ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل فقال عثمان: صدقت.
فقال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان
يؤذي جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم ؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شري أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ [ من ] عثمان.
فقال: والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة.
قال يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس.
فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إلى جوارك فعد.
قال: لا !.
قال ابن إسحاق: وأما أبو سلمة بن عبد الاسد، فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله [ بن عمر ] أبي سلمة أنه حدثه: أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب، مشى إليه رجال من بني مخزوم، فقالوا له: يا أبا طالب لقد (1) منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا ؟ قال إنه استجار بي، وهو ابن اختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي.
فقام أبو لهب.
فقال: يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه، حتى يبلغ ما أراد.
قالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة.
وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقوا على ذلك فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن امرءا أبو (2) عتيبة عمه * لفي روضة ما أن يسام المظالما أقول له، وأين منه نصيحتي * أبا معتب ثبت سوادك قائما (3)
__________
(1) في الاصل، وفي بعض نسخ ابن هشام: هذا منعت.
(2) كذا في الاصل وابن هشام: أبا معتب، وكنيته: أبو عتبة.
والسواد: هنا: الشخص.
(3) كذا بالاصل: " أبا معتب ".

ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة * تسب بها إما هبطت المواسما وول سبيل العجز غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانما أو مغارما جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما بتفريقهم من بعد ود وألفة * جماعتنا كيما ينالوا المحارما كذبتم وبيت الله نبزى محمدا * ولما تروا يوما لدى الشعب قائما قال ابن هشام: وبقي منها بيت تركناه.
عزم الصديق على الهجرة إلى الحبشة قال ابن إسحاق: وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - كما حدثني محمد بن مسلم [ ابن شهاب ] الزهري عن عروة عن عائشة، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الاذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا، حتى إذا سار من مكة يوما - أو يومين - لقيه ابن الدغنة (1) أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الاحابيش (2).
قال الواقدي: اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر من عبد مناة بن كنانة.
وقال السهيلي: اسمه مالك.
فقال: إلى أين يا أبا بكر ؟ قال أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي.
قال ولم ؟ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف وتكسب المعدوم.
أرجع فإنك في جواري.
فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد إلا بخير.
قالت (3): فكفوا عنه.
قالت: وكان لابي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه، وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، قالت: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة.
فقالوا
__________
(1) ابن الدغنة ويقال ابن الدغينية ضبطه القسطلاني والزرقاني.
بفتح الدال وكسر الغين وفتح النون المخففة وأهل
اللغة: بضم الدال والغين وفتح النون المشددة.
وهو ربيعة بن رفيع أهبان بن ثعلبة السلمي، والدغنة: أمه غلبت على اسمه شهد حنينا ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في بني تميم.
(2) الاحابيش: قال ابن إسحاق: الاحابيش بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق، وقيل سموا بالاحابيش لانهم تحالفوا جميعا بواد يقال له الاحبش بأسفل مكة، ويقال تحالفوا عند جبيل يقال له: حبشي، فسموا بذلك.
(3) من ابن هشام: وفي الاصل: قال، فراوية الخبر: عائشة.

[ له ]: يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق [ ويبكي ] وكانت له هيئة، ونحن نتخوف.
على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم، فأته فمره بأن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء.
قالت: فمشى ابن الدغنة إليه فقال [ له ]: يا أبا بكر، إني لم أجرك لتؤذي قومك.
وقد كرهوا مكانك الذي أنت به، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.
قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.
قال فاردد علي جواري.
قال: قد رددته عليك.
قالت: فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم.
وقد روى الامام البخاري (1) هذا الحديث متفردا به وفيه زيادة حسنة.
فقال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب (2) فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد (3)، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الارض فأعبد ربي.
فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل (4)، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
وأنا لك جار فارجع، فاعبد ربك ببلدك.
فرجع وارتحل معه ابن الدغنة (5)، وطاف ابن الدغنة عشية في اشراف قريش فقال لهم:
إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق ؟ فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فقال ابن الدغنة ذلك لابي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.
ثم بدا لابي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره [ وبرز ] (6) وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، [ فيتقذف عليه ] (7) نساء المشركين وأبناؤهم
__________
(1) في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة فتح الباري 7 / 230 - 231، وأخرج جزءا من أول هذا الحديث في كتاب الصلاة، وفي كتاب الاجارة.
(2) من البخاري، وفي الاصل ابن هشام وهو تحريف.
(3) برك الغماد: موضع بناحية اليمن، مما يلي ساحل البحر، وقال ابن فارس: بضم الغين، وقيل برك الغماد: موضع في أقاصي هجر.
(4) تحمل الكل: هو ما يثقل حمله من القيام بالعيال ونحوه مما لا يقوم بأمر نفسه.
(5) في دلائل البيهقي: فارتحل ابن الدغنة مع أبي بكر رضي الله عنه.
(6) سقطت من الاصل وصحيح البخاري، واستدركت من دلائل البيهقي.
(7) من البخاري، وفي الاصل فكان نساء المشركين، يتقذف أي يتدافعون فيتساقطون، ورواية المواهب: " فيتقصف " أي يزدحم.
وما ورد في الحديث - بين معكوفين زيادة من البخاري ودلائل النبوة للبيهقي.

يعجبون منه وينظرون إليه.
وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فافزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم.
فقالوا [ له ]: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن في الصلاة والقراءة فيه، وأنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فأنه فإن أحب على أن يقتصر أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك، فإنا قد كرهنا [ أن ]
نخفرك ولسنا مقرين لابي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فاتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي قد عاقدت عليه قريش فإما أن تقتصر على ذلك، وأما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له.
فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجواز الله عزوجل.
ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي مبسوطا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: لقيه - يعني أبا بكر الصديق حين خرج من جوار ابن الدغنة - سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه ترابا، فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة - أو العاص بن وائل - فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه ؟ فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك.
[ قال ] (1) وهو يقول أي رب ما أحلمك.
أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك.
فصل كل هذه القصص ذكرها ابن إسحاق معترضا بها بين تعاقد قريش على بني هاشم وبني المطلب وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة وحصرهم إياهم في الشعب، وبين نقض الصحيفة وما كان من أمرها وهي أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيال على ابن إسحاق.
نقض الصحيفة قال ابن إسحاق: هذا وبنو هاشم، وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم إنه قام في نقض [ تلك ] الصحيفة نفر من قريش، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن [ ربيعة بن ] الحارث بن حبيب بن نصر [ بن جذيمة ] بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم (2) بن
__________
(1) من ابن هشام، والخبر في السيرة ج 2 / 13.
(2) من سيرة ابن هشام، وفي الاصل هشام وهو تحريف .

عبد مناف لامه، وكان هشام لبني هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه، فكان - فيما بلغني - يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا قد أوقره طعاما، حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبيه، فدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بزا (1) فيفعل به مثل ذلك، ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر (2) بن مخزوم وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب.
فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟ أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدا.
قال: ويحك يا هشام ! فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها [ حتى أنقضها ].
قال قد وجدت رجلا، قال من هو ؟ قال: أنا قال له زهير: أبغنا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه، أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا، قال: ويحك فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد، قال قد وجدت لك ثانيا.
قال من ؟ قال أنا، قال أبغنا ثالثا قال قد فعلت.
قال من هو ؟ قال زهير بن أبي أمية.
قال أبغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال [ له ] نحو ما قال للمطعم بن عدي، فقال وهل تجد أحدا يعين على هذا ؟ قال نعم ! قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك.
قال ابغنا خامسا.
فذهب إلى زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الامر الذي تدعوني إليه من أحد ؟ قال: نعم ثم سمى القوم.
فاتعدوا خطم الحجون (3) ليلا بأعلا مكة فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها.
وقال زهير: أنا أبدؤكم، فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس.
فقال: يا أهل مكة
أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد - والله لا تشق.
قال: زمعة بن الاسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت.
قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به.
قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها.
قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
قال أبو جهل: هذا أمر قد قضي بليل، تشور فيه بغير هذا المكان، [ قال ]: وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل وبعض نسخ ابن هشام " برا " وقال السهيلي: بزا بالزاي.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل عمرو وهو تحريف.
(3) من ابن هشام وفي الاصل حطم، والحجون: موضع بأعلى مكة، وخطمه: مقدمه.

المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الارضة قد أكلتها إلا " باسمك اللهم "، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة (1).
فشلت يده فيما يزعمون.
قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابي طالب: " يا عم إن الله قد سلط الارضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان ".
فقال أربك أخبرك بهذا ؟ قال " نعم " ! قال فوالله ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخي.
فقال القوم: قد رضينا فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شرا.
فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
قال ابن إسحاق: فلما مزقت وبطل ما فيها، قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم: ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أرود (2)
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت * وأن كل ما لم يرضه الله مفسد تراوحها إفك وسحر مجمع * ولم يلف سحرا آخر الدهر يصعد تداعى لها من ليس فيها بقرقر * فبطائرها في رأسها يتردد (3) وكانت كفاء وقعة بأثيمة * ليقطع منها ساعد ومقلد ويظعن أهل المكتين فيهربوا * فرائصهم من خشية الشر ترعد ويترك حراث يقلب أمره * أيتهم فيها عند ذاك وينجد (4) فمن ينش من حضار مكة عزة * فعزتنا في بطن مكة أتلد نشأنا بها والناس فيها قلائل * فلم ننفك نزداد خيرا ونحمد
__________
(1) قال السهيلي: وللنساب من قريش في كاتب الصحيفة قولان، أحدهما: إن كاتب الصحيفة هو بغيض بن عامر بن هاشم بن عبدالدار، والقول الثاني: أنه منصور بن عبد شرحبيل بن هاشم من بني عبدالدار أيضا، وهو خلاف قول ابن إسحاق، ولم يذكر الزبير في كاتب الصحيفة غير هذين القولين، والزبيريون أعلم بأنساب قومهم.
(2) بحرينا: قال السهيلي: يعني الذين بأرض الحبشة، والذين هاجروا إليها من المسلمين في البحر، وأرود: أرفق.
(3) القرقر: اللين السهل، يتردد: المراد حظها من الشؤم والشر.
(4) أيتهم: أي يأتي تهامة، وينجد: أتى نجدا.
وبعده في السيرة: وتصعد بين الاخشبين كتيبة * لها حدج سهم وقوس ومرهد

ونطعم حتى يترك الناس فضلهم * إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد (1) جزى الله رهطا بالحجون تجمعوا (2) * على ملا يهدي لحزم ويرشد قعودا لذي حطم (3) الحجون كأنهم * مقاولة بل هم أعز وأمجد
أعان عليها كل صقر كأنه * إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد جرئ على جل (4) الخطوب كأنه * شهاب بكفي قابس يتوقد من الاكرمين من لؤي بن غالب * إذا سيم خسفا وجهه يتربد طويل النجاد خارج نصف ساقه * على وجهه يسقي الغمام ويسعد عظيم الرماد سيد وابن سيد * يحض على مقرى الضيوف ويحشد ويبني لابناء العشيرة صالحا * إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد ألظ بهذا الصلح كل مبرأ * عظيم اللواء أمره ثم يحمد (5) قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا * على مهل وسائر الناس رقد هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا * وسر أبو بكر بها ومحمد (6) متى شرك الاقوام في حل أمرنا * وكنا قديما قبلها نتودد وكنا قديما لا نقر ظلامة * وندرك ما شئنا ولا نتشدد فيال قصي هل لكم في نفوسكم * وهل لكم فيما يجئ به غد فإني وإياكم كما قال قائل * لديك البيان لو تكلمت أسود قال السهيلي: أسود اسم جبل قتل به قتيل ولم يعرف قاتله فقال أولياء المقتول لديك البيان لو تكلمت أسود، أي يا أسود لو تكلمت لابنت لنا عمن قتله (7).
ثم ذكر ابن إسحاق شعر حسان يمدح المطعم بن عدي وهشام بن عمرو لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة.
وقد ذكر الاموي ههنا أشعارا كثيرة اكتفينا بما أورده ابن إسحاق.
وقال الواقدي: سألت محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز متى خرج بنو هاشم
__________
(1) المفيضون: الضاربون بقداح الميسر.
(2) في ابن هشام: تبايعوا.
(3) في ابن هشام: خطم وهو الصواب، وخطم الشئ: مقدمه.
(قاموس).
(4) في ابن هشام: جلى: الامر العظيم.
(5) ألظ: ألح في طلب الشئ.
(6) سهل بن بيضاء، أخو سهيل وبيضاء أمهما سميا باسمها وهي دعد بنت جحدم أسلم بمكة وكتم إسلامه شهد بدرا مع المشركين وأسر، فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه يصلي بمكة فخلي عنه.
(راجع طبقات ابن سعد ج 4 / 213).
(7) زاد السهيلي: فقال أولياء المقتول هذه المقالة، فذهبت مثلا.

من الشعب ؟ قالا: في السنة العاشرة صلى الله عليه وسلم - يعني من البعثة - قبل الهجرة بثلاث سنين.
قلت: وفي هذه السنة بعد خروجهم توفي أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
فصل وقد ذكر محمد بن إسحاق - رحمه الله - بعد إبطال الصحيفة قصصا كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه، وإظهار الله المعجزات على يديه دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى، وتكذيبنا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول، والله غالب على أمره.
فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة، وكان سيدا مطاعا شريفا في دوس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه، قال فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكمله، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا (1) فرقا من أن يبلغني شئ من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، قال فقمت منه قريبا فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاما حسنا، قال: فقلت في نفسي واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ! فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.
قال: فمكثت
حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته [ فاتبعته، حتى إذا دخل بيته ] (2) دخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا - الذي قالوا - قال فوالله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض علي أمرك: قال: فعرض علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه.
قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الاسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه.
قال فقال: " اللهم اجعل له آية " قال فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر (3)، وقع بين عيني نور مثل المصباح.
قال فقلت: اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا بها مثلة (4) وقعت في وجهي لفراقي
__________
(1) الكرسف: القطن.
(2) ما بين معكوفين من ابن هشام.
(3) الحاضر: الجماعة النازلون على الماء.
(4) المثلة: يريد العقوبة والتنكيل.

دينهم، قال: فتحول فوقع في رأس سوطي.
قال: فجعل الحاضرون يتراؤن ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أتهبط عليهم من الثنية، حتى جئتهم فأصبحت فيهم، فلما نزلت أتاني أبي - وكان شيخا كبيرا - فقلت: إليك عني - يا أبة فلست منك ولست مني، قال ولم يا بني ؟ قال: قلت: أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: أي بني فدينك ديني.
فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم أئتني حتى أعلمك ما علمت.
قال فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الاسلام فأسلم.
قال ثم أتتني صاحبتي، فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني.
قالت: ولم ؟ بأبي أنت وأمي.
قال قلت [ قد ] فرق بيني وبينك الاسلام، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
قالت فديني دينك.
قال: فقلت فاذهبي إلى حمى ذي الشرى فتطهري منه، وكان ذو
الشرى صنما لدوس وكان الحمى حمى حموه حوله به وشل من ماء يهبط من جبل.
قالت: بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا ؟ قلت: لا، أنا ضامن لذلك.
قال: فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الاسلام فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الاسلام فأبطأوا علي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
فقلت [ له ]: يا رسول الله إنه قد غلبني على دوس (1) الزنا فادع الله عليهم.
قال: " اللهم أهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم ".
قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الاسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين - أو ثمانين بيتا - من دوس فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.
ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة.
فقلت: يا رسول الله إبعثني إلى ذي الكفين، صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه.
قال ابن إسحاق: فخرج إليه فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار يقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا * ميلادنا أقدم من ميلادكا إني حشوت النار في فؤادكا (2) قال ثم رجع [ إلى ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بالمدينة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ارتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل، فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال
__________
(1) دوس: بطن من شنوءة من الازد القحطانية وهم بنو دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن خالد بن نصر.
منهم أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه عمير بن عامر.
(نهاية الارب للقلقشندي 235).
(2) في مغازي الواقدي 2 / 870: أنا حششت النار في فؤادكا.

لاصحابه: إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي، رأيت أن رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر،
وأنه لقيتني امرأة فادخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني ؟ قالوا: خيرا قال: أما أنا والله فقد أولتها، قالوا ماذا ؟ قال أما حلق رأسي فوضعه، وأما الطائر الذي خرج منه فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالارض تحفر لي فأغيب فيها.
وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني فإني أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني.
فقتل رحمه الله تعالى شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل منها ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيدا رحمه الله.
هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا اسناد (1).
ولخبره شاهد في الحديث الصحيح.
قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة.
قال: لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن دوسا قد استعصت قال: " اللهم اهد دوسا وائت بهم " رواه البخاري (2) عن أبي نعيم عن سفيان الثوري.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال: قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها.
قال أبو هريرة فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقلت هلكت دوس.
فقال: " اللهم اهد دوسا، وائت بهم " إسناد جيد ولم يخرجوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر: أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ - قال حصن كان لدوس في الجاهلية - فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للانصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا (3) المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص (4) فقطع بها براجمه فشخبت يداه فما رقأ الدم حتى مات.
فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة، ورآه مغطيا يديه.
فقال له: ما صنع ربك بك فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم قال فما لي أراك
__________
(1) قال في الاصابة ج 2 / 225: ذكرها ابن اسحاق في سائر النسخ بلا إسناد، وروي في نسخة من المغازي من طريق صالح بن كيسان عن الطفيل بن عمرو في قصة إسلامه.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات ج 4 / 237 مطولا من وجه آخر، وكذلك الاموي عن ابن الكلبي بإسناد آخر.
وقد ساق ابن عبد البر في الاستيعاب
ج 2 / 232 من طريق الاموي عن ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن الطفيل بن عمرو فذكر قصة إسلامه.
(2) في: 80 كتاب الدعوات (59) باب الحديث 6397 فتح الباري 11 / 196 وأخرجه أيضا في 64 كتاب المغازي (75) باب قصة دوس فتح الباري 8 / 101.
(3) اجتووا المدينة: معناه كرهوا المقام بها لضجر ونوع من سقم.
قال أبو عبيد والجوهري: اجتويت البلد إذا كرهت المقام به، وإن كنت في نعمة.
قال الخطابي: أصله من الجوى وهو داء يصيب الجوف.
(4) مشاقص: جمع مشقص وهو سهم فيه نصل عريض قاله ابن فارس والخليل، وقال غيرهما طويل وليس بالعريض، والاقرب أنه عريض لان قطع البراجم يحصل بالعريض وليس بالطويل.

مغطيا يديك ؟ قال قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت.
قال فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم وليديه فاغفر " رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن سليمان بن حرب به (1).
فإن قيل فما الجمع بين هذا الحديث وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق الحسن عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله عزوجل عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة ".
فالجواب من وجوه، أحدها: أنه قد يكون ذاك مشركا وهذا مؤمن، ويكون قد جعل هذا الصنيع سببا مستقلا في دخوله النار وإن كان شركه مستقلا إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته: الثاني: قد يكون هذاك عالما بالتحريم وهذا غير عالم لحداثة عهده بالاسلام.
الثالث: قد يكون ذاك فعله مستحلا له وهذا لم يكن مستحلا بل مخطئا.
الرابع: قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه وإنما أراد غير ذلك.
الخامس: قد يكون هذاك قليل الحسنات فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور فدخل النار، وهذا قد يكون كثير الحسنات فقاومت الذنب فلم يلج النار بل غفر له بالهجرة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولكن بقي الشين في يده فقط وحسنت هيئة سائره فغطى الشين منه
فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطيا يديه قال له مالك ؟ قال: قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت فلما قصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: " اللهم وليديه فاغفر " أي فاصلح منها ما كان فاسدا.
والمحقق أن الله استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب الطفيل بن عمرو.
قصة اعشى بن قيس قال ابن هشام: حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل من (2) أهل العلم أن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الاسلام، فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليم مسهدا وما ذاك من عشق النساء وإنما * تناسيت قبل اليوم خلة مهددا (3) ولكن أرى الدهر الذي هو خائن * إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا كهولا وشبانا فقدت وثروة * فلله هذا الدهر كيف ترددا وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع * وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
__________
(1) صحيح مسلم (1) كتاب الايمان (49) باب حديث 184.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل: عن.
(3) كذا في الاصل خلة وفي ابن هشام " صحبة " ومهدد: اسم امرأة.

وأبتذل العيس المراقيل تعتلي * مسافة ما بين النجير فصرخدا (1) ألا أيهذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا فإن تسألي عني فيا رب سائل * حفي عن الاعشى به حيث أصعدا أجدت برجليها النجاد وراجعت * يداها خنافا لينا غير أحردا (2) وفيها إذا ما هجرت عجرفية * إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا (3) وآليت لا آوي لها من كلالة * ولا من حفى حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم * تراحي وتلقي من فواضله ندى نبي يرى ما لا ترون وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجدا (4) له صدقات ماتغب ونائل * فليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدك لم تسمع وصاة محمد * نبي الاله حيث أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للامر الذي كان أرصدا فإياك والميتات لا تقربنها * ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا وذا النصب المنصوب لا تنسكنه * ولا تعبد الاوثان والله فاعبدا ولا تقربن جارة كان سرها * عليك حراما فانكحن أو تأبدا (5) وذا الرحم القربي بلا تقطعنه * لعاقبة ولا الاسير المقيدا وسبح على حين العشية والضحى * ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا (6) ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة * ولا تحسبن المال للمرء مخلدا قال إبن هشام: فلما كان بمكة - أو قريب منها - اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم.
فقال له: يا أبا بصير، إنه يحرم الزنا.
فقال الاعشى: والله إن ذلك لامر مالي فيه من أرب.
فقال: يا أبا بصير إنه يحرم الخمر.
فقال الاعشى: أما هذه فوالله إن في نفسي منها العلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا، ثم آته فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
هكذا أورد ابن هشام هذه القصة ههنا وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله، فإن
__________
(1) النجير: موضع في حضرموت من اليمن، وصرخد: موضع بالجزيرة.
(2) في ابن هشام: النجاء بدل النجاد.
والنجاء: السرعة.
والخناف: التي تلوي في السير يديها من النشاط.
(3) أصيد: المائل العنق تكبرا أو من داء أصابه.
(4) أغار: قال ابن دريد في الاشتقاق: من روى: أغار لعمري، فقد لحن وأخطأ.
(5) في ابن هشام: حرة بدلا من جارة.
(6) في ابن هشام: العشيات بدلا من العشية.

الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة بني النضير كما سيأتي بيانه فالظاهر أن عزم الاعشى على القدوم للاسلام إنما كان بعد الهجرة وفي شعره ما يدل على ذلك وهو قوله: ألا أيها ذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا وكان الانسب والاليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة ولا يوردها هاهنا والله أعلم.
قال السهيلي: وهذه غفلة من ابن هشام ومن تابعه فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بعد أحد.
وقد قال: وقيل إن القائل للاعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة بن ربيعة.
وذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس وهو مقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقوله.
ثم آته فأسلم - لا يخرجه عن كفره بلا خلاف والله أعلم.
ثم ذكر ابن إسحاق هاهنا قصة الاراشي وكيف استعدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي جهل في ثمن الجمل الذي ابتاعه منه، وكيف أذل الله أبا جهل وأرغم أنفه حتى أعطاه ثمنه في الساعة الراهنة وقد قدمنا ذلك في ابتداء الوحي وما كان من أذية المشركين عند ذلك.
قصة مصارعة ركانة وكيف أراه الشجرة التي دعاها فأقبلت صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار قال: وكان ركانة (1) بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب (2) بن عبد مناف أشد قريشا، فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه ؟ قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق ؟ ".
قال نعم ! قال: " فقم حتى أصارعك ".
قال فقام ركانة إليه فصارعه فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم
أضجعه لا يملك من نفسه شيئا ثم قال عد يا محمد فعاد فصرعه.
فقال: يا محمد، والله إن هذا للعجب، أتصرعني ؟ قال [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ]: " وأعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري " ؟.
قال وما هو ؟ قال: " أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني ".
قال:
__________
(1) هو ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي.
وقال البلاذري: لقي ركانة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض جبال مكة..فصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرعه وأسلم ركانة في الفتح وقيل اسلم عقب مصارعته.
قال الزبير: مات بالمدينة في خلافة معاوية وقال أبو نعيم مات في خلافة عثمان وقيل عاش إلى سنة إحدى وأربعين (راجع الاصابة 1 / 520).
(2) في ابن هشام: بن عبد المطلب.

فادعها، فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لها: ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها، قال: فذهب ركانة إلى قومه فقال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الارض فوالله ما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع.
هكذا روى ابن إسحاق هذه القصة مرسلة بهذا البيان.
وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني (1) عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه.
أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال الترمذي غريب ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة.
قلت: وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال: يا محمد ما وضع ظهري إلى الارض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك.
وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه غنمه.
وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت فسيأتي في كتاب دلائل النبوة بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة إن شاء الله وبه الثقة.
وقد تقدم عن أبي الاشدين أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر ابن إسحاق قصة قدوم النصاري من أهل الحبشة نحوا من عشرين راكبا إلى مكة فأسلموا عن آخرهم، وقد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي ولله الحمد والمنة (2).
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد، فجلس (3) إليه المستضعفون من أصحابه خباب، وعمار، وأبو فكيهة، يسار (4)، مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين.
هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا.
فأنزل الله عزوجل فيهم: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك ما حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين، وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (10 / 18) وقال وقد رواه أبو أويس المدني، عن محمد بن عبد الله بن يزيد بن ركانة.
وقال ابن حبان في إسناد خبره في المصارعة نظر وقال في تقريب التهذيب: أبو الحسن العسقلاني مجهول من السابعة.
ورواه الحاكم في المستدرك 3 / 452 ورواه أبو داود في المراسيل.
(2) سيرة ابن هشام ج 2 / 32.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل يجلس، وما أثبتناه مناسب أكثر.
(4) في الاصل: أبو فكيهة ويسار، وهو تحريف وأثبتنا ما في سيرة ابن هشام.

إنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) [ الانعام: 52 - 54 ].
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر، عبد لبني الحضرمي، وكانوا يقولون والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: (إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) [ النحل: 103 ].
ثم ذكر نزول سورة الكوثر في العاص بن وائل حين
قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أبتر أي لا عقب له فإذا مات انقطع ذكره.
فقال الله تعالى: (إن شانئك هو الابتر) أي المقطوع الذكر بعده، ولو خلف ألوفا من النسل والذرية وليس الذكر والصيت ولسان الصدق بكثرة الاولاد والانسال والعقب، وقد تكلمنا على هذه السورة في التفسير ولله الحمد.
وقد روي عن أبي جعفر الباقر: أن العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة.
ثم ذكر نزول قوله: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر) وذلك بسبب قول أبي بن خلف وزمعة بن الاسود والعاص بن وائل والنضر بن الحارث: لولا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك.
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل بن هشام فهمزوه واستهزؤا به، فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن).
قلت: وقال الله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) وقال تعالى: (إنا كفيناك المستهزئين).
قال سفيان: عن جعفر بن أياس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: المستهزؤن الوليد بن المغيرة، والاسود بن عبد يغوث الزهري، والاسود بن المطلب أبو زمعة، والحارث بن عيطل (1)، والعاص بن وائل السهمي.
فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراه الوليد [ أبا عمرو بن المغيرة ] (2) فأشار جبريل إلى أنمله (3) وقال كفيته، ثم أراه الاسود بن المطلب فأومأ إلى عنقه (4) وقال كفيته، ثم أراه الاسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه وقال كفيته، ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه وقال كفيته، ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال
__________
(1) في دلائل البيهقي: الحارث بن عنطلة السهمي، وهو الحارث بن قيس السهمي وهو ابن العنطلة ينسب إلى أمه وفي السهيلي: أنه ابن الطلاطلة وكان يأخذ حجرا يعبده فإذا رأى أحسن منه تركه وأخذ الاحسن.
وفيه نزلت: أرأيت من اتخذ إلهه هواه.
(2) من دلائل البيهقي.
(3) في دلائل البيهقي: أبجله.
(4) في دلائل البيهقي: عينه، وهو مناسب أكثر لما يقتضيه السياق بعد قليل.

كفيته.
فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أنمله فقطعها، وأما الاسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الاسود بن المطلب فعمي.
وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني قد قتلت فجعلوا يقولون ما نرى شيئا.
وجعل يقول يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت، ها هو ذا الطعن بالشوك في عيني.
فجعلوا يقولون ما نرى شيئا.
فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه.
وأما الحارث بن عيطل فأخذه الماء الاصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها.
وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوما إذ دخل في رأسه شبرقة (1) حتى امتلات منها فمات منها.
وقال غيره في هذا الحديث: فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة - يعني شوكة - فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.
رواه البيهقي بنحو من هذا السياق (2).
وقال ابن إسحاق: وكان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، الاسود بن المطلب أبو زمعة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم أعم بصره وأثكله ولده " (3).
والاسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن الطلاطلة (4).
وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون من الله إلها آخر فسوف يعلمون) [ الحجر: 94 ].
وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الاسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي، ومر به الاسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا (5) ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه (6) كان أصابه قبل ذلك بسنين من مروره برجل يريش نبلا له
من خراعة فتعلق سهم بازاره فخدشه خدشا يسيرا، فانتقض بعد ذلك فمات.
ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته.
ومر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتخض (7) قيحا فقتله.
__________
(1) الشبرقة: رطب الضريع (2) دلائل النبوة ج 2 / 317 - 318.
(3) قال البلاذري: خرج يستقبل ابنه وقد قدم من الشام، فلما كان ببعض الطريق جعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورق شجرة جلس في ظلها، حتى عمي، ولما كان يوم بدر قتل ابنه زمعة بن الاسود، قتله أبو دجانة ويقال قتله ثابت بن الجذع.
(4) الطلاطلة، اسم امه وقال الكلبي هو الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، وفي السيرة الشامية: اسمه مالك، والطلاطلة أبوه.
(5) الحبن: انتفاخ البطن.
(6) في ابن هشام: كعب رجله.
(7) من ابن هشام، وفي الاصل فامتحض وهو تحريف، أي أن القيح تحرك في رأسه وانتشر.

ثم ذكر ابن إسحاق: أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة وهم خالد وهشام والوليد.
فقال لهم: أي بني، أوصيكم بثلاث، دمي في خزاعة فلا تطلوه (1)، والله إني لاعلم أنهم منه براء ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم.
ورباي في ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقري (2) عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به.
وكان أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتا له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات، وكان قد قبض عقرها منه - وهو صداقها - فلما مات الوليد وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد، وقالوا إنما قتله سهم صاحبكم، فأبت عليهم خزاعة ذلك حتى تقاولوا أشعارا وغلظ بينهم الامر.
ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل وإصطلحوا وتحاجزوا.
قال ابن إسحاق: ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر وهو بسوق ذي المجاز فقتله، وكان شريفا في قومه.
وكانت ابنته (3) تحت أبي سفيان - وذلك بعد بدر - فعمد يزيد بن أبي سفيان فجمع الناس لبني مخزوم وكان أبو غائبا، فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد فلامه على ذلك وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه: أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضا في رجل من دوس ؟ وكتب حسان بن ثابت قصيدة (4) له يحض أبا سفيان في دم أبي أزيهر، فقال بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضا وقد ذهب أشرافنا يوم بدر.
ولما أسلم خالد بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله في ربا أبيه من أهل الطائف ؟.
قال ابن إسحاق: فذكر لي بعض أهل العلم إن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) [ البقرة: 278 ] وما بعدها.
قال ابن إسحاق: ولم يكن في بني أزيهر ثأر نعلمه حتى حجز الاسلام بين الناس، إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرداس الاسلمي (5) خرج في نفر من قريش إلى أرض دوس فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس، وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر فقامت دونه أم غيلان (6) ونسوة كن معها حتى منعتهم.
قال السهيلي: يقال إنها أدخلته بين درعها وبدنها.
__________
(1) في ابن هشام: فلا تطلنه، لا تطلوه: لا تهدروه، إذا لم يأخذ بالثأر فقد هدر الدم.
(2) العقر: بالضم، دية فرج المرأة المغصوب.
(3) واسمها: عاتكة.
(4) منها: كساك هشام بن الوليد ثيابه * فأبل وأخلف مثلها جددا بعد (5) في ابن هشام: الفهري.
(6) قال ابن هشام عن أبي عبيدة: أن التي قامت دونه أم جميل.
ويحتمل أن تكونا قامتا معا دونه.
وفي ذلك قال ضرار شعرا منه:
جزى الله عنا أم غيلان صالحا * ونسوتها إذ هن شعث عواطل

قال ابن هشام: فلما كانت أيام عمر بن الخطاب أتته أم غيلان وهي ترى أن ضرارا أخوه، فقال لها عمر: لست بأخيه إلا في الاسلام، وقد عرفت منتك عليه فأعطاها على أنها بنت سبيل.
قال ابن هشام: وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: انج يا ابن الخطاب لا أقتلك فكان عمر يعرفها له بعد الاسلام (1) رضي الله عنهما.
فصل وذكر البيهقي هاهنا (2) دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف وأورد ما أخرجاه في الصحيحين من طريق الاعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن ابن مسعود.
قال: خمس مضين، اللزام (3) والروم، والدخان، والبطشة، والقمر.
وفي رواية عن ابن مسعود.
قال: إن قريشا، لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطئوا عن الاسلام.
قال: " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " قال فأصابتهم سنة حتى حصت (4) كل شئ، حتى أكلوا الجيف والميتة وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع.
ثم دعا فكشف الله عنهم، ثم قرأ عبد الله هذه الآية: (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) [ الدخان: 15 ] قال فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم القيامة - أوقال فأخروا إلى يوم بدر - قال عبد الله: إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) [ الدخان: 16 ] قال يوم بدر.
وفي رواية عنه (5) قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارا.
قال: " اللهم سبع كسبع يوسف " فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام.
فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وأن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر.
فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا " فانجذب (6) السحاب عن رأسه فسقي
__________
(1) في ابن هشام: بعد إسلامه، وهذا يؤكد أن ضرارا أدرك الاسلام وأسلم كما في الاشتقاق 1 / 103 شهد أحدا مع المشركين.
(2) أخرج البيهقي في الدلائل 2 / 326.
(3) أخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير - تفسير سورة الدخان ح 4825 فتح الباري 8 / 574 والترمذي في كتاب التفسير 5 / 379 وأحمد في سنده 5 / 128.
اللزام قال في النهاية هو يوم بدر.
(4) من البخاري والبيهقي، والاصل: فحصت وهو تحريف.
والحديث في فتح الباري 8 / 573، وأخرجه البيهقي من طريق الاعمش عن مسلم عن مسروق عن ابن مسعود به.
(5) من طريق أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود.
(6) في البيهقي: فانحدرت السحابة.

الناس حولهم، قال لقد مضت آية الدخان - وهو الجوع الذي أصابهم - وذلك قوله: (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) وآية الروم (1)، والبطشة الكبرى.
وانشقاق القمر، وذلك كله يوم بدر.
قال البيهقي: يريد - والله أعلم - البطشة الكبرى والدخان وآية اللزام كلها حصلت ببدر.
قال وقد أشار البخاري إلى هذه الرواية.
ثم أورد من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب [ السختياني ] عن عكرمة عن ابن عباس.
قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث من الجوع لانهم لم يجدوا شيئا حتى أكلوا العهن (2)، فأنزل الله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) [ المؤمنون: 76 ] قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرج الله عنهم.
ثم قال الحافظ البيهقي: وقد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة (3)، ولعله كان مرتين والله أعلم.
فصل ثم أورد البيهقي قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى: (آلم غلبت الروم في أدنى الارض
وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) [ الروم: 1 - 6 ].
ثم روى من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة (4) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لانهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لانهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لابي بكر فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال [ له ]: " أما أنهم سيظهرون " فذكر أبو بكر ذلك للمشركين فقالوا: إجعل بيننا وبينك أجلا إن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا جعلته أداة " (5).
قال دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك.
وقد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المباحث - أي المراهن - لابي بكر أمية بن
__________
(1) في البيهقي: وآية الردم.
(2) في البيهقي: العلهز بالدم.
والعلهز هو الصوف والوبر كانوا يبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه.
(3) قال القرطبي في أحكام القرآن: وقال ابن عباس: نزلت في قصة تمامة بن أثال لما أسرته السرية وأسلم، وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، حال بين مكة وبين الميرة، وقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الله قريشا بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز.
12 / 143.
(4) من البيهقي، وفي الاصل عمرو.
(5) وقع خلل ونقص هنا في العبارة، وجاءت عند البيهقي 2 / 330 أكثر وضوحا قال: فجعل بينهم أجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته - أراه قال دون العشرة - قال: فظهرت الروم بعد ذلك.

خلف وأن الرهن كان على خمس قلايص، وأنه كان إلى مدة، فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرهن.
وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر - أو كان يوم الحديبية - فالله أعلم.
ثم روى من طريق الوليد بن مسلم حدثنا أسيد الكلابي أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه.
قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم وظهورهم على الشام والعراق، كل ذلك في خمس عشرة سنة.
فصل الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ذكر ابن عساكر أحاديث الاسراء في أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين، وروى البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: أسري (1) برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة.
قال: وكذلك ذكره ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة.
ثم روى الحاكم عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن أسباط بن نصر عن إسماعيل السدي.
أنه قال: فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة أسري به قبل مهاجره بستة عشر شهرا (2)، فعلى قول السدي يكون الاسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الاول.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عثمان عن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس.
قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الاول.
وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات.
فيه انقطاع.
وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته وقد أورد حديثا لا يصح سنده ذكرناه في فضائل شهر رجب أن الاسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم.
ومن الناس من يزعم أن الاسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة ولا أصل لذلك والله أعلم.
وينشد بعضهم في ذلك:
__________
(1) لم يختلف القراء في أسرى.
وقال أهل اللغة إن أسرى وسرى بمعنى واحد.
قال السهيلي: السري من سريت إذا سرت ليلا يعني فهو لازم والاسراء يتعدى في المعنى لكن حذف مفعوله حتى ظن من ظن أنهما بمعنى واحد، وإنما معنى أسري بعبده جعل البراق يسري به.
(2) اختلف العلماء في تحديد في أي زمان وقع الاسراء، واتفقوا على أن الاسراء كان بعد البعثة في مكة - وقبل
الهجرة - وجزم جمع بأنه كان قبل الهجرة بسنة، ورجح النووي أنه كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الاول قبل الهجرة بسنة.

ليلة الجمعة عرج بالنبي * ليلة الجمعة أول رجب وهذا الشعر عليه ركاكة وإنما ذكرناه استشهادا لمن يقول به.
وقد ذكرنا الاحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الاسانيد والعزو، والكلام عليها ومعها ففيها مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة.
ولنذكر ملخص كلام ابن إسحاق رحمه الله فإنه قال بعد ذكر ما تقدم من الفصول: ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى - وهو بيت المقدس من إيلياء - وقد فشا الاسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها.
قال: وكان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن [ عبد الله ] بن مسعود وأبي سعيد [ الخدري ] وعائشة ومعاوية وأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنهم والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر لي من أمره.
وكان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر لي منه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله وقدرته وسلطانه، فيه عبرة لاولي الالباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد.
وكان عبد الله بن مسعود - فيما بلغني - يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الانبياء قبله، تضع حافرها في موضع منتهى طرفها - فحمل عليها ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والارض حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الانبياء قد جمعوا له، فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية: من لبن، وخمر، وماء.
فذكر أنه شرب اناء اللبن، فقال لي جبريل هديت وهديت أمتك.
وذكر ابن إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلا أن
جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام فأركبه البراق وهو دابة أبيض، بين البغل والحمار، وفي فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع حافره في منتهى طرفه، ثم حملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته.
قلت: وفي الحديث وهو عن قتادة فيما ذكره ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد ركوب البراق شمس (1) به فوضع جبريل يده على معرفته (2) ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع، فوالله ما ركبك عبد الله قبل محمد أكرم عليه منه.
قال فاستحى حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبته.
قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريل حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الانبياء فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، ثم ذكر
__________
(1) شمس به: يقال شمس الفرس: إذا لم يمكن أحدا من ظهره ولا من الاسراج والالجام ولا يكاد يستقر.
(2) المعرفة: اللحم الذي ينبت عليه شعر العرف.

اختياره إناء اللبن على إناء الخمر وقول جبريل له هديت وهديت أمتك، وحرمت عليكم الخمر.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأصبح يخبر قريشا بذلك فذكر أنه كذبه أكثر الناس وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق وقال إني لاصدقه في خبر السماء بكرة وعشية أفلا أصدقه في بيت المقدس وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس فذكرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيومئذ سمي أبو بكر الصديق.
قال الحسن وأنزل الله في ذلك: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) الآية.
وذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ.
أنها قالت: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من بيتي نام عندي تلك الليلة بعدما صلى العشاء الآخرة، فلما كان قبيل الفجر أهبنا (1) فلما صلى (2) الصبح وصلينا معه.
قال: يا أم هاني، لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين " ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فقلت يا نبي الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك.
قال: " والله لاحدثنهموه " فأخبرهم فكذبوه.
فقال وآية ذلك أني مررت
بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان (3) مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشئ فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان.
وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء (4) يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والاخرى برقاء.
قال: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم، وسألوهم عن الاناء وعن البعير فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.
وذكر يونس بن بكير عن أسباط عن إسماعيل السدي أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عزوجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم.
قال فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون.
رواه البيهقي.
قال ابن إسحاق: وأخبرني من لا أتهم عن أبي سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني فيه صاحبي، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال
__________
(1) أهبنا: أيقظنا.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل، كان الصبح.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل صحنان.
وضجنان بالتحريك: جبل بناحية تهامة قال الواقدي: بين ضجنان ومكة خمسة وعشرون ميلا.
(4) التنعيم موضع بمكة في الجبل، وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة.
والبيضاء عقبة - فيه - قرب مكة، اسفل مكة من قبل ذي طوى وأنت مقبل إليها من المدينة.
(راجع معجم البلدان).

له: باب الحفظة عليه بريد (1) من الملائكة يقال له: اسماعيل، تحت يده اثنا عشر ألف ملك، تحت يد كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك، قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث بهذا الحديث
(وما يعلم جنود ربك إلا هو).
ثم ذكر بقية الحديث وهو مطول جدا وقد سقناه باسناده ولفظه بكماله في التفسير وتكلمنا عليه فإنه من غرائب الاحاديث وفي إسناده ضعف، وكذا في سياق حديث أم هانئ فإن الثابت في الصحيحين من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس أن الاسراء كان من المسجد من عند الحجر وفي سياقه غرابة أيضا من وجوه قد تكلمنا عليها هناك ومنها قوله: وذلك قبل أن يوحى إليه، والجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شئ ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى ولم يقل في ذلك، وذلك قبل أن يوحى إليه بل جاءه بعد ما أوحي إليه فكان الاسراء قطعا بعد الايحاء إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون وهو الاظهر، وغسل صدره تلك الليلة قبل الاسراء غسلا ثانيا - أو ثالثا - على قول أنه مطلوب إلى الملا الاعلى والحضرة الالهية ثم ركب البراق رفعة له وتعظيما وتكريما فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التي كانت تربط بها الانبياء ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد.
وأنكر حذيفة رضي الله عنه دخوله إلى بيت المقدس وربطه الدابة وصلاته فيه وهذا غريب، والنص المثبت مقدم على النافي.
ثم اختلفوا في اجتماعه بالانبياء وصلاته بهم أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب كما سنذكره على قولين فالله أعلم.
وقيل إن صلاته بالانبياء كانت في السماء، وهكذا تخيره من الآنية اللبن والخمر والماء هل كانت ببيت المقدس كما تقدم أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم فصعد فيه إلى السماء ولم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة.
فصعد من سماء إلى سماء في المعراج حتى جاوز السابعة وكلما جاء سماء تلقته منها مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والانبياء وذكر أعيان من رآه من المرسلين كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية (2) وإدريس في الرابعة، وموسى في السادسة - على الصحيح - وإبراهيم في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافا ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر
لمستوى يسمع فيه صريف الاقلام، ورفعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة ألوان متعددة باهرة وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة وفراش من ذهب وغشيها من نور الرب جل جلاله ورأى هناك
__________
(1) في ابن هشام: ملك من الملائكة.
(2) في الاصول لم يذكر الثالثة ولا الخامسة.
وفي ابن هشام: رأى يوسف بن يعقوب صورته كصورة القمر ليلة البدر، وفي الخامسة رأى هارون بن عمران كهلا أبيض الرأس واللحية.

جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والارض وهو الذي يقول الله تعالى: (لقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى) أي ما زاغ يمينا ولا شمالا ولا ارتفع عن المكان الذي حد له النظر إليه.
وهذا هو الثبات العظيم والادب الكريم وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.
والاولى هي قوله تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالافق الاعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) وكان ذلك بالابطح، تدلى جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سادا عظم خلقه ما بين السماء والارض حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى، هذا هو الصحيح في التفسير كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم.
فأما قول شريك عن أنس في حديث الاسراء ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث والله أعلم.
وإن كان محفوظا فليس بتفسير للآية الكريمة بل هو شئ آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة والله أعلم.
وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلوات ليلتئذ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عزوجل حتى وضعها الرب جل جلاله وله الحمد والمنة إلى خمس.
وقال هي خمس وهي خمسون الحسنة بعشر أمثالها، فحصل له التكليم من الرب عزوجل ليلتئذ، وأئمة السنة
كالمطبقين على هذا، واخلفوا في الرؤية فقال بعضهم رآه بفؤاده مرتين، قاله ابن عباس وطائفة، وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد، وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين وأختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين.
وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الاشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه.
وقالت طائفة لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم.
قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال: " نور أنى أراه " وفي رواية " رأيت نورا ".
قالوا ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روى في بعض الكتب الالهية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف والله أعلم: ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والظاهر أن الانبياء هبطوا معه تكريما له وتعظيما عند رجوعه من الحضرة الالهية العظيمة كما هي عادة الوافدين لا يجتمعون بأحد قبل الذي طلبوا إليه، ولهذا كان كلما مر على واحد منهم يقول له جبريل - عندما يتقدم ذاك للسلام عليه - هذا فلان فسلم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعرف بهم مرة ثانية.
ومما يدل على ذلك أنه قال فلما حانت الصلاة: أممتهم.
ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عزوجل، فاستفاد بعضهم من هذا أن الامام الاعظم يقدم في الامامة على رب المنزل حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم، ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة فأصبح بها وهو في غاية الثبات

والسكينة والوقار.
وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والامور التي لو رآها - أو بعضها - غيره لاصبح مندهشا أو طائش العقل، ولكنه صلى الله عليه وسلم أصبح واجما - أي ساكنا - يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطف بإخبارهم أولا بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو جالس واجم.
فقال له: هل من خبر ؟ فقال نعم ! فقال: وما هو ؟ فقال إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس.
قال إلى بيت
المقدس ؟ قال نعم ! قال أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما أخبرتني به ؟ قال نعم فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم.
فقال أبو جهل: هيا معشر قريش وقد اجتمعوا من أنديتهم فقال أخبر قومك بما أخبرتني به، فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه، فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيبا له واستبعادا لخبره وطار الخبر بمكة وجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فأخبروه أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا.
فقال: إنكم تكذبون عليه فقالوا والله إنه ليقوله.
فقال: إن كان قاله فلقد صدق.
ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله مشركي قريش فسأله عن ذلك فأخبره فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به.
وفي الصحيح: أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قال: فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس علي بعض الشئ، فجلى الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم.
فقال: أما الصفة فقد أصاب (1).
وذكر ابن إسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم وما كان من شربه مائهم، فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة، فآمن من آمن على يقين من ربه وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه.
كما قال الله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) [ الاسراء: 60 ] أي اختبارا لهم وامتحانا.
قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مذهب جمهور السلف والخلف من الاسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك.
ولهذا قال فقال: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه) [ الاسراء: 1 ] والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة فدل على أنه بالروح والجسد والعبد عبارة عنهما.
وأيضا فلو كان مناما لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به والاستبعاد له إذ ليس في ذلك
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 309 عن ابن عباس، وأبو نعيم وابن مردويه من طريق قابوس عن أبيه بسند صحيح.
ونقله البيهقي في دلائله ج 2 / 363.
وأخرج البيهقي الجزء الاخير من الحديث عن جابر أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني قريش قمت إلى الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه.
والحديث في صحيح البخاري 63 كتاب مناقب الانصار (41) باب حديث الاسراء الحديث 3886.

كبير أمر، فدل على أنه أخبرهم بأنه أسري به يقظة لا مناما.
وقوله في حديث شريك عن أنس: ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فكذبوه، قال فرجعت مهموما فلم استفق إلا بقرن الثعالب، وفي حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث مع الناس فرفع أبو أسيد ابنه، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا رفع فسماه المنذر.
وهذا الحمل أحسن من التغليط والله أعلم.
وقد حكى ابن إسحاق فقال حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرى بروحه.
قال: وحدثني يعقوب بن عتبة: أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.
قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) وكما قال إبراهيم عليه السلام: (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) وفي الحديث: " تنام عيناي (1) وقلبي يقظان ".
قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان، قد جاءه، وعاين فيه ما عاين، من أمر الله تعالى، على أي حالة كان نائما أو يقظان (2) كل ذلك حق وصدق.
قلت: وقد توقف ابن إسحاق في ذلك وجوز كلا من الامرين من حديث الجملة، ولكن الذي لا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظان لا محالة لما تقدم وليس مقتضى كلام عائشة رضي الله عنها أن جسده صلى الله عليه وسلم ما فقد وإنما كان الاسراء بروحه أن يكون مناما كما فهمه ابن إسحاق، بل قد
يكون وقع الاسراء بروحه حقيقة وهو يقظان لا نائم وركب البراق وجاء بيت المقدس وصعد السموات وعاين ما عاين حقيقة ويقظة لا مناما.
لعل هذا مراد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ومراد من تابعها على ذلك.
لا ما فهمه ابن إسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام والله أعلم.
تنبيه: ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الاسراء طبق ما وقع بعد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل عيني وهو تحريف.
والحديث أخرجه البخاري في كتاب التهجد 16 باب والتراويح 1 باب وكتاب المناقب باب 24.
ومسلم في كتاب صلاة المسافرين 125، وأبو داود في كتاب الطهارة 79 والترمذي في كتاب المواقيت 208 وفي كتاب الفتن 63 والموطأ في صلاة الليل 9 وأحمد في مسنده 1 / 22، 278 و 2 / 251 و 5 / 40، 50 و 6 / 36، 73، 104.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل يقظانا وهو خطأ.
والخبر في السيرة ج 2 / 40 - 41.

رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله ليكون ذلك من باب الارهاص والتوطئة والتثبت والايناس والله أعلم.
ثم قد اختلف العلماء في أن الاسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة ؟ فمنهم من يزعم أن الاسراء في اليقظة، والمعراج في المنام.
وقد حكى المهلب (1) بن أبي صفرة في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن الاسراء مرتين، مرة بروحه مناما، ومرة ببدنه وروحه يقظة وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه.
قال السهيلي: وهذا القول يجمع الاحاديث فإن في حديث شريك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه، وقال في آخره: ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر وهذا منام.
ودل غيره على اليقظة، ومنهم من يدعي تعدد الاسراء في اليقظة أيضا حتى قال بعضهم: إنها أربع إسراءات، وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق
بين اختلاف ما وقع في روايات حديث الاسراء بالجمع المتعدد فجعل ثلاث إسراءات، مرة من مكة إلى البيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماء على البراق أيضا لحديث حذيفة، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات (2).
فنقول: إن كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصيا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) وإن كان إنما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة إلى بيت المقدس وإلى السموات فلا يلزم من الحصر العقلي والوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل والله أعلم.
والعجب أن الامام أبا عبد الله البخاري رحمه الله ذكر الاسراء بعد ذكره موت أبي طالب فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الامر، وخالفه في ذكره بعد موت أبي طالب، وابن إسحاق أخر ذكر موت أبي طالب على الاسراء، فالله علم أي ذلك كان.
والمقصود أن البخاري فرق بين الاسراء وبين المعراج فبوب لكل واحد منهما
__________
(1) في السهيلي: " ورأيت المهلب في شرح البخاري "، وليس هو المهلب الازدي أمير خراسان.
(2) قال صاحب الظلال في تفسير سورة الاسراء " والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك فراشه في بيت أم هانئ إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسرى به وعرج ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد.
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الوقعة المؤكدة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسافة بين الاسراء والمعراج بالروح أو بالجسم وبين أن تكون رؤيا في المنام أو رؤيا في اليقظة..المسافة بين هذه الحالات كلا ليست بعيدة، ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة..والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الالهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعة شيئا..".

بابا على حدة فقال: باب حديث الاسراء وقول الله سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده
ليلا) حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لما كذبتني قريش كنت (1) في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أحدثهم (2) عن آياته وأنا أنظر إليه " (3).
وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر به.
ورواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
ثم قال البخاري باب حديث المعراج: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به.
قال: " بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعا (4) إذ أتاني آت " فقال (5) وسمعته يقول: " فشق ما بين هذه إلى هذه " فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به.
قال: من نقرة (6) نحره إلى شعرته، وسمعته يقول من قصه إلى شعرته.
" فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض " فقال الجارود: وهو البراق يا أبا حمزة ؟ قال أنس: نعم !: " يضع خطوه عند أقصى طرفه.
فحملت عليه، فانطلق بي جبرائيل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح قيل من هذا ؟ قال جبرائيل قيل ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم ! قيل: مرحبا به فنعم المجئ جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه [ قال نعم ! ] (7) قيل: مرحبا به فنعم المجئ جاء، ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة.
قال هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت عليهما فردا ثم قالا: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبرائيل قيل من هذا ؟ قال جبرائيل قال ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم ! قيل: مرحبا به فنعم المجئ جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال:
__________
(1) في البخاري والبيهقي: قمت.
(2) في البخاري والبيهقي: أخبرهم.
(3) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 41 باب حديث الاسراء ح 3886 فتح الباري 7 / 196 ومسلم في (1) كتاب الايمان 75 باب حديث 276 وأخرجه الترمذي في تفسير سورة الاسراء وقال: حسن صحيح.
(4) من البخاري والبيهقي، وفي الاصل مضجعا.
(5) في البخاري والبيهقي: فقد، قال: وسمعته يقول.
(6) في البخاري: ثغرة نحره، والمعنى واحد.
(7) من البيهقي.

مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل قال: ومن معك ؟ قال: محمد قيل وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم ! قيل مرحبا به فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد، ثم قال مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا ؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك ؟ قال محمد قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال نعم ! قيل مرحبا به فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا هارون قال هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبرائيل قيل ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال نعم ! قيل مرحبا به فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا موسى قال هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح.
فلما تجاوزت بكى، فقيل له ما يبكيك ؟ قال: أبكي لان غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي.
ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبرائيل قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك ؟ قال محمد.
قيل وقد بعث إليه ؟ قال نعم ! قيل مرحبا به فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا إبراهيم
قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار، نهران ظاهران، ونهران باطنان.
فقلت: ما هذا يا جبرائيل ؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت باناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن قال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك.
ثم فرض علي الصلوات خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال بما أمرت ؟ قال أمرت بخمسين صلاة كل يوم.
قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله جريت الناس قبلك وعالجت بني اسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لامتك، فرجعت فوضع عني عشرا.
فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا.
فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا.
فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت ؟ فقلت: بخمس صلوات كل يوم.
قال إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني اسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لامتك.
قال: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم.
قال: فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي ".
هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا (1).
وقد رواه في مواضع أخر من صحيحه ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن قتادة عن
__________
(1) البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 42 باب المعراج حديث 3887 فتح الباري 7 / 301 وفي 59 كتاب بدء =

أنس عن مالك بن صعصعة.
ورويناه من حديث أنس بن مالك عن أبي بن كعب.
ومن حديث أنس عن أبي ذر.
ومن طرق كثيرة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا ذلك مستقصى بطرقه وألفاظه في التفسير، ولم يقع في هذا السياق ذكر بيت المقدس، وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه أو يذكر ما هو الاهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن
مخاطبه بما هو الانفع عنده.
ومن جعل كل رواية اسراد على حدة كما تقدم عن بعضهم فقد أبعد جدا.
وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الانبياء، وفي كل منها يعرفه بهم، وفي كلها يفرض عليه الصلوات.
فكيف يمكن أن يدعي تعدد ذلك ؟ هذا في غاية البعد والاستحالة والله أعلم.
ثم قال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس).
قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، والشجرة الملعونة في القرآن.
قال: هي شجرة الزقوم (1).
فصل ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من صبيحة ليلة الاسراء جاءه جبرائيل عند الزوال فبين له كيفية الصلاة وأوقاتها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاجتمعوا وصلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقتدي بجبرائيل كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر: " أمني جبرائيل عند البيت مرتين ".
فبين له الوقتين الاول والآخر، فهما وما بينهما الوقت الموسع، ولم يذكر توسعة في وقت المغرب.
وقد ثبت ذلك في حديث أبي موسى وبريدة وعبد الله بن عمرو وكلها في صحيح مسلم.
وموضع بسط ذلك في كتابنا الاحكام ولله الحمد.
فأما ما ثبت في صحيح البخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر (2).
وكذا رواه الاوزاعي عن الزهري، ورواه الشعبي عن مسروق عنها وهذا مشكل من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر، وكذا عثمان بن عفان وقد تكلمنا على ذلك عند قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم
__________
= الخلق 6 باب ومسلم في 1 كتاب الايمان 74 باب ح 264 والترمذي في أول تفسير سورة الاسراء والنسائي في قيام الليل وأحمد في مسنده 3 / 148 - 248.
(1) أخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير - تفسير سورة الاسراء (9) باب ح 4716 فتح الباري 8 / 398.
الزقوم: وهي فعول من الزقم اللقم الشديد، والشراب المفرط، وشجرة الزقوم وصفها الله في كتابه العزيز
فقال: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين).
وقيل أكل الزبد والتمر بلغة أفريقيا: الزقوم.
(النهاية لابن الاثير).
(2) أخرجه البخاري في أول كتاب الصلاة، وابن خزيمة 1 / 156 والبيهقي في السنن الكبرى 1 / 362 ومسلم في صلاة المسافرين الحديث 3 ص 478.

جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) [ النساء: 101 ].
قال البيهقي (1): وقد ذهب الحسن البصري إلى أن صلاة الحضر أول ما فرضت أربعا كما ذكره مرسلا من صلاته عليه السلام صبيحة الاسراء الظهر أربعا، والعصر أربعا والمغرب ثلاثا يجهر في الاوليين، والعشاء أربعا يجهر في الاوليين.
والصبح ركعتين يجهر فيهما.
قلت: فلعل عائشة أرادت أن الصلاة كانت قبل الاسراء تكون ركعتين ركعتين (2) ثم لما فرضت الخمس فرضت حضرا على ما هي عليه، ورخص في السفر أن يصلي ركعتين كما كان الامر عليه قديما وعلى هذا لا يبقي إشكال بالكلية والله أعلم.
فصل [ في ] انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الله له آية على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: (اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا واتعبوا أهواءهم وكل أمر مستقر) [ القمر: 1 - 3 ] وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام.
وجاءت بذلك الاحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها.
ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير فذكرنا الطرق والالفاظ محررة، ونحن نشير ههنا إلى أطراف من طرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته.
وذلك مروي عن أنس بن مالك، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عباس،
وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
أما أنس فقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين (3).
فقال: (اقتربت الساعة وانشق القمر) ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به وهذا من مرسلات
__________
(1) دلائل النبوة ج 2 / 407.
(2) وقال البيهقي في السنن الكبرى 1 / 362: ففي هذا الحديث وما روي في معناه دليل على أن ذلك كان بمكة بعد المعراج، وأن الصلوات الخمس فرضت حينئذ بأعدادهن، وقد ثبت ذلك عن عائشة - رضي الله عنها - خلاف ذلك.
(3) مسند أحمد ج 1 / 377، 413، 447 و 3 / 275 و 4 / 82.
ومسلم في صحيحه في 50 كتاب المنافقين (8) باب انشقاق القمر ج 4 / 2159.

الصحابة، والظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الجميع وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شيبان.
زاد البخاري وسعيد بن أبي عروبة وزاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن قتادة عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما لفظ البخاري (1).
وأما جبير بن مطعم فقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم [ عن أبيه ].
قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فرقه على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل.
فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به أحمد.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به.
وقد رواه البيهقي من طريق ابراهيم بن طهمان وهشيم كلاهما عن حصين بن عبد الرحمن عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده به (2)، فزاد رجلا في الاسناد.
وأما حذيفة بن اليمان: فروى أبو نعيم في الدلائل (3) من طريق عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي.
قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (اقتربت الساعة وانشق القمر) ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.
فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبي إلى الجمعة فحمد الله وقال مثله وزاد: ألا وإن السابق من سبق إلى الجمعة.
فلما كنا في الطريق قلت لابي ما يعني بقوله - غدا السباق.
قال من سبق إلى الجنة.
وأما ابن عباس: فقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير (4) حدثنا بكر، عن جعفر [ بن ربيعة ]، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس.
قال: إن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر - وهو ابن مضر (5) - عن جعفر قوله: (اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر).
__________
(1) أخرجه البخاري في 61 كتاب المناقب 27 باب حديث 3627 فتح الباري 6 / 631 وفي 63 كتاب المناقب 36 باب فتح الباري 7 / 183 وفتح الباري 8 / 617 ومسلم في 50 كتاب المنافقين 8 باب انشقاق القمر حديث (43 - 47 - 48).
(2) دلائل النبوة ج 2 / 268.
(3) لم أجده في دلائل أبي نعيم المطبوع، وفيها روايات أخر عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس راجع الصفحات (233 - 236.
) (4) من البخاري فتح الباري 8 / 499 وفي الاصل كثير وهو تحريف.
(5) من البخاري: فتح الباري 8 / 499 وفي الاصل ونسخ البداية المطبوعة نصر وهو تحريف.

قال: قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو من مرسلاته (1).
وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهيل حدثنا عبد الغني بن سعيد حدثنا موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن
عطاء عن ابن عباس.
وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: (اقتربت الساعة وانشق القمر).
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والاسود بن عبد يغوث، والاسود بن المطلب [ بن أسد بن عبد العزى ]، وزمعة بن الاسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم [ كثير ] (2).
فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان (3).
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إن فعلت تؤمنوا ؟ " قالوا نعم ! وكانت ليلة بدر - فسأل الله عزوجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر قد سلب (4) نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الاسد والارقم بن الارقم اشهدوا.
ثم قال أبو نعيم.
وحدثنا سليمان بن أحمد (5)، حدثنا الحسن بن العباس الرازي، عن الهيثم بن العمان، حدثنا اسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس.
قال: انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله ؟ فهبط جبرائيل فقال يا محمد قل لاهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها.
فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبرائيل فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة، فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا.
فقالوا: يا محمد ما هذا إلا سحر واهب فأنزل الله: (اقتربت الساعة وانشق القمر).
ثم روى الضحاك عن ابن عباس.
قال: جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرنا آية حتى نؤمن بها، فسأل ربه فأراهم القمر قد انشق بجزئين، أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب.
فقالوا: هذا سحر مفترى.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سحر القمر فنزلت: (اقتربت
__________
(1) البخاري في 65 كتاب التفسير - تفسير سورة القمر 1 باب ح 4866 فتح الباري 8 / 499 ومسلم في 50 كتاب
المنافقين 8 باب حديث 48.
(2) ما بين معكوفين من دلائل النبوة لابي نعيم ص 234.
(3) أبو قبيس وقعيقعان جبلا مكة.
(4) في دلائل أبي نعيم: قد مثل نصفا.
(5) لا أثر للحديث في دلائل أبي نعيم المطبوع.

الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر).
وهذا إسناد جيد وفيه أنه كسف تلك الليلة فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه ولهذا خفي أمره على كثير من أهل الارض ومع هذا قد شوهد ذلك في كثير من بقاع الارض ويقال: إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبني بناء تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر.
وأما ابن عمر فقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الاعمش عن مجاهد به.
قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود (1).
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وأما عبد الله بن مسعود: فقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر عن ابن مسعود.
قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا.
وهكذا أخرجاه من حديث سفيان - وهو بن عيينة - به.
ومن حديث الاعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن سمرة عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اشهدوا " وذهبت فرقة نحو الجبل.
لفظ البخاري (2).
ثم قال البخاري وقال أبو الضحاك عن مسروق عن عبد الله - بمكة - وتابعه محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله رضي الله عنه (3).
وقد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن
مسعود.
قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة.
فقالوا: أنظروا ما يأتيكم به السفار ؟ فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
قال فجاء السفار فقالوا ذلك (4).
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله.
قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين.
فقال كفار قريش لاهل مكة (5): هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، أنظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به.
قال فسئل السفار، قال - وقدموا من
__________
(1) دلائل النبوة ج 2 / 267 ومسلم في (50) كتاب المنافقين عن عبيدالله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن الاعمش عن مجاهد عمر ابن عمر.
ومن طريق شعبة عن أبي معمر عن ابن مسعود ج 4 / 2159.
(2) هذا ليس بلفظ البخاري.
(3) البخاري في 65 كتاب التفسير (1) باب وانشق القمر فتح الباري 8 / 499 وفي 61 كتاب المناقب 27 باب وفي 63 كتاب مناقب الانصار 26 باب.
فتح الباري 7 / 182.
(4) أنظر الحاشية السابقة.
(5) في دلائل البيهقي ج 2 / 266: فقال كفار أهل مكة، ورواه أبو نعيم في دلائله ص 234.

كل وجهة - فقالوا: رأينا.
وهكذا رواه أبو نعيم: من حديث جابر، عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله به.
وقال الامام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الاسود عن عبد الله - وهو ابن مسعود -.
قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسباط عن سماك به.
وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا يزيد، عن عطاء، عن سماك، عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين، فرقة خلف الجبل.
فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " إشهدوا، إشهدوا " وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم بن أبي إياس، ثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن عتبة عن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود.
قال: انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة.
وحدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا معاوية بن عمرو عن زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله.
قال: انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين.
ثم روى من حديث علي بن سعيد بن مسروق حدثنا موسى بن عمير عن منصور بن المعتمر عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود.
قال: رأيت القمر والله منشقا باثنتين بينهما حراء.
وروى أبو نعيم من طريق السدي الصغير عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس.
قال: انشق القمر فلقتين.
فلقة ذهبت، وفلقة بقيت.
قال ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء بين فلقتي القمر، فذهب فلقة.
فتعجب أهل مكة من ذلك وقالوا هذا سحر مصنوع سيذهب.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد.
قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابي بكر: " فاشهد يا أبا بكر " وقال المشركون: سحر القمر حتى انشق.
فهذه طرق متعددة قوية الاسانيد تفيد القطع لمن تأملها وعرف عدالة رجالها.
وما يذكره بعض القصاص من أن القمر سقط إلى الارض حتى دخل في كم النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من الكم الآخر فلا أصل له، وهو كذب مفترى ليس بصحيح.
والقمر حين انشق لم يزايل السماء غير أنه حين أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم انشق عن إشارته فصار فرقتين، فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء، ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك.
وما وقع في رواية أنس في مسند أحمد: فانشق القمر بمكة مرتين فيه نظر، والظاهر أنه أراد فرقتين (1) والله أعلم.
__________
(1) علق ابن حجر في فتح الباري على قول ابن كثير قال: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات، ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور ولفظه: فصار فرقتين: فرقة علت * وفرقة للطود منه نزلت وذاك مرتين بالاجماع * والنص والتواتر والسماع
فجمع بين قوله: فرقتين وبين قوله: مرتين، فيمكن أن يتعلق قوله بالاجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد أ.
ه - فتح الباري 7 / 183.

فصل [ في ] وفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها.
وقيل بل هي توفيت قبله والمشهور الاول.
وهذان المشفقان، هذا في الظاهر وهذه في الباطن، هذاك كافر وهذه مؤمنة صديقة رضي الله عنها وأرضاها.
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الابتلاء (1) يسكن إليها، وبهلك عمه أبي طالب، وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه.
وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا.
فحدثني هشام بن عروة عن أبيه.
قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك " ويقول بين ذلك: " ما نالت مني (2) قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ".
وذكر ابن إسحاق قبل ذلك: أن أحدهم ربما طرح الاذى في برمته إذا نصبت له.
قال فكان إذا فعلوا ذلك كما حدثني عمر بن عبد الله عن عروة يخرج بذلك الشئ على العود فيقذفه على بابه ثم يقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا ؟ ثم يلقيه في الطريق.
قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا (3).
قال ابن إسحاق:
وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد [ بن عباس ] عن بعض أهله عن ابن عباس قال: لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه - وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم..فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ لنا منه، وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه.
__________
(1) في ابن هشام: على الاسلام يشكو إليها.
(2) من ابن هشام 2 / 58: وفي الاصل: ما نالتني.
(3) أي يغلبونا عليه ويسلبونا إياه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55