كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه، وقد تقدم أن هوازن بكمالها متوالية برضاعته من بني سعد بن بكر وهم شرذمة من هوازن، فقال خطيبهم زهير بن صرد: يا رسول الله إنما في الحظائر أمهاتك وخالاتك وحواضنك فامنن علينا من الله عليك وقال فيما قال: أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديما وحديثا خصوصا وعموما.
وقد ذكر الواقدي: عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل عن أبيه قال: كان
النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس فكان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالاسلام، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الاخوة، وبنو العم.
ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد، قال ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه فلم يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أنضير ؟ " قلت لبيك، قال " هلك لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ؟ " قال فأقبلت إليه سريعا فقال " قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع " قلت قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم زده ثباتا " قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتا في الدين، وتبصرة بالحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي هداه " (1).
عمرة الجعرانة في ذي القعدة قال الامام أحمد: ثنا بهز وعبد الصمد المعنى قالا: ثنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات.
عمرته زمن الحديبية وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته (2).
ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طرق عن همام بن يحيى به.
وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني العطار - عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: إعتمر رسول الله
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 205.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (35) باب الحديث (4148) ومسلم في كتاب الحج (35) باب.
الحديث (217).

صلى الله عليه وسلم أربع عمر، عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع
حجته.
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث داود بن عبد الرحمن العطار المكي عن عمرو بن دينار به.
وحسنه والترمذي.
وقال الامام أحمد: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثنا حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - قال: إعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الجحر.
(الحجر) غريب من هذا الوجه وهذه الثلاث عمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع الحجة وإن أراد ابتداء الاحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية لانه صد عنها ولم يفعلها.
والله أعلم.
قلت: وقد كان نافع ومولاه ابن عمر ينكران أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة بالكلية وذلك فيما قال البخاري: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به، قال وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر: يا عبد الله انظر ما هذا ؟ قال من رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي، قال اذهب فأرسل الجاريتين.
قال نافع: ولم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة ولو اعتمر لم يخف على عبد الله، وقد رواه مسلم من حديث أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر به.
ورواه مسلم أيضا عن أحمد بن عبدة الضبي عن حماد ابن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال: لم يعتمر منها.
وهذا غريب جدا عن ابن عمرو عن مولاه نافع في إنكارهما عمرة الجعرانة وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وذكر ذلك أصحاب المغازي والسنن كلهم.
وهذا أيضا كما ثبت في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح عن عروة عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب وقالت: يغفر الله لابي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط.
وقال الامام أحمد: ثنا ابن نمير، ثنا الاعمش، عن مجاهد قال سأل عروة بن الزبير ابن عمر في أي
شهر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال في رجب فسمعتنا عائشة فسألها ابن الزبير وأخبرها بقول ابن عمر فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وقد شهدها وما اعتمر عمرة قط إلا في ذي القعدة، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث جرير عن منصور عن مجاهد به نحوه.
ورواه أبو داود والنسائي أيضا من حديث زهير عن أبي اسحاق عن مجاهد سئل ابن عمركم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال مرتين، فقالت عائشة لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع.
قال الامام أحمد ثنا يحيى بن آدم، ثنا مفضل، عن منصور عن مجاهد قال: دخلت مع عروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة وأناس

يصلون الضحى، فقال عروة: أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة ؟ قال بدعة، فقال له عروة أبا عبد الرحمن كم اعتمر رسول الله ؟ فقال أربعا إحداهن في رجب، قال وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال لها عروة إن أبا عبد الرحمن يزعم أن رسول الله اعتمر أربعا إحداهن في رجب ؟ فقلت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط (1).
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن الحسن بن موسى عن شيبان عن منصور وقال حسن صحيح غريب.
وقال الامام أحمد: ثنا روح ثنا ابن جريج أخبرني مزاحم بن أبي مزاحم عن عبد العزيز بن عبد الله عن مخرش الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلا حين أمسى معتمرا فدخل مكة ليلا يقضي عمرته، ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق - طريق المدينة - بسرف قال مخرش: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس (2).
ورواه الامام أحمد: عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج كذلك وهو من إفراده والمقصود أن عمرة الجعرانة ثابتة بالنقل الصحيح الذي لا يمكن منعه ولا دفعه ومن نفاها لا حجة معه في مقابلة من أثبتها والله أعلم.
ثم وهم كالمجمعين على أنها كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف وقسم غنائم حنين، وما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير قائلا: حدثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي
شيبة، ثنا محمد بن الحسن الاسدي ثنا ابراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عمير مولى عبد الله بن عباس عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم ثم إعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال فإنه غريب جدا وفي إسناده نظر والله أعلم.
وقال البخاري: ثنا يعقوب بن ابراهيم، ثنا اسماعيل، ثنا ابن جريج أخبرني عطاء أن صفوان ابن يعلى بن أمية أخبره أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه، قال فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه إذ جاءه اعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، قال فأشار عمر بن الخطاب إلى يعلى بيده، أن تعال فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم سرى عنه فقال " أين الذي يسألني عن العمرة آنفا ؟ " فالتمس الرجل فأتي به، قال " أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك " ورواه مسلم من حديث ابن جريج وأخرجاه من وجه آخر عن عطاء كلاهما عن صفوان بن يعلى ن أمية به.
وقال الامام أحمد: ثنا أبو أسامة، أنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة ودخل في العمرة من كدى.
وقال أبو داود: ثنا موسى أبو سلمة، ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (ج 2 / 206) ومسلم في صحيحه في كتاب الحج، الحديث (220) .

الجعرانة فرملوا بالبيت ثلاثا ومشوا أربعا وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى.
تفرد به أبو داود ورواه أيضا وابن ماجه من حديث ابن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس مختصرا.
وقال الامام: أحمد ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاوس أن ابن عباس أخبره أن معاوية أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أو قال: رأيته يقصر عنه بمشقص عند المروة.
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج به.
ورواه مسلم أيضا: من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن
طاوس، عن ابن عباس عن معاوية به.
ورواه أبو داود والنسائي أيضا من حديث عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه به.
وقال عبد الله بن الامام أحمد: حدثني عمرو بن محمد الناقد، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن ابن عباس عن معاوية قال: قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة.
والمقصود أن هذا إنما يتوجه أن يكون في عمرة الجعرانة وذلك أن عمرة الحديبية لم يدخل إلى مكة فيها بل صد عنها كما تقدم بيانه، وأما عمرة القضاء فلم يكن أبو سفيان أسلم ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بل خرجوا منها، وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك الثلاثة الايام، وعمرته التي كانت مع حجته لم يتحلل منها بالاتفاق، فتعين أن هذا التقصير الذي تعاطاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة إنما كان في عمرة الجعرانة كما قلنا والله تعالى أعلم.
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمرا وأمر ببقاء (1) الفئ فحبس بمجنة بناحية مر الظهران.
قلت: الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الاعراب فيما بين مكة والمدينة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل (2) يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن.
وذكر عروة وموسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف معاذا مع عتاب بمكة قبل خروجه إلى هوازن ثم خلفهما بها حين رجع إلى المدينة.
وقال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم أنه قال لما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهما فقام فخطب الناس فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد.
قال ابن إسحاق: وكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة وقدم المدينة في بقية ذي القعدة أو في أول ذي الحجة.
قال ابن هشام: قدمها لست (3)
__________
(1) في ابن هشام: ببقايا.
(2) في الواقدي: أنه خلف معاذ وأبا موسى الاشعري يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين.
(3) في الواقدي: لثلاث بقين من ذي القعدة يوم الجمعة

بقين من ذي القعدة فيما قال أبو عمرو المديني.
قال ابن إسحاق: وحج الناس ذلك العام على ما كانت العرب تحج عليه وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان.
قال وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة إلى رمضان من سنة تسع.
إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى وذكر قصيدته: بانت سعاد قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من منصرفه عن الطائف كتب بجير بن زهير ابن أبي سلمى إلى أخيه لابويه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش، ابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الارض.
وكان كعب قد قال: ألا بلغا عني بجيرا رسالة * فويحك (1) فيما قلت ويحك هل لكا فبين لنا إن كنت لست بفاعل * على أي شئ غير ذلك دلكا على خلق لم ألف يوما أبا له * عليه وما تلقى عليه أبا لكا فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل إما عثرت لعالكا سقاك بها المأمون كأسا روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا (2) قال ابن هشام: وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر: من مبلغ عني بجيرا رسالة * فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا شربت مع المأمون كأسا روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا وخالفت أسباب الهدى واتبعته * على أي شئ ويب غيرك دلكا على خلق لم تلف أما ولا أبا (3) * عليه ولم تدرك عليه أخا لكا فان أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل إما عثرت لعالكا
قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجير أكره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع سقاك بها المأمون " صدق وإنه لكذوب أنا المأمون "
__________
(1) في ابن هشام: فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا.
(2) النهل: الشرب الاول.
والعلل: الشرب الثاني.
والمأمون يعني النبي صلى الله عليه وسلم كانت قريش تسميه به وبالامين قبل مبعثه.
(3) قال السهيلي.
إنما قال ذلك لان أمهما واحدة، وهي كبشة بنت عمار السحيمية، فيما ذكر ابن الكلبي.

ولما سمع على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه.
قال " أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه " (1) قال ثم كتب بجير إلى كعب يقول له: من مبلغ كعبا فهل لك في التي * تلوم عليا باطلا وهي أحزم إلى الله لا العزى ولا اللات وحده * فتنجو إذا كان النجاء وتسلم لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت * من الناس إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شئ دينه * ودين أبي سلمى علي محرم قال فلما بلغ كعب الكتاب ضاقت به الارض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان في حاضره من عدوه وقالوا هو مقتول، فلما لم يجد من شئ بدا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لي فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه، فذكر لي: أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه ووضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن جئتك به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " فقال إذا أنا يا رسول الله كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه وثب عليه رجل من الانصار فقال: يا رسول
الله، دعني وعدو الله أضرب عنقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعه عنك فإنه جاء تائبا نازعا " قال: فغضب كعب بن زهير على هذا الحي من الانصار لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال في قصيدته التي قال حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها (2) لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلوا * إلا أغن غضيض الطرف مكحول (3) هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة * لا يشتكي قصر منها ولا طول (4) تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت * كأنه مهل بالراح معلول (5) شجت بذي شيم من ماء محنية * صاف بأبطح أضحى وهو مشمول (6)
__________
(1) زاد الزرقاني عن ابن الانباري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه الابيات أهدر دمه وقال: من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله.
(2) في ابن هشام والعقد الفريد: أثرها.
ومتبول: اسقمه الحب وأضناه لبعده عن حبيبته سعاد.
قال الزرقاني: هي إمرأته وبنت عمه.
(3) أغن: الظبي الصغير الذي في صوته غنة.
(4) سقط البيت من الاصل، واستدرك من ابن هشام والعقد الفريد.
(5) عوارض: جمع عارض أو عارضة وهي الاسنان.
والظلم: ماء الاسنان ورقتها وبياضها.
(6) مشمول: الذي ضربته ريح الشمال حتى برد، وهي أشد تبريدا للماء من غيرها

تنفي الرياح القدى عنه وأفرطه * من صوب عادية بيض يعاليل (1) فيا لها خلة لو أنها صدقت * بوعدها أو لو آن النصح مقبول لكنها خلة قد سيط من دمها * فجع وولع وإخلاف وتبديل (2) فما تدوم على حال تكون بها * كما تلون في أثوابها الغول وما تمسك بالعهد الذي زعمت * إلا كما يمسك الماء الغرابيل فلا يعرنك ما منت وما وعدت * إن الاماني والاحلام تضليل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا * وما مواعدها إلا الاباطيل (3) أرجو وآمل أن تدنو مودتها * وما لهن أخال الدهر تعجيل (4) أمست سعاد بأرض لا تبلغها * إلا العتاق النجيبات المراسيل ولن يبلغها إلا عذافرة * فيها على الابن إرقال وتبغيل (5) من كل نضاحة الذفري إذا عرقت * عرضتها طامس الاعلام مجهول (6) ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق * إذا توفدت الحزان والميل (7) ضخم مقلدها فعم مقيدها * في خلقها عن بنات الفحل تفضيل حرف أخوها أبوها من مهجنة * وعمها خالها قوداء شمليل (8) يمشي الفراد عليها ثم يزلقه * منها لبان وأقراب زهاليل (9) عيرانة قذفت بالنحض عن عرض * مرفقها عن بنات الزور مفتول (10) فنواء في حريتها للبصير بها * عتق مبين وفي الخدين تسهيل (11)
__________
(1) الصوب: المطر.
اليعاليل: الحباب الذي يعلو وجه الماء.
(2) سيط: أي خلط بلحمها ودمها.
(3) عرقوب: رجل اشتهر باخلاف الوعد، فضرب به المثل في ذلك.
(4) في ابن هشام: وما أخال لدينا منك تنويل.
(5) عذافرة: الناقة الصلبة العظيمة.
والارقال والتبغيل: ضربان من السير السريع.
(6) النضاخة: الغزيرة.
الذفرى: النقرة التي خلف أذن الناقة.
(7) المفرد: الثور الوحشي الذي تفرد في مكان.
اللهق: الابيض.
(8) الشمليل: الخفيفة والسريعة.
والحرف: الناقة الضامرة أو الصلبة والقوية.
وفي ابن هشام قبله بيتان: غلباء وجناء علكوم مذكرة * في دفها سعه قدامها ميل وجلدها من أطوم ما يؤيسه * طبلح بضاحية المتنين مهزول
(9) الاقراب: الخواصر.
والزهاليل: جمع زحلول وهو الاملس.
(10) العيرانة: الناقة النشيطة السريعة.
بنات الزور: ما يتصل بالصدر مما حوله من الاضلاع وغيرها.
(11) قنواء: محدودبة الانف وهو عيب في الفرس، وقد قاله الشاعر في موضع المدح .

كأنما فات عينيها ومذبحها * من خطمها ومن اللحيين برطيل (1) تمر مثل عسيب النخل ذا خصل * في غادر لم تخونه الاحاليل (2) تهوي على يسرات وهي لاهية * ذوابل وقعهن الارض تحليل (3) يوما تظل به الحرباء مصطخدا * كأن ضاحيه بالشمس محلول (4) وقال للقوم حاديهم وقد جعلت * ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا (5) أوب يدي فاقد شمطاء معولة (6) * قامت فجاء بها نكر مثاكيل نواحة رخوة الضبعين ليس لها * لما نعى بكرها الناعون معقول (7) تفري اللبان بكفيها ومدرعها * مشقق عن تراقيها رعابيل (8) تسعى الغواة جنابيها وقولهم * إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول (9) وقال لكل صديق كنت آمله * لا ألهينك إني عنك مشغول فقلت خلوا سبيلي لا أبالكم * فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن أنثى وإن طالت سلامته * يوما على آلة حدباء محمول (10) نبئت أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول (11) مهلا هداك الذي أعطاك نافلة * القرآن فيه مواعيظ وتفصيل
__________
(1) برطيل: حجر مستطيل صلب.
(2) وفي غارز: اي على ضرع.
الاحاليل: مخارج اللبن.
(3) تهوي، وتروى: تخدي أن تسرع.
يسرات: القوائم الخفاف.
لاهية وتروى: لاحقة، أي غافلة عن السير (4) فهي تسرع فيه من غير اغتراث ومبالاة.
(5) مصطخدا: محترقا بحر الشمس.
ضاحيه: ما برز للشمس منه.
محلول: مذاب، وتروى مملول: وهو الموضوع في الملة.
وهي الرماد الحار.
(6) ورق: جمع أورق أو ورقاء.
التي يضرب لونها إلى السواد.
(7) رواية الشطر في ابن هشام: شد النهار ذراعا عيطل نصف المثاكل: جمع مثكال: وهي الكثيرة الثكل.
الشمطاء: التي خالطها الشيب.
والمعولة: الرافعة صوتها بالبكاء.
(8) رخوة الضبعين: مسترخية العضدين.
(9) المدرع: القميص.
رعابيل: جمع رعبول، قطع متفرقة، الممزقة.
(10) جنابيها: تثنية جناب، حولها، وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه.
والبيت في البيهقي: تسعى الغواة بدفيها وقيلهم * بأنك يا ابن أبي سلمى لمقتول (11) آلة حدباء: النعش الذي يحمل عليه الموت.
(12) شرع الشاعر من هذا البيت في الدخول إلى ما قصد منه - بعدما مهد فيما سبق من الغزل والوصف - من هنا يبدأ في التنصل مما نسب إليه وما اتهم به، ويطلب العطف والرحمة ويرجو رسول الله أن يغفر له ذنبه ويعفو عن مساوئه وأخطائه.

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم * أذنب ولو كثرت في الاقاويل (1) لقد أقوم مقاما لو يقوم به * أرى وأسمع ما قد يسمع الفيل لظل يرعد من وجد موارده (2) * من الرسول بإذن الله تنويل حتى وضعت يميني ما أنازعها * في كف ذي نقمات قوله القيل فلهو أخوف عندي إذ أكلمه * وقيل إنك منسوب ومسئول من ضيغم بضراء الارض مخدره * في بطن عثر غيل ذونه غيل (3) يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما * لحم من الناس معفور خراديل (4) إذا يساور قرنا لا يحل له * أن يترك القرن إلا وهو مغلول
منه تظل حمير الوحش نافرة * ولا تمشي بواديه الاراجيل (5) ولا يزال بواديه أخو ثقة * مضرج البز والدرسان مأكول (6) إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول في عصبة من قريش قال قائلهم * ببطن مكة لما أسلموا زولوا (7) زالوا فما زال أنكاس ولا كشف * عند اللقاء ولا ميل معازيل (8) يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم * ضرب إذا عرد السود التنابيل شم العرانين أبطال لبوسهم * من نسج داود في الهيجا سرابيل بيض موابغ قد شكت لها حلق * كأنها حلق القفعاء مجدول (9) ليسوا معاريج إن نالت رماحهم * قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطعن إلا في نحورهم * ولا لهم عن حياض الموت تهليل
__________
(1) في البيت تذلل وتضرع، وفيه رجاء الا يستباح دمه بسبب أقوال الوشاة والمفسدين.
(2) في ابن هشام: لظل يرعد إلا أن يكون له.
التنويل: التأمين.
(3) ضراء الارض: الارض التي فيها شجر.
عثر: اسم مكان مشهور بكثرة السباع.
الغيل: الشجر الكثير الملتف.
(4) المعفور: الملقى في الترب.
والخراديل: قطع صغار.
(5) في ابن هشام: منه تظل سباع الجو نافرة.
الجو: اسم موضع.
والاراجيل جماعات الرجال.
(6) البز: السلاح، والدرسان: الثياب الخلقة.
(7) زولوا: فعل أمر من زال.
يريد تحولهم من مكة إلى المدينة.
(8) الانكاس: جمع نكس وهو الجبان والرجل الضعيف.
والكشف: جمع أكشف وهو الذي لا ترس معه.
المعازيل: الذي لا سلاح معهم.
(9) قفعاء ضرب من الحسك تشبه به حلق الدار .

قال ابن هشام: هكذا أورد محمد بن إسحاق هذه القصيدة ولم يذكر لها إسنادا، وقد رواها الحافظ البيهقي في دلائل النبوة بإسناد متصل فقال: أنا أبو عبد الله الحافظ، انا أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد الاسدي بهمذان، ثنا إبراهيم بن الحسين، ثنا ابراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سلمى عن أبيه عن جده قال: خرج كعب وبجير ابنا زهير، حتى أتيا أبرق العزاف (1) فقال بجير لكعب: أثبت في هذا المكان حتى آتي هذا الرجل - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأسمع ما يقول فثبت كعب وخرج بجير فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الاسلام فأسلم فبلغ ذلك كعبا فقال: ألا أبلغا عني بجيرا رسالة * على أي شئ ويب غيرك دلكا (2) على خلق لم تلف ء أما ولا أبا * عليه ولم تدرك عليه أخالكا سقاك أبو بكر بكأس روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا فلما بلغت الابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه وقال " من لقي كعبا فليقتله " فكتب بذلك بجير إلى أخيه وذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه ويقول له: النجاء وما أراك تنفلت، ثم كتب إليه بعد ذلك: أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا قبل ذلك منه، وأسقط ما كان قبل ذلك، فإذا جاءك كتابي هذا فأسلم وأقبل، قال: فأسلم كعب وقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل المسجد ورسول الله مع أصحابه كالمائدة بين القوم [ والقوم ] متحلقون معه حلقة خلف حلقة يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم.
قال كعب: فأنخت راحلتي بباب المسجد، [ ثم دخلت المسجد ] فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة، حتى جلست إليه فأسلمت، وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وإنك محمد رسول الله الامان يا رسول الله، قال " ومن أنت ؟ " قال: كعب بن زهير، قال " الذي يقول " ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إلى أبي بكر ] فقال " كيف قال يا أبا بكر ؟ " فأنشده أبو بكر:
سقاك بها المأمون (3) كأسا روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا قال يا رسول الله ما قلت هكذا، قال " فكيف قلت ؟ " قال قلت:
__________
(1) ابرق العزاف: ماء لبني أسد بن خزيمة بن مدركة، وهو في طريق القاصد إلى المدينة من البصرة، سمي العزاف لانهم يسمعون فيه عزيف الجن.
(معجم البلدان) وقال البكري: ويقال أبرق الحنان وفي هامشه: العزاف من المدينة على اثني عشر ميلا إلى المدينة (معجم ما استعجم).
(2) في دلائل البيهقي: على أي شئ غير ذلك دلكا.
(3) في دلائل البيهقي: أبو بكر.

سقاك بها المأمون (1) كأسا روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مأمون والله " ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها وهي هذه القصيدة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يفد مكبول وقد تقدم ما ذكرناه من الرمز لما اختلف فيه إنشاد ابن إسحاق والبيهقي (2) رحمهما الله عز وجل.
وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب أن كعبا لما انتهى إلى قوله: إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول نبئت أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول قال: فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من معه أن اسمعوا.
وقد ذكر ذلك (3) قبله موسى بن عقبة في مغازيه ولله الحمد والمنة.
قلت: ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه بردته حين أنشده القصيدة، وقد نظم ذلك الصرصري في بعض مدائحه وهكذا ذكر ذلك الحافظ أبو الحسن بن الاثير في الغابة قال وهي البردة التي عند الخلفاء.
قلت: وهذا من الامور المشهورة جدا ولكن لم أر ذلك في شئ من هذه الكتب المشهورة باسناد أرتضيه فالله أعلم.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما قال: بانت سعاد ومن سعاد ؟ قال زوجتي يا رسول الله، قال لم تبن ولكن لم يصح ذلك وكأنه على ذلك توهم أن بأسلامه تبين امرأته والظاهر أنه إنما أراد البينوتة الحسية لا الحكمية والله تعالى أعلم.
قال ابن إسحاق: وقال عاصم بن عمر بن قتادة فلما قال كعب - يعني في قصيدته - إذا عرد السود التنابيل وإنما يريدنا معشر الانصار، لما كان صاحبنا صنع به [ ما صنع ] (4) وخص المهاجرين من قريش بمدحته غضبت عليه الانصار، فقال بعد أن أسلم يمدح الانصار، ويذكر بلاءهم من رسول صلى الله عليه وسلم وموضعهم من اليمن:
__________
(1) في دلائل البيهقي: أبو بكر.
وميمون الثانية في البيهقي: المأمور.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مأمور والله.
(2) الخبر في دلائل النبوة باب ما جاء في قدوم كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وسلم ج 5 / 207 وما بعدها.
(3) نقل البيهقي في الدلائل ما ذكره ابن عقبة، فذكر البيت الاول أما الثاني ففيه قوله: في فتية من قريش..الخ..(4) من ابن هشام.

من سره كرم الحياة فلا يزل * في مقنب من صالحي الانصار (1) ورثوا المكارم كابرا عن كابر * إن الخيار هموا بنوا الاخيار المكرهين السمهري بأذرع * كسوالف الهندي غير قصار والناظرين بأعين محمرة * كالجمر غير كليلة الابصار والبائعين نفوسهم لنبيهم * للموت يوم تعانق وكرار (2) يتطهرون يرونه نسكا لهم * بدماء من علقوا من الكفار دربوا كما دربت بطون خفية * غلب الرقاب من الاسود ضواري (3) وإذا حللت لينعوك إليهم * أصبحت عند معاقل الاعفار (4)
ضربوا عليا يوم بدر ضربة * دانت لوقعتها جميع نزار لو يعلم الاقوام علمي كله * فيهم لصدقني الذين أماري قوم إذا خوت النجوم فإنهم * للطارقين النازلين مقارى (5) قال ابن هشام: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أنشده بانت سعاد " لو ذكرت الانصار بخير فإنهم لذلك أهل " فقال كعب هذه الابيات وهي في قصيدة له.
قال وبلغني عن علي ابن زيد بن جدعان: أن كعب بن زهير أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.
وقد رواه الحافظ البيهقي باسناده المتقدم إلى ابراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني معن بن عيسى، حدثني محمد بن عبد الرحمن الافطس (6) عن ابن جدعان فذكره وهو مرسل.
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كتاب الاستيعاب في معرفة الاصحاب بعد ما أورد طرفا من ترجمة كعب بن زهير إلى أن قال: وقد كان كعب بن زهير شاعرا مجودا كثير الشعر مقدما في طبقته هو وأخوه بجير وكعب أشعرهما وأبو هما زهير فوقهما ومما يستجاد من شعر كعب بن زهير قوله: لو كنت أعجب من شئ لاعجبني * سعي الفتى وهو مخبوء له القدر يسعى الفتى لامور ليس يدركها * فالنفس واحدة والهم منتشر والمرء ما عاش ممدود له أمل * لا تنتهي العين حتى ينتهي الاثر (7)
__________
(1) مقنب: الجماعة من الخيل.
ويريد بهم القوم على ظهور جيادهم.
(2) بعده في ابن هشام: والقائدين الناس عن أديانهم * بالمشرفي وبالقنا الخطار (3) دربوا: تعوذا.
غلب الرقاب: غلاظ الاعناق.
(4) الاعفار: جمع عفر، وهو ولد الوعل.
(5) المقاري: جمع مقراة، وهي الجفنة التي يصنع فيها الطعام للاضياف.
(6) في الدلائل: الاوقص.
ج 5 / 211.
(7) الابيات في الاستيعاب على هامش الاصابة 3 / 300.

ثم أورد له ابن عبد البر أشعارا كثيرة يطول ذكرها ولم يؤرخ وفاته، وكذا لم يؤرخها أبو الحسن بن الاثير في كتاب الغابة في معرفة الصحابة ولكن حكى أن أباه توفي قبل المبعث بسنة فالله أعلم.
وقال السهيلي ومما أجاد فيه كعب بن زهير قوله يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: تجري به الناقة الادماء معتجرا * بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم ففي عطافيه أو أثناء بردته * ما يعلم الله من دين ومن كرم الحوادث المشهورة في سنة ثمان والوفيات فكان في جمادى منها وقعة مؤتة، وفي رمضان غزوة فتح مكة، وبعدها في شوال غزوة هوازن بحنين، وبعده كان حصار الطائف.
ثم كانت عمرة الجعرانة في ذي القعدة ثم عاد إلى المدينة في بقية السنة.
قال الواقدي: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لليالي بقين من ذي الحجة في سفرته هذه.
قال الواقدي: وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو ابني الجلندي من الازد، وأخذت الجزية من مجوس بلدهما ومن حولها من الاعراب، قال وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في ذي القعدة فاستعاذت منه عليه السلام ففارقها، وقيل بل خيرها فاختارت الدنيا ففارقها.
قال وفي ذي الحجة منها ولد ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولدا ذكرا وكانت قابلتها فيه سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى أبي رافع فأخبرته فذهب فبشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه مملوكا ودفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم برة بنت المنذر بن أسيد بن خداش ابن عامر بن غنم بن عدي بن النجار وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف بن مبذول، وكانت فيها وفاة من ذكرنا من الشهداء في هذه الوقائع وقد قدمنا هدم خالد بن الوليد البيت الذي كانت العزى تعبد فيه بنخلة بين مكة والطائف وذلك لخمس بقين من رمضان منها.
قال الواقدي: وفيها كان هدم سواع الذي كانت تعبده هذيل برهاط، هدمه عمرو بن العاص رضي الله عنه ولم يجد في خزائنه شيئا، وفيها هدم مناة بالمشلل، كانت الانصار أوسها وخزرجها
يعظمونه، هدمه سعد بن زيد الاشهلي رضي الله عنه وقد ذكرنا من هذا فصلا مفيدا مبسوطا في تفسير سورة النجم عند قوله تعالى (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى).
قلت: وقد ذكر البخاري بعد فتح مكة قصة تخريب خثعم البيت الذي كانت تعبده ويسمونه الكعبة اليمانية مضاهية للكعبة التي بمكة ويسمون التي بمكة الكعبة الشامية (2) ولتلك -
__________
(1) في تاريخ الطبري نقلا عن الواقدي: أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش..وفي رواية لابن سعد: دفعه إلى أم سيف امرأة قين بالمدينة يقال له: أبو سيف.
(2) الكعبة اليمانية والكعبة الشامية: قال ابن حجر: كذا فيه قيل وهو غلط والصواب اليمانية فقط سموها بذلك =

الكعبة اليمانية.
فقال البخاري: ثنا يوسف بن موسى، ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قبس (قيس)، عن جرير قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا تريحني من ذي الخلصة ؟ " (3) فقلت: بلى فانطلقت في خمسين ومائة (2) فارس من أحمس (3) وكانوا أصحاب خيل وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده في صدري حتى رأيت أثر يده في صدري وقال " اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا " قال فما وقعت عن فرس بعد.
قال وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة اليمانية.
قال: فأتاها فحرقها في النار وكسرتها، قال: فلما قدم جرير اليمن.
كان بها رجل يستقسم بالازلام، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا فإن قدر عليك ضرب عنقك، قال فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها وتشهد أن لا إله إلا الله أو لاضربن عنقك ؟ فكسرها وشهد.
ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أرطاة (4) إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك، قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال: فبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.
ورواه مسلم من طرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي بنحوه (5).
تم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات الجزء الرابع من تاريخ البداية والنهاية لابن كثير
على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده في صدري حتى رأيت أثر يده في صدري وقال " اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا " قال فما وقعت عن فرس بعد.
قال وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة اليمانية.
قال: فأتاها فحرقها في النار وكسرتها، قال: فلما قدم جرير اليمن.
كان بها رجل يستقسم بالازلام، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا فإن قدر عليك ضرب عنقك، قال فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها وتشهد أن لا إله إلا الله أو لاضربن عنقك ؟ فكسرها وشهد.
ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أرطاة (4) إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك، قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال: فبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.
ورواه مسلم من طرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي بنحوه (5).
تم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات الجزء الرابع من تاريخ البداية والنهاية لابن كثير ويتلوه الجزء الخامس وأوله ذكر غزوة تبوك في رجب منها.
__________
= مضاهاة للكعبة، والكعبة البيت الحرام بالنسبة لمن يكون جهة اليمن شامية، فسموا التى بمكة شامية والتي عندهم يمانية تعزيقا بينهما.
وكان يقال لها شامية باعتبار انهم جعلوا بابها مقابل الشام.
(1) ذوالخلصة: الخلصة نبات له حب أحمر كخرز العقيق.
وذو الخلصة: اسم للبيت الذي كان فيه الصنم.
وقيل اسم البيت الخلصة واسم الصنم: ذوالخلصة.
(2) قال الطبراني: كانوا سبعمائة وروايته ضعيفة.
(3) أحمس: وهم رهط جرير بن عبد الله وهم أخوة بجيلة ينتسبون إلى أحمس بن الغوث بن أنمار، وهناك أحمس أخرى ينتسبون إلى بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار.
(4) واسم أبي ارطأة حصين بن ربيعة بن عامر بن الازور البجلي له صحبة، لم يرد ذكره إلا في هذا الحديث.
(5) أخرجه البخاري في كتاب المغازي 62 باب غزوة الخلصة (الحديث 4356) وفي مواضع: الحديث (4355) والحديث (3020) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة 29 باب - الحديث 137

البداية والنهاية - ابن كثير ج 5
البداية والنهاية
ابن كثير ج 5

البداية والنهاية

البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفي سنة 774 ه حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الخامس دار احياء التراث العربي

طبعة جديدة محققة الطبعة الاولى 1408 ه 1988 م

بسم الله الرحمن الرحيم سنة تسع من الهجرة ذكر غزوة تبوك (1) في رجب منها قال الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * [ التوبة: 28 - 29 ] روي عن ابن
عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم: أنه لما أمر الله تعالى أن يمنع المشركون من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره.
قالت قريش: لينقطعن عنا المتاجر والاسواق أيام الحج وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله عن ذلك بالامر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
قلت: فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم، لانهم أقرب الناس إليه وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الاسلام وأهله.
وقد قال الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم
__________
(1) انظر في غزوة تبوك: تاريخ الطبري (3 / 142 دار القاموس) سيرة ابن هشام (4 / 159) فتح الباري (8 / 90) مغازي الواقدي (3 / 989) عيون الاثر (2 / 275) شرح المواهب اللدنية للزرقاني (3 / 62) السيرة الشامية (5 / 626).
طبقات ابن سعد (2 / 165).
وتبوك: بفتح الفوقية وضم الموحدة، وهي في طرف الشام من جهة القبلة، بينها وبين المدينة اثنتا عشرة مرحلة.
قال السهيلي: سميت الغزوة بعين تبوك.
قال ياقوت: نزلوا على عين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله ان لا أحد يمس من مائها، فسبق إليها رجلان وهي تبض بشئ من ماء فجعلا يدحلان فيها سهمين ليكثر ماؤها فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله: ما زلتما تبوكان منذ اليوم، فسميت بذلك تبوك.
والبوك: ادخال اليد في الشئ وتحريكه.
ومنه باك الحمار الاتان إذا نزا عليها، يبوكها بوكا.
وقال ياقوت: هي موضع بين وادي القرى والشام (معجم البلدان 2 / 14).

من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) * [ التوبة: 123 ] فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزو الروم عام تبوك وكان ذلك في حر شديد وضيق من الحال، جلى للناس أمرها ودعى من حوله من أحياء الاعراب للخروج معه فأوعب معه بشر كثير كما سيأتي قريبا من ثلاثين ألفا وتخلف آخرون فعاتب الله من تخلف منهم لغير عذر من المنافقين والمقصرين، ولامهم ووبخهم وقرعهم أشد التقريع وفضحهم أشد الفضيحة وأنزل فيهم قرآنا يتلى وبين أمرهم في سورة براءة كما قد بينا ذلك مبسوطا في التفسير وأمر المؤمنين بالنفر على كل حال.
فقال تعالى
* (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون) * [ التوبة: 41 - 42 ] ثم الآيات بعدها: ثم قال تعالى * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * [ التوبة: 122 ] فقيل إن هذه ناسخة لتلك وقيل لا فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب - يعني من سنة تسع - ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم.
فذكر الزهري (1) ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم من علمائنا كل يحدث عن غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص في (2) الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد إليه، ليتأهب الناس لذلك أهبته.
فأمرهم بالجهاد (3) وأخبرهم أنه يريد الروم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة " يا جد، هل لك العام في جلاد بني الاصفر ؟ " فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني، فو الله لقد عرف قومي أنه ما رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني اخشى إن رأيت نساء بني الاصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " قد أذنت لك " ففي الجد أنزل الله هذه الآية * (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) * [ التوبة: 49 ].
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم * (وقالوا لا تنفروا في
__________
(1) في ابن هشام: وقد ذكر لنا الزهري.
(2) في ابن هشام: على الحال.
(3) في ابن هشام: فأمر الناس بالجهاز.

الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون، فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون) * [ التوبة: 81 - 82 ].
قال ابن هشام: حدثني الثقة عمن حدثه، عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة، عن أبيه عن جده قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي - وكان بيته عند جاسوم - يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة.
فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا فقال الضحاك في ذلك: كادت وبيت الله نار محمد * يشيط بها الضحاك وابن أبيرق وظلت وقد طبقت كبس سويلم * أنوء على رجلى كسيرا ومرفق (1) سلام عليكم لا أعود لمثلها * أخاف ومن تشمل به النار يحرق قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والانكماش (2) وحص أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.
قال ابن هشام: فحدثني من أثق به: أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض " (2).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، ثنا عبد الله بن شوذب، عن عبد الله بن القاسم، عن كثير (4) مولى عبد الرحمن بن سمرة قال جاء: عثمان بن عفاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول " ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم " ورواه الترمذي عن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن واقع، عن ضمرة به.
وقال حسن غريب.
وقاله
عبد الله بن أحمد في مسند أبيه.
حدثني أبو موسى العنزي، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني سكن بن المغيرة، حدثني الوليد بن أبي هشام، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن خباب السلمي.
قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، قال ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث فقال عثمان: علي مائة اخرى بأحلاسها وأقتابها قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا يحركها، وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب " ما
__________
(1) طبقت: علوت.
الكبس: البيت الصغير من طين.
(2) الانكماش: الاسراع.
في القاموس: كمش وتكمش كانكمش: أعجل وأسرع.
(3) سيرة ابن هشام ج 4 / 161.
(4) من المسند والبيهقي.
وهو كثير بن أبي كثير روى عن مولاه وجماعة وروى عنه قتادة وجماعة وثق وكاشف الذهبي (3 / 6).
وفي الاصل كثة وهو تحريف.
والحديث رواه الترمذي في كتاب المناقب 19 باب مناقب عثمان الحديث (3702) ص (5 / 626).

على عثمان ما عمل بعد هذا " (1) وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به وقال غريب من هذا الوجه.
ورواه البيهقي: من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة (2) به وقال ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها.
قال عبد الرحمن: فأنا شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر " ما ضر عثمان بعدها - أو قال - بعد اليوم " وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن جاوان، عن الاحنف بن قيس قال: سمعت عثمان بن عفاف يقول لسعد بن أبي وقاص وعلي والزبير وطلحة: أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من جهز جيش العسرة غفر الله له " فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا ؟ قالوا: اللهم نعم ! ورواه النسائي من حديث حصين به (3).
فصل
فيمن تخلف معذورا من البكائين وغيرهم قال الله تعالى * (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم، وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم، ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون، إنما السبيل على الذين يستأ ذنونك وهم اغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) * [ براءة: 86 - 93 ] قد تكلمنا على تفسير هذا كله في التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة، والمقصود ذكر البكائين الذين جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم حتى يصحبوه في غزوته هذه، فلم يجدوا عنده من الظهر ما يحملهم عليه فرجعوا وهم يبكون تأسفا
__________
(1) مسند الامام أحمد ج 4 / 75.
والترمذي المصدر السابق ح (3700) ص (5 / 625) وقال: " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ولا نعرفه إلا من حديث السكن بن المغيرة، وفي الباب عن عبد الرحمن بن سمرة ".
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 214 وفيه عن السكن بن أبي كريمة.
(3) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 215، والنسائي في حديث طويل أخرجه في كتاب الاحباس، باب وقف المساجد (6 / 234).

على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله والنفقة فيه.
قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر من الانصار وغيرهم، فمن بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى
عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقولون: بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري (1).
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير (2) بن كعب النضري لقي أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان، فقال ما يبكيكما ؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضجا له فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله ثم بكى وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين المتصدق هذه الليلة " فلم يقم أحد ثم قال " أين المتصدق فليقم " فقام إليه فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشر فو الذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة " (3).
وقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا حديث أبي موسى الاشعري فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الحميد المازني (4) حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان، إذ هم معه في جيش العسرة وهي (5) غزوة تبوك، فقلت: يا نبي الله ! إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال " والله لا أحملكم على شئ " ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزينا من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون رسول الله قد وجد في نفسه علي فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس ؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خذ هذين القرينين (6) وهذين القرينين وهذين القرينين " لستة أبعرة
__________
(1) في تسمية البكائين خلاف: ففي رواية ابن عقبة ستة نفر، وسارية لم يذكره.
ومن بني سلمة ذكر: عمر بن عثمة.
وذكر الواقدي: عمرو بن عتبة، وذكر من بني زريق: سلمة بن صخر وشكك في ابن المغفل،
وقال: هؤلاء أثبت ما سمعنا.
(انظر الزرقاني - ابن سعد - الواقدي).
(2) في شرح المواهب للزرقاني: لقي يامين بن عمرو.
وفي الواقدي: لقي يامين بن عمير.
(3) الجزء الاول من الحديث في سيرة ابن هشام ج 4 / 163 والقسم الاخير منه - رواية يونس بن بكير - نقلها البيهقي في الدلائل ج 5 / 218.
(4) في دلائل البيهقي: الحارثي.
(5) من دلائل البيهقي، وسقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(6) في نسخ البداية المطبوعة القربتين وهو تحريف.
والقرينان البعيران المشدودان أحدهما إلى الآخر.

ابتاعهن حينئذ من سعد فقال " انطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء [ فاركبوهن.
قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي ] (1) فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله حين سألته لكم، ومنعه لي في أول مرة، ثم إعطائه إياي بعد ذلك لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله، فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت، قال: فانطلق أبو موسى بنفر منهم، حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من منعه إياهم، ثم إعطائه بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء (2).
وأخرجه البخاري ومسلم جميعا عن أبي كريب عن أبي أسامة وفي رواية لهما عن أبي موسى قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الاشعريين ليحملنا " فقال والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه " قال ثم جئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب أبل فأمر لنا بست ذودعر الذرى فأخذناها ثم قلنا يعقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه والله لا يبارك لنا، فرجعنا له فقال " ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم " ثم قال " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ".
قال ابن إسحاق: وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغيبة (3) حتى تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك بن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن
ربيع، أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خثيمة أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم.
قلت: أما الثلاثة الاول فستأتي قصتهم مبسوطة قريبا إن شاء الله تعالى وهم الذين أنزل الله فيهم * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) * وأما أبو خيثمة فإنه عاد وعزم على اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
فصل قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير.
فلما خرج يوم الخميس ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس، وضرب عبد الله بن أبي عدو الله عسكره أسفل منه - وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين - فلما سار رسول
__________
(1) ما بين معكوفين سقط من الاصل، واستدركت من دلائل البيهقي.
(2) الحديث في دلائل النبوة للبيهقي ج 5 / 216 - 217.
وأخرجه البخاري في كتاب المغازي - (78) باب الحديث: 4415 فتح الباري (8 / 90) ومسلم في كتاب الايمان (3) باب الحديث (8).
(3) في ابن هشام: النية.

الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي، في طائفة من المنافقين وأهل الريب.
قال ابن هشام: واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الانصاري قال: وذكر الدراوردي: أنه استخلف عليها عام تبوك سباع بن عرفطة.
قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالاقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا، ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه.
فلما قالوا ذلك أخذ علي سلاحه ثم خرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف (1) فأخبره بما قالوا فقال: " كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " فرجع
علي ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره.
ثم قال ابن إسحاق.
حدثني محمد بن طلحه بن يزيد بن ركانة.
عن ابراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي هذه المقالة.
وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث: من طريق شعبة عن سعد بن ابراهيم عن ابراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه به (2).
وقد قال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا شعبة عن الحكم عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان ؟ فقال " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ".
وأخرجاه من طرق عن شعبة نحوه، وعلقه البخاري أيضا من طريق أبي داود عن شعبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار عن عامر بن سعد، عن أبيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له - وخلفه في بعض مغازيه - فقال علي يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال " يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ألا أنه لا نبي بعدي " ورواه مسلم والترمذي عن قتيبة: زاد مسلم ومحمد بن عباد كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به.
وقال الترمذي حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا خيثمة رجع بعد ما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم، ما هذا بالنصف ! والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا زادا ففعلتا.
ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل
__________
(1) الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة.
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله باب مناقب علي بن أبي طالب (5 / 22).
وفي كتاب المغازي باب غزوة تبوك فتح الباري (ج 8 / 91).
ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (4) باب الحديث
(30 - 31 - 32).

تبوك، وكان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كن أبا خيثمة " فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة.
فلما بلغ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له " أولى لك يا أبا خيثمة " ثم أخبر رسول الله الخبر فقال خيرا ودعا له بخير.
وقد ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة قصة أبي خيثمة بنحو من سياق محمد بن إسحاق وأبسط وذكر أن خروجه عليه السلام إلى تبوك كان في زمن الخريف.
فالله أعلم.
قال ابن هشام وقال أبو خيثمة واسمه مالك بن قيس في ذلك: لما رأيت الناس في الدين نافقوا * أتيت التي كانت أعف وأكرما وبايعت باليمنى يدي لمحمد * فلم أكتسب إثما لم أغش محرما تركت خضيبا في العريش وصرمة * صفايا كراما بسرها قد تحمما (1) وكنت إذا شك المنافق أسمحت * إلى الدين نفسي شطره حيث يمما قال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، عن بريدة (2)، عن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن مسعود قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف، فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان فيقول " دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " حتى قيل يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره فقال " دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " فتلوم أبو ذر بعيره فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل ماش على الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو
ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده ويبعث وحده " قال فضرب [ الدهر من ] (3) ضربه، وسير أبو ذر إلى الربذة فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه فقال: إذا مت فاغسلاني وكفناني من الليل ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر، فلما مات فعلوا به كذلك فاطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركابهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة فقال: ما هذا ؟ فقيل جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكى وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده، فنزل
__________
(1) الخضيب: المرأة المخضوبة.
والصرمة: هنا جماعة النخل.
الصفايا: كثيرة الثمر.
(2) في رواية البيهقي: بريدة بن سفيان، وفي هامشه: " قال البخاري في التاريخ الكبير: فيه نظر، وضعفه النسائي وأبو داود وأحمد والدار قطني.
(3) بياض بالاصل، والزيادة من رواية البيهقي.

فوليه بنفسه حتى أجنه (1).
إسناده حسن ولم يخرجوه قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرنا عبد الله بن محمد بن عقيل في قوله [ عز وجل ] * (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) * [ التوبة: 117 ] قال: خرجوا في غزوة تبوك، الرجلان والثلاثة على بعير واحد وخرجوا في حر شديد فأصابهم في يوم عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء وعسرة في النفقة وعسرة في الظهر (2)، قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد (3) بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن شأن ساعة العسرة فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى أن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا فقال " أو تحب ذلك ؟ " قال: نعم ! قال: فرفع يديه نحو
السماء فلم يرجعهما حتى قالت (4) السماء فأطلت ثم سكبت، فملاوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر (5).
اسناده جيد ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقد ذكر ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه: أن هذه القصة كانت وهم بالحجر، وأنهم قالوا لرجل معهم منافق ويحك هل بعد هذا من شئ ؟ ! فقال سحابة مارة، وذكر أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت فذهبوا في طلبها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة بن حزم الانصاري - وكان عنده - " إن رجلا قال هذا محمد يخبركم أنه نبي ويخبركم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها، هي في الوادي قد حبستها شجرة بزمامها " فانطلقوا فجاؤوا بها فرجع عمارة إلى رحله فحدثهم عما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر الرجل فقال رجل ممن كان في رحل عمارة: إنما قال ذلك زيد بن اللصيت (6) وكان في رحل عمارة قبل أن يأتي فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ويقول إن في رحلي لداهية وأنا لا أدري، أخرج عني يا عدو الله فلا تصحبني.
فقال بعض الناس إن زيدا تاب، وقال بعضهم لم يزل متهما بشر حتى هلك.
قال الحافظ البيهقي: وقد روينا من حديث ابن مسعود شبيها بقصة الراحلة ثم روى من
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 168 ونقله البيهقي في الدلائل ج 5 / 221 - 222.
(2) الخبر في دلائل البيهقي ج 5 / 227.
(3) في دلائل البيهقي: سعد.
(4) قالت: بمعنى استعدت وتهيأت (القاموس).
(5) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 231.
والهيثمي في مجمع الزوائد 6 / 194 - 195 وقال: رواه البزار، والطبراني في الاوسط، ورجال البزار ثقات.
(6) قال ابن هشام: يقال لصيب، وفي الاصابة لصيت وقيل لصيب، وفي الطبري: لصيب.

حديث الاعمش وقد رواه الامام أحمد عن أبي معاوية، عن الاعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري - شك الاعمش - قا لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة
فقالوا: يا رسول الله لو أذنت فننحر نواضحنا فأكلنا وادهنا ؟ (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " افعلوا " فجاء عمر فقال يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم وادع الله لهم فيها بالبركة لعل الله أن يجعل فيها البركة، فقال رسول الله " نعم ! " فدعا بنطع فبسطه ثم عاد بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجئ بكف ذرة، ويجئ الآخرة بكف من التمر، ويجئ الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شئ يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال لهم " خذوا في أوعيتكم " فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوها، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة " ورواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الاعمش به.
ورواه الامام أحمد من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة به ولم يذكر غزوة تبوك بل قال كان في غزوة غزاها.
مروره صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى تبوك بمساكن ثمود بالحجر قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر، نزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تشربوا من مياهها شيئا ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الابل، ولا تأكلوا منه شيئا " هكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد.
وقال الامام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا معمر، عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم " وتقنع بردائه وهو على الرجل.
ورواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك، وعبد الرزاق كلاهما عن معمر باسناده نحوه.
وقال مالك: عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم " (3).
ورواه البخاري من حديث مالك، ومن حديث سليمان بن بلال كلاهما عن عبد الله بن دينار.
ورواه مسلم من وجه آخر عن عبد الله بن دينار نحوه.
وقال الامام أحمد:
حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر - هو ابن جويرية - عن نافع عن ابن عمر قال: نزل رسول
__________
(1) وادهنا: أي اتخذنا دهنا من شحومها.
(2) رواه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 11، ومسلم في كتاب الايمان - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا.
الحديث (45).
(3) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 165، وأخرجه البخاري في فتح الباري 6 / 530 و 8 / 381 ومسلم في الصحيح 4 / 2285.
ورواه البيهقي من طرق متعددة ج 5 / 233.

الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الابل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا [ فقال ] " إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم " وهذا الحديث اسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه ولم يخرجوه وإنما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن عياض، عن أبي ضمرة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به.
قال البخاري وتابعه أسامة عن عبيد الله.
ورواه مسلم من حديث شعيب بن إسحاق عن عبيد الله عن نافع به (1).
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير عن جابر قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال " لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله " قيل من هو يا رسول الله ؟ قال " هو أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه " إسناده صحيح ولم يخرجوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي عن إسماعيل بن واسط، عن محمد بن أبي كبشة الانماري عن أبيه قال: لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: الصلاة جامعة قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره، وهو يقول: " ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم " فناداه رجل نعجب منهم ؟ قال " أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك ؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا " (2) اسناده حسن ولم يخرجوه.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي - أو عن العباس بن سعد الشك مني - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها فلما راحوا منها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس " لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الابل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له " ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد (1) باب الحديث 40، والبخاري في 60 كتاب الانبياء (17) باب قول الله تعالى: وإلى ثمود أخاهم صالحا.
(2) الحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 194) وقال: " رواه أحمد، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وقد اختلط ".
ورواه البيهقي من طريق أبي النصر هاشم بن القاسم.

حتى ألقته بحبل طئ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له " ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وفي رواية زياد عن ابن إسحاق أن طيئا أهدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله بن أبي بكر أن العباس بن سهل سمى له الرجلين، لكنه استكتمه إياهما فلم يحدثني بهما (1).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب بن خالد ثنا عمرو بن يحيى، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد الساعدي قال خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " أخرصوا " فخرص القوم وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة: " احصي ما يخرج منها حتى أرجع إليك أن شاء الله " قال: فخرج حتى قدم تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقومن فيها رجل، فمن كان له بعير فليوثق عقاله " قال أبو حميد: فعقلناها فلما كان من الليل هبت علينا ريح شديدة فقام فيها رجل فألقته في جبل طئ، ثم جاء رسول الله ملك إيلة فأهدى لرسول الله بغلة بيضاء، وكساه رسول الله بردا وكتب له يجيرهم (2) ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جئنا وادي القرى قال للمرأة " كم جاءت حديقتك ؟ " قالت عشرة أوسق خرص رسول الله، فقال رسول الله " إني متعجل فمن أحب منكم أن يتعجل فليفعل " قال فخرج رسول الله وخرجنا معه حتى إذا أوفى على المدينة قال: " هذه طابة ".
فلما رأى أحدا قال " هذا أحد (3) يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الانصار ؟ " قلنا بلى يا رسول الله قال " خير دور الانصار بنو النجار، ثم دار بني عبد الاشهل (4)، ثم دار بني ساعدة، ثم في كل دور الانصار خير " (5).
وأخرجه البخاري ومسلم من غير وجه عن عمرو بن يحيى به نحوه.
وقال الامام مالك رحمه الله عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أن معاذ بن جبل أخبره: أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا، ثم قال " إنكم ستأتون غذا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتونها حتى يضحى ضحى النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي "
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 164 - 165.
ونقله البيهقي في الدلائل من طريق أحمد بن عبد الجبار ج 5 / 240.
(2) في الاصل يخبرهم وهو تحريف، وما اثبتناه من ابن هشام.
(3) في رواية البيهقي: هذا أحد، وهو جبل.
(4) زاد البيهقي: ثم دار بني الحارث بن الخزرج.
(5) رواه مسلم في الصحيح، في كتاب الفضائل - (3) باب.
الحديث (11).
والبخاري في الصحيح: في الزكاة (54) باب الحديث (1481) فتح الباري (3 / 343).

قال فجئناها وقد سبق مائها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشئ من ماء، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل مسستما من مائها شيئا "، قالا: نعم فسبهما وقال لهما: ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شئ، ثم غسل رسول الله فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا " أخرجه مسلم من حديث مالك به (1).
ذكر خطبته صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إلى نخلة هناك روى الامام أحمد: عن أبي النضر هاشم بن القاسم، ويونس بن محمد المؤدب وحجاج بن محمد ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير عن أبي الخطاب، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك خطب الناس وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال " ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس، إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه، أو على ظهر بعيره، أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شئ منه " (2) ورواه النسائي عن قتيبة عن الليث به وقال أبو الخطاب لا أعرفه.
وروى البيهقي: من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد العزيز بن عمران، حدثنا مصعب بن عبد الله عن (3) منظور بن جميل بن سنان أخبرني أبي، سمعت عقبة بن عامر الجهني: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فاسترقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح، قال " ألم أقل لك يا بلال اكلا لنا الفجر " فقال يا رسول الله ذهب بي من النوم مثل الذي ذهب بك، قال: فانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزله غير بعيد، ثم صلى وسار بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال " أيها الناس أما بعد، فإن أصذق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة ابراهيم، وخير السنن
سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الامور عوازمها (4) وشر الامور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الانبياء وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الاعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا.
ومن الناس من لا يذكر
__________
(1) رواه مسلم في 43 كتاب فضائل النبي صلى الله عليه وآله، (3) باب الحديث (10).
ورواه البيهقي في الدلائل من طريق يحيى بن بكير.
(2) رواه أحمد في مسنده ج 3 / 37، 41، و 58: وقال هاشم بن القاسم في روايته: لا يدعو إلى شئ.
(3) في دلائل البيهقي: عبد الله بن مصعب بن منظور بن جميل بن سنان.
(4) عوازمها: الفرائض التي عزم الله عليك بفعلها، والمع ؟ نى: الامور ذوات عزمها التي فيها عزم (عن النهاية).

الله إلا هجرا.
ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عزوجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من حثاء جهنم [ والسكركي من النار ] (1) والشعر من إبليس، والخمر جماع الاثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وأنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والامر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألى على الله يكذبه، ومن يستغفره يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه.
ومن يكظم [ الغيظ ] (2) يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغي (3) السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولامتي، اللهم اغفر لي ولامتي، اللهم اغفر لي ولامتي " قالها ثلاثا ثم
قال: " استغفر الله لي ولكم " (4) وهذا حديث غريب وفيه نكارة وفي اسناده ضعف والله أعلم بالصواب.
وقال أبو داود ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، وسليمان بن داود.
قالا: أخبرنا ابن وهب، أخبرني معاوية، عن سعيد بن غزوان عن أبيه أنه نزل بتبوك وهو حاج فإذا رجل مقعد، فسألته عن أمره فقال: سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت أني حي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بتبوك إلى نخلة فقال: هذه قبلتنا ثم صلى إليها، قال: فأقبلت وأنا غلام اسعى حتى مررت بينه وبينها، فقال قطع صلاتنا قطع الله أثره.
قال فما قمت عليها إلى يومي هذا (5) ثم رواه أبو داود: من حديث سعيد بن (6) عبد العزيز التنوخي، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران.
قال: رأيت بتبوك مقعدا فقال: مررت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على حمار وهو يصلي فقال: " اللهم اقطع أثره فما مشيت عليها بعد " (7).
وفي رواية " قطع صلاتنا قطع الله أثره ".
الصلاة على معاوية بن أبي معاوية (8) روى البيهقي: من حديث يزيد بن هارون أخبرنا العلاء أبو محمد الثقفي، قال: سمعت
__________
(1) سقطت من الاصل واستدركت من الدلائل.
(2) من دلائل البيهقي.
(3) في الدلائل: يتبع.
(4) الحديث في دلائل النبوة للبيهقي ج 5 / 241 - 242.
(5) سنن أبي داود: كتاب الصلاة باب ما يقطع الصلاة الحديث (707) ص (1 / 188) (6) من أبي داود، وفي الاصل عن عبد العزيز تحريف.
(7) سنن أبي داود كتاب الصلاة الحديث 705 ص (1 / 188) والحديث (706).
(8) هكذا في الاصل ابن أبي معاوية.
وذكره البيهقي معاوية بن معاوية الليثي، وهو معاوية بن معاوية المزني توفي =

أنس بن مالك، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بضياء ولها شعاع ونور، لم أرها طلعت فيما مضى، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم
طلعت بيضاء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى " قال: ذلك أن معاوية بن أبي معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه قال " ومم ذاك ؟ " قال: بكثرة قراءته * (قل هو الله أحد) * بالليل والنهار، وفي ممشاه وفي قيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الارض فتصلي عليه ؟ قال " نعم ! " قال فصلى عليه ثم رجع.
وهذا الحديث فيه غرابة شديدة ونكارة، والناس يسندون أمرها إلى العلاء بن زيد هذا وقد تكلموا فيه.
ثم قال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا هاشم (1) بن علي أخبرنا عثمان بن الهيثم، حدثنا محبوب بن هلال، عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس قال جاء جبريل فقال: يا محمد مات معاوية بن أبي معاوية المزني، أفتحب أن تصلي عليه ؟ قال " نعم ! " فضرب بجناحه فلم يبق من شجرة ولا أكمة إلا تضعضعت له، قال فصلى وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك، قال قلت " يا جبريل بما نال هذه المنزلة من الله ؟ " قال بحبه * (قل هو الله أحد) * يقرأها قائما وقاعدا، وذاهبا وجائيا، وعلى كل حال.
قال عثمان: فسألت أبي أين كان النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال بغزوة تبوك بالشام، ومات معاوية بالمدينة، ورفع له سريره حتى نظر إليه وصلى عليه (2): وهذا أيضا منكر من هذا الوجه.
قدوم رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك قال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا يحيى بن سليم (3)، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن أبي راشد قال لقيت التنوخي رسول الله هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص وكان جارا لي شيخنا كبيرا قد بلغ العقد (4) أو قرب.
فقلت ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ؟ قال بلى: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك فبعث دحية الكلبي إلى هرقل فلما أن جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قسيسي الروم وبطارقتها ثم أغلق عليه
__________
= في حياة النبي صلى الله عليه وآله، اختلفوا في اسم أبيه، ذكره ابن عبد البرفي الاستيعاب (3 / 391) على هامش الاصابة، وذكره ابن حجر في الاصابة (3 / 436).
ولعل كنية أبيه: أبو معاوية.
(1) في الدلائل: هشام.
(2) الخبر في دلائل البيهقي ج 5 / 245 - 246 في باب: ما روي في صلاته بتبوك على معاوية بن معاوية الليثي.
وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمته وقال: أسانيد هذه الاحاديث ليست بالقوية، ولو أنها في الاحكام لم يكن في شئ منها حجة...وفضل قل هو الله أحد لا ينكر.
(3) في المسند: سليمان.
(4) في المسند الفند: والفند في الاصل: الكذب، وأفند تكلم بالفند، ثم قالوا للشيخ إذا هرم: قد أفند لانه يتكلم بالمحرف من الكلام عن سنن الصحة، وأفنده الكبر: إذا أوقعه في الفند.
(عن النهاية).

وعليهم الدار فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم ؟ وقد أرسل إلي يدعوني إلى ثلاث خصال، يدعوني أن أتبعه على دينه، أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والارض أرضنا، أو نلقى إليه الحرب.
والله لقد عرفتم فيما تقرأون من الكتب ليأخذن [ ما تحت قدمي ] (1) فهلم فلنتبعه على دينه أو نعطيه مالنا على أرضنا، فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا: تدعونا إلى أن نذر النصرانية أو نكون عبيدا لاعرابي جاء من الحجاز.
فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رقأهم (2) ولم يكد وقال: إنما قلت ذلك لاعلم صلابتكم على أمركم ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال: ادع لي رجلا حافظا للحديث، عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاء بي فدفع إلي هرقل كتابا فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما سمعته من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال، انظر هل يذكر صحيفته إلي التي كتب بشئ، وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل، وانظر في ظهره هل به شئ يريبك.
قال فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا على الماء، فقلت أين صاحبكم ؟ قيل ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه، فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال " ممن أنت " فقلت أنا أخو تنوخ قال " هل لك إلى الاسلام الحنيفية ملة أبيكم ابراهيم ؟ " قلت إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم، فضحك وقال " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين، يا أخا تنوخ إني كتبت بكتاب إلى
كسرى والله ممزقه وممزق ملكه وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها والله مخرقه ويخرق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير " قلت هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي، فأخذت سهما من جعبتي فكتبته في جنب سيفي ثم إنه ناول الصحيفة رجلا عن يساره قلت من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم ؟ قالوا: معاوية فإذا في كتاب صاحبي تدعوني إلى جنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار " قال: فأخذت سهما من جعبتي فكتبته في جلد سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي قال " إن لك حقا وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرملون " قال: فناداه رجل من طائفة الناس قال أنا أجوزه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلة صفورية فوضعها في حجري، قلت من صاحب الجائزة ؟ قيل لي: عثمان، ثم قال رسول الله " أيكم ينزل هذا الرجل ؟ " فقال فتى من الانصار: أنا، فقام الانصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول الله فقال " تعال يا أخا تنوخ " فأقبلت أهوي حتى كنت قائما في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحل حبوته عن ظهره وقال " هاهنا امض لما أمرت
__________
(1) من مسند أحمد.
(2) رقأهم: سكنهم، وفي المسند رفأهم: تقرب إليهم.

به " فجلت في ظهره فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف مثل الحمحمة (1) الضخمة.
هذا حديث غريب واسناده لا بأس به تفرد به الامام أحمد (2).
مصالحته (3) عليه السلام ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح قبل رجوعه من تبوك قال ابن إسحاق: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة، صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح (4) وأعطوه الجزية، كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم، وكتب ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة: بسم الله الرحمن الرحيم،
هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل ايلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر: لهم ذمة الله [ وذمة ] (5) محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه.
وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يردونه من بر أو بحر.
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق بعد هذا، وهذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله.
قال يونس عن ابن أسحاق.
وكتب لاهل جرباء وأذرح: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لاهل جرباء وأذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب (6)، ومائة أوقية طيبة، وأن الله عليهم كفيل بالنصح والاحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين.
قال: وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أهل أيلة برده مع كتابه أمانا لهم، قال: فاشتراه بعد ذلك أبو العباس عبد الله بن محمد بثلثمائة دينار.
بعثة عليه السلام خالد بن الوليد إلى اكيدر دومة قال ابن أسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة، وهو
__________
(1) في المسند: الحجمة، وفي نسخة العجمة وهي الاكثر مناسبة، والعجمة بالضم والكسر ما تعقد من الرمل أو كثرة الرمل.
ولعل المراد ناتئ قليلا (القاموس المحيط).
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 341 - 342.
(3) وفي النسخة التيمورية: كتابه صلى الله عليه وآله ليحنة.
(4) أيلة: مدينة بالشام على النصف ما بين مصر ومكة على ساحل البحر.
جرباء: بلدة بالشام تلقاء السراة.
أذرح: مدينة بالشام، قيل هي فلسطين، قال في القاموس: بجنب جربا.
(5) من ابن هشام.
(6) في الواقدي والبيهقي نقلا عن ابن اسحاق: في كل رجب وافية طيبة.
(انظر في كتبه صلى الله عليه وآله سيرة ابن هشام 4 / 169 مغازي الواقدي 3 / 1032 - دلائل البيهقي 5 / 247 - 248).

أكيدر بن عبد الملك، رجل من بني كنانة (1) كان ملكا عليها وكان نصرانيا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد " إنك ستجده يصيد البقر " فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته (2).
وباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذا ؟ قال: لا أحد فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم (3).
فلما خرجوا تلقتهم خيل النبي صلى الله عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه وكان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به (4) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه، قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون من هذا [ فوالذي نفسي بيده ] (5) لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا ".
قال ابن أسحاق: ثم إن خالد بن الوليد لما قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم حقن له دمه فصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته (6)، فقال رجل من بني طئ يقال له بجير بن بجرة في ذلك: تبارك سائق البقرات إني * رأيت الله يهدي كل هاد فمن يك حائدا عن ذي تبوك * فإنا قد أمرنا بالجهاد وقد حكى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهذا الشاعر " لا يفضض الله فاك " فأتت عليه سبعون (7) سنة ما تحرك له فيها ضرس ولا سن.
وقد روى ابن لهيعة عن أبي الاسود، عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالدا مرجعه من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر دومة فذكر نحو ما
__________
(1) في ابن هشام: رجل من كندة، قال الواقدي وهو ابن عبد الملك بن عبد الجن.
(2) اسمها الرباب بنت أنيف بن عامر من كندة (قاله الواقدي).
(3) المطارد: جمع المطرد، وزن منبر، وهو رمح قصير يطرد به، وقيل يطرد به الوحش (اللسان).
(4) بعثه مع عمرو بن أمية الضمري.
(5) من ابن هشام ومغازي الواقدي.
(6) قال الواقدي وابن سعد وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله كتابا فيه أمانهم وما صالحهم وختمه يومئذ بظفره ونصفه: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لاكيدر حين أجاب إلى الاسلام وخلع الانداد والاصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله، في دومة الجندل وأكنافها.
وان لنا الضاحية من الضحل، والبور، والمعامي، وأغفال الارض، والحلقة، والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور بعد الخمس، لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها.
عليكم بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر معه من المسلمين.
".
(7) في دلائل البيهقي ج 5 / 251: تسعون سنة.

تقدم إلا أنه ذكر أنه ما كره حتى أنزله من الحصن، وذكر أنه قدم مع أكيدر إلى رسول الله ثمانمائة من السبي، وألف بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وذكر أنه لما سمع عظيم أيلة يحنة بن رؤبة بقضية أكيدر أقبل قادما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحه فاجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فالله أعلم (1).
وروى يونس بن بكير عن سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى: أن أبا بكر الصديق كان على المهاجرين في غزوة دومة الجندل، وخالد بن الوليد على الاعراب في غزوة دومة الجندل، فالله أعلم (2).
فصل قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، قال: وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشقق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه " قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه
شيئا فقال " من سبقنا إلى هذا الماء ؟ " فقيل له يا رسول الله فلان وفلان (3)، فقال أو لم أنههم أن يستقوا منه حتى آتيه، ثم لعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل (4)، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما أن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه ".
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي، أن عبد الله بن مسعود كان يحدث قال: قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها انظر إليها، قال: فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وإذا هو يقول " أدنيا إلي أخاكما " فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال " اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه " قال يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.
قال ابن هشام: إنما سمي ذو البجادين، لانه كان يريد الاسلام فمنعه قومه وضيقوا عليه حتى خرج من بينهم وليس عليه إلا
__________
(1) نقل الخبر البيهقي في الدلائل مطولا ج 5 / 252.
(2) روى الحديث البيهقي في دلائل النبوة ج 5 / 253.
(3) ذكرهم الواقدي قال: أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت.
(4) الوشل.
حجر أو جبل يقطر منه الماء قليلا قليلا.
والوشل أيضا: القليل من الماء (شرح أبي ذر).

بجاد - وهو الكساء الغليظ - فشقه باثنين فائتزر بواحدة وارتدى بالاخرى، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمي ذو البجادين.
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم
الغفاري أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين - وكان من أصحاب الشجرة - يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فسرت ذات ليلة معه ونحن بالاخضر والقى الله علي النعاس (1) وطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة النبي صلى الله عليه وسلم فيفزعني دنوها منه مخافة أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أحوز راحلتي عنه، حتى غلبتني عيني في بعض الطريق، فزاحمت راحلتي راحلته ورجله في الغرز، فلم أستيقظ إلا بقوله " حس " فقلت: يا رسول الله استغفر لي، قال " سر " فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألني عمن تخلف عنه من بني غفار فأخبره به.
فقال وهو يسألني " ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط (2) الذين لا شعر لهم في وجوههم ؟ " فحدثته بتخلفهم، قال " فما فعل النفر السود الجعاد القصار " قال: قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا قال " بلى الذين لهم نعم بشبكة شدخ " (3) فتذكرتهم في بني غفار، فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا، فقلت: يا رسول الله أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرءا نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون والانصار وغفار وأسلم ".
قال ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة هم جماعة من المنافقين بالفتك به وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم فأمر الناس بالمسير من الوادي وصعد هو العقبة وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبصر حذيفة فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر على ما أضمروه من الامر العظيم فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ووقفوا ينتظرون الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة " هل عرفت هؤلاء القوم ؟ " قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم، ثم قال " علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب ؟ " قالا: لا، فأخبرهما بما كانوا تملاوا عليه وسماهم لهما واستكتمهما
__________
(1) العبارة في ابن هشام: ونحن بالاخضر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وألقى علينا النعاس.
(2) الثطاط: جمع ثط، وهو صغير نبات شعر اللحية (قاله السهيلي).
(3) شبكة شدخ: ماء لاسلم من بني غفار.
كما عند ياقوت.
وفي النهاية واللسان: شبكة جرح: موضع بالحجاز في ديار غفار.

ذلك ؟ فقالا يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم ؟ فقال " أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " (1) وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعلم باسمائهم حذيفة بن اليمان وحده وهذا هو الاشبه والله أعلم ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة صاحب ابن مسعود: أليس فيكم - يعني أهل الكوفة - صاحب السواد والوساد - يعني ابن مسعود - أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني حذيفة - أليس فيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان محمد - يعني عمارا - وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لحذيفة: أقسمت عليك بالله أنا منهم ؟ قال لا ولا أبرئ بعدك أحدا - يعني حتى لا يكون مفشيا سر النبي صلى الله عليه وسلم -.
قلت: وقد كانوا أربعة عشر رجلا، وقيل كانوا اثني عشر رجلا، وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من أمرهم وبما تمالاوا عليه.
ثم سرد ابن إسحاق أسماءهم قال وفيهم أنزل الله عزوجل: * (وهموا بما لم ينالوا) * [ التوبة: 74 ].
وروى البيهقي من طريق محمد بن مسلمة (2) عن أبي إسحاق، عن الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة بن اليمان قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به، وعمار يسوق الناقة - أو أنا أسوق وعمار يقود به - حتى إذا كنا بالعقبة إذا باثنى عشر رجلا قد اعترضوه فيها، قال فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله " هل عرفتم القوم ؟ " قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب، قال
" هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا ؟ " قلنا: لا قال: " أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه منها " قلنا: يا رسول الله أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال " لا، أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل لقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم " ثم قال " اللهم ارمهم بالدبيلة " (3) قلنا يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال " هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك " (4).
وفي صحيح مسلم: من طريق شعبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عبادة.
قال، قلت لعمار أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر علي أرأي رأيتموه أم شئ عهده إليكم رسول الله ؟ فقال: ما عهد
__________
(1) روى الخبر البيهقي في دلائله ج 5 / 256 - 258 مطولا باختلاف بسيط في بعض ألفاظه وتعابيره.
ورواه الامام أحمد في مسنده عن أبي الطفيل، وابن سعد عن جبير بن مطعم والواقدي في مغازيه من طريق صالح بن كيسان.
(2) في الدلائل: سلمة، عن محمد بن إسحاق.
(3) الدبيلة: خراج أو دمل كبير يظهر في الجوف تقتل صاحبها غالبا.
(4) رواه البيهقي في دلائله ج 5 / 260 - 261.

إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في أصحابي أثنا عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " (1) وفي رواية من وجه آخر عن قتادة " إن في أمتي أثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم ".
قال الحافظ البيهقي (2): وروينا عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر - أو خمسة عشر - وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد، وعذر ثلاثة أنهم قالوا: ما سمعنا المنادي ولا علمنا بما أراد.
وهذا الحديث قد رواه الامام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد - هو ابن هارون - أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع
عن أبي الطفيل.
قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى إن رسول الله آخذ بالعقبة فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة " قد قد " حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوادي، فلما هبط ورجع عمار قال " يا عمار هل عرفت القوم ؟ " قال قد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون قال " هل تدري ما أرادوا ؟ " قال الله ورسوله أعلم، قال: " أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه " قال فسار عمار رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال أربعة عشر رجلا، فقال إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، قال فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا ما سمعنا منادي رسول الله وما علمنا ما أراد القوم.
فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر (3) الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد.
قصة مسجد الضرار قال الله تعالى * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذوبون، لا تقم فيه
__________
(1) الحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي بكر بن أبي شيبة في (50) كتاب المنافقين (الحديث: 9) وعن محمد بن بشار.
الحديث (10).
ص (4 / 2143).
(2) دلائل النبوة ج 5 / 262.
وآخره: ولا علمنا بما أراد القوم.
(3) قال الواقدي: ليس فيهم قرشي، وهو المجتمع عليه عندنا.
ونقل البيهقي في الدلائل، عن ابن اسحاق اسماءهم، عبد الله بن سعد بن أبي سرح (قال في زاد المعاد: لم يعرف له إسلام) وأبو حاضر الاعرابي - وعامر - وأبو عامر (الراهب) - والجلاس بن سويد بن الصامت - ومجمع بن جارية - وفليح التيمي - وحصين بن نمير - وطعمة بن أبيرق - وعبد الله بن عيينة - ومرة بن ربيع.
(ج 5 / 258).

أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين، لا يزال بنينهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) * [ التوبة: 106 - 110 ] وقد تكلمنا على تفسير ما يتعلق بهذه الآيات الكريمة في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد.
وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله وكيفية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرابه مرجعه من تبوك قبل دخوله المدينة، ومضمون ذلك أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء وأرادوا أن يصلي لهم رسول صلى الله عليه وسلم فيه حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد والكفر والعناد، فعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه وذلك أنه كان على جناح سفر إلى تبوك، فلما رجع منها فنزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه الوحي في شأن هذا المسجد وهو قوله تعالى * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) * الآية.
أما قوله ضرارا فلانهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء، وكفرا بالله لا للايمان به، وتفريقا للجماعة عن مسجد قباء وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وهو أبو عامر الراهب الفاسق قبحه الله وذلك أنه لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام فأبى عليه، ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاؤوا عام أحد فكان من أمرهم ما قدمناه، فلما لم ينهض أمره ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصر معهم من العرب وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد في الصورة الظاهرة وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبي عامر الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين.
ولهذا قال تعالى * (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) * ثم قاتل * (وليحلفن) * أي الذين بنوه * (إن أردنا إلا الحسنى) * أي إنما أردنا ببنائه الخير.
قال الله تعالى * (والله يشهد إنهم لكاذبون) * ثم قال الله تعالى إلى رسوله * (لا تقم فيه أبدا) * فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره ثم أمره وحثه على القيام في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم
وهو مسجد قباء لما دل عليه السياق والاحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه، وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينافي ما تقدم لانه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم فمسجد الرسول أولى بذلك وأحرى، وأثبت في الفضل منه وأقوى، وقد أشبعنا القول في ذلك في التفسير ولله الحمد.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذي أوان دعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي - رضي الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظالم أهله فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.
قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا وهم، خذام بن خالد - وفي جنب داره

كان بناء هذا المسجد - وثعلبة بن حاطب: ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الازعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، ويخرج وهو إلى بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية [ بن زيد ] (1).
قلت: وفي غزوة تبوك هذه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الفجر أدرك معه الركعة الثانية منها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يتوضأ ومعه المغيرة بن شعبة فابطأ على الناس، فأقيمت الصلاة فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فلما سلم الناس أعظموا ما وقع فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحسنتم وأصبتم " وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله قائلا حدثنا.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: " إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم " فقالوا يا رسول الله وهم بالمدينة ؟ قال " وهم بالمدينة حبسهم العذر " تفرد به من هذا الوجه (2).
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا عمرو بن يحيى، عن العباس بن سهل بن سعد، عن أبي حميد قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا على المدينة قال " هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه " (3) ورواه مسلم من حديث سليمان بن بلال به نحوه.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك (4).
ورواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به، وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال البيهقي أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع
__________
(1) من ابن هشام.
وخبر مسجد الضرار في مغازي الواقدي 3 / 1047 - 1048 وسيرة ابن هشام 4 / 173 - 174.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (81) باب، الحديث (4423) فتح الباري 8 / 126 وأخرجه في كتاب الجهاد (35) باب.
فتح الباري (6 / 46).
وأخرجه أبو داود في الجهاد، والحديث (2508) والامام أحمد في مسنده (3 / 103، 106، 182، 300، 341) وابن ماجه في الجهاد (6) باب، الحديث (2764).
(3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، الحديث (4422) فتح الباري (8 / 125).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (196) باب، الحديث (3082) وأبو داود في الجهاد، الحديث (2779).

وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع قال البيهقي: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة لا أنه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع عند مقدمه من تبوك والله أعلم.
فذكرناه ها هنا أيضا (1).
قال البخاري رحمه الله حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب عن
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حتى تواثبنا (2) على الاسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا وعددا وعدادا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن يستخفي له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ تلك الغزوة ] (3) حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فارجع ولم اقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه ولم اقض من جهازي شيئا فقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لاتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى اسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك " ما فعل كعب ؟ " فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب بن مالك: قال: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي
وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج غدا من سخطه واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من
__________
(1) دلائل النبوة ج 5 / 266 ونقله الصالحي في السيرة الشامية (5 / 673).
(2) في البخاري: حتى تواثقنا.
(3) من البخاري..

أهلي، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشئ فيه كذب، فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال " تعال " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي " ما خلفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك " فقلت بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر - ولقد أعطيت جدلا - ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لارجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك " فقمت فثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى هممت أن أراجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت من هما، قالوا مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا: [ لي ] فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف،
فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الارض فما هي التي اعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الاسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا، ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتي إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
قال: وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان (1) [ في سرقة من
__________
(1) هو جبلة بن الايهم حزم بذلك ابن عائذ، وعند الواقدي بالحرث بن أبي شمر.

حرير ] (1) فإذا فيه، أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدر هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك.
فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك (2)، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الامر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه، قال " لا ولكن لا يقربك " قالت إنه والله ما به حركة إلى شئ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو أستأذنت رسول الله في امرأتك كما استأذن
هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، قال: فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عزوجل قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الارض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع [ يقول ] بأعلى صوته: يا كعب أبشر، فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله [ للناس ] بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين (3) فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قال قلت: أمن عندك يا رسول الله أم عند الله ؟ قال " لا بل من عند الله " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه.
قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله " امسك عليك بعض مالك فهو خير لك " قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني
__________
(1) زيادة من الواقدي، ومن رواية ابن مردويه.
(2) وهي عميرة بنت جبير بن صخر بن أمية الانصارية وهي أم أولاده الثلاثة: عبد الله وعبيد ومعبد.
(3) في الواقدي: استعارهما من أبي قتادة.

بالصدق، وإن من توبتي ألا اتحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني، ما شهدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، واني لارجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار) * إلى قوله * (وكونوا مع الصادقين) * [ التوبة: 117 - 119 ] فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للاسلام أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لاحد، قال الله تعالى * (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم) * إلى قوله * (فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) * [ التوبة: 95 - 96 ] قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله حين حلفوا له فبايعهم (1) واستغفر لهم وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله تعالى * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) * ليس الذي ذكر الله مما خلفنا من الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منهم (2)، وهذا رواه مسلم من طريق الزهري بنحوه.
وهكذا رواه محمد بن اسحاق عن الزهري مثل سياق البخاري، وقد سقناه في التفسير من مسند الامام أحمد وفيه زيادات يسيرة ولله الحمد والمنة.
ذكر أقوام تخلفوا من العصاة غير هؤلاء قال علي بن طلحة (3) الوالبي، عن ابن عباس في قوله تعالى * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله هو التواب الرحيم) * [ التوبة: 102 ] قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضروا رجوعه أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فلما مر بهم رسول الله قال " من هؤلاء ؟ " قالوا أبا لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك حتى تطلقهم وتعذرهم قال " وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله عز وجل هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين " فلما أن بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا.
فانزل الله عز وجل
__________
(1) وفي ابن هشام والواقدي فعذرهم.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (79) باب.
الحديث (4418) فتح الباري (8 / 113) وأخرجه في الوصايا وفي الجهاد، وفي صفة النبي صلى الله عليه وآله وفي فود الانصار.
وفي الاستئذان، وفي المغازي، وفي التفسير.
وأخرجه مسلم في كتاب التوبة، (9) باب، الحديث (53) ص (4 / 2120 - 2128).
ورواه الواقدي في المغازي (3 / 1049 - 1056) وابن هشام في السيرة (ج 4 / 175 - 181).
- وما بين معكوفين في الحديث زيادة استدركت من صحيح البخاري.
(3) في دلائل البيهقي: ابن أبي طلحة.

* (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) * الآية.
و * (عسى) * من الله واجب.
فلما أنزلت أرسل إليهم رسول الله فأطلقهم وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال " ما أمرت أن آخذ أموالكم " فأنزل الله * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ونزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وان الله سميع عليم) * [ التوبة: 103 ] إلى قوله * (وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) * وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسواري فارجئوا حتى نزل قوله تعالى * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين خلفوا) * [ التوبة: 117 ] إلى آخرها.
وكذا رواه عطية بن سعيد العوفي عن ابن عباس بنحوه (1).
وقد ذكر سعيد بن المسيب، ومجاهد، ومحمد بن إسحاق قصة أبي لبابة وما كان من أمره يوم بني قريظة وربط نفسه حتى تيب عليه، ثم إنه تخلف عن غزوة تبوك فربط نفسه أيضا حتى تاب الله عليه، وأراد أن ينخلع من ماله كله صدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يكفيك من ذلك الثلث " قال مجاهد وابن اسحاق: وفيه نزل * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) * الآية: قال سعيد بن المسيب: ثم لم ير منه بعد ذلك في الاسلام إلا خيرا رضي الله عنه وأرضاه.
قلت: ولعل هؤلاء الثلاثة لم يذكروا معه بقية أصحابه واقتصروا على أنه كان كالزعيم لهم
كما دل عليه سياق ابن عباس والله أعلم.
وروى الحافظ البيهقي: من طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن سليمة بن كهيل، عن عياض بن عياض، عن أبيه عن ابن مسعود قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن منكم منافقين فمن سميت فليقل قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان " حتى عد ستة وثلاثين، ثم قال " إن فيكم - أو أن منكم - منافقين فسلوا الله العافية " قال: فمر عمر برجل متقنع وقد كان بينه وبينه معرفة فقال: ما شأنك ؟ فأخبره بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعدا لك سائر اليوم (2).
قلت: كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة اقسام، مأمورون مأجورون كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة، وابن أم مكتوم، ومعذورون وهم الضعفاء والمرضى، والمقلون وهم البكاؤون، وعصاة مذنبون وهم الثلاثة، أبو لبابة وأصحابه المذكورون، وآخرون ملومون مذمومون وهم المنافقون.
ما كان من الحوادث بعد منصرفه من تبوك قال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، إملاء، أخبرنا أبو العباس محمد بن
__________
(1) نقل الخبر البيهقي في الدلائل ج 5 / 271 - 272.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 283 - 284.

يعقوب، حدثنا أبو البحتري عبد الله بن شاكر (1)، حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عم أبي زخر بن حصن، عن جده حميد بن منهب (2) قال: سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة بن لام يقول: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك، فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قل لا يفضض الله فاك " فقال: من قبلها طبت في الضلال وف * - ي مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لابشر * أنت ولا نطفة (3) ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق حتى احتوى بينك المهيمن من * خندق علياء تحتها النطق وأنت لما ولدت أشرقت الار * ض فضاءت بنورك الافق فنحن في ذلك الضياء وفي الن * - نور وسبل الرشاد يخترق (4) ورواه البيهقي من طريق أخرى عن أبي السكن، زكريا بن يحيى الطائي وهو في جزء له مروي عنه.
قال البيهقي وزاد: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه الحيرة البيضاء رفعت لي، وهذه الشيماء بنت نفيلة (5) الازدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود " فقلت: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة فوجدتها كما تصف فهي لي ؟ قال " هي لك " قال: ثم كانت الردة فما ارتد أحد من طئ، وكنا نقاتل من يلينا من العرب على الاسلام فكنا نقاتل قيسا وفيها عيينة بن حصن، وكنا نقاتل بني أسد وفيهم طلحة بن خويلد، وكان خالد بن الوليد يمدحنا، وكان فيما قال فينا: جزى الله عنا طيئا في ديارها * بمعترك الابطال خير جزاء هموا أهل رايات السماحة والندى * إذا ما الصبا ألوت بكل خباء هموا ضربوا قيسا على الدين بعدما * أجابوا منادي ظلماء ؟ وعماء قال: ثم سار خالد إلى مسيلمة الكذاب فسرنا معه فلما فرغنا من مسيلمة أقبلنا إلى ناحية البصرة فلقينا هرمز بكاظمة في جيش هو أكبر من جمعنا، ولم يكن أحد (6) من العجم أعدى للعرب
__________
(1) في الدلائل: عبد الله بن محمد بن شاكر.
(2) الدلائل: ابن منيب.
(3) في الدلائل: ولا مضغة.
(4) البيت في الدلائل: فنحن من ذلك النور في الضياء * وسبل الرشاد نخترق روى الخبر والابيات البيهقي في دلائل النبوة ج 5 / 268، ورواه الطبراني، والزرقاني في شرح المواهب (3 / 84).
(5) من الدلائل، وفي الاصل بقيلة.
(6) في الدلائل: ولم يكن أحد من الناس.

والاسلام من هرمز، فخرج إليه خالد ودعاه إلى البراز فبرز له فقتله خالد وكتب يخبره إلى الصديق فنفله سلبه فبلغت قلنسوة هرمز مائة ألف درهم، وكانت الفرس إذا شرف فيها الرجل جعلت قلنسوته بمائة ألف درهم، قال: ثم قفلنا على طريق الطف إلى الحيرة فأول من تلقانا حين دخلناها الشيماء بنت نفيلة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلقت بها وقلت هذه وهبها لي رسول الله، فدعاني خالد عليها بالبينة فأتيته بها، وكانت البينة محمد بن مسلمة ومحمد بن بشير الانصاري فسلمها إلي، فنزل إلي أخوها عبد المسيح يريد الصلح فقال بعنيها، فقلت لا أنقصها والله عن عشرة مائة درهم، فأعطاني ألف درهم وسلمتها إليه، فقيل لو قلت مائة ألف لدفعها اليك، فقلت: ما كنت أحسب أن عددا أكثر من عشر مائة (1).
قدوم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من سنة تسع تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ارتحل عن ثقيف سئل أن يدعو عليهم فدعا لهم بالهداية، وقد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم مالك بن عوف النضري أنعم عليه وأعطاه وجعله أميرا على من أسلم من قومه، فكان يغزو بلاد ثقيف ويضيق عليهم حتى ألجأهم إلى الدخول في الاسلام، وتقدم أيضا فيما رواه أبو داود عن صخر بن العيلة الاحمسي أنه لم يزل بثقيف حتى أنزلهم من حصنهم على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل بهم إلى المدينة النبوية بأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في ذلك.
وقال ابن اسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد من ثقيف، وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم.
اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالاسلام، فقال له رسول الله - كما يتحدث قومه - " إنهم قاتلوك " وعرف رسول الله أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك محببا مطاعا، فخرج يدعو قومه إلى الاسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على عيلة
له، وقد دعاهم إلى الاسلام وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله، فتزعم بنو مالك أنه قتله رجل منهم يقال له أوس بن عوف (2) أخو بني سالم بن مالك، ويزعم الاحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب يقال له وهب بن جابر، فقيل لعروة: ما ترى في دينك (3) ؟ قال كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم فزعموا أن
__________
(1) الخبر في دلائل النبوة ج 5 / 28.
(2) زاد الواقدي: وهو الا ثبت عندنا.
(3) في ابن هشام: ما ترى في دمك.

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه " إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه " ؟ كذا ذكر موسى بن عقبة قصة عروة ولكن زعم أن ذلك كان بعد حجة أبي بكر الصديق، وتابعه أبو بكر البيهقي في ذلك وهذا بعيد، والصحيح أن ذلك قبل حجة أبي بكر كما ذكره ابن إسحاق والله أعلم (1).
قال ابن اسحاق: ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم، رأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا، فائتمروا فيما بينهم وذلك عن رأي عمرو بن أمية أخي بني علاج فائتمروا بينهم ثم أجمعوا على أن يرسلوا رجلا منهم فأرسلوا عبد يا ليل بن عمرو بن عمير ومعه اثنان من الاحلاف وثلاثة من بني مالك، وهم الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب، وعثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف أخو بني سالم، ونمير بن خرشة بن ربيعة.
وقال موسى بن عقبة: كانوا بضعة عشر (2) رجلا فيهم كنانة بن عبد ياليل - وهو رئيسهم - وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغر الوفد.
قال ابن اسحاق: فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة، ألفوا المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رآهم ذهب يشتد ليبشر رسول الله بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصديق فأخبره عن ركب ثقيف أن قدموا يريدون البيعة والاسلام، إن شرط لهم رسول الله شروطا ويكتبوا كتابا
في قومهم، فقال أبو بكر للمغيرة أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهيلة، ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربت عليهم قبة في المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله.
فكان إذا جاءهم بطعام من عنده لم يأكلوا منه حتى يأكل خالد بن سعيد قبلهم، وهو الذي كتب لهم كتابهم.
قال: وكان مما اشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية ثلاث سنين، فما برحوا يسألونه سنه سنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم ليتألفوا سفهاءهم فأبى عليهم أن يدفعها شيئا مسمى إلا أن يبعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة ليهدماها، وسألوه مع ذلك أن لا يصلوا وأن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم فقال " أما كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه " فقالوا
__________
(1) الخبر في سيرة هشام ج 4 / 182 وابن سعد ج 1 / 312 ومغازي الواقدي ج 3 / 960 وجميعهم قالوا: كان ذلك بعد رجوعه صلى الله عليه وآله من حصار الطائف وقدومه المدينة.
ونقل البيهقي رواية عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة في الدلائل ج 5 / 299 - 300.
و 304 وابن عبد البر في الدرر (ص 247).
(2) في الواقدي: كانوا ستة، ويقال بضعة عشر فيهم سفيان بن عبد الله وهذا ما جزم به ابن سعد، والذي قال في رواية أخرى: خرج مع عبد ياليل وابناه كنانة وربيعة (والخمسة الذين ذكرهم ابن اسحاق: فساروا في سبعين رجلا وهؤلاء الستة رؤوسائهم.
(ابن سعد 1 / 313 - مغازي الواقدي 3 / 963).

سنؤتيكها وإن كانت دناءة (1).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، محمد بن مسلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص: أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا ولا يستعمل عليهم غيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكم أن لا تحشروا (2) ولا تجبوا ولا يستعمل عليكم
غيركم، ولا خير في دين لا ركوع فيه " (3) وقال عثمان بن أبي العاص: يا رسول الله علمني القرآن واجعلني إمام قومي.
وقد رواه أبو داود من حديث أبي داود الطيالسي: عن حماد بن سلمة، عن حميد به.
وقال أبو داود: حدثنا الحسن بن الصباح، ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني ابراهيم بن عقيل بن معقل بن منبه، عن وهب سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت قال: اشترطت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك " سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا " (4).
قال ابن اسحاق: فلما أسلموا وكتب لهم كتابهم (5) أمر عليهم عثمان بن أبي العاص - وكان
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 4 / 184 - 185 (2) الحشر: الانتداب إلى المغازي.
(3) رواه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 218 ورواه أبو داود في كتاب الخراج باب ما جاء في خبر الطائف الحديث (3026).
(4) أخرجه أبو داود، الحديث (3025) ص (3 / 163).
(5) ذكره أبو عبيد في الاموال عن عروة بن الزبير، قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله لثقيف: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله لثقيف، كتب: أن لهم ذمة الله الذي لا إله إلا هو، وذمة محمد بن عبد الله النبي.
على ما كتب عليهم في هذه الصحيفة: أن واديهم حرام محرم لله كله: عضاه، وصيده، وظلم فيه، وسرق فيه، أو إساءة.
وثقيف أحق الناس بوج ولا يعبر طائفهم.
ولا يدخله عليه أحد من المسلمين يغلبهم عليه.
وما شاؤوا أحدثوا في طائفهم من بنيان أو سواه بواديهم، لا يحشرون ولا يعشرون، ولا يستكرهون بمال ولا نفس، وهم أمة من المسلمين يتولجون من المسلمين حيثما شاؤوا، وأين تولجوا ولجوا، وما كان لهم من أسير فهو لهم، هم أحق الناس به حتى يفعلوا به ما شاؤوا، وما كان لهم من دين في رهن فبلغ أجله فإن لواط مبرأ من الله - وما كان من دين في رهن رواء عكاظ فإنه يقضي إلى عكاظ برأسه.
وما كان لثقيف من دين في صحفهم اليوم الذي أسلموا عليه في الناس، فإنه لهم.
وما كان لثقيف من وديعة في الناس، أو مال، أو نفس غنمها مودعها، أو أضاعها، ألا فإنها مؤداة، وما كان لثقيف من نفس غائبة أو مال، فإن له
من الامن ما لشاهدهم، وما كان لثقيف من حليف أو تاجر، فأسلم فإن له مثل قضية أمر ثقيف، وإن طعن طاعن على ثقيف أو ظلمهم ظالم، فإنه لا يطاع فيهم في مال ولا نفس.
وإن الرسول ينصرهم على من ظلمهم، والمؤمنون.
ومن كرهوا أن يلج عليهم من الناس فإنه لا يلج عليهم.
وأن السوق والبيع بأفنية البيوت، وأن لا يؤمر عليهم إلا بعضهم على بعض: على بني مالك أميرهم، وعلى الاخلاف أميرهم.
وما سقت ثقيف من أعناب قريش فإن شطرها لمن سقاها.
وما كان لهم من دين في رهن لم يلط فإن وجد ؟ أهله قضاء قضوا، وإن لم يجدوا قضاء فإنه إلى جمادى الاولى من عام قابل، من بلغ أجله يقضه فإنه قد لاطه.
=

أحدثهم سنا - لان الصديق قال: يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الاسلام، وتعلم القرآن.
وذكر موسى بن عقبة أن وفدهم كانوا إذا أتوا رسول الله خلفوا عثمان بن أبي العاص في رحالهم فإذا رجعوا وسط النهار جاء هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن العلم فاستقرأه القرآن فإن وجده، نائما ذهب إلى أبي بكر الصديق، فلم يزل دأبه حتى فقه في الاسلام (1) وأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا شديدا.
قال ابن اسحاق: حدثني سعيد بن أبي هند، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عثمان بن أبي العاص.
قال: كان من آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى ثقيف قال " يا عثمان تجوز في الصلاة، وأقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة " وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: " أنت إمامهم فاقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " رواه أبو داود والترمذي من حديث حماد بن سلمة به ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية عن محمد بن اسحاق كما تقدم.
وروى أحمد: عن عفان، عن وهب، وعن معاوية بن عمرو عن زائدة كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن داود بن أبي عاصم، عن عثمان بن أبي العاص أن آخر ما فارقه رسول الله حين استعمله على الطائف أن قال " إذا صليت بقوم فخفف بهم حتى
وقت لي أقرأ باسم ربك الذى خلق، وأشباهها من القرآن " وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت سعيد بن المسيب قال: حدث عثمان بن أبي العاص.
قال: آخر ما عهد إلي رسول الله أن قال: " إذا أممت قوما فخفف بهم الصلاة " (2) ورواه مسلم عن محمد بن مثنى وبندار كلاهما عن محمد بن جعفر عن عبد ربه.
وقال أحمد حدثنا: أبو أحمد الزبيري، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي، عن عبد الله بن الحكم أنه سمع عثمان بن أبي العاص يقول استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، فكان آخر ما عهد إلي أن قال " خفف عن الناس الصلاة " تفرد به من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، أخبرنا عمرو بن
__________
= وما كان لهم في الناس من دين فليس عليهم إلا رأسه.
وما كان لهم من أسير باعه ربه فإن له بيعه، وما لم يبع فإن فيه ست قلائص نصفين.
لبون كرام سمان.
وما كان له بيع اشتراه فإن له بيعه " " كتاب الاموال ص 87.
رقم 507.
ونقله الاحمدي في مكاتيب الرسول عنه ص 2 / 263.
وأوعز إليه البلاذري في فتوح البلدان ص 67 وياقوت في معجم البلدان (الطائف) والكامل لابن الاثير ج 1 / 246 وطبقات ابن سعد، والعقد الفريد ج 1 / 135.
(1) زاد البيهقي في رواية ابن عقبة: وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله.
دلائل النبوة 5 / 301.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (37) الحديث (187) ورواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 306 من طريق يونس بن حبيب.

عثمان، حدثني موسى - هو ابن طلحة - أن عثمان بن أبي العاص حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤم قومه ثم قال: " من أم قوما فليخفف بهم فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء " ورواه مسلم من حديث عمرو بن عثمان به.
وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، سمعت أشياخا من ثقيف قالوا: حدثنا عثمان بن أبي العاص أنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم قومك وإذا أممت قوما فخفف بهم الصلاة
فإنه يقوم فيها الصغير والكبير والضعيف والمريض وذو الحاجة " وقال أحمد: حدثنا ابراهيم بن إسماعيل، عن الجريري عن أبي العلاء بن الشخير أن عثمان قال: يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي، قال: " ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أنت حسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثا " قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني (1).
ورواه مسلم من حديث سعيد الجريري به.
وروى مالك وأحمد ومسلم وأهل السنن من طرق عن نافع بن جبير بن مطعم عن عثمان بن أبي العاص أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده فقال له " ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " وفي بعض الروايات ففعلت ذلك فأذهب الله ما كان بي فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم (2).
وقال أبو عبد الله بن ماجه: حدثنا محمد بن يسار (3)، ثنا محمد بن عبد الله الانصاري، حدثني عيينة بن عبد الرحمن - وهو ابن جوشن - حدثني أبي، عن عثمان بن أبي العاص.
قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شئ في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ابن أبي العاص ؟ " قلت نعم ! يا رسول الله ! قال " ما جاء بك ؟ " قلت يا رسول الله عرض لي شئ في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي قال " ذاك الشيطان أدن " فدنوت منه فجلست على صدور قدمي، قال: فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال " أخرج عدو الله " فعل ذلك ثلاث مرات ثم قال " الحق بعملك ".
قال فقال عثمان: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد (3).
تفرد به ابن ماجه.
قال ابن اسحاق: وحدثني عيسى بن عبد الله، عن عطية بن سفيان بن ربيعة الثقفي عن بعض وفدهم قال: كان بلال يأتينا حين أسلمنا وصمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من شهر رمضان بفطورنا وسحورنا فيأتينا بالسحور فإنا لنقول إنا لنرى الفجر قد طلع ؟ فيقول: قد تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسحر لتأخير السحور، ويأتينا بفطرنا وإنا لنقول ما نرى الشمس ذهبت كلها بعد، فيقول ما جئتكم حتى أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يضع يده في الجفنة فيلقم منها.
وروى
__________
(1) أخرجه مسلم في 39 كتاب السلام (25) باب الحديث (68).
وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 5 / 307.
(2) أخرجه مسلم في كتاب السلام (24) الحديث 67.
وأخرجه أبو داود في الطب.
باب كيف الرقى الحديث (3891).
وأخرجه الترمذي في الطب، وقال: حسن صحيح.
(3) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطب (46) باب الفزع والارق (الحديث: 3548) وفيه: محمد بن بشار.

الامام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، قال فنزلت الاحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قبة له كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام، فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش، ثم يقول " لا آسى وكنا مستضعفين مستذلين بمكة، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا " فلما كانت ليلة أبطأ عنا الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلنا لقد أبطأت علينا الليلة ؟ فقال: " إنه طرئ علي جزئي من القرآن فكرهت أن أجئ حتى أتمه " قال أوس سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجزئون القرآن ؟ فقالوا ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع وإحدى عشر، وثلاث عشرة.
وحزب المفصل وحده لفظ أبو داود.
قال ابن اسحاق: فلما فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان فأبى ذلك عليه أبو سفيان وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم (1)، فلما دخل المغيرة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه بني معتب دونه، خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود، قال وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقلن: * لنبكين دفاع، أسلمها الرضاع، لم يحسنوا المصاع (2) * قال ابن إسحاق: ويقول أبو سفيان: والمغيرة يضربها بالفأس وآها لك آها لك، فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبي سفيان فقال: إن رسول الله قد أمرنا أن نقضي عن
عروة بن مسعود وأخيه الاسود بن مسعود والد قارب بن الاسود دينهما من مال الطاغية يقضي ذلك عنهما.
قلت: كان الاسود قد مات مشركا ولكن أمر رسول الله بذلك تأليفا وإكراما لولده قارب بن الاسود رضي الله عنه.
وذكر موسى بن عقبة أن وفد ثقيف كانوا بضعة عشر رجلا، فلما قدموا أنزلهم رسول الله المسجد ليسمعوا القرآن، فسألوه عن الربا والزنا والخمر فحرم عليهم ذلك كله فسألوه عن الربة ما هو صانع بها ؟ قال " اهدموها " قالوا هيهات لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها قتلت أهلها، فقال عمر بن الخطاب: ويحك يا بن عبد ياليل ما أجهلك، إنما الربة حجر
__________
(1) الهدم، وفي نسخ البداية المطبوعة الهرم تحريف، والهدم: ماء وراء وادي القرى.
(مراصد الاطلاع 2 / 1454).
(2) في ابن هشام: لتبكين.
ودفاع: سموها بذلك لانها - بزعمهم - تدفع عنهم الضرر.
الرضاع: اللئيم المصاع: المضاربة بالسيوف.

فقالوا: إنا لم نأتك يا بن الخطاب، ثم قالوا: يا رسول الله تول أنت هدمها، أما نحن فإنا لن نهدمها أبدا، فقال " سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها " فكاتبوه على ذلك واستأذنوه أن يسبقوا رسله إليهم، فلما جاؤوا قومهم تلقوهم فسألوهم ما وراءكم فأظهروا الحزن، وأنهم إنما جاؤوا من عند رجل فظ غليظ قد ظهر بالسيف بحكم ما يريد وقد دوخ العرب، قد حرم الربا والزنا والخمر، وأمر بهدم الربة، فنفرت ثقيف وقالوا لا نطيع لهذا أبدا، قال فتأهبوا للقتال وأعدوا السلاح، فمكثوا على ذلك يومين - أو ثلاثة - ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب فرجعوا وأنابوا وقالوا: ارجعوا إليه فشارطوه على ذلك وصالحوه عليه قالوا: فإنا قد فعلنا ذلك ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه وفيما قاضيناه، فافهموا القضية واقبلوا عافية الله، قالوا: فلم كتمتمونا هذا أولا ؟ قالوا أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم ومكثوا أياما ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمر عليهم
خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة بن شعبة، فعمدوا إلى اللات، وقد استكفت ثقيف رجالها ونساءها والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال ولا يرى عامة ثقيف أنها مهدومة ويظنون أنها ممتنعة، فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين - يعني المعول - وقال لاصحابه: والله لاضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين ثم سقط يركض برجله فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وفرحوا وقالوا أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وقالوا لاولئك من شاء منكم فليقترب، فقام المغيرة فقال: والله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم إنه ضرب الباب فكسره.
ثم علا سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالارض، وجعل سادنها يقول: ليغضبن الاساس فليخسفن بهم، فلما سمع المغيرة قال لخالد: دعني أحفر أساسها فحفروه حتى أخرجوا ترابها وجمعوا ماءها وبناءها، وبهتت عند ذلك ثقيف، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم أموالها من يومه وحمدوا الله تعالى على اعتزاز دينه ونصرة رسوله (1).
قال ابن اسحاق: وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين: إن عضاه وج (2) وصيده لا يعضد من وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه، وإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به النبي محمدا وإن هذا أمر النبي محمد، وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بن الحارث - من أهل مكة مخزومي - حدثني محمد بن عبد الله بن إنسان - وأثنى عليه خيرا - عن أبيه، عن عروة بن الزبير قال: أقبلنا مع
__________
(1) لفظ موسى بن عقبة وروى الخبر عروة بن الزبير بمعناه، والرواية اختصرها ابن عبد البر في الدرر (247)، ونقلها البيهقي في الدلائل ج 5 / 303.
(2) عضاه: واحدته عضة، شجر له شوك، ووج أرض الطائف.
وتقدم قريبا نص الكتاب بتمامه، فليراجع.

رسول الله صلى الله عليه وسلم من لية (1) حتى إذا كنا عند السدرة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف القرن حذوها
فاستقبل محبسا ببصره - يعني واديا - ووقف حتى اتفق الناس كلهم ثم قال " إن صيدوج وعضاهه حرم محرم لله " وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا، وقد رواه أبو داود: من حديث محمد بن عبد الله بن انسان الطائفي وقد ذكره ابن حبان في ثقاته.
وقال ابن معين ليس به بأس.
تكلم فيه بعضهم وقد ضعف أحمد والبخاري وغيرهما هذا الحديث، وصححه الشافعي وقال بمقتضاه والله أعلم.
موت عبد الله بن أبي، قبحه الله قال محمد بن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد.
قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي يعوده في مرضه الذي مات فيه، فلما عرف فيه الموت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما والله إن كنت لانهاك عن حب يهود " فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فمه (2) ؟.
وقال الواقدي: مرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه فقال " قد نهيتك عن حب يهود " فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه ؟ ثم قال: يا رسول الله ليس هذا الحين عتاب هو الموت فاحضر غسلي وأعطني قميصك الذي يلي جلدك فكفني فيه وصل علي واستغفر لي، ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وروى البيهقي: من حديث سالم بن عجلان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوا مما ذكره الواقدي فالله أعلم.
وقد قال اسحاق بن راهويه (4): قلت لابي أسامة أحدثكم عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه فقام عمر بن الخطاب فأخذ بثوبه فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك الله عنه، فقال رسول الله " إن ربي خيرني فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيد على السبعين " فقال إنه منافق أتصلي عليه ؟ فأنزل الله عز وجل * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله) * [ التوبة: 84 ] فأقر به أبو أسامة وقال
نعم ! وأخرجاه في الصحيحين من حديث أبي أسامة (5)، وفي رواية للبخاري وغيره قال عمر:
__________
(1) لية: ناحية من نواحي الطائف.
(2) نقل الخبر في دلائل البيهقي ج 5 / 285.
(3) رواه الواقدي في مغازيه (3 / 1057) ونقله البيهقي عنه في الدلائل ج 5 / 285 و 288.
(4) في رواية البيهقي: اسحاق بن ابراهيم.
(5) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة براءة (12) باب، الحديث (4670)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين (الحديث: 3).
ونقله البيهقي من طريق ابراهيم بن أبي طالب ج 5 / 287.

فقلت يا رسول الله تصلي عليه وقد قال في يوم كذا وكذا، وقال في يوم كذا وكذا وكذا ! ! فقال " دعني يا عمر فإني بين خيرتين، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت " ثم صلى عليه فأنزل الله عز وجل * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) * الآية.
قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم.
وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه سلم قبر عبد الله بن أبي بعدما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه - أو فخذيه - ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه.
فالله أعلم (1).
وفي صحيح البخاري بهذا الاسناد مثله وعنده إنه إنما ألبسه قميصه مكافأة لما كان كسى العباس قميصا حين قدم المدينة فلم يجدوا قميصا يصلح له إلا قميص عبد الله بن أبي (2).
وقد ذكر البيهقي ها هنا قصة ثعلبة بن حاطب وكيف افتتن بكثرة المال ومنعه الصدقة (3)، وقد حررنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى * (ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله) * الآية.
[ التوبة: 75 ].
فصل قال ابن إسحاق: وكانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يعدد أيام الانصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر مواطنهم معه في أيام غزوه، قال ابن هشام وتروى لابنه عبد الرحمن بن حسان:
ألست خير معد كلها نفرا * و ؟ شرا إن هموا عموا وإن حصلوا قوم هموا شهدوا بدرا بأجمعهم * مع الرسول فما ألوا وما خذلوا وبايعوه فلم ينكث به أحد * منهم ولم يك في إيمانه دخل (4) ويوم صبحهم في الشعب من أحد * ضرب رصين كحر النار مشتعل ويوم ذي قرد يوم استثار بهم * على الجياد فما خانوا وما نكلوا (5) وذا العشيرة جاسوها بخيلهم * مع الرسول عليها البيض والاسل ويوم ودان أجلوا أهله رقصا * بالخيل حتى نهانا الحزن والجبل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (22) باب الحديث 1270 عن مالك بن اسماعيل.
ومسلم في كتاب المنافقين (الحديث 2).
ونقله البيهقي في الدلائل من طريق سعدان بن نصر (5 / 286).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (142) باب الحديث (3008).
ونقله البيهقي في الدلائل ج 5 / 286.
(3) دلائل النبوة - باب قصة حاطب بن ثعلبة وما ظهر فيها من الآثار ج 5 / 289 من طريق عطية بن سعد عن ابن عباس.
(4) في ابن هشام: في إيمانهم.
(5) في ابن هشام: فما خاموا بدلا من فما خانوا.

وليلة طلبوا فيها عدوهم * لله والله يجزيهم بما عملوا وليلة بحنين جالدوا معه * فيها يعلهم في الحرب إذ نهلوا وغزوة يوم نجد ثم كان لهم * مع الرسول بها الاسلاب والنفل وغزوة القاع فرقنا العدو به * كما يفرق دون المشرب الرسل ويوم بويع كانوا أهل بيعته * على الجلاد فآسوة وما عدلوا وغزوة الفتح كانوا في سريته * مرابطين فما طاشوا وما عجلوا ويوم خيبر كانوا في كتيبته * يمشون كلهم مستبسل بطل
بالبيض نرعش الايمان عارية * تعوج بالضرب أحيانا وتعتدل ويوم سار رسول الله محتسبا * إلى تبوك وهم راياته الاول وساسة الحرب إن حرب بدت لهم * حتى بدا لهم الاقبال والقفل أولئك القوم أنصار النبي وهم * قومي أصير إليهم حين أتصل ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم * وقتلهم في سبيل الله إذ قتلوا ذكر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أميرا على الحج سنة تسع ونزول سورة براءة قال ابن إسحاق بعد ذكره وفود أهل الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان كما تقدم بيانه مبسوطا.
قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شهر رمضان وشوالا وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، وأهل الشرك على منازلهم من حجهم لم يصدوا بعد عن البيت ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمد، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه بمن معه من المسلمين وفصل عن البيت أنزل الله عز وجل هذه الآيات من أول سورة التوبة * (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر) * إلى قوله * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر إن الله برئ من المشركين ورسوله) * إلى آخر القصة.
ثم شرح ابن إسحاق يتكلم على هذه الآيات وقد بسطنا الكلام عليها في التفسير ولله الحمد والمنة، والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر الصديق ليكون معه ويتولى علي بنفسه ابلاغ البراءة إلى المشركين نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه ابن عمه من عصبته.
قال ابن إسحاق: حدثني حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بعثت بها إلى بكر فقال " لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي " ثم دعا علي بن أبي طالب فقال " اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، ألا إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك: ولا يطوف بالبيت عريان، ومن

كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته " فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور ؟ فقال بل مأمور، ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج، التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجل [ الناس ] (1) أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقد قال البخاري: باب حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع، حدثنا فليح، عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن في البيت عريان.
وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق في تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.
قال حميد ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي فأمره أن يؤذن ببراءة قال: أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان (3).
وقال البخاري في كتاب الجهاد: حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب، عن الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق فيمن يؤذن يوم النحر بمنى، لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
ويوم الحج الاكبر يوم النحر، وإنما قيل الاكبر من أجل قول الناس العمرة الحج الاصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك.
ورواه مسلم من طريق الزهري به نحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن الشعبي، عن محرز بن أبي هريرة عن أبيه.
قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما كنتم تنادون ؟ قالوا كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف في البيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله - أو أمده - إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الاربعة أشهر
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 190 وبنحو سياقه رواه الواقدي في المغازي ج 3 / 1077.
(3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير - تفسير سورة التوبة (22) باب فسيحوا في الارض...الحديث (4655).

فإن الله برئ من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك.
قال فكنت أنادي حتى صحل صوتي (1).
وهذا إسناد جيد لكن فيه نكارة من جهة قول الراوي إن من كان له عهد فأجله إلى أربعة أشهر، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون ولكن الصحيح أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما بلغ ولو زاد على أربعة أشهر ومن ليس له أمد بالكلية فله تأجيل أربعة أشهر، بقي قسم ثالث وهو من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل وهذا يحتمل أن يلتحق بالاول، فيكون أجله إلى مدته وإن قل، ويحتمل أن يقال إنه يؤجل إلى أربعة أشهر لانه أولى ممن ليس له عهد بالكلية والله تعالى أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد، عن سماك، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث براءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال " لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي " فبعث بها مع علي بن أبي طالب.
وقد رواه الترمذي من حديث حماد بن سلمة وقال حسن غريب من حديث أنس.
وقد روى عبد الله بن أحمد: عن لوين، عن محمد بن جابر، عن سماك عن حلس (2) عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أردف أبا بكر بعلي فأخذ منه الكتاب بالجحفة رجع أبو بكر فقال: يا رسول الله نزل في شئ ؟ قال " لا ولكن جبريل جاءني فقال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك " وهذا ضعيف الاسناد ومتنه فيه نكارة والله أعلم.
وقال الامام
أحمد: حدثنا سفيان عن أبي اسحاق عن زيد بن يثيع (3) - رجل من همدان - قال: سألنا عليا بأي شئ بعثت يوم بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة ؟ قال بأربع، لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا (4).
وهكذا رواه الترمذي من حديث سفيان - هو ابن عيينة - عن أبي اسحاق السبيعي عن زيد بن يثيع عن علي به وقال حسن صحيح.
ثم قال وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق فقال عن زيد بن أثيل، ورواه الثوري عن أبي إسحاق عن بعض أصحابه عن علي.
قلت: ورواه ابن جرير من حديث معمر، عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن رأشد أخبرنا حيوة بن شريح أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول: سألت علي بن أبي طالب عن يوم الحج الاكبر فقال إن رسول الله صلى الله عليه سلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما قضى خطبته التفت إلي فقال: قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه سلم
__________
(1) صحل صوتي: أي حتى بح.
والخبر في مسند الامام أحمد ج 2 / 299.
(2) كذا بالاصل حلس، والصواب حنش وهو حنش بن المعتمر أو ابن ربيعة بن المعتمر الكناني الكوفي، يروي عن علي وأبي ذر، وعنه الحكم وسماك بن حرب...(خلاصة التهذيب / 81).
(3) في المسند: أثيع.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 79.

فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة ونحرت البدنة ثم حلقت رأسي وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضورا كلهم خطبة أبي بكر رضي الله عنه يوم عرفة، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم.
قال علي فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة.
وقد تقصينا الكلام على هذا المقام في التفسير وذكرنا أسانيد الاحاديث والآثار
في ذلك مبسوطا بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.
قال الواقدي (1) وقد كان خرج مع أبي بكر من المدينة ثلثمائة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف، وخرج أبو بكر معه بخمس بدنات، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة ثم أردفه بعلي فلحقه بالعرج (2) فنادى ببراءة امام الموسم.
فصل كان في هذه السنة - أعني في سنة تسع - من الامور الحادثة غزوة تبوك في رجب كما تقدم بيانه.
قال الواقدي وفي رجب منها مات النجاشي صاحب الحبشة ونعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس.
وفي شعبان منها - أي من هذه السنة - توفيت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بن عبد المطلب، وقيل غسلها نسوة من الانصار فيهن أم عطية.
قلت: وهذا ثابت في الصحيحين، وثبت في الحديث أيضا أنه عليه السلام لما صلى عليها وأراد دفنها قال: " لا يدخله أحد قارف الليلة أهله " فامتنع زوجها عثمان لذلك ودفنها أبو طلحة الانصاري رضي الله عنه ويحتمل أنه أراد بهذا الكلام من كان يتولى ذلك ممن يتبرع بالحفر والدفن من الصحابة كأبي عبيدة وأبي طلحة ومن شابههم فقال " لا يدخل قبرها إلا من لم يقارف أهله من هؤلاء " إذ يبعد أن عثمان كان عنده غير أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا بعيد والله أعلم وفيها صالح ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح وصاحب دومة الجندل كما تقدم إيضاح ذلك كله في مواضعه.
وفيها هدم مسجد الضرار الذي بناه جماعة المنافقين صورة مسجد وهو دار حرب في الباطن فأمر به عليه السلام فحرق.
وفي رمضان منها قدم وفد ثقيف فصالحوا عن قومهم ورجعوا إليهم بالامان وكسرت اللات كما تقدم.
وفيها توفي عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين لعنه الله في أواخرها، وقبله بأشهر (3) توفي معاوية بن معاوية الليثي - أو المزني - وهو الذي صلى عليه رسول
__________
(1) مغازي الواقدي 3 / 1077.
(2) العرج: قرية جامعة في واد من نواحي الطائف، وقيل واد به (المراصد).
(3) قوله بأشهر، وفي نسخة بشهر، والمعروف أن ابن أبي مات في ذي القعدة، ومعاوية بن معاوية مات بالمدينة
ورسول الله صلى الله عليه وآله بتبوك - وكانت تبوك في رجب - وهذا يجعل قول من قال " شهر " بعيدا.

الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك إن صح الخبر في ذلك.
وفيها حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس عن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في ذلك.
وفيها كان قدوم عامة وفود أحياء العرب ولذلك تسمى سنة تسع سنة الوفود، وها نحن نعقد لذلك كتابا برأسه اقتداء بالبخاري وغيره.

كتاب الوفود (1) الواردين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن إسحاق: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع، وأنها كنت تسمى سنة الوفود، قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بأسلامها أمر هذا الحي من قريش، لان قريشا كانوا إمام الناس وهاديتهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل بن ابراهيم وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت به قريش ودوخها الاسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل * (أفواجا) * يضربون إليه من كل وجه، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم * (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) * أي فاحمد الله على ما ظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابا، وقد قدمنا حديث عمرو بن مسلمة قال: كانت العرب تلوم باسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم باسلامهم وبدر - أي قومي - باسلامهم، فلما قدم قال جئتكم والله من عند النبي حقا، قال صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا، وذكر تمام الحديث وهو في صحيح البخاري.
قلت: وقد ذكر محمد بن إسحاق ثم الواقدي والبخاري ثم البيهقي بعدهم من الوفود ما هو متقدم تاريخ قدومهم على سنة تسع بل وعلى فتح مكة.
وقد قال الله تعالى * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح قاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) * [ الحديد: 10 ] وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح " لا هجرة ولكن جهاد ونية " فيجب التمييز
__________
(1) انظر في تلك الوفود: (ابن سعد 1 / 291) تاريخ الطبري، ابن حزم (259) سيرة ابن هشام (4 / 206).
السيرة الشامية (6 / 386) ودلائل البيهقي (5 / 309).

بين السابق من هؤلاء الوافدين على زمن الفتح ممن يعد وفوده هجرة، وبين اللاحق لهم بعد الفتح ممن وعد الله خيرا وحسنى، ولكن ليس في ذلك كالسابق له في الزمان والفضيلة والله أعلم.
على أن هؤلاء الائمة الذين اعتنوا بايراد الوفود قد تركوا فيما أوردوه أشياء لم يذكروها ونحن نورد بحمد الله ومنه ما ذكروه وننبه على ما ينبغي التنبيه عليه من ذلك، ونذكر ما وقع لنا مما أهملوه إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد قال محمد بن عمر الواقدي: حدثنا كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، قال: كان أول من وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضر أربعمائة من مزينة وذاك في رجب سنة خمس فجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة في دارهم وقال: " أنتم مهاجرون حيث كنتم فارجعوا إلى أموالكم " فرجعوا إلى بلادهم، ثم ذكر الواقدي عن هشام بن الكلبي باسناده: أن أول من قدم من مزينة خزاعي بن عبد نهم ومعه عشرة من قومه فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه، فلما رجع إليهم لم يجدهم كما ظن فيهم فتأخروا عنه.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت أن يعرض بخزاعي من غير أن يهجوه، فذكر أبياتا (1) فلما بلغت خزاعيا شكى ذلك إلى قومه فجمعوا له وأسلموا معه وقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان يوم الفتح دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء مزينة - وكانوا يومئذ ألفا - إلى خزاعي هذا، قال وهو أخو عبد الله ذو البجادين.
وقال البخاري رحمه الله: باب وفد بني تميم: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن أبي صخرة، عن صفوان بن محرز المازني، عن عمران بن حصين، قال: أتى نفر من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال، " اقبلوا
البشرى يا بني تميم " قالوا: يا رسول الله قد بشرتنا فأعطنا، فرئي ذلك في وجهه ثم جاء نفر من اليمن فقال: " اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم " قالوا: قبلنا يا رسول الله.
ثم قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبره عن ابن أبي مليكة، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم: أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، فقال عمر: بل أمر الاقرع بن حابس، فقال أبو بكر ما أردت إلا خلافي فقال عمر: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * حتى انقضت.
ورواه البخاري أيضا من غير وجه عن ابن أبي مليكة بألفاظ أخرى قد ذكرنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى * (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) * الآية.
وقال محمد بن إسحاق: ولما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود العرب قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشراف بني تميم منهم: الاقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر التميمي - أحد بني سعد - وعمرو بن الاهتم، والحتحات (2) بن يزيد، ونعيم بن يزيد،
__________
(1) ذكرها ابن سعد في الطبقات 1 / 292 ومنها: ألا أبلغ خزاعيا رسولا * بأن الذم يغسله الوفاء (2) في نسخة الحجاب، وفي سيرة ابن هشام الحبحاب، وقال ابن هشام: الحتات وهو الذي آخي رسول الله =

وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصم أخو بني سعد في وفد عظيم من بنى تميم.
قال ابن إسحاق: ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وقد كان الاقرع بن حابس وعيينة شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنين والطائف، فلما قدم وفد بني تميم كانا معهم، ولما دخلوا، المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته أن أخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، فخرج إليهم فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا.
قال: " قد أذنت لخطيبكم فليقل " فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد الله الذي له علينا الفضل والمن وهو
أهله، الذي جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق وأكثره عددا وأيسره عدة.
فمن مثلنا في الناس، ألسنا برؤس الناس وأولي فضلهم، فمن فاخرنا فليعدد ما عددنا، وإنا لو نشاء لاكثرنا الكلام ولكن نخشى (1) من الاكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف [ بذلك ] (2).
أقول هذا لان تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخي بني الحارث بن الخزرج: " قم، فأجب الرجل في خطبته " فقام ثابت فقال: الحمد الله الذي السموات والارض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شئ قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا واصطفى من خيرته رسولا أكرمه نسبا وأصدقه حديثا وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابا وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الايمان به فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس احسابا، وأحسن وجوها، وخير الناس فعالا.
ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا وكان قتله علينا يسيرا، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
فقام الزبرقان بن بدر فقال: نحن الكرام فلا حي يعادلنا * منا الملوك وفينا تنصب البيع (3) وكم قسرنا من الاحياء كلهم * عند النهاب وفضل العز يتبع ونحن يطعم عند القحط مطعمنا * من الشواء إذا لم يؤنس القزع (4) بما ترى الناس تأتينا سراتهم * من كل أرض هويا ثم نصطنع فننحر الكوم عبطا في أرومتنا * للنازلين إذا ما أنزلوا شعبوا (5)
__________
= صلى الله عليه وآله بينه وبين معاوية بن أبي سفيان.
واختاره أيضا السهيلي.
(1) في ابن هشام: ولكنا نحيا.
(2) من ابن هشام.
(3) البيع: جمع بيعة، وهي موضع الصلاة.
(4) القزع: السحاب الرقيق.
(5) الكوم: جمع كوماء، وهي الناقة العظيمة السنام.

فما ترانا إلى حي نفاخرهم * إلا استفادوا وكانوا الرأس تقتطع فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه * فيرجع القوم والاخبار تستمع إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر ترتفع قال ابن إسحاق: وكان حسان بن ثابت غائبا فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام شاعر القوم فقال ما قال أعرضت في قوله وقلت على نحو ما قال، فلما فرغ الزبرقان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: " قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال ".
فقال حسان: إن الذوائب من فهر وأخوتهم * قد بينوا سنة للناس تتبع يرضى بها كل من كانت سريرته * تقوى الاله وكل الخير يصطنع (1) قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم * أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا سجية تلك منهم غير محدثة * إن الخلائق - فأعلم - شرها البدع إن كان في الناس سباقون بعدهم * فكل سبق لادنى سبقهم تبع لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم * عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم * أو وازنوا أهل مجد بالندى منعوا (2) أعفه ذكرت في الوحي عفتهم * لا يطعمون ولا يرديهم طمع لا يبخلون على جار بفضلهم * ولا يمسهم من مطمع طبع إذا نصبنا لحي لم ندب لهم * كما يدب إلى الوحشية الذرع (3) نسموا إذا الحرب نالتنا مخالبها * إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم * وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع كأنهم في الوغى والموت مكتنع * أسد بحلية في أرساعها فدع خذ منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا * ولا يكن همك الامر الذي منع ؟ وا فإن في حربهم - فاترك عداوتهم - * شرا يخاض عليه السم والسلع أكرم بقوم رسول الله شيعتهم * إذا تفاوتت الاهواء والشيع أهدى لهم مدحتي قلب يؤازره * فيما أحب لسان حائك صنع فإنهم أفضل الاحياء كلهم * إن جد في الناس جد القول أو شمعوا (4) وقال ابن هشام: وأخبرني بعض أهل العلم بالشعر من بني تميم: أن الزبرقان لما قدم على
__________
(1) رواية العجز في الديوان: تقوى الاله وبالامر الذي شرعوا.
(2) في ابن هشام: متعوا.
(3) الذرع: ولد البقرة الوحشية.
(4) شمعوا، وتروى سمعوا، قال السهيلي: ضحكوا، ومنها جارية شموع: أي كثيرة الطرب.

رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم قام فقال: أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا * إذا اختلفوا (1) عند احتضار المواسم بأنا فروع الناس في كل موطن * وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا * ونضرب رأس الاصيد المتفاقم وإن لنا المرباع في كل غارة * تغير بنجد أو بأرض الاعاجم قال فقام حسان فأجابه فقال: هل المجد إلا السؤدد العود والندى * وجاه الملوك واحتمال العظائم نصرنا وآوينا النبي محمدا * على أنف راض من معد وراغم بحي حريد أصله وثراؤه * بجابية الجولان وسط الاعاجم
نصرناه لما حل بين بيوتنا * بأسيافنا من كل باغ وظالم جعلنا بنينا دونه وبناتنا * وطبنا له نفسا بفئ المغانم ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا * على دينه بالمرهفات الصوارم ونحن ولدنا من قريش عظيمها * ولدنا نبي الخير من آل هاشم (2) بني دارم لا تفخروا إن فخركم * يعود وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم * لنا خول من بين ظئر وخادم فان كنتم جئتم لحقن دمائكم * وأموالكم أن تقسموا في المقاسم فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا * ولا تلبسوا زيا كزي الاعاجم قال ابن إسحاق.
فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله، قال الاقرع بن حابس: وأبي، إن هذا لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولاصواتهم أعلا من أصواتنا.
قال: فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم، وكان عمرو بن الاهتم قد خلفه القوم في رحالهم، وكان أصغرهم سنا، فقال قيس بن عاصم - وكان يبغض عمرو بن الاهتم - يا رسول الله، إنه كان رجل منا في رحالنا وهو غلام حدث وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم، قال عمرو بن الاهتم حين بلغه أن قيسا قال ذلك يهجوه: ظللت مفترش الهلباء تشتمني * عند الرسول فلم تصدق ولم تصب سدناكم سؤددا رهوا وسؤددكم * باد نواجذه مقع على الذنب
__________
(1) في ابن هشام: احتفلوا.
(2) في البيت إشارة أن أم عبد المطلب جد النبي كانت جارية من الانصار، وهي سلمى بنت عمرو النجارية الخزرجية.

وقد روى الحافظ البيهقي: من طريق يعقوب بن سفيان، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا
حماد بن يزيد، عن محمد بن الزبير الحنظلي.
قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الاهتم.
فقال لعمرو بن الاهتم: " أخبرني عن الزبرقان، فأما هذا فلست أسألك عنه " وأراه كان عرف قيسا، قال فقال: مطاع في أذنيه شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره.
فقال الزبرقان: قد قال ما قال وهو يعلم أني أفضل مما قال، قال فقال عمرو: والله ما علمتك إلا زبر المروءة، ضيق العطن، أحمق الاب، لئيم الخال، ثم قال: يا رسول الله قد صدقت فيهما جميعا أرضاني فقلت بأحسن ما أعلم فيه، وأسخطني فقلت بأسوء ما أعلم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن البيان سحرا " وهذا مرسل من هذا الوجه.
قال البيهقي وقد روي من وجه آخر موصولا: أنبأنا أبو جعفر كامل بن أحمد المستملي، ثنا محمد بن محمد بن محمد (1) بن أحمد بن عثمان البغدادي، ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن (2) العلاف ببغداد، حدثنا علي بن حرب الطائي، أنبأنا أبو سعد (3) بن الهيثم بن محفوظ عن أبي المقوم يحيى بن يزيد الانصاري عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس.
قال: جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الاهتم التميميون، ففخر الزبرقان، فقال: يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك - يعني عمرو بن الاهتم - قال عمرو بن الاهتم: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أذنيه.
فقال الزبرقان: والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو بن الاهتم: أنا أحسدك فوالله إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا، وما كذبت فيما قلت آخرا.
ولكني رجل إذا رأيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الاولى والاخرى جميعا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من البيان سحرا " (4) وهذا اسناد غريب جدا.
وقد ذكر الواقدي سبب قدومهم وهو أنه كانوا قد جهزوا السلاح على خزاعة فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن بدر في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري، فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فقدم رؤساهم بسبب أسرائهم ويقال قدم منهم
تسعين - أو ثمانين - رجلا في ذلك منهم عطارد والزبرقان، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، والاقرع بن حابس، ورباح بن الحارث وعمرو بن الاهتم، فدخلوا المسجد وقد
__________
(1) في الدلائل: محمد بن محمد بن أحمد...(2) في الدلائل: الحسين.
(3) في الدلائل: أبو سعد الهيثم.
(4) الخبر في دلائل النبوة مرسلا وموصولا ج 5 / 315 - 316 ورواه المزي في تحفة الاشراف وقال: الحكم بن عتيبة لم يسمع من مقسم سوى خمسة أحاديث.

أذن بلال الظهر، والناس ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج إليهم فعجل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات، فنزل فيهم ما نزل، ثم ذكر الواقدي خطيبهم وشاعرهم وأنه عليه الصلاة والسلام أجازهم على كل رجل اثني عشر أوقية ونشا إلا عمرو بن الاهتم فإنما أعطي خمس أواق لحداثة سنه والله أعلم (1).
قال ابن إسحاق: ونزل فيهم من القرآن قوله تعالى * (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم) * [ الحجرات: 4 ] قال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد عن أبي إسحاق عن البراء في قوله * (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) *.
قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن حمدي زين، وذمي شين.
فقال: " ذاك الله عز وجل " وهذا إسناد جيد متصل.
وقد روي عن الحسن البصري وقتادة مرسلا عنهما، وقد وقع تسمية هذا الرجل فقال الامام أحمد: حدثنا عفاف، ثنا وهب، ثنا موسى بن عقبة، عن أبي سلمة عن عبد الرحمن عن الاقرع بن حابس أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد يا محمد، وفي رواية يا رسول الله فلم يجبه.
فقال: يا رسول الله إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين.
فقال: " ذاك الله عز وجل ".
حديث في فضل بني تميم قال البخاري: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة.
قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها فيهم: " هم أشد أمتي على الدجال " وكانت فيهم سبية عند عائشة فقال: " أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل " وجاءت صدقاتهم فقال: " هذه صدقات قوم - أو قومي - " (2) وهكذا رواه مسلم عن زهير بن حرب به.
وهذا حديث يرد على قتادة ما ذكره صاحب الحماسة وغيره من شعر من ذمهم حيث يقول: تميم بطرق اللوم أهدى من القطا * ولو سلكت طرق الرشاد لضلت ولو أن برغوثا على ظهر قملة * رأته تميم من بعيد لولت
__________
(1) الخبر في طبقات ابن سعد ج 1 / 293 - 294، قال وفيهم أنزل الله تعالى: * (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) *.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (68) باب الحديث 4366.

وفد بني عبد القيس ثم قال البخاري بعد وفد بني تميم: باب وفد عبد القيس حدثنا أبو إسحاق (1) حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا قرة، عن أبي جمرة (2) قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة ينتبذ لي فيها فاشربه حلوا في جر إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح ؟ فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مرحبا بالقوم غير خزايا ولا الندامى " فقال: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام فحدثنا بجميل (3) من الامر إن عملنا به دخلنا الجنة وندعوا به من وراءنا.
قال: " آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الايمان بالله هل تدرون مع الايمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس.
وأنهلكم عن أربع، ما ينتبذ في
الدباء والنقير والحنتم والمزفت " (4).
وهكذا رواه مسلم من حديث قرة بن خالد عن أبي جمرة وله طرق في الصحيحين عن أبي جمرة.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن أبي جمرة سمعت ابن عباس يقول: إن وفد عبد القيس لما قدم على رسول الله صلى الله عليه قال " ممن القوم ؟ " قالوا من ربيعة.
قال: " مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى " فقالوا يا رسول الله: إنا حي من ربيعة وإنا نأتيك شقة بعيدة، وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك في شهر حرام فمرنا بأمر فصل ندعوا إليه من وراءنا وندخل به الجنة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالايمان بالله وحده أتدرون ما الايمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغانم الخمس، وأنهاكم عن أربع، عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت - وربما قال والمقير - فاحفظوهن وادعوا اليهن من وراءكم " (5) وقد أخرجاه صاحبا الصحيحين من حديث شعبة بنحوه، وقد رواه مسلم من
__________
(1) في البخاري: اسحاق.
(2) من البخاري، وفي الاصل: أبي حمزة.
(3) في البخاري: بجمل من الامر، وفي مسلم: بأمر فصل.
(4) أخرجه البخاري في الموضع السابق حديث (4368).
- في قوله آمركم بأربع، وإنما ذكر خمسا قال القاضي عياض: كان الاربع ما عدا أداء الخمس، قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الايمان وفروض الاعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم اخراجه إذا وقع لهم جهاد لانهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها بعينها لانها مسببة عن الجهاد.
أما النووي فقال: أما قوله أن يؤدوا خمسا من المغنم فليس عطفا على قوله " آمركم بأربع..." وإنما هو عطف على قوله بأربع فيكون مضافا إلى الاربع لا واحدا منها...- الدباء: القرع وهو جمع والواحدة دباءة.
الحنتم: الجرار يجلب فيها الخمر.
النقير: جذع ينقرون وسطه وينبذون فيه.
المقير: المزفت المطلي بالغار...(5) أخرجه أبو داود في الاشربة عن سليمان بن حرب، وفي كتاب السنة عن أحمد بن حنبل.
وأخرجه الترمذي في =

حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد بحديث فصتهم بمثل هذا السياق، وعنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاشج عبد القيس " إن فيك لخلتين يحبهما الله عز وجل، الحلم والاناة " (1) وفي رواية " يحبهما الله ورسوله " فقال يا رسول الله تخلقتهما أم جبلني الله عليهما ؟ فقال: " جبلك الله عليهما " فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا مطر بن عبد الرحمن، سمعت هند بنت الوازع أنها سمعت الوازع يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والاشج المنذر بن عامر - أو عامر بن المنذر - ومعهم رجل مصاب فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبوا من رواحلهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلوا يده، ثم نزل الاشج فعقل راحلته وأخرج عيبته ففتحها، فأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم أتى رواحلهم فعقلها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أشج إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله، الحلم والاناة " فقال يا رسول الله أنا تخلقتهما أو جبلني الله عليهما ؟ فقال: " بل الله جبلك عليهما ".
قال الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله عز وجل ورسوله.
فقال الوازع يا رسول الله إن معي خالا لي مصابا فادع الله له فقال: " أين هو آتيني به " قال: فصنعت مثل ما صنع الاشج البسته ثوبيه وأتيته فأخذ من ورائه يرفعها حتى رأينا بياض إبطه، ثم ضرب بظهره فقال " أخرج عدو الله " فولى وجهه وهو ينظر بنظر رجل صحيح (2).
وروى الحافظ البيهقي: من طريق هود بن عبد الله بن سعد، أنه سمع جده مزيدة العبدي (3).
قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم " سيطلع من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق " فقام عمر فتوجه نحوهم فتلقى ثلاثة عشر راكبا، فقال من القوم ؟ فقالوا: من بني عبد القيس، قال: فما أقدمكم هذه البلاد التجارة ؟ قالوا: لا قال: أما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكركم آنفا فقال خيرا، ثم مشوا معه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر للقوم: وهذا صاحبكم الذي تريدون، فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم فمنهم من مشى ومنهم من هرول، ومنهم من سعى حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا بيده فقبلوها، وتخلف الاشج في الركاب حتى أناخها وجمع متاع
القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن فيك خلتين يحبهما
__________
= الاشربة وقال حسن صحيح.
والنسائي في العلم، والايمان.
وما لك في الموطأ في الاشربة.
وأخرجه البخاري في أكثر من موضع: في الايمان، وفي كتاب الخمس، وفي كتاب العلم، والصلاة، والزكاة، وفي الادب.
والتوحيد.
(1) أخرجه مسلم في (1) كتاب الايمان (6) باب الحديث (26).
وأبو يعلى والطبراني بسند جيد.
(2) مسند الامام أحمد ج 4 / 206.
(3) في البيهقي: هود بن عبد الله بن سعد، انه سمع مزبدة العصري.
(انظر ترجمة مزبدة في أسد الغابة ج 1 / 96 و 4 / 417).

الله ورسول ".
قال: جبل جبلت [ عليه ] أن تخلقا مني ؟ قال: بل جبل فقال: الحمد الله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله (1).
وقال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش، أخو عبد القيس.
قال ابن هشام: وهو الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبد القيس وكان نصرانيا، قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن الحسن قال: لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه، فعرض عليه الاسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فقال: يا محمد إني كنت على دين وإني تارك ديني لدينك أفتضمن لي ديني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه " قال: فأسلم وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان فقال: " والله ما عندي ما أحملكم عليه ".
قال: يا رسول الله إن بيننا وبين بلادنا ضوالا من ضوال الناس: أفنتبلغ عليها إلى بلادنا، قال: لا إياك وإياها، فإنما تملك حرق النار.
قال فخرج الجارود راجعا إلى قومه، وكان حسن الاسلام صلبا على دينه حتى هلك، وقد أدرك الردة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الاول مع الغرور (2) بن المنذر بن النعمان بن المنذر، قام الجارود فتشهد شهادة الحق ودعا إلى الاسلام فقال: أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر
من لم يشهد.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم فحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أميرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين (3).
ولهذا روى البخاري: من حديث ابراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة (4) عن ابن عباس.
قال: أول جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجوانا (5) من البحرين، وروى البخاري عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الركعتين بعد الظهر بسبب وفد عبد القيس حتى صلاهما بعد العصر في بيتها (6).
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 327، ورواه أبو يعلى والطبراني بسند جيد.
(2) الغرور: واسمه المنذر، قال السهيلي: سمي الغرور لانه غر قومه يوم حرب الردة.
(3) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 221 - 222.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: أبي حمزة تحريف.
(5) من البخاري، وفي الاصل حواثي بالجاء، تحريف.
انظر الخبر في المغازي الحديث (4371).
(6) أخرجه البخاري في المغازي (69) باب الحديث (4370).
قال الحافظ ابن حجر: والذي يتبين لنا انه كان لعبد القيس وفادتان: إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وآله: " بينا وبينك كفار مضر " وكان ذلك قديما إما في سنة خمس أو قبلها.
وكان عدد الوفد الاول ثلاثة عشر رجلا، وفيها سألوا عن الايمان وعن الاشربة، وكان فيهم الاشج،،، ثانيتهما كانت في سنة الوفود - سنة تسع - وكان عددهم حينئذ أربعين رجلا، وكان فيهم الجارود العبدي.
قال: ويؤيد التعدد ما أخرجه ابن حبان...أن النبي صلى الله عليه وآله قال لهم: ما لي أرى ألوانكم قد تغيرت.

قلت: لكن في سياق ابن عباس ما يدل على أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل فتح مكة لقولهم وبيننا وبينك هذا الحي من مضر لا نصل إليك إلا في شهر حرام.
والله أعلم.
قصه ثمامة ووفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب قال البخاري: باب وفد بني حنيفة وقصة ثمامة بن أثال: حدثنا عبد الله بن يوسف،
حدثنا الليث بن سعد، حدثني سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما عندك يا ثمامة " ؟ قال عندي خير، يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم.
وان تنعم تنعم على شاكر، وان كنت تريد المال فسل منه ما شئت.
فتركه حتى كان الغد، ثم قال له: " ما عندك يا ثمامة) ؟ فقال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى بعد الغد فقال: " ما عندك يا ثمامة " ؟ فقال عندي ما قلت لك.
فقال: " أطلقوا ثمامة " فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على وجه الارض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك بأحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت ؟ قال: لا ! ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وقد رواه البخاري في في موضع آخر ومسلم وأبو داود والنسائي كلهم عن قتيبة عن الليث به.
وفي ذكر البخاري هذه القصة في الوفود نظر وذلك أن ثمامة لم يفد بنفسه، وإنما أسر وقدم به في الوثاق فربط بسارية من سواري المسجد ثم في ذكره مع الوفود سنه تسع نظر آخر.
وذلك أن الظاهر من سياق قصته أنها قبيل الفتح لان أهل مكة عيروه بالاسلام وقالوا أصبوت فتوعدهم بأنه لا يفد إليهم من اليمامة حبة حنطة ميرة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن مكة كانت إذ ذاك دار حرب، لم يسلم أهلها بعد والله أعلم، ولهذا ذكر الحافظ البيهقي قصة ثمامة بن أثال قبل فتح مكة وهو أشبه ولكن ذكرناه هاهنا إتباعا للبخاري رحمه الله.
وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حسين، ثنا نافع بن جبير عن ابن عباس: قال: قدم مسيلمة الكذاب (2) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القول: إن جعل لي محمد
__________
(1) اخرجه البخاري في كتاب المغازي (70) باب الحديث (4372).
(2) مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحرث من بني حنيفة، قال ابن اسحاق: ادعى النبوة ستة عشر، كنيته أبو ثمامة.
وقيل إن مسيلمة لقب واسمه ثمامة.
قال ابن حجر: إن كان هذا محفوظا فيكون ممن توافقت كنيته واسمه.

الامر من بعده اتبعته، وقدم في بشر كثير من قومه فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه.
فقال له: " لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليقرنك الله، وإني لاراك الذي رأيت فيه ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عني " ثم انصرف عنه.
قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك الذي رأيت فيه ما أريت، فأخبرني أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما، فأوحى إلي في المنام إن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي: أحدهما الاسود العنسي (1) والآخر مسيلمة " (2).
ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر (3) ثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر، عن همام بن منبه (4) أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا أنا نائم أتيت بخزائن الارض، فوضع في كفي سواران من ذهب فكبرا علي فأوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة " (5).
ثم قال البخاري: ثنا سعيد بن محمد الجرمي، ثنا يعقوب بن ابراهيم، حدثنا أبي، عن صالح عن ابن عبيدة بن (6) نشيط - وكان في موضع آخر اسمع عبد الله - أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة.
قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة فنزل في دار بنت الحارث وكان تحته بنت الحارث بن كريز وهي أم عبد الله بن الحارث (7) بن كريز فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وهو الذي يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب فوقف عليه فكلمه فقال له مسيلمة إن شئت خليت بينك وبين الامر، ثم جعلته لنا بعدك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه وإني لاراك الذي رأيت فيه ما رأيت (8)، وهذا ثابت بن قيس وسيجيبك
__________
(1) الاسود العنسي واسمه عبهلة بن كعب كان يقال له: ذو الخمار.
وهو من بني عنس.
خرج بصنعاء وادعى النبوة وغلب على عامل صنعاء المهاجر بن أبي أمية.
(2) أخرجه البخاري في المغازي (70) باب، الحديث (4373)، وفي كتاب المناقب (25) باب.
وأخرجه مسلم في كتاب الرؤيا (4) باب الحديث (21).
(3) من البخاري، وفي الاصل منصور تحريف.
(4) من البخاري، وفي الاصل هشام بن أمية تحريف.
(5) فتح الباري 8 / 73 الحديث رقم 4375.
(6) في نسخ البداية المطبوعة: عن نشيط، وهو تحريف.
(7) في البخاري: أم عبد الله بن عامر بن كريز.
قال ابن حجر: الصواب أم أولاد عبد الله بن عامر لانها زوجته لا أمه، واسم أمه ليلى بنت أبي حثمة العدوية.
قال ابن سعد: نزلوا في دار رملة بنت الحارث، وكان منزلها معدا للوفود، وهو أكثر احتمالا لان بنت الحارث زوجة مسيلمة لم تكن إذ ذاك بالمدينة وإنما كانت باليمامة ولما قتل مسيلمة تزوجها ابن عمها عبد الله بن عامر.
(8) في البخاري: واني لاراك الذي أريت فيه ما أريت.

عني " فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ عبيد الله بن ] (1) عبد الله سألت ابن عباس عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فقال ابن عباس: ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أنا نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب فقطعتهما (2) وكرهتهما فأذن لي فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان " فقال عبيد الله: [ أحمدهما العنسي الذي قتله ] (3) فيروز باليمن والآخر مسيلمة الكذاب (4).
وقال محمد بن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هماز بن ذهل بن الزوال بن حنيفة ويكنى أبا ثمامة وقيل أبا هارون وكان قد تسمى بالرحمان فكان يقال له رحمان اليمامة وكان عمره يوم قتل مائة وخمسين سنة، وكان يعرف أبوابا من النيرجات فكان يدخل البيضة إلى القارورة وهو أول من فعل ذلك، وكان
يقص جناح الطير ثم يصله ويدعي أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب منها.
قلت: وسنذكر أشياء من خبره عند ذكر مقتله لعنه الله.
قال ابن إسحاق: وكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الانصار ثم من بني النجار، فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه " قال ابن إسحاق: وحدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا.
وزعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وفي ركائبنا يحفظها لنا، قال: فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال " أما أنه ؟ يس بشركم مكانا " أي لحفظه ضيعة أصحابه، ذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاؤوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم.
وقال: إني أشركت في الامر معه، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: أما إنه ليس بشركم مكانا، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الامر معه، ثم جعل يسجع لهم السجعات، ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا.
وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع هذا يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي.
فأصفقت (5) معه بنو حنيفة على ذلك.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في الاصل ففظعتهما، والصواب من البخاري.
(3) ما بين معكوفين من البخاري.
(4) أخرجه البخاري في المغازي (71) باب الحديث (4378).
(5) أصفقت معه: أجمعوا عليه وتابعوه.

قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان (1).
وذكر السهيلي وغيره أن الرحال بن عنفوة - وأسمه نهار بن عنفوة - وكان قد أسلم وتعلم شيئا من القرآن وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة، وقد مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أبي هريرة وفرات بن حيان فقال لهم: " أحدكم ضرسه في النار مثل أحد " فلم يزالا خائفين حتى ارتد الرحال مع مسيلمة وشهد له زورا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه في الامر معه، وألقى إليه شيئا مما كان يحفظه من القرآن فادعاه مسيلمة لنفسه فحصل بذلك فتنة عظيمة لبني حنيفة وقد قتله زيد بن الخطاب يوم اليمامة كما سيأتي.
قال السهيلي: وكان مؤذن مسيلمة يقال له حجير، وكان مدبر الحرب بين يديه محكم بن الطفيل، وأضيف إليهم سجاح وكانت تكنى أم صادر تزوجها مسيلمة وله معها أخبار فاحشة، واسم مؤذنها زهير بن عمرو وقيل جنبة بن طارق، ويقال إن شبث بن ربعي أذن لها أيضا ثم أسلم وقد أسلمت هي أيضا أيام عمر بن الخطاب فحسن إسلامها، وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الامر معك، فإن لنا نصف الامر، ولقريش نصف الامر، ولكن قريشا قوم يعتدون (2).
فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب.
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الارض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
قال وكان ذلك في آخر سنة عشر - يعني ورود هذا الكتاب - قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فحدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما: " وأنتما تقولان مثل ما يقول ؟ " قالا: نعم ! فقال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما (3).
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود.
قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لهما: " أتشهدان أني رسول الله " فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آمنت بالله ورسله، ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما " قال عبد الله بن مسعود
فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل.
قال عبد الله: فأما ابن أثال فقد كفاه الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي منه حتى أمكن الله منه.
قال الحافظ البيهقي أما أسامة (4) بن أثال فأنه أسلم وقد مضى الحديث في اسلامه.
وأما ابن النواحة [ فإن ابن مسعود قتله بالكوفة حين أمكن الله منه ] (5)
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 4 / 222 - 223.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: لا يعتدون وهو تحريف.
(3) نص الكتابين في سيرة ابن هشام ج 4 / 247.
(4) في الدلائل، ثمامة.
(5) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من دلائل البيهقي ج 5 / 332.
والخبر أخرجه النسائي عن =

فأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي (1) أنبانا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا جعفر بن عون، أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرأون قراءة ما أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم: والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما.
قال: فأرسل إليهم عبد الله فأتى بهم وهم سبعون رجلا ورأسهم عبد الله بن النواحة، قال: فأمر به عبد الله فقتل، ثم قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء ولكن نحوزهم إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم (2).
وقال الواقدي كان وفد بني حنيفة بضعة عشر رجلا عليهم سلمى بن حنظلة وفيهم الرحال بن عنفوة وطلق بن علي، وعلي بن سنان، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، فأنزلوا في دار مسلمة بنت الحارث وأجريت على الضيافة فكانوا يؤتون بغداء وعشاء مرة خبزا ولحما، ومرة خبزا ولبنا، ومرة خبزا، ومره خبزا وسمنا، ومره تمرا ينزلهم.
فلما قدموا المسجد أسلموا وقد خلفوا مسيلمة في رحالهم، لما أرادوا الانصراف أعطاهم جوائزهم خمس أواق من فضة، وأمر لمسيلمة بمثل ما أعطاهم، لما ذكروا أنه في رحالهم فقال " أما أنه ليس بشركم مكانا " فلما رجعوا إليه أخبروه بما قال عنه فقال: إنما قال ذلك لانه عرف الامر
لي من بعده، وبهذه الكلمة تشبث قبحه الله حتى ادعى النبوة.
قال الواقدي: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معهم بأداوة فيها فضل طهوره، وأمرهم أن يهدموا بيعتهم وينضحوا هذا الماء مكانه ويتخذوه مسجدا ففعلوا (3).
وسيأتي ذكر مقتل الاسود العنسي في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقتل مسيلمة الكذاب في أيام الصديق، وما كان من أمر بني حنيفة إن شاء الله تعالى.
وفد أهل نجران (4) قال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين، ثنا يحيى بن آدم، عن اسرائيل، عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة.
قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وأبعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا رجلا أمينا، فقال: " لابعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قم يا أبا عبيدة الجراح، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أمين هذه
__________
= عبد الرحمن، عن سفيان، وأشار إليه المزي في تحفة الاشراف (7 / 48).
(1) من البيهقي، وفي الاصل المزني.
(2) دلائل البيهقي ج 5 / 333.
(3) الخبر نقله ابن سعد عن الواقدي في الطبقات ج 1 / 316 - 317.
(4) نجران: بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن يشتمل على ثلاث وسبعين قرية.

الامة " (1) وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث شعبة عن أبي إسحاق به.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يشوع (2) عن أبيه عن جده - قال يونس وكان نصرانيا فأسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى [ أهل ] نجران قبل أن
ينزل عليه طس سليمان (3)، باسم إله ابراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران [ وأهل نجران ] (4) أسلم أنتم فإني أحمد إليكم إله ابراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد، فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام.
فلما أتى الاسقف الكتاب فقرأه فظع به وذعر به ذعرا شديدا، وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة - وكان من [ أهل ] همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله، لا الاتهم (5)، ولا السيد ولا العاقب - فدفع الاسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه، فقال الاسقف: يا أبا مريم ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله ابراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما تؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، ولو كان أمر من أمور الدنيا لاشرت عليك فيه برأي، وجهدت لك، فقال له الاسقف تنح فاجلس، فتنحى شرحبيل فجلس ناحيته.
فبعث الاسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد الله بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي، فقال له مثل قول شرحبيل، فقال له الاسقف: تنح فاجلس فتنحى فجلس ناحيته، وبعث الاسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: جبار بن بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله، فأمره الاسقف فتنحى فجلس ناحيته.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا، أمر الاسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران والمسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمع حين ضرب بالناقوس، ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (72) باب (4380) و (4381).
(2) في المطبوعة: بن يسوع تحريف.
(3) الآية الاولى من سورة النمل، وقد عقب ابن القيم في زاد المعاد فقال: " وقد وقع في هذه الرواية هذا، وقال:
قبل أن ينزل عليه (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين) وذلك غلط على غلط، فإن هذه السوره مكية باتفاق، وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك.
".
(4) ما بين معكوفين من الدلائل.
والعبارة في الدلائل: إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله...(وهو المناسب).
(5) الاتهم كذا في الاصل، وفي ابن هشام الابهم، وفي الدلائل: الايهم.

مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الاصبحي وجبار بن فيض الحارثي فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهار طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وكانوا يعرفونهما (1) فوجدوهما في ناس من المهاجرين والانصار في مجلس.
فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن ! إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فاقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهار طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما، أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب، وهو في القوم ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان ولعبد الرحمن أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه، ففعلوا فسلموا فرد سلامهم.
ثم قال: " والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الاولى وأن ابليس لمعهم، ثم ساءلهم وسائلوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى ؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ليسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما عندي فيه شئ يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى " فأصبح الغد وقد أنزل الله عز وجل هذه الآية * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * [ آل عمران: 59 - 61 ] فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يؤمئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي، وإني والله أرى أمرا ثقيلا، والله لئن كان هذا الرجل ملكا متقويا فكنا أول العرب طعن في عيبته ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة وإنا أدنى العرب منهم جوارا، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الارض منا شعر ولا ظفر إلا هلك، فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم ؟ فقال رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا، فقالا له أنت وذاك، قال: فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك، فقال " وما هو " ؟ فقال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فما حكمك فينا فهو جائز، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعل وراءك أحد يثرب عليك ؟ " فقال
__________
(1) العبارة في الدلائل: وكانا معرفة لهم، كانا يجدعان العتائر إلى نجران في الجاهلية فيشتروا لهما من بزها وثمرها وذرتها..

شرحبيل: سل صاحبي، فقالا: ما ترد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل، [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كافر أو قال: جاحد موفق ] (1) فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي الامي رسول الله لنجران أن كان عليهم حكمه في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء [ وسوداء ] ورقيق، فافضل عليهم، وترك ذلك كله على ألفي حلة [ من حلل الاواقي ]، في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة، وذكر تمام الشروط (2).
إلى أن شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني نصر والاقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة (3)، وكتب حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران ومع الاسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له بشر بن معاوية
وكنيته أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسقف، فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر غير أنه لا يكني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الاسقف عند ذلك: قد والله تعست نبيا مرسلا، فقال له بشر: لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثنى الاسقف ناقته عليه، فقال له: افهم عني إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه أو رضينا بصوته أو نجعنا (4) لهذا الرجل بما لم تنجع به العرب نحن أعزهم وأجمعهم دارا، فقال له بشر: لا والله لا أقبل ما خرج من رأسك أبدا، فضرب بشر ناقته وهو مولي الاسقف ظهره وارتجز يقول:
__________
(1) من دلائل البيهقي.
(2) تمام الكتاب في الدلائل:...ومع كل حلة أوقية من الفضة فما زادت على الخراج أو نقصت عن الاواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عروض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤنة رسلي، ومتعتهم ما بين عشرين يوما فدونه، ولا تحبس رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد ومعرة، وما هلك مما أعاروا رسلي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسلي حتى يؤدوه إليهم، ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم ؟ ؟ ضيهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وان لا يغيروا مما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم، ولا يغيروا أسقف عن اسقفيته ولا راهب من رهبانيته، ولا واقها من وقيهاه، وكلما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم دنية ولا دم جاهلية ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل فيهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين بنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منة بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله عز وجل وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله أبدا حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم.
راجع نصه في طبقات ابن سعد 1 / 358 فتوح البلدان (76) أبو عبيد في الاموال ص 187 جمهرة رسائل العرب ج 1 / 76 الخراج لابي يوسف 72 وتاريخ اليعقوبي ج 2 / 67.
(3) قال أبو يوسف في الخراج: كتب لهم هذا الكتاب عبد الله بن أبي بكر، وفي اليعقوبي: كتبه علي ابن أبي طالب
وفي الاموال لابي عبيد: شهد عليه عثمان بن عفان وثقيقيب.
(4) في الدلائل: فبخعنا في الموضعين.

إليك تغدوا وضينها * معترضا في بطنها جنينها مخالفا دين النصارى دينها حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم ولم يزل معه حتى قتل بعد ذلك.
قال ودخل الوفد نجران فأتي الراهب بن أبي شمر الزبيدي، وهو في رأس صومعته فقال له: إن نبيا بعث بتهامة فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عرض عليهم الملاعنة فأبوا وإن بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم فقال الراهب أنزلوني وإلا ألقيت نفسي من هذه الصومعة قال: فأنزلوه فأخذ معه هدية وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هذا البرد الذي يلبسه الخلفاء وقعب وعصا.
فأقام مدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع الوحي ثم رجع إلى قومه ولم يقدر له الاسلام ووعد أنه سيعود فلم يقدر له حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الاسقف أبا الحارث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل الله عليه وكتب للاسقف هذا الكتاب ولاساقفة نجران بعده: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للاسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك، جوار الله ورسوله أبدا ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين وكتب المغيرة بن شعبة (1).
وذكر محمد بن إسحاق: أن وفد نصارى نجران كانوا ستين راكبا يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم: وهم العاقب واسمه عبد المسيح والسيد وهو الاتهم وأبو حارثة بن علقمة وأوس بن الحارث وزيد وقيس ويزيد ونبيه وخويلد وعمرو وخالد وعبد الله ويحنس وأمر هؤلاء الاربعة عشر يؤل إلى ثلاثة منهم وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون
إلا عن رأيه والسيد وكان ثمالهم وصاحب رحلهم وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وخيرهم وكان رجل من العرب من بكر بن وائل ولكن دخل في دين النصرانية فعظمته الروم وشرفوه وبنوا له الكنائس ومولوه وخدموه لما يعرفون من صلابته في دينهم وكان مع ذلك يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن صده الشرف والجاه من اتباع الحق.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني بريدة بن سفيان عن ابن البيلماني عن كرز بن علقمة.
قال: قدم وفد نصارى نجران ستون راكبا منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم والاربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب والسيد وأبو حارثة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم وصاحب مدارستهم وكانوا قد شرفوه فيهم ومولوه وأكرموه، وبسطوا عليه الكرامات وبنوا له الكنائس لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما توجهوا من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن
__________
(1) الخبر مطولا في دلائل النبوة للبيهقي - باب وفد نجران وشهادة الاساقفة لنبينا صلى الله عليه وآله ج 5 / 382 وما بعدها.

علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال كرز: تعس الابعد - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم -.
فقال أبو حارثة: بل أنت تعست فقال له كرز ولم يا أخي فقال والله أنه للنبي الذي كنا ننتظره فقال له كرز وما يمنعك وأنت تعلم هذا.
فقال له: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا واخدمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى قال فاضمر عليها منه أخوه كرز حتى أسلم بعد ذلك.
وذكر ابن إسحاق أنهم لما دخلوا المسجد النبوي دخلوا في تجمل وثياب حسان وقد حانت صلاة العصر فقاموا يصلون إلى المشرق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم فكان المتكلم لهم أبا حارثة بن علقمة والسيد والعاقب حتى نزل فيهم صدر من سورة آل عمران والمباهلة فأبوا ذلك وسألوا أن يرسل معهم أمينا فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح كما تقدم في رواية البخاري وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسير سورة آل عمران ولله الحمد والمنة.
وفد بني عامر وقصة عامر بن الطفيل واربد بن مقيس قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن
مقيس بن جزء بن جعفر (1) بن خالد وجبار (2) بن سلمى بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم.
وقدم عامر بن الطفيل عدو الله، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا أبا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم.
قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فانا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ؟ ثم قال لاربد: إن قدمنا على الرجل فإني سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فأعله بالسيف، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني قال: " لا والله حتى تؤمن بالله وحده " قال: يا محمد خالني، قال: وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شئيا، فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال: يا محمد خالني، قال " لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له " فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أما والله لاملانها عليك خيلا ورجالا، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم اكفني عامر بن الطفيل " فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل لاربد: أين ما كنت أمرتك به ؟ والله ما كان على ظهر الارض رجل أخوف على نفسي منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا.
قال: لا أبالك لا تعجل علي والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف ؟ وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول ؟
__________
(1) في ابن هشام: ابن خالد بن جعفر.
(2) في رواية البيهقي عن ابن اسحاق: حيان بن مسلم بن مالك.

قال ابن هشام: ويقال أغدة كغدة الابل وموت في بيت سلولية (1).
وروى الحافظ البيهقي: من طريق الزبير بن بكار، حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن مؤمل عن أبيها عن جدها مؤمل بن جميل (2) قال: أتى عامر بن الطفيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له " يا عامر أسلم " فقال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر: قال: " لا " ثم قال: أسلم، فقال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر،
قال: لا فولى وهو يقول: والله يا محمد لاملانها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولاربطن بكل نخلة فرسا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامرا واهد قومه.
فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها: سلولية فنزل عن فرسه، ونام في بيتها، فأخذته عدة في حلقه، فوثب على فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول، وهو يقول غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية، فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتا (3).
وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في أسماء الصحابة موءلة هذا فقال هو موءلة بن كثيف الضبابي الكلابي العامري من بني عامر بن صعصعة، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة فأسلم وعاش في الاسلام مائة سنة وكان يدعى ذا اللسانين من فصاحته، روى عنه ابنه عبد العزيز وهو الذي روى قصة عامر بن الطفيل غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية.
قال الزبير بن بكار: حدثتني ظميا بنت عبد العزيز بن موءلة بن كثيف بن جميل بن خالد بن عمرو بن معاوية، وهو الضباب بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قالت: حدثني أبي عن أبيه عن موءلة أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو ابن عشرين سنة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح يمينه وساق إبله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقها بنت لبون ثم صحب أبا هريرة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش في الاسلام مائة سنة وكان يسمى ذا اللسانين من فصاحته.
قلت والظاهر أن قصة عامر بن لطفيل متقدمة على الفتح، وإن كان ابن إسحاق والبيهقي قد ذكراها بعد الفتح، وذلك لما رواه الحافظ البيهقي: عن الحاكم عن الاصم، أنبأنا محمد بن إسحاق، أنبأنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الاوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس في قصة بئر معونة وقتل عامر بن الطفيل حرام بن ملحان خال أنس بن مالك وغدره بأصحاب بئر معونة حتى قتلوا عن آخرهم سوى عمرو بن أمية كما تقدم.
قال الاوزاعي قال يحيى: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا: اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت، وابعث عليه ما يقتله فبعث الله عليه الطاعون.
وروي عن همام عن إسحاق بن عبد الله عن أنس في قصة ابن
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 4 / 213، ونقله البيهقي في الدلائل ج 5 / 318.
(2) من الدلائل، وفي الاصل: عبد العزيز بن موءلة عن أبيها عن جدها موءلة، وفي القاموس: موءلة بن كثيف بن حمل، وفي الاصابة: ابن حميل.
(3) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي ج 5 / 320.

ملحان قال: وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل، ويكون لي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، قال: فطعن في بيت امرأة، فقال: غدة كغدة البعير وموت في بيت امرأة من بني فلان، ائتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه (1).
قال ابن إسحاق ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بني عامر شاتين، فلما قدموا أتاهم قومهم: فقالوا وما وراءك يا أربد ؟ قال لا شئ: والله لقد دعانا إلى عبادة شئ لوددت لو أنه عندي الآن، فأرميه بالنبل حتى أقتله الآن، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه (2) فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.
قال ابن إسحاق: وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لامه فقال لبيد يبكي أربد: ما أن تعدي (3) المنون من أحد * لا والد مشفق ولا ولد أخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والاسد فعين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام النساء في كبد إن يشغبوا لا يبال شغبهم * أو يقصدوا في الحكوم يقتصد حلو أريب وفي حلاوته * مر لصيق الاحشاء والكبد وعين هلا بكيت أربد إذ * ألوت رياح الشتاء بالعضد (4) وأصبحت لاقحا مصرمة * حتى تجلت غوابر المدد أشجع من ليث غابة لحم * ذو نهمة في العلا ومنتقد لا تبلغ العين كل نهمتها * ليلة تمسى الجياد كالقدد (5)
الباعث النوح في مآتمه * مثل الظباء الابكار بالجرد فجعني البرق والصواعق بالفا * رس يوم الكريهة النجد والحارب الجابر الحريب إذا * جاء نكيبا وإن يعد يعد (6) يعفو على الجهد والسؤال كما * ينبت غيث الربيع ذو الرصد كل بني حرة مصيرهم * قل وإن كثروا من العدد
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 320 وأخرج الجزء الثاني منه البخاري عن همام في كتاب المغازي (28) باب غزوة الرجيع، الحديث (4091) فتح الباري (7 / 385).
(2) في ابن هشام: يتبعه.
(3) من ابن هشام: تعدى أي تترك.
وفي الاصل تعزي، وفي المطبوعة تعري (4) العضد: الشجر ذهبت الريح بأوراقه.
(5) القدد: جمع قدة وهي السير يقطع من الجلد يشبه به الخيل بالسير في النحول والضعف.
(6) الحارب: السالب، والحريب: المسلوب.
والنكيب: المنكوب المصاب.

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا * يوما فهم للهلاك والنفد وقد روى ابن إسحاق: عن لبيد أشعارا كثيرة في رثاء أخيه لامه أربد بن قيس تركناها اختصارا واكتفاء بما أوردناه والله الموفق للصواب.
قال ابن هشام وذكر زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال فأنزل الله عز وجل في عامر وأربد * (الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يده ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) * [ الرعد: 8 ] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ثم ذكر أربد وقتله فقال الله تعالى * (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال هو الذى يريكم البرق خوفا وطعما وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها
من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) * [ سورة الرعد: 11 ].
قلت وقد تكلمنا على هذه الآيات الكريمات في سورة الرعد ولله الحمد والمنة، وقد وقع لنا إسناد ما علقه ابن هشام رحمه الله فروينا من طريق الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير حيث قال: حدثنا مسعدة بن سعد العطار، حدثنا ابراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم، عن أبيهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وعامر بن الطفيل بن مالك قا ؟ ؟ المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه: فقال عامر بن الطفيل: يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم ".
قال عامر: أتجعل لي الامر إن أسلمت من بعدك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل ".
قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، أجعل لي الوبر ولك المدر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا " فلما قفل (1) من عنده، قال عامر أما والله لاملانها عليك خيلا ورجالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمنعك الله " فلما خرج أربد وعامر قال عامر: يا أربد أنا أشغل عنك محمدا بالحديث فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية، ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية، قال أربد افعل.
فأقبلا راجعين إليه، فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخليا إلى الجدار، ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه، وسل أربد السيف فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف، فلم يستطيع سل السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما، فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحرة، حرة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير فقالا: أشخصا يا عدوا الله لعنكما الله، فقال عامر من هذا
__________
(1) من سيرة ابن كثير، وفي الاصل: قفا

يا سعد ؟ قال أسيد بن حضير الكتائب فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة
فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالحرة أرسل الله قرحة فأخذته فأدركه بالليل في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية يرغب (1) أن يموت في بيتها ثم ركب فرسه فأحضرها حتى مات عليه راجعا فأنزل الله فيهما * (الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد) * إلى قوله * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ثم ذكر أربد وما قتله به فقال * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) * الآية، وفي هذا السياق دلالة على ما تقدم من قصة عامر وأربد، وذلك لذكر سعد بن معاذ فيه والله أعلم.
وقد تقدم وفود الطفيل بن عامر الدوسي رضي عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وإسلامه وكيف جعل الله له نورا بين عينيه ثم سأل الله فحوله له إلى طرف سوطه وبسطنا ذلك هنالك فلا حاجة إلى إعادته هاهنا كما صنع البيهقي وغيره.
قدوم ضمام بن ثعلبة وافدا [ عن قومه بني سعد بن بكر ] (2) قال ابن إسحاق حدثني محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب عن ابن عباس.
قال: بعث بنو سعيد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم إليه وأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخله المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه.
فقال: أيكم ابن عبد المطلب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا ابن عبد المطلب " فقال: يا محمد قال: نعم.
قال: يا بن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك.
قال " لا أجد في نفسي فسل عما بدالك " فقال: أنشدك إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله بعثك إلينا رسولا ؟ قال: " اللهم نهم ! " قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا وان نخلع هذه الانداد التي كان آباؤنا يعبدون ؟ قال: اللهم نعم ! قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس.
قال " نعم ! " قال: ثم جعل يذكر فرائض الاسلام فريضة فريضة: الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الاسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها كما
ينشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض واجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص ثم انصرف إلى بعيره راجعا.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة " قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم أن قال: بئست اللات
__________
(1) يرغب: يكره.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل: وافدا على قومه.

والعزى.
فقالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون.
فقال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه.
واني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.
وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه.
قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
قال: يقول ابن عباس فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (1).
وهكذا رواه الامام أحمد: عن يعقوب بن ابراهيم الزهري، عن أبيه، عن ابن إسحاق فذكره، وقد روى هذا الحديث أبو داود: من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن سلمة بن كهيل ومحمد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن ابن عباس بنحوه وفي هذا السياق ما يدل على أنه رجع إلى قومه قبل الفتح لان العزى خربها خالد بن الوليد أيام الفتح.
وقد قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس.
قال: بعثت بنو سعد بن بكر في رجب سنة خمس ضمام بن ثعلبة وكان جلدا أشعر ذا غديرتين وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فأغلظ في المسألة سأله عمن أرسله وبما أرسله ؟ عن شرائع الاسلام فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كله فرجع إلى قومه مسلما قد خلع الانداد فأخبرهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما وبنو المساجد وأذنوا بالصلاة (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا سليمان - يعني ابن المغيرة - عن ثابت، عن أنس بن مالك.
قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل يسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال: صدق ! قال: فمن خلق السموات ؟ قال: الله، قال: فمن خلق الارض ؟ قال: الله قال فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال: الله.
قال: فبالذي خلق السماء وخلق الارض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال: نعم ! قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم ! قال وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا قال: صدق.
قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم ! قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم ! قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا.
قال: صدق، قال: ثم ولى فقال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا ولا أنقص عليهن شيئا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن صدق ليدخلن الجنة ".
وهذا
__________
(1) الخبر رواه ابن هشام في السيرة ج 4 / 219 - 220 ورواه الامام أحمد، والترمذي والنسائي عن ثابت عن أنس، والبخاري ومسلم.
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن شريك عن أنس.
(2) انظر الخبر في طبقات ابن سعد عن الواقدي ج 1 / 299.

الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما بأسانيد وألفاظ كثيرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وقد رواه مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة وعلقه البخاري من طريقه وأخرجه من وجه آخر بنحوه.
فقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال.
أيكم محمد ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، قال: فقلنا: هذا الرجل الابيض
المتكئ.
فقال الرجل: يا بن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجبتك فقال الرجل: يا محمد إني سائلك فمشتد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، فقال: سل ما بدا لك.
فقال الرجل: أسألك بربك ورب من كان قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم نعم ! " قال فأنشدك الله.
آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم نعم " [ قال: أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: " اللهم نعم ! ] (1) قال الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.
وقد رواه البخاري: عن عبد الله بن يوسف، عن الليث بن سعد، عن سعيد المقبري به وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الليث به.
والعجب أن النسائي رواه من طريق آخر عن الليث قال: حدثني ابن عجلان وغيره من أصحابنا عن سعيد المقبري عن شريك عن أنس بن مالك فذكره وقد رواه النسائي أيضا من حديث عبيد الله العمري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فلعله عن سعيد المقبري من الوجهين جميعا.
فصل وقد قدمنا ما رواه الامام أحمد: عن يحيى بن آدم عن حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قدوم ضماد الازدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة وإسلامه وإسلام قومه كما ذكرنا مبسوطا بما أغنى عن إعادته ها هنا ولله الحمد والمنة.
وفد طئ مع زيد الخيل رضي الله عنه [ وهو زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب، أبو مكنف الطائي، وكان من أحسن العرب وأطوله
__________
(1) ما بين معكوفتين سقط من نسخ البداية المطبوعة.

رجلا.
سمي زيد الخيل لخمس أفراس كن له (1).
قال السهيلي: ولهن أسماء لا يحضرني الآن حفظها ] (2).
قال ابن اسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طئ وفيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام، فأسملوا فحسن إسلامهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما " حدثني من لا أتهم من رجال طئ، ما ذكر رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ الذي فيه ثم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وقطع له فيدا وأرضين معه، وكتب له بذلك فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه قال " وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى، وغير أم ملدم - لم يثبته - قال فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له فردة أصابته الحمى فمات بها ولما أحس بالموت قال: أمر تحل قومي المشارق غدوة * واترك في بيت بفردة منجد الارب يوم لو مرضت لعادني * عوائد من لم يبر منهن يجهد (3) قال: ولما مات عمدت امرأته بجلهلها وقلة عقلها ودينها إلى ما كان معه من الكتب فحرقتها بالنار.
قلت: وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد: أن علي بن أبي طالب بعث.
رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في تربتها فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة زيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، والاقرع بن حابس، وعتبة بن بدر الحديث.
وسيأتي ذكره في بعث علي إلى اليمن إن شاء الله تعالى.
قصة عدي بن حاتم الطائي قال البخاري: في الصحيح وفد طئ وحديث عدي بن حاتم: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، ثنا عبد الملك بن عمير، عن عمرو بن حريث، عن عدي بن حاتم.
قال: أتينا عمر ابن الخطاب في وفد فجعل يدعو رجلا رجلا يسميهم فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين ؟ قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ نكروا.
فقال
__________
(1) قال صاحب الاغاني منها: الهطال، والكميت، والورد، وكامل، ودؤول، ولاحق (16 / 49 ساسي).
(2) ما بين معكوفتين سقط من نسخ البداية المطبوعة.
(3) كذا في الاصول وابن هشام، وفي كتاب شعراء اسلاميون ذكر: أمر تحل صحبي المشارق غدوة * وأترك في بيت بفردة منجد سقى الله ما بين القفيل فطابة * فما دون أرمام فما فوق منشد هنالك لو أني مرضت لعادني * عوائد من لم يشف منهن مجهد فليت اللواتي عدنني لم يعدنني * وليت اللواتي غبن عني عودي

عدي: لا أبالي إذا (1)، وقال ابن إسحاق: وأما عدي بن حاتم فكان يقول، فيما بلغني: ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، أما أنا فكنت أمرءا شريفا وكنت نصرانيا وكنت أسير في قومي بالمرباع (2) وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيا لابلي: لا أبالك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن.
فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد.
قال: قلت.
فقرب إلي أجمالي فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الحوشية (3) وخلفت بنتا (4) لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيبت ابنة حاتم فيمن أصابت فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طئ وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام.
قال فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس بها فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه وكانت امرأة جزلة.
فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد: فامنن علي من الله عليك.
قال: ومن وافدك ؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله: قالت: ثم مضى وتركني حتى إذا كان الغد مر بي فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالامس، قالت حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست فأشار إلي رجل خلفه أن قومي فكلميه.
قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد
وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك.
فقال صلى الله عليه وسلم قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك كم يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني، فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن كلميه فقيل لي: علي بن أبي طالب قالت: فقمت حتى قدم من بلي أو قضاعة قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ.
قالت: فكساني وحملني وأعطاني نفقة فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي، فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا قال: فقلت: ابنة حاتم قال فإذا هي هي فلما وقفت علي انتحلت (5) تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك عورتك ؟ قال قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيرأ فوالله ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت قال: ثم نزلت فأقامت عندي فقلت لها: وكانت امرأة حازمة ماذا ترين في أمر هذا الرجل، قالت
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي (76) باب، الحديث 4394 فتح الباري (8 / 102).
(2) بالمرباع: أي آخذ ربع الغنائم، لاني سيدهم.
(3) الحوشية: جبل للضباب قرب صرية، من أرض نجد، بينها وبين الشام.
(4) بنت حاتم هي سفانة كما رجحه السهيلي.
إذ لم يعرف له غيرها.
(5) في الاصل: استحلت، وأثبتنا: انسحلت - من ابن هشام - أي جرت بالكلام.

أرى والله أن تلحق به سريعا فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله وإن يكن ملكا فلن تزل في عز اليمن وأنت أنت.
قال: قلت والله إن هذا الرأي قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه.
فقال: من الرجل ؟ فقلت عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق بي إلى بيته فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها قال: قلت في نفسي والله ما هذا بملك.
قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي فقال " اجلس على هذه " قال قلت: بل أنت فاجلس عليها.
قال " بل أنت " فجلست وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالارض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال " إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيا (1) " قال قلت: بلى ! قال: " أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع " قال: قلت: بلى ! قال " فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك " قال قلت: أجل ! والله.
قال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل ثم قال " لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه إنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ".
قال: فأسلمت، قال: فكان عدي يقول: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن وقد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه (2).
هكذا أورد ابن إسحاق رحمه الله هذا السياق بلا اسناد وله شواهد من وجوه أخر.
فقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت سماك بن حرب، سمعت عباد بن حبيش، يحدث عن عدي بن حاتم.
قال: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بعقرب (3) فأخذوا عمتي وناسا فلما أتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فصفوا له.
قالت: يا رسول الله بان الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمن علي من الله عليك.
فقال: ومن وافدك ؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الذي فر من الله ورسوله ؟ قالت: فمن علي فلما رجع ورجل إلى جنبه - ترى أنه علي - قال سليه حملانا، قال فسألته فأمر لها عدي: فأتتني فقالت لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها وقالت إيته راغبا أو راهبا فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه.
قال: فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي، فذكر قربهم منه، فعرفت أنه ليس ملك كسرى ولا قيصر.
فقال
__________
(1) الركوسي: من الركوسية وهم قوم دينهم بين دين النصارى والصابئين.
(2) سيرة ابن هشام ج 4 / 225 - 227.
(3) عقرب هكذا بالاصل، ولعل الصواب عقرباء، وهي اسم مدينة الجولان وهي كورة بدمشق.

له: يا عدي بن حاتم ما أفرك ؟ أفرك أن يقال لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله، ما أفرك ؟ أفرك أن يقال الله أكبر فهل شئ هو أكبر من الله عز وجل، فأسلمت فرأيت وجهه استبشر، وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى.
قال: ثم سألوه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فلكم أيها الناس أن ترضخوا من الفضل ارتضخ أمرؤ بصاع، ببعض صاع، بقبضة، ببعض قبضة.
قال شعبة - وأكثر علمي أنه قال: بتمرة، بشق تمرة - وإن أحدكم لاقى الله فقائل، ما أقول ألم أجعلك سميعا بصيرا ألم أجعل لك مالا وولدا فماذا قدمت: فينظر من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يجد شيئا، فما يتقي النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فان لم تجدوه فبكلمة لينة، إني لا أخشى عليكم الفاقة لينصرنكم الله وليعطينكم - أو ليفتحن عليكم - حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب، إن أكثر ما يخاف السرق على ظعينتها (1).
وقد رواه الترمذي من حديث شعبة وعمرو بن أبي قيس كلاهما عن سماك ثم قال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك.
وقال الامام أحمد.
أيضا حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة - هو ابن حذيفة - عن رجل.
قال قلت لعدي بن حاتم: حديث بلغني عنك أحب أن أسمعه منك قال: نعم ! لما بلغني خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهت خروجه كراهية شديدة فخرجت حتى وقعت ناحية الروم - وفي رواية حتى قدمت على قيصر - قال: فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهتي لخروجه قال قلت: والله لو أتيت هذا الرجل، فإن كان كاذبا لم يضرني وإن كان صادقا علمت، قال: فقدمت فأتيته فلما قدمت قال الناس عدي بن حاتم ؟ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ثلاثا قال قلت: إني على دين.
قال أنا أعلم بدينك منك فقلت أنت تعلم بديني مني ؟ قال: نعم ! ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك ؟ قلت: بلى ! قال هذا لا يحل لك في دينك قال: نعم ! فلم يعد أن قالها فتواضعت لها قال: أما أني أعلم الذي يمنعك من الاسلام تقول إنما اتبعه
ضعفة الناس ومن لا قوة لهم وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة ؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها قال فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الامر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قال قلت: كنوز ابن هرمز ؟ قال: نعم ! كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد.
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة [ تخرج ] (2) ! من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها.
ثم قال أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة
__________
(1) أخرجه الامام أحمد مطولا في مسنده (4 / 378 - 379)، والترمذي في تفسير سورة الفاتحة الحديث (2953).
(2) من المسند.

عن رجل.
وقال حماد وهشام عن محمد بن أبي عبيدة ولم يذكر عن رجل.
قال: كنت أسأل الناس عن حديث عدي بن حاتم وهو إلى جنبي ولا أسأله، قال: فأتيته فسألته فقال: نعم ! فذكر الحديث.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عمرو الاديب، أنبأنا أبو بكر الاسماعيلي، أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا النضر بن شميل أنبأنا اسرائيل، أنبأنا سعد الطائي أنبأنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم.
قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل.
قال: يا عدي بن حاتم هل رأيت الحيرة ؟ قلت لم أرها وقد أنبئت عنها قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله عز وجل.
قال قلت في نفسي: فإن ذعار طيئ - الذين سعروا البلاد - ولئن طالت بك حياة ليفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز ؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبين ترجمان، فينظر عن
يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن شماله قلا يرى إلا جهنم.
قال عدي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا شق تمرة فبكلمة طيبة " قال عدي: فقد رأيت الظعينة ترتحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله عز وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم (1).
وقد رواه البخاري عن محمد بن الحكم عن النضر بن شميل به بطوله.
وقد رواه من وجه آخر عن سعدان بن بشر، عن سعد أبي مجاهد الطائي، عن محل بن خليفة عن عدي به.
ورواه الامام أحمد والنسائي من حديث شعبة عن سعد أبي مجاهد الطائي به.
وممن روى هذه القصة عن عدي: عامر بن شرحبيل الشعبي فذكر نحوه.
وقال: لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها (2).
وثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة.
وعند مسلم من حديث زهير بن معاوية كلاهما عن أبي اسحاق عن عبد الله بن معقل بن مقرن المزني عن عدي بن حاتم.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة " ولفظ مسلم " من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل " طريق أخرى فيها شاهد لما تقدم.
وقد قال الحافظ البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر (3) محمد بن عبد الله بن يوسف، ثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، ثنا ضرار بن صرد، ثنا عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي.
قال: قال علي بن أبي طالب: يا سبحان الله ! ما أزهد كثيرا من الناس خير، عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 343 - 344.
والبخاري في كتاب المناقب (25) باب، الحديث (3595) (2) نقله البيهقي في الدلائل ج 5 / 345.
(3) في الاصل: أبو بكر بن محمد تحريف، وأثبتنا ما ورد في الدلائل.

أن يسارع في مكارم الاخلاق فإنها تدل على سبيل النجاح، فقام إليه رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم ! وما هو خير منه: لما أتي بسبايا طيئ وقفت
جارية حمراء لعساء ذلفاء عيطاء شماء الانف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خدلة الساقين لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين مصقولة المتنين.
قال: فلما رأيتها أعجبت بها وقلت لاطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعلها في فيئي فلما تكلمت أنسيت جمالها [ لما رأيت ] (1) من فصاحتها.
فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الاخلاق والله يحب مكارم الاخلاق.
فقام أبو بردة بن نيار.
فقال: يا رسول الله تحب مكارم الاخلاق (2) فقال رسول الله " والذي نفسي بيده لا يدخل أحد الجنة إلا بحسن الخلق ".
هذا حديث حسن المتن غريب الاسناد جدا عزيز المخرج.
وقد ذكرنا ترجمة حاتم طيئ أيام الجاهلية عند ذكرنا من مات من أعيان المشهورين فيها وما كان يسديه حاتم إلى الناس من المكارم والاحسان إلا أن نفع ذلك في الآخرة معذوق بالايمان (3) وهو ممن لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وقد زعم الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب في ربيع الآخر من سنة تسع إلى بلاد طيئ فجاء معه بسبايا فيهم أخت عدي بن حاتم وجاء معه بسيفين كانا في بيت الصنم يقال لاحدهما الرسوب والآخر المخذم كان الحارث بن أبي سمر (4) قد نذرهما لذلك الصنم.
قال البخاري رحمه الله: قصة دوس والطفيل بن عمرو حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان عن ابن ذكوان - هو عبد الله بن زياد (5) - عن عبد الرحمن الاعرج، عن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن دوسا قد هلكت، وعصت وأبت فادع الله عليهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اهد دوسا وأت
__________
(1) من الدلائل.
(2) كذا في الاصل، وفي الدلائل: يا رسول الله ! الله يحب مكارم الاخلاق ؟.
(3) معذوق: أي معلق.
(4) كذا في الاصل، وفي تاريخ الطبري 3 / 148: نقلا عن الواقدي: ابن أبي شمر.
(5) قال ابن حجر في الفتح: هو عبد الله أبو الزناد.

بهم ".
انفرد به البخاري من هذا الوجه.
ثم قال: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة، حدثنا إسماعيل، عن قيس عن أبي هريرة قال: لما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم قلت في الطريق: يا ليلة من طولها وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجت وأبق لي غلام في الطريق، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبايعته فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، هذا غلامك.
هو حر لوجه الله عز وجل فأعتقته (1).
انفرد به البخاري من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن حازم وهذا الذي ذكره البخاري من قدوم الطفيل بن عمرو فقد كان قبل الهجرة ثم إن قدر قدومه بعد الهجرة فقد كان قبل الفتح لان دوسا قدموا ومعهم أبو هريرة وكان قدوم أبي هريرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر خيبر ثم ارتحل أبو هريرة حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بعد الفتح فرضخ لهم شيئا من الغنيمة وقد قدمنا ذلك كله مطولا في مواضعه.
قال البخاري رحمه الله: قدوم الاشعريين وأهل اليمن ثم روى من حديث شعبة، عن سليمان بن مهران الاعمش، عن ذكوان أبي صالح السمان، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الايمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الابل، والسكينة والوقار في أهل الغنم " ورواه مسلم من حديث شعبة.
ثم رواه البخاري عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال " أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا وأرق
أفئدة.
الفقه يمان، والحكمة يمانية ".
ثم روى عن إسماعيل، عن سليمان، عن ثور عن أبي الغيث (2) عن أبي هريرة.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الايمان يمان، والفتنة ها هنا، ها هنا يطلع قرن الشيطان " ورواه مسلم عن شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ثم روى البخاري من حديث شعبة، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الايمان ها هنا وأشار بيده إلى اليمن، والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الابل، من حديث يطلع قرنا الشيطان ربيعة ومضر " وهكذا رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو.
ثم روى من حديث سفيان الثوري، عن أبي صخرة جامع بن شداد، ثنا صفوان بن محرز عن عمران بن حصين.
قال: جاءت بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ابشروا يا بني تميم " فقالوا: أما إذ
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (75) باب، الحديث (4392) و (4393).
(2) في نسخ البداية المطبوعة: أبو المغيث، وفي البخاري أبو الغيث واسمه سالم.

بشرتنا فأعطنا فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ناس من أهل اليمن فقال: " اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم " فقالوا: قبلنا يا رسول الله (1) وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري به وهذا كله مما يدل على فضل وفود أهل اليمن وليس فيه تعرض لوقت وفودهم، ووفد بني تميم وإن كان متأخرا قدومهم لا يلزم من هذا أن يكون مقارنا لقدوم الاشعريين بل الاشعريين متقدم وفدهم على هذا فإنهم قدموا صحبة أبي موسى الاشعري في صحبة جعفر بن أبي طالب، وأصحابه من المهاجرين الذين كانوا بالحبشة، وذلك كله حين فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر كما قدمناه مبسوطا في موضعه، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: " والله ما أدري بأيهما أسر أبقدوم جعفر أو بفتح خيبر " والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال البخاري (2): قصة عمان والبحرين حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان سمع محمد بن المنكدر سمع جابر بن عبد الله يقول: قال
لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا " ثلاثا فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم على أبي بكر أمر مناديا فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين أو عدة فليأتني.
قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثا " قال: فأعرض عني قال جابر فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته فلم يعطني ثم أتيته فلم يعطني ثم أتيته الثالثة فلم يعطني فقلت له: قد أتيتك فلم تعطني، ثم أتيتك فلم تعطني، فأما أن تعطني وإما أن تبخل عني.
قال: قلت تبخل عني ؟ قال: وأي داء أدوأ من البخل ؟ قالها ثلاثا ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك وهكذا رواه البخاري ها هنا وقد رواه مسلم عن عمرو الناقد عن سفيان بن عيينة به ثم قال البخاري بعده: وعن عمرو عن محمد بن علي: سمعت جابر بن عبد الله يقول: جئته فقال لي أبو بكر: عدها فعددتها فوجدتها خمسمائة، فقال: خذ مثلها مرتين.
وقد رواه البخاري أيضا عن علي بن المديني، عن سفيان هو ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي أبي جعفر الباقر، عن جابر كروايته له عن قتيبة ورواه أيضا هو ومسلم من طرق أخر عن سفيان بن عيينة عن عمرو، عن محمد بن علي، عن جابر بنحوه.
وفي رواية أخرى له: أنه أمره فحثى بيديه من دراهم فعدها فإذا هي خمسمائة فأضعفها له مرتين يعني فكان جملة ما أعطاه ألفا وخمسمائة درهم.
__________
(1) الاحاديث رواها البخاري في كتاب المغازي (74) باب قدوم الاشعريين وأهل اليمن الاحاديث من (4386 - 4390) ومسلم في كتاب الايمان (21) باب الحديث (89) عن أبي اليمان، عن شعيب عن الزهري.
(2) في كتاب المغازي (73) باب قصة عمان والبحرين.

وفود فروة بن مسيك المرادي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: وقدم فروة بن مسيك المرادي (1) مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بين قومه مراد وبين همدان وقعة قبيل الاسلام أصابت همدان من قومه حتى
أثخنوهم وكان ذلك في يوم يقال له الردم وكان الذي قاد همدان إليهم الاجدع بن مالك قال ابن هشام ويقال مالك بن خريم الهمداني.
قال ابن إسحاق فقال فروة بن مسيك في ذلك اليوم: مررن على لفات وهن خوص * ينازعن الاعنة ينتحينا (2) فإن نغلب فغلابون قدما * وان نغلب فغير مغلبينا وما إن طبنا جبن ولكن * منايانا وطعمة آخرينا كذاك الدهر دولته سجال * تكز صروفه حينا فحينا فبينا ما نسر به ونرضى * ولو لبست غضارته سنينا إذا انقلبت به كرات دهر * فألفى في الاولى غبطوا طحينا فمن يغبط بريب الدهر منهم * يجد ريب الزمان له خؤنا فلو خلد الملوك إذا خلدنا * ولو بقى الكرام إذا بقينا فأفنى ذلكم سروات قومي * كما أفنى القرون الاولينا قال ابن إسحاق ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقا ملوك كندة قال: لما رأيت ملوك كندة أعرضت * كالرجل خان الرجل عرق نسائها قربت راحلتي أؤم محمدا * أرجو فواضلها وحسن ثرائها (3) قال: فلما انتهى فروة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: - فيما بلغني - يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم.
فقال: يا رسول الله من ذا الذي يصيب قومه ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إن ذلك لم يزد قومك في الاسلام إلا خيرا " واستعمله على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
__________
(1) انظر ترجمته في الاصابة وأسد الغابة 4 / 180.
وراجع خبر قدومه إلى النبي صلى الله عليه وآله في طبقات ابن سعد (1 / 328) وسيرة ابن هشام 4 / 228 وعيون الاثر 2 / 305 ونهاية الارب 2 / 239 ودلائل البيهقي 5 / 368.
(2) لفات: من ديار مراد، ولفات: بالكسر: موضع بين مكة والمدينة (معجم ما استعجم).
(3) قال أبو عبيدة: أرجو فواضله وحسن ثنائها.
وفي الاغاني: وحسن ثراها.
(4) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 228، ونقله عنه البيهقي في الدلائل ج 5 / 368.

قدوم عمر بن معد يكرب في أناس من زبيد قال إبن إسحاق: وقد كان عمرو بن معدي كرب قال لقيس بن مكشوح المرادي حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس إنك سيد قومك وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقال (1) إنه نبي فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفى علينا، إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه، فركب عمرو بن معدي كرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وصدقه وآمن به، فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا وقال: خالفني وترك امري ورأيي.
فقال عمرو بن معدي كرب في ذلك: أمرتك يوم ذي صن * - عاء أمرا باديا رشده (2) أمرتك باتقاء الله وال * - معروف تتعده خرجت من المنى مثل ال * - حمير غره وتده تمناني على فرس * عليه جالسا أسده علي مفاضة كالن * - نهي أخلص ماءه جدده ترد الرمح منثنى ال * - سنان عوائرا قصده (3) فلو لاقيتني للقي * - ت ليثا فوقه لبده تلاقى شنبثا شثن ال * - براثن ناشزا كتده (4) يسامي القرن إن قرن * تيممه فيعتضده فيأخذه فيرفعه * فيخفضه فيقتصده فيدمغه فيحطمه * فيخمضه فيزدرده
ظلوم الشرك فيما أح * - رزت أنيابه ويده قال ابن إسحاق: فأقام عمرو بن معد يكرب في قومه من بني زبيد، وعليهم فروة بن مسيك فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أرتد عمرو بن معدي كرب فيمن ارتد وهجا فروة بن مسيك فقال: وجدنا ملك فروه شر ملك * حمار ساف منخره بثفر (5)
__________
(1) في ابن هشام: يقول.
(2) ذو صنعاء: اسم موضع.
(3) عوائر: متطايرة.
والقصد جمع قصدة وهي ما تكسر من الرمح.
(4) الشنبث: الاسد.
الشثن: الغليظ الاصابع.
(5) ساف: شم.
والثفر: في الحيوان بمنزلة الرحم من الانسان.

وكنت إذا رأيت أبا عمير * ترى الحولاء من خبث وغدر قلت: ثم رجعت إلى الاسلام وحسن إسلامه وشهد فتوحات كثيرة في أيام الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما وكان من الشجعان المذكورين والابطال المشهورين والشعراء المجيدين توفي سنة إحدى وعشرين بعدما شهد فتح نهاوند وقيل بل شهد القادسية وقتل يومئذ قال أبو عمر بن عبد البر وكان وفوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع وقيل سنة عشر فيما ذكره ابن إسحاق والواقدي.
قلت: وفي كلام الشافعي ما يدل عليه.
فالله أعلم.
قال يونس عن ابن إسحاق: وقد قيل إن عمرو بن معدي كرب لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال في ذلك: إنني بالنبي موقنة نف * سي وإن لم أر النبي عيانا سيد العالمين طرا وأدنا * هم إلى الله حين بان مكانا جاء بالناموس من لدن الله و * كان الامين فيه المعانا حكمة بعد حكمه وضياء * فاهتدينا بنورها من عمانا
وركبنا السبيل حين ركب * - ناه جديدا بكرهنا ورضانا وعبدنا الاله حقا وكنا * للجهالات نعبد الاوثانا وائتلفنا به وكنا عدوا * فرجعنا به معنا إخوانا فعليه السلام والسلام منا * حيث كنا من البلاد وكانا إن نكن لم نر النبي فإنا * قد تبعنا سبيله إيمانا قدوم الاشعث بن قيس في وفد كندة قال ابن اسحاق وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الاشعث بن قيس، في وفد كندة فحدثني الزهري أنه قدم في ثمانين راكبا من كندة، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده قد رجلوا جممهم وتكحلوا عليهم جبب الحبرة، قد كففوها بالحرير، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ألم تسلموا ؟ قالوا: بلى ! قال فما بال هذا الحرير في أعناقكم ؟ قال: فشقوه منها فألقوه.
ثم قال له الاشعث بن قيس: يا رسول الله نحن بنوا آكل المرار وأنت ابن آكل المرار، قال، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث، وكانا تاجرين إذا شاعا (1) في العرب فسئلا ممن أنتما ؟ قالا: نحن بنو آكل المرار يعني ينسبان إلى كندة ليعزا في تلك البلاد لان كندة كانوا ملوكا، فاعتقدت كندة أن قريشا منهم لقول عباس وربيعة نحن بنو آكل المرار وهو الحارث بن عمرو (2) بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن
__________
(1) وفي رواية البيهقي عنه: إذا سارا.
(2) في ابن هشام: الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية...

معاوية بن كندى - ويقال ابن كندة - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
" لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا (1) أمنا ولا ننتفي من أبينا ".
فقال لهم الاشعث بن قيس والله يا معشر كندة لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين.
وقد روي هذا الحديث متصلا من وجه آخر فقال الامام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة، حدثني عقيل بن طلحة وقال عفان في حديثه أنبأنا عقيل بن
طلحة السلمي: عن مسلم بن هيضم، عن الاشعث بن قيس أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة - قال عفان - لا يروني أفضلهم، قال قلت يا رسول الله: أنا ابن عم إنكم منا.
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن بنو النضر بن كنانة لا نفقوا أمنا ولا ننتفي من أبينا ".
قال وقال الاشعث: فوالله لا أسمع أحد نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد (2).
وقد رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، وعن محمد بن يحيى عن سليمان بن حرب.
وعن هارون بن حيان، عن عبد العزيز بن المغيرة ثلاثتهم عن حماد بن سلمة به نحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، حدثنا الاشعث بن قيس.
قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة فقال لي: هل لك من ولد ؟ قلت غلام ولد لي في مخرجي إليك من ابنة جمد ولوددت أن مكانه شبع القوم.
قال: لا تقولن ذلك فإن فيهم قرة عين وأجرا إذا قبضوا، ثم ولئن قلت ذاك أنهم لمجبنة محزنة إنهم لمجبنة محزنة.
تفرد به أحمد وهو حديث حسن جيد الاسناد (3).
قدوم أعشى بن مازن على النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن الامام أحمد: حدثني العباس بن عبد العظيم العنبري، ثنا أبو سلمة عبيد بن عبد الرحمن الحنفي، قال: حدثني الجنيد بن أمين بن ذروة بن نضلة بن طريف بن نهصل الحرمازي، حدثني أبي أمين عن أبيه ذروة عن أبيه نضلة: أن رجلا منهم يقال له الاعشى، واسمه عبد الله الاعور كانت عنده امرأة يقال لها معاذة، خرج في رجب يمير أهله من هجر فهربت امرأته بعده ناشزا فعادت برجل منهم يقال له مطرف بن نهشل (4) بن كعب بن قميثع (5) بن ذلف بن أهضم بن عبد الله بن الحرماز فجعلها خلف ظهره، فلما قدم لم يجدها في بيته وأخبر أنها
__________
(1) لا نقفوا أمنا: لا نتبع في نسبنا أمنا.
وقد كان من جدات النبي صلى الله عليه وآله من هي من كندة، قيل هي دعد بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث الكندي، وهي أم كلاب بن مرة، وقيل بل هي جدة كلاب، أم أمه هند (قاله السهيلي).
(2) رواه البيهقي في الدلائل من طريق اسماعيل بن حرب وحجاج ج 5 / 371.
وفي مسند الامام أحمد ج
5 / 211، 212.
(3) مسند الامام أحمد ج 5 / 211، 212.
(4) في المسند: مطرف بن بهصل..وفي الاصابة: مطرف بن بهصلة.
(5) في المسند: قميشع وفي الاصابة: قشع.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55