كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي سمعت أبا بكر بن عياش قال: رأيت خالدا القسري حين أتي بالمغيرة وأصحابه، وقد وضع له سرير في المسجد، فجلس عليه ثم أمر برجل من أصحابه فضربت عنقه ثم قال للمغيرة: أحيه - وكان المغيرة يزعم أنه يحيي الموتى - فقال: والله أصلحك الله ما أحيي الموتى.
قال: لتحيينه أو لاضربن عنقك.
قال: والله ما أقدر على ذلك.
ثم أمر بطن قصب فأضرموا فيه نارا ثم قال للمغيرة: اعتنقه، فأبى، فعدا رجل من أصحابه فاعتنقه، قال أبو بكر: فرأيت النار تأكله وهو يشير بالسبابة.
قال خالد: هذا والله أحق بالرياسة منك.
ثم قتله وقتل أصحابه.
وقال المدائني: أتي خالد بن عبد الله برجل تنبأ بالكوفة فقيل له ما علامة نبوتك ؟ قال: قد نزل علي قرآن، قال: إنا أعطياك الكماهر، فصل لربك ولا تجاهر.
ولا تطع كل كافر وفاجر.
فأمر به فصلب فقال وهو يصلب: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، فأنا ضامن لك ألا تعود.
وقال المبرد: أتي خالد بشاب قد وجد في دار قوم وادعى عليه السرقة، فسأله فاعترف فأمر بقطع يده فتقدمت حسناء فقالت: أخالد قد أوطأت والله عثرة * وما العاشق المسكين فينا بسارق أقر بما لم يجنه غير أنه * رأى القطع أولى من فضيحة عاشق فأمر خالد بإحضار أبيها فزوجها من ذلك الغلام وأمهرها عنه عشرة آلاف درهم.
وقال الاصمعي: دخل أعرابي على خالد فقال: إني قد مدحتك ببيتين ولست أنشدهما إلا بعشرة آلاف وخادم، فقال: نعم ! فأنشأ يقول: لزمت نعم حتى كأنك لم تكن * سمعت من الاشياء شيئا سوى نعم وأنكرت لا حتى كأنك لم تكن * سمعت بها في سالف الدهر والامم قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم وخادم يحملها.
قال: ودخل عليه أعرابي فقال له: سل حاجتك فقال: مائة ألف.
فقال: أكثرت حط منها.
قال: أضع تسعين ألفا، فتعجب منه خالد
فقال: أيها الامير سألتك على قدرك ووضعت على قدري، فقال له: لن تغلبني أبدا، وأمر له بمائة ألف، قال: ودخل عليه أعرابي، فقال: إني قد قلت فيك شعرا وأنا أستصغره فيك، فقال: قل فأنشأ يقول: تعرضت لي بالجود حتى نعشتني * وأعطيتني حتى ظننتك (1) تلعب فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى * حليف الندى ما للندى عنك مذهب فقال: سل حاجتك.
قال: علي خمسون ألف دينار، فقال: قد أمرت لك بها وأضعفتها لك،
__________
(1) في وفيات الاعيان 2 / 227: حسبتك.

فأعطاه مائة ألف.
قال أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوساي: دخل أعرابي على خالد القسري، فأنشده: كتبت نعم بيابك فهي تدعو * إليك الناس مسفرة النقاب وقلت للا عليك بباب غيري * فإنك لن ترى أبدا ببابي قال فأعطاه على كل بيت خمسين ألفا.
وقد قال فيه ابن معين: كان رجل سوء يقع في علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وذكر الاصمعي عن أبيه: أن خالدا (1) حفر بئرا بمكة ادعى فضلها على زمزم، وله في رواية عنه تفضيل الخليفة على الرسول (2)، وهذا كفر إلا أن يريد بكلامه غير ما يبدو منه والله أعلم.
والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه، فإنه كان قائما في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الالحاد، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لان صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة في أهل البيت، وربما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيع، وقد اغتر به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره.
وقد ذكر ابن جرير وابن عساكر وغيرهما: أن الوليد بن يزيد كان قد عزم على الحج في إمارته فمن نيته أن يشرب الخمر على ظهر الكعبة، فلما بلغ ذلك جماعة من الامراء اجتمعوا على قتله وتولية
غيره من الجماعة، فحذر خالد أمير المؤمنين منهم، فسأله أن يسميهم فأبى عليه فعاقبه عقابا شديدا، ثم بعث به إلى يوسف بن عمر فعاقبه حتى مات شر قتلة وأسوأها، وذلك في محرم من هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائة - وذكر القاضي ابن خلكان في الوفيات وقال: كان متهما في دينه، وقد بنى لامه كنيسة في داره، قال فيه بعض الشعراء وقال صاحب الاعيان كان في نسبه يهود فانتموا إلى القرب، وكان يقرب [ من ] شق وسطيح.
قال القاضي ابن خلكان: وقد كانا ابني خالة، وعاش كل منهما ستمائة، وولدا في يوم واحد، وذلك يوم ماتت طريفة بنت الحر بعدما تفلت في فم كل منهما وقالت: إنه سيقوم مقامي في الكهانة، ثم ماتت من يومها.
وممن توفي في هذه السنة جبلة بن سحيم ودراج أبو السمح وسعيد بن مسروق في قول، وسليمان بن حبيب المحاربي، قاضي دمشق، وعبد الرحمن بن قاسم شيخ مالك وعبيد الله بن أبي يزيد وعمرو بن دينار.
وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل.
__________
(1) في الاغاني 22 / 18: كان الوليد قد حفر بئرا بين ثنية ذي طوى وثنية الحجون.
(2) عن عطاء بن مسلم قال قال خالد بن عبد الله وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أيما أكرم عندكم على الرجل رسوله في حاجته أو خليفته في أهله ؟ (انظر الاغاني 22 / 18).
كأنه بسؤاله يعتقد أن الخليفة خليفة الله ونسي أن الخليفة خليفة رسول الله فعليه لا مجال للمقارنة ! ؟

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة استهلت هذه السنة والخليفة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بوصية أخيه يزيد الناقص إليه، وبايعه الامراء بذلك، وجميع أهل الشام إلا أهل حمص فلم يبايعوه، وقد تقدم أن مروان بن محمد الملقب بالحمار كان نائبا بأذربيجان وأرمينية، وتلك كانت لابيه من قبله، وكان نقم على يزيد بن الوليد في قتله الوليد بن يزيد، وأقبل في طلب دم الوليد، فلما انتهى إلى حران أناب وبايع يزيد بن الوليد، فلم يلبث إلا قليلا حتى بلغه موته، فأقبل في أهل الجزيرة حتى وصل قنسرين فحاصر أهلها فنزلوا على طاعته، ثم أقبل إلى حمص وعليها عبد العزيز بن الحجاج من جهة أمير المؤمنين إبراهيم بن
الوليد فحاصرهم حتى يبايعوا لابراهيم بن الوليد، وقد أصروا على عدم مبايعته، فلما بلغ عبد العزيز قرب مروان بن محمد ترحل عنها، وقدم مروان إليها فبايعوه وساروا معه قاصدين دمشق، ومعهم جند الجزيرة وجند قنسرين، فتوجه مروان إلى دمشق في ثمانين ألفا، وقد بعث إبراهيم بن الوليد بن هشام بن عبد الملك في مائة وعشرين ألفا، فالتقى الجيشان عند عين الجر (1) من البقاع، فدعاهم مروان إلى الكف عن القتال وأن يتخلوا عن ابني الوليد بن يزيد وهما الحكم وعثمان اللذان قد أخذ العهد لهما، وكان يزيد قد سجنهما بدمشق، فأبوا عليه ذلك، فاقتتلوا قتالا شديدا من حين ارتفاع النهار إلى العصر، وبعث مروان سرية (2) تأتي جيش ابن هشام من ورائهم، فتم لهم ما أرادوه، وأقبلوا من ورائهم يكبرون، وحمل الآخرون من تلقاهم عليهم، فكانت الهزيمة في أصحاب سليمان، فقتل منهم أهل حمص خلقا كثيرا، واستبيح عسكرهم، وكان مقدار ما قتل من أهل دمشق في ذلك اليوم قريبا من سبعة عشر ألفا أو ثمانية عشر ألفا وأسر منهم مثلهم، فأخذ عليهم مروان البيعة للغلامين ابني الوليد، الحكم وعثمان، وأطلقهم كلهم سوى رجلين وهما يزيد بن العقار والوليد بن مصاد الكلبيان، فضربهما بين يديه بالسياط وحبسهما فماتا في السجن، لانهما كانا ممن باشر قتل الوليد بن يزيد حين قتل.
وأما سليمان وبقية أصحابه فإنهم استمروا منهزمين، فما أصبح لهم الصبح إلا بدمشق فأخبروا أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد بما وقع، فاجتمع معهم رؤوس الامراء في ذلك الوقت وهم عبد العزيز بن الحجاج يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وأبو علاقة السكسكي، والاصبغ بن ذؤالة الكلبي ونظراؤهم، على أن يعمدوا إلى قتل ابني الوليد الحكم وعثمان، خشية أن يليا الخلافة فيهلكا من عاداهما وقتل أباهما، فبعثوا إليهما يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، فعمد إلى السجن وفيه الحكم وعثمان ابنا الوليد وقد بلغا، ويقال وولد لاحدهما ولد فشدخها بالعمد، وقتل يوسف بن عمر - وكان مسجونا معهما - وكان في سجنهما أيضا أبو محمد السفياني فهرب فدخل في بيت داخل
__________
(1) في المعارف ص 161: بأرض الغوطة.
(2) في ابن الاثير 5 / 322 والطبري 9 / 47: ثلاثة آلاف فارس.

السجن وجعل وراء الباب ردما (1)، فحاصروه فامتنع، فأتوا بنار ليحرقوا الباب.
ثم اشتغلوا عن ذلك بقدوم مروان بن محمد وأصحابه إلى دمشق في طلب المنهزمين.
دخول مروان الحمار دمشق وولايته الخلافة لما أقبل مروان بمن معه من الجنود من عين الجر واقترب من دمشق وقد انهزم أهلها بين يديه بالامس، هرب إبراهيم بن الوليد وعمد سليمان بن هشام إلى بيت المال ففتحه وأنفق ما فيه على أصحابه ومن اتبعه من الجيوش، وثار موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه فيها وانتهبوها ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان بن محمد دمشق فنزل في أعاليها وأتي بالغلامين الحكم وعثمان وهما مقتولان وكذلك يوسف بن عمر فدفنوه.
وأتي بأبي محمد السفياني وهو في حبوله (2) فسلم على مروان بالخلافة فقال مروان: مه، فقال: إن هذين الغلامين جعلاها لك من بعدهما ثم أنشد قصيدة قالها الحكم في السجن وهي طويلة منها قوله: ألا من مبلغ مروان عني * وعمي الغمر طال بذا حنينا بأني قد ظلمت وصار قومي * على قتل الوليد متابعينا (3) فإن أهلك أنا وولي عهدي * فمروان أمير المؤمنينا ثم قال أبو محمد السفياني لمروان: ابسط يدك، فكان أول من بايعه بالخلافة، فمعاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ثم بايعه رؤوس أهل الشام من أهل دمشق وحمص وغيرهم، ثم قال لهم مروان: اختاروا أمراء نوليهم عليكم، فاختار أهل كل بلد أميرا فولاه عليهم، فعلى دمشق زامل بن عمرو الجبراني، وعلى حمص عبد الله بن شجرة الكندي، وعلى الاردن الوليد بن معاوية بن مروان، وعلى فلسطين ثابت بن نعيم الجذامي.
ولما استوت الشام لمروان بن محمد رجع إلى حران وعند ذلك طلب منه إبراهيم بن الوليد الذي كان خليفة وابن عمه سلميان بن هشام الامان فأمنهما، وقدم عليه سليمان بن هشام في أهل تدمر فبايعوه، ثم لما استقر مروان في حران أقام فيها ثلاثة أشهر فانتقض عليه ما كان انبرم له من مبايعة أهل الشام، فنقض أهل حمص وغيرهم، فأرسل إلى أهل حمص جيشا فوافوهم ليلة عيد الفطر من هذه السنة، وقدم مروان إليها بعد الفطر بيومين، فنازلها مروان في جنود
كثيرة، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وهما عنده مكرمان خصيصان لا
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 322: اغلقه فلم يقدروا على فتحه.
وفي الطبري 9 / 48: فأغلقه وألقى خلفه الفرش والوسائد واعتمد على الباب فلم يقدر عليه فتحه.
(2) في الطبري: في كبوله، وفي ابن الاثير: في قيوده.
(3) في ابن الاثير: 5 / 323: مشايعينا.

يجلس إلا بهما وقت الغداء والعشاء، فلما حاصر حمص نادوه إنا على طاعتك، فقال: افتحوا باب البلد ففتحوه.
ثم كان منهم بعض القتال فقتل منهم نحو الخمسمائة أو الستمائة، فأمر بهم فصلبوا حول البلد، وأمر بهدم بعض سورها.
وأما أهل دمشق فأما أهل الغوطة فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو وأمروا عليهم يزيد بن خالد القسري وثبت في المدينة نائبها، فبعث إليه أمير المؤمنين مروان بن حمص عسكرا نحو عشرة آلاف، فلما اقتربوا من دشمق خرج النائب فيمن معه والتقوا هم والعسكر بأهل الغوطة فهزموهم وحرقوا المزة وقرى أخرى معها، واستجار يزيد بن خالد القسري وأبو علاقة الكلبي برجل من أهل المزة من لخم، فدل عليهم زامل بن عمرو فقتلهما وبعث برأسيهما إلى أمير المؤمنين مروان وهو بحمص.
وخرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين على الخليفة وأتوا طبرية فحاصروها، فبعث الخليفة إليهم جيشا فأجلوهم عنها واستباحوا عسكرهم، وفر ثابت بن نعيم هاربا إلى فلسطين فاتبعه الامير أبو الورد فهزمه ثانية وتفرق عنه أصحابه، وأسر أبو الورد ثلاثة من أولاده فبعث بهم إلى الخليفة وهم جرحى فأمر بمداواتهم، ثم كتب أمير المؤمنين إلى نائب فلسطين وهو الرماحس (1) بن عبد العزيز الكناني يأمره بطلب ثابت بن نعيم حيث كان، فما زال يتلطف به حتى أخذه أسيرا، وذلك بعد شهرين، فبعثه إلى الخليفة وأمر بقطع يديه ورجليه، وكذلك جماعة كانوا معه، وبعث بهم إلى دمشق فأقيموا على باب مسجدها، لان أهل دمشق كانوا قد أرجفوا بأن ثابت بن نعيم ذهب إلى ديار مصر فتغلب عليها وقتل نائب مروان فيها، فأرسل إليهم مقطع اليدين والرجلين ليعرفوا بطلان ما كانوا به أرجفوا.
وأقام الخليفة مروان بدير أيوب عليه السلام مدة حتى بايع لابنه عبد الله ثم عبيد الله
وزوجهما ابنتي هشام، وهما أم هشام وعائشة، وكان مجمعا حافلا وعقدا هائلا، ومبايعة عامة، ولكن لم تكن في نفس الامر تامة.
وقدم الخليفة إلى دمشق وأمر بثابت وأصحابه بعد ما كانوا تقطعوا أن يصلبوا على أبواب البلد، ولم يستبق منهم أحدا إلا واحدا وهو عمرو بن الحارث الكلبي، وكان عنده فيما زعم علم بودايع كان ثابت بن نعيم أودعها عند أقوام.
واستوسق أمر الشام لمروان ما عدا تدمر، فسار من دمشق فنزل القسطل من أرض حمص، وبلغه أن أهل تدمر قد غوروا ما بينه وبينهم من المياه، فاشتد غضبه عليهم ومعه جحافل من الجيوش، فتكلم الابرش بن الوليد وكانوا قومه فسأل منه أن يرسل إليهم أولا ليعذر إليهم، فبعث عمرو بن الوليد أخا الابرش، فلما قدم عليهم لم يلتفتوا إليه ولا سمعوا له قولا فرجع، فهم الخليفة أن يبعث الجنود فسأله الابرش أن يذهب إليهم بنفسه فأرسله، فلما قدم عليهم الابرش كلمهم واستما لهم إلى السمع والطاعة، فأجابه أكثرهم وامتنع بعضهم، فكتب إلى الخليفة يعلمه بما وقع، فأمره الخليفة أن يهدم بعض سورها، وأن يقبل بمن أطاعه منهم إليه، ففعل.
فلما حضروا عنده سار بمن معه من الجنود نحو الرصافة على طريق البرية، ومعه من الرؤوس إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وجماعة من ولد الوليد ويزيد وسليمان، فأقام
__________
(1) في القاموس المحيط للفيروزا بادي: الرماحس بن عبد العزى بن الرماحس كان على شرطة مروان بن محمد.

بالرصافة أياما ثم شخص إلى البرية، فاستأذنه سليمان بن هشام أن يقيم هناك أياما ليستريح ويجم ظهره فأذن له، فانحدر مروان فنزل عند واسط على شط الفرات فأقام ثلاثا ثم مضى إلى قرقيسيا، وابن هبيرة بها ليبعثه إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي الحروري، واشتغل مروان بهذا الامر، وأقبل عشرة آلاف فارس ممن كان مروان قد بعثهم في بعض السرايا، فاجتازوا بالرصافة وفيها سليمان بن هشام بن عبد الملك الذي كان استأذن الخليفة في المقام هنا للراحة، فدعوه إلى البيعة له وخلع مروان بن محمد ومحاربته، فاستنزله الشيطان فأجابهم إلى ذلك، وخلع مروان وسار بالجيوش إلى قنسرين، وكاتب أهل الشام فانفضوا إليه من كل وجه، وكتب سليمان إلى ابن هبيرة الذي جهزه مروان لقتال الضحاك بن قيس الخارجي يأمره بالمسير إليه، فالتف إليه نحو من سبعين ألفا، وبعث
مروان إليهم عيسى بن مسلم في نحو من سبعين ألفا فالتقوا بأرض قنسرين فاقتتلوا قتالا شديدا، وجاء مروان والناس في الحرب فقاتلهم أشد القتال فهزمهم وقتل يومئذ إبراهيم بن سليمان بن هشام، وكان أكبر ولده، وقتل منهم نيفا وثلاثين ألف، وذهب سليمان مغلوبا فأتى حمص فالتف عليه من انهزم من الجيش فعسكر بهم فيها، وبنى ما كان مروان هدم من سورها.
فجاءهم مروان فحاصرهم بها ونصب عليهم نيفا وثمانين منجنيقا، فمكث كذلك ثمانية (1) أشهر يرميهم ليلا ونهارا، ويخرجون إليه كل يوم ويقاتلون ثم يرجعون.
هذا وقد ذهب سليمان وطائفة من الجيش معه إلى تدمر وقد اعترضوا جيش مروان في الطريق وهموا بالفتك به وأن ينتهبوه فلم يمكنهم ذلك، وتهيأ لهم مروان فقاتلهم فقتلوا من جيشه قريبا من ستة آلاف وهم تسعمائة، وانصرفوا إلى تدمر، ولزم مروان محاصرة حمص كمال عشرة أشهر، فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل، سألوه أن يؤمنهم فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه، ثم سألوه الامان على أن يمكنوه من سعيد بن هشام وابنيه مروان وعثمان ومن السكسكي الذي كان حبس معه، ومن حبشي كان يفتري عليه ويشتمه فأجابهم إلى ذلك فأمنهم وقتل أولئك، ثم سار إلى الضحاك، وكان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق قد صالح الضحاك الخارجي على ما بيده من الكوفة وأعمالها، وجاءت خيول مروان قاصدة إلى الكوفة، فتلقاهم نائبها من جهة الضحاك - ملحان الشيباني - فقاتلهم فتقل ملحان، واستناب الضحاك عليها المثنى بن عمران من بني عائذة، وسار الضحاك في ذي القعدة إلى الموصل، وسار ابن هبيرة إلى الكوفة فانتزعها من أيدي الخوارج، وأرسل الضحاك جيشا إلى الكوفة فلم يجد شيئا.
وفي هذه السنة خرج الضحاك بن قيس الشيباني، وكان سبب خروجه أن رجلا يقال له سعيد بن بهدل - وكان خارجيا - اغتنم غفلة الناس واشتغالهم بمقتل الوليد بن يزيد، فثار في جماعة من الخوارج بالعراق، فالتف عليه أربعة آلاف - ولم تجتمع قبلها لخارجي - فقصدتهم الجيوش فاقتتلوا معهم، فتارة يكسرون وتارة يكسرون، ثم مات سعيد بن بهدل في طاعون أصابه، واستخلف على
__________
(1) في الطبري 9 / 64 وابن الاثير 5 / 333: عشرة أشهر.

الخوارج من بعده الضحاك بن قيس هذا، فالتف أصحابه عليه، والتقى هو وجيش كثير فغلبت الخوارج وقتلوا خلقا كثيرا، منهم عاصم بن عمر بن عبد العزيز - أخو أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز - فرثاه بأشعار.
ثم قصد الضحاك بطائفة من أصحابه مروان فاجتاز بالكوفة، فنهض إليه أهلها فكسرهم ودخل الكوفة فاستحوذ عليها، واستناب بها رجلا اسمه حسان، ثم استناب ملحان الشيباني في شعبان من هذه السنة، وسار هو في طلب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق، فالتقوا فجرت بينهم حروب كثيرة يطول ذكرها وتفصيلها.
وفي هذه السنة اجتمعت جماعة من الدعاة إلى بني العباس عند إبراهيم بن محمد الامام ومعهم أبو مسلم الخراساني، فدفعوا إليه نفقات كثيرة، وأعطوه خمس أموالهم، ولم ينتظم لهم أمر في هذه السنة لكثرة الشرور المنتشرة، والفتن الواقعة بين الناس.
وفي هذه السنة خرج بالكوفة [ عبد الله بن ] (1) معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدعا إلى نفسه وخرج إلى محاربة أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فجرت بينهما حروب يطول ذكرها، ثم أجلاه عنها فلحق بالجبال فتغلب عليها.
وفي هذه السنة خرج الحارث بن سريج الذي كان لحق ببلاد الترك ومالاهم على المسلمين فمن الله عليه بالهداية ووفقه حتى خرج إلى بلاد الشام، وكان ذلك عن دعاء يزيد بن الوليد إلى الرجوع إلى الاسلام وأهله فأجابه إلى ذلك، وخرج إلى خراسان فأكرمه نصر بن سيار نائب سورة (2)، واستمر الحارث بن سريج على الدعوة إلى الكتاب والسنة وطاعة الامام، وعنده بعض المناوأة لنصر بن سيار.
قال الواقدي وأبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز أمير الحجاز ومكة والمدينة والطائف، وأمير العراق نضر بن سعيد الحرشي، وقد خرج عليه الضحاك الحروري، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز.
وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد خرج عليه الكرماني والحارث بن سريج.
وممن توفي في هذه السنة: بكر بن الاشج وسعد بن إبراهيم وعبد الله بن دينار وعبد الملك بن مالك الجزري وعمير بن هانئ ومالك بن دينار ووهب بن كيسان وأبو إسحاق السبيعي.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة فيها كان مقتل الحارث بن سريج، وكان سبب ذلك أن يزيد بن الوليد الناقص كان قد كتب إليه كتاب أمان، حتى خرج من بلاد الترك وصار إلى المسلمين ورجع عن موالاة المشركين إلى نصرة
__________
(1) سقطت من الاصل واستدركت من الطبري وابن الاثير والفخري ومروج الذهب.
(2) كذا بالاصول، وفيه تحريف ولعل الصواب: نائب خراسان.

الاسلام وأهله.
وأنه وقع بينه وبين نصر بن سيار نائب خراسان وحشة ومنافسات كثيرة يطول ذكرها، فلما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد استوحش الحارث بن سريج من ذلك.
وتولى ابن هبيرة نيابة العراق، وجاءت البيعة لمروان، فامتنع الحارث من قبولها وتكلم في مروان، وجاءه مسلمة (1) بن أحوز أمير الشرطة، وجماعة من رؤوس الاجناد والامراء، وطلبوا منه أن يكف لسانه ويده، وأن لا يفرق جماعة المسلمين، فأبى وبرز ناحية عن الناس، ودعا نصر بن سيار إلى ما هو عليه من الدعوة إلى الكتاب والسنة فامتنع نصر من موافقته، واستمر هو على خروجه على الاسلام.
وأمر الجهم بن صفوان مولى بني راسب ويكنى بأبي محرز - وهو الذي نسبت إليه الفرقة الجهمية (2) - أن يقرأ كتابا فيه سيرة الحارث على الناس، وكان الحارث يقول أنا صاحب الرايات السود.
فبعث إليه نصر يقول: لئن كنت ذاك فلعمري إنكم الذين تخربون سور دمشق وتزيلون بني أمية، فخذ مني خمسمائة رأس ومائة بعير، وإن كنت غيره فقد أهلكت عشيرتك.
فبعث إليه الحارث يقول: لعمري إن هذا لكائن.
فقال له نصر: فابدأ بالكرماني أولا، ثم سر إلى الري، وأنا في طاعتك إذا وصلتها.
ثم تناظر نصر والحارث ورضيا أن يحكم بينهما مقاتل بن حيان والجهم بن صفوان فحكما أن يعزل نصر ويكون الامر شورى.
فامتنع نصر من قبول ذلك، ولزم الجهم بن صفوان وغير قراءة سيرة الحارث على الناس في الجامع والطرق، فاستجاب له خلق كثير، وجم غفير فعند ذلك انتدب لقتاله جماعات من الجيوش عن أمر نصر بن سيار، فقصدوه فحارب دونه أصحابه، فقتل منهم طائفة كثيرة منهم الجهم بن صفوان، طعنه رجل في فيه فقتله، ويقال بل أسر الجهم فأوقف بين يدي سلم بن أحوز فأمر بقتله، فقال: إن
لي أمانا من أبيك، فقال: ما كان له أن يؤمنك، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملات هذه الملاءة كواكب، وأنزلت عيسى بن مريم، ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك.
وأمر ابن ميسر فقتله.
ثم اتفق الحارث بن سريج والكرماني على نصر ومخالفته، والدعوة إلى الكتاب والسنة واتباع أئمة الهدى وتحريم المنكرات إلى غير ذلك مما جاءت به الشريعة، ثم اختلفا فيما بينهما واقتتلا قتالا شديدا، فغلب الكرماني وانهزم أصحاب الحارث.
وكان راكبا على بغل فتحول إلى فرس فحرنت أن تمشي، وهرب عنه أصحابه ولم يبق معه منهم سوى مائة، فأدركه أصحاب الكرماني فقتلوه تحت شجرة زيتون، وقيل تحت شجرة عبيرا (3).
وذلك يوم الاحد لست بقين من رجب من هذه السنة وقتل معه مائة من أصحابه، واحتاط الكرماني على حواصله وأمواله، وأخذ أموال من خرج معه أيضا، وأمر
__________
(1) في الطبري 9 / 66: سلم، وفي ابن الاثير 5 / 343: سالم.
(2) الجهمية: قالت بالاجبار والاضطرار إلى الاعمال، وانكروا الاستطاعات كلها، وزعموا أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وزعمت أن الايمان هو المعرفة بالله فقط وان الكفر هو الجهل به فقط وان لا فعل ولا قول ولا عمل لاحد غير الله تعالى.
وانما تنسب الاعمال إلى المخلوقين على المجاز.
(الفرق بين الفرق ص 158).
(3) في ابن الاثير 5 / 346: غبيراء.

بصلب الحارث بلا رأس على باب مرو، ولما بلغ نصر بن سيار مقتل الحارث قال في ذلك: يا مدخل الذل على قومه * بعدا وسحقا لك من هالك شؤمك أردى مضرا كلها * وغض من قومك بالحارك ما كانت الازد وأشياعها * تطمع في عمرو ولا مالك ولا بني سعد إذ ألجموا * كل طمر لونه حالك وقد أجابه عباد (1) بن الحارث بن سريج فيما قال: ألا يا نصر قد برح الخفاء * وقد طال التمني والرجاء وأصبحت المزون بأرض مرو * تقضي في الحكومة ما تشاء
يجوز قضاؤها في كل حكم * على مضر وإن جار القضاء وحمير في مجالسها قعود * ترقرق في رقابهم الدماء فإن مضر بذا رضيت وذلت * فطال لها المذلة والشقاء وإن هي أعتبت فيها وإلا * فحل على عساكرها العفاء وفي هذه السنة بعث إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا مسلم الخراساني إلى خراسان وكتب معه كتبا إلى شيعتهم بها: إن هذا أبا مسلم فاسمعوا له وأطيعوا، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان.
فلما تقدم أبو مسلم خراسان وقرأ على أصحابه هذا الكتاب، لم يلتفتوا إليه ولم يعملوا به وأعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم، فرجع إلى إبراهيم بن محمد أيام الموسم، فاشتكاهم إليه وأخبره بما قابلوه من المخالفة، فقال له: يا عبد الرحمن ! إنك رجل منا أهل البيت، إرجع إليهم وعليك بهذا الحي من اليمن فأكرمهم وانزل بين أظهرهم فإن الله لا يتمم هذا الامر إلا بهم.
ثم حذره من بقية الاحياء (2) وقال له: إن استطعت أن لا تدع بتلك البلاد لسانا عربيا فافعل، ومن بلغ من أبنائهم خمسة أشبار واتهمته فاقتله، وعليك بذاك الشيخ فلا تقصه - يعني سليمان بن كثير - وسيأتي ما كان من أمر أبي مسلم الخراساني فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة قتل الضحاك بن قيس الخارجي في قول أبي مخنف، وكان سبب ذلك أن الضحاك حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط ووافقه على محاصرته منصور بن جمهور، فكتب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز إليه: إنه لا فائدة لك في محاصرتي ولكن عليك بمروان بن محمد فسر إليه، فا
__________
(1) من الطبري 5 / 74 وفي الاصول عتاب، وفي نسخة غياث.
(2) ربيعة ومضر (الطبري - ابن الاثير - الامامة والسياسة).

قتلته اتبعتك.
فاصطلحا على مخالفة مروان بن محمد أمير المؤمنين، فلما اجتاز الضحاك بالموصل كاتبه أهلها فمال إليهم فدخلها، وقتل نائبها (1) واستحوذ عليها، وبلغ ذلك مروان وهو محاصر حمص، ومشغول بأهلها وعدم مبايعتهم إياه، فكتب إلى ابنه عبد الله بن مروان - وكان الضحاك قد التف عليه
مائة ألف وعشرون ألفا فحاصروا نصيبين - وساق مروان في طلبه فالتقيا هنالك (2)، فاقتتلا قتالا شديدا فقتل الضحاك في المعركة وحجز الليل بين الفريقين، وفقد أصحاب الضحاك الضحاك وشكوا في أمره حتى أخبرهم من رآه قد قتل، فبكوا عليه وناحوا، وجاء الخبر إلى مروان فبعث إلى المعركة بالمشاعل ومن يعرف مكانه بين القتلى، وجاء الخبر إلى مروان وهو مقتول، وفي رأسه ووجهه نحو من عشرين ضربة، فأمروا برأسه فطيف به في مدائن الجزيرة.
واستخلف الضحاك على جيشه من بعده رجلا يقال له الخيبري (3)، فالتف عليه بقية جيش الضحاك، والتف مع الخيبري سليمان بن هشام بن عبد الملك وأهل بيته ومواليه، والجيش الذين كانوا قد بايعوه في السنة الماضية على الخلافة، وخلعوا مروان بن محمد عن الخلافة لاجله، فلما أصبحوا اقتتلوا مع مروان، فحمل الخيبري في أربعمائة من شجعان أصحابه على مروان، وهو في القلب، فكر منهزما واتبعوه حتى أخرجوه من الجيش، ودخلوا عسكره وجلس الخيبري على فرشه، هذا وميمنة مروان ثابتة وعليها ابنه عبد الله، وميسرته أيضا ثابتة وعليها إسحاق بن مسلم العقيلي.
ولما رأى عبد الله العسكر فارين مع الخيبري، وأن الميمنة والميسرة من جهتهم باقيتان طمعوا فيه فأقبلوا إليه بعمد الخيام فقتلوه بها، وبلغ قتله مروان وقد سار عن الجيش نحوا من خمسة أميال أو ستة، فرجع مسرورا وانهزم أصحاب الضحاك، وقد ولوا عليهم شيبان (4)، فقصدهم مروان بعد ذلك بمكان يقال له الكراديس فهزمهم.
وفيها بعث مروان الحمار على إمارة العراق يزيد بن عمر بن هبيرة ليقاتل من بها من الخوارج.
وفي هذه السنة حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو نائب المدينة ومكة والطائف، وأمير العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار.
وممن توفي في هذه السنة بكر بن سوادة وجابر الجعفي والجهم بن صفوان، مقتولا كما تقدم، والحارث بن سريج أحد كبراء الامراء، وقد تقدم شئ من ترجمته، وعاصم بن عبدلة، وأبو حصين عثمان بن عاصم، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو التياح يزيد بن حميد، وأبو حمزة النعنبعي، وأبو الزبير المكي وأبو عمران الجوني وأبو قبيل المغافري.
وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل.
__________
(1) وهو القطران بن أكمه من بني شيبان من أهل الجزيرة (ابن الاثير 5 / 349 الطبري 9 / 76).
(2) في موضع يقال له الغز من أرض كفرتوثا.
من أعمال ماردين.
(3) في ابن الاثير 5 / 350: ولما قتل الضحاك أصبح أهل عسكره فبايعوا الخيبري (انظر الطبري) وفي مروج الذهب 3 / 291: نصبت الخوارج بعد قتل الضحاك عليها الحري الشيباني.
(4) في مروج الذهب 3 / 291: شيبان الشيباني أبو الذلفاء، وفي ابن الاثير 5 / 353: أبو الدلف اليشكري.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة فيها اجتمعت الخوارج بعد الخيبري على شيبان بن عبد العزيز بن الحليس اليشكري الخارجي فأشار عليهم سليمان بن هشام أن يتحصنوا بالموصل ويجعلوها منزلا لهم، فتحولوا إليها وتبعهم مروان بن محمد أمير المؤمنين، فعسكروا بظاهرها وخندقوا عليهم مما يلي جيش مروان.
وقد خندق مروان على جيشه أيضا من ناحيتهم، وأقام سنة (1) يحاصرهم ويقتتلون في كل يوم بكرة وعشية، وظفر مروان بابن أخ لسليمان بن هشام، وهو أمية بن معاوية بن هشام، أسره بعض جيشه، فأمر به فقطعت يداه ثم ضرب عنقه، وعمه سليمان والجيش ينظرون إليه.
وكتب مروان إلى نائبه بالعراق يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بقتال الخوارج الذين في بلاده.
فجرت له معهم وقعات عديدة، فظفر بهم ابن هبيرة.
وأباد خضراءهم ولم يبق لهم بقية بالعراق، واستنقذ الكوفة من أيدي الخوارج، وكان عليها المثنى بن عمران العائذي - عائذة قريش - في رمضان من هذه السنة، وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما فرغ من الخوارج أن يمده بعمار بن صبارة (2) - وكان من الشجعان - فبعثه إليه في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، فأرسلت إليه سرية في أربعة آلاف فاعترضوه في الطريق فهزمهم ابن ضبارة وقتل أميرهم الجون بن كلاب الشيباني الخارجي، وأقبل نحو الموصل، ورجع فل الخوارج إليهم.
فأشار سليمان بن هشام عليهم أن يرتحلوا عن الموصل، فإنه لم يكن يمكنهم الاقامة بها، ومروان من أمامهم وابن ضبارة من ورائهم، قد قطع عنهم الميرة حتى لم يجدوا شيئا يأكلونه، فارتحلوا عنها وساروا على حلوان إلى الاهواز، فأرسل مروان ابن ضبارة في آثارهم في ثلاثة آلاف، فاتبعهم يقتل من تخلف منهم ويلحقهم في مواطن فيقاتلهم، وما زال وراءهم حتى فرق شملهم شذر مذر، وهلك أميرهم
شيبان بن عبد العزيز اليشكري بالاهواز في السنة القابلة، قتله خالد بن مسعود بن جعفر بن خليد الازدي (3).
وركب سليمان بن هشام في مواليه وأهل بيته السفن وساروا إلى السند، ورجع مروان من الموصل فأقام بمنزله بحران وقد وجد سرورا بزوال الخوارح، ولكن لم يتم سروره، بل أعقبه القدر من هو أقوى شوكة وأعظم أتباعا، وأشد بأسا من الخوارج، وهو ظهور أبي مسلم الخراساني الداعية إلى دولة بني العباس.
أول ظهور أبي مسلم الخراساني وفي هذه السنة ورد كتاب من إبراهيم بن محمد الامام العباسي بطلب أبي مسلم الخراساني من
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: ستة أشهر، وقال ابن الاثير 5 / 353: وقيل تسعة أشهر.
(2) في الطبري 9 / 80 وابن الاثير: عامر بن ضبارة المري، وقد ضبطناه ضبارة أينما ورد في الخبر.
(3) قتله جلندى بن مسعود بن حيفر بن جلندى الازدي (الطبري - ابن الاثير).

خراسان، فسار إليه في سبعين من النقباء، لا يمرون ببلد إلا سألوهم إلى أين تذهبون ؟ فيقول أبو مسلم: نريد الحج.
وإذا توسم أبو مسلم من بعضهم ميلا إليهم دعاهم إلى ما هم فيه فيجيبه إلى ذلك، فلما كان ببعض الطريق (1) جاء كتاب ثان من إبراهيم الامام إلى أبي مسلم: إني بعثت إليك براية النصر فارجع إلى خراسان وأظهر الدعوة، وأمر قحطبة بن شبيب أن يسير بما معه من الاموال والتحف إلى إبراهيم الامام فيوافيه في الموسم، فرجع أبو مسلم بالكتاب فدخل خراسان (2) في أول يوم من رمضان فرفع الكتاب إلى سليمان بن كثير وفيه: أن أظهر دعوتك وتتربص.
فقدموا عليهم أبا مسلم الخراساني داعيا إلى بني العباس، فبعث أبو مسلم دعاته في بلاد خراسان، وأمير خراسان - نصر بن سيار - مشغول بقتال الكرماني، وشيبان بن سلمة الحروري، وقد بلغ من أمره أنه كان يسلم عليه أصحابه بالخلافة في طوائف كثيرة من الخوارج، فظهر أمر أبي مسلم وقصده الناس من كل جانب، فكان ممن قصده في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام هناك اثنين وأربعين يوما، ففتحت على يديه أقاليم كثيرة.
ولما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان في هذه السنة، عقد أبو مسلم اللواء
الذي بعثه إليه الامام، ويدعى الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الامام أيضا، وتدعى السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، وهما سوداوان، وهو يتلو قوله تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) [ الحج: 39 ] ولبس أبو مسلم وسليمان بن كثير ومن أجابهم إلى هذه الدعوة، السواد، وصارت شعارهم، وأوقدوا في هذه الليلة نارا عظيمة يدعون بها أهل تلك النواحي، وكانت علامة بينهم فتجمعوا.
ومعنى تسمية إحدى الرايتين بالسحاب أن السحاب كما يطبق جميع الارض كذلك بنو العباس تطبق دعوتهم أهل الارض، ومعنى تسمية الاخرى بالظل أن الارض كما أنها لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الارض من قائم منهم.
وأقبل الناس إلى أبي مسلم من كل جانب، وكثر جيشه.
ولما كان يوم عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير ان يصلي بالناس، ونصب له منبرا، وأن يخالف في ذلك بني أمية، ويعمل بالسنة، فنودي للصلاة: الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم خلافا لهم، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكبر ستا في الاولى قبل القراءة، لا أربعا.
وخمسا في الثانية لا ثلاثا، خلافا لهم.
وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة، وانصرف الناس من صلاة العيد وقد أعد لهم أبو مسلم طعاما فوضعه بين أيدي الناس، وكتب إلى نصر بن سيار كتابا بدأ فيه بنفسه ثم قال إلى نصر بن سيار.
بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فإن الله عير أقواما في كتابه فقال (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم) إلى قوله (تحويلا) [ فاطر: 42 - 43 ] فعظم على نصر أن قدم اسمه على اسمه، وأطال الفكر، وقال: هذا كتاب له جواب.
__________
(1) في الطبري 9 / 82: أتاه وهو بقومس.
(انظر ابن الاثير 5 / 357).
(2) الطبري وابن الاثير: مرو.

قال ابن جرير: ثم بعث نصر بن سيار خيلا عظيمة لمحاربة أبي مسلم، وذلك بعد ظهوره بثمانية عشر شهرا، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا (1)، فدعاهم مالك إلى الرضا عن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا ذلك، فتصافوا من أول النهار إلى العصر، فجاء إلى مالك مدد
فقوي فظفر بهم مالك، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه جند بني العباس وجند بني أمية.
وفي هذه السنة غلب خازم بن خزيمة على مرو الروذ وقتل عاملها من جهة نصر بن سيار، وهو بشر بن جعفر السعدي، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم، وكان أبو مسلم إذ ذاك شابا حدثا قد اختاره إبراهيم لدعوتهم.
وذلك لشهامته وصرامته، وقوة فهمه وجودة ذهنه، وأصله من سواد الكوفة، وكان مولى لادريس بن معقل العجلي، فاشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أخذه محمد بن علي ثم آل ولاؤه لآل العباس، وزوجه إبراهيم الامام بابنة أبي النجم إسماعيل بن عمران، وأصدقها عنه وكتب إلى دعاتهم بخراسان والعراق أن يسمعوا منه، فامتثلوا أمره، وقد كانوا في السنة الماضية قبل هذه السنة ردوا عليه أمره لصغره فيهم، فلما كانت هذه السنة أكد الامام كتابه إليهم في الوصاة به وطاعته، وكان في ذلك الخير له ولهم (وكان أمر الله قدرا مقدورا) [ الاحزاب: 38 ] ولما فشا أمر أبي مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من العرب الذين بها على حربه ومقاتلته، ولم يكره الكرماني وشيبان لانهما خرجا على نصر وأبو مسلم مخالف لنصر كحالهما، وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان الحمار، وقد طلب نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبي مسلم، أو يكف عنه حتى يتفرغ لحربه، فإذا قتل أبا مسلم عادا إلى عداوتهما، فأجابه إلى ذلك، فبلغ ذلك أبا مسلم فبعث إلى الكرماني يعلمه بذلك فلام الكرماني شيبان على ذلك، وثناه عن ذلك، وبعث أبو مسلم إلى هراة النضر بن نعيم فأخذها من عاملها عيسى بن عقيل الليثي، وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر هاربا، ثم إن شيبان وادع نصر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه، وذلك عن كره من الكرماني، فبعث ابن الكرماني إلى أبي مسلم إني معك على قتال نصر، وركب أبو مسلم في خدمة الكرماني فاتفقا على حرب نصر ومخالفته، وتحول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه، واستعمل على الحرس والشرط والرسائل والديوان (2) وغير ذلك مما يحتاج إليه الملك عمالا، وجعل القاسم بن مجاشع التميمي - وكان أحد النقباء - على القضاء وكان يصلي بأبي مسلم الصلوات، ويقص بعض القصص فيذكر محاسن بني هاشم ويذم بني أمية.
ثم تحول أبو مسلم إلى قرية يقال لها بالين، وكان في مكان منخفض، فخشي أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، وذلك في سادس ذي الحجة من هذه السنة،
وصلى بهم يوم النحر القاضي القاسم بن مجاشع، وصار نصر بن سيار في جحافل كالسحاب قاصدا
__________
(1) التقوا بقرية تدعى آلين.
(2) جعل أبو سلم على الشرط مالك بن الهيثم وعلى الحرس خالد بن عثمان وعلى ديوان الجند كامل بن مظفر وعلى الرسائل أسلم بن صبيح.

قتال أبي مسلم، واستخلف على البلاد نوابا وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية.
مقتل ابن الكرماني ونشبت الحرب بين نصر بن سيار وبين ابن الكرماني - وهو جديع بن علي الكرماني - فقتل بينهما من الفريقين خلق كثير، وجعل أبو مسلم يكاتب كلا من الطائفتين ويستميلهم إليه، يكتب إلى نصر وإلى ابن الكرماني: إن الامام قد أوصاني بكم خيرا ولست أعدوا رأيه فيكم، وكتب إلى الكور يدعو إلى بني العباس فاستجاب له خلق كثير وجم غفير، وأقبل أبو مسلم فنزل بين خندق نصر وخندق ابن الكراماني، فهابه الفريقان جميعا، وكتب نصر بن سيار إلى مروان يعلمه بأمر أبي مسلم، وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب في جملة كتابه: أرى بين الرماد وميض جمر * وأحرى (1) أن يكون له ضرام فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب مبدؤها (2) الكلام فقلت من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أم نيام ؟ فكتب إليه مروان: الشاهد يرى ما لا يراه الغائب، فقال نصر: إن صاحبكم قد أخبركم أن لا نصر عنده.
وبعضهم يرويها بلفظ آخر: - أرى خلل الرماد وميض نار * فيوشك أن يكون لها ضرام فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب أولها كلام فإن لم يطفها عقلاء قوم * يكون وقودها جئث وهام أقول من التعجب لت شعري * أيقاظ أمية أم نيام ؟
فإن كانوا لحينهم نياما * فقل قوموا فقد حان القيام (3)
__________
(1) في الطبري 9 / 92: فأحج، وفي ابن الاثير 5 / 365: وميض نار وأخشى.
وفي مروج الذهب 3 / 291 و الفخري ص 144 والاخبار الطوال ص 357: ويوشك وفي ابن الاعثم 8 / 156: أرى خلل الرماد وميض جمر * أحاذر أن يكون لها اضطرام (2) في الطبري والفخري بالعودين تذكى...أولها.
وفي ابن الاعثم: فإن النار كالزندين تورى * وان الفعل يقدمه الكلام (3) في مروج الذهب وابن الاعثم.
وليس البيت في الطبري وابن الاثير: فإن يك قومنا أضحوا نياما * فقل: قوموا فقد حان القيام

قال ابن خلكان: وهذا كما قال بعض علوية الكوفة حين خرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسين على المنصور أخي السفاح: ارى نارا تشب على بقاع * لها في كل ناحية شعاع وقد رقدت بنو العباس عنها * وباتت وهي آمنة رتاع كما رقدت أمية ثم هبت * تدافع حين لا يغني الدفاع وكتب نصر بن سيار أيضا إلى نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده وكتب إليه: أبلغ يزيد وخير القول أصدقه * وقد تحققت (1) أن لا خير في الكذب بأن أرض خراسان (2) رأيت بها * بيضا إذا أفرخت حدثت بالعجب فراخ عامين إلا أنها كبرت * ولم يطرن وقد سربلن بالزغب فإن يطرن ولم يحتل لهن بها * يلهبن نيران حرب أيما لهب فبعث ابن هبيرة (3) بكتاب نصر إلى مروان، واتفق في وصول الكتاب إليه أن وجدوا رسولا من جهة إبراهيم الامام ومعه كتاب منه إلى أبي مسلم، وهو يشتمه فيه ويسبه، ويأمره أن يناهض نصر
ابن سيار وابن الكرماني، ولا يترك هناك من يحسن العربية.
فعند ذلك بعث مروان وهو مقيم بحران كتابا إلى نائبه بدمشق وهو الوليد بن معاوية بن عبد الملك، يأمره فيه أن يذهب (4) إلى الحميمة، وهي البلدة التي فيها إبراهيم بن محمد الامام، فيقيدوه ويرسله إليه.
فبعث نائب دمشق إلى نائب البلقاء فذهب إلى مسجد البلدة المذكورة فوجد إبراهيم الامام جالسا فقيده وأرسل به إلى دمشق، فبعثه نائب دمشق من فوره إلى مروان، فأمر به فسجن ثم قتل كما سيأتي.
وأما أبو مسلم فإنه لما توسط بين جيش نصر وابن الكرماني، كاتب ابن الكرماني: إني معك فمال إليه، فكتب إليه نصر ويحك لا تغتر فإنه إنما يريد قتلك وقتل أصحابك، فهلم حتى نكتب كتابا بيننا بالموادعة، فدخل ابن الكرماني داره ثم خرج إلى الرحبة في مائة فارس، وبعث إلى نصر هلم حتى
__________
(1) في الطبري: وقد تبينت، وفي ابن الاثير: وقد تيقنت.
(2) في الطبري وابن الاثير: أن خراسان أرض...* بيضا لو أفرخ حدثت بالعجب وفي ابن الاعثم 8 / 158: هذي خراسان...(3) في ابن الاعثم 8 / 159: فلم يلتفت ابن هبيرة إلى كتاب نصر وجعل يقول: وما أصنع وما أبالي بخراسان إذا سلمت لي العراق.
وفي مروج الذهب 3 / 293: فلم يجبه يزيد بن عمر عن كتابه، وتشاغل بدفع فتن العراق.
(4) في الطبري 9 / 92 والاخبار الطوال ص 357: كتب إليه يأمره أن يكتب إلى عامله بالبلقاء أن يسير إلى الحميمة - وهي بلد من أعمال عمان في أطراف الشام كانت منزل بني العباس - (انظر الامامة والسياسة 2 / 139).

نتكاتب، فأبصر نصر غرة من ابن الكرماني فنهض إليه في خلق كثير، فحملوا عليه فقتلوه وقتلوا من جماعته جماعة، وقتل ابن الكرماني في المعركة، طعنه رجل في خاصرته فخر عن دابته، ثم أمر نصر بصلبه وصلب معه جماعة، وصلب معه سمكة، وانضاف ولده إلى أبي مسلم الخراساني ومعه طوائف من الناس من أصحاب ابن الكرماني، فصاروا كتفا واحدا على نصر.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة تغلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على فارس
وكورها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، بعد حرب يطول ذكرها، ثم التقى عامر بن ضبارة معه باصطخر فهزمه ابن ضبارة وأسر من أصحابه أربعين ألفا.
فكان منهم عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فنسبه ابن ضبارة وقال له: ما جاء بك مع ابن معاوية وقد علمت خلافه لامير المؤمنين ؟ فقال: كان علي دين فأتيته فيه.
فقام إليه [ حرب بن ] قطن بن وهب الهلالي فاستوهبه منه وقال: هو ابن أختنا فوهبه له، وقال: ما كنت لاقدم على رجل من قريش، ثم استعلم ابن ضبارة منه أخبار ابن معاوية فذمه ورماه هو وأصحابه باللواط، وجئ من الاسارى بمائة غلام عليهم الثياب المصبغة، وقد كان يعمل معهم الفاحشة، وحمل ابن ضبارة عبد الله بن علي على البريد لابن هبيرة ليخبره بما أخبر بن ابن ضبارة عن ابن معاوية.
وقد كتب الله عز وجل أن زوال ملك بني أمية يكون على يدي هذا الرجل، وهو عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، ولا يشعر واحد منهم بذلك.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة ولي الموسم أبو حمزة الخارجي فأظهر التحكم والمخالفة لمروان، وتبرأ منه.
فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ أمير مكة والمدينة والطائف، وإليه أمر الحجيج في هذه السنة، ثم صالحهم على الامان إلى يوم النفر، فوقفوا على حدة بين الناس بعرفات، ثم تحيزوا عنهم، فلما كان يوم النفر الاول تعجل عبد الواحد وترك مكة فدخلها الخارجي بغير قتال، فقال بعض الشعراء في ذلك: - زار الحجيج عصابة قد خالفوا * دين إلاله ففر عبد الواحد ترك الحلائل والامارة هاربا * ومضى يخبط كالبعير الشارد لو كان والده تنصل عرقه * لصفت موارده بعرق الوارد (1) ولما رجع عبد الواحد إلى المدينة شرع في تجهيز السرايا إلى قتال الخارجي، وبذل النفقات وزاد في أعطية الاجناد، وسيرهم سريعا.
وكان أمير العراق يزيد بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد استحوذ على بعض بلاده أبو مسلم الخراساني.
وممن توفي فيها من الاعيان: سالم أبو النضر، وعلي بن زيد بن جدعان، في قول، ويحيى بن أبي كثير.
وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل ولله الحمد.
__________
(1) في الطبري 8 / 96: لصفت مضاربه بعرق الوالد.

سنة ثلاثين ومائة في يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الاول منها، دخل أبو مسلم الخراساني مرو، ونزل دار الامارة بها، وانتزعها من يد نصر بن سيار، وذلك بمساعدة علي بن الكرماني، وهرب نصر بن سيار في شرذمة قليلة من الناس، نحو من ثلاثة آلاف، ومعه امرأته المرزبانة، حتى لحق سرخس وترك امرأته وراءه، ونجا بنفسه، واستفحل أمر أبي مسلم جدا، والتفت عليه العساكر.
مقتل شيبان بن سلمة الحروري ولما هرب نصر بن سيار بقي شيبان وكان ممالئا له على أبي مسلم، فبعث إليه أبو مسلم رسلا فحبسهم فأرسل أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث يأمره أن يركب إلى شيبان فيقاتله، فسار إليه فاقتتلا فهزمه بسام فقتله واتبع أصحابه يقتلهم ويأسرهم، ثم قتل أبو مسلم عليا وعثمان ابني الكرماني، ثم وجه أبو مسلم أبا داود إلى بلخ فأخذها من زياد بن عبد الرحمن القشيري، وأخذ منهم أموالا جزيلة.
ثم إن أبا مسلم اتفق مع أبي داود على قتل عثمان بن الكرماني في يوم كذا، وفي ذلك اليوم بعينه يقتل أبو مسلم علي بن جديع الكرماني، فوقع ذلك كذلك.
وفي هذه السنة وجه أبو مسلم قحطبة بن شبيب إلى نيسابور لقتال نصر بن سيار، ومع قحطبة جماعة من كبار الامراء، منهم خالد بن برمك.
فالتقوا مع تميم بن نصر بن سيار وقد وجهه أبوه لقتالهم بطوس، فقتل قحطبة من أصحاب نصر نحوا من سبعة عشر ألفا في المعركة، وقد كان أبو مسلم بعث إلى قحطبة مددا نحو عشرة آلاف فارس، عليهم علي بن معقل، فاقتتلوا فقتلوا من أصحاب نصر خلقا كثيرا، وقتلوا تميم بن نصر، وغنموا أموالا جزيلة جدا، ثم إن يزيد بن عمر بن هبيرة نائب مروان على العراق بعث سرية مددا لنصر بن سيار، فالتقى معهم قحطبة في مستهل ذي الحجة، وذلك يوم الجمعة.
فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم جند بني أمية، وقتل من أهل الشام وغيرهم عشرة آلاف، منهم نباتة بن حنظلة عامل جرجان، فبعث قحطبة برأسه إلى أبي مسلم.
ذكر دخول أبي حمزة الخارجي المدينة النبوية واستيلائه عليها قال ابن جرير: وفي هذه السنة كانت وقعة بقديد بين أبي حمزة الخارجي الذي كان عام أول في أيام الموسم، فقتل من أهل المدينة من قريش خلقا كثيرا، ثم دخل المدينة وهرب نائبها عبد الواحد بن سليمان، فقتل الخارجي من أهلها خلقا، وذلك لتسع عشرة ليلة خلت من صفر من هذه السنة، ثم خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوبخ أهل المدينة، فقال: يا أهل المدينة إني مررت بكم أيام الاحول - يعني هشام بن عبد الملك - وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فكتبتم إليه تسألونه أن يضع الخرص

عنكم فوضعه، فزاد غنيكم غنى وزاد فقيركم فقرا، فكتبتم إليه جزاك الله خيرا، فلا جزاه الله خيرا.
في كلام طويل.
فأقام عندهم ثلاثة أشهر بقية صفر وشهري ربيع وبعض جمادى الاول فيما قال الواقدي وغيره.
وقد روى المدائني أن أبا حمزة رقي يوما منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من بلادنا بطرا ولا أشرا، ولا لدولة نريد أن نخوض فيها النار، وإنما أخرجنا من ديارنا أنا رأينا مصابيح الحق طمست، وضعف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، فلما رأينا ذلك ضاقت علينا الارض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض) [ الاحقاف: 32 ] أقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافا واحدا قليلون مستضعفون في الارض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا والله بنعمة الله إخوانا، ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم بني مروان، فشتان لعمر الله بين الغي والرشد، ثم أقبلوا نحونا يهرعون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليه ظنه فاتبعوه، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب، بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون، وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا (ويشف صدور قوم مؤمنين) [ التوبة: 14 ] يا أهل المدينة أولكم خير أول، وآخركم شر آخر، يا أهل المدينة الناس منا ونحن منهم، إلا مشركا عابد وثن أو كافرا أهل كتاب، أو إماما
جائرا.
يا أهل المدينة من زعم أن الله يكلف نفسا فوق طاقتها، أو يسألها ما لم يؤتها، فهو لله عدو، وأنا له حرب.
يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي والضعيف، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذها لنفسه، مكابرا محاربا لربه، يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم شباب أحداث، وأعراب جفاة أجلاف، ويحكم فهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابا أحداثا، شبابا والله مكتهلون في شبابهم، غضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن السعي في الباطل أقدامهم، قد باعوا لله أنفسا تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة.
فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت، وإلى الرماح قد شرعت، وإلى السهام قد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا والله وعيد الكتيبة لوعيد الله في القرآن، ولم يستخفوا وعيد الله لوعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب، فكم من عين في مناقير الطير طال ما فاضت في جوف الليل من خشية الله، وطال ما بكت خالية من خوف الله، وكم من يد زالت عن مفصلها طال ما ضربت في سبيل الله وجاهدت أعداء الله.
وطال ما اعتمد بها صاحبها في طاعة الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيري، وما توفيقي إلا بالله.
ثم روى المدائني عن العباس عن هارون عن جده قال: كان أبو حمزة الخارجي قد أحسن السيرة في أهل المدينة فمالوا إليه حتى سمعوه [ يقول ]: برح الخفا أين عن بابك نذهب [ ثم قال ]: من زنا فهو

كافر، ومن سرق فهو كافر، فعند ذلك أبضغوه ورجعوا عن محبته.
وأقام بالمدينة حتى بعث مروان الحمار عبد الملك بن محمد بن عطية أحد بني سعد في خيل أهل الشام أربعة آلاف، قد انتخبها مروان من جيشه، وأعطى كل رجل منهم مائة دينار وفرسا عربية، وبغلا لثقله، وأمره أن يقاتله ولا يرجع عنه، ولو لم يلحقه إلا باليمن فليتبعه إليها، وليقاتل نائب صنعاء عبد الله بن يحيى.
فسار ابن عطية حتى بلغ وادي القرى فتلقاه أبو حمزة الخارجي قاصدا قتال مروان بالشام، فاقتتلوا هنالك إلى الليل، فقال له: ويحك يا بن عطية ! إن الله قد جعل الليل سكنا فأخر إلى غد، فأبى عليه أن يقلع عن قتاله،
فما زال يقاتلهم حتى كسرهم فولوا ورجع فلهم إلى المدينة، فنهض إليهم أهل المدينة فقتلوا منهم خلقا كثيرا، ودخل ابن عطية المدينة، وقد انهزم جيش أبي حمزة عنها، فيقال إنه أقام بها شهرا ثم استخلف عليها، ثم استخلف على مكة وسار إلى اليمن فخرج إليه عبد الله بن يحيى نائب صنعاء، فاقتتلا فقتله ابن عطية وبعث برأسه إلى مروان وجاء كتاب مروان إليه يأمره بإقامة الحج للناس في هذه السنة، ويستعجله في المسير إلى مكة.
فخرج من صنعاء في اثني عشر راكبا، وترك جيشه بصنعاء، ومعه خرج فيه أربعون ألف دينار، فلما كان ببعض الطريق نزل منزلا إذ أقبل إليه أميران يقال لهما ابنا جمانة من سادات تلك الناحية، فقالوا ويحكم أنتم لصوص.
فقال: أنا ابن عطية وهذا كتاب أمير المؤمنين إلي بأمرة الحج، فنحن نعجل السير لندرك الموسم، فقالوا: هذا باطل، ثم حملوا عليهم فقتلوا ابن عطية وأصحابه ولم يفلت منهم إلا رجل واحد، وأخذوا ما معهم من المال.
قال أبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الملك بن مروان، وقد جعلت إليه إمرة المدينة ومكة والطائف، ونائب العراق ابن هبيرة، وإمرة خراسان إلى نصر بن سيار، غير أن أبا مسلم قد استحوذ على مدن وقرى كثيرة من خراسان، وقد أرسل نصر إلى ابن هبيرة يستمده بعشرة آلاف قبل أن لا يكفيه مائة ألف، وكتب أيضا إلى مروان يستمده، فكتب مروان إلى ابن هبيرة يمده بما أراد.
وممن توفي فيها من الاعيان شعيب بن الحبحاب، وعبد العزيز بن صهيب، وعبد العزيز بن رفيع، وكعب بن علقمة، ومحمد بن المنكدر.
والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة في المحرم منها وجه قحطبة بن شبيب ولده الحسن إلى قوميس لقتال نصر بن سيار، وأردفه بالامداد، فخامر بعضهم إلى نصر وارتحل نصر فنزل الري، فأقام بها يومين ثم مرض فسار منها إلى همدان.
فلما كان بساوه (1) قريبا من همدان توفي لمضي ثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الاول من هذه
__________
(1) كذا بالاصل والطبري وابن الاثير والاخبار الطوال ومروج الذهب: ساوة.
وفي ابن الاعثم 8 / 170: فسطانة موضع على تسعة فراسخ من الري - ولم نجده - وساوة مدينة حسنة بين الري =

السنة، عن خمس وثمانين سنة.
فلما مات نصر تمكن أبو مسلم وأصحابه من بلاد خراسان، وقويت شوكتهم جدا، وسار قحطبة من جرجان، وقدم أمامه زياد بن زرارة القشيري، وكان قد ندم على اتباع أبي مسلم، فترك الجيش وأخذ جماعة معه وسلك طريق أصبهان ليأتي ابن ضبارة، فبعث قحطبة وراءه جيشا فقتلوا عامة أصحابه، وأقبل قحطبة وراءه فقدم قومس وقد افتتحها ابنه الحسن فأقام بها، وبعث ابنه بين يديه إلى الري ثم ساق وراءه فوجده قد افتتحها فأقام بها وكتب إلى أبي مسلم بذلك.
وارتحل أبو مسلم من مرو فنزل نيسابور واستفحل أمره، وبعث قحطبة بعد دخوله الري ابنه الحسن بين يديه إلى همدان، فلما اقترب منها خرج منها مالك بن أدهم وجماعة من أجناد الشام وخراسان، فنزلوا نهاوند، فافتتح الحسن همدان ثم سار وارءهم إلى نهاوند، وبعث إليه أبوه بالامداد فحاصرهم حتى افتتحها.
وفي هذه السنة مات عامر بن ضبارة، وكان سبب ذلك أن ابن هبيرة كتب إليه أن يسير إلى قحطبة وأمده بالعساكر (1)، فسار ابن ضبارة حتى التقى مع قطحبة في عشرين ألفا، فلما تواجه الفريقان رفع قحطبة وأصحابه المصاحف ونادى المنادي: يا أهل الشام، إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف، فشتموا المنادي وشتموا قحطبة، فأمر قحطبة أصحابه أن يحملوا عليهم، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزم أصحاب ابن ضبارة، واتبعهم أصحاب قحطبة فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقتلوا ابن ضبارة في العسكر [ لشجاعته فإنه لم يول ] وأخذوا من عسكرهم ما لا يحد ولا يوصف.
وفيها حاصر قحطبة نهاوند حصارا شديدا حتى سأله أهل الشام الذين بها أن يمهل أهلها حتى يفتحوا له الباب، ففتحوا له الباب وأخذوا لهم منه أمانا، فقال لهم من بها من أهل خراسان: ما فعلتم ؟ فقالوا: أخذنا لنا ولكم أمانا، فخرجوا ظانين أنهم في أمان، فقال قحطبة للامراء الذين معه: كل من حصل عنده أسير من الخراسانيين فليضرب عنقه وليأتنا برأسه، ففعلوا ذلك ولم يبق ممن كان هرب من أبي مسلم أحد، وأطلق الشاميين وأوفى لهم عهدهم وأخذ عليهم الميثاق أن لا يمالئوا عليه عدوا.
ثم بعث قحطبة أبا عون إلى شهر زور، عن أمر أبي مسلم في ثلاثين ألفا فافتتحها، وقتل نائبها عثمان بن سفيان.
وقيل لم يقتل بل تحول إلى الموصل والجزيرة وبعث إلى قحطبة بذلك، ولما بلغ
مروان خبر قحطبة وأبي مسلم وما وقع من أمرهما، تحول مروان من حران فنزل بمكان يقال له الزاب الاكبر.
__________
= وهمدان في وسط (معجم البلدان) وقيل هي مدنية في بلاد فارس الوسطى، واقعة على الطريق بين قزوين والقرم.
(1) في ابن الاثير 5 / 398 وابن الاعثم 8 / 172 كان عسكره مائة ألف.
(وفي الطبري 9 / 113) وفي رواية في الطبري وابن الاثير: خمسين ومائة ألف.

وفيها قصد قحطبة في جيش كثيف نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة.
فلما اقترب منه تقهقر ابن هبيرة إلى ورائه، وما زال يتقهقر إلى أن جاوز الفرات، وجاء قحطبة فجازها وراءه، وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائة في المحرم منها جاز قحطبة بن شبيب الفرات ومعه الجنود والفرسان، وابن هبيرة مخيم على فم الفرات مما يلي الفلوجة، في خلق كثير وجم غفير، وقد أمده مروان بجنود كثيرة (1)، وانضاف إليه كل من انهزم من جيش ابن ضبارة.
ثم إن قحطبة عدل إلى الكوفة ليأخذها، فاتبعه ابن هبيرة.
فلما كانت ليلة الاربعاء لثمان مضين من المحرم اقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل في الفريقين، ثم ولى أهل الشام منهزمين واتبعهم أهل خراسان، وفقد قحطبة من الناس فأخبرهم رجل أنه قتل وأوصى أن يكون أمير الناس من بعده ولده الحسن، ولم يكن الحسن حاضرا، فبايعوا حميد بن قحطبة لاخيه الحسن وذهب البريد إلى الحسن ليحضر.
وقتل في هذه الليلة جماعة من الامراء.
والذي قتل قحطبة معن بن زائدة، ويحيى بن حصين.
وقيل بل قتله رجل ممن كان معه آخذا بثأر ابني نصر بن سيار فالله أعلم.
ووجد قحطبة في القتلى فدفن هنالك (2)، وجاء الحسن بن قحطبة فسار نحو الكوفة، وقد خرج بها محمد بن خالد بن عبد الله القسري ودعا إلى بني العباس وسود، وكان خروجه ليلة عاشوراء المحرم من هذه السنة، وأخرج عاملها من جهة ابن هبيرة، وهو زياد بن صالح الحارثي، وتحول محمد بن خالد إلى
قصر الامارة فقصده حوثرة في عشرين ألفا من جهة ابن هبيرة، فلما اقترب من الكوفة أصحاب حوثرة يذهبون إلى محمد بن خالد فيبايعونه لبني العباس، فلما رأى حوثرة ذلك ارتحل إلى واسط، ويقال بل دخل الحسن بن قحطبة الكوفة، وكان قحطبة قد جعل في وصيته أن تكون وزارة الخلافة إلى أبي سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع الكوفي الخلال، وهو بالكوفة، فلما قدموا عليه أشار أن يذهب الحسن بن قحطبة في جماعة من الامراء إلى قتال ابن هبيرة بواسط، وأن يذهب أخوه حميد إلى المدائن، وبعث البعوث إلى كل جانب يفتتحونها، وفتحوا البصرة، افتتحها مسلم بن قتيبة لابن هبيرة، فلما قتل ابن هبيرة جاء أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي فأخذ البصرة لابي مسلم الخراساني.
وفي هذه السنة ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر منها، أخذت البيعة لابي العباس
__________
(1) أمده مروان بعشرين ألفا عليهم حوثرة بن سهيل الباهلي (الطبري).
(2) في ابن الاثير 5 / 404: وجدوه في جدول وحرب بن سالم بن احوز قتيلين فظنوا أن كل واحد منهما قتل صاحبه..وفي الاخبار الطوال ص 369: وفقد قحطبة بن شبيب فلم يدر أين ذهب.
وفي ابن الاعثم 8 / 176: انهار الجرف من تحت قوائم الفرس فسقط به في الفرات فغرق ولم يعلم به أحد من أصحابه.

السفاح، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
قاله أبو معشر وهشام بن الكلبي.
وقال الواقدي: في جمادى الاولى من هذه السنة فالله أعلم.
ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الامام قد ذكرنا في سنة تسع وعشرين ومائة أن مروان اطلع على كتاب من إبراهيم الامام إلى أبي مسلم الخراساني، يأمره فيه بأن لا يبقي أحدا بأرض خراسان ممن يتكلم بالعربية إلا أباده، فلما وقف مروان على ذلك سأل عن إبراهيم فقيل له هو بالبلقاء، فكتب إلى نائب دمشق أن يحضره فبعث نائب دمشق بريدا ومعه صفته ونعته (1)، فذهب الرسول فوجد أخاه أبا العباس السفاح، فاعتقد أنه هو فأخذه فقيل له: إنه ليس به، وإنما هو أخوه، فدل على إبراهيم فأخذه وذهب معه بأم ولد له كان يحبها، وأوصى إلى أهله أن يكون الخليفة من بعده أخوه أبو العباس السفاح، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة،
فارتحلوا من يومهم إليها، منهم أعمامه الستة وهم: عبد الله، وداود، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الصمد، بنو علي، وأخواه أبو العباس السفاح، ومحمد ابنا محمد بن علي، وابناه محمد وعبد الوهاب ابنا إبراهيم الامام الممسوك، وخلق سواهم.
فلما دخلوا الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد، مولى بني هاشم، وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من القواد والامراء، ثم ارتحل بهم إلى موضع آخر، ثم لم يزل ينقلهم من مكان إلى مكان حتى فتحت البلاد.
ثم بويع للسفاح.
وأما إبراهيم بن محمد الامام فإنه سير به إلى أمير المؤمنين في ذلك الزمان مروان بن محمد وهو بحران فحبسه، وما زال في السجن إلى هذه السنة، فمات في صفر منها في السجن، عن ثمان وأربعين سنة.
وقيل إنه غم بمرققة وضعت على وجهه حتى مات عن إحدى وخمسين سنة، وصلى عليه رجل يقال له بهلول (2) ابن صفوان، وقيل إنه هدم عليه بيت حتى مات، وقيل بل سقي لبنا مسموما فمات (3)، وقيل إن إبراهيم الامام شهد الموسم عام إحدى وثلاثين، واشتهر أمره هنالك لانه وقف في أبهة عظيمة، ونجائب كثيرة، وحرمة وافرة، فأنهى أمره إلى مروان وقيل له: إن أبا مسلم يدعو الناس إلى هذا ويسمونه الخليفة، فعبث إليه في المحرم من سنة ثنتين وثلاثين وقتله في صفر من هذه السنة، وهذا أصح مما تقدم: وقيل إنه إنما أخذه من الكوفة لا من حميمة البلقاء فالله أعلم.
وقد كان إبراهيم هذا كريما جوادا له فضائل وفواضل، وروى الحديث عن أبيه عن جده، وأبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وعنه أخواه عبد الله السفاح، أبو جعفر عبد الله المنصور، وأبو
__________
(1) انظر حاشية 4 صفحة 36.
(2) في الطبري 9 / 133: المهلهل.
(3) في مروج الذهب 3 / 296: جعلوا رأسه في جراب كان معهم فيه نورة مسحوقة (خليط من الكلس والزرنيخ) فاضطرب ساعة ثم خمد.
وفي رواية في الطبري 9 / 132: قال بعضهم لم يقتل مات بالطاعون.

سلمة عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، ومالك بن هاشم.
ومن كلامه الحسن: الكامل المروءة من أحرز دينه ووصل رحمه، واجتنب ما يلام عليه.
خلافة أبي العباس السفاح لما بلغ أهل الكوفة مقتل إبراهيم بن محمد، أراد أبو سلمة الخلال أن يحول الخلافة إلى آل علي بن أبي طالب، فغلبه بقية النقباء والامراء، وأحضروا أبا العباس السفاح وسلموا عليه بالخلافة، وذلك بالكوفة، وكان عمره إذ ذاك ستا وعشرين سنة.
وكان أول من سلم عليه بالخلافة أبو سلمة الخلال، وذلك ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة، فلما كان وقت صلاة الجمعة خرج السفاح على برذون أبلق، والجنود ملبسة معه، حتى دخل دار الامارة، ثم خرج إلى المسجد الجامع وصلى بالناس، ثم صعد المنبر وبايعه الناس وهو على المنبر في أعلاه، وعمه داود بن علي واقف دونه بثلاث درج، وتكلم السفاح، وكان أول ما نطق به أن قال: الحمد لله الذي اصطفى الاسلام لنفسه دينا، وكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه والقوام به والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، خصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، ووضعنا بالاسلام وأهله في الموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الاسلام كتابا يتلى عليهم.
فقال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [ الاحزاب: 33 ] وقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) [ الشورى: 23 ] وقال: (وأنذر عشيرتك الاقربين) [ الشعراء: 214 ] وقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين) [ الحشر: 7 ] الآية.
فأعلمهم عزوجل فصلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفئ والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا، وتفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت السبائية (1) الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم.
أيها الناس بنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم (2) بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وأتم النقيصة وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دنياهم، وإخوانا على سرر متقابلين في أخراهم، فتح الله علينا ذلك منة ومنحة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه إليه قام بذلك الامر بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الامم فعدلوا فيها،
__________
(1) عن الطبري وابن الاثير.
وفي الاصل السبابية تحريف.
والسبئية زعمت بأن عليا صار إلها بحلول روح الاله فيه، وهي من جملة الفرق الحلولية وغرضها القصد إلى افساد القول بتوحيد الصانع (الفرق بين الفرق ص 193 - 194).
(2) من الطبري وابن الاثير.
وفي الاصل ونصرهم وهو تحريف.

ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها.
ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها لانفسهم، وتداولوها.
فجاروا فيها واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا (فلما آسفونا انتقمنا منهم) فانتزع منهم ما بأيديهم بأيدينا، ورد الله علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وتولى أمرنا والقيام بنصرنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الارض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لارجو [ أن ] لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح الهائج (1) والثائر المبير.
وكان به وعك فاشتد عليه حتى جلس على المنبر ونهض عمه داود فقال: الحمد لله شكرا الذي أهلك عدونا وأصار إلينا ميراثنا من بيتنا (2).
أيها الناس: الآن انقشعت حنادس الظلمات وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، فطلعت شمس الخلافة من مطلعها، ورجع الحق إلى نصابه، إلى أهل نبيكم أهل الرأفة والرحمة والعطف عليكم، أيها الناس إنا والله ما خرجنا لهذا الامر لنكنز لجينا ولا عقيانا ولا لنحفر نهرا ولا لنبني قصرا ولا لنجمع ذهبا ولا فضة، وإنما أخرجتنا الانفة من انتزاع حقنا والغضب لبني عمنا، ولسوء سيرة بني أمية فيكم، واستذلالهم لكم، واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله، تبا تبا لبني أمية وبني مروان، آثروا العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام وظلموا الانام، وارتكبوا المحارم وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد التي بها استلذوا تسربل الاوزار، وتجلبب الآصار، ومرحوا في أعنة
المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلا منهم باستدراج الله، وعميا عن أخذ الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث ومزقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الضالمين.
وأدان الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، أرسل عدو الله في عنانه حتى عثر جواده في فضل خطامه، أظن عدو الله أن لن يقدر عليه أحد ؟ فنادى حزبه وجمع جنده ورمى بكتائبه فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وأحل دائرة السوء به، وأحاط به خطيئته، ورد إلينا حقنا وآوانا.
أيها الناس ! إن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا، إنما غاد إلى المنبر بعد صلاة الجمعة لانه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فادعوا الله لامير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن، وخليفة الشيطان، المتبع للسفلة الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون المتوكل على الله المقتدي بالابرار الاخيار الذين أصلحوا الارض بعد فسادها بمعالم الهدى، ومناهج التقى.
قال فعج الناس له
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: المبيح.
(2) في الطبري وابن الاثير: نبينا (صلى الله عليه وسلم).

بالدعاء ثم قال: واعلموا يا أهل الكوفة أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا - وأشار بيده إلى السفاح - واعلموا أن هذا الامر فينا ليس بخارج عنا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا.
ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر.
ثم دخل الناس يبايعون إلى العصر، ثم من بعد العصر إلى الليل.
ثم إن أبا العباس خرج فعسكر بظاهر الكوفة (1) واستخلف عليها عمه داود، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة.
وهو يومئذ بواسط يحاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن [ جعفر بن ] تمام بن العباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام
بالاهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف (2).
وأقام هو بالعكسر أشهرا، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية في قصر الامارة، وقد تنكر لابي سلمة الخلال، وذلك لما كان بلغه عنه من العدول بالخلافة عن ابن العباس إلى آل علي بن أبي طالب والله سبحانه وتعالى أعلم.
مقتل مروان بن محمد بن مروان آخر خلفاء بني امية، وتحول الخلافة إلى بني العباس مأخوذ من قوله تعالى: (والله يؤتى ملكه من يشاء) [ البقرة: 246 ] وقوله (قل اللهم مالك الملك) الآية [ آل عمران: 26 ].
وقد ذكرنا أن مروان لما بلغه خبر أبي مسلم وأتباعه وما جرى بأرض خراسان، تحول من حران فنزل على نهر قريب من الموصل، يقال له الزاب من أرض الجزيرة ثم لما بلغه أن السفاح قد بويع له بالكوفة والتفت عليه الجنود، واجتمع له أمره، شق عليه جدا، وجمع جنوده فتقدم إليه أبو عون بن أبي يزيد (3) في جيش كثيف وهو أحد أمراء السفاح، فنازله على الزاب وجاءته الامداد من جهة السفاح، ثم ندب السفاح الناس ممن يلي القتال من أهل بيته، فانتدب له عبد الله بن علي فقال: سر على بركة الله، فسار في جنود كثيرة فقدم على أبي عون فتحول له أبو عون عن سرادقه وخلاه له وما فيه، وجعل عبد الله بن علي على شرطته حياش بن حبيب الطائي، ونصير بن المحتفز، ووجه أبو العباس موسى بن كعب في ثلاثين رجلا على البريد إلى عبد الله بن علي يحثه على مناجزة مروان، والمبادرة إلى قتاله ونزاله قبل أن تحدث أمور، وتبرد نيران الحرب.
فتقدم عبد الله بن علي بجنوده حتى واجه جيش مروان، ونهض مروان في
__________
(1) في الطبري 9 / 129 وابن الاثير 5 / 416: بحمام أعين.
(2) في الطبري: طريف.
(3) في الطبري: أبو عون عبد الملك بن يزيد الازدي (انظر بن الاثير 5 / 417 وابن الاعثم 8 / 182 ومروج الذهب 3 / 310).

جنوده وتصاف الفريقان في أول النهار، ويقال إنه كان مع مروان يومئذ مائة ألف وخمسون ألفا، ويقال مائة وعشرون ألفا، وكان عبد الله بن علي في عشرين ألفا.
فقال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد
العزيز: إن زالت الشمس يومئذ ولم يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم أرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله، وكان ذلك يوم السبت لاحدى عشر ليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة، فقال مروان: قفوا لا تبتدئون بقتال، وجعل ينظر إلى الشمس فخالفه الوليد بن معاوية بن مروان - وهو ختن مروان على ابنته - فحمل، فغضب مروان فشتمه فقاتل أهل الميمنة فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقاتل موسى بن كعب لعبد الله بن علي، فأمر الناس فنزلوا ونودي الارض الارض، فنزلوا وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب وقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخرون كأنما يدفعون، وجعل عبد الله يمشي قدما، وجعل يقول: يا رب حتى متى نقتل فيك، ونادى: يا أهل خراسان، يا شارات إبراهيم الامام، يا محمد يا منصور، واشتد القتال جدا بين الناس، فلا تسمع إلا وقعا كالمرازب على النحاس، فأرسل مروان إلى قضاعة يأمرهم بالنزول فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، وأرسل إلى السكاسك أن احملوا فقالوا: قل لبني عامر أن يحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا فقالوا: قل إلى غطفان فليحملوا.
فقال لصاحب شرطته: انزل فقال لا والله لا أجعل نفسي غرضا.
قال: أما والله لاسوءنك.
قال: وددت والله لو قدرت على ذلك.
ويقال: إنه قال ذلك لابن هبيرة.
قالوا: ثم انهزم أهل الشام واتبعتهم أهل خراسان في أدبارهم يقتلون ويأسرون، وكان من غرق من أهل الشام أكثر ممن قتل وكان في جملة من غرق إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع (1)، وقد أمر عبد الله بن علي بعقد الجسر، واستخراج من غرق في الماء، وجعل يتلو قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) [ البقرة: 50 ] وأقام عبد الله بن علي في موضع المعركة سبعة أيام، وقد قال رجل من ولد سعيد بن العاص في مروان وفراره يومئذ: لج الفرار بمروان فقلت له * عاد الظلوم ظليما همه الهرب أين الفرار وترك الملك إذ (2) ذهبت * عنك الهوينا فلا دين ولا حسب
فراشه الحلم فرعون العقاب وإن * تطلب نداه فكلب دونه كلب واحتاز عبد الله ما في معسكر مروان من الاموال والامتعة والحواصل، ولم يجد فيه امرأة سوى
__________
(1) 1) في مروج الذهب 3 / 297: غرق من بني أمية ثلثمائة رجل.
(1) في ابن الاعثم 8 / 184: إن.
(2)

جارية كانت لعبد الله بن مروان، وكتب إلى أبي العباس السفاح بما فتح الله عليه من النصر، وما حصل لهم من الاموال.
فصلى السفاح ركعتين شكرا لله عز وجل، وأطلق لكل من حضر الوقعة خمسمائة خمسمائة، ورفع في أرزاقهم إلى ثمانين، وجعل يتلو قوله (فلما فصل طالوت بالجنود) الآية [ البقرة: 249 ].
صفة مقتل مروان لما انهزم مروان سار لا يلوي على أحد، فأقام عبد الله بن علي في مقام المعركة سبعة أيام، ثم سار خلفه بمن معه من الجنود، وذلك عن أمر السفاح له بذلك، فلما مر مروان بحران اجتازها وأخرج أبا محمد السفياني من سجنه، واستخلف عليها أبان بن يزيد - وهو ابن أخته (1)، وزوج ابنته أم عثمان - فلما قدم عبد الله على حران خرج إليه أبان بن يزيد مسودا فأمنه عبد الله بن علي وأقره على عمله، وهدم الدار التي سجن فيها إبراهيم الامام، واجتاز مروان قنسرين قاصدا حمص، فلما جاءها خرج إليه أهلها بالاسواق والمعايش، فأقام بها يومين أو ثلاثة ثم شخص منها، فلما رأى أهل حمص قلة من معه اتبعوه ليقتلوه ونهبوا ما معه، وقالوا: مرعوب مهزوم، فأدركوه بواد عند حمص فأكمن لهم أميرين، فلما تلاحقوا بمروان عطف عليهم فناشدهم أن يرجعوا فأبوا إلا مقاتلته، فثار القتال بينهم وثار الكمينان من ورائهم، فانهزم الحمصيون، وجاء مروان إلى دمشق وعلى نيابتها من جهته زوج ابنته الوليد بن معاوية بن مروان، فتركه بها واجتاز عنها قاصدا إلى الديار المصرية، وجعل عبد الله بن علي لا يمر ببلد وقد سودوا فيبايعونه ويعطيهم الامان، ولما وصل إلى قنسرين وصل إليه أخوه عبد الصمد بن علي في
أربعة آلف، قد بعثهم السفاح مددا له، ثم سار عبد الله حتى أتى حمص، ثم سار منها إلى بعلبك، ثم منها حتى أتى دمشق من ناحية المزة فنزل بها يومين أو ثلاثة، ثم وصل إليه أخوه صالح بن علي في ثمانية آلاف مددا من السفاح، فنزل صالح بمرج عذراء، ولما جاء عبد الله بن علي دمشق نزل على الباب الشرقي، ونزل صالح أخوه على باب الجابية، ونزل أبو عون على باب كيسان، ونزل بسام على الباب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، فحاصرها أياما ثم افتتحها يوم الاربعاء لعشر خلون من رمضان هذه السنة، فقتل من أهلها خلقا كثيرا وأباحها ثلاث ساعات، وهدم سورها، ويقال إن أهل دمشق لما حاصرهم عبد الله اختلفوا فيما بينهم، ما بين عباسي وأموي، فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضا، وقتلوا نائبهم ثم سلموا البلد وكان أول من صعد السور من ناحية الباب الشرقي رجل يقال له عبد الله الطائي، ومن ناحية الباب الصغير بسام بن إبراهيم، ثم أبيحت دمشق ثلاث ساعات حتى قيل إنه قتل بها في هذه المدة نحوا من خمسين ألفا.
__________
(1) هو إبان بن يزيد بن محمد بن مروان ابن اخ مروان (انظر الطبري - ابن الاثير).

وذكر ابن عساكر في ترجمة عبيد بن الحسن الاعرج من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان أميرا على خمسة آلاف، مع عبد الله بن علي في حصار دمشق، أنهم أقاموا محاصريها خمسة أشهر، وقيل مائة يوم، وقيل شهرا ونصفا، وأن البلد كان قد حصنه نائب مروان تحصينا عظيما، ولكن اختلف أهلها فيما بينهم بسبب اليمانية والمضرية، وكان ذلك سبب الفتح، حتى أنهم جعلوا في كل مسجد محرابين للقبلتين حتى في المسجد الجامع منبرين، وإمامين يخطبان يوم الجمعة على المنبرين، وهذا من عجيب ما وقع، وغريب ما اتفق، وفظيع ما أحدث بسبب الفتنة والهوى والعصبية، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد بسط ذلك ابن عساكر في هذه الترجمة المذكورة، وذكر في ترجمة محمد بن سليمان بن عبد الله النوفلي قال: كنت مع عبد الله بن علي أول ما دخل دمشق، دخلها بالسيف، وأباح القتل فيها ثلاث ساعات، وجعل جامعها سبعين يوما اسطبلا لدوابه وجماله، ثم نبش قبور بني أمية فلم يجد في
قبر معاوية إلا خيطا أسود مثل الهباء، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجد جمجمة، وكان يجد في القبر العضو بعد العضو، إلا هشام بن عبد الملك فإنه وجده صحيحا لم يبل منه غير أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وهو ميت وصلبه أياما ثم أحرقه ودق رماده ثم ذره في الريح، وذلك أن هشاما كان قد ضرب أخاه محمد بن علي، حين كان قد اتهم بقتل ولد له صغير، سبعمائة سوط، ثم نفاه إلى الحميمة بالبلقاء.
قال: ثم تتبع عبد الله بن علي بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فقتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين ألفا عند نهر بالرملة، وبسط عليهم الانطاع ومد عليهم سماطا فأكل وهم يختلجون تحته، وهذا من الجبروت والظلم الذي يجازيه الله عليه، وقد مضى ولم يدم له ما أراده ورجاه، كما سيأتي في ترجمته.
وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك وهي عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية صاحبة الخال، مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية حاشرة عن وجهها وجسدها عن ثيابها ثم قتلوها.
ثم أحرق ما وجده من عظم ميت منهم.
وأقام بها عبد الله خمسة عشر يوما.
وقد استدعى بالاوزاعي فأوقف بين يديه فقال له: يا أبا عمرو ما تقول في هذا الذي صنعناه ؟ قال فقلت له: لا أدري، غير أنه قد حدثني يحيى بن سعيد الانصاري عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات " فذكر الحديث.
قال الاوزاعي: وانتظرت رأسي أن يسقط بين رجلي ثم أخرجت، وبعث إلي بمائة دينار.
ثم سار وراء مروان فنزل على نهر الكسوة ووجه يحيى بن جعفر الهاشمي نائبا على دمشق، ثم سار فنزل مرج الروم، ثم أتى نهر أبي فطرس فوجد مروان قد هرب فدخل مصر، وجاءه كتاب السفاح: ابعث صالح بن علي في طلب مروان وأقم أنت بالشام نائبا عليها، فسار صالح يطلب مروان في ذي القعدة من هذه السنة، معه أبو عمر وعامر بن إسماعيل، فنزل على ساحل البحر وجمع ما هناك من السفن وبلغه أن مروان قد نزل الفرما، وقيل الفيوم، فجعل يسير على الساحل والسفن تقاد معه في البحر حتى أتى العريش، ثم سار حتى نزل على النيل ثم سار إلى الصعيد، فعبر مروان النيل وقطع الجسر

وحرق ما حوله من العلف والطعام، ومضى صالح في طلبه.
فالتقى بخيل لمروان فهزمهم، ثم جعل
كلما التقوا مع خيل لمروان يهزمونهم حتى سألوا بعض من أسروا عن مروان فدلهم عليه، وإذا به في كنيسة أبو صير، فوافوه من آخر الليل فانهزم من معه من الجند وخرج إليهم مروان في نفر يسر معه فأحاطوا به حتى قتلوه، طعنه رجل من أهل البصرة يقال له معود (1)، ولا يعرفه حتى قال رجل صرع أمير المؤمنين، فابتدره رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه، فبعث به عامر بن إسماعيل أمير هذه السرية إلى أبي عون، فبعث به أبو عون إلى صالح بن علي، فبعث به صالح مع رجل يقال له خزيمة بن يزيد بن هانئ كان على شرطته، لامير المؤمنين السفاح.
وكان مقتل مروان يوم الاحد لثلاث بقين من ذي الحجة، وقيل يوم الخميس لست مضين منها سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام على المشهور، واختلفوا في سنه فقيل أربعون سنة، وقيل ست وقيل ثمان وخمسون سنة، وقيل ستون وقيل اثنتان وقيل ثلاث وقيل تسع وستون سنة، وقيل ثمانون فالله أعلم.
ثم إن صالح بن علي سار إلى الشام واستخلف على مصر أبا عون بن أبي يزيد والله سبحانه أعلم.
وهذا شئ من ترجمة مروان الحمار وهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، القرشي الاموي، أبو عبد الملك أمير المؤمنين آخر خلفاء بني أمية، وأمه أمة كردية يقال لها لبابة (2)، وكانت لابراهيم بن الاشتر النخعي، أخذها محمد بن مروان يوم قتله فاستولدها مروان هذا، ويقال إنها كانت أولا لمصعب بن الزبير، وقد كانت دار مروان هذا في سوق الاكافين، قاله ابن عساكر.
بويع له بالخلافة بعد قتل الوليد بن يزيد، وبعد موت يزيد بن الوليد، ثم قدم دمشق وخلع إبراهيم بن الوليد، واستمر له الامر في نصف صفر سنة سبع وعشرين ومائة.
وقال أبو معشر: بويع له بالخلافة في ربيع الاول سنة تسع وعشرين ومائة، وكان يقال له مروان الجعدي، نسبة إلى رأي الجعد بن درهم، وتلقب بالحمار (3)، وهو آخر من ملك من بني أمية، وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وقيل خمس سنين وشهرا، وبقي بعد أن بويع للسفاح تسعة أشهر، وكان أبيض مشربا حمرة، أزرق العينين، كبير
__________
(1) في الطبري 9 / 136: المغود، وفي ابن الاعثم 8 / 188 قتله محمد بن شهاب المازني وفي الاخبار الطوال ص 367: قتله عامر بن إسماعيل.
(2) في مروج الذهب 3 / 282: ريا وقيل طرونة.
(3) قيل لقب بالحمار لثباته في الحرب (فوات الوفيات 4 / 128).

اللحية، ضخم الهامة، ربعة، ولم يكن يخضب.
ولاه هشام نيابة أذربيجان وأرمينية والجزيرة، في سنة أربع عشرة ومائة، ففتح بلادا كثيرة وحصونا متعددة في سنين كثيرة، وكان لا يفارق الغزو في سبيل الله، وقاتل طوائف من الناس الكفار ومن الترك والخزر واللان وغيرهم، فكسرهم وقهرهم، وقد كان شجاعا بطلا مقداما حازم الرأي، لولا أن جنده خذلوه بتقدير الله عز وجل لما له في ذلك من حكمة سلب الخلافة لشجاعته وصرامته.
ولكن من يخذل الله يخذل، ومن يهن الله فماله من مكرم.
قال الزبير بن بكار: عن عمه مصعب بن عبد الله: كان بنو أمية يرون أنه تذهب منهم الخلافة إذا وليها من أمه أمة، فلما وليها مروان هذا أخذت منهم في سنه ثنتين وثلاثين ومائة.
وقد قال الحافظ ابن عساكر: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الحسين، أخبرنا سهل بن بشر، أنبأ الخليل بن هبة الله بن الخليل، أنبأ عبد الوهاب الكلابي: حدثنا أبو الجهم أحمد بن الحسين، أنبأ العباس بن الوليد بن صبح، ثنا عباس بن يحيى أبو الحارث، حدثني الهيثم بن حميد، حدثني راشد بن داود، عن أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال الخلافة في بني أمية يتلقفونها تلقف الغلمان الكرة، فإذا خرجت من أيديهم فلا خير في عيش ".
هكذا أورده ابن عساكر وهو منكر جدا، وقد سأل الرشيد أبا بكر بن عياش: من خير الخلفاء نحن أو بنو أمية ؟ فقال: هم كانوا أنفع للناس، وأنتم أقوم للصلاة، فأعطاه ستة آلاف.
قالوا وقد كان مروان هذا كثير المروءة كثير العجب، يعجبه اللهو والطرب، ولكنه كان يشتغل عن ذلك بالحرب.
قال ابن عساكر: قرأت بخط أبي الحسين علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن الامير في مجموع له: كتب مروان بن محمد إلى جارية له تركها بالرملة عند ذهابه إلى مصر منهزما:
وما زال يدعوني إلى الصبر ما أرى * فآبى ويدنيني الذي لك في صدري وكان عزيزا أن تبيتي وبيننا * حجاب فقد أمسيت مني على عشر وأنكاهما والله للقلب فاعلمي * إذا زدت مثليها فصرت على شهر وأعظم من هذين والله أنني * أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر سأبكيك لا مستبقيا فيض عبرة * ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر وقال بعضهم: اجتاز مروان وهو هارب براهب فاطلع عليه الراهب فسلم عليه فقال له: يا راهب هل عندك علم بالزمان ؟ قال: نعم ! عندي من تلونه ألوان.
قال: هل تبلغ الدنيا من الانسان أن تجعله مملوكا بعد أن كان مالكا ؟ قال: نعم ! قال: فكيف ؟ قال: بحبه لها وحرصه على نيل شهواتها وتضييع الحزم وترك انتهاز الفرص.
فإن كنت تحبها فإن عبدها من أحبها، قال: فما السبيل إلى العتق ؟ قال: ببغضها والتجافي عنها.
قال: هذا ما لا يكون.
قال الراهب: أما إنه سيكون، فبادر بالهرب منها قبل أن تسلبها.
قال: هل تعرفني ؟ قال: نعم ! أنت ملك العرب مروان، تقتل في بلاد السودان:

وتدفن بلا أكفان، فلولا أن الموت في طلبك لدللتك على موضع هربك.
قال بعض الناس: كان يقال في ذلك الزمان يقتل ع بن ع بن ع م بن م بن م يعنون يقتل عبد الله بن علي بن عباس مروان بن محمد بن مروان.
وقال بعضهم: جلس مروان يوما وقد أحيط به وعلى رأسه خادم له قائم، فقال مروان لبعض من يخاطبه: ألا ترى ما نحن فيه ؟ لهفي على أيد ما ذكرت، ونعم ما شكرت، ودولة ما نصرت.
فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخر فعل اليوم لغد، حل به أكثر من هذا.
فقال مروان: هذا القول أشد علي من فقد الخلافة.
وقد قيل إن مروان قتل يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وقد جاوز الستين وبلغ الثمانين.
وقيل إنما عاش أربعين سنة.
والصحيح الاول.
وهو آخر خلفاء بني أمية به انقضت دولتهم.
ما ورد في انقضاء دولة بني أمية وابتداء بني العباس من الاخبار النبوية قال العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ بنو العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله دغلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا " (1).
ورواه الاعمش عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا بنحوه، وروى ابن لهيعة عن أبي قبيل عن ابن وهب أنه كان عند معاوية فدخل عليه مروان بن الحكم فتكلم في حاجة فقال: اقض حاجتي فإني لابو عشرة، وأخو عشرة وعم عشرة.
فلما أدبر مروان قال معاوية لابن عباس وهو معه على السرير: أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا بلغوا سبعة وتسعين (2) وأربعمائة، كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة ".
فقال ابن عباس: اللهم نعم ؟ فلما أدبر مروان قال معاوية: أنشدك بالله يا بن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال: " أبو الجبابرة الاربعة ".
فقال ابن عباس: اللهم نعم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا القاسم بن الفضل ثنا يوسف بن مازن الراسبي قال: قام رجل إلى الحسين بن علي فقال: يا مسود وجوه المؤمنين ! فقال الحسين: لا تؤنبني رحمك الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت (إنا أعطيناك الكوثر) [ الكوثر: 1 ] وهو نهر في الجنة، ونزلت (إنا أنزلناه في ليلة القدر) السورة إلى قوله: (خير من ألف شهر) [ القدر: 1 - 3 ] مملكة بني أمية.
قال: فحسبنا ذلك
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 507.
(2) في دلائل البيهقي 6 / 508: تسعة.

فإذا هو كما قال لا يزيد ولا ينقص (1).
وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي داود الطيالسي ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة وثقه يحيى القطان وابن مهدي.
قال: وشيخه يوسف بن سعد ويقال يوسف بن مازن، رجل مجهول، ولا يعرف هذا بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه.
وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث القاسم بن الفضل الحداني، وقد تكلمت
على نكارة هذا الحديث في التفسير بكلام مبسوط، وإنما يكون متجها إذا قيل إن دولتهم ألف شهر بأن نسقط منها أيام ابن الزبير، وذلك أن معاوية بويع به مستقلا بالملك في سنة أربعين، وهي عام الجماعة حين سلم إليه الحسن بن علي الامر بعد ستة أشهر من قتل علي، ثم زالت الخلافة عن بني أمية في هذه السنة، وهي سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وذلك ثنتان وتسعون سنة، وإذا أسقط منها تسع سنين خلافة ابن الزبير بقي ثلاث وثمانون سنة، وهي مباينة لما ورد في هذا الحديث، ولكن ليس هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه فسر هذه الآية بهذا العدد، وإنما هذا من قول بعض الرواة، وقد تكلمنا على ذلك مطولا في التفسير، وتقدم في الدلائل أيضا تقريره والله أعلم.
وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوري، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزلت: إنا أنزلناه في ليلة القدر " فيه ضعف وإرسال.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا يحيى بن معين، ثنا عبد الله بن نمير، عن سفيان الثوري، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب في قوله (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) [ الاسراء: 60 ] قال: رأى ناسا من بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فقيل له: إنما هي دنيا يعطونها وتضمحل عن قليل فسرى عنه (2).
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم رأى فلانا وهو من بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس فشق ذلك عليه فأنزل الله (وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) [ الانبياء: 111 ] وقال مالك بن دينار: سمعت أبا الجوزاء يقول والله ليعزن الله ملك بني أمية كما أعز ملك من كان قبلهم، ثم ليذلن ملكهم كما أذل ملك من كان قبلهم، ثم تلا قوله تعالى: (وتلك الايام نداولها بين الناس) [ آل عمران: 140 ].
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن سعيد، ثنا أبو أسامة، ثنا عمر بن حمزة، أخبرني عمر بن سيف مولى لعثمان بن عفان قال: سمعت سعيد بن المسيب وهو يقول لابي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة - وذكروا بني أمية - فقال: لا يكون هلاكهم إلا بينهم.
قالوا كيف ؟
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 510 والترمذي في التفسير.
باب تفسير سورة القدر ح (3350) ص (5 / 444 - 445)، ورواه الحاكم في مستدركه وابن جرير الطبري كلهم من حديث القاسم بن الفضل،
وفي الحديث: قام رجل إلى الحسن، وليس الحسين وكان ذلك بعد صلحه مع معاوية، فلعل اقحام اسم الحسين في الحديث سهو من الناسخ.
(2) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 509.

وتنكسر ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبد وتحصن منه حميد في بعض الحصون ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه وقبلها ملبد وتقلع عنه.
وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس قاله الواقدي.
وكان نائب الموصل - يعني عم المنصور - وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن عبد الله (1).
ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره.
ومن مشاهير من توفي فيها أبو مسلم الخراساني كما تقدم، ويزيد بن أبي زياد أحد من تكلم فيه كما ذكرناه في التكميل، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة فيها دخل قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة فهدم سورها وعفا عمن قدر عليه من مقاتليها.
وفيها غزا الصائفة صالح بن علي نائب مصر، فبنى ما كان هدم ملك الروم من سور ملطية، وأطلق لاخيه عيسى بن علي أربعين ألف دينار، وكذلك أعطى لابن أخيه العباس بن محمد بن علي أربعين ألف دينار.
وفيها بايع عبد الله بن علي الذي كسره أبو مسلم وانهزم إلى البصرة واستجار بأخيه سليمان بن علي، حتى بايع للخليفة في هذه السنة ورجع إلى طاعته.
ولكن حبس في سجن بغداد كما سيأتي.
وفيها خلع جهور بن مرار العجلي الخليفة المنصور بعدما كسر سنباذ (2) واستحوذ على حواصله وعلى أموال أبي مسلم، فقويت نفسه بذلك وظن أنه لا يقدر عليه بعد، فأرسل إليه الخليفة محمد بن الاشعث الخزاعي في جيش كثيف فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم جهور وقتل عامة من معه، وأخذ ما كان معه من الاموال والحواصل والذخائر، ثم لحقوه فقتلوه.
وفيها قتل الملبد الخارجي على يدي خازم بن
خزيمة في ثمانية آلاف، وقتل من أصحاب الملبد ما يزيد على ألف وانهزم بقيتهم.
قال الواقدي: وحج بالناس فيها الفضل بن علي، والنواب فيها هم المذكورون بالتي قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان زيد بن واقد، والعلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم في قول.
وفيها كانت خلافة (3) الداخل من بني أمية إلى بلاد الاندلس وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الهاشمي.
قلت: ليس هو بهاشمي إنما هو من بني أمية ويسمى أمويا،
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: زياد على المدينة، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد ومات خلال الموسم فضم اسماعيل عمله إلى زياد.
(2) في مروج الذهب 3 / 360: بسنفاد.
(3) في الطبري 9 / 171: روى خبر خلافته في حوادث سنة 139.

عن أبي معاوية، عن الاعمش عن عطية، عن أبي سعيد.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن، يقال له السفاح، يعطي المال حثيا " (1).
وقال عبد الرزاق: حدثنا الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقتتل عند حرتكم هذه ثلاثة كلهم ولد خليفة لا تصير إلا واحد منهم، ثم تقبل الرايات من خراسان فيقتلونكم مقتلة لم ير مثلها.
ثم ذكر شيئا فإذا كان كذلك فأتوه ولو حبوا على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي " (2).
ورواه بعضهم عن ثوبان فوقفه وهو أشبه والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثني يحيى بن غيلان وقتيبة بن سعيد قالا: ثنا راشد بن سعد، حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب عن قبيصة هو ابن ذؤيب، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يخرج من خراسان رايات سود لا يردها شئ حتى تنصب بايليا " (3).
وقد رواه البيهقي في الدلائل من حديث راشد بن سعد المصري، وهو ضعيف.
ثم قال: قد روي قريبا من هذا عن كعب الاحبار وهو أشبه.
ثم رواه عن كعب أيضا قال: " تظهر رايات سود لبني العباس حتى ينزلوا الشام، ويقتل الله على أيديهم كل جبار وعدو لهم ".
وروى إبراهيم بن الحسين، عن ابن أبي أويس، عن ابن أبي ذؤيب،
عن محمد بن عبد الرحمن العامري، عن سهل (4) عن أبيه، عن أبي هريرة.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: " فيكم النبوة وفيكم المملكة ".
وروى عبد الله بن أحمد: عن ابن معين، عن عبيد بن أبي قرة، عن الليث، عن أبي قبيل، عن أبي ميسرة مولى العباس قال سمعت العباس يقول: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: " انظر هل ترى في السماء من شئ ؟ قلت: نعم ! قال: ما ترى ؟ قلت: الثريا، قال: أما إنه سيملك هذه الامة بعددها من صلبك ".
قال البخاري: عبيد بن أبي قرة لا يتابع على حديثه.
وروى ابن عدي من طريق سويد بن سعيد، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: " مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل وأنا أظنه دحية الكلبي، فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لوسخ الثياب، وسيلبس ولده من بعده السواد " (5).
وهذا منكر من هذا
__________
(1) المصدر السابق.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه 2 / 1367 وفيه: الرايات السود.
والحديث في اسناده أبي قلابة الرقاشي الضرير واسمه عبد اللك بن محمد بن عبد الله الرقاشي كان يحدث من حفظه فكثرت الاوهام في حديثه.
وقال الدار قطني: صدوق (التهذيب 6 / 419).
(3) أخرجه أحمد في مسنده 2 / 365.
والترمذي في الفتن 4 / 531 وفيه رشدين بن سعد المهري المصري قالوا فيه: ليس بشئ (قاله ابن معين) وقال أبو زرعة: ضعيف.
وقال النسائي: متروك وقال ابن حبان: يقلب المناكير في أخباره على مستقيم حديثه.
وانظر دلائل النبوة للبيهقي ج 6 / 516 - 517.
(4) في البيهقي: سهيل وهو سهيل بن أبي صالح.
(5) دلائل البيهقي 6 / 518.

الوجه، ولا شك أن بني العباس كان السواد من شعارهم، أخذوا ذلك من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء، فأخذوا بذلك وجعلوه شعارهم في الاعياد والجمع والمحافل.
وكذلك كان جندهم لا بد أن يكون على أحدهم شئ من السواد، ومن ذلك الشربوش الذي يلبسه
الامراء إذا خلع عليهم.
وكذلك دخل عبد الله بن علي دمشق يوم دخلها وعليه السواد، فجعل النساء والغلمان يعجبون من لباسه، وكان دخوله من باب كيسان.
وقد خطب الناس يوم الجمعة وصلى بهم وعليه السواد.
وقد روى ابن عساكر عن بعض الخراسانية قال: لما صلى عبد الله بن علي بالناس يوم الجمعة صلى إلى جانبي رجل فقال: الله أكبر، سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، انظروا إلى عبد الله بن علي ما أقبح وجهه وأشنع سواده ؟ ! وشعارهم إلى يومك هذا كما تراه على الخطباء يوم الجمعة والاعياد.
استقرار أبي العباس السفاح واستقلاله بالخلافة وما اعتمده في أيامه من السيرة الحسنة قد تقدم أنه أول ما بويع به بالخلافة بالكوفة يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الآخر، وقيل الاول من هذه السنة، سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ثم جرد الجيوش إلى مروان فطردوه عن المملكة وأجلوه عنها، وما زالوا خلفه حتى قتلوه ببوصير من بلاد الصعيد، بأرض مصر، في العشر الاخير من ذي الحجة من هذه السنة على ما تقدم بيانه، وحينئذ استقل السفاح بالخلافة واستقرت يده على بلاد العراق وخراسان والحجاز والشام والديار المصرية، خلا بلاد الاندلس، فإنه لم يحكم عليها ولا وصل سلطانه إليها، وذلك أن بعض من دخلها من بني أمية استحوذ عليها وملكها كما سيأتي بيانه.
وقد خرج على السفاح في هذه السنة طوائف، فمنهم أهل قنسرين بعد ما بايعوه على يدي عمه عبد الله بن علي وأقر عليهم أميرهم مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي، وكان من أصحاب مروان وأمرائه، فخلع السفاح ولبس البياض، وحمل أهل البلد على ذلك فوافقوه، وكان السفاح يومئذ بالحيرة، وعبد الله بن علي مشغول بالبلقاء يقاتل بها حبيب بن مرة المزي ومن وافقه من أهل البلقاء والبثنية وحوران على خلع السفاح، فلما بلغه عن أهل قنسرين ما فعلوا صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين، فلما اجتاز بدمشق - وكان بها أهله وثقله - استخلف عليها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الكناني (1) في أربعة آلاف، فلما جاوز البلد وانتهى إلى حمص، نهض أهل دمشق مع رجل يقال له عثمان بن عبد الاعلى بن سراقة فخلعوا السفاح وبيضوا وقتلوا الامير أبا غانم وقتلوا جماعة من
أصحابه وانتهبوا ثقل عبد الله بن علي وحواصله، ولم يتعرضوا لاهله.
وتفاقم الامر على عبد الله وذلك
__________
(1) في الطبري 9 / 138 وابن الاثير 5 / 433: الطائي.

أن أهل قنسرين تراسلوا مع أهل حمص وتزمروا واجتمعوا على أبي محمد السفياني، وهو أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فبايعوه بالخلافة وقام معه نحو من أربعين ألفا فقصدهم عبد الله بن علي فالتقوا بمرج الاخرم، فاقتتلوا مع مقدمة السفياني وعليها أبو الورد فاقتتلوا قتالا شديدا وهزموا عبد الصمد وقتل من الفريقين ألوف، فتقدم إليهم عبد الله بن علي ومعه حميد بن قحطبة فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، وجعل أصحاب عبد الله يفرون وهو ثابت وهو حميد.
وما زال حتى هزم أصحاب أبي الورد، وثبت أبو الورد في خمسمائة فارس من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعا وهرب أبو محمد السفياني ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ورجعوا إلى الطاعة، ثم كر عبد الله راجعا إلى دمشق وقد بلغه ما صنعوا، فلما دنا منها تفرقوا عنها ولم يكن منهم قتال فأمنهم ودخلوا في الطاعة.
وأما أبو محمد السفياني فإنه ما زال مضيعا ومشتتا حتى لحق بأرض الحجاز فقاتله نائب أبي جعفر المنصور في أيام المنصور (1)، فقتله وبعث برأسه وبإبنين له أخذهما أسيرين فأطلقهما المنصور في أيامه.
وقد قيل إن وقعة السفياني يوم الثلاثاء آخر يوم من ذي الحجة سنة ثنتين وثلاثين ومائة فالله أعلم.
وممن خلع السفاح أيضا أهل الجزيرة حين بلغهم أن أهل قنسرين خلعوا، فوافقوهم وبيضوا وركبوا إلى نائب حران من جهة السفاح - وهو موسى بن كعب - وكان في ثلاثة آلاف قد اعتصم بالبلد، فحاصروه قريبا من شهرين، ثم بعث السفاح أخاه أبا جعفر المنصور فيمن كان بواسط محاصري ابن هبيرة، فمر في مسيرة إلى حران بقرقيسيا وقد بيضوا فغلقوا أبوابها دونه، ثم مر بالرقة وعليها بكار بن مسلم (2) وهم كذلك، ثم بحاجر وعليها إسحاق بن مسلم فيمن معه من أهل الجزيرة يحاصرونها فرحل إسحاق عنها إلى الرها، وخرج موسى بن كعب فيمن معه من جند حران فتلقاه المنصور ودخلوا في جيشه، وقدم بكار بن مسلم على أخيه إسحاق بن مسلم بالرها فوجهه إلى جماعة
ربيعة بدارا وماردين، ورئيسهم حروري يقال له بريكة، فصارا حزبا واحدا، فقصد إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل بريكة في المعركة، وهرب بكار إلى أخيه بالرها، فاستخلفه بها ومضى بمعظم العسكر [ حتى نزل ] سميساط وخندق على عسكره، وأقبل أبو جعفر فحاصر بكارا بالرها، وجرت له معه وقعات.
ر ؟ ب السفاح إلى عمه عبد الله بن علي أن يسير إلى سميساط وقد اجتمع على إسحاق بن مسلم ستون ألفا من أهل الجزيرة، فسار إليهم عبد الله واجتمع إليه أبو جعفر المنصور، فكاتبهم إسحاق وطلب منهم الامان فأجابوه إلى ذلك، على إذن أمير المؤمنين.
وولى السفاح أخاه أبا جعفر المنصور الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، فلم يزل عليها حتى أفضت إليه الخلافة بعد أخيه، ويقال
__________
(1) وهو زياد بن عبيد الله الحارثي.
(2) في ابن الاثير 5 / 435: سلم، ورد كذلك في الخبر.

إن إسحاق بن مسلم العقيلي إنما طلب الامان لما تحقق أن مروان قد قتل، وذلك بعد مضي سبعة أشهر وهو محاصر، وقد كان صاحبا لابي جعفر المنصور فآمنه.
وفي هذه السنة ذهب أبو جعفر المنصور عن أمر أخيه السفاح إلى أبي مسلم الخراساني وهو أميرها، ليستطلع رأيه في قتل أبي سلمة، لانه كان يريد أن يصرف الخلافة عنهم، فيسأله هل ذلك كان عن ممالاة أبي مسلم لابي سلمة في ذلك أم لا ؟ فسكت القوم، فقال السفاح: لئن كان هذا عن رأيه إنا لبعر (1) بلاء عظيم، إلا أن يدفعه الله عنا.
قال أبو جعفر: فقال لي أخي: ما ترى ؟ فقلت: الرأي رأيك.
فقال: إنه ليس أحد أخص بأبي مسلم منك، فاذهب إليه فاعلم لي علمه، فإن كان عن رأيه احتلنا له، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.
قال أبو جعفر: فخرجت إليه قاصدا على وجل.
قال المنصور: فلما وصلت إلى الري إذا كتاب أبي مسلم إلى نائبها يستحثني إليه في المسير، فازددت وجلا، فلما انتهيت إلى نيسابور إذا كتابه يستحثني أيضا وقال لنائبها: لا تدعه يقر ساعة واحدة.
فإن أرضك بها خوارج، فانشرحت لذلك فلما صرت من مرو على فرسخين، خرج يتلقاني ومعه الناس، فلما واجهني ترجل فقبل يدي، فأمرته فركب.
فلما دخلت مرو نزلت في داره فمكث ثلاثا لا يسألني في
أي شئ جئت، فلما كان في اليوم الرابع سألني ما أقدمك ؟ فأخبرته بالامر.
فقال: أفعلها أبو سلمة ؟ أنا أكفيكموه.
فدعا مرار بن أنس الضبي فقال: اذهب إلى الكوفة فحيث لقيت أبا سلمة فاقتله، وانته في ذلك إلى رأي الامام.
فقدم مرار الكوفة الهاشمية، وكان أبو سلمة يسمر عند السفاح، فلما خرج قتله مرار وشاع أن الخوارج قتلوه، وغلقت البلد.
ثم صلى عليه يحيى بن محمد بن علي أخو أمير المؤمنين، ودفن بالهاشمية، وكان يقال له وزير آل محمد.
ويقال لابي مسلم أمير آل محمد.
قال الشاعر (2).
إن الوزير وزير ال محمد * أودى فمن يشناك كان وزيرا ويقال إن أبا جعفر إنما سار إلى أبي مسلم بعد قتل أبي سلمة وكان معه ثلاثون رجلا على البريد، منهم الحجاج بن أرطاة، وإسحاق بن الفضل الهاشمي، وجماعة من السادات.
ولما رجع أبو جعفر من خراسان قال لاخيه: لست بخليفة ما دام أبو مسلم حيا حتى تقتله، لما رأى من طاعة العساكر له، فقال له السفاح: اكتمها فسكت.
ثم إن السفاح بعث أخاه أبا جعفر إلى قتال ابن هبيرة بواسط، فلما اجتاز بالحسن بن قحطبة أخذه معه، فلما أحيط بابن هبيرة كتب إلى محمد بن عبد الله بن حسن ليبايع له بالخلافة فأبطأ عليه جوابه، فمال إلى مصالحة أبي جعفر، فاستأذن أبو جعفر أخاه السفاح في ذلك فأذن
__________
(1) في الطبري 9 / 140: ليعرض، وفي ابن الاثير 5 / 437: لنعرفن.
(2) وهو سليمان بن المهاجر البجلي، وقبله في مروج الذهب: إن المساءة قد تسر وربما * كان السرور بما كرهت جديرا

له في المصالحة (1)، فكتب له أبو جعفر كتابا بالصلح (2)، فمكث ابن هبيرة يشاور فيه العلماء أربعين يوما.
ثم خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من البخارية، فلما دنا من سرادق أبي جعفر هم أن يدخل بفرسه فقال الحاجب سلام: انزل أبا خالد.
فنزل.
وكان حول السرادق عشرة آلاف من أهل خراسان، ثم أذن له في الدخول فقال: أنا ومن معي ؟ قال: لا بل أنت وحدك، فدخل ووضعت له وسادة فجلس عليها، فحادثه أبو جعفر ساعة ثم خرج من عنده فأتبعه أبو
جعفر بصره، ثم جعل يأتيه يوما بعد يوم في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل، فشكوا ذلك إلى أبي جعفر فقال أبو جعفر للحاجب: مره فليأت في حاشيته، فكان يأتي في ثلاثين نفسا، فقال الحاجب: كأنك تأتي متأهبا (3) ؟ فقال: لو أمرتموني بالمشي لمشيت إليكم، ثم كان يأتي في ثلاثة أنفس.
وقد خاطب ابن هبيرة يوما لابي جعفر فقال له في غبون كلامه: يا هناه - أو قال يا أيها المرء - ثم اعتذر إليه بأنه قد سبق لسانه إلى ذلك، فأعذره.
وقد كان السفاح كتب إلى أبي مسلم يستشيره في مصالحة ابن هبيرة فنهاه عن ذلك، وكان السفاح لا يقطع أمرا دونه، فلما وقع الصلح على يدي أبي جعفر لم يحب السفاح ذلك ولم يعجبه، وكتب إلى أبي جعفر يأمره بقتله، فراجعه أبو جعفر مرارا لا يفيده ذلك شيئا، حتى جاء كتاب السفاح أن اقتله لا محالة، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كيف يعطي الامان وينكث ؟ هذا فعل الجبابرة.
وأقسم عليه في ذلك.
فأرسل إليه أبو جعفر طائفة من الخراسانية فدخلوا عليه وعنده ابنه داود وفي حجره صبي صغير، وحوله مواليه وحاجبه، فدافع عنه ابنه حتى قتل وقتل خلق من مواليه، وخلصوا إليه، فألقى الصبي من حجره وخر ساجدا فقتل وهو ساجد، واضطرب الناس، فنادى أبو جعفر في الناس بالامان إلا (4) عبد الملك بن بشر وخالد بن سلمة المخزومي وعمر (5) بن ذر.
فسكن الناس ثم استؤمن لبعض هؤلاء وقتل بعضا.
وفي هذه السنة بعث أبو مسلم الخراساني محمد بن الاشعث إلى فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة الخلال فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك.
وفيها ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد الموصل وأعمالها، وولى عمه داود مكة والمدينة واليمن واليمامة، وعزله عن الكوفة وولى مكانه عليها عيسى بن موسى، وولى قضاءها ابن أبي ليلى، وكان على نيابة البصرة سفيان بن معاوية المهلبي، وعلى
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 373: فكتب أبو العباس - ردا على كتاب أبي جعفر - لا حكم لابن هبيرة عندي إلا السيف.
فكتم أبو جعفر الكتاب عن جميع الناس.
(2) نسخة كتاب الصلح في الامامة والسياسة 2 / 152.
(3) في الطبري 9 / 145: مباهيا.
(4) في الطبري وابن الاثير والاخبار الطوال: إلا الحكم بن عبد الملك بن بشر وفي الامامة والسياسة 2 / 157
الحكم بن عبد الله بن بشر.
(2) (5) الاخبار الطوال ص 357: محمد بن ذر.
وفي الامامة والسياسة: عمرو بن ذر ولم يذكر خالدا.

قضائها الحجاج بن أرطاة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الاشعث.
وعلى أرمينية وأذربيجان والجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى الشام وأعمالها عبد الله بن علي عم السفاح، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد.
وعلى خراسان وأعمالها أبو مسلم الخراساني، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
وحج بالناس فيها داود بن علي.
ذكر من توفي فيها من الاعيان مروان بن محمد بن مروان بن الحكم أبو عبد الملك الاموي، آخر خلفاء بني أمية، فقتل في العشر الاخير من ذي الحجة من هذه السنة كما تقدم ذلك مبسوطا، ووزيره عبد الحميد بن يحيى بن سعد مولى بني عامر بن لؤي، الكاتب البليغ الذي يضرب به المثل، فيقال وفتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد.
وكان إماما في الكتابة وجميع فنونها، وهو القدوة فيها.
وله رسائل في ألف ورقة، وأصله من قيسارية ثم سكن الشام، وتعلم هذا الشأن من سالم مولى هشام بن عبد الملك وكان يعقوب بن داود وزير المهدي يكتب بين يديه، وعليه تخرج، وكان ابنه إسماعيل بن عبد الحميد ماهرا في الكتابة أيضا، وقد كان أولا يعلم الصبيان ثم تقلبت به الاحوال أن صار وزيرا لمروان، وقتله السفاح ومثل به، وكان اللائق بمثله العفو عنه.
ومن مستجاد كلامه: العلم شجرة ثمرتها الالفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة.
ومن كلامه وقد رأى رجلا (1) يكتب خطا رديئا فقال: أطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها.
قال الرجل: ففعلت ذلك فجاد خطي.
وسأله رجل أن يكتب له كتابا إلى بعض الاكابر يوصيه به، فكتب إليه: حق موصل كتابي إليك كحقه علي إذ رآك موضعا لامله، ورآني أهلا لحاجته، وقد قضيت أنا حاجته فصدق أنت أمله.
وكان كثيرا ما ينشد هذا البيت: - إذا خرج الكتاب كان دويهم * قسيا وأقلام القسي لها نبلا وأبو سلمة حفص بن سليمان، هو أول من وزر لآل العباس، قتله أبو مسلم بالانبار عن أمر
السفاح، بعد ولايته بأربعة أشهر، في شهر رجب.
وكان ذا هيئة فاضلا حسن المفاكهة، وكان السفاح يأنس به ويحب مسامرته لطيب محاضرته، ولكن توهم ميله لآل علي فدس أبو مسلم عليه من قتله غيلة كما تقدم، فأنشد السفاح عند قتله: إلى النار فليذهب ومن كان مثله * على أي شئ فاتنا منه نأسف كان يقال له وزير آل محمد، ويعرف بالخلال، لسكناه بدرب الخلالين بالكوفة، وهو أول من سمي بالوزير وقد حكى ابن خلكان: عن ابن قتيبة أن اشتقاق الوزير من الوزر وهو الحمل، فكأن السلطان حمله أثقالا لاستناده إلى رأيه، كما يلجأ الخائف إلى جبل يعتصم به.
__________
(1) في هامش المطبوعة: هو ابراهيم بن جبلة.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة فيها ولى السفاح عمه سليمان البصرة وأعمالها، وكور دجلة والبحرين وعمان.
ووجه عمه إسماعيل بن علي إلى كور الاهواز.
وفيها قتل داود بن علي من بمكة والمدينة من بني أمية، وفيها توفي داود بن علي بالمدينة في شهر ربيع الاول، واستخلف ابنه موسى على عمله، وكانت ولايته على الحجاز ثلاثة أشهر، فلما بلغ السفاح موته استناب على الحجاز خاله زياد بن عبيد الله بن (1) عبد الدار الحارثي، وولى اليمن لابن خاله محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الدار (2)، وجعل إمرة الشام لعميه عبد الله وصالح بني علي، وأقر أبا عون على الديار المصرية نائبا.
وفيها توجه محمد بن الاشعث إلى إفريقية فقاتلهم قتالا شديدا حتى فتحها.
وفيها خرج شريك بن شيخ المهري ببخارى على أبي مسلم وقال: ما على هذا بايعنا آل محمد، على سفك والدماء وقتل الانفس ؟ واتبعه على ذلك نحو من ثلاثين ألفا، فبعث إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله فقتله.
وفيها عزل السفاح أخاه يحيى بن محمد عن الموصل، وولى عليه عمه إسماعيل.
وفيها ولى الصائفة من جهته صالح بن علي سعيد بن عبيد الله وغزا ما وراء الدروب.
وحج بالناس خال السفاح زياد بن عبيد الله بن عبد الدار (1) الحارثي.
ونواب البلاد هم الذين كانوا في التي قبلها سوى من ذكرنا
أنه عزل.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة فيها خلع بسام بن إبراهيم بن بسام الطاعة وخرج على السفاح، فبعث إليه خازم بن خزيمة فقاتله فقتل عامة أصحابه، واستباح عسكره.
ورجع فمر يملا من بني عبد الدار (3) أخوال السفاح فسألهم عن بعض ما فيه نصرة للخليفة، فلم يردوا عليه، واستهانوا به، وأمر بضرب أعناقهم - وكانوا قريبا من عشرين رجلا ومثلهم من مواليهم - فاستعدى بنو عبد الدار (4) على خازم بن خزيمة إلى السفاح، وقالوا: قتل هؤلاء بلا ذنب، فهم السفاح بقتله فأشار عليه بعض الامراء بأن لا يقتله ولكن ليبعثه مبعثا صعبا، فإن سلم فذاك، وإن قتل كان الذي أراد.
فبعثه إلى عمان وكان بها طائفة من الخوارج قد تمردوا وجهز معه سبعمائة رجل، وكتب إلى عمه سليمان بالبصرة أن يحملهم في السفن إلى
__________
(1) في الطبري 9 / 147: زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي، وفي ابن الاثير 5 / 448: زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي.
(2) في الطبري وابن الاثير: عبد المدان.
(3) في الطبري وابن الاثير: عبد المدان.
(4) انظر الحاشية السابقة.

عمان ففعل، فقاتل الخوارج فكسرهم وقهرهم واستحوذ على ما هنالك من البلاد، وقتل أمير الخوارج الصفرية وهو الجلندى، وقتل من أصحابه وأنصاره نحوا من عشرة آلاف، وبعث برؤوسهم إلى البصرة، فبعث بها نائب البصرة إلى الخليفة.
ثم بعد أشهر كتب إليه السفاح أن يرجع فرجع سالما غانما منصورا.
وفيها غزا أبو مسلم بلاد الصفد وغزا أبو داود (1) أحد نواب أبي مسلم بلاد كش، فقتل خلقا كثيرا وغنم من الاواني الصينية المنقوشة بالذهب شيئا كثيرا جدا.
وفيها بعث السفاح موسى بن كعب إلى منصور بن جمهور وهو بالهند في اثني عشر ألفا، فالتقاه موسى بن كعب وهو في ثلاثة آلاف فهزمه
واستباح عسكره.
وفيها مات عامل اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد الدار (2)، فاستخلف السفاح عليها عمه (3)، وهو خال الخليفة.
وفيها تحول السفاح من الحيرة إلى الانبار.
وحج بالناس نائب الكوفة عيسى بن موسى، ونواب الاقاليم هم هم.
وفيها توفي من الاعيان أبو هارون العبدي، وعمارة بن جوين، ويزيد بن يزيد بن جابر الدمشقي والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة فيها خرج زياد بن صالح من وراء نهر بلخ على أبي مسلم فأظفره الله بهم فبدد شملهم واستقر أمره بتلك النواحي.
وحج بالناس فيها سليمان بن علي نائب البصرة.
والنواب هم المذكورون قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان: يزيد بن سنان، وأبو عقيل زهرة بن معبد، وعطاء الخراساني.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة فيها قدم أبو مسلم من خراسان على السفاح، وذلك بعد استئذانه الخليفة في القدوم عليه، فكتب إليه أن يقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه: إني قد وترت الناس، وإني أخشى من قلة الخمسمائة.
فكبت إليه أن يقدم في ألف، فقدم في ثمانية آلاف، فرقهم وأخذ معه من الاموال والتحف والهدايا شيئا كثيرا.
ولما قدم لم يكن معه سوى ألف من الجند، فتلقاه القواد والامراء إلى مسافة بعيدة.
ولما دخل على السفاح أكرمه وعظمه واحترمه وأنزله قريبا منه، وكان يأتي إلى الخلافة كل يوم، واستأذن الخليفة في الحج فأذن له، وقال: لولا أني عينت الحج لاخي أبي جعفر لامرتك على الحج.
وكان الذي بين أبي جعفر وأبي مسلم خرابا (4) وكان يبغضه، وذلك لما رأى ما هو فيه من الحرمة
__________
(1) وهو خالد بن ابراهيم.
(2) انظر الحاشية 3 ص 61.
(3) علي بن الربيع بن عبد الله الحارثي.
(4) في الطبري وابن الاثير: متباعدا.

حين قدم عليه نيسابور في البيعة للسفاح وللمنصور بعده، فحار في أمره لذلك، فحقد عليه المنصور
وأشار على السفاح بقتله، فأمره بكتم ذلك.
وحين قدم أمره بقتله أيضا وحرضه على ذلك، فقال له السفاح: قد علمت بلاءه معنا وخدمته لنا فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين إنما ذلك بدولتنا، والله لو أرسلت سنورا لسمعوا لها وأطاعوا، وإنك إن لم تتعش به تغدى بك هو، فقال له: كيف السبيل إلى ذلك ؟ فقال: إذا دخل عليك فحادثه ثم أجئ أنا من ورائه فأضربه بالسيف.
قال: كيف بمن معه ؟ قال: هم أذل وأقل.
فأذن له في قتله، فلما دخل أبو مسلم على السفاح ندم على ما كان أذن لاخيه فيه، فبعث إليه الخادم يقول له: إن ذاك الذي بينك وبينه ندم عليه فلا تفعله.
فلما جاءه الخادم وجده محتبيا بالسيف قد تهيأ لما يريد من قتل أبي مسلم.
فلما نهاه عن ذلك غضب أبو جعفر غضبا شديدا.
وفيها حج بالناس أبو جعفر المنصور عن ولاية أخيه السفاح، وسار معه إلى الحجاز أبو مسلم الخراساني عن أمر الخليفة، وأذن له في الحج، فلما رجعا من الحج وكانا بذات عرق جاء الخبر إلى أبي جعفر - وكان يسير قبل أبي مسلم بمرحلة - بموت أخيه السفاح، فكتب إلى أبي مسلم أن قد حدث أمر فالعجل العجل، فلما استعلم أبو مسلم الخبر عجل السير وراءه، فلحقه إلى الكوفة.
وكانت بيعة المنصور على ما سيأتي بيانه وتفصيله قريبا والله سبحانه وتعالى أعلم.
ترجمة أبي العباس السفاح أول خلفاء بني العباس هو عبد الله السفاح - ويقال له المرتضى، والقاسم أيضا - ابن محمد بن الامام بن علي السجاد ابن عبد الله الحبر بن العباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي أمير المؤمنين، وأمه ريطة - ويقال رايطة - بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان (1) الحارثي، كان مولد السفاح بالحميمة من أرض الشراة من البلقاء بالشام، ونشأ بها حتى أخذ مروان أخاه إبراهيم الامام فانتقلوا إلى الكوفة.
بويع له بالخلافة بعد مقتل أخيه في حياة مروان يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الاول بالكوفة كما تقدم.
وتوفي بالجدري بالانبار يوم الاحد الحادي عشر، وقيل الثالث عشر من ذي الحجة سن ست وثلاثين ومائة، وكان عمره ثلاثا، وقيل ثنتين، وقيل إحدى وثلاثين سنة، وقيل ثمان وعشرين سنة.
قال غير واحد.
وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وكان أبيض جميلا طويلا، أقنى الانف، جعد الشعر، حسن اللحية، حسن الوجه، فصيح الكلام، حسن الرأي، جيد البديهة.
دخل عليه في أول ولايته
عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ومعه مصحف وعند السفاح وجوه بني هاشم من أهل بيته وغيرهم، فقال له: يا أمير المؤمنين أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف.
قال: فأشفق عليه الحاضرون أن يعجل السفاح عليه بشئ أو يترك جوابه فيبقى ذلك مسبة عليه وعليهم.
فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا منزعج، فقال: إن جدك عليا، كان خيرا مني وأعدل، وقد ولي هذا
__________
(1) في الاصل عبد الدار، (انظر الطبري - ومروج الذهب وابن الاثير).

الامر فأعطى جديك الحسن والحسين وكانا خيرا منك، شيئا قد أعطيتكه وزدتك عليه، فما كان هذا جزائي منك.
قال: فما رد عليه عبد الله بن حسن جوابا، وتعجب الناس من سرعة جوابه وجدته وجودته على البديهة.
وقد قال الامام أحمد في مسنده: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الاعمش، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له السفاح، يكون إعطاؤه المال حثيا) (1) وكذا رواه زائدة وأبو معاوية عن الاعمش به.
وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وقد تكلموا فيه.
وفي أن المراد بهذا الحديث هذا السفاح نظر والله أعلم.
وقد ذكرنا فيما تقدم عند زوال دولة بني أمية أخبارا وآثارا في مثل هذا المعني.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلمة بن محمد بن هشام، أخبرني محمد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثني داود بن عيسى، عن أبيه، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وهو والد السفاح - قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من النصارى فقال له عمر: من تجدون الخليفة بعد سليمان ؟ قال له: أنت.
فأقبل عمر بن عبد العزيز عليه فقال له: زدني من بيانك.
فقال ثم آخر، إلى أن ذكر خلافة بني أمية إلى آخرها.
قال محمد بن علي: فلما كان بعد ذلك جعلت ذلك النصراني في بالي فرأيته يوما فأمرت غلامي أن يحبسه علي، وذهبت إلى منزلي فسألته عما يكون في خلفاء بني أمية فذكرهم واحدا واحدا، وتجاوز عن مروان بن محمد.
قلت: ثم من ؟ قال: ثم ابن الحارثية، وهو ابنك.
قال: وكان ابني ابن الحارثية إذ ذاك حملا قال ووفد أهل المدينة على السفاح فبادروا إلى
تقبيل يده غير عمران بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع العدوي، فإنه لم يقبل يده، وإنما حياه بالخلافة فقط.
وقال: والله يا أمير المؤمنين لو كان تقبيلها يزيدك رفعة ويزيدني وسيلة إليك ما سبقني إليها أحد من هؤلاء، وإني لغني عما لا أجر فيه، وربما قادنا عمله إلى الوزر ثم جلس.
قال: فوالله ما نقصه ذلك عنده حظا من حظ أصحابه، بل أحبه وزاده.
وذكر القاضي المعافى بن زكريا: أن السفاح بعث رجلا ينادي في عسكر مروان بهذين البيتين ليلا ثم رجع (2): يا آل مروان إن الله مهلككم * ومبدل أمنكم خوفا وتشريدا لا عمر الله من أنسالكم أحدا * وبثكم في بلاد الخوف تطريدا وروى الخطيب البغدادي أن السفاح نظر يوما في المرآة - وكان من أجمل الناس وجها - فقال: اللهم لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الخليفة الشاب، ولكن أقول: اللهم عمرني طويلا في طاعتك ممتعا بالعافية.
فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لآخر: الاجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام.
فتطير
__________
(1) مسند الامام احمد 3 / 80.
(2) قال ابن الاثير 5 / 460: قال ابن النقاح بيتين من الشعر، وذكرهما.

من كلامه وقال: حسبي الله لا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه أستعين.
فمات بعد شهرين وخمسة أيام.
وذكر محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي: أن الرشيد أمر ابنه أن يسمع من إسحاق بن عيسى بن علي ما يرويه عن أبيه في قصة السفاح، فأخبره عن أبيه عيسى أنه دخل على السفاح يوم عرفة بكرة فوجده صائما، فأمره أن يحادثه في يومه هذا ثم يختم ذلك بفطره عنده.
قال: فحادثته حتى أخذه النوم فقمت عنه وقلت: أقيل في منزلي ثم أجئ بعد ذلك.
فذهبت فنمت قليلا ثم قمت فأقبلت إلى داره فإذا على بابه بشير يبشر بفتح السند وبيعتهم للخليفة وتسليم الامور إلى نوابه.
قال: فحمدت الله الذي وفقني في الدخول عليه بهذه البشارة، فدخلت الدار فإذا بشير آخر معه بشارة بفتح إفريقية، فحمدت الله فدخلت عليه فبشرته بذلك وهو يسرح لحيته بعد الوضوء، فسقط المشط من يده ثم قال: سبحان الله، كل شئ بائد سواه، نعيت والله إلي نفسي، حدثني إبراهيم الامام عن أبي هشام عن عبد الله بن
محمد بن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقدم علي في مدينتي هذه وافدان وافد السند والآخر وافد إفريقية بسمعهم وطاعتهم وبيعتهم، فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أموت.
قال: وقد أتاني الوافدان فأعظم الله أجرك يا عم في ابن أخيك.
فقلت: كلا، يا أمير المؤمنين إن شاء الله.
قال: بلى إن شاء الله ! لئن كانت الدنيا حبيبة إلي فالآخرة أحب إلي، ولقاء ربي خير لي، وصحة الرواية عن رسول الله بذلك أحب إلي منها، والله ما كذبت ولا كذبت.
ثم نهض فدخل منزله وأمرني بالجلوس، فلما جاء المؤذن يعلمه بوقت الظهر خرج الخادم يعلمني أن أصلي عنه، وكذلك العصر والمغرب والعشاء، وبت هناك، فلما كان وقت السحر أتاني الخادم بكتاب معه يأمرني أن أصلي عنه الصبح والعيد ثم أرجع إلى داره، وفيه يقول: يا عم إذا مت فلا تعلم الناس بموتي حتى تقرأ عليهم هذا الكتاب فيبايعوا لمن فيه.
قال: فصليت بالناس ثم رجعت إليه فإذا ليس به بأس، ثم دخلت عليه من آخر النهار فإذا هو على حاله غير أنه قد خرجت في وجهه حبتان صغيرتان، ثم كبرتا، ثم صار في وجهه حب صغار بيض يقال إنه جدري، ثم بكرت إليه في اليوم الثاني فإذا هو قد هجر وذهبت عنه معرفتي ومعرفة غيري، ثم رجعت إليه بالعشي فإذا هو انتفخ حتى صار مثل الزق، وتوفي اليوم الثالث من أيام التشريق، فسجيته كما أمرني، وخرجت إلى الناس فقرأت عليهم كتابه فإذا فيه: من عبد الله أمير المؤمنين إلى الاولياء وجماعة المسلمين، سلام عليكم أما بعد فقد قلد أمير المؤمنين الخلافة عليكم بعد وفاته أخاه فاسمعوا وأطيعوا، وقد قلدها من بعده عيسى بن موسى إن كان.
قال: فاختلف الناس في قوله " إن كان " قيل إن كان أهلا لها.
وقال آخرون إن كان حيا.
وهذا القول الثاني هو الصواب، ذكره الخطيب وابن عساكر مطولا.
وهذا ملخص منه.
وفيه ذكر الحديث المرفوع وهو منكر جدا.
وذكر ابن عساكر أن الطبيب دخل عليه فأخذ بيده فأنشأ يقول عند ذلك: أنظر إلى ضعف الحرا * ك وذله بعد السكون ينبيك أن بيانه * هذا مقدمة المنون فقال له الطبيب: أنت صالح.
فأنشأ يقول:

يبشرني بأني ذو صلاح * يبين له وبي داء دفين لقد أيقنت أني غير باق * ولا شك إذا وضح اليقين قال بعض أهل العلم: كان آخر ما تكلم به السفاح: الملك لله الحي القيوم، ملك الملوك، وجبار الجبابرة.
وكان نقش خاتمه الله ثقة عبد الله.
وكان موته بالجدري في يوم الاحد الثالث عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة بالانبار العتيقة، عن ثلاث وثلاثين سنة.
وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر على أشهر الاقوال.
وصلى عليه عمه عيسى بن علي.
ودفن في قصر الامارة من الانبار.
وترك تسع جبات وأربعة أقمصة وخمس سراويلات وأربعة طيالسة وثلاثة مطارف خز.
وقد ترجمه ابن عساكر فذكر بعض ما أوردناه والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان السفاح كما تقدم، وأشعث بن سوار، وجعفر بن أبي ربيعة، وحصين بن عبد الرحمن، وربيعة الراعي، وزيد بن أسلم، وعبد الملك بن عمير، وعبد الله بن أبي جعفر، وعطاء بن السائب.
وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل ولله الحمد.
خلافة أبي جعفر المنصور واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قد تقدم أنه لما مات السفاح كان في الحجاز فبلغه موته وهو بذات عرق راجعا من الحج، وكان معه أبو مسلم الخراساني، فعجل السير وعزاه أبو مسلم في أخيه، فبكى المنصور عند ذلك، فقال له: أتبكي وقد جاءتك الخلافة ؟ أنا أكفيكها إن شاء الله.
فسرى عنه، وأمر زياد بن عبيد الله أن يرجع إلى مكة واليا عليها، وكان السفاح قد عزله عنها بالعباس بن عبد الله بن معبد بن عباس فأقر، عليها، والنواب على أعمالهم حتى انسلخت هذه السنة، وقد كان عبد الله بن علي قدم على ابن أخيه السفاح الانبار فأمره على الصائفة، فركب في جيوش عظيمة إلى بلاد الروم، فلما كان ببعض الطريق بلغه موت السفاح فكر راجعا إلى حران، ودعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى الشام أن يكون ولي العهد من بعده، فالتفت عليه جيوش عظيمة، وكان من أمره ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة ذكر خروج عبد الله بن علي على ابن أخيه المنصور لما رجع أبو جعفر المنصور من الحج بعد موت أخيه السفاح، دخل الكوفة فخطب بأهلها يوم

الجمعة وصلى بهم، ثم ارتحل منها إلى الانبار وقد أخذت له البيعة من أهل العراق وخراسان وسائر البلاد سوى الشام، وقد ضبط عيسى بن علي بيوت الاموال والحواصل للمنصور حتى قدم، فسلم إليه الامر، وكتب إلى عمه عبد الله بن علي يعلمه بوفاة السفاح، فلا بلغه الخبر نادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع إليه الامراء والناس، فقرأ عليهم وفاة السفاح، ثم قام فيهم خطيبا فذكر أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى مروان أنه إن كسره كان الامر إليه من بعده، وشهد له بذلك بعض أمراء العراق، ونهضوا إليه فبايعوه، ورجع إلى حران فتسلمها من نائب المنصور بعد محاصرة أربعين ليلة، وقتل مقاتل العكي نائبها.
فلما بلغ المنصور ما كان من أمر عمه بعث إليه أبا مسلم الخراساني ومعه جماعة من الامراء وقد تحصن عبد الله بن علي بحران، وأرصد عنده ما يحتاج إليه من الاطعمة والسلاح شيئا كثيرا جدا، فسار إليه أبو مسلم الخراساني وعلى مقدمته مالك بن هيثم الخزاعي، فلما تحقق عبد الله قدوم أبي مسلم إليه خشي من جيش العراق أن لا يناصحوه، فقتل منهم سبعة عشر ألفا، وأراد قتل حميد بن قحطبة فهرب منه إلى أبي مسلم، فركب عبد الله بن علي فنزل نصيبين وخندق حول عسكره، وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، وإنما بعثني أمير المؤمنين واليا على الشام فأنا أريدها.
فخاف جنود الشام من هذا الكلام فقالوا: إنا نخاف على ذرارينا وديارنا وأموالنا، فنحن نذهب إليها نمنعهم منه.
فقال عبد الله: ويحكم ! والله إنه لم يأت إلا لقتالنا.
فأبوا إلا أن يرتحلوا نحو الشام، فتحول عبد الله من منزله ذلك وقصد ناحية الشام، فنهض أبو مسلم فنزل موضعه وغور ما حوله من المياه - وكان موضع عبد الله الذي تحول منه موضعا جيدا جدا - فاحتاج عبد الله وأصحابه فنزلوا في موضع أبي مسلم فوجدوه منزلا رديئا، ثم أنشأ أبو مسلم القتال فحاربهم خمسة أشهر، وكان على خيل عبد الله أخوه عبد الصمد بن علي، وعلى ميمنته بكار بن مسلم (1)
العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الاسدي.
وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته أبو نصر خازم بن خزيم (2)، وقد جرت بينهم وقعات وقتل منهم جماعات في أيام نحسات، وكان أبو مسلم إذا حمل يرتجز ويقول: من كان ينوي أهله فلا رجع * فر من الموت وفي الموت وقع وكان يعمل له عرش فيكون فيه إذا التقى الجيشان فما رأى في جيشه من خلل أرسل فأصلحه.
فلما كان يوم الثلاثاء أو الاربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فمكر بهم أبو مسلم ! بعث إلى الحسن بن قحطبة أمير الميمنة فأمره أن يتحول بمن معه إلا القليل إلى الميسرة، فلما رأى ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاء الميسرة التي تعمرت، فأرسل حينئذ أبو مسلم إلى القلب
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 466: سلم.
(2) في ابن الاثير والطبري: خزيمة.

أن يحمل بمن بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام فحطموهم، فجال أهل القلب والميمنة من الشاميين فحمل الخراسانيون على أهل الشام وكانت الهزيمة، وانهزم عبد الله بن علي بعد تلوم، واحتاز أبو مسلم ما كان في معسكرهم، وأمن أبو مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم أحدا، وكتب إلى المنصور بذلك، فأرسل المنصور مولاه أبا الخصيب (1) ليحصي ما وجدوا في معسكر عبد الله، فغضب من ذلك أبو مسلم الخراساني.
واستوسقت الممالك لابي جعفر المنصور، ومضى عبد الله بن علي وأخوه عبد الصمد على وجهيهما، فلما مرا بالرصافة أقام بها عبد الصمد، فلما رجع أبو الخصيب وجده بها فأخذه معه مقيدا في الحديد فأدخله على المنصور فدفعه إلى عيسى بن موسى فاستأمن له المنصور، وقيل بل استأمن له إسماعيل به علي.
وأما عبد الله بن علي فإنه ذهب إلى أخيه سليمان بن علي بالبصرة فأقام عنده زمانا مختفيا (2)، ثم علم به المنصور فبعث إليه فسجنه [ في بيت بني أسامة على الملح ثم أطلق عليه الماء فذاب الملح وسقط البيت على عبد الله فمات.
وهذه من بعض دواهي المنصور والله سبحانه أعلم ] (3).
فلبث في السجن سبع سنين ثم سقط عليه في البيت الذي هو فيه فمات كما سيأتي بيانه في
موضعه إن شاء الله تعالى.
مهلك أبي مسلم الخراساني في هذه السنة أيضا لما فرغ أبو مسلم من الحج سبق الناس بمرحلة فجاءه خبر السفاح في الطريق فكتب إلى أبي جعفر يعزيه في أخيه ولم يهنئه بالخلافة، ولا رجع إليه.
فغضب المنصور من ذلك مع ما كان قد أضمر له من السوء إذا أفضت إليه الخلافة، وقيل إن المنصور هو الذي كان قد تقدم بين يدي الحج بمرحلة، وأنه لما جاءه خبر موت أخيه كتب إلى أبي مسلم يستعجله في السير كما قدمنا.
فقال لابي أيوب: أكتب له كتابا غليظا، فلما بلغه الكتاب أرسل يهنئه بالخلافة وانقمع من ذلك.
وقال بعض الامراء للمنصور: إنا نرى أن لا تجامعه في الطريق فإن معه من الجنود من لا يخالفه.
وهم له أهيب، وعلى طاعته أحرص، وليس معك أحد، فأخذ المنصور برأيه ثم كان من أمره في مبايعته لابي جعفر ما ذكرنا، ثم بعثه إلى عمه عبد الله فكسره كما تقدم، وقد بعث في غبون ذلك الحسن بن قحطبة لابي أيوب كاتب رسائل المنصور يشافهه ويخبره بأن أبا مسلم متهم عند أبي جعفر، فإنه إذا جاءه كتاب منه يقرأه ثم يلوي شدقيه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر ويضحكان استهزاء، فقال أبو أيوب: إن تهمة أبي مسلم عندنا أظهر من هذا.
ولما بعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب يقطين ليحتاط على ما أصيب من معسكر عبد الله من الاموال والجواهر الثمينة وغيرها، غضب أبو مسلم فشتم أبا جعفر وهم بأبي
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 355: يقطين بن موسى (وانظر الامامة والسياسة 2 / 130، وابن الاعثم 8 / 219).
(2) في الامامة والسياسة 2 / 160: اسره أبو مسلم وبعث به إلى أبي جعفر.
(3) ما بين معكوفين زيادة قال في هامش المطبوعة: وجدت زيادة بهامش نسخة الاستانة.
وانظر الفخري ص 168

الخصيب، حتى قيل له: إنه رسول فتركه ورجع.
فلما قدم أخبر المنصور بما كان وبما هم به أبو مسلم من قتله، فغضب المنصور وخشي أن يذهب أبو مسلم إلى خراسان فيشق عليه تحصيله بعد ذلك، وأن تحدث حوادث، فكتب إليه مع يقطين إني قد وليتك الشام ومصر وهما خير من خراسان.
فابعث إلى مصر من شئت وأقم أنت بالشام، لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين، إذا أراد لقاءك كنت منه قريبا.
فغضب أبو مسلم وقال: قد ولاني الشام ومصر، ولي ولاية خراسان، فإذا أذهب إليها وأستخلف على الشام ومصر (1).
فكتب إلى المنصور بذلك فقلق المنصور من ذلك كثيرا.
ورجع أبو مسلم من الشام قاصدا خراسان وهو عازم على مخالفة المنصور.
فخرج المنصور من الانبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم بالمسير إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزاب عازم على الدخول إلى خراسان: إنه لم يبق لامير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كان نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء.
فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة.
فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إراداتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي عن مقامات الذل والاهانة.
فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وإنما راحتهم في تبدد نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الامر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة، وقد حمل أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسالة ليسكن إليها قلبك إن أصغيت إليها، وأسأله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك.
ويقال إن أبا مسلم كتب إلى المنصور: أما بعد فإني اتخذت رجلا إماما ودليلا على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلا وفي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد تعافاه (2) الله إلى خلقه، وكان كالذي دلى بغرور، وأمرني أن أجرد السيف وأرفع المرحمة ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيدا لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يجهلكم، وأطاعكم من كان عدوكم، وأظهركم الله بي بعد الاخفاء والحقارة والذل، ثم استنقذني الله بالتوبة.
فإن يعف عني فقديما عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فبما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد.
ذكره المدائني عن شيوخه.
__________
(1) في ابن الاعثم 8 / 220: رمى بكتاب المنصور من يده وتمثل:
الق الصحيفة لاتبال وإن يكن * مكرا كمثل صحيفة المتلمس (2) في ابن الاثير: نعاه.

وبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي (1) - وقد كان أوحد أهل زمانه - في جماعة من الامراء، وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاما يقدر عليه، وأن يكون في جملة ما يكلمه به أنه يريد رفع قدرك وعلو منزلتك والاطلاقات لك، فإن جاء بهذا فذاك، وإن أبي فقل هو برئ من العباس إن شققت العصا وذهبت على وجهك ليدركنك بنفسه وليقا تلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك.
ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن.
فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولاموه فيما هم به من منابذة أمير المؤمنين، وما هو فيه من مخالفته، ورغبوه في الرجوع إلى الطاعة، فشاور ذوي الرأي من أمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه، وأشاروا بأن يقيم في الري فتكون خراسان تحت حكمه، وجنوده طوعا له، فإن استقام له الخليفة وإلا كان في عز ومنعة من الجند.
فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم: ارجعو إلى صاحبكم فلست ألقاه.
فلما استيأسوا منه قالوا له ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به.
فلما سمع ذلك كسره جدا وقال قوموا عني الساعة.
وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان أبا داود إبراهيم بن خالد، فكتب إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين اتهم: إن ولاية خراسان لك ما بقيت، فقد وليتكها وعزلت عنها أبا مسلم.
فعند ذلك كتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عليه من منابذة الخليفة: إنه ليس يليق بنا منابذة خلفاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجع إلى إمامك سامعا مطيعا والسلام.
فزاده ذلك كسرا أيضا فبعث إليهم أبو مسلم: إني سأبعث إليه أبا إسحاق وهو ممن أثق به.
فبعث أبا إسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إن هو رده.
فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له: ما وراءك ؟ قال: رأيتهم معظمين لك يعرفون قدرك.
فغره ذلك وعزم على الذهاب إلى الخليفة، فاستشار أميرا يقال له نيزك، فنهاه، فصمم على الذهاب، فلما رآه نيزك عازما على الذهاب تمثل بقول الشاعر:
ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الاقوام ثم قال له: احفظ عني واحدة.
قال: وما هي ؟ قال: إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت بالخلافة فإن الناس لا يخالفونك.
وكتب أبو مسلم إلى المنصور يعلمه بقدومه عليه.
قال أبو أيوب كاتب الرسائل: فدخلت على المنصور وهو جالس في خباء شعر جالس في مصلاه بعد العصر، وبين يديه كتاب فألقاه إلى فإذا هو كتاب أبي مسلم يعلمه بالقدوم عليه، ثم قال الخليفة: والله لئن ملات عيني منه لاقتلنه.
قال أبو أيوب: فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون.
وبت تلك الليلة لا يأتيني نوم، أفكر في هذه الواقعة، وقلت: إن دخل أبو مسلم خائفا ربما يبدو منه شر إلى الخليفة، والمصلحة تقتضي أن
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 471: كتب المنصور كتابا وبعثه مع أبي حميد المرورذي.
وفي ابن الاعثم نسخة كتاب جواب أبي جعفر على كتاب أبي مسلم 8 / 223.
وفي الفخري ص 169: وأرسل المنصور الكتب على يد رجل عاقل من أصحابه.

يدخل آمنا ليتمكن منه الخليفة.
فلما أصبحت طلبت رجلا من الامراء (1) وقلت له: هل لك أن تتولى مدينة كسكر فإنها مغلة في هذه السنة ؟ فقال: ومن لي بذلك ؟ فقلت له: فاذهب إلى أبي مسلم فتلقاه في الطريق فاطلب منه أن يوليك تلك البلد، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه ما وراء بابه ويستريح لنفسه.
واستأذنت المنصور له أن يذهب إلى أبي مسلم فأذن له، وقال له: سلم عليه وقل له: إنا بالاشواق إليه.
فسار ذلك الرجل - وهو سلمة بن فلان - (2) إلى أبي مسلم فأخبره باشتياق الخليفة إليه، فسره ذلك وانشرح، وإنما هو غرور ومكر به، فلما سمع أبو مسلم بذلك عجل السير إلى منيته، فلما قرب من المدائن أمر الخليفة القواد والامراء أن يتلقوه، وكان دخوله على المنصور من آخر ذلك اليوم، وقد أشار أبو أيوب على المنصور أن يؤخر قتله في ساعته هذه إلى الغد، فقبل ذلك منه.
فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العشي أظهر له الكرامة والتعظيم، ثم قال: اذهب فأرح نفسك وادخل الحمام، فإذا كان الغد فأتني.
فخرج من عنده وجاءه الناس يسلمون عليه، فلما كان الغد طلب الخليفة بعض الامراء فقال له: كيف بلائي عندك ؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لو أمرتني أن أقتل نفسي لقتلتها.
قال: فكيف
بك لو أمرتك بقتل أبي مسلم ؟ قال: فوجم ساعة ثم قال له أبو أيوب: ما لك لا تتكلم ؟ فقال قولة ضعيفة: أقتله.
ثم اختار له من عيون الحرس أربعة فحرضهم على قتله، وقال لهم: كونوا من وراء الرواق فإذا صفقت بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه.
ثم أرسل المنصور إلى أبي مسلم رسلا تترى يتبع بعضها بعضا، فأقبل (3) أبو مسلم فدخل دار الخلافة ثم دخل على الخليفة وهو يبتسم، فلما وقف بين يديه جعل المنصور يعاتبه في الذي صنع واحدة واحدة، فيعتذر عن ذلك كله.
ثم قال: يا أمير المؤمنين أرجو أن تكون نفسك قد طابت علي.
فقال المنصور: أما والله ما زادني هذا إلا غيظا عليك.
ثم ضرب بإحدى يديه على الاخرى فخرج عثمان وأصحابه فضربوه بالسيوف حتى قتلوه ولفوه في عباءة ثم أمر بإلقائه في دجلة، وكان آخر العهد به، وكان مقتله في يوم الاربعاء لاربع بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة.
وكان من جملة ما عاتبه به المنصور أن قال: كتبت إلي مرات تبدأ بنفسك، وأرسلت تخطب عمتي أمينة (4)، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس إلى غير ذلك.
فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين لا يقال لي هذا وقد سعيت في أمركم بما علمه كل أحد.
فقال: ويلك ! لو قامت في ذلك أمة
__________
(1) هو سلمة بن سعيد بن جابر (انظر الطبري وابن الاثير).
(2) كذا بالاصول، انظر الحاشية السابقة.
(3) في الاخبار الطوال ص 380: فلما كان في اليوم الرابع...وفي مروج الذهب 3 / 356: ركب أبو مسلم مرارا إلى المنصور وهو لا يظهر له شيئا.
وفي الامامة والسياسة 2 / 161: فأقام أياما يأتي أبا جعفر كل يوم...وفي ابن الاعثم 8 / 225: فأقام كذلك ثلاثة أيام فلما كان في اليوم الرابع...(4) كذا في الاصول والطبري، وفي ابن الاثير 5 / 475 والاخبار الطوال ص 381: آمنة.
وفي ابن خلكان 3 / 154: آسية.

سوداء لاتمه الله لجدنا وحيطتنا.
ثم قال: والله لاقتلنك.
فقال: استبقني يا أمير المؤمنين لاعدائك.
فقال: وأي عدو لي أعدى منك.
ثم أمر بقتله كما تقدم: فقال له بعض الامراء: يا أمير المؤمنين الآن
صرت خليفة.
ويقال إن المنصور أنشد عند ذلك: فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر علينا بالاياب المسافر وذكر ابن خلكان أن المنصور لما أراد قتل أبي مسلم تحير في أمره هل يستشير أحدا في ذلك أو يستبد هو به لئلا يشيع وينشر، ثم استشار واحدا من نصحاء أصحابه فقال: يا أمير المؤمنين قال الله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) [ الانبياء: 22 ] فقال له: لقد أودعتها أذنا واعية.
ثم عزم على ذلك.
ترجمة أبي مسلم الخراساني هو عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب دولة بني العباس، ويقال له أمير آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الخطيب: يقال له عبد الرحمن بن شيرون بن اسفنديار أبو مسلم المروزي، صاحب الدولة العباسية، يروي عن أبي الزبير وثابت البناني وإبراهيم وعبد الله ابني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، زاد ابن عساكر في شيوخه محمد بن علي وعبد الرحمن بن حرملة وعكرمة مولى ابن عباس.
قال ابن عساكر: روى عنه إبراهيم بن ميمون الصائغ، وبشر والد مصعب بن بشر، وعبد الله بن شبرمة وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن منيب المروزي وقديد بن منيع صهر أبي مسلم.
قال الخطيب: وكان أبو مسلم فاتكا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم، قتله أبو جعفر المنصور بالمدائن.
وقال أبو نعيم الاصبهاني في تاريخ أصبهان: كان اسمه عبد الرحمن بن عثمان بن يسار، قيل إنه ولد بأصبهان، وروي عن السدي وغيره، وقيل كان اسمه إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس (1) بن حوذون، من ولد بزرجمهر، وكان يكنى أبا إسحاق، ونشأ بالكوفة وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى السراج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما بعثه إبراهيم بن محمد الامام إلى خراسان قال له: غير اسمك وكنيتك.
فتسمى عبد الرحمن بن مسلم، واكتنى بأبي مسلم، فسار إلى خراسان وهو ابن سبع عشرة سنة راكبا على حمار بأكاف، وأعطاه إبراهيم بن محمد نفقة، فدخل خراسان وهو كذلك، ثم آل به الحال حتى صارت له خراسان بأزمتها وحذافيرها، وذكر أنه في ذهابه إليها عدا رجل من بعض الحانات فقطع ذنب حماره، فلما تمكن أبو مسلم جعل ذلك المكان دكا فكان
بعد ذلك خرابا.
وذكر بعضهم أنه أصابه سبي في صغره وأنه اشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم إن إبراهيم بن محمد الامام استوهبه واشتراه فانتمى إليه وزوجه إبراهيم بنت أبي النجم
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 145: شذوس بن جودرن.

إسماعيل الطائي، أحد دعاتهم، لما بعثه إلى خراسان، وأصدقها عنه أربعمائة درهم فولد لابي مسلم بنتان إحداهما أسماء أعقبت، وفاطمة لم تعقب.
وقد تقدم ذكر كيفية استقلال أبي مسلم بأمور خراسان في سنة تسع وعشرين ومائة، وكيف نشر دعوة بني العباس، وقد كان ذا هيبة وصرامة وإقدام وتسرع في الامور.
وقد روى ابن عساكر بإسناده: أن رجلا قام إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك ؟ فقال: حدثني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء ".
وهذه ثياب الهيئة وثياب الدولة.
يا غلام اضرب عنقه.
وروى من حديث عبد الله بن منيب عنه عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد هوان قريش أهانه الله ".
وقد كان إبراهيم بن ميمون الصائغ من أصحابه وجلسائه في زمن الدعوة، وكان يعده إذا ظهر أن يقيم الحدود، فلما تمكن أبو مسلم ألح عليه إبراهيم بن ميمون في القيام بما وعده به حتى أحرجه، فأمر بضرب عنقه، وقال له: لم لا كنت تنكر على نصر بن سيار وهو يعمل أواني الخمر من الذهب فيبعثها إلى بني أمية ؟ فقال له: إن أولئك لم يقربوني من أنفسهم ويعدوني منها ما وعدتني أنت.
وقد رأى بعضهم لابراهيم بن ميمون هذا منازل عالية في الجنة بصبره على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه كان آمرا ناهيا قائما في ذلك، فقتله أبو مسلم رحمه الله.
وقد ذكرنا طاعة أبي مسلم للسفاح واعتناءه بأمره وامتثال مراسيمه، فلما صار الامر إلى المنصور استخف به واحتقره، ومع هذا بعثه المنصور إلى عمه عبد الله إلى الشام فكسره واستنقذ منه الشام وردها إلى حكم المنصور.
ثم شمخت نفسه على المنصور وهم بقتله، ففطن لذلك المنصور مع ما كان مبطنا له من البغضة، وقد سأل أخاه السفاح غير مرة أن يقتله كما تقدم ذلك فأبي عليه، فلما تولى
المنصور ما زال يماكره ويخادعه حتى قدم عليه فقتله.
قال بعضهم: كتب المنصور إلى أبي مسلم: أما بعد فإنه يرين على القلوب ويطبع عليها المعاصي، فع أيها الطائش، وأفق أيها الكسران، وانتبه أيها النائم، فإنك مغرور بأضغاث أحلام كاذبة، في برزخ دنيا قد غرت من كان قبلك وسم بها سوالف القرون (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) [ مريم: 98 ] وإن الله لا يعجزه من هرب، ولا يفوته من طلب، فلا تغتر بمن معك من شيعتي وأهل دعوتي، فكأنهم قد صالوا عليك بعد أن صالوا معك، إن أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدا لك من الله ما لم تكن تحتسب، مهلا مهلا، احذر البغي أبا مسلم فإنه من بغى واعتدى تخلى الله عنه، ونصر عليه من يصرعه لليدين والفم، واحذر أن تكون سنة في الذين قد خلوا من قبلك، ومثلة لمن يأتي بعدك، فقد قامت الحجة وأعذرت إليك وإلى أهل طاعتي فيك.
قال تعالى: (وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) [ الاعراف: 174 ].
فأجابه أبو مسلم: أما بعد فقد قرأت كتابك فرأيتك فيه للصواب مجانبا، وعن الحق حائدا إذ

تضرب فيه الامثال على غير أشكالها، وكتبت إلي فيه آيات منزلة من الله للكافرين، وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وإنني والله ما انسلخت من آيات الله، ولكنني يا عبد الله بن محمد كنت رجلا متأولا فيكم من القرآن آيات أوجبت لكم بها الولاية والطاعة، فأتممت بأخوين من قبلك ثم بك من بعدهما، فكنت لهما شيعة متدينا أحسبني هاديا مهتديا، وأخطأت في التأويل وقدما أخطأ المتأولون، وقد قال تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) [ الانعام: 54 ] وإن أخاك السفاح ظهر في صورة مهدي وكان ضالا فأمرني أن أجد السيف وأقتل بالظنة وأقدم بالشبهة وأرفع الرحمة ولا أقيل العثرة، فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم، حتى عرفكم الله من كان جهلكم.
ثم إن الله سبحانه تداركني منه بالندم واستنقذني بالتوبة، فإن يعف عني ويصفح فإنه كان للاوابين غفورا، وإن يعاقبني فبذنوني وما ربك بظلام للعبيد.
فكتب إليه المنصور: أما بعد أيها المجرم العاصي، فإن أخي كان إمام هدى يدعو إلى الله على بينة من ربه (1)، فأوضح لك السبيل، وحملك على المنهج السديد، فلو بأخي اقتديت لما كنت عن الحق حائدا، وعن الشيطان وأوامره صادرا، ولكنه لم يسنح لك أمران إلا كنت لارشدهما تاركا، ولاغواهما راكبا، تقتل قتل الفراعنة، وتبطش بطش الجبابرة، وتحكم بالجور حكم المفسدين، وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين، ثم من خبري أيها الفاسق أني قد وليت موسى بن كعب خراسان، وأمرته أن يقيم بنيسابور، فإن أردت خراسان لقيك بمن معه من قوادي وشيعتي، وأنا موجه للقائك أقرانك، فاجمع كيدك وأمرك غير مسدد ولا موفق، وحسب أمير المؤمنين ومن اتبعه الله ونعم الوكيل (2).
ولم يزل المنصور يراسله تارة بالرغبة وتارة بالرهبة، ويستخف أحلام من حوله من الامراء والرسل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم، حتى حسنوا لابي مسلم في رأيه القدوم عليه سوى أمير معه يقال له نيزك، فإنه لم يوافق على ذلك، فلما رأى أبا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عند ذلك البيت المتقدم، وهو: ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الاقوام وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك، فإنه لما قدم المدائن تلقاه الامراء عن أمر الخليفة، فما وصل إلا آخر النهار، وقد أشار أبو أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم فلما وقف بين يدي الخليفة أكرمه وعظمه وأظهر احترامه، وقال: اذهب الليلة فأذهب عنك
__________
(1) في ابن الاعثم 8 / 223: على بصيرة ويقين من أمره.
(2) راجع حاشية 1 صفحة 70.

وعثاء السفر ثم ائتني من الغد.
فلما كان الغد أرصد له من الامراء من يقتله، منهم عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، فقتلوه كما تقدم.
ويقال بل أقام أياما يظهر له المنصور الاكرام والاحترام، ثم نشق منه الوحشة فخاف أبو مسلم واستشفع بعيسى بن موسى واستجار به، وقال: إني أخافه على نفسي.
فقال: لا بأس عليك فانطلق فإني آت وراءك، أنت في ذمتي حتى آتيك، - ولم يكن مع عيسى خبر بما يريد به الخليفة - فجاء أبو مسلم يستأذن على المنصور فقالوا له: اجلس ههنا فإن أمير المؤمنين يتوضأ، فجلس وهو يود أن يطول مجلسه ليجئ عيسى بن موسى فأبطأ، وأذن له الخليفة فدخل عليه فجعل يعاتبه في أشياء صدرت منه فيعتذر عنها جيدا، حتى قال له: فلم قتلت سليمان بن كثير، وإبراهيم بن ميمون، وفلانا وفلانا ؟ قال: لانهم عصوني وخالفوا أمري.
فغضب عند ذلك المنصور وقال: ويحك ! أنت تقتل إذا عصيت، وأنا لا أقتلك وقد عصيتني ؟ وصفق بيديه وكانت الاشارة بينه وبين المرصدين لقتله -، فتبادروا إليه ليقتلوه فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه، فقال: يا أمير المؤمنين استبقني لاعدائك، فقال: وأي عدو لي أعدى منك.
ثم زجرهم المنصور فقطعوه قطعا ولفوه في عباءة، ودخل عيسى بن موسى على إثر ذلك فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال: هذا أبو مسلم، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له المنصور: احمد الله الذي هجمت علي نعمة، ولم تهجم علي نقمة، ففي ذلك يقول أبو دلامة: أبا مسلم (1) ما غير الله نعمة * على عبده حتى يغيرها العبد أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى * عليك بما خوفتني الاسد الورد وذكر ابن جرير: أن المنصور تقدم إلى عثمان بن نهيك وشبيب بن واج وأبي حنيفة حرب بن قيس وآخر من الحرس أن يكونوا قريبا منه، فإذا دخل عليه أبو مسلم وخاطبه وضرب بإحدى يديه على الاخرى فليقتلوه.
فلما دخل عليه أبو مسلم قال له المنصور: ما فعل السيفان (2) اللذان أصبتهما من عبد الله بن علي ؟ فقال: هذا أحدهما.
فقال: أرنيه، فناوله السيف فوضعه تحت ركبته ثم قال له: ما حملك على أن تكتب لابي عبد الله السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين ؟ قال: إنني ظننت أن أخذه لا يحل، فلما جاءني كتاب أمير المؤمنين علمت أنه وأهل بيته معدن العلم.
قال: فلم تقدمت علي في طريق الحج ؟ قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس، فتقدمت التماس الرفق.
قال: فلم لا رجعت إلي حين أتاك خبر موت أبي العباس ؟ قال: كرهت التضييق على الناس في طريق الحج، وعرفت أنا سنجتمع بالكوفة، وليس عليك مني خلاف.
قال: فجارية عبد الله بن علي أردت
أن تتخذها لنفسك ؟ قال: لا ! ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها.
ثم قال
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 155 أبا مجرم.
في الموضعين.
(2) في الطبري 9 / 166: نصلين (وانظر ابن الاثير 5 / 475).

له: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك والكاتب إلي تخطب آمنة (1) بنت علي ؟ وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس ؟ هذا كله ويد المنصور في يده يعركها ويقبلها ويتعذر، ثم قال له: فما حملك على مراغمتي ودخولك إلى خراسان ؟ قال: خفت أن يكون دخلك مني شئ فأردت أن أدخل خراسان وأكتب إليك بعذري.
قال: فلم قتلت سليمان بن كثير وكان من نقبائنا ودعاتنا قبلك ؟ قال: أراد خلافي.
فقال: ويحك وأنت أردت خلافي وعصيتني، قتلني الله إن لم أقتلك.
ثم ضربه بعمود الخيمة وخرج إليه أولئك فضربه عثمان فقطع حمائل سيفه، وضربه شبيب فقطع رجله، وحمل عليه بقيتهم بالسيوف، والمنصور يصيح: ويحكم اضربوه قطع الله أيديكم.
ثم ذبحوه وقطعوه قطعا قطعا، ثم ألقي في دجلة.
ويروى أن المنصور لما قتله وقف عليه فقال: رحمك الله أبا مسلم، بايعتنا فبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا فوفينا لك، وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الايام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك، وحكمنا علينا حكمك على نفسك لنا.
ويقال إن المنصور قال: الحمد لله الذي أرانا يومك يا عدو الله.
قال ابن جرير وقال المنصور عند ذلك: زعمت أن الدين لا يقتضى * فاستوف بالكيل أبا مجرم سقيت كأسا كنت تسقي بها * أمر في الحلق من العلقم ثم إن المنصور خطب في الناس بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس، لا تنفروا أطيار النعم بترك الشكر، فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الائمة فإن أحدا لا يسر منكم شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الاحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه، حتى يستقيم رجالكم، وترتدع عمالكم.
وإن هذا الغمر أبا مسلم بايع على أنه من نكث بيعتنا وأظهر غشنا فقد أباحنا دمه، فنكث
وغدر وفجر وكفر، فحكمنا عليه لانفسنا حكمه على غيره لنا، وإن أبا مسلم أحسن مبتديا وأساء منتهيا، وأخذ من الناس بنا لنفسه أكثر مما أعطانا.
ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علم اللائم لنا فيه لما لام، ولو اطلع على ما اطلعنا عليه منه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهاله، وما زال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه (2)، وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان - يعني ابن المنذر -: فمن أطاعك فانفعه بطاعته * كما أطاعك والله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة * تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
__________
(1) انظر حاشية 4 صفحة 71.
(2) نسخة خطبة أبي جعفر منصور في مروج الذهب 3 / 358.
وابن الاثير 5 / 478 - 479 باختلاف.

وقد روى البيهقي عن الحاكم بسنده: أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم أهو خير أم الحجاج ؟ فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيرا من أحد، ولكن كان الحجاج شرا منه، قد اتهمه بعضهم على الاسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية والله أعلم بأمره.
وقد روى الخطيب عنه أنه قال: ارتديت الصبر، وآثرت الكفاف، وحالفت الاحزان والاشجان، وشامخت المقادير والاحكام، حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي.
ثم أنشأ يقول: قد نلت بالعزم (1) والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا * من رقدة (2) لم ينمها قبلهم أحد وطفت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم (3) في الشام قد رقدوا ومن رعى غنما في أرض مسبعة * ونام عنها تولى رعيها الاسد
وقد كان قتل أبي مسلم بالمدائن يوم الاربعاء لسبع خلون، وقيل لخمس بقين، وقيل لاربع، وقيل لليلتين بقيتا من شعبان من هذه السنة - أعني سنة سبع وثلاثين ومائة - قال بعضهم: كان ابتداء ظهوره في رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة.
وزعم بعضهم أنه قتل ببغداد في سنة أربعين، وهذا غلط من قائله، فإن بغداد لم تكن بنيت بعد كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد، ورد هذا القول.
ثم إن المنصور شرع في تأليف أصحاب أبي مسلم بالاعطية والرغبة والرهبة والولايات، واستدعى أبا إسحاق - وكان من أعز أصحاب أبي مسلم - وكان على شرطة أبي مسلم، وهم بضرب عنقه فقال: يا أمير المؤمنين والله ما أمنت قط إلا في هذا اليوم، وما من يوم كنت أدخل عليه (4) إلا تحنطت ولبست كفني.
ثم كشف عن ثيابه التي تلي جسده فإذا هو محنط وعليه أدراع أكفان، فرق له المنصور وأطلقه.
وذكر ابن جرير أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لاجل دولة بني العباس ستمائة ألف
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 152: أدركت بالحزم.
وفي ابن الاثير 5 / 480: قد نلت بالحزم.
(2) في الوفيات: حتى ضربتهم...* من نومه...(3) في الوفيات: ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم * والقوم في غفلة...(4) في الاصل عليك تحريف.

صنبرا زيادة عن من قتل بغير ذلك.
وقد قال للمنصور وهو يعاتبه على ما كان يصنعه: يا أمير المؤمنين لا يقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني.
فقال له: يابن الخبيثة، لو كانت أمة مكانك لاجزأت ناحيتها، إنما عملت ما عملت بدولتنا وبريحنا، لو كان ذلك إليك لما وصلت إلى فتيل.
ولما قتله المنصور لف في كساء وهو مقطع إربا إربا، فدخل عيسى بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين أين أبو مسلم ؟ قال: قد كان
هاهنا آنفا.
فقال: يا أمير المؤمنين قد عرفت طاعته ونصيحته ورأي إبراهيم الامام فيه.
فقال له: يا أنوك (1) والله ما أعلم في الارض عدوا أعدى لك منه، ها هو ذاك في البساط.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال له المنصور: خلع الله قلبك ! وهل كان لكم مكان أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم ؟ ثم استدعى المنصور برؤوس الامراء فجعل يستشيرهم في قتل أبي مسلم قبل أن يعلموا بقتله، فكلهم يشير بقتله، ومنهم من كان إذا تكلم أسر كلامه خوفا من أبي مسلم لئلا ينقل إليه، فلما أطلعهم عن قتله أفزعهم ذلك وأظهروا سرورا كثيرا.
ثم خطب المنصور الناس بذلك كما تقدم.
ثم كتب المنصور إلى نائب أبي مسلم على أمواله وحواصله (2) بكتاب على لسان أبي مسلم أن يقدم بجميع ما عنده من الحواصل والذخائر والاموال والجواهر، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم بكماله، مطبوعا بكل فص الخاتم، فلما رآه الخازن استراب في الامر، وقد كان أبو مسلم تقدم إلى خازنه أنه إذا جاءك كتابي فإن رأيته مختوما بنصف الفص فامض لما فيه، فإني إنما أختم بنصف فصه على كتبي، وإذا جاءك الكتاب مختوما عليه بكماله فلا تقبل ولا تمض ما فيه.
فامتنع عند ذلك خازنه أن يقبل ما بعث به المنصور، فأرسل المنصور بعد ذلك إليه من أخذ جميع ذلك وقتل ذلك الرجل الخازن (3)، وكتب المنصور إلى أبي داود إبراهيم بن خالد بأمرة خراسان كما وعده قبل ذلك عوضا عن أبي مسلم.
وفي هذه السنة خرج سنباذ يطلب بدم أبي مسلم، وقد كان سنباذ هذا مجوسيا تغلب على قومس وأصبهان، ويسمى بفيروز اصبهبذ، فبعث إليه أبو جعفر المنصور جيشا هم عشرة آلاف فارس عليهم جهور (4) بن مرار العجلي - فالتقوا بين همذان والري بالمفازة، فهزم جهور لسنباذ وقتل من أصحابه ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم، وقتل سنباذ بعد ذلك فكانت أيامه سبعين يوما.
وأخذ ما كان استحوذ عليه من أموال أبي مسلم التي كانت بالري.
وخرج في هذه السنة أيضا رجل يقال له ملبد [ بن حرمة الشيباني ] في ألف من الخوارج بالجزيرة فجهز إليه المنصور جيوشا متعددة كثيفة كلها تنفر منه
__________
(1) الانوك: الاحمق.
(2) وهو أبو نصر مالك بن الهيثم.
(3) في الطبري 9 / 168 وابن الاثير 5 / 478 قدم أبو نصر على المنصور بعد أن أخلى سبيله زهير بن التركي فاعتذر من أبي جعفر فعفا عنه.
وزاد في الامامة والسياسة 2 / 164: وولاه الموصل.
(4) في ابن الاثير 5 / 481: جمهور.

وتنكسر ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبد وتحصن منه حميد في بعض الحصون ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه وقبلها ملبد وتقلع عنه.
وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس قاله الواقدي.
وكان نائب الموصل - يعني عم المنصور وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن عبد الله (1).
ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره.
ومن مشاهير من توفي فيها أبو مسلم الخراساني كما تقدم، ويزيد بن أبي زياد أحد من تكلم فيه كما ذكرناه في التكميل، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة فيها دخل قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة فهدم سورها وعفا عمن قدر عليه من مقاتليها.
وفيها غزا الصائفة صالح بن علي نائب مصر، فبنى ما كان هدم ملك الروم من سور ملطية، وأطلق لاخيه عيسى بن علي أربعين ألف دينار، وكذلك أعطى لابن أخيه العباس بن محمد بن علي أربعين ألف دينار.
وفيها بايع عبد الله بن علي الذي كسره أبو مسلم وانهزم إلى البصرة واستجار بأخيه سليمان بن علي، حتى بايع للخليفة في هذه السنة ورجع إلى طاعته.
ولكن حبس في سجن بغداد كما سيأتي.
وفيها خلع جهور بن مرار العجلي الخليفة المنصور بعدما كسر سنباذ (2) واستحوذ على حواصله وعلى أموال أبي مسلم، فقويت نفسه بذلك وظن أنه لا يقدر عليه بعد، فأرسل إليه الخليفة محمد بن الاشعث الخزاعي في جيش كثيف فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم جهور وقتل عامة من معه، وأخذ ما كان معه من الاموال والحواصل والذخائر، ثم لحقوه فقتلوه.
وفيها قتل الملبد الخارجي على يدي خازم بن
خزيمة في ثمانية آلاف، وقتل من أصحاب الملبد ما يزيد على ألف وانهزم بقيتهم.
قال الواقدي: وحج بالناس فيها الفضل بن علي، والنواب فيها هم المذكورون بالتي قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان زيد بن واقد، والعلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم في قول.
وفيها كانت خلافة (3) الداخل من بني أمية إلى بلاد الاندلس وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الهاشمي.
قلت: ليس هو بهاشمي إنما هو من بني أمية ويسمى أمويا،
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: زياد على المدينة، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد ومات خلال الموسم فضل اسماعيل عمله إلى زياد.
(2) في مروج الذهب 3 / 360: بسنفاد.
(3) في الطبري 9 / 171: روى خبر خلافته في حوادث سنة 139.

كان قد دخل إلى بلاد المغرب فرارا من عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فاجتاز بمن معه من أصحابه الذين فروا معه بقوم يقتتلون على عصبية اليمانية والمضرية، فبعث مولاه بدرا إليهم فاستمالهم إليه فبايعوه ودخل بهم ففتح بلاد الاندلس واستحوذ عليها وانتزعها من نائبها يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري وقتله.
وسكن عبد الرحمن قرطبة واستمر في خلافته في تلك البلاد من هذه السنة إلى سنة ثنتين وسبعين ومائة.
فتوفي فيها وله في الملك أربع وثلاثون سنة وأشهر.
ثم قام من بعده ولده هشام ست سنين وأشهرا.
ثم مات فولي بعده الحكم بن هشام ستا وعشرين سنة وأشهرا ثم مات.
ثم ولي بعده ولده عبد الرحمن بن الحكم ثلاثا وثلاثين سنة ثم مات.
ثم ولي بعده محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ستا وعشرين سنة.
ثم ابنه المنذر بن محمد، ثم أخوه عبد الله بن محمد بن المنذر.
وكانت أيامه بعد الثلاثمائة بدهر، ثم زالت تلك الدولة كما سنذكره من زوال تلك السنون وأهلها وما قضوا فيها من النعيم والعيش الرغيد والنساء الحسان ثم انقضت تلك السنوات وأهلها كأنهم على ميعاد، ثم أضحوا كأنهم ورق جف ألوت عليه الصبا والذبول.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة فيها أكمل صالح بن علي بناء ملطية ثم غزا الصائفة على طريق الحديث، فوغل في بلاد الروم، وغزا معه أختاه أم عيسى ولبابة ابنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن يجاهدا في سبيل الله عز وجل.
وفيها كان الفداء الذي حصل بين المنصور وبين ملك الروم، فاستنقذ بعض أسرى المسلمين ثم لم يكن للناس صائفة في هذه السنة إلى سنة ست وأربعين، وذلك لاشتغال المنصور بأمر ابني عبد الله بن حسن كما سنذكره.
ولكن ذكر بعضهم (1) أن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الامام سنة أربعين فالله أعلم.
وفيها وسع المنصور المسجد الحرام، وكانت هذه السنة خصبة جدا - أي كثيرة الخصب فكان يقال لها السنة الخصبة - وقيل إنما كان ذلك في سنة أربعين.
وفيها عزل المنصور عمه سليمان عن إمرة البصرة، فاختفى عبد الله بن علي وأصحابه خوفا على أنفسهم، فبعث المنصور إلى نائبه على البصرة، وهو سفيان بن معاوية، يستحثه في إحضار عبد الله بن علي إليه، فبعثه في أحصابه فقتل بعضهم وسجن عبد الله بن علي عمه، وبعث بقية أصحابه إلى أبي داود نائب خراسان فقتلهم هناك.
وحج بالناس فيها العباس بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها توفي عمرو بن مجاهد، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ويونس بن عبيد، أحد العباد وصاحب الحسن البصري.
__________
(1) انظر ابن الاثير 5 / 500.

ثم دخلت سنة أربعين ومائة فيها ثار جماعة من الجند على أبي داود نائب خراسان، وحاصروا داره، فأشرف عليهم وجعل يستغيث بجنده ليحضروا إليه، واتكأ على آجرة في الحائط فانكسرت به فسقط فانكسر ظهره فمات، فخلفه على خراسان عاصم (1)، صاحب الشرطة حتى قدم الامير من جهة الخليفة عليها، وهو عبد الجبار بن عبد الرحمن الازدي، فتسلم بلاد خراسان، وقتل جماعة من الامراء لانه بلغه عنهم أنهم يدعون إلى خلافة آل علي بن أبي طالب، وحبس آخرين، وأخذ نواب أبي داود بجباية الاموال
المنكسرة عندهم.
وفيها حج بالناس الخليفة المنصور أحرم من الحيرة ورجع بعد انقضاء الحج إلى المدينة، ثم رحل إلى بيت المقدس فزاره، ثم سلك الشام إلى الرقة، ثم سار إلى الهاشمية - هاشمية الكوفة - ونواب الاقاليم هم المذكورون في التي قبلها، سوى خراسان فإنه مات نائبها أبو داود، فخلفه مكانه عبد الجبار الازدي.
وفيها توفي داود بن أبي هند، وأبو حازم سلمة بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وعمارة بن غزية بن قيس السكوني.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة فيها خرجت طائفة يقال لها الراوندية على المنصور.
ذكر ابن جرير عن المدائني: أن أصلهم من خراسان، وهم على رأي أبي مسلم الخراساني، كانوا يقولون بالتناسخ، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم أبو جعفر المنصور.
وأن الهيثم بن معاوية جبريل، قبحهم الله.
قال ابن جرير: فأتوا يوما قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون: هذا قصر ربنا، فأرسل المنصور إلى رؤسائهم فحبس منهم مائتين، فغضبوا من ذلك وقالوا: علام تحبسهم ؟ ثم عمدوا إلى نعش فحملوه على كواهلهم وليس عليه أحد، واجتمعوا حوله كأنهم يشيعون جنازة، واجتازوا بباب السجن، فألقوا النعش ودخلوا السجن قهرا واستخرجوا من فيه من أصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم في ستمائة، فتنادى الناس وغلقت أبواب البلد، وخرج المنصور من القصر ماشيا، لانه لم يجد دابة يركبها، ثم جئ بدابة فركبها وقصد نحو الراوندية وجاء الناس من كل ناحية، وجاء معن بن زائدة، فلما رأى المنصور ترجل وأخذ بلجام دابة المنصور، وقال: يا أمير المؤمنين ارجع ! نحن نكفيكهم.
فأبى وقام أهل الاسواق إليهم فقاتلوهم، وجاءت الجيوش فالتفوا عليهم من كل ناحية
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 498 والطبري 9 / 173: عصام.

فحصدوهم عن اخرهم، ولم يبق منهم بقية.
وجرحوا عثمان بن نهيك بسهم بين كتفيه، فمرض أياما
ثم مات، فصلى عليه الخليفة، وقام على قبره حتى دفن ودعا له، وولى أخاه عيسى بن نهيك على الحرس، وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية من الكوفة.
ولما فرغ المنصور من قتال الراوندية ذلك اليوم صلى بالناس الظهر في آخر وقتها، ثم أتي بالطعام فقال أين معن من زائدة ؟ وأمسك عن الطعام حتى جاء معن فأجلسه إلى جنبه، ثم أخذ في شكره لمن بحضرته لما رأى من شهامته يومئذ.
فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت وإني لوجل، فلما رأيت استهانتك بهم وإقدامك عليهم قوي قلبي واطمأن، وما ظننت أن أحدا يكون في الحرب هكذا، فذاك الذي شجعني يا أمير المؤمنين.
فأمر له المنصور بعشرة آف ور ؟ ي عنه وولاه اليمن.
وكان معن بن زائدة قبل ذلك مختفيا، لانه قاتل المسودة مع ابن هبيرة، فلم يظهر إلا في هذا اليوم.
فلما رأى الخليفة صدقة في قتاله رضي عنه.
ويقال: إن المنصور قال عن نفسه: أخطأت في ثلاث: قتلت أبا مسلم وأنا في جماعة قليلة، وحين خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبت الخلافة، ويوم الراوندية لو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا.
وهذا من حزمه وصرامته.
وفي هذه السنة ولى المنصور ابنه محمدا العهد من بعده ودعاه بالمهدي وولاه بلاد خراسان وعزل عنها عبد الجبار بن عبد الرحمن، وذلك أنه قتل خلقا من شيعة الخليفة، فشكاه المنصور إلى أبي أيوب كاتب الرسائل فقال: يا أمير المؤمنين أكتب إليه ليبعث جيشا كثيفا من خراسان إلى غزو الروم، فإذا خرجوا بعثت إليه من شئت فأخرجوه من بلاد خراسان ذليلا.
فكتب إليه المنصور بذلك، فرد الجواب بأن بلاد خراسان قد عائت بها الاتراك، ومتى خرج منها جيش خيف عليها وفسد أمرها.
فقال المنصور لابي أيوب: ماذا ترى ؟ قال: فاكتب إليه: إن بلاد خراسان أحق بالمدد لثغور المسلمين من غيرها، وقد جهزت إليك بالجنود.
فكتب إليه أيضا: إن بلاد خراسان ضيقة في هذا العام أقواتها، ومتى دخلها جيش أفسدها.
فقال الخليفة لابي أيوب: ما تقول ؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا رجل قد أبدى صفحته وخلع فلا تناظره.
فحينئذ بعث المنصور ابنه محمدا المهدي ليقيم بالري، فبعث المهدي بين يديه خازم بن خزيمة مقدمة إلى عبد الجبار، فما زال به يخدعه ومن معه حتى هرب من معه وأخذوه هو فأركبوه بعيرا محولا وجهه إلى ناحية ذنب البعير.
وسيروه كذلك في البلاد حتى أقدموه على المنصور
ومعه ابنه وجماعة من أهله، فضرب المنصور عنقه وسير ابنه ومن معه إلى جزيرة (1) في طرف اليمن، فأسرتهم الهنود بعد ذلك، ثم فودي بعضهم بعد ذلك.
واستقر المهدي نائبا على خراسان، وأمره أبوه أن يغزو طبرستان، وأن يحارب الاصبهبذ بمن معه من الجنود وأمده بجيش عليهم عمر بن العلاء، وكان من أعلم الناس بحرب طبرستان، وهو الذي يقول فيه الشاعر (2):
__________
(1) وهي دهلك (الطبري ابن الاثير).
(2) وهو بشار بن برد.

فقل للخليفة إن جئته * نصيحا ولا خير في المتهم إذا أيقظتك حروب العدى * فنبه لها عمرا ثم نم فتى لا بنام على دمنة * ولا يشرب الماء إلا بدم فلما تواقفت الجيوش على طبرستان فتحوها وحصروا الاصبهبذ حتى ألجأوه إلى قلعته فصالحهم على ما فيها من الذخائر، وكتب المهدي إلى أبيه بذلك، ودخل الاصبهبذ بلاد الديلم فمات هناك.
وكسروا أيضا ملك الترك الذي يقال له المصمغان، وأسروا أمما من الذراري، فهذا فتح طبرستان الاول.
وفيها فرغ بناء المصيصة على يدي جبريل بن يحيى الخراساني، وفيها رابط محمد بن إبراهيم الامام ببلاد ملطية.
وفيها عزل المنصور زياد بن عبيد الله عن إمرة الحجاز وولى المدينة محمد بن خالد القسري وقدمها في رجب.
وولى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العكي (1).
وفيها توفي موسى بن كعب وهو على شرطة المنصور.
وعلى مصر من كان عليها في السنة الماضية، ثم ولى مصر محمد بن الاشعث ثم عزله عنها وولى عليها نوفل بن الفرات.
وحج بالناس فيها صالح بن علي وهو نائب قنسرين وحمص ودمشق، وبقية البلاد عليها من ذكرنا في التي قبلها والله أعلم.
وفيها توفي أبان بن تغلب، وموسى بن عقبة، صاحب المغازي، وأبو إسحاق الشيباني في قول والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائة فيها خلع عيينة بن موسى بن كعب نائب السند الخليفة، فجهز إليه العساكر صحبة عمر بن حفص بن أبي صفرة، وولاه السند والهند، فحاربه عمر بن حفص وقهره على الارض وتسلمها منه.
وفيها نكث أصبهبذ طبرستان العهد الذي كان بينه وبين المسلمين، وقتل طائفة ممن كان بطبرستان، فجهز إليه الخليفة الجيوش صحبة خازم بن خزيمة، وروح بن حاتم، ومعهم مرزوق أبو الخصيب، مولى المنصور، فحاصروه مدة طويلة، فلما أعيالهم فتح الحصن الذي هو فيه احتالوا عليه، وذلك أن أبا الخصيب قال: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي، ففعلوا ذلك، فذهب إليه كأنه مغاضب للمسلمين قد ضربوه وحلقوا لحيته، فدخل الحصن ففرح به الاصبهبذ وأكرمه وقربه، وجعل أبو الخصيب يظهر له النصح والخدمة حتى خدعه، وحظي عنده جدا وجعله من جملة من يتولى فتح الحصن وغلقه، فلما تمكن من ذلك كاتب المسلمين وأعلمهم (2) أنه في الليلة الفلانية يفتح لهم، فاقتربوا من الباب حتى
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: العتكي.
(2) كتب كتابا وصيره في نشابة ورماها إليهم...(الطبري - ابن الاثير)

أفتحه لكم، فلما كانت تلك الليلة فتح لهم باب الحصن فدخلوا فقتلوا من فيه من المقاتلة وسبوا الذرية وامتص الاصبهبذ خاتما مسموما فمات.
وكان فيمن أسروا يومئذ أم منصور بن المهدي، وأم إبراهيم بن المهدي، وكانتا من بنات الملوك الحسان.
وفيها بنى المنصور لاهل البصرة قبلتهم التي يصلون عندها بالجبان (1)، وتولى بناءها سلمة بن سعيد بن جابر نائب الفرات والابلة.
وصام المنصور شهر رمضان بالبصرة وصلى بالناس العيد في ذلك المصلى.
وفيها عزل المنصور نوفل بن الفرات عن إمرة مصر وولى عليها حميد بن قحطبة.
وحج بالناس فيها إسماعيل بن علي.
وفيها توفي سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عم الخليفة ونائب البصرة.
كان ذلك يوم السبت لسبع بقين من جمادى الآخرة، وهو ابن تسع وخمسين سنة، وصلى عليه أخوه عبد الصمد.
روى عن أبيه وعكرمة وأبي بردة بن أبي موسى.
وعنه جماعة منهم بنوه جعفر، ومحمد، وزينب
والاصمعي.
وكان قد شاب وهو ابن عشرين سنة وخضب لحيته من الشيب في ذلك السن، وكان كريما جوادا ممدحا.
كان يعتق عشية عرفة في كل سنة مائة نسمة، وبلغت صلاته لبني هاشم وسائر قريش والانصار خمسة آلاف ألف واطلع يوما من قصره فرأى نسوة يغزلن في دار من دور البصرة، فاتفق في نظره هذا إليهن أن قالت واحدة منهن: لو أن الامير نظر إلينا واطلع على حالنا فأغنانا عن الغزل ؟ فنهض من فوره فجعل يدور في قصره ويجمع من حلى نسائه من الذهب والجواهر وغيرها ما ملا به منديلا كبيرا، ثم دلاه إليهن ونثر عليهن من الدنانير والدراهم شيئا كثيرا، فماتت إحداهن من شدة الفرح، فأعطى ديتها وما تركته من ذلك لورثتها.
وقد ولي الحج في أيام السفاح، وولي البصرة أيام المنصور، وكان من خيار بني العباس، وهو أخو إسماعيل وداود وصالح وعبد الصمد وعبد الله وعيسى ومحمد، وهو عم السفاح والمنصور.
وممن توفي فيها من الاعيان خالد الحذاء، وعاصم الاحول، وعمرو بن عبيد القدري في قول (2).
وهو عمرو بن عبيد بن ثوبان (3)، ويقال ابن كيسان، التيمي مولاهم أبو عثمان البصري، من أبناء فارس، شيخ القدرية والمعتزلة.
روى الحديث عن الحسن البصري وعبيد الله بن أنس، وأبي العالية وأبي قلابة، وعنه الحمادان وسفيان بن عيينة والاعمش - وكان من أقرانه - وعبد الوارث بن
__________
(1) في الطبري: الحمان، وفي معجم البلدان: جمان: محلة بالبصرة سميت بالقبيلة وهم بنو حمان بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
(2) في مروج الذهب 3 / 371: مات سنة أربع وأربعين (انظر أمالي المرتضى 1 / 169).
(3) في مروج الذهب ووفيات الاعيان 3 / 460: بن باب، مولى بني عقيل ثم آل عرادة بن يربوع بن مالك (وفي المروج: مولى بني تميم).

سعيد، وهارون بن موسى، ويحيى القطان، ويزيد بن زريع.
قال الامام أحمد بن حنبل: ليس بأهل أن يحدث عنه.
وقال علي بن المديني ويحيى بن معين: ليس بشئ، وزاد ابن معين وكان رجل سوء
وكان من الدهرية الذين يقولون إنما الناس مثل الزرع.
وقال الفلاس: متروك صاحب بدعة.
كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه وكان ابن مهدي لا يحدث عنه.
وقال أبو حاتم: متروك.
وقال النسائي ليس بثقة.
وقال شعبة عن يونس بن عبيد: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث.
وقال حماد بن سلمة: قال لي حميد: لا تأخذ عنه فإنه كان يكذب على الحسن البصري.
وكذا قال أيوب وعوف وابن عون.
وقال أيوب: ما كنت أعدله عقلا، وقال مطر الوراق: والله لا أصدقه في شئ.
وقال ابن المبارك: إنما تركوا حديثه لانه كان يدعو إلى القدر.
وقد ضعفه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، وأثنى عليه آخرون في عبادته وزهده وتقشفه.
قال الحسن البصري: هذا سيد شباب القراء ما لم يحدث.
قالوا: فأحدث والله أشد الحدث.
وقال ابن حبان: كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث واعتزل مجلس الحبس هو وجماعة معه فسموا المعتزلة، وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث، وهما لا تعمدا.
وقد روي عنه أنه قال: إن كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ فما تعد منه على ابن آدم حجة.
وروى له حديث ابن مسعود: حدثنا الصادق المصدوق " أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما " حتى قال: " فيؤمر بأربع كلمات.
رزقه وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد " إلى آخره.
فقال: لو سمعت الاعمش يرويه لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أحببته، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ما على هذا أخذت علينا الميثاق.
وهذا من أقبح الكفر، لعنه الله إن كان قال هذا.
وإذا كان مكذوبا عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: أيها الطالب علما * إيت حماد بن زيد فخذ العلم بحلم * ثم قيده بقيد وذر البدعة من * آثار عمرو بن عبيد وقال ابن عدي: كان عمرو يغر الناس بتقشفه، وهو مذموم ضعيف الحديث جدا، معلن بالبدع.
وقال الدار قطني: ضعيف الحديث.
وقال الخطيب البغدادي: جالس الحسن واشتهر بصحبته ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة وقال بالقدر ودعا إليه، واعتزل أصحاب
الحديث، وكان له سمت وإظهار زهد.
وقد قيل: إنه وواصل بن عطاء ولدا سنة ثمانين، وحكى البخاري أن عمرا مات سنة ثنتين أو ثلاث وأربعين ومائة بطريق مكة، وقد كان عمرو محظيا عند أبي جعفر المنصور، كان المنصور يحبه ويعظمه لانه كان يفد على المنصور مع القراء فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئا، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله، لان المنصور كان بخيلا وكان يعجبه ذلك منه وينشد:

كلكم يمشي رويد * كلكم يطلب صيد * غير عمرو بن عبيد ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الارض مثل عمرو بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح، فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين في زمانه.
وقد روينا عن إسماعيل بن خالد القعنبي قال: رأيت الحسن بن جعفر في المنام بعد ما مات بعبادان فقال لي: أيوب ويونس وابن عون في الجنة.
قلت: فعمرو بن عبيد ؟ قال: في النار.
ثم رآه مرة ثانية ويروى ثالثة، فيسأله فيقول له مثل ذلك.
وقد رؤيت له منامات قبيحة، وقد أطال شيخنا في تهذيبه في ترجمته ولخصنا حاصلها في كتابنا التكميل، وأشرنا ههنا إلى نبذ من حاله ليعرف فلا يغتر به والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة فيها ندب المنصور الناس إلى غزو الديلم، لانهم قتلوا من المسلمين خلقا، وأمر أهل الكوفة والبصرة من كان منهم يقدر على عشرة آلاف فصاعدا فليذهب مع الجيش إلى الديلم، فانتدب خلق كثير وجم غفير لذلك.
وحج بالناس عيسى بن موسى نائب الكوفة وأعمالها.
وفيها توفي حجاج الصواف، وحميد بن رؤية الطويل، وسليمان بن طرخان التيمي، وقد ذكرناه في التي قبلها، وعمرو بن عبيد في قول، وليث بن أبي سليم على الصحيح.
ويحيى بن سعيد الانصاري.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة فيها سار محمد بن أبي العباس السفاح عن أمر عمه المنصور إلى بلاد الديلم ومعه الجيوش من
الكوفة والبصرة وواسط والموصل والجزيرة.
وفيها قدم محمد بن [ أبي ] جعفر المنصور المهدي على أبيه من بلاد خراسان ودخل بابنة عمه رايطة (1) بنت السفاح بالحيرة.
وفيها حج بالناس أبو جعفر المنصور واستخلف على الحيرة والعسكر خازم بن خزيمة، وولى رباح بن عثمان المزني (2) المدينة وعزل عنها محمد بن خالد القسري، وتلقى الناس أبا جعفر المنصور إلى أثناء طريق مكة في حجه في سنة أربع وأربعين ومائة.
وكان في جملة من تلقاه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فأجلسه المنصور معه على السماط، ثم جعل يحادثه بإقبال زائد بحيث أن المنصور اشتغل بذلك عن عامة غدائه، وسأله عن أبنيه إبراهيم ومحمد لم لا جاءاني مع الناس ؟ فحلف عبد الله بن حسن أنه لا يدري أين صارا من أرض الله.
وصدق في ذلك، وما ذاك إلا أن محمد بن عبد الله بن حسن كان قد بايعه جماعة
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 513 والطبري 9 / 180: ريطة.
(2) في الطبري وابن الاثير: المري.

من أهل الحجاز في أواخر دولة مروان الحمار بالخلافة وخلع مروان، وكان في جملة من بايعه على ذلك أبو جعفر المنصور، وذلك قبل تحويل الدولة إلى بني العباس، فلما صارت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور خاف محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم منه خوفا شديدا.
وذلك لان المنصور توهم منهما أنهما لا بد أن يخرجا عليه كما أرادا أن يخرجا على مروان، والذي توهم منه المنصور وقع فيه، فذهبا هربا في البلاد الشاسعة فصارا إلى اليمن، ثم سارا إلى الهند فاختفيا بها، فدل على مكانهما الحسن بن زيد فهربا إلى موضع آخر، فاستدل عليه الحسن بن زيد ودل عليهما، ثم كذلك.
وانتصب إلبا عليهما عند المنصور.
والعجب منه أنه من أتباعهما.
واجتهد المنصور بكل طريق على تحصيلهما فلم يتفق له ذلك، وإلى الآن.
فلما سأل أباهما عنهما حلف أنه لا يدري أين صارا من أرض الله، ثم ألح المنصور على عبد الله في طلب ولديه فغضب عبد الله من ذلك وقال: والله لو كانا تحت قدمي ما دللتك عليهما.
فغضب المنصور وأمر بسجنه وأمر ببيع رقيقه وأمواله، فلبث في السجن ثلاث سنين، وأشاروا على المنصور بحبس بني حسن عن آخرهم فحبسهم، وجد في طلب
إبراهيم ومحمد جدا، هذا وهما يحضران الحج في غالب السنين ويكمنان في المدينة في غالب الاوقات، ولا يشعر بهما من ينم عليهما ولله الحمد.
والمنصور يعزل نائبا عن المدينة ويولي عليها غيره ويحرضه على إمساكهما والفحص عنهما، وبذل الاموال في طلبهما، وتعجزه المقادير عنهما لما يريده الله عز وجل.
وقد واطأهما على أمرهما أمير من أمراء المنصور يقال له أبو العساكر خالد بن حسان، فعزموا في بعض الحجات على الفتك بالمنصور بين الصفا والمروة، فنهاهم عبد الله بن حسن لشرف البقعة.
وقد اطلع المنصور على ذلك وعلم بما مالاهما ذلك الامير، فعذبه حتى أقر بما كانوا تمالؤا عليه من الفتك به.
فقال: وما الذي صرفكم عن ذلك ؟ فقال: عبد الله بن حسن نهانا عن ذلك، فأمر به الخليفة فغيب في الارض فلم يظهر حتى الآن (1).
وقد استشار المنصور من يعلم من أمرائه ووزارئه من ذوي الرأي في أمر ابني عبد الله بن حسن، وبعث الجواسيس والقصاد في البلاد فلم يقع لهما على خبر، ولا ظهر لهما على عين ولا أثر، والله غالب على أمره.
وقد جاء محمد بن عبد الله بن حسن إلى أمه فقال يا أمه ! إني قد شفقت على أبي وعمومتي، ولقد هممت أن أضع يدي في يد هؤلاء لاريح أهلي.
فذهبت أمه إلى السجن فعرضت عليهم ما قال ابنها، فقالوا: لا ولا كرامة، بل نصبر على أمره فلعل الله أن يفتح على يديه خيرا، ونحن نصبر وفرجنا بيد الله إن شاء فرج عنا، وإن شاء ضيق.
وتمالؤا كلهم على ذلك رحمهم الله.
وفيها نقل آل حسن من حبس المدينة إلى حبس بالعراق وفي أرجلهم القيود، وفي أعناقهم الاغلال.
وكان ابتداء تقييدهم من الربذة بأمر أبي جعفر المنصور، وقد أشخص معهم محمد بن عبد
__________
(1) في الطبري 9 / 191 وابن الاثير 5 / 518: لم يظفر به المنصور فإنه لحق بمحمد بن عبد الله بن محمد.

الله العثماني، وكان أخا عبد الله بن حسن لامه، وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد حملت قريبا، فاستحضره الخليفة وقال: قد حلفت بالعتاق والطلاق إنك لم تغشني، وهذه ابنتك حامل، فإن كان من زوجها فقد حبلت منه وأنت تعلم به، وإن كان من غيره فأنت ديوث.
فأجابه العثماني بجواب أحفظه به، فأمر به فجردت عنه ثيابه فإذا جسمه مثل الفضة النقية، ثم ضربه بين
يديه مائة وخمسين سوطا، منها ثلاثون فوق رأسه، أصاب أحدها عينه فسالت، ثم رده إلى السجن وقد بقي كأنه عبد أسود من زرقة الضرب، وتراكم الدماء فوق جلده، فأجلس إلى جانب أخيه لامه عبد الله بن حسن، فاستسقى ماء فما جسر أحد أن يسقيه حتى سقاه خراساني من جملة الجلاوزة الموكلين بهم.
ثم ركب المنصور هودجه وأركبوا أولئك في محامل ضيقة، وعليهم القيود والاغلال، فاجتاز بهم المنصور وهو في هودجه، فناداه عبد الله بن حسن: والله يا أبا جعفر ما هكذا صنعنا بأسرائكهم يوم بدر، فأخسأ ذلك المنصور وثقل عليه ونفر عنهم.
ولما انتهوا إلى العراق حبسوا بالهاشمية، وكان فيهم محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وكان جميلا فتيا، فكان الناس يذهبون لينظروا إلى حسنه وجماله.
وكان يقال له: الديباح الاصغر، فأحضره المنصور بين يديه وقال له: أما لاقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا.
ثم ألقاه بين إسطوانتين وسد عليه حتى مات.
فعلى المنصور ما يستحقه من عذاب الله ولعنته.
وقد هلك كثير منهم في السجن حتى فرج عنهم بعد هلاك المنصور على ما سنذكره.
فكان فيمن هلك في الجسن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وقد قيل والاظهر أنه قتل صبرا، وأخوه إبراهيم بن الحسن وغيرهما، وقل من خرج منهم من الحبس، وقد جعلهم المنصور في سجن لا يسمعون فيه أذانا، ولا يعرفون فيه وقت صلاة إلا بالتلاوة، ثم بعث أهل خراسان يشفعون في محمد بن عبد الله العثماني، فأمر به فضربت عنقه وأرسل برأسه إلى أهل خراسان، لا جزاه الله خيرا، ورحم الله محمد بن عبد الله العثماني.
وهو محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الاموي رحمه الله، أبو عبد الله المدني المعروف بالديباج، لحسن وجهه.
وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي، روى الحديث عن أبيه وأمه وخارجة بن زيد وطاوس وأبي الزناد والزهري ونافع وغيرهم، وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان، وكان أخا عبد الله بن حسن لامه، وكانت ابنته رقية زوجة ابن أخيه إبراهيم بن عبد الله، وكانت من أحسن النساء، وبسببها قتله أبو جعفر المنصور في هذه السنة.
وكان كريما جوادا ممدحا.
قال الزبير بن بكار: أنشدني سليمان بن عباس السعدي لابي وجزة السعدي يمدحه: وجدنا المحض الابيض من قريش * فتى بين الخليفة والرسول
أتاك المجد من هنا وهناك * وكنت له بمعتلج السيول فما للمجد دونك من مبيت * وما للمجد دونك من مقيل ولا يمضي وراءك يبتغيه * ولا هو قابل بك من بديل

ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة فمما كان فيها من الاحداث مخرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة، على ما سنبينه إن شاء الله.
أما محمد فإنه خرج على أثر ذهاب أبي جعفر المنصور بأهله بني حسن من المدينة إلى العراق على الصفة والنعت الذي تقدم ذكره، وسجنهم في مكان ساء مستقرا ومقاما، لا يسمعون فيه أذانا ولا يعرفون فيه دخول أوقات صلوات إلا بالاذكار والتلاوة.
وقد مات أكثر أكابرهم هنالك رحمهم الله.
هذا كله ومحمد الذي يطلبه مختف بالمدينة، حتى أنه في بعض الاحيان اختفى في بئر نزل في مائه كله إلا رأسه، وباقيه مغمور بالماء، وقد تواعد هو وأخوه وقتا معينا يظهران فيه، هو بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، ولم يزل الناس - أهل المدينة وغيرهم - يؤنبون محمد بن عبد الله في اختفائه وعدم ظهوره حتى عزم على الخروج، وذلك لما أضر به شدة الاختفاء وكثرة إلحاح رياح نائب المدينة في طلبه ليلا ونهارا، فلما اشتد به الامر وضاق الحال واعد أصحابه على الظهور في الليلة الفلانية، فلما كانت تلك الليلة جاء بعض الوشاة (1) إلى متولي المدينة فأعلمه بذلك، فضاق ذرعا وانزعج لذلك انزعاجا شديدا، وركب في جحافله فطاف بالمدينة وحول دار مروان، وهم مجتمعون بها، فلم يشعر بهم.
فلما رجع إلى منزله بعث إلى بني حسين بن علي فجمعهم ومعهم رؤوس من سادات قريش وغيرهم، فوعظهم وأنبهم وقال: يا معشر أهل المدينة، أمير المؤمنين يتطلب هذا الرجل في المشارق والمغارب وهو بين أظهركم، ثم ما كفاكم حتى بايعتموه على السمع والطاعة ؟ والله لا يبلغني عن أحد منكم خرج معه إلا ضربت عنقه.
فأنكر الذين هم هنالك حاضرون أن يكون عندهم علم أو شعور بشئ من هذا، وقالوا: نحن نأتيك برجال مسلحين يقاتلون دونك إن وقع شئ من ذلك.
فنهضوا فجاؤوه بجماعة مسلحين فاستأذنوه في دخولهم عليه، فقال: لا إذن لهم إني أخشى أن يكون ذلك
خديعة.
فجلس أولئك على الباب ومكث الناس جلوسا حول الامير وهو واجم لا يتكلم إلا قليلا حتى ذهبت طائفة من الليل، ثم ما فجئ الناس إلا وأصحاب محمد بن عبد الله قد ظهروا وأعلنوا بالتكبير، فانزعج الناس في جوف الليل، وأشار بعض الناس على الامير أن يضرب أعناق بني حسين، فقال أحدهم: علام ونحن مقرون بالطاعة ؟ واشتغل الامير عنهم بما فجأه من الامر، فاغتنموا الغفلة ونهضوا سراعا فتسوروا جدار الدار وألقوا أنفسهم على كناسة هنالك.
وأقبل محمد بن عبد الله بن حسن في مائتين (2) وخمسين، فمر بالسجن فأخرج من فيه، وجاء دار الامارة فحاصرها فافتتحها ومسك الامير رياح بن عثمان نائب المدينة فسجنه في دار مروان، وسجن معه ابن مسلم بن عقبة، وهو الذي أشار بقتل بني حسين في أول هذه الليلة فنجوا وأحيط به، وأصبح محمد بن عبد الله بن حسن وقد استظهر على المدينة ودان له أهلها، فصلى بالناس الصبح وقرأ
__________
(1) وهو سليمان بن عبد الله بن أبي سبرة (الطبري - ابن الاثير).
(2) في ابن الاثير 5 / 530: مائة.

فيها سورة إنا فتحنا لك فتحا مبينا.
وأسفرت هذه الليلة عن مستهل رجب من هذه السنة.
وقد خطب محمد بن عبد الله أهل المدينة في هذا اليوم، فتكلم في بني العباس وذكر عنهم أشياء ذمهم بها، وأخبرهم أنه لم ينزل بلدا من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة (1)، فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل.
وقد روى ابن جرير عن الامام مالك: أنه أفتى الناس بمبايعته، فقيل له: فإن في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: إنما كنتم مكرهين وليس لمكره بيعة.
فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك، ولزم مالك بيته.
وقد قال إسماعيل بن عبد الله بن جعفر حين دعاه إلى بيعته: يا بن أخي إنك مقتول.
فارتدع بعض الناس عنه واستمر جمهورهم معه، فاستناب عليهم عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي، وعلى شرطتها عثمان بن عبد الله (2) بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الله (3) بن مسور بن مخرمة،
وتلقب بالمهدي طمعا أن يكون هو المذكور في الاحاديث فلم يكن به، ولا تم له ما رجاه ولا تمناه، فإنا لله.
وقد ارتحل بعض أهل المدينة (4) عنها ليلة دخلها، فطوى المراحل البعيدة إلى المنصور في سبع ليال، فورد عليه فوجده نائما في الليل، فقال للربيع الحاجب: استأذن على الخليفة، فقال: إنه لا يوقظ في هذه الساعة.
فقال: إنه لا بد من ذلك فأخبر الخليفة فخرج فقال: ويحك ! ما وراءك ؟ فقال: إنه خرج ابن حسن بالمدينة.
فلم يظهر المنصور لذلك اكتراثا وانزعاجا، بل قال: أنت رأيته ؟ قال: نعم ! فقال: هلك والله وأهلك معه من اتبعه ثم أمر بالرجل فسجن، ثم جاءت الاخبار بذلك فتواترت.
فأطلقه المنصور وأطلق له عن كل ليلة ألف درهم فأعطاه سبعة (5) آلاف درهم.
ولما تحقق المنصور الامر من خروجه ضاق ذرعا، فقال له بعض المنجمين: يا أمير المؤمنين لا عليك منه، فوالله لو ملك الارض بحذافيرها فإنه لا يقيم أكثر من سبعين يوما.
ثم أمر المنصور جميع رؤوس الامراء أن يذهبوا إلى السجن فيجتمعوا بعبد الله بن حسن - والد محمد - فيخبروه بما وقع من خروج ولده ويسمعوا ما يقول لهم.
فلما دخلوا عليه أخبروه بذلك فقال: ما ترون ابن سلامة فاعلا ؟ - يعني المنصور - فقالوا: لا ندري.
فقال: والله لقد قتل صاحبكم البخل ينبغي له أن ينفق الاموال
__________
(1) نص خطبته في ابن الاثير 5 / 531.
وتاريخ الطبري 9 / 204 - 205.
(2) في الطبري وابن الاثير: عبيد الله (3) في الطبري وابن الاثير: عبد الرحمن.
(4) وهو رجل من آل أويس بن أبي سرح العامري عامر بن لؤي، اسمه الحسين بن صخر (ابن الاثير 5 / 533 - الطبري 9 / 208).
(5) في الطبري وابن الاثير: تسعة آلاف درهم عن كل ليلة ألف درهم، لانه قضى تسع ليال من المدينة إلى أبي جعفر.

ويستخدم الرجال، فإن ظهر فاسترجاع ما أنفق سهل، وإلا لم يكن لصاحبكم شئ في الخزائن وكان ما خزن لغيره.
فرجعوا إلى الخليفة فأخبروه بذلك، وأشار الناس على الخليفة بمناجزته، فاستدعى
عيسى بن موسى فندبه إلى ذلك، ثم قال: إني سأكتب إليه كتابا أنذره به قبل قتاله فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم ! من عبد الله بن عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا) الآية إلى قوله: (فاعلموا أن الله غفور رحيم) [ المائدة: 33 - 34 ] ثم قال: فلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، إن أنت رجعت إلى الطاعة لاومننك ومن اتبعك، ولاعطينك ألف ألف درهم، ولادعنك تقيم في أحب البلاد إليك، ولاقضين لك جميع حوائجك، في كلام طويل.
فكتب إليه محمد جواب كتابه: من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله بن حسن: (بسم الله الرحمن الرحيم طسم تلك آيات الكتاب المبين، نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون، إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين، وتريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) [ القصص: 1 - 5 ] ثم قال: وإني أعرض عليك من الامان مثل ما عرضت علي، فأنا أحق بهذا الامر منكم، وأنتم إنما وصلتم إليه بنا، فإن عليا كان الوصي وكان الامام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ؟ ونحن أشرف أهل الارض نسبا، فرسول الله خير الناس وهو جدنا، وجدتنا خديجة وهي أفضل زوجاته، وفاطمة ابنته أمنا وهي أكرم بناته، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإن حسنا ولده عبد المطلب مرتين، وهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد أبي مرتين، وإني أوسط بني هاشم نسبا (1)، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأخفهم عذابا في النار.
فأنا أولى بالامر منك، وأولى بالعهد وأوفى به منك، فإنك تعطي العهد ثم تنكث ولا تفي، كما فعلت بابن هبيرة فإنك أعطيته العهد ثم غدرت به، ولا أشد عذابا من إمام غادر، وكذلك فعلت بعمك عبد الله بن علي، وأبي مسلم الخراساني.
ولو أعلم أنك تصدق لاجبتك لما دعوتني إليه، ولكن الوفاء بالعهد من مثلك لمثلي بعيد والسلام.
فكتب إليه أبو جعفر جواب ذلك في كتاب طويل حاصله: أما بعد فقد قرأت كتابك فإذا جل فخرك وإدلالك قرابة النساء لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا
كالعصبية والاؤلياء، وقد أنزل الله (وأنذر عشيرتك الاقربين) [ الشعراء: 214 ] وكان له حينئذ أربعة أعمام، فاستجاب له اثنان أحدهما جدنا، وكفر اثنان أحدهما أبوك - يعني جده أبا طالب - فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينهما إلا ولا ذمة، وقد أنزل الله في عدم إسلام أبي طالب (إنك لا
__________
(1) زيد في الطبري وابن الاثير: وأصرحهم أبا، لم تعرق في العجم، ولم تنازع في أمهات الاولاد...

تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) [ القصص: 56 ] وقد فخرت به وأنه أخف أهل النار عذابا، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمن أن يفخر بأهل النار، وفخرت بأن عليا ولده هاشم مرتين.
وأن حسنا ولده عبد المطلب مرتين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولده عبد الله مرة واحدة، وقولك إنك لم تلدك أمهات أولاد، فهذا إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية، وهو خير منك، وعلي بن الحسن من أم ولد وهو خير منك، وكذلك ابنه محمد بن علي، وابنه جعفر بن محمد، جداتهما أمهات أولاد وهما خير منك، وأما قولك بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) [ الاحزاب: 40 ] وقد جاءت السنة التي لا خلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الام والخال والخالة لا يورثون، ولم يكن لفاطمة ميراث من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص الحديث.
وقد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوك حاضر فلم يأمره بالصلاة بالناس، بل أمر غيره.
ولما توفي لم يعدل الناس بأبي بكر وعمر أحدا، ثم قدموا عليه عثمان في الشورى والخلافة، ثم لما قتل عثمان اتهمه بعضهم به، وقاتله طلحة والزبير على ذلك، وامتنع سعد من مبايعته ثم بعد ذلك معاوية، ثم طلبها أبوك وقاتل عليها الرجال، ثم اتفق على التحكيم فلم يف به، ثم صارت إلى الحسن فباعها بخرق ودراهم، وأقام بالحجاز يأخذ مالا من غير حله، وسلم الامر إلى غير أهله، وترك شيعته في أيدي بني أمية ومعاوية.
فإن كانت لكم فقد تركتموها وبعتموها بثمنها.
ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة وكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وحرقوكم بالنار، وحملوا نساءكم على الابل كالسبايا إلى الشام، حتى خرجنا عليهم نحن فأخذنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم، وذكرنا فضل سلفكم، فجعلت ذلك حجة علينا،
وظننت أنا إنما ذكرنا فضله على أمثاله على حمزة والعباس وجعفر، وليس الامر كما زعمت، فإن هؤلاء مضوا ولم يدخلوا في الفتن، وسلموا من الدنيا فلم تنقصهم شيئا، فاستوفوا ثوابهم كاملا، وابتلى بذلك أبوك.
وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلوات المكتوبات، فأحيينا ذكره وذكرنا فضله وعنفناهم بما نالوا منه، وقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية بسقاية الحجيج الاعظم، وخدمة زمزم، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بها.
ولما قحط الناس زمن عمر استسقى بأبينا العباس، وتوسل به إلى ربه وأبوك حاضر، وقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا العباس، فالسقاية سقايته، والوراثة وراثته، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف في الجاهلية والاسلام إلا والعباس وارثه ومورثه، في كلام طويل فيه بحث ومناظرة وفصاحة.
وقد استقصاه ابن جرير (1) بطوله والله سبحانه أعلم.
__________
(1) انظر الطبري 9 / 211 وما بعدها وابن الاثير 5 / 538 باختلاف في بعض الالفاظ وزيادة ونقصان بعض العبارات.

فصل مقتل محمد بن عبد الله بن حسن بعث محمد بن عبد الله بن حسن في غبون ذلك رسولا إلى أهل الشام يدعوهم إلى بيعته وخلافته فأبوا قبول ذلك منه، وقالوا: قد ضجرنا من الحروب ومللنا من القتال.
وجعل يستميل رؤوس اهل المدينة، فمنهم من أجابه ومنهم من امتنع عليه، وقال له بعضهم: كيف أبايعك وقد ظهرت في بلد ليس فيه مال تستعين به على استخدام الرجال ؟ ولزم بعضهم منزله فلم يخرج حتى قتل محمد.
وبعث محمد هذا الحسين (1) بن معاوية بن سبعين رجلا ونحوا من عشرة فوارس إلى مكة نائبا إن هو دخلها فساروا إليها، فلما بلغ أهلها قدومهم خرجوا إليهم في ألوف من المقاتلة، فقال لهم الحسن بن معاوية علام تقاتلون وقد مات أبو جعفر ؟ فقال السري بن عبد الله زعيم أهل مكة: إن برده جاءتنا من أربع ليال وقد أرسلت إليه كتابا فأنا أنتظر جوابه إلى أربع، فإن كان ما تقولون حقا سلمتكم البلد وعلي مؤنة رجالكم وخيلكم.
فامتنع الحسن بن معاوية من الانتظار وأبى إلا المناجزة، وحلف لا يبيت الليلة إلا
بمكة، إلا أن يموت.
وأرسل إلى السري أن أبرز من الحرم إلى الحل حتى لا تراق الدماء في الحرم.
فلم يخرج، فتقدموا إليهم فصافوهم فحمل عليه الحسن وأصحابه حملة واحدة فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعة، ودخلوا مكة.
فلما أصبحوا خطب الحسن بن معاوية الناس وأغراهم بأبي جعفر، ودعاهم إلى محمد بن عبد الله بن حسن المهدي.
خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن وظهر بالبصرة أيضا إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وجاء البريد إلى أخيه محمد فانتهى إليه ليلا فاستؤذن له عليه وهو بدار مروان فطرق بابها.
فقال: اللهم إني أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن.
ثم خرج فأخبر أصحابه عن أخيه فاستبشروا جدا وفرحوا كثرا، وكان يقول للناس بعد صلاة الصبح والمغرب: ادعو الله لاخوانكم أهل البصرة، وللحسن بن معاوية بمكة، واستنصروه على أعدائكم.
وأما ما كان من المنصور فإنه جهز الجيوش إلى محمد بن عبد الله بن حسن، صحبة عيسى بن موسى عشرة آلاف فارس من الشجعان المنتخبين، منهم محمد بن أبي العباس السفاح، وجعفر بن حنظلة البهراني، وحميد بن قحطبة، وكان المنصور قد استشاره فيه فقال: يا أمير المؤمنين ادع بمن شئت ممن تثق به من مواليك فابعث بهم إلى وادي القرى يمنعونهم من ميرة الشام، فيموت هو ومن معه
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: الحسن.

جوعا، فإنه ببلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح.
وقدم بين يديه كثير بن الحصين العبدي وقد قال المنصور لعيسى بن موسى حين ودعه: يا عيسى ! إني أبعثك إلى جنبي هذين، فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك وناد في الناس بالامان وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم أعلم بمذاهبه.
وكتب معه كتبا إلى رؤساء قريش والانصار من أهل المدينة يدفعها إليهم خفية يدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة.
فلما اقترب عيسى بن موسى من المدينة بعث الكتب مع رجل فأخذه حرس محمد بن عبد الله بن حسن فوجدوا معه تلك الكتب فدفعوها إلى محمد فاستحضر جماعة من أولئك
فعاقبهم وضربهم ضربا شديدا وقيدهم قيودا ثقالا، وأودعهم السجن.
ثم إن محمدا استشار أصحابه بالقيام بالمدينة حتى يأتي عيسى بن موسى فيحاصرهم بها، أو أنه يخرج بمن معه فيقاتل أهل العراق ؟ فمنهم من أشار بهذا، ومنهم من أشار بذاك، ثم اتفق الرأي على المقام بالمدينة، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم ندم يوم احد على الخروج منها، ثم اتفقوا على حفر خندق حول المدينة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب، فأجاب إلى ذلك كله، وحفر مع الناس في الخندق بيده اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر لهم لبنة من الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرحوا بذلك وكبروا وبشروه بالنصر.
وكان محمد حاضرا عليه قباء أبيض وفي وسطه منطقة، وكان شكلا ضخما أسمر عظيم الهامة.
ولما نزل عيسى بن موسى الاعوص واقترب من المدينة، صعد محمد بن عبد الله المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد - وكانوا قريبا من مائة ألف - فقال لهم في جملة ما قال: إني جعلتكم في حل من بيعتي، فمن أحب منكم أن يقيم عليها فعل.
ومن أحب أن يتركها فعل.
فتسلل كثير منهم أو أكثرهم عنه، ولم يبق إلا شرذمة قليلة معه، وخرج أكثر أهل المدينة بأهليهم منها لئلا يشهدوا القتال بها، فنزلوا الاعراض ورؤوس الجبال.
وقد بعث محمد أبا الليث (1) ليردهم عن الخروج فلم يمكنه ذلك في أكثرهم، واستمروا ذاهبين.
وقال محمد لرجل اتأخذ سيفا ورمحا وترد هؤلاء الذين خرجوا من المدينة ؟ فقال: نعم إن أعطيتني رمحا أطعنهم وهم بالاعراض، وسيفا أضربهم وهم في رؤوس الجبال فعلت.
فسكت محمد ثم قال لي: ويحك ؟ إن أهل الشام والعراق وخراسان قد بيضوا - يعني لبسوا البياض - موافقة لي وخلعوا السواد.
فقال: وماذا ينفعني أن لو بقيت الدنيا زبدة بيضاء - وأنا في مثل صوفة الدواة، وهذا عيسى بن موسى نازل بالاعوص.
ثم جاء عيسى بن موسى فنزل قريبا من المدينة، على ميل منها، فقال له دليله ابن الاصم: إني أخشى إذا كشفتموهم أن يرجعوا إلى معسكرهم سريعا قبل أن تدركهم الخيل.
ثم ارتحل به فأنزله الجرف على سقاية سليمان بن عبد الملك على أربعة أميال من المدينة، وذلك يوم السبت لصبح اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان من هذه السنة.
وقال: إن الراجل إذا هرب لا يقدر على الهرولة أكثر من ميلين أو ثلاثة فتدركه الخيل.
وأرسل عيسى بن موسى خمسمائة فارس فنزلوا عند الشجرة في طريق مكة، وقال لهم هذا
__________
(1) في الطبري 9 / 220 وابن الاثير 5 / 545: أبا القلمس.

الرجل إن هرب فليس له ملجأ إلا مكة، فحولوا بينه وبينها.
ثم أرسل عيسى إلى محمد يدعوه إلى السمع والطاعة لامير المؤمنين المنصور، وأنه قد أعطاه الامان له ولاهل بيته إن هو أجابه.
فقال محمد للرسول: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك.
ثم بعث إلى عيسى بن موسى يقول له: إني أدعوك إلى كتاب الله وسنة رسوله، فاحذر أن تمتنع فأقتلك فتكون شر قتيل، أو تقتلني فتكون قتلت من دعاك إلى الله ورسوله.
ثم جعلت الرسل تتردد بينهما ثلاثة أيام.
هذا يدعو هذا، وهذا يدعو هذا.
وجعل عيسى بن موسى يقف في كل يوم من هذه الايام الثلاثة على الثنية عند سلع فينادي: يا أهل المدينة إن دماءكم علينا حرام فمن جاءنا فوقف تحت رايتنا فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، فليس لنا في قتالكم أرب، وإنما نريد محمدا وحده لنذهب به إلى الخليفة.
فجعلوا يسبونه وينالون من أمه، ويكلمونه بكلام شنيع، ويخاطبونه مخاطبة فظيعة، وقالوا له: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا ونحن معه، نقاتل دونه.
فلما كان اليوم الثالث أتاهم في خيل ورجال وسلاح ورماح لم ير مثلها، فناداه يا محمد ! إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتلك حتى أدعوك إلى الطاعة، فإن فعلت أمنك وقضى دينك وأعطاك أموالا وأراضي، وإن أبيت قاتلتك فقد دعوتك غير مرة.
فناداه محمد: إن ليس لكم عندي إلا القتال.
فنشبت الحرب حينئذ بينهم، وكان جيش عيسى بن موسى فوق أربعة آلاف، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بن السفاح، وعلى ميسرته داود بن كرار، وعلى الساقة الهيثم بن شعبة، ومعهم عدد لم ير مثلها.
وفرق عيسى أصحابه في كل قطر طائفة.
وكان محمد وأصحابه على عدة أصحاب أهل بدر، واقتتل الفريقان قتالا شديدا جدا، وترجل محمد إلى الارض فيقال إنه قتل بيده من جيش عيسى بن موسى سبعين رجلا من أبطالهم، وأحاط بهم أهل العراق فقتلوا طائفة من أصحاب محمد بن عبد الله بن حسن، فاقتحموا عليهم الخندق الذي كانوا حفروه وعملوا أبوابا على قدره، وقيل إنهم ردموه بحدائج الجمال حتى أمكنهم أن يجوزوه، وقد يكونون فعلوا هذا موضع منه،
وهذا في موضع آخر والله أعلم.
ولم تزل الحرب ناشبة بينهم حتى صليت العصر.
فلما صلى محمد العصر نزلوا إلى مسيل الوادي بسلع فكسر جفن سيفه وعقر فرسه وفعل أصحابه مثله وصبروا أنفسهم للقتال وحميت الحرب حينئذ جدا، فاستظهر أهل العراق، ورفعوا راية سوداء فوق سلع، ثم دنوا إلى المدينة فدخلوها ونصبوا راية سوداء فوق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا: أخذت المدينة، وهربوا وبقي محمد في شرذمة قليلة جدا ثم بقي وحده وليس معه أحد، وفي يده سيف صلت يضرب به من تقدم إليه، فكان لا يقوم له شئ إلا أنامه، حتى قتل خلقا من أهل العراق من الشجعان، ويقال إنه كان في يده يومئذ ذو الفقار ثم تكاثر عليه الناس فتقدم إليه رجل فضربه بسيفه تحت شحمة أذنه اليمنى فسقط لركبتيه وجعل يحمي

نفسه ويقول: ويحكم ابن نبيكم مجروح مظلوم.
وجعل حميد بن قحطبة يقول: ويحكم ! دعوه لا تقتلوه، فأحجم عنه الناس وتقدم حميد بن قحطبة فحز رأسه وذهب به إلى عيسى بن موسى فوضعه بين يديه.
وكان حميد قد حلف أن يقتله متى رآه، فما أدركه إلا كذلك ولو كان على حاله وقوته لما استطاعه حميد ولا غيره من الجيش.
وكان مقتل محمد بن عبد الله بن حسن عند أحجار الزيت يوم الاثنين بعد العصر، لاربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، وقال عيسى بن موسى لاصحابه حين وضع رأسه بين يديه: ما تقولون فيه ؟ فنال منه أقوام وتكلموا فيه، فقال رجل: كذبتم والله ! لقد كان صواما قواما، ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصى المسلمين فقتلناه على ذلك.
فسكتوا حينئذ.
وأما سيفه ذو الفقار فإنه صار إلى بني العباس يتوارثونه حتى جربه بعضهم فضرب به كلبا فانقطع.
ذكره ابن جرير وغيره.
وقد بلغ المنصور في غبون هذا الامر أن محمدا فر من الحرب فقال: هذا لا يكون، فإنا أهل بيت لا نفر.
وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن راشد، حدثني أبو الحجاج قال: إني لقائم على رأس
المنصور وهو يسألني عن مخرج محمد، إذ بلغه أن عيسى بن موسى قد انهزم وكان متكئا فجلس فضرب بقضيب معه مصلاه وقال: كلا وأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء ؟ ما أنى لذلك بعد.
وبعث عيسى بن موسى بالبشارة إلى المنصور مع القاسم بن الحسن وبالرأس مع ابن أبي الكرام، وأمر بدفن الجثة فدفن بالبقيع، وأمر بأصحابه الذين قتلوا معه فصلبوا صفين ظاهر المدينة ثلاثة أيام ثم طرحوا على مقبرة اليهود عند سلع.
ثم نقلوا إلى خندق هناك.
وأخذ أموال بني حسن كلها فسوغها له المنصور، ويقال إنه ردها بعد ذلك إليهم، حكاه ابن جرير.
ونودي في أهل المدينة بالامان فأصبح الناس في أسواقهم، وترفع عيسى بن موسى في الجيش إلى الجرف من مطر أصاب الناس يوم قتل محمد، وجعل ينتاب المسجد من الجرف، وأقام بالمدينة إلى اليوم التاسع عشر من رمضان، ثم خرج منها قاصدا مكة وكان بها الحسن بن معاوية بن جهة محمد وكان محمد قد كتب إليه يقدم عليه، فلما خرج من مكة وكان ببعض الطريق تلقته الاخبار بقتل محمد، فاستمر فارا إلى البصرة إلى أخي محمد إبراهيم بن عبد الله، الذي كان قد خرج بها ثم قتل بعد أخيه في هذه السنة على ما سنذكره.
ولما جئ المنصور برأس محمد بن عبد الله بن حسن فوضع بين يديه أمر به فطيف به في طبق أبيض ثم طيف به في الاقاليم بعد ذلك، ثم شرع المنصور في استدعاء من خرج مع محمد من أشراف أهل المدينة، فمنهم من قتله ومنهم من ضربه ضربا مبرحا، ومنهم من عفا عنه.
ولما توجه عيسى إلى مكة استناب على المدينة كثير بن حصين، فاستمر بها شهرا حتى بعث المنصور على نيابتها عبد الله بن الربيع، فعاث جنده في المدينة فصاروا إذا اشتروا من الناس شيئا لا يعطونهم ثمنه، وإن طولبوا بذاك ضربوا المطالب وخوفوه بالقتل، فثار عليهم طائفة من السودان واجتمعوا ونفخوا في بوق لهم فاجتمع

على صوته كل أسود في المدينة، وحملوا عليهم حملة واحدة وهم ذاهبون إلى الجمعة، لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة، وقيل لخمس بقين من شوال منها، فقتلوا من الجند طائفة كثيرة المزاريق وغيرها، وهرب الامير عبد الله بن الربيع وترك صلاة الجمعة.
وكان رؤوس السودان: وثيق ويعقل ورمقة (1) وحديا وعنقود، ومسعر، وأبو النار.
فلما رجع عبد الله بن الربيع ركب في جنوده والتقى مع
السودان فهزموه أيضا فلحقوه بالبقيع فألقى لهم رداءه يشغلهم فيه حتى نجا بنفسه ومن اتبعه، فلحق ببطن نخل على ليلتين من المدينة، ووقع السودان على طعام للمنصور كان مخزونا في دار مروان قد قدم به في البحر فنهبوه ونهبوا ما للجند الذين بالمدينة من دقيق وسويق وغيره، وباعوا ذلك بأرخص ثمن (2).
وذهب الخبر إلى المنصور بما كان من أمر السودان، وخاف أهل المدينة من معرة ذلك، فاجتمعوا وخطبهم ابن أبي سبرة - وكان مسجونا - فصعد المنبر وفي رجليه القيود، فحثهم على السمع والطاعة للمنصور، وخوفهم شر ما صنعه مواليهم، فاتفق رأيهم على أن يكفوا مواليهم ويفرقوهم ويذهبوا إلى أميرهم فيردوه إلى عمله، ففعلوا ذلك، فسكن الامر وهدأ الناس وانطفأت الشرور، ورجع عبد الله بن الربيع إلى المدينة فقطع يد وثيق وأبي النار ويعقل ومسعر.
ذكر خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن بالبصرة كان إبراهيم قد هرب إلى البصرة فنزل في بني ضبيعة من أهل البصرة، في دار الحارث بن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكان قدومه إليها بعد أن طاف بلادا كثيرة جدا، وجرت عليه وعلى أخيه خطوب شديدة هائلة، وانعقد أسباب هلاكهما في أوقات متعددة، ثم كان آخر ما استقر أمره بالبصرة في سنة ثلاث وأربعين ومائة، بعد منصرف الحجيج.
وقيل إن قدومه إليها كان في مستهل رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، بعثه أخوه إليها بعد ظهوره بالمدينة، قاله الواقدي.
قال: وكان يدعو في السر إلى أخيه، فلما قتل أخوه أظهر الدعوة إلى نفسه في شوال من هذه السنة، والمشهور أنه قدمها في حياة أخيه ودعا إلى نفسه كما تقدم والله أعلم.
ولما قدم البصرة نزل عند يحيى بن زياد بن حسان (3) النبطي، فاختفى عنده هذه المدة كلها، حتى ظهر في هذه السنة في دار أبي فروة، وكان أول من بايعه نميلة بن مرة، وعبد الله (4) بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمر بن سلمة الهجيمي، وعبيد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي.
وندبوا الناس إليه فاستجاب له خلق كثير فتحول إلى دار أبي مروان في وسط البصرة، واستفحل أمره، وبايعه
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 556: زمعة.
(2) بيع حمل الدقيق بدرهمين، وراوية الزيت بأربعة دراهم (الطبري - ابن الاثير).
(3) في ابن الاثير 5 / 563: حيان.
(4) في ابن الاثير، وفي الطبري 9 / 247: عفو الله.

فئام من الناس، وتفاقم الخطب به، وبلغ خبره إلى المنصور فأزداد غما إلى غمه بأخيه محمد، وذلك لانه ظهر قبل مقتل أخيه وإنما كان سبب تعجيله الظهور كتاب أخيه إليه فامتثل أمره ودعا إلى نفسه، فانتظم أمره بالبصرة، وكان نائبها من جهة المنصور سفيان بن معاوية وكان ممالئا لابراهيم هذا في الباطن، ويبلغه أخباره فلا يكترث بها، ويكذب من أخبره ويود أن يتضح أمر إبراهيم، وقد أمده المنصور بأميرين من أهل خراسان معهما ألفا فارس، وراجل، فأنزلهما عنده ليتقوى بهما على محاربة إبراهيم، وتحول المنصور من بغداد - وكان قد شرع في عمارتها - إلى الكوفة، وجعل كلما اتهم رجلا من أهل الكوفة في أمر إبراهيم بعث إليه من يقتله في الليل في منزله، وكان الفرافصة العجلي قد هم بالوثوب بالكوفة فلم يمكنه ذلك لمكان المنصور بها، وجعل الناس يقصدون البصرة من كل فج لمبايعة إبراهيم، ويفدون إليها جماعات وفرادى، وجعل المنصور يرصد لهم المسالح فيقتلونهم في الطريق ويأتونه برؤوسهم فيصلبها بالكوفة ليتعظ بها الناس.
وأرسل المنصور إلى حرب الراوندي - وكان مرابطا بالجزيرة في ألفي فارس لقتال الخوارج - يستدعيه إليه إلى الكوفة، فأقبل بمن معه فاجتاز ببلدة بها أنصار لابراهيم فقالوا له: لا ندعك تجتاز، لان المنصور إنما دعاك لقتال إبراهيم.
فقال: ويحكم ! دعوني، فأبوا فقاتلهم فقتل منهم خمسمائة وأرسل برؤوسهم إلى المنصور.
فقال: هذا أول الفتح.
ولما كانت ليلة الاثنين مستهل رمضان من هذه السنة، خرج إبراهيم في الليل إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر فارسا، وقدم في هذه الليلة أبو حماد الابرص في ألفي فارس مددا لسفيان بن معاوية، فأنزلهم الامير في القصر، ومال إبراهيم وأصحابه على دواب أولئك الجيش وأسلحتهم فأخذوها جميعا، فتقووا بها، فكان هذا أول ما أصاب.
وما أصبح الصباح إلا وقد استظهر جدا، فصلى بالناس صلاة الصبح في المسجد الجامع، والتف الخلائق عليه ما بين ناظر وناصر، وتحصن سفيان بن معاوية نائب الخليفة بقصر الامارة وحبس عنده الجنود فحاصرهم إبراهيم، فطلب سفيان بن معاوية من إبراهيم الامان
فأعطاه الامان، ودخل إبراهيم قصر الامارة فبسطت له حصير ليجلس عليها في مقدم إيوان القصر، فهبت الريح فقلبت الحصير ظهرا لبطن، فتطير الناس بذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطير.
وجلس على ظهر الحصير، وأمر بحبس سفيان بن معاوية مقيدا وأراد بذلك براءة ساحته عند المنصور، واستحوذ على ما كان في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف، وقيل ألفا ألف.
فقوي بذلك جدا.
وكان في البصرة جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي، وهما إبنا عم الخليفة المنصور، فركبا في ستمائة فارس إليه فهزمهما، وأركب إبراهيم المضاء بن القاسم في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا فهزم ستمائة فارس كانت لهما.
وآمن من بقي منهم، وبعث إبراهيم إلى أهل الاهواز فبايعوه وأطاعوه، وأرسل إلى نائبها مائتي فارس عليهم المغيرة فخرج إليه محمد بن الحصين نائب البلاد في أربعة آلاف فارس فهزمه المغيرة واستحوذ على البلاد، وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخذها، وكذلك واسط والمدائن والسواد، واستفحل أمره جدا، ولكن لما جاءه نعي أخيه محمد انكسر جدا، وصلى بالناس يوم العيد وهو مكسور.
قال بعضهم: والله لقد رأيت الموت في وجهه وهو يخطب الناس فنعى إلى

الناس أخاه محمدا، فازداد الناس حنقا على المنصور وأصبح فعسكر بالناس واستناب على البصرة نميلة وخلف ابنه حسنا معه.
ولما بلغ المنصور خبره تحير في أمره وجعل يتأسف على ما فرق من جنده في الممالك، وكان قد بعث مع ابنه المهدي ثلاثين ألفا إلى الري، وبعث مع محمد بن الاشعث إلى إفريقية أربعين ألفا والباقون مع عيسى بن موسى بالحجاز، ولم يبق مع المنصور سوى ألفي فارس.
وكان يأمر بالنيران الكثيرة فتوقد ليلا، فيحسب الناظر إليها أن ثم جندا كثيرا.
ثم كتب المنصور إلى عيسى بن موسى: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل من فورك ودع كل ما أنت فيه.
فلم ينشب أن أقبل إليه فقال له: اذهب إلى إبراهيم بالبصرة ولا يهولنك كثرة من معه، فإنهم جملا بني هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك وثق بما عندك وستذكر ما أقول لك فكان الامر كما قال المنصور.
وكتب المنصور إلى ابنه المهدي أن يوجه خازم بن خزيمة في أربعة آلاف إلى الاهواز، فذهب إليها فأخرج منها نائب إبراهيم - وهو المغيرة -
وأباحها ثلاثة أيام، ورجع المغيرة إلى البصرة، وكذلك بعث إلى كل كورة من هذه الكور التي نقضت بيعته جندا يردون أهلها إلى الطاعة.
قالوا: ولزم المنصور موضع مصلاه فلا يبرح منه ليلا ونهارا في ثياب بذلة قد اتسخت، فلم يزل مقيما هناك بضعا وخمسين يوما حتى فتح الله عليه.
وقد قيل له في غبون ذلك: إن نساءك قد خبثت نفسهن لغيبتك عنهن.
فانتهر القائل وقال: ويحك ليست هذه أيام نساء، حتى أرى رأس إبراهيم بين يدي، أو يحمل رأسي إليه.
وقال بعضهم: دخلت على المنصور وهو مهموم من كثرة ما وقع من الشرور، وهو لا يستطيع أن يتابع الكلام من كثرة همه، وما تفتق عليه من الفتوق والخروق، وهو مع ذلك قد أعد لكل أمر ما يسد خلله به، وقد خرجت عن يده البصرة والاهواز وأرض فارس والمدائن وأرض السواد، وفي الكوفة عنده مائة ألف مغمدة سيوفها تنتظر به صيحة واحدة، فيثبون مع إبراهيم، وهو مع ذلك يعرك النوائب ويمرسها ولم تقعد به نفسه وهو كما قال الشاعر: نفس عصام سودت عصاما * وعلمته الكر والاقداما فصيرته ملكا هماما وأقبل إبراهيم بعساكر من البصرة إلى الكوفة في مائة ألف مقاتل فأرسل إليه المنصور عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا، وعلى مقدمته حيمد بن قحطبة في ثلاثة آلاف.
وجاء إبراهيم فنزل في باخمرى (1) في جحافل عظيمة، فقال له بعض الامراء: إنك قد اقتربت من المنصور فلو أنك سرت إليه بطائفة من جيشك لاخذت بقفاه فإنه ليس عنده من الجيوش ما يردون عنه.
وقال آخرون: إن الاولى أن نناجز هؤلاء الذين بأزائنا، ثم هو في قبضتنا.
فثناهم ذلك عن الرأي الاول.
ولو فعله لتم لهم
__________
(1) وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخا من أرض الطف.

الامر.
ثم قال بعضهم: خندق حول الجيش.
وقال آخرون: إن هذا الجيش لا يحتاج إلى خندق حوله، فترك ذلك.
ثم أشار بعضهم أن يبيت جيش عيسى بن موسى فقال إبراهيم: أنا لا أرى ذلك، فتركه.
ثم أشار آخرون بأن يجعل جيشه كراديس فإن غلب كردوس ثبت الآخر، وقال
آخرون: الاولى أن نقاتل صفوفا لقوله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) [ الصف: 4 ].
والامر لله وما شاء فعل ولو ساروا إلى الكوفة وبيتوا الجيش أو جعل جيشه كراديس لتم له الامر مع تقدير الله تعالى.
وأقبل الجيشان فتصافوا في باخمرى وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة فاقتتلوا بها قتالا شديدا فانهزم حميد بن قحطبة بمن معه من المقدمة، فجعل عيسى يناشدهم الله في الرجوع والكرة فلا يلوي عليه أحد، وثبت عيسى بن موسى في مائة رجل من أهله، فقيل له: لو تنحيت من مكانك هذا لئلا يحطمك جيش إبراهيم فقال والله لا أزول منه حتى يفتح الله لي أو أقتل ها هنا.
وكان المنصور قد تقدم إليه بما أخبره به بعض المنجمين أن الناس يكون لهم جولة عن عيسى بن موسى ثم يقومون إليه وتكون العاقبة له، فاستمر المنهزمون ذاهبين فانتهوا إلى نهر بين جبلين فلم يمكنهم خوضه فكروا راجعين بأجمعهم، وكان أول راجع حميد بن قحطبة الذي كان أول من انهزم.
ثم اجتلدواهم وأصحاب إبراهيم فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل من كلا الفريقين خلق كثير، ثم انهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في خمسمائة، وقيل في أربعمائة، وقيل في تسعين رجلا، واستظهر عيسى بن موسى وأصحابه، وقتل إبراهيم في جملة من قتل واختلط رأسه مع رؤوس أصحابه، فجعل حميد يأتي بالرؤوس إلى عيسى بن موسى حتى عرفوا رأس إبراهيم فبعثوه مع البشير إلى المنصور، وكان نيبخت المنجم قد دخل على المنصور قبل مجئ الرأس فأخبره أن إبراهيم مقتول فلم يصدقه، فقال: يا أمير المؤمنين إن لم تصدقني فاحبسني فإن لم يكن الامر كما ذكرت فاقتلني.
فبينا هو عنده إذ جاء البشير بهزيمة جيش إبراهيم، ولما جئ بالرأس تمثل المنصور ببيت معقر بن أوس بن حمار البارقي: فألقت عصاها واستقر (2) بها النوى * كما قر عينا بالاياب المسافر وقيل إن المنصور لما رأى الرأس بكى حتى جعلت دموعه تسقط على الرأس وقال: والله لقد كنت لهذا كارها، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك.
ثم أمر بالرأس فنصب بالسوق.
وأقطع نيبخت المنجم الكذاب ألفي جريب.
فهذا المنجم إن كان قد أصاب في قضية واحدة فقد أخطأ في أشياء كثيرة، فهم كذبة كفرة وقد
كان المنصور في ضلال مع منجمه هذا، وقد ورث الملوك اعتقاد أقوال المنجمين وذلك ضلال لا يجوز.
وذكر صالح مولى المنصور قال: لما جئ برأس إبراهيم جلس المنصور مجلسا عاما وجعل الناس
__________
(1) في الطبري 9 / 259: واستقرت.

يدخلون عليه فيهنئونه وينالون من إبراهيم ويقبحون الكلام فيه ابتغاء مرضاة المنصور، والمنصور ساكت متغير اللون لا يتكلم، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني (1) فوقف فسلم ثم قال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك.
قال: فاصفر لون المنصور وأقبل عليه وقال له: يا أبا خالد مرحبا وأهلا، ههنا فاجلس.
فعلم الناس أن ذلك وقع منه موقعا جيدا.
فجعل كل من جاء يقول كما قال جعفر بن حنظلة.
قال أبو نعيم الفضل بن دكين: كان مقتل إبراهيم في يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة (2) من هذه السنة.
ذكر من توفي فيها من الاعيان فمن أعيان أهل البيت عبد الله بن حسن وابناه محمد وإبراهيم، وأخوه حسن بن حسن، وأخوه لامه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الملقب بالديباج.
وقد تقدمت ترجمته.
وأما أخوه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي فتابعي، روى عن أبيه وأمه فاطمة بنت الحسين وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو صحابي جليل، وغيرهم.
وروى عنه جماعة منهم سفيان الثوري والدرا وردي ومالك، وكان معظما عند العلماء، وكان عابدا كبير القدر.
قال يحيى بن معين: كان ثقة صدوقا، وفد على عمر بن عبد العزيز فأكرمه، ووفد على السفاح فعظمه وأعطاه ألف ألف درهم، فلما ولي المنصور عامله بعكس ذلك، وكذلك أولاده وأهله، وقد مضوا جميعا والتقوا عند الله عزوجل، وأخذه المنصور وأهل بيته مقيدين مغلولين مهانين من المدينة إلى الهاشمية، فأودعهم السجن الضيق كما قدمنا، فمات أكثرهم فيه، فكان عبد الله بن حسن هذا أول من مات فيه بعد خروج ولده محمد بالمدينة، وقد قيل إنه قتل في السجن عمدا.
وكان عمره يوم مات خمسا وسبعين سنة، وصلى عليه أخوه لامه الحسن بن الحسن بن علي.
ثم مات بعده أخوه حسن فصلى
عليه أخوه لامه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان.
ثم قتل بعدهما وحمل رأسه إلى خراسان كما تقدم.
وأما ابنه محمد الذي خرج بالمدينة فروى عن أبيه ونافع، وعن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة في كيفية الهوي إلى السجود، وحدث عن جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان وقال البخاري: لا يتابع على حديثه.
وقد ذكر أن أمه حملت به أربع سنين، وكان طويلا سمينا أسمر ضحما ذا همة سامية، وسطوة عالية وشجاعة باهرة، قتل بالمدينة في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، وله خمس وأربعون سنة.
وقد حملوا برأسه إلى المنصور، وطيف به في الاقاليم.
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 571: الدارمي..(2) في الطبري 9 / 259 وابن الاثير 5 / 570: يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة.

وأما أخوه إبراهيم فكان ظهوره بالبصرة بعد ظهور أخيه بالمدينة وكان مقتله بعد مقتل أخيه في ذي الحجة من هذه السنة وليس له شئ في الكتب الستة، وحكى أبو داود السجستاني عن أبي عوانة أنه قال: كان إبراهيم وأخوه محمد خارجين.
قال داود: ليس كما قال، هذا رأي الزيدية قلت: وقد حكي عن جماعة من العلماء والائمة أنهم مالوا إلى ظهورهما.
وفيها توفي من المشاهير والاعيان الاجلح بن عبد الله، وإسماعيل بن أبي خالد في قول، وحبيب بن الشهيد، وعبد الملك بن أبي سليمان، وعمرو مولى عفرة، ويحيى بن الحارث الذماري، ويحيى بن سعيد أبو حيان التيمي، ورؤبة ابن العجاج والعجاج لقب واسمه أبو الشعثاء عبد الله بن رؤبة، وأبو محمد التميمي البصري، الراجز بن الراجز، ولكل منهما ديوان رجز، وكل منهما بارع في فنه لا يجارى ولا يماري، عالم باللغة.
وعبد الله بن المقفع الكاتب المفوه، أسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور، وكتب له، وله رسائل وألفاظ صحيحة، وكان متهما بالزندقة، وهو الذي صنف كتاب كليلة ودمنة، ويقال: بل هو الذي عربها من المجوسية إلى العربية.
قال المهدي: ما وجد كتاب زندقة إلا وأصله من ابن المقفع،
ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد.
قالوا ونسي الجاحظ وهو رابعهم.
وكان مع هذا فاضلا بارعا فصيحا.
قال الاصمعي: قيل لابن المقفع بن أدبك ؟ قال: نفسي، إذا رأيت من غيري قبيحا أبيته، وإذا رأيت حسنا أتيته.
ومن كلامه: شربت من الخطب ريا، ولم أضبط لها رويا، فغاضت ثم فاضت، فلا هي نظاما، ولا نسيت غيرها كلاما.
وكان قتل ابن المقفع على يد سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة نائب البصرة، وذلك أنه كان يعبث به ويسب أمه، وإنما كان يسميه ابن المعلم، وكان كبير الانف، وكان إذا دخل عليه يقول: السلام عليكما - على سبيل التهكم - وقال لسفيان بن معاوية مرة: ما ندمت على سكوت قط.
فقال: صدقت، الخرس لك خير من كلامك.
ثم اتفق أن المنصور غضب على ابن المقفع فكتب إلى نائبه سفيان بن معاوية هذا أن يقتله، فأخذه فأحمى له تنورا وجعل يقطعه إربا إربا ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، وقيل غير ذلك في صفة قتله.
قال ابن خلكان: ومنهم من يقول إن ابن المقفع نسب إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالزنبيل بلا آذان، والصحيح أنه ابن المقفع وهو أبو دارويه كان الحجاج قد استعمله على الخراج فخان فعاقبه حتى تقفعت يداه والله أعلم.
وفيها خرج الترك والخزر بباب الابواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة.
وحج بالناس في هذه السنة نائب المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي.
وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة مسلم بن قتيبة وعلى مصر يزيد بن حاتم.

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة فيها تكامل بناء مدينة السلام بغداد، وسكنها المنصور في صفر من هذه السنة، وكان مقيما قبل ذلك بالهاشمية المتاخمة للكوفة، وكان قد شرع في بنائها في السنة الخارجة، وقيل في سنة أربع وأربعين ومائة فالله أعلم.
وقد كان السبب الباعث له على بنائها أن الراوندية لما وثبوا عليه بالكوفة ووقاه الله شرهم،
بقيت منهم بقية فخشي على جنده منهم، فخرج من الكوفة يرتاد لهم.
موضعا لبناء مدينة، فسار في الارض حتى بلغ الجزيرة فلم ير موضعا أحسن لوضع المدينة من موضع بغداد الذي هي فيه الآن، وذلك بأنه موضع يغدا إليه ويراح بخيرات ما حوله في البر والبحر، وهو محصن بدجلة والفرات من ههنا وههنا، لا يقدر أحد أن يتوصل إلى موضع الخليفة إلا على جسر، وقد بات به المنصور قبل بنائه ليالي فرأى الرياح تهب به ليلا ونهارا من غير انجعار ولا غبار، ورأى طيب تلك البقعة وطيب هوائها، وقد كان في موضعها قرى وديور لعباد النصارى وغيرهم - ذكر ذلك مفصلا بأسمائه وتعداده أبو جعفر ابن جرير - فحينئذ أمر المنصور باختطاطها فرسموها له بالرماد فمشى في طرقها ومسالكها فأعجبه ذلك، ثم سلم كل ربع منها لامير يقوم على بنائه، وأحضر من كل البلاد فعالا وصناعا ومهندسين، فاجتمع عنده ألوف منهم، ثم كان هو أول من وضع لبنة فيها بيده وقال: بسم الله والحمد لله، والارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
ثم قال: ابنوا على بركة الله.
وأمر ببنائها مدورة سمك سورها من أسفله خمسون ذراعا، ومن أعلاه عشرون ذراعا، وجعل لها ثمانية أبواب في السور البراني، ومثلها في الجواني، وليس كل واحد تجاه الآخر، ولكن جعله أزور عن الذي يليه، ولهذا سميت بغداد الزوراء، لازورار أبوابها بعضها عن بعض، وقيل سميت بذلك لانحراف دجلة عندها.
وبنى قصر الامارة في وسط البلد ليكون الناس منه على حد سواء، واختط المسجد الجامع إلى جانب القصر، وكان الذي وضع قبلته الحجاج بن أرطاة.
وقال ابن جرير: ويقال إن في قبلته انحرافا يحتاج المصلي فيه أن ينحرف إلى ناحية باب البصرة، وذكر أن [ قبلة ] (1) مسجد الرصافة أقرب إلى الصواب منه لانه بني قبل القصر، وجامع المدينة بني على القصر، فاختلت قبلته بسبب ذلك.
وذكر ابن جرير عن سليمان بن مجالد أن المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء بها فأبى وامتنع فحلف المنصور أن يتولى له، وحلف أبو حنيفة أن لا يتولى له، فولاه القيام بأمر المدينة وضرب اللبن، وأخذ الرجال بالعمل، فتولى ذلك حتى فرغوا من استتمام حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة أربع وأربعين ومائة.
قال ابن جرير: وذكر عن الهيثم بن عدي: أن المنصور عرض
__________
(1) من الطبري 9 / 261.

على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له، فأخبر بذلك أبو حنيفة فدعا بقصبة فعد اللبن ليبر بذلك يمين أبي جعفر، ومات أبو حنيفة ببغداد بعد ذلك.
وذكر أن خالد ابن برمك هو الذي أشار على المنصور ببنائها، وأنه كان مستحثا فيها للصناع، وقد شاور المنصور الامراء في نقل القصر الابيض من المدائن إلى بغداد لاجل قصر الامارة بها، فقالوا: لا تفعل فإنه آية في العالم، وفيه مصلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
فخالفهم ونقل منه شيئا كثيرا فلم يف ما تحصل منه بأجرة ما يصرف في حمله فتركه، ونقل أبواب قصر واسط إلى أبواب قصر الامارة ببغداد.
وقد كان الحجاج نقل حجارته من مدينة هناك (1) كانت من بناء سليمان بن داود، وكانت الجن قد عملت تلك الابواب، وهي حجارة هائلة.
وقد كانت الاسواق وضجيجها تسمع من قصر الامارة، فكانت أصواب الباعة وهو سات الاسواق تسمع منه، فعاب ذلك بعض بطارقة النصارى ممن قدم في بعض الرسائل من الروم، فأمر المنصور بنقل الاسواق من هناك إلى موضع آخر (2)، وأمر بتوسعة الطرقات أربعين ذراعا في أربعين ذراعا، ومن بنى في شئ من ذلك هدم.
قال ابن جرير: وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال: وجدت في خزائن المنصور في الكتب أنه أنفق على بناء مدينة السلام ومسجدها الجامع وقصر الذهب بها والاسواق وغير ذلك، أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف وثلاثة وثمانين ألف درهم، وكان أجرة الاستاذ من البنائين كل يوم قيراط فضة، وأجرة الصانع من الحبتين إلى الثلاثة.
قال الخطيب البغدادي: وقد رأيت ذلك في بعض الكتب، وحكى عن بعضهم أنه قال: أنفق عليه ثمانية عشر ألف ألف فالله أعلم.
وذكر ابن جرير أن المنصور ناقص أحد المهندسين (3) الذي بنى له بيتا حسنا في قصر الامارة فنقصه درهما عما ساومه، وأنه حاسب بعض المستحثين على الذي كان عنده ففضل عنده خمسة عشر درهما فحبسه حتى جاء بها وأحضرها وكان شحيحا.
قال الخطيب: وبناها مدورة، ولا يعرف في أقطار الارض مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم.
ثم ذكر عن بعض
المنجمين قال: قال لي المنصور لما فرغ من بناء بغداد: خذ الطالع لها، فنطرت في طالعها - وكان المشتري في القوس - فأخبرته بما تدل عليه النجوم، من طول زمانها، وكثرة عمارتها، وانصباب الدنيا إليها وفقر الناس إلى ما فيها.
قال: ثم قلت له: وأبشرك يا أمير المؤمنين أنه لا يموت فيها أحد من الخلفاء أبدا.
قال: فرأيته يبتسم ثم قال: الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وذكر عن بعض الشعراء أنه قال في ذلك شعرا منه:
__________
(1) يقال لها مدينة الزند ورد، وفي معجم البلدان (بغداد): بزند ورد (2) قال ابن الاثير 5 / 574: وقيل: إنما أخرجهم لان الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وربما كان فيهم الجاسوس.
ومن يتعرف الاخبار أو أن يفتح أبواب المدينة ليلا لموضع السوق (انظر الطبري 9 / 262).
(3) وهو خالد بن الصلت وكان أبو جعفر قد ولاه النفقة على أحد أرباع المدينة وهي تبنى.

قضى ربها أن لا يموت خليفة * بها إنه ما شاء في خلقه يقضي (1) وقد قرره على هذا الخطأ الخطيب وسلم ذلك ولم ينقضه بشئ بل قرره مع اطلاعه ومعرفته.
قال: وزعم بعض الناس أن الامين قتل بدرب الانبار منها فذكرت ذلك للقاضي أبي القاسم علي بن حسن التنوخي فقال: محمد الامين لم يقتل بالمدينة، وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه فقبض عليه في وسط دجلة وقتل هناك.
ذكر ذلك الصولي وغيره.
وذكر عن بعض مشايخ بغداد أنه قال: اتساع بغداد مائة وثلاثون جريبا، وذلك بقدر ميلين في ميلين، قال الامام أحمد، بغداد من الصراة إلى باب التبن.
وذكر الخطيب أن بين كل بابين من أبوابها الثمانية ميلا، وقيل أقل من ذلك.
وذكر الخطيب صفة قصر الامارة وأن القبة الخضراء طولها (2) ثمانون ذراعا، على رأسها تمثال فرس عليه فارس في يده رمح يدور به فأي جهة استقبلها واستمر مستقبلها، علم السلطان أن في تلك الجهة قد وقع حدث فلم يلبث أن يأتي الخليفة خبره (3).
وهذه القبة وهي على مجلس في صدر إيوان المحكمة وطوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا.
وقد سقطت هذه القبة في ليلة برد ومطر ورعد وبرق، ليلة الثلاثاء لسبع خلون من شهر جمادى الآخرة سنة
تسع وعشرين وثلاثمائة.
وذكر الخطيب البغدادي أنه كان يباع في بغداد في أيام المنصور الكبش الغنم بدرهم والحمل بأربعة دوانق، وينادى على لحم الغنم كل ستين رطلا بدرهم، ولحم البقر كل تسعين رطلا بدرهم، والتمر كل ستين رطلا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم.
ولهذا الامن والرخص كثر ساكنوها وعظم أهلوها وكثر الدارج في أسواقها وأزقتها، حتى كان المار لا يستطيع أن يجتاز في أسواقها لكثرة زحام أهلها.
قال بعض الامراء وقد رجع من السوق: طال والله ما طردت خلف الارانب في هذا المكان.
وذكر الخطيب أن المنصور جلس يوما في قصرة فسمع ضجة عظيمة ثم أخرى ثم أخرى فقال للربيع الحاجب: ما هذا ؟ فكشف فإذا بقرة قد نفرت من جازرها هاربة في الاسواق، فقال الرومي: يا أمير المؤمنين إنك بنيت بناء لم يبنه أحد قبلك، وفيه ثلاثة عيوب، بعده من الماء، وقرب الاسواق
__________
(1) البيت في معجم البلدان (بغداد) ونسبه إلى عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي.
(2) في معجم البلدان: علوها.
(3) هذا من المستحيل والكذب الفاحش، وهذا من أقوال سحرة مصر وطلسمات بليناس فأما الملة الاسلامية تجل عن مثل هذه الخرافات، ولو كان ذلك لوجب أن لا يزال خارجي يخرج في كل وقت لانها لا بد أن تتوجه (القبة) إلى وجه من الوجوه.

منه، وليس عنده خضره، والعين خضرة تحب الخضرة (1).
فلم يرفع بها المنصور رأسا ثم أمر بتغيير ذلك، ثم بعد ذلك ساق إليها الماء وبنى عندها البساتين، وحول الاسواق من ثم إلى الكرخ.
قال يعقوب بن سفيان: كمل بناء بغداد في سنة ست وأربعين ومائة، وفي سنة سبع وخمسين حول الاسواق إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول وأمر بتوسعة الاسواق أربعين ألفا، وبعد شهرين من ذلك شرع في بناء قصره المسمى بالخلد، فكمل سنة ثمان وخمسين ومائة.
وجعل أمر ذلك إلى رجل يقال له الوضاح، وبنى للعامة جامعا للصلاة والجمعة لئلا يدخلوا إلى
جامع المنصور، فأما دار الخلافة التي كانت ببغداد بعد ذلك فإنها كانت للحسن بن سهل، فانتقلت من بعده إلى بوران زوجة المأمون، فطلبها منها المعتضد - وقيل المعتمد - فأنعمت له بها، ثم استنظرته أياما حتى تنتقل منها فأنطرها، فشرعت في تلك الايام في ترميمها وتبييضها وتحسينها، ثم فرشتها بأنواع الفرش والبسط، وعلقت فيها أنواع الستور، وأرصدت فيها ما ينبغي للخلافة من الجواري والخدم، وألبستهم أنواع الملابس، وجعلت في الخزائن ما ينبغي من أنواع الاطعمة والمأكل، وجعلت في بعض بيوتها من أنواع الاموال والذخائر، ثم أرسلت بمفاتيحها إليه، ثم دخلها فوجد فيها ما أرصدته بها، فهاله ذلك واستعظمه جدا، وكان أول خليفة سكنها وبنى عليها سورا.
ذكره الخطيب.
وأما التاج فبناه المكتفي على دجلة وحوله القباب والمجالس والميدان والثريا وحير الوحوش.
وذكر الخطيب صفة دار الشجرة التي كانت في زمن المقتدر بالله، وما فيها من الفرش والستور والخدم والمماليك والحشمة الباهرة، والدنيا الظاهرة، وأنها كان بها إحد عشر ألف طواشي، وسبعمائة حاجب.
وأما المماليك فألوف لا يحصون كثرة، وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في أيامهم ودولتهم التي ذهبت كأنها أحلام نوم، بعد سنة ثلثمائة.
وذكر الخطيب دار الملك التي بالمخرم، وذكر الجوامع التي تقام فيها الجمعات، وذكر الانهار والجسور التي بها، وما كان في ذلك في زمن المنصور، وما أحدث بعده إلى زمانه، وأنشد لبعض الشعراء في جسور بغداد التي على دجلة: يوم سرقنا العيش فيه خلسة * في مجلس بفناء دجلة مفرد رق الهواء برقة وقدامة * فغدوت رقا للزمان المسعد فكأن دجلة طيلسان أبيض * والجسر فيها كالطراز الاسود
__________
(1) في ذلك قال عبد الله بن المعتز: ببلاد فيها الركايا علي * هن أكاليل من بعوض تعوم جوها في الشتاء والصيف دخا * ن كثيف وماؤها محموم ويح دار الملك التي تنفخ المس * ك إذا ما جرى عليه النسيم

وقال آخر: يا حبذا جسر على متن دجلة * بإتقان تأسيس وحسن ورونق جمال وحسن للعراق ونزهة * وسلوة من أضناه فرط التشوق تراه إذا ما جئته متأملا * كسطر عبير خط في وسط مهرق أو العاج فيه الابنوس مرقش * مثال فيول تحتها أرض زئبق وذكر الصولي، قال: ذكر أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد أن ذرع بغداد من الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب، وأن الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا وأن عدة حماماتها ستون ألف حمام، وأقل ما في كل حمام منها خمسة نفر حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء، وأن بإزاء كل حمام خمسة مساجد، فذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وأقل ما يكون في كل مسجد خمسة نفر - يعني إماما وقيما ومأذونا ومأمومين - ثم تناقصت بعد ذلك، ثم دثرت بعد ذلك حتى صارت كأنها خربة صورة ومعنى.
على ما سيأتي بيانه في موضعه.
وقال الحافظ أبو بكر البغدادي: لم يكن لبغداد نظير في الدنيا في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتمييز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ودروبها ومنازلها وشوارعها ومساجدها وحماماتها وخاناتها، وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد، ثم ذكر تناقص أحوالها وهلم جرا إلى زمانه.
قلت: وكذا من بعده إلى زماننا هذا، ولا سيما في أيام هولاكو بن تولى بن جنكز بن خان التركي الذي وضع معالمها وقتل خليفتها وعالمها وخرب دورها وهدم قصورها وأباد الخواص والعوام من أهلها في ذلك العام، وأخذ الاموال والحواصل، ونهب الذراري والاصائل، وأورث بها حزنا يعدد به في المبكرات والاصائل، وصيرها مثلة في الاقاليم، وعبرة لكل معتبر عليم، وتذكرة لكل ذي عقل مستقيم، وبدلت بعد تلاوة القرآن بالنغمات والالحان، وإنشاد الاشعار، وكان، وكان.
وبعد سماع الاحاديث النبوية بدرس الفلسفة اليونانية، والمناهج الكلامية والتأ ويلات القرمطية، وبعد العلماء بالاطباء، وبعد الخليفة العباسي بشر الولاة من الاناسي، وبعد الرياسة والنباهة بالخساسة والسفاهة، وبعد الطلبة المشتغلين بالظلمة والعيارين،
وبعد العلم بالفقه والحديث وتعبير الرؤيا، بالموشح ودوبيت ومواليا.
وما أصابهم ذلك إلا ببعض ذنوبهم (وما ربك بظلام للعبيد) [ فصلت: 46 ] والتحول منها في هذه الازمان لكثرة ما فيها من المنكرات الحسية والمعنوية، وأكل الحشيشة، والانتقال عنها إلى بلاد الشام الذي تكفل الله بأهلها أفضل وأكمل وأجمل.
وقد روى الامام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، وشرار أهل الشام إلى العراق " (1).
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 5 / 249.

ما ورد في مدينة بغداد من الآثار وما فيها من الاخبار فيها أربع لغات بغداد وبغداذ (1) بإهمال الدال الثانية وإعجامها، وبغدان بالنون آخره وبالميم مع ذلك أولا مغدان، وهي كلمة أعجمية قيل إنها مركبة من بغ وداد فقيل بغ بستان وداد اسم رجل، وقيل بغ اسم صنم وقيل شيطان وداد عطية أي عطية الصنم، ولهذا كره عبد الله بن المبارك والاصمعي وغيرهما تسميتها بغداد وإنما يقال لها مدينة السلام، وكذا أسماها بانيها أبو جعفر المنصور، لان دجلة كان يقال لها وادي السلام، ومنهم من يسميها الزوراء.
فروى الخطيب البغدادي من طريق عمار بن سيف - وهو متهم - قال: سمعت عاصم الاحول يحدث عن سفيان الثوري، عن أبي عثمان، عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تجبى إليها خزائن الارض، وملوكها جبابرة، فلهي أسرع ذهابا في الارض من الوتد الحديد في الارض الرخوة ".
قال الخطيب: وقد رواه عن عاصم الاحول سيف ابن أخت سفيان الثوري، وهو أخو عمار بن سيف.
قلت: وكلاهما ضعيف متهم يرمى بالكذب، ومحمد بن جابر اليماني ضعيف، وأبو شهاب الحناطي ضعيف.
وروى عن سفيان الثوري عن عاصم من طرق ثم أسند ذلك كله.
وأورد من طريق يحيى بن معين عن يحيى بن أبي كثير عن عمار بن سيف عن الثوري عن عاصم عن أبي عثمان عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد ويحيى: ليس لهذا الحديث أصل.
وقال أحمد: ما حدث به إنسان ثقة، وقد علله الخطيب من جميع طرقه وساقه
أيضا من طريق عمار بن سيف عن الثوري عن أبي عبيدة حميد الطويل، عن أنس بن مالك، ولا يصح أيضا.
ومن طريق عمر بن يحيى عن سفيان عن قيس بن مسلم عن ربعي عن حذيفة مرفوعا بنحوه، ولا يصح.
ومن غير وجه عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وثوبان وابن عباس، وفي بعضها ذكر السفياني " وأنه يخربها " ولا يصح إسناد شئ من هذه الاحاديث.
وقد أوردها الخطيب بأسانيدها وألفاظها، وفي كل منها نكارة، وأقرب ما فيها عن كعب الاحبار وقد جاء في آثار عن كتب متقدمة أن بانيها يقال له مقلاص (2) وذو الدوانيق لبخله.
__________
(1) البصريون لا يجيزون بغداذ وقالوا: ليس في كلام العرب كلمة فيها دال بعدها ذال، وقيل في بغداد سبع لغات: بغداد وبغدان مغداد ومغدان وبغداذ ومغداذ وبغدين.
(2) مقلاص اسم لص كانت تضرب به الامثال، وكان أبو جعفر المنصور صبيا سرق غزلا لعجوز، كانت تخدمه.
وباعه لينفق على أتراب له.
فلما علمت بفعلته سمته مقلاصا وغلب عليه هذا اللقب في صغره ثم ذهب عنه.
(الفخري ص 162..معجم البلدان 1 / 459).

فصل محاسن بغداد ومساويها وما روي في ذلك عن الائمة قال يونس بن عبد الاعلى الصدفي: قال لي الشافعي: هل رأيت بغداد ؟ قلت لا ! فقال: ما رأيت الدنيا.
وقال الشافعي: ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا، إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطنا.
وقال بعضهم (1): الدنيا بادية وبغداد حاضرتها.
وقال ابن علية: ما رأيت أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد، ولا أحسن دعة منهم.
وقال ابن مجاهد: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال لي: دعني من هذا، من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة.
وقال أبو بكر بن عياش: الاسلام ببغداد، وإنها لصيادة تصيد الرجال، ومن لم يرها لم ير الدنيا.
وقال أبو معاوية: بغداد دار دنيا وآخرة.
وقال بعضهم: من محاسن الاسلام يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس.
قال الخطيب: من شهد يوم الجمعة بمدينة
السلام عظم الله في قلبه محل الاسلام، لان مشايخنا كانوا يقولون يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد.
وقال بعضهم: كنت أواظب على الجمعة بجامع المنصور فعرض لي شغل فصليت في غيره فرأيت في المنام كأن قائلا يقول: تركت الصلاة في جامع المدينة وإنه ليصلي فيه كل جمعة سبعون وليا.
وقال آخر: أردت الانتقال من بغداد فرأيت كأن قائلا يقول في المنام: أتنتقل من بلد فيه عشرة آلاف ولي لله عز وجل ؟ وقال بعضهم: رأيت كأن ملكين أتيا بغداد فقال أحدهما لصاحبه: اقلبها.
فقد حق القول عليها: فقال الآخر كيف أقلب ببلد يختم فيها القرآن كل ليلة خمسة آلاف ختمة ؟ وقال أبو مسهر: عن سعيد بن عبد العزيز بن سليمان بن موسى قال: إذا كان علم الرجل حجازيا وخلقه عراقيا وصلاته شامية فقد كمل.
وقالت زبيدة لمنصور النمري قل شعرا تحبب فيه بغداد إلي.
فقد اختار عليها الرافقة فقال: ماذا ببغداد من طيب الافانين * ومن منازه للدنيا وللدين تحيي الرياح بها الرمضى إذا نسمت * وجوشت بين أغصان الرياحين قال: فأعطته ألفي دينار.
وقال الخطيب: وقرأت في كتاب طاهر بن مظفر بن طاهر الخازن بخطه من شعره: سقى الله صوب الغاديات محلة * ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسر هي البلدة الحسناء خصت لاهلها * بأشياء لم يجمعن مذكن في مصر هواء رقيق في اعتدال وصحة * وماء له طعم ألذ من الخمر
__________
(1) وهو قول أبو اسحاق الزجاج: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية.

ودجلتها شطان قد نظما لنا * بتاج إلى تاج وقصر إلى قصر ثراها كمسك والمياه كفضة * وحصباؤها مثل اليواقيت والدر وقد أورد الخطيب في هذا أشعارا كثيرة وفيما ذكرنا كفاية.
وقد كان الفراغ من بناء بغداد في هذه السنة - أعني سنة ست وأربعين ومائة - وقيل في سنة ثمان وأربعين، وقيل إن خندقها وسورها كملا في
سنة سبع وأربعين، ولم يزل المنصور يزيد فيها ويتأنق في بنائها حتى كان آخر ما بنى فيها قصر الخلد، فظن أنه يخلد فيها، أو أنها تخلد فلا تخرب، فعند كماله مات.
وقد خربت بغداد مرات كما سيأتي بيانه.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل المنصور سلم بن قتيبة عن البصرة وولى عليها محمد بن سليمان بن علي، وذلك لانه كتب إلى سلم يأمره بهدم بيوت الذين بايعوا إبراهيم بن عبد الله بن حسن فتوانى في ذلك فعزله، وبعث ابن عمه محمد بن سليمان فعاث بها فسادا، وهدم دورا كثيرة.
وعزل عبد الله بن الربيع عن إمرة المدينة وولى عليها جعفر بن سليمان، وعزل عن مكة السري بن عبد الله وولى عليها عبد الصمد بن علي.
قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي قاله الواقدي وغيره.
قال: وفيها غزا الصائفة من بلاد الروم جعفر بن حنظلة البهراني.
وفيها توفي من الاعيان أشعث بن عبد الملك، وهشام بن السائب الكلبي، وهشام بن عروة.
ويزيد ابن أبي عبيد في قول.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة فيها أغار اشتر خان الخوارزمي في جيش من الاتراك على ناحية أرمينية فدخلوا تفليس وقتلوا خلقا كثيرا وأسروا كثيرا من المسلمين وأهل الذمة، وممن قتل يومئذ حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية (1) ببغداد، وكان مقيما بالموصل في ألفين لمقابلة الخوارج، فأرسله المنصور لمساعدة المسلمين ببلاد أرمينية، وكان في جيش جبريل بن يحيى، فهزم جبريل وقتل حرب رحمه الله.
وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي عم المنصور.
وهو الذي أخذ الشام من أيدي بني أمية، كان عليها واليا حتى مات السفاح، فلما مات دعا إلى نفسه فبعث إليه المنصور أبا مسلم الخراساني فهزمه أبو مسلم وهرب عبد الله إلى عند أخيه سليمان بن علي والي البصرة فاختفى عنده مدة ثم ظهر المنصور على أمره فاستدعى به وسجنه، فلما كان في هذه السنة عزم المنصور على الحج فطلب عمه عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من بعد المنصور عن وصية
__________
(1) الحربية: اتباع عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي قالت إن روح الاله تناسخت في الانبياء والائمة إلى أن انتقلت
إلى عبد الله بن حرب الكندي (الفرق بين الفرق ص 185).

السفاح - وسلم إليه عمه عبد الله بن علي (1) وقال له: إن هذا عدوي وعدوك، فاقتله في غيبتي عنك ولا تتواني.
وسار المنصور إلى الحج وجعل يكتب إليه من الطريق يستحثه في ذلك ويقول له: ماذا صنعت فيما أودعت إليك فيه ؟ مرة بعد مرة.
وأما عيسى بن موسى فإنه لما تسلم عمه حار في أمره وشاور بعض أهله فأشار بعضهم ممن له رأي أن المصلحة تقتضي أن لا تقتله وابقه عندك وأظهر قتله فإنا نخشى أن يطالبك به جهرة فتقول: قتلته، فيأمر بالقود فتدعي أنه أمرك بقتله بالسر بينك وبينه فتعجز عن إثبات ذلك فيقتلك به، وإنما يريد المنصور قتله وقتلك ليستريح منكما معا.
فتغير عيسى بن موسى عند ذلك وأخفى عمه وأظهر أنه قتله.
فلما رجع المنصور من الحج أمر أهله أن يدخلوا عليه ويشفعوا في عمه عبد الله بن علي، وألحوا في ذلك فأجابهم إلى ذلك، واستدعى عيسى بن موسى وقال له: إن هؤلاء شفعوا في عبد الله بن علي وقد أجبتهم إلى ذلك فسلمه إليهم.
فقال عيسى: وأين عبد الله ؟ ذاك قتلته منذ أمرتني.
فقال المنصور: لم آمرك بذلك، وجحد ذلك وأن يكون تقدم إليه منه أمره في ذلك، فأحضر عيسى الكتب التي كتبها إليه المنصور مرة بعد مرة في ذلك فأنكر أن يكون أراد ذلك، وصمم على الانكار، وصمم عيسى بن موسى أنه قد قتله، فأمر المنصور عند ذلك بقتل عيسى بن موسى قصاصا بعبد الله، فخرج به بنو هاشم ليقتلوه، فلما جاؤوا بالسيف قال: ردوني إلى الخليفة، فردوه إليه فقال له: إن عمك حاضر ولم أقتله، فقال: هلم به.
فأحضره فسقط في يد الخليفة وأمر بسجنه بدار جدرانها مبنية على ملح، فلما كان من الليل أرسل على جدرانها الماء فسقط عليه البناء فهلك.
ثم إن المنصور خلع عيسى بن موسى عن ولاية العهد وقدم عليه ابنه المهدي، وكان يجلسه فوق عيسى بن موسى عن يمينه، ثم كان لا يلتفت إلى عيسى بن موسى ويهينه في الاذن والمشورة والدخول عليه والخروج من عنده، ثم ما زال يقصيه ويبعده ويتهدده ويتوعده حتى خلع نفسه بنفسه، وبايع لمحمد ابن منصور وأعطاه المنصور على ذلك نحوا من اثني عشر ألف ألف درهم، وانصلح أمر عيسى بن موسى وبنيه عند المنصور، وأقبل عليه بعدما كان قد أعرض عنه.
وكان قد جرت بينهما قبل ذلك
مكاتبات في ذلك كثيرة جدا، ومراودات في تمهيد البيعة لابنه المهدي وخلع عيسى نفسه، وأن العامة لا يعدلون بالمهدي أحدا.
وكذلك الامراء والخواص.
ولم يزل به حتى أجاب إلى ذلك مكرها، فعوضه عن ذلك ما ذكرنا، وسارت بيعة المهدي في الآفاق شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وفرح المنصور بذلك فرحا شديدا، واستقرت الخلافة في ذريته إلى زماننا هذا، فلم يكن خليفة من بني العباس إلا من سلالته (ذلك تقدير العزيز العليم) [ الانعام: 96 ].
وفيها توفي عبيد الله بن عمر العمري، وهاشم بن هاشم، وهشام بن حسان صاحب الحسن البصري.
__________
(1) في الطبري 9 / 264 وابن الاثير 5 / 581: كان ذلك بعد أن خلع عيسى بن موسى نفسه من ولاية عهد المنصور بأشهر.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة فيها بعث المنصور حميد بن قحطبة لغزو الترك الذين عاثوا في السنة الماضية ببلاد تفليس، فلم يجد منهم أحدا فإنهم انشمروا إلى بلادهم.
وحج بالناس فيها جعفر بن أبي جعفر (1)، ونواب البلاد فيها هم المذكورون في التي قبلها.
وفيها توفي جعفر بن محمد الصادق المنسوب إليه كتاب اختلاج الاعضاء وهو مكذوب عليه.
وفيها توفي سليمان بن مهران الاعمش أحد مشايخ الحديث في ربيع الاول منها، وعمرو بن الحارث، والعوام بن حوشب، والزبيدي، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
ومحمد بن عجلان.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة فيها فرغ من بناء سور بغداد وخندقها.
وفيها غزا الصائفة العباس بن محمد فدخل بلاد الروم ومعه الحسن (2) بن قحطبة ومحمد بن الاشعث.
ومات محمد بن الاشعث في الطريق.
وفيها حج بالناس محمد بن إبراهيم بن [ محمد بن ] علي وولاه المنصور على مكة والحجاز عوضا عن عمه عبد الصمد بن علي.
وعمال الامصار فيها هم الذين كانوا في السنة قبلها.
وفيها توفي زكريا بن أبي زائدة،
وكهمس بن الحسن، والمثنى بن الصباح.
وعيسى بن عمرو أبو عمرو الثقفي البصري النحوي شيخ سيبويه.
يقال إنه من موالي خالد بن الوليد، وإنما نزل في ثقيف فنسب إليهم.
كان إماما كبيرا جليلا في اللغة والنحو والقراءات، أخذ ذلك عن عبيد الله بن كثير وابن المحيص وعبد الله بن أبي إسحاق، وسمع الحسن البصري وغيرهم.
وعنه الخليل بن أحمد والاصمعي وسيبويه.
ولزمه وعرف به وانتفع به، وأخذ كتابه الذي سماه بالجامع فزاد عليه وبسطه، فهو كتاب سيبويه اليوم، وإنما هو كتاب شيخه، وكان سيبويه يسأل شيخه الخليل بن أحمد عما أشكل عليه فيه، فسأله الخليل أيضا عما صنف عيسى بن عمر فقال: جمع بضعا وسبعين كتابا ذهبت كلها إلا كتاب الاكمال، وهو بأرض فارس.
وهو الذي أشتغل فيه وأسألك عن غوامضه، فأطرق الخليل ساعة ثم أنشد: ذهب النحو جميعا كله * غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع * وهما للناس شمس وقمر وقد كان عيسى يغرب ويتقعر في عبارته جدا.
وقد حكى الجوهري عنه في الصحاح: أنه سقط يوما عن حماره فاجتمع عليه الناس فقال: ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي مرة (3) ؟ افرنقعوا
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 589: أبو جعفر المنصور.
(2) من الطبري 9 / 276 وابن الاثير 5 / 590 وفي الاصل: الحسين وهو تحريف.
(3) في رواية ابن خلكان 3 / 487 عن الصحاح: جنة (وانظر الصحاح ص 66 و 1258).

عني.
معناه: ما لكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون ؟ انكشفوا عني.
وقال غيره: كان به ضيق النفس فسقط بسببه فاعتقد الناس أنه مصروع.
فجعلوا يعودونه ويقرأون عليه، فلما أفاق من غشيته قال، ما قال: فقال بعضهم: إني حسبته - يتكلم بالفارسية - وذكر ابن خلكان أنه كان صاحبا لابي عمرو بن العلاء، وأن عيسى بن عمر قال يوما لابي عمرو بن العلاء: أنا أفصح من معد بن عدنان.
فقال له أبو عمرو كيف تقرأ هذا البيت: قد كن يخبأن الوجوه تسترا * فاليوم حين بدأن للنظار (1)
أو بدين ؟ فقال بدين.
فقال أبو عمرو: أخطأت، ولو قال: بدأن لاخطأ أيضا.
وإنما أراد أبو عمرو تغليطه، وإنما الصواب بدون من بدا يبدو إذا ظهر، وبدأ يبدأ إذا شرع في الشئ.
ثم دخلت سنة خمسين ومائة من الهجرة فيها خرج رجل من الكفرة يقال له أستاذسيس في بلاد خراسان فاستحوذ على أكثرها، والتف معه نحو من ثلاثمائة ألف، وقتلوا من المسلمين هنالك خلقا كثيرا، وهزموا الجيوش التي في تلك البلاد، وسبوا خلقا كثيرا، وتحكم الفساد بسببهم، وتفاقم أمرهم، فوجه المنصور خازم بن خزيمة إلى ابنه المهدي ليوليه حرب تلك البلاد، ويضم إليه من الاجناد ما يقاوم أولئك.
فنهض المهدي في ذلك نهضة هاشمية، وجمع لخازم بن خزيمة الامرة على تلك البلاد والجيوش، وبعثه في نحو من أربعين ألفا، فسار إليهم وما زال يراوغهم ويماكرهم ويعمل الخديعة فيهم حتى فاجأهم بالحرب، وواجههم بالطعن والضرب، فقتل منهم نحوا من سبعين ألفا، وأسر منهم أربعة عشر ألفا، وهرب ملكهم استاذسيس فتحرز في جبل، فجاء خازم إلى تحت الجبل وقتل أولئك الاسرى كلهم ولم يزل يحاصره حتى نزل على حكم بعض الامراء، فحكم أن يقيد بالحديد هو وأهل بيته، وأن يعتق من معه من الاجناد - وكانوا ثلاثين ألفا - ففعل خازم ذلك كله وأطلق لكل واحد ممن كان مع استاذسيس ثوبين، وكتب بما وقع من الفتح إلى المهدي، فكتب المهدي بذلك إلى أبيه المنصور.
وفيها عزل الخليفة عن إمرة المدينة جعفر بن سليمان وولاها الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وفيها حج بالناس عبد الصمد بن علي عم الخليفة.
وتوفي فيهما جعفر ابن أمير المؤمنين المنصور ودفن أولا بمقابر بني هاشم من بغداد، ثم نقل منها إلى موضع آخر.
وفيها توفي عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أحد أئمة أهل الحجاز، ويقال إنه أول من جمع السنن.
وعثمان بن الاسود، وعمر بن محمد بن زيد.
وفيها توفي الامام أبو حنيفة.
__________
(1) البيت للربيع بن زياد العبسي.

ذكر ترجمته
هو الامام أبو حنيفة واسمه النعمان بن ثابت التيمي مولاهم الكوفي (1)، فقيه العراق، وأحد أئمة الاسلام، والسادة الاعلام، وأحد أركان العلماء، وأحد الائمة الاربعة أصحاب المذاهب المتنوعة، وهو أقدمهم وفاة، لانه أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك، قيل وغيره.
وذكر بعضهم أنه روى عن سبعة من الصحابة فالله أعلم (2).
وروى عن جماعة من التابعين منهم: الحكم وحماد بن أبي سليمان، وسلمة بن كهيل، وعامر الشعبي، وعكرمة، وعطاء، وقتادة، والزهري، ونافع مولى ابن عمر، ويحيى بن سعيد - الانصاري وأبو إسحاق السبيعي.
وروى عنه جماعة منهم ابنه حماد وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن يوسف الازرق، وأسد بن عمرو القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحمزة الزيات، وداود الطائي، وزفر، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهشيم، ووكيع، وأبو يوسف القاضي.
قال يحيى بن معين: كان ثقة، وكان من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا.
وقد كان يحيى بن سعيد يختار قوله في الفتوى، وكان يحيى يقول: لا نكذب الله ! ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله.
وقال عبد الله بن المبارك: لو لا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان الثوري لكنت كسائر الناس.
وقال في الشافعي: رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته.
وقال الشافعي: من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد السير فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد الحديث فهو عيال على مالك، ومن أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان.
وقال عبد الله بن داود الحريبي: ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لابي حنيفة، لحفظه الفقه والسنن عليهم.
وقال سفيان الثوري وابن المبارك: كان أبو حنيفة أفقه أهل الارض في زمانه.
وقال أبو نعيم: كان صاحب غوص في المسائل.
وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل الارض.
وروى الخطيب بسنده عن أسد بن عمرو أن أبا حنيفة كان يصلي بالليل ويقرأ القرآن في كل ليلة، ويبكي حتى يرحمه جيرانه.
ومكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، وختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعين ألف مرة، وكانت وفاته في رجب من هذه السنة - أعني سنة خمسين ومائة - وعن ابن معين سنة إحدى وخمسين.
وقال غيره: سنة ثلاث وخمسين.
والصحيح
الاول.
__________
(1) مولى لبني تيم الله بن ثعلبة من بكر بن وائل.
(2) في وفيات الاعيان 5 / 406: أدرك أبعة من الصحابة وهم: أنس بن مالك و عبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد الساعدي وأبو الطفيل عامر بن واثلة ولم يلق أحدا منهم ولا أخذ عنهم.
قال الخطيب في تاريخ بغداد 13 / 324 والذهبي في التذكرة 1 / 168: رأى أنس غير مرة.

وكان مولده في سنة ثمانين فتم له من العمر سبعون سنة، وصلى عليه ببغداد ست مرات لكثرة الزحام، وقبره هناك رحمه الله.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة فيها عزل المنصور عمر بن حفص عن السند وولى عليها هشام بن عمرو التغلبي، وكان سبب عزله عنها أن محمد بن عبد الله بن حسن لما ظهر بعث ابنه عبد الله الملقب بالاشتر ومعه جماعة بهدية وخيول عتاق إلى عمر بن حفص هذا إلى السند فقبلها، فدعوه إلى ؟ وة أبيه محمد بن عبد الله بن حسن في السر فأجابهم إلى ذلك ولبسوا البياض.
ولما جاء خبر مقتل محمد بن عبد الله بالمدينة سقط في أيديهم وأخذوا في الاعتذار إلى عبد الله بن محمد، فقال له عبد الله: إني أخشى على نفسي.
فقال: إني سأبعثك إلى ملك من المشركين في جوار أرضنا، وإنه من أشد الناس تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه متى عرفك أنك من سلالته أحبك.
فأجابه إلى ذلك، وسار عبد الله بن محمد إلى ذلك الملك وكان عنده آمنا، وصار عبد الله يركب في موكب من الزيدية ويتصيد في جحفل من الجنود، وانضم إليه خلق وقدم عليه طوائف من الزيدية.
وأما المنصور فإنه بعث يعتب على عمر بن حفص نائب السند، فقال رجل من الامراء ابعثني إليه واجعل القضية مسندة إلي، فإني سأعتذر إليه من ذلك، فإن سلمت وإلا كنت فداءك وفداء من عندك من الامراء.
فأرسله سفيرا في القضية إلى المنصور، فلما وقف بين يدي المنصور أمر بضرب عنقه، وكتب إلى عمر بن حفص بعزله عن السند وولاه بلاد إفريقية عوضا عن أميرها، ولما وجه
المنصور هشام بن عمرو إلى السند أمره أن يجتهد في تحصيل عبد الله بن محمد، فجعل يتوانى في ذلك، فبعث إليه المنصور يستحثه في ذلك، ثم اتفق الحال أن سيفا أخا هشام بن عمرو لقي عبد الله بن محمد في بعض الاماكن فاقتتلوا فقتل عبد الله وأصحابه جميعا واشتبه عليهم مكانه في القتلى فلم يقدروا عليه.
فكتب هشام بن عمرو إلى المنصور يعلمه يقتله، فبعث يشكره على ذلك ويأمره بقتال الملك الذي آواه، ويعلمه أن عبد الله كان قد تسرى بجارية هنالك وأولدها ولدا أسماه محمدا، فإذا ظفرت بالملك فاحتفظ بالغلام فنهض هشام بن عمرو إلى ذلك الملك فقاتله فغلبه وقهره على بلاده وأمواله وحواصله، وبعث بالفتح والاخماس وبذلك الغلام والملك إلى المنصور، ففرح المنصور بذلك وبعث بذلك الغلام إلى المدينة، وكتب المنصور إلى نائبها يعلمه بصحة نسبه، ويأمره أن يلحقه بأهله يكون عندهم لئلا يضيع نسبه، فهو الذي يقال له أبو الحسن بن الاشتر.
وفي هذه السنة قدم المهدي بن المنصور على أبيه من خراسان فتلقاه أبوه والامراء والاكابر إلى أثناء الطريق، وقدم بعد ذلك نواب البلاد والشام وغيرها للسلام عليه وتهنئته بالسلامة والنصر.
وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يحد ولا يوصف.

بناء الرصافة قال ابن جرير: وفي هذه السنة شرع المنصور في بناء الرصافة لابنه المهدي بعد مقدمه من خراسان، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورا وخندقا، وعمل عندها ميدانا وبستانا، وأجرى إليها الماء من نهر المهدي.
قال ابن جرير: وفيها جدد المنصور البيعة لنفسه ثم لولده المهدي من بعده، ولعيسى بن موسى من بعدهما، وجاء الامراء والخواص فبايعوا وجعلوا يقبلون يد المنصور ويد ابنه ويلمسون يد عيسى بن موسى ولا يقبلونها.
قال الواقدي: وولى المنصور معن بن زائدة سجستان.
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو نائب مكة والطائف، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة جابر بن زيد الكلابي، وعلى مصر زيد
ابن حاتم.
ونائب خراسان حميد بن قحطبة، ونائب سجستان معن بن زائدة.
وغزا الصائفة فيها عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد.
وفيها توفي حنظلة بن أبي سفيان، وعبد الله بن عون، ومحمد بن إسحاق بن يسار، صاحب السيرة النبوية التي جمعها وجعلها علما يهتدى به، وفخرا يستجلى به، والناس كلهم عيال عليه في ذلك، كما قال الشافعي وغيره من الائمة.
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين ومائة فيها عزل المنصور عن إمرة مصر يزيد بن حاتم وولاها محمد بن سعيد، وبعث إلى نائب إفريقية وكان قد بلغه أنه عصى وخالف، فلما جئ به أمر بضرب عنقه (1).
وعزل عن البصر، جابر بن زيد الكلابي وولاها يزيد بن منصور.
وفيها قتلت الخوارج معن بن زائدة بسجستان.
وفيها توفي عباد بن منصور، ويونس بن يزيد الايلي.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسون ومائة وفيها غضب المنصور على كاتبه أبي أيوب المورياني (2) وسجنه وسجن أخاه خالدا وبني أخيه
__________
(1) وهو هاشم بن الاساجيج كما في الاثير - وفي الطبري ابن الاشتاخنج -.
(2) المورياني نسبة إلى قرية موريان من قرى الاهواز.
وكان المنصور قد اشتراه صبيا قبل الخلافة وثقفه رآه السفاح مرة فأعجبه فاحتبسه عنده ثم اعتقه.
واختص أبو أيوب بالسفاح طيلة خلافته.
ثم قلده الخليفة المنصور وزارته - ورغم أن أبا أيوب كان لبيبا بصيرا بالامور عاقلا فطنا ذكيا - فإن هيبة المنصور كانت تصغر هيبة الوزراء وكان لا =

الاربعة سعيدا ومسعودا ومخلدا ومحمدا، وطالبهم بالاموال الكثرة.
وكان سبب ذلك ما ذكره ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر المنصور، وهو أنه كان في زمن شبيبته قد ورد الموصل وهو فقير لا شئ له ولا معه شئ، فأجر نفسه من بعض الملاحين حتى اكتسب شيئا تزوج به امرأة، ثم جعل يعدها ويمينها أنه من بيت سيصير الملك إليهم سريعا، فاتفق حبلها منه، ثم تطلبه بنو أمية فهرب عنها وتركها حاملا، ووضع عندها رقعة فيها نسبته، وأنه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمرها إذا بلغها
أمره أن تأتيه، وإذا ولدت غلاما أن تسميه جعفرا.
فولدت غلاما فسمته جعفرا.
ونشأ الغلام فتعلم الكتابة وغوى العربية والادب، وأتقن ذلك إتقانا جيدا، ثم آل الامر إلى بني العباس، فسألت عن السفاح فإذا هو ليس صاحبها، ثم قام المنصور وصار الولد إلى بغداد فاختلط بكتاب الرسائل فأعجب به أبو أيوب المورياني صاحب ديوان الانشاء للمنصور، وحظي عنده وقدمه على غيره، فاتفق حضوره معه بين يدي الخليفة فجعل الخليفة يلاحظه، ثم بعث يوما الخادم ليأتيه بكاتب فدخل ومعه ذلك الغلام، فكتب بين يدي المنصور كتابا وجعل الخليفة ينظر إليه ويتأمله، ثم سأله عن اسمه فأخبره أنه جعفر، فقال: ابن من ؟ فسكت الغلام، فقال: مالك لا تتكلم ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن من خبري كيت وكيت، فتغير وجه الخليفة ثم سأله عن أمه فأخبره، وسأله عن أحوال بلد الموصل فجعل يخبره والغلام يتعجب.
ثم قام إليه الخليفة فاحتضنه وقال: أنت ابني.
ثم بعثه بعقد ثمين ومال جزيل وكتاب إلى أمه يعلمها بحقيقة الامر وحال الولد.
وخرج الغلام ومعه ذلك من باب سر الخليفة فأحرز ذلك ثم جاء إلى أبي أيوب فقال: ما بطأ بك عند الخليفة ؟ فقال: إنه استكتبني في رسائل كثيرة، ثم تقاولا، ثم فارقه الغلام مغضبا ونهض من فوره فاستأجر إلى الموصل ليعلم أمه ويحملها وأهلها إلى بغداد، إلى أبيه الخليفة.
فسار مراحل، ثم سأل عنه أبو أيوب فقيل سافر فظن أبو أيوب أنه قد أفشى شيئا من أسراره إلى الخليفة وفر منه، فبعث في طلبه رسولا وقال: حيث وجدته فرده علي.
فسار الرسول في طلبه فوجده في بعض المنازل فخنقه وألقاه في بئر وأخذ ما كان معه فرجع به إلى أبي أيوب.
فلما وقف أبو أيوب على الكتاب أسقط في يده وندم على بعثه خلفه.
وانتظر الخليفة عود ولده إليه واستبطأه وكشف عن خبره فإذا رسول أبي أيوب قد لحقه وقتله.
فحينئذ استحضر أبا أيوب وألزمه بأموال عظيمة، وما زال في العقوبة حتى أخذ جميع أمواله وحواصله ثم قتله، وجعل يقول: هذا قتل حبيبي.
وكان المنصور كلما ذكر ولده حزن عليه حزنا شديدا.
وفيها خرجت الخوارج من الصفرية وغيرهم ببلاد إفريقية.
فاجتمع منهم ثلاثمائة ألف وخمسون ألفا، ما بين فارس وراجل، وعليهم أبو حاتم الانماطي، وأبو عباد (1).
وانضم إليهم أبو قرة
__________
= يظهر لهم أبهة ولا رونق.
وغضب عليه المنصور فقتله وفي سبب قتله أقوال - انظر الطبري 9 / 284 - ابن الاثير
5 / 609 الفخري ص 176.
(1) في البيان المغرب 1 / 77: أبو حاتم الاباضي وأبو غادي، وفي الطبري: أبو عاد.

الصفري (1) في أربعين ألفا، فقاتلوا نائب إفريقية فهزموا جيشه وقتلوه، وهو عمر بن [ حفص بن ] (2) عثمان بن أبي صفرة الذي كان نائب السند كما تقدم، قتله هؤلاء الخوارج رحمه الله.
وأكثرت الخوارج الفساد في البلاد، وقتلوا الحريم والاولاد.
وفيها ألزم المنصور الناس بلبس قلانس سود طوال جدا، حتى كانوا يستعينون على رفعها من داخلها بالقضيب، فقال أبو دلامة الشاعر في ذلك: وكنا نرجي من إمام زيادة * فزاد الامام المرتجى (3) في القلانس تراها على هام الرجال كأنها * دنان يهود جللت بالبرانس وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري فأسر خلقا كثيرا من الروم ينيف على ستة آلاف أسير، وغنم أموالا جزيلة.
وحج بالناس المهدي بن المنصور وهو ولي العهد الملقب بالمهدي.
وكان على نيابة مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد وعلى الكوفة محمد بن سليمان وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى مصر محمد بن سعيد.
وذكر الواقدي أن يزيد بن منصور كان ولاه المنصور في هذه السنة اليمن.
فالله أعلم.
وفيها توفي أبان بن صمعة، وأسامة بن زيد الليثي، وثور بن يزيد الحمصي، والحسن بن عمارة، وقطر بن خليفة، ومعمر وهشام بن الغازي والله أعلم.
ثم دخلت سنة أبع وخمسين ومائة فيها دخل المنصور بلاد الشام وزار بيت المقدس وجهز يزيد بن حاتم في خمسين ألفا وولاه بلاد إفريقية، وأمره بقتال الخوارج، وأنفق على هذا الجيش نحوا من ثلاث وستين ألف (4) درهم، وغزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي.
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم.
ونواب البلاد والاقاليم هم المذكورون في التي قبلها، سوى البصرة فعليها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان.
وفيها توفي أبو أيوب الكاتب وأخوه خالد، وأمر المنصور ببني أخيه أن تقطع أيديهم وأرجلهم ثم تضرب بعد ذلك أعناقهم
ففعل ذلك بهم.
وفيها توفي:
__________
(1) في ابن عذارى: اليفرني أمير تلمسان.
(2) من الطبري 9 / 284.
(3) في الطبري: المصطفى.
(4) في الطبري 9 / 285: ألف ألف درهم.

أشعب الطامع (1) وهو أشعب بن جبير أبو العلاء، ويقال أبو إسحاق المديني، ويقال له أبو حميدة.
وكان أبوه مولى لآل الزبير، قتله المختار، وهو خال الواقدي (2).
روى عن عبد الله بن جعفر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمين ".
وأبان بن عثمان، وسالم وعكرمة، وكان ظريفا ماجنا يحبه أهل زمانه لخلاعته وطمعه، وكان حميد الغناء، وقد وفد على الوليد بن يزيد دمشق فترجمه ابن عساكر ترجمة ذكر عنه فيها أشياء مضحكة، وأسند عن حديثين.
وروى عنه أنه سئل يوما أن يحدث فقال: حدثني عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خصلتان من عمل بهما دخل الجنة " ثم سكت فقيل له: وما هما ؟ فقال: نسي عكرمة الواحدة ونسيت أنا الاخرى.
وكان سالم بن عبد الله بن عمر يستخفه ويستحليه ويضحك منه ويأخذه معه إلى الغابة، وكذلك كان غيره من أكابر الناس.
وقال الشافعي: عبث الولدان يوما بأشعب فقال لهم: إن ههنا أناسا يفرقون الجوز - ليطردهم عنه - فتسارع الصبيان إلى ذلك، فلما رآهم مسرعين قال: لعله حق فتبعهم.
وقال له رجل: ما بلغ من طمعك ؟ فقال: ما زفت عروس بالمدينة إلا رجوت أن تزف إلي فأكسح داري وأنظف بابي وأكنس بيتي.
واجتاز يوما برجل يصنع طبقا من قبش فقال له: زد فيه طورا أو طورين لعله أن يهدي يوما لنا فيه هدية.
وروى ابن عساكر أن أشعب غنى يوما لسالم بن عبد الله بن عمر قول بعض الشعراء: مضين بها والبدر يشبه وجهها * مطهرة الاثواب والدين وافر لها حسب زاك وعرض مهذب * وعن كل مكروه من الامر زاجر
من الخفرات البيض لم تلق ريبة * ولم يستملها عن تقى الله شاعر فقال له سالم: أحسنت فزدنا.
فغناه: ألمت بنا والليل داج كأنه * جناح غراب عنه قد نفض القطرا فقلت أعطار ثوى في رحالنا * وما علمت ليلى سوى ريحها عطرا فقال له: أحسنت ولو لا أن يتحدث الناس لاجزلت لك الجائزة، وإنك من الامر لبمكان وفيها توفي جعفر بن برقان، والحكم بن أبان، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر، وقرة بن خالد، وأبو عمرو بن العلاء أحد أئمة القراء، واسمه كنيته، وقيل اسمه ريان والصحيح الاول.
__________
(1) انظر ترجمته في وفيات الاعيان 2 / 471 (شعيب) فوات الوفيات 1 / 197 الاغاني 19 / 134 - تهذيب ابن عساكر 3 / 75 تاريخ بغداد 7 / 37 ميزان الاعتدال 1 / 258 المحاسن والمساوئ ص 597 أخبار الظرفاء ص 31 ثمار القلوب ص (150).
(2) في وفيات الاعيان وفوات الوفيات: خال الاصمعي.

وهو أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين التميمي المازني البصري، وقيل غير ذلك في نسبه، كان علامة زمانه في الفقه والنحو وعلم القراءات، وكان من كبار العلماء العاملين، يقال إنه كتب ملء بيت من كلام العرب، ثم تزهد فأحرق ذلك كله، ثم راجع الامر الاول فلم يكن عنده إلا ما كان يحفظه من كلام العرب، وكان قد لقي خلقا كثيرا من أعراب الجاهلية، كان مقدما أيام الحسن البصري ومن بعده.
ومن اختياراته في العربية قوله في تفسيره الغرة في الجنين: إنها لا يقبل فيها إلا أبيض غلاما كان أو جارية.
فهم ذلك من قوله عليه السلام: " غرة عبد أو أمة " ولو أريد أي عبد كان أو جارية لما قيده بالغرة، وإنما الغرة البياض.
قال ابن خلكان: وهذا غريب ولا أعلم هل يوافقه قول أحد من الائمة المجتهدين أم لا.
وذكر عنه أنه كان إذا دخل شهر رمضان لا ينشد بيتا من الشعر حتى ينسلخ، وإنما كان يقرأ القرآن وأنه كان يشتري له كل يوم كوزا جديدا وريحانا طريا، وقد صحبه الاصمعي نحوا من عشر سنين.
كانت وفاته في هذه السنة، وقيل في سنة ست وخمسين، وقيل تسع وخمسين فالله أعلم.
وقد قارب التسعين، وقيل إنه جاوزها فالله أعلم.
وقبره بالشام وقيل بالكوفة فالله أعلم.
وقد روى ابن عساكر في ترجمه صالح بن علي بن عبد الله بن العباس عن أبيه عن جده عبد الله ابن عباس مرفوعا " لان يربي أحدكم بعد أربع وخمسين ومائة جرو كلب خير له من أن يربي ولدا لصلبه ".
وهذا منكر جدا وفي إسناده نظر.
ذكره من طريق تمام عن خيثمة بن سليمان، عن محمد بن عوف الحمصي، عن أبي المغيرة عبد الله بن السمط، عن صالح به، وعبد الله بن السمط هذا لا أعرفه، وفد ذكره شيخنا الحافظ الذهبي في كتابه الميزان وقال: روي عن صالح بن علي حديثا موضوعا.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة فيها دخل يزيد بن حاتم بلاد إفريقية فافتتحها عودا على بدء، وقتل من كان فيها ممن تغلب عليها من الخوارج، وقتل أمراءهم وأسر كبراءهم وأذل أشرافهم واستبدل أهل تلك البلاد بالخوف أمنا وسلامة، وبالاهانة كرامة، وكان من جملة من قتل من أمرائهم أبو حاتم وأبو عباد (1) الخارجيان.
ثم لما استقامت له وبه الامور في البلدان دخل بعد ذلك بلاد القيروان فمهدها وأقر أهلها وقرر أمورها وأزال محذورها والله سبحانه أعلم.
__________
(1) في ابن عذاري 1 / 78: أبو غادي.

بناء الرافقة وهي المدينة المشهورة وفيها أمر المنصور ببناء الرافقة على منوال بناء بغداد في هذه السنة، وأمر فيها ببناء سور وعمل خندق حول الكوفة، وأخذ ما غرم على ذلك من أموال أهلها، من كل إنسان من أهل اليسار أربعين درهما.
وقد فرضها أولا خمسة دراهم، خمسة دراهم، ثم جباها أربعين أربعين، فقال في ذلك بعضهم: يا لقومي ما رأينا * من (1) أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا * وجبانا أربعينا وفيها غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي.
وفيها طلب ملك الروم الصلح من المنصور على أن يحمل إليه الجزية.
وفيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وغرمه أموالا كثيرة.
وفيها عزل محمد بن سليمان بن علي عن إمرة الكوفة، فقيل لامور بلغته عنه في تعاطي منكرات، وأمور لا تليق بالعمال، وقيل لقتله محمد (2) بن أبي العوجاء - وقد كان ابن أبي العوجاء هذا زنديقا - يقال إنه لما أمر بضرب عنقه اعترف على نفسه بوضع أربعة آلاف حديث يحل فيها الحرام ويحرم فيها الحلال، ويصوم الناس يوم الفطر ويفطرهم في أيام الصيام، فأراد المنصور أن يجعل قتله له ذنبا فعزله به، وإنما أراد أن يقيده منه، فقال له عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين له تعزله بهذا ولا تقتله به، فإنه إنما قتله على الزندقة، ومتى عزلته به شكره العامة وذموك، فتركه حينا ثم عزله وولى مكانه على الكوفة عمرو ابن زهير.
وفيها عزل عن المدينة الحسن بن زيد وولى عليها عمه عبد الصمد بن علي، وجعل معه فليح ابن سليمان مشرفا عليه.
وعلى إمرة مكة محمد بن إبراهيم بن محمد، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية، وعلى مصر محمد بن سعيد، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم.
وفيها توفي صفوان بن عمرو وعثمان بن أبي العاتكة الدمشقيان، وعثمان بن عطاء، ومسعر بن كدام.
حماد الراوية وهو ابن أبي ليلى ميسرة - ويقال سابور - بن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي، مولى بكير (3) بن زيد الخيل الطائي، كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها ولغاتها، وهو الذي جمع السبع المعلقات الطوال، وإنما سمي الراوية لكثرة روايته الشعر عن العرب، اختبره الوليد بن يزيد بن
__________
(1) من الطبري 9 / 286 وابن الاثير 6 / 5 وفي الاصل: في.
(2) في الطبري 9 / 286 وابن الاثير 6 / 7: عبد الكريم.
(3) في المعارف لابن قتيبة ص 235: مكنف.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55