كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحرب خدعة وعسى أن يصنع الله لنا " فأتى نعيم غطفان وقريشا فأعلمهم، فبادر القوم وأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة وجماعة معه واتفق ذلك ليلة السبت، يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم فاعتلت اليهود بالسبت، ثم أيضا طلبوا الرهن توثقة فأوقع الله بينهم واختلفوا.
قلت: وقد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش وغطفان بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون منه الصلح على أن يرد بني النضير إلى المدينة.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جمهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون ؟ قال: والله لقد كنا نجتهد، قال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الارض،
ولحملناه على أعناقنا، قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - فشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة، فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا، قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه ؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت ؟ قال فلان ابن فلان (1)، ثم قال [ أبو سفيان ]: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي: لا تحدث شيئا حتى تأتيني لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل (2) فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم، وهذا منقطع من هذا الوجه.
وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج في صحيحه:
__________
(1) في شرح المواهب: على جانبيه عن يمينه معاوية بن أبي سفيان، وعن شماله: عمرو بن العاص.
وفي الواقدي: معاوية عن شماله، وعمرو عن يمينه.
(انظر المغازي 2 / 489).
(2) في السيرة: مراجل.
قال ابن هشام: مراجل: ضرب من وشي اليمن.

من حديث الاعمش عن إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال له رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك ؟ لقد رأيتنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا رجل يأتيني بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة ؟ [ فسكتنا ] (1) فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية ثم الثالثة مثله.
ثم قال: يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال [ اذهب ] ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي.
قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام (2) حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد قوسي، وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذعرهم علي، ولو رميته لاصبته، فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابني البرد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا نومان (3) ! وقد روى الحاكم والحافظ البيهقي في الدلائل هذا الحديث مبسوطا من حديث عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي (4) عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال: ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا.
فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الاحزاب ونحن صافون قعود: وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة، ما يرى أحدنا أصبعه فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك، إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رجلا، رجلا حتى أتى علي وما علي جنة من العدو، ولا من البرد، إلا مرط لامراتي ما يجاوز ركبتي قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: من هذا ؟ فقلت: حذيفة، فقال حذيفة ! فتقاصرت للارض فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، فقمت، فقال: إنه كائن في القوم خبر، فأتني بخبر القوم.
قال: وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا.
قال: فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته " قال: فوالله ما
خلق الله فزعا ولا قرأ في جوفي إلا خرج من جوفي، فما أجد فيه شيئا.
قال: فلما وليت، قال:
__________
(1) من صحيح مسلم.
(2) كأنما أمشي في حمام: أي انه لم يجد من البرد الذي يجده الناس، ولا من تلك الريح الشديدة مشيئا بل عافاه الله، ببركة إجابته للنبي صلى الله عليه وسلم فيما وجهه إليه.
(3) صحيح مسلم: في 32 كتاب الجهاد 36 باب غزوة الاحزاب ح 99.
(4) في البيهقي: محمد بن عبيد أبي قدامة الحنفي.

يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني.
قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت [ في ] ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم، يقول بيديه على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل، الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كناتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي، لارميه به في ضوء النار، فذكرت، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني، فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت للعسكر (2) فإذا أدنى الناس مني بنو عامر، يقولون: يا آل عامر الرحيل، الرحيل، لا مقام لكم.
وإذا الريح في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لاسمع صوت الحجارة في رحالهم، وفرشهم (3) الريح تضرب بها، ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت بي الطريق، أو نحو من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارسا، أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك، أن الله قد كفاه.
قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.
فأخبرته خبر القوم، أخبرته أني تركتهم يرحلون قال: وأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا) [ الاحزاب: 9 ] يعني الآيات كلها إلى قوله (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى
الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) (4) أي صرف الله عنهم عدوهم بالريح التي أرسلها عليهم والجنود من الملائكة وغيرهم التي بعثها الله إليهم وكفى الله المؤمنين القتال أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم بل صرفهم القوي العزيز بحوله وقوته.
لهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا إله ألا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الاحزاب وحده فلا شئ بعده (5).
وفي قوله: (وكفى الله المؤمنين القتال) إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبينهم وهكذا وقع ولم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين كما قال محمد بن إسحاق رحمه الله، فلما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: لن تغزوكم قريش بعد عامكم ولكنكم تغزونهم.
قال: فلم تغز قريش بعد ذلك وكان يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله عليه مكة وهذا بلاغ من ابن إسحاق (6).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا
__________
(1) من البيهقي.
(2) من البيهقي، وفي الاصل: العسكر.
(3) في البيهقي: وفرستهم.
(4) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي ج 3 / 451 - 453.
(5) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 29 باب غزوة الاحزاب ح 4114.
(6) سيرة ابن هشام 3 / 115.

يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق، سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن نغزوهم ولا يغزوننا.
وهكذا رواه البخاري (1) من حديث إسرائيل وسفيان الثوري كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي عن سليمان بن صرد به.
قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بني عبد الاشهل وهم سعد بن معاذ - وستأتي وفاته مبسوطة - وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان وثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان، وكعب بن زيد النجاري أصابه سهم غرب (2) فقتله قال: وقتل من المشركين
ثلاثة وهم: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة ونوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك وطلبوا جسده بثمن كبير كما تقدم وعمرو بن عبد ود العامري قتله علي بن أبي طالب.
قال ابن هشام: وحدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال: قتل علي يومئذ عمرو بن عبد ود وابنه حسل بن عمرو وقال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبد ود ويقال عمرو بن عبد.
فصل في غزوة بني قريظة وما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الاليم وذلك لكفرهم ونقضهم العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وممالاتهم الاحزاب عليه فما أجدى ذلك عنهم شيئا وباؤا بغضب من الله ورسوله والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة وقد قال الله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها وكان الله على كل شئ قديرا) [ الاحزاب: 25 - 27 ].
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا عبد الله، حدثنا موسى بن عقبة عن سالم ونافع عن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من الغزو والحج والعمرة يبدأ فيكبر ثم يقول " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده ".
قال محمد بن إسحاق رحمه الله: ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة (3) والمسلمون ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني
__________
(1) صحيح البخاري: 5 / 48.
(2) قال ابن هشام: سهم غرب وسهم غرب بإضافة وغير إضافة، وهو الذي لا يعرف من أين جاء ولا من رمى به.
(3) كان دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاربعاء، يوم منصرفه من الخندق، لسبع بقين من ذي القعدة، فحاصرهم
خمسة عشر يوما، ثم انصرف يوم الخميس لسبع خلون من ذي الحجة سنة خمس (الواقدي - شرح المواهب)

الزهري، معتجرا بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال: نعم، فقال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فأني عامد إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
وقال البخاري: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير، عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه ! فاخرج إليهم، قال: فإلى اين ؟ قال هاهنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وقال أحمد: وحدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الاحزاب دخل المغتسل ليغتسل وجاء جبريل فرأيته من خلل البيت قد عصب رأسه الغبار، فقال: يا محمد أوضعتم أسلحتكم ؟ فقال: وضعنا أسلحتنا فقال: إنا لم نضع أسلحتنا بعد انهد إلى بني قريظة.
ثم قال البخاري: حدثنا موسى [ بن إسماعيل ] حدثنا جرير بن حازم، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة (2).
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي العصر حتى تأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك.
فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم (3).
وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به.
وقال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن
خالد بن خلي (4) حدثنا بشر بن حرب (5) عن أبيه، حدثنا الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عمه عبيد الله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الاحزاب
__________
(1) رواه البخاري في 64 كتاب المغازي 30 باب مرجع النبي من الاحزاب.
ومسلم في 32 كتاب الجهاد 22 باب ح (65) ص (1389).
(2) في 64 كتاب المغازي 30 باب ح 4118 عن موسى بن إسماعيل.
(3) البخاري: المغازي 30 باب ح 4119.
ومسلم: 32 كتاب الجهاد 23 باب ح 69.
وفي رواية أبو بكر الا سماعيلي للحديث " الظهر بدل العصر " وقال: كذا في كتابي الظهر (انظر روايته في دلائل البيهقي 4 / 7).
(4) من الدلائل وفي الاصل علي.
(5) في الدلائل: شعيب.

وضع عنه اللامة واغتسل واستحم، فتبدى له جبريل عليه السلام فقال: عذيرك من محارب ألا أراك قد وضعت اللامة وما وضعناها بعد، قال فوثب النبي صلى الله عليه وسلم فزعا فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر إلا في بني قريظة.
قال: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس علينا إثم، وصلى طائفة من الناس احتسابا وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جاؤوا بني قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين (1).
ثم روى البيهقي من طريق عبد الله العمري، عن أخيه عبيدالله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها فسلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا وقمت في أثره فإذا بدحية الكلبي، فقال: هذا جبريل أمرني أن أذهب إلى بني قريظة، وقال: قد وضعتم السلاح لكنا لم نضع، طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الاسد، وذلك حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق،
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا وقال لاصحابه: عزمت عليكم أن لا تصلوا صلاة العصر، حتى تأتوا بني قريظة، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا، وقالت طائفة: والله إنا لفي عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علينا من إثم، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا ولم يعنف (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: هل مر بكم أحد ؟ فقالوا مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج، فقال: ذلك جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم، ويقذف في قلوبهم الرعب فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه أن يستروه بالجحف حتى يسمع كلامهم، فناداهم يا اخوة القردة والخنازير.
فقالوا: يا أبا القاسم لم تكن فحاشا، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم (3).
ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها.
وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو ؟ بل الاجماع على أن كلا من الفريقين مأجور ومعذور غير معنف.
فقالت طائفة من العلماء: الذين أخروا الصلاة يومئذ عن وقتها المقدر لها حتى صلوها في بني قريظة هم المصيبون، لان أمرهم يومئذ بتأخير الصلاة خاص فيقدم على عموم الامر بها في وقتها المقدر لها شرعا.
قال أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب السيرة: وعلم الله أنا
__________
(1) دلائل النبوة ج 4 / 7 وأخرجه الشيخان مختصرا والامام أحمد والحاكم مطولا عن عائشة ومن طريق جابر أخرجه أبو نعيم، ورواه الطبري من طريق عبد الله بن أبي أوفى.
(2) في الدلائل: ولم يعب.
(3) دلائل النبوة للبيهقي: 4 / 9 وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 34 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وأخرجه أبو نعيم في الدلائل (437) ونقله الصالحي في السيرة الشامية (5 / 9).

لو كنا هناك لم نصل العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام.
وهذا القول منه ماش على قاعدته الاصلية في الاخذ بالظاهر.
وقالت طائفة أخرى من العلماء: بل الذين صلوا الصلاة في وقتها لما
أدركتهم وهم في مسيرهم المصيبون لانهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بني قريظة لا تأخير الصلاة فعملوا بمقتضى الادلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها مع فهمهم عن الشارع ما أراد، ولهذا لم يعنفهم ولم يأمرهم باعادة الصلاة في وقتها التي حولت إليه يومئذ كما يدعيه أولئك، وأما أولئك الذين أخروا فعذروا بحسب ما فهموا، وأكثر ما كانوا يؤمرون بالقضاء وقد فعلوه.
وأما على قول من يجوز تأخير الصلاة لعذر القتال كما فهمه البخاري حيث احتج على ذلك بحديث ابن عمر المتقدم في هذا فلا إشكال على من أخر ولا على من قدم أيضا.
والله أعلم.
ثم قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، ومعه رايته وابتدرها الناس.
وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغتسله كما يزعمون قد رجل أحد شقيه أتاه جبريل على فرس عليه لامته، حتى وقف بباب المسجد، عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: غفر الله لك، أو قد وضعت السلاح ؟ قال: نعم.
فقال جبريل: لكنا لم نضعه منذ نزل بك العدو، وما زلت في طلبهم حتى هزمهم الله - ويقولون إن على وجه جبريل لاثر الغبار - فقال له جبريل: إن الله قد أمرك بقتال بني قريظة فأنا عامد إليهم بمن معي من الملائكة نزلزل بهم الحصون فاخرج بالناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم فقال: مر عليكم فارس آنفا ؟ قالوا: مر علينا دحية الكلبي على فرس أبيض، تحته نمط أو قطيفة ديباج عليه اللامة، فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذاك جبريل.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه دحية الكلبي بجبريل، فقال: الحقوني ببني قريظة فصلوا فيهم العصر، فقاموا وما شاء الله من المسلمين فانطلقوا إلى بني قريظة فحانت صلاة العصر، وهم بالطريق، فذكروا الصلاة فقال بعضهم لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة.
وقال آخرون: هي الصلاة، فصلى منهم قوم وأخرت طائفة الصلاة حتى صلوها في بني قريظة، بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عجل منهم الصلاة، ومن أخرها، فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدا من الفريقين.
قال فلما رأى علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا
تلقاه وقال: ارجع يا رسول الله فإن الله كافيك اليهود، وكان علي قد سمع منهم قولا سيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضي الله عنهن فكره أن يسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تأمرني بالرجوع، فكتمه ما سمع منهم فقال: أظنك سمعت في منهم أذى، فامض فإن أعداء الله لو رأوني لم يقولوا شيئا مما سمعت، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم وكانوا في أعلاه، نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم فقال: أجيبوا يا معشر يهود، يا إخوة القردة، قد نزل بكم خزى الله عزوجل، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتائب المسلمين بضع

عشرة ليلة (1) ورد الله حيي بن أخطب، حتى دخل حصن بني قريظة، وقذف الله في قلوبهم الرعب واشتد عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر (2) - وكانوا حلفاء الانصار - فقال أبو لبابة: لاآتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أذنت لك، فأتاهم أبو لبابة، فبكوا إليه وقالوا: يا أبا لبابة ماذا ترى، وماذا تأمرنا فإنه لا طاقة لنا بالقتال، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمر عليه أصابعه، يريهم إنما يراد بهم القتل.
فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى انه قد أصابته فتنة عظيمة.
فقال: والله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحدث لله ثوبة نصوحا يعلمها الله من نفسي، فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد.
وزعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غاب عليه أبو لبابة: أما فرغ أبو لبابة من حلفائه، فذكر له ما فعل ؟ فقال: لقد أصابته بعدي فتنة ولو جاءني لاستغفرت له وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما يشاء (3).
وهكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة، وكذا ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه في مثل سياق موسى بن عقبة عن الزهري ومثل رواية أبي الاسود عن عروة.
قال ابن إسحاق ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبار بني قريظة من ناحية أموالهم يقال لها: بئر أنى (4).
فحاصرهم خمسا وعشرين (5) ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف [ الله ] في قلوبهم الرعب.
وقد كان حيي بن أخطب دخل معهم حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الامر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا بما شئتم منها.
قالوا وما هن ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.
قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والابناء.
قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين ؟ فما خير العيش بعدهم ؟ قال: فإن أبيتم علي هذه فالليلة ليلة السبت، وانه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.
__________
(1) في الواقدي: خمسة عشر يوما.
(2) أبو لبابة الا نصاري المدني، اسمه رفاعة، وقيل مبشر، وقيل بشير، أحد النقباء، كان مناصحا لهم لان ماله وولده وعياله في بني قريظة عاش إلى خلافة علي (الاستيعاب - الروض).
(3) نقله البيهقي عن موسى بن عقبة في الدلائل 4 / 13 - 14.
(4) في الواقدي: لنا والصواب بئر أنا: وهو بئر من آبار بني قريظة (الروض - معجم البلدان - شرح المواهب).
(5) قيل خمس عشرة ليلة (الطبقات - الواقدي).

قالوا أنفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما يخف عنك من المسخ، فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما.
ثم انها بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفا الاوس نستشيره في أمرنا.
فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد (1) ؟ قال نعم.
وأشار بيده إلى حلقه، أنه الذبح قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى
عرفت أني قد خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت.
وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
قال ابن هشام: وأنزل الله فيما قال سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي قتادة (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) [ الانفال: 27 ].
قال ابن هشام: أقام مرتبطا ست ليال تأتيه امرأته في وقت كل صلاة، فتحله حتى يتوضأ ويصلي ثم يرتبط حتى نزلت توبته في قوله تعالى (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) [ التوبة: 102 ].
وقول موسى بن عقبة: انه مكث عشرين ليلة مرتبطا به.
والله أعلم.
وذكر ابن إسحاق: أن الله أنزل توبته على رسوله من آخر الليل وهو في بيت أم سلمة، فجعل يبتسم، فسألته أم سلمة فأخبرها بتوبة الله على أبي لبابة فاستأذنته أن تبشره، فأذن لها، فخرجت فبشرته، فثار الناس إليه يبشرونه وأرادوا أن يحلوه من رباطه فقال والله لا يحلني منه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر حله من رباطه رضي الله عنه وأرضاه.
قال ابن إسحاق: ثم أن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم أسلموا في تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال من هذا ؟ قال أنا عمرو بن سعدى - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أغدر بمحمد أبدا - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب لم يدر أين توجه من
__________
(1) قال الزرقاني: " انزل بنو قريظة شأس بن قيس، لما حوصروا وايقنوا بالهلكة، فكلمه صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من ترك الاموال والحلقة والخروج بالنساء والذراري وما حملت الابل إلا الحلقة، فأبى
رسول الله صلى الله عليه وسلم..إلا أن ينزلوا على حكمه وعاد شأس إليهم بذلك (انظر شرح المواهب - الواقدي وفيه نباش بن قيس).

الارض إلى يومه هذا، فذكر شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك رجل نجاه الله بوفائه.
قال: وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق بني قريظة فأصبحت رمته ملقاة ولم يدر أين ذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة والله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن إسحاق: فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبت الاوس فقالوا: يا رسول الله: إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالامس ما قد علمت، يعنون عفوه عن بني قينقاع، حين سأله فيهم عبد الله بن أبي كما تقدم.
قال ابن إسحاق: فلما كلمته الاوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الاوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا: بلى.
قال فذلك إلى سعد بن معاذ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة (1) في مسجده وكانت تداوي الجرحى فلما حكمه في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حماره قد وطئوا له بوسادة من أدم وكان رجلا جسيما جميلا، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم.
فلما اكثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فرجع بعض (2) من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الاشهل فنعى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم فأما المهاجرون من قريش، فيقولون إنما أراد الانصار، وأما الانصار فيقولون قد عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك، لتحكم فيهم فقال سعد عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت ؟ قالوا: نعم قال: وعلي من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتقسم الاموال وتسبى الذراري والنساء.
قال ابن إسحاق فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة (3).
وقال ابن هشام: حدثني من أثق به من أهل العلم: أن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الايمان وتقدم هو والزبير بن العوام وقال: والله لاذوقن ما ذاق حمزة أو اقتحم حصنهم، فقالوا: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سعيد بن إبراهيم، سمعت أبا أمامة بن سهل، سمعت أبا سعيد الخدري قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ.
قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار فلما دنا قريبا من المسجد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا
__________
(1) ويقال: كعيبة بنت سعد بن عتبة كما ذكر الواقدي (مغازي 2 / 510).
(2) منهم: الضحاك بن خليفة، ومعتب بن قشير، وحاطب بن أمية الظفري كما ذكرهم الواقدي (2 / 511) (3) الا رقعة: السموات، الواحدة رقيع (شرح أبي ذر ص 306).

لسيدكم أو خيركم.
ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك.
قال: نقتل مقاتلتهم ونسبي ذريتهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضيت بحكم الله.
وربما قال: قضيت بحكم الملك، وفي رواية الملك (1).
أخرجاه في الصحيحين من طرق عن شعبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا حجين، ويونس قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه قال: رمى يوم الاحزاب سعد بن معاذ فقطعوا أكحله فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار فانتفخت يده فنزفه فحسمه أخرى فانتفخت يده، فنزفه فلما رأى ذلك قال اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد فأرسل إليه فحكم أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم، يستعين بهم المسلمون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبت حكم الله فيهم وكانوا أربعمائة.
فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه فمات (2) وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث به وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، عن
هشام، أخبرني أبي عن عائشة قالت: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح، واغتسل فأتاه جبريل وعلى رأسه الغبار فقال: قد وضعت السلاح فوالله ما وضعتها، أخرج إليهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين ؟ قال: هاهنا وأشار إلى بني قريظة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم.
قال هشام: فأخبرني أبي أنهم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فرد الحكم فيهم إلى سعد قال فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم.
قال هشام: قال أبي: فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد حكمت فيهم بحكم الله (3).
وقال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة رماه في الاكحل فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال قد وضعت السلاح والله ما وضعته أخرج إليهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فأين فأشار إلى بني قريظة فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه فرد الحكم إلى سعد قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم.
قال هشام: فأخبرني أبي عن عائشة: أن سعدا قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شئ، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك.
وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها.
فانفجرت من لبته فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار
__________
(1) أخرجه البخاري في 56 كتاب الجهاد (168) باب إذا نزل العدو على حكم رجل.
وأخرجه مسلم في 32 كتاب الجهاد (22) باب جواز قتال في نقض العهد.
(2) مسند الامام أحمد: 3 / 350.
(3) أخرجه أحمد في مسنده: 3 / 22 - 71، 6 / 52، 142.

إلا الدم يسيل إليهم فقالوا: يا أهل الخيمة.
ما هذا الذي يأتينا من قبلكم ؟ فإذا سعد يغذو
جرحه دما فمات منها (1).
وهذا رواه مسلم من حديث عبد الله بن نمير به.
قلت كان دعا أولا بهذا الدعاء قبل أن يحكم في بني قريظة ولهذا قال فيه ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله له، فلما حكم فيهم وأقر الله عينه أي قرار دعا ثانيا بهذا الدعاء فجعلها الله له شهادة رضي الله عنه وأرضاه.
وسيأتي ذكر وفاته قريبا إن شاء الله.
وقد رواه الامام أحمد من وجه آخر عن عائشة مطولا جدا وفيه فوائد فقال: حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال: أخبرتني عائشة قالت خرجت يوم الخندق أقفو الناس فسمعت وئيد الارض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه، قالت: فجلست إلى الارض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطواهم فمر وهو يرتجز ويقول: لبث قليلا يدرك الهيجا جمل * ما أحسن الموت إذا حان الاجل قالت: فقمت فاقتحمت حديقة فإذا نفر من المسلمين، فإذا فيها عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه سبغة له - تعني المغفر - فقال عمر: ما جاء بك والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز، فما زال يلومني حتى تمنيت أن الارض فتحت ساعتئذ فدخلت فيها، فرفع الرجل السبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيدالله فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عزوجل.
قالت: ويرمي سعدا رجل من قريش يقال له ابن العرقة وقال: خذها وأنا ابن العرقة فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة قالت وكانوا حلفاءه، ومواليه في الجاهلية قالت: فرقأ كلمة وبعث الله الريح على المشركين وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا.
فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد قالت: فجاء جبريل وإن على ثناياه لنقع الغبار فقال: أقد وضعت السلاح لا والله ما وضعت الملائكة السلاح بعد، أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم.
قالت: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته وأذن في الناس بالرحيل
أن يخرجوا فمر على بني غنم، وهم جيران المسجد حوله فقال: من مر بكم ؟ قالوا: مر بنا دحية الكلبي - وكان دحية الكلبي تشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه السلام - فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأتي به على حمار عليه أكاف من
__________
(1) البخاري: في 64 كتاب المغازي (30) باب مرجع النبي من الاحزاب.
ومسلم في 32 كتاب الجهاد.
باب جواز قتال من نقض العهد ح 65 وح 67 (ص 1389 و 1390).

ليف قد حمل عليه وحف به قومه فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت: ولا يرجع إليهم شيئا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم.
قالت: قال أبو سعيد: فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى سيدكم فانزلوه قال عمر: سيدنا الله، قال: انزلوه، فأنزلوه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحكم فيهم، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله ثم دعا سعد فقال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئا، فأبقني لها وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك قالت: فانفجر كلمه وكان قد برئ حتى لا يرى منه إلا مثل الخرص ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر قالت: فوالذي نفس محمد بيده إني لا عرف بكاء عمر، من بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي وكانوا كما قال الله (رحماء بينهم) قال علقمة: فقلت يا أمة فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته.
وهذا الحديث إسناده جيد وله شواهد من وجوه كثيرة، وفيه التصريح بدعاء سعد مرتين مرة قبل حكمه في بني قريظة ومرة بعد ذلك كما قلناه أولا ولله الحمد والمنة وسنذكر كيفية وفاته ودفنه وفضله في ذلك رضي
الله عنه وأرضاه بعد فراغنا من القصة.
قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار قلت: هي نسيبة (1) ابنة الحارث بن كرز بن حبيب بن عبد شمس وكانت تحت مسيلمة الكذاب ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز، ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، فخرج بهم إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد، رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة.
والمكثر لهم يقول: كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة.
قلت: وقد تقدم فيما رواه الليث عن أبي الزبير عن جابر: أنهم كانوا أربعمائة فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وقد قالوا لكعب بن أسد، وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا ؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع، ومن ذهب به منكم لا يرجع هو والله القتل.
فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم وأتي بحيي بن أخطب وعليه حلة له فقاحية (2) قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل.
فلما نظر إلى
__________
(1) قال السهيلي: اسمها كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس.
(الروض: 2 / 198) زينب بنت الحارث.
في رواية ابن بكير عن ابن اسحاق.
وقال الزرقاني: هي رملة بنت الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن زيد (شرح المواهب اللدنية 2 / 164).
قال الواقدي: أمر صلى الله عليه وسلم بالسبي فسيقوا إلى دار أسامة بن زيد والنساء والذرية إلى دار رملة ابنة الحارث (2 / 512).
(2) فقاحية: قال ابن هشام: ضرب من الوشي.
وفي الواقدي: حلة شقحية: اي حمراء (عن النهاية).

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عدواتك ولكنه من يخذل الله يخذل (1).
ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل.
ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي (2): لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه * ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها * وقلقل يبغي العز كل مقلقل (3)
وذكر ابن إسحاق قصة الزبير بن باطا، وكان شيخا كبيرا قد عمي وكان قد من يوم بعاث على ثابت بن قيس بن شماس وجز ناصيته فلما كان هذا اليوم أراد أن يكافئه فجاءه فقال: هل تعرفني يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك ؟ فقال له ثابت: أريد أن أكافئك فقال: إن الكريم يجزي الكريم، فذهب ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلقه فأطلقه له ثم جاءه فأخبره فقال شيخ كبير لا أهل [ له ] (4) ولا ولد فما يصنع بالحياة فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلق له امرأته وولده فأطلقهم له ثم جاءه فقال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك ؟ فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلق مال الزبير بن باطا فأطلقه له ثم جاءه فأخبره فقال له يا ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى حي كعب بن أسد ؟ قال: قتل.
قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب ؟ قال قتل، قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا: عزال بن شموال (5) ؟ قال: قتل.
قال فما فعل المجلسان ؟ - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال: ذهبوا قتلوا، قال فإني أسالك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر لله فيلة (6) دلو ناضح حتى ألقى الاحبة.
فقدمه ثابت فضربت عنقه، فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله " القى الاحبة " قال " يلقاهم والله في نار جهنم فيها مخلدا " قال ابن إسحاق " فيلة " بالفاء والياء المثناة من أسفل، وقال ابن هشام: بالقاف والباء الموحدة.
وقال ابن هشام: الناضح البعير الذي يستقى عليه الماء لسقي النخل،
__________
(1) زاد الواقدي: ولقد التمست العز في مظانه، وأبى الله إلا أن يمكنك مني، ولقد قلقلت كل مقلقل.
(2) من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، كان يهودا فأسلم، وكانت له صحبة (الاستيعاب والروض الانف).
(3) مقلقل: أي اني ذهبت في كل وجه في البلاد) أساس البلاغة - قلقل).
(4) من ابن هشام.
(5) في ابن هشام: سموال.
وفي الواقدي: غزال بن سموأل.
(6) في ابن هشام والسهيلي: فتلة: لعله يريد مقدار ما يأخذ الرجل الدلو إذا أخرجت فيصبها في الحوض، فيقتلها أو
يردها إلى موضعه، وقال الواقدي: إني لا أصبر افراغ دلو من نضح.
وقال أبو ذر: منهم من رواه: قبلة، فهو بمقدار ما يقبل الرجل الدلو، ليصبها في الحوض ثم يصرفها.
وفي هذا المعنى قال زهير بن أبي سلمة: وقابل يتغنى كلما قدرت * على العراقي يداه قائما دفقا

وقال أبو عبيدة: معناه إفراغه دلو.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم.
فحدثني شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم، وكنت غلاما فوجدوني لم أنبت فخلوا سبيلي.
ورواه أهل السنن الاربعة من حديث عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي نحوه.
وقد استدل به من ذهب من العلماء إلى أن إنبات الشعر الخشن حول الفرج دليل على البلوغ، بل هو بلوغ في أصح قولي الشافعي.
ومن العلماء من يفرن بين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم دون غيرهم، لان المسلم قد يتأذى بذلك لمقصد.
وقد روى [ ابن ] (1) إسحاق: عن أيوب بن عبد الرحمن أن سلمى بنت قيس، أم المنذر استطلقت من رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن شموال (2)، وكان قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك فأطلقه لها، وكانت قالت: يا رسول الله إن رفاعة يزعم أنه سيصلى ويأكل لحم الجمل.
فأجابها إلى ذلك فأطلقه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة (3)، قالت والله انها لعندي تحدث معي، تضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالها في السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة ؟ قالت: أنا والله، قالت: قلت لها: ويلك مالك ؟ قالت أقتل ! قلت ولم ؟ قالت: لحدث أحدثته، قالت: فانطلق بها فضربت عنقها، وكانت عائشة تقول فوالله ما أنسى عجبا منها، طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل.
هكذا رواه الامام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن إسحاق به.
قال ابن إسحاق (4): هي
التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، يعني فقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
قال ابن إسحاق: في موضع آخر وسماها نباتة امرأة الحكم القرظي.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، بعد ما أخرج الخمس، وقسم للفارس ثلاثة أسهم سهمين للفرس وسهما لراكبه وسهما للراجل، وكانت الخيل يومئذ ستا وثلاثين.
قال: وكان أول فئ وقعت فيه السهمان وخمس.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن زيد بسبايا من بني قريظة إلى نجد فابتاع بها خيلا وسلاحا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة (5) وكان عليها حتى توفي عنها وهي
__________
(1) من سيرة ابن هشام.
(2) في ابن هشام: سموال.
(3) قال أبو ذر: هي: امرأة الحسن القرظي.
وقال الواقدي: نباتة من بني النضير، وكانت تحت رجل من بني قريظة.
وقد قتلت بخلاد بن سويد (2 / 517).
(4) في السيرة: قال ابن هشام.
(5) في الواقدي: ريحانة بنت زيد من بني النضير متزوجة في بني قريظة.
وقال ابن سعد: هي ريحانة بنت زيد بن =

في ملكه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليها الاسلام فامتنعت، ثم أسلمت بعد ذلك فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم باسلامها وقد عرض عليها أن يعتقها ويتزوجها فاختارت أن تستمر على الرق ليكون أسهل عليها فلم تزل عنده حتى توفي عليه الصلاة والسلام، ثم تكلم ابن إسحاق على ما نزل من الآيات في قصة الخندق من أول سورة الاحزاب، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسيرها ولله الحمد والمنة.
وقد قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم بني قريظة: خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخزرجي طرحت عليه رحا فشدخته شدخا شديدا، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن له لاجر شهيدين.
قلت: كان الذي ألقى عليه الرحى تلك المرأة التي لم يقتل من بني قريظة امرأة غيرها كما تقدم والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان،
من بني أسد بن خزيمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم اليوم.
وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه قد تقدم: أن حبان بن العرقة لعنه الله رماه بسهم فأصاب أكحله فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيا بالنار فاستمسك الجرح، وكان سعد دعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة، وذلك حين نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهود والمواثيق والذمام ومالوا عليه مع الاحزاب، فلما ذهب الاحزاب وانقشعوا عن المدينة وباءت بنو قريظة بسواد الوجه والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحاصرهم كما تقدم فلما ضيق عليهم وأخذهم من كل جانب أنابوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهم بما أراه الله فرد الحكم فيهم إلى رئيس الاوس، وكانوا حلفاءهم في الجاهلية وهو سعد بن معاذ فرضوا بذلك ويقال بل نزلوا ابتداء على حكم سعد، لما يرجون من حنوه عليهم وإحسانه وميله إليهم ولم يعلموا بأنهم أبغض إليه من أعدادهم من القردة والخنازير، لشدة إيمانه وصديقيته رضي الله عنه وأرضاه، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في خيمة في المسجد النبوي فجئ به على حمار تحته إكاف قد وطئ تحته لمرضه ولما قارب خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عليه السلام من هناك، بالقيام له قيل: لينزل من شدة مرضه، وقيل توقيرا له بحضرة المحكوم عليهم ليكون أبلغ في نفوذ حكمه والله أعلم، فلما حكم فيهم بالقتل والسبي وأقر الله عينه وشفى صدره منهم وعاد إلى خيمته من المسجد النبوي صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الله عزوجل أن تكون له شهادة واختار الله له ما عنده فانفجر جرحه من الليل فلم يزل يخرج منه الدم حتى مات رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات منه شهيدا.
[ قال ابن إسحاق ] (1) حدثني معاذ بن رفاعة
__________
= عمرو بن خنافة بن سمعون بن زيد من بني النضير، وكانت متزوجة رجلا من بني قريظة يقال له الحكم، فنسبها بعض الرواة إلى بني قريظة لذلك (طبقات 8 / 129.
المغازي 2 / 520).
(1) من سيرة إبن هشام ج 3 / 262.

الزرقي قال: حدثني من شئت من رجال قومي: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجرا بعمامة من إستبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبو اب السماء، واهتز له العرش ؟ قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد فوجده قد مات رضي الله عنه، هكذا ذكره ابن إسحاق رحمه الله، وقد قال الحافظ البيهقي في الدلائل: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبي وشعيب بن الليث، قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر بن عبد الله قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبو اب السماء وتحرك له العرش ؟ قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سعد بن معاذ، قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس إذ قال " سبحان الله " مرتين، فسبح القوم، ثم قال " الله أكبر الله أكبر " فكبر القوم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عجبت لهذا العبد الصالح شدد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرج له " (1).
وروى الامام أحمد والنسائي: من طريق يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، ويحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد يوم مات وهو يدفن: سبحان الله لهذا الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن وفتحت له أبو اب السماء شدد عليه ثم فرج الله عنه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح عن جابر بن عبد الله قال: لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه ثم كبر فكبر الناس معه فقالوا يا رسول الله بم سبحت ؟ قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه (2).
وهكذا رواه الامام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق به قال ابن هشام ومجاز هذا الحديث قول عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للقبر ضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ.
قلت: وهذا الحديث قد رواه الامام أحمد: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع عن عائشة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجيا منها لنجا سعد بن معاذ.
وهذا الحديث سنده على شرط الصحيحين إلا أن الامام أحمد رواه عن غندر عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن انسان عن عائشة به.
ورواه الحافظ البزار عن نافع عن ابن عمر قال: حدثنا عبد الا على بن حماد حدثنا داود عن عبد الرحمن حدثنا عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الارض لم يهبطوا قبل ذلك ولقد ضمه القبر
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي ج 4 / 29.
(2) سيرة ابن هشام: 3 / 263.

ضمة (1).
ثم بكى نافع.
وهذا إسناد جيد لكن قال البزار رواه غيره عن عبيد الله عن نافع مرسلا ثم رواه البزار عن سليمان بن سيف عن أبي عتاب عن سكين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الارض قبلها، وقال حين دفن: سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد.
وقال البزار: حدثنا إسماعيل بن حفص، عن محمد بن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعد بن معاذ فقيل: إنما يعني السرير ورفع أبو يه على العرش قال تفتحت أعواده قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره فاحتبس فلما خرج قيل له يا رسول الله ما حبسك قال: ضم سعد في القبر ضمة فدعوت الله فكشف عنه.
قال البزار، تفرد به عطاء بن السائب.
قلت: وهو متكلم فيه.
وقد ذكر البيهقي رحمه الله بعد روايته ضمة سعد رضي الله عنه في القبر أثرا غريبا فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ؟ فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول (2).
وقال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الفضل بن مساور، حدثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي
سفيان عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ.
وعن الاعمش حدثنا أبو صالح عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله فقال رجل لجابر فإن البراء بن عازب يقول: اهتز السرير [ فقال ]: إنه كان بين هذين الحيين ضغائن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ.
ورواه مسلم عن عمرو الناقد عن عبد الله بن إدريس وابن ماجة عن علي بن محمد عن أبي معاوية كلاهما عن الاعمش به وليس عندهما زيادة قول الاعمش عن أبي صالح عن جابر: وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم اهتز لها عرش الرحمن ورواه مسلم عن عبد بن حميد والترمذي عن محمود بن غيلان كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عوف، حدثنا أبو نضرة، سمعت أبا سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ.
ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى به.
وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، قال قتادة: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وجنازته موضوعة اهتز لها عرش الرحمن.
ورواه مسلم: عن محمد بن عبد الله الازدي، عن عبد الوهاب به وقد روى البيهقي: من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 4 / 30.
(2) دلائل النبوة ج 4 / 30.

الحسن البصري قال: اهتز عرش الرحمن فرحا بروحه (1).
وقال الحافظ البزار: حدثنا زهير بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: لما حملت جنازة سعد قال المنافقون ما أخف جنازته، وذلك لحكمه في بني قريظة، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا ولكن الملائكة تحملته.
إسناد جيد.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت البراء بن عازب يقول: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها فقال: أتعجبون من لين هذه ؟ لمناديل سعد بن معاذ خير منها
أو ألين ثم قال: رواه قتادة والزهري: سمعنا أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، هو ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن أكيدر دومة: أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة وذلك قبل أن ينهى عن الحرير فلبسها فعجب الناس منها فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذه.
وهذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجوه.
وإنما ذكره البخاري تعليقا.
وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، حدثني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال محمد: وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم.
قال: دخلت على أنس بن مالك فقال لي: من أنت ؟ قلت أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ فقال إنك بسعد لشبيه، ثم بكى وأكثر البكاء، وقال رحمة الله على سعد كان من أعظم الناس وأطولهم ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى أكيدر دومة فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة من ديباج منسوج فيها الذهب فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر وجلس فلم يتكلم، ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة، وينظرون إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون منها لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عمرو به.
وقال الترمذي حسن صحيح.
قال ابن إسحاق بعد ذكر اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ وفي ذلك يقول رجل من الانصار: وما اهتز عرش الله من موت هالك * سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو قال: وقالت أمه يعني كبيشسة (2) بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة الخدرية الخزرجية حين احتمل سعد على نعشه تندبه: ويل أم سعد سعدا * صرامة وحدا وسؤددا ومجدا * وفارسا معدا سد به مسدا * يقدها ما قدا قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاد " قلت: كانت وفاته بعد انصراف الاحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة، إذ كان قدوم الاحزاب في شوال سنة خمس
__________
(1) فيه انقطاع، وله ذكر في سيرة ابن هشام.
(2) في الاستيعاب: كبشة بنت رافع بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الابجر.
وفي الواقدي: كبشة بنت عبيد .

كما تقدم فأقاموا قريبا من شهر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصار بني قريظة فأقام عليهم خمسا وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد فمات بعد حكمه عليهم بقليل فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة أو أوائل ذي الحجة من سنة خمس والله أعلم.
وهكذا قال محمد بن إسحاق: ان فتح بني قريظة كان في ذي القعدة وصدر ذي الحجة قال: وولى تلك الحجة المشركون.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ رضي الله عنه: لقد سجمت من دمع عيني عبرة * وحق لعيني أن تفيض على سعد قتيل ثوى في معرك فجعت به * عيون ذواري الدمع دائمة الوجد (1) على ملة الرحمن وارث جنة * مع الشهداء وفدها أكرم الوفد فإن تك قد وعدتنا وتركتنا * وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد * كريم وأثواب المكارم والمجد (2) بحكمك في حيي قريظة بالذي * قضى الله فيهم ما قضيت على عمد فوافق حكم الله حكمك فيهم * ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد فإن كان ريب الدهر أمضاك في الالى * شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد فنعم مصير الصادقين إذا دعوا * إلى الله يوما للوجاهة والقصد فصل الاشعار في الخندق وبني قريظة قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، حدثنا عدي بن ثابت أنه سمع البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: اهجهم أو هاجهم وجبريل معك.
قال البخاري: وزاد إبراهيم بن طهمان عن الشيباني عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت: أهج المشركين فإن جبريل معك.
وقد رواه البخاري أيضا
ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة بدون الزيادة التي ذكرها البخاري يوم بني قريظة.
قال ابن إسحاق رحمه الله: وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر في يوم الخندق (قلت: وذلك قبل إسلامه): ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا (3) كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا ترى الابدان فيها مسبغات * على الابطال واليلب الحصينا (2)
__________
(1) ذواري الدمع: تسكبه وغزيرته.
(2) في ابن هشام: والحمد بدل والمجد.
(3) عرندسة: الشديدة القوة.
والعرندس: القوي، يريد الكتيبة.
(4) اليلب: الترس أو الدروع من الجلد

وجردا كالقداح مسومات * نؤم بها الغواة الخاطئينا كأنهم إذا صالوا وصلنا * بباب الخندقين مصافحونا أناس لا نرى فيهم رشيدا * وقد قالوا ألسنا راشدينا فأحجرناهم شهرا كريتا * وكنا فوقهم كالقاهرينا (1) نراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا بأيدينا صوارم مرهفات * نقد بها المفارق والشئونا (2) كأن وميضهن معريات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا وميض عقيقة لمعت بليل * ترى فيها العقائق مستبينا فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا فإن نرحل فإنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعدا رهينا
إذا جن الظلام سمعت نوحا * على سعد يرجعن الحنينا وسوف نزوركم عما قريب * كما زرناكم متوازرينا بجمع من كنانة غير عزل * كأسد الغاب إذ حمت العرينا قال: فأجابه كعب بن مالك أخو بني سلمة رضي الله عنه فقال: وسائلة تسائل ما لقينا * ولو شهدت رأتنا صابرينا صبرنا لا نرى لله عدلا * على ما نابنا متوكلينا وكان لنا النبي وزير صدق * به نعلو البرية أجمعينا نقاتل معشرا ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا نعالجهم إذا نهضوا إلينا * بضرب يعجل المتسرعينا ترانا في فضافض سابغات * كغدران الملا متسربلينا (3) وفي ايماننا بيض خفاف * بها نشفي مراح الشاغبينا بباب الخندقين كأن أسدا * شوابكهن يحمين العرينا فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الاعداء شوسا معلمينا (4) لننصر أحمدا والله حتى * نكون عباد صدق مخلصينا
__________
(1) شهرا كريتا: أي شهرا كاملا.
(2) الشؤون: جمع شأن: مجمع العظام في أعلى الرأس.
(3) الفضافض: الدروع المتسعة.
والملا: المتسع من الارض، وقيل الصحراء.
(4) الشوس: جمع أشوس، وهو الذي ينظر بمؤخر عينه كبرا.
والمعلم: (فتح وكسر الللام) الذي يجعل لنفسه علامة في الحرب يعرف بها.

ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا
فإما تقتلوا سعدا سفاها * فان الله خير القادرينا سيدخله جناتا طيبات * تكون مقامة للصالحينا كما قد ردكم فلا شريدا * بغيظكم خزايا خائبينا خزايا لم تنالوا ثم خيرا * وكدتم أن تكونوا دامرينا بريح عاصف هبت عليكم * فكنتم تحتها متكمهينا (1) قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري السهمي في يوم الخندق (قلت وذلك قبل أن يسلم) حي الديار محا معارف رسمها * طول البلى وتراوح الاحقاب فكأنما كتب اليهود رسومها * ألا الكنيف ومعقد الاطناب (2) قفرا كأنك لم تكن تلهو بها * في نعمة بأوانس أتراب فاترك تذكر ما مضى من عيشة * ومحلة خلق المقام يباب واذكر بلاء معاشر واشكرهم * ساروا بأجمعهم من الانصاب أنصاب مكة عامدين ليثرب * في ذي غياطل جحفل جبجاب (3) يدع الحرون مناهجا معلومة * في كل نشز ظاهر وشعاب فيها الجياد شوازب مجنوبة * قب البطون واحق الاقراب (4) من كل سلهبة وأجرد سلهب * كالسيد بادر غفلة الرقاب جيش عيينة قاصد بلوائه * فيه وصخر قائد الاحزاب قرمان كالبدرين أصبح فيهما * غيث الفقير ومعقل الهراب حتى إذا وردوا المدينة وارتدوا * للموت كل مجرب قضاب شهرا وعشرا قاهرين محمدا * وصحابه في الحرب خير صحاب نادوا برحلتهم صبيحة قلتم * كدنا نكون بها مع الخياب لولا الخنادق غادروا من جمعهم * قتلى لطير سغب وذئاب
قال فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال: هل رسم دارسة المقام يباب * متكلم لمحاور بجواب
__________
(1) المتكمه: الاعمى الذي لا يبصر.
(2) الكنيف: الحظيرة، الزريبة للابل.
والاطناب: الحبال التي تشد بها الخيام والاخبية.
(3) الغياطل: الجيوش كثيرة الاصوات.
والجبجاب: الكثير.
(4) الشوازب: الضوامر.
المجنونة: المقودة، التي تقاد.
قب: ضامرة.
الاقراب: جمع قرب، وهي الخاصرة.

قفر عفا رهم السحاب رسومه * وهبوب كل مطلة مرباب (1) ولقد رأيت بها الحلول يزينهم * بيض الوجوه ثواقب الاحساب فدع الديار وذكر كل خريدة * بيضاء آنسة الحديث كعاب واشك الهموم إلى الاله وما ترى * من معشر ظلموا الرسول غضاب ساروا بأجمعهم إليه وألبوا * أهل القرى وبوادي الاعراب جيش عيينة وابن حرب فيهم * متخمطون بحلبة الاحزاب (2) حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا * قتل الرسول ومغنم الاسلاب وغدوا علينا قادرين بأيدهم * ردوا بغيظهم على الاعقاب بهبوب معصفة تفرق جمعهم * وجنود ربك سيد الارباب فكفى الاله المؤمنين قتالهم * وأثابهم في الاجر خير ثواب من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم * تنزيل نصر مليكنا الوهاب وأقر عين محمد وصحابه * وأذل كل مكذب مرتاب عاتي الفؤاد موقع ذي ريبة * في الكفر ليس بطاهر الاثواب علق الشقاء بقلبه ففؤاده * في الكفر آخر هذه الاحقاب قال وأجابه كعب بن مالك رضي الله عنه أيضا فقال:
أبقى لنا حدث الحروب بقية * من خير نحلة ربنا الوهاب بيضاء مشرفة الذرى ومعاطنا * حم الجذوع غزيرة الاحلاب (3) كاللوب يبذل جمها وحفيلها * للجار وابن العم والمنتاب (4) ونزائعا مثل السراج نمى بها * علف الشعير وجزة المقضاب (5) عرى الشوى منها وأردف نحضها * جرد المتون وسائر الآراب (6) قودا تراح إلى الصباح إذا غدت * فعل الضراء تراح للكلاب (7)
__________
(1) رهم: جمع رهمة.
وهو المطر الضعيف.
مرباب: دائمة.
(2) متخمطون: مختلطون.
ويقال: المتخمط: الشديد الغضب والمتكبر.
قاله أبو ذر في شرح السيرة.
(3) المعاطن: منابت النخل عند الماء، شبهها بمعاطن الابل وهي مباركها عند الماء (الروض 2 / 204).
حم الجذوع: السواد، وصفها بالحمة لانها تضرب إلى السواد من الخضرة والنعمة (السهيلي 2 / 204).
(4) اللوب: جمع لوبة، وهي الحرة: أرض ذات حجارة سوداء.
واللوب أيضا: النحل، ويحتمل تشبيهه بالنحل لكثرتها.
(5) النزائع: الخيل العربية التي حملت من أرضها إلى أرض أخرى.
(6) الشوى: القوائم.
النخص: اللحم.
جرد المتون: ملس الظهور.
والاراب: جمع إربة وهي المفاصل.
(7) القود: الطوال الاعناق.
الكلاب: جمع كالب، الصائد صاحب الكلاب.

وتحوط سائمة الديار وتارة * تردي العدى وتئوب بالاسلاب حوش الوحوش مطارة عند الوغى * عبس اللقاء مبينة الانجاب (1) علفت على دعة فصارت بدنا * دخس البضيع خفيفة الاقصاب يغدون بالزغف المضاعف شكة * وبمترصات في الثقاف صياب (2) وصوارم نزع الصياقل علبها * وبكل أروع ماجد الانساب يصل اليمين بمارن متقارب * وكلت وقيعته إلى خباب (3)
وأغر أزرق في القناة كأنه * في طخية الظلماء ضوء شهاب وكتيبة ينفى القران قتيرها * وترد حد قواحز النشاب (4) جأوى ململمة كأن رماحها * في كل مجمعة صريمة غاب (5) تأوي إلى ظل اللواء كأنه * في صعدة الخطي فئ عقاب أعيت أبا كرب وأعيت تبعا * وأبت بسالتها على الاعراب ومواعظ من ربنا نهدى بها * بلسان أزهر طيب الاثواب عرضت علينا قاشتهينا ذكرها * من بعد ما عرضت على الاحزاب خكما يراها المجرمون بزعمهم * حرجا ويفهمها ذوو الالباب جاءت سخينة كي تغالب ربها * فليغلبن مغالب الغلاب (7) قال ابن هشام: حدثني من أثق به، حدثني عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما سمع منه هذا البيت: لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا.
قلت ومراده بسخينة قريش وإنما كانت العرب تسميهم بذلك لكثرة أكلهم الطعام السخن الذي لا يتهيأ لغيرهم غالبا من أهل البوادي (8) فالله أعلم.
قال ابن إسحاق وقال كعب بن مالك أيضا: من سره ضرب يمعمع بعضه * بعضا كمعمعة الاباء المحرق (9)
__________
(1) حوش: الوحشية.
مطارة: مستخفة.
(2) دخس: كثيرة اللحم.
(3) المترصات: الشديدات.
الزغف: الدروع اللينة الواسعة.
(4) وقيعته: صنعه وصقله.
خباب: اسم قين.
(5) القتير: مسامير حلق الدرع.
قواحز: النبال التي تصيب الافخاذ، وفي ابن هشام: قواحذ.
(6) جأوى يخالط سوادها حمرة.
والصريمة: اللهب المتوقد، وفي ابن هشام: الضريمة.
(7) سخينة: لقب قريش في الجاهلية.
(8) قال السهيلي: كان العرب إذا أسنتوا أكلوا العلهز، وهو الوبر والدم، وتأكل قريش الخزيرة، فنفست عليهم ذلك.
فلقبوهم سخينة.
(9) الاباء: من ابن هشام، وفي الاصل الاناء.
والاباء القصب واحدته: إباءة.

فيأت مأسدة تس سيوفها * بين المذاد وبين جذع الخندق (1) دربوا بضرب المعلمين وأسلموا * مهجات أنفسهم لرب المشرق في عصبة نصر الاله نبيه * بهم وكان بعبده ذا مرفق في كل سابغة تخط فضولها * كالنهي هبت ريحه المترقرق (2) بيضاء محكمة كأن قتيرها * حدق الجنادب ذا سك (نسك) موثق جدلاء يحفزها نجاد مهند * صافي الحديدة صارم ذي رونق (3) تلكم مع التقوى تكون لباسنا * يوم الهياج وكل ساعة مصدق نصل السيوف إذا قصرن بخطونا * قدما ونلحقها إذا لم تلحق.
فترق الجماجم ضاحيا هاماتها * بله الاكف كأنها لم تخلق (4) نلقى العدو بفخمة ملمومة * تنفي الجموع كقصد رأس المشرق (5) ونعد للاعداء كل مقلص * ورد ومحجول القوائم أبلق تردى بفرسان كأن كماتهم * عند الهياج أسود طل ملثق (6) صدق يعاطون الكماة حتوفهم * تحت العماية بالوشيح المزهق أمر الاله بربطها لعدوه * في الحرب إن الله خير موفق لتكون غيظا للعدو وحيطا * للدار إن دلفت خيول النزق ويعيننا الله العزيز بقوة * منه وصدق الصبر ساعة نلتقي ونطيع أمر نبينا ونجيبه * وإذا دعا لكريهة لم نسبق ومتى ينادى للشدائد نأتها * ومتى نرى الحومات فيها نعنق
من يتبع قول النبي فإنه * فينا مطاع الامر حق مصدق فبذاك ينصرنا ويظهر عزنا * ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق إن الذين يكذبون محمدا * كفروا وضلوا عن سبيل المتقي قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضا: لقد علم الاحزاب حين تألبوا * علينا وراموا ديننا ما نوادع
__________
(1) المذاد: موضع بالمدينة حيث حفر الخندق.
(2) النهي: الغدير.
(3) جدلاء: الدرع المحكمة النسج.
نجاد: حمائل السيف.
(4) بله: اسم فعل بمعنى اترك ودع (5) المشرق: جبل بين الصريف والعصيم من أرض ضبة (معجم البلدان).
(6) ملثق: ما يكون عن الطل من زلق وطين.
والاسد أجوع ما تكون وأجرأ في ذلك الحين.

أضاميم من قيس بن غيلان أصفقت * وخندق لم يدروا بما هو واقع (1) يذودوننا عن ديننا ونذودهم * عن الكفر والرحمن راد وسامع إذا غايظونا في مقام أعاننا * على غيظهم نصر من الله واسع وذلك حفظ الله فينا وفضله * علينا ومن لم يحفظ الله ضائع هدانا لدين الحق واختاره لنا * ولله فوق الصانعين صانع (2) قال ابن هشام: وهذه الابيات في قصيدة له - يعني طويلة - قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في مقتل بني قريظة: لقد لقيت قريظة ما ساءها * وما وجدت لذل من نصير أصابهم بلاء كان فيه * سوى ما قد أصاب بني النضير غداة أتاهم يهوى إليهم * رسول الله كالقمر المنير
له خيل مجنبة تغادى * بفرسان عليها كالصقور (3) تركناهم وما ظفروا بشئ * دماؤهم عليها كالعبير فهم صرعي تحوم الطير فيهم * كذاك يدان ذو العند الفجور فأنذر مثلها نصحا قريشا * من الرحمن إن قبلت نذيري قال: وقال حسان بن ثابت أيضا في بني قريظة: تعاقد معشر نصروا قريشا * وليس لهم ببلدتهم نصير هم أوتوا الكتاب فضيعوه * وهم غمي من التوراة بور كفرتم بالقرأن وقد أتيتم * بتصديق الذي قال النذير فهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير (4) فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقال: ادام الله ذلك من صنيع * وحرق في طوائفها السعير ستعلم أينا منها بنزه * وتعلم أي أرضينا تضير فلو كان النخيل بها ركابا * لقالوا لا مقام لكم فسيروا قلت: وهذا ما قاله أبو سفيان بن الحارث قبل أن يسلم، وقد تقدم في صحيح البخاري بعض هذه الابيات.
وذكر ابن إسحاق جواب حسان في ذلك لجبل بن جوال الثعلبي تركناه قصدا.
__________
(1) أضاميم: واحدتها أضمامة وهو كل شئ مجتمع.
وتروى أصاميم بالصاد: الخالصون في أنسابهم.
(2) في ابن هشام: صنائع.
(3) خيل مجنبة: هي التي تقاد ولا تركب.
(4) سراة القوم: إشرافهم، والبويرة: موضع بني قريظة.

قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضا يبكي سعدا وجماعة ممن استشهد يوم بني
قريظة: ألا يا لقومي هل لما حم دافع * وهل ما مضى من صالح العيش راجع تذكرت عصرا قد مضى فتهافتت * بنات الحشا وانهل مني المدامع صبابة وجد ذكرتني إخوة * وقتلى مضى فيها طفيل ورافع (1) وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت * منازلهم فالارض منهم بلاقع وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم * ظلال المنايا والسيوف اللوامع دعا فأجابوه بحق وكلهم * مطيع له في كل أمر وسامع فما نكلوا حتى توالوا جماعة * ولا يقطع الآجال إلا المصارع لانهم يرجون منه شفاعة * إذا لم يكن إلا النبيون شافع فذلك يا خير العباد بلاؤنا * إجابتنا لله والموت ناقع لنا القدم الاولى إليك وخلفنا * لاولنا في ملة الله تابع (2) ونعلم أن الملك لله وحده * وأن قضاء الله لابد واقع مقتل أبي رافع اليهودي قال ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق، وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق وهو أبو رافع - فيمن حزب الاحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الاوس، قبل أحد قد قتلت كعب بن الاشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر فأذن لهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الانصار الاوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين لا تصنع الاوس شيئا فيه غناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقالت الخزرج والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الاوس مثل ذلك.
قال: ولما أصابت الاوس كعب بن الاشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا.
قال: فتذكروا من
رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الاشرف ؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا الرسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود
__________
(1) في الديوان: صبابة وجد ذكرتني أحبة * وقتلى مضوا فيها نفيع ودافع (2) في الديوان: في طاعة بدل: في ملة.

حليف لهم من أسلم.
فخرجوا وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار حتى أغلقوه على أهله.
قال: وكان في علية له إليها عجلة (1) قال: فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته، فقالت: من أنتم ؟ قالوا: أناس من العرب نلتمس الميرة.
قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه.
فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه.
قال: فصاحت امرأته فنوهت بنا، فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية (2) ملقاة.
قال: فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل.
قال فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني أي حسبي حسبي.
قال: وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك سئ البصر قال: فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئا شديدا وحملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم، فندخل فيه فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبونا، حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه وهو يقضي.
قال فقلنا: كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات ؟ قال: فقال رجل منا: أنا أذهب فانظر لكم.
فانطلق حتى دخل في الناس قال: فوجدتها - يعني امرأته - ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول: أما والله قد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت:
أني ابن عتيك بهذه البلاد.
ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه فقالت: فاظ واله يهود، فما سمعت كلمة كانت ألذ على نفسي منها.
قال: ثم جاءنا فأخبرنا، فاحتملنا صاحبنا وقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه.
قال: فقال: هاتوا أسيافكم، فجئنا بها فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله أرى، فيه أثر الطعام.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك: لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الاشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف (3) حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف
__________
(1) عجلة: جدع النخلة ينقر ويجعل كالسلم فيصعد عليه إلى العلالي.
(2) قبطية: ثياب بيض تصنع في مصر.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل: فوثبت يده وثبا.
وثئت: أي أصاب عظمها شئ ليس بالكسر، وهو وجع يصيب اللحم دون العظم.
(4) مغرف: ملتف الاغصان.

هكذا أورد هذه القصة الامام محمد بن إسحاق (1) رحمه الله.
وقد قال الامام أبو عبد الله البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة عن أبيه، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطا إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا وهو نائم فقتله (2).
قال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبيدالله (3) بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا (4) من الانصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه.
وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس.
وراح الناس
بسرحهم قال عبد الله [ لاصحابه ]: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق متلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب.
فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الاغاليق على ود قال: فقمت إلى الاقاليد (5) وأخذتها وفتحت الباب وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له فلما ذهب عنه أهل سمرة صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل فقلت إن القوم سدروا (6) لي لم يخلصوا ألي حتى أفتله.
فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت قلت أبا رافع.
قال من هذا.
فأهويت نحو الصوت، فأضربه بالسيف ضربة وأنا دهش فما أغنيت شيئا، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع فقال: لامك الويل إن رجلا في البيت [ ضربني ] قبل بالسيف.
قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله ثم وضعت صبيب (7) السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الابواب بابا بابا، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة حتى انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك، قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع ناصر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء.
فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 3 / 286.
(2) في 64 كتاب المغازي 16 باب قتل أبي رافع ح 4038.
(3) من البخاري، وفي الاصل: عبد الله وهو تحريف.
(4) قال ابن حجر في فتح الباري: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن عتبة في اناس معهم.
(5) الاقاليد: جمع إقليد وهو المفتاح.
(6) في البخاري: نذروا لي.
(7) صبيب السيف لا معنى لها هنا والصبيب سيلان الدم من الفم.
وفي البخاري ضبة قال ابن حجر: وهو حرف حد
السيف ويجمع على ضبات.
قال أبو ذر صبة بالصاد: طرفه.

النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم اشتكها قط (1).
قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الاودي، حدثنا شريح، حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق: سمعت البراء قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا حتى دنوا من الحصن فقال لهم عبد الله بن عتيك: امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فانظر قال: فتلطفت حتى أدخل الحصن، ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقيس يطلبونه، قال: فخشيت أن أعرف قال: فغطيت رأسي وجلست كأني أقضي حاجة [ ثم نادى صاحب الباب ] (2) فقال: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه.
فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن فتعشوا عند أبي رافع، وتحدثوا حتى ذهب ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الاصوات ولا أسمع حركة خرجت، قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة فأخذته، ففتحت به باب الحصن.
قال: قلت: إن نذر بي القوم، انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبو اب بيوتهم، فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم، فإذا البيت مظلم، قد طفئ سراجه فلم أدر أين الرجل، فقلت: يا أبا رافع قال: من هذا ؟ فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئا.
قال: ثم جئته كأني أغيثه، فقلت: ما لك يا أبا رافع ؟ وغيرت صوتي، قال: لا أعجبك لامك الويل دخل علي رجل فضربني بالسيف، قال: فعمدت إليه أيضا فأضربه أخرى، فلم تغن شيئا فصاح وقام أهله ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره فأضع السيف في بطنه ثم انكفئ عليه حتى سمعت صوت العظم ثم خرجت دهشا، حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعي أبا رافع قال: فقمت أمشي ما بي قلبة (3) فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشرته (4).
تفرد به
البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة ثم قال: قال الزهري: قال أبي بن كعب: فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال أفلحت الوجوه قال أفلح وجهك يا رسول الله قال أفتكتموه قالوا: نعم قال: ناولني السيف فسله فقال أجل هذا طعامه في ذباب السيف (5).
قلت يحتمل أن عبد الله بن عتيك لما سقط من تلك الدرجة انفكت قدمه وانكسرت
__________
(1) البخاري في 64 كتاب المغازي 16 باب ح 4039.
فتح الباري 7 / 274.
(2) ما بين معكوفين في الحديث من البخاري.
(3) قلبة: بفتح القاف واللام: أي علة انقلب بها قال الفراء: أصل القلاب بكسر القاف: داء يصيب البعير فيموت من يومه فقيل لكل من سلم من علة: ما به قلبة: أي ليست به علة تهلكه.
(4) البخاري 64 كتاب المغازي 16 باب ح 4040 (ج 7 / 276).
(5) رواية ابن عقبة ذكرها ابن عبد البر في الدرر (186) باختصار.
والبيهقي في الدلائل 4 / 39.

ساقه ووثبت رجله فلما عصبها استكن ما به لما هو فيه من الامر الباهر ولما أراد المشي أعين على ذلك لما هو فيه من الجهاد النافع، ثم لما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقرت نفسه ثاوره الوجع في رجله فلما بسط رجله ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ما كان بها من بأس في الماضي ولم يبق بها وجع يتوقع حصوله في المستقبل جمعا بين هذه الرواية والتي تقدمت والله أعلم.
هذا وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه مثل سياق محمد بن إسحاق وسمى الجماعة الذين ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق وإبراهيم وأبو عبيد.
مقتل خالد بن سفيان الهذلي ذكره الحافظ البيهقي في الدلائل تلو مقتل أبي رافع (1).
قال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة (2) فائته فاقتله.
قال: قلت: يا رسول الله انعته لي، حتى أعرفه.
قال: إذا
رأيته وجدت له قشعريرة.
قال: فخرجت متوشحا سيفي، حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلا، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه، اومئ برأسي للركوع والسجود فلما انتهيت إليه قال: من الرجل ؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك.
قال: أجل أنا في ذلك قال فمشيت معه شيئا، حتى إذا أمكنني، حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني قال: أفلح الوجه قال: قلت: قتلته يا رسول الله.
قال: صدقت.
قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته فأعطاني عصا فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس.
قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا ؟ قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها.
قالوا: أو لا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك.
قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا ؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون (3) يومئذ.
قال فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه ثم دفنا جميعا (4).
ثم رواه الامام أحمد: عن يحيى بن آدم، عن عبد الله بن ادريس، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن بعض
__________
(1) دلائل النبوة ج 4 / 40 باب قتل ابن نبيح الهذلي.
(2) عرنة: موضع بقرب عرفة موقف الحجيج.
معجم ما استعجم 3 / 935.
(3) المتخصرون: المتكئون على المخاصر وهي العصي، واحدتها: مخصرة.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 496.

ولد عبد الله بن أنيس - أو قال عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس - عن عبد الله بن أنيس فذكر نحوه.
وهكذا رواه أبو داود: عن أبي معمر، عن عبد الوارث عن محمد بن إسحاق: عن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن أنيس عن أبيه فذكر نحوه ورواه الحافظ البيهقي من طريق محمد بن
سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس عن أبيه فذكره.
وقد ذكر قصة عروة بن الزبير وموسى بن عقبة في مغازيهما مرسلة فالله أعلم.
قال ابن هشام وقال عبد الله بن أنيس في قتله خالد بن سفيان: تركت ابن ثور كالحوار وحوله * نوائح تفري كل جيب معدد (1) تناولته والظعن خلفي وخلفه * بأبيض من ماء الحديد المهند عجوم لهام الدارعين كأنه * شهاب غضى من ملهب متوقد أقول له والسيف يعجم رأسه * أنا ابن أنيس فارس غير قعدد (2) انا ابن الذي لم ينزل الدهر قدره * رحيب فناء الدار غير مزند (3) وقلت له: خذها بضربة ماجد * خفيف على دين النبي محمد وكنت إذا هم النبي بكافر * سبقت إليه باللسان وباليد قلت: عبد الله بن أنيس (4) بن حرام: أبو يحيى الجهني صحابي مشهور كبير القدر، كان فيمن شهد العقبة وشهد أحدا والخندق وما بعد ذلك وتأخر موته بالشام إلى سنة ثمانين على المشهور وقيل توفي سنة أربع وخمسين والله أعلم.
وقد فرق علي بن الزبير وخليفة بن خياط بينه وبين عبد الله بن أنيس أبي عيسى الانصاري الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا أحد بأداوة فيها ماء فحل فمها وشرب منها.
كما رواه أبو داود والترمذي من طريق عبد الله العمري عن عيسى بن عبد الله بن أنيس عن أبيه ثم قال الترمذي وليس إسناده يصح وعبد الله العمري ضعيف من قبل حفظه.
قصة عمرو بن العاص مع النجاشي قال محمد بن إسحاق بعد مقتل أبي رافع: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أوس [ أبي ] (5) الثقفي، عن حبيب بن [ أبي ] أوس، حدثني عمرو بن العاص من فيه
__________
(1) في ابن هشام: مقدد، والحوار: ولد الناقة إذا كان صغيرا قبل أن يفصل عن أمه.
(2) القعدد: الجبان اللئيم.
(3) مزند: الضيق.
(4) قال ابن الاثير في أسد الغابة: عبد الله بن أنيس بن أسعد بن حرام بن خبيب بن مالك بن مالك بن غنم.
كان مهاجريا انصاريا عقبيا شهد بدرا وأحدا وما بعدهما.
قيل من جهينة حليف للانصار وقيل هو من الانصار.
مات سنة أربع وسبعين.
قال ابن منده: فرق أبو حاتم بينه وبين ابن أنيس الجهني وأراهما واحدا.
(انظر أسد الغابة 3 / 119.
الاصابة 2 / 278).
(5) من ابن هشام، في الموضعين.

قال: لما انصرفنا يوم الاحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش، كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الامور علوا منكرا، وإني لقد رأيت أمرا فما ترون فيه.
قالوا: وما رأيت قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي.
فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.
قالوا: إن هذا الرأي.
قلت: فاجمعوا لنا ما نهدي له، فكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الادم فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه.
فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر (1) وأصحابه.
قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده.
قال: فقلت لاصحابي: هذا عمرو بن أمية، لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت رأيت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع.
فقال: مرحبا بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئا ؟ قال: قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا.
قال ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه.
ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لاقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الارض لدخلت فيها فرقا.
ثم قلت: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.
قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الاكبر
الذي كان يأتي موسى فتقتله ؟ قال: قلت أيها الملك أكذاك هو ؟ قال ويحك يا عمرو، أطعني وأتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده، قال: قلت: افتبايعني له على الاسلام ؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الاسلام، ثم خرجت على أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي.
ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسلم فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة فقلت أين أبا سليمان ؟ فقال والله لقد استقام الميسم (2) وان الرجل لنبي، أذهب والله أسلم، فحتى متى ؟ قال: قلت: والله ما جئت إلا لاسلم.
قال: فقدمنا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي ولا أذكر ما تأخر.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو بايع فإن الاسلام يجب ما كان قبله وإن الهجرة تجب ما كان قبلها.
قال: فبايعته ثم انصرفت.
قال ابن إسحاق وقد حدثني من لا أتهم:
__________
(1) في الواقدي: بعثه إليه بكتاب إليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان.
(2 / 742).
(2) الميسم: المكواة التي تكوى بها الابل وتوسم.
وفي رواية أبي ذر في شرح السيرة، " المنسم " قال: " ومعناه تبين الطريق ووضح "

أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما، أسلم حين أسلما، فقال عبد الله بن أبي الزبعري السهمي: أنشد عثمان بن طلحة خلفنا * وملقى نعال القوم عند المقبل (1) وما عقد الآباء من كل حلفة * وما خالد من مثلها بمحلل أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي * وما تبتغي من بيت مجد مؤثل فلا تأمنن خالدا بعد هذه * وعثمان جاءا بالدهيم المعضل قلت: كان إسلامهم بعد الحديبية (2)، وذلك أن خالد بن الوليد كان يومئذ في خيل المشركين كما سيأتي بيانه فكان ذكر هذا الفصل في إسلامهم بعد ذلك أنسب.
ولكن ذكرنا ذلك
تبعا للامام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى لان أول ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان بعد وقعة الخندق الظاهر أنه ذهب بقية سنة خمس.
والله أعلم.
فصل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بام حبيبة ذكر البيهقي بعد وقعة الخندق من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) [ الممتحنة: 7 ] قال هو تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين (3).
ثم قال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ [ قال: حدثنا علي بن عيسى، قال ] (4) حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، أنبأنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري عن عروة، عن أم حبيبة (5) انها كانت عند عبيدالله (6) بن جحش وكان رحل إلى النجاشي فمات.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة وزوجها إياه النجاشي ومهرها أربعة آلاف
__________
(1) قوله خلفنا، وفي نسخة لابن هشام: حلفنا ولعله الصواب.
(2) في رواية الواقدي: كان ذلك قبيل الفتح، وان عمرا وخالدا وعثمان بن طلحة قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان 2 / 745.
(3) دلائل النبوة ج 3 / 459.
وتفسير القرطبي 18 / 58.
قال البيهقي: ذهب علماؤنا إلى أن هذا حكم لا يتعدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهن يصرن أمهات المؤمنين في التحريم، ولا يتعدى هذا التحريم إلى اخوتهن، ولا إلى اخواتهن ولا إلى بناتهن والله أعلم.
(4) سقطت من الاصل واستدركت من دلائل البيهقي.
(5) أم حبيبة: واسمها رملة وقيل: هند، والمشهور رملة وهو الصحيح عند أهل العلم بالنسب والسير، والحديث.
ولدت قبل المبعث بسبعة عشر عاما، تزوجها عبيدالله بن جحش بن رئاب بن يعمر الاسدي، فولدت له حبيبة وبها كنيت.
أسلما، ثم هاجرا إلى الحبشة.
ارتد زوجها عن الاسلام وتنصر وفارقها، وثبتها الله على دينها.
وتوفيت سنة أربع وأربعين.
(6) من ابن سعد والواقدي.
وفي الاصل عبد الله تحريف.

درهم (1) وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة وجهزها من عنده وما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ.
قال وكان مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة.
قلت: والصحيح أن مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت ثنتي عشرة أوقية ونشأ، والوقية أربعون درهما والنش النصف وذلك يعدل خمسمائة درهم.
ثم روى البيهقي: من طريق ابن لهيعة، عن أبي الاسود، عن عروة أن عبيدالله بن جحش مات بالحبشة نصرانيا فخلف على زوجته أم حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها منه عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قلت أما تنصر عبيدالله بن جحش فقد تقدم بيانه، وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة استزله الشيطان، فزين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه، لعنة الله، وكان يعير المسلمين فيقول لهم أبصرنا وصأصأتم وقد تقدم شرح ذلك في هجرة الحبشة.
وأما قول عروة: إن عثمان زوجها منه فغريب.
لان عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك ثم هاجر إلى المدينة وصحبته زوجته رقية كما تقدم والله أعلم.
والصحيح ما ذكره يونس، عن محمد بن إسحاق قال: بلغني أن الذي ولى نكاحها ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص.
قلت وكان وكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبول العقد أصحمة النجاشي ملك الحبشة كما قال يونس عن محمد بن إسحاق حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وساق عنه أربعمائة دينار.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن زهير، عن إسماعيل بن عمرو أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي، جارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فاستأذنت علي فأذنت لها فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أن أزوجكه، فقلت بشرك الله بالخير وقالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك.
قالت: فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطيت أبرهة سوارين من فضة وخذمتين من فضة، كانتا علي وخواتيم من فضة، في كل أصابع رجلي سرورا بما بشرتني به.
فلما أن كان من العشي، أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب، ومن كان هناك
من المسلمين أن يحضروا، وخطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم.
أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.
فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.
أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان.
فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في ابن سعد وابن هشام والقرطبي: أربعمائة دينار

ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا، فقال: اجلسوا فإن من سنة الانبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج.
فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا (1).
قلت: فلعل عمرو بن العاص لما رأى عمرو بن أمية خارجا من عند النجاشي بعد الخندق إنما كان في قضية أم حبيبة فالله أعلم.
لكن قال الحافظ البيهقي: ذكر أبو عبد الله بن منده أن تزويجه عليه السلام بأم حبيبة كان في سنة ست وان تزويجه بأم سلمة كان في سنة ست وأربع.
قلت وكذا قال خليفة وأبو عبيد الله معمر بن المثنى وابن البرقي وأن تزويج أم حبيبة كان في سنة ست وقال بعض الناس سنة سبع.
قال البيهقي هو أشبه.
قلت قد تقدم تزويجه عليه السلام بأم سلمة في أواخر سنة أربع وأما أم حبيبة فيحتمل أن يكون قبل ذلك ويحتمل أن يكون بعده وكونه بعد الخندق أشبه لما تقدم من ذكر عمر بن العاص أنه رأى عمرو بن أمية عند النجاشي فهو في قضيتها والله أعلم.
وقد حكى الحافظ ابن الاثير في الغابة: عن قتادة أن أم حبيبة لما هاجرت من الحبشة إلى المدينة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها.
وحكى عن بعضهم أنه تزوجها بعد إسلام أبيها بعد الفتح واحتج هذا القائل بما رواه مسلم: من طريق عكرمة بن عمار اليماني، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن.
قال: نعم.
قال: تؤمرني على أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.
قال: نعم.
قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.
قال: نعم.
قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها.
الحديث بتمامه.
قال ابن الاثير وهذا الحديث مما أنكر على مسلم، لان أبا سفيان لما جاء يجدد العقد (2) قبل الفتح دخل على ابنته أم حبيبة فثنت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم فقال والله ما أدري أرغبت بي عنه أو به عني ؟ قالت بل هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك.
فقال والله لقد أصابك بعدي يا بنية شر وقال ابن حزم هذا الحديث وضعه عكرمة بن عمار وهذا القول منه لا يتابع عليه.
وقال آخرون أراد أن يجدد العقد لما فيه بغير إذنه من الغضاضة عليه.
وقال بعضهم لانه اعتقد انفساخ نكاح ابنته باسلامه.
وهذه كلها ضعيفة والاحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الاخرى عمرة لما رأى في ذلك من الشرف له واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين وانما وهم الراوي في تسميته أم حبيبة وقد أوردنا لذلك خبرا مفردا.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين وقال أبو بكر بن أبي خيثمة توفيت قبل معاوية لسنة وكانت وفاة معاوية في رجب سنة ستين.
__________
(1) الخبر في دلائل البيهقي ج 3 / 462.
(2) يريد عقد هدنة الحديبية وليس عقد النكاح، والخبر في ابن سعد عن الزهري 8 / 99.
وروى ابن سعد معارضا تزويجها بعد الفتح: لما بلغ أبا سفيان بن حرب نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بابنته قال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه.

تزويجه بزينب بنت جحش ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الاسدية أم المؤمنين، وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه.
قال قتادة والواقدي وبعض أهل المدينة تزوجها عليه السلام سنة خمس، زاد بعضهم في ذي القعدة.
قال الحافظ البيهقي تزوجها بعد بني قريظة وقال خليفة بن خياط وأبو عبيدة معمر بن المثنى وابن مندة تزوجها سنة ثلاث والاول أشهر وهو الذي سلكه ابن جرير وغير
واحد من أهل التاريخ وقد ذكره غير واحد من المفسرين والفقهاء وأهل التاريخ في سبب تزويجه إياها عليه السلام حديثا ذكره أحمد بن حنبل في مسنده تركنا إيراده قصدا لئلا يضعه من لا يفهم على غير موضعه.
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وإذا تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في زواج أدعيائهم إذا قضوا منها وطرا وكان أمر الله مفعولا) [ الاحزاب: 37 ].
(ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا) [ الاحزاب: 38 ].
وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية، فالمراد بالذي أنعم الله عليه هاهنا زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعم الله عليه بالاسلام وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق وزوجه بابنة عمه زينب بنت جحش.
قال مقاتل بن حبان: وكان صداقه لها عشرة دنانير، وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وخمسين مدا وعشرة أمداد من تمر، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما فجاء زوجها يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان صلى الله عليه وسلم يقول له: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
قال الله (وتخفي نفسك ما الله مبديه) قال علي بن الحسين زيد العابدين والسدي: كان [ رسول ] الله قد علم أنها ستكون من أزواجه، فهو الذي كان في نفسه عليه السلام.
وقد تكلم كثير من السلف هاهنا بآثار غريبة وبعضها فيه نظر تركناها.
قال الله تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها)، ذلك أن زيدا طلقها فلما انقضت عدتها بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها إلى نفسها ثم تزوجها وكان الذي زوجها منه رب العالمين تبارك وتعالى كما ثبت في صحيح البخاري: عن أنس بن مالك أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات (1).
وفي رواية من طريق عيسى بن طهمان عن أنس قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: أنكحني الله من السماء.
وفيها أنزلت آية الحجاب (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين
__________
(1) أخرجه البخاري عن أحمد (ابن سيار المروزي) عن محمد بن أبي بكر في كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء
فتح الباري 13 / 402.

إناه) (1) الآية.
وروى البيهقي من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: جاء زيد يشكو زينب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، قال أنس: فلو كان رسول الله كاتما شيئا لكتم هذه، فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات (2) ثم قال: رواه البخاري عن أحمد عن محمد بن أبي بكر المقدمي عن حماد بن زيد، ثم روى البيهقي: من طريق عفان عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: جاء زيد يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك أهلك فنزلت (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) ثم قال [ أخرجه ] البخاري: عن محمد بن عبد الرحيم عن يعلى بن منصور عن محمد مختصرا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لادل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: إن جدي وجدك واحد تعنى عبد المطلب فإنه أبو أبي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو أمها أميمة بنت عبد المطلب، وإني أنكحنيك الله عزوجل من السماء وإن السفير جبريل عليه السلام.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم - يعني ابن القاسم - حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد اذهب فاذكرها علي فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر (3) فوليتها ظهري ونكصت على عقبي.
وقلت يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى اؤامر ربي عزوجل، ثم قامت إلى مسجدها، ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن قال أنس: ولقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته والقوم قد خرجوا أو أخبر.
قال فانطلق
حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) الآية، وكذا رواه مسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة.
نزول الحجاب صبيحة عرس زينب فناسب نزول الحجاب في هذا العرس صيانة لها، ولاخواتها من أمهات المؤمنين، وذلك
__________
(1) سورة الاحزاب الآية 53.
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد فتح الباري 13 / 403.
عن خلاد بن يحيى عن عيسى.
(2) دلائل النبوة ج 3 / 465.
(3) العبارة في ابن سعد عن أنس: حين عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها.

وفق الرأي العمري.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاش، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي حدثنا أبو مجلز، عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام وقعد ثلاثة نفر وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآية، وقد رواه البخاري في مواضع اخر ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر.
ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس نحوه.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: بني على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم فأرسلت على الطعام داعيا فيجئ قوم فيأكلون ويخرجون ثم يجئ قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت: يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه.
قال: ارفعوا طعامكم، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة
فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته كيف وجدت أهلك بارك الله لك ؟ فتقرى حجر نسائه كلهن ويقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا فخرج حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب، تفرد به البخاري من هذا الوجه.
ثم رواه منفردا به أيضا: عن إسحاق هو ابن نصر، عن عبد الله بن بكير السهمي، عن حميد بن أنس بنحو ذلك، وقال " رجلان " بدل ثلاثة فالله أعلم.
قال البخاري: وقال إبراهيم بن طهمان، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس فذكر نحوه.
وقد قال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا أبو المظفر، حدثنا جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان اليشكري، عن أنس بن مالك قال: أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيسا ثم حطته في ثور فقالت: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره إن هذا منا له قليل قال أنس والناس يومئذ في جهد فجئت به فقلت يا رسول بعثت بهذا أم سليم إليك وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا منا له قليل فنظر إليه ثم قال ضعه في ناحية البيت، ثم قال: اذهب فادع لي فلانا وفلانا فسمى رجالا كثيرا قال: ومن لقيت من المسلمين فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملاء من الناس.
فقلت يا أبا عثمان كم كانوا قال كانوا زهاء ثلثمائة.
قال أنس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم جئ فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال ما شاء الله ثم قال ليتحلق عشرة عشرة ويسموا وليأكل كل انسان مما يليه فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعه قال: فجئت فأخذت الثور فنظرت فيه فلا أدري

أهو حين وضعته أكثر أم حين رفعته ؟ قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء ولو علموا كان ذلك عليهم عزيزا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا انهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيرا وأنزل الله القرآن فخرج وهو يقرأ هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين اناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث أن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعد أبدا ان ذلكم كان عند الله عظيما.
ان تبدوا شيئا أو تخفوه فان الله كان بكل شئ عليما) [ الاحزاب: 53 - 54 ] قال أنس: فقرأهن علي قبل الناس، وأنا أحدث الناس بهن عهدا.
وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان به.
وقال الترمذي حسن صحيح.
ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر عن الجعد أبي عثمان به.
وقد روى هذا الحديث البخاري والترمذي والنسائي من طرق: عن أبي بشر الاحمسي الكوفي عن أنس بنحوه.
ورواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي نضرة العبدي، عن أنس بنحوه ولم يخرجوه.
ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد، ومن حديث الزهري عن أنس نحو ذلك.
قلت: كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها من المهاجرات الاول وكانت كثيرة الخير والصدقة وكان اسمها أولا بره فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب وكانت تكنى بأم الحكم.
قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم أمانة وصدقة.
وثبت في الصحيحين كما سيأتي في حديث الافك عن عائشة انها قالت: وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عني زينب بنت جحش وهي التي كانت تساميني من نساء النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، فقالت: يا رسول الله احمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني، حدثنا طلحة بن يحيى عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا
قال: فكنا نتطاول أينا أطول يدا، فكانت زينب أطولنا يدا لانها كانت تعمل بيدها وتتصدق.
انفرد به مسلم.
قال الواقدي وغيره من أهل السير والمغازي والتواريخ توفيت سنة عشرين من الهجرة وصلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودفنت بالبقيع، وهي أول امرأة صنع لها النعش.

سنة ست من الهجرة قال البيهقي (1): كان يقال في المحرم منها، سرية محمد بن مسلمة قبل نجد وأسروا فيها ثمامة بن أثال اليمامي قلت: لكن في سياق ابن إسحاق: عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة: أنه شهد ذلك وهو إنما هاجر بعد خيبر فيؤخر إلى ما بعدها والله أعلم (2).
وهي السنة التي كان في أوائلها غزوة بني لحيان على الصحيح قال ابن إسحاق: وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة وصدر من ذي الحجة وولى تلك الحجة المشركون يعني في سنة خمس كما تقدم.
قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع وخرج في جمادى الاولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم والمقصود أنه عليه السلام لما انتهى إلى منازلهم هربوا من بين يديه فتحصنوا في رؤوس الجبال فمال إلى عسفان فلقي بها جمعا من المشركين وصلى بها صلاة الخوف.
وقد تقدم ذكر هذه الغزوة في سنة أربع وهنالك ذكرها البيهقي والاشبه ما ذكره ابن إسحاق انها كانت بعد الخندق وقد ثبت أنه صلى بعسفان يوم بني لحيان فلتكتب هاهنا وتحول من هناك اتباعا لامام أصحاب المغازي في زمانه وبعده كما قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق.
وقد قال كعب بن مالك في غزوة بني لحيان: لو أن بني لحيان كانوا تناظروا * لقوا عصبا في دارهم ذات مصدق لقوا سرعانا يملا السرب روعه * أما طحون كالمجرة فيلق (3)
ولكنهم كانوا وبارا تتبعت * شعاب حجاز غير ذي متنفق (4) غزوة ذي قرد (5) قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يقم بها إلا ليالي قلائل (6)، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري (7)، في خيل من غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) دلائل النبوة ج 4 / 78 باب سرية نجد: يقال انها كانت في المحرم سنة ست.
(2) سيرة ابن هشام ج 4 / 278.
قال البيهقي: رواية ابن اسحاق تدل على شهود أبي هريرة ذلك، وأبو هريرة إنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر فيشبه أن يكون قصة ثمامة فيما بين خيبر وفتح مكة.
(3) سرعان: أول القوم.
السرب: بفتح السين: الطريق.
وبكسرها: النفس.
(4) الوبار: جمع وبر، وهي دويبة على قدر الهرة.
يشبه بها الضعيف.
غير ذي متنفق: أي ليس له باب يخرج منه.
(5) الواقدي وابن سعد: يسميانها غزوة الغابة.
وذي قرد: بفتح القاف وضمها: ماء على نحو بريد من المدينة مما يلي بلاد غطفان، وقيل على مسافة يوم منها.
(6) في ابن سعد: في ربيع الاول سنة ست.
وفي الواقدي: ربيع الآخر.
(7) وقيل عبد الرحمن بن عيينة.
قال الحافظ يحتمل أن تكون إغارة ابن عيينة حصلت مرتين، الاولى التي ذكرها ابن =

بالغابة وفيها رجل (1) من بني غفار ومعه امرأته فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح، قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ومن لا اتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك - كل قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث - أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الاكوع الاسلمي، غدا يريد الغابة متوحشا قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله، معه فرس له يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم، فأشرف في ناحية سلع ثم صرخ: واصباحاه ! ثم خرج يشتد في آثار القوم وكان مثل السبع، حتى لحق بالقوم، فجعل يردهم بالنبل ويقول: خذها وأنا ابن الاكوع * اليوم يوم الرضع (2)
فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى، ثم قال: خذها وانا ابن الاكوع * اليوم يوم الرضع قال فيقول قائلهم: أو يكعنا هو أول النهار.
قال: وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الاكوع، فصرخ بالمدينة: الفزع الفزع.
فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول من انتهى إليه من الفرسان: المقداد بن الاسود ثم عباد بن بشر، وسعد بن زيد، وأسيد بن ظهير - يشك فيه - وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة أخو بني أسد بن خزيمة وأبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، وأبو عياش عبيد بن زيد بن صامت، أخو بني زريق قال: فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليهم سعد بن زيد ثم قال: أخرج في طلب القوم، حتى ألحقك في الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابي عياش فيما بلغني عن رجال من بني زريق: يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالقوم قال أبو عياش: فقلت يا رسول الله أنا أفرس الناس، ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت من ذلك، فزعم رجال من زريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة، وكان ثامنا قال وبعض الناس يعد سلمة بن الاكوع ثامنا ويطرح أسيد بن ظهير.
__________
= اسحاق قبل الحديبية والثانية بعد الحديبية قبل خيبر كما ساقها البيهقي متتبعا أثر البخاري، وكان على رأس الثانية عبد الرحمن بن عيينة كما عند مسلم، وهو ما رواه الامام أحمد عن ابن الاكوع قال في آخرها بعد ذكر قصة ذي قرد: فرجعنا إلى المدينة فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر.
(1) الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لاهل المدينة.
والرجل الغفاري هو ابن أبي ذر وامرأته: ليلى (طبقات ابن سعد).
(2) الرضع: اللئيم.
والمعنى: اليوم يوم هلاك اللئام.
(3) في رواية للواقدي: ربيعة بن أكثم بدل عباد بن بشر.
ولم يذكر أسيد بن حضير.
وفي رواية له عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الانصار: ذكر فيهم عباد بن بشر وأسيد.
ولم يذكر معاذ وربيعة.

فالله أعلم أي ذلك كان.
قال: ولم يكن سلمة بن الاكوع يومئذ فارسا قد كان أول من لحق بالقوم على رجليه.
قال: فخرج الفرسان حتى تلاحقوا فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة وكان يقال له الاخرم، ويقال له قمير (1) وكانت الفرس التي تحته لمحمود بن مسلمة، وكان يقال للفرس ذو اللمة فلما انتهى إلى العدو قال لهم: قفوا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والانصار قال: فحمل عليه رجل (2) منهم فقتله، وجال الفرس، فلم يقدر عليه حتى وقف على أريه (3) من بني عبد الاشهل أي رجع إلى مربطه الذي كان فيه بالمدينة.
قال ابن إسحاق ولم يقتل يومئذ من المسلمين غيره.
قال ابن هشام: وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنه قد قتل معه أيضا وقاص بن مجزز المدلجي.
قال ابن إسحاق وحدثني بعض من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن محرزا كان على فرس لعكاشة بن محصن يقال لها الجناح، فقتل محرز واستلب جناح فالله أعلم.
قال ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة وغشاه برده ثم لحق بالناس.
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين.
قال ابن هشام واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم (4).
فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة، فاسترجع الناس وقالوا: قتل أبو قتادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لابي قتادة ووضع عليه برده لتعرفوا أنه صاحبه.
قال: وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا (5) وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا، واستنقذوا بعض اللقاح، قال: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق به الناس، فأقام عليه يوما وليلة.
وقال له سلمة بن الاكوع: يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني: إنهم الآن ليغبقون في غطفان.
فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه في كل مائة (6) رجل جزورا، وقاموا عليها ثم رجع قافلا حتى قدم المدينة.
قال: وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل النبي صلى الله عليه وسلم حتى قدمت عليه المدينة فأخبرته الخبر، فلما فرغت قالت: يا رسول الله إني قد
نذرت الله أن أنحرها أن نجاني الله عليها، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " بئسما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة الله ".
قال ابن إسحاق: والحديث في ذلك عن أبي الزبير
__________
(1) في الاستيعاب: فهيرة.
(2) في الواقدي: قتله مسعدة بن حكمة ويقال: أوثار.
(3) الآري: الحبل الذي تسد (تشد) به الدابة، وقد يسمى موضع وقوفها أيضا آريا.
(4) وجعل سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة (ابن سعد - الواقدي).
(5) في الواقدي: أوثار.
وفي الطبقات: أثار.
(6) قال الواقدي وابن سعد: كانوا خمسمائة.

المكي عن الحسن البصري.
هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة بما ذكر من الاسناد والسياق.
وقد قال البخاري رحمه الله بعد قصة الحديبية وقبل خيبر غزوة ذي قرد وهي الغزوة التي أغاروا على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بثلاث: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، سمعت سلمة بن الاكوع يقول: خرجت قبل أن يؤذن بالاولى (1) وكانت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد، قال: فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، فقال: أخذت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فقلت من أخذها ؟ قال غطفان قال: فصرخت ثلاث صرخات: واصباحاه قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم، وقد أخذوا يستقون من الماء فجعلت أرميهم بنبلي وكنت راميا وأقول: أنا ابن الاكوع اليوم يوم الرضع.
وأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة.
قال: وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس فقالت: يا رسول الله قد حميت القوم الماء (2) وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة.
فقال " يا بن الاكوع، ملكت فأسجح " ثم رجعنا وردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى قدمنا المدينة (3).
وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به ورواه البخاري عن أبي عاصم السهلي عن يزيد بن أبي عبيدة عن مولاة سلمة بنحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني إياس بن سلمة بن الاكوع عن أبيه قال: قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت أنا ورباح غلام النبي صلى الله عليه وسلم بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت بفرس لطلحة بن عبيدالله أريد أن أنديه (4) مع الابل فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله فقتل راعيها، وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل، فقلت يا رباح اقعد على هذا الفرس فالحقه بطلحة وأخبر رسول صلى الله عليه وسلم أنه قد أغير على سرحه.
قال: وقمت على تل، فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه ! قال: ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي فجعلت أرميهم وأعقر بهم وذلك حين يكثر الشجر فإذا رجع إلي فارس جلست له في أصل شجرة، ثم رميت فلا يقبل إلي فارس إلا عقرت به فجعلت أرميهم وأنا أقول: أنا ابن الاكوع * واليوم يوم الرضع قال: فألحق برجل منهم فأرميه، وهو على راحلته فيقع سهمي في الرجل حتى أنتظم كتفه، فقلت: خذها وانا ابن الاكوع * واليوم يوم الرضع
__________
(1) يعني صلاة الصبح، ويؤيده قوله في رواية مسلم: انه تبعهم من الغلس إلى غروب الشمس.
(2) أي منعتهم من الشرب.
(3) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 37 باب غزوة ذي قرد ح 4194 ورواه في كتاب الجهاد 166 باب فتح الباري 6 / 164.
ومسلم في 32 كتاب الجهاد 45 باب (ح 131).
(4) أنديه: أن يورد الماشية الماء فتسقى قليلا ثم ترسل في المرعى، ثم ترد الماء ثم ترد إلى المرعى.

فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فرديتهم بالحجارة، فما زال ذاك شأني وشأنهم اتبعهم وأرتجز، حتى ما خلق الله شيئا من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري (1) فاستنقذته من أيديهم.
ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر
من ثلاثين رمحا وأكثر من ثلاثين بردة، يستخفون منها ولا يلقون من ذلك شيئا إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا امتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مددا لهم، وهم في ثنية ضيقة ثم علوت الجبل فأنا فوقهم.
فقال عيينة: ما هذا الذي أرى ؟ قالوا لقينا من هذا البرح ما فارقنا بسحر حتى الآن وأخذ كل شئ بأيدينا وجعله وراء ظهره.
فقال عيينة: لولا أن هذا يرى أن وراءه طلبا لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم.
فقام إلي (2) نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل، فلما أسمعتهم الصوت قلت أتعرفونني ؟ قالوا: ومن أنت ؟ قلت: أنا ابن الاكوع والذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني.
فقال رجل منهم: ان أظن.
قال فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يخللون الشجر وإذا أولهم الاخرم الاسدي، وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أثره المقداد بن الاسود الكندي، فولى المشركون مدبرين وأنزل من الجبل [ فأعرض للاخرم ] (3) فأخذ عنان فرسه، فقلت: يا أخرم أئذن القوم - يعني احذرهم - فإني لا آمن من أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة.
قال: فخليت عنان فرسه، فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعقر الاخرم بعبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله، فتحول عبد الرحمن على فرس الاخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الاخرم.
ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم، حتى ما أرى من غبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له ذوقرد، فأرادوا أن يشربوا منه فأبصروني أعدو وراءهم، فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية ثنية ذي بئر (4) وغربت الشمس، وألحق رجلا فأرميه فقلت: خذها وأنا ابن الاكوع واليوم يوم الرضع.
قال: فقال: يا ثكل أم أكوع بكرة (5).
فقلت نعم أي عدو نفسه.
وكان الذي رميته بكرة وأتبعته سهما آخر فعلق به سهمان ويخلفون فرسين، فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه ذو قرد، وإذا بنبي الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة وإذا بلال قد
__________
(1) يريد أنه استخلص منهم البعير الذين أخذوهم وأصبحت بحوزته وحال بينهم وبينها.
(2) من رواية الامام أحمد في البيهقي، وفي الاصل: إليه تحريف.
(3) من دلائل البيهقي: 4 / 184.
(4) في البيهقي: ذي شر.
(5) أي أنت الاكوع الذي كنت بكرة هذا اليوم ؟

نحر جزورا مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله خلني، فانتخب من أصحابك مائة فآخذ على الكفار بالعشوة فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته.
فقال: أكنت فاعلا ذلك يا سلمة ؟ قال: قلت: نعم والذي أكرمك.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار.
ثم قال: إنهم يقرون الان بأرض غطفان.
فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابا، فلما أصبحنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا [ اليوم ] (1) أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل جميعا، ثم أردفني وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة فلما كان بيننا وبينها قريب من ضحوة وفي القوم رجل من الانصار كان لا يسبق جعل ينادي: هل من مسابق، ألا رجل يسابق إلى المدينة ؟ فأعاد ذلك مرارا وأنا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفي فقلت له: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا ؟ قال: لا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلاسابق ؟ الرجل.
قال: إن شئت.
قلت: أذهب إليك فطفر عن راحلته وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إني ربطت عليه شرفا أو شرفين يعني استبقيت من نفسي، ثم إني عدوت حتى ألحقه فأصك بين كتفيه بيدي قلت سبقتك والله أو كلمة نحوها قال فضحك وقال: إن أظن.
حتى قدمنا المدينة (2).
وهكذا رواه مسلم من طرق عن عكرمة بن عمار بنحوه وعنده فسبقته إلى المدينة فلم نلبث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر.
ولاحمد هذا السياق.
ذكر البخاري والبيهقي هذه الغزوة بعد الحديبية وقبل خيبر.
وهو
أشبه مما ذكره ابن إسحاق والله أعلم.
فينبغي تأخيرها إلى أوائل سنة سبع من الهجرة فإن خيبر كانت في صفر منها.
وأما قصة المرأة التي نجت على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ونذرت نحرها لنجاتها عليها فقد أوردها ابن إسحاق بروايته عن أبي الزبير عن الحسن البصري مرسلا.
وقد جاء متصلا من وجوه أخر.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، [ فأسر الرجل ] (3) فأخذت العضباء معه، قال فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة فقال: يا محمد علام تأخذوني وتأخذون سابقة الحاج (4) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف، قال: وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من
__________
(1) من البيهقي.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 4 / 185، ومسلم في 32 كتاب الجهاد 45 باب غزوة ذي قرد (ح 132).
(3) سقطت من الاصل واستدركت من رواية البيهقي.
(4) سابقة الحاج: أراد بها العضباء، فإنها كانت لا تسبق.

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: فيما قال [ إني ] (1) مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قتلتها وأنت تملك أمرك (2) أفلحت كل الفلاح، قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إني جائع فأطعمني وإني ظمآن فاسقني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه حاجتك، ثم فدي بالرجلين، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لرحله.
قال: ثم إن المشركين أغاروا على سرح المدينة، فذهبوا به وكانت العضباء فيه وأسروا امرأة من المسلمين.
قال: وكانوا إذا نزلوا أراحوا إبله بأفنيتهم قال: فقامت المرأة ذات ليلة بعد ما نوموا فجعلت كلما أتت على بعير رغا حتى أتت على العضباء، فأتت على ناقة ذلول مجرسة فركبتها، ثم وجهتها قبل المدينة قال: ونذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة فقيل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنذرها أو أتته فأخبرته فقال بئس
ما جزيتيها أو بئس ما جزتها أن أنجاها الله عليها لتنحرنها.
قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم.
ورواه مسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد بن زيد.
قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الاشعار في غزوة ذي قرد قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: لولا الذي لاقت ومس نسورها * بجنوب ساية أمس في التقواد (3) للقبنكم يحملن كل مدجج * حامي الحقيقة ماجد الاجداد ولسر أولاد اللقيطة أننا * سلم غداة فوارس المقداد كنا ثمانية وكانوا جحفلا * لجبا فشكوا بالرماح بداد كنا من القوم الذين يلونهم * ويقدمون عنان كل جواد كلا ورب الراقصات إلى منى * يقطعن عرض مخارم الاطواد (4) حتى نبيل الخيل في عرصاتكم * ونئوب بالملكات والاولاد رهوا بكل مقلص وطمرة * في كل معترك عطفن وواد أفنى دوابرها ولاح متونها * يوم تقاد به ويوم طراد فكذاك إن جيادنا ملبونة * والحرب مشعلة بريح غواد
__________
(1) من البيهقي.
(2) معناه: لو كنت قد أسلمت قبل الاسر، حيث كنت مالك أمرك، لكنت فزت بالاسلام من الاسر، لانه لا يجوز أسر مسلم.
(3) روى الحديث البيهقي في الدلائل 4 / 188 ومسلم في 26 كتاب النذور 3 باب الحديث 8.
(4) لاقت: يريد الخيل، وأضمر ذكرها.
النسور: ما يكون في باطن حافر الدابة.
ساية: موضع.
(5) الراقصات: الابل.
المخارم: الطرق بين الجبال.

وسيوفنا بيض الحدائد تجتلى * جنن الحديد وهامة المرتاد (1) أخذ الاله عليهم لحرامه * ولعزة الرحمن بالاسداد كانوا بدار ناعمين فبدلوا * أيام ذي قرد وجوه عناد (2) قال ابن إسحاق: فغضب سعد بن زيد أمير سرية الفوارس المتقدمين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسان وحلف لا يكلمه أبدا وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي فجعلها للمقداد.
فاعتذر إليه حسان بأنه وافق الروي اسم المقداد، ثم قال أبياتا يمدح بها سعد بن زيد: إذا أردتم الاشد الجلدا * أو ذا غناء فعليكم سعدا سعد بن زيد لا يهد هدا قال فلم تقع منه بموقع.
وقال حسان بن ثابت في يوم ذي قرد: أظن عيينة إذ زارها * بأن سوف يهدم فيها قصورا فأكذبت ما كنت صدقته * وقلتم سنغنم أمرا كبيرا فعفت المدينة إذ زرتها * وآنست للاسد فيها زئيرا وولوا سراعا كشد النعام * ولم يكشفوا عن ملط حصيرا (3) أمير علينا رسول المليك * أحبب بذاك إلينا أميرا رسول يصدق ما جاءه * ويتلو كتابا مضيئا منيرا وقال كعب بن مالك في يوم ذي قرد يمدح الفرسان يومئذ من المسلمين: أيحسب أولاد اللقيطة أننا * على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس وإنا أناس لا نرى القتل سبة * ولا ننثني عند الرماح المداعس وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى * ونضرب رأس الابلج المتشاوس (4) نرد كماة المعلمين إذا انتحوا * بضرب يسلي نخوة المتقاعس بكل فتى حامي الحقيقة ماجد * كريم كسرحان العضاة مخالس يذودون عن أحسابهم وبلادهم * ببيض تقد الهام تحت القوانس
فسائل بني بدر إذا ما لقيتهم * بما فعل الاخوان يوم التمارس إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم * ولا تكتموا أخباركم في المجالس وقولوا زللنا عن مخالب خادر * به وحر في الصدر ما لم يمارس
__________
(1) جنن: جمع جنة وهي السلاح.
(2) في ابن هشام: عباد.
(3) الملط: الناقة، من قولهم لطت الناقة وألطت بذنبها: إذا ادخلته بين رجليها.
(4) القمع: جمع قمعة وهي أعلى سنام البعير.
والابلج: في ابن هشام الابلخ يعني: المتكبر.

غزوة بني المصطلق من خزاعة قال البخاري وهي غزوة المريسيع (1).
قال محمد بن إسحاق: وذلك سنة ست.
وقال موسى بن عقبة سنة أربع.
وقال النعمان بن راشد عن الزهري كان حديث الافك في غزوة المريسيع هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع.
والذي حكاه عنه وعن عروة أنها كانت في شعبان سنة خمس.
وقال الواقدي كانت لليلتين من شعبان سنة خمس في سبعمائة من أصحابه (2).
وقال محمد بن إسحاق بن يسار بعدما أورد قصة ذي قرد: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجب، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري ويقال نميلة بن عبد الله الليثي.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، أبو جويرية بنت الحارث، التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا، فلما سمع بهم خرج إليهم، حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحم الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه (3).
وقال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
لليلتين مضتا من شعبان سنة خمس من الهجرة في سبعمائة من أصحابه إلى بني المصطلق وكانوا حلفاء بني مدلج فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق ويقال إلى عمار بن ياسر وراية الانصار إلى سعد بن عبادة، ثم أمر عمر بن الخطاب: فنادى في الناس: أن قولوا لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم فأبوا فتراموا بالنبل، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فحملوا
__________
(1) المريسيع: ماء لبني خزاعة بينه وبين الفرع مسيرة يوم، مأخوذ من قولهم: رسعت عين الرجل إذا دمعت من فساد.
(2) اختلف في زمن غزوة المريسيع، قال البخاري عن ابن عقبة: كانت سنة أربع، وما أخرجه عنه الحاكم والبيهقي في الدلائل وغيرهما: سنة خمس وهذا ما أيده قتادة وعروة كما روى عنهما البيهقي.
وقال ابن إسحاق والطبري: في شعبان سنة ست.
وعقب الزرقاني على هذا الخلاف في شرح المواهب، قال: " وقال الحاكم في الاكليل: قول عروة وغيره انها كانت سنة خمس أشبه من قول ابن اسحاق، قلت: ويؤيده ما ثبت في حديث الافك ان سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الافك، فلو كانت المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الافك منها، لكان ما وقع في الصحيح من سعد بن معاذ غلطا، لانه مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس على الصحيح، وإن كانت سنة أربع، فهو أشد غلطا.
فظهر أن غزوة المريسيع كانت في سنة خمس في شعبان قبل الخندق، لانها كانت في شوال سنة خمس، فتكون بعدها فيكون سعد بن معاذ موجودا في المريسيع ورمي بها بعد ذلك بسهم في الخندق، ومات من جراحته بعد تحكيمه في بني قريظة، (3) الخبر في ابن هشام: 3 / 302.

حملة رجل واحد فما أفلت منهم رجل واحد، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد (1).
وثبت في الصحيحين: من حديث عبد الله بن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فقال: قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارون في أنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، فأصاب يومئذ - أحسبه قال - جويرية بنت الحارث.
وأخبرني عبد الله بن عمر بذلك، وكان بذلك الجيش (2).
قال ابن إسحاق
وقد أصيب رجل من المسلمين يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الانصار وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ.
وذكر ابن إسحاق: أن أخاه مقيس بن صبابة قدم من مكة مظهرا للاسلام، فطلب دية أخيه هشام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لانه قتل خطأ فأعطاه ديته ثم مكث يسيرا ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ورجع مرتدا إلى مكة وقال في ذلك: شفى النفس أن قد بات بالقاع مسندا * يضرج ثوبيه دماء الاخادع (3) وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم فتحميني وطاء المضاجع حللت به وتري وأدركت ثؤرتي * وكنت إلى الاوثان أول راجع ثأرت به فهرا وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع (4) قلت: ولهذا كان مقيس هذا من الاربعة الذين أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دماءهم وإن وجدوا معلقين بأستار الكعبة.
قال ابن إسحاق: فبينا الناس (5) على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر (6) الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الانصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها ؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الاول " سمن كلبك
__________
(1) مغازي الواقدي: 1 / 407 وفيه: يقال للرجل هاشم بن ضبابة وقتله رجل يقال له أوس، لانه ظن أنه من المشركين فحمل عليه فقتله.
فعلم بعد أنه مسلم.
وفي ابن هشام وكتب السيرة: ابن صبابة.
(2) أخرجه البخاري في 49 كتاب العتق 13 باب ح 2541.
وأخرجه مسلم في 32 كتاب الجهاد (1) باب الحديث (1).
وأخرجه أبو داود في الجهاد عن سعيد بن منصور.
(3) الاخادع: عروق في القفا، وإنما هما اخدعان، فجمعهما مع ما يليهما (شرح أبي ذر ص 334) (4) فارع: أطم كان في موضع دار جعفر بن يحيى بباب الرحمة (وفاء الوفا 2 / 354).
(5) في ابن هشام: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6) قال السهيلي: " وقال غيره: سنان بن تميم، من جهينة بن سود بن أسلم، حليف الانصار " وفي دلائل البيهقي: سنان بن زيد.

يأكلك " أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ! لا ولكن آذن بالرحيل.
وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس.
وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم بلغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به وكان في قومه شريفا عظيما فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الانصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل حدبا على ابن أبي ودفعا عنه.
فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، وقال: يا رسول الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال: أي صاحب يا رسول الله ؟ قال عبد الله بن أبي.
قال: وما قال ؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الاعز منها الاذل، قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز ثم قال: يا رسول الله ارفق، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل الناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الارض فوقعوا نياما.
وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالامس، من حديث
عبد الله بن أبي.
ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له بقعاء.
فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة فآذتهم وتخوفوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخوفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار.
فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان عظيما من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين مات ذلك اليوم (1) وهكذا ذكر موسى بن عقبة والواقدي.
وروى مسلم من طريق الاعمش عن أبي سفيان عن جابر نحو هذه القصة، إلا انه لم يسم الذي مات من المنافقين: قال هبت ريح شديدة والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال هذه لموت منافق، فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين.
قال ابن إسحاق: ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم وقال هذا الذي أوفى لله باذنه.
قلت: وقد تكلمنا على تفسيرها بتمامها في كتابنا التفسير بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا وسردنا طرق هذا
__________
(1) الخبر في السيرة 3 / 303 - 304 مغازي الواقدي 2 / 424 والدرر لابن عبد البر 189 والبيهقي عنهما في الدلائل 4 / 56، 59، 60.
وعند ابن عقبة: أن الريح هبت لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعاء من طريق عمان.

الحديث عن زيد بن أرقم ولله الحمد والمنة، فمن أراد الوقوف عليه أو أحب أن يكتبه هاهنا فليطلبه من هناك وبالله التوفيق.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل [ رجلا ] (1) مؤمنا بكافر، فأدخل النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر أما والله لو قتلته يوم قلت لي، لارعدت
له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.
فقال عمر: قد والله علمت لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.
وقد ذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما: أن ابنه عبد الله رضي الله عنه وقف لابيه عبد الله بن أبي بن سلول، عند مضيق المدينة فقال: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه في ذلك، فأذن له فأرسله حتى دخل المدينة.
قال ابن إسحاق: وأصيب يومئذ من بني المصطلق ناس (2) وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكا وابنه.
قال ابن هشام وكان شعار المسلمين: يا منصور أمت أمت.
قال ابن إسحق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب منهم سبيا كثيرا فقسمهم في المسلمين.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرني إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز أنه قال: دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل فقال أبو سعيد خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء واشدت علينا العزوبة وأحببنا العزل وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله فسألناه عن ذلك فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا كائنة.
وهكذا رواه (3).
قال ابن إسحاق: وان فيمن أصيب يومئذ من السبابا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار.
فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن
__________
(1) من ابن هشام.
(2) في ابن سعد والواقدي: قتل منهم عشرة.
وأسر سائرهم.
(3) أخرجه البخاري في 34 كتاب البيوع (109) باب فتح الباري 4 / 420.
ومسلم في 16 كتاب النكاح (22) باب (ح 125).
العزل: نزع الذكر من الفرج وقت الانزال خوفا من الانجاب.
ان لا تفعلوا: ما عليكم ضرر في ترك العزل، لان كل نفس قدر الله خلقها لابد أن يخلقها سواء عزلتم أم لا.
فلا فائدة في عزلكم.

عروة عن عائشة قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جوريرة بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كتابتها قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت.
فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي.
قال: فهل لك في خير من ذلك ؟ قالت: وما هو يا رسول الله قال: أقضي عنك كتابك وأتزوجك.
قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها (1).
ثم ذكر ابن إسحاق قصة الافك بتمامها في هذه الغزوة وكذلك البخاري وغير واحد من أهل العلم وقد حررت طرق ذلك كله في تفسير سورة النور فليلحق بكماله إلى هاهنا وبالله المستعان.
وقال الواقدي: حدثنا حرام، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت جويرية بنت الحارث رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر به أحدا من الناس، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سبينا رجوت الرؤيا قالت: فأعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجني والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر فحمدت الله تعالى.
قال الواقدي: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل صداقها عتق أربعين من بني المصطلق (2).
وذكر موسى بن عقبة عن بني المصطلق أن أباها طلبها وافتداها ثم خطبها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها (3).
قصة الافك وهذا سياق محمد بن إسحاق حديث الافك: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن
علقمة بن وقاص وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعبد الله بن عبيدالله (4) بن عتبة قال
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام 3 / 308.
(2) مغازي الواقدي 2 / 411 وفيه: حزام بن هشام عن أبيه قال: (3) ذكر رواية ابن عقبة البيهقي في الدلائل من طريق إسماعيل بن ابراهيم بن عقبة: 4 / 51.
وفي رواية لابن هشام وردت في السيرة 3 / 308 قال: فأقبل أبو ها الحارث بفداء ابنته ودفعت إليه ابنته، فأسلمت وحسن إسلامها، فخطبها إلى أبيها، فزوجه إياها وأصدقها أربعمائة درهم.
(4) في سيرة ابن هشام: وعبيدالله بن عبد الله بن عتبة.

الزهري: وكل قد حدثني بهذا الحديث وبعض القوم كان أوعى له من بعض وقد جمعت كل الذي حدثني القوم.
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة عن نفسها حين قال فيها أهل الافك ما قالوا، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا، يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها بما سمع قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كان غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق (1) لم يهجهن اللحم فيثقلن، وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين كانوا يرحلون لي فيحملونني، ويأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به.
قالت: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك، وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل، ثم أذن مؤذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس وخرجت لبعض حاجتي، وفي عنقي عقد لي فيه جزع (2) ظفار، فلما فرغ انسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته،
وجاء القوم خلافي، الذين كانوا يرحلون لي البعير وقد كانوا فرغوا من رحلته، فأخذو الهودج وهم يظنون أني فيه، كما كنت أصنع فاحتملوه فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه ثم أخذوا برأس البعير، فانطلقوا به فرجعت إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب، قد انطلق الناس.
قالت فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لرجع الناس إلي.
قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان (3) بن المعطل السلمي وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجاته فلم يبت مع الناس فرأى سوادي فأقبل حتى وقف علي وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وأنا متلففة في ثيابي.
قال ما خلفك يرحمك الله ؟ قالت فما كلمته.
ثم قرب إلي البعير فقال: اركبي واستأخر عني.
قالت فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال أهل الافك ما قالوا وارتج العسكر
__________
(1) العلق: جمع علقة، وهو الطعام القليل ما يسد به الرمق.
(2) جزع: خرزيمان يصنع في ظفار، مدينة باليمن قرب صنعاء.
(3) وهو صفوان بن المعطل بن وبيصة بن المؤمل بن خزاعي بن محارب بن مرة بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهنة بن سليم ذكره الكلبي.
قال السهيلي: " كان صفوان على ساقة العسكر يلتقط ما يسقط من متاع الجيش ليرده إليهم، ولذلك تخلف " وقيل انه كان ثقيل النوم، ذكره أبو داود.

وو الله ما أعلم بشئ من ذلك، ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغني من ذلك شئ.
وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبو ي، لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي، كنت إذا اشتكيت رحمني، ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي ذلك، فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك.
قالت: حتى وجدت في نفسي، فقلت: يا رسول الله حين رأيت ما رأيت من جفائه لي: لو أذنت لي، فانتقلت إلى أمي فمرضتني ؟ قال:
لا عليك.
قالت: فانقلبت إلى أمي، ولا علم لي بشئ، مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة، وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف (1) التي تتخذها الاعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة، وإنما كانت النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن، فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب، قالت: فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها فقالت تعس مسطح (ومسطح لقب واسمه عوف) قالت: فقلت بئس لعمرو الله ما قلت لرجل من المهاجرين وقد شهد بدرا، قالت: أوما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ؟ قالت: قلت وما الخبر فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الافك.
قلت: أو قد كان هذا ؟ قالت: نعم والله لقد كان.
قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت، فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي، قالت: وقلت لامي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا.
قالت: أي بنية خففي عليك الشأن، فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.
قالت وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في الناس ] (2) فخطبهم ولا أعلم بذلك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي، قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن امرأة من نسائه تناصيني في المنزلة عنده غيرها فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لاختها فشقيت بذلك، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، فقال أسيد بن حضير: يا رسول إن يكونوا من الاوس نكفيكهم وإن يكونوا من إخواننا من
__________
(1) الكنف: جمع كنيف، وهو مكان الغائط.
وفي الواقدي: المناصع.
(2) من ابن هشام.
(3) في رواية عروة وسعيد بن المسيب وعلقمة: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة: وهذا بعيد لان سعد بن معاذ كان قد
مات في بني قريظة وقد تقدم.
قال ابن العربي: ذكر سعد بن معاذ هنا وهم وقد اتفق فيه الرواة.
وقال القاضي عياض: الاشبه غيره.
ووافقه ابن حزم

الخزرج فمرنا أمرك فوالله إنهم لاهل أن تضرب أعناقهم، قالت: فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا فقال: كذبت لعمر الله ما تضرب أعناقهم أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت إنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا.
فقال أسيد بن حضير: كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت: وتساور (1) الناس، حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الاوس والخزرج شر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل علي فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشار هما.
فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله، ثم قال: يا رسول الله أهلك وما نعلم منهم إلا خيرا وهذا الكذب والباطل.
وأما علي، فإنه قال: يا رسول الله إن النساء لكثير وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة يسألها قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا ويقول: أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت فتقول والله ما أعلم إلا خيرا وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني فأمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله.
قالت: ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبو اي وعندي امرأة من الانصار، وأنا أبكي وهي تبكي فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله، وإن كنت قد فارقت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة من عباده.
قالت: فوالله إن هو إلا أن قال لي ذلك فقلص دمعي، حتى ما أحس منه شيئا.
وانتظرت أبو ي أن يجيبا عني رسول الله صلى الله فلم يتكلما.
قالت: وأيم الله لانا كنت أحقر في نفسي، وأصغر شأنا من أن ينزل الله في قرآنا يقرأ به ويصلى به، ولكني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه شيئا يكذب الله به عني لما يعلم من براءتي ويخبر خبرا وأما قرآنا ينزل في فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك.
قالت: فلما لم أر أبو ي يتكلمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالا: والله ما ندري بما نجيبه.
قالت: ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم
ما دخل على آل أبي بكر في تلك الايام.
قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت، ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا والله إني لاعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة لاقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني.
قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره.
فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف [ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ] قالت فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فوالله ما فزعت وما باليت قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس.
قالت ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، وأنه ليتحدر من وجهه مثل الجمان في يوم
__________
(1) تساور الناس: وفي نسخة لابن هشام تثاوروا: أي قام بعضهم إلى بعض.

شات، فجعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: أبشري يا عائشة قد أنزل الله عزوجل براءتك.
قالت: قلت الحمد لله.
ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عزوجل من القرآن في ذلك ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين (1) عن الزهري.
وهذا السياق فيه فوائد جمة.
وذكر حد القذف لحسان ومن معه رواه أبو داود في سننه.
قال ابن إسحاق وقال قائل من المسلمين في ضرب حسان وأصحابه: لقد ذاق حسان الذي كان أهله * وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم * وسخطة ذي العرش الكريم فأترحوا وآذوا رسول الله فيها فجللوا * مخازي تبقى عمموها وفضحوا وصبت عليهم محصدات كأنها * شآبيب قطر في ذرا المزن تسفح (2)
وقد ذكر ابن إسحاق أن حسان بن ثابت قال شعرا يهجو فيه صفوان بن المعطل وجماعة من قريش ممن تخاصم على الماء من أصحاب جهجهاه كما تقدم أوله هي: أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا * وابن الفريعة أمسى بيضة البلد (3) قد ثكلت أمه من كنت صاحبه * أو كان منتشبا في برثن الاسد ما لقتيلي الذي أغدو فاخذه * من دية فيه يعطاها ولا قود ما البحر حين تهب الريح شامية * فيغطئل ويرمى العبر بالزبد (4) يوما بأغلب مني حين تبصرني * ملغيظ أفري كفري العارض البرد أما قريش فإني لا أسالمها * حتى ينيبوا من الغيات للرشد ويتركوا اللات والعزى بمعزلة * ويسجدوا كلهم للواحد الصمد ويشهدوا أن ما قال الرسول لهم * حق فيوفوا بحق الله والوكد (5) قال: فاعترضه صفوان بن المعطل فضربه بالسيف وهو يقول:
__________
(1) رواه البخاري عن معمر في تفسير سورة الفتح فتح الباري 8 / 451.
ومسلم في 49 كتاب التوبة 10 باب ح 56.
والبخاري في التوحيد باب 52 وأخرجه في 52 كتاب الشهادات (15) باب ح 2661.
(2) محصدات: يعني سياطا محكمة الفتل شديدات.
(3) ابن الفريعة: أم حسان بن ثابت.
بيضة البلد: يعني واحدا لا يحاربه أحد، وهو في هذا الموضع مدح، وقد يكون بيصه البلد: ذما.
وأصل ذلك أن يؤخذ بيضة واحدة من بيض النعام ليس معها غيرها، فإذا أريد به الذم شبه بها الرجل الذي لا رهط له ولا عشيرة (شرح أبي ذر ص 336) (4) يغطئك: يجول ويتحرك.
والعبر: جانب البحر.
(5) الوكد: العهود والمواثيق.

تلق ذباب السيف عني فإنني * غلام إذا هوجيت لست شاعر وذكر أن ثابت بن قيس بن شماس، أخذ صفوان حين ضرب حسان فشده وثاقا، فلقيه
عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا ؟ فقال: ضرب حسان بالسيف.
فقال عبد الله هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ من ذلك ؟ قال: لا.
فأطلقه ثم أتوا كلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن المعطل: يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان أتشوهت (1) على قومي إذ هداهم الله.
ثم قال: أحسن يا حسان فيما أصابك.
فقال: هي لك يا رسول الله.
فعوضه منها بيرحاء التي تصدق بها أبو طلحة وجارية قبطية، يقال لها: سيرين جاءه منها ابنه عبد الرحمن.
قال: وكانت عائشة تقول سئل عن ابن المعطل فوجد رجلا حصورا ما يأتي النساء.
ثم قتل بعد ذلك شهيدا (2) رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: ثم قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة: حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (3) عقيلة حي من لؤي بن غالب * كرام المساعي مجدهم غير زائل وان الذي قد قيل ليس بلائط * بك الدهر بل قيل امرئ بي ماحل (4) فان كنت قد قلت الذي قد زعمتم * فلا رفعت سوطي إلي أناملي فكيف وودى ما حييت ونصرتي * لآل رسول الله زين المحافل وان لهم عزا ترى الناس دونه * قصارا وطال العز كل التطاول (5) ولتكتب هاهنا الآيات من سورة النور وهي من قوله تعالى (ان الذين جاءوا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم - إلى - مغفرة ورزق كريم) [ النور: 11 - 26 ] وما أوردناه هنالك من الاحاديث والطرق والآثار عن السلف والخلف وبالله التوفيق.
__________
(1) أتشوهت: أي أقبحت ذلك من فعلهم - في قوله فيهم: الجلابيب أي الغرباء - من أجل هجرتهم إلى الله ورسوله.
(2) قتل في غزوة أرمينيا سنة تسع عشرة واندقت رجله يوم قتل فطاعن بها وهي منكسرة حتى مات.
وقيل توفي في أيام معاوية بن أبي سفيان سنة 58 ه.
(3) الحصان: العفيقة.
ما تزن: أي ما تتهم.
غرني: جائعة.
(4) في ابن هشام: فإن الذي قد قيل ليس بلائط * ولكنه قول امرئ بي ماحل (5) البيت في ابن هشام: له رتب عال على الناس كلهم * تقاصر عنه سورة المتطاول

غزوة الحديبية (1) وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف.
وممن نص على ذلك الزهري ونافع مولى ابن عمر، وقتادة وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق بن يسار وغيرهم.
وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة أنها كانت في ذي القعدة سنة ست.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا إسماعيل بن الخليل، عن علي بن مسهر أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان وكانت الحديبية في شوال.
وهذا غريب جدا عن عروة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا: عن هدبة عن همام عن قتادة أن أنس بن مالك أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر [ كلهن ] في ذي القعدة إلا العمرة التي مع حجته.
عمرة من الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ومن الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته.
وهذا لفظ البخاري (2).
وقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان وشوال وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي (3).
قال ابن إسحاق: واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الاعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الاعراب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والانصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن
الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة.
رجل، وكان كل بدنة عن عشرة نفر.
وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني، يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
قال الزهري: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر (4) بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل (5) قد لبسوا جنود النمور وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا،
__________
(1) قال البراء: الحديبية بئر.
قال الحافظ: بينها وبين مكة نحو مرحلة واحدة، وبين المدينة تسع مراحل.
- الحديبية: حاء مهملة مضمومة، دال مهملة مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية مفتوحة.
قال أكثر أهل الحديث مشددة.
وقال النووي: من قال مخففة ومن قال مشددة فهما وجهان مشهوران.
(2) أخرجه البخاري في 64 المغازي 35 باب ح 4148.
ومسلم في كتاب الحج 35 باب ح 217 وأبو داود في الحج عن أبي الوليد، وعن هدبة.
والترمذي في الحج عن حبان وقال: حسن صحيح.
(3) في الواقدي: ابن أم مكتوم.
(4) قال ابن هشام: بسر.
(5) العوذ: جمع عائذ وهي الابل الحديثة النتاج.
المطافيل: التي معها أولادها.
يريد: النساء ومعهن أطفالهن.

وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم (1) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة، ثم قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين فأفضوا إلى أرض
سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ للناس ] (2): قولوا نستغفر الله ونتوب إليه، فقالوا ذلك ! فقال: والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها.
قال ابن شهاب.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض، في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة.
قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلات فقال: ما خلات وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة.
لا تدعوني قريش اليوم إلى خطه يسألوني فيها صلة الرحم ألا أعطيتهم إياها.
ثم قال للناس: انزلوا.
قيل له يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه.
فأخرج سهما من كنانته، فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه.
فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم: أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم: أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم استدل ابن إسحاق للاول أن جارية من الانصار جاءت البئر وناجية أسفله يميح فقالت: يا أيها المائح دلوي دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيرا ويمجدونكا فأجابها فقال: قد علمت جارية يمانية * أني أنا المائح واسمي ناجية وطعنة ذات رشاش واهية * طعنتها عند صدور العادية قال الزهري في حديثه: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء، في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به ؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا
__________
(1) كراع الغميم: موضع بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال.
(2) من ابن هشام

للبيت، ومعظما لحرمته.
ثم قال لهم نحو ما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت.
فاتهموهم وجبهوهم، وقالوا: وإن جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة ولا تحدث بذلك عنا العرب.
قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة.
قال: ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الاخيف، أخا بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: هذا رجل غادر، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه، فرجع إليه قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعثوا بحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الاحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه.
فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك.
قال: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك وقال يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاهدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له ؟ والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لانفرن بالاحابيش نفرة رجل واحد.
قالوا: مه كف عنا نأخذ لانفسنا ما نرضى به.
قال الزهري في حديثه: ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي.
قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب
الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
قال: وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه ؟ قال من هذا يا محمد ؟ قال: هذا ابن أبي قحافة.
قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بهذه قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال: فجعل يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك، قال: فيقول عروة ويحك، ما أفظك وأغلظك.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد ؟ قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالامس.
قال الزهري: فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو مما كلم به أصحابه، وأخبره انه لم يأت يريد

حربا، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه.
لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شئ إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في إصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشئ أبدا فروا رأيكم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله (1)، فمنعه الاحابيش، فخلوا سبيله، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا اتهم عن عكرمة عن ابن عباس: أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا فأخذوا فأتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه
أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شئت أن تطوف بالبيت فطف.
قال: ما كنت لافعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة.
وكان جابر بن عبد الله يقول والله لكأني أنظر إليه لاصقا بأبط ناقته قد ضبأ إليها، يستر من الناس.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي: أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الاسدي (2).
قال ابن هشام: وحدثني من
__________
(1) قال الواقدي: الذي ولي عقره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله.
(2) اختلفوا في اسم أبي سنان، قيل وهب بن عبد الله وقيل عامر، وقيل عبد الله بن وهب وقيل اسمه وهب بن

أثق بن عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان فضرب بإحدى يديه على الاخرى.
وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الاسناد ضعيف لكنه
ثابت في الصحيحين.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: آت محمدا وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدا.
فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.
فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح.
فلما التأم الامر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بلى.
قال أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى قال أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى.
قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله: ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال: بلى قال أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى.
قال أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى.
قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني.
وكان عمر رضي الله عنه يقول ما زلت أصوم واتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا.
قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال أكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال: فقال سهيل لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.
قال فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك.
ولكن أكتب أسمك واسم أبيك.
قال فقال رسول الله: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا إسلال ولا إغلال، وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد
قريش وعهدهم، وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في
__________
= محصن بن حرثان أخو عكاشة بن محصن، ولعل القول الاخير أصحها.
مات سنة خمس من الهجرة (الاستيعاب) وقال الواقدي: أول من بايعه سنان بن أبي سنان بن محصن.
وقال ابن سعد عن الواقدي: أبو سنان قتل في حصار بني قريظة قبل الحديبية، وعنه: الذي بايع الحديبية سنان بن سنان الاسدي.

القرب لا تدخلها بغيرها.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب (1) الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.
قال: صدقت فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأ على صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.
إنا قد عقدنا بيننا وبين.
القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم " قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب.
قال: ويدني قائم السيف منه.
قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه.
قال فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص وهو يومئذ مشرك وعلي بن أبي طالب، وكتب، وكان هو كاتب الصحيفة (2).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا في الحل (3) وكان يصلي في الحرم، فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحم الله المحلقين " قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " يرحم الله المحلقين " قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " يرحم الله المحلقين " قالوا والمقصرين يا رسول الله ! قال " والمقصرين " قالوا: يا رسول الله فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال: لم يشكوا.
وقال عبد الله بن أبي نجيح: حدثني مجاهد عن ابن عباس أن
__________
(1) قال في مغازي الواقدي: أن أبا جندل جاء قبل أن يكتب الكتاب.
ولما أراد سهيل رده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد.
فقال سهيل: والله لا أكاتبك على شئ حتى ترده إلي.
فرده.
(2) زاد الواقدي: أبو عبيدة بن الجراح، وحويطب بن عبد العزى ولم يذكر عبد الله بن سهيل بن عمرو.
(3) مضطربا في الحل: أي أن أبنيته مضروبة في الحل، وكانت صلاته في الحرم، وهذا القرب الحديبية من حرم.

رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لابي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين.
هذا سياق محمد بن إسحاق رحمه الله لهذه القصة، وفي سياق البخاري كما سيأتي مخالفة في بعض الاماكن لهذا السياق كما ستراها إن شاء الله وبه الثقة.
ولنوردها بتمامها ونذكر في الاحاديث الصحاح والحسان ما فيه...إن شاء الله تعالى وعليه التكلان وهو المستعان.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا صالح بن كيسان عن عبيدالله بن عبد الله عن زيد بن خالد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: أتدرون ماذا قال ربكم ؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم.
فقال: قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي،
فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي (1).
وهكذا رواه في غير موضع من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزهري، وقد روي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: تعدون الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بأناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم أنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.
انفرد به البخاري.
وقال ابن إسحاق في قوله تعالى (فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) [ الفتح: 27 ]: صلح الحديبية.
قال الزهري: فما فتح في الاسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلم بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد في الاسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الاسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
وقال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين، عن سالم، عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 35 باب ح 4147.
وأخرجه في الصلاة عن القعنبي وفي التوحيد مختصرا عن مسدد.
ومسلم في (1) كتاب الايمان 32 عن يحيى بن يحيى (ح 125).

الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم ؟ قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك.
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال
العيون.
قال: فشربنا وتوضأنا.
فقلنا لجابر كم كنتم يومئذ ؟ قال لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة (1).
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر به.
وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة.
فقال لي سعيد: حدثني جابر: كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية (2).
تابعه أبو داود حدثنا قرة عن قتادة.
تفرد به البخاري.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال عمرو سمعت جابرا قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية " أنتم خير أهل الارض " وكنا ألفا وأربعمائة ولو كنت أبصر اليوم لاريتكم مكان الشجرة (3).
وقد روى البخاري أيضا ومسلم من طرق عن سفيان بن عيينة به.
وهكذا رواه الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال: إن عبد الحاطب جاء يشكوه فقال يا رسول الله ليدخلن حاطب النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كذبت لا يدخلها، شهد بدرا والحديبية " رواه مسلم (4).
وعند مسلم أيضا من طرق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: أخبرتني أم مبشر (5) أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة " لا يدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها " فقالت حفصة: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقال حفصة (وان منكم إلا واردها) [ مريم: 71 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال تعالى (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) (6) قال البخاري: وقال عبيدالله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين (7).
تابعه محمد بن بشار حدثنا أبو داود حدثنا
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 35 باب فتح الباري 7 / 441 ح 4152.
وفتح الباري 6 / 581 عن موسى بن إسماعيل في كتاب المناقب.
باب علامات النبوة في الاسلام.
(2) فتح الباري 7 / 443 (ح 4153).
(3) المصدر السابق (ح 4154).
وأخرجه مسلم عن قتيبة عن الليث في 33 كتاب الامارة ح 67 ص 1483.
(4) أخرجه مسلم في 44 كتاب الصحابة 36 باب (ح: 162) (ص 1942).
(5) من مسلم، وفي الاصل ميسر وهو تحريف.
(6) سورة مريم: 72.
أخرجه مسلم في 44 كتاب فضائل الصحابة (37) باب (ح: 163) (1942).
(7) رواه البخاري في المغازي (ح: 4155) فتح الباري 7: 443.
ومسلم في 33 كتاب الامارة 18 باب (ح 75) ص 1485.
ونقل البيهقي في الدلائل 4 / 95 الحديث من طرق عن ابن أبي أوفى.

شعبة.
هكذا رواه البخاري معلقا عن عبد الله.
وقد رواه مسلم عن عبيدالله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به.
وعن محمد بن المثنى عن أبي داود عن إسحق بن إبراهيم عن النضر بن شميل كلاهما عن شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة عن مروان والمسور بن مخرمة قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم منها (1).
تفرد به البخاري وسيأتي هذا السياق بتمامه والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع مائة، وهو والله أعلم إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه من حيث أن البدن كن سبعين بدنة وكل منها عن عشرة على اختياره، فيكون المهلون سبع مائة، ولا يلزم أن يهدي كلهم، ولا أن يحرم كلهم أيضا، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طائفة منهم فيهم: أبو قتادة ولم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي فأكل منه هو وأصحابه وحملوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق فقال: هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا: لا.
قال: فكلوا ما بقي من الحمار.
وقد قال البخاري: حدثنا شعبة بن الريع، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال: انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا شبابة بن سوار الفزاري، حدثنا شعبة، عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد فلم أعرفها.
حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة حدثنا طارق، عن سعيد بن المسيب عن أبيه: أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا.
وقال البخاري أيضا حدثنا محمود، حدثنا عبيدالله عن إسرائيل عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون، فقلت ما هذا المسجد ؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها.
ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها، وعلمتموها أنتم ! فأنتم أعلم ؟ ورواه البخاري ومسلم من حديث الثوري وأبي عوانة وشبابة عن طارق (2).
وقال البخاري: حدثنا سعيد، حدثني أخي عن سليمان عن عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم قال: لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن زيد:: على ما يبايع ابن حنظلة الناس قيل له على الموت، فقال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) أخرجه في المغازي في باب الحديبية فتح الباري 7 / 444.
(2) رواه البخاري في 64 كتاب المغازي (35) باب غزوة الحديبية.
ومسلم في 33 كتاب الامارة (ح: 77).

وكان شهد معه الحديبية.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن عمرو بن يحيى به.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم عن يزيد بن أبي عبيد قلت لسلمة بن الاگوع: على أي شئ بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ؟ قال: على الموت (1).
ورواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد.
وفي صحيح مسلم: عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات في أوائل الناس ووسطهم وأواخرهم.
وفي الصحيح (2) عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، وكان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أبو سنان وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن وقيل سنان بن أبي سنان.
وقال البخاري: حدثني شجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد، حدثنا صخر بن الربيع، عن نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الانصار أن يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله، فانطلق فذهب معه، حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي تحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.
وقال هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عمر بن محمد العمري: أخبرني نافع عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجرة، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.
تفرد به البخاري من هذين الوجهين.
سياق البخاري لعمرة الحديبية قال في كتاب المغازي: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه وثبتني معمر عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه، قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره (3) وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة (4)، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الاشطاط أتاه عينه قال: إن قريشا قد جمعوا لك جموعا وقد جمعوا الاحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك، فقال: أشيروا أيها الناس علي أترون
__________
(1) رواه البخاري في 64 كتاب المغازي 35 باب ح 4169 وفي 93 كتاب الاحكام 44 باب.
وأخرجه مسلم في 33 كتاب الامارة 18 باب (ح: 80) ص 1486.
(2) أخرجه مسلم في 33 كتاب الامارة 18 باب (ح: 76).
(3) أشعره: أي وخز سنامها حتى يعرف أنها هدي، قال الزرقاني: ضرب صفحة السنام اليمنى بحديدة فلطخها بدمها إشعارا بأنه هدي (شرح المواهب اللدنية 2 / 218).
(4) ذكره في مغازي الواقدي: بسر بن سفيان.

أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين وإلا تركنا لهم محروبين.
قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا نريد قتل أحد ولا حرب فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه.
قال امضوا على اسم الله.
هكذا رواه هاهنا ووقف ولم يزد شيئا على هذا.
وقال في كتاب الشهادات (1): حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل (2)، فألحت.
فقالوا: خلات القصواء (3) خلات القصواء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلات القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه [ الناس ] (4) تبرضا فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال بجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال، إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وان هم أبو افوالذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد
سالفتي (5) ولينفذن أمر الله.
قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا.
فقال
__________
(1) كذا في الاصل، وهو تحريف، وقد أخرجه البخاري في كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد.
(2) حل حل: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.
(3) القصواء: الزرقاني: القصو: قطع طرف الاذن.
قال الداودي: انها كانت لا تسبق.
(4) تبرض الماء: قال الخليل في العين: جمعه بالكفين.
وقال في الصحاح: برض الماء من العين إذا خرج وهو قليل.
وفي البخاري: تبرضه الناس.
(5) السالفة: صفحة العنق، وهما سالفتان من جانبيه، وكنى بانفراد هما عن الموت لانها لا تنفرد عما يليها إلا بالموت (النهاية).

سفهاؤهم لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشئ.
وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول.
قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألست بالوالد ؟ قالوا: بلى.
قال: أو لستم بالولد ؟ قالوا بلى قال: فهل تتهموني ؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاط فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا: بلى.
قال: فان هذا قد عرض لكم خطة رشد أقبلوها ودعوني آتيه، فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك.
أي محمد أرأيت إن أستأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الاخرى فإني والله لا أرى وجوها وإني لارى أشوابا (1) من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر: أمصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه ؟ قال من ذا ؟ قالوا أبو بكر.
قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لاجبتك.
قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخر يدك عن لحية
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فرفع عروة رأسه فقال: من هذا ؟ قالوا المغيرة بن شعبة.
فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الاسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شئ ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم.
فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم، عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا.
والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة دعوني آتية.
فقالوا ائته.
فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له.
فبعثت له واستقبله الناس يلبون.
فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.
فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال دعوني آتيه.
قالوا ائته.
فلما أشرف عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل ابن عمرو.
قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) في الصحيح: الاوشاب: الاخلاط.
وفي الواقدي: أوباشا.

لقد سهل لكم من أمركم.
قال معمر قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل فقال هات فاكتب بيننا وبينكم كتابا.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن أكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب.
فقال
المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وان كذ بتموني.
اكتب محمد بن عبد الله.
قال الزهري: وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به.
قال سهيل: والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب.
فقال سهيل وعلي أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.
قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما.
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد.
قال فوالله إذا لم أصالحك على شئ أبدا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي.
قال ما أنا بمجيزة لك.
قال: بلى فافعل قال: ما أنا بفاعل.
قال مكرز: بلى قد أجزناه لك.
قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت - وكان قد عذب عذابا شديدا في الله - فقال عمر رضي الله عنه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا ؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن.
قال: إني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولست أعصيه وهو ناصري.
قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قال: قلت: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا.
قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل.
قال: بلى.
قال: قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن.
قال: إيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصى ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق.
قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام.
فقلت: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الزهري قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا.
قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس.
فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك ؟ أخرج لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد

بعضهم يقتل بعضا غما.
ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن - حتى بلغ - بعصم الكوافر) [ الممتحنة: 10 ] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك.
فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والاخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا.
فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة ونزلوا يأكلون من تمر لهم.
فقال أبو بصير لاحد الرجلين: والله اني لارى سيفك هذا يا فلان جيدا.
فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت.
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه.
فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه " لقد رأى هذا ذعرا " فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول.
فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد " فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم، لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد
أن أظفركم عليهم - حتى بلغ - الحمية حمية الجاهلية) [ الفتح: 26 ] وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت.
فهذا سياق فيه زيادات وفوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري، فقد رواه عن الزهري عن جماعة منهم سفيان بن عيينة ومعمر ومحمد بن إسحاق كلهم عن الزهري عن عروة عن مروان ومسور فذكر القصة.
وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن يحيى بن بكير عن الليث بن سعد عن عقيل عن الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة.
وهذا هو الاشبه فإن مروان ومسورا كانا صغيرين يوم الحديبية، والظاهر أنهما أخذاه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مغول، سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: لما قدم سهيل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا لامر يقطعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه، قبل هذا الامر ما نسد منها خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وكان عمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر بن الخطاب عن شئ، فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك.
قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال " لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب ألي مما طلعت عليه الشمس " ثم قرأ
(انا فتحنا لك فتحا مبينا) (1).
قلت: وقد تكلمنا على سورة الفتح بكمالها في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة، ومن أحب أن يكتب ذلك هنا فليفعل.
فصل في السرايا (2) التي كانت في سنة ست من الهجرة وتلخيص ذلك ما أورده الحافظ البيهقي (3) عن الواقدي: في ربيع الاول منها أو الآخر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلا إلى [ الغمر، وفيهم ثابت بن أقرم وسباع بن وهب، فأغذا السير ونذر القوم بهم ] (4) فهربوا منه ونزل على مياههم، وبعث في آثارهم وأخذ منهم مائتي بعير فاستقاها إلى المدينة.
__________
(1) أول سورة الفتح.
والحديث أخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير، تفسير سورة الفتح (ح: 4833) فتح الباري 8 / 582.
قال القرطبي في التفسير: اختلف في هذا الفتح ما هو ؟ وقال الرازي في تفسيره الكبير: في الفتح وجوه: أحدها فتح مكة وهو ظاهر.
وهو مناسب لآخر ما قبلها (آخر سورة محمد: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله).
فإن: إن كان المراد فتح مكة، فمكة لم تكن قد فتحت، فكيف قال تعالى (فتحنا لك فتحا مبينا) بلفظ الماضي ؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: فتحنا في حكمنا وتقديرنا.
وثانيهما: ما قدره الله تعالى فهو كائن، فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر لا دافع له، واقع لا رافع له.
وقال العوفي ومجاهد: هو فتح خيبر.
قال القرطبي: فتح الحديبية، هو الارجح.
(2) السرايا: جمع سرية وهي الكتيبة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة نفر تبعث إلى العدو، وسميت بالسرية من الشئ السري: النفيس حيث كان يتم اختيارهم من شجعان العسكر ومقدميهم.
قال صاحب النهاية: سموا بذلك لانهم ينفذون سرا، وخفية وليس بالوجه لان لام السر راء وهذا ياء.
(3) دلائل النبوة: في باب السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة فيما زعم الواقدي: ج 4 / 82 وما بعدها.
(4) ما بين معكوفين بياض بالاصل واستدرك من الدلائل.
وفي المواهب: إلى مرزوق.
والغمر: ماء لبني أسد على
ليلتين من فيد كما في طبقات ابن سعد.
مغازي الواقدي 2 / 550 والبيهقي 4 / 83 واختصرها عنه.

وفيها كان بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأربعين رجلا أيضا فساروا إليهم مشاة، حتى أتوها في عماية الصبح، فهربوا منه في رؤوس الجبال فأسر منهم رجلا فقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه محمد بن مسلمة في عشرة نفر وكمن القوم لهم حتى باتوا [ فما شعروا إلا بالقوم، فقتل ] (1) أصحاب محمد بن مسلمة كلهم وأفلت هو جريحا (2).
وفيها كان بعث زيد بن حارثة بالحموم فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم، فأصابوا منها نعما وشاء وأسروا [ جماعة من المشركين ] (3) وكان فيهم زوج حليمة هذه فوهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها وأطلقهما.
وفيها كان بعث زيد بن حارثة أيضا في جمادى الاولى (4) إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا فهربت منه الاعراب فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا ثم رجع بعد أربع ليال.
وفيها خرج زيد بن حارثة في جمادى الاولى إلى العيص (5).
قال وفيها أخذت الاموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع، فاستجار بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجارته.
وقد ذكر ابن إسحاق قصته حين أخذت العير التي كانت معه وقتل أصحابه بينهم حتى قدم المدينة، وكانت امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجرت بعد بدر فلما جاء المدينة استجار بها فأجارته بعد صلاة الصبح فأجاره لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس برد ما أخذوا من غيره فردوا كل شئ كانوا أخذوه منه حتى لم يفقد منه شيئا.
فلما رجع إلى مكة وأدى إلى أهلها ما كان لهم معه من الودائع أسلم وخرج من مكة راجعا إلى المدينة فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الاول ولم يحدث نكاحا ولا عقدا كما تقدم بيان ذلك.
وكان بين إسلامه وهجرتها ست سنين ويروى سنتين.
وقد بينا أنه لا منافاة بين الروايتين وأن إسلامه تأخر عن وقت تحريم المؤمنات على الكفار بسنتين وكان إسلامه في سنة ثمان في سنة الفتح لا كما تقدم في
كلام الواقدي من أنه سنة ست.
فالله أعلم.
وذكر الواقدي في هذه السنة أن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من عند قيصر قد أجازه بأموال وخلع، فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم يتركوا معه شيئا، فبعث
__________
(1) سقطت من الاصل واستدركت من الدلائل.
(2) السريتان في الواقدي 2 / 551، إنما ذكر بعثة محمد بن مسلمة، إلى بني ثعلبة وعوال في ربيع الآخر وجاء بعث أبي عبيدة إلى ذي القصة (إلى تغلمين: وهو موضع من بلاد بني فزارة قبل ريم) بعد بعث محمد بن مسلمة.
(3) من المواهب، وفي الاصل بياض.
(4) في مغازي الواقدي: في جمادى الآخرة.
بعثه إلى الطرف والطرف: ماء قريب من المراض دون النخيل على ستة وثلاثين ميلا من المدينة (طبقات ابن سعد 2 / 63).
(5) العيص: بينها وبين المدينة أربع ليال، وبينها وبين ذي المروة ليلة (ابن سعد 2 / 63).

إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة أيضا رضي الله عنه (1).
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة قال: خرج علي رضي الله عنه في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد (2) بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار إليهم بالليل وكمن بالنهار وأصاب عينا لهم فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
قال الواقدي رحمه الله تعالى وفي سنة ست في شعبان كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن بنت ملكهم تماضر بنت الاصبع (3) الكلبية وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
قال الواقدي في شوال سنة ست: كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر في
عشرين فارسا فردوهم (4).
وكان من أمرهم ما أخرجه البخاري ومسلم: من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن أنس بن مالك أن رهطا من عكل وعرينة - وفي رواية من عكل أو عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا أناس أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف فاستوخمنا (5) المدينة.
فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبو الها فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر (6) أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا وهم كذلك.
قال قتادة فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب بعد ذلك حض على الصدقة ونهى عن المثلة (7).
وهذا الحديث قد رواه جماعة عن قتادة ورواه جماعة عن أنس بن مالك.
وفي رواية مسلم: عن معاوية بن قرة عن أنس أن نفرا من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وبايعوه، وقد
__________
في مغازي الواقدي: كان ذلك في جمادي الآخرة.
(2) في البيهقي والواقدي: بني سعد بن بكر، بفدك.
وكانت سريته في شعبان سنة ست.
وانتهى علي رضي الله عنه إلى معسكرهم - فلم ير أحدا - فساق النعم والشاء: خمسمائة بعير، وألفا شاة.
(3) في الواقدي: الاصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانيا.
(4) مغازي الواقدي 2 / 570 والخبر فيه مطول.
ونقله عنه البيهقي في الدلائل مختصرا 4 / 85.
(5) في الواقدي: فاستوبأوا المدينة: أي وجدوها وبئة.
(6) في مغازي الواقدي: وسمل أعينهم.
(7) كان ذلك بعد نزول قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف).
قال أبو هريرة: فلم تسمل بعد ذلك عين.
والحديث رواه البخاري في 86 كتاب الحدود (17) باب فتح الباري 12 / 111 وأخرجه مجتزءا في عدة مواضع.

وقع في المدينة الموم - وهو البرسام فقالوا هذا الموم، قد وقع يا رسول الله، لو أذنت لنا فرجعنا إلى الابل.
قال نعم فاخرجوا فكونوا فيها.
فخرجوا فقتلوا الراعيين وذهبوا بالابل.
وعنده سار
من الانصار قريب عشرين فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم (1).
وفي صحيح البخاري من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس أنه قال قدم رهط من عكل فأسلموا واجتووا المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال الحقوا بالابل واشربوا من أبو الها وألبانها.
فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله، فقتلوا الراعي واستاقوا الابل، فجاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها وقطع أيديهم وأرجلهم وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ولم يحمهم.
وفي رواية عن أنس قال فلقد رأيت أحدهم يكدم الارض بفيه من العطش.
قال أبو قلابة فهؤلاء قتلوا وسرقوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البيهقي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن (2) بن سليمان عن محمد بن عبيدالله عن أبي الزبير عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث في آثارهم قال " اللهم عم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل، قال: فعمى الله عليهم السبيل فأدركوا فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
وفي صحيح مسلم إنما سملهم لانهم سملوا أعين الرعاء (3).
فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة أعني سنة ست من الهجرة فيها نزل فرض الحج كما قرره الشافعي رحمه الله زمن الحديبية في قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) [ البقرة: 196 ] ولهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور، لانه صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في سنة عشر.
وخالفه الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد، فعندهم: أن الحج يجب على كل من استطاعه على الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفادا من قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وإنما في هذه الآية الامر بالاتمام بعد الشروع فقط، واستدلوا بأدلة قد أوردنا كثيرا منها عند تفسير هذه الآية من كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة بما فيه كفاية.
وفي هذه السنة حرمت المسلمات على المشركين تخصيصا لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية على أنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فنزل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهم، فان علمتموهن مؤمنات فلا
__________
(1) مسلم في 28 كتاب القسامة (2) باب (ح: 9) ص 1296.
(2) في الدلائل: عبد الرحيم.
(3) الحديث أخرجه جماعة من عدة طرق عن أنس: وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود (ح: 4364) والترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه (ح: 72) والنسائي في كتاب التحريم، وجمع طرقه كلها.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الحدود (ح: 20) والامام أحمد في مسنده (3 / 163، 177).

ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) الآية [ الممتحنة 10 ].
وفي هذه السنة كانت غزوة المريسيع التي كان فيها قصة الافك ونزول براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما تقدم.
وفيها كانت عمرة الحديبية وما كان من صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف وقع الصلح بينهم على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فأمن الناس فيهن بعضهم بعضا، وعلى أنه لا إغلال ولا إسلال.
وقد تقدم كل ذلك مبسوطا في أماكنه ولله الحمد والمنة.
وولي الحج في هذه السنة المشركون.
قال الواقدي وفيها في ذي الحجة منها: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر مصطحبين حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسكندرية وشجاع بن وهب بن أسد بن جذيمة شهد بدرا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يعني ملك عرب النصارى، ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر وهو هرقل ملك الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة ابن الحر.
سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر (1) في أولها قال شعبة: عن الحاكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله (وأثابهم فتحا قريبا) قال
خيبر.
وقال موسى بن عقبة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية مكث عشرين يوما أو قريبا من ذلك ثم خرج إلى خيبر وهي التي وعده الله إياها.
وحكى موسى عن الزهري أن افتتاح خيبر في سنة ست (2)، والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع كما قدمنا: قال ابن إسحاق.
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية، ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر.
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري عن عروة عن مروان والمسور قالا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، فقدم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر فنزل بالرجيع واد بين [ خيبر و ] (3) غطفان
__________
(1) خيبر: بخاء معجمة فتحتية فموحدة وهي اسم ولاية تشتمل على عدة حصون ومزارع ونخل كثير، تقع على ثلاثة أيام من المدينة على يسار حاج الشام.
والخيبر تعني الحصن بلسان اليهود.
وقبل سميت خيبر على اسم خيبر أخو يثرب بن قانية بن مهلاييل بن آدم.
(2) الخبر في الدرر لابن عبد البر 196 عن موسى بن عقبة، وعنه رواه البيهقي في الدلائل 4 / 195.
(3) في الاصل بياض، واستدرك النقص من رواية البيهقي 4 / 197.

فتخوف أن تمدهم غطفان [ فبات به ] (1) حتى أصبح فغدا عليهم.
قال البيهقي: وبمعناه رواه الواقدي عن شيوخه في خروجه أول سنة سبع من الهجرة (2) وقال عبد الله بن إدريس، عن [ ابن ] (3) إسحق: حدثني عبد الله بن أبي بكر قال: كان (4) افتتاح خيبر في عقيب المحرم وقدم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر صفر.
قال ابن هشام واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي (5).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا خيثم، يعني ابن عراك، عن أبيه أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه والنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة يعني الغطفاني على المدينة قال فانتهيت إليه وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الاولى كهيعص وفي الثانية ويل للمطففين، فقلت في نفسي ويل لفلان إذا اكتال [ اكتال ] (6) بالوافي وإذا كال كال بالناقص قال: فلما صلى رددنا شيئا حتى أتينا خيبر وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
قال فكلم المسلمين
فأشركونا في سهامهم.
وقد رواه البيهقي من حديث سليمان بن حرب، عن وهيب، عن خيثم بن عراك، عن أبيه عن نفر من بني غفار قال: إن أبا هريرة قدم المدينة فذكره.
قال ابن إسحاق.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر وبنى له فيها مسجدا ثم على الصهباء (7) ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغني أن غطفان لما سمعوا بذلك جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم فرجعوا على أعقابهم فأقاموا في أموالهم وأهليهم، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير، أن سويد بن النعمان أخبره: أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي من أدنى خيبر - صلى العصر ثم دعا بالازواد فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثرى فأكل وأكلنا ثم قام إلى المغرب فمضمض ثم صلى ولم يتوضأ (8).
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي
__________
(1) سقطت من الاصل، واستدركت من دلائل البيهقي.
(2) دلائل البيهقي 4 / 197 ومغازي الواقدي 2 / 632.
(3) من البيهقي.
(4) في الاصل لما كان تحريف.
(5) في مغازي الواقدي وابن سعد: سباع بن عرفطة.
(6) من رواية البيهقي في الدلائل ج 4 / 198.
في باب: استخلافه على المدينة حين خرج إلى خيبر: سباع بن عرفطة.
(7) عصر: بالكسر.
جبل بين المدينة ووادي الفرع.
والصهباء موضع بينه وبين خيبر روحة (معجم البلدان).
(8) أخرجه في 64 كتاب المغازي 38 باب غزوة خيبر (ح: 4195) وأخرجه في الطهارة عن خالد بن مخلد وفي الجهاد عن محمد بن المثنى.

عبيد، عن سلمة بن الاكوع، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا من هنياتك - وكان عامر رجلا شاعرا - فنزل يحدوا بالقوم يقول: لا هم (1) لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما أبقينا * وألقين سكينة علينا وثبت الاقدام إن لاقينا * إنا إذا صيح بنا أبينا وبالصياح عولوا علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا السائق ؟ قالوا عامر بن الاكوع، قال: يرحمه الله.
فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله لولا امتعتنا به.
فأتينا خيبر فناصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة.
ثم ان الله فتحها عليهم، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذه النيران على أي شئ توقدون ؟ قالوا: على لحم قال: على أي لحم ؟ قالوا: لحم الحمر الانسية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اهريقوها واكسروها فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها فقال أو ذاك.
فلما تصاف الناس كان سيف عامر قصيرا، فتناول به ساق يهودي ليضربه فيرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبة عامر فمات منه.
فلما قفلوا، قال سلمة رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي قال مالك ؟ قلت: فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب من قاله، إن له لاجرين - وجمع بين أصبعيه - إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله (2).
ورواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل وغيره عن يزيد بن أبي عبيد مثله.
ويكون منصوبا على الحالية من نكرة وهو سائغ إذا دلت على تصحيح معنى كما جاء في الحديث فصلى وراءه رجل قياما.
وقد روى ابن إسحاق قصة عامر بن الاكوع من وجه آخر فقال حدثني: محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الاسلمي أن أباه حدثه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الاكوع وهو عم سلمة بن عمرو بن الاكوع: انزل يا بن الاكوع فخذ لنا من هناتك، فقال: فنزل يرتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحمك ربك.
فقال عمر بن الخطاب: وجبت يا رسول الله، لو أمتعتنا به.
فقتل يوم خيبر شهيدا.
ثم ذكر صفة قتله كنحو ما ذكره البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عطاء بن أبي مروان الاسلمي، عن أبيه عن أبي معتب بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لاصحابه وأنا فيهم: قفوا، ثم قال: اللهم رب السموات
__________
(1) في البخاري: اللهم.
(2) فتح الباري 7 / 373 ومسلم في 34 كتاب الصيد (5) باب (ح: 33).

وما أظللن، ورب الارضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، نعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله.
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
وقد رواه الحافظ البيهقي: عن الحاكم عن الاصم عن العطاردي عن يونس بن بكير عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن صالح بن كيسان، عن أبي مروان الاسلمي، عن أبيه عن جده قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر حتى إذا كنا قريبا، وأشرفنا عليها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: قفوا فوقف الناس فقال: اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الارضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله الرحمن الرحيم (1).
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار، فنزلنا خيبر ليلا، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح لم يسمع أذانا، فركب وركبنا معه، وركبت خلف أبي
طلحة، وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقبلنا عمال خيبر غادين، قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش قالوا: محمد والخميس معه ! فأدبروا هرابا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين (2)، قال ابن إسحاق حدثنا هرون عن حميد عن أنس بمثله.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر بهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بسماحيهم ومكاتلهم فلما رأوه قالوا محمد والله.
محمد والخميس ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين (3).
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا أبو عيينة، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: صبحنا خيبر بكرة فخرج أهلها بالمساحي فلما بصروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والله، محمد والخميس ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
قال فأصبنا من لحوم الحمر فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام 4 / 343 ودلائل البيهقي 4 / 204.
(2) سيرة ابن هشام: 4 / 344.
(3) في 64 كتاب المغازي (38) باب غزوة خيبر (ح: 4197) فتح الباري 7 / 375.

ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس (1).
تفرد به البخاري دون مسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة عن أنس قال: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومساحيهم فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا فرجعوا إلى حصنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
تفرد به أحمد وهو على شرط الصحيحين.
وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: [ صلى النبي ] (2) صلى الله عليه وسلم: الصبح قريبا من خيبر بغلس، ثم قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
فخرجوا يسعون بالسكك فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبى الذرية وكان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عتقها صداقها.
قال عبد العزيز بن صهيب لثابت: يا أبا محمد أأنت قلت لانس: ما أصدقها، فحرك ثابت رأسه تصديقا له (3).
تفرد به دون مسلم.
وقد أورد البخاري ومسلم النهي عن لحوم الحمر الاهلية من طرق تذكر في كتاب الاحكام.
وقد قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا حاجب (4) بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حميد الابيوردي، حدثنا محمد بن الفضيل (5) عن مسلم الاعور الملائي، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف وتحته إكاف من ليف.
وقد روى هذا الحديث بتمامه الترمذي: عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، وابن ماجة: عن محمد بن الصباح عن سفيان، وعن عمر بن رافع عن جرير كلهم عن مسلم وهو ابن كيسان الملائي الاعور الكوفي عن أنس به.
وقال الترمذي لا نعرفه إلا من حديثه وهو يضعف.
قلت: والذي ثبت في الصحيح عند البخاري عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى في رفاق خيبر حتى انحسر الازار عن فخذه، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس (6) لا على حمار.
ولعل
__________
(1) أخرجه في كتاب المغازي (ح: 4197).
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) رواه البخاري في كتاب المغازي 38 باب (ح: 4199).
- قوله فخرجوا يسعون في السكك فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة...قال ابن حجر: فيه اختصار كبير لانه يوهم أن ذلك وقع عقب الاغارة عليهم وليس كذلك..فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام على محاصرتهم بضع عشرة ليلة وقيل أكثر.
(4) من البيهقي، وفي الاصل خطاب.
(5) من البيهقي: وفي الاصل الفضل.
والخبر في الدلائل ج 4 / 204.
(6) في مغازي الواقدي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الفتح على فراس يقال له الظرب: 2 / 653.

هذا الحديث إن كان صحيحا محمول على أنه ركبه في بعض الايام وهو محاصرها.
والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي، حدثنا زياد بن الربيع، عن أبي عمران الجوني قال: نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة فرأى طيالسة فقال كأنهم الساعة يهود خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الاكوع قال: كان علي بن أبي طالب تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان رمدا فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فلحق به.
فلما بتنا الليلة التي فتحت خيبر قال: لاعطين الراية غدا (أو ليأخذن الراية غدا) رجل يحب الله ورسوله يفتح عليه.
فنحن نرجوها.
فقيل هذا علي فأعطاه ففتح عليه (1).
وروى البخاري أيضا ومسلم عن قتيبة عن حاتم به.
ثم قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لاعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال فبات الناس يدوكون (2) ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسل إليه فأتى فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم (3).
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا عن قتيبة به.
وفي صحيح مسلم والبيهقي من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله عليه، قال عمر: فما أحببت الامارة إلا يومئذ، فدعا عليا فبعثه ثم
قال: اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك ولا تلتفت.
قال علي: على ما أقاتل الناس ؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (4) لفظ البخاري.
وقال الامام أحمد: حدثنا مصعب بن المقدام، وجحش بن المثنى قالا: حدثنا إسرائيل، حدثنا عبد الله بن عصمة العجلي: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية فهزها ثم قال: من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان فقال: أنا، قال:
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 38 باب غزوة خيبر، ومسلم في 44 كتاب فضائل الصحابة (4) باب (ح: 34).
(2) يدوكون: أي يخوضون ويموجون.
(3) البخاري، الموضع السابق، ومسلم في الموضع السابق.
(4) مسلم (ح: 33) كتاب 44.
ودلائل البيهقي 4 / 206.

امض، ثم جاء رجل آخر فقال امض، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي كرم وجه محمد لاعطينها رجلا لا يفر، فقال هاك يا علي.
فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتها وقديدها.
تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به، وفيه غرابة وعبد الله بن عصمة، ويقال ابن أعصم، وهكذا يكنى بأبي علوان العجلي وأصله من اليمامة سكن الكوفة وقد وثقه ابن معين، وقال أبو زرعة لا بأس به، وقال أبو حاتم شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطئ كثيرا وذكره في الضعفاء، وقال يحدث عن الاثبات مما لا يشبه حديث الثقات حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الاسلمي عن أبيه عن سلمة بن عمرو بن الاكوع رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه إلى بعض حصون خيبر، فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد.
ثم بعث عمر رضي الله عنه فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله
ورسوله يفتح الله على يديه وليس بفرار.
قال سلمة: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يومئذ أرمد فتفل في عينيه ثم قال: خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله عليك، فخرج بها والله يصول (1) يهرول هرولة، وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت ؟ قال: أنا علي بن أبي طالب.
فقال اليهودي: غلبتم وما أنزل على موسى، فما رجع حتى فتح الله على يديه.
وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم الاصم أنبأنا العطاردي (2) عن يونس بن بكير عن الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة أخبرني أبي قال: لما كان يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر، فرجع ولم يفتح له [ ولما كان الغد أخذه عمر فرجع ولم يفتح له ] (3) وقتل محمود بن مسلمة، ورجع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لادفعن لوائي غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لن يرجع حتى يفتح الله له، فبتنا طيبة نفوسنا أن الفتح غدا، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، ثم دعا باللواء وقام قائما فما منا من رجل له منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل حتى تطاولت أنا لها ورفعت رأسي لمنزلة كانت لي منه، فدعا علي بن أبي طالب وهو يشتكي عينيه قال فمسحها ثم دفع إليه اللواء ففتح له، فسمعت عبد الله بن بريدة يقول: حدثني أبي أنه كان صاحب مرحب.
قال يونس قال ابن إسحاق: كان أول حصون خيبر حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته.
__________
(1) في ابن هشام: يأنح.
قال السهيلي: هو من الانيح.
وهو علو النفس من شدة العدو.
(2) وهو أحمد بن عبد الجبار.
(3) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من دلائل البيهقي.

ثم روى البيهقي عن يونس بن بكير، عن المسيب بن مسلمة الازدي، حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة (1) فلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما
نزل خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، وأن أبا بكر أخذ راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع، فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الاول ثم رجع، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لاعطينها غدا [ رجلا ] (2) يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة.
وليس ثم علي، فتطاولت لها قريش ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح وجاء علي بن أبي طالب على بعير له حتى أناخ قريبا وهو أرمد قد عصب عينه بشقة برد قطري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك ؟ قال: رمدت بعدك، قال ادن مني فتفل في عينه فما وجعها حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه جبة أرجوان حمراء، قد أخرج خملها فأتى مدينة خيبر وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب * شاك سلاحي بطل مجرب إذا الليوث أقبلت تلهب * وأحجمت عن صولة المغلب فقال علي رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات شديد القسوره أكيلكم بالصاع كيل السندره قال: فاختلفا ضربتين، فبدره علي بضربة فقد الحجر والمغفر ورأسه ووقع في الاضراس، وأخذ المدينة (3).
وقد روى الحافظ البزار: عن عباد بن يعقوب، عن عبد الله بن بكر، عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قصة بعث أبي بكر ثم عمر يوم خيبر ثم بعث علي فكان الفتح على يديه.
وفي سياقه غرابة ونكارة وفي إسناده من هو متهم بالتشيع.
والله أعلم.
وقد روى مسلم والبيهقي واللفظ له: من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الاكوع عن أبيه فذكر حديثا طويلا وذكر فيه رجوعهم من غزوة بني فزارة قال: فلم نمكث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر.
قال: وخرج عامر فجعل يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
__________
(1) الشقيقة: صداع يعرض في مقدم الرأس وإلى أحد جانبيه.
(2) من البيهقي، سقطت من الاصل (3) الحديث بتمامه في دلائل البيهقي ج 4 / 210 - 212 وأخرج الجزء الاول منه الحاكم في المستدرك (3 / 37) وقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
(4) في البيهقي: يسفل له: أي يضربه من أسفله.

ونحن من فضلك ما استغنينا * فأنزلن سكينة علينا وثبت الاقدام إن لاقينا قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا القائل ؟ فقالوا عامر.
فقال غفر لك ربك.
قال: وما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أحدا به إلا استشهد.
فقال عمر وهو على جمل: لولا متعتنا بعامر.
قال فقدمنا خيبر فخرج مرحب وهو يخطر بسيفه ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب قال: فبرز له عامر رضي الله عنه وهو يقول: قد علمت خيبر أني عامر * شاكي السلاح بطل مغامر قال فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب يسعل (1) له فرجع على نفسه فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه، قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون بطل عمل عامر قتل نفسه.
قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال مالك ؟ فقلت قالوا: إن عامرا بطل عمله.
فقال من قال ذلك ؟ فقلت نفر من أصحابك.
فقال: كذب أولئك بل له الاجر مرتين.
قال وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه يدعوه وهو أرمد وقال لاعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله.
قال: فجئت به أقوده قال: فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم
في عينه فبرأ فأعطاه الراية فبرز مرحب وهو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب قال فبرز له علي وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره (2) قال فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله.
وكان الفتح.
هكذا وقع في هذا السياق أن عليا هو الذي قتل مرحبا اليهودي لعنه الله (3).
وقال أحمد: حدثنا حسين بن حسن الاشقر، حدثني قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه عن جده عن علي قال: لما قتلت مرحبا جئت برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري أن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة.
وكذلك
__________
(1) في البيهقي: يسفل له: أي يضربه من أسفله.
(2) أوفيهم بالصاع كيل السندرة: السندرة: مكيال واسع، معناه أقتل العدو قتلا سريعا عاجلا.
(3) الحديث في دلائل البيهقي 4 / 208 و 209.
ورواه مسلم عن اسحاق بن ابراهيم عن أبي عامر في 32 كتاب الجهاد باب غزوة ذي قرد ص 1439.

قال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن سهل أحد بني حارثة، عن جابر بن عبد الله قال: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحيانا وحينا أضرب * إذا الليوث أقبلت تلهب إن حماي للحمى لا يقرب (1) قال: فأجابه كعب بن مالك:
قد علمت خيبر أني كعب * مفرج الغماء جري صلب إذ شبت الحرب وثار الحرب * معي حسام كالعقيق عضب يطأكمو حتى يذل الصعب * بكف ماض ليس فيه عيب (2) قال وجعل مرحب يرتجز ويقول: هل من مبارز.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لهذا: فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور والثائر قتلوا أخي بالامس.
فقال: قم إليه، اللهم أعنه عليه.
قال: فلما دنا أحدهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية (3) من شجر العشر (4) المسد فجعل كل واحد منهما يلوذ من صاحبه بها، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم، ما فيها فنن، ثم حمل على محمد بن مسلمة فضربه.
فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها، فعضت فاستله وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله (5).
وقد رواه الامام أحمد: عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق بنحوه.
قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن محمدا ارتجز حين ضربه وقال: قد علمت خيبر أني ماض * حلو إذا شئت وسم قاض وهكذا رواه الواقدي: عن جابر وغيره من السلف: أن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا ثم ذكر الواقدي أن محمدا قطع رجلي مرحب فقال له أجهز علي.
فقال: لاذق الموت كما ذاقه محمود بن مسلمة.
فمر به علي وقطع رأسه فاختصما في سلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه ورمحه ومغفره وبيضته.
قال وكان مكتوبا على سيفه: هذا سيف مرحب * من يذقه يعطب (6) ثم ذكر ابن إسحاق: أن أخا مرحب وهو ياسر خرج بعده وهو يقول، هل من مبارز ؟
__________
(1) في نسخة لابن هشام زاد شطرا رابعا: يحجم عن صولتي المجرب.
(2) قبل هذا الشطر في ابن هشام: نعطي الجزاء أو يفئ النهب.
(3) عمرية: قديمة.
(4) العشر: شجر أملس له صمغ.
(5) سيرة ابن هشام ج 4 / 348 ونقله البيهقي عنه في الدلائل ج 4 / 215.
(6) مغازي الواقدي: 2 / 656.

فزعم هشام بن عروة أن الزبير خرج له، فقالت أمه (1) صفية بنت عبد المطلب: يقتل ابني يا رسول الله ! فقال: بل ابنك يقتله إن شاء الله فالتقيا فقتله الزبير.
قال فكان الزبير إذا قيل له والله إن كان سيفك يومئذ صارما يقول: والله ما كان بصارم ولكني أكرهته.
وقال يونس عن ابن إسحاق [ حدثني عبد الله بن الحسن ] (2) عن بعض أهله عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع علي إلى خيبر، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل منهم من يهود، فطرح ترسه من يده، فتناول علي باب الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده.
فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
وفي هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر.
ولكن روى الحافظ البيهقي والحاكم من طريق مطلب بن زياد، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر الباقر عن جابر: أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها وانه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا.
وفيه ضعف أيضا.
وفي رواية ضعيفة عن جابر ثم اجتمع عليه سبعون رجلا وكان جهدهم أن أعادوا الباب (3).
وقال البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة ؟ قال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة (4).
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه عن سهل قال: التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي
المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفإ، فقيل يا رسول الله ما أجزأ منا أحد ما أجزأ فلان.
قال إنه من أهل النار.
فقالوا أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار ؟ فقال رجل من القوم: لاتبعنه فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالارض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه.
فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله.
وقال وما ذاك ؟ فأخبره فقال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وأنه من أهل الجنة (5).
__________
(1) من ابن هشام.
وفي الاصل أم تحريف.
(2) سقطت من الاصل.
واستدركت من سيرة ابن هشام.
(3) دلائل النبوة للبيهقي 4 / 212.
(4) أخرجه في 64 كتاب المغازي 38 باب غزوة خيبر (ح: 4206).
وأخرجه أبو داود في الطب عن أحمد بن أبي سريح الرازي والبيهقي في الدلائل 4 / 251.
(5) في 64 كتاب المغازي 38 باب غزوة خيبر (ح: 4207) وح (4202)

رواه أيضا عن قتيبة عن يعقوب عن أبي حازم عن سهل فذكره مثله أو نحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الاسلام هذا من أهل النار.
فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة حتى كاد بعض الناس يرتاب.
فوجد الرجل ألم جراحه فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه فاشتد رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول الله صدق الله حديثك انتحر فلان فقتل نفسه.
فقال قم يا فلان فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر (1).
وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري قصة العبد الاسود الذي رزقه الله الايمان والشهادة في ساعة واحدة.
وكذلك رواها ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة قالا: وجاء عبد حبشي أسود من
أهل خيبر كان في غنم لسيده فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم، قال ما تريدون ؟ قالوا: نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.
فوقع في نفسه ذكر النبي فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إلى ما تدعو ؟ قال أدعوك إلى الاسلام إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا تعبدوا إلا الله.
قال: فقال العبد: فماذا يكون لي إن شهدت بذلك وآمنت بالله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجنة إن مت على ذلك.
فأسلم العبد فقال: يا نبي الله إن هذه الغنم عندي أمانة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصا فإن الله سيؤدي عنك أمانتك.
ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها فعرف اليهودي أن غلامه أسلم.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظ الناس فذكر الحديث في إعطائه الراية عليا ودنوه من حصن اليهود وقتله مرحبا وقتل مع علي ذلك العبد الاسود فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم فأدخل في الفسطاط فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط ثم اطلع على أصحابه فقال: لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير قد كان الاسلام في قلبه حقا وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين (2) وقد روى الحافظ البيهقي: من طريق ابن وهب عن حيوة بن شريح، عن ابن الهاد عن شرحبيل بن سعد عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر فخرجت سرية فأخذوا إنسانا معه غنم يرعاها، فذكر نحو قصة هذا العبد الاسود وقال فيه: قتل شهيدا وما سجد لله سجدة.
ثم قال البيهقي: حدثنا محمد بن محمد بن محمد (3) الفقيه: حدثنا أبو بكر القطان، حدثنا
__________
(1) المصدر السابق: فتح الباري 7 / 471.
(2) رواه البيهقي عن موسى بن عقبة في الدلائل ج 4 / 219.
(3) في البيهقي: محمش.

أبو الازهر، حدثنا موسى (1) بن اسمعيل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رجل أسود اللون قبيح الوجه لا مال لي فإن قاتلت هؤلاء حتى
أقتل أدخل الجنة ؟ قال:: نعم، فتقدم فقاتل حتى قتل فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال: لقد حسن الله وجهك وطيب روحك وكثر مالك وقال: لقد رأيت زوجتيه من الحور العين يتنازعان جبته عليه يدخلان فيما بين جلده وجبته.
ثم روى البيهقي من طريق ابن جريج: أخبرني عكرمة بن خالد، عن ابن أبي عمار عن شداد بن الهاد: أن رجلا من الاعراب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، فقال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه، وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه، فقال ما هذا ؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فأخذه فجاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا محمد ؟ قال: قسم قسمته لك ] (2) فقال: ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمي هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك.
ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو هو ؟ قالوا: نعم.
قال صدق الله فصدقه.
وكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا وأنا عليه شهيد (3).
وقد رواه النسائي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن ابن جريج به نحوه.
فصل قال ابن إسحاق: وتدنى (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم الاموال يأخذها مالا مالا ويفتتحها حصنا حصنا، وكان أول حصونهم فتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتله، ثم القموص حصن بني أبي الحقيق.
وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا منهن صفية بنت حيي بن أخطب وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه وكان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها.
قال: وفشت السبايا من خيبر في المسلمين وأكل الناس لحوم الحمر، فذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عن أكلها (5).
وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل فأورد النهي عنها من طرق جيدة وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا وهو مذهب الائمة الاربعة.
وقد ذهب بعض
__________
(1) في البيهقي: مؤمل.
(2) من البيهقي.
(3) الاخبار رواها البيهقي في الدلائل ج 4 / 220 - 222.
(4) تدنى: أي أخذ الادنى فالادنى.
(5) سيرة ابن هشام 3 / 345.

السلف منهم ابن عباس إلى إباحتها وتنوعت أجوبتهم عن الاحاديث الواردة في النهي عنها فقيل لانها كانت ظهرا يستعينون بها في الحمولة، وقيل لانها لم تكن خمست بعد، وقيل لانها كانت تأكل العذرة يعني جلالة.
والصحيح أنه نهى عنها لذاتها فإن في الاثر الصحيح أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس فاكفئوها والقدور تفور بها.
وموضع تقرير ذلك في كتاب الاحكام.
قال ابن إسحاق: حدثني سلام بن كركرة عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله ولم يشهد جابر خيبر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر، أذن لهم في لحوم الخيل.
وهذا الحديث أصله ثابت في الصحيحين من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي، عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في الخيل.
لفظ البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثنا عبد الله بن أبي نجيح عن مكحول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم يومئذ عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الاهلي، وعن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم.
وهذا مرسل.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق مولى تجيب عن حسن الصنعاني قال: غزونا مع رويفع بن ثابت الانصاري المغرب، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها جربة (1)، فقام فيها خطيبا فقال: أيها الناس، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماء زرع غيره، يعني إتيان الحبالى من السبي، لا
يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس يوما من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه (2).
وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق.
ورواه الترمذي عن حفص بن عمرو الشيباني عن ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ربيعة بن سليم عن بشر بن عبيدالله عن رويفع بن ثابت مختصرا.
وقال حسن.
وفي صحيح البخاري عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وعن أكل الثوم.
وقد حكى ابن حزم عن علي وشريك بن الحنبل أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النئ.
والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة فالله فأعلم.
وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في الصحيحين من طريق الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن
__________
(1) جربة: بالكسر: جزيرة بالمغرب من ناحية قابس (معجم البلدان).
(2) الخبر في سيرة ابن هشام 3 / 346.

لحوم الحمر الاهلية.
هذا لفظ الصحيحين من طريق مالك وغيره عن الزهري وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر وهو مشكل من وجهين: أحدهما أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة.
الثاني: أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة عن معبد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة حتى نهى عنها وقال: إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها ثم حرمت فيلزم النسخ مرتين وهو بعيد.
ومع هذا فقد نص الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم ثم أبيح ثم حرم غير نكاح المتعة وما حداه على هذا رحمه الله إلا اعتماده على هذين الحديثين كما قدمناه (1)...وقد حكى السهيلي وغيره عن بعضهم: أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات وحرمت ثلاث مرات وقال آخرون أربع مرات وهذا بعيد جدا والله أعلم.
واختلفوا أي وقت أول ما حرمت فقيل في خيبر وقيل في عمرة القضاء وقيل في عام الفتح وهذا يظهر وقيل في أوطاس وهو قريب من الذي قبله وقيل في تبوك وقيل في حجة الوداع.
رواه أبو داود.
وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي رضي الله عنه بأنه وقع فيه تقديم وتأخير وإنما المحفوظ فيه ما رواه الامام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد عن أبيهما - وكان حسن أرضاهما في أنفسهما - أن عليا قال لابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية زمن خيبر.
قالوا فاعتقدنا الراوي أن قوله خيبر ظرف للمنهى عنهما وليس كذلك، إنما هو ظرف للنهي عن لحوم الحمر، فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفا وإنما جمعه معه لان عليا رضي الله عنه بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة ولحوم الحمر الاهلية كما هو المشهور عنه، فقال له أمير المؤمنين علي: إنك امرؤ تائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الاهلية يوم خيبر، فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الاباحة.
وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته آمين.
ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب [ إليه ] من [ إباحة ] الحمر والمتعة، أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الاسفار، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان وقد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم ولم يزل ذلك مشهورا عن علماء الحجاز إلى زمن ابن جريج وبعده.
وقد حكي عن الامام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس وهي ضعيفة وحاول بعض من صنف في الحلال نقل رواية عن الامام بمثل ذلك ولا يصح أيضا والله أعلم.
وموضع تحرير ذلك في كتاب الاحكام وبالله المستعان.
__________
(1) بياض بالاصول بمقدار سطر.

قال ابن إسحاق: ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والاموال، فحدثني عبد الله بن
أبي بكر أنه حدثه بعض من أسلم: أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا شئ، فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال: اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست لهم قوة وأن ليس بيدي شئ أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غنى، وأكثرها طعاما وودكا.
فغدا الناس، ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه (1).
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح وحاز من الاموال ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم وكان آخر حصون خيبر افتتاحا فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشر ليلة.
قال ابن هشام: وكان شعارهم يوم خيبر: يا منصور أمت أمت (2).
قال ابن إسحاق: وحدثني بريدة بن سفيان الاسدي الاسلمي عن بعض رجال بني سلمة عن أبي اليسر كعب بن عمرو قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم، ونحن محاصروهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يطعمنا من هذه الغنم ؟ قال أبو اليسر: فقلت: أنا يا رسول الله قال: فافعل.
قال فخرجت أشتد مثل الظليم (3) فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا قال: اللهم أمتعنا به قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولها الحصن (4)، فأخذت شاتين من أخراها، فاحتضنتهما تحت يدي، ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شئ حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما فأكلوهما، فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا وكان إذا حدث الحديث بكى، ثم قال: امتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم (5).
وقال الحافظ البيهقي في الدلائل: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الاصبهاني، حدثنا أبو سعيد بن الاعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الاحول، عن أبي عثمان النهدي أو عن أبي قلابة قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر قدم والثمرة خضرة قال فأسرع الناس إليها، فحموا فشكوا ذلك إليه فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان (6) ثم يجرونه عليهم إذا أتى الفجر، ويذكرون اسم الله عليه، ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل.
قال البيهقي ورويناه عن
__________
(1) في مغازي الواقدي: حصن النطاة، وكان فيه خمسمائة مقاتل.
وفيه: الطعام والودك والماشية والمتاع (والودك: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه).
(2) الخبران في ابن هشام 3 / 347.
(3) الظليم: ذكر النعام.
(4) في الواقدي، كان ذلك خلال حصارهم حصن الصعب بن معاذ.
(5) الخبر في سيرة ابن هشام 3 / 350 ومغازي الواقدي: 2 / 660.
(6) يقرسوا: يبردوا.
الشنان: الاسقية الخلقة، وهي أشد تبريدا للماء من الجدد.

عبد الرحمن بن رافع موصولا وعنه بين صلاتي المغرب والعشاء (1).
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى وبهز قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا عبد الله بن مغفل قال: دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت لا أعطي أحدا منه شيئا، قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم (2).
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل قال: كنا نحاصر قصر خيبر فألقي إلينا جراب فيه شحم، فذهبت فأخذته فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة (3).
ورواه مسلم أيضا عن شيبان بن فروخ، عن عثمان بن المغيرة.
وقال ابن إسحق: وحدثني من لا اتهم عن عبد الله بن مغفل المزني قال: أصبت من فئ خيبر جراب شحم، قال: فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي، قال: فلقيني صاحب المغانم، الذي جعل عليها فأخذ بناحيته وقال: هلم حتى نقسمه بين المسلمين، قال: وقلت لا والله لا أعطيكه قال: وجعل يجاذبني الجراب قال: فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك فتبسم ضاحكا ثم قال لصاحب المغانم: خل بينه وبينه، قال: فأرسله فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.
وقد استدل الجمهور بهذا الحديث على الامام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود وما كان غلبهم عليه غيرهم من المسلمين لان الله تعالى قال: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال لكم.
قال وليس هذا من طعامهم فاستدلوا عليه
بهذا الحديث وفيه نظر وقد يكون هذا الشحم مما كان حلالا لهم والله أعلم.
وقد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس ويعضد ذلك ما رواه الامام أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قلت: كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل يجئ فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف.
تفرد به أبو داود وهو حسن (4).
ذكر قصة صفية بنت حيي النضرية كان من شأنها أنه لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير من المدينة كما تقدم، فذهب عامتهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب وبنو أبي الحقيق، وكانوا ذوي أموال وشرف في قومهم وكانت صفية إذ ذاك طفلة دون البلوغ، ثم لما تأهلت للتزويج تزوجها بعض بني عمها فلما زفت إليه، وأدخلت إليه بنى بها ومضى على ذلك ليالي رأت في منامها كأن قمر السماء قد سقط في حجرها فقصت رؤياها على ابن عمها فلطم وجهها وقال أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك.
فما
__________
(1) الخبران في الدلائل للبيهقي 4 / 242.
(2) رواه البخاري في باب غزوة خيبر.
ومسلم في الجهاد 25 باب ح 72.
(3) المصدر السابق.
(4) أخرجه أبو داود في الجهاد باب: النهي عن النهبى (ح: 2704) (ص: 3 / 66).

كان إلا مجئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصاره إياهم فكانت صفية في جملة السبي وكان زوجها في جملة القتلى.
ولما اصطفناها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت في حوزه وملكه كما سيأتي، وبنى بها بعد استبرائها وحلها، وجد أثر تلك اللطمة في خدها فسألها ما شأنها، فذكرت له ما كانت رأت من تلك الرؤيا الصالحة رضي الله عنها وأرضاها.
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
فخرجوا يسعون في السكك
فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبى الذرية، وكان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عتقها صداقها.
ورواه مسلم أيضا من حديث حماد بن زيد وله طرق عن أنس.
وقال البخاري: حدثنا آدم عن شعبة عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها.
قال ثابت لانس ما أصدقها ؟ قال: أصدقها نفسها، فأعتقها تفرد به البخاري من هذا الوجه (1).
وقال البخاري: حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، ح.
وحدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا ابن وهب، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن عمرو مولى المطلب عن أنس بن مالك قال: قدمنا خيبر فلما فتح صلى الله عليه وسلم الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قتل زوجها وكانت عروسا فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، فخرج بها حتى بلغ بها سد الصهباء حلت، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صنع حيسا في نطع صغير، ثم قال لي: آذن من حولك فكانت تلك وليمته على صفية.
ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب (2).
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته وما كان فيها من خبز ولحم وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالانطاع فبسطت فألقي عليها التمر والاقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه ؟ فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وان لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه.
فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب (3).
انفرد به البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية، عن
__________
(1) أخرجه البخاري عن مسدد في 8 كتاب الصلاة 11 ؟ باب ما يذكر في الفخذ.
ومسلم عن أبي الربيع عن حماد في 16 كتاب النكاح 13 باب فضيلة اعتاق أمته ثم يتزوجها.
(2) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 38 باب غزوة خيبر (ح: 4211).
(3) أخرجه في المغازي 38 باب (ح: 4213).

عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: جمع السبي - يعني بخيبر - فجاء دحية فقال: يا رسول الله اعطني جارية من السبي قال: اذهب فخذ جارية.
فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله أعطيت دحية قال يعقوب صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك.
قال: ادعوا بها فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال خذ جارية من السبي غيرها، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقها وتزوجها.
وأخرجاه من حديث ابن علية.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن خلاد الباهلي حدثنا بهز بن أسد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن أنس قال: وقع في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس ثم دفعها إلى أم سلمة تصنعها وتهيئها قال حماد: وأحسبه قال وتعتد في بيتها صفية بنت حيي.
تفرد به أبو داود.
قال ابن إسحاق: فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص، حصن بني أبي الحقيق، أتي بصفية بنت حيي بن أخطب وأخرى معها، فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت، وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعزبوا عني هذه الشيطانة.
وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال - - فيما بلغني حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال، حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ؟ وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا " إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا، فلطلم وجهها لطمة خضر عينها منها.
فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه، فسألها ما هذا، فأخبرته الخبر.
قال ابن إسحاق: وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل (1) من اليهود فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك ؟ قال: نعم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله عما بقي، فأبى أن يؤديه فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده.
وكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة (2).
فصل قال ابن إسحاق وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم حتى إذا
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 3 / 351.
(2) ذكره الواقدي واسمه: ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55