كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

دينار.
وفي يوم الخميس منها لعشر بقين من ربيع الآخر ولى المقتدر منصب القضاء أبا الحسين عمر بن الحسين بن علي الشيباني المعروف بابن الاشناني - وكان من حفاظ الحديث وفقهاء الناس - ولكنه عزل بعد ثلاثة أيام، وكان قبل ذلك محتسبا ببغداد.
وفيها عزل محمد بن عبد الصمد عن شرطة بغداد ووليها نازوك وخلع عليه.
وفيها في جمادى الآخرة فيها ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان في برج السنبلة.
وفي شعبان منها وصلت هدايا نائب مصر وهو الحسين بن المادراني، وفي جملتها بغلة معها فلوها، وغلام يصل لسانه إلى طرف أنفه.
وفيها قرئت الكتب على المنابر بما كان من الفتوح على المسلمين ببلاد الروم.
وفيها ورد الخبر بأنه انشق بأرض واسط في الارض في سبعة عشر موضعا
أكبرها طوله ألف ذراع، وأقلها مائتان ذراع، وأنه غرق من أمهات القرى ألف وثلثمائة قرية.
وحج بالناس إسحاق بن عبد الملك الهاشمي.
وممن توفي فيها من الاعيان..أبو بشر الدولابي محمد بن أحمد بن حماد أبو سعيد أبو بشر الدولابي (1)، مولى الانصار، ويعرف بالوراق، أحد الائمة من حفاظ الحديث، وله تصانيف حسنة في التاريخ وغير ذلك، وروى جماعة كثيرة.
قال ابن يونس: كان يصعق، توفي وهو قاصد الحج بين مكة والمدينة بالعرج (2) في ذي القعدة.
وفيها توفي: أبو جعفر بن جرير الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير (3) بن غالب الامام أبو جعفر الطبري، وكان مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين، وكان أسمر أعين مليح الوجه مديد القامة فصيح اللسان، روى الكثير عن الجم الغفير، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث، وصنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير، وغيرهما من المصنفات النافعة في الاصول والفروع.
ومن أحسن ذلك تهذيب الآثار ولو كمل لما احتيج معه إلى شئ، ولكان فيه الكفاية لكنه لم يتمه.
وقد روي عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة.
قال الخطيب البغدادي: استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته، وكان من أكابر أئمة العلماء، ويحكم بقوله ويرجع إلى معرفته وفضله، وكان
__________
(1) الدولابي: نسبة إلى الدولاب وهي قرية من أعمال الري، وبالاهواز قرية يقال لها الدولاب.
(2) العرج: بفتح العين وسكون الراء، وهي عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحج.
والعرج: قرية من نواحي الطائف.
قال ابن خلكان: ولا أعلم هل توفي الدولابي في العرج الاولى أم الثانية.
(3) في وفيات الاعيان 4 / 191: يزيد بن خالد وقيل يزيد بن كثير، وهو من أهل آمل - طبرستان .

قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات
كلها، بصيرا بالمعاني، فقيها في الاحكام، عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، عارفا بأيام الناس وأخبارهم.
وله الكتاب المشهور في تاريخ الامم والملوك، وكتاب التفسير لم يصنف أحد مثله.
وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه، إلا أنه لم يتمه (1).
وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات، وتفرد بمسائل حفظت عنه.
قال الخطيب: وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الاسفرائيني أنه قال: لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا، أو كما قال.
وروى الخطيب عن إمام الائمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره، ثم قال: ما أعلم على أديم الارض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة.
وقال محمد لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ - ولم يتفق له سماع من ابن جرير لان الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد - فقال ابن خزيمة: لو كتبت عنه لكان خيرا لك من كل من كتبت عنه.
قلت: وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات على أحسن الصفات، وكان من كبار الصالحين، وهو أحد المحدثين الذي اجتمعوا في مصر في أيام ابن طولون، وهم محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الائمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن جرير الطبري هذا.
وقد ذكرناهم في ترجمة محمد بن نصر المروزي، وكان الذي قام فصلى هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقيل محمد بن نصر، فرزقهم الله.
وقد أراد الخليفة المقتدر (2) في بعض الايام أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين العلماء، فقيل له: لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري، فطلب منه ذلك فكتب له، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده.
وقال له: سل حاجتك، فقال: لا حاجة لي.
فقال لا بد أن تسألني حاجة أو شيئا.
فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع، فأمر الخليفة بذلك.
وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان.
ومن شعره:
إذا أعسرت لم يعلم رفيقي (3) * وأستغني فيستغني صديقي حيائي حافظ لي ماء وجهي * ورفقي في مطالبتي رفيقي ولو أني سمحت ببذل وجهي * لكنت إلى الغنى سهل الطريق
__________
(1) وهو من عجائب كتبه ابتدأ بما رواه أبو بكر الصديق مما صح، وتكلم على كل حديث وعلته وطرقه وما فيه من الفقه واختلاف العلماء وحججهم واللغة.
(2) في تذكرة الحفاظ: 1 / 711: المكتفي.
(3) في الوفيات 4 / 192: شقيقي .

ومن شعره أيضا: خلقان لا أرضى طريقهما * بطر الغنى ومذلة الفقر فإذا غنيت فلا تكن بطرا * وإذا افتقرت فته على الدهر وقد كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الاحد بقيا من شوال من سنة عشر وثلثمائة.
وقد جاوز الثمانين بخمس سنين أو ست سنين، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ودفن في داره لان بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض، ومن الجلهة من رماه بلالحاد، وحاشاه من ذلك كله.
بل كان أحد أئمة الاسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض.
ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره ودفن بها، ومكث الناس يترددون إلى قبره شهروا يصلون عليه، وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين، وكتابا جمع فيه طريق حديث الطير.
ونسب إليه أنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب غسلهما، وقد اشتهر عنه هذا.
فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك، وينزهون أبا جعفر هذا عن هذه الصفات.
والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فلم يفهم كثير من الناس
مراده، ومن فهم مراده نقلوا عنه أنه يوجب الغسل والمسح وهو الدلك والله أعلم.
وقد رثاه جماعة من أهل العلم منهم ابن الاعرابي حيث يقول: حدث مفظع وخطب جليل * دق عن مثله اصطبار الصبور قام ناعي العلوم اجمع لما * قام ناعي محمد بن جرير فهوت أنجم لها زاهرات * مؤذنات رسومها بالدثور وتغشى ضياها النير الاش * راق ثوب الدجنة الديجور وغدا روضها الانيق هشيما * ثم عادت سهولها كالوعور يا أبا جعفر مضيت حميدا * غير وان في الجد والتشمير بين أجر على اجتهادك موفو * ر وسعي إلى التقى مشكور مستحقا به الخلود لدى جن * ة عدن في غبطة وسرور ولابي بكر بن دريد رحه الله فيه مرثاة طويلة (1)، وقد أوردها الخطيب البغدادي بتمامها.
والله سبحانه أعلم.
__________
(1) ومنها: تذكرة الحفاظ 1 / 715: إن المنية لم تتلف به رجلا * بل أتلفت علما للدين منصوبا كان الزمان به تصفو مشاربه * والآن أصبح بالتكدير مقطوبا

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلثمائة فيها دخل أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي أمير القرامطة في ألف وسبعمائة فارس إلى البصرة ليلا، نصب السلالم الشعر في سورها فدخلها قهرا وفتحوا أبوابها وقتلوا من لقوه من أهلها، وهرب أكثر الناس فألقوا أنفسهم في الماء فغرق كثير منهم، ومكث بها سبعة عشر يوما يقتل ويأسر من نسائها وذراريها، ويأخذ ما يختار من أموالها.
ثم عاد إلى بلده هجر، كلما بعث إليه الخليفة جندا من قبله فر هاربا وترك البلد خاويا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها عزل المقتدر عن الوزارة حامد بن
العباس وعلي بن عيسى وردها إلى أبي الحسن بن الفرات مرة ثالثة، وسلم إليه حامدا وعلي بن عيسى، فأما حامد فإن المحسن بن الوزير ضمنه من المقتدر بخمسمائة ألف ألف دينار، فتسلمه فعاقبه بأنواع العقوبات، وأخذ منه أموالا جزيلة لا تحصى ولا تعد كثرة، ثم أرسله مع موكلين عليه إلى واسط ليحتاطوا على أمواله، وحواصله هناك، وأمرهم أن يسقوه سما في الطريق فسقوه ذلك في بيض مشوي كان قد طلبه منهم، فمات في رمضان من هذه السنة.
وأما علي بن عيسى فإنه صودر بثلثمائة ألف دينار وصودر قوم آخرون من كتابه، فكان جملة ما أخذ من هؤلاء مع ما كان صودرت به القهرمانة من الذهب شيئا كثيرا جدا آلاف ألف من الدنانير، وغير ذلك من الاثاث والاملاك والدواب والآنية من الذهب والفضة.
وأشار الوزير ابن الفرات على الخليفة المقتدر بالله أن يبعد عنه مؤنس الخادم إلى الشام - وكان قد قدم من بلاد الروم من الجهاد، وقد فتح شيئا كثيرا من حصون الروم وبلدانهم، وغنم مغانم كثيرة جدا - فأجابه إلى ذلك، فسأل مؤنس الخليفة أن ينظره إلى سلخ شهر رمضان، وكان مؤنس قد أعلم الخليفة بما يعتمده ابن الوزير من تعذيب الناس ومصادرتهم بالاموال، فأمر الخليفة مؤنسا بالخروج إلى الشام.
وفيها كثر الجراد وأفسد كثيرا من الغلات.
وفي رمضان منها أمر الخليفة برد ما فضل من المواريث على ذوي الارحام.
وفي رمضان أحرق بالنار على باب العامة مائتين وأربعة أعدال من كتب الزنادقة، منها ما كان صنفه الحلاج وغيره، فسقط منها ذهب كثيرا كانت محلاة به.
وفيها اتخذ أبو الحسن بن الفرات الوزير مرستانا في درب الفضل وكان ينفق عليه من ماله في كل شهر مائتي دينار.
وفيها توفي من الاعيان..الخلال أحمد بن محمد بن هاون أبو بكر الخلال، صاحب الكتاب الجامع لعلوم الامام أحمد، ولم يصنف في مذهب الامام أحمد مثل هذا الكتاب، وقد سمع الخلال الحديث من الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وغيرهما توفي يوم الجمعة قبل الصلاة ليومين مضتا من هذه السنة.
أبو محمد الجريري أحد أئمة الصوفية أحمد بن محمد بن الحسين أبو محمد الجريري أحد كبار الصوفية، صحب

سريا السقطي، وكان الجنيد يكرمه ويحترمه.
ولما حضرت الجنيد الوفاة أوصى أن يجالس الجريري، وقد اشتبه على الجريري هذا شأن الحلاج فكان ممن أجمل القول فيه، على أن الجريري هذا مذكور بالصلاح والديانة وحسن الادب.
الزجاج صاحب معاني القرآن إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج، كان فاضلا دينا حسن الاعتقاد، وله المصنفات الحسنة، منها كتاب معني القرآن وغيره من المصنفات العديدة المفيدة، وقد كان أول أمره يخرط الزجاج فأحب علم النحو فذهب إلى المبرد، وكان يعطي المبرد كل يوم درهما، ثم استغنى الزجاج وكثر ماله ولم يقطع عن المبرد ذلك الدرهم حتى مات، وقد كان الزجاج مؤدبا للقاسم بن عبيد الله.
فلما ولي الوزارة كان الناس يأتونه بالرقاع ليقدمها إلى الوزير، فحصل له بسبب ذلك ما يزيد على أربعين ألف دينار.
توفي في جمادى الاولى منها.
وعنه أخذ أبو علي الفارسي النحوي، وابن القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، نسب إليه لاخذه عنه، وهو صاحب كتاب الجمل في النحو.
بدر مولى المعتضد وهو بدر الحمامي ويقال له بدر الكبير، كان في آخر وقت على نيابة فارس، ثم وليها من بعده ولده محمد.
حامد بن العباس الوزير استوزره المقتدر في سنة ست وثلثمائة، وكان كثير المال والغلمان، كثير النفقات كريما سخيا، كثير المروءة.
له حكايات تدل على بذله وإعطائه الاموال الجزيلة، ومع هذا كان قد جمع شيئا كثيرا، وجد له في مطمورة ألوف من الذهب، كان كل يوم إذا دخلها ألقى فيها ألف دينار، فلما امتلات طمها، فلما صودر دل عليه فاستخرجوا منها مالا كثيرا جدا، ومن أكبر مناقبه أنه كان من السعاة في قتل الحسين الحلاج كما ذكرنا ذلك.
توفي الوزير حامد بن العباس في رمضان منها
مسموما.
وفيها توفي عمر بن محمد بجير البجيري (1) صاحب الصحيح.
__________
(1) من تذكرة الحفاظ 1 / 719 وفي الاصل " بحتر البحتري ".
وهو أبو حفص الحافظ الامام، الهمذاني السمرقندي محدث ما وراء النهر.
ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
سمع عيسى بن حماد وبشر بن معاذ العقدي وغيرهما .

ابن خزيمة محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي، مولى محسن بن مزاحم الامام أبو بكر بن خزيمة الملقب بإمام الائمة، كان بحرا من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآفاق في الحديث وطلب العلم، فكتب الكثير وصنف وجمع، وكتابه الصحيح من أنفع الكتب وأجلها، وهو من المجتهدين في دين الاسلام، حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الشافعية عنه أنه قال: ما قلدت أحدا منذ بلغت ستة عشر سنة، وقد ذكرنا له ترجمة مطولة في كتابنا طبقات الشافعية.
وهو أحد المحمدين الذين أرملوا بمصر ثم رزقهم الله ببركة صلاته.
وقد ذكرنا نحو ذلك في ترجمة الحسن بن سفيان.
وفيها توفي محمد بن زكريا الطبيب (1) صاحب المصنف الكبير في الطب.
ثم دخلت سنة ثنتي عشرة وثلثمائة في المحرم منها اعترض القرمطي أبو طاهر الحسين بن أبي سعيد الجنابي لعنه الله، ولعن أباه.
للحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام، قد أدوا فرض الله عليهم، فقطع عليهم الطريق فقاتلوه دفعا عن أموالهم وأنفسهم وحريمهم، فقتل منهم خلقا كثيرا لا يعلمهم إلا الله، وأسر من نسائهم وأبنائهم ما اختاره، واصطفى من أموالهم ما أراد، فكان مبلغ ما أخذه من الاموال ما يقاوم ألف الف دينار، ومن الامتعة والمتاجر نحو ذلك، وترك بقية الناس بعد ما أخذ جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم على بعد الديار في تلك الفيافي والبرية بلا ماء ولا زاد ولا محمل.
وقد جاحف عن الناس نائب الكوفة أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان فهزمه وأسره.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان عدة
من مع القرمطي ثمانمائة مقاتل، وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة قصمه الله.
ولما انتهى خبرهم إلى بغداد قام نساؤهم وأهاليهم في النياحة ونشرن شعورهن ولطمن خدودهن، وانضاف إليهم نساء الذين نكبوا على يد الوزير وابنه، وكان ببغداد يوم مشهود بسبب ذلك في غاية البشاعة والشناعة، فسأل الخليفة عن الخبر فذكروا له أنهم نسوة الحجيج ومعهن نساء الذي صادرهم ابن الفرات، وجاءت على يد الحاجب نصر بن القشوري على الوزير فقال: يا أمير المؤمنين إنما استولى هذا القرمطي على ما استولى عليه بسبب إبعادك مؤنس الخادم المظفر، فطمع هؤلاء في الاطراف، وما أشار عليك بإبعاده إلا ابن الفرات، فبعث الخليفة إلى ابن الفرات يقول له: إن الناس يتكلمون فيك لنصحك إياي، وأرسل يطيب قلبه، فركب هو وولده إلى الخليفة فدخلا عليه فأكرمهما وطيب قلوبهما، فخرجا من عنده فنالهما أذى كثير من نصر الحاجب وغيره من كبار الامراء، وجلس الوزير في
__________
(1) قال صاحب العبر: كان مغنيا في صباه اشتغل بالطب بعد الاربعين من عمره صنف في الطب كتبا كثيرة منها: الحادي والجامع وكتاب الاعصاب.
طال عمره وعمي في آخر عمره (الوافي 3 / 75) .

دسته فحكم بين الناس كعادته، وبات ليلته تلك مفكرا في أمره.
وأصبح كذلك وهو ينشد: فأصبح لا يدري وإن كان حازما * أقدامه خير له أم داره ؟ (1) ثم جاءه في ذلك اليوم أميران (2) من جهة الخليفة فدخلا عليه داره إلى بين حريمه وأخرجوه مكشوفا رأسه وهو في غاية الذل والصغار، والاهانة والعار، فأركبوه في حراقة إلى الجانب الآخر.
وفهم الناس ذلك فرجموا ابن الفرات بالآجر، وتعطلت الجوامع وخربت العامة المحاريب، ولم يصل الناس الجمعة فيها، وأخذ خط الوزير بألفي (3) ألف دينار، وأخذ خط ابنه بثلاثة آلاف ألف دينار، وسلما إلى نازوك أمير الشرطة، فاعتقلا حينا حتى خلصت منهما الاموال، ثم أرسل الخليفة خلف مؤنس الخادم، فلما قدم سلمهما إليه فأهانهم غاية الاهانة بالضرب والتقريع له ولولده المجرم الذي ليس بمحسن، ثم قتلا بعد ذلك.
واستوزر عبد الله بن محمد بن عبيد الله (4) بن محمد بن يحيى بن خاقان أبو القاسم، وذلك في تاسع ربيع الاولى منها.
ولما دخل مؤنس بغداد دخل في تجمل عظيم
وشفع عند ابن خاقان في أن يرسل إلى علي بن عيسى - وكان قد صار إلى صنعاء اليمن مطرودا - فعاد إلى مكة وبعث إليه الوزير أن ينظر في أمر الشام ومصر، وأمر الخليفة مؤنس الخادم بأن يسير إلى الكوفة لقتال القرامطة، وأنفق على خروجه ألف ألف دينار، وأطلق القرمطي من كان أسره من الحجيج، وكانوا ألفي رجل وخمسمائة أمرأة، وأطلق أبا الهيجاء نائب الكوفة معهم أيضا، وكتب إلى الخليفة يسأل منه البصرة والاهواز فلم يجب إلى ذلك، وركب المظفر مؤنس في جحافل إلى بلاد الكوفة فسكن أمرها، ثم أنحدر منها إلى واسط واستناب على الكوفة ياقوت الخادم، فتمهدت الامور وانصلحت.
وفي هذه السنة ظهر رجل بين الكوفة وبغداد فادعى أنه محمد بن إسماعيل بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وصدقه على ذلك طائفة من الاعراب والطغام، والتفوا عليه وقويت شوكته في شوال، فأرسل إليه الوزير جيشا فقاتلوه فهزموه وقتلوا خلقا من أصحابه، وتفرق بقيتهم.
وهذا المدعي المذكور هو رئيس الاسماعيلية وهو أولهم.
وظفر نازوك صاحب الشرطة بثلاث من أصحاب الحلاج: وهم حيدرة، والشعراني، وابن منصور، فطالبهم بالرجوع عن اعتقادهم فيه فلم يرجعوا، فضرب رقابهم وصلبهم في الجانب الشرقي.
ولم يحج في هذه السنة أحد من أهل العراق لكثرة خوف الناس من القرامطة.
وفيها توفي من الاعيان..
__________
(1) في ابن الاثير 8 / 150: أم وراءه ؟ (2) نازوك وبليق بن (ابن الاثير).
(3) في ابن الاثير 8 / 150: ألف.
(4) من ابن الاثير ومروج الذهب والفخري، وفي الاصل عبد الله .

إبراهيم بن خميس أبو إسحاق الواعظ الزاهد.
كان يعظ الناس، فمن جملة كلامه الحسن قوله: يضحك القضاء من الحذر، ويضحك الاجل من الامل، ويضحك التقدير من التدبير، وتضحك القسمة
من الجهد والعناء.
علي بن محمد بن الفرات ولاه المقتدر الوزارة ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم قتله في هذه السنة، وقتل ولده، وكان ذا مال جزيل: ملك عشرة آلاف ألف دينار، وكان يدخل له من ضياعه كل سنة ألف (1) ألف دينار، وكان ينفق على خمسة آلاف من العباد والعلماء، تجري عليهم نفقات في كل شهر ما فيه كفايتهم، وكان له معرفة بالوزارة والحساب، يقال إنه نظر يوما في ألف كتاب، ووقع على ألف رقعة، فتعجب من حضره من ذلك، وكانت فيه مروءة وكرم وحسن سيرة في ولاياته، غير هذه المرة فإنه ظلم وغشم وصادر الناس وأخذ أموالهم، فأخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة، أخذ عزيز مقتدر.
وقد كان ذا كرم وسعة في النفقة، ذاكر عنده ذات ليلة أهل الحديث والصوفية وأهل الادب فأطلق من ماله لكل طائفة عشرين ألفا.
وكتب رجل على لسانه إلى نائب مصر كتابا فيه وصية به منه إليه، فلما دفع المكتوب إلى نائب مصر استراب منه وقال: ما هذا خط الوزير، وأرسل به إلى الوزير، فلما وقف عليه عرف أنه كذب وزور، فاستشار الحاضرين عنده فيما يفعل بالذي زور عليه، فقال بعضهم: تقطع يديه.
وقال آخر تقطع إبهاميه، وقال آخر يضرب ضربا مبرحا.
فقال الوزير: أو خير من ذلك كله ؟ ثم أخذ الكتاب وكتبه عليه: نعم هذا خطي وهو من أخص أصحابي، فلا تتركن من الخير شيئا مما تقدر عليه إلا أوصلته إليه.
فلما عاد الكتاب أحسن نائب مصر إلى ذلك الرجل إحسانا بالغا، ووصله بنحو من عشرين ألف دينار.
واستدعى ابن الفرات يوما ببعض الكتاب فقال له: ويحك إن نيتي فيك سيئة، وإني في كل وقت أريد أن أقبض عليك وأصادرك، فأراك في المنام تمنعني برغيف، وقد رأيتك في المنام من ليال، وإني أريد القبض عليك، فجعلت تمتنع مني، فأمرت جندي أن يقاتلوك، فجعلوا كلما ضربوك بشئ من سهام وغيرها تتقي الضرب برغيف في يدك، فلا يصل إليك شئ، فأعلمني ما قصة هذا الرغيف.
فقال: أيها الوزير إن أمي منذ كنت صغير كل ليلة تضع تحت وسادتي رغيفا، فإذا أصبحت تصدقت به عني، فلم يزل كذلك دأبها حتى ماتت.
فلما ماتت فعلت أنا ذلك مع نفسي، فكل ليلة أضع تحت
وسادتي رغيفا ثم أصبح فأتصدق به.
فعجب الوزير من ذلك وقال: والله لا ينالك مني بعد اليوم سوء أبدا، ولقد حسنت نيتي فيك، وقد أحببتك.
وقد أطال ابن خلكان ترجمته فذكر بعض ما أوردناه في ترجمته.
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 422: ألفي .

محمد بن محمد بن سليمان بن الحارث بن عبد الرحمن أبو بكر الازدي الواسطي، المعروف بالباغندي، سمع محمد بن عبد الله بن نمير، وابن أبي شيبة وشيبان بن فروخ، وعلي بن المديني، وخلقا من أهل الشام ومصر والكوفة والبصرة وبغداد، ورحل إلى الامصار البعيدة، وعني بهذا الشأن، واشتغل فيه فأفرط، حتى قيل إنه ربما سرد بعض الاحاديث بأسانيدها في الصلاة والنوم وهو لايشعر، فكانوا يسبحون به حتى يتذكر أنه في الصلاة، وكان يقول: أنا أجيب في ثلثمائة ألف مسألة من الحديث لا أتجاوزه إلى غيره.
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه فقال له: يا رسول الله أيما أثبت في الاحاديث منصور أو الاعمش ؟ فقال له: منصور.
وقد كان يعاب بالتدليس حتى قال الدار قطني: هو كثير التدليس، يحدث بما لم يسمع، وربما سرق بعض الاحاديث والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة قال ابن الجوزي: في ليلة بقيت من المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس، فأضاءت الدنيا منه وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد.
وفي صفر منها بلغ الخليفة أن جماعة من الرافضة يجتمعون في مسجد براثي فينالون من الصحابة ولا يصلون الجمعة، ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى محمد بن إسماعيل الذي ظهر بين الكوفة وبغداد، ويدعون أنه المهدي، ويتبرأون من المقتدر وممن تبعه.
فأمر بالاحتياط عليهم واستفتى العلماء بالمسجد فأفتوا بأنه مسجد ضرار، فضرب من قدر عليه منهم الضرب المبرح، ونودي عليهم.
وأمر بهدم ذلك المسجد المذكور فهدم، هدمه نازوك، وأمر الوزير الخاقاني فجعل مكانه مقبرة فدفن فيها جماعة من الموالي.
وخرج الناس للحج في ذي القعدة فاعترضهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي، فرجع أكثر الناس إلى بلدانهم، ويقال إن بعضهم سأل منه الامان ليذهبوا فأمنهم.
وقد قاتله جند الخليفة فلم يفد ذلك شيئا لتمرده وشدة بأسه، فانزعج أهل بغداد من ذلك، وترحل أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي خوفا منهم، ودخل القرمطي إلى الكوفة فأقام بها شهرا يأخذ من أموالها ونسائهم ما يختار.
قال ابن الجوزي: وكثر الرطب في هذه السنة ببغداد حتى بيع كل ثمانية أرطال بحبة، وعمل منه تمر وحمل إلى البصرة (1).
وعزل المقتدر وزيره الخاقاني (2) بعد أن ولاه سنة وستة أشهر ويومين، وولى مكانه أبا القاسم أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن الخطيب الخصيبي، لاجل مال بذله من جهة زوجة للحسن بن الفرات، وكان ذلك المال سبعمائة ألف دينار فأمر الخصيبي علي بن
__________
(1) زاد في الكامل 8 / 160: وواسط.
(2) قال صاحب الفخري: صودر وعزل ثم توفي في سنة 312 ه (ص 269) .

عيسى على أن يكون مشرفا على ديار مصر وبلاد الشام، وهو مقيم بمكة يسير إلى تلك البلاد في بعض الاوقات فيعمل ما ينبغي ثم يرجع إلى مكة.
وفيها توفي من الاعيان: علي بن عبد الحميد بن عبد الله بن سليمان أبو الحسن الغضائري (1)، سمع القواريري وعباسا العنبري، وكان من العباد الثقات.
قال: جئت يوما إلى السري السقطي فدققت عليه بابه فخرج إلى ووضع يده على عضادتي الباب وهو يقول: اللهم اشغل من شغلني عنك بك.
قال: فنالتني بركة هذه الدعوة فحججت على قدمي من حلب إلى مكة أربعين حجة ذاهبا وآيبا أبو العباس السراج الحافظ محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران بن عبد الله الثقفي مولاهم، أبو العباس السراج، أحد الائمة الثقات الحفاظ، مولده سنة ثمان عشرة ومائتين، سمع قتيبة وإسحاق بن راهويه وخلقا كثيرا من أهل خراسان وبغداد والكوفة والبصرة والحجاز، وقد حدث عنه البخاري ومسلم، وهما
أكبر منه وأقدم ميلادا ووفاة وله مصنفات كثيرة نافعة جدا، وكان يعد من مجابي الدعوة.
وقد رأى في منامه كأنه يرقى في سلم فصعد فيه تسعا وتسعين درجة، فما أولها على أحد إلا قال له: تعيش تسعا وتسعين سنة، فكان كذلك.
وقد ولد له ابنه أبو عمرو وعمره ثلاث وثمانون سنة.
قال الحاكم: فسمعت أبا عمرو يقول: كنت إذا دخلت المسجد على أبي والناس عنده يقول لهم: هذا عملته في ليلة ولي من العمر ثلاث وثمانون سنة.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة فيها كتب ملك الروم، وهو الدمستق لعنه الله، إلى أهل السواحل أن يحملوا إليه الخراج، فأبوا عليه فركب إليهم في جنوده في أول هذه السنة، فعاث في الارض فسادا، ودخل ملطية فقتل من أهلها خلقا وأسر وأقام بها ستة عشر يوما، وجاء أهلها إلى بغداد يستنجدون الخليفة عليه.
ووقع في بغداد حريق في مكانين، مات فيهما خلق كثير، وأحرق في أحدهما ألف دار ودكان، وجاءت الكتب بموت الدمستق ملك النصارى فقرئت الكتب على المنابر.
وجاءت الكتب من مكة أنهم في غاية الانزعاج بسبب اقتراب القرامطة إليهم وقصدهم إياهم، فرحلوا منها إلى الطائف وتلك النواحي.
وفيها هبت ريح عظيمة بنصيبين اقتلعت أشجارا كثيرة وهدمت البيوت.
قال ابن الجوزي: وفي يوم
__________
(1) الغضائري: نسبة إلى الغضار وهو الاناء الذي يؤكل فيه

الاحد لثمان مضين من شوال منها - وهو سابع كانون الاول - سقط ببغداد ثلج عظيم جدا حصل بسببه برد شديد، بحيث أتلف كثير من النخيل والاشجار، وجمدت الادهان حتى الاشربة، وماء الورد والخل والخلجان الكبار، ودجلة.
وعقد بعض مشايخ الحديث مجالسا للتحديث على متن دجلة من فوق الجمد، وكتب هنالك، ثم انكسر البرد بمطر وقع فأزال ذلك كله ولله الحمد.
وفيها قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد فاعتذر إليهم مؤنس الخادم بأن القرامطة قد قصدوا مكة، فرجعوا ولم يتهيأ الحج في هذه السنة من ناحية العراق بالكلية.
وفي ذي القعدة عزل الخليفة وزيره أبا العباس الخصيبي بعد سنة وشهرين، وأمر بالقبض عليه وحبسه، وذلك لاهماله أمر الوزارة والنظر في
المصالح، وذلك لاشتغاله بالخمر في كل ليلة فيصبح مخمورا لا تمييز له، وقد وكل الامور إلى نوابه فخانوا وعملوا مصالحهم، وولى أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني نيابة عن علي بن عيسى، حتى يقدم، ثم أرسل في طلب علي بن عيسى وهو بدمشق، فقدم بغداد في أبهة عظيمة (1)، فنظر في المصالح الخاصة والعامة، ورد الامور إلى السداد، وتمهدت الامور.
واستدعى بالخصيبي فتهدده ولامه وناقشه على ما كان يعتمده ويفعله في خاصة نفسه من معاصي الله عز وجل، وفي الامور العامة، وذلك بحضرة القضاة والاعيان.
ثم رده إلى السجن.
وفيها أخذ نصر بن أحمد الساماني الملقب بالسعيد بلاد الري وسكنها إلى سنة ست عشرة وثلثمائة.
وفيها غزت الصائفة من طرسوس بلاد الروم فغنموا وسلموا.
ولم يحج ركب العراق خوفا من القرامطة.
وفيها توفي من الاعيان سعد النوبي صاحب باب النوبي من دار الخلافة ببغداد في صفر، وأقيم أخوه مكانه في حفظ هذا الباب الذي صار ينسب بعد إليه.
ومحمد بن محمد الباهلي (2).
ومحمد بن عمر بن لبابة القرطبي (3).
ونصر بن القاسم الفرائضي الحنفي أبو الليث، سمع القواريري وكان ثقة عالما بالفرائض على مذهب أبي حنيفة، مقربا جليلا.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة في صفر منها كان قدوم علي بن عيسى الوزير من دمشق، وقد تلقاه الناس إلى أثناء الطريق، فمنهم من لقيه إلى الانبار، ومنهم دون ذلك.
وحين دخل إلى الخليفة خاطبه الخليفة فأحسن مخاطبته
__________
(1) قدم علي بغداد في أوائل سنة 315 (الكامل 8 / 164).
قال الفخري ص 273: لم تطل أيامه (الكلوذاني) فكانت وزارته مدة شهرين.
(2) وهو محمد بن محمد بن النفاح بن بدر، أبو الحسن، روى عن إسحاق بن أبي إسرائيل وطبقته توفي بمصر في ربيع الآخر.
(3) أبو عبد الله القرطبي، وفي الاصل القرمطي تحريف، وهو مفتي الاندلس، فقيه محدث أديب أخباري شاعر مؤرخ ولد سنة 225 ه، وروى عن أصبغ والعتبي وطبقتهما وتوفي في شعبان .

ثم انصرف إلى منزله فبعث الخليفة وراءه بالفرش والقماش وعشرين ألف دينار، واستدعاه من الغد فخلع عليه فأنشد وهو في الخلعة: ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها * فكيف ما انقلبت به انقلبوا يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت * يوما عليه بما لايشتهي وثبوا وفيها جاءت الكتب بأن الروم دخلوا شميساط وأخذوا جميع ما فيها، ونصبوا فيها خيمة الملك وضربوا الناقوس في الجامع بها، فأمر الخليفة مؤنس الخادم بالتجهيز إليهم، وخلع عليه خلعة سنية.
ثم جاءت الكتب بأن المسلمين وثبوا على الروم فقتلوا منهم خلقا كثيرا جدا فلله الحمد والمنة.
ولما تجهز مؤنس للمسير جاءه بعض الخدم فأعلمه أن الخليفة يريد أن يقبض عليه إذا دخل لوداعه، وقد حضرت له ريبة في دار الخلافة مغطاة ليقع فيها، فأحجم عن الذهاب.
وجاءت الامراء إليه من كل جانب ليكونوا معه على الخليفة، فبعث إليه الخليفة رقعة فيها خطه يحلف له أن هذا الامر الذي بلغه ليس بصحيح.
فطابت نفسه وركب إلى دار الخلافة في غلمانه، فلما دخل على الخليفة خاطبه مخاطبة عظيمة.
وحلف أنه طيب القلب عليه، وله عنده الصفاء الذي يعرفه.
ثم خرج من بين يديه معظما مكرما، وركب العباس بن الخليفة والوزير ونصر الحاجب في خدمته لتوديعه، وكبر الامراء بين يديه مثل الحجبة، وكان خروجه يوما مشهودا، قاصد بلاد الثغور لقتال الروم.
وفي جمادى الاولى منها قبض على رجل خناق قد قتل خلقا من النساء، وكان يدعي لهن أنه يعرف العطف والتنجيم، فقصده النساء لذلك فإذا انفرد بالمرأة قام إليها ففعل الفاحشة وخنقها بوتر وأعانته امرأته وحفر لها في داره فدفنها، فإذا امتلات تلك الدار من القتلى انتقل إلى دار أخرى.
ولما ظهر عليه وجد في داره التي هو فيها أخيرا سبع عشرة امرأة قد خنقهن، ثم تتبعت الدور التي سكنها فوجوده قد قتل شيئا كثيرا من النساء، فضرب ألف سوط ثم خنق حتى مات.
وفيها كان ظهور الديلم قبحهم الله ببلاد الري، وكان فيهم ملك غلب على أمرهم يقال له مرداويج، يجلس على سرير من ذهب وبين يديه سرير من فضة، ويقول: أنا سليمان بن داود.
وقد سار في أهل الري وقزوين وأصبهان سيرة قبيحة جدا، فكان يقتل النساء والصبيان في المهد، ويأخذ أموال الناس، وهو في غاية الجبروت
والشدة والجرأة على محارم الله عز وجل، فقتلته الاتراك وأراح الله المسلمين من شره.
وفيها كانت بين يوسف بن أبي الساج وبين أبي طاهر القرمطي عند الكوفة موقعة فسبقه إليها أبو طاهر فحال بينه وبينها، فكتب إليه يوسف بن أبي الساج: اسمع وأطع وإلا فاستعد للقتال يوم السبت تاسع شوال منها، فكتب: هلم.
فسار إليه، فلما تراءا الجمعان استقل يوسف جيش القرمطي، وكان مع يوسف بن أبي الساج عشرون ألفا، ومع القرمطي ألف فارس وخمسمائة رجل.
فقال يوسف: وما قيمة هؤلاء الكلاب ؟ وأمر الكاتب أن يكتب بالفتح إلى الخليفة قبل اللقاء، فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثباتا عظيما، ونزل القرمطي فحرض أصحابه وحمل بهم حملة صادقة، فهزموا جند الخليفة، وأسروا يوسف بن أبي الساج أمير الجيش، وقتلوا خلقا كثيرا من جند الخليفة، واستحوذوا على الكوفة،

وجاءت الاخبار بذلك إلى بغداد، وشاع بين الناس أن القرامطة يريدون أخذ بغداد، فانزعج الناس لذلك وظنوا صدقه، فاجتمع الوزير بالخليفة وقال: يا أمير المؤمنين إن الاموالا إنما تدخر لتكون عونا على قتال أعداء الله، وإن هذا الامر لم يقع أمر بعد زمن الصحابة أفظع منه، قد قطع هذا الكافر طريق الحج على الناس، وفتك في المسلمين مرة بعد مرة، وإن بيت المال ليس فيه شئ.
فاتق الله يا أمير المؤمنين وخاطب السيدة - يعني أمه - لعل أن يكون عندها شئ ادخرته لشدة، فهذا وقته.
فدخل على أمه فكانت هي التي ابتدأته بذلك، وبذلت له خمسمائة ألف دينار، وكان في بيت المال مثلها، فسلمها الخليفة إلى الوزير ليصرفها في تجهيز الجيوش لقتال القرامطة، فجهز جيشا أربعين ألف مقاتل مع أمير يقال له بليق، فسار نحوهم، فلما سمعوا به أخذو عليه الطرقات، فأراد دخول بغداد فلم يمكنه، ثم التقوا معه فلم يلبث بليق وجيشه أن انهزم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان يوسف بن أبي الساج معهم مقيدا في خيمة فجعل ينظر إلى محل الوقعة، فلما رجع القرمطي قال: أردت أن تهرب ؟ فأمر به فضربت عنقه.
ورجع القرمطي من ناحية بغداد إلى الانبار.
ثم انصرف إلى هيت فأكثر أهل بغداد الصدقة، وكذلك الخليفة وأمه والوزير شكرا لله على صرفه عنهم.
وفيها بعث المهدي المدعي أنه فاطمي ببلاد المغرب ولده أبا القاسم في جيش إلى بلاد منها، فانهزم جيشه
وقتل من أصحابه خلق كثير (1).
وفيها اختط المهدي المذكور مدينته المحمدية.
وفيها حاصر عبد الرحمن بن الداخل إلى بلاد المغرب الاموي مدينة طليطلة، وكانوا مسلمين، لكنهم نقضوا عهده ففتحها قهرا وقتل خلقا من أهلها.
وفيها توفي من الاعيان: ابن الجصاص الجوهري واسمه الحسين بن عبد الله بن الجصاص الجوهري أبو عبد الله البغدادي، كان ذا مال عظيم وثروة واسعة، وكان أصل نعمته من بيت أحمد بن طولون، كان قد جعله جوهريا له يسوق له ما يقع من نفائس الجواهر بمصر، فاكتسب بسبب ذلك أموالا جزيلة جدا.
قال ابن الجصاص: كنت يوما بباب ابن طولون إذ خرجت القهرمانة وبيدها عقد فيه مائة حبة من الجوهر، تساوي كل واحدة ألفي دينار.
قالت: أريد أن تأخذ هذا فتخرطه حتى يكون أصغر من هذا الحجم.
فإن هذا نافر عما يريدونه.
فأخذته منها وذهبت به إلى منزلي وجعلت جواهر أصغر منه تساوي أقل من عشر قيمة تلك بكثير، فدفعتها إليها وفزت أنا بذلك الذي جاءت به، وأرادت خرطه وإتلافه.
فكانت قيمته مائتي ألف دينار.
واتفق أنه صودر في أيام المقتدر مصادرة عظيمة، أخذ منه فيها ما يقاوم ستة عشر ألف
__________
(1) قال ابن الاثير في الكامل 8 / 179: فلما خرج تفرق الاعداء، وسار حتى وصل إلى ما وراء تاهرت (وكان قد سار من المهدية) .

ألف دينار (1)، وبقي معه من الاموال شئ كثير جدا.
قال بعض التجار: دخلت عليه فوجدته يتردد في منزله كأنه مجنون، فقلت له: ما لك هكذا ؟ فقال: ويحك، أخذ مني كذا وكذا فأنا أحس أن روحي ستخرج، فعذرته ثم أخذت في تسليته فقلت له: إن دورك وبساتينك وضياعك الباقية تساوي سبعمائة ألف دينار، وأصدقني كم بقي عندك من الجواهر والمتاع ؟ فإذا شئ يساوي ثلثمائة ألف دينار غير ما بقي عنده من الذهب والفضة المصكوكة.
فقلت له: إن هذا أمر لا يشاركك فيه أحد من التجار ببغداد، مع مالك من الوجاهة عند الدولة والناس.
قال: فسرى عنه وتسلى عما
فات وأكل - وكان له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا - ولما خلص في مصادرة المقتدر بشفاعة أمه السيدة فيه حكى عن نفسه قال: نظرت في دار الخلافة إلى مائة خيشة، فيها متاع رث مما حمل إلى من مصر، وهو عندهم في دار مضيعة وكان لي في حمل منها ألف دينار موضوعة في مصر لا يشعر بها أحد، فاستوهبت ذلك من أم المقتدر فكلمت في ذلك ولدها فأطلقه إلى فتسلمته فإذا الذهب لم ينقص منه شئ.
وقد كان ابن الجصاص مع ذلك مغفلا شديد التغفل في كلامه وأفعاله، وقد ذكر عنه أشياء تدل على ذلك، وقيل إنه إنما كان يظهر ذلك قصدا ليقال إنه مغفل، وقيل إنه كان يقول ذلك على سبيل البسط والدعابة والله سبحانه أعلم وفيها توفي عبد الله بن محمد القزويني (2).
علي بن سليمان بن المفضل أبو الحسن الاخفش، روى عن المبرد وثعلب واليزيدي وغيرهم، وعنه الروياني والمعافا وغيرهما.
وكان ثقة في نقله، فقيرا في ذات يده، توصل إلى أبي علي بن مقلة حتى كلم فيه الوزير علي بن عيسى في أن يرتب له شيئا فلم يجبه إلى ذلك، وضاق به الحال حتى كان يأكل اللفت النئ فمات فجأة من كثرة أكله في شعبان منها.
وهذا هو الاخفش الصغير، والاوسط هو سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه.
وأما الكبير فهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، من أهل هجر، وهو شيخ سيبويه وأبي عبيد وغيرهما.
وقيل إن أبا بكر محمد بن السري السراج النحوي صاحب الاصول في النحو فيها مات.
قاله ابن الاثير.
ومحمد بن المسيب الارغياني (3).
__________
(1) راجع احداث سنة 302 ه وقد تقدمت الملاحظة هناك.
(2) أبو القاسم، الفقيه قاضي دمشق ثم قاضي الرملة روى عن يونس بن عبد الاعلى وطبقته، كان له حلقة بمصر للفتوى، قال ابن يونس: خلط ووضع أحاديث.
وقال في المغني: كذبه الدار قطني.
(3) شيخ نيسابور الحافظ الجوال الزاهد المفضال روى عن محمد بن رافع وبندار ومحمد بن هاشم البعلبكي.
عاش 92 سنة قال ابن ناصر الدين: كان من العباد المجتهدين .

ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة فيها عاث أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي في الارض فسادا، حاصر الرحبة فدخلها قهرا وقتل من أهلها خلقا، وطلب منه أهل قرقيسيا الامان فأمنهم، وبعث سراياه إلى ما حولها من الاعراب فقتل منهم خلقا، حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه، وقدر على الاعراب إمارة يحملونها إلى هجر في كل سنة، عن كل رأس ديناران (1).
وعاث في نواحي الموصل فسادا، وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب.
فقصده مؤنس الخادم فلم يتواجها بل رجع إلى بلده هجر فابتنى بها دارا سماها دار الهجرة (2)، ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية.
وتفاقم أمره وكثرت أتباعه فصاروا يكبسون القرية من أرض السواد فيقتلون أهلها وينهبون أموالها، ورام في نفسه دخول الكوفة وأخذها فلم يطق ذلك.
ولما رأى الوزير علي بن عيسى ما يفعله هذا القرمطي في بلاد الاسلام، وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه عنه، وعزل نفسه منها، فسعى فيها علي بن مقلة الكاتب المشهور، فوليها بسفارة نصر الحاجب والي عبد الله البريدي - بالباء الموحدة - من البريد، ويقال اليزيدي لخدمة جده يزيد بن منصور الجهيري.
ثم جهز الخليفة جيشا كثيفا مع مؤنس الخادم (3) فاقتتلوا مع القرامطة فقتلوا من القرامطة خلقا كثيرا، وأسروا منهم طائفة كثيرة من أشرافهم، ودخل بهم مؤنس الخادم بغداد ومعه أعلام من أعلامهم منكسة مكتوب عليها (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض) الآية [ القصص: 5 ].
ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، وطابت أنفس البغاددة، وانكسر القرامطة الذين كانوا قد نشأوا وفشوا بأرض العراق، وفوض القرامطة أمرهم إلى رجل يقال له حريث بن مسعود، ودعوا إلى المهدي الذي ظهر ببلاد المغرب جد الفاطميين، وهم أدعياء كذبة، كما قد ذكر ذلك غير واحد من العلماء.
كما سيأتي تفصيله وبيانه في موضعه.
وفيها وقعت وحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر، وسبب ذلك أن نازوكا أمير الشرطة وقع بينه وبين هارون بن غريب - وهو ابن خال المقتدر - فانتصر هارون على نازوك وشاع بين العامة أن هارون سيصير أمير الامراء.
فبلغ ذلك مؤنس الخادم وهو بالرقة فأسرع الاوبة إلى بغداد، واجتمع بالخليفة فتصالحا.
ثم إن الخليفة نقل هارون إلى دار الخلافة فقويت الوحشة بينهما، وانضم إلى مؤنس جماعة من الامراء وترددت الرسل بينهما، وانقضت هذه السنة والامر كذلك.
وهذا كله من ضعف الامور واضطرابها وكثرة الفتن وانتشارها.
وفيها كان مقتل الحسين (4) بن القاسم الداعي العلوي صاحب الري على يد
__________
(1) في الكامل 8 / 181: دينار.
(2) بناها حريث بن مسعود (قاله ابن الاثير 8 / 187).
(3) في الكامل 8 / 187: فسير المقتدر هارون بن غريب إلى حريث، وصافيا البصري إلى عيسى بن موسى.
فهزمهم هارون وصافي..(انظر تاريخ أخبار القرامطة لابن العديم ص 53).
(4) في الكامل: 8 / 189: الحسن.
(انظر مروج الذهب 4 / 347) .

صاحب الديلم وسلطانهم مرداويج المجرم قبحه الله.
وفيها توفي من الاعيان..بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد أبو الحسن الزاهد، ويعرف بالحمال، وكانت له كرامات كثيرة، وله منزلة كبيرة عند الناس، وكان لا يقبل من السلطان شيئا، وقد أنكر يوما على ابن طولون شيئا من المنكرات وأمره بالمعروف، فأمر به فالقي بين يدي الاسد فكان الاسد يشمه ويحجم عنه، فأمر برفعه من بين يديه وعظمه الناس جدا، وسأله بعض الناس عن حاله حين كان بين يدي الاسد فقال له: لم يكن علي بأس.
قد كنت أفكر في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه هل هو طاهر أم نجس.
قالوا: وجاءه رجل فقال له: إن لي على رجل مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة، وأنا أخشى أن ينكر الرجل، فأسألك أن تدعو لي بأن يرد الله علي الوثيقة.
فقال بنان: إني رجل قد كبرت سني ورق عظمي، وأنا أحب الحلواء، فاذهب فاشتر لي منها رطلا وأتني به حتى أدعو لك.
فذهب الرجل فاشترى الرطل ثم جاء به إليه ففتح الورقة التي فيها الحلواء فإذا هي حجته بالمائة دينار.
فقال له: أهذه حجتك ؟
قال: نعم.
قال: خذ حجتك وخذ الحلواء فأطعمها صبيانك.
ولما توفي خرج أهل مصر في جنازته تعظيما له وإكراما لشأنه.
وفيها توفي محمد بن عقيل البلخي (1).
وأبو بكر بن أبي داود السجستاني الحافظ بن الحافظ.
وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الاسفرائيني، صاحب الصحيح المستخرج على مسلم، وقد كان من الحفاظ المكثرين، والائمة المشهورين.
ونصر الحاجب، كان من خيار الامراء، دينا عاقلا، أنفق من ماله في حرب القرامطة مائة ألف دينار.
وخرج بنفسه محتسبا فمات في أثناء الطريق في هذه السنة.
وكان حاجبا للخليفة المقتدر.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة فيها كان خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد بالله: في المحرم منها اشتدت الوحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر بالله، وتفاقم الحال وآل إلى أن اجتمعوا على خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافة وسلموا عليه بها، ولقبوه القاهر بالله.
وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقلد علي بن مقلة وزارته، ونهبت دار المقتدر، وأخذوا منها شيئا كثيرا جدا،
__________
(1) أبو عبد الله الازهري البلخي شيخ بلخ ومحدثها سمع علي بن خشرم وعباد بن الوليد الغبري وطبقتهما.
كان حسن الحديث (الوافي 4 / 97) .

وأخذوا لام المقتدر خمسمائة ألف دينار - وكانت قد دفنتها في قبر في تربتها - فحملت إلى بيت المال، وأخرج المقتدر وأمه وخالته وخواصه وجواريه من دار الخلافة، وذلك بعد محاصرة دار الخلافة، وهرب من كان بها من الحجبة والخدم، وولى نازوك الحجوبة مضافا إلى ما بيده من الشرطة، وألزم المقتدر بأن كتب على نفسه كتابا بالخلع من الخلافة وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الامراء والاعيان، وسلم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فقال لولده الحسين: احتفظ بهذا الكتاب فلا يرينه أحد من خلق الله.
ولما أعيد المقتدر إلى الخلافة بعد يومين رده إليه، فشكره على ذلك جدا وولاه قضاء القضاة.
فلما كان يوم الاحد السادس عشر من المحرم جلس القاهر بالله في منصب
الخلافة، وجلس بين يديه الوزير أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العمال بالآفاق يخبرهم بولاية القاهر بالخلافة عوضا عن المقتدر، وأطلق علي بن عيسى من السجن، وزاد في أقطاع جماعة من الامراء الذين قاموا بنصره، منهم أبو الهيجاء بن حمدان.
فلما كان يوم الاثنين جاء الجند وطلبوا أرزاقهم وشغبوا، وبادروا إلى نازوك فقتلوه، وكان مخمورا، ثم صلبوه.
وهرب الوزير ابن مقلة، وهرب الحجاب ونادوا يا مقتدر يا منصور، ولم يكن مؤنس يومئذ حاضرا، وجاء الجند إلى باب مؤنس يطالبونه بالمقتدر، فأغلق بابه دونهم وجاحف دونه خدمه.
فلما رأى مؤنس أنه لابد من تسليم المقتدر إليهم أمره بالخروج، فخاف المقتدر أن يكون حلية عليه، ثم تجاسر فخرج فحمله الرجال على أعناقهم حتى أدخلوه دار الخلافة، فسأل عن أخيه القاهر وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتب لهما أمانا، فما كان عن قريب حتى جاءه خادم ومعه رأس أبي الهيجاء قد احترز رأسه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلسه بين يديه واستدعاه إليه، وقبل بين عينيه، وقال: يا أخي أنت لا ذنب لك، وقد علمت أنك مكره مقهور.
والقاهر يقول: الله الله ! نفسي يا أمير المؤمنين.
فقال: وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جرى عليك مني سوء أبدا.
وعاد ابن مقلة فكتب إلى الآفاق يعلمهم بعود المقتدر إلى الخلافة، وتراجعت الامور إلى حالها الاول، وحمل رأس نازوك وأبي الهيجاء ونودي عليهما: هذا رأس من عصى مولاه وهرب أبو السرايا بن حمدان إلى الموصل، وكان ابن نفيس من أشد الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافة خرج من بغداد متنكرا فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحق بالقسطنطينية فتنصر بها مع أهلها وأما مؤنس فإنه لم يكن في الباطن على المقتدر، وإنما وافق جماعة الامراء مكرها، ولهذا لما كان المقتدر في داره لم ينله منه ضيم، بل كان يطيب قلبه، ولو شاء لقتله لما طلب من داره.
فلهذا لما عاد المقتدر إلى الخلافة رجع إلى دار مؤنس فبات بها عنده، لثقته به.
وقرر أبا علي بن مقلة على الوزارة، وولى محمد بن يوسف قضاء القضاة، وجعل محمد أخاه - وهو القاهر - عند والدته بصفة محبوس عندها، فكانت تحسن إليه غاية الاحسان، وتشتري له السراري وتكرمه غاية الاكرام.

ذكر أخذ القرامطة الحجر الاسود إلى بلادهم فيها خرج ركب العراق وأمير هم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا كثيرا، وجلس أمير هم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الايام، وهو يقول: أنا الله وبالله، أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا.
فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئا.
بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك: ترى المحبين صرعى في ديارهم * كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الافاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيرا منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام.
ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصل عليهم لانهم محرمون شهداء في نفس الامر.
وهدم قبة زمزم وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلا أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات إلى النار.
فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الاسود فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الابابيل، أين الحجارة من سجيل ؟ ثم قلع الحجر الاسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم (1)، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه، كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الاسود وتبعه أمير مكة (2) هو وأهل بيته وجنده وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الاسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الاموال فلم يلتفت
إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته، وأهل مكة وجنده (3) واستمر ذاهبا إلى
__________
(1) قال صاحب تاريخ أخبار القرامطة: فوضعه على سبعين جمل فسيرهم به وهم يضرطون من ثقله إلى هجر (ص 54).
(2) وهو ابن محلب (الكامل 8 / 207 وتاريخ أبي الفدا 2 / 74) وفي مآثر الاناقة 1 / 279: بذل له بجكم التركي أحد امراء المقتدر خمسين ألف دينار فما فعل.
(3) في الجوهر الثمين 169: يقال قتل بمكة قريبا من ثلاثين ألفا .

بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج.
وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادا لم يسبقه إليه أحدا ولا يلحقه فيه، وسيجاريه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.
وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أمير هم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح.
وقد كان صباغا بسلمية، وكان يهوديا فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدينة سجلماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه، ويترامون عليه، ويقال إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له.
وذكر ابن الاثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، وأمره برد ما أخذه منها، وعوده إليها.
فكتب إليه بالسمع والطاعة، وأنه قد قبل ما أشار إليه من ذلك.
وقد أسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة، فمكث في أيديهم مدة، ثم فرج الله عنه، وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم وعدم دينهم، وأن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمة وأشدها وكان يعربد عليه إذا سكر.
فقال لي ذات ليلة وهو سكران: ما تقول في محمدكم ؟ فقلت: لا أدري.
فقال: كان سائسا.
ثم قال: ما تقول في أبي بكر ؟ فقلت: لا أدري.
فقال: كان ضعيفا مهينا.
وكان عمر فظا غليظا.
وكان عثمان جاهلا أحمق.
وكان علي ممخرقا ليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم، أما كان يمكنه أن يعلم هذا كلمة وهذا كلمة ؟.
ثم قال: هذا كله مخرقة.
فلما كان من الغد قال: لا تخبر بهذا الذي قلت لك أحدا.
ذكره ابن الجوزي في منتظمه.
وروي عن بعضهم أنه قال: كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف، فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال: يا حمير، - ورفع صوته بذلك - أليس قلتم في بيتكم هذا (ومن دخله كان آمنا) [ آل عمران: 97 ] فأين الامن ؟ قال: فقلت له: اسمع جوابك.
قال: نعم.
قلت: إنما أراد الله: فأمنوه.
قال فثنى رأسه فرسه وانصرف.
وقد سأل بعضهم ههنا سؤالا.
فقال: قد أحل الله سبحانه بأصحاب الفيل - وكانوا نصارى - ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئا مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الاصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلا عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل ؟ وقد أجيب عن ذلك بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهارا لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعا عاجلا، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه لانكرت القلوب فضله.
وأما هؤلاء

القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرام إلحادا بالغا عظيما، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الابصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " (1) ثم قرأ قوله تعالى (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار) [ إبراهيم:
42 ] وقال (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد.
متاع قليل ثم مأواهم جنهم وبئس المهاد) [ آل عمران: 196 ] وقال (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) [ لقمان: 24 ] وقال: (متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) [ يونس: 70 ].
وفيها وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي، وبين طائفة من العامة، اختلفوا في تفسير قوله تعالى (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) [ الاسراء: 79 ] فقالت الحنابلة: يجلسه معه على العرش.
وقال الآخرون: المراد بذلك الشفاعة العظمى، فاقتتلوا بسبب ذلك وقتل بينهم قتلى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد ثبت في صحيح البخاري أن المراد بذلك مقام الشفاعة العظمى، وهي الشفاعة في فصل القضاء بين العباد، وهو المقام الذي يرغب إليه في الخلق كلهم، حتى إبراهيم، ويغبطه به الاولون والآخرون.
وفيها وقعت فتنة بالموصل بين العامة فيما يتعلق بأمر المعاش، وانتشرت وكثر أهل الشر فيها واستظهروا، وجرت بينهم شرورو ثم سكنت.
وفيها وقعت فتنة ببلاد خراسان بين بني ساسان وأمير هم نصر بن أحمد الملقب بسعيد (2)، وخرج في شعبان خارجي بالموصل (3).
وخرج آخر بالبوازيج (4)، فقاتلهم أهل تلك الناحية حتى سكن شرهم وتفرق أصحابهم.
وفيها التقى مفلح الساجي وملك الروم الدمستق، فهزمه مفلح وطرد وراءه إلى أرض الروم، وقتل منهم خلقا كثيرا وفيها هبت ريح شديدة ببغداد تحمل رمادا أحمر يشبه رمل أرض الحجاز.
فامتلات منه البيوت.
وفيها توفي من الاعيان: أحمد بن الحسن بن الفرج بن سفيان (5) أبو بكر النحوي، كان عالما بمذهب الكوفيين وله فيه تصانيف.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير - تفسير سورة (11) باب (5).
ومسلم في البر والصلة ح (62) والترمذي في التفسير - تفسير سورة (8) باب (6).
(2) قال ابن الاثير 8 / 208: الصحيح ان ذلك كان سنة 318 ه.
(3) ويعرف بابن مطر قاتله وأسره ناصر الدولة بن حمدان (الكامل 8 / 214).
(4) وهو محمد بن صالح.
(5) في ابن الاثير 8 / 215: ابن سقير .

أحمد بن مهدي بن رستم (1) العابد الزاهد أنفق في طلب العلم ثلثمائة ألف درهم، ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش.
وقد روى الحافظ أبو نعيم عنه أنه جاءته امرأة ذات ليلة فقالت له: إني قد امتحنت بمحنة وأكرهت على الزنا وأنا حبلى منه، وقد تسترت بك وزعمت أنك زوجي، وان هذا الحمل منك، فاسترني سترك الله ولا تفضحني.
فسكت عنها، فلما وضعت جاءني أهل المحلة وإمام مسجدهم يهنئونني بالولد، فأظهرت البشر وبعث فاشتريت بدينارين شيئا من حلوا وأطعمتهم، وكنت أوجه إليها مع إمام المسجد في كل شهر دينارين صفة نفقة المولود، وأقول: أقرئها مني السلام، فإنه قد سبق مني ما فرق بيني وبينها.
فمكث كذلك سنتين، ثم مات الولد فجاؤوني يعزونني فيه، فأظهرت الحزن عليه، ثم جاءتني أمه بالدنانير التي كنت أرسل بها إليها نفقة الولد، قد جمعتها في صرة عندها، فقالت لي: سترك الله وجزاك خيرا، وهذه الدنانير التي كنت ترسل بها.
فقلت: إني كنت أرسل بها صلة للولد وقد مات وأنت ترثينه فهي لك، فافعلي بها ما شئت فدعت وانصرفت.
بدر بن الهيثم ابن خلف بن خالد بن راشد بن الضحاك بن النعمان بن محرق بن النعمان بن المنذر، أبو القاسم البلخي القاضي الكوفي.
نزل بغداد وحدث بها عن أبي كريب وغيره، وكان سماعه للحديث بعد ما جاوز أربعين سنة، وكان ثقة نبيلا، عاش مائة سنة وسبع عشرة سنة.
توفي في شوال منها بالكوفة عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ابن المرزبان بن سابور بن شاهنشاه أبو القاسم البغوي، ويعرف بابن بنت منيع، ولد سنة ثلاثة عشرة، وقيل أربع (1) عشرة ومائتين ورأى أبا عبيد القاسم بن سلام، ولم يسمع منه، وسمع من أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وعلي بن الجعد، وخلف بن هاشم البزار،
وخلق كثير، وكان معه جزء فيه سماعه من ابن معين فأخذه موسى بن هارون الحافظ فرماه في دجلة، وقال: يريد أن يجمع بين الثلاثة ؟ وقد تفرد عن سبع وثمانين شيخا، وكان ثقة حافظا ضابطا، روى عن الحفاظ وله مصنفات.
وقال موسى بن هارون الحافظ: كان ابن بنت منيع ثقة صدوقا، فقيل له: إن ههنا ناسا يتكلمون فيه.
فقال: يحسدونه، ابن بنت منيع لا يقول إلا الحق.
وقال ابن أبي حاتم وغيره: أحاديثه تدخل في الصحيح.
وقال الدار قطني: كان البغوي قل ما يتكلم على
__________
(1) من تذكرة الحفاظ 1 / 597، وفي الاصل رسيم.
قال الذهبي مات سنة 272.
(انظر الوافي 8 / 199).
(2) في الاصل أربعة والصواب ما أثبتناه .

الحديث، فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار في الساج.
وقد ذكره ابن عدي في كامله فتكلم فيه، وقال: حدث بأشياء أنكرت عليه.
وكان معه طرف من معرفة الحديث والتصانيف، وقد انتدب ابن الجوزي للرد على ابن عدي في هذا الكلام، وذكر أنه توفي ليلة عيد الفطر منها، وقد استكمل مائة سنة وثلاث سنين وشهورا، وهو مع ذلك صحيح السمع والبصر والاسنان، يطأ الاماء.
توفي ببغداد ودفن بمقبرة باب التبن.
رحمه الله وأكرم مثواه.
محمد بن أبي الحسين بن محمد بن عثمان الشهيد الحافظ أبو الفضل الهروي، يعرف بابن أبي سعد، قدم بغداد وحدث بها عن محمد بن عبد الله الانصاري.
وحدث عنه ابن المظفر الحافظ، وكان من الثقات الاثبات الحفاظ المتقنين، له مناقشات على بضعة عشر حديثا من صحيح مسلم، قتلته القرامطة يوم التروية بمكة في هذه السنة في جملة من قتلوا، رحمه الله وأكرم مثواه.
الكعبي المتكلم هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي المتكلم، نسبة إلى بني كعب، وهو أحد مشايخ المعتزلة، وتنسب إليه الطائفة الكعبية منهم.
قال ابن خلكان: كان من كبار المتكلمين، وله اختيارات في علم الكلام.
من ذلك أنه كان يزعم أن أفعال الله تقع بلا اختيار منه
ولا مشيئة.
قلت: وقد خالف الكعبي نص القرآن في غير ما موضع.
قال تعالى (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [ القصص: 68 ] وقال: (ولو شاء ربك ما فعلوه) (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) [ الانعام: 112 ] (ولو أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها) الآية [ السجدة: 13 ].
وغيرها مما هو معلوم بالضرورة وصريح العقل والنقل.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثلثمائة فيها عزل الخليفة المقتدر وزيره أبا علي بن مقلة، وكانت مدة وزارته سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيام، واستوزر مكانه سليمان بن الحسن بن مخلد، وجعل علي بن عيسى ناظرا معه.
وفي جمادى الاولى منها أحرقت دار أبي علي بن مقلة، وكان قد أنفق عليها مائة ألف دينار، فانتهب الناس أخشابها وما وجدوا فيها من حديد ورصاص وغيره، وصادره الخليفة بمائتي ألف دينار.
وفيها طرد الخليفة الرجالة الذين كانوا بدار الخلافة عن بغداد، وذلك أنه لما رد المقتدر إلى الخلافة شرعوا ينفسون بكلام كثير عليه، ويقولون: من أعان ظالما سلطه الله عليه.
ومن أصعد الحمار على السطح

لم يقدر أن ينزله (1).
فأمر بإخراجهم ونفيهم عن بغداد، ومن أقام منهم عوقب.
فأحرقت دور كثيرة من قراباتهم، واحترق بعض نسائهم وأولادهم، فخرجوا منها في غاية الاهانة، فنزلوا واسط وتغلبوا عليها وأخرجوا عاملها منها، فركب إليهم مؤنس الخادم فأوقع بهم بأسا شديدا، وقتل منهم خلقا كثيرا، فلم يقم لهم بعد ذلك قائمة.
وفي ربيع الاول منها عزل الخليفة ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل، وولى عليها عميه سعيدا ونصرا ابنا حمدان.
وولاه ديار ربيعة: نصيبين وسنجار ورأس العين، ومعها ميافارقين وازرن (2)، ضمن ذلك من الخليفة بمال يحمله إليه في كل سنة.
وفي جمادى الاولى منها خرج رجل ببلاد البوازيج يقال له صالح بن محمود، فاجتمع عليه جماعة من بني مالك، ثم سار إلى سنجار فحاصرها فدخلها وأخذ شيئا كثيرا من أموالها، وخطب بها خطبة ووعظ فيها وذكر، فكان في جملة ما قال: نتولى الشيخين، ونتبرأ من الخبيثين (3)، ولا نرى المسح على الخفين.
ثم سار فعاث في الارض فسادا.
فانتدب له نصر بن حمدان فقاتله فأسره ومعه ابنان له.
فحمل إلى
بغداد فدخلها وقد اشتهر شهرة فظيعة.
وخرج آخر (4) ببلاد الموصل فاتبعه ألف رجل، فحاصر أهل نصيبين فخرجوا إليه فاقتتلوا معه، فقتل منهم مائة وأسر ألفا، ثم باعهم نفوسهم وصادر أهلها بأربعمائة ألف درهم، فانتدب إليه ناصر الدولة فقاتله فظفر به وأسره وأرسله إلى بغداد أيضا.
وفيها خلع الخليفة على ابنه هارون وركب معه الوزير والجيش، وأعطاه نيابة فارس وكرمان وسجستان ومكران، وخلع على ابنه أبي العباس الراضي وجعله نائب بلاد المغرب ومصر والشام، وجعل مؤنس الخادم يسد عنه أمورها.
وحج بالناس فيها عبد السميع بن أيوب بن عبد العزيز الهاشمي (5).
وخرج الحجيج بغفارة بدرقة حتى يسلموا في الدرب في الذهاب والاياب من القرامطة.
وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن إسحاق ابن البهلول بن حسان بن أبي سنان أبو جعفر التنوخي القاضي الحنفي، العدل الثقة، الرضي.
وكان فقيها نبيلا، سمع الحديث الكثير، وروى عن أبي كريب حديثا واحدا، وكان عالما
__________
(1) في الكامل 8 / 216: ومن يصعد الحمار إلى السطح يقدر يحطه - يعنون بذلك مساعدتهم للمقتدر وردهم الخلافة إليه.
(2) في الكامل 8 / 217: أرزن.
(3) من الكامل، وفي الاصل الحسين.
(4) وهو الاغر بن مطرة الثعلبي (الكامل 8 / 221).
(5) في مروج الذهب 4 / 460: حج بالناس عمر بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي .

بالنحو، فصيح العبارة، جيد الشعر، محمودا في الاحكام.
اتفق أن السيدة أم المقتدر وقفت وقفا وجعل هذا عنده نسخة به في سلة الحكم، ثم أرادت أن تنقض ذلك الوقف فطلبت هذا الحاكم وأن يحضر معه كتاب الوقف لتأخذه منه فتعدمه، فلما حضر من رواء الستارة فهم المقصود فقال لها: لا
يمكن هذا، لاني خازن المسلمين، فإما أن تعزلوني عن القضاء وتولوا هذا غيري، وإما أن تتركوا هذا الذي تريدون أن تفعلوه، فلا سبيل إليه وأنا حاكم.
فشكته إلى ولدها المقتدر فشفع عنده المقتدر بذلك، فذكر له صورة الحال.
فرجع إلى أمه فقال لها: إن هذا الرجل ممن يرغب فيه ولا يزهد فيه، ولا سبيل إلى عزله ولا التلاعب به.
فرضيت عنه وبعثت تشكره على ما صنع من ذلك.
فقال: من قدم أمر الله على أمر العباد كفاه الله شرهم، ورزقه خيرهم.
وقد كانت وفاته في هذه السنة.
وقد جاوز الثمانين.
يحيى بن محمد بن صاعد أبو محمد مولى أبي جعفر المنصور، رحل في طلب الحديث، وكتب وسمع وحفظ، وكان من كبار الحفاظ، وشيوخ الرواية، وكتب عنه جماعة من الاكابر، وله تصانيف تدل على حفظه وفقهه وفهمه.
توفي بالكوفة وله سبعون سنة (1).
الحسن بن علي بن أحمد بن بشار بن زياد المعروف بابن العلاف الضرير النهرواني، الشاعر المشهور، وكان أحد سمار المعتضد، وله مرثاة طنانة في هر له، قتله جيرانه لانه أكل أفراخ حمامهم من أبراجهم.
وفيها آداب ورقة، ويقال إنه أراد بها ابن المعتز لكنه لم يتجاسر أن ينسبها إليه من الخليفة المقتدر، لانه هو الذي قتله.
وأولها: ياهر فارقتنا ولم تعد * وكنت عندي بمنزل الولد (2) وهي خمس وستون بيتا.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة في المحرم منها دخل الحجيج بغداد، وقد خرج مؤنس الخادم إلى الحج فيها في جيش كثيف،
__________
(1) في الكامل 8 / 223: تسعون.
(2) وأوردها صاحب نكت الهميان ص 139 وابن الجوزي في المنتظم 6 / 237 ومنها في وفيات الاعيان 2 / 190 ومنها: صادوك غيظا عليك وانتقموا * منك وزادوا ومن يصد يصد
ثم شفوا بالحديد أنفسهم * منك ولم يرعووا على أحد

خوفا من القرامطة ففرح المسلمون بذلك وزينت بغداد يومئذ وضربت الخيام والقباب لمؤنس الخادم، وقد بلغ مؤنسا في أثناء الطريق أن القرامطة أمامه، فعدل بالناس عن الجادة، وأخذ بهم في شعاب وأودية أياما، فشاهد الناس في تلك الاماكن عجائب، ورأوا غرائب وعظاما في غاية الضخامة، وشاهدوا ناسا قد مسخوا حجارة.
ورأى بعضهم امرأة واقفة على تنور تخبز فيه قد مسخت حجرا، والتنور قد صار حجرا.
وحمل مؤنس من ذلك شيئا كثيرا إلى الخليفة ليصدق ما يخبر به من ذلك.
ذكر ذلك ابن الجوزي في منتظمه.
فيقال إنهم من قوم عاد أو من قوم شعيب أو من ثمود فالله أعلم.
وفيها عزل المقتدر وزيره سليمان بن الحسن بعد سنة وشهرين وتسعة أيام، واستوزر مكانه أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم عزله بعد شهرين وثلاثة أيام، واستوزر الحسين بن القاسم ثم عزله أيضا.
وفيها وقعت وحشة بين الخليفة ومؤنس، بسبب أن الخليفة ولى الحسبة لرجل اسمه محمد بن ياقوت، وكان أميرا على الشرطة، فقال مؤنس: إن الحسبة لا يتولاها إلا القضاة والعدول وهذا لا يصلح لها.
ولم يزل بالخليفة حتى عزل محمد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة أيضا، وانصلح، الحال بينهما.
ثم تجددت الوحشة بينهما في ذي الحجة من هذه السنة، وما زالت تتزايد حتى آل الحال إلى قتل المقتدر بالله كما سنذكره.
وفيها أوقع ثمل متولي طرسوس بالروم وقعة عظيمة، قتل منهم خلقا كثيرا وأسر نحوا من ثلاثة آلاف، وغنم من الذهب والفضة والديباج شيئا كثيرا جدا، ثم أوقع بهم مرة ثانية كذلك.
وكتب ابن الديراني الارمني إلى الروم يحثهم على الدخول إلى بلاد الاسلام ووعدهم النصر منه والاعانة، فدخلوا في جحافل عظيمة كثيرة جدا، وانضاف إليهم الارمني فركب إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج وهو يومئذ نائب أذربيجان واتبعه خلق كثير من المتطوعة، فقصد أولا بلاد ابن الديراني فقتل من الارمن نحوا من مائة ألف، وأسر خلقا كثيرا، وغنم أموالا جزيلة، وتحصن ابن الديراني في قلعة له هناك، وكاتب الروم فوصلوا إلى شميشاط (1)
فحاصورها، فبعث أهلها يستصرخون سعيد بن حمدان نائب الموصل، فسار إليهم مسرعا، فوجد الروم قد كادوا يفتحونها، فلما علموا بقدومه رحلوا عنها واجتازوا بملطية فنهبوها، ورجعوا خاسئين إلى بلادهم، ومعهم ابن نفيس المنتصر، وقد كان من أهل بغداد.
وركب ابن حمدان في آثار القوم فدخل بلادهم فقتل خلقا كثيرا منهم وأسر وغنم أشياء كثيرة.
قال ابن الاثير: وفي شوال من هذه السنة جاء سيل عظيم إلى تكريت ارتفع في أسواقها أربعة عشر شبرا، وغرق بسببه أربعمائة دار، وخلق لا يعلمهم إلا الله، حتى كان المسلمون والنصارى يدفنون جميعا، لايعرف هذا من هذا.
قال: وفيها هاجت بالموصل ريح محمرة ثم اسودت حتى كان الانسان لا يبصر صاحبه نهارا، وظن الناس أنها القيامة ثم انجلى ذلك بمطر أرسله الله عليهم.
__________
(1) الكامل 8 / 234: سميساط .

وفيها توفي من الاعيان الحسين بن عبد الرحمن أبو عبد الله الانطاكي قاضي ثغور الشام، يعرف بابن الصابوني، وكان ثقة نبيلا قدم بغداد وحدث بها.
علي بن الحسين بن حرب بن عيسى تولى القضاء بمصر مدة طويلة جدا، وكان ثقة عالما من خيار القضاة وأعدلهم، تفقه على مذهب أبي ثور، وقد ذكرناه في طبقات الشافعية، وقد استعفى عن القضاء فعزل عنه في سنة إحدى عشرة وثلثمائة، ورجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، في صفر منها، وصلى عليه أبو سعيد الاصطخري، ودفن بداره.
قال الدار قطني: حدث عنه أبو عبد الرحمن النسائي في الصحيح، ولعله مات قبله بعشرين سنة.
وذكر من جلالته وفضله رحمه الله.
محمد بن الفضل بن العباس أبو عبد الله البلخي الزاهد.
حكي عنه أنه مكث أربعين سنة لم يخط فيها خطوة في هوى نفسه، ولا نظر في شئ فاستحسنه حياء من الله عز وجل، وأنه مكث ثلاثين سنة لم يمل على ملكيه قبيحا.
محمد بن سعد بن أبي الحسين الوراق
صاحب أبي عثمان النيسابوري، وكان فقيها يتكلم على المعاملات.
ومن جيد كلامه قوله: من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه يهتدي بها سامعوه، ومن غض نفسه عن شبهة نور الله قلبه نورا يهتدي به إلى طرق مرضاة الله.
يحيى بن عبد الله بن موسى أبو زكريا الفارسي، كتب بمصر عن الربيع بن سليمان، وكان ثقة عدلا صدوقا عند الحكام.
ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة من الهجرة فيها كان مقتل المقتدر بالله الخليفة، وكان سبب ذلك أن مؤنسا الخادم خرج من بغداد في المحرم منها مغاضبا الخليفة في ممالكيه وحشمه، متوجها نحو الموصل، ورد من أثناء الطريق مولاه يسرى (1) إلى المقتدر ليستعلم له أمره، وبعث معه رسالة يخاطب بها أمير المؤمنين ويعاتبه في أشياء.
فلما وصل أمر الوزير - وهو الحسين بن القاسم وكان من أكبر أعداء مؤنس - بأن يؤديها فامتنع من أدائها إلا إلى الخليفة، فأحضره بين يديه وأمره بأن يقولها للوزير فامتنع، وقال: ما أمرني بهذا
__________
(1) في الكامل 8 / 237: بشرى

صاحبي فشتمه الوزير وشتم صاحبه مؤنسا، وأمر بضربه ومصادرته بثلثمائة ألف دينار، وأخذ خطه بها، وأمر بنهب داره، ثم أمر الوزير بالقبض على أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك من معه.
فحصل من ذلك مال عظيم، وارتفع أمر الوزير عند المقتدر، ولقبه عميد الدولة، وضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتمكن من الامور جدا، فعزل وولى، وقطع ووصل أياما يسيرة، وفرح بنفسه حينا قليلا.
وأرسل إلى هارون بن عريب في الحال، وإلى محمد بن ياقوت يستحضرهما إلى الحضرة عوضا عن مؤنس، فصمم المظفر مؤنس في سيره فدخل الموصل، وجعل يقول لامراء الاعراب: إن الخليفة قد ولاني الموصل وديار ربيعة.
فالتف عليه منهم خلق كثير، وجعل ينفق فيهم الاموال الجزيلة وله إليهم قبل ذلك أيادي سابغة.
وقد كتب الوزير إلى آل حمدان وهم ولاة الموصل وتلك النواحي يأمرهم بمحاربته، فركبوا إليه في ثلاثين ألفا، وواجههم مؤنس في ثمانمائة من مماليكه
وخدمه، فهزمهم ولم يقتل منهم سوى رجل واحد، يقال له داود، وكان من أشجعهم، وقد كان مؤنس رباه وهو صغير.
ودخل مؤنس الموصل فقصدته العساكر من كل جانب يدخلون في طاعته، لاحسانه إليهم قبل ذلك.
من بغداد والشام ومصر والاعراب، حتى صار في جحافل من الجنود.
وأما الوزير المذكور فإنه ظهرت خيانته وعجزه فعزله المقتدر في ربيع الآخر منها، وولى مكانه الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات، وكان آخر وزراء المقتدر.
وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر، ثم ركب في الجيوش في شوال قاصدا بغداد ليطالب المقتدر بأرزاق الاجناد وإنصافهم، فسار - وقد بعث بين يديه الطلائع - حتى جاء فنزل بباب الشماسية ببغداد، وقابله عنده ابن ياقوت وهارون بن عريب عن كره منه.
وأشير على الخليفة أن يستدين من والدته مالا ينفقه في الاجناد، فقال: لم يبق عندها شئ، وعزم الخليفة على الهرب إلى واسط، وأن يترك بغداد إلى مؤنس حتى يتراجع أمر الناس ثم يعود إليها.
فرده عن ذلك ابن ياقوت وأشار بمواجهته لمؤنس وأصحابه، فإنهم متى رأوا الخليفة هربوا كلهم إليه وتركوا مؤنسا.
فركب وهو كاره وبين يديه الفقهاء ومعهم المصاحف المنشورة، وعليه البردة والناس حوله، فوقف على تل عال بعيد من المعركة ونودي في الناس: من جاء برأس فله خمسة دنانير، ومن جاء بأسير فله عشرة دنانير.
ثم بعث إليه أمراؤه يعزمون عليه أن يتقدم فامتنع من التقدم إلى محل المعركة، ثم ألحوا عليه فجاء بعد تمنع شديد، فما وصل إليهم حتى انهزموا وفروا راجعين، ولم يلتفتوا إليه ولا عطفوا عليه، فكان أول من لقيه من أمراء مؤنس علي بن بليق، فلما رآه ترجل وقبل الارض بين يديه وقال: لعن الله من أشار عليك بالخروج في هذا اليوم.
ثم وكل به قوما من المغاربة البربر، فلما تركهم وإياه شهروا عليه السلاح، فقال لهم: ويلكم أنا الخليفة.
فقالوا: قد عرفناك يا سفلة، وإنما أنت خليفة إبليس، تنادي في جيشك من جاء برأس فله خمسة دنانير ؟ وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الارض، وذبحه آخر وتركوا جثته، وقد سلبوه كل شئ كان عليه، حتى سراويله، وبقي مكشوف العورة مجندلا على الارض، حتى جاء رجل فغطى عورته بحشيش ثم دفنه في موضعه وعفا أثره، وأخذت المغاربة رأس المقتدر على خشبة

قد رفعوها وهم يلعنونه، فلما انتهوا به إلى مؤنس - ولم يكن حاضرا الوقعة - فحين نظر إليه لطم رأس نفسه ووجهه وقال: ويلكم، والله لم آمركم بهذا، لعنكم الله، والله لنقتلن كلنا.
ثم ركب ووقف عند دار الخلافة حتى لا تنهب، وهرب عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب، وأبناء رايق، إلى المدائن، وكان فعل مؤنس هذا سببا لطمع ملوك الاطراف في الخلفاء، وضعف أمر الخلافة جدا، مع ما كان المقتدر يعتمده في التبذير والتفريط في الاموال، وطاعة النساء، وعزل الوزراء، حتى قيل إن جملة ما صرفه في الوجوه الفاسدة ما يقارب ثمانين ألف ألف دينار (1).
ترجمة المقتدر بالله هو جعفر بن أحمد المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، يكنى أبا الفضل، أمير المؤمنين العباسي، مولده في ليلة الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة ثنتين وثمانين ومائتين، وأمه أم ولد اسمها شغب، ولقبت في خلافة ولدها بالسيدة.
بويع له بالخلافة بعد أخيه المكتفي يوم الاحد لاربع (2) عشرة مضت من ذي القعدة، سنة خمس وتسعين ومائتين، وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام.
ولهذا أراد الجند خلعه في ربيع الاول من سنة ست وتسعين محتجين بصغره وعدم بلوغه، وتولية عبد الله بن المعتز، فلم يتم ذلك، وانتقض الامر في ثاني يوم كما ذكرنا.
ثم خلعوه في المحرم من سنة سبع عشرة وثلثمائة، وولوا أخاه محمدا القاهر كما تقدم، فلم يتم ذلك سوى يومين، ثم رجع إلى الخلافة كما ذكرنا.
وقد كان المقتدر ربعة من الرجال حسن الوجه والعينين، بعيد ما بين المنكبين، حسن الشعر، مدور الوجه، مشربا بحمرة، حسن الخلق، قد شاب رأسه وعارضاه، وقد كان معطاءا جوادا، وله عقل جيد، وفهم وافر، وذهن صحيح، وقد كان كثير التحجب والتوسع في النفقات، وزاد في رسوم الخلافة وأمور الرياسة، وما زاد شي إلا نقص.
كان في داره إحدى عشر ألف خادم خصي، غير الصقالبة وأبناء فارس والروم والسودان، وكان له دار يقال لها دار الشجرة، بها من الاثاث والامتعة شئ كثير جدا، كما ذكرنا ذلك في سنة خمس، حين قدم رسول ملك الروم.
وقد ركب المقتدر يوما في حراقة وجعل يستعجل الطعام فأبطأوا به فقال للملاح: ويحك هل عندك شئ آكل ؟ قال: نعم، فأتاه بشئ من
لحم الجدي وخبز حسن وملوحا وغير ذلك.
فاعجبه ثم استدعاه فقال: هل عندك شئ من الحلواء، فإني لا أحسن بالشبع حتى آكل شئ من الحلواء.
فقال: يا أمير المؤمنين إن حلواءنا التمر والكسب.
فقال: هذا شئ لا أطيقه.
ثم جئ بطعام فأكل منه وأوتي بالحلواءات فأكل وأطعم الملاحين، وأمر أن يعمل كل يوم في الحراقة بمائتي درهم، حتى إذا اتفق ركوبه فيها أكل منها، وإن لم يتفق ركوبه
__________
(1) في الكامل 8 / 243: نيفا وسبعين ألف ألف دينار.
(2) في مروج الذهب 4 / 328: لثلاث عشرة .

كانت للملاح.
وكان الملاح يأخذ ذلك في كل يوم عدة سنين متعددة، ولم يتفق ركوبه مرة أخرى أبدا.
وقد أراد بعض خواضه أن يطهر ولده فعمل أشياء هائلة ثم طلب من أم الخليفة أن يعار القرية التي عملت في طهور المقتدر من فضة ليراها الناس في هذا المهم، فتلطفت أم المقتدر عند ولدها حتى أطلقها له بالكلية، وكانت صفة قرية من القراى كلها من فضة، بيوتها وأعاليقها وأبقارها وجمالها، ودوابها وطيورها، وخيولها، وزروعها وثمارها وأشجارها، وأنهارها وما يتبع ذلك مما يكون في القرى، الجميع من فضة مصور، وأمر بنقل سماطه إلى دار هذا الرجل، وأن لا يكلف شئ من المطاعم سوى سمك طري، فاشترى الرجل بثلثمائة دينار سمكا طريا، وكان جملة ما أنفق الرجل على سماط المقتدر ألفا وخمسمائة دينار، والجميع من عند المقتدر، وكان كثير الصدقة والاحسان إلى أهل الحرمين وأرباب الوظائف، وكان كثير التنفل بالصلاة والصوم والعبادة، ولكنه كان مؤثرا لشهواته، مطيعا لخصاياه كثير العزل والولاية والتلون.
وما زال ذلك دأبه حتى كان هلاكه على يدي [ غلمان ] مؤنس الخادم، فقتل عند باب الشماسية لليلتين (1) بقيتا من شوال من هذه السنة - أعني سنة ثلثمائة وعشرين - وله من العمر ثمان وثلاثون سنة (2)، وكان مدة خلافته أربعا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا وأربعة عشر يوما (3)، كان أكثر مدة ممن تقدمه من الخلفاء.
خلافة القاهر لما قتل المقتدر بالله عزم مؤنس على تولية أبي العباس بن المقتدر بعد أبيه ليطيب قلب أم
المقتدر، فعدل عن ذلك جمهور من حضر من الامراء فقال أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختي: بعد التعب والنكد نبايع لخليفة صبي له أم وخالات يطيعهن وشاورهن ؟ ثم أحضروا محمد بن المعتضد - وهو أخو المقتدر - فبايعه القضاة والامراء والوزراء، ولقبوه بالقاهر بالله، وذلك في سحر يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال منها، واستوزر أبا علي بن مقلة، ثم أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله ثم أبا العباس، ثم الخصيبي.
وشرع القاهر في مصادرة أصحاب المقتدر وتتبع
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 328: قتل ببغداد بعد صلاة العصر يوم الاربعاء لثلاث ليال بقين من شوال.
وفي المنتظم 6 / 243: وكان قتله في الساعة الرابعة يوم الاربعاء لثلاث بقين من شوال.
(2) في مروج الذهب 4 / 328: ثماني وثلاثين سنة وخمسة عشر يوما.
وفي المنتظم 6 / 243 ثمانيا وثلاثين سنة وشهرا وخمسة أيام.
وفي العقد الفريد: ثمانيا وثلاثين سنة وشهرا وعشرين يوما.
وفي نهاية الارب 23 / 101: ثمانيا وثلاثين سنة وخسمة أيام.
وفي دول الاسلام 1 / 194: ثمانيا وثلاثين سنة.
وفي الجوهر الثمين ص 171: ثلاث وثلاثون سنة وشهر واحد وسبعة عشر يوما.
وفي الكامل لابن الاثير 8 / 244: ثمانيا وثلاثون سنة ونحوا من شهرين.
(3) في نهاية الارب 23 / 101 ومروج الذهب 4 / 328 والكامل لابن الاثير 8 / 244 وستة عشر يوما.
وفي تاريخ بغداد 7 / 212: وخمسة عشر يوما.
وفي دول الاسلام 1 / 194: خمسا وعشرين سنة (كانت خلافته) .

أولاده، واستدعى بأم المقتدر (1) وهي مريضة بالاستسقاء، وقد تزايد بها الوجع من شدة جزعها على ولدها حين بلغها قتله، وكيف بقي مكشوف العورة.
فبقيت أياما لا تأكل شيئا، ثم وعظها النساء حتى أكلت شيئا يسيرا من الخبز والملح، ومع هذا كله استدعى بها القاهر فقررها على أموالها فذكرت له ما يكون للنساء من الحلي والمصاغ والثياب، ولم تقر بشئ من الاموال والجواهر، وقالت له: لو كان عندي من هذا شئ ما سلمت ولدي [ للقتل ] (2).
فأمر بضربها وعلقت برجليها ومسها بعذاب شديد من العقوبة، فأشهدت على نفسها ببيع أملاكها، فأخذه الجند مما يحاسبون به أرزاقهم.
وأرادها على بيع أوقافها فامتنعت من ذلك وأبت أشد الاباء.
ثم استدعى القاهر بجماعة من أولاد
المقتدر منهم أبو العباس وهارون والعباس وعلي والفضل وإبراهيم، فأمر بمصادرتهم وحبسهم، وسلمهم إلى حاجبه علي بن بليق، وتمكن الوزير علي بن مقلة فعزل وولى، وأخذ وأعطى أياما، ومنع البريدي من عمالتهم.
وفيها توفي من الاعيان: أحمد بن عمير بن جوصا أبو الحسن الدمشقي أحد المحدثين الحفاظ، والرواة الايقاظ.
وإبراهيم بن محمد بن علي بن بطحاء بن علي بن مقلة أبو إسحاق التميمي المحتسب ببغداد، روى عن عباس الدوري وعلي بن حرب وغيرهما، وكان ثقة فاضلا.
مر يوما على باب القاضي أبي عمر محمد بن يوسف والخصوم عكوف على بابه والشمس قد ارتفعت عليهم، فبعث حاجبه إليه يقول له: إما أن تخرج فتفصل بين الخصوم، وإما أن تبعث فتعتذر إليهم إن كان لك عذر حتى يعودوا إليك بعد هذا الوقت.
أبو علي بن خيران الفقيه الشافعي، أحد أئمة المذهب، واسمه الحسين بن صالح بن خيران الفقيه الكبير الورع.
عرض عليه منصب القضاء فلم يقبل، فختم عليه الوزير علي بن عيسى على بابه ستة عشر يوما، حتى لم يجد أهله ماء إلا من بيوت الجيران، وهو مع ذلك يمتنع عليهم، ولم يل لهم شيئا.
فقال الوزير: إنما أردنا أن نعلم الناس أن ببلدنا وفي مملكتنا من عرض عليه قضاء قضاة الدنيا في المشارق والمغارب فلم يقبل.
وقد كانت وفاته في ذي الحجة منها، وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية بما فيه كفاية.
__________
(1) المقتدر والقاهر ليسا من أم واحدة.
فالمقتدر أمه أم ولد وأسمها شغب.
وأم القاهر أم ولد اسمها قتول وقيل فتنة (مآثر الانافة 1 / 281).
(2) من ابن الاثير 8 / 245 .

عبد الملك بن محمد بن عدي الفقيه الاستراباذي، أحد أئمة المسلمين والحفاظ المحدثين وقد ذكرناه أيضا في طبقات الشافعية.
القاضي أبو عمر المالكي: محمد بن يوسف ابن (1) إسماعيل بن حماد بن زيد، أبو عمر القاضي ببغداد ومعاملاتها في سائر البلاد، كان من أئمة الاسلام علما ومعرفة، وفصاحة وبلاغة، وعقلا ورياسة، بحيث كان يضرب بعقله المثل.
وقد روى الكثير عن المشايخ، وحدث عنه الدار قطني وغيره من الحفاظ، وحمل الناس عنه علما كثيرا من الفقه والحديث، وقد جمع قضاء القضاة في سنة سبع عشرة وثلاثمائة وله مصنفات كثيرة.
وجمع مسندا حافلا، وكان إذا جلس للحديث جلس أبو القاسم البغوي عن يمينه وهو قريب من سن أبيه، وجلس عن يساره أيضا ابن صاعد، وبين يديه أبو بكر النيسابوري، وسائر الحفاظ حول سريره من كل جانب.
قالوا: ولم ينتقد عليه حكم من أحكامه أخطأ فيه قط.
قلت: وكان من أكبر صواب أحكامه وأصوبها قتله الحسين بن منصور الحلاج في سنة تسع وثلثمائة كما تقدم.
وكان القاضي أبو عمر هذا جميل الاخلاق، حسن المعاشرة، اجتمع عنده يوما أصحابه فجئ بثوب فاخر ليشتريه بنحو من خمسين دينارا، فاستحسنه الحاضرون، فدعا بالقلانسي، وأمره أن يقطع ذلك الثوب قلانس بعدد الحاضرين.
وله مناقب ومحاسن جمة رحمه الله تعالى.
توفي في رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة، وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل بك ربك ؟ فقال: غفر لي بدعوة الرجل الصالح إبراهيم الحربي.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلثمائة في صفر منها أحضر القاهر رجلا كان يقطع الطريق فضرب بين يديه ألف سوط، ثم ضربت عنقه وقطع أيدي أصحابه وأرجلهم.
وفيها أمر القاهر بإبطال الخمر والمغاني والقيان، وأمر ببيع الجواري المغنيات بسوق النخس، على أنهن سواذج.
قال ابن الاثير: وإنما فعل ذلك لانه كان محبا للغناء فأراد أن يشتريهن برخص الاثمان، نعوذ بالله من هذه الاخلاق.
وفيها أشاعت العامة بينهم بأن الحاجب علي بن بليق يريد أن يلعن معاوية على المنابر.
فلما بلغ الحاجب ذلك بعث إلى رئيس الحنابلة البربهاري أبي محمد الواعظ ليقابله على ذلك، فهرب واختفى، فأمر بجماعة من أصحابه فنفوا إلى البصرة.
وفيها عظم الخليفة وزيره علي بن مقلة وخاطبه بالاحترام والاكرام.
ثم إن الوزير
ومؤنسا الخادم وعلي بن بليق وجماعة من الامراء اشتوروا فيما بينهم على خلع القاهر وتولية أبي أحمد المكتفي، وبايعوه سرا فيما بينهم، وضيقوا على القاهر بالله في رزقه، وعلى من يجتمع به.
وأرادوا القبض عليه سريعا.
فبلغ ذلك القاهر - بلغه طريف اليشكري (2) - فسعى في القبض عليهم
__________
(1) في الكامل 8 / 247: ابن يعقوب بن اسماعيل.
(2) في الكامل 8 / 251: السبكري.
(انظر تاريخ ابي الفداء 2 / 78) .

فوقع في مخالبه الامير المظفر مؤنس الخادم، فأمر بحبسه قبل أن يراه والاحتياط على دوره وأملاكه - وكانت في عجلة وجرأة وطيش وهوج وخرق شديد - وجعل في منزلته - أمير الامراء ورياسة الجيش - طريفا اليشكري، وقد كان أحد الاعداء لمؤنس الخادم قبل ذلك.
وقبض على بليق، واختفى ولده علي بن بليق، وهرب الوزير ابن مقلة فاستوزر مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله، في مستهل شعبان، وخلع عليه وأمر بتحريق دار ابن مقلة، ووقع النهب ببغداد، وهاجت الفتنة، وأمر القاهر بأن يجعل أبو أحمد المكتفي بين حائطين ويسد عليه بالآجر والكلس، وهو حي، فمات وأرسل منادي على المختفين: إن من أخفاهم قتل وخربت داره.
فوقع بعلي بن بليق فذبح بين يديه كما تذبح الشاة، فأخذ رأسه في طست ودخل به القاهر على أبيه بليق بنفسه، فوضع رأس ابنه بين يديه، فلما رآه بكى وأخذ يقبله ويترشفه، فأمر بذبحه أيضا، ثم أخذ الرأسين في طستين فدخل بهما على مؤنس الخادم، فلما رآهما تشهد ولعن قاتلهما، فقال القاهر: جروا برجل الكلب، فأخذ فذبح أيضا وأخذ رأسه فوضع في طست وطيف بالرؤوس في بغداد، ونودي عليهم: هذا جزاء من يخون الامام ويسعى في الدولة فسادا.
ثم أعيدت الرؤس إلى خزائن السلاح.
وفي ذي القعدة منها قبض القاهر على الوزير أبي جعفر محمد بن القاسم وسجنه، وكان مريضا بالقولنج، فبقي ثمانية عشر يوما ومات وكانت وزارته ثلاثة أشهر واثني عشر يوما.
واستوزر مكانه أبا العباس أحمد بن عبيد الله (1) بن سليمان الخصيبي، ثم قبض على طريف اليشكري (2) الذي تعاون على مؤنس وابن بليق وسجنه، ولهذا قيل: من أعان ظالما سلطه الله عليه.
فلم يزل اليشكري (2) في الحبس حتى
خلع القاهر.
وفيها جاء الخبر بموت العامل بديار مصر (3)، وأن ابنه محمدا قد قام مقامه فيها، وسارت الخلع إليه من القاهر بتنفيذ الولاية واستقراره.
ابتداء أمر بني بويه وظهور دولتهم وهم ثلاثة إخوة: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد أولاد أبي شجاع بويه بن قباخسرو (4) بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الاصغر بن شيركيده (5) بن شيرزيل الاكبر شيران شاه بن شيرويه بن سيسان شاه بن سيس بن فيروز بن
__________
(1) من ابن الاثير 8 / 262 ومروج الذب 4 / 351، وفي الاصل عبد الله.
(2) في الكامل 8 / 262: السبكري.
(3) وهو تكين وكان أميرا على مصر كما في الكامل لابن الاثير 8 / 273 وفي ولاة مصر للكندي: مات تكين أبو منصور في 16 ربيع الاول سنة 321 وجعل ابنه محمد بن تكين في موضعه.
(4) في ابن الاثير 8 / 265: فنا خسرو.
(5) في ابن الاثير: شيركنده .

شيرزيل بن سيسان (1) بن بهرام جور الملك بن يزدجرد الملك (2) بن سابور الملك بن سابور ذي الاكتاف الفارسي.
كذا نسبهم الامير أبو نصر بن ماكولا في كتابه.
وإنما قيل لهم الديالمة لانهم جاوروا الديلم، وكانوا بين أظهرهم مدة، وقد كان أبو هم أبو شجاع بويه فقير مدقعا، يصطاد السملك ويحتطب بنوه الحطب على رؤوسهم، وقد ماتت امرأته وخلفت له هؤلاء الاولاد الثلاثة، فحزن عليها وعليهم، فبينما هو يوما عند بعض أصحابه وهو شهريار بن رستم الديلمي، إذ مر منجم فاستدعاه فقال له: إني رأيت مناما غريبا أحب أن تفسره لي: رأيت كأني أبول فخرج من ذكري نار عظيمة حتى كادت تبلغ عنان السماء، ثم انفرقت ثلاث شعب حتى صارت شعبا كثيرة، فأضاءت الدنيا بتلك النار، ورأيت البلاد والعباد قد خضعت لهذه النار.
فقال له المنجم: هذا منام عظيم لا أفسره لك إلا بمال جزيل.
فقال: والله لا شئ عندي أعطيك، ولا أملك إلا فرسي هذه.
فقال: هذا يدل على أنه يملك من صلبك ثلاثة ملوك، ثم يكون من سلالة كل واحد منهم ملوك عدة.
فقال له: ويحك أتسخر بي ؟ وأمر بنيه فصفعوه ثم أعطاه عشرة دراهم.
فقال لهم المنجم: اذكروا هذا إذا قدمت عليك وأنتم ملوك، وخرج وتركهم.
وهذا من أعجب الاشياء، وذلك أن هؤلاء الاخوة الثلاثة كانوا عند ملك يقال له " ما كان بن كاني " (3) في بلاد طبرستان، فتسلط عليه مرداويج (4) فضعف، فتشاوروا في مفارقته حتى يكون، من أمره ما يكون، فخرجوا عنه ومعهم جماعة من الامراء، فصاروا إلى مرداويج فأكرمهم واستعملهم على الاعمال في البلدان، فأعطى عماد الدولة على بويه نيابة الكرج (5)، فأحسن فيها السيرة والتف عليه الناس وأحبوه، فحسده مرداويج وبعث إليه بعزله عنها، ويستدعيه إليه فامتنع من القدوم عليه، وصار إلى أصبهان فحاربه نائبها فهزمه عماد الدولة هزيمة منكرة، واستولى على أصبهان.
وإنما كان معه سبعمائة فارس، فقهر بها عشرة آلاف فارس، وعظم في أعين الناس.
فلما بلغ ذلك مرداويج قلق منه، فأرسل جيشا فأخرجوه من أصبهان، فقصد أذربيجان فأخذها من نائبها وحصل له من الاموال شئ كثير جدا، ثم أخذ بلدانا كثيرة، واشتهر أمره وبعد صيته وحسنت سيرته.
فقصده الناس محبة وتعظيما، فاجتمع إليه من الجند خلق كثير وجم غفير، فلم يزل يترقى في مراقي الدنيا حتى آل به وبأخويه الحال إلى أن ملكوا بغداد من أيدي الخلفاء العباسيين، وصار لهم فيها القطع والوصل، والولاية والعزل،
__________
(1) في الكامل: سنباد.
(2) في الكامل: ابن هرمز الملك بن سابور.
(3) في الكامل 8 / 277 وتجارب الامم لابن مسكويه 1 / 366 كالي.
(تاريخ ابي الفداء 2 / 78).
(4) من الكامل وتجارب الامم، وفي الاصل: مرداويح، وقد صححت في كل المواضع (5) من الكامل 8 / 267.
والكرج مدينة فارسية تقع بين أصبهان وهمذان (معجم البلدان).
قال ابن مسكويه فكانت هذه الولاية نقطة الانطلاق لاقامة دولة بني بويه (انظر تجارب الامم ص 1 / 277 والكامل 8 / 268 - 269) .

وإليهم تجبى الاموال، ويرجع إليهم في سائر الامور والاحوال، على ما سنذكر ذلك مبسوطا والله المستعان: وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن محمد بن سلامة ابن سلمة بن عبد الملك أبو جعفر الطحاوي، نسبة إلى قرية بصعيد مصر، الفقيه الحنفي صاحب المصنفات المفيدة، والفوائد الغزيرة: وهو أحد الثقات الاثبات، والحفاظ الجهابذة، وطحا بلدة بدريا بمصر.
وهو ابن أخت المزني.
توفي في مستهل ذي القعدة منها عن ثنتين وثمانين سنة وذكر أبو سعيد السمعاني: أنه ولد في سنة تسع وعشرين ومائتين، فعلى هذا يكون قد جاوز التسعين والله أعلم.
وذكر ابن خلكان في الوفيات أن سبب انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة ورجوعه عن مذهب خاله المزني، أن خاله قال له يوما: والله لا يجئ منك شئ.
فغضب وتركه واشتغل على أبي جعفر بن أبي عمران الحنفي، حتى برع وفاق أهل زمانه، وصنف كتابا كثيرة.
منها أحكام القرآن، واختلاف العلماء.
ومعاني الآثار، والتاريخ الكبير.
وله في الشروط كتاب، وكان بارعا فيها.
وقد كتب للقاضي أبي عبد الله محمد بن عبد الله وعدله القاضي أبو عبيد بن حربويه، وكان يقول: رحم الله المزني، لو كان حيا لكفر عن يمينه.
توفي في مستهل ذي القعدة كما تقدم.
ودفن بالقرافة وقبره مشهور بها رحمه الله.
وقد ترجمه ابن عساكر وذكر أنه قد قدم دمشق سنة ثمان وستين ومائتين، وأخذ الفقه عن قاضيها أبي حازم.
أحمد بن محمد بن موسى بن النضر ابن حكيم بن علي بن زربى أبو بكر المعروف بابن أبي حامد صاحب بيت المال.
سمع عباسا الدوري وخلقا، وعنه الدار قطني وغيره.
وكان ثقة صدوقا، جوادا ممدحا، اتفق في أيامه أن رجلا من أهل العلم كانت له جارية يحبها حبا شديدا، فركبته ديون اقتضت بيع تلك الجارية في الدين، فلما أن قبض ثمنها ندم ندامة شديدة على فراقها، وبقي متحيرا في أمره، ثم باعها الذي اشتراها فوصلت إلى ابن أبي حامد هذا، وهو صاحب بيت المال، فتشفع صاحبها الاول - الذي باعها في
الدين - ببعض أصحاب ابن أبي حامد في أن يردها إليه ثمنها، وذكر له أنه يحبها، وأنه من أهل العلم، وإنما باعها في دين ركبه لم يجد له وفاء.
فلما قال له ذلك لم يكن عند ابن أبي حامد شعور بما ذكر له من أمر الجارية، وذلك أن امرأته كانت اشترتها له ولم تعلمه بعد بأمرها حتى تحل من استبرائها، وكان ذلك اليوم آخر الاستبراء، فألبستها الحلي والمصاغ وصنعتها له وهيأتها، حتى صارت كأنها فلقة قمر، وكانت حسناء، فحين شفع صاحبه فيها وذكر أمرها بهت لعدم علمه بها.

ثم دخل على أهله يستكشف خبرها من امرأته، فإذا بها قد هيئت له، فلما رآها على ؟ الصفة فرح فرحا شديدا إذ وجدها كذلك من أجل سيدها الاول، الذي تشفع فيه صاحبه.
فأخرجها معه وهو يظهر السرور، وامرأته تظن أنه إنما أخذها ليطأها، فأتى بها إلى ذلك الرجل بحليها وزينتها، فقال له: هذه جاريتك ؟ فلما رآها على تلك الصفة في ذلك الحلي والزينة مع الحسن الباهر اضطرب كلامه واختلط في عقله مما رأى من حسن منظرها وهيئتها.
فقال: نعم.
فقال: خذها بارك الله لك فيها.
ففرح الفتى بها فرحا شديدا.
وقال سيدي تأمر بمن يحمل ثمنها إليك ؟ فقال: لا حاجة لنا بثمنها، وأنت في حل منه أنفقه عليك وعليها، فإني أخشى أن تفتقر فتبيعها لمن لا يردها عليك.
فقال: يا سيدي وهذا الحلى والمصاغ الذي عليها ؟ فقال: هذا شئ وهبناه لها لا نرجع فيه ولا يعود إلينا أبدا، فدعا له واشتد فرحه بها جدا وأخذها وذهب.
فلما أراد أن يودع ابن أبي حامد قال ابن أبي حامد للجارية: أيما أحب إليك نحن أو سيدك هذا ؟ فقالت: أما أنتم فقد أحسنتم إلى وأعنتموني فجزاكم الله خيرا، وأما سيدي هذا فلو أني ملكت منه ما ملك مني لم أبعه بالاموال الجزيلة ولا فرطت فيه أبدا.
فاستحسن الحاضرون كلامها وأعجبهم ذلك من قولها، مع صغر سنها.
شغب أم أمير المؤمنين المقتدر بالله الملقبة بالسيدة كان دخلها من أملاكها في كل سنة ألف ألف دينار، فكانت تتصدق بأكثر ذلك على الحجيج في أشربة وأزواد وأطباء يكونون معهم، وفي تسهيل الطرقات والموارد.
وكانت في غاية الحشمة والرياسة ونفوذ الكلمة أيام ولدها، فلما قتل كانت مريضة فزادها قتله مرضا إلى مرضها، ولما استقر أمر القاهر
في الخلافة وهو ابن زوجها المعتضد وأخو ابنها المقتدر، وقد كانت حضنته حين توفيت أمه وخلصته من ابنها لما أخذت البيعة بالخلافة له ثم رجع ابنها إلى الخلافة، فشفعت في القاهر وأخذته إلى عندها، فكانت تكرمه وتشتري له الجواري، فلما قتل ابنها وتولى مكانه طلبها وهي مريضة فعاقبها عقوبة عظيمة جدا، حتى كان يعلقها برجليها ورأسها منكوس، فربما بالت فيسيل البول على وجهها، ليقررها على الاموال فلم يجد لها شيئا سوى ثيابها ومصاغها وحليها في صناديقها.
قيمة ذلك مائة ألف دينار، وثلاثون ألف دينار، وكان لها غير ذلك أملاك أمر ببيعها وأتي بالشهود ليشهدوا عليها بالتوكيل في بيعها، فامتنع الشهود من الشهادة حتى ينظروا إليها ويحلوها، فرفع الستر بإذن الخليفة فقالوا لها: أنت شغب جارية المعتضد أم جعفر المقتدر ؟ فبكت بكاء طويلا ثم قالت: نعم، فكتبوا حليتها عجوز سمراء اللون دقيقة الجبين.
وبكى الشهود وتفكروا كيف يتقلب الزمان بأهله، وتنقل الحدثان وأن الدنيا دار بلاء لا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، من ركن إليها أحرقته بنارها.
ولم يذكر القاهر شيئا من إحسانها إليه رحمها الله وعفا عنها.
توفيت في جمادى الاولى من هذه السنة، ودفنت بالرصافة.

عبد السلام بن محمد ابن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولى عثمان بن عفان، وهو أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المتكلم ابن المتكلم، المعتزلي ؟ المعتزلي، وإليه تنسب الطائفة الهاشمية من المعتزلة، وله مصنفات في الاعتزال كما لابيه من قبله، مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، توفي في شعبان منها.
قال ابن خلكان: وكان له ابن يقال له أبو علي، دخل يوما على الصاحب بن عباد فأكرمه وأحترمه وسأله عن شئ من المسائل فقال: لا أعرف نصف العلم.
فقال: صدقت وسبقك أبوك إلى الجهل بالنصف الآخر.
محمد (1) بن الحسن بن دريد بن عتاهية أبو بكر بن دريد الازدي اللغوي النحوي الشاعر صاحب المقصورة، ولد بالبصرة في سنة
ثلاث وعشرين ومائتين وتنقل في البلاد لطلب العلم والادب، وكان أبوه من ذوي اليسار، وقدم بغداد وقد أسن فأقام بها إلى أن توفي في هذه السنة.
روى عن عبد الرحمن ابن أخي الاصمعي، وأبي حاتم والرياشي.
وعنه أبو سعيد السيرافي، وأبو بكر بن شاذان، وأبو عبيد الله بن المرزبان وغيرهم.
ويقال كان أعلم من شعر من العلماء.
وقد كان متهتكا في الشراب منهمكا فيه.
قال أبو منصور الازهري: دخلت عليه فوجدته سكران فلم أعد إليه.
وسئل عنه الدار قطني فقال: تكلموا فيه.
وقال ابن شاهين: كنا ندخل عليه فنستحي مما نراه من العيدان المعلقة وآلات اللهو والشراب المصفى وقد جاوز التسعين وقارب المائة.
توفي يوم الاربعاء لثنتي عشرة بقيت من شعبان.
وفي هذا اليوم توفي أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المعتزلي، فصلي عليهما معا، ودفنا في مقبرة الخيزران.
فقال الناس: مات اليوم عالم اللغة، وعالم الكلام.
وكان ذلك يوما مطيرا.
ومن مصنفات ابن دريد الجمهرة في اللغة نحو عشر مجلدات.
وكتاب المطر، والمقصورة، والقصيدة الاخرى في المقصور والممدود، وغير ذلك سامحه الله.
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وثلثمائة فيها قصد ملك الروم (2) ملطية في خمسين ألفا فحاصرهم ثم أعطاهم الامان حتى تمكن منهم، فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر ما لا يحصون كثرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها وردت الاخبار أن مرداويج قد تسلم أصبهان وانتزعها من علي بن بويه، وأن علي بن بويه توجه إلى أرجان فأخذها،
__________
(1) من الوافي 2 / 329 ووفيات الاعيان 4 / 323 وفي الاصل: أحمد.
(2) وهو الدمستق قرقاش (الكامل 8 / 296 تاريخ أبي الفداء 2 / 81) .

وقد أرسل ابن بويه إلى الخليفة بالطاعة والمعونة، وإن أمكن يقبل العتبة الشريفة ويحضر بين يدي الخليفة إن رسم، ويذهب إلى شيراز فيكون مع ابن ياقوت.
ثم اتفق الحال بعد ذلك أن صار إلى شيراز وأخذها من نائبها ابن ياقوت بعد قتال عظيم، ظفر فيه ابن بويه بابن ياقوت وأصحابه، فقتل منهم خلقا وأسر جماعة، فلما تمكن أطلقهم وأحسن إليهم وخلع عليهم، وعدل في الناس.
وكانت
معه أموال كثيرة قد استفادها من أصبهان والكرج (1) وهمذان وغيرها.
وكان كريما جوادا معطيا للجيوش الذين قد التفوا عليه، ثم إنه أملق في بعض الاحيان وهو بشيراز، وطالبه الجند بأرزاقهم وخاف أن ينحل نظام أمره وملكه، فاستلقى على قفاه يوما مفكرا في أمره، وإذا حية قد خرجعت من شق في سقف المكان الذي هو فيه ودخلت في آخر، فأمر بنزع تلك السقوف فوجد هنالك مكانا فيه شئ كثير من الذهب، نحو من خمسمائة ألف دينار.
فأنفق في جيشه ما أراد، وبقي عنده شئ كثير.
وركب ذات يوم يتفرج في واجوانب البلد ونظر إلى ما بنته الاوائل، ويتعظ بمن كان فيه قبله، فانخسفت الارض من تحت قوائم فرسه فأمر فحفر هنالك فوجد من الاموال شيئا كثيرا أيضا.
واستعمل عند رجل خياط قماشا ليلبسه فاستبطأ فأمر بإحضاره، فلما وقف بين يديه تهدده - وكان الخياط أصم لا يسمع جيدا - فقال: والله أيها الملك ما لابن ياقوت عندي سوى اثنا عشر صندوقا لا أدرى ما فيها.
فأمر بإحضارها فإذا فيها أموال عظيمة تقارب ثلثمائة ألف دينار، واطلع على ودائع كانت ليعقوب بن الليث، فيها من الاموال ما لا يحد ولا يوصف كثرة، فقوي أمره وعظم سلطانه جدا.
وهذا كله من الامور المقدرة لما يريد الله بهم من السعادة الدنيوية، بعد الجوع والقلة (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [ القصص: 68 ] وكتب إلى الراضي ووزيره ابن مقلة أن يقطع على ما قبله من البلاد على ألف ألف في كل سنة، فأجابه الراضي إلى ذلك، وبعث إليه بالخلع واللواء وأبهة الملك.
وفيها قتل القاهر أميرين كبيرين، وهما إسحاق بن إسماعيل النوبختي، وهو الذي كان قد أشار على الامراء بخلافة القاهر.
وأبا السرايا بن حمدان أصغر ولد أبيه، وكان في نفس القاهر منهما بسبب إنهما زايداه من قبل أن يلي الخلافة في جاريتين مغنيتين.
فاستدعاهما إلى المسامرة فتطيبا وحضرا، فأمر بإلقائهما في جب هنا لك فتضرعا إليه فلم يرحمهما، بل ألقيا فيها وطم عليهما.
ذكر خلع القاهر وسمل عينيه وعذابه وكان سبب ذلك أن الوزير علي بن مقلة كان قد هرب حين قبض على مؤنس كما تقدم، فاختفى في داره، وكان يراسل الجند ويكاتبهم ويغريهم بالقاهر، ويخوفهم سطوته وإقدامه، وسرعة بطشه، ويخبرهم بأن القاهر قد أعد لاكابر الامراء أماكن في دار الخلافة يسجنهم فيها، ومهالك
يلقيهم فيها، كما فعل بفلان وفلان فهيجهم ذلك على القبض على القاهر، فاجتمعوا وأجمعوا رأيهم على
__________
(1) من تجارب الامم 1 / 277 والكامل 8 / 267.
ومعجم البلدان 4 / 446 .

مناجزته في هذه الساعة، فركبوا مع الامير المعروف بسيما، وقصدوا دار الخلافة فأحاطوا بها، ثم هجموا عليه من سائر أبوابها وهو مخمور، فاختفى في سطح حمام فظهروا عليه فقبضوا عليه وحبسوه في مكان طريف اليشكري (1)، وأخرجوا طريفا من السجن، وخرج الوزير الخصيبي مستترا في زي امرأة، فذهب.
واضطربت بغداد ونهبت، وذلك يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الاولى فيها، في الشهر الذي ماتت فيه شغب.
فلم يكن بين موتها والقبض عليه وسمل عينيه وعذابه بأنواع العقوبات إلا مقدار سنة واحدة، وانتقم الله منه.
ثم أمروا بإحضاره، فلما حضر سملوا عينيه حتى سالتا على خديه، وارتكب منه أمر عظيم لم يسمع مثله في الاسلام، ثم أرسلوه.
وكان تارة يحبس وتارة يخلى سبيله.
وقد تأخر موته إلى سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة.
وافتقر حتى قام يوما بجامع المنصور فسأل الناس فأعطاه رجل خمسمائة دينار.
ويقال إنما أراد بسؤاله التشنيع عليهم.
وسنذكر ترجمته إذا ذكرنا وفاته.
خلافة الراضي بالله أبي العباس محمد بن المقتدر بالله لما خلعت الجند القاهر وسملوا عينيه أحضروا أبا العباس محمد بن المقتدر بالله فبايعوه بالخلافة ولقبوه الراضي بالله.
وقد أشار أبو بكر الصولي بأن يلقب بالمرضي بالله فلم يقبلوا، وذلك يوم الاربعاء لست خلون من جمادى الاولى منها.
وجاؤوا بالقاهرة وهو أعمى قد سملت عيناه فأوقف بين يديه فسلم عليه بالخلافة وسلمها إليه، فقام الراضي بأعبائها، وكان من خيار الخلفاء على ما سنذكره.
وأمر بإحضار أبي علي بن مقلة فولاه الوزارة، وجعل علي بن عيسى ناظرا معه، وأطلق كل من كان في حبس القاهر، واستدعى عيسى طبيب القاهر فصادره بمائتي ألف دينار، وتسلم منه الوديعة التي كان القاهر أودعه إياها، وكانت جملة مستكثرة من الذهب والفضة والجواهر النفيسة.
وفيها عظم أمر مرداويج بأصبهان وتحدث الناس أنه يريد أخذ بغداد، وأنه ممالئ لصاحب البحرين
أمير القرامطة، وقد اتفقا على رد الدولة من العرب إلى العجم، وأساء السيرة في رعيته، لا سيما في خواصه.
فتمالؤا عليه فقتلوه، وكان القائم بأعباء قتله أخص مماليكه وهو بجكم (2) بيض الله وجهه، وبجكم هذا هو الذي استنقذ الحجر الاسود من أيدي القرامطة حتى ردوه، اشتراه منهم بخمسين ألف دينار.
ولما قتل الامير بجكم مرداويج عظم أمر علي بن بويه، وارتفع قدره بين الناس، وسيأتي ما آل إليه حاله.
ولما خلع القاهر وولي الراضي، طمع هارون بن غريب في الخلافة، لكونه ابن خال المقتدر، وكان نائبا على ماه والكوفة والدينور وماسبذان، فدعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير من الجند والامراء، وجبى الاموال واستفحل أمره، وقويت شوكته، وقصد بغداد فخرج إليه محمد بن ياقوت
__________
(1) في الكامل 8 / 281: السبكري.
(2) من الكامل 8 / 303 وفي الاصل: بحكم، وقد صحح أينما ورد .

رأس الحجبة بجميع جند بغداد، فاقتتلوا فخرج في بعض الايام هارون بن غريب يتقصد لعله يعمل حيلة في أسر محمد بن ياقوت فتقنطر به فرسه فألقاه في نهر، فضربه غلامه حتى قتله وأخذ رأسه حتى جاء به إلى محمد بن ياقوت، وانهزم أصحابه ورجع ابن ياقوت فدخل بغداد ورأس هارون بن غريب يحمل على رمح، ففرح الناس بذلك، وكان يوما مشهودا.
وفيها ظهر ببغداد رجل يعرف بأبي جعفر بن علي الشلمغاني، ويقال له أبن العرافة (1)، فذكروا عنه أنه يدعي ما كان يدعيه الحلاج من الالهية، وكانوا قد قبضوا عليه في دولة المقتدر عند حامد بن العباس، واتهم بأنه يقول بالتناسخ فأنكر ذلك.
ولما كانت هذه المرة أحضره الراضي وادعى عليه بما كان ذكر عنه فأنكر ثم أقر بأشياء، فأفتى قوم أن دمه حلال إلا أن يتوب من هذه المقالة، فأبى أن يتوب، فضرب ثمانين سوطا، ثم ضربت عنقه وألحق بالحلاج، وقتل معه صاحبه ابن أبي عون لعنه الله.
وكان هذا للعين من جملة من أتبعه وصدقه فيما يزعمه من الكفر.
وقد بسط ابن الاثير في كامله مذهب هؤلاء الكفرة بسطا جيدا، وشبه مذهبهم بمذهب النصيرية.
وادعى رجل آخر ببلاد الشاش النبوة وأظهر المخاريق وأشياء كثيرة من الحيل، فجاءته الجيوش فقاتلوه، وانطفأ
أمره.
وفاة المهدي صاحب أفريقية وفيها كان موت المهدي صاحب إفريقية أول خلفاء الفاطميين الادعياء الكذبة، وهو أبو محمد عبيد الله المدعي أنه علوي، وتلقب بالمهدي، وبنى المهدية ومات بها عن ثلاث وستين سنة، وكانت ولايته - منذ دخل رقادة وادعى الامامة - أربعا وعشرين سنة وشهرا وعشرين يوما.
وقد كان شهما شجاعا، ظفر بجماعة ممن خالفه وناوأه وقاتله وعاداه، فلما مات قام بأمر الخلافة من بعده ولده أبو القاسم الملقب بالخليفة القائم بأمر الله.
وحين توفي أبوه كتم موته سنة حتى دبر ما أراده من الامور، ثم أظهر ذلك وعزاه الناس فيه.
وقد كان كأبيه شهما شجاعا: فتح البلاد وأرسل السرايا إلى بلاد الروم، ورام أخذ الديار المصرية فلم يتفق له ذلك، وإنما أخذ الديار المصرية ابن ابنه المعز الفاطمي باني القاهرة المعزية كما سنذكره إن شاء الله.
قال ابن خلكان في الوفيات: وقد اختلف في نسب المهدي هذا اختلافا كثيرا جدا، فقال صاحب تاريخ القيروان: هو عبيد الله بن الحسن بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وقال غيره: هو عبيد الله بن التقي وهو الحسين بن الوفي بن أحمد بن الرضي، وهو عبد الله هذا، وهو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق.
وقيل غير
__________
(1) في الكامل 8 / 290 ابن أبي القراقر، وفي الفرق بين الفرق 199: ابن أبي العذافر والشلمغاني: نسبة إلى شلمغان قرية بنواحي واسط .

لك في نسبه.
قال ابن خلكان: والمحققون ينكرون دعواه في النسب.
قلت: قد كتب غير واحد من الائمة منهم الشيخ أبو حامد الاسفرايينى والقاضي الباقلاني، والقدوري، أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح فيما يزعمونه، وأن والد عبيد الله المهدي هذا كان يهوديا صباغا بسلمية، وقيل كان اسمه سعد، وإنما لقب بعبيد الله زوج أمه الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح، وسمي القداح لانه كان كحالا يقدح العيون.
وكان الذي وطأ له الامر بتلك البلاد أبو عبد الله
الشيعي كما قدمنا ذلك، ثم استدعاه فلما قدم عليه من بلاد المشرق وقع في يد صاحب سجلماسة فسجنه، فلم يزل الشيعي يحتال له حتى استنقذه من يده وسلم إليه الامر، ثم ندم الشيعي على تسليمه الامر وأراد قتله، ففطن عبيد الله لما أراد به، فأرسل إلى الشيعي من قتله وقتل أخاه معه.
ويقال إن الشيعي لما دخل السجن الذي قد حبس فيه عبيد الله هذا وجد صاحب سجلماسة قد قتله، ووجد في السجن رجلا مجهولا محبوسا فأخرجه إلى الناس، لانه كان قد أخبر الناس أن المهدي كان محبوسا في سجلماسة وأنه إنما يقاتل عليه، فقال للناس: هذا هو المهدي - وكان قد أوصاه أن لا يتكلم إلا بما يأمره به وإلا قتله - فراج أمره.
فهذه قصته.
وهؤلاء من سلالته والله أعلم.
وكان مولد المهدي هذا في سنة ستين ومائتين، وقيل قبلها، وقيل بعدها، بسلمية، وقيل بالكوفة والله أعلم.
وأول ما دعي له على منابر رقادة والقيروان يوم الجمعة لسبع بقين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، بعد رجوعه من سجلماسة، وكان ظهوره بها في ذي الحجة من السنة الماضية - سنة ست وتسعين ومائتين - فلما ظهر زالت دولة بني العباس عن تلك الناحية من هذا الحين إلى أن ملك العاضد في سنة سبع وستين وخمسمائة.
توفي بالمدينة المهدية التي بناها في أيامه للنصف من ربيع الاول منها، وقد جاوز الستين على المشهور، وسيفصل الله بين الآمر والمأمور يوم البعث والنشور.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر.
حدث عن أبيه بكتبه المشهورة، وتوفي وهو قاض بالديار المصرية في ربيع الاول منها.
محمد بن أحمد بن القاسم أبو علي الروذباري وقيل اسمه أحمد بن محمد، ويقال الحسين بن الهمام، والصحيح الاول.
أصله من بغداد وسكن مصر، وكان من أبناء الرؤساء والوزراء والكتبة، وصحب الجنيد وسمع الحديث وحفظ منه كثيرا، وتفقه بإبراهيم الحربي.
وأخذ النحو عن ثعلب، وكان كثير الصدقة والبر للفقراء، وكان إذا أعطى الفقير شيئا جعله في كفه تحت يد الفقير، ثم يتناوله الفقير، يريد أن لا تكون يد الفقير تحت يده.
قال أبو نعيم: سئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول إنه وصل إلى منزلة لا يؤثر فيه اختلاف الاحوال.
فقال: نعم وصل، ولكن إلى سقر.
وقال: الاشارة الابانة، لما تضمنه.

الوجد من المشار إليه لا غير، وفي الحقيقة أن الاشارة تصححها العلل، والعلل بعيدة من غير الحقائق.
وقال: من الاغترار أن تسئ فيحسن إليك، فتترك الانابة والتوبة توهما أنك تسامح في الهفوات، وترى أن ذلك من بسط الحق لك.
وقال تشوقت القلوب إلى مشاهدة ذات الحق فألقيت إليها الاسامي، فركنت إليها مشغوفة بها عن الذات إلى أوان التجلي، فذلك قوله (ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها) [ الاعراف: 180 ] فوقفوا معها عن إدراك الحقائق، فأظهر الاسامي وأبداها للخلق، لتسكين شوق المحبين إليه، وتأنيس قلوب العارفين به.
وقال: لا رضى لمن لا يصبر، ولا كمال لمن لا يشكر.
وبالله وصل العارفون إلى محبته وشكروه على نعمته.
وقال: إن المشتاقين إلى الله يجدون حلاوة الشوق عند ورود المكاشف لهم عن روح الوصال إلى قربه أحلى من الشهد.
وقال: من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات: بطن جائع معه قلب قانع، وفقر دائم معه زهد حاضر، وصبر كامل معه قناعة دائمة.
وقال: في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عزها، فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى على العز في طلب ما يبقى.
ومن شعره: لو مضى الكل مني لم يكن عجبا * وإنما عجبي في البعض كيف بقي أدرك بقية روح منك قد تلفت * قبل الفراق فهذا آخر الرمق محمد بن إسماعيل (1) المعروف بخير النساج أبو الحسن الصوفي، من كبار المشايخ ذوي الاحوال الصالحة، والكرامات المشهورة.
أدرك سريا السقطي وغيره من مشايخ القوم، وعاش مائة وعشرين سنة.
ولما حضرته والوفاة نظر إلى زاوية البيت فقال: قف رحمك الله، فإنك عبد مأمور وأنا عبد مأمور، وما أمرت به لا يفوت وما أمرت به يفوت.
ثم قام وتوضأ وصلى وتمدد رحمه الله.
وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله بك ؟ فقال استرحنا من دنياكم الوخيمة (2).
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة فيها أحضر ابن شنبوذ (3) المقري فأنكر عليه جماعة من الفقهاء والقراء حروفا انفرد بها فاعترف
ببعضها وأنكر بعضها، فاستتيب من ذلك واستكتب خطه بالرجوع عما نقم عليه، وضرب سبع درر بإشارة الوزير أبي علي بن مقلة، ونفي إلى البصرة.
فدعا علي الوزير أن تقطع يده ويشتت شمله،
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة 2 / 451: خير بن عبد الله، وقال: كان أسم خير، محمد بن إبراهيم السامري، أصله من سر من رأى لكنه نزل بغداد.
(انظر الكامل 8 / 297).
(2) في صفوة الصفوة: الوضرة.
(3) وهو محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ.
انظر ابن خلكان: ترجمته وقصة ومناظرته وضربه .

فكان ذلك عما قريب.
وفي جمادى الآخرة نادى ابن الحرسي (1) صاحب الشرطة في الجانبين من بغداد أن لا يجتمع اثنان من أصحاب أبي محمد البربهاري الواعظ الحنبلي.
وحبس من أصحابه جماعة، واستتر ابن البربهاري فلم يظهر مدة.
قال ابن الجوزي في المنتظم: وفي شهر أيار تكاثفت الغيوم واشتد الحر جدا، فلما كان آخر يوم منه - وهو الخامس والعشرين من جمادى الآخرة منها - هاجت ريح شديدة جدا وأظلمت الارض واسودت إلى بعد العصر، ثم خفت ثم عادت إلى بعد عشاء الآخرة.
وفيها استبطأ الاجناد أرزاقهم فقصدوا دار الوزير أبي علي بن مقلة فنقبوها وأخذوا ما فيها.
ووقع حريق عظيم في طريق الموازين، فاحترق للناس شئ كثير، فعوض عليهم الراضي بعض ما كان ذهب لهم.
وفي رمضان اجتمع جماعة من الامراء على بيعة جعفر بن المكتفي، فظهر الوزير على أمرهم فحبس جعفر ونهبت داره، وحبس جماعة ممن كان بايعه، وأنطفأت ناره.
وخرج الحجاج في غفارة الامير لؤلؤ فاعترضهم أبو طاهر القرمطي فقتل أكثرهم ورجع من انهزم منهم إلى بغداد، وبطل الحج في هذه السنة من طريق العراق.
قال ابن الجوزي: وفيها تساقطت كواكب كثيرة ببغداد والكوفة على صورة لم ير مثلها، ولا ما يقاربها، وغلا السعر في هذه السنة حتى بيع الكر من الحنطة بمائة وعشرين دينارا.
وفيها على الصحيح كان مقتل مرداويج بن زياد الديلمي، وكان قبحه الله سئ السيرة والسريرة، يزعم أن روح سليمان بن داود حلت فيه، وله سرير من ذهب يجلس عليه والاتراك بين يديه، ويزعم أنهم الجن الذين سخروا لسليمان بن داود، وكان يسئ المعاملة لجنده
ويحتقرهم غاية الاحتقار، فما زال ذلك دأبه حتى أمكنهم الله منه فقتلوه شر قتلة في حمام، وكان الذي مالا على قتله غلامه بجكم التركي، وكان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده فأطلق لما قتل، فذهب إلى أخيه عماد الدولة، وذهبت طائفة من الاتراك معه إلى أخيه، والتفت طائفة منهم على بجكم فسار بهم إلى بغداد بإذن الخليفة له في ذلك، ثم صرفوا إلى البصرة فكانوا بها.
وأما الديلم فإنهم بعثوا إلى أخي مرداويج وهو وشمكير، فلما قدم عليهم تلقوه إلى أثناء الطريق حفاة مشاة فملكوه عليهم لئلا يذهب ملكهم، فانتدب إلى محاربته الملك السعيد نصر بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النهر، وما والاها من تلك البلاد والاقاليم، فانتزع منه بلدانا هائلة.
وفيها بعث القائم بأمر الله الفاطمي جيشا من إفريقية في البحر إلى ناحية الفرنج فافتتحوا مدينة جنوه وغنموا غنائم كثيرة وثروة.
ورجعوا سالمين غانمين.
وفيها بعث عماد الدولة إلى أصبهان فاستولى عليها وعلى بلاد الجبل واتسعت مملكته جدا.
وفيها كان غلاء شديد بخراسان، ووقع بها فناء كثير، بحيث كان يهمهم أمر دفن الموتى.
وفيها قتل ناصر الدولة أبو الحسن بن حمدان نائب الموصل عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان لانه أراد أن ينتزعها منه، فبعث إليه الخليفة وزيره أبا علي بن مقلة في جيوش، فهرب منه ناصر الدولة، فلما طال مقام ابن مقلة بالموصل ولم يقدر على ناصر الدولة رجع إلى بغداد، فاستقرت يد ناصر الدولة على الموصل.
وبعث به إلى الخليفة أن يضمنه تلك الناحية، فأجيب إلى ذلك، واستمر الحال على ما كان.
وخرج
__________
(1) في الكامل 8 / 307: بدر الخرشني .

الحجيج فلقيهم القرمطي فقاتلهم وظفر بهم فسألوه الامان فأمنهم على أن يرجعوا بغداد فرجعوا، وتعطل الحج عامهم ذلك أيضا.
وفيها توفي من الاعيان..نفطويه النحوي واسمه إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الازدي أبو عبد الله العتكي المعروف بنفطويه النحوي.
له مصنفات فيه، وقد سمع الحديث وروى
عن المشايخ وحدث عنه الثقات، وكان صدوقا، وله أشعار حسنة.
وروى الخطيب عن نفطويه أنه مر على بقال فقال له: أيها الشيخ كيف الطريق إلى درب الرآسين - يعني درب الرواسين - فالتفت البقال إلى جاره فقال له: قبح الله غلامي أبطأ علي بالسلق، ولو كان عندي لصفعت هذا بحزمة منه.
فانصرف عنه نفطويه ولم يرد عليه.
توفي نفطويه في شهر صفر من هذه السنة عن ثلاث وثمانين سنة (1) وصلى عليه البربهاري رئيس الحنابلة، ودفن بمقابر دار الكوفة.
ومما أنشده أبو علي القالي في الامالي له: قلبي أرق عليه (2) من خديكا * وفؤادي أوهى من قوى جفنيكا لم لا ترق لمن يعذب نفسه * ظلما ويعطفه هواه عليكا قال ابن خلكان: وفي نفطويه يقول أبو محمد عبد الله بن زيد بن علي بن الحسين الواسطي المتكلم المشهور صاحب " الامامة " و " إعجاز القرآن " وغير ذلك من الكتب: من سره أن لا يرى فاسقا * فليجتهد أن لا يرى نفطويه أحرقه الله بنصف اسمه * وصير الباقي صراخ عليه قال الثعالبي: إنما سمي نفطوية لدمامته.
وقال ابن خالويه: لا يعرف من اسمه إبراهيم وكنيته أبو عبد الله سواه.
عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله الهاشمي العباسي حدث عن بشار بن نصر الحلبي وغيره.
وعنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة فاضلا فقيها شافعيا.
__________
(1) ولادته سنة 244 وقيل سنة 250 بواسط وسكن بغداد (الوفيات 1 / 47).
(2) في الامالى 1 / 207: قلبي عليك أرق .

عبد الملك بن محمد بن عدي أبو نعيم الاستراباذي المحدث الفقيه الشافعي أيضا، توفي عن ثلاث وثمانين سنة.
علي بن الفضل بن طاهر بن نصر بن محمد أبو الحسن البلخي، كان من الجوالين في طلب الحديث، وكان ثقة حافظا، سمع أبا هاشم الرازي وغيره.
وعنه الدار قطني وغيره.
محمد بن أحمد بن أسد أبو بكر الحافظ، ويعرف بابن البستبنان (1)، سمع الزبير بن بكار وغيره، وعنه الدار قطني وغيره.
جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلثمائة فيها جاءت الجند فأحدقوا بدار الخلافة وقالوا: ليخرج إلينا الخليفة الراضي بنفسه فيصلي بالناس.
فخرج فصلى بهم وخطبهم.
وقبض الغلمان على الوزير ابن مقلة وسألوا من الخليفة أن يستوزر غيره فرد الخيرة إليهم فاختاروا علي بن عيسى فلم يقبل، وأشار بأخيه عبد الرحمن بن عيسى فاستوزره، وأحرقت دار ابن مقلة، وسلم هو إلى عبد الرحمن بن عيسى فضرب ضربا عنيفا، وأخذ خطه بألف ألف دينار، ثم عجز عبد الرحمن بن عيسى فعزل بعد خمسين يوما وقلد الوزارة أبو جعفر بن القاسم الكرخي، فصادر علي بن عيسى بمائة ألف دينار، وصادر أخاه عبد الرحمن بن عيسى بسبعين ألف دينار، ثم عزل بعد ثلاثة أشهر ونصف، وقلد سليمان بن الحسن (2)، ثم عزل بأبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، وذلك في السنة الآتية.
وأحرقت داره كما أحرقت دار ابن مقلة في يوم أحرقت تلك فيه، سنة بينهما واحدة.
وهذا كله من تخبيط الاتراك والغلمان.
ولما أحرقت دار ابن مقلة في هذه السنة كتب بعض الناس على بعض جدرانها: أحسنت ظنك بالايام إذ حسنت * ولم تخف يوما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها * وعند صفو الليالي يحدث الكدر وفيها ضعف أمر الخلافة جدا، وبعث الراضي إلى محمد بن رائق - وكان بواسط - يدعوه إليه ليوليه إمرة الامراء بغداد، وأمر الخراج والمغل في جميع البلاد والدواوين، وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، وأنفذ إليه بالخلع.
فقدم ابن رائق بغداد على ذلك كله، ومعه الامير بجكم التركي غلام مرداويج، وهو الذي ساعد على قتل مرداويج.
واستحوذ ابن رائق على أموال العراق بكماله، ونقل
__________
(1) نسبة إلى حفظ البستان.
(2) من الكامل 8 / 322 والفخري ص 281 وهو سليمان بن الحسن بن مخلد، وفي الاصل: الحسين.
قال الفخري: وفي أيامه استبد بالامور ابن رائق وولى النظار والعمال ورفعت المطالعات إليه..ولم يبق للوزير سوى الاسم من غير حكم ولا تدبير.
(ص 282) .

أموال بيت المال إلى داره، ولم يبق للوزير تصرف في شئ بالكلية، ووهى أمر الخلافة جدا، واستقل نواب الاطراف بالتصرف فيها، ولم يبق للخليفة حكم في غير بغداد ومعاملاتها.
ومع هذا ليس له مع ابن رائق نفوذ في شئ، ولا تفرد بشئ، ولا كلمة تطاع، وإنما يحمل إليه ابن رائق ما يحتاج إليه من الاموال والنفقات وغيرها.
وهكذا صار أمر من جاء بعده من أمراء الاكابر، كانوا لا يرفعون رأسا بالخليفة، وأما بقية الاطراف فالبصرة مع ابن رائق هذا، يولي فيها من شاء.
وخوزستان إلى أبي عبد الله البريدي، وقد غلب ابن ياقوت على ما كان بيده في هذه السنة من مملكة تستر وغيرها واستحوذ على حواصلها وأموالها.
وأمر فارس إلى عماد الدولة بن بويه ينازعه في ذلك وشمكير أخو مرداويج وكرمان بيد أبي علي محمد بن إلياس بن اليسع.
وبلاد الموصل والجزيرة وديار بكر ومضر وربيعة مع بني حمدان.
ومصر والشام في يدي محمد بن ظغج.
وبلاد إفريقية والمغرب في يد القائم بأمر الله ابن المهدي الفاطمي، وقد تلقب بأمير المؤمنين.
والاندلس في يد عبد الرحمن بن محمد، والملقب بالناصر الاموي.
وخراسان وما وراء النهر في يد السعيد نصر بن أحمد الساماني.
وطبرستان وجرجان في يد الديلم.
والبحرين واليمامة وهجر في يد أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي.
وفيها وقع ببغداد غلاء عظيم وفناء كثير بحيث عدم الخبز منها خمسة أيام، ومات من أهلها خلق كثير، وأكثر ذلك كان في الضعفاء، وكان الموتى يلقون في الطريق ليس لهم من يقوم بهم، ويحمل على الجنازة الواحدة الرجلان من الموتى، وربما يوضع بينهم صبي، وربما حفرت الحفرة الواحدة فتوسع حتى يوضع فيها جماعة.
ومات من أهل أصبهان نحو من مائتي ألف إنسان.
وفيها وقع حريق بعمان أحرق فيه من السودان ألف، ومن البيضان خلق كثير، وكان جملة ما أحرق فيه أربعمائة حمل كافور.
وعزل الخليفة أحمد بن كيغلغ عن نيابة الشام، وأضاف ذلك إلى ابن طغج نائب الديار
المصرية.
وفيها ولد عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة بن بويه بأصبهان.
وفيها توفي من الاعيان..ابن مجاهد المقري أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المقري، أحد أئمة هذا الشأن.
حدث عن خلق كثير، وروى عنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة مأمونا، سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان ثعلب يقول: ما بقي في عصرنا أحد أعلم بكتاب الله منه.
توفي يوم الاربعاء وأخرج يوم الخميس لعشر بقين من شعبان من هذه السنة.
وقد رآه بعضهم في المنام وهو يقرأ فقال له: أما مت ؟ فقال: بلى ولكن كنت أدعو الله عقب كل ختمة أن أكون ممن يقرأ في قبره، فأنا ممن يقرأ في قبره.
رحمه الله.
جحظة الشاعر البرمكي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي، أبو الحسن النديم المعروف

بجحظة الشاعر الماهر الاديب الاخباري، ذو الفنون في العلوم والنوادر الحاضرة، وكان جيد الغناء.
ومن شعره: قد نادت الدنيا على نفسها * لو كان في العالم من يسمع كم آمل خيبت آماله * وجامع بددت ما يجمع وكتب له بعض الملوك رقعة على صيرفي بمال أطلقه له فلم يحصل له، فكتب إلى الملك يذكر له ذلك: إذا كانت صلاتكم رقاعا * تخطط بالانامل والاكف فلا تجد الرقاع علي نفعا * فذا خطي فخذه بألف ألف ومن شعره يهجو صديقا له ويذمه على شدة شحه وبخله وحرصه فقال: لنا صاحب من أبرع الناس في البخل * يسمى بفضل، وهو ليس بذي فضل دعاني كما يدعو الصديق صديقه * فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي
فلما جلسنا للغداء رأيته * يرى أنما من بعض أعضائه أكلي فيغتاظ أحيانا ويشتم عبده * فأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي أمد يدي سرا لآكل لقمة * فيلحظني شزرا فأعبث بالبقل إلى أن جنت كفي علي جناية * وذلك أن الجوع أعدمني عقلي فأهوت يميني نحو رجل دجاجة * فجرت رجلها كما جرت يدي رجلي ومن قوي شعره قوله: رحلتم فكم من أنة بعد حنة * مبينة للناس حزني عليكم وقد كنت أعتقت الجفون من البكا * فقد ردها في الرق شوقي إليكم وقد أورد له ابن خلكان من شعره الرائق قوله: فقلت لها: بخلت علي يقظي * فجودي في المنام لمستهام فقالت لي: وصرت تنام أيضا * وتطمع أن أزورك في المنام ؟ قال: وإنما لقبه بجحظة عبد الله بن المعتز، وذلك لسوء منظره بمآقيه.
قال بعض من هجاه (1):
__________
(1) البيتان لابن الرومي قالهما في خلقه المشوه (الوفيات 1 / 134)

بيت جحظة تسعين جحوظة (1) * من فيل شطرنج ومن سرطان وارحمتا لمنادميه تحملوا * ألم العيون للذة الآذان توفي سنة ست وعشرين وقيل أربع وعشرين وثلثمائة بواسط.
ابن المغلس الفقيه الظاهري (2) المشهور.
له المصنفات المفيدة في مذهبه.
أخذ الفقه عن أبي بكر بن داود.
وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، وعلي بن داود القنطري، وأبي قلابة الرياشي، وآخرين.
وكان ثقة فقيها
فاضلا وهو الذي نشر علم داود في تلك البلاد.
توفي بالسكتة.
أبو بكر بن زياد النيسابوري عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون، أبو بكر الفقيه الشافعي النيسابوري مولى أبان بن عثمان، رحل إلى العراق والشام ومصر، وسكن بغداد.
حدث عن محمد بن يحيى الذهلي وعباس الدوري، وخلق.
وعنه الدار قطني وغير واحد من الحفاظ.
قال الدار قطني: لم ير في مشايخنا أحفظ منه للاسانيد والمتون وكان أفقه المشايخ، جالس المزني والربيع وقال عبد الله بن بطة: كنا نحصر مجلس ابن زيادة وكان يحرز من يحضره من أصحاب المحابر ثلاثين ألفا.
وقال الخطيب: أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأ يوسف بن عمر بن مسرور سمعت أبا بكر ابن زياد النيسابوري يقول: أعرف من قام الليل أربعين سنة لم ينم إلا جاثيا، ويتقوت كل يوم خمس حبات، ويصلي صلاة الغد بطهارة العشاء، ثم يقول: أنا هو كنت أفعل هذا كله قبل أن أعرف أم عبد الرحمن - يعني أم ولده - إيش أقول لمن زوجني.
ثم قال في إثر هذا: ما أراد إلا الخير.
توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة.
عفان بن سليمان ابن أيوب أبو الحسن التاجر، أقام بمصر وأوقف بها أوقافا دارة على أهل الحديث، وعلى سلالة العشرة رضي الله عنهم.
وكان تاجرا موسعا عليه في الدنيا، مقبول الشهادة عند الحكام، توفي في شعبان منها.
__________
(1) في الوفيات: يستعير جحوظه.
(2) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس، أبو الحسن البغدادي الداودي .

أبو الحسن الاشعري قدم بغداد وأخذ الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي وتفقه بابن سريج.
وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية.
وذكر ابن خلكان: أنه كان يجلس في حلقة الشيخ أبي إسحاق المروزي، وقد كان
الاشعري معتزليا فتاب منه بالبصرة فوق المنبر، ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم، وله من الكتب: الموجز وغيره، وحكي عن ابن حزم أنه قال: للاشعري خمسة وخمسون تصنيفا.
وذكر أن مغله كان في كل سنة سبعة عشر ألف درهم، وأنه كان من أكثر الناس دعابة، وأنه ولد سنة سبعين ومائتين، وقيل سنة ستين ومائتين، ومات في هذه السنة، وقيل في سنة ثلاثين، وقيل في سنة بضع وثلاثين وثلثمائة فالله أعلم.
محمد بن الفضل بن عبد الله، أبو ذر التميمي، كان رئيس جرجان، سمع الكثير، وتفقه بمذهب الشافعي، وكانت داره مجمع العلماء، وله إفضال كثير على طلبة العلم من أهل زمانه.
هارن بن المقتدر أخو الخليفة الراضي، توفي في ربيع الاول منها، فحزن عليه أخوه الراضي.
وأمر بنفي بختيشوع بن يحيى المتطبب إلى الانبار، لانه اتهم في علاجه، ثم شفعت فيه أم الراضي فرده.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلثمائة في المحرم منها خرج الخليفة الراضي وأمير الامراء محمد بن رائق من بغداد قاصدين واسط لقتال أبي عبد الله البريدي نائب الاهواز، الذي قد تجبر بها ومنع الخراج، فلما سار ابن رائق إلى واسط خرج الحجون (1) فقاتلوه فسلط عليهم بجكم فطحنهم (2)، ورجع فلهم إلى بغداد فتلقاهم لؤلؤ أمير الشرطة فاحتاط على أكثرهم ونهبت دورهم، ولم يبق لهم رأس يرتفع، وقطعت أرزاقهم من بيت المال بالكلية.
وبعث الخليفة وابن رائق إلى أبي عبد الله البريدي يتهددانه فأجاب إلى حمل كل سنة ثلثمائة ألف وستين ألف دينار يقوم بها، تحمل كل سنة على حدته، وأنه يجهز جيشا إلى قتال عضد الدولة بن بويه.
فلما رجع الخليفة إلى بغداد لم يحمل شيئا ولم يبعث أحدا.
ثم بعث ابن رائق بجكم وبدرا الحسيني لقتال البريدي، فجرت بينهم حروب وخطوب، وأمور يطول ذكرها.
ثم لجأ البريدي إلى عماد الدولة واستجار به، واستحوذ بجكم على بلاد الاهواز، وجعل إليه ابن رائق خراجها، وكان بجكم هذا شجاعا فاتكا.
وفي ربيع الاول خلع الخليفة على بجكم وعقد له الامارة ببغداد، وولاه نيابة المشرق إلى خراسان.
وفيها من الاعيان أبو حامد بن الشرقي:
__________
(1) في الكامل 8 / 329 الحجرية.
(2) في الكامل: اعترضهم ابن رائق فقاتلهم قتالا شديدا فانهزم الحجرية وقتل منهم جماعة .

أحمد بن محمد بن الحسن أبو حامد الشرقي، مولده سنة أربعين ومائتين، وكان حافظا كبير القدر كثير الحفظ، كثير الحج.
رحل إلى الامصار وجاب الاقطار، وسمع من الكبار، نظر إليه ابن خزيمة يوما فقال: حياة أبي حامد تحول بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عبد الله بن محمد بن سفيان أبو الحسن الخزاز النحوي، حدث عن المبرد وثعلب، وكان ثقة.
له مصنفات في علوم القرآن غزيرة الفوائد: محمد بن إسحاق بن يحيى أبو الطيب النحوي، قال أبو الوفا له مصنفات مليحة في الاخبار، وقد حدث عن الحارث بن أبي المبرد وأسامة وثعلب وغيرهم - محمد بن هارون أبو بكر العسكري الفقيه على مذهب أبي ثور، روى عن الحسن بن عرفة وعباس الدوري وعن الدار قطني والآجري وغيرهما.
والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلثمائة فيها ورد كتاب من ملك الروم إلى الراضي مكتوب بالرومية والتفسير بالعربية، فالرومي بالذهب والعربي بالفضة، وحاصله طلب الهدنة بينه وبينه، ووجه مع الكتاب بهدايا وألطاف كثيرة فاخرة (1)، فأجابه الخليفة إلى ذلك، وفودي من المسلمين ستة آلاف أسير (2)، ما بين ذكر وأنثى على نهر البدندون.
وفيها ارتحل الوزير أبو الفتح بن الفرات من بغداد إلى الشام، وترك الوزارة فوليها أبو علي بن مقلة وكانت ولايته ضعيفة جدا، ليس له من الامر شئ مع ابن رائق، وطلب من ابن رائق أن يفرغ له عن أملاكه فجعل يماطله، فكتب إلى بجكم يطمعه في بغداد، وأن يكون عوضا عن ابن رائق.
وكتب ابن مقلة أيضا إلى الخليفة ويطلب منه أن يسلم إليه ابن رائق وابن مقاتل، ويضمنهم بألفي دينار، فبلغ ذلك ابن رائق فأخذه فقطع يده، وقال: هذا أفسد في الارض.
ثم جعل يحسن للراضي أن يستوزره وأن قطع يده لا يمنعه من الكتابة، وأنه يشد القلم على يده اليمنى المقطوعة فيكتب بها، ثم بلغ ابن رائق أنه قد كتب إلى بجكم بما تقدم، وأنه يدعو عليه.
فأخذه فقطع لسانه
وسجنه في مكان ضيق، وليس عنده من يخدمه، فكان يستقي الماء بنفسه يتناول الدلو بيده اليسرى ثم يمسكه بفيه ثم يجذب باليسرى ثم يمسك بفيه إلى أن يستقي، ولقي شدة وعناء، ومات في محبسه هذا وحيدا فدفن فيه.
ثم سأل أهله نقله فدفن في داره، ثم نقل منها إلى غيرها، فاتفق له أشياء
__________
(1) نسخة كتاب ملك الروم في تاريخ الزمان لابن العبري ص 56، ورد الخليفة وفيه: من عبد الله أبي العباس الراضي امام الدين أمير المؤمنين إلى رومانوس وقسطنطين واسطفانس وقسطنطين زعماء الروم سلام.
رحبنا بهداياكم ووجهنا إليكم طبقا لرغبتكم سفيرنا فلانا تكريما لكم وتأييدا لعقد الصلح.
(2) في الكامل 8 / 352: ستة آلاف وثلثمائة أسير .

غريبة: منها أنه وزر ثلاث مرات، وعزل ثلاث مرات، وولي لثلاثة من الخلفاء، ودفن ثلاث مرات، وسافر ثلاث سفرات، مرتين منفيا ومرة إلى الموصل كما تقدم.
وفيها دخل بجكم بغداد فقلده الراضي إمرة الامراء مكان ابن رائق، وقد كان بجكم هذا من غلمان أبي علي العارض وزير ما كان بن كالي الديلمي، فاستوهبه ما كان من الوزير فوهبه له، ثم فارق ما كان ولحق بمرداويج، وكان في جملة من قتله في الحمام كما تقدم.
فلما ولاه الخليفة إمرة الامراء أسكن في دار مؤنس الخادم، وعظم أمره جدا وانفصل ابن رائق وكانت أيامه سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوما.
وفيها بعث عماد الدولة بن بويه أخاه معز الدولة فأخذ الاهواز لابي عبد الله البريدي، وانتزعها من يد بجكم وأعادها إليه.
وفيها استولى لشكري أحد أمراء وشمكير الديلمي على بلاد أذر بيجان وانتزعها من رستم (1) بن إبراهيم الكردي، أحد أصحاب ابن أبي الساج، بعد قتال طويل.
وفيها اضطرب أمر القرامطة جدا وقتل بعضهم بعضا، وانكفوا بسبب ذلك عن التعرض للفساد في الارض، ولزموا بلدهم هجر لا يرومون منه انتقالا إلى غيره، ولله الحمد والمنة.
وفيها توفي أحمد بن زياد بن عبد الرحمن الاندلسي، كان أبوه من أصحاب مالك، وهذا الرجل هو أول من أدخل فقه مالك إلى الاندلس وقد عرض عليه القضاء بها فلم يقبل.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلثمائة
في المحرم منها خرج الراضي أمير المؤمنين إلى الموصل لمحاربة ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان نائبها، وبين يديه بجكم أمير الامراء، وقاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد بن يوسف، وقد استخلف على بغداد ولده القاضي أبا نصر يوسف بن عمر، في منصب القضاء، عن أمر الخليفة بذلك.
وكان فاضلا عالما، ولما انتهى بجكم إلى الموصل واقع الحسن بن عبد الله بن حمدان فهزم بجكم ابن حمدان، وقرر الخليفة الموصل والجزيرة، وولى فيها.
وأما محمد بن رائق فإنه اغتنم غيبة الخليفة عن بغداد واستجاش بألف من القرامطة وجاء بهم فدخل بغداد فأكثر فيها الفساد، غير أنه لم يتعرض لدار الخلافة، ثم بعث إلى الخليفة يطلب منه المصالحة والعفو عما جنى، فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه قاضي القضاة أبا الحسين عمر بن يوسف، وترحل ابن رائق عن بغداد (2) ودخلها الخليفة في جمادى الاولى، ففرح المسلمون بذلك.
ونزل عند غروب الشمس أول ليلة من شهر آذار في جمادى الاولى مطر عظيم، وبرد كبار، كل واحدة نحو أوقيتين، واستمر فسقط بسببه دور كثيرة من بغداد.
وظهر جراد كثير في هذه السنة وكان الحج من جهة درب العراق قد تعطل
__________
(1) في الكامل 8 / 349: ديسم.
(2) في الكامل 8 / 354: قلده طريق الفرات وديار مصر - حران والرها وما جاورها وجند قنسرين والعواصم قال في مختصر تاريخ البشر: فسار ابن رائق واستولى عليها 2 / 86 .

من سنة سبع عشرة وثلثمائة إلى هذه السنة، فشفع في الناس الشريف أبو علي محمد بن يحيى العلوي عند القرامطة، وكانوا يحبونه لشجاعته وكرمه، في أن يمكنهم من الحج، وأن يكون لهم على كل جمل خمسة دنانير، وعلى المحمل سبعة دنانير، فاتفقوا معه على ذلك، فخرج الناس في هذه السنة إلى الحج على هذا الشرط، وكان في جملة من خرج الشيخ أبو علي بن أبي هريرة أحد أئمة الشافعية فلما اجتاز بهم طالبوه بالخفارة فثنى رأس راحلته ورجع وقال: ما رجعت شحا ولكن سقط عني الوجوب بطلب هذه الخفارة.
وفيها وقعت فتنة بالاندلس وذلك أن عبد الرحمن الاموي صاحب الاندلس الملقب بالناصر لدين الله، قتل وزيره أحمد فغضب له أخوه أمية بن إسحاق - وكان نائبا على مدينة
شنترين - فارتد ودخل بلاد النصارى واجتمع بملكهم ردمير ودلهم على عورات المسلمين، فسار إليهم في جيش كثيف من الجلالقة فخرج إليهم عبد الرحمن فأوقع بهم بأسا شديدا، وقتل من الجلالقة خلقا كثيرا، ثم كر الفرنج على المسلمين فقتلوا منهم خلقا كثيرا قريبا ممن قتلوا منهم، ثم والى المسلمون الغارات على بلاد الجلالقة فقتلوا منهم أمما لا يحصون كثرة، ثم ندم أمية بن إسحاق على ما صنع، وطلب الامان من عبد الرحمن فبعث إليه بالامان، فلما قدم عليه قبله واحترمه.
وفيها توفي من الاعيان الحسن بن القاسم بن جعفر بن دحيم (1) أبو علي الدمشقي، من أبناء المحدثين كان أخباريا له في ذلك مصنفات، وقد حدث عن العباس بن الوليد البيروتي (2) وغيره.
توفي بمصر في محرم هذه السنة.
وقد أناف على الثمانين سنة.
الحسين بن القاسم بن جعفر بن محمد بن خالد بن بشر أبو علي الكوكبي الكاتب، صاحب الاخبار والآداب، روى عن أحمد بن أبي خيثمة وأبي العيناء وابن أبي الدنيا.
روى عنه الدار قطني وغيره.
عثمان بن الخطاب ابن عبد الله أبو عمرو البلوي، المغربي الاشج، ويعرف بأبي الدنيا.
قدم هذا الرجل بغداد بعد الثلثمائة، وزعم أنه ولد أول خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ببلاد المغرب، وأنه وفد هو وأبوه على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأصابهم في الطريق عطش فذهب يرتاد لابيه ماء فرأى عينا فشرب منها واغتسل، ثم جاء لابيه ليسقيه فوجده قد مات، وقد هو على علي بن أبي طالب فأراد أن يقبل ركبته فصدمه الركاب فشج رأسه، فكان يعرف بالاشج.
وقد زعم صدقه في هذا الذي زعمه طائفة من الناس، ورووا عنه نسخة فيها أحاديث من روايته عن علي، وممن صدقه
__________
(1) في حسن المحاضرة: الحسن بن قاسم بن جعفر بن دحية.
وفي الوافي 12 / 203: الحسن بن القاسم بن دحيم.
(2) كذا بالاصل والمنتظم، والصواب البيروني في الوافي.
وفي حسن لمحاضرة: السدوسي .

في ذلك الحافظ محمد بن أحمد بن المفيد، ورواها عنه، ولكن كان المفيد متهما بالتشيع، فمسح له بذلك لانتسابه إلى علي، وأما جمهور المحدثين قديما وحديثا فكذبوه في ذلك، وردوا عليه كذبه، ونصوا على أن النسخة التي رواها موضوعة ومنهم أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، وأشياخنا الذين أدركناهم: جهبذ الوقت شيخ الاسلام أبو العباس ابن تيمية، والجهبذ أبو الحجاج المزي، الحافظ مؤرح الاسلام أبو عبد الله الذهبي، وقد حررت ذلك في كتابي التكميل ولله الحمد والمنة.
قال المفيد: بلغني أن الاشج هذا مات سنة سبع وعشرين وثلثمائة، وهو راجع إلى بلده والله أعلم.
محمد بن جعفر بن محمد بن سهل أبو بكر الخرائطي، صاحب المصنفات، أصله من أهل سر من رأى، وسكن الشام وحدث بها عن الحسن بن عرفة وغيره.
وممن توفي فيها الحافظ الكبير ابن الحافظ الكبير أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي صاحب كتاب الجرح والتعديل، وهو من أجل الكتب المصنفة في هذا الشأن، وله التفسير الحافل الذي اشتمل على النقل الكامل، الذي يربو فيه على تفسير ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين، إلى زماننا، وله كتاب العلل المصنفة المرتبة على أبواب الفقه، وغير ذلك من المصنفات النافعة، وكان من العبادة والزهادة والورع والحفظ والكرامات الكثيرة المشهورة على جانب كبير، رحمه الله.
وقد صلى مرة فلما سلم قال له رجل من بعض من صلى معه: لقد أطلت بنا، ولقد سبحت في سجودي سبعين مرة.
فقال عبد الرحمن: لكني والله ما سبحت إلا ثلاثا، وقد انهدم سور بلد في بعض بلاد الثغور فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم للناس: أما تبنوه ؟ وقد حثهم على عمارته.
فرأى عندهم تأخرا.
فقال: من يبنيه وأضمن له على الله الجنة ؟ فقام رجل من التجار فقال: اكتب لي خطك بهذا الضمان وهذه ألف دينار لعمارته.
فكتب له رقعة بذلك، فعمر ذلك السور ثم اتفق موت ذلك الرجل التاجر عما قريب، فلما حضر الناس جنازته طارت من كفنه رقعة فإذا هي التي كانت كتبها له ابن أبي حاتم وإذا في ظهرها مكتوب: قد أمضينا لك هذا الضمان ولا تعد إلى ذلك.
والله
سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلثمائة قال ابن الجوزي في منتظمه: في غرة المحرم منها ظهرت في الجو حمرة شديدة في ناحية الشمال والمغرب، وفيها أعمدة بيض عظيمة كثيرة العدد.
وفيها وصل الخبر بأن ركن الدولة أبا علي الحسن بن بويه وصل إلى واسط فركب الخليفة وبجكم إلى حربه فخاف فانصرف راجعا إلى الاهواز ورجعا إلى بغداد.
وفيها ملك ركن الدولة بن بويه مدينة أصبهان، أخذها من وشمكير أخي

مرداويج، لقلة جيشه في هذا الحين.
وفي شعبان منها زادت دجلة زيادة عظيمة وانتشرت في الجانب الغربي، وسقطت دور كثيرة، وانبثق بثق من نواحي الانبار فغرق قرى كثيرة، وهلك بسببه حيوان وسباع كثيرة في البرية.
وفيها تزوج بجكم بسارة بنت عبد الله البريدي.
ومحمد بن أحمد بن يعقوب الوزير يومئذ ببغداد، ثم صرف عن الوزارة بسليمان بن الحسن، وضمن البريدي بلاد واسط وأعمالها بستمائة ألف دينار.
وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن عمر بن محمد بن يوسف، وتولى مكانه ولده أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، وخلع عليه الخليفة الراضي يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها.
ولما خرج أبو عبد الله البريدي إلى واسط كتب إلى بجكم يحثه على الخروج إلى الجبل ليفتحها ويساعده هو على أخذ الاهواز من يد عماد الدولة بن بويه، وإنما كان مقصوده أن يبعده عن بغداد ليأخذها منه.
فلما انفصل بجكم بالجنود بلغه ما يريده البريدي من المكيدة به، فرجع سريعا إلى بغداد، وركب في جيش كثيف إليه وأخذ الطرق عليه من كل جانب، لئلا يشعر به إلا وهو عليه.
فاتفق أن بجكما كان راكبا في زورق وعنده كاتب له إذ سقطت حمامة في ذنبها كتاب فأخذه بجكم فقرأه فإذا فيه كتاب من هذا الكاتب إلى أصحاب البريدي يعلمهم بخبر بجكم، فقال له بجكم: ويحك هذا خطك ؟ قال: نعم ! ولم يقدر أن ينكر، فأمر بقتله فقتل والقي في دجلة.
ولما شعر البريدي بقدوم بجكم هرب إلى البصرة ولم يقم بها أيضا بل هرب منها إلى غيرها.
واستولى
بجكم على بلاد واسط، وتسلط الديلم على جيشه الذين خلفهم بالجبل ففروا سراعا إلى بغداد.
وفيها استولى محمد بن رائق على بلاد الشام فدخل حمص أولا فأخذها، ثم جاء إلى دمشق وعليها بدر بن عبد الله الاخشيد المعروف ببدر (1).
الاخشيد وهو محمد بن طغج، فأخرجه ابن رائق من دمشق قهرا واستولى عليها.
ثم ركب ابن رائق في جيش إلى الرملة فأخذها، ثم إلى عريش مصر فأراد دخولها فلقيه محمد بن طغج الاخشيد فاقتتلا هناك فهزمه ابن رائق واشتغل أصحابه بالنهب ونزلوا بخيام المصريين، فكر عليهم المصريون فقتلوهم قتلا عظيما، وهرب ابن رائق في سبعين رجلا من أصحابه، فدخل دمشق في أسوأ حال وشرها، وأرسل له ابن ظغج أخاه أبا نصر بن طغج في جيش فاقتتلوا عند اللجون في رابع ذي الحجة، فهزم ابن رائق المصريين وقتل أخو الاخشيد فيمن قتل، فغسله ابن رائق وكفنه وبعث به إلى أخيه بمصر وأرسل معه ولده وكتب إليه يحلف أنه ما أراد قتله، ولقد شق عليه، وهذا ولدي فاقتد منه.
فأكرم الاخشيد ولد محمد بن رائق، واصطلحا على أن تكون الرملة وما بعدها إلى ديار مصر للاخشيد، ويحمل إليه الاخشيد في كل سنة مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار، وما بعد الرملة إلى جهة دمشق تكون لابن رائق.
وفيها توفي من الاعيان..
__________
(1) في الكامل 8 / 363 والعبر لابن خلدون 3 / 408: بدير .

أبو محمد جعفر (1) المرتعش أحد مشايخ الصوفية، كذا ذكره الخطيب.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي اسمه عبد الله بن محمد أبو محمد النيسابوري، كان من ذوي الاموال فتخلى منها وصحب الجنيد وأبا حفص وأبا عثمان، وأقام ببغداد حتى صار شيخ الصوفية، فكان يقال عجائب بغداد: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات جعفر الخواص.
سمعت أبا جعفر (2) الصائغ يقول قال المرتعش: من ظن أن أفعاله تنجيه من النار أو تبلغه الرضوان فقد جعل لنفسه وفعله خطرا، ومن اعتمد على فضل الله بلغه الله أقصى منازل الرضوان وقيل للمرتعش: إن فلانا يمشي على الماء.
فقال: إن مخالفة الهوى أعظم من المشي على الماء، والطيران في الهواء.
ولما حضرته الوفاة بمسجد الشونيزية حسبوا ما
عليه من الدين فإذا عليه سبعة عشر درهما، فقال: بيعوا خريقاتي هذه واقضوا بها ديني، وأرجو من الله تعالى أن يرزقني كفنا.
وقد سألت الله ثلاثا: أن يميتني فقيرا، وأن يجعل وفاتي في هذا المسجد فإني صحبت فيه أقواما، وأن يجعل عندي من آنس به وأحبه.
ثم أغمض عينيه ومات.
أبو سعيد الاصطخري الحسن بن أحمد ابن يزيد بن عيسى بن الفضل بن يسار، أبو سعيد الاصطخري أحد أئمة الشافعية، كان زاهدا ناسكا عابدا، ولي القضاء بقم، ثم حسبة بغداد، فكان يدور بها ويصلي على بغلته، وهو دائر بين الازقة، وكان متقللا جدا.
وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية، وله كتاب القضاء لم يصنف مثله في بابه، توفي وقد قارب التسعين (3) رحمه الله.
علي بن محمد أبو الحسن المزين الصغير أحد مشايخ الصوفية، أصله من بغداد، وصحب الجنيد وسهلا التستري، وجاور بمكة حتى توفي في هذه السنة، وكان يحكي عن نفسه قال: وردت بئرا في أرض تبوك فلما دنوت منها زلقت فسقطت في البئر، وليس أحد يراني.
فلما كنت في أسفله إذا فيه مصطبة فتعلقت بها وقلت: إن مت لم أفسد على الناس الماء، وسكنت نفسي وطابت للموت، فبينا أنا كذلك إذا أفعى قد تدلت علي
__________
(1) كذا بالاصل والكامل لابن الاثير، وفي صفة الصفوة 2 / 462: عبد الله بن محمد النيسابوري.
وانظر شذرات الذهب 2 / 317.
(2) في صفة الصفوة: أبا الفرج.
(3) قال ابن خلكان في ترجمته 2 / 74: كانت ولادته سنة 244 ه وتوفي 12 جمادى الآخرة سنة 328 فعلى هذا يكون له عندما مات 84 سنة .

فلفت علي ذنبها ثم رفعتني حتى أخرجتني إلى وجه الارض، وانسابت فلم أدر أين ذهبت، ولا من أين جاءت.
وفي مشايخ الصوفية آخر يقال له أبو جعفر المزين الكبير، جاور بمكة ومات بها أيضا، وكان من العباد.
روى الخطيب عن علي بن أبي علي إبراهيم بن محمد الطبري عن جعفر الخلدي
قال: ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير فقلت له: زودني.
فقال لي: إذا فقدت شيئا فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشئ.
قال: وجئت إلى الكتاني فودعته وسألته أن يرودني، فأعطاني خاتما على فصه نقش فقال: إذا اغتممت فانظر إلى فص هذا الخاتم يزول غمك.
قال: فكنت لا أدعو بذلك الدعاء إلا استجيب لي، ولا أنظر في ذلك الفص إلا زال غمي، فبينا أنا ذات يوم في سمرية إذ هبت ريح شديدة، فأخرجت الخاتم لانظر إليه فلم أدر كيف ذهب، فجعلت أدعو بذلك الدعاء يومي أجمع أن يجمع علي الخاتم، فلما رجعت إلى المنزل فتشت المتاع الذي في المنزل فإذا الخاتم في بعض ثيابي التي كانت بالمنزل.
صاحب كتاب العقد الفريد - أحمد بن عبد ربه ابن حبيب بن جرير (1) بن سالم أبو عمر القرطبي، مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الاموي.
كان من الفضلاء المكثرين، والعلماء بأخبار الاولين والمتأخرين، وكتابه العقد يدل على فضائل جمة، وعلوم كثيرة مهمة، ويدل كثير من كلامه على تشيع فيه، وميل إلى الحط على بني أمية.
وهذا عجيب منه، لانه أحد مواليهم وكان الاولى به أن يكون ممن يواليهم لا ممن يعاديهم.
قال ابن خلكان: وله ديوان شعر حسن، ثم أورد منه أشعارا في التغزل في المردان والنسوان أيضا.
ولد في رمضان سنة ست وأربعين ومائتين وتوفي بقرطبة يوم الاحد ثامن عشر جمادى الاولى من هذه السنة.
عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب ابن حماد بن زيد بن درهم، أبو الحسين الازدي الفقيه المالكي القاضي، ناب عن أبيه وعمره عشرون سنة، وكان حافظا للقرآن والحديث والفقه على مذهب مالك، والفرائض.
والحساب واللغة والنحو والشعر.
وصنف مسندا فرزق قوة الفهم وجودة القريحة، وشرف الاخلاق، وله الشعر الرائق الحسن، وكان مشكور السيرة في القضاء، عدلا ثقة إماما.
قال الخطيب: أخبرنا أبو الطيب الطبري سمعت المعافى بن زكريا الجريري يقول: كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسين
__________
(1) في الوافي 8 / 10 ووفيات الاعيان 1 / 110: أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حذير .

فجئنا يوما ننتظره على العادة فجلسنا عند بابه، وإذا أعرابي جالس كأن له حاجة، إذ وقع غراب على نخلة في الدار، فصرخ ثم طار.
فقال الاعرابي: إن هذا الغراب يخبر أن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام.
قال فزبرناه فقام وانصرف، ثم خرج الاذن من القاضي أن هلموا، فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتما، فقلنا له: ما الخبر ؟ فقال: إني رأيت البارحة في المنام شخصا يقول: منازل آل حماد بن زيد * على أهليك والنعم السلام وقد ضاق لذلك صدري.
قال: فدعونا له وانصرفنا.
فلما كان اليوم السابع من ذلك اليوم دفن ليوم الخميس لسبع عشرة مضت من شعبان من هذه السنة، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وصلى عليه ابنه أبو نصر وولي بعده القضاء.
قال الصولي: بلغ القاضي أبو الحسين من العلم مبلغا عظيما مع حداثة سنة، وحين توفي كان الخليفة الراضي يبكي عليه ويحرضنا ويقول: كنت أضيق بالشئ ذرعا فيوسعه علي، ثم يقول: والله لا بقيت بعده.
فتوفي الراضي بعده في نصف ربيع الاول من هذه السنة الآتية رحمهما الله.
وكان الراضي أيضا حدث السن.
ابن شنبوذ المقري محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت أبو الحسن المقري المعروف بابن شنبوذ.
روى عن أبي مسلم الكجي، وبشر بن موسى وخلق، واختار حروفا في القراءات أنكرت عليه، وصنف أبو بكر الانباري كتابا في الرد عليه، وقد ذكرنا فيما تقدم كيف أنه عقد له مجلس في دار الوزير ابن مقلة، وأنه ضرب حتى رجع عن كثير منها، وكانت قراءات شاذة أنكرها عليه قراء أهل عصره.
توفي في صفر منها، وقد دعا على الوزير ابن مقلة حين أمر بضربه فلم يفلح ابن مقلة بعدها، بل عوقب بأنواع من العقوبات، وقطعت يده ولسانه، وحبس حتى مات في هذه السنة التي مات فيها ابن شنبوذ.
وهذه ترجمة ابن مقلة الوزير أحد الكتاب المشاهير وهو: محمد بن علي بن الحسن (1) بن عبد الله
أبو علي المعروف بابن مقلة الوزير.
وقد كان في أول عمره ضعيف الحال (2)، قليل المال، ثم آل به الحال إلى أن ولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء.
المقتدر، والقاهر، والراضي.
وعزل ثلاث
__________
(1) في وفيات الاعيان 5 / 113: الحسين.
(2) كان في ابتداء امره يخدم في بعض الدواوين في كل شهر بستة دنانير ثم تعلق بابن الفرات واختص به، فرفع من قدره وأعلى من شأنه، فمكث بين يديه يعرض عليه رقاعا في مهمات الناس وينتفع بسبب ذلك.
وقال ابن خلكان: كان يتولى بعض أعمال فارس ويجبي خراجها..(انظر وفيات الاعيان 5 / 113 الوافي 4 / 109 والفخري 270) .

مرات، وقطعت يده ولسانه في آخر عمره، وحبس فكان يستقي الماء بيده اليسرى وأسنانه، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وهي صحيحة.
وقد كان خطه من أقوى الخطوط، كما هو مشهور عنه وقد بنى له دارا في زمان وزارته وجمع عند بنيانها خلقا من المنجمين، فاتفقوا على وضع أساسها في الوقت الفلاني، فأسس جدرانها بين العشاءين كما أشار به المنجمون.
فما لبث بعد استتمامها إلا يسيرا حتى خربت وصارت كوما، كما ذكرنا ذلك، وذكرنا ما كتبوا على جدارانها.
وقد كان له بستان كبير جدا، عدة أجربة - أي فدادين - وكان على جميعه شبكة من إبريسم، وفيه أنواع الطيور من القمارى والهزار والببغ والبلابل والطواويس وغير ذلك شئ كثير، وفي أرضه من الغزلان وبقر الوحش والنعام وغير ذلك شئ كثيرا أيضا.
ثم صار هذا كله عما قريب بعد النضرة والبهجة والبهاء إلى الهلاك والبوار والفناء الزوال.
وهذه سنة الله في المغترين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء الغرور.
وقد أنشد فيه بعض الشعراء حين بنى داره وبستانه وما اتسع فيه من متاع الدنيا: قل لابن مقلة: لا تكن عجلا * واصبر، فإنك في أضغاث أحلام تبني بأحجر دور الناس مجتهدا * دارا ستهدم قنصا بعد أيام ما زلت تختار سعد المشتري لها * فكم نحوس به من نحس بهرام
إن القران وبطليموس ما اجتمعا * في حال نقض ولا في حال ابرام فعزل ابن مقلة عن الوزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلي الحبل بيده اليسرى ويمسكه بفيه.
وقاسى جهدا جهيدا بعد ما ذاق عيشا رغيدا.
ومن شعره في يده: ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة (1) * بأيمانهم، فبانت يميني بعت ديني لهم بدنياي حتى * حرموني دنياهم بعد ديني ولقد حفظت ما استطعت بجهدي * حفظ أرواحهم، فما حفظوني ليس بعد اليمين لذة عيش * يا حياتي بانت يميني فبيني وكان يبكي على يده كثيرا ويقول: كتبت بها القرآن مرتين، وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تقطع كما تقطع أيدي اللصوص ثم ينشد: إذا ما مات بعضك فابك بعضا * فإن البعض من بعض قريب وقد مات عفا الله عنه في محبسه هذا ودفن في دار السلطان، ثم سأل ولده أبو الحسين أن يحول
__________
(1) البيت في الوافي 4 / 110 ووفيات الاعيان 5 / 116، وفيهما سقطت " للحياة " .

إلى عنده فأجيب فنبشوه ودفنه ولده عنده في داره.
ثم سألت زوجته المعروفة بالدينارية أن يدفن في دارها فأجيبت إلى ذلك فنبش ودفن عندها.
فهذه ثلاث مرات.
توفي وله من العمر ست وخمسون سنة.
أبو بكر بن الانباري محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فروة بن قطن بن دعامة أبو بكر الانباري، صاحب كتاب الوقف والابتداء، وغيره من الكتب النافعة، والمصنفات الكثيرة.
كان من بحور العلم في اللغة والعربية والتفسير والحديث، وغير ذلك.
سمع الكديمي
وإسماعيل القاضي وثعلبا وغيرهم، وكان ثقة صدوقا أديبا، دينا فاضلا من أهل السنة.
كان من أعلم الناس بالنحو والادب، وأكثرهم حفظا له، وكان له من المحافيظ مجلدات كثيرة، أحمال جمال وكان لا يأكل إلا النقالى ولا يشرب ماء إلا قريب العصر، مراعاة لذهنه وحفظه، ويقال: إنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا، وحفظ تعبير الرؤيا في ليلة، وكان يحفظ في كل جمعة عشرة آلاف ورقة، وكانت وفاته ليلة عيد النحر من هذه السنة.
أم عيسى بنت إبراهيم الحربي، كانت عالمة فاضلة، تفتي في الفقه.
توفيت في رجب ودفنت إلى جانب أبيها رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلثمائة في المنتصف (1) من ريبع الاول كانت وفاة الخليفة الراضي بالله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي، استخلف بعد عمه القاهر لست (2) خلون من جمادى الاولى سنة ثنتين وعشرين وثلثمائة.
وأمه أم ولد رومية تسمى ظلوم، كان مولده في رجب سنة سبع وتسعين ومائتين، وكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام (3)، وعمره يوم مات إحدى وثلاثين سنة وعشرة أشهر (4).
وكان أسمر
__________
(1) في تاريخ بغداد 2 / 242: ليلة السبت لست عشرة ليلة خلت من ربيع الاول.
وفي الوافي بالوفيات 2 / 299 ونهاية الارب 23 / 152: منتصف ربيع الآخر.
وفي المنتظم 6 / 324: ليلة السبت 14 بقيت من ربيع الآخر.
(2) في مروج الذهب 4 / 351: لخمس.
(3) يتفق مع ما جاء في المنتظم ونهاية الارب وتاريخ الخلفاء والعيون والحدائق.
وفي مروج الذهب 4 / 364: ست سنين وأحد عشر شهرا وثلاثة أيام.
وفي العقد الفريد والوافي بالوفيات 2 / 299: ست سنين وعشرة أيام.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 409: سبع سنين غير شهر.
(4) في الكامل 8 / 366: اثنتين وثلاثين سنة وشهروا

رقيق السمرة ذري اللون أسود الشعر سبطه، قصير القامة، نحيف الجسم، في وجهه طول، وفي مقدم لحيته تمام، وفي شعرها رقة.
هكذا وصفه من شاهده.
قال الخطيب البغدادي: كان للراضي فضائل كثيرة، وختم الخلفاء في أمور عدة: منها أنه كان آخر خليفة له شعر، وآخرهم انفرد بتدبير الجيوش والاموال، وآخر خليفة خطب على المنبر يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء.
وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وأصحابه وأموره كلها تجري على ترتيب المتقدمين من الخلفاء.
وقال غيره: كان فصيحا بليغا كريما جوادا ممدحا، ومن جيد كلامه الذي سمعه منه محمد بن يحيى الصولي: لله أقوام هم مفاتيح الخير، وأقوام هم مفاتيح الشر، فمن أراد الله به خيرا قصده أهل الخير وجعله الوسيلة إلينا فنقضي حاجته وهو الشريك في الثواب والاجر والشكر ومن أراد الله به شرا عدل به إلى غيرنا وهو الشريك في الوزر والاثم والله المستعان على كل حال.
ومن ألطف الاعتذارات ما كتب به الراضي إلى أخيه المتقي وهما في المكتب - وكان المتقي قد اعتدى على الراضي والراضي هو الكبير منهما - فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أنا معترف لك بالعبودية فرضا، وأنت معترف لي بالاخوة فضلا، والعبد يذنب والمولى يعفو.
وقد قال الشاعر: يا ذا الذي يغضب من غير شي * اعتب فعتباك حبيب إلي أنت على أنك لي ظالم * أعز خلق الله طرا علي قال فجاء إليه أخوه المتقي فأكب عليه يقبل يديه وتعانقا واصطلحا.
ومن لطيف شعره قوله فيما ذكره ابن الاثير في كامله: يصفر وجهي إذا تأمله * طرفي ويحمر وجهه خجلا حتى كأن الذي بوجنته * من دم جسمي إليه قد نقلا قال: ومما رثا به أباه المقتدر: ولو أن حيا كان قبرا لميت * لصيرت أحشائي لاعظمه قبرا ولو أن عمري كان طوع مشيئتي * وساعدني المقدور (1) قاسمته العمرا
بنفسي ثرى ضاجعت في تربة (2) البلى * لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا ومما أنشده له ابن الجوزي في منتظمه: لا تكثرن لومي (3) على الاسراف * ربح المحامد متجر الاشراف
__________
(1) في الكامل 8 / 366: التقدير.
(2) في الكامل: تربه.
(3) في الوافي 2 / 298: لا تعذلي كرمي .

أحوي لما يأتي المكارم سابقا (1) * وأشيد ما قد أسست أسلافي إني من القوم الذين أكفهم * معتادة الاملاق (2) والاتلاف ومن شعره الذي رواه الخطيب عنه من طريق أبي بكر محمد بن يحيى الصولي النديم قوله: كل صفو إلى كدر * كل أمن إلى حذر ومصير الشباب للمو * ت فيه أو الكبر (3) در در المشيب من * واعظ ينذر البشر أيها الآمل الذي * تاه في لجة الغرر أين من كان قبلنا ؟ * درس العين والاثر سيرد المعاد من * عمره كله خطر رب إني ادخرت (4) عن * دك أرجوك مدخر رب إني مؤمن بما * بين الوحي في السور واعترافي بترك نف * عي وإيثاري الضرر رب فاغفر لي الخطي * ئة، ياخير من غفر وقد كانت وفاته بعلة الاستسقاء في ليلة السادس عشر من ربيع الاول منها.
وكان قد أرسل إلى بجكم وهو بواسط أن يعهد إلى ولده الاصغر أبي الفضل، فلم يتفق له ذلك، وبايع الناس أخاه
المتقي لله إبراهيم بن المقتدر، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
[ خلافة المتقي لله ] لما مات أخوه الراضي اجتمع القضاة والاعيان بدار بجكم واشتوروا فيمن يولون عليهم، فاتفق رأيهم كلهم على المتقي، فأحضروه في دار الخلافة وأرادوا بيعته فصلى ركعتين صلاة الاستخارة وهو على الارض، ثم صعد إلى الكرسي بعد الصلاة، ثم صعد إلى السرير وبايعه الناس يوم الاربعاء لعشر بقين من ربيع الاول منها (5)، فلم يغير على أحد شيئا، ولا غدر بأحد حتى ولا على سريته لم يغيرها ولم يتسر عليها.
وكان كاسمه المتقي بالله كثير الصيام والصلاة والتعبد.
وقال: لا أريد
__________
(1) في الوافي: اجري كآبائي الخلايف سابقا.
(2) في الوافي: الاتلاف والاخلاف.
(2) في الكامل 8 / 367: أو الكدر.
(4) في الكامل والوافي 2 / 299: ذخرت.
(5) في الكامل 8 / 368: بويع له في العشرين من ربيع الاول.
وفي مروج الذهب 4 / 383: لعشر خلون من ربيع الاول

جليسا ولا مسامرا، حسبي المصحف نديما، لا أريد نديما غيره.
فانقطع عنه الجلساء والسمار والشعراء والوزراء والتفوا على الامير بجكم، وكان يجالسهم ويحادثونه ويتناشدون عنده الاشعار، وكان بجكم لا يفهم كثير شئ مما يقولون لعجمته، وكان في جملتهم سنان بن ثابت الصابي المتطبب، وكان بجكم يشكو إليه قوة النفس الغضبية فيه، وكان سنان يهذب من أخلاقه ويسكن جأشه، ويروض نفسه حتى يسكن عن بعض ما كان يتعاطاه من سفك الدماء، وكان المتقي بالله حسن الوجه معتدل الخلق قصير الانف أبيض مشربا حمرة، وفي شعره شقرة، وجعودة، كث اللحية، أشهل العينين، أبي النفس.
لم يشرب خمرا ولا نبيذا قط، فالتقى فيه الاسم والفعل ولله الحمد.
ولما استقر المتقي في الخلافة أنفذ الرسل والخلع إلى بجكم وهو بواسط، ونفذت المكاتبات إلى الآفاق بولايته.
وفيها تحارب أبو عبد الله البريدي وبجكم بناحية الاهواز، فقتل بجكم في الحرب واستظهر البريدي عليه وقوي أمره، فاحتاط الخليفة على حواصل بجكم، وكان من جملة ما أخذ من أمواله ألف ألف دينار، ومائة (1) ألف دينار.
وكانت أيام بجكم على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام.
ثم إن البريدي حدثته نفسه ببغداد، فأنفق المتقي أموالا جزيلة في الجند ليمنعوه من ذلك، فركب بنفسه، فخرج لاثناء الطريق ليمنعه من دخول بغداد، فخالفه البريدي ودخل بغداد في ثاني (2) رضمان، ونزل بالشفيع، فلما تحقق المتقي ذلك بعث إليه يهنئه وأرسل إليه بالاطعمة، وخوطب بالوزير ولم يخاطبة بإمرة الامراء.
فأرسل البريدي يطلب من المتقي خمسمائة ألف دينار، فامتنع الخليفة من ذلك فبعث إليه يتهدده ويتوعده ويذكره ما حل بالمعز والمستعين والمهتدي والقاهر.
واختلفت الرسل بينهم، ثم كان آخر ذلك أن بعث الخليفة إليه بذلك قهرا، ولم يتفق اجتماع الخليفة والبريدي ببغداد حتى خرج منها البريدي إلى واسط، وذلك أنه ثارت عليه الديالمة والتفوا على كبيرهم كورتكين، وراموا حريق دار البريدي، ونفرت عن البريدي طائفة من جيشه، يقال لهم البجكمية، لانه لما قبض المال من الخليفة لم يعطهم منه شيئا، وكانت البجكمية طائفة أخرى قد اختلفت معه أيضا وهم الديالمة قد صاروا حزبين.
والتفوا مع الديالمة فانهزم البريدي من بغداد يوم سلخ رمضان، واستولى كورتكتين على الامور بغداد، ودخل إلى المتقي فقلده إمرة الامراء، وخلع عليه، واستدعى المتقي علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن ففوض إلى عبد الرحمن تدبير الامور من غير تسمية بوزارة، ثم قبض كورتكين على رئيس الاتراك بكبك (3) غلام بجكم وغرقه.
ثم تظلمت العامة من الديلم، لانهم كانوا يأخذون منهم دورهم، فشكوا ذلك إلى كورتكين فلم يشكهم، فمنعت العامة الخطباء أن يصلوا في الجوامع، واقتتل الديلم والعامة، فقتل من الفريقين خلق كثير وجم غفير.
وكان الخليفة قد كتب إلى أبي بكر محمد بن رائق صاحب الشام يستدعيه إليه ليخلصه من
__________
(1) في الكامل: مائتي ألف دينار.
(2) في الكامل 8 / 373: ثاني عشر.
(3) في الكامل: تكينك.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 410: بكتيك.

الديلم ومن البريدي، فركب إلى بغداد في العشرين من رمضان ومعه جيش عظيم، وقد صار إليه من الاتراك البجكمية خلق كثير، وحين وصل إلى الموصل حاد عن طريقه ناصر الدولة بن حمدان، فتراسلا ثم اصطلحا، وحمل ابن حمدان مائة ألف دينار، فلما اقترب ابن رائق من بغداد خرج كورتكين في جيشه ليقاتله، فدخل ابن رائق بغداد من غربيها ورجع كورتكين بجيشه فدخل من شرقيها، ثم تصافوا ببغداد للقتال وساعدت العامة ابن رائق على كورتكين فانهزم الديلم وقتل منهم خلق كثير، وهرب كورتكين فاختفى، واستقر أمر ابن رائق وخلع عليه الخليفة وركب هو وإياه في دجلة فظفر ابن رائق بكورتكين فأودعه السجن الذي في دار الخلافة.
قال ابن الجوزي: وفي يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الاولى حضر الناس لصلاة الجمعة بجامع براثى، وقد كان المقتدر أحرق هذا الجامع لانه كبسه فوجد فيه جماعة من الشيعة يجتمعون فيه للسب والشتم، فلم يزل خرابا حتى عمره بجكم في أيام الراضي، ثم أمر المتقي بوضع منبر فيه كان عليه اسم الرشيد وصلى فيه الناس الجمعة.
قال: فلم يزل تقام فيه إلى ما بعد سنة خمسين وأربعمائة.
قال: وفي جمادى الآخرة في ليلة سابعه كانت ليلة برد ورعد وبرق، فسقطت القبة الخضراء من قصر المنصور، وقد كانت هذه القبة تاج بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم، وكان بين بنيانها وسقوطها مائة وسبع (1) وثمانون سنة.
قال: وخرج عن الناس التشرينان الكانونان (2) منها ولم يمطروا فيها بشئ سوى مطرة واحدة لم ينبل منها التراب، فغلت الاسعار ببغداد حتى بيع الكر بمائة وثلاثين دينارا (3).
ووقع الفناء في الناس حتى كان الجماعة يدفنون في القبر الواحد، من غير غسل ولا صلاة، وبيع العقار والاثاث بأرخص الاسعار، حتى كان يشترى بالدرهم ما يساوي الدينار في غير تلك الايام ورأت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها وهو يأمرها بخروج الناس إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء، فأمر الخليفة بامتثال ذلك فصلى الناس واستسقوا فجاءت الامطار فزادت الفرات شيئا لم ير مثله، وغرقت العباسية، ودخل الماء الشوارع ببغداد، فسقطت القنطرة العتيقة والجديدة، وقطعت الاكراد الطريق على قافلة من خراسان، فأخذوا منهم ما قيمته
ثلاثة آلاف دينار، وكان أكثر ذلك من أموال بجكم التركي.
وخرج الناس للحج ثم رجعوا من أثناء الطريق بسبب رجل من العلويين قد خرج بالمدينة النبوية، ودعا إلى نفسه وخرج عن الطاعة.
وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن إبراهيم ابن تزمرد الفقيه أحد أصحاب ابن سريج.
خرج من الحمام إلى خارجه فسقط عليه الحمام فمات من فوره.
__________
(1) في الاصل سبعة وما أثبتناه الصواب.
(2) زيد في الكامل 8 / 377: وشباط.
(3) في مآثر الانافة 1 / 297: مائتي دينار وعشرة دنانير، كر الحنطه .

بجكم التركي أمير الامراء ببغداد، قبل بني بويه.
كان عاقلا يفهم بالعربية ولا يتكلم بها.
يقول أخاف أن أخطئ والخطأ من الرئيس قبيح.
وكان مع ذلك يحب العلم وأهله، وكان كثير الاموال والصدقات، ابتدأ يعمل مارستان بغداد فلم يتم، فجدده عضد الدولة بن بويه، وكان بجكم يقول: العدل ربح السلطان في الدنيا والآخرة.
وكان يدفن أموالا كثيرة في الصحراء، فلما مات لم يدر أين هي، وكان ندماء الراضي قد التفوا على بجكم وهو بواسط، وكان قد ضمنها بثمانمائة ألف دينار من الخليفة، وكانوا يسامرونه كالخليفة، وكان لا يفهم أكثر ما يقولون، وراض له مزاجه الطيب سنان بن ثابت الصابي حتى لان خلقه وحسنت سيرته، وقلت سطوته، ولكن لم يعمر إلا قليلا بعد ذلك.
ودخل عليه مرة رجل فوعظه فأبكاه فأمر له بمائة ألف درهم، فلحقه بها الرسول فقال بجكم لجلسائه: ما أظنه يقبلها ولا يريدها، وما يصنع هذا بالدنيا ؟ هذا رجل مشغول بالعبادة، ماذا يصنع بالدراهم ؟ فما كان بأسرع من أن رجع الغلام وليس معه شئ، فقال بجكم: قبلها ؟ قال: نعم ! فقال بجكم: كلنا صيادون ولكن الشباك مختلفة.
توفي لسبع بقين من رجب من هذه السنة.
وسبب موته أنه خرج يتصيد فلقي طائفة من الاكراد فاستهان بهم فقاتلوه فضربه رجل منهم فقتله.
وكانت إمرته على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة.
أيام وخلف من الاموال والحواصل ما ينيف على ألفي ألف دينار، أخذها المتقي لله كلها.
أبو محمد البربهاري (1) العالم الزاهد الفقيه الحنبلي الواعظ، صاحب المروزي وسهلا التستري، وتنزه عن ميراث أبيه، - وكان سبعين ألفا (2) - لامر كرهه.
وكان شديد على أهل البدع والمعاصي، وكان كبير القدر تعظمه الخاصة والعامة، وقد عطس يوما وهو يعظ فشمته الحاضرون، ثم شمته من سمعهم حتى شمته أهل بغداد، فانتهت الضجة إلى دار الخلافة، فغار الخليفة من ذلك وتكلم فيه جماعة من أرباب الدولة، فطلب فاختفى عند أخت بوران (3) شهرا، ثم أخذه القيام - داء - فمات عندها، فأمرت خادمها فصلى عليه، فامتلات الدار رجالا عليهم ثياب بياض.
ودفنته عندها ثم أوصت إذا ماتت أن تدفن عنده.
وكان عمره يوم مات ستا وتسعين (4) سنة رحمه الله.
__________
(1) هو الحسن بن علي الفقيه القدوة شيخ الحنابلة بالعراق.
(2) في طبقات الحنابلة تسعين ألفا.
(3) في شذرات الذهب: توزون.
(4) في الكامل 8 / 378 دفن في تربة نصر القشوري، وكان عمره ستا وسبعين وفي الوافي: قال: وفاته سنة 339 ه .

يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول أبو بكر الازرق - لانه كان أزرق العينين - التنوخي الكاتب، سمع جده والزبير بن بكار، والحسين بن عرفة وغيرهم، وكان خشن العيش كثير الصدقة.
فيقال إنه تصدق بمائة ألف دينار، وكان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، روى عنه الدار قطني وغيره من الحفاظ، وكان ثقة عدلا.
توفي في ذي الحجة منها عن ثنتين وتسعين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاثين وثلثمائة قال ابن الجوزي: في المحرم منها ظهر كوكب بذنب رأسه إلى المغرب وذنبه إلى المشرق، وكان عظيما جدا، وذنبه منتشر، وبقي ثلاثة عشر يوما إلى أن اضمحل.
قال: وقد نصف ربيع الاول بلغ الكر من الحنطة مائتي دينار، وأكل الضعفاء الميتة، ودام الغلاء وكثر الموت، وتقطعت السبل وشغل الناس بالمرض والفقر، وتركوا دفن الموتى، واشغلوا عن الملاهي واللعب.
قال: ثم جاء مطر كأفواه القرب، وبلغت زيادة دجلة عشرين ذراعا وثلثا.
وذكر ابن الاثير في الكامل: أن محمد بن رائق وقع بينه وبين البريدي وحشة لاجل أن البريدي منع خراج واسط، فركب إليه ابن رائق ليتسلم ما عنده من المال، فوقعت مصالحة ورجع ابن رائق إلى بغداد، فطالبه الجند بأرزاقهم، وضاق عليه حاله، وتحيز جماعة من الاتراك عنه إلى البريدي فضعف جانب ابن رائق وكاتب البريدي بالوزارة ببغداد، ثم قطع اسم الوزارة عنه، فاشتد حنق البريدي عليه، وعزم على أخذ بغداد، فبعث أخاه أبا الحسين في جيش إلى بغداد، فتحصن ابن رائق مع الخليفة بدار الخلافة ونصبت فيها المجانيق والعرادات - العرادة شئ أصغر من المنجنيق - على دجلة أيضا.
فاضطربت أهل بغداد ونهب الناس بعضهم بعضا ليلا ونهارا، وجاء أبو الحسين أخو أبي عبد الله البريدي بمن معه فقاتلهم الناس في البر وفي دجلة، وتفاقم الحال جدا، مع ما الناس فيه من الغلاء والوباء والفناء.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إن الخليفة وابن رائق انهزما في جمادى الآخرة - ومع الخليفة ابنه [ أبو ] (1) منصور - في عشرين فارسا، فقصدوا نحو الموصل، واستحوذ أبو الحسين على دار الخلافة وقتل من وجد فيها من الحاشية، ونهبوها حتى وصل النهب إلى الحريم، ولم يتعرضوا للقاهر وهو إذ ذاك أعمى مكفوفا، وأخرجوا كورتكين من الحبس، فبعثه أبو الحسين إلى البريدي، فكان آخر العهد به، ونهبوا بغداد جهارا علانية، ونزل أبو الحسين بدار مؤنس الخادم التي كان يسكنها ابن رائق، وكانوا يكبسون الدور ويأخذون ما فيها من الاموال، فكثر الجور وغلت الاسعار جدا، وضرب أبو الحسين المكس على الحنطة والشعير، وذاق أهل بغداد لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وكان معه طائفة
كبيرة من القرامطة فأفسدوا في البلد فسادا عظيما، ووقع بينهم وبين الاتراك حروب طويلة شديدة،
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.

فغلبهم الترك وأخرجوهم من بغداد، فوقعت الحرب بين العامة والديلم جند أبي الحسين.
وفي شعبان منها اشتد الحال أيضا ونهبت المساكن وكبس أهلها ليلا ونهارا، وخرج جند البريدي فنهبوا الغلات من القرى والحيوانات، وجرى ظلم لم يسمع بمثله.
قال ابن الاثير: وإنما ذكرنا هذا ليعلم الظلمة أن أخبارهم الشنيعة تنقل وتبقى بعدهم على وجه الارض (1) وفي الكتب، ليذكروا بها ويذموا ويعابوا، ذلك لهم خزي في الدنيا وأمرهم إلى الله لعلهم يتركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه لله.
وقد كان الخليفة أرسل وهو ببغداد إلى ناصر الدولة بن حمدان نائب الموصل يستمده ويستحثه على البريدي، فأرسل ناصر الدولة أخاه سيف الدولة عليا في جيش كثيف، فلما كان بتكريت إذا الخليفة وابن رائق قد هربا فرجع معهما سيف الدولة إلى أخيه، وخدم سيف الدولة الخليفة خدمة كثيرة.
ولما وصلوا إلى الموصل خرج عنها ناصر الدولة فنزل شرقها، وأرسل التحف والضيافات، ولم يجئ إلى الخليفة خوفا من الغائلة من جهة أبن رائق، فأرسل الخليفة ولده أبا منصور ومعه ابن رائق للسلام على ناصر الدولة، فصارا إليه فأمر ناصر الدولة أن ينثر الذهب والفضة على رأس ولد الخليفة، وجلسا عنده ساعة، ثم قاما ورجعا، فركب ابن الخليفة وأراد ابن رائق أن يركب معه، فقال له ناصر الدولة: اجلس اليوم عندي حتى نفكر فيما نصنع في أمرنا هذا، فاعتذر إليه بابن الخليفة واستراب بالامر وخشي، فقبض ابن حمدان بكمه فجبذه ابن رائق منه فانقطع كمه، وركب سريعا فسقط عن فرسه فأمر ناصر الدولة بقتله فقتل، وذلك يوم الاثنين لسبع بقين من رجب منها.
فأرسل الخليفة إلى ابن حمدان فاستحضره وخلع عليه ولقبه ناصر الدولة يومئذ، وجعله أمير الامراء، وخلع على أخيه أبي الحسن ولقبه سيف الدولة يومئذ، ولما قتل ابن رائق وبلغ خبر مقتله إلى صاحب مصر الاخشيد محمد بن طغج ركب إلى دمشق فتسلمها من محمد بن يزداد نائب ابن رائق ولم ينتطح فيها عنزان.
ولما بلغ خبر مقتله إلى بغداد فارق أكثر الاتراك أبا الحسين البريدي لسوء سيرته، وقبح
سريرته قبحه الله، وقصدوا الخليفة وابن حمدان فتقوى بهم، وركب هو والخليفة إلى بغداد، فلما أقتربوا منها هرب عنها أبو الحسين أخو البريدي فدخلها المتقي ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة، وذلك في شوال، ففرح المسلمون فرحا شديدا.
وبعث الخليفة إلى أهله - وقد كان أخرجهم إلى سامرا - فردهم، وتراجع أعيان الناس إلى بغداد بعد ما كانوا قد ترحلوا عنها.
ورد الخليفة أبا إسحاق القراريطي (2) إلى الوزارة وولى توزون (3) شرطة جانبي بغداد، وبعث ناصر الدولة أخاه سيف الدولة في جيش وراء أبي الحسين أخي البريدي، فلحقه عند المدائن فاقتتلوا قتالا شديدا في أيام نحسات، ثم كان آخر الامر أن انهزم أبو الحسين إلى أخيه البريد بواسط، وقد ركب ناصر
__________
(1) في الكامل: وجه الدهر.
(2) من الكامل والعبر والفخري، وهو أبو إسحاق محمد بن إبراهيم الاسكافي، وفي الاصل: الفزاري.
(3) قال أبو الفداء في مختصر تاريخ البشر 2 / 90: تورون وهو اسم تركي مشتق من اسم الباطية.
لان الباطية اسمها بالتركي تروو .

الدولة بنفسه فنزل المدائن قوه لاخيه.
وقد انهزم سيف الدولة مرة من أخي البريدي فرده أخوه وزاده جيشا حتى كسر البريدي، وأسر جماعة من أعيان أصحابه، وقتل منهم خلقا كثيرا.
ثم أرسل أخاه سيف الدولة إلى واسط لقتال أبي عبد الله البريدي، فانهزم منه البريدي وأخوه إلى البصرة وتسلم سيف الدولة واسطا، وسيأتي ما كان من خبره في السنة الآتية مع البريدي.
وأما ناصر الدولة فإنه عاد إلى بغداد فدخلها في ثالث عشر ذي الحجة (1) وبين يديه الاسارى على الجمال، ففرح المسلمون واطمأنوا ونظر في المصالح العامة وأصلح معيار الدينار.
وذلك أنه وجده قد غير عما كان عليه، فضرب دنانير سماها الابريزية، فكانت تباع كل دينار بثلاثة عشر درهما، وإنما كان يباع ما قبلها بعشرة.
وعزل الخليفة بدرا الخرشني عن الحجابة وولاه سلامة الطولوني، وجعل بدرا على طريق الفرات، فسار إلى الاخشيد فأكرمه واستنابه على دمشق فمات بها.
وفيها وصلت الروم إلى قريب حلب فقتلوا خلقا وأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا، فإنا لله وإنا
إليه راجعون.
وفيها دخل نائب طرسوس إلى بلاد الروم فقتل وسبى وغنم وسلم وأسر من بطارقتهم المشهورين منهم وغيرهم خلقا كثيرا ولله الحمد.
وفيها توفي من الاعيان: إسحاق بن محمد بن يعقوب النهر جوري أحد مشايخ الصوفية، صحب الجنيد بن محمد وغيره، من أئمة الصوفية، وجاور بمكة حتى مات بها.
ومن كلامه الحسن: مفاوز الدنيا تقطع بالاقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب.
الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان أبو عبد الله الضبي القاضي المحاملي الفقيه الشافعي المحدث، سمع الكثير وأدرك خلقا من أصحابه ابن عينية، نحوا من سبعين رجلا.
وروى عن جماعة من الائمة، وعنه الدار قطني، وخلق، وكان يحضر مجلسه نحو من عشرة آلاف.
وكان صدوقا دينا فقيها محدثا، ولي قضاء الكوفة ستين سنة، وأضيف إليه قضاء فارس وأعمالها، ثم استعفى من ذلك كله ولزم منزله، واقتصر على إسماع الحديث وسماعه.
توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وتسعين سنة.
وقد تناظر هو وبعض الشيعة بحضرة بعض الاكابر فجعل الشيعي يذكر مواقف علي يوم بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وشجاعته.
ثم قال للمحاملي.
أنعرفها ؟ قال: نعم، ولكن أتعرف أنت أين كان الصديق يوم بدر ؟ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش بمنزلة الرئيس الذي يحامي عنه، وعلي رضي الله عنه في المبارزة، ولو فرض أنه انهزم أو قتل لم يخزل الجيش بسببه.
فأفحم الشيعي.
وقال المحاملي وقد قدمه
__________
(1) في العبر لابن خلدون 3 / 413: في منتصف ذي الحجة .

الذين رووا لنا الصلاة والزكاة والوضوء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموه عليه حيث لا مال ولا عبيد ولا عشيرة وقد كان أبو بكر يمنع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاحف عنه، وإنما قدموه لعلمهم أنه خيرهم.
فأفحمه أيضا.
علي بن محمد بن سهل أبو الحسن الصائغ، أحد الزهاد العباد أصحاب الكرامات.
روى عن ممشاد الدينوري أنه
شاهد أبا الحسن هذا يصلي في الصحراء في شدة الحر ونسر قد نشر عليه جناحه يظله من الحر.
قال ابن الاثير: وفيها توفي أبو الحسن علي بن إسماعيل الاشعري المتكلم المشهور، وكان مولده سنة ستين ومائتين، وهو من ولد أبي موسى الاشعري.
قلت: الصحيح أن الاشعري توفي سنة أربع وعشرين ومائتين كما تقدم ذكره هناك.
قال: وفيها توفي محمد بن يوسف بن النضر الهروي الفقيه الشافعي، وكان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين، أخذ عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي.
قلت: قد توفي فيها أبو حامد بن بلال (1).
وزكريا بن أحمد البلخي (2).
وعبد الغافر بن سلامة الحافظ (3).
ومحمد بن رائق الامير ببغداد.
وفيها توفي الشيخ: أبو صالح مفلح الحنبلي واقف مسجد أبي صالح ظاهر باب شرقي من دمشق، وكانت له كرامات وأحوال ومقامات، واسمه مفلح بن عبد الله أبو صالح المتعبد، الذي ينسب إليه المسجد خارج باب شرقي من دمشق، صحب الشيخ أبا بكر بن سعيد حمدونه الدمشقي، وتأدب به، وروى عنه الموحد بن إسحاق بن البري، وأبو الحسن علي بن العجه قيم المسجد، وأبو بكر بن داود الدينوري الدقي.
روى الحافظ ابن عساكر من طريق الدقي عن الشيخ أبي صالح.
قال: كنت أطوف بجبل لكام أطلب العباد فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق راسه فقلت له: ما تصنع ههنا ؟ فقال: أنظر وأرعى.
فقلت له: لا أرى بين يديك شيئا تنظر إليه ولا ترعاه إلا هذه العصاة والحجارة.
فقال: بل أنظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربي، وبالذي أطلعك علي إلا صرفت بصرك عني.
فقلت له: نعم ولكن
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال النيسابوري.
(2) هو أبو يحيى زكريا بن أحمد بن يحيى بن موسى خت البلخي الشافعي، قاضي دمشق، روى عن أبي حاتم الرازي وطائفة.
مات في ربيع الاول.
(شذرات 2 / 327).
(3) أبو هاشم الحمصي روى عن كثير بن عبيد وطائفة مات بالبصرة وله بضع وتسعون سنة .

عظني بشئ أنتفع به حتى أمضي عنك.
فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر ذكر الموت أكثر الندم ومن استغنى بالله أمن العدم، ثم تركني ومضى.
وقال أبو صالح: مكثت ستة أيام أو سبعة لم آكل ولم أشرب، ولحقني عطش عظيم، فجئت إلى النهر الذي وراء المسجد فجلست أنظر إلى الماء، فتذكرت قوله تعالى (وكان عرشه على الماء) [ هود: 7 ] فذهب عني العطش، فمكثت تمام العشرة أيام.
وقال: مكثت أربعين يوما لم أشرب، ثم شربت، وأخذ رجل فضلتي ثم ذهب إلى امرأته فقال: اشربي فضل رجل قد مكث أربعين يوما لم يشرب الماء.
قال أبو صالح: ولم يكن اطلع على ذلك أحد إلا الله عز وجل.
ومن كلام أبي صالح: الدنيا حرام على القلوب حلال على النفوس، لان كل شئ يحل لك أن تنظر بعين رأسك إليه يحرم عليك أن تنظر بعين قلبك إليه.
وكان يقول: البدن لباس القلب والقلب لباس الفؤاد، والفؤاد لباس الضمير، والضمير لباس السر، والسر لباس المعرفة به.
ولابي صالح مناقب كثيرة رحمه الله.
توفي في جمادى الاولى من هذه السنة والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة فيها دخل سيف الدولة إلى واسط وقد انهزم عنها البريدي وأخوه أبو الحسين، ثم اختلف الترك على سيف الدولة، فهرب منها قاصدا بغداد، وبلغ أخاه أمير الامراء خبره فخرج من بغداد إلى الموصل، فنهبت داره.
وكانت دولته على بغداد ثلاثة عشر شهرا وخمسة أيام.
وجاء أخوه سيف الدولة بعد خروجه منها فنزل بباب حرب، فطلب من الخليفة أن يمده بما يتقوى به على حرب توزون، فبعث إليه بأربعمائة ألف درهم، ففرقها بأصحابه.
وحين سمع بقدوم توزون خرج من بغداد ودخلها توزون في الخامس والعشرين من رمضان، فخلع عليه الخليفة وجعله أمير الامراء واستقر أمره ببغداد.
وعند ذلك رجع البريدي إلى واسط وأخرج من كان بها من أصحاب توزون وكان في أسر توزون غلام سيف الدولة، يقال له ثمال، فأرسله إلى مولاه ليخبره حاله ويرفع أمره عند آل حمدان.
وفيها كانت زلزلة عظيمة ببلاد نسا، سقط منها عمارات كثيرة، وهلك بسببها خلق كثير.
قال ابن الجوزي: وكان ببغداد في أيلول وتشرين حر شديد يأخذ بالانفاس.
وفي صفر منها
ورد الخبر بورود الروم إلى أرزن وميا فارقين، وأنهم سبوا.
وفي ربيع الآخر منها عقد أبو منصور إسحاق بن الخليفة المتقي عقده على علوية بنت ناصر الدولة بن حمدان، على صداق مائة ألف دينار وألف ألف درهم، وولى العقد على الجارية المذكورة أبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي، ولم يحضر ناصر الدولة، وضرب ناصر الدولة سكة ضرب فيها ناصر الدولة عبد آل محمد.
قال ابن الجوزي: وفيها غلت الاسعار حتى أكل الناس الكلاب ووقع البلاء في الناس، ووافى

من الجراد شئ كثير جدا، حتى بيع منه كل خمسين رطلا بالدرهم.
فارتفق الناس به في الغلاء.
وفيها ورد كتاب ملك الروم إلى الخليفة يطلب منه منديلا بكنيسة الرها كان المسيح قد مسح بها وجهه فصارت صورة وجهه فيه، وأنه متى وصل هذا المنديل يبعث من الاسارى خلقا كثيرا.
فأحضر الخليفة العلماء فاستشارهم في ذلك، فمن قائل نحن أحق بعيسى منهم، وفي بعثه إليهم عضاضة على المسلمين ووهن في الدين.
فقال علي بن عيسى الوزير: يا أمير المؤمنين إنقاذ أسارى المسلمين من أيدي الكفار خير وأنفع للناس من بقاء ذلك المنديل بتلك الكنيسة.
فأمر الخليفة بإرسال ذلك المنديل إليهم وتخليص أسرى المسلمين من أيديهم.
قال الصولي: وفيها وصل الخبر بأن القرمطي ولد له مولود فأهدى إليه أبو عبد الله البريدي هدايا كثيرة، منها مهد من ذهب مرصع بالجواهر، وجلاله منسوج بالذهب محلى باليواقيت، وغير ذلك.
وفيها كثر الرفض ببغداد فنودي بها من ذكر أحدا من الصحابة بسوء فقد برئت منه الذمة.
وبعث الخليفة إلى عماد الدولة بن بويه خلعا فقبلها ولبسها بحضرة القضاة والاعيان.
وفيها كانت وفاة السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر، وقد مرض قبل موته بالسل سنة وشهرا، واتخذ في داره بيتا سماه بيت العبادة، فكان يلبس ثيابا نظافا ويمشي إليه حافيا ويصلي فيه، ويتضرع ويكثر الصلاة.
وكان يجتنب المنكرات والآثام إلى أن مات رحمه الله، فقام بالامر من بعده ولده نوح بن نصر الساماني، ولقب بالامير الحميد.
وقتل محمد بن أحمد النسفي، وكان قد طعن فيه عنده وصلبه.
وفيها توفي من الاعيان..ثابت بن سنان بن قرة الصابي أبو سعيد الطبيب، أسلم علي يد القاهر بالله ولم يسلم ولده ولا أحد من أهل بيته، وقد كان مقدما في الطب وفي علوم أخر كثيرة.
توفي في ذي القعدة منها بعلة الذرب ولم تغن عنه صناعته شيئا، حتى جاءه الموت.
وما أحسن ما قال بعض الشعراء في ذلك: قل للذي صنع الدواء بكفه * أترد مقدورا [ عليك قد ] جرى مات المداوي والمداوي والذي * صنع الدواء بكفه ومن اشترى وذكر ابن الجوزي في المنتظم وفاة الاشعري فيها وتكلم فيه وحط عليه كما جرت عادة الحنابلة يتكلمون في الاشعرية قديما وحديثا.
وذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي في هذه السنة، وأنه صحب الجبائي أربعين سنة ثم رجع عنه، وتوفي ببغداد ودفن بمشرعة السرواني.
محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة ابن الصلت السدوسي مولاهم أبو بكر، سمع جده وعباسا الدوري وغيرهما، وعنه أبو

بكر بن مهدي وكان ثقة.
روى الخطيب أن والد محمد هذا حين ولد أخذ طالع مولده المنجمون فحسبوا عمره وقالوا: إنه يعيش كذا وكذا.
فأرصد أبوه له جبا فكان يلقي فيه عن كل يوم من عمره الذي أخبروه به دينارا، فلما امتلا أرصد له جبار آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فكان يضع فيها في كل يوم ثلاثة دنانير على عدد أيام عمر ولده.
ومع هذا ما أفاده ذلك شيئا، بل افتقر هذا الولد حتى صار يستعطي من الناس، وكان يحضر مجلس السماع عليه عباءة بلا إزار، فكان يتصدق عليه أهل المجلس بشئ يقوم بأوده.
والسعيد من أسعده الله عز وجل.
محمد بن مخلد بن جعفر (1) أبو عمر (2) الدوري العطار، كان يسكن الدور - وهي محلة بطرف بغداد - سمع الحسن بن عرفة والزبير بن بكار ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وعنه الدار قطني وجماعة، وكان ثقة فهما واسع
الرواية مشكور الديانة مشهورا بالعبادة.
توفي في جمادى الاولى (3) منها، وقد استكمل سبعا وسبعين سنة وثمانية أشهر وإحدى وعشرين ويوما.
المجنون البغدادي روى ابن الجوزي من طريق أبي بكر الشبلي قال: رأيت مجنونا (4) عند جامع الرصافة وهو عريان وهو يقول: أنا مجنون الله، أنا مجنون الله.
فقلت له: مالك ألا تستتر وتدخل الجامع وتصلي ؟ فأنشأ يقول: يقولون زرنا واقض واجب حقنا * وقد اسقطت حالي حقوقهم عني إذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا لها * ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وثلثمائة فيها خرج المتقي أمير المؤمنين من بغداد إلى الموصل مغاضبا لتورون، وهو إذ ذاك بواسط، وقد زوج ابنته من أبي عبد الله البريدي، وصارا يدا واحدة على الخليفة.
وأرسل ابن شير زاد في ثلثمائة إلى بغداد فأفسد فيها وقطع ووصل، واستقل بالامر من غير مراجعة المتقي.
فغضب المتقي وخرج منها مغاضبا له بأهله وأولاده ووزيره ومن اتبعه من الامراء، قاصدا الموصل إلى بني حمدان، فتلقاه سيف الدولة إلى تكريت، ثم جاءه ناصر الدولة وهو بتكريت أيضا، وحين خرج المتقي من بغداد أكثر ابن شيرزاد فيها الفساد، وظلم أهلها وصادرهم، وأرسل يعلم تورون، فأقبل مسرعا نحو تكريت فتواقع هو وسيف الدولة فهزم توزون سيف الدولة وأخذ معسكره ومعسكر أخيه ناصر الدولة
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 2 / 828: حفص.
(2) في التذكرة: أبو عبد الله.
(3) في التذكرة وشذرات الذهب 2 / 331: جمادى الآخرة.
وقال في الشذرات: وله سبع وتسعون سنة.
(4) في صفوة الصفوة 2 / 519: معتوها .

ثم كر إليه سيف الدولة فهزمه تورون أيضا، وانهزم المتقي وناصر الدولة وسيف الدولة من الموصل إلى نصيبين وجاء توزون فدخل الموصل وأرسل إلى الخليفة يطلب رضاه، فأرسل الخليفة يقول: لا سبيل إلى ذلك إلا أن تصالح بني حمدان، فاصطلحوا، وضمن ناصر الدولة بلاد الموصل بثلاثة آلاف
ألف وستمائة ألف، ورجع توزون إلى بغداد وأقام الخليفة عند بني حمدان.
وفي غيبة توزون هذه عن واسط أقبل إليها معز الدولة بن بويه في خلق من الديلم كثيرين، فانحدر توزون مسرعا إلى واسط فاقتتل مع معز الدولة بضعة عشر يوما، وكان آخر الامر أن انهزم معز الدولة ونهبت حواصله، وقتل من جيشه خلق كثير، وأسر جماعة من أشراف أصحابه.
ثم عاود توزون ما كان يعتريه من مرض الصرع فشغل بنفسه فرجع إلى بغداد.
وفيها قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف، وكان سبب ذلك أن البريدي قل ما في يده من الاموال، فكان يستقرض من أخيه أبي يوسف فيقرضه القليل، ثم يشنع عليه ويذم تصرفه بمال الجند، إلى أن مال الجند إلى أبي يوسف وأعرض غالبهم عن البريدي، فخشي أن يبايعوه فأرسل إليه طائفة من غلمانه فقتلوه غيلة، ثم انتقل إلى داره وأخذ جميع حواصله وأمواله، فكان قيمة ما أخذ منه من الاموال ما يقارب ثلثمائة ألف ألف دينار.
ولم يمتع بعده إلا ثمانية أشهر مرض فيها مرضا شديدا بالحمى الحادة، حتى كانت وفاته في شوال من هذه السنة، فقام مقامه أخوه أبو الحسين قبحه الله فأساء السيرة في أصحابه، فثاروا عليه فلجأ إلى القرامطة قبحهم الله فاستجار بهم فقام بالامر من بعده أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي في بلاد واسط والبصرة وتلك النواحي من الاهواز وغيرها.
وأما الخليفة المتقي لله فإنه لما أقام عند أولاد حمدان بالموصل ظهر له منهم تضجر، وأنهم يرغبون في مفارقته.
فكتب إلى توزون في الصلح فاجتمع توزون مع القضاة والاعيان وقرأوا كتاب الخليفة وقابله بالسمع والطاعة، وحلف له ووضع خطه بالاقرار له ولمن معه بالاكرام والاحترام، فكان من الخليفة ودخوله إلى بغداد ما سيأتي في السنة الآتية.
وفيها أقبلت طائفة من الروس في البحر إلى نواحي أذربيجان فقصدوا بردعة فحاصروها، فلما ظفروا بأهلها قتلوهم عن آخرهم، وغنموا أموالهم وسبوا من استحسنوا من نسائهم، ثم مالوا إلى المراغة، فوجدوا بها ثمارا كثيرة، فأكلوا منها فأصابهم وباء شديد فمات أكثرهم، وكان إذا مات أحدهم دفنوا معه ثيابه وسلاحه، فأخذه المسلمون وأقبل إليهم المرزبان بن محمد فقتل منهم.
وفي ربيع الاول منها جاء الدمستق ملك الروم إلى رأس العين في ثمانين ألفا فدخلها ونهب ما فيها وقتل
وسبى منهم نحوا من خمسة عشر ألفا، وأقام بها ثلاثة أيام، فقصدته الاعراب من كل وجه فقاتلوه قتالا عظيما حتى انجلى عنها.
وفي جمادى الاولى منها غلت الاسعار ببغداد جدا وكثرت الامطار حتى تهدم البناء، ومات كثير من الناس تحت الهدم، وتعطلت أكثر الحمامات والمساجد من قلة الناس ونقصت قيمة العقار حتى بيع منه بالدرهم ما كان يساوي الدينار، وخلت الدور.
وكان الدلالون يعطون من يسكنها أجرة ليحفظها من الداخلين إليها ليخربوها.
وكثرت الكبسات من اللصوص

بالليل، حتى كان الناس يتحارسون بالبوقات والطبول، وكثرت الفتن من كل جهة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
وفي رمضان منها كانت وفاة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي، رئيس القرامطة، قبحه الله، وهذا هو الذي قتل الحجيج حول الكعبة وفي جوفها، وسلبها كسوتها وأخذ بابها وحليتها، واقتلع الحجر الاسود من موضعه وأخذه معه إلى بلده هجر، فمكث عنده من سنة تسع عشرة وثلثمائة ثم مات قبحه الله وهو عندهم لم يردوه إلى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة كما سيأتي.
ولما مات هذا القرمطي قام بالامر من بعده إخوته الثلاثة، وهم أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف بنو أبي سعيد الجنابي، وكان أبو العباس ضعيف البدن مقبلا على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوب مقبلا على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمة الثلاثة واحدة لا يختلفون في شئ، وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضا.
وفي شوال منها توفي أبو عبد الله البريدي فاستراح المسلمون من هذا كما استراحوا من الآخر.
وفيها توفي من الاعيان أبو العباس بن عقدة الحافظ.
أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن أبو العباس الكوفي المعروف بابن عقدة، لقبوه بذلك من أجل تعقيده في التصريف والنحو، وكان أيضا عقدة في الورع والنسك، وكان من الحفاظ الكبار، سمع الحديث الكثير ورحل فسمع من خلائق من المشايخ، وسمع منه الطبراني والدارقطني وابن الجعابي وابن عدي وابن المظفر وابن
شاهين.
قال الدارقطني: أجمع أهل الكوفة على أنه لم ير من زمن ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة أحفظ منه، ويقال إنه كان يحفظ نحوا من ستمائة ألف حديث، منها ثلاثمائة ألف في فضائل أهل البيت، بما فيها من الصحاح والضعاف، وكانت كتبه ستمائة حمل جمل، وكان ينسب مع هذا كله إلى التشيع والمغالاة.
قال الدار قطني: كان رجل سوء.
ونسبه ابن عدي إلى أنه كان يعمل النسخ لاشياخ ويأمرهم بروايتها.
قال الخطيب: حدثني علي بن محمد بن نصر قال: سمعت حمزة بن يوسف، سمعت أبا عمر بن حيويه يقول: كان ابن عقدة يجلس في جامع براثي معدن الرفض يملي مثالب الصحابة - أو قال الشيخين - فتركت حديثه لا أحدث عنه بشئ.
قلت: وقد حررت الكلام فيه في كتابنا التكميل بما فيه كفاية، توفي في ذي القعدة منها.
أحمد بن عامر بن بشر بن حامد المروروذي نسبة إلى مر والروذ، والروذ اسم للنهر، وهو الفقيه الشافعي تلميذ أبي إسحاق المروذي - نسبة إلى مروذ الشاهجان، وهي أعظم من تلك البلاد، له شرح مختصر المزني، وله كتاب الجامع في المذهب، وصنف في أصول الفقه، وكان إماما لا يشق غباره.
توفي في هذه السنة رحمه الله.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة فيها رجع الخليفة المتقي إلى بغداد وخلع من الخلافة وسملت عيناه، وكان - وهو مقيم بالموصل - قد أرسل إلى الاخشيد محمد بن طغج صاحب مصر والبلاد الشامية أن يأتيه، فأقبل إليه في المنتصف من المحرم من هذه السنة، وخضع للخليفة غاية الخضوع، وكان يقوم بين يديه كما تقوم الغلمان، ويمشي والخليفة راكب، ثم عرض عليه أن يصير معه إلى الديار المصرية أو يقوم ببلاد الشام، وليته فعل، بل أبى عليه، فأشار عليه بالمقام مكانه بالموصل، ولا يذهب إلى توزون، وحذره من مكر توزون وخديعته، فلم يقبل ذلك، وكذلك أشار عليه وزيره أبو حسين بن مقلة فلم يسمع.
وأهدى ابن ظغج للخليفة هدايا كثيرة فاخرة، وكذلك أهدى إلى الامراء والوزير، ثم رجع إلى بلاده، واجتاز بحلب فانحاز عنها صاحبها أبو عبد الله بن سعيد بن حمدان.
وكان ابن مقاتل
بها، فأرسله إلى مصر نائبا عنه حتى يعود إليها.
وأما الخليفة فإنه ركب من الرقة في الدجلة إلى بغداد وأرسل إلى توزون فاستوثق منه ما كان حلف له من الايمان فأكدها وقررها، فلما قرب من بغداد (1) خرج إلى توزون ومعه العساكر، فلما رأى الخليفة قبل الارض بين يديه وأظهر له أنه قد وفى له بما كان حلف له عليه وأنزله في منظرته، ثم جاء فاحتاط على من مع الخليفة من الكبراء، وأمر بسمل عيني الخليفة فسملت عيناه، فصاح صيحة عظيمة سمعها الحريم فضجت الاصوات بالبكاء، فأمر توزون بضرب الدبادب حتى لا تسمع أصوات الحريم، ثم انحدر من فوره إلى بغداد فبايع المستكفي.
فكانت خلافة المتقي ثلاثة (2) سنين وخمسة أشهر وعشرين يوما، وقيل وأحد عشر شهرا.
وستأتي ترجمته عند ذكر وفاته.
خلافة المستكفي بالله عبد الله بن المكتفي بن المعتضد لما رجع توزون إلى بغداد وقد سمل عيني المتقي، استدعى بالمستكفي (3) فبايعه ولقب بالمستكفي بالله، واسمه عبد الله، وذلك في العشر الاواخر من صفر من هذه السنة، وجلس توزون بين يديه وخلع عليه المستكفي، وكان المستكفي مليح الشكل ربعة حسن الجسم والوجه، أبيض اللون مشربا حمرة أقنى الانف، خفيف العارضين، وكان عمره يوم بويع بالخلافة إحدى وأربعين
__________
(1) في مآثر الاناقة: لقيه بالسندية.
(1 / 296).
وانظر الكامل 8 / 420.
(2) في مروج الذهب 4 / 383: وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا وثلاثة وعشرين يوما.
وفي التنبيه والاشراف ص 397: ثلاث سنين وعشرة أشهر وعشرين يوما، وفي العقد الفريد: ثلاث سنين وأحد عشر شهرا إلا أياما، وفي فوات الوفيات 1 / 7: سنتان وأحد عشر شهرا.
(3) في الكامل 8 / 240: بويع في السندية.
وفي مروج الذهب 4 / 401: بالسبق على نهر عيسى من أعمال بادوريا بإزاء القرية المعرفة بالسندية .

سنه.
وأحضر المتقي بين يديه وبايعه وأخذ منه البردة والقضيب، واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامري (1)، ولم يكن إليه من الامر شئ، وإنما الذي يتولى الامور ابن شيرزاد، وحبس المتقي بالسجن.
وطلب المستكفي أبا القاسم الفضل بن المقتدر، وهو الذي ولي الخلافة بعد ذلك، ولقب
المطيع لله، فاختفى منه ولم يظهر مدة خلافة المستكفي، فأمر المستكفي بهدم داره التي عند دجلة.
وفيها مات القائم الفاطمي وتولى ولده المنصور إسماعيل فكتب موت أبيه مدة حتى أتفق أمره ثم أظهره، والصحيح أن القائم مات في التي بعدها.
وقد حاربهم أبو يزيد الخارجي فيها، وأخذ منهم مدنا كبارا وكسروه مرارا متعددة، ثم يبرز إليهم ويجمع الرجال ويقاتلهم، فانتدب المنصور هذا لقتاله بنفسه وجرت بينهم حروب يطول ذكرها، وقد بسطها ابن الاثير في كامله.
وقد انهزم في بعض الاحيان جيش المنصور ولم يبق إلا في عشرين نفسا.
فقاتل بنفسه قتالا عظيما، فهزمه أبا يزيد بعد ما كاد يقتله، وثبت المنصور ثبتا عظيما، فعظم في أعين الناس وزادت حرمته وهيبته، واسنتقذ بلاد القيروان منه، وما زال يحاربه حتى ظفر به المنصور وقتله.
ولما جئ برأسه سجدا شكرا لله.
وكان أبو يزيد هذا قبيح الشكل أعرج قصيرا خارجيا شديدا يكفر أهل الملة.
وفي ذي الحجة منها قتل أبو الحسين البريدي وصلب ثم أحرق، وذلك أنه قدم بغداد يستنجد بتوزون وأبي جعفر بن شيرزاد على ابن أخيه، فوعده النصر، ثم شرع يفسد ما بين توزون وابن شيرزاد، فعلم بذلك ابن شيرزاد فأمر بسجنه وضربه، ثم أفتاه بعض الفقهاء بإباحة دمه، فأمر بقتله وصلبه ثم أحرقه، وانقضت أيام البريدية، وزالت دولتهم.
وفيها أمر المستكفي بإخراج القاهر الذي كان خليفة وأنزله دار ابن طاهر، وقد افتقر القاهر حتى لم يبق له شئ من اللباس سوى قطعة عباءة يلتف بها، وفي رجله قبقاب من خشب.
وفيها اشتد البرد والحر.
وفيها ركب معز الدولة في رجب منها إلى واسط فبلغ خبره إلى توزون فركب هو والمستكفي، فلما سمع بهما رجع إلى بلاده وتسلمها الخليفة وضمنها أبو القاسم بن أبي عبد الله، ثم رجع توزون والخليفة إلى بغداد في شوال منها.
وفيها ركب سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى حلب فتسلمها من يأنس المؤنسي، ثم سار إلى حمص ليأخذها فجاءته جيوش الاخشيد محمد بن ظغج مع مولاه كافور فاقتتلوا بقنسرين، فلم يظفر أحد منهما بصاحبه، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، ثم عاد إلى حلب فاستقر ملكه بها، فقصدته الروم في جحافل عظيمة، فالتقى معهم فظفر بهم فقتل منهم خلقا كثيرا.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلثمائة
في المحرم زاد الخليفة في لقبه إمام الحق، وكتب ذلك على السكة المتعامل بها، ودعا له الخطباء على المنابر أيام الجمع.
وفي المحرم منها مات توزون التركي في داره ببغداد، وكانت إمارته سنتين
__________
(1) في الكامل 8 / 447: السرمرائي .

وأربعة أشهر وعشرة أيام (1).
وكان ابن شيرزاد كاتبه، وكان غائبا بهيت لتخليص المال، فلما بلغه موته أراد أن يعقد البيعة لناصر الدولة بن حمدان فاضطربت الاجناد وعقدوا الرياسة عليهم لابن شيرزاد فحضر ونزل بباب حرب مستهل صفر، وخرج إليه الاجناد كلهم وحلفوا له وحلف الخليفة والقضاة والاعيان، ودخل على الخليفة فخاطبه بأمير الامراء، وزاد في أرزاق الجند وبعث إلى ناصر الدولة يطالبه بالخراج، فبعث إلى بخمسمائة ألف درهم وبطعام يفرقه في الناس، وأمر ونهى وعزل وولى، وقطع ووصل، وفرح بنفسه ثلاثة أشهر وعشرين يوما (2).
ثم جاءت الاخبار بأن معز الدولة بن بويه قد أقبل في الجيوش قاصدا بغداد، فاختفى ابن شيرزاد والخليفة أيضا، وخرج إليه الاتراك قاصدين الموصل ليكونوا مع ناصر الدولة بن حمدان.
أول دولة بني بويه وحكمهم ببغداد أقبل معز الدولة أحمد بن الحسن بن بويه في جحافل عظيمة من الجيوش قاصدا بغداد، فلما اقترب منها بعث إليه الخليفة المستكفي بالله الهدايا والانزالات، وقال للرسول: أخبره أني مسرور به، وأني إنما اختفيت من شر الاتراك الذين انصرفوا إلى الموصل، وبعث إليه بالخلع والتحف، ودخل معز الدولة بغداد في جمادى الاولى من هذه السنة، فنزل بباب الشماسية، ودخل من الغد إلى الخليفة فبايعه (3)، ودخل عليه المستكفي ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه أبا الحسن بعماد الدولة، وأخاه أبا علي الحسن بركن الدولة، وكتب ألقابهم على الدراهم والدنانير.
ونزل معز الدولة بدار مؤنس الخادم، ونزل أصحابه من الديلم بدور الناس، فلقي الناس منهم ضائقة شديدة، وأمن معز الدولة ابن شيرزاد، فلما ظهر استكتبه على الخراج، ورتب للخليفة بسبب نفقاته خمسة آلاف درهم في كل يوم، واستقرت الامور على هذا النظام والله أعلم.
القبض على الخليفة المستكفي بالله وخلعه لما كان اليوم الثاني والعشرين من جمادى الآخرة (4) حضر معز الدولة إلى الحضرة فجلس على
__________
(1) في الكامل 8 / 448: وتسعة عشر يوما.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 419: ست سنين وخمسة أشهر.
(2) في مختصر تاريخ البشر 2 / 94: وأياما.
(3) قال الصولي في أخبار الراضي والمتقي ص 263: ان الخليفة المتقي كتب لبني بويه يدعوهم لدخول بغداد اثناء نزاعه مع تورون.
ولهذا كان ابن بويه يعرض هذا الكتاب على الناس ببغداد ليكسب تأييدهم ويضفي على حكمه ببغداد صفة شرعية.
(4) في مروج الذهب 4 / 421: لسبع بقين من شعبان.
وفي المنتظم 6 / 343: في يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الآخرة.
وفي العقد الفريد: خلع في شعبان.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 421: في جمادى الآخرة.
وفي مختصر تاريخ البشر 2 / 94: لثمان بقين من جمادى الآخرة .

سرير بين يدي الخليفة، وجاء رجلان من الديلم فمدا أيديهم إلى الخليفة فأنزلاه عن كرسيه، وسحباه فتحربت عمامته في حلقه، ونهض معز الدولة واضطربت دار الخلافة حتى خلص إلى الحريم، وتفاقم الحال، وسيق الخليفة ماشيا إلى دار معز الدولة فاعتقل بها، وأحضر أبو القاسم الفضل بن المقتدر فبويع بالخلافة وسملت عينا المستكفى وأودع السجن فلم يزل به مسجونا حتى كانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة كما يأتي ذكر ترجمته هناك.
خلافة المطيع لله لما قدم معز الدولة بغداد وقبض على المستكفي وسمل عينيه.
استدعى بأبي القاسم الفضل بن المقتدر بالله، وقد كان مختفيا من المستكفي وهو يحث على طلبه ويجتهد، فلم يقدر عليه، ويقال إنه اجتمع بمعز الدولة سرا فحرضه على المستكفي حتى كان من أمره ما كان، ثم أحضره وبويع له بالخلافة ولقب بالمطيع لله، وبايعه الامراء والاعيان والعامة، وضعف أمر الخلافة جدا حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير أيضا، وإنما يكون له كاتب على أقطاعه، وإنما الدولة مورد المملكة
ومصدرها راجع إلى معز الدولة، وذلك لان بني بويه ومن معهم من الديلم كان فيهم تعسف شديد، وكانوا يرون أن بني العباس قد غصبوا الامر من العلويين، حتى عزم معز الدولة على تحويل الخلافة إلى العلويين واستشار أصحابه فكلهم أشار عليه بذلك، إلا رجلا واحدا من أصحابه، كان سديد الرأي فيهم، فقال لا أرى لك ذلك.
قال: ولم ذاك ؟ قال: لان هذا خليفة ترى أنت وأصحابك أنه غير صحيح الامارة حتى لو أمرت بقتله قتله أصحابك، ولو وليت رجلا من العلويين اعتقدت أنت وأصحابك ولايته صحيحة فلو أمرت بقتله لم تطع بذلك، ولو أمر بقتلك لقتلك أصحابك.
فلما فهم ذلك صرفه عن رأيه الاول وترك ما كان عزم عليه للدنيا لا لله عز وجل.
ثم نشبت الحرب بين ناصر الدولة بن حمدان وبين معز الدولة بن بويه، فركب ناصر الدولة بعدما خرج معز الدولة والخليفة إلى عكبرا فدخل بغداد فأخذ الجانب الشرقي ثم الغربي، وضعف أمر معز الدولة والديلم الذين كانوا معه، ثم مكر به معز الدولة وخدعه حتى استظهر عليه وانتصر أصحابه فنهبوا بغداد وما قدروا عليه من أموال التجار وغيرهم، وكان قيمة ما أخذ أصحاب معز الدولة من الناس عشرة آلاف ألف دينار، ثم وقع الصلح بين ناصر الدولة ومعز الدولة، ورجع ابن حمدان إلى بلده الموصل، واستقر أمر معز الدولة ببغداد، ثم شرع في استعمال السعاة ليبلغ أخاه ركن الدولة أخباره، فغوى الناس في ذلك وعلموا أبناءهم سعاة، حتى أن من الناس من كان يقطع نيفا وثلاثين فرسخا في يوم واحد.
وأعجبه المصارعون والملاكمون.
وغيرهم من أرباب هذه الصناعات التي لا ينتفع بها إلا كل قليل العقل فاسد المروءة، وتعلموا السباحة ونحوها، وكانت تضرب الطبول بين يديه ويتصارع الرجال والكوسان تدق حول سور المكان الذي هو فيه، وكل ذلك رعونة وقلة عقل وسخافة منه.
ثم احتاج إلى صرف أموال في أرزاق الجند فأقطعهم البلاد عوضا عن

أرزاقهم، فأدى ذلك إلى خراب البلاد وترك عمارتها إلا الاراضي التي بأيدي أصحاب الجاهات.
وفي هذه السنة وقع غلاء شديد ببغداد حتى أكلوا الميتة والسنانير والكلاب، وكان من الناس من يسرق الاولاد فيشويهم ويأكلهم.
وكثر الوباء في الناس حتى كان لا يدفن أحد أحدا، بل يتركون
على الطرقات فيأكل كثيرا منهم الكلاب، وبيعت الدور والعقار بالخبز، وانتجع الناس إلى البصرة فكان منهم من مات في الطريق ومنهم من وصل إليها بعد مدة مديدة.
وفيها كانت وفاة القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبد الله المهدي، وولى الامر من بعده ولده المنصور إسماعيل، وكان حازم الرأي شديدا شجاعا كما ذكرنا ذلك في السنة الماضية، وكانت وفاته في شوال من هذه السنة على الصحيح.
وفيها توفي الاخشيد محمد بن ظغج صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية، كانت وفاته بدمشق وله من العمر بضع وستون سنة، وأقيم ولده أبو القاسم أبو جور (1) - وكان صغيرا - وأقيم كافور الاخشيد أتابكه، وكان يدبر الممالك بالبلاد كلها، واستحوذ على الامور كلها وسار إلى مصر فقصد سيف الدولة بن حمدان دمشق فأخذها من أصحاب الاخشيد، ففرح بها فرحا شديدا، واجتمع بمحمد بن محمد بن نصر الفارابي التركي الفيلسوف بها.
وركب سيف الدولة يوما مع الشريف العقيلي في بعض نواحي دمشق، فنظر سيف الدولة إلى الغوطة فأعجبته وقال: ينبغي أن يكون هذا كله لديوان السلطان - كأنه يعرض بأخذها من ملاكها - فأوغر ذلك صدر العقيلي وأوعاه إلى أهل دمشق، فكتبوا إلى كافور الاخشيدي يستنجدونه، فأقبل إليهم في جيوش كثيرة كثيفة، فأجلى عنهم سيف الدولة وطرده عن حلب أيضا واستناب عليها ثم كر راجعا إلى دمشق فاستناب عليها بدرا الاخشيدي - ويعرف ببدير - فلما صار كافور إلى الديار المصرية رجع سيف الدولة إلى حلب فأخذها كما كانت أولا له، ولم يبق له في دمشق شئ يطمع فيه.
وكافور هذا الذي هجاه المتنبي ومدحه أيضا.
وممن توفي فيها من الاعيان: عمر بن الحسين صاحب المختصر في الفقه على مذهب الامام أحمد، وقد شرحه القاضي أبو يعلى بن الفراء والشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي، وقد كان الخرقي هذا من سادات الفقهاء والعباد، كثير الفضائل والعبادة، خرج من بغداد مهاجرا لما كثر بها الشر والسب للصحابة، وأودع كتبه في بغداد
فاحترقت الدار التي كانت فيها الكتب، وعدمت مصنفاته، وقصد دمشق فأقام بها حتى مات في هذه
__________
(1) في الكامل 8 / 457 ومختصر في أخبار البشر، 2 / 95: أنوجور (وانظر مآثر الانافة 1 / 301) .

السنة، وقبره بباب الصغير يزار قريبا من قبور الشهداء.
وذكر في مختصره هذا في الحج: ويأتي الحجر الاسود ويقبله إن كان هناك، وإنما قال ذلك لان تصنيفه لهذا الكتاب كان والحجر الاسود قد أخذته القرامطة وهو في أيديهم في سنة سبع عشرة وثلثمائة كما تقدم، ولم يرد إلى مكانه إلا سنة سبع وثلاثين كما سيأتي بيانه في موضعه.
قال الخطيب البغدادي: قال لي القاضي أبو يعلى: كانت للخرقي مصنفات كثيرة وتخريجات على المذهب ولم تظهر لانه خرج من مدينته لما ظهر بها سبب الصحابة وأودع كتبه فاحترقت الدار التي هي فيها فاحترقت الكتب ولم تكن قد انتشرت لبعده عن البلد.
ثم روى الخطيب من طريقه عن أبي الفضل عبد السميع عن الفتح بن شخرف عن الخرقي قال: رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في المنام فقال لي: ما أحسن تواضع الاغنياء للفقراء ! قال: قلت زدني يا أمير المؤمنين.
قال: وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الاغنياء.
قال ورفع له كفه فإذا فيها مكتوب: قد كنت ميتا فصرت حيا * وعن قريب تعود ميتا فابن بدار البقاء بيتا * ودع بدار الفناء بيتا قال ابن بطة: مات الخرقي بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلثمائة وزرت قبره رحمه الله.
محمد بن عيسى أبو عبد الله بن موسى الفقيه الحنفي أحد أئمة العراقيين في زمانه، وقد ولي القضاء ببغداد للمتقي ثم للمستكفي، وكان ثقة فاضلا، كبست اللصوص داره يظنون أنه ذو مال، فضربه بعضهم ضربة أثخنته، فألقى نفسه من شدة الفزع إلى الارض فمات رحمه الله في ربيع الاول من هذه السنة.
(محمد بن محمد بن عبد الله) أبو الفضل السلمي الوزير الفقيه المحدث الشاعر سمع الكثير
وجمع وصنف وكان يصوم الاثنين والخميس، ولا يدع صلاة الليل والتصنيف، وكان يسأل الله تعالى الشهادة كثيرا.
فولي الوزارة للسلطان فقصده الاجناد فطالبوه بأرزاقهم، واجتمع منهم ببابه خلق كثير، فاستدعى بحلاق فحلق رأسه وتنور وتطيب ولبس كفنه وقام يصلي، فدخلوا عليه فقتلوه وهو ساجد، رحمه الله، في ربيع الآخر من هذه السنة.
الاخشيد محمد بن عبد الله بن طغج أبو بكر الملقب بالاخشيد ومعناه ملك الملوك، لقبه بذلك الراضي لانه كان ملك فرغانة، وكل من ملكها كان يسمى الاخشيد، كما أن من ملك اشروسية يسمى الآفشين.
ومن ملك خوارزم يسمى خوارزم شاه، ومن ملك جرجان يسمى صول، ومن ملك أذربيجان يسمى أصبهبذ، ومن

ملك طبرستان يسمى أرسلان.
قاله ابن الجوزي في منتظمه.
قال السهيلي: وكانت العرب تسمي من ملك الشام مع الجزيرة كافرا قيصر، ومن ملك فارس كسرى، ومن ملك اليمن تبع، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس، ومن ملك مصر فرعون.
ومن ملك الاسكندرية المقوقس.
ودكر غير ذلك.
توفي بدمشق ونقل إلى بيت المقدس فدفن هنالك رحمه الله.
أبو بكر الشبلي أحد مشايخ الصوفية، اختلفوا في اسمه على أقوال فقيل دلف بن جعفر، ويقال دلف بن جحدر، وقيل جعفر بن يونس، أصله من قرية يقال لها شبلة من بلاد أشر وسنة (1) من خراسان، وولد بسامرا، وكان أبوه حاجب الحجاب للموفق، وكان خاله نائب الاسكندرية، وكانت توبة الشبلي على يدي خير النساج، سمعه يعظ فوقع في قلبه كلامه فتاب من فوره، ثم صحب الفقراء والمشايخ، ثم صار من أئمة القوم.
قال الجنيد: الشبلي تاج هؤلاء.
وقال الخطيب: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمود الزوزني قال: سمعت علي بن المثنى التميمي يقول: دخلت يوما على الشبلي في داره وهو يهيج ويقول: على بعدك لا يصبر * من عادته القرب
ولا يقوى على هجرك * من تيمه الحب فإن لم ترك العين * فقد يبصرك القلب وقد ذكر له أحوال وكرامات، وقد ذكرنا أنه كان ممن اشتبه عليه أمر الحلاج فيما نسب إليه من الاقوال من غير تأمل لما فيها، مما كان الحلاج يحاوله من الالحاد والاتحاد، ولما حضرته الوفاة قال لخادمه: قد كان علي درهم مظلمة فتصدقت عن صاحبه بألوف، ومع هذا ما على قلبي شغل أعظم منه.
ثم أمره بأن يوضئه فوضأه وترك تخليل لحيته.
فرفع الشبلي يده - وقد كان اعتقل لسانه - فجعل يخلل لحيته.
وذكره ابن خلكان في الوفيات، وحكى عنه أنه دخل يوما على الجنيد فوقف بين يديه وصفق بيديه وأنشد: عودوني الوصال والوصل عذب * ورموني بالصد والصد صعب زعموا حين اعتبوا أن جرمي (2) * فرط حبي لهم وما ذاك ذنب
__________
(1) من معجم البلدان، وفي الاصل اشروسية، وأشروسنة بلدة عظيمة وراء سمرقند من بلاد ما وراء النهر.
بين سيحون وسمرقند، وبينها وبين سمرقند 26 فرسخا.
وفي الوفيات: أسروشنة قال ياقوت: والاشهر والاعرف: أشر وسنة.
(2) في الوفيات 2 / 273: حين أزمعوا أن ذنبي .

لا وحق الخضوع عند التلاقي * ما جزاء من يحب إلا يحب وذكر عنه قال: رأيت مجنونا (1) على باب جامع الرصافة يوم جمعة عريانا وهو يقول: أنا مجنون الله فقلت ألا تستتر وتدخل إلى الجامع فتصلي الجمعة.
فقال: يقولون زرنا واقض واجب حقنا * وقد أسقطت حالي حقوقهم عني إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لها * ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني وذكر الخطيب في تاريخه عنه أنه أنشد لنفسه فقال: مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى * دمعان في الاجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني * بمودعين وليس لي قلبان كانت وفاته رحمه الله ليلة الجمعة لليلتين بقيتا (2) من هذه السنة، وله سبع وثمانون سنة، ودفن في مقبرة الخيزران ببغداد والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة في هذه السنة استقر أمر الخليفة المطيع لله في دار الخلافة واصطلح معز الدولة بن بويه وناصر الدولة بن حمدان على ذلك، ثم حارب ناصر الدولة تكين التركي فاقتتلا مرات متعددة، ثم ظفر ناصر الدولة بتكين فسمل بين يديه، واستقر أمره بالموصل والجزيرة، واستحوذ ركن الدولة على الري وانتزعها من الخراسانية، واتسعت مملكة بني بويه جدا، فإنه صار بأيديهم أعمال الري والجبل وأصبهان وفارس والاهواز والعراق، ويحمل إليهم ضمان الموصل وديار ربيعة من الجزيرة وغيرها ثم اقتتل جيش معز الدولة وجيش أبي القاسم البريدي فهزم أصحاب البريدي وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة.
وفيها وقع الفداء بين الروم والمسلمين على يد نصر المستملي أمير الثغور لسيف الدولة بن حمدان، فكان عدة الاسارى نحوا من ألفين وخمسمائة (3) مسلم ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الاعيان: الحسن بن حمويه بن الحسين القاضي الاستراباذي.
روى الكثير وحدث، وكان له مجلس للاملاء، وحكم ببلده مدة
__________
(1) في رواية الوفيات وابن الجوزي: معتوها.
(2) زيد في الوفيات: بقيتا من ذي الحجة.
(3) في الكامل 8 / 469: ألفين وأربعمائة وثمانين أسيرا من ذكر وأنثى .

طويلة، وكان من المجتهدين في العبادة المتهجدين بالاسحار، ويضرب به المثل في ظرفه وفكاهته.
وقد مات فجأة على صدر جا...؟ عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله
أبو عبد الله الختلي، سمع ابن أبي الدنيا وغيره، وحدث عنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة نبيلا حافظا، حدث من حفظه بخمسين ألف حديث.
عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن زيد بن تميم أبو محمد الكلبي الملقب بديك الجن الشاعر الماجن الشيعي.
ويقال: إنه من موالي بني تميم، له أشعار قوية.
خمارية وغير خمارية، وقد استجاد أبو نواس شعره في الخمازيات.
علي بن عيسى بن داود بن الجراح أبو الحسن الوزير للمقتدر والقاهر، ولد سنة خمس وأربعين ومائتين وسمع الكثير، وعنه الطبراني وغيره، وكان ثقة نبيلا فاضلا عفيفا، كثير التلاوة والصيام والصلاة، يحب أهل العلم ويكثر مجالستهم، أصله من الفرس، وكان من أكبر القائمين على الحلاج.
وروي عنه أنه قال: كسبت سبعمائة ألف دينار أنفقت منها في وجوه الخير ستمائة ألف وثمانين ألفا، ولما دخل مكة حين نفي من بغداد طاف بالبيت وبالصفا والمروة في حر شديد، ثم جاء إلى منزله فألقى نفسه وقال: أشتهي على الله شربة ثلج.
فقال له بعض أصحابه: هذا لا يتهيأ ههنا.
فقال: أعرف ولكن سيأتي به الله إذا شاء، وأصبر إلى المساء.
فلما كان في أثناء النهار جاءت سحابة فأمطرت وسقط منا برد شديد كثير فجمع له صاحبه من ذلك البرد شيئا كثيرا وخبأه له، وكان الوزير صائما، فلما أمسى جاء به، فلما جاء المسجد أقبل إليه صاحبه بأنواع الاشربة وكلها بثلج، فجعل الوزير يسقيه لمن حواليه من الصوفية والمجاورين، ولم يشرب هو منه شيئا فلما رجع إلى المنزل جئته بشئ من ذلك الشراب كنا خبأناه له وأقسمت عليه ليشربنه فشربه بعد جهد جهيد، وقال أشتهي لو كنت تمنيت المغفرة.
رحمه الله وغفر له.
ومن شعره قوله: فمن كان عني سائلا بشماتة * لما نابني أو شامتا غير سائل فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرة * صبورا على أهوال تلك الزلازل وقد روى أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي عن أبيه عن جماعة أن عطارا من أهل الكرخ كان
مشهورا بالسنة، ركبه ستمائة دينار دينا فأغلق دكانه وانكسر عن كسبه ولزم منزله، وأقبل على الدعاء والتضرع والصلاة ليال كثيرة، فلما كان في بعض تلك الليالي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له: اذهب إلى علي بن عيسى الوزير فقد أمرته لك بأربعمائة دينار.
فلما أصبح الرجل قصد باب

الوزير فلم يعرفه أحد، فجلس لعل أحدا يستأذن له على الوزير حتى طال عليه المجلس وهم بالانصراف، ثم إنه قال لبعض الحجبة قل للوزير: إني رجل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأنا أريد أن أقصه على الوزير.
فقال له الحاجب: وأنت صاحب الرؤيا ؟ إن الوزير قد أنفذ في طلبك رسلا متعددة.
ثم دخل الحجاب فأخبروا الوزير فقال: أدخله علي سريعا.
فدخل عليه فأقبل عليه الوزير يستعلم عن حاله واسمه وصفته ومنزله، فذكر ذلك له، فقال له الوزير: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرني بإعطائك أربعمائة دينار، فأصبحت لا أدري من أسأل عنك، ولا أعرفك ولا أعرف أين أنت، وقد أرسلت في طلبك إلى الآن عدة رسل فجزاك الله خيرا عن قصدك إياي.
ثم أمر الوزير بإحضار ألف دينار فقال: هذه أربعمائة دينار لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وستمائة هبة من عندي.
فقال الرجل: لا والله لا أزيد على ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أرجو الخير والبركة فيه.
ثم أخذ منها أربعمائة دينار، فقال الوزير: هذا هو الصدق واليقين.
فخرج ومعه الاربعمائة دينار فعرض على أرباب الديون أموالهم فقالوا: نحن نصبر عليك ثلاث سنين، وافتح بهذا الذهب دكانك ودم على كسبك.
فأبى إلا أن يعطيهم من أموالهم الثلث، فدفع إليهم مائتي دينار، وفتح حانوته بالمائتي دينار الباقية، فما حال عليه الحول حتى ربح ألف دينار.
ولعلي بن عيسى الوزير أخبار كثيرة صالحة.
كانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة.
ويقال في التي قبلها والله أعلم.
محمد بن إسماعيل ابن إسحاق بن بحر (1) أبو عبد الله الفارسي الفقيه الشافعي، كان ثقة ثبتا فاضلا، سمع أبا زرعة الدمشقي وغيره، وعنه الدارقطني وغيره وآخر من حدث عنه أبو عمر بن مهدي، توفي في شوال من هذه السنة.
هارون بن محمد ابن هارون بن علي بن موسى بن عمرو بن جابر بن يزيد بن جابر بن عامر بن أسيد بن تميم بن صبح بن ذهل بن مالك بن سعيد بن حبنة أبو جعفر، والد القاضي أبي عبد الله الحسن بن هارون.
كان أسلافه ملوك عمان في قديم الزمان، وجده يزيد بن جابر أدرك الاسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان هارون هذا أول من انتقل من أهله من عمان فنزل بغداد وحدث بها، وروى عن أبيه، وكان فاضلا متضلعا من كل فن، وكانت داره مجمع العلماء في سائر الايام، ونفقاته دارة عليهم، وكان له منزلة عالية، ومهابة ببغداد، وقد أثنى عليه الدار قطني ثناء كثيرا، وقال: كان مبرزا في النحو واللغة والشعر، ومعاني القرآن، وعلم الكلام.
__________
(1) في الكامل 8 / 468: نجر .

قال ابن الاثير: وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العباس بن صول الصولي، وكان عالما بفنون الآداب والاخبار، وإنما ذكره ابن الجوزي في التي بعدها كما سيأتي.
أبو العباس بن القاص (1) أحمد بن أبي أحمد الطبري الفقيه الشافعي، تلميذ ابن سريج، له كتاب التلخيص وكتاب المفتاح، وهو مختصر شرحه أبو عبد الله الحسين (2)، وأبو عبد الله (3) السنجي أيضا، وكان أبوه يقص على الناس الاخبار والآثار، وأما هو فتولى قضاء طرسوس وكان يعظ الناس أيضا، فحصل له مرة خشوع فسقط مغشيا عليه فمات في هذه السنة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلثمائة فيها خرج معز الدولة والخليفة المطيع لله من بغداد إلى البصرة فاستنقذاها من يد أبي القاسم بن البريدي، وهرب هو وأكثر أصحابه، واستولى معز الدولة على البصرة وبعث يتهدد القرامطة ويتوعدهم بأخذ بلادهم، وزاد في إقطاع الخليفة ضياعا تعمل في كل سنة مائتي ألف دينار، ثم سار معز الدولة لتلقي أخيه عماد الدولة بالاهواز فقبل الارض بين يدي أخيه وقام بين يديه مقاما طويلا
فأمره بالجلوس فلم يفعل.
ثم عاد إلى بغداد صحبة الخليفة فتمهدت الامور جيدا.
وفي هذه السنة استحوذ ركن الدولة على بلاد طبرستان وجرجان من يد وشمكير أخي مرداويج ملك الديلم، فذهب وشمكير إلى خراسان يستنجد بصاحبها كما سيأتي.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو الحسين بن المنادي أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد، سمع جده وعباسا الدوري ومحمد بن إسحاق الصاغاني.
وكان ثقة أمينا حجة صادقا، صنف كثيرا وجمع علوما جمة، ولم يسمع الناس منها إلا اليسير، وذلك لشراسة أخلاقه.
وآخر من روى عنه محمد بن فارس اللغوي، ونقل ابن الجوزي
__________
(1) من ابن خلكان 1 / 68 وفي الاصل " القاضي " وعرف والده بالقاص لانه كان يقص الاخبار والآثار.
وجعله أبو سعد السمعاني نفسه القاص وقال: سمي بذلك لدخوله ديار الديلم ووعظه بها وتذكيره فسمي القاص...(2) في الوفيات: الختن.
(3) في الوفيات: أبو علي .

عن أبي يوسف القدسي أنه قال: صنف أبو الحسن بن المنادي في علوم القرآن أربعمائة كتاب، ونيفا وأربعين كتابا ولا يوجد في كلامه حشو، بل هو نقي الكلام جمع بين الرواية والدراية.
وقال ابن الجوزي: ومن وقف على مصنفاته علم فضله واطلاعه ووقف على فوائد لا توجد في غير كتبه.
توفي في محرم من هذه السنة عن ثمانين سنة (1).
الصولي محمد بن عبد الله بن العباس ابن محمد صول أبو بكر الصولي، كان أحد العلماء بفنون الادب وحسن المعرفة بأخبار الملوك.
وأيام الخلفاء ومآثر الاشراف وطبقات الشعراء.
روى عن أبي داود السجستاني والمبرد وثعلب وأبي العيناء وغيرهم.
وكان واسع الرواية جيد الحفظ حاذقا بتصنيف الكتب.
وله كتب كثيرة هائلة،
ونادم جماعة من الخلفاء، وحظي عندهم، وكان جده صول وأهله ملوكا بجرجان، ثم كان أولاده من كبار الكتاب، وكان الصولي هذا جيد الاعتقاد حسن الطريقة، وله شعر حسن، وقد روى عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ ومن شعره قوله: أحببت من أجله من كان يشبهه * وكل شئ من المعشوق معشوق حتى حكيت بجسمي ماء مقلته * كأن سقمي من عينيه مسروق خرج الصولي من بغداد إلى البصرة لحاجة لحقته فمات بها في هذه السنة.
وفيها كانت وفاة أبنة الشيخ أبي الزاهد المكي، وكانت من العابدات الناسكات المقيمات بمكة، وكانت تقتات من كسب أبيها من عمل الخوص، في كل سنة ثلاثين درهما يرسلها إليها، فاتفق أنه أرسلها مرة مع بعض أصحابه فزاد عليها ذلك الرجل عشرين درهما - يريد بذلك برها وزيادة في نفقتها - فلما اختبرتها قالت: هل وضعت في هذه الدراهم شيئا من مالك ؟ أصدقني بحق الذي حججت له.
فقال: نعم عشرين درهما.
فقالت: ارجع بها لا حاجة لي فيها، ولولا أنك قصدت الخير لدعوت الله عليك، فإنك قد أجعتني عامي هذا، ولم يبق لي رزق إلا من المزابل إلى قابل.
فقال: خذي منها الثلاثين التي أرسل بها أبوك إليك ودعي العشرين.
فقالت: لا، إنها اختلطت بمالك ولا أدري ما هو.
قال الرجل: فرجعت بها إلى أبيها فأبى أن يقبلها وقال: شققت يا هذا علي وضيقت عليها، ولكن اذهب فتصدق بها.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلثمائة فيها ركب معز الدولة من بغداد إلى الموصل فانهزم منه ناصر الدولة إلى نصيبين، فتملك معز
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 2 / 850: ثمانون سنة إلا سنة .

الدولة بن بويه في رمضان فعسف أهلها وأخذ أموالهم، وكثر الدعاء عليه.
ثم عزم على أخذ البلاد كلها من ناصر الدولة بن حمدان، فجاء خبر من أخيه ركن الدولة يستنجده على من قبله من الخراسانية، فاحتاج إلى مصالحة ناصر الدولة على أن يحمل ما تحت يده من بلاد الجزيرة والشام في كل
سنة ثمانية آلاف ألف درهم، وأن يخطب له ولاخويه عماد الدولة وركن الدولة على منابر بلاده كلها ففعل.
وعاد معز الدولة إلى بغداد وبعث إلى أخيه بجيش هائل، وأخذ له عهد الخليفة بولاية خراسان.
وفيها دخل سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب إلى بلاد الروم، فلقيه جمع كثيف من الروم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم سيف الدولة وأخذت الروم ما كان معهم، وأوقعوا بأهل طرسوس بأسا شديدا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن الجوزي: وفي رمضان انتهت زيادة دجلة أحد وعشرين ذراعا وثلثا.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد الله بن محمد بن حمدويه ابن نعيم بن الحكم أبو محمد البيع، وهو والد الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، أذن ثلاثا وستين سنة وغزا اثنتين وعشرين غزوة، وأنفق على العلماء مائة ألف، وكان يقوم الليل كثيرا، وكان كثير الصدقة، أدرك عبد الله بن أحمد بن حنبل ومسلم بن الحجاج، وروى عن أبن خزيمة وغيره، وتوفي عن ثلاث وتسعين سنة.
قدامة الكاتب المشهور هو قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب، له مصنف في الخراج وصناعة الكتابة، وبه يقتدي علماء هذا الشأن، وقد سأل ثعلبا عن أشياء.
محمد بن علي بن عمر أبو علي المذكر الواعظ بنيسابور، كان كثير التدليس عن المشايخ الذين لم بلقهم.
توفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين سامحه الله.
محمد بن مطهر بن عبد الله أبو المنجا الفقيه الفرضي المالكي، له كتاب في الفقه على مذهب مالك، وله مصنفات في الفرائض قليلة النظير، وكان أديبا إماما فاضلا صادقا، رحمه الله.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة
في ربيع الاول منها وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة، ونهبت الكرخ.
في جمادى الآخرة تقلد أبو السائب عتبة بن عبيد الله (1) الهمداني قضاء القضاة.
وفيها خرج رجل يقال له عمران بن شاهين كان قد استوجب بعض العقوبات فهرب من السلطان إلى ناحية البطائح، وكان يقتات مما يصيده من السمك والطيور، والتف عليه خلق من الصيادين وقطاع الطريق، فقويت شوكته واستعمله أبو القاسم بن البريدي على بعض تلك النواحي، وأرسل إليه معز الدولة بن بويه جيشا مع وزيره أبي جعفر بن بويه الضميري (2)، فهزم ذلك الصياد الوزير، واستحوذ على ما معه من الاموال، فقويت شوكة ذلك الصياد، ودهم الوزير وفاة عماد الدولة بن بويه وهو: أبو الحسن علي بن بويه وهو أكبر أولاد بويه وأول من تملك منهم، وكان عاقلا حاذقا حميد السيرة رئيسا في نفسه.
كان أو ظهوره في سنة ثنتين وعشرين وثلثمائة كما ذكرنا.
فلما كان في هذا العام قويت عليه الاسقام وتواترت عليه الآلام فأحس من نفسه بالهلاك، ولم يفاده ولا دفع عنه أمر الله ما هو فيه من الاموال والملك وكثرة الرجال والاموال، ولا رد عنه جيشه من الديالم والاتراك والاعجام، مع كثرة العدد والعدد، بل تخلوا عنه أحوج ما كان إليهم، فسبحان الله الملك القادر القاهر العلام.
ولم يكن له ولد ذكر، فأرسل إلى أخيه ركن الدولة يستدعيه إليه وولده عضد الدولة، ليجعله ولي عهده من بعده، فلما قدم عليه فرح به فرحا شديدا، وخرج بنفسه في جميع جيشه يتلقاه، فلما دخل به إلى دار المملكة أجلسه على السرير وقام بين يديه كأحد الامراء، ليرفع من شأنه عند أمرائه ووزرائه وأعوانه.
ثم عقد له البيعة على ما يملكه من البلدان والاموال، وتدبير المملكة والرجال.
وفيهم من بعض رؤوس الامراء كراهة لذلك، فشرع في القبض عليهم وقتل من شاء منهم وسجن آخرين، حتى تمهدت الامور لعضد الدولة.
ثم كانت وفاة عماد الدولة بشيراز في هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة، وكان من خيار الملوك في زمانه، وكان ممن حاز قصب السبق دون أقرانه، وكان هو أمير الامراء، وبذلك كان يكاتبه الخلفاء، ولكن أخوه معز الدولة كان يونب عنه في العراق والسواد.
ولما مات عماد الدولة اشتغل الوزير أبو جعفر الضميري (3) عن محاربة عمران بن
شاهين الصياد - وكان قد كتب إليه معز الدولة أن يسير إلى شيراز ويضبط أمرها - فقوي أمر عمران
__________
(1) في الكامل 8 / 485: عبد الله (2) في الكامل 8 / 481: الصيمري، وفي العبر لابن خلدون 3 / 424: محمد بن أحمد الصهيري أبو جعفر.
(3) انظر الحاشية السابقة .

بعد ضعفه، وكان من أمره ما سيأتي في موضعه.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو جعفر النحاس النحوي.
أحمد بن محمد إسماعيل بن يونس أبو جعفر المرادي المصري النحوي، المعروف بالنحاس، اللغوي المفسر الاديب، له مصنفات كثيرة في التفسير وغيره، وقد سمع الحديث ولقي أصحاب المبرد، وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة.
قال ابن خلكان: لخمس خلون منها يوم السبت.
وكان سبب وفاته أنه جلس عند المقياس يقطع شيئا من العروض فظنه بعض العامة يسحر النيل فرفسه برجله فسقط فغرق، ولم يدر أين ذهب.
وقد كان أخذ النحو عن علي بن سليمان الاحوص وأبي بكر الانباري وأبي إسحاق الزجاج ونفطويه وغيرهم، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها تفسير القرآن والناسخ والمنسوخ، وشرح أبيات سيبويه، ولم يصنف مثله، وشرح المعلقات والدواوين العشرة، وغير ذلك.
وروى الحديث عن النسائي وكان بخيلا جدا، وانتفع الناس به.
وفيها كانت وفاة الخليفة.
المستكفي بالله عبد الله بن علي المكتفي بالله، وقد ولي الخلافة سنة وأربعة أشهر ويومين (1)، ثم خلع وسملت عيناه كما تقدم ذكره.
توفي في هذه السنة وهو معتقل في داره، وله من العمر ست وأربعون سنة وشهران.
علي بن حمشاد بن سحنون (2) بن نصر أبو المعدل (3)، محدث عصره بنيسابور، رحل إلى البلدان وسمع الكثير وحدث وصنف مسندا
أربعمائة جزء، وله غير ذلك مع شدة الاتقان والحفظ، وكثرة العبادة والصيانة والخشية لله عز وجل قال بعضهم: صحبته في السفر والحضر فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.
وله تفسير في مائتي جزء ونيف، ودخل الحمام من غير مرض فتوفي فيه فجأة، وذلك يوم الجمعة الرابع عشر من شوال من هذه السنة رحمه الله.
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 401: سنة وأربعة أشهر إلا أياما.
وفي العقد الفريد 5 / 130: سنة واحدة وستة أشهر وأياما.
وفي الكامل 8 / 451: سنة واحدة وأربعة أشهر.
(2) في التذكرة 3 / 876 علي بن خمشاذ، وفي شذرات الذهب 2 / 348: علي بن محمد بن سختونة بن خمشاد.
(3) في التذكرة وشذرات الذهب: أبو الحسن .

علي بن محمد بن أحمد بن الحسن أبو الحسن الواعظ البغدادي، ارتحل إلى مصر فأقام بها حتى عرف بالمصري، سمع الكثير وروى عنه الدار قطني وغيره، وكان له مجلس وعظ يحضر فيه الرجل والنساء وكان يتكلم وهو مبرقع لئلا يرى النساء حسن وجهه، وقد حضر مجلسه أبو بكر النقاش مستخفيا فلما سمع كلامه قام قائما وشهر نفسه وقال له: القصص بعدك حرام.
قال الخطيب: كان ثقة أمينا عارفا، جمع حديث الليث وابن لهيعة وله كتب كثيرة في الزهد.
توفي في ذي القعدة منها، وله سبع وثمانون سنة والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلثمائة في هذه السنة المباركة في ذي القعدة منها رد الحجر الاسود المكي إلى مكانه في البيت، وقد كان القرامطة أخذوه في سنة سبع عشرة وثلثمائة كما تقدم، وكان ملكهم إذ ذاك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسين الجنابي، ولما وقع هذا أعظم المسلمون ذلك، وقد بذل لهم الامير بجكم التركي خمسين ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه فلم يفعلوا، وقالوا: نحن أخذناه بأمر فلا نرده إلا بأمر من أخذناه بأمره.
فلما كان في هذا العام حملوه إلى الكوفة وعلقوه على الاسطوانة السابعة من جامعها ليراه
الناس، وكتب أخو أبي طاهر كتابا فيه: إنا أخذنا هذا الحجر بأمر وقد رددناه بأمر من أمرنا بأخذه ليتم حج الناس ومناسكهم.
ثم أرسلوه إلى مكة بغير شئ على قعود، فوصل في ذي القعدة من هذه السنة ولله الحمد والمنة، وكان مدة مغايبته عنده ثنتين وعشرين سنة، ففرح المسلمون لذلك فرحا شديدا.
وقد ذكر غير واحد أن القرامطة لما أخذوه حملوه على عدة جمال فعطبت تحته واعترى أسنمتها القرح، ولما ردوه حمله قعود واحد ولم يصبه أذى.
وفيها دخل سيف الدولة بن حمدان بجيش عظيم نحو من ثلاثين ألفا إلى بلاد الروم فوغل فيها وفتح حصونا وقتل خلقا وأسر أمما وغنم شيئا كثيرا ثم رجع، فأخذت عليه الروم الدرب الذي يخرج منه فقتلوا عامة من معه وأسروا بقيتهم واستردوا ما كان أخذه، ونجا سيف الدولة في نفر يسير من أصحابه.
وفيها مات الوزير أبو جعفر الضميري (1) فاستوزر معز الدولة مكانه أبا محمد الحسين (2) بن محمد المهلبي في جمادى الاولى.
فاستفحل أمر عمران بن شاهين الصياد وتفاقم الامر به، فبعث إليه معز الدولة جيشا بعد جيش، كل ذلك يهزمهم مرة بعد مرة، ثم عدل معز الدولة إلى مصالحته واستعماله له على بعض تلك النواحي، ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
__________
(1) تقدمت الاشارة إليه.
(2) في الكامل 8 / 485 والعبر 3 / 424: الحسن .

وممن توفي فيها من الاعيان: الحسن بن داود بن باب شاذ أبو الحسن المصري قدم بغداد.
كان من أفاضل الناس وعلمائهم، بمذهب أبي حنيفة، مبسوط الذكاء قوي الفهم، كتب الحديث، وكان ثقة.
مات ببغداد في هذه السنة ودفن بمقبرة الشونيزية ولم يبلغ من العمر أربعين سنة.
محمد القاهر بالله أمير المؤمنين ابن المعتضد بالله، ولي الخلافة سنة وستة أشهر وسبعة أيام.
وكان بطاشا سريع الانتقام،
فخاف منه وزيره أبو علي بن مقلة فاستتر منه فشرع في العمل عليه عند الاتراك، فخلعوه وسملوا عينيه وأودع دار الخلافة برهة من الدهر، ثم أخرج في سنة ثلاث وثلاثين إلى دار ابن طاهر، وقد نالته فاقة وحاجة شديدة، وسأل في بعض الايام.
ثم كانت وفاته في هذا العام، وله ثنتان وخمسون سنة، ودفن إلى جانب أبيه المعتضد.
محمد بن عبد الله بن أحمد أبو عبد الله الصفار الاصبهاني محدث عصره بخراسان، سمع الكثير وحدث عن ابن أبي الدنيا ببعض كتبه، وكان مجاب الدعوة، ومكث لا يرفع رأسه إلى السماء نيفا وأربعين سنة، وكان يقول اسمي محمد واسم أبي عبد الله واسم أمي آمنة، يفرح بهذه الموافقة في الاسم واسم الاب واسم الام، لان النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه محمد، واسم أبيه عبد الله، وأمه اسمها آمنة.
أبو نصر الفارابي التركي (1) الفيلسوف، وكان من أعلم الناس بالموسيقى، بحيث كان يتوسل به وبصناعته إلى الناس في الحاضرين من المستمعين إن شاء حرك ما يبكي أو يضحك أو ينوم.
وكان حاذقا في الفلسفة، ومن كتبه تفقه ابن سينا، وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني، ويخصص بالمعاد الارواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الاقدمين، فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين.
مات بدمشق فيما قاله ابن الاثير في كامله ولم أن الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته فالله أعلم.
__________
(1) هو محمد بن محمد بن طرخان التركي ولد بفاراب.
قال أبو الفداء في مختصر أخبار البشر ص 99: تسمى اليوم أطرار.
مات بدمشق ناهز الثمانين ودفن خارج باب الصغير .

ثم دخلت سنة أربعين وثلثمائة فيها قصد صاحب عمان (1) البصرة ليأخذها في مراكب كثيرة، وجاء لنصره أبو يعقوب الهجري فمانعه الوزير أبو محمد المهلبي وصده عنها، وأسر جماعة من أصحابه وسبا سبيا كثيرا من مراكبه
فساقها معه في دجلة، ودخل بها إلى بغداد في أبهة عظيمة ولله الحمد.
وفيها رفع إلى الوزير أبي محمد المهلبي رجل من أصحاب أبي جعفر بن أبي العز (2) الذي كان قتل على الزندقة كما قتل الحلاج، فكان هذا الرجل يدعي ما كان يدعيه ابن أبي العز، وقد ابتعه جماعة من الجهلة من أهل بغداد، وصدقوه في دعواه الربوبية، وأن أرواح الانبياء والصديقين تنتقل إليهم.
ووجد في منزله كتب تدل على ذلك.
فلما تحقق أنه هالك ادعى أنه شيعي ليحضر عند معز الدولة بن بويه.
وقد كان معز الدولة بن بويه يحب الرافضة قبحه الله.
فلما اشتهر عنه ذلك لم يتمكن الوزير منه خوفا على نفسه من معز الدولة، وأن تقوم عليه الشيعة، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولكنه احتاط على شئ من أموالهم، فكان يسميها أموال الزنادقة.
قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها وقعت فتنة عظيمة بسبب المذهب.
وممن توفي فيها من الاعيان: أشهب بن عبد العزيز (3) بن أبي داود بن إبراهيم أبو عمرو العامري - نسبة إلى عامر بن لؤي - كان أحد الفقهاء المشهورين.
توفي في شعبان منها.
أبو الحسن الكرخي (4) أحد أئمة الحنفية المشهورين، ولد سنة ستين ومائتين وسكن بغداد ودرس فقه أبي حنيفة وانتهت إليه رئاسة أصحابه في البلاد، وكان متعبدا كثير الصلاة والصوم، صبورا على الفقر، عزوفا عما في أيدي الناس، وكان مع ذلك رأسا في الاعتزال، وقد سمع الحديث من إسماعيل بن إسحاق القاضي، وروى عنه حيوة وابن شاهين.
وأصابه الفالج في آخر عمره، فاجتمع عنده بعض أصحابه واشتوروا فيما بينهم أن يكتبوا إلى سيف الدولة بن حمدان ليساعده بشئ يستعين به في مرضه، فلما علم بذلك رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني.
فمات عقب ذلك قبل أن يصل إليه ما أرسل به سيف الدولة، وهو عشرة آلاف درهم.
فتصدقوا بها
__________
(1) هو يوسف بن وجيه، وذكره ابن الاثير في حوادث سنة 341 ه.
(8 / 496).
(2) في ابن الاثير 8 / 495: ابن أبي القراقر.
وقد تقدمت الاشارة إليه.
راجع مقتل الحلاج.
(3) في الوفيات 1 / 238 والوافي 8 / 278: عبد العزيز بن داود.
وذكراه في وفيات سنة 204 ه.
قال في الوافي: مات في شهر رجب.
وقال: قيل اسمه مسكين ولقبه أشهب.
(4) هو عبد الله بن الحسين (مختصر أخبار البشر 2 / 99)، وفي تذكرة الحفاظ 2 / 855: عبيد الله بن الحسن بن دلال وفي الكامل 8 / 495: عبد الله بن حسين بن لال .

بعد وفاته في شعبان من هذه السنة عن ثمانين سنة، وصلى عليه أبو تمام الحسن بن محمد الزينبي، وكان صاحبه، ودفن في درب أبي زيد نهر على الواسطيين.
محمد بن صالح بن يزيد أبو جعفر الوراق سمع الكثير، وكان يفهم ويحفظ، وكان ثقة زاهدا لا يأكل إلا من كسب يده ولا يقطع صلاة الليل.
وقال بعضهم: صحبته سنين كثيرة فما رأيته فعل إلا ما يرضي الله عز وجل.
ولا قال إلا ما يسأل عنه، وكان يقوم أكثر الليل.
وفيها كانت وفاة منصور بن قرابكين (1) صاحب الجيوش الخراسانية من جهة الامير نوح الساماني من مرض حصل له، وقيل لانه أدمن شرب الخمر أياما متتابعة فهلك بسبب ذلك، فأقيم بعده في الجيوش أبو علي المحتاج.
الزجاجي، مصنف الجمل، وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق النحوي اللغوي البغدادي الاصل.
ثم الدمشقي، مصنف الجمل في النحو، وهو كتاب نافع، كثير الفائدة، صنفه بمكة، وكان يطوف بعد كل باب منه ويدعو الله تعالى أن ينفع به.
أخذ النحو أولا عن محمد بن العباس اليزيدي، وأبي بكر بن دريد، وابن الانباري.
توفي في رجب سنة سبع، وقيل سنة تسع وثلاثين، وقيل سنة أربعين.
توفي في دمشق وقيل بطبرية.
وقد شرح كتابه الجمل بشروح كثيرة من أحسنها وأجمعها ما وضعه ابن عصفور.
والله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وثلثمائة فيها ملكت الروم سروج، وقتلوا أهلها وحرقوا مساجدها.
قال ابن الاثير: وفيها قصد موسى (2) بن وجيه صاحب عمان البصرة فمنعه منها المهلبي كما تقدم.
وفيها نقم معز الدولة على وزيره فضربه مائة وخمسين سوطا ولم يعزله بل رسم عليه.
وفيها اختصم المصريون والعراقيون بمكة
فخطبوا لصاحب مصر، ثم غلبهم العراقيون فخطبوا لركن الدولة بن بويه.
وفيها كانت وفاة: المنصور الفاطمي وهو أبو طاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبيد الله المهدي صاحب
__________
(1) في الكامل 8 / 492: قراتكين.
(2) في الكامل 8 / 496: يوسف.
(انظر تاريخ أبي الفداء 2 / 99) .

المغرب وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وكانت خلافته سبع سنين وستة (1) عشر يوما، وكان عاقلا شجاعا فاتكا قهر أبا يزيد الخارجي الذي كان لا يطاق شجاعة وإقداما وصبرا، وكان فصيحا بليغا، يرتجل الخطبة على البديهة في الساعة الراهنة.
وكان سبب موته ضعف الحرارة الغريزية كما أورده ابن الاثير في كامله، فاختلف عليه الاطباء، وقد عهد بالامر إلى المعز الفاطمي وهو باني القاهرة المعزية كما سيأتي بيانه واسمه، وكان عمره إذ ذاك أربعا وعشرين سنة (2)، وكان شجاعا عاقلا أيضا حازم الرأي، أطاعه من البربر وأهل تلك النواحي خلق كثير، وبعث مولاه جوهر القائد فبنى له القاهرة المتاخمة لمصر، واتخذ له فيها دار الملك، وهما القصران اللذان هناك - اللذان يقال لهما بين القصرين اليوم - وذلك في سنة أربع وستين وثلثمائة كما سيأتي.
وممن توفي فيها من الاعيان: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح أبو علي الصفار أحد المحدثين، لقي المبرد واشتهر بصحبته، وكان مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين، وسمع الحسن بن عرفة وعباسا الدوري وغيرهما، وروى عنه جماعة منهم الدار قطني.
قال صام أربعة وثمانين رمضانا، وقد كانت وفاته في هذه السنة عن أربع وتسعين سنة رحمه الله تعالى.
أحمد بن محمد زياد ابن يونس بن درهم أبو سعيد بن الاعرابي، سكن مكة وصار شيخ الحرم، وصحب الجنيد بن محمد والنوري وغيرهما، وأسند وصنف كتابا للصوفية.
(إسماعيل بن القائم) بن المهدي الملقب بالنصور العبيدي الذي يزعم انه فاطمي، صاحب بلاد المغرب.
وهو والد المعز باني القاهرة، وهو باني المنصورية ببلاد المغرب.
قال أبو جعفر المروزي: خرجت معه لما كسر أبا يزيد الخارجي، فبينما أنا أسير معه إذ سقط رمحه فنزلت فناولته إياه وذهبت أفاكهه بقول الشاعر: فالقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالاياب المسافر فقال: هلا قلت كما قال الله تعالى: (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون) [ الشعراء: 45 ] (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) [ الاعراف: 117 ] قال فقلت له: أنت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت ببعض ما علمت، وأنا قلت بما بلغ به أكثر علمي.
قال ابن خلكان: وهذا كما جرى لعبد الملك بن مروان حين أمر الحجاج أن يبني بابا ببيت المقدس ويكتب عليه اسمه، فبنى له بابا وبنى لنفسه باب آخر، فوقعت
__________
(1) في البيان المغرب لابن عذارى 1 / 221: خمسة.
(2) في ابن عذارى 1 / 221: اثنان وعشرون سنة .

صاعقة على باب عبد الملك بأحرقته، فكتب إلى الحجاج بالعراق يسأله عما أهمه من ذلك يقول: ما أنا وأنت إلا كما قال الله تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم الحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لاقتلنك) [ المائدة: 27 ] فرضي عنه الخليفة بذلك.
توفي المنصور في هذه السنة من برد شديد والله أعلم.
ثم دخلت سنة أثنتين وأربعين وثلثمائة فيها دخل سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب إلى بلاد الروم فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر آخرين، وغنم أموالا جزيلة، ورجع سالما غانما.
وفيها اختلف الحجيج بمكة ووقعت حروب بين أصحاب ابن طغج وأصحاب معز الدولة، فغلبهم العراقيون وخطبوا لمعز الدولة، ثم بعد انقضاء الحج اختلفوا أيضا فغلبهم العراقيون أيضا وجرت حروب كثيرة بين الخراسانية والسامانية تقصاها
ابن الاثير في كامله.
وممن توفي فيها من الاعيان: علي بن محمد بن أبي الفهم أبو القاسم التنوخي جد القاضي أبي القاسم التنوخي شيخ الخطيب البغدادي، ولد بإنطاكية، وقدم بغداد فتفقه بها على مذهب أبي حنيفة، وكان يعرف الكلام على طريق المعتزلة، ويعرف النجوم ويقول الشعر، ولي القضاء بالاهواز وغيرها، وقد سمع الحديث من البغوي وغيره، وكان فهما ذكيا حفظ وهو ابن خمس عشرة (1) سنة قصيدة دعبل الشاعر في ليلة واحدة، وهي ستمائة بيت، وعرضها على أبيه صبيحتها فقام إليه وضمه وقبل بين عينيه وقال: يا بني لا تخبر بهذا أحدا لئلا تصيبك العين.
وذكر ابن خلكان: أنه كان نديما للوزير المهلبي، ووفد على سيف الدولة بن حمدان فأكرمه وأحسن إليه، وأورد له من شعره أشياء حسنة فمن ذلك قوله في الخمر: وراح من الشمس مخلوقة * بدت لك في قدح من نهار هواء، ولكنه جامد * وماء، ولكنه ليس جار كأن المدير له باليمي * ن، إذا مال للفئ (2) أو بالنهار تدرع ثوبا من الياسمي * ن له برد (3) كم من الجلنار
__________
(1) ورد في الاصل خمس عشر والصواب ما أثبتناه.
(2) في وفيات الاعيان 3 / 367: للسقي.
(3) في الوفيات: فرد .

محمد بن إبراهيم ابن الحسين بن الحسن بن عبد الخلاق أبو الفرج البغدادي الفقيه الشافعي يعرف بابن سكره سكن مصر وحدث بها وسع منه أبو الفتح بن مسرور، وذكر أن فيه لينا.
محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون بن الرشيد هارون أبو بكر، ولي إمرة مكة في سنة ثمان وستين ومائتين، وقدم مصر فحدث بها عن علي بن عبد العزيز البغوي بموطأ مالك.
وكان ثقة مأمونا
توفي بمصر في ذي الحجة منها.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة فيها كانت وقعة بين سيف الدولة بن حمدان وبين الدمستق، فقتل خلقا من أصحاب الدمستق وأسر آخرين في جماعة من رؤساء بطارقته، وكان في جملة من قتل قسطنطين بن الدمستق، وذلك في ربيع الاول من هذه السنة، ثم جمع الدمستق خلقا كثيرا فالتقوا مع سيف الدولة في شعبان منها، فجرت بينهم حروب عظيمة وقتال شديد، فكانت الدائرة للمسلمين وخذل الله الكافرين، فقتل منهم خلق كثير، وأسر جماعة من الرؤساء، وكان منهم صهر الدمستق وابن بنته أيضا.
وفيها حصل للناس أمراض كثيرة وحمى وأوجاع في الحلق.
وفيها مات الامير الحميد نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر، وقام بالامر من بعده ولده عبد الملك.
وممن توفي فيها من الاعيان: الحسن بن أحمد أبو علي الكاتب المصري، صحب أبا علي الروذباري وغيره، وكان عثمان المغربي يعظم أمره ويقول: أبو علي الكاتب من السالكين إلى الله.
ومن كلامه الذي حكاه عنه أبو عبد الرحمن السلمي قوله: روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين وإن كتموها، ويظهر عليهم دلائلها وإن أخفوها، وتبدو عليهم وإن ستروها.
وأنشد: إذا مات استسرت أنفس الناس ذكره * تبين فيهم وإن لم يتكلموا تطيبهم أنفاسهم فتذيعها * وهل سر مسك أودع الريح يكتم ؟ علي بن حمد بن عقبة بن همام أبو الحسن الشيباني الكوفي، قدم بغداد فحدث بها عن جماعة وروى عنه الدار قطني.
وكان

ثقة عدلا كثير التلاوة فقيها، مكث يشهد على الحكام ثلاثا وسبعين سنة، مقبولا عندهم، وأذن في مسجد حمزة الزيات نيفا وسبعين سنة، وكذلك أبوه من قبله.
محمد بن علي بن أحمد بن العباس الكرخي الاديب، كان عالما زاهدا ورعا، يختم القرآن كل يوم ويديم الصيام، سمع الحديث من عبدان وأقرانه.
أبو الخير التيناني العابد الزاهد، أصله من العرب (1)، كان مقيما بقرية يقال لها تينات (2) من عمل إنطاكية، ويعرف بالاقطع لانه كان مقطوع اليد، كان قد عاهد الله عهدا ثم نكثه، فاتفق له أنه مسك مع جماعة من اللصوص في الصحراء وهو هناك سائح يتعبد، فأخذ معهم فقطعت يده معهم، وكانت له أحوال وكرامات، وكان ينسج الخوص بيده الواحدة.
دخل عليه بعض الناس فشاهد منذ ذلك فأخذ منه العهد أن لا يخبر به أحدا ما دام حيا، فوفى له بذلك.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وثلثمائة قال ابن الجوزي: فيها شمل الناس ببغداد وواسط وأصبهان والاهوز داء مركب من دم وصفراء ووباء، مات بسبب ذلك خلق كثير، بحيث كان يموت في كل يوم قريب من ألف نفس، وجاء فيها جراد عظيم أكل الخضروات والاشجار والثمار.
وفي المحرم منها قعد معز الدولة لابنه أبي منصور بختيار الامر من بعده بأمرة الامراء.
وفيها خرج رجل من أذربيجان ادعى أنه يعلم الغيب، وكان يحرم اللحم وما يخرج من الحيوانات، فأضافه مرة رجل فجاءه بطعام كشكية بشحم فأكله، فقال له الرجل بحضرة من معه: إنك تدعي أنك تعلم الغيب وهذا طعام فيه شحم وأنت تحرمه فلم لا علمته ؟ فتفرق عنه الناس.
وفيها جرت حروب كثيرة بين المعز الفاطمي وبين صاحب الاندلس عبد الرحمن الناصر الاموي، استقصاها ابن الاثير (3).
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) في صفة الصفوة 4 / 282: المغرب.
(2) من معجم البلدان، وفي الاصل: تينان.
وتينات: فرضة على بحر الشام قرب المصيصة، تجهز منها المراكب بالخشب إلى الديار المصرية.
ومنها عيسى بن أبي الخير التيناتي (أبوه أبو بكر الزابي) من الصالحين.
وفي الكامل لابن الاثير 8 / 533 ذكره في وفيات 349 ه.
(3) انظر الكامل 8 / 513 .

عثمان بن أحمد ابن عبد الله بن يزيد أبو عمرو الدقاق المعروف بابن السماك، روى عن حنبل بن إسحاق وغيره، وعنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة ثبتا، كتب المصنفات الكثيرة بخطه، توفي في ربيع الاول منها ودفن بمقبرة باب التبن، وحضر جنازته خمسون ألفا.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد أبو جعفر القاضي السمناني، ولد سنة إحدى وستين ومائتين، وسكن بغداد وحدث بها، وكان ثقة عالما فاضلا سخيا حسن الكلام، عراقي المذهب، وكانت داره مجمع العلماء، ثم ولي قضاء الموصل وتوفي بها في هذه السنة في ربيع الاول منها (1).
محمد بن أحمد بن بطة بن إسحاق الاصبهاني أبو عبد الله سكن نيسابور ثم عاد إلى أصبهان.
وليس هذا بعبد الله بن بطة العكبري، هذا متقدم عليه، هذا شيخ الطبراني وابن بطة الثاني يروي عن الطبراني، وهذا بضم الباء من بطة، وابن بطة الثاني وهو الفقيه الحنبلي بفتحها.
وقد كان جد هذا، وهو ابن بطة بن إسحاق أبو سعيد، من المحدثين أيضا.
ذكره ابن الجوزي في منتظمه.
محمد بن محمد بن يوسف بن الحجاج أبو النضر الفقيه الطوسي، كان عالما ثقة عابدا، يصوم النهار ويقوم الليل، ويتصدق بالفاصل من قوته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد رحل في طلب الحديث إلى الاقاليم النائية والبلدان المتباعدة، وكان قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، فثلث للنوم، وثلث للتصنيف، وثلث للقراءة.
وقد رآه بعضهم في النوم بعد وفاته فقال له: وصلت إلى ما طلبت ؟ فقال: أي والله نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرضت مصنفاتي في الحديث عليه فقبلها.
أبو بكر بن الحداد الفقيه الشافعي، هو محمد بن أحمد بن محمد أبو بكر بن الحداد أحد أئمة الشافعية، روى عن
__________
(1) ذكر وفاته في الوافي بالوفيات 2 / 65: سنة 444 ه.
وقال ابن خلكان 2 / 408 أن أبا الوليد الباجي درس على أبي جعفر السمناني بالموصل الفقه بعد سنة 426 ه.
فعلى هذا يكون اقحام اسمه في من توفي هذه السنة سهوا من الناسخ.
ولعله اختلط عليه بين سنتي 344 و 444 ه .

النسائي، وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله عز وجل.
وقد كان ابن الحداد فقيها فروعيا، ومحدثا ونحويا وفصيحا في العبارة دقيق النظر في الفروع، له كتاب في ذلك غريب الشكل، وقد ولي القضاء بمصر نيابة عن أبي عبيد بن حربويه.
ذكرناه في طبقات الشافعية.
أبو يعقوب الاذرعي إسحاق بن إبراهيم بن هاشم بن يعقوب النهدي، قال ابن عساكر: من أهل أذرعات - مدينة بالبلقاء - أحد الثقات من عباد الله الصالحين.
رحل وحدث عنه جماعة من أجل أهل دمشق وعبادها وعلمائها، وقد روى عنه ابن عساكر أشياء تدل على صلاحه وخرق العادة له، فمن ذلك قال: إني سألت الله أن يقبض بصري فعميت، فلما استضررت بالطهارة سألت الله عوده فرده علي.
توفي بدمشق في هذه السنة - سنة أربع وخمسين (1) - وصححه ابن عساكر وقد نيف على التسعين.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلثمائة وفيها عصى الروزبهان على معز الدولة وانحاز إلى الاهواز ولحق به عامة من كان مع المهلبي الذي كان يحاربه، فلما بلغ ذلك معز الدولة لم يصدقه لانه كان قد أحسن إليه ورفع من قدره بعد الضعة والخمول، ثم تبين له أن ذلك حق، فخرج لقتاله وتبعه الخليفة المطيع لله خوفا من ناصر الدولة بن حمدان فإنه قد بلغه أنه جهز جيشا مع ولده أبي المرجا جابر إلى بغداد ليأخذها، فأرسل معز الدولة حاجبه سبكتكين إلى بغداد، وصمد معز الدولة إلى الروزبهان فاقتتلوا قتلا شديدا، وهزمه معز الدولة وفرق أصحابه وأخذه أسيرا إلى بغداد فسجنه، ثم أخرجه ليلا وغرقه، لان الديلم أرادوا
إخراجه من السجن قهرا وانطوى ذكر روزبهان وإخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار.
وحضيت الاتراك عند معز الدولة وانحطت رتبة الديلم عنده، لانه ظهر له خيانتهم في أمر الروزبهان وإخوته.
وفيها دخل سيف الدولة إلى بلاد الروم فقتل وسبى ورجع إلى حلب، فحميت الروم فجمعوا وأقبلوا إلى ميافارقين فقتلوا وسبوا وحرقوا ورجعوا، وركبوا في البحر إلى طرسوس فقتلوا من أهلها ألفا وثمانمائة وسبوا وحرقوا قرى كثيرة.
وفيها زلزلت همذان زلزالا شديدا تهدمت البيوت وانشق قصر شيرين بصاعقة، ومات تحت الهدم خلق كثير لا يحصون كثرة، ووقعت فتنة عظيمة بين أهل أصبهان وأهل قم بسبب سب الصحابة من أهل قم، فثاروا عليهم أهل أصبهان وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ونهبوا أموال التجار، فغضب ركن الدولة لاهل قم، لانه كان شيعيا، فصادر أهل أصبهان بأموال كثيرة.
__________
(1) كذابالاصل وهو خطأ واضح والصواب وأربعين .

وفيها توفي من الاعيان: غلام ثعلب محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم أبو عمرو الزاهد غلام ثعلب، روى عن الكديمي وموسى بن سهل الوشاء وغيرهما، روى عنه جماعة، وآخر من حدث عنه أبو علي بن شاذان وكان كثير العلم والزهد حافظا مطيقا يملي من حفظه شيئا كثيرا، ضابطا لما يحفظه.
ولكثرة إغرابه اتهمه بعض الرواة ورماه بالكذب، وقد اتفق له مع القاضي أبي عمر حكاية - وكان يؤدب ولده - فإنه أملى من حفظه ثلاثين مسألة بشواهدها وأدلتها من لغة العرب، واستشهد على بعضها ببيتين غريبين جدا، فعرضهما القاضي أبو عمر على ابن دريد وابن الانباري وابن مقسم، فلم يعرفوا منها شيئا.
حتى قال ابن دريد: هذا ما وضعه أبو عمرو من عنده، فلما جاء أبو عمرو ذكر له القاضي ما قال ابن دريد عنه، فطلب أبو عمرو أن يحصر له من كتبه دواوين العرب.
فلم يزل أبو عمرو يعمد إلى كل مسألة ويأتيه بشاهد بعد شاهد حتى خرج من الثلاثين مسألة ثم قال: وأما البيتان فإن ثعلبا أنشدنا هما
وأنت حاضر فكتبتهما في دفترك الفلاني، فطلب القاضي دفتره فإذا هما فيه، فلما بلغ ذلك ابن دريد كف لسانه عن أبي عمرو الزاهد فلم يذكره حتى مات.
توفي أبو عمرو هذا يوم الاحد ودفن يوم الاثنين الثالث عشر من ذي القعدة، ودفن في الصفة المقابلة لقبر معروف الكرخي ببغداد رحمه الله.
محمد بن علي بن أحمد بن رستم أبو بكر المادرائي الكاتب، ولد في سنة خمس وخمسين ومائتين بالعراق، ثم صار إلى مصر هو وأخوه أحمد مع أبيهما، وكان على الخراج لخمارويه بن أحمد بن طولون، ثم صار هذا الرجل من رؤساء الناس وأكابرهم، سمع الحديث من أحمد بن عبد الجبار وطبقته.
وقد روى الخطب عنه أنه قال: كان ببابي شيخ كبير من الكتاب قد تعطل عن وظيفته، فرأيت والدي في المنام وهو يقول بابني أما تتقي الله ؟ أنت مشغول بلذاتك والناس ببابك يهلكون من العري والجوع.
هذا فلان قد تقطع سراويله ولا يقدر على إبداله، فلا تهمل أمره.
فاستيقظت مذعورا وأنا أناوله الاحسان، ثم نمت فأنسيت المنام، فبينا أنا أسير إلى دار الملك، فإذا بذلك الرجل الذي ذكره على دابة ضعيفة، فلما رآني أراد أن يترجل لي فبدا لي فخذه وقد لبس الخف بلا سراويل، فلما رأيت ذلك ذكرت المنام فاستدعيت به وأطلقت له ألف دينار وثياب، ورتبت له على وظيفته مائتي دينار كل شهر، ووعدته بخير في الآجل أيضا.
أحمد بن محمد بن إسماعيل ابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب،

الشريف الحسني الرسي - أبو القاسم المصري الشاعر - كان نقيب الطالبيين بمصر ومن شعره قوله: قالت لطيف خيال زارني ومضى * بالله صفه، ولا تنقص ولا تزد فقلت: أبصرته لو مات من ظمأ * وقال: قف لا ترد الماء لم يرد (1) قالت: صدقت، وفاء الحب (2) عادته * يا برد ذاك الذي قالت على كبدي توفي ليلة الثلاثاء لخمس بقين (3) من هذه السنة.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلثمائة فيها وقعت فتنة بين أهل الكرخ وأهل السنة بسبب السب، فقتل من الفريقين خلق كثير.
وفيها نقص البحر المالح ثمانين ذراعا.
ويقال باعا.
فبدت به جبال وجزائر وأماكن لم تكن ترى من قبل ذلك.
وفيها كان بالعراق وبلاد الري والجبل وقم ونحوها زلازل كثيرة مستمرة نحو أربعين يوما، تسكن ثم تعود، فتهدمت بسبب ذلك أبنية كثيرة وغارت مياه كثيرة، ومات خلق كثير.
وفيها تجهز معز الدولة بن بويه لقتال ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، فراسله ناصر الدولة والتزم له بأموال يحملها إليه كل سنة، فسكت عنه، ثم إنه مع ما اشترط على نفسه لم يرجع عنه معز الدولة، بل قصده في السنة الآتية كما سيأتي بيانه.
وفي تشرين منها كثرت في الناس أورام في حلوقهم ومناخرهم، وكثر فيهم موت الفجأة، حتى إن لصا نقب دارا ليدخلها فمات وهو في النقب.
ولبس القاضي خلعة القضاء ليخرج للحكم فلبس إحدى خفيه فمات قبل أن يلبس الاخرى.
وممن توفي فيها من الاعيان: أحمد بن عبد الله بن الحسين أبو هريرة العذري، المستملي على المشايخ، كتب عن أبي مسلم الكجي وغيره، وكان ثقة توفي في ربيع الاول منها.
الحسن بن خلف بن شاذان أبو علي الواسطي روى عن إسحاق الازرق ويزيد بن هارون وغيرهما، وروى عنه البخاري في صحيحه.
توفي في هذه السنة.
هكذا رأيت ابن الجوزي ذكر هذه الترجمة في هذه السنة في منتظمه والله أعلم.
__________
(1) في الوفيات 1 / 130: فقال..وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد.
(2) في الوفيات: قالت: صدقت الوفا في الحب عادته..(3) في الوفيات: لخمس بقين من شعبان.
وعمره 64 سنة .

أبو العباس الاصم محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان بن عبد الله الاموي مولاهم أبو العباس الاصم مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين، رأى الذهلي ولم يسمع منه، ورحل به أبوه إلى أصبهان ومكة ومصر والشام والجزيرة وبغداد وغيرها من البلاد، فسمع الكثير بها عن الجم الغفير، ثم رجع إلى خراسان وهو ابن ثلاثين سنة، وقد صار محدثا كبيرا، ثم طرأ عليه الصمم فاستحكم حتى كان لا يسمع نهيق الحمار، وكان مؤذنا في مسجده ثلاثين سنة، وحدث ستا وسبعين سنة، فألحق الاحفاد بالاجداد وكان ثقة صادقا ضابطا لما سمعه ويسمعه، كف بصره قبل موته بشهر، وكان يحدث من حفظه بأربعة عشر حديثا، وسبع حكايات ومات وقد بقي له سنة من المائة.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وثلثمائة فيها كانت زلزلة ببغداد في شهر نيسان وفي غيرها ممن البلاد الشرقية فمات بسببها خلق كثير، وخربت دور كثيرة، وظهر في آخر نيسان وشهر أيار جراد كثير أتلف الغلات الصيفية والثمار.
ودخلت الروم آمد، وميا فارقين، فقتلوا ألفا وخمسمائة إنسان، وأخذوا مدينة سمساط وأخربوها.
وفي المحرم (2) منها ركب معز الدولة إلى الموصل فأخذها من يد ناصر الدولة، وهرب ناصر الدولة إلى نصيبين، ثم إلى ميافارقين، فلحقه معز الدولة فصار إلى حلب عند أخيه سيف الدولة، ثم أرسل سيف الدولة إلى معز الدولة في المصالحة بينه وبين أخيه، فوقع الصلح على أن يحمل ناصر الدولة في كل سنة ألفي ألف وتسعمائة ألف، ورجع معز الدولة إلى بغداد بعد انعقاد الصلح، وقد امتلات البلاد رفضا وسبا للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصرا وشاما وعراقا وخراسان وغير ذلك من البلاد، كانوا رفضا، وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، فكثر السب والتكفير منهم للصحابة.
وفيها بعث المعز الفاطمي مولاه أبا الحسن جوهر القائد في جيوش معه ومعه زيري بن مناد الصنهاجي ففتحوا بلادا كثيرة من أقصى بلاد المغرب، حتى انتهوا إلى البحر المحيط، فأمر جوهر بأن يصطاد له منه سمك، فأرسل به في قلال الماء إلى المعز الفاطمي، وحظي عنده جوهر وعظم شأنه
حتى صار بمنزلة الوزير.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) في الاصل بأربع والصواب ما أثبتناه.
(2) كان ذلك في منتصف جمادى الاولى سنة 347، ووقع الصلح بينهما في المحرم سنة 348 ه.
(الكامل 8 / 522 - 523 والعبر 3 / 424)

الزبير بن عبد الرحمن (1) ابن محمد بن زكريا بن صالح بن إبراهيم.
أبو عبد الله الاستراباذي (2)، رحل وسمع الحديث وطوف الاقاليم، سمع الحسن بن سفيان وابن خزيمة وأبا يعلي وخلقا، وكان حافظا متقنا صدوقا، صنف الشروح والابواب.
أبو سعيد بن يونس صاحب تاريخ مصر.
هو عبد الرحمن (3) بن يونس بن عبد الاعلى الصدفي المصري المؤرخ، كان حافظا مكثرا خبيرا بأيام الناس وتواريخهم، له تاريخ مفيد جدا لاهل مصر ومن ورد إليها.
وله ولد يقال له أبو الحسن علي، كان منجما له زيج مفيد يرجع إليه أصحابه هذا الفن، كما يرجع أصحاب الحديث إلى أقوال أبيه وما يؤرخه وينقله ويحكيه، ولد الصدفي سنة إحدى وثمانين ومائتين وتوفي في هذه السنة يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الآخرة في القاهرة.
ابن درستويه النحوي عبد الله بن جعفر بن درستويه بن المرزبان أبو محمد الفارسي النحوي، سكن بغداد وسمع عباسا الدوري وابن قتيبة والمبرد، وسمع منه الدار قطني وغيره من الحفاظ، وأثنى عليه غير واحد، منهم أبو عبد الله بن منده، توفي في صفر منها، وذكر له ابن خلكان مصنفات كثيرة مفيدة، فيما يتعلق باللغة والنحو وغيره.
محمد بن الحسن
ابن عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن القرشي الاموي قاضي بغداد، كان حسن الاخلاق طلابة للحديث، ومع هذا كان ينسب إلى أخذ الرشوة في الاحكام والولايات رحمه الله.
محمد بن علي أبو عبد الله الهاشمي الخاطب الدمشقي.
وأظنه الذي تنسب إليه حارة الخاطب من نواحي
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 2 / 900: عبد الواحد.
(2) في التذكرة: الاسد اباذي.
(3) في الوفيات 3 / 137: عبد الرحمن بن أحمد (أبي الحسن) بن يونس .

باب الصغير، كان خطيب دمشق في أيام الاخشيد، وكان شابا حسن الوجه مليح الشكل، كامل الخلق.
توفي يوم الجمعة السابع والعشرين من ربيع الاول من هذه السنة، وحضر جنازته نائب السلطنة وخلق كثير لا يحصون كثرة، هكذا أرخه ابن عساكر، ودفن بباب الصغير.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة فيها كانت فتنة بين الرافضة وأهل السنة قتل فيها خلق كثير، ووقع حريق بباب الطاق، وغرق في دجلة خلق كثير من حجاج الموصل، نحو من ستمائة نفس.
وفيها دخلت الروم طرسوس والرها وقتلوا وسبوا، وأخذوا الاموال ورجعوا.
وفيها قلت الامطار وغلت الاسعار واستسقى الناس فلم يسقوا، وظهر جراد عظيم في آذار فأكل ما نبت من الخضراوات، فاشتد الامر جدا على الخلق فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وفيها عاد معز الدولة إلى بغداد من الموصل وزوج ابنته من ابن أخيه مؤيد الدولة بن معز الدولة، وسيرها معه إلى بغداد.
وممن توفي فيها من الاعيان: إبراهيم بن شيبان القرميسيني شيخ الصوفية بالجبل، صحب أبا عبد الله المغربي.
ومن جيد كلامه قوله: إذا سكن الخوف
القلب أحرق مواضع الشهوات منه، وطرد عنه الرغبة في الدنيا.
أبو بكر النجاد أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس، أبو بكر النجاد الفقيه، أحد أئمة الحنابلة ولد سنة ثلاث وخمسين ومائتين، سمع عبد الله بن أحمد وأبا داود، والباغندي وابن أبي الدنيا وخلقا كثيرا، وكان يطلب الحديث ماشيا حافيا، وقد جمع المسند وصنف في السنن كتابا كبيرا، وكان له بجامع المنصور حلقتان، واحدة للفقه وأخرى لاملاء الحديث، وحدث عنه الدار قطني وابن رزقويه وابن شاهين وأبو بكر بن مالك القطيعي وغيرهم، وكان يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف ويعزل منه لقمة، فإذا كانت ليلة الجمعة أكل اللقم وتصدق بالرغيف صحيحا.
توفي ليلة الجمعة لعشرين من ذي الحجة عن خمس وتسعين سنة ودفن قريبا من قبر بشر الحافي رحمه الله.
جعفر بن محمد بن نصير بن القاسم أبو محمد الخواص المعروف بالخلدي، سمع الكثير وحدث كثيرا، وحج ستين حجة، وكان ثقة صدوقا دينا.

محمد بن إبراهيم بن يوسف بن محمد أبو عمر الزجاج النيسابوري، صحب أبا عثمان والجنيد والنوري والخواص وغيرهم، وأقام بمكة وكان شيخ الصوفية بها، وحج ستين حجة، ويقال إنه مكث أربعين سنة لم يتغوط ولم يبل إلا خارج الحرم بمكة.
محمد بن جعفر بن محمد بن فضالة ابن يزيد بن عبد الملك أبو بكر الادمي، صاحب الالحان، كان حسن الصوت بتلاوة القرآن وربما سمع صوته من بعد في الليل، وحج مرة مع أبي القاسم البغوي، فلما كانوا بالمدينة دخلوا المسجد النبوي فوجدوا شيخا أعمى يقص على الناس أخبارا موضوعة مكذوبة، فقال البغوي: ينبغي الانكار عليه، فقال له بعض أصحابه: إنك لست ببغداد يعرفك الناس إذ أنكرت عليه،
ومن يعرفك هنا قليل والجمع كثير، ولكن نرى أن تأمر أبا بكر الادمي فيقرأ، فأمره فاستفتح فقرأ فلم يتم الاستعاذة حتى انجفل الناس عن ذلك الاعمى وتركوه وجاؤوا إلى أبي بكر ولم يبق عند الضرير أحد، فأخذ الاعمى بيد قائده وقال له: اذهب بنا فهكذا تزول النعم.
توفي يوم الاربعاء لليلتين بقيتا من ربيع الاول من هذه السنة، عن ثمان وثمانين سنة، وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله بك ؟ قال: وقفني بين يديه وقاسيت شدائد وأهوالا.
فقلت له: فتلك القراءة الحسنة وذلك الصوت الحسن وتلك المواقف ؟ فقال: ما كان شئ أضر علي من ذلك، لانها كانت للدنيا.
فقلت: إلى أي شئ انتهى أمرك ؟ فقال: قال الله عز وجل آليت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين.
أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علي ابن الحسن بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المصري، كان من ساداتها وكبرائها، لا تزال الحلوى تعقد بداره، ولا يزال رجل يكسر اللوز بسببها، وللناس عليه رواتب من الحلوى، فمنهم من يهدي إليه كل يوم، ومنهم في الجمعة، ومنهم في الشهر.
وكان لكافور الاخشيد عليه في كل يوم جامان ورغيف من الحلوى، ولما قدم المعز الفاطمي إلى القاهرة وتلقاه سأله: إلى من ينتسب مولانا من أهل البيت ؟ فقال: الجواب إلى أهل البلد، فلما دخل القصر جمع الاشراف وسل نصف سيفه وقال هذا نسبي، ثم نثر عليهم الذهب وقال: هذا حسبي.
فقالوا: سمعنا وأطعنا.
والصحيح أن القائل للمعز هذا الكلام ابن هذا (1) أو شريف آخر فالله أعلم.
فإن وفاة هذا كانت في هذا العام عن ثنتين وستين
__________
(1) كذا بالاصل، وشكك ابن خلكان في ان صاحب الحكاية هو أبو محمد، وقال: ولعل صاحب الواقعة مع =

سنة، والمعز إنما قدم في سنة ثنتين وستين وثلثمائة كما سيأتي.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وثلثمائة فيها ظهر رجل بأذربيجان من أولاد عيسى بن المكتفي بالله فلقب بالمستجير بالله ودعا إلى الرضا
من آل محمد، وذلك لفساد دولة المرزبان في ذلك الزمان، فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم أصحاب المستجير وأخذ أسيرا فمات، واضمحل أمره.
وفيها دخل سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم فقتل من أهلها خلقا كثيرا، وفتح حصونا وأحرق بلدانا كثيرة، وسبى وغنم وكر راجعا، فأخذت الروم عليه فمنعوه من الرجوع ووضعوا السيف في أصحابه فما نجا هو في ثلاثمائة فارس إلا بعد جهد جهيد.
وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة قتل فيها خلق كثير، وفي آخرها توفي أنوجور بن الاخشيد صاحب مصر، فأقام بالامر بعده أخوه علي.
وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي الذي كان صاحب الاهواز وواسط.
وفيها رجع حجيج مصر من مكة فنزلوا واديا فجاءهم سيل فأخذهم فألقاهم في البحر عن آخرهم.
وفيها أسلم من الترك مائتا ألف خركاة (1) فسموا ترك إيمان، ثم خفف اللفظ بذلك، فقيل تركمان.
وممن توفي فيها من الاعيان: جعفر بن حرب الكاتب كانت له نعمة وثروة عظيمة تقارب أبهة الوزارة، فاجتاز يوما وهو راكب في موكب له عظيم، فسمع رجلا يقرأ (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) [ الحديد: 16 ] فصاح: اللهم بلى، وكررها دفعات ثم بكى ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه وطرحها ودخل دجلة فاستتر بالماء ولم يخرج منه حتى فرق جميع أمواله في المظالم التي كانت عليه، وردها إلى أهلها، وتصدق بالباقي ولم يبق له شئ بالكلية، فاجتاز به رجل فتصدق عليه بثوبين فلبسهما وخرج فانقطع إلى العلم والعبادة حتى مات رحمه الله.
أبو علي الحافظ (2) ابن علي بن يزيد بن داود أبو علي الحافظ النيسابوري، أحد أئمة الحفاظ المتقنين المصنفين.
__________
= المعز كان ولده.
ثم نقلا عن ابن زولاق: ان الشريف الذي التقى بالمعز هو أبو جعفر مسلم بن عبيد الله الحسيني والشريف أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد الحسيني الرسي.
(ابن خلكان 3 / 82 - اتعاظ الحنفا).
(1) خركاة: نفس
(2) واسمه: الحسين .

قال الدار قطني: كان إماما مهذبا، وكان ابن عقدة لا يتواضع لاحد كتواضعه له.
توفي في جمادى الآخرة عن اثنتين وخمسين سنة (1).
حسان بن محمد بن أحمد بن مروان أبو الوليد القرشي الشافعي إمام أهل الحديث بخراسان في زمانه، وأزهدهم وأعبدهم، أخذ الفقه عن ابن سريج وسمع الحديث من الحسن بن سفيان وغيره، وله التصانيف المفيدة، وقد ذكرنا ترجمته في الشافعيين.
كانت وفاته ليلة الجمعة لخمس مضين من ربيع الاول من هذه السنة، عن ثنتين وسبعين سنة.
حمد (2) بن إبراهيم بن الخطاب أبو سليمان الخطابي، سمع الكثير وصنف التصانيف الحسان، منها المعالم شرح فيها سنن أبي داود، والاعلام شرح فيه البخاري، وغريب الحديث.
وله فهم مليح وعلم غزير ومعرفة باللغة والمعاني والفقه.
ومن أشعاره قوله: ما دمت حيا فدار الناس كلهم * فإنما أنت في دار المداراة من يدر دارى من لم يدر سوف يرى * عما قليل نديما للندامات هكذا ترجمه أبو الفرج بن الجوزي حرفا بحرف.
عبد الواحد بن عمر بن محمد ابن أبي هاشم.
كان من أعلم الناس بحروف القراءات، وله في ذلك مصنفات، وكان من الآمناء الثقات، روى عن ابن مجاهد وأبي بكر بن أبي داود، وعنه أبو الحسن الحماني، توفي في شوال منها، ودفن بمقبرة الخيزران.
أبو أحمد العسال الحافظ محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن محمد أبو أحمد العسال الاصبهاني أحد الائمة
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 905: جمادى الاولى، وكانت ولادته سنة 277 ه فعلى هذا يكون له من العمر عند وفاته 72 سنة.
(2) في تذكرة الحفاظ 3 / 1018: حمد بن محمد بن إبراهيم الخطاب.
وذكر وفاته سنة 388 ه.
وانظر وفيات الاعيان 2 / 215 .

الحفاظ وأكابر العلماء، سمع الحديث وحدث به، قال ابن منده: كتبت عن ألف شيخ لم أر أفهم ولا أتقن من أبي أحمد العسال.
توفي في رمضان منها رحمه الله.
والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة خمسين وثلثمائة في المحرم منها مرض معز الدولة بن بويه بانحصار البول فقلق من ذلك وجمع بين صاحبه سبكتكين ووزيره المهلبي، وأصلح بينهما ووصاهما بولده بختيار خيرا، ثم عوفي من ذلك فعزم على الرحيل إلى الاهواز لاعتقاده أن ما أصابه من هذه العلة بسبب هواء بغداد ومائها، فأشاروا عليه بالمقام بها، وأن يبني بها دارا في أعلاها حيث الهواء أرق والماء أصفى، فبنى له دارا غرم عليه ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج لذلك أن يصادر بعض أصحابه، ويقال أنفق عليها ألفي ألف دينار (1)، ومات وهو يبني فيها ولم يسكنها، وقد خرب أشياء كثيرة من معالم الخلفاء ببغداد في بنائها، وكان مما خرب المعشوق من سر من رأى، وقلع الابواب الحديد التي على مدينة المنصور والرصافة وقصورها، وحولها إلى داره هذه، لا تمت فرحته بها، فإنه كان رافضيا خبيثا.
وفيها مات القاضي أبو السائب عتبة بن عبد الله وقبضت أملاكه، وولى بعده القضاء أبو عبد الله (2) الحسين بن أبي الشوارب، وضمن أن يؤدي في كل سنة إلى معز الدولة مائتي ألف درهم، فخلع عليه معز الدولة وسار ومعه الدبابات والبوقات إلى منزله، وهو أول من ضمن القضاء ورشى عليه والله أعلم.
ولم يأذن له الخليفة المطيع لله في الحضور عنده ولا في حضور الموكب من أجل ذلك غضبا عليه، ثم ضمن معز الدولة الشرطة وضمن الحسبة أيضا.
وفيها سار قفل من أنطاكية يريدون طرسوس، وفيهم نائب أنطاكية، فثار عليهم الفرنج
فأخذوهم عن بكرة أبيهم، فلم يفلت منهم سوى النائب جريحا في مواضع من بدنه.
وفيها دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم فقتل وسبى وغنم ورجع سالما.
وفيها توفي الامير: نوح بن عبد الملك الساماني (3) صاحب خراسان وغزنة وما وراء النهر، سقط عن فرسه فمات، فقام بالامر من بعده أخوه منصور بن نوح الساماني.
__________
(1) في العبر 3 / 425: أنفق عليها ألف ألف دينار.
(2) في الكامل 8 / 536: أبو العباس.
(3) في الكامل 8 / 535: عبد الملك بن نوح.
ومات يوم الخميس حادي عشر شوال.
وفي العبر: مات سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.

وفيها توفي: الناصر لدين الله عبد الرحمن الاموي صاحب الاندلس، وكانت خلافته خمسين سنة وستة أشهر، وله من العمر يوم مات ثلاث وسبعون سنة، وترك أحد عشر ولدا، كان أبيض حسن الوجه عظيم الجسم طويل الظهر قصير الساقين، وهو أول من تلقب بأمير المؤمنين من أولاد الامويين الداخلين إلى المغرب، وذلك حين بلغه ضعف الخلفاء بالعراق، وتغلب الفاطميين، فتلقب قبل موته بثلاث وعشرين سنة.
ولما توفي قام بالامر من بعده ولده الحكم وتلقب بالمنتصر، وكان الناصر شافعي المذهب ناسكا شاعرا، ولا يعرف في الخلفاء أطول مدة منه، فإنه أقام خليفة خمسين سنة، إلا الفاطمي المستنصر بن الحكم الفاطمي صاحب مصر، فإنه مكث ستين سنة كما سيأتي ذلك.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو سهل بن زياد القطان أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد أبو سهل القطان.
كان ثقة حافظا كثير التلاوة للقرآن،
حسن الانتزاع للمعاني من القرآن، فمن ذلك أنه استدل على تكفير المعتزلة بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) [ آل عمران: 156 ].
إسماعيل بن علي بن إسماعيل بن بيان أبو محمد الحطبي سمع الحديث من ابن أبي أسامة وعبد الله بن أحمد الكوكبي وغيرهم، وعنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة حافظا فاضلا نبيلا عارفا بأيام الناس، وله تاريخ مرتب على السنين، وكان أدبيا لبيبا عاقلا صدوقا، توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة، عن إحدى وثمانين سنة.
أحمد بن محمد بن سعيد ابن عبيد الله بن أحمد بن سعيد بن أبي مريم أبو بكر القرشي الوراق، ويعرف بابن فطيس، وكان حسن الكتابة مشهورا بها، وكان يكتب الحديث لابن جوصا، ترجمه ابن عساكر وأرخ وفاته بثاني شوال من هذه السنة.
تمام بن محمد بن عباس ابن عبد المطلب أبو بكر الهاشمي العباسي، حدث عن عبد الله بن أحمد وعنه ابن رزقويه توفي في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.

الحسين (1) بن القاسم أبو علي الطبري الفقيه الشافعي، أحد الائمة المحررين في الخلاف، وهو أول من صنف فيه، وله الايضاح في المذهب، وكتاب في الجدل، وفي أصول الفقه وغير ذلك من المصنفات، وقد ذكرناه في الطبقات (2).
عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم ابن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور الهاشمي الامام، ويعرف بابن بويه، ولد سنة ثلاث وستين ومائتين، روى عن ابن أبي الدنيا وغيره، وعنه ابن رزقويه، وكان خطيبا بجامع المنصور مدة طويلة، وقد خطب فيه سنة ثلاثين وثلثمائة وقبلها تمام سنة، ثم خطب فيه الواثق سنة ثلاثين ومائتين
وهما في النسب إلى المنصور سواء.
توفي في صفر منها.
عتبة بن عبد الله بن موسى بن عبد الله أبو السائب القاضي الهمذاني الشافعي، كان فاضلا بارعا، ولي القضاء، وكان فيه تخليط في الامور، وقد رآه بعضهم بعد موته فقال: ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي وأمر بي إلى الجنة على ما كان مني من التخليط، وقال لي: إني كتبت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين.
وهذا الرجل أول من ولي قضاء القضاة ببغداد من الشافعية والله أعلم.
محمد بن أحمد بن حيان أبو بكر الدهقان، بغدادي، سكن بخارى وحدث بها عن يحيى بن أبي طالب، والحسن بن مكرم وغيرهما، وتوفي عن سبع وثمانين سنة.
أبو علي الخازن توفي في شعبان منها فوجد في داره من الدفائن وعند الناس من الودائع ما يقارب أربعمائة ألف دينار.
والله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلثمائة فيها كان دخول الروم إلى حلب صحبة الدمستق ملك الروم لعنه الله، في مائتي ألف مقاتل، وكان سبب ذلك أنه ورد إليها بغتة فنهض إليه سيف الدولة بن حمدان بمن حضر عنده من المقاتلة، فلم يقو به لكثرة جنوده، وقتل من أصحاب سيف الدولة خلقا كثيرا، وكان سيف الدولة قليل الصبر ففر منهزما في نفر يسير من أصحابه، فأول ما استفتح به الدمستق قبحه الله أن استحوذ على دار سيف الدولة، وكانت ظاهر حلب (3)، فأخذ ما فيها من الاموال العظيمة (4) والحواصل الكثيرة، والعدد
__________
(1) كذا بالاصل وهو تحريف والصواب: الحسن كما في الوافي ووفيات الاعيان.
(2) ذكر ابن خلكان وفاته سنة 305 - وانظر طبقات الفقهاء للشيرازي - وهو تحريف.
(3) وكانت تسمى الدارين.
(الكامل 8 / 540 مختصر أخبار البشر 2 / 103) .

وآلات الحرب، أخذ من ذلك ما لا يحصى كثرة، وأخذ ما فيها من النساء والولدان وغيرهم، ثم حاصر سور حلب فقاتل أهل البلد دونه قتالا عظيما، وقتلوا خلقا كثيرا من الروم، وثلمت الروم بسور حلب ثلمة عظيمة، فوقف فيها الروم فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها، فلما جن الليل
جد المسلمون في إعادتها فما أصبح الصباح إلا وهي كما كانت، وحفظوا السور حفظا عظيما، ثم بلغ المسلمون أن الشرط والبلاحية قد عاثوا في داخل البلد ينهبون البيوت، فرجع الناس إلى منازلهم يمنعونها منهم قبحهم الله، فإنهم أهل شر وفساد، فلما فعلوا ذلك غلبت الروم على السور فعلوه ودخلوا البلد يقتلون من لقوه، فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا وانتهبوا الاموال وأخذوا الاولاد والنساء.
وخلصوا من كان بأيدي المسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفا وأربعمائة (1)، فأخذ الاسارى السيوف وقاتلوا المسلمين، وكانوا أضر على المسلمين من قومهم، وأسروا نحوا من بضعة عشر ألفا ما بين صبي وصبية، ومن النساء شيئا كثيرا، ومن الرجال الشباب ألفين، وخربوا المساجد وأحرقوها، وصبوا في جباب الزيت الماء حتى فاض الزيت على وجه الارض، وأهلكوا كل شئ قدروا عليه، وكل شئ لا يقدرون على حمله أحرقوه، وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون فيها الافاعيل الفاسدة العظيمة، كل ذلك بسبب فعل البلاحية والشرط في البلد قاتلهم الله.
وكذلك حاكمهم ابن حمدان كان رافضيا يحب الشيعة ويبغض أهل السنة، فاجتمع على أهل حلب عدة مصائب، ثم عزم الدمستق على الرحيل عنهم خوفا من سيف الدولة، فقال له ابن أخيه: أين تذهب وتدع القلعة وأموال الناس غالبها فيها ونساؤهم ؟ فقال له الدمستق: إنا قد بلغنا فوق ما كنا نأمل، وإن بها مقاتلة ورجالا غزاة، فقال له لابد لنا منها، فقال له: اذهب إليها، فصعد إليها في جيش ليحاصرها فرموه بحجر فقتلوه في الساعة الراهنة من بين الجيش كله، فغضب عند ذلك الدمستق وأمر بإحضار من في يديه من أسارى المسلمين، وكانوا قريبا من ألفين (2)، فضربت أعناقهم بين يديه لعنه الله، ثم كر راجعا.
وقد دخلوا عين زربة قبل ذلك في المحرم من هذه السنة، فاستأمنه أهلها فأمنهم وأمر بأن يدخلوا كلهم المسجد ومن بقي في منزله قتل، فصاروا إلى المسجد كلهم ثم قال: لا يبقين أحد من أهلها اليوم إلا ذهب حيث شاء، ومن تأخر قتل، فازدحموا في خروجهم من المسجد فمات كثير منهم، وخرجوا على وجوههم لا يدرون أين يذهبون، فمات في الطرقات منهم خلقا كثير.
ثم هدم الجامع وكسر المنبر وقطع من حول البلد أربعين ألف نخلة، وهدم سور البلد والمنازل المشار إليها، وفتح حولها أربعة وخمسين حصنا بعضها بالسيف وبعضها
بالامان، وقتل الملعون خلقا كثيرا، وكان في جملة من أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان نائب منبج
__________
(4) ثلاثمائة بدرة من الد راهم.
(الكامل 8 / 540) وفي تاريخ الزمان لابن العبري ص 62: 390 وزنة فضة.
(1) في تاريخ الزمان ص 62: ألف ومائتي رومي.
(2) في الكامل 8 / 542 والعبر 4 / 239: ألف ومائتين .

من جهة سيف الدولة، وكان شاعرا مطيقا، له ديوان شعر حسن، وكان مدة مقامه بعين زربة إحدى وعشرين يوما، ثم سار إلى قيسرية فلقيه أربعة آلاف من أهل طرسوس مع نائبها ابن الزيات، فقتل أكثرهم وأدركه صوم النصارى فاشتغل به حتى فرغ منه، ثم هجم على حلب بغتة، وكان من أمره ما ذكرناه.
وفيها كتبت العامة من الروافض على أبوب المساجد لعنة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكتبوا أيضا: ولعن الله من غصب فاطمة حقها، وكانوا يلعنون أبا بكر ومن أخرج العباس من الشورى، يعنون عمر، ومن نفى أبا ذر - يعنون عثمان - رضى الله عن الصحابة، وعلى من لعنهم لعنة الله، ولعنوا من منع من دفن الحسن عند جده يعنون مروان بن الحكم، ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكره ولم يغيره، ثم بلغه أن أهل السنة محوا ذلك وكتبوا عوضه لعن الله الظالمين لآل محمد من الاولين والآخرين، والتصريح باسم معاوية في اللعن، فأمر بكتب ذلك، قبحه الله وقبح شيعته من الروافض، لا جرم أن هؤلاء لا ينصرون، وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض، لاجرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآباءهم وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام، وكان فيهم الرفض وغيره، استحوذ الفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها، حتى بيت المقدس، ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماه ودمشق وبعض أعمالها، وجميع السواحل وغيرها مع الفرنج، والنواقيس النصرانية والطقوس الانجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في إماكن الايمان من المساجد وغيرها من
شريف البقاع، والناس معهم في حصر عظيم، وضيق من الدين، وأهل هذه المدن التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب، وإظهار سب خير الخلق بعد الانبياء.
وفيها وقعت فتنة عظيمة بين أهل البصرة بسبب السب أيضا، قتل فيها خلق كثير وجم غفير.
وفيها أعاد سيف الدولة بن حمدان بناء عين زربة، وبعث مولاه نجا فدخل بلاد الروم، فقتل منها خلقا كثيرا وسبى جما غفيرا، وغنم وسلم.
وبعث حاجبه مع جيش طرسوس فدخلوا بلاد الروم فغنموا وسبوا ورجعوا سالمين.
وفيها فتح المعز الفاطمي حصن طبرهين من بلاد المغرب - وكان من أحصن بلاد الفرنج - فتحه قسرا بعد محاصرة سبعة أشهر ونصف، وقصد الفرنج جزيرة إقريطش فاستنجد أهلها المعز، فأرسل إليهم جيشا فانتصروا على الفرنج ولله الحمد والمنة.
وممن توفي فيها من الاعيان: الحسن بن محمد بن هارون المهلبي الوزير لمعز الدولة بن بويه، مكث وزيرا له ثلاث عشرة سنة (1)، وكان فيه حلم وكرم
__________
(1) ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر.
كما في الكامل 8 / 547 وذكر ابن الاثير وفاته سنة 352 ه .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55