كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك فأنشده تسعا وعشرين قصيدة على حروف المعجم، كل قصيدة نحوا
من مائة بيت، وزعم أنه لا يسمى شاعر من شعراء العرب إلا أنشد له ما لا يحفظه غيره.
فأطلق له مائة ألف درهم.
وذكر أبو محمد الحريري في كتابه درة الغواص (1): أن هشام بن عبد الملك استدعاه من العراق من نائبه يوسف بن عمر، فلما دخل عليه إذا هو في دار قوراء مرخمة بالرخام والذهب، وإذا عنده جاريتان حسنتان جدا، فاستنشده شيئا فأنشده، فقال له: سل حاجتك: فقال: كائنة ما كانت يا أمير المؤمنين ؟ فقال: وما هي ؟ فقال تطلق لي إحدى هاتين الجاريتين.
فقال: هما وما عليهما لك، وأخلاه في بعض داره وأطلق له مائة ألف درهم.
هذا ملخص الحكاية، والظاهر أن هذا الخليفة إنما هو الوليد بن يزيد، فإنه ذكر أنه شرب معه الخمر، وهشام لم يكن يشرب.
ولم يكن نائبه على العراق يوسف بن عمر، إنما كان نائبه خالد بن عبد الله القسري، وبعده يوسف بن عمر بن عبد العزيز.
كانت وفاة حماد في هذه السنة عن ستين سنة.
قال ابن خلكان: وقيل إنه أدرك أول خلافة المهدي في سنة ثمان وخمسين فالله أعلم.
وفيها قتل حماد عجرد على الزندقة.
وهو حماد بن عمر ين يوسف (2) بن كليب الكوفي، ويقال إنه واسطي، مولى بني سواد (3)، وكان شاعرا ماجنا ظريفا زنديقا متهما على الاسلام، وقد أدرك الدولتين الاموية والعباسية، ولم يشتهر إلا في أيام بني العباس، وكان بينه وبين بشار بن برد مهاجاة كثيرة، وقد قتل بشار هذا على الزندقة أيضا كما سيأتي، ودفن مع حماد هذا في قبره (4)، وقيل إن حمادا عجرد مات سنة ثمان وخمسين، وقيل إحدى وستين ومائة فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة فيها ظفر الهيثم بن معاوية نائب المنصور على البصرة، بعمرو بن شداد الذي كان عاملا لابراهيم بن محمد (5) على فارس، فقيل: أمر فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه ثم صلب.
وفيها عزل المنصور الهيثم بن معاوية هذا الذي فعل هذه الفعلة عن البصرة وولى عليها قاضيها سوار بن عبد الله، فجمع له بين القضاء والصلاة، وجعل على شرطتها وأحداثها سعيد بن دعلج، ورجع الهيثم بن
__________
(1) انظر درة الغواص ص 177.
والقصة في تهذيب ابن عساكر ووفيات الاعيان 2 / 207.
(2) في وفيات الاعيان 2 / 210: يونس.
(3) سوأة بن عامر بن صعصعة المعروف بعجرد.
(4) كتب على قبريهما أبو هشام الباهلي: قد تبع الاعمى قفا عجرد * فأصبحا جارين في دار صارا جميعا في يدي مالك * في النار أو الكافر في النار (5) في الطبري وابن الاثير: عبد الله.

معاوية قاتل عمرو بن شداد إلى بغداد فمت فيها فجأة في هذه السنة، وهو على بطن جارية له، وصلى عليه المنصور ودفن في مقابر بني هاشم، ويقال إنه أصابته دعوة عمر بن شداد الذي قتله تلك القتلة، فليتق العبد الظلم.
وحج بالناس العباس بن محمد أخو المنصور.
ونواب البلادهم المذكورون في التي قبلها.
وعلى فارس والاهواز وكور دجلة عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو.
وفيها توفي حمزة الزيات في قول.
وهو أحد القراء المشهورين والعباد المذكورين، وإليه تنسب المدود الطويلة في القراءة اصطلاحا من عنده، وقد تلكم فيه بسببها بعض الائمة وأنكروها عليه.
وسعيد بن أبي عروبة، وهو أول من جمع السنن في قول، وعبد الله بن شوذب، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي، وعمر بن ذر.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة فيها بنى المنصور قصره المسمى بالخلد في بغداد، تفاؤلا بالتخليد في الدنيا، فعند كماله مات وخرب القصر من بعده، وكان المستحث في عمارته أبان بن صدقة، والربيع مولى المنصور وهو حاجبه.
وفيها حول المنصور الاسواق من قرب دار الامارة إلى باب الكرخ.
وقد ذكرنا فيما تقدم سبب ذلك.
وفيها أمر بتوسعة الطرقات.
وفيها أمر بعمل جسر عند باب الشعير.
وفيها استعرض المنصور جنده وهم ملبسون السلاح وهو أيضا لابس سلاحا عظيما، وكان ذلك عند دجلة.
وفيها عزل عن السند هشام بن عمرو وولى عليها سعيد (1) بن الخليل.
وفيها غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي
فأوغل في بلاد الروم، وبعث سنانا مولى البطال مقدمة بين يديه ففتح حصونا وسبى وغنم.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي.
ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
وفيها توفي الحسين بن واقد، والامام الجليل علامة الوقت أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الاوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم.
وقد بقي أهل دمشق وما حولها من البلاد على مذهبه نحوا من مائتين وعشرين سنة.
شئ من ترجمة الاوزاعي رحمه الله هو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد (2) أبو عمرو الاوزاعي.
والاوزاع بطن من حمير وهو من أنفسهم، قاله محمد بن سعد.
وقال غيره: لم يكن من أنفسهم وإنما نزل في محلة الاوزاع، وهي قرية خارج باب الفراديس من قرى دمشق، وهو ابن عم يحيى بن عمرو الشيباني.
قال أبو زرعة: وأصله
__________
(1) في الطبري 9 / 288 وابن الاثير: 6 / 13: معبد.
(2) في ابن خلكان 3 / 127: يحمد.

من سبي السند فنزل الاوزاع فغلب عليه النسبة إليها.
وقال غيره: ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع يتيما في حجر أمه، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد، وتأدب بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع ولا أعلم، ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم، ولا أكثر صمتا منه، ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه، من حسنها، وكان يعاني الرسائل والكتابة، وقد اكتتب مرة في بعث إلى اليمامة فسمع من يحيى بن أبي كثير وانقطع إليه فأرشده إلى الرحلة إلى البصرة ليسمع من الحسن وابن سيرين.
فسار إليها فوجد الحسن قد توفي من شهرين ووجد ابن سيرين مريضا، فجعل يتردد لعيادته، فقوي المرض به ومات ولم يسمع منه الاوزاعي شيئا.
ثم جاء فنزل دمشق بمحلة الاوزاع خارج باب الفراديس، وساد أهلها في زمانه وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الاسلام.
وقد أدرك خلقا من التابعين وغيرهم، وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين، كمالك بن أنس والثوري والزهري، وهو من شيوخه.
وأثنى عليه غير واحد من الائمة، وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته.
قال مالك: كان الاوزاعي إماما يقتدى
به.
وقال سفيان بن عيينة وغيره: كان الاوزاعي إمام أهل زمانه، وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: أفسحوا للشيخ حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه.
وقد تذاكر مالك والاوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر، ومن العصر حتى صليا المغرب، فغمره الاوزاعي في المغازي، وغمره مالك في الفقه.
أو في شئ من الفقه.
وتناظر الاوزاعي والثوري في مسجد الخيف في مسألة رفع اليدين في الركوع والرفع منه.
فاحتج الاوزاعي على الرفع في ذلك بما رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه ".
واحتج الثوري على ذلك بحديث يزيد بن أبي زياد.
فغضب الاوزاعي وقال: تعارض حديث الزهري بحديث يزيد بن أبي زياد وهو رجل ضعيف ؟ فاحمر وجه الثوري، فقال الاوزاعي: لعلك كرهت ما قلت ؟ قال: نعم.
قال: فقم بنا حتى نلتعن عند الركن أينا على الحق.
فسكت الثوري.
وقال هقل بن زياد: أفتى الاوزاعي في سبعين ألف مسألة بحدثنا.
وأخبرنا.
وقال أبو زرعة: روي عنه ستون ألف مسألة.
وقال غيرهما: أفتى في سنة ثلاث عشرة ومائة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ثم لم يزل يفتي حتى مات وعقله زاك.
وقال يحيى القطان عن مالك: اجتمع عندي الاوزاعي والثوري وأبو حنيفة فقلت: أيهم أرجح ؟ قال: الاوزاعي.
وقال محمد بن عجلان: لم أر أحدا أنصح للمسلمين من الاوزاعي.
وقال غيره: ما رئي الاوزاعي ضاحكا مقهقها قط، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط وكان إذا خلى بكى حتى يرحم.
وقال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري، وأبو حنيفة ومالك، والاوزاعي.
قال أبو حاتم: كان ثقة متبعا لما سمع.
قالوا: وكان الاوزاعي لا يلحن في كلامه، وكانت كتبه ترد على المنصور فينظر فيها ويتأملها ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها.
وقد قال المنصور يوما لاحظي كتابه عنده - وهو سليمان بن مجالد -: ينبغي أن نجيب الاوزاعي على ذلك

دائما، لنستعين بكلامه فيما نكاتب به إلى الآفاق إلى من لا يعرف كلام الاوزاعي.
فقال: والله يا أمير المؤمنين لا يقدر أحد من أهل الارض على مثل كلامه ولا على شئ منه.
وقال الوليد بن مسلم: كان
الاوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه حتى تطلع الشمس، وكان يأثر عن السلف ذلك.
قال: ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث.
وقال الاوزاعي: رأيت رب العزة في المنام فقال: أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فقلت: بفضلك أي رب.
ثم قلت: يا رب أمتني على الاسلام.
فقال: وعلى السنة.
وقال محمد بن شعيب بن شابور: قال لي شيخ بجامع دمشق: أنا ميت في يوم كذا وكذا.
فلما كان في ذلك اليوم رأيته في صحن الجامع يتفلى، فقال لي: اذهب إلى سرير الموتى فاحرزه لي عندك قبل أن تسبق إليه.
فقلت: ما تقول ؟ فقال: هو ما أقول لك، وإني رأيت كأن قائلا يقول فلان قدري وفلان كذا وعثمان بن العاتكة نعم الرجل، وأبو عمرو الاوزاعي خير من يمشي على وجه الارض، وأنت ميت في يوم كذا وكذا.
قال محمد بن شعيب: فما جاء الظهر حتى مات وصلينا عليه بعدها وأخرجت جنازته.
ذكر ذلك ابن عساكر.
وكان الاوزاعي رحمه الله كثير العبادة حسن الصلاة ورعا ناسكا طويل الصمت، وكان يقول: من أطال القيام في صلاة الليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة، أخذ ذلك من قوله تعالى: (ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا، إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) [ الانسان: 26 - 27 ] وقال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحدا أشد اجتهادا من الاوزاعي في العبادة.
وقال غيره: حج فما نام على الراحلة، إنما هو في صلاة، فإذا نعس استند إلى القتب، وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى.
ودخلت امرأة على امرأة الاوزاعي فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولا فقالت لها: لعل الصلبي بال ههنا.
فقالت: هذا أثر دموع الشيخ من بكائه في سجوده، هكذا يصبح كل يوم.
وقال الاوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه، فإن الامر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم.
وقال أيضا: اصبر على السنة وقف حيث يقف القوم، وقل ما قالوا وكف عما كفوا، وليسعك ما وسعهم.
وقال: العلم ما جاء عن أصحاب محمد، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم.
وكان يقول: لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلب مؤمن.
وإذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم باب الجدل وسد عنهم باب العلم والعمل.
قالوا: وكان الاوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء أقطاع صار إليه من بني أمية وقد وصل إليه من خلفاء بني أمية وأقاربهم وبني العباس
نحو من سبعين ألف دينار، فلم يمسك منها شيئا، ولا اقتنى شيئا من عقار ولا غيره، ولا ترك يوم مات سوى سبعة (1) دنانير كانت جهازه، بل كان ينفق ذلك كله في سبيل الله وفي الفقراء والمساكين.
ولما دخل عبد الله بن علي - عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال الله سبحانه دولتهم على يده - دمشق فطلب الاوزاعي فتغيب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه.
قال الاوزاعي:
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 1 / 183: ستة دنانير.

دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانة والمسودة عن يمينه وشماله، ومعهم السيوف مصلتة - والعمد الحديد - فسلمت عليه فلم يرد ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده ثم قال: يا أوزاعي ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد ؟ أجهادا ورباطا هو ؟ قال: فقلت: أيها الامير سمعت يحيى بن سعيد الانصاري يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
قال: فنكت بالخيزرانة أشد مما كانت ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية ؟ فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
فنكت بها أشد من ذلك ثم قال: ما تقول في أموالهم ؟ فقلت: إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا، وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي.
فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك ثم قال: ألا نوليك القضاء ؟ فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤني به من الاحسان.
فقال: كأنك تحب الانصراف ؟ فقلت: إن ورائي حرما وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي.
قال: وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف.
فلا خرجت إذا برسوله من ورائي، وإذا معه مائتا دينار، فقال يقول لك الامير: استنفق هذه.
قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها
خوفا.
قال: وكان في تلك الايام الثلاثة صائما فيقال إن الامير لما بلغه ذلك عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده.
قالوا: ثم رحل الاوزاعي من دمشق فنزل بيروت مرابطا بأهله وأولاده، قال الاوزاعي: وأعجبني في بيروت أني مررت بقبورها فإذا امرأة سوداء في القبور فقلت لها: أين العمارة ياهنتاه ؟ فقالت: إن أردت العمارة فهي هذه - وأشارت إلى القبور - وإن كنت تريد الخراب فأمامك - وأشارت إلى البلد - فعزمت على الاقامة بها.
وقال محمد بن كثير: سمعت الاوزاعي يقول: خرجت يوما إلى الصحراء فإذا رجل جراد وإذا شخص راكب على جرادة منها وعليه سلاح الحديد، وكلما قال بيده هكذا إلى جهة مال الجراد مع يده، وهو يقول: الدنيا باطل باطل باطل، وما فيها باطل باطل باطل.
وقال الاوزاعي: كان عندنا رجل يخرج يوم الجمعة إلى الصيد ولا ينتظر الجمعة فخسف ببغلته فلم يبق منها إلا أذناها، وخرج الاوزاعي يوما من باب مسجد بيروت وهناك دكان فيه رجل يبيع الناطف وإلى جانبه رجل يبيع البصل وهو يقول: يا بصل أحلى من العسل، أو قال أحلى من الناطف.
فقال الاوزاعي: سبحان الله ! أيظن هذا أن شيئا من الكذب يباح ؟ فكأن هذا ما يرى في الكذب بأسا.

وقال الواقدي: قال لاوزاعي كنا قبل اليوم نضحك ونلعب، أما إذا صرنا أئمة يقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك، وينبغي أن نتحفظ.
وكتب إلى أخ له: أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب، وإنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والقيام بين يديه، وأن يكون آخر العهد بك والسلام.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن إدريس سمعت أبا صالح - كاتب الليث - يذكر عن الهقل ابن زياد عن الاوزاعي أنه وعظ فقال في موعظته: أيها الناس، تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة، التي تطلع الافئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل، وأنتم عما قليل عنها راحلون، خلائف بعد القرون الماضية الذين استقبلوا من الدنيا آنقها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعمارا وأمد أجساما، وأعظم أحلاما، وأكثر أموالا وأولادا، فخددوا الجبال وجابوا الصخر بالواد، وتنقلوا في البلاد، مؤيدين ببطش شديد، وأجساد كالعماد، فما لبثت الايام والليالي أن طوت آثارهم،
وأخربت منازلهم وديارهم، وأنست ذكرهم، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزا ؟ كانوا بلهو الامل آمنين، وعن ميقات يوم موتهم غافلين، فآبوا إياب قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتا من عقوبة الله، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين، وأصبح الباقون المتخلفون يبصرون في نعمة الله وينظرون في آثار نقمته، وزوال نعمته عمن تقدمهم من الهالكين ينظرون والله في مساكن خالية خاوية، قد كانت بالعز محفوفة، وبالنعم معروفة، والقلوب إليها مصروفة، والاعين نحوها ناظرة، فأصبحت آية للذين يخافون العذاب الاليم، وعبرة لمن يخشى.
وأصبحتم بعدهم في أجل منقوص ودنيا منقوصة، في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه وخيره وصفوه، فلم يبق منه إلا جمة شر، وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير، وإرسال فتن وتتابع زلازل، ورذالة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر، يضيقون الديار ويغلون الاسعار بما يرتكبونه من العار والشنار، فلا تكونوا أشباها لمن خدعه الامل، وغره طول الاجل، ولعبت به الاماني، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن إذا دعي بدر، وإذا نهي انتهى، وعقل مثواه فمهد لنفسه.
وقد اجتمع الاوزاعي بالمنصور حين دخل الشام ووعظه وأحبه المنصور وعظمه، ولما أراد الانصراف من بين يديه استأذنه أن لا يلبس السواد فأذن له، فلما خرج قال المنصور للربيع الحاجب: الحقه فاسأله لم كره لبس السواد ؟ ولا تعلمه أني قلت لك.
فسأله الربيع فقال: لاني لم أر محرما أحرم فيه، ولا ميتا كفن فيه، ولا عروسا جليت فيه، فلهذا أكرهه.
وقد كان الاوزاعي في الشام معظما مكرما أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وقد هم به بعض الولاة مرة فقال له أصحابه: دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك.
ولما مات جلس على قبره بعض الولاة فقال: رحمك الله، فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني - يعني المنصور - وقال ابن العشرين: ما مات الاوزاعي حتى جلس وحده وسمع شتمه بأذنه.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي قال: كنت جالسا عند الثوري فجاءه رجل فقال: رأيت كأن ريحانة من الغرب - يعني قلعت - قال: إن صدقت رؤياك فقد مات
الاوزاعي.
فكتبوا ذلك فجاء موت الاوزاعي في ذلك اليوم.
وقال أبو مسهر: بلغنا أن سبب موته أن امرأته أغلقت عليه باب حمام فمات فيه، ولم تكن عامدة ذلك، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة.
قال: وما خلف ذهبا ولا فضة ولا عقارا، ولا متاعا إلا ستة وثمانين (1)، فضلت من عطائه.
وكان قد اكتتب في ديوان الساحل.
وقال غيره: كان الذي أغلق عليه باب الحمام صاحب الحمام، أغلقه وذهب لحاجة له ثم جاء ففتح الحمام فوجده ميتا قد وضع يده اليمنى تحت خده وهو مستقبل القبلة رحمه الله.
قلت: لا خلاف أنه مات ببيروت مرابطا، واختلفوا في سنه ووفاته، فروى يعقوب بن سفيان عن سلمة قال: قال أحمد: رأيت الاوزاعي وتوفي سنة خمسين ومائة.
قال العباس بن الوليد البيروتي: توفي يوم الاحد أول النهار لليلتين بقيتا من صفر سنة سبع وخمسين ومائة، وهو الذي عليه الجمهور وهو الصحيح، وهو قول أبي مسهر وهشام بن عمار والوليد بن مسلم - في أصح الروايات عنه - ويحيى بن معين ودحيم وخليفة بن خياط وأبي عبيد وسعيد بن عبد العزيز وغير واحد.
قال العباس بن الوليد: ولم يبلغ سبعين سنة.
وقال غيره: جاوز السبعين، والصحيح سبع وستون سنة، لان ميلاده في سنة ثمان وثمانين على الصحيح.
وقيل إنه ولد سنة ثلاث وسبعين، وهذا ضعيف.
وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: دلني على عمل يقربني إلى الله.
فقال: ما رأيت في الجنة درجة أعلا من درجة العلماء العاملين، ثم المحزونين.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة فيها تكامل بناء قصر المنصور المسمى بالخلد وسكنه أياما يسيرة ثم مات وتركه، وفيها مات طاغية الروم.
وفيها وجه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره بعزل موسى بن كعب عن الموصل، وأن يولي عليها خالد بن برمك، وكان ذلك بعد نكتة غريبة اتفقت ليحيى بن خالد، وذلك أن المنصور كان قد غضب على خالد بن برمك، وألزمه بحمل ثلاثة آلاف ألف، فضاق ذرعا بذلك، ولم يبق له مال ولا حال وعجز عن أكثرها، وقد أجله ثلاثة أيام، وأن يحمل ذلك في هذه الثلاثة الايام وإلا فدمه هدر فجعل يرسل ابنه يحيى إلى أصحابه من الامراء يستقرض منهم، فكان منهم من أعطاه مائة الف،
ومنهم أقل وأكثر.
قال يحيى بن خالد: فبينا أنا ذات يوم من تلك الايام الثلاثة على جسر بغداد، وأنا مهموم في تحصيل ما طلب منا مما لا طاقة لنا به، إذ وثب إلي زاجر من أولئك الذين يكونون عند الجسر
__________
(1) راجع حاشية 1 ص 125.

من الطرقية، فقال لي: ابشر، فلم ألتفت إليه، فتقدم إلي حتى أخذ بلجام فرسي ثم قال لي: أنت مهموم، ليفرجن الله همك ولتمرن غدا في هذا الموضع واللواء بين يديك، فإن كان ما قلت لك حقا فلي عليك خمسة آلاف.
فقلت: نعم.
ولو قال خمسون ألفا لقلت نعم، لبعد ذلك عندي.
وذهبت لشأني، وقد بقي علينا من الحمل ثلاثمائة ألف فورد الخبر إلى المنصور بانتقاض الموصل وانتشار الاكراد فيها، فاستشار المنصور الامراء من يصلح للموصل ؟ فأشار بعضهم بخالد بن برمك، فقال له المنصور: أو يصلح لذلك بعد ما فعلنا به ؟ فقال: نعم ! وأنا الضامن أنه يصلح لها، فأمر بإحضاره فولاه إياها ووضع عنه بقية ما كان عليه، وعقد له اللواء، وولى ابنه يحيى أذربيجان وخرج الناس في خدمتهما.
قال يحيى: فمررنا بالجسر فثار لي ذلك الزاجر فطالبني بما وعدته به، فأمرت له به فقبض خمسة آلاف.
وفي هذه السنة خرج المنصور إلى الحج فساق الهدي معه، فلما جاوز الكوفة بمراحل أخذه وجعه الذي مات به وكان عنده سوء مزاج فاشتد عليه من شدة الحر وركوبه في الهواجر، وأخذه إسهال وأفرط به، فقوي مرضه، ودخل مكه فتوفي بها (1) ليلة السبت لست مضين من ذي الحجة، وصلي عليه ودفن بكدا عند ثنية باب المعلاة التي بأعلا مكة، وكان عمره يومئذ ثلاثا وقيل أربعا وقيل خمسا وستين، وقيل إنه بلغ ثمانيا وستين سنة فالله أعلم.
وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من القواد وروؤس بني هاشم، ثم دفن.
وكان الذي صلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي (2)، وهو الذي أقام الناس الحج في هذه السنة.
ترجمة المنصور هو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم أبو جعفر
المنصور.
وكان أكبر من أخيه أبي العباس السفاح، وأمه أم ولد اسمها سلامة.
روى عن جده عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه " أورده ابن عساكر من طريق محمد بن إبراهيم السلمي عن المأمون عن الرشيد عن المهدي عن أبيه المنصور به، بويع له بالخلافة بعد أخيه في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وعمره يومئذ إحدى وأربعون سنة، لانه ولد في سنة خمس وتسعين على المشهور في صفر (3) منها بالحميمة من بلاد البلقاء، وكانت خلافته ثنتين وعشرين سنة إلا أياما (4)، وكان أسمر
__________
(1) نزل الابطح عند بئر ميمون (الطبري - ابن الاثير - الاخبار الطوال - مروج الذهب).
(2) في ابن الاثيري 6 / 21 والطبري 9 / 293 والاخبار الطوال ص 385: صلى عليه عيسى بن موسى.
(3) في مروج الذهب 3 / 344: في ذي الحجة.
(4) في مروج الذهب 3 / 344: إلا تسعة أيام.
وقال ابن الكلبي: إلا أربعة وعشرين يوما.
وقال الواقدي: إلا ستة أيام.
وقال أبو معشر: إلا ثلاثة أيام.
وقال ابن الاعثم 8 / 239: إلا سبعة أيام.

اللون موفر اللمة خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى الانف، أعين كأن عينيه لسانان ناطقان، يخالطه أبهة الملك، وتقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في مواضعه، والعنف في صورته، والليث في مشيته، هكذا وصفه بعض من رآه.
وقد صح عن ابن عباس أنه قال: " منا السفاح والمنصور " وفي رواية " حتى نسلمها إلى عيسى بن مريم ".
وقد روي مرفوعا ولا يصح ولا وقفه أيضا.
وذكر الخطيب أن أمه سلامة قالت: رأيت حين حملت به كأنه خرج مني أسد فزأر واقفا على يديه، فما بقي أسد حتى جاء فسجد له.
وقد رأى المنصور في صغره مناما غريبا كان يقول: ينبغي أن يكتب في ألواح الذهب، ويعلق في أعماق الصبيان.
قال: رأيت كأني في المسجد الحرام وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة والناس مجتمعون حولها، فخرج من عنده مناد: أين عبد الله ؟ فقام أخي السفاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة فأخذ بيده فأدخله إياها، فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود.
ثم نودي أين عبد الله ؟ فقمت أنا وعمي عبد الله بن علي نستبق، فسبقته إلى باب الكعبة فدخلتها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وبلال، فعقد لي لواء وأوصاني بأمته وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرون كورا، وقال: " خذها
إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة ".
وقد اتفق سجن النمصور في أيام بني أمية فاجتمع به نوبخت المنجم وتوسم فيه الرياسة فقال له: ممن تكون ؟ فقال: من بني العباس، فلما عرف منه نسبه وكنيته قال: أنت الخليفة الذي تلي الارض.
فقال له: ويحك ماذا تقول ؟ فقال: هو ما أقول لك، فضع لي خطك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئا إذا وليت.
فكتب له، فلما ولي أكرمه المنصور وأعطاه وأسلم نوبخت على يديه، وكان قبل ذلك مجوسيا.
ثم كان من أخص أصحاب المنصور.
وقد حج المنصور بالناس سنة أربعين ومائة، وأحرم من الحيرة، وفي سنة أربع وأربعين، وفي سنة سبع وأربعين.
وفي سنة ثنتين وخمسين، ثم في هذه السنة التي مات فيها.
وبنى بغداد والرصافة والرافقة وقصره الخلد.
قال الربيع بن يونس الحاجب: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
والملوك أربعة: معاوية وعبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، وأنا.
وقال مالك: قال لي المنصور: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت: أبو بكر.
وعمر.
فقال: أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين.
وعن إسماعيل البهري قال: سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفة يقول: أيها الناس ! إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا فإن شاء أن يفتحني لاعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني.
فارغبوا إلى الله أيها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهبكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) [ المائدة: 3 ].
أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والاحسان إليكم ويفتحني لاعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب.

وقد خطب يوما فاعترضه رجل وهو يثني على الله عز وجل، فقال: يا أمير المؤمنين أذكر من أنت ذاكره، واتق الله فيما تأتيه وتذره.
فسكت المنصور حتى انتهى كلام الرجل فقال: أعوذ بالله أن أكون ممن قال الله عزوجل فيه (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم) [ البقرة: 206 ] أو أن أكون جبارا
عصيا، أيها الناس ! إن الموعظة علينا نزلت ومن عندنا نبتت.
ثم قال للرجل: ما أظنك في مقالتك هذه تريد وجه الله، وإنما أردت أن يقال عنك وعظ أمير المؤمنين، أيها الناس: لا يغرنكم هذا فتفعلوا كفعله ثم أمر به فاحتفظ به وعاد إلى خطبته فأكملها، ثم قال لمن هو عنده: أعرض عليه الدنيا فإن قبلها فأعلمني، وإن ردها فأعلمني، فما زال به الرجل الذي هو عنده حتى أخذ المال ومال إلى الدنيا فولاه الحسبة والمظالم وأدخله على الخليفة في بزة حسنة، وثياب وشارة وهيئة دنيوية، فقال له الخليفة: ويحك ! لو كنت محقا مريدا وجه الله بما قلت على رؤوس الناس لما قبلت شيئا مما أرى، ولكن أردت أن يقال عنك إنك وعظت أمير المؤمنين، وخرجت عليه، ثم أمر به فضربت عنقه.
وقد قال المنصور لابنه المهدي: إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة.
والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص (1) الناس عقلا من ظلم من هو دونه.
وقال أيضا: يا بني استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنصر بالتواضع والرحمة للناس، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله.
وحضر عنده مبارك بن فضالة يوما وقد أمر برجل أن يضرب عنقه وأحضر النطع والسيف، فقال له مبارك: سمعت الحسين يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا " فأمر بالعفو عن ذلك الرجل.
ثم أخذ يعدد على جلسائه عظيم جرائم ذلك الرجل وما صنعه.
وقال الاصمعي: أتي المنصور برجل ليعاقبه فقال: يا أمير المؤمنين الانتقام عدل والعفو فضل، وتعوذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، وأدنى القسمين، دون أرفع الدرجتين.
قال فعفا عنه.
وقال الاصمعي: قال المنصور لرجل من أهل الشام: أحمد الله يا أعرابي الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا.
فقال إن الله لا يجمع علينا حشفا وسوء كيل، ولايتكم والطاعون.
والحكايات في ذكر حلمه وعفوه كثيرة جدا.
ودخل بعض الزهاد على المنصور فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده.
قال: فأفحم المنصور قوله وأمر له بمال فقال: لو احتجت إلى مالك لما وعظتك ودخل عمرو بن
عبيد القدري على المنصور فأكرمه وعظمه وقربه وسأله عن أهله وعياله، ثم قال له: عظني.
فقرأ عليه سورة الفجر إلى (إن ربك لبالمرصاد) [ الفجر: 14 ] فبكى المنصور بكاء شديدا حتى كأنه لم يسمع بهذه الآيات قبل ذلك، ثم قال له: زدني.
فقال: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك
__________
(1) في الطبري 9 / 300 وأعجا

ببعضها، وإن هذا الامر كان لمن قبلك ثم صار إليك ثم هو صائر لمن بعدك، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة.
فبكى المنصور أشد من بكائه الاول حتى اختلفت أجفانه.
فقال له سليمان بن مجالد: رفقا بأمير المؤمنين.
فقال عمرو: وماذا على أمير المؤمنين أن يبكي من خشية الله عز وجل.
ثم أمر له المنصور بعشرة آلاف درهم فقال: لا حاجة لي فيها.
فقال المنصور: والله لتأخذنها.
فقال: والله لا آخذنها.
فقال له المهدي وهو جالس في سواده وسيفه إلى جانب أبيه: أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت ؟ فالتفت إلى المنصور فقال: ومن هذا ؟ فقال: هذا ابني محمد ولى العهد من بعدي.
فقال عمرو: إنك سميته اسما لم يستحقه لعمله، وألبسته لبوسا ما هو لبوس الابرار، ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه.
ثم التفت إلى المهدي فقال: يا بن أخي ! إذا حلف أبوك وحلف عمك فلان يحنث أبوك أيسر من أن يحنث عمك، لان أباك أقدر على الكفارة من عمك.
ثم قال المنصور: يا أبا عثمان هل من حاجة ؟ قال: نعم ! قال: وما هي ؟ قال: لا تبعث إلي حتى آتيك.
ولا تعطني حتى أسألك.
فقال المنصور: إذا والله لا نلتقي.
فقال عمرو: عن حاجتي سألتني.
فودعه وانصرف.
فلما ولى أمده بصره وهو يقول: كلكم يمشي (1) رويد * كلكلم يطلب (2) صيد غير عمرو بن عبيد ويقال إن عمرو بن عبيد أنشد المنصور قصيدة في موعظته إياه وهي قوله.
يا أيهذا الذي قد غره الامل * ودون ما يأمل التنغيص والاجل ألا ترى إنما الدنيا وزينتها * كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا
حتوفها رصد وعيشها نكد * وصفوها كدر وملكها دول تظل تقرع بالروعات ساكنها * فما يسوغ له لين ولا جذل كأنه للمنايا والردى غرض * تظل فيه بنات الدهر تنتقل (3) تديره ما تدور به دوائرها * منها المصيب ومنها المخطئ الزلل والنفس هاربة والموت يطلبها * وكل عسرة رجل عندها جلل (4) والمرء يسعى بما يسعى (5) لوارثه * والقبر وارث ما يسعى له الرجل
__________
(1) في أمالى المرتضى 1 / 176: ماش.
(2) في أمالي المرتضى: طالب.
(3) في مروج الذهب 3 / 371: تنتضل.
(4) في مروج الذهب:...يرصدها * وكل عثرة...زلل (5) في مروج الذهب: لما يبقى.

وقال ابن دريد عن الرياشي عن محمد بن سلام قال: رأت جارية للمنصور ثوبه مرقوعا فقالت: خليفة وقميص مرقوع ؟ قال: ويحك أما سمعت ما قال ابن هرمة: قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه * خلق وبعض قميصه مرقوع وقال بعض الزهاد (1) للمنصور: اذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة مثلها، واذكر ليلة تمخض عن يوم القيامة لا ليلة بعدها فأفحم المنصور قوله فأمر له بمال.
فقال: لو احتجت إلى مالك ما وعظتك.
ومن شعره لما عزم على قتل أبي مسلم: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة * فإن فساد الرأي أن يترددا ولا تمهل الاعداء يوما لغدرة * وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا ولما قتله ورآه طريحا بين يديه قال:
قد اكتنفتك خلات ثلاث * جلبن عليك محتوم الحمام خلافك وامتناعك من يميني * وقودك للجماهير العظام ومن شعره أيضا: المرء يأمل أن يعي * ش وطول عمر قد يضره تبلى بشاشته ويب * قى بعد حلو العيش مره وتخونه الايام حتى * لا يرى شيئا يسره كم شامت به إن هلك * ت وقائل لله دره قالوا: وكان المنصور في أول النهار يتصدى للامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولايات والعزل والنظر في مصالح العامة، فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر، فإذا صلاها جلس لاهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة، فإذا صلى العشاء نظر في الكتب والرسائل الواردة من الآفاق، وجلس عنده من يسامره إلى ثلث الليل، ثم يقوم إلى أهله فينام في فراشه إلى الثلث الآخر، فيقوم إلى وضوئه وصلاته حتى يتفجر الصباح، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
وقد ولى بعض العمال على بلد فبلغه أنه قد تصدى للصيد وأعد لذلك كلابا وبزاة، فكتب إليه ثكلتك أمك وعشيرتك، ويحك إنا إنما استكفيناك واستعملناك على أمور المسلمين، ولم نستكفك أمور الوحوش في البراري، فسلم ما تلي من عملنا إلى فلان والحق بأهلك ملوما مدحورا.
وأتي يوما بخارجي قد هزم جيوش المنصور غير مرة فلما وقف بين يديه قال له المنصور: ويحك
__________
(1) هو عمرو بن عبيد كما في مروج الذهب وامالي المرتضى ووفيات الاعيان.

يابن الفاعلة ! مثلك يهزم الجيوش ؟ فقال الخارجي: ويلك سوأة لك بيني وبينك أمس السيف والقتل واليوم القذف والسب، وما يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فما أستقبلها أبدا.
قال فاستحيى منه المنصور وأطلقه.
فما رأى له وجها إلى الحول.
وقال لابنه لما ولاه العهد: يا بني ائتدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والنصر بالتواضع، والتألف بالطاعة، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك
من رحمة الله.
وقال أيضا: يا بني ليس العاقل من يحتال للامر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكن العاقل الذي يحتال للامر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.
وقال المنصور: يا بني لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل الحديث من يحدثك، فإن الزهري قال: علم الحديث ذكر لا يحبه إلا ذكران الرجال، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم، وصدق أخو زهرة.
وقد كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه فنال جانبا جيدا وطرفا صالحا، وقد قيل له يوما: يا أمير المؤمنين هل بقي شئ من اللذات لم تنله ؟ قال: شئ واحد، قالوا: وما هو ؟ قال: قول المحدث للشيخ من ذكرت رحمك الله.
فاجتمع وزراؤه وكتابه وجلسوا حوله وقالوا: ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث، فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن.
فهؤلاء نقلة الحديث.
وقال يوما لابنه المهدي: كم عندك من دابة ؟ فقال لا أدري.
فقال: هذا هو التقصير، فأنت لامر الخلافة أشد تضييعا فاتق الله يا بني.
وقالت خالصة إحدى حظيات المهدي: دخلت يوما على المنصور وهو يشتكي ضرسه ويداه على صدغيه فقال لي: كم عندك من المال يا خالصة ؟ فقلت ألف درهم.
فقال: ضعي يدك على رأسي واحلفي، فقلت: عندي عشرة آلاف دينار.
قال: اذهبي فاحمليها إلي.
قالت: فذهبت حتى دخلت على سيدي المهدي وهو مع زوجته الخيزران فشكوت ذلك إليه فوكزني برجله وقال: ويحك ! إنه ليس له وجع ولكني سألته بالامس مالا فتمارض، وإنه لا يسعك إلا ما أمرك به.
فذهبت إليه خالصة ومعها عشرة آلاف دينار، فاستدعى بالمهدي فقال له: تشكو الحاجة وهذا كله عند خالصة ؟ وقال المنصور لخازنه: إذا علمت بمجئ المهدي فائتني بخلقان الثياب قبل أن يجئ، فجاء بها فوضعها بين يديه ودخل المهدي والمنصور يقلبها، فجعل المهدي يضحك، فقال: يا بني من ليس له خلق ليس له جديد، وقد حضر الشتاء فنحتاج نعين العيال والولد.
فقال المهدي: علي كسوة أمير المؤمنين وعياله، فقال: دونك فافعل.
وذكر ابن جرير عن الهيثم: أن المنصور أطلق في يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم وفي
هذا اليوم فرق في ؟ يته عشرة آلاف درهم، ولا يعلم خليفة فرق مثل هذا في يوم واحد.
وقرأ بعض الفراء عند المنصور (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) [ النساء: 37 ] فقال: والله لو لا أن المال حصن للسلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما ما بت ليلة واحدة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما لما

أجد لبذل المال من اللذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.
وقرأ عنده قاري آخر (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) الآية.
فقال: ما أحسن ما أدبنا ربنا عز وجل.
وقال المنصور: سمعت أبي يقول سمعت علي بن عبد الله يقول: سادة أهل الدنيا في الدنيا الاسخياء، وسادة أهل الآخرة في الآخرة الاتقياء.
ولما عزم المنصور على الحج في هذه السنة دعا ولده المهدي فأوصاه في خاصة نفسه وبأهل بيته وبسائر المسلمين خيرا، وعلمه كيف تفعل الاشياء وتسد الثغور، وأوصاه بوصايا يطول بسطها وحرج عليه أن لا يفتح شيئا من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته فإن بها من الاموال ما يكفي المسلمين لو لم يجب إليهم من الخراج درهم عشر سنين، وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين هو ثلاثمائة ألف دينار (1)، فإنه لم ير قضاءها من بيت المال.
فامتثل المهدي ذلك كله.
وأحرم المنصور بحج وعمرة من الرصافة وساق بدنه وقال: يا بني إني ولدت في ذي الحجة وقد وقع لي أن أموت في ذي الحجة، وهذا الذي جرأني على الحج عامي هذا.
وودعه وسار واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق فما دخل مكة إلا وهو ثقيل جدا، فلما كان بآخر منزل نزله دون مكة إذا في صدر منزله مكتوب: (بسم الله الرحمن الرحيم).
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت * سنوك وأمر الله لا بد واقع (2) أبا جعفر هل كاهن أو منجم * لك اليوم من كرب (3) المنية مانع فدعا بالحجبة فأقرأهم ذلك فلم يروا شيئا فعرف أن أجله قد نعي إليه.
قالوا: ورأى المنصور في منامه ويقال بل هتف به هاتف وهو يقول: أما ورب السكون والحرك * إن المنايا كثيرة الشرك
عليك يا نفس إن أسأت وإن * أحسنت (4) يا نفس كان ذلك لك ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل السلطان عن ملك * إذا انقضى ملكه إلى ملك حتى يصيرانه إلى ملك * ما عز سلطانه بمشترك ذاك بديع السماء والارض والمر * سي لجبال المسخر الفلك
__________
(1) في الطبري 9 / 319: درهم.
(2) في مروج الذهب 3 / 375 نازل وفي ابن الاعثم 8 / 237: لا شك واقع.
(3) في الطبري 9 / 321 وابن الاثير 6 / 22: حر.
وعجزة في مروج الذهب 3 / 375:...يرد قضاء الله أم أنت جاهل ؟ (4) في الطبري 9 / 322: أحسنت بالقصد كل...

فقال المنصور: هذا أوان حضور أجلي وانقضاء عمري.
وكان قد رأى قبل ذلك في قصره الخلد الذي بناه وتأنق فيه مناما أفزعه فقال للربيع: ويحك يا ربيع ! لقد رأيت مناما هالني، رأيت قائلا وقف في باب هذا القصر وهو يقول: كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه أهله (1) ومنازله وصار رئيس (2) القصر من بعد بهجة * إلى جدث يبني عليه (3) جنادله فما أقام في الخلد إلا أقل من سنة حتى مرض في طريق الحج، ودخل مكة مدنفا ثقيلا.
وكانت وفاته ليلة السبت لست وقيل لسبع مضين من ذي الحجة، وكان آخر ما تكلم به أن قال: اللهم بارك لي في لقائك.
وقيل: إنه قال يا رب إن كنت عصيتك في أمور كثيرة فقد أطعتك في أحب الاشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله مخلصا.
ثم مات.
وكان نقش خاتمه.
الله ثقة عبد الله وبه يؤمن.
وكان عمره يوم وفاته ثلاثا وستين سنة على المشهور، منها ثنتان وعشرون سنة خليفة.
ودفن بباب المعلاة رحمه الله.
قال ابن جرير: ومما رثي به قول سلم الخاشر الشاعر:
عجبا للذي نعى الناعيان * كيف فاهت بموته الشفتان ملك أن عدا (4) على الدهر يوما * أصبح الدهر ساقطا للجران ليت كفا حثت عليه ترابا * لم تعد في يمينها ببنان حين دانت له البلاد على العس * ف وأغضى من خوفه الثقلان أين رب الزوراء قد قلدته ال * ملك عشرين حجة واثنتان إنما المرء كالزناد إذا ما * أخذته قوادح النيران ليس يثني هواه زجر ولا يق * دح في حبله ذوو الاذهان قلدته أعنة الملك حتى * قاد أعداءه بغير عنان يكسر الطرف دونه وترى الاي * دي من خوفه على الاذقان ضم أطراف ملكه ثم أضحى * خلف أقصاهم ودون الداني هاشمي التشمير لا يحمل الثق * ل على غارب الشرود الهدان ذو أناة ينسى لها الخائف الخو * ف وعزم يلوي بكل جنان
__________
(1) في الطبري 10 / 12 وابن الاثير 6 / 81 ومروج الذهب 3 / 395: ربعه.
وفي تاريخ اليعقوبي 2 / 402: ركنه (2) في المراجع: عميد.
(3) في الطبري وابن الاثير ومروج الذهب: وملك إلى قبر عليه...وبعده في المراجع: فلم يبق إلا ذكره وحديثه * تنادي عليه معولات حلائله (4) في الطبري 9 / 318: غدا.

ذهبت دونه النفوس حذارا * غير أن الارواح في الابدان وقد دفن عند باب المعلاة بمكة ولا يعرف قبره لانه أعمي قبره، فإن الربيع الحاجب حفر مائة قبر ودفنه في غيرها لئلا يعرف.
أولاد المنصور محمد المهدي وهو ولي عهده، وجعفر الاكبر مات في حياته، وأمهما أروى بنت منصور.
وعيسى، ويعقوب، وسليمان، وأمهم فاطمة بنت محمد بن ولد طلحة بن عبيد الله.
وجعفر الاصغر من أم ولد كردية (1)، وصالح المسكين من أم ولد رومية - يقال لها قالي الفراشة - والقاسم من أم ولد أيضا.
والعالية من امرأة من بني أمية.
خلافة المهدي بن منصور لما مات أبوه بمكة لست أو لسبع مضين من ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين ومائة أخذت البيعة للمهدي من رؤوس بني هاشم والقواد الذين هم مع المنصور في الحج قبل دفنه، وبعث الربيع الحاجب بالبيعة مع البرد إلى المهدي وهو ببغداد، فدخل عليه البريد بذلك يوم الثلاثاء النصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة وأعطاه الكتب بالبيعة، وبايعه أهل بغداد، ونفذت بيعته إلى سائر الآفاق.
وذكر ابن جرير: أن المنصور قبل موته بيوم تحامل وتساند واستدعى بالامراء فجدد البيعة لابنه المهدي، فتسارعوا إلى ذلك وتبادروا إليه.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن وضية عمه المنصور، وهو الذي صلى عليه، وقيل إن الذي صلى على المنصور عيسى بن موسى ولي العهد من بعد المهدي، والصحيح الاول، لانه كان نائب مكة والطائف، وعلى إمرة المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمرو بن زهير الضبي - أخو المسيب بن زهير أمير الشرطة للخليفة وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة، وعلى صلاتها وقضائها عبد الله (2) بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بن دعلج.
قال الواقدي: وأصاب الناس في هذه السنة وباء شديد فتوفي فيه خلق كثير وجم غفير، منهم أفلح بن حميد، وحيوة بن شريح، ومعاوية بن صالح بمكة، وزفر بن الهذيل بن قيس بن سليم ثم ساق نسبه إلى معد بن عدنان، يقال له التميمي العنبري الكوفي الفقيه الحنفي، أقدم أصحاب أبي
__________
(1) وهو الذي اتهم أبو أيوب المورياني بقتله وكان قتله سببا في نكبة أبي أيوب (انظر الطبري - ابن الاثير - الفخري)
(2) في الطبري 9 / 326 وابن الاثير 6 / 26: عبيد الله.

حنيفة وفاة، وأكثرهم استعمالا للقياس، وكان عابدا، اشتغل بعلم الحديث ثم غلب عليه الفقه والقياس.
ولد سنة ست عشرة ومائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة عن ثنتين وأربعين سنة رحمه الله وإيانا.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة استهلت هذه السنة وخليفة الناس أبو عبد الله محمد بن المنصور المهدي، فبعث في أولها العباس بن محمد إلى بلاد الروم في جيش كثيف، وركب معهم مشيعا لهم، فساروا إليها فافتتحوا مدينة عظيمة للروم، وغنمو غنائم كثيرة ورجعوا سالمين لم يفقد منهم أحد.
وفيها توفي حميد بن قحطبة نائب خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد، وولى حمزة بن مالك سجستان، وولى جبريل بن يحيى سمرقند.
وفيها بنى المهدي الرصافة وخندقها.
وفيها جهز جيشا كثيفا إلى بلاد الهند فوصلوا إليها في السنة الآتية، وكان من أمرهم ما سنذكره.
وفيها توفي نائب السند معبد بن الخليل فولى المهدي مكانه روح بن حاتم بمشورة وزيره أبي عبد الله (1).
وفيها أطلق المهدي من كان في السجون إلا من كان محبوسا على دم، أو من سعى في الارض فسادا، أو من كان عنده حق لاحد.
وكان في جملة من أخرج من المطبق يعقوب بن داود مولى بني سليم، والحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأمر بصيرروة حسن هذا إلى نصير الخادم ليحترز عليه.
وكان الحسن قد عزم على الهرب من السجن قبل خروجه منه، فلما خرج يعقوب بن داود ناصح الخليفة بما كان عزم عليه فنقله من السجن وأودعه عند نصير الخادم ليحتاط عليه، وحظي يعقوب بن داود عند المهدي جدا حتى صار يدخل عليه في الليل بلا استئذان، وجعله على أمور كثيرة، وأطلق له مائة ألف درهم.
وما زال عنده كذلك حتى تمكن المهدي من الحسن بن إبراهيم فسقطت منزلة يعقوب عنده.
وقد عزل المهدي نوابا كثيرة عن البلاد وولى بدلهم.
وفي هذه السنة تزوج المهدي بابنة عمه أم عبد الله بنت صالح بن علي، وأعتق جاريته الخيزران وتزوجها أيضا، وهي أم الرشيد.
وفيها وقع حريق عظيم في السفن التي
في دجلة بغداد.
ولما ولي المهدي سأل عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من بعده - أن يخلع نفسه من الامر فامتنع على المهدي، وسأل المهدي أن يقيم بأرض الكوفة في ضيعة له فأذن له، وكان قد استقر على إمرة الكوفة روح بن حاتم، فكتب إلى المهدي: إن عيسى بن موسى لا يأتي الجمعة ولا الجماعة مع الناس إلا شهرين من السنة، وإنه إذا جاء يدخل بدوابه إلى داخل باب المسجد فتروث دوابه حيث يصلى الناس.
فكتب إليه المهدي أن يعمل خشبا على أفواه السكك حتى لا يصل الناس إلى المسجد إلا
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: أبي عبيد الله.
وهو معاوية بن يسار فإنه جمع له حاصل المملكة ورتب الديوان وقرر القواعد، وكان أوحد الناس حذقا وعلما وخبرة.
وكان كاتبه ونائبه قبل الخلافة، غلب على أموره فأصبح الخليفة المهدي لا يعصي له قولا.
وكان شديد التكبر والتجبر.

مشاة.
فعلم بذلك عيسى بن موسى فاشترى قبل الجمعة دار المختار بن أبي عبيدة من ورثته - وكانت ملاصقة للمسجد - وكان يأتي إليها من يوم الخميس، فإذا كان يوم الجمعة ركب حمارا إلى باب المسجد فنزل إلى هناك وشهد الصلاة مع الناس وأقام بالكلية بالكوفة بأهله، ثم ألح المهدي عليه في أن يخلع نفسه وتوعده إن لم يفعل، ووعده إن فعل فأجابه إلى ذلك فأعطاه أقطاعا عظيمة، وأعطاه من المال عشرة آلاف ألف، وقيل عشرين ألف ألف، وبايع المهدي لولديه من بعده موسى الهادي، ثم هارون الرشيد كما سيأتي.
وحج بالناس يزيد بن منصور خال المهدي، وكان نائبا على اليمن فولاه الموسم واستقدمه عليه شوقا إليه، وغالب نواب البلاد عزلهم المهدي، غير أن إفريقية مع يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة، وعلى خراسان أبو عون، وعلى السند بسطام بن عمرو، وعلى الاهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى اليمن رجاء بن روح، وعلى اليمامة بشر بن المنذر، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى المدينة عبيد الله بن صفوان الجمحي، وعلى مكة والطائف إبراهيم بن يحيى، وعلى أحداث الكوفة إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي، وعلى أحداث البصرة عمارة بن حمزة وعلى صلاتها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان
النميري، وعلى قضائها عبيد الله بن الحسن العنبري.
وفيها توفي عبد العزيز بن أبي رواد، وعكرمة بن عمار، ومالك بن مغول، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذيب المدني: نظير مالك بن أنس في الفقه، وربما أنكر على مالك أشياء ترك الاخذ فيها ببعض الاحاديث، كان يراها مالك من إجماع أهل المدينة وغير ذلك من المسائل.
ثم دخلت سنة ستين ومائة فيها خرج رجل بخراسان على المهدي منكرا عليه أحواله وسيرته وما يتعاطاه، يقال له يوسف البرم، والتف عليه خلق كثير، وتفاقم الامر وعظم الخطب به، فتوجه إليه يزيد بن مزيد فلقيه فاقتتلا قتالا شديدا حتى تنازلا وتعانقا، فأسر يزيد بن مزيد يوسف هذا، وأسر جماعة من أصحابه فبعثهم إلى المهدي فأدخلوا عليه، وقد حملوا على جمال محولة وجوههم إلى ناحية أذناب الابل، فأمر الخليفة هرثمة أن يقطع يدي يوسف ورجليه ثم تضرب عنقه وأعناق من معه وصلبهم على جسر دجلة الاكبر مما يلي عسكر المهدي وأطفأ الله ثائرتهم وكفى شرهم.
البيعة لموسى الهادي ذكرنا أن المهدي ألح على عيسى بن موسى أن يخلع نفسه وهو مع كله ذلك يمتنع وهو مقيم بالكوفة، فبعث إليه المهدي أحد القواد الكبار وهو أبو هريرة محمد بن فروخ في ألف من أصحابه

لاحضاره إليه، وأمر كل واحد منهم أن يحمل طبلا، فإذا واجهوا الكوفة عند إضاءة الفجر ضرب كل واحد منهم على طبله، ففعلوا ذلك فارتجت الكوفة، وخاف عيسى بن موسى، فلما انتهوا إليه دعوه إلى حضرة الخليفة فأظهر أنه يشتكي، فلم يقبلوا ذلك منه بل أخذوه معهم فدخلوا به على الخليفة في يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة، فاجتمع عليه وجوه بني هاشم والقضاة والاعيان وسألوه في ذلك وهو يمتنع، ثم لم يزل الناس به بالرغبة والرهبة حتى أجاب في يوم الجمعة (1) لاربع مضين (2) من المحرم بعد العصر.
وبويع لولدي المهدي موسى وهارون الرشيد صباحة يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم وجلس المهدي في قبة عظيمة في إيوان الخلافة، ودخل الامراء فبايعوا ثم نهض
فصعد المنبر وجلس ابنه موسى الهادي تحته، وقام عيسى بن موسى على أول درجة، وخطب المهدي فأعلم الناس بما وقع من خلع عيسى بن موسى نفسه وأنه قد حلل الناس من الايمان التي له في أعناقهم وجعل ذلك إلى موسى الهادي.
فصدق عيسى بن موسى ذلك وبايع المهدي على ذلك.
ثم نهض الناس فبايعوا الخليفة على حسب مراتبهم وأسنانهم، وكتب على عيسى بن موسى مكتوبا مؤكدا بالايمان البالغة من الطلاق والعتاق (3)، وأشهد عليه جماعة الامراء والوزراء وأعيان بني هاشم وغيرهم وأعطاه ما ذكرنا من الاموال وغيرها.
وفيها دخل عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة بإربد من الهند في جحفل كبير فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق، ورموها بالنفط فأحرقوا منها طائفة، وهلك بشر كثير من أهلها، وفتحوها عنوة وأرادوا الانصراف فلم يمكنهم ذلك لاعتلاء البحر، فأقاموا هنالك فأصابهم داء في أفواههم يقال له حمام قر فمات منهم ألف نفس منهم الربيع بن صبيح، فلما أمكنهم المسير ركبوا في البحر فهاجت عليهم ريح فغرق طائفة أيضا، ووصل بقيتهم إلى البصرة ومعهم سبي كثير، فيهم بنت ملكهم.
وفيها حكم المهدي بإلحاق ولد أبي بكرة الثقفي إلا ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نسبهم من ثقيف، وكتب بذلك كتابا إلى والي البصرة (4).
وقطع نسبه من زياد ومن نسب نافع ففي ذلك يقول بعض الشعراء وهو خالد النجار: إن زيادا ونافعا وأبا * بكرة عندي من أعجب العجب ذا قرشي كما يقول وذا * مولى وهذا بزعمه عربي وقد ذكر ابن جرير أن نائب البصرة لم ينفذ ذلك.
__________
(1) في الطبري 9 / 332: يوم الاربعاء.
(2) في الطبري 9 / 332 وفي ابن الاثير 6 / 45: بقين.
(3) نسخة الكتاب في الطبري ج 9 / 333.
وأشهد عليه أربعمائة وثلاثون من بني هاشم ومن الموالي والصحابة من قريش والوزراء والكتاب والقضاة.
(4) نسخة الكتاب في تاريخ الطبري 9 / 335.

وفي هذه السنة حج بالناس المهدي واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد وخلقا من الامراء منهم ؟ توب بن داود على منزلته ومكانته، وكان الحسن بن إبراهيم قد هرب من الخادم فلحق بأرض الحجاز، فاستأمن له يعقوب بن داود فأحسن المهدي صلته وأجزل جائزته، وفرق المهدي في أهل مكة مالا كثيرا جدا، كان قد قدم معه بثلاثين ألف ألف درهم ومائة ألف ثوب، وجاء من مصر ثلثمائة ألف دينار ومن اليمن مائتا ألف دينار، فأعطاها كلها في أهل مكة والمدينة.
وشكت الحجبة إلى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم من كثرة ما عليها من الكساوي، فأمر بتجريدها، فلما انتهوا إلى كساوي هشام بن عبد الملك وجدها من ديباج ثخين جدا، فأمر بإزالتها وبقيت كساوي الخلفاء قبله وبعده، فلما جردها طلاها بالخع (2) وكساها كسوة حسنة جدا، ويقال إنه استفتى مالكا في إعادة الكعبة إلى ما كانت عليه من بناية ابن الزبير، فقال مالك: دعها فإني أخشى أن يتخذها الملوك معلبة.
فتركها على ما هي.
وحمل له محمد بن سليمان نائب البصرة الثلج إلى مكة، وكان أول خليفة حمل له الثلج إليها.
ولما دخل المدينة وسع المسجد النبوي، وكان فيه مقصورة فأزالها وأراد أن ينقص من المنبر ما كان زاده معاوية بن أبي سفيان فقال له مالك: إنه يخشى أن ينكسر خشبه العتيق إذا زعزع، فتركه.
وتزوج من المدينة رقية بنت عمرو العثمانية، وانتخب من أهلها خمسمائة من أعيانها ليكونوا حوله حرسا بالعراق وأنصارا وأجرى عليهم أرزاقا غير أعطياتهم وأقطعهم أقطاعا معروفة بهم.
وفيها توفي الربيع بن صبيح، وسفيان بن حسين، أحد أصحاب الزهري، وشعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الازدي أبو بسطام الواسطي، ثم انتقل إلى البصرة.
رأى شعبة الحسن وابن سيرين، وروى عن أمم من التابعين (2) وحدث عنه خلق (3) من مشايخه وأقرانه وأئمة الاسلام.
وهو شيخ المحدثين الملقب فيهم بأمير المؤمنين قاله الثوري.
وقال يحيى بن معين: هو إمام المتقين، وكان في غاية الزهد والورع والتقشف والحفظ وحسن الطريقة.
وقال الشافعي: لولاه ما عرف الحديث بالعراق.
وقال الامام أحمد: كان أمة وحده في هذا الشأن، ولم يكن في زمانه مثله.
وقال محمد بن
سعد: كان ثقة مأمونا حجة صاحب حديث.
وقال وكيع: إني لارجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات بذبه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال صالح بن محمد بن حرزة: كان شعبة أول من تكلم في الرجال تبعه يحيى القطان ثم أحمد وابن معين.
وقال ابن مهدي: ما رأيت أعقل من مالك، ولا أشد
__________
(1) من الطبري 9 / 337 وفي الاصل خلوف.
والخلوق ضرب من الطيب (قاموس).
(2) سمع من الحسن ومعاوية بن قرة وعمرو بن مرة والحكم وسلمة بن كهيل وأنس بن سيرين ويحيى بن أبي كثير وقتادة ويونس بن عبيد وأيوب وخالد الحذاء وغيرهم.
تذكرة الحفاظ.
صفة الصفوة.
(3) منهم أيوب السختياني وابن اسحاق وسفيان الثوري وابن المبارك وغندر وآدم وعفان بن مسلم وأبو داود وسليمان بن حرب وعلي بن الجعد وغيره.
(تذكرة الحفاظ 1 / 193).

تقشفا من شعبة، ولا أنصح للامة من ابن المبارك، ولا أحفظ للحديث من الثوري.
وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة إلا ورأيته يصلي، وكان أبا للفقراء وأما لهم.
وقال النضر ابن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين منه، كان إذا رأى مسكينا لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عنه.
وقال غيره: ما رأيت أعبد منه لقد عبد الله حتى لصق جلده بعظمه.
وقال يحيى القطان: ما رأيت أرق للمسكين منه، كان يدخل المسكين في منزله فيعطيه ما أمكنه.
قال محمد بن سعد وغيره: مات في أول سنة ستين ومائة في البصرة عن ثمان وسبعين سنة.
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة فيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد فنزل دابق، وجاشت الروم عليه فلم يتمكن المسلمون من الدخول إليها بسبب ذلك.
وفيها أمر المهدي بحفر الركايا وعمل المصانع وبناء القصور في طريق مكة وولى يقطين بن موسى على ذلك، فلم يزل يعمل في ذلك إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، مقدار عشر سنين، حتى صارت طريق الحجاز من العراق من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها.
وفيها وسع المهدي جامع البصرة من قبلته وغربه.
وفيها كتب إلى الآفاق أن لا تبقى مقصورة في مسجد جماعة، وأن تقصر المنابر إلى مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك في المدائن كلها.
وفيها اتضعت منزلة أبي عبيد الله
وزير المهدي وظهرت عنده خيانته فضم إليه المهدي من يشرف عليه، وكان ممن ضم إليه إسماعيل بن علية، ثم أبعده وأقصاه وأخرجه من معسكره.
وفيها ولى القضاء عافية بن يزيد الازدي وكان يحكم هو وابن علاثة في عسكر المهدي بالرصافة.
وفيها خرج رجل يقال له المقنع بخراسان في قرية في قرى مرو، وكان يقول بالتناسخ واتبعه على ذلك خلق كثير، فجهز إليه المهدي عدة من أمرائه وأنفذ إليه جيوشا كثيرة، منهم معاذ بن مسلم أمير خراسان، وكان من أمره وأمرهم ما سنذكره.
وحج بالناس فيها موسى الهادي بن المهدي.
وفيها توفي إسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي وزائدة بن قدامة وسفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أحد أئمة الاسلام وعبادهم والمقتدى به أبو عبد الله الكوفي.
روى عن غير واحد من التابعين (1) وروى عنه خلق من الائمة وغيرهم، قال شعبة وأبو عاصم وسفيان بن عيينة ويحيى بن معين وغير واحد: هو أمير المؤمنين في الحديث.
وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ هو أفضلهم.
وقال أيوب: ما رأيت كوفيا أفضله عليه.
وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أفضل منه.
وقال عبد الله: ما رأيت أفقه من الثوري.
وقال شعبة: ساد الناس بالورع والعلم.
وقال: أصحاب المذاهب ثلاثة: ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه.
وقال الامام أحمد: لا يتقدمه في قلبي أحد.
ثم قال: تدري من الامام ؟ الامام سفيان الثوري.
وقال عبد الرزاق: سمعت الثوري يقول: ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني حتى
__________
(1) حدث عن أبيه وزبيد بن الحارث وحبيب بن أبي ثابت والاسود بن قيس وزياد بن علاقة ومحارب بن دثار.

إني لامر بالحائك يتغنى فأسد أذني مخافة أن أحفظ ما يقول.
وقال: لان أترك عشرة آلاف دينار يحاسبني الله عليها أحل إلي من أن أحتاج إلى الناس.
قال محمد بن سعد: أجمعوا أنه توفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وكان عمره يوم مات أربعا وستين سنة، ورآه بعضهم في المنام يطير في الجنة من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة، وهو يقرأ (الحمد لله الذي صدقنا وعده) [ الزمر: 74 ] الآية.
وقال: إذا ترأس الرجل سريعا أخر بكثير من العلم.
وممن توفي فيها:
أبو دلامة زند (1) بن الجون الشاعر الماجن، أحد الظرفاء، أصله من الكوفة وأقام ببغداد وحظي عند المنصور لانه كان يضحكه وينشده الاشعار ويمدحه، حضر يوما جنازة امرأة المنصور - وكانت ابنة عمه - يقال لها حمادة بنت عيسى، وكان المنصور قد حزن عليها، فلما سووا عليها التراب وكان أبو دلامة حاضرا، فقال له المنصور: ويحك يا أبا دلامة، ما أعددت لهذا اليوم ؟ فقال: ابنة عم أمير المؤمنين.
فضحك المنصور حتى استلقى، ثم قال: ويحك فضحتنا.
ودخل يوما على المهدي يهنئه بقدومه من سفره وأنشده: إنى حلفت (2) لئن رأيتك سالما * بقرى العراق وأنت ذو وفر لتصلين على النبي محمد * ولتملان دراهما حجري فقال المهدي: أما الاول فنعم، نصلي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الثاني فلا.
فقال: يا أمير المؤمنين هما كلمتان فلا تفرق بينهما.
فأمر أن يملا حجره دراهم، ثم قال له: قم ! فقال: ينخرق منها قميصي فأفرغت منه في أكياسها ثم قام فحملها وذهب.
وذكر عنه ابن خلكان أنه مرض ابن له فداواه طبيب فلما عوفي قال له: ليس عندنا ما نعطيك، ولكن ادع على فلان اليهودي بمبلغ ما تستحقه عندنا من أجرتك حتى أشهد أنا وولدي عليه بالمبلغ المذكور.
قال: فذهب الطبيب إلى قاضي الكوفة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى - وقيل ابن شبرمة - فادعى عليه عنده فأنكر اليهودي فشهد عليه أبو دلامة وابنه، فلم يستطع القاضي أن يرد شهادتهما وخاف من طلب التزكية فأعطى الطبيب المدعي
__________
(1) من وفيات الاعيان 2 / 320 والاغاني 10 / 235 وترجمته في تاريخ بغداد 8 / 488 والشعر والشعراء / 660 وطبقات ابن المعتز ص / 54 ومعجم الادباء 11 / 165 والمؤتلف: 231 ومعاهد التنصيص 2 / 211.
وورد اسمه في الاصل زيد وهو تحريف.
قال في الاغاني: أكثر الناس يصحف اسمه (زيد) وذلك خطأ وهو زند بالنون.
وهو كوفي أسود مولى لبني أسد.
(2).
في الاغاني 10 / 253: نذرت.

المال من عنده وأطلق اليهودي.
وجمع القاضي بين المصالح.
توفي أبو دلامة في هذه السنة، وقيل إنه أدرك خلافة الرشيد سنة سبعين فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين ومائة فيها خرج عبد السلام بن هاشم اليشكري بأرض قنسرين واتبعه خلق كثير، وقويت شوكته فقاتله جماعة من الامراء فلم يقدروا عليه، وجهز إليه المهدي جيوشا وأنفق فيهم أموالا فهزمهم مرات ثم آل الامر به أن قتل بعد ذلك.
وفيها غزا الصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفا (1) من المرتزقة سوى المتطوعة، فدمر الروم وحرق بلدانا كثيرة، وخرب أماكن وأسر خلقا من الذراري.
وكذلك غزا يزيد بن أبي أسيد (2) السلمي بلاد الروم من باب قاليقلا فغنم وسلم وسبى خلقا كثيرا.
وفيها خرجت طائفة بجرجان فلبسوا الحمرة مع رجل يقال له عبد القهار، فغزاه عمرو بن العلاء من طبرستان فقهر عبد القهار وقتله وأصحابه.
وفيها أجرى المهدي الارزاق في سائر الاقاليم والآفاق على المجذمين والمحبوسين، وهذه مثوبة عظيمة ومكرمة جسيمة.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن جعفر بن المنصور.
وفيها توفي من الاعيان: إبراهيم بن أدهم أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد.
كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله.
فهو إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد (3) بن عامر بن إسحاق التميمي، ويقال له العجلي، أصله من بلخ ثم سكن الشام ودخل دمشق، وروى الحديث عن أبيه والاعمش ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة وأبي إسحاق السبيعي وخلق (4).
وحدث عنه خلق منهم بقية والثوري وأبو إسحاق الفزاري ومحمد بن حميد.
وحكى عنه الاوزاعي.
وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الجزري عن إبراهيم بن أدهم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة.
قال: " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالسا فقلت: يا رسول الله إنك تصلي جالسا فما أصابك ؟ قال: الجوع يا أبا هريرة.
قال: فبكيت فقال: لا تبك فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا ".
ومن طريق بقية عن إبراهيم بن أدهم حدثني إبو إسحاق الهمداني، عن عمارة بن غزية، عن أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) في الطبري 9 / 342: ثلاثين.
(2) في الطبري، وابن الاثير 6 / 58: يزيد بن أسيد.
(3) في وفيات الاعيان 1 / 31 وفوات الوفيات 1 / 13: يزيد بن جابر أبو اسحاق (انظر صفة الصفوة 4 / 152).
(4) زيد في الوفيات: أبو حازم وقتادة ومالك بن دينار (انظر صفة الصفوة 4 / 158).

" إن الفتنة تجئ فتنسف العباد نسفا، وينجو العالم منها بعلمه ".
قال النسائي: إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد.
وذكر أبو نعيم وغيره أنه كان ابن ملك من ملوك خراسان، وكان قد حبب إليه الصيد، قال: فخرجت مرة فأثرت ثعلبا فهتف بي هاتف من قربوس سرجي: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت.
قال: فوقفت وقلت: انتهيت انتهيت، جاءني نذير من رب العالمين.
فرجعت إلى أهلي فخليت عن فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي فأخذت منه جبة وكساء ثم ألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصف لي بها الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فأرشدني إلى بلاد الشام فأتيت طرسوس فعملت بها أياما أنظر البساتين وأحصد الحصاد، وكان يقول: ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام.
أفر بديني ما شاهق إلى شاهق ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول: هو موسوس.
ثم دخل البادية ودخل مكة وصحب الثوري والفضيل بن عياض ودخل الشام ومات بها، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه مثل الحصاد وعمل الفاعل وحفظ البساتين وغير ذلك وما روي عنه: أنه وجد رجلا في البادية فعلمه اسم الله الاعظم فكان يدعو به حتى رأى الخضر فقال له: إنما علمك أخي داود اسم الله الاعظم، ذكره القشيري وابن عساكر عنه بإسناد لا يصح.
وفيه أنه قال له: إن إلياس علمك اسم الله الاعظم.
وقال إبراهيم: أطب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار.
وذكر أبو نعيم عنه: أنه كان أكثر دعائه اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك.
وقيل له إن اللحم قد غلا فقال: ارخصوه أي لا تشتروه فإنه يرخص.
وقال بعضهم (1): هتف به الهاتف من فوقه يا إبراهيم ما هذا العبث (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) [ المؤمنون:
115 ] اتق الله وعليك بالزاد ليوم القيامة (2).
فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة.
وروى ابن عساكر بإسناد فيه نظر في ابتداء أمره قال: بينما أنا يوما في منظرة لي ببلخ وإذا شيخ حسن الهيئة حسن اللحية قد استظل بظلها فأخذ بمجامع قلبي، فأمرت غلاما فدعاه فدخل فعرضت عليه الطعام فأبى فقلت: من أين أقبلت ؟ قال: من وراء النهر.
قتل: أين تريد ؟ قال الحج.
قلت: في هذا الوقت ؟ - وقد كان أول يوم من ذي الحجة أو ثانيه - فقال: يفعل الله ما يشاء.
فقلت: الصحبة.
قال: إن أحببت ذلك فموعدك الليل، فلما كان الليل جاءني فقال: قم بسم الله فأخذت ثياب سفري وسرنا نمشي كأنما الارض تجذب من تحتنا، ونحن نمر على البلدان ونقول: هذه فلانة هذه فلانة، فإذا كان الصباح فارقني ويقول: موعدك الليل، فإذا كان الليل جاءني ففعلنا مثل ذلك.
فانتهينا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثم سرنا إلى مكة فجئناها ليلا فقضينا الحج مع الناس ثم رجعنا إلى الشام فزرنا بيت المقدس
__________
(1) وهي رواية يونس بن سليمان البلخي كما في صفة الصفوة 4 / 152.
(2) في صفة الصفوة: الفاقة.

وقال: إني عازم على المقام بالشام، ثم رجعت أنا إلى بلدي بلخ كسائر الضعفاء حتى رجعنا إليها ولم أسأله عن اسمه، فكان ذلك أول أمري.
وروي من وجه آخر فيه نظر.
وقال أبو حاتم الرازي: عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري قال: كان إبراهيم بن أدهم يشبه الخليل، ولو كان في الصحابة كان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه.
وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من عمله، ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يده.
وقال بشر بن الحارث الحافي: أربعة رفعهم الله بطيب المطعم، إبراهيم بن أدهم، وسليمان بن الخواص ووهيب بن الورد، ويوسف بن أسباط.
وروى ابن عساكر من طريق معاوية بن حفص قال: إنما سمع إبراهيم بن أدهم حديثا واحدا فأخذ به فساد أهل زمانه.
قال: حدثنا منصور، عن ربعي بن
خراش قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس قال: " إذا أردت أن يحبك الله فابغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما كان عندك من فضولها فانبذه إليهم " وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو الربيع عن إدريس قال: جلس إبراهيم إلى بعض العلماء فجعلوا يتذاكرون الحديث وإبراهيم ساكت، ثم قال: حدثنا منصور ثم سكت فلم ينطق بحرف حتى قام من ذلك المجلس: فعاتبه بعض أصحابه في ذلك ! فقال: إني لاخشى مضرة ذلك المجلس في قلبي إلى اليوم.
وقال رشدين بن سعد: مر إبراهيم بن أدهم بالاوزاعي وحوله حلقة فقال: لو أن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم.
فقام الاوزاعي وتركهم.
وقال إبراهيم بن بشار: قيل لابن أدهم: لم تركت الحديث ؟ فقال: إني مشغول عنه بثلاث، بالشكر على النعم، وبالاستغفار من الذنوب، وبالاستعداد للموت، ثم صاح وغشي عليه فسمعوا هاتفا يقول: لا تدخلوا بيني وبين أوليائي.
وقال أبو حنيفة يوما لابراهيم بن أدهم: قد رزقت من العبادة شيئا صالحا فليكن العلم من بالك فإنه رأس العبادة وقوام الدين.
فقال له إبراهيم: وأنت فليكن العبادة والعمل بالعلم من بالك وإلا هلكت.
وقال إبراهيم: ماذا أنعم الله على الفقراء لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ولا عن حج ولا عن جهاد ولا عن صلة رحم، إنما يسأل ويحاسب هؤلاء المساكين الاغنياء.
وقال شقيق بن إبراهيم: لقيت ابن أدهم بالشام وقد كنت رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكريا.
فقلت له: تركت ملك خراسان، وخرجت من نعمتك ؟ فقال: اسكت ما تهنيت بالعيش إلا ههنا، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، فمن يراني يقول هو موسوس أو حمال (1) أو ملاح، ثم قال: بلغني أنه يؤتى بالفقير يوم القيامة
__________
(1) في صفة الصفوة 4 / 155: جمال.

فيوقف بين يدي الله فيقول له: يا عبدي مالك لم تحج ؟ فيقول: يا رب لم تعطني شيئا أحج به.
فيقول الله: صدق عبدي اذهبوا به إلى الجنة.
وقال أقمت بالشام أربعا وعشرين سنة لم أقم بها لجهاد ولا رباط إنما نزلتها لاشبع من خبز حلال.
وقال: الحزن حزنان حزن لك وحزن عليك، فحزنك على
الآخرة لك.
وحزنك على الدنيا وزينتها عليك.
وقال: الزهد ثلاثة، واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال مستحب، والزهد عن الشبهات سلامة.
وكان هو وأصحابه يمنعون أنفسهم الحمام والماء البارد والحذاء ولا يجعلون في ملحهم أبزارا، وكان إذا جلس على سفرة فيها طعام طيب رمى بطيبها إلى أصحابه وأكل هو الخبز والزيتون.
وقال: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع.
وقال له رجل: هذه جبة أحب أن تقبلها مني.
فقال: إن كنت غنيا قبلتها، وإن كنت فقيرا لم أقبلها.
قال: أنا غني.
قال: كم عندك ؟ قال: ألفان.
قال: تود أن تكون أربعة آلاف ؟ قال: نعم، قال فأنت فقير، لا أقبلها منك.
وقيل له: لو تزوجت ؟ فقال: لو أمكنني أن أطلق نفسي لطلقتها.
ومكث بمكة خمسة عشر يوما لا شئ له ولم يكن له زاد سوى الرمل بالماء، وصلى بوضوء واحد خمس عشرة صلاة، وأكل يوما على حافة الشريعة (1) كسيرات مبلولة بالماء وضعها بين يديه أبو يوسف الغسولي، فأكل منها ثم قام فشرب من الشريعة ثم جاء واستلقى على قفاه وقال: يا أبا يوسف لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش.
فقال له أبو يوسف: طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم.
فتبسم إبراهيم وقال: من أين لك هذا الكلام ؟ وبينما هو بالمصيصة (2) في جماعة من أصحابه إذ جاءه راكب فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم ؟ فأرشد إليه، فقال: يا سيدي أنا غلامك، وإن أباك قد مات وترك مالا هو عند القاضي، وقد جئتك بعشرة آلاف درهم لتنفقها عليك إلى بلخ، وفرس وبغلة.
فسكت إبراهيم طويلا ثم رفع رأسه فقال: إن كنت صادقا فالدراهم والفرس والغلة لك، ولا تخبر به أحدا.
ويقال: إنه ذهب بعد ذلك إلى بلخ وأخذ المال من الحاكم وجعله كله في سبيل الله.
وكان معه بعض أصحابه فمكثوا شهرين لم يحصل لهم شئ يأكلونه، فقال له إبراهيم: ادخل إلى هذه الغيضة - وكان ذلك في يوم شات - قال: فدخلت فوجدت شجرة عليها خوخ كثير فملات منه جرابي ثم خرجت، فقال: ما معك ؟ قلت: خوخ.
فقال: يا ضعيف اليقين ! لو صبرت لوجدت رطبا جنيا، كما رزقت مريم بنت عمران.
وشكا إليه بعض أصحابه الجوع فصلى ركعتين فإذا حوله
دنانير كثيرة فقال لصاحبه: خذ منها دينارا، فأخذه واشترى لهم به طعاما.
وذكروا أنه كان يعمل
__________
(1) وكان ذلك على نهر الاردن وهو بطريقه إلى الاسكندرية.
صفة الصفوة 4 / 153.
(2) المصيصة: مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم تقارب طرسوس والمصيصة أيضا قرية من قرى دمشق قرب بيت لهيا (معجم البلدان) والرواية في صفة الصوفة 4 / 156 باختلاف.

بالفاعل ثم يذهب فيشتري البيض والزبدة وتارة الشواء والجوذبان والخبيص فيطعمه أصحابه وهو صائم، فإذا أفطر يأكل من ردئ الطعام ويحرم نفسه المطعم الطيب ليبر به الناس تأليفا لهم وتحببا وتوددا إليهم.
وأضاف الاوزاعي إبراهيم بن أدهم فقصر إبراهيم في الاكل فقال: مالك قصرت ؟ فقال: لانك قصرت في الطعام.
ثم عمل إبراهيم طعاما كثيرا ودعا الاوزاعي فقال الاوزاعي: أما تخاف أن يكون سرفا ؟ فقال: لا ! إنما السرف ما كان في معصية الله، فأما ما أنفقه الرجل على إخوانه فهو من الدين.
وذكروا أنه حصد مرة بعشرين دينارا، فجلس مرة عند حجام وهو وصاحب له ليحلق رؤوسهم ويحجمهم، فكأنه تبرم بهم واشتغل عنهم بغيرهم، فتأذى صاحبه من ذلك ثم أقبل عليهم الحجام فقال: ماذا تريدون ؟ قال إبراهيم: أريد أن تحلق رأسي وتحجمني، ففعل ذلك فأعطاه إبراهيم العشرين دينارا، وقال: أردت أن لا تحقر بعدها فقيرا أبدا.
وقال مضاء بن عيسى: ما فاق إبراهيم أصحابه بصوم ولا صلاة ولكن بالصدق والسخاء.
وكان إبراهيم يقول: فروا من الناس كفراركم من الاسد الضاري، ولا تخلفوا عن الجمعة والجماعة.
وكان إذا سافر مع أحد من أصحابه يحدثه إبراهيم، وكان إذا حضر في مجلس فكأنما على رؤوسهم الطير هيبة له وإجلالا.
وربما تسامر هو وسفيان الثوري في الليلة الشاتية إلى الصباح، وكان الثوري يتحرز معه في الكلام.
ورأى رجلا قيل له: هذا قاتل خالك، فذهب إليه فسلم عليه وأهدى له وقال: بلغني أن الرجل لا يبلغ درجة اليقين حتى يأمنه عدوه.
وقال له رجل: طوبى لك أفنيت عمرك في العبادة وتركت الدنيا والزوجات.
فقال: ألك عيال ؟ قال: نعم.
فقال: لروعة الرجل
صاله يعني في بعض الاحيان من الفاقة - أفضل من عبادة كذا وكذا سنة.
ورآه الاوزاعي ببيروت ؟ عنقه حزمة حطب فقال: يا أبا إسحاق إن إخوانك يكفونك هذا.
فقال له: اسكت يا أبا عمرو ! بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة.
وخرج ابن أدهم من بيت المقدس فمر بطريق فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا: أنت عبد ؟ قال: نعم.
قالوا: آبق ؟ قال: نعم.
فسجنوه.
فبلغ أهل بيت المقدس خبره فجاؤوا برمتهم إلى نائب طبرية فقالوا: علام سجنت إبراهيم بن أدهم ؟ قال: ما سجنته.
قالوا: بلى هو في سجنك.
فاستحضره فقال: علام سجنت.
فقال: سل المسلحة، قالوا: أنت عبد ؟ قلت: نعم وأنا عبد الله.
قالوا: آبق ؟ قلت: نعم وأنا عبد آبق من ذنوبي.
فخلى سبيله.
وذكروا أنه مر مع رفقة فإذا الاسد على الطريق فتقدم إليه إبراهيم بن أدهم فقال له: يا قسورة إن كنت أمرت فينا بشئ فامض لما أمرت به وإلا فعودك على بدئك.
قالوا: فولى السبع ذاهبا يضرب بذنبه، ثم أقبل علينا إبراهيم فقال: قولوا: اللهم راعنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا

يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا الله، يا الله، يا الله.
قال خلف بن تميم: فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لي لص ولا غيره.
وقد روي لهذا شواهد من وجوه أخر.
وروي أنه كان يصلي ذات ليلة فجاءه أسد ثلاثة فتقدم إليه أحدهم فشم ثيابه ثم ذهب فربض قريبا منه، وجاء الثاني ففعل مثل ذلك، وجاء الثالث ففعل مثل ذلك، واستمر إبراهيم في صلاته، فلما كان وقت السحر قال لهم: إن كنتم أمرتم بشئ فهلموا، وإلا فانصرفوا، فانصرفوا.
وصعد مرة جبلا بمكة ومعه جماعة فقال لهم: لو أن وليا من أولياء الله قال لجبل زل لزال.
فتحرك الجبل تحته فوكزه برجله وقال: اسكن فإنما ضربتت مثلا لاصحابي.
وكان الجبل أبا قبيس.
وركب مرة سفينة فأخذهم الموج من كل مكان فلف إبراهيم رأسه بكسائه واضطجع وعج أصحاب السفينة بالضجيج والدعاء، وأيقظوه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه من الشدة ؟ فقال: ليس هذه شدة، وإنما الشدة الحاجة إلى الناس.
ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك.
فصار
البحر كأنه قدح زيت.
وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله دينارين وألح عليه، فقال له: اذهب معي حتى أعطيك ديناريك، فأتى به إلى جزيرة في البحر فتوضأ إبراهيم وصلى ركعتين ودعا وإذا ما حوله قد ملئ دنانير، فقال له: خذ حقك ولا تزد ولا تذكر هذا لاحد.
وقال حذيفة المرعشي: أويت أنا وإبراهيم إلى مسجد خراب بالكوفة، وكان قد مضى علينا أيام لم نأكل فيها شيئا، فقال لي: كأنك جائع.
قلت: نعم.
فأخذ رقعة فكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود إليه بكل حال، المشار إليه بكل معنى، أنا حامد أنا ذاكر أنا شاكر * أنا جائع أنا حاسر أنا عاري هي ستة وأنا الضمين لنصفها * فكن الضمين لنصفها يا باري مدحي لغيرك وهج نار خضتها * فأجز عبيدك من دخول النار ثم قال لي: اخرج بهذه الرقعة ولا تعلق قلبك بغير الله سبحانه وتعالى، وادفع هذه الرقعة لاول رجل تلقاه.
فخرجت فإذا رجل على بغلة فدفعتها إليه فلما قرأها بكى ودفع إلي ستمائة دينار وانصرف، فسألت رجلا من هذا الذي على البغلة ؟ فقالوا: هو رجل نصراني.
فجئت إبراهيم فأخبرته فقال: الآن يجئ مسلم.
فما كان غير قريب حتى جاء فأكب على رأس ابراهيم وأسلم.
وكان إبراهيم يقول: دارنا أمامنا وحياتنا بعد وفاتنا.
فإما إلى الجنة وإما إلى النار.
مثل لبصرك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك وانظر كيف تكون حينئذ، ومثل له هول المضجع ومسألة منكر ونكير وانظر كيف تكون.
ومثل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب، وانظر كيف تكون.
ثم صرخ صرخة خر مغشيا عليه.
ونظر إلى رجل من أصحابه يضحك فقال له: لا تطمع فيما لا يكون، ولا تنس ما يكون.
فقيل له: كيف هذا يا أبا إسحاق ؟ فقال: لا تطمع في البقاء والموت يطلبك، فكيف يضحك من يموت ولا يدري أين يذهب به إلى جنة أم إلى نار ؟ ولا تنس ما

يكون الموت يأتيك صباحا أو مساء.
ثم قال: أوه أوه ! ثم خر مغشيا عليه.
وكان يقول: ما لنا نشكو ففرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا.
ثم يقول: ثكلت عبدا أمه أحب الدنيا ونسي ما في
خزائن مولاه وقال: إذا كنت بالليل نائما وبالنهار هائما وفي المعاصي دائما فكيف ترضى من هو بأمورك قائما.
ورآه بعض أصحابه وهو بمسجد بيروت وهو يبكي ويضرب بيديه على رأسه، فقال: ما يبكيك ؟ فقال: ذكرت يوما تتقلب فيه القلوب والابصار.
وقال: إنك كلما أمعنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية.
وكتب إلى الثوري: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه.
وسأله بعض الولاة من أين معيشتك ؟ فأنشأ يقول: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا * فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الابيات: لما توعد الدنيا به من شرورها * يكون بكاء الطفل ساعة يوضع وإلا فما يبكيه منها وإنها * لاروح مما كان فيه وأوسع إذا أبصر الدنيا استهل كأنما * يرى ما سيلقى من أذاها ويسمع وكان يتمثل أيضا: رأيت الذنوب تميت القلوب * ويورثها الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب * وخير لنفسك عصيانها وما أفسد الدين إلا ملوك * وأحبار سوء ورهبانها وباعوا النفوس فلم يربحوا * ولم يغل بالبيع أثمانها لقد رتع القوم في جيفة * تبين لذي اللب أنتانها وقال: إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكر في ذنبك وتب إلى ربك ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك.
وقال: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، ووعدكم خراب الدنيا
فحصنتموها، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأحببتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها، ومنتكم فانقدتم خاضعين لامانيها تتمرغون في زهراتها وزخارفها، وتتنعمون في لذاتها وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها.
وشكى إليه رجل كثرة عياله فقال: ابعث

إلي منهم من لا زرقه على الله.
فسكت الرجل.
وقال: مررت في بعض جبال فإذا حجر مكتوب عليه بالعربية: كل حي وإن بقي * فمن العيش يستقي فاعمل اليوم واجتهد * واحذر الموت يا شقي قال: فبينا أنا واقف أقرأ وأبكي، وإذا برجل أشعر أغبر عليه مدرعة من شعر فسلم وقال: مم تبكي ؟ فقلت: من هذا.
فأخذ بيدي ومضى غير بعيد فإذا بصخرة عظيمة مثل المحراب فقال اقرأ وابك ولا تقصر.
وقام هو يصلي فإذا في أعلاه نقش بين عربي: لا تبغين جاها وجاهك ساقط * عند المليك وكن لجاهك مصلحا وفي الجانب الآخر نقش بين عربي: من لم يثق بالقضاء والقدر * لاقى هموما كثيرة الضرر وفي الجانب الايسر منه نقش بين عربي: ما أزين التقى وما أقبح الخنا * وكل مأخوذ بما جنا * وعند الله الجزا وفي أسفل المحراب فوق الارض بذراع أو أكثر: إنما الفوز والغنى * في تقى الله والعمل قال: فلما فرغت من القراءة التفت فإذا ليس الرجل هناك، فما أدري انصرف أم حجب عني.
وقال: أثقل الاعمال في الميزان أثقلها على الابدان، ومن وفى العمل وفى له الاجر، ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير.
وقال: كل سلطان لا يكون عادلا فهو واللص بمنزلة واحدة،
وكل عالم لا يكون ورعا فهو والذئب بمنزلة واحدة، وكل من خدم سوى الله فهو والكلب بمنزلة واحدة.
وقال: ما ينبغي لمن ذل الله في طاعته أن يذل لغير الله في مجاعته، فكيف بمن هو يتقلب في نعم الله وكفايته ؟ وقال: أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب.
وقال: كنا إذا رأينا الشاب يتكلم في المجلس أيسنا من خيره.
وقال: جانبوا الناس ولا تنقطعوا عن جمعة ولا جماعة.
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسن بن محمد بن زامين الاسترابادي قال: أنبأ عبد الله بن محمد الحميدي الشيرازي، أنبأ القاضي أحمد بن خرزاد الاهوازي، حدثني علي بن محمد القصوي، حدثني أحمد بن محمد الحلبي، سمعت سريا السقطي يقول: سمعت بشر بن الحارث الحافي يقول: قال إبراهيم بن أدهم: وقفت على راهب فأشرف علي فقلت له: عظني فأنشأ يقول:

خذ عن الناس جانبا * كن بعدوك راهبا إن دهرا أظلني * قد أراني العجائبا قلب الناس كيف شئ * ت تجدهم عقاربا قال بشر فقلت لابراهيم: هذه موعظة الراهب لك، فعظني أنت.
فأنشأ يقول: توحش من الاخوان لا تبغ مونسا * ولا تتخذ خلا ولا تبغ صاحبا وكن سامري الفعل من نسل آدم * وكن أوحديا ما قدرت مجانبا فقد فسد الاخوان والحب والاخا * فلست ترى إلا مذوقا وكاذبا فقلت ولولا أن يقال مدهده * وتنكر حالاتي لقد صرت راهبا قال سري: فقلت لبشر: هذه موعظة إبراهيم لك فعظني أنت، فقال: عليك بالخمول ولزوم بيتك.
فقلت بلغني عن الحسن أنه قال: لولا الليل وملاقاة الاخوان ما باليت متى مت.
فأنشأ بشر يقول: يا من يسر برؤية الاخوان * مهلا أمنت مكايد الشيطان
خلت القلوب من المعاد وذكره * وتشاغلوا بالحرص والخسران صارت مجالس من ترى وحديثهم * في هتك مستور وموت جنان قال الحلبي فقلت لسري: هذه موعظة بشر فعظني أنت.
فقال: عليك بالاخمال فقلت أحب ذاك، فأنشأ يقول: يا من يروم بزعمه إخمالا * إن كان حقا فاستعد خصالا ترك المجالس والتذاكر يا أخي * واجعل خروجك للصلاة خيال بل كن بها حيا كأنك ميت * لا يرتجى منه القريب وصالا قال علي بن محمد القصري: قلت للحلبي هذه موعظة سري لك فعظني أنت.
فقال: يا أخي أحب الاعمال إلى الله ما صعد إليه من قلب زاهد في الدنيا، فازهد في الدنيا يحبك الله.
ثم أنشأ يقول: أنت في دار شتات * فتأهب لشتاتك واجعل الدنيا كيوم * صمته عن شهواتك واجعل الفطر إذا * ما صمته يوم وفاتك قال ابن خرزاد فقلت لعلي: هذه موعظة الحلبي لك فعطني أنت.
فقال لي: احفظ وقتك

واسخ بنفسك لله عز وجل، وانزع قيمة الاشياء من قلبك يصفو لك بذلك سرك ويذكو به ذكرك.
ثم أنشدني: حياتك أنفاس تعد فكلما * مضى نفس منها انتقصت به جزءا فتصبح في نقص وتمسي بمثله * وما لك معقول تحس به رزءا يميتك ما يحييك في كل ساعة * ويحدوك حاد ما يزيد بك الهزءا قال أبو محمد قلت لاحمد: هذه موعظة علي لك فعظني.
فقال: يا أخي عليك بلزوم الطاعة وإياك أن تفارق باب القناعة، وأصلح مثواك، ولا تؤثر هواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، واشتغل بما يعنيك بترك
ما لا يعنيك.
ثم أنشدني: ندمت على ما كان مني ندامة * ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم * ستلقون ربا عادلا ليس يظلم فليس لمغرور بدنياه زاجر * سيندم إن زلت به النعل فاعلموا قال ابن زامين فقلت لابي محمد: هذه موعظة أحمد لك فعظني أنت.
فقال: اعلم رحمك الله أن الله عز وجل ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها، فانظر أن ينزل قلبك، واعلم أن الله سبحانه يقرب من القلوب على حسب ما تقرب منه.
وتقرب منه على حسب ما قرب إليها.
فانظر من القريب من قلبك.
وأنشدني: قلوب رجال في الحجاب نزول * وأرواحهم فيما هناك حلول تروح نعيم الانس في عز قربه * بأفراد توحيد الجليل تحول لهم بفناء القرب من محض بره * عوائد بذل خطبهن جليل قال الخطيب: فقلت لابن زامين: هذه موعظة الحميدي لك فعظني أنت.
فقال: اتق الله وثق به ولا تتهمه فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك وأنشدني: اتخذ الله صاحبا * ودع الناس جانبا جرب الناس كيف شئ * ت تجدهم عقاربا قال أبو الفرج غيث الصوري: فقلت للخطيب: هذه موعظة ابن زامين لك فعظني أنت.
فقال: احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها، فذاك أعضل دائك، واستشرف الخوف من الله تعالى بخلافها، وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها، فإنها الامارة بالسوء والفحشاء والموردة من أطاعها موارد العطب والبلاء، واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق، ولا تتبع الهوى

فيضلك عن سبيل الله.
وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل جنة الخلد قراره ومأواه ثم أنشد لنفسه:
إن كنت تبغي الرشاد محضا * في أمر دنياك والمعاد فخالف النفس في هواها * إن الهوى جامع الفساد قال ابن عساكر: المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة.
وقال غيره: إحدى وستين وقيل سنة ثلاث.
والصحيح ما قاله ابن عساكر والله أعلم.
وذكروا أنه توفي في جزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة مات نحوا من عشرين مرة، وفي كل مرة يجدد الوضوء بعد هذا، وكان به البطن، فلما كانت غشية الموت قال: أوتروا لي قوسي، فأوتروه فقبض عليه فمات وهو قابض عليه يريد الرمي به إلى العدو رحمه الله وأكرم مثواه.
وقد قال أبو سعيد بن الاعرابي: حدثنا محمد بن علي بن يزيد الصائغ قال: سمعت الشافعي يقول: كان سفيان معجبا به: أجاعتهم الدنيا فخافوا ولم يزل * كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما أخو طئ داود منهم ومسعر * ومنهم وهيب والعريب ابن أدهما وفي ابن سعيد قدوة البر والنهى * وفي الوارث الفاروق صدقا مقدما وحسبك منهم بالفضيل مع ابنه * ويوسف إن لم يأل أن يتسلما أولئك أصحابي وأهل مودتي * فصلى عليهم ذو الجلال وسلما فما ضر ذا التقوى نصال أسنة * وما زال ذو التقوى أعز وأكرما وما زالت التقوى تريك على الفتى * إذا محض التقوى من العز ميسما وروى البخاري في كتاب الادب عن إبراهيم بن أدهم وأخرج الترمذي في جامعه حديثا معلقا في المسح على الخفين.
والله سبحانه أعلم.
وفيها توفي أبو سليمان داود بن نصير الطائي الكوفي الفقيه الزاهد، أخذ الفقه عن أبي حنيفة.
قال سفيان بن عيينة: ثم ترك داود الفقه وأقبل على العبادة ودفن كتبه.
قال عبد الله بن المبارك: وهل الامر إلا ما كان عليه داود الطائي.
وقال ابن معين: كان ثقة، وفد على المهدي ببغداد ثم عاد إلى الكوفة.
ذكره الخطيب البغدادي.
وقال: مات في سنة ستين ومائة، وقيل في سنة ست وخمسين ومائة.
وقد ذكر شيخنا الذهبي في تاريخه أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة ثنتين وستين ومائة.
فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة فيها حصر المقنع الزنديق الذي كان قد نبغ بخراسان وقال بالتناسخ، واتبعه على جهالته

وضلالته خلق من الطغام وسفهاء الانام، والسفلة من العوام، فلما كان في هذا العام لجأ إلى قلعة كش فحاصره سعيد الحريثي (1) فألح عليه في الحصار، فلما أحس بالغلبة تحسى سما وسم نساءه فماتوا جميعا، عليهم لعائن الله.
ودخل الجيش الاسلامي قلعته فاحتزوا رأسه وبعثوا به إلى المهدي، وكان المهدي بحلب.
قال ابن خلكان: كان اسم المقنع عطاء، وقيل جكيم، والاول أشهر (2).
وكان أولا قصارا ثم ادعى الربوبية، مع أنه كان أعور قبيح المنظر، وكان يتخذ له وجها من ذهب (3)، وتابعه على جهالته خلق كثير، وكان يرى الناس قمرا يرى من مسيرة شهرين ثم يغيب، فعظم اعتقادهم له ومنعوه بالسلاح، وكان يزعم - لعنة الله وتعالى عما يقولون علوا كبيرا - أن الله ظهر في صورة آدم، ولهذا سجدت له الملائكة، ثم في نوح، ثم في الانبياء واحدا واحدا، ثم تحول إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إليه.
ولما حاصروه المسلمون في قلعته التي كان جددها بناحية كش مما وراء النهر ويقال لها سنام (4)، تحسى هو ونساؤه سما فماتوا واستحوذ المسلمون على حواصله وأمواله.
وفيها جهز المهدي البعوث من خراسان وغيرها من البلاد لغزو الروم، وأمر على الجميع ولده هارون الرشيد، وخرج من بغداد مشيعا له، فسار معه مراحل (5) واستخلف على بغداد ولده موسى الهادي، وكان في هذا الجيش الحسن (6) بن قحطبة والربيع الحاجب وخالد بن برمك - وهو مثل الوزير للرشيد ولي العهد - ويحيى بن خالد - وهو كاتبه وإليه النفقات - وما زال المهدي مع ولده مشيعا له حتى بلغ الرشيد إلى بلاد الروم، وارتاد هناك المدينة المسماة بالمهدية في بلاد الروم، ثم رجع إلى الشام وزار بيت المقدس، فسار الرشيد إلى بلاد الروم في جحافل عظيمة، وفتح الله عليهم فتوحات كثيرة، وغنموا أموالا جزيلة جدا، وكان لخالد بن برمك في ذلك أثر جميل لم يكن لغيره، وبعثوا بالبشارة مع سليمان بن برمك إلى المهدي فأكرمه المهدي وأجزل عطاءه.
وفيها عزل المهدي عمه عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وولى عليها زفر بن عاصم الهلالي، ثم عزله وولى عبد الله بن صالح بن علي.
وفيها ولى المهدي ولده هارون الرشيد بلاد المغرب وأذربيجان وأرمينية، وجعل على رسائله يحيى بن خالد بن برمك، وولى وعزل جماعة من النواب.
وحج بالناس فيها علي بن المهدي.
__________
(1) في الطبري 9 / 342: الحرشي.
(2) في الاثار الباقية ص 211: اسمه هاشم بن حكيم.
(3) قيل له المقنع لانه كان لا يسفر عن وجهه بل اتخذ وجها من ذهب تقنع به فقد كان مشوه الخلق.
(4) في المشترك 254 لياقوت: وسنام أربعة مواضع والموضع الرابع منها سنام قلعة عمرها المقنع الخارجي بما وراء النهر.
قال ابن خلكان: انها من رستاق كش.
(5) عسكر بالبردان (انظر الطبري 9 / 342 - ابن الاثير 6 / 60).
(6) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصل: الحسين وهو تحريف.

وفيها توفي إبراهيم بن طهمان، وحريز بن عثمان الحمصي الرحبي، وموسى بن علي اللخمي المصري وشعيب بن أبي حمزة، وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح، وإليه ينسب قصر عيسى، ونهر عيسى ببغداد، قال يحيى بن معين: كان له مذهب جميل، وكان معتزلا للسلطان.
توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة.
وهمام بن يحيى، ويحيى بن أبي أيوب المصري، وعبيدة بنت أبي كلاب العابدة، بكت من خشية الله أربعين سنة حتى عميت.
وكانت تقول: أشتهي الموت فإني أخشى أن أجني على نفسي جناية تكون سبب هلاكي يوم القيامة.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة فيها غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بلاد الروم، فأقبل إليه ميخائيل البطريق في نحو من تسعين ألفا، فيهم طازاذ الارمني البطريق ففشل عنه عبد الكبير ومنع المسلمين من القتال وانصرف راجعا - فأراد المهدي ضرب عنقه فكلم فيه فحبسه في المطبق.
وفي يوم
الاربعاء في أواخر ذي القعدة أسس المهدي قصرا من لبن بعيسا باذ، ثم عزم على الذهاب إلى الحج فأصابه حمى فرجع من أثناء الطريق، فعطش الناس في الرجعة حتى كاد بعضهم يهلك، فغضب المهدي على يقطين صاحب المصانع، وبعث من حيث رجع المهلب بن صالح بن أبي جعفر ليحج بالناس فحج بهم عامئذ.
وفيها توفي شيبان بن عبد الرحمن النحوي، وعبد العزيز (1) بن أبي سلمة الماجشون، ومبارك بن فضالة صاحب الحسن البصري.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة فيها جهز المهدي ولده الرشيد لغزو الصائفة، وأنفذ معه من الجيوش خمسة وتسعين ألفا وسبعمائة وثلاثة وتسعين رجلا، وكان معه من النفقة مائة ألف دينار، وأربعة (2) وتسعون ألف دينار، وأربعمائة وخمسون دينارا، ومن الفضة (3) إحدى وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف، وأربعة عشر ألفا وثمانمائة درهم.
قال ابن جرير.
فبلغ بجنوده خليج البحر الذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغسطة امرأة أليون، ومعها ابنها في حجرها من الملك الذي توفي عنها، فطلبت الصلح من الرشيد على أن تدفع له سبعين ألف دينار في كل سنة، فقبل ذلك منها، وذلك بعد ما قتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسين ألفا وأسر من الذراري خمسة آلاف رأس وستمائة وأربعة (4) وأربعين رأسا،
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 65: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون.
(2) في ابن الاثير: وثلاثة.
(3) في الطبري وابن الاثير: ومن الورق.
(4) في الطبري وابن الاثير: وثلاثة.

وقتل من الاسرى ألفي قتيل صبرا، وغنم من الدواب بأدواتها عشرين ألف فرس، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس.
وبيع البرذون بدرهم والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم وعشرون سيفا بدرهم.
فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة: أطفت بقسطنطينية الروم مسندا * إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها
وما رمتها حتى أتتك ملوكها * بجزيتها والحرب تغلي قدورها وحج بالناس صالح بن أبي جعفر المنصور، وفيها توفي سليمان بن المغيرة، وعبد الله بن العلاء بن دبر، وعبد الرحمن بن نائب بن ثوبان.
ووهب بن خالد.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائة في المحرم منها قدم الرشيد من بلاد الروم فدخل بغداد في أبهة عظيمة ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره.
وفيها أخذ المهدي البيعة لولده هارون من بعد موسى الهادي، ولقب بالرشيد.
وفيها سخط المهدي على يعقوب بن داود وكان قد حظي عنده حتى استوزره وارتفعت منزلته في الوزارة حتى فوض إليه جميع أمر الخلافة، وفي ذلك يقول بشار بن برد: بني أمية هبوا طال نومكم * إن الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا * خليفة الله بين الخمر (1) والعود فلم تزل السعاة والوشاة بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه، وكلما سعوا به إليه دخل إليه فأصلح أمره معه، حتى وقع من أمره ما سأذكره، وهو أنه دخل ذات يوم على المهدي في مجلس عظيم قد فرش بأنواع الفرش وألوان الحرير، وحول ذلك المكان أصحان مزهرة بأنواع الازاهير، فقال: يا يعقوب كيف رأيت مجلسنا هذا ؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما رأيت أحسن منه.
فقال: هو لك بما فيه، وهذه الجارية ليتم بها سرورك، ولي إليك حاجة أحب أن تقضيها.
قلت: وما هي يا أمير المؤمنين ؟ فقال: حتى تقول نعم.
فقلت: نعم ! وعلى السمع والطاعة.
فقال ! الله ؟ فقلت: ألله.
قال: وحياة رأسي قلت وحياة رأسك.
فقال: ضع يدك على رأسي وقل ذلك، ففعلت.
فقال: إن ههنا رجلا من العلويين أحب أن تكفينيه، والظاهر أن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.
فقلت: نعم، فقال: وعجل علي، ثم أمر بتحويل ما في ذلك المجلس إلى منزلي وأمر لي بمائة ألف درهم وتلك الجارية، فما فرحت بشئ فرحي بها.
فلما صارت
__________
(1) في الطبري 10 / 4: وابن الاثير 6 / 70: بين الدف والعود، وفي الفخري ص 185: بين الناي والعود وفي الاغاني 3 / 243: بين الزق.

بمنزلي حجبتها في جانب الدار في خدر، فأمرت بذلك العلوي فجئ به فجلس إلي فتكلم، فما رأيت أعقل منه ولا أفهم.
ثم قال لي: يا يعقوب تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت: لا والله ولكن اذهب حيث شئت وأين شئت.
فقال: إني أختار بلاد كذا وكذا.
فقلت: أذهب كيف شئت، ولا يظهرن عليك المهدي فتهلك وأهلك.
فخرج من عندي وجهزت معه رجلين يسفرانه ويوصلانه بعض البلاد، ولم أشعر بأن الجارية قد أحاطت علما بما جرى، وأنها كالجاسوس علي، فبعثت بخامدها إلى المهدي فأعلمته بما جرى، فبعث المهدي إلى تلك الطريق فردوا ذلك العلوي فحبسه عنده في بيت من دار الخلافة، وأرسل إلي من اليوم الثاني فذهب إليه ولم أشعر من أمر العلوي بشئ، فلما دخلت عليه قال: ما فعل العلوي ؟ قلت: مات.
قال: ألله ! قلت ألله.
قال: فضع يدل على رأسي واحلف بحياته، ففعلت.
فقال يا غلام أخرج ما في (1) هذا البيت، فخرج العلوي فأسقط في يدي، فقال المهدي: دمك لي حلال.
ثم أمر به فألقي في بئر في المطبق.
قال يعقوب: فكنت في مكان لا أسمع فيه ولا أبصر، فذهب بصري وطال شعري حتى ثرث مثل البهائم، ثم مضت علي مدد متطاولة، فبينما أنا ذات يوم إذ دعيت فخرجت من البئر فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين.
فسلمت وأنا أظنه المهدي، فلما ذكرت المهدي قال: رحم الله المهدي.
فقلت: الهادي ؟ فقال: رحم الله الهادي.
فقلت: الرشيد ؟ قال: نعم.
فقلت: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما حل بي من الضعف والعلة، فإن رأيت أن تطلقني.
فقال: أين تريد ؟ قلت: مكة.
فقال: اذهب راشدا، فسار إلى مكة فما لبث بها إلا قليلا حتى مات رحمه الله تعالى.
وقد كان يعقوب هذا يعظ المهدي في تعاطيه شرب النبيذ بين يديه، وكثرة سماع الغناء فكان يلومه على ذلك ويقول: ما على هذا استوزرتني، ولا على هذا صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الحرام يشرب الخمر ويغني بين يديك ؟ فيقول له المهدي: فقد سمع عبد الله بن جعفر، فقال له يعقوب: إن ذلك لم يكن له من حسناته، ولو كان هذا قربة لكان كلما داوم عليه العبد أفضل.
وفي ذلك يقول بعض الشعراء حثا للمهدي على ذلك:
فدع عنك يعقوب بن داود جانبا * وأقبل على صهباء طيبة النشر وفيها ذهب المهدي إلى قصره المسمى بعيسا باذ - بني له بالآجر بعد القصر الاول الذي بناه باللبن - فسكنه وضرب هناك الدراهم والدنانير.
وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن ولم يفعل أحد هذا قبل هذه السنة.
وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان.
وفيها ولى القضاء أبا يوسف (2) صاحب أبي حنيفة.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد عامل الكوفة.
ولم يكن
__________
(1) في الفخري ص 186: من في هذا البيت.
(2) وهو يعقوب بن ابراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن حبنة الانصاري.

في هذه السنة صائفة للهدنة التي كانت بين الرشيد وبين الروم.
وفيها توفي صدقة بن عبد الله السمين، وأبو الاشهب العطاردي، وأبو بكر النهشلي، وعفير بن معدان.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة فيها وجه المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان في جيش كثيف لم ير مثله، وجعل على رسائله أبان بن صدقة.
وفيها توفي عيسى بن موسى الذي كان ولي العهد من بعد المهدي: مات بالكوفة فأشهد نائبها روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الاعيان.
ثم دفن.
وكان قد امتنع من الصلاة عليه فكتب إليه المهدي يعنفه أشد التعنيف، وأمر بمحاسبته على عمله.
وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل وولاه الربيع بن يونس الحاجب، فاستخلف فيه سعيد بن واقد وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته.
وفيها وقع وباء شديد وسعال كثير ببغداد والبصرة، وأظلمت الدنيا حتى كانت كالليل حتى تعالى النهار، وكان ذلك لليال (1) بقين من ذي الحجة من هذه السنة.
وفيها تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبرا بين يديه، وكان المتولي أمر مزنادقة عمر الكلواذي.
وفيها أمر المهدي بزيادة كثيرة في المسجد الحرام، فدخل في ذلك دور كثيرة، وولى ذلك ليقطين بن موسى الموكل بأمر الحرمين، فلم يزل في عمارة ذلك حتى مات المهدي كما سيأتي.
ولم يكن للناس صائفة للهدنة.
وحج بالناس نائب المدينة إبراهيم بن [ يحيى بن ] (2) محمد
وتوفي بعد فراغه من الحج بأيام.
وولى مكانه إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس.
وممن توفي فيها من الاعيان بشار بن برد أبو معاذ الشاعر مولى عقيل، ولد أعمى، وقال الشعر وهو دون عشر سنين، وله التشبيهات التي لم يهتد إليها البصراء.
وقد أثنى عليه الاصمعي والجاحظ وأبو تمام وأبو عبيدة، وقال له ثلاثة عشر ألف بيت من الشعر.
فلما بلغ المهدي أنه هجاه وشهد عليه قوم أنه زنديق أمر به فضرب حتى مات عن بضع وسبعين سنة.
وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات، فقال: بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي مولاهم، وقد نسبه صاحب الاغاني فأطال نسبه.
وهو بصري قدم بغداد أصله من طخارستان (3)، وكان ضخما عظيم الخلق، وشعره في أول طبقات المولدين، ومن شعره البيت المشهور:
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 76: لثلاث ليال مضين.
(2) من الطبري وابن الاثير ومروج الذهب.
(3) طخارستان: ناحية كبيرة مشتملة على بلدان وراء نهر بلخ على جيحون خرج منها جماعة من العلماء.

هل تعلمين وراء الحب منزلة * تدنى إليك فإن الحب أقصاني وقوله: أنا والله أشتهي سحر عيني * ك وأخشى مصارع العشاق وله: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة * والاذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا لم لا نرى عينيك (1) قلت لهم * الاذن كالعين تروى القلب مكانا وله: إذا بلغ الرأي التشاور (2) فاستعن * بحزم نصيح أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فريش (3) الخوافي قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغل أختها * وما خير سيف لم يؤيد بقائم كان بشار يمدح المهدي حتى وشى إليه الوزير أنه هجاه وقذفه ونسبه إلى شئ من الزندقة، وأنه يقول بتفضيل النار على التراب، وعذر إبليس في السجود لآدم، وأنه أنشد: الارض مظلمة والنار مشرقة * والنار معبودة مذ كانت النار فأمر المهدي بضربه فضرب حتى مات.
ويقال: إنه غرق ثم نقل إلى البصرة في هذه السنة.
وفيها توفي الحسن بن صالح بن حيي، وحماد بن سلمة، والربيع بن مسلم، وسعيد بن عبد العزيز بن مسلم، وعتبة الغلام: وهو عتبة بن أبان بن صمعة أحد العباد المشهورين البكائين المذكورين، كان يأكل من عمل يده في الخوص، ويصوم الدهر ويفطر على الخبز والملح.
والقاسم الحذاء، وأبو هلال محمد بن سليم، ومحمد بن طلحة، وأبو حمزة اليشكري محمد بن ميمون.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة فيها في رمضان منها نقضت الروم ما بينهم وبين المسلمين من الصلح الذي عقده هارون الرشيد عن أمر أبيه المهدي، ولم يستمروا على الصلح إلا ثنتين وثلاثين شهرا، فبعث نائب الجزيرة خيلا إلى
__________
(1) في وفيات الاعيان 1 / 272: قالوا بمن لا ترى تهذي...* الاذن كالعين توفي...(2) في وفيات الاعيان، والاغاني 3 / 157: المشورة...* برأي (3) في الاغاني: فإن.

الروم فقتلوا وأسروا وغنموا وسلموا.
وفيها اتخذ المهدي دواوين الازمة (1) ولم يكن بنو أمية يعرفون ذلك.
وفيها حج بالناس علي بن محمد المهدي الذي يقال له ابن ريطة.
وفيها توفي الحسن بن زيد (2) بن حسن بن علي [ بن علي ] (3) بن أبي طالب، ولاه المنصور المدينة خمس سنين، ثم غضب عليه فضربه وحبسه وأخذ جميع ماله.
وحماد عجرد.
كان ظريفا ماجنا شاعرا، وكان ممن يعاشر الوليد بن
يزيد ويهاجي بشار بن برد.
وقدم على المهدي ونزل الكوفة واتهم بالزندقة.
قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: ثلاثة حمادون بالكوفة يرمون بالزندقة حماد الرواية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان النحوي.
وكانوا يتشاعرون ويتماجنون.
وخارجة بن مصعب، وعبد الله بن الحسن بن الحصين بن أبي الحسن البصري، قاضي البصرة بعد سوار.
سمع خالدا الحذاء وداود بن أبي هند، وسعيدا الجريري.
وروى عنه ابن مهدي.
وكان ثقة فقيها له اختيارات تعزى إليه غريبة في الاصول والفروع، وقد سئل عن مسألة فأخطأ في الجواب فقال له قائل: الحكم فيها كذا وكذا.
فأطرق ساعة ثم قال: إذا أرجع وأنا صاغر، لان أكون ذنبا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسا في الباطل.
توفي في ذي القعدة من هذه السنة، وقيل بعد ذلك بعشر سنين فالله أعلم.
غوث بن سليمان بن زياد بن ربيعة أبو يحيى الجرمي، قاضي مصر، كان من خيار الحكام، ولي الديار المصرية ثلاث مرات في أيام المنصور والمهدي.
وفليح بن سليمان، وقيس بن الربيع في قول، ومحمد بن عبد الله بن علاثة بن علقمة بن مالك، أبو اليسر العقيلي، قاضي الجانب الشرقي من بغداد للمهدي، هو وعافية بن يزيد.
وكان يقال لابن علاثة قاضي الجن، لانه كانت بئر يصاب من أخذ منها شيئا فقال: أيها الجن ! إنا حكمنا أن لكم الليل ولنا النهار.
فكان من أخذ منها شيئا في النهار لم يصبه شئ.
قال ابن معين: كان ثقة.
وقال البخاري: في حفظه شئ.
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة فيها في المحرم منها توفي المهدي بن المنصور بمكان يقال له ما سبذان، بالحمى، وقيل مسموما وقيل عضه فرس فمات.
وهذه ترجمته هو محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المهدي، أمير المؤمنين
__________
(1) كان ديوان الازمة - واحدها الزمام - من أهم دواوين الدولة - ويشبه ديوان المحاسبة اليوم - وكانت مهنة صاحب هذا الديوان جمع ضرائب بلاد العراق أغنى أقاليم الدولة العباسية وتقديم حساب الضرائب في الاقاليم الاخرى.
ومن اختصاصاته أيضا جمع الضرائب النوعية المسماة بالمعادن وكانت تجمع لرجل يضبطها بزمام يكون له على كل
ديوان - وقد جمعها عمر بن بزيع - فيتخذ دواوين الازمة ويولي على كل منها رجلا.
(2) في نسخ المطبوعة: يزيد.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.

وإنما لقب بالمهدي رجاء أن يكون الموعود به في الاحاديث فلم يكن به، وإن اشتركا في الاسم فقد افترقا في الفعل، ذاك يأتي في آخر الزمان عند فساد الدنيا فيملا الارض عدلا كما ملئت جورا وظلما.
وقد قيل إن في أيامه ينزل عيسى بن مريم بدمشق كما سيأتي ذلك في أحاديث الفتن والملاحم.
وقد جاء في حديث من طريق عثمان بن عفان: أن المهدي من بني العباس، وجاء موقوفا على ابن عباس وكعب الاحبار ولا يصح، وبتقدير صحة ذلك لا يلزم أن يكون على التعيين، وقد ورد في حديث آخر أن المهدي من ولد فاطمة فهو يعارض هذا والله أعلم.
وأم المهدي بن المنصور أم موسى بنت منصور بن عبد الله الحميري.
روى عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ".
رواه عنه يحيى بن حمزة النهشلي قاضي دمشق، وذكر أنه صلى خلف المهدي حين قدم دمشق فجهر في السورتين بالبسملة، وأسند ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه غير واحد عن يحيى بن حمزة، ورواه المهدي عن المبارك بن فضالة، ورواه عنه أيضا جعفر بن سليمان الضبعي، ومحمد بن عبد الله الرقاشي، وأبو سفيان سعيد بن يحيى بن مهدي.
وكان مولد المهدي في سنة ست أو سبع وعشرين ومائة، أو في سنة إحدى وعشرين ومائة ولي الخلافة بعد موت أبيه في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وعمره إذ ذاك ثلاث وثلاثون سنة، ولد بالحميمة من أرض البلقاء، وتوفي في المحرم من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائة عن ثلاث أو ثمان وأربعين سنة، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وبعض شهر، وكان أسمر طويلا جعد الشعر، على إحدى عينيه نكتة بيضاء، قيل على عينه اليمنى، وقيل اليسرى.
قال الربيع الحاجب: رأيت المهدي يصلي في ليلة مقمرة في بهو له عليه ثياب حسنة، فما أدري هو أحسن أم القمر، أم بهوه، أم ثيابه.
فقرأ (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم) [ محمد: 22 ] الآية.
ثم أمرني فأحضرت رجلا من أقاربه كما مسجونا فأطلقه (1).
ولما جاء خبر موت أبيه بمكة كما تقدم، كتم الامر يومين ثم نودي في الناس يوم الخميس الصلاة جامعة، فقام فيهم خطيبا فأعلمهم موت أبيه وقال: إن أمير المؤمنين دعي فأجاب فعند الله أحتسب أمير المؤمنين وأستعينه على خلافة المسلمين.
ثم بايعه الناس بالخلافة يومئذ.
وقد عزاه أبو دلامة وهنأه في قصيدة له يقول فيها: عيناي واحدة ترى مسرورة * بأميرها جذلا وأخرى تذرف تبكي وتضحك تارة ويسوءها * ما أنكرت ويسرها ما تعرف فيسوءها موت الخليفة محرما * ويسرها أن قام هذا الارأف ما إن رأيت كما رأيت ولا أرى * شعرا أرجله وآخر ينتف هلك الخليفة يال أمة أحمد * وأتاكم من بعده من يخلف أهدى لهذا الله فضل خلافة * ولذاك جنات النعيم تزخرف
__________
(1) وهو موسى بن جعفر - انظر الطبري 10 / 15 وابن الاثير 6 / 85.

وقد قال المهدي يوما في خطبة: أيها الناس أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنكم العافية، وتحمدوا العاقبة، واخفضوا جناح الطاعة لمن ينشر معدلته فيكم، ويطوي ثوب الاصر عنكم.
وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة من حيث أراه الله، مقدما ذلك على فعل من تقدمه، والله لاعفين عمري من عقوبتكم، ولاحملن نفسي على الاحسان إليكم.
قال: فأشرقت وجوه الناس من حسن كلامه.
ثم استخرج حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تحد ولا توصف كثرة، ففرقها في الناس، ولم يعط أهله ومواليه منها شيئا، بل أجرى لهم أرزاقا بحسب كفايتهم من بيت المال، لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الاعطيات.
وقد كان أبوه حريصا على توفير بيت المال، وإنما كان ينفق في السنة ألفي درهم من مال السراة.
وأمر المهدي ببناء مسجد الرصافة وعمل خندق وسور حولها، وبني مدنا ذكرناها فيما تقدم.
وذكر له عن شريك بن عبد الله القاضي أنه لا يرى الصلاة خلفه، فأحضره فتكلم معه ثم قال
له المهدي في جملة كلامه: يا بن الزانية ! فقال له شريك: مه مه يا أمير المؤمنين فلقد كانت صوامة قوامة.
فقال له.
يا زنديق لاقتلنك.
فضحك شريك، فقال: يا أمير المؤمنين إن للزنادقة علامات وذكروا أنه هاجت ريح شديدة، فدخل المهدي بيتا في داره فألزق خده بالتراب وقال: اللهم إن كنت أنا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك، اللهم لا تشمت بي الاعداء من أهل الاديان.
فلم يزل كذلك حتى انجلت.
ودخل عليه رجل يوما ومعه نعل فقال: هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك.
فقال: هاتها، فناوله إياها، فقبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة آلاف درهم.
فلما انصرف الرجل قال المهدي: والله إني لاعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير هذه النعل، فضلا عن أن يلبسها، ولكن لو رددته لذهب يقول للناس: أهديت إليه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها علي، فتصدقه الناس، لان العامة تميل إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي وإن كان ظالما، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم، ورأينا هذا أرجح وأصلح.
واشتهر عنه أنه كان يحب اللعب بالحمام والسباق بينها، فدخل عليه جماعة من المحدثين فيهم عتاب بن إبراهيم فحدثه بحديث أبي هريرة: " لا سبق إلا في خف أو نعل أو حافر ".
وزاد في الحديث " أو جناح " فأمر له بعشرة آلاف.
ولما خرج قال: والله إني لاعلم أن عتابا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالحمام فذبح ولم يذكر عتابا بعدها.
وقال الواقدي: دخلت على المهدي يوما فحدثته بأحاديث فكتبها عني ثم قام فدخل بيوت نسائه ثم خرج وهو ممتلئ غيظا فقلت: مالك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: دخلت على الخيزران فقامت إلي ومزقت ثوبي وقالت: ما رأيت منك خيرا، وإني والله يا واقدي إنما اشتريتها من نخاس، وقد نالت عندي ما نالت، وقد بايعت لو لديها بأمرة المؤمنين من بعدي.
فقلت: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام ".
وقال: " خيركم خيركم

لاهله وأنا خيركم لاهله، وقد خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته " (1).
وحدثته في هذا الباب بكلام حضرني.
فأمر لي بألفي دينار، فلما وافيت المنزل إذا رسول الخيزران قد لحقني بألفي دينار إلا عشرة دنانير، وإذا معه أثواب أخر، وبعثت تشكرني وتثني علي معروفا.
وذكروا أن المهدي كان قد أهدر دم رجل من أهل الكوفة وجعل لمن جاء به مائة ألف، فدخل الرجل بغداد متنكرا فلقيه رجل فأخذ بمجامع ثوبه ونادى: هذا طلبة أمير المؤمنين.
وجعل الرجل يريد أن ينفلت منه فلا يقدر، فبينا هما، يتجاذبان وقد اجتمع الناس عليهما، إذ مر أمير في موكبه - وهو معن بن زائدة (2) - فقال الرجل ! يا أبا الوليد خائف مستجير.
فقال معن: ويلك مالك وله ؟ فقال هذا طلبة أمير المؤمنين، جعل لمن جاء به مائة ألف.
قال معن: أما علمت أني قد أجرته ؟ أرسله من يدك.
ثم أمر بعض غلمانه فترجل وأركبه وذهب به إلى منزله، وانطلق ذلك الرجل إلى باب الخليفة وأنهى إليهم الخبر، فبلغ المهدي فأرسل إلى معن فدخل عليه فسلم فلم يرد عليه السلام وقال: يا معن أبلغ من أمرك أن تجير علي ؟ قال: نعم، قال: ونعم أيضا ! قال: نعم ! قد قتلت في دولتكم أربعة آلاف مصل فلا يجار لي رجل واحد ؟ فأطرق المهدي ثم رفع رأسه إليه وقال: قد أجرنا من أجرت يا معن.
فقال: يا أمير المؤمنين إن الرجل ضعيف، فأمر له بثلاثين ألفا.
فقال: إن جريمته عظيمة وإن جوائز الخلفاء على قدر جرائم الرعية.
فأمر له بمائة ألف، فحملت بين يدي معن إلى ذلك الرجل، فقال له معن: خذ المال وادع لامير المؤمنين وأصلح نيتك في المستقبل.
وقدم المهدي مرة البصرة فخرج ليصلي بالناس فجاء أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين مر هؤلاء فلينتظروني حتى أتوضأ - يعني المؤذنين - فأمرهم بانتظاره، ووقف المهدي في المحراب لم يكبر حتى قيل له هذا الاعرابي قد جاء.
فكبر، فتعجب الناس من سماحة أخلاقه.
وقدم أعرابي ومعه كتاب مختوم فجعل يقول: هذا كتاب أمير المؤمنين إلي، أين الرجل الذي يقال له الربيع الحاجب ؟ فأخذ الكتاب وجاء به إلى الخليفة وأوقف الاعرابي وفتح الكتاب فإذا هو قطعة أديم فيها كتابة ضعيفة، والاعرابي يزعم أن هذا خط الخليفة، فتبسم المهدي وقال: صدق الاعرابي، هذا خطي، إني خرجت يوما إلى الصيد فضعت عن الجيش وأقبل الليل فتعوذت بتعويذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع لي نار من بعيد فقصدتها فإذا هذا الشيخ وامرأته في خباء يوقدان نارا، فسلمت عليهما فردا السلام وفرش لي كساء وسقاني مذقة من لبن مشوب بماء، فما شربت شيئا إلا وهي أطيب منه، ونمت نومة على تلك العباءة ما أذكر أني نمت أحلى منها.
فقام إلى شويهة له فذبحها فسمعت امرأته تقول له: عمدت إلى مكسبك ومعيشة أولادك
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في النكاح (50) والدارمي في النكاح (55).
(2) تقدم أن معن بن زائدة قد قتله الخوارج بسجستان سنة 152، وقيل سنة إحدى وخمسين ومائة إن صح وفاته فيكون اقحام اسمه سهوا من الناسخ، فابن خلكان ذكر وفاته سنة اثنتين وخمسين ومائة أيضا وسيذكره المؤلف فيمن توفي من الاعيان - انظر حواديث سنة 182 ه.

فذبحتها، هلكت نفسك وعيالك.
فما التفت إليها، واستيقظت فاشتويت من لحم تلك الشويهة وقلت له: أعندك شئ أكتب لك فيه كتابا ؟ فأتاني بهذه القطعة فكتبت له بعود من ذلك الرماد خمسمائة ألف، وإنما أردت خمسين ألفا، والله لانفذنها له كلها ولو لم يكن في بيت المال سواها.
فأمر له بخمسمائة ألف فقبضها الاعرابي واستمر مقيما في ذلك الموضع في طريق الحاج من ناحية الانبار، فجعل يقري الضيف ومن مر به من الناس، فعرف منزله بمنزل مضيف أمير المؤمنين المهدي.
وعن سوار - صاحب رحبة سوار - قال: انصرفت يوما من عند المهدي فجئت منزلي فوضع لي الغداء فلم تقبل نفسي عليه، فدخلت خلوتي لانام في القائلة فلم يأخذني نوم، فاستدعيت بعض حظاياي لا تلهى بها فلم تنبسط نفسي إليها، فنهضت فخرجت من المنزل وركبت بغلتي فما جاوزت الدار إلا قليلا حتى لقيني رجل ومعه ألفا درهم، فقلت: من أين هذه ؟ فقال: من ملك الجديد.
فاستصحبته معي وسرت في أزقة بغداد لا تشاغل عما أنا فيه من الضجر، فحانت صلاة العصر عند مسجد في بعض الحارات، فنزلت لاصلي فيه، فلما قضيت الصلاة إذا برجل أعمى قد أخذ بثيابي فقال: إن لي إليك حاجة، فقلت: وما حاجتك ؟ فقال: إني رجل ضرير ولكنني لما شممت رائحة طيبك ظننت أنك من أهل النعمة والثروة، فأحببت أن أفضي إليك بحاجتي.
فقلت: وما هي ؟ فقال: إن هذا القصر الذي تجاه المسجد كان لابي فسافر منه إلى خراسان فباعه وأخذني معه وأنا صغير، فافترقنا هناك وأصابني أنا الضرر، فرجعنا إلى بغداد بعد أن مات أبي، فجئت إلى صاحب هذا القصر أطلب منه شيئا أتبلغ به لعلي أجتمع بسوار، فإنه كان صاحبا لابي، فلعله أن يكون عنده سعة يجود منها علي.
فقلت: ومن أبوك ؟ فذكر رجلا كان أصحب الناس إلي، فقلت: إني أنا سوار صاحب
أبيك، وقد منعني الله يومك هذا النوم والقرار والاكل والراحة حتى أخرجني من منزلي لاجتمع بك، وأجلسني بين يديك، وأمرت وكيلي فدفع له الالفي الدرهم التي معه، وقلت له: إذا كان الغد فأت منزلي في مكان كذا وكذا.
وركبت فجئت دار الخلافة وقلت: ما أتحف المهدي الليلة في السمر بأغرب من هذا.
فلما قصصت عليه القصة تعجب من ذلك جدا وأمر لذلك الاعمى بألفي دينار، وقال لي: هل عليك دين ؟ قلت: نعم ! قال: كم ؟ قلت: خمسون ألف دينار.
فسكت وحادثني ساعة ثم لما قمت من بين يديه فوصلت إلى المنزل إذا الحمالون قد سبقوني بخمسين ألف دينار وألفي دينار للاعمي، فانتظرت الاعمى أن يجئ في ذلك اليوم فتأخر فلما أمسيت عدت إلى المهدي فقال: قد فكرت في أمرك فوجدتك إذا قضيت دينك لم يبق معك شئ، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى.
فلما كان اليوم الثالث جاءني الاعمى فقلت: قد رزقني الله بسببك خيرا كثيرا، ودفعت له الالفي الدينار التي من عند الخليفة وزدته ألفي دينار من عندي أيضا.
ووقفت امرأة للمهدي فقالت: يا عصبة رسول الله اقض حاجتي.
فقال المهدي: ما سمعتها من أحد غيرها، اقضوا حاجتها واعطوها عشرة آلاف درهم.
ودخل ابن الخياط على المهدي فامتدحه

فأمر له بخمسين ألف درهم ففرقها ابن الخياط وأنشأ يقول: أخذت (1) بكفي كفه أبتغي الغنى * ولم أدر أن الجود من كفه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى * أفدت، وأعداني فبددت (2) ما عندي قال: فبلغ ذلك المهدي فأعطاه بدل كل درهم دينارا.
وبالجملة فإن للمهدي مآثر ومحاسن كثيرة، وقد كانت وفاته بما سبذان، كان قد خرج إليها ليبعث إلى ابنه الهادي ليحضر إليه من جرجان حتى يخلعه من ولاية العهد ويجعله بعد هارون الرشيد، فامتنع الهادي من ذلك، فركب المهدي إليه قاصدا إحضاره، فلما كان بماسبذان مات بها.
وكان قد رأى في النوم وهو بقصره ببغداد - المسمى بقصر السلامة - كأن شيخا وقف بباب القصر، ويقال إنه سمع هاتفا يقول: كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة * وملك إلى قبر عليه جنادله ولم يبق إلا ذكره وحديثه * تنادي عليه معولات حلائله فما عاش بعدها إلا عشرا حتى مات.
وروي أنه لما قال له الهاتف: كأني بهذا القصر قد باد أهله * وقد درست أعلامه ومنازله فأجابه المهدي: كذاك أمور الناس يبلى جديدها * وكل فتى يوما ستبلى فعائله فقال الهاتف: تزود من الدنيا فإنك ميت * وإنك مسؤول فما أنت قائله فأجابه المهدي: أقول بأن الله حق شهدته * وذلك قول ليس تحصى فضائله فقال الهاتف: تزود من الدنيا فإنك راحل * وقد أزف الامر الذي بك نازل فأجابه المهدي: متى ذاك خبرني هديت فإنني * سأفعل ما قد قلت لي وأعاجله فقال الهاتف: تلبث ثلاثا بعد عشرين ليلة * إلى منتهى شهر وما أنت كامله
__________
(1) في وفيات الاعيان 4 / 401: لمست.
(2) في الوفيات: فضيعت.

قالوا: فلم يعش بعدها إلا تسعا وعشرين يوما حتي مات رحمه الله تعالى.
وقد ذكر ابن جرير اختلافا في سبب موته، فقيل إنه ساق خلف ظبي والكلاب بين يديه فدخل الظبي إلى خربة فدخلت الكلاب وراءه وجاء الفرس فحمل بمشواره فدخل الخربة فكسر ظهره،
وكانت وفاته بسبب ذلك.
وقيل إن بعض حظاياه بعثت إلى أخرى لبنا مسموما فمر الرسول بالمهدي فأكل منه فمات.
وقيل بل بعثت إليها بصينية فيها الكمثري وفي أعلاها واحدة كبيرة مسمومة وكان المهدي يعجبه الكمثري، فمرت به الجارية ومعها تلك الصينية فأخذ التي في أعلاها فأكلها فمات من ساعته، فجعلت الحظية تندبه وتقول: واأمير المؤمنيناه، أردت أن يكون لي وحدي فقتلته بيدي.
وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة - أعني سنة تسع وستين ومائة - وله من العمر ثلاث وأربعون سنة على المشهور، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وكسورا، ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة قد ذكرها ابن جرير وابن عساكر.
وفيها توفي عبيد الله بن إياد (1)، ونافع بن عمر الجمحي (2)، ونافع بن أبي نعيم القارئ (3).
خلافة موسى الهادي بن المهدي توفي أبوه في المحرم من أول سنة تسع وستين ومائة وكان ولي العهد من بعد أبيه، وكان أبوه قد عزم قبل موته على تقديم أخيه الرشيد عليه في ولاية العهد، فلم يتفق ذلك حتى مات المهدي بماسبذان.
وكان الهادي إذ ذاك بجرجان، فهم بعض الدولة منهم الربيع الحاجب وطائفة من القواد على تقديم الرشيد عليه والمبايعة له، وكان الرشيد حاضرا ببغداد، عزموا على النفقة على الجند لذلك تنفيذا لما رآه المهدي من ذلك.
فأسرع الهادي السير من جرجان إلى بغداد حين بلغه الخبر، فساق منها إليها في عشرين يوما، فدخل بغداد وقام في الناس خطيبا، وأخذ البيعة منهم فبايعوه، وتغيب الربيع الحاجب فتطلبه الهادي حتى حضر بين يديه، فعفا عنه وأحسن إليه وأقره على حجو بيته، وزاده الوزارة وولايات أخر.
وشرع الهادي في تطلب الزنادقة من الآفاق فقتل منهم طائفة كثيرة، واقتدى في ذلك
__________
(1) من شذرات الذهب 1 / 270 وفي الاصل زياد وهو تحريف.
وهو عبيد الله بن إياد بن لقيط الكوفي كان عريف قومه بني سدوس.
قال في المغني: ثقة.
(2) وهو نافع بن عمر الجمحي القرشي المكي، محدث مكة حافظ ثبت.
قال صاحب المغني: حجة وقال أحمد: ثقة ثبت.
وقال ابن سعد: ثقة فيه شئ.
(3) وهو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي بالولاء المدني أحد القراء السبعة أصله من أصبهان انتهت إليه رئاسة
القراءة في المدينة، أقرأ الناس دهرا طويلا، وكان أسود اللون حالكا صبيح الوجه حسن الخلق.
قال فيه ابن مجاهد: كان عالما بوجوه القراءات متبعا لآثار الائمة الماضين ببلده.
وقال أحمد: كانت تؤخذ عنه القراءة وليس بشئ في الحديث.

أبيه، وقد كان موسى الهادي من أفكه الناس مع أصحابه في الخلوة، فإذا جلس في مقام الخلافة كانوا لا يستطيعون النظر إليه، لما يعلوه من المهابة والرياسة، وكان شابا حسنا وقورا مهيبا.
وفيها - أعني سنة تسع وستين ومائة - خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وذلك أنه أصبح يوما وقد لبس البياض وجلس في المسجد النبوي، وجاء الناس إلى الصلاة فلما رأوه ولوا راجعين، والتف عليه جماعة فبايعوه على الكتاب والسنة والرضى من أهل البيت.
وكان سبب خروجه أن متوليها خرج منها إلى بغداد ليهنئ الخليفة بالولاية ويعزيه في أبيه.
ثم جرت أمور اقتضت خروجه، والتف عليه جماعة وجعلوا مأواهم المسجد النبوي، ومنعوا الناس من الصلاة فيه، ولم يجبه أهل المدينة إلى ما أراده، بل جعلوا يدعون عليه لانتهاكه المسجد، حتى ذكر أنهم كانوا يقذرون في جنبات المسجد، وقد اقتتلوا مع المسودة مرات فقتل من هؤلاء وهؤلاء.
ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحج، فبعث إليه الهادي جيشا فقاتلوه بعد فراغ الناس من الموسم فقتلوه وقتلوا طائفة من أصحابه، وهرب بقيتهم وتفرقوا شذر مذر.
فكان مدة خروجه إلى أن قتل تسعة أشهر وثمانية عشر يوما، وقد كان كريما من أجود الناس.
دخل يوما على المهدي فأطلق له أربعين ألف دينار ففرقها في أهله وأصدقائه من أهل بغداد والكوفة، ثم خرج من الكوفة وما عليه قميص، إنما كان عليه فروة وليس تحتها قميص.
وفيها حج بالناس سليمان بن أبي جعفر عم الخليفة.
وغزا الصائفة من طريق درب الراهب معتوق (1) بن يحيى في جحفل كثيف، وقد أقبلت الروم مع بطريقها فبلغوا الحدث.
وفيها توفي الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب قتل في أيام التشريق (1) كما تقدم.
والربيع بن يونس الحاجب مولى المنصور، وكان حاجبه ووزيره، وقد وزر للمهدي والهادي،
وكان بعضهم يطعن في نسبه.
وقد أورد الخطيب في ترجمته حديثا من طريقه ولكنه منكر، وفي صحته عنه نظر.
وقد ولي الحجوبية بعده ولده الفضل بن الربيع، ولاه إياها الهادي.
ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية وفيها عزم الهادي على خلع أخيه هارون الرشيد من الخلافة وولاية العهد لابنه جعفر بن الهادي فانقاد هارون لذلك ولم يظهر منازعة بل أجاب، واستدعى الهادي جماعة من الامراء فأجابوه إلى ذلك، وأبت ذلك أمهما الخيزران، وكانت تميل إلى ابنها هارون أكثر من موسى، وكان الهادي قد منعها من التصرف في شئ من المملكة لذلك، بعد ما كانت قد استحوذت عليه في أول ولايته، وانقلبت الدول
__________
(1) في الطبري 10 / 32 وابن الاثير 6 / 94: معيوف.
(2) في الطبري وابن الاثير: يوم التروية.
وانظر مروج الذهب 3 / 400.

إلى بابها والامراء إلى جنابها، فحلف الهادي لئن عاد أمير إلى بابها ليضربن عنقه ولا يقبل منه شفاعة، فامتنعت من الكلام في ذلك، وحلفت لا تكلمه أبدا، وانتقلت عنه إلى منزل آخر.
وألح هو على أخيه هارون في الخلع وبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك - وكان من أكابر الامراء الذين هم في صف الرشيد - فقال له: ماذا ترى فيما أريد من خلع هارون وتولية ابني جعفر ؟ فقال له خالد: إني أخشى أن تهون الايمان على الناس، ولكن المصلحة تقتضي أن تجعل جعفرا ولي العهد من بعد هارون، وأيضا فإني أخشى أن لا يجيب أكثر الناس إلى البيعة لجعفر، لانه دون البلوغ، فيتفاقم الامر ويختلف الناس.
فأطرق مليا - وكان ذلك ليلا - ثم أمر بسجنه ثم أطلقه.
وجاء يوما إليه أخوه هارون الرشيد فجلس عن يمينه بعيدا، فجعل الهادي ينظر إليه مليا ثم قال: يا هارون ! تطمع أن تكون وليا للعهد حقا ؟ فقال: إي والله، ولئن كان ذلك لاصلن من قطعت، ولانصفن من ظلمت، ولازوجن بنيك من بناتي.
فقال ذاك الظن بك.
فقام إليه هارون ليقبل يده فحلف الهادي ليجلس معه على السرير فجلس معه، ثم أمر له بألف ألف دينار، وأن يدخل الخزائن فيأخذ منها ما أراد، وإذا جاء الخراج دفع إليه نصفه.
ففعل ذلك كله ورضي الهادي عن الرشيد.
ثم سافر الهادي إلى حديثة الموصل بعد الصلح،
ثم عاد منها فمات بعيساباذ ليلة الجمعة للنصف من ربيع الاول (1)، وقيل لآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر ثلاث وعشرون سنة (2)، وكانت خلافته ستة أشهر (3) وثلاثة وعشرون يوما.
وكان طويلا جميلا، أبيض، بشفته العليا تقلص.
وقد توفي هذه الليلة خليفة وهو الهادي، وولي خليفة وهو الرشيد، وولد خليفة وهو المأمون بن الرشيد.
وقد قالت الخيزران أمهما في أول الليل: إنه بلغني أن يولد خليفة ويموت خليفة ويولى خليفة.
يقال إنها سمعت ذلك من الاوزاعي قبل ذلك بمدة، وقد سرها ذلك جدا.
ويقال: إنها سمت ولدها الهادي خوفا منه على ابنها الرشيد، ولانه كان قد أبعدها وأقصاها وقرب حظيته خالصة وأدناها فالله أعلم.
وهذا ذكر شئ من ترجمة الهادي هو موسى بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبو محمد
__________
(1) في الطبري 10 / 38: ليلة الجمعة لاربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول.
وفي مروج الذهب 3 / 397: لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول.
(2) اختلف في عمره يوم توفي: قيل اربع وعشرين سنة وقيل ثمان وعشرين سنة وقيل ستا وعشرين سنة (انظر الطبري وابن الاثير حوادث سنة 170 - ومروج الذهب - والاخبار الطوال ص 386.
وابن الاعثم 8 / 243).
(3) في مدة خلافته اختلاف انظر مروج الذهب 3 / 397.
ابن الاثير 6 / 101 الطبري 10 / 38 ابن الاعثم 8 / 243 الاخبار الطوال ص 386.

الهادي.
ولي الخلافة في محرم سنة تسع وستين ومائة.
ومات في النصف من ربيع الاول أو الآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر ثلاث، وقيل أربع، وقيل ست وعشرون سنة، والصحيح الاول، ويقال إنه لم يل الخلافة أحد قبله في سنه، وكان حسنا جميلا طويلا، أبيض، وكان قوي البأس يثب على الدابة وعليه درعان، وكان أبوه يسميه ريحانتي.
ذكر عيسى بن دأب قال: كنت يوما عند الهادي إذ جئ بطست فيه رأس جاريتين قد ذبحا وقطعا، لم أر أحسن صورا منهما، ولا مثل شعورهما، وفي
شعورهما اللآلئ والجواهر منضدة، ولا رأيت مثل طيب ريحهما.
فقال لنا الخليفة: أتدرون ما شأن هاتين ؟ قلت: لا.
فقال: إنه ذكر أنه تركب إحداهما الاخرى يفعلان الفاحشة، فأمرت الخادم فرصدهما ثم جاءني فقال: إنهما مجتمعتان، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد وهما على الفاحشة، فأمرت بحز رقابهما.
ثم أمر برفع رؤوسهما من بين يديه ورجع إلى حديثه الاول كأنه لم يصنع شيئا.
وكان شهما خبيرا بالملك كريما، ومن كلامه: ما أصلح الملك بمثل تعجيل العقوبة للجاني، والعفو عن الزلات، ليقل الطمع عن الملك.
وغضب يوما على رجل فاسترضى عنه فرضي، فشرع الرجل يعتذر فقال الهادي: إن الرضا كفاك مؤنة الاعتذار.
وعزى رجلا في ولده فقال له: سرك وهو عدو وفتنة، وساءك وهو صلاة ورحمة.
وروى الزبير بن بكار أن مروان بن أبي حفصة أنشد الهادي قصيدة له منها قوله: تشابه يوما بأسه ونواله * فما أحد يدري لايهما الفضل فقال له الهادي: أيما أحب إليك ؟ ثلاثون ألفا معجلة أو مائة ألف تدور في الدواوين ؟ فقال: يا أمير المؤمنين أو أحسن من ذلك ؟ قال: وما هو ؟ قال: تكون ألفا معجلة ومائة ألف تدور بالدواوين.
فقال الهادي: أو أحسن من ذلك، نعجل الجميع لك.
فأمر له بمائة ألف وثلاثين ألفا معجلة.
قال الخطيب البغدادي: حدثني الازهري ثنا سهل بن أحمد الديباجي، ثنا الصولي، ثنا الغلابي، حدثني محمد بن عبد الرحمن التيمي المكي، حدثني المطلب بن عكاشة المزني قال: قدمنا على أبي محمد الهادي شهودا على رجل منا أنه شتم قريشا وتخطى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس لنا مجلسا أحضر فيه فقهاء أهل زمانه ومن كان بالحضرة على بابه، وأحضر الرجل وأحضرنا فشهدنا عليه بما سمعنا منه.
فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه ثم قال: إني سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس قال: من أهان قريشا أهانه الله، وأنت يا عدو الله لم ترض بأن أذيت قريشا حتى تخطيت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أضربوا عنقه.
فما برحنا حتى قتل.
توفي الهادي من ربيع الاول من هذه السنة، وصلى عليه أخوه هارون، ودفن في قصر بناه وسماه الابيض بعيساباذ من الجانب الشرقي من بغداد، وكان له من الولد تسعة، سبعة ذكور وابنتان، فالذكور جعفر، وعباس، وعبد الله، وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى الاعمى، الذي ولد
بعد وفاته فسمي باسم أبيه.
والبنتان هما أم عيسى التي تزوجها المأمون، وأم العباس تلقب توبة (1).
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 101: نونة.

خلافة هارون الرشيد بن المهدي بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه، وذلك ليلة الجمعة للنصف من ربيع الاول سنة سبعين ومائة وكان عمر الرشيد يومئذ ثنتان وعشرين سنة، فبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك فأخرجه من السجن، وقد كان الهادي عزم تلك الليلة على قتله وقتل هارون الرشيد، وكان الرشيد ابنه من الرضاعة (1)، فولاه حينئذ الوزارة، وولى يوسف بن القاسم بن صبيح كتابة الانشاء.
وكان هو الذي قام خطيبا بين يديه حتى أخذت البيعة له على المنبر بعيساباذ (2)، ويقال إنه لما مات الهادي في الليل جاء يحيى بن خالد بن برمك إلى الرشيد فوجده نائما فقال: قم يا أمير المؤمنين.
فقال له الرشيد: كم تروعني، لو سمعك هذا الرجل لكان ذلك أكبر ذنوبي عنده ؟ فقال: قد مات الرجل.
فجلس هارون فقال: أشر علي في الولايات، فجعل يذكر ولايات الاقاليم لرجال يسميهم فيوليهم الرشيد، فبينما هما كذلك إذ جاء آخر فقال: أبشر يا أمير المؤمنين فقد ولد لك الساعة غلام.
فقال: هو عبد الله وهو المأمون.
ثم أصبح فصلى على أخيه الهادي، ودفنه بعيساباذ، وحلف لا يصلي الظهر إلا ببغداد.
فلما فرغ من الجنازة أمر بضرب عنق أبي عصمة القائد لانه كان مع جعفر بن الهادي، فزاحموا الرشيد على جسر فقال أبو عصمة: اصبر وقف حتى يجوز ولي العهد.
فقال الرشيد: السمع والطاعة للامير.
فجاز جعفر وأبو عصمة ووقف الرشيد مكسورا ذليلا.
فلما ولي أمر بضرب عنق أبي عصمة، ثم سار إلى بغداد.
فلما انتهى إلى جسر بغداد استدعى بالغواصين فقال إني سقط مني ههنا خاتم كان والدي المهدي قد اشتراه لي بمائة ألف، فلما كان من أيام بعث إلى الهادي يطلبه فألقيته إلى الرسول فسقط ههنا.
فغاص الغواصون وراءه فوجدوه فسر به الرشيد سرورا كثيرا.
ولما ولى الرشيد يحيى بن خالد الوزارة قال له: قد فوضت إليك أمر الرعية وخلعت ذلك من عنقي وجعلته في عنقك، فول من رأيت واعزل من رأيت.
ففي ذلك يقول إبراهيم بن الموصلي:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة * فلما ولي هارون أشرق نورها بيمن أمين هارون ذي الندي * فهارون واليها ويحيى وزيرها ثم إن هارون أمر يحيى بن خالد أن لا يقطع أمرا بمشاورة والدته الخيزران.
فكانت هي المشاورة في الامور كلها، فتبرم وتحل وتمضي وتحكم.
وفيها أمر الرشيد بسهم ذوي القربى أن يقسم بين بني هاشم على السواء.
وفيها تتبع الرشيد خلقا من الزنادقة فقتل منهم طائفة كثيرة.
وفيها خرج عليه بعض أهل البيت.
وفيها ولد الامين
__________
(1) كان مولد الفضل بن يحيى قبله بسبعة أيام فجعلت أم الفضل زينب بنت منير ترضع الرشيد بلبان الفضل والخيزران أم الرشيد ترضع الفضل من لبان الرشيد (الطبري - ابن الاثير).
(2) نص خطبته في الطبري 10 / 49.

محمد بن الرشيد ابن زبيدة.
وذلك يوم الجمعة لست (1) عشرة ليلة خلت من شوال من هذه السنة.
وفيها كمل بناء مدينة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس.
وفيها حج بالناس أمير المؤمنين الرشيد، وأعطى أهل الحرمين أموالا كثيرة، ويقال إنه غزا في هذه السنة أيضا.
وفي ذلك يقول داود بن رزين الشاعر: بهارون لاح النور في كل بلدة * وقام به في عدل سيرته النهج إمام بذات الله أصبح شغله * وأكثر ما يعنى به الغزو والحج تضيق عيون الناس عن نور وجهه * إذا ما بدا للناس منظره البلج وإن أمين الله هارون ذا الندا * ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو وغزا الصائفة فيها سليمان بن عبد الله البكائي.
ذكر من توفي فيها من الاعيان الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم أبو عبد الرحمن الفراهيدي، ويقال الفرهودي الازدي، شيخ النحاة، وعنه أخذ سيبويه والنضر بن شميل، وغير واحد من أكابرهم، وهو الذي اخترع علم
العروض.
قسمه إلى خمس دوائر وفرعه إلى خمسة عشر بحرا، وزاد الاخفش فيه بحرا آخر وهو الخبب، وقد قال بعض الشعراء: قد كان شعر الورى صحيحا * من قبل أن يخلق الخليل وقد كان له معرفة بعلم النغم، وله فيه تصنيف أيضا، وله كتاب العين في اللغة، ابتدأه وأكمله النضر بن شميل وأضرابه من أصحاب الخليل، كمؤرج السدوسي، ونصر بن علي الجهضمي.
فلم يناسبوا ما وضعه الخليل.
وقد وضع ابن درستويه كتابا وصف فيه ما وقع لهم من الخلل فأفاد.
وقد كان الخليل رجلا صالحا عاقلا وقورا كاملا، وكان متقللا من الدنيا جدا، صبورا على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: لا يجاوز همي ما وراء بابي، وكان ظريفا حسن الخلق، وذكر أنه اشتغل رجل عليه في العروض وكان بعيد الذهن فيه.
قال: فقلت له يوما: كيف تقطع هذا البيت ؟ إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته، ثم إنه نهض من عندي فلم يعد إلي، وكأنه فهم ما أشرت إليه.
ويقال إنه لم يسم أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأحمد سوى أبيه.
روى ذلك عن أحمد بن أبي خيثمة والله أعلم.
ولد الخليل سنة مائة من الهجرة، ومات بالبصرة سنة سبعين ومائة على المشهور، وقيل سنة
__________
(1) في الطبري 10 / 50: لثلاث.

ستين، وزعم ابن الجوزي في كتابه شذور العقود أنه توفي سنة ثلاثين ومائة، وهذا غريب جدا والمشهور الاول.
وفيها توقي الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي (1) مولاهم، المصري المؤدب راوية الشافعي، وآخر من روى عنه.
وكان رجلا صالحا تفرس فيه الشافعي وفي البويطي والمزني وابن عبد الحكم العلم فوافق ذلك ما وقع في نفس الامر ومن شعر الربيع هذا: صبرا جميلا ما أسرع الفرجا * من صدق الله في الامور نجا من خشي الله لم ينله أذى * ومن رجا الله كان حيث رجا
فأما الربيع بن سليمان بن داود الجيزي فإنه روى عن الشافعي أيضا.
وقد مات في سنة ست وخمسين ومائتين والله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة فيها أضاف الرشيد الخاتم إلى يحيى بن خالد مع الوزارة.
وفيها قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ نائب الجزيرة صبرا في قصر الخلد بين يديه.
وفيها خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتل.
وفيها قدم روح بن حاتم نائب إفريقية.
وفيها خرجت الخيزران إلى مكة فأقامت بها إلى أن شهدت الحج، وكان الذي حج بالناس فيها عبد الصمد بن علي عم الخلفاء.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائة فيها وضع الرشيد عن أهل العراق العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.
وفيها خرج الرشيد من بغداد يرتاد له موضعا يسكنه غير بغداد فتشوش فرجع.
وفيها حج بالناس يعقوب بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد.
وفيها غزا الصائفة إسحاق بن سليمان بن علي.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة فيها توفي بالبصرة محمد بن سليمان فأمر الرشيد بالاحتياط على حواصله التي تصلح للخلفاء،
__________
(1) المرادي: نسبة إلى مراد وهي قبيلة كبيرة باليمن.
قال في وفيات الاعيان 2 / 292: مات سنة سبعين ومائتين بمصر، ولعل اسمه وقع سهوا هنا.
فالربيع بن يونس وزير الهادي كان قد مات سنة 170 (انظر وفيات الاعيان 2 / 299 ومروج الذهب 3 / 400 وقال الطبري مات سنة تسع وستين ومائة).

فوجدوا من ذلك شيئا كثيرا من الذهب والفضة والامتعة وغير ذلك، فنضدوه ليستعان بن على الحرب وعلى مصالح المسلمين.
وهو محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه أم حسن بنت جعفر بن حسن بن حسن بن علي، وكان من رجالات قريش وشجعانهم.
جمع له المنصور بين البصرة والكوفة، وزوجه المهدي ابنته العباسة، وكان له من الاموال شئ كثير، كان دخله في كل يوم مائة
ألف.
وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله.
وروى الحديث عن أبيه عن جده الاكبر، وهو حديث مرفوع في مسح رأس اليتيم إلى مقدم رأسه، ومسح رأس من له أب إلى مؤخر رأسه.
وقد وفد على الرشيد فهناه بالخلافة فأكرمه وعظمه وزاده في عمله شيئا كثيرا.
ولما أراد الخروج خرج معه الرشيد يشيعه إلى كلواذا.
توفي في جمادي الآخرة من هذه السنة عن إحدى وخمسين سنة، وقد أرسل الرشيد من اصطفى من ماله الصامت فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الدراهم ستة آلاف ألف، خارجا عن الاملاك.
وقد ذكر ابن جرير أن وفاته ووفاة الخيزران في يوم واحد، وقد وقفت جارية من جواريه على قبره فأنشأت تقول: أمسى التراب لمن هويت مبيتا * الق التراب فقل له حييتا إنا نحبك يا تراب وما بنا * إلا كرامة من عليه حثيتا وفيها توفيت الخيزران جارية المهدي وأم أمير المؤمنين الهادي والرشيد، اشتراها المهدي وحظيت عنده جدا ثم أعتقها وتزوجها وولدت له خليفتين: موسى الهادي والرشيد.
ولم يتفق هذا لغيرها من النساء إلا الولادة بنت العباس العبسية، زوجة عبد الملك بن مروان، وهي أم الوليد وسليمان.
وكذلك لشاه فرند بنت فيروز بن يزدجرد، ولدت لمولاها الوليد بن عبد الملك: يزيد (1) وإبراهيم.
وكلاهما ولي الخلافة.
وقد روي من طريق الخيزران عن مولاها المهدي عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من اتقى الله وقاه كل شئ ".
ولما عرضت الخيزران على المهدي ليشتريها أعجبته إلا دقة في ساقيها، فقال لها: يا جارية إنك لعلى غاية المنى والجمال لو لا دقة ساقيك وخموشهما.
فقالت: يا أمير المؤمنين إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما فاستحسن جوابها واشتراها وحظيت عنده جدا.
وقد حجت الخيزران مرة في حياة المهدي فكتب إليها وهي بمكة يستوحش لها ويتشوق إليها بهذا الشعر: نحن في غاية السرور ولكن * ليس إلا بكم يتم السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودي * أنكم غيب ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم * أن تطيروا مع الرياح فطيروا
__________
(1) في الاصل مروان وهو تحريف والصواب ما أثبتناه، وانظر حاشية 1 ص 18.

فأجابته أو أمرت من أجابه: قد أتانا الذي وصفت من الشو * ق فكدنا وما قدرنا نظير ليت أن الرياح كن يؤدين * ما قد يكن الضمير لم أزل صبة فإن كنت بعدي * في سرور فدام ذاك السرور وذكروا أنه أهدى إليها محمد بن سليمان نائب البصرة الذي مات في اليوم الذي ماتت فيه مائة وصيفة، مع كل وصيفة جام من فضة مملوء مسكا.
فكتبت إليه: إن كان ما بعثته ثمنا عن ظننا فيك فظننا فيك أكثر مما بعثت، وقد بخستنا في الثمن، وإن كنت تريد به زيادة المودة فقد اتهمتني في المودة.
وردت ذلك عليه.
وقد اشترت الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران، فزادتها في المسجد الحرام.
وكان مغل ضياعها في كل سنة ألف (1) ألف وستين ألفا، واتفق موتها ببغداد ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة.
وخرج ابنها الرشيد في جنازتها وهو حامل سريرها يخب في الطين.
فلما انتهى إلى المقبرة أتي بماء فغسل رجليه ولبس خفا وصلى عليها، ونزل لحدها.
فلما خرج من القبر أتي بسرير فجلس عليه واستدعى بالفضل بن الربيع فولاه الخانم والنفقات.
وأنشد الرشيد قول ابن نويرة حين دفن أمه الخيزران: وكنا كندماني جذيمة برهة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وفيها توفيت: غادر: جارية كانت لموسى الهادي، كان يحبها حبا شديدا جدا، وكانت تحسن الغناء جدا، فبينما هي يوما تغنيه إذ أخذته فكرة غيبته عنها وتغير لونه، فسأله بعض الحاضرين: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟
فقال: أخذتني فكرة أني أموت وأخي هارون يتولى الخلافة بعدي ويتزوج جاريتي هذه.
ففداه الحاضرون ودعوا له بطول العمر.
ثم استدعى أخاه هارون فأخبره بما وقع فعوذه الرشيد من ذلك، فاستحلفه الهادي بالايمان المغلظة من الطلاق والعتاق والحج ماشيا حافيا أن لا يتزوجها، فحلف له واستحلف الجارية كذلك فحلفت له، فلم يكن إلا أقل من شهرين حتى مات، ثم خطبها الرشيد فقالت: كيف بالايمان التي حلفناها أنا وأنت ؟ فقال: إني أكفر عني وعنك.
فتزوجها وحظيت عنده جدا، حتى كانت تنام في حجره فلا يتحرك خشية أن يزعجها.
فبينما هي ذات ليلة نائمة إذ انتبهت مذعورة تبكي، فقال لها: ما شأنك ؟ فقالت: يا أمير المؤمنين رأيت الهادي في منامي هذا وهو يقول:
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 413: مائة ألف ألف وستين ألف درهم.

أخلفت عهدي بعد ما * جاورت سكان المقابر ونسيتني وحنثت في * أيمانك الكذب الفواجر ونكحت غادرة أخي * صدق الذي سماك غادر أمسيت في أهل البلى * وعددت في الموتى الغوابر لا يهنك الالف الجدي * د ولا تدر عنك الدوائر ولحقت بي قبل الصبا * ح وصرت حيث غدوت صائر فقال لها الرشيد: أضغاث أحلام.
فقالت: كلا والله يا أمير المؤمنين، فكأنما كتبت هذه الابيات في قلبي.
ثم ما زالت ترتعد وتضطرب حتى ماتت قبل الصباح.
وفيها ماتت: هيلانة جارية الرشيد، وهو الذي سماها هيلانة لكثرة قولها هي لانه.
قال الاصمعي: وكان لها محبا، وكانت قبله لخالد بن يحيى بن برمك، فدخل الرشيد يوما منزله قبل الخلافة فاعترضته في طريقه وقالت: أما لنا منك نصيب ؟ فقال: وكيف السبيل إلى ذلك ؟ فقالت: استوهبني من هذا الشيخ.
فاستوهبها من يحيى بن خالد فوهبها له وحظيت عنده، ومكثت عنده ثلاث سنين ثم توفيت فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها وكان من قوله فيها:
قد قلت لما ضمنوك الثرى * وجالت الحسرة في صدري اذهب فلاق الله لا سرني * بعدك شئ آخر الدهر وقال العباس بن الاحنف في موتها: يا من تباشرت القبور بموتها * قصد الزمان مساءتي فرماك أبغي الانيس فما أرى لي مؤنسا * إلا التردد حيث كنت أراك قال: فأمر له الرشيد بأربعين ألفا، لكل بيت عشرة آلاف، فالله أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة من الهجرة فيها وقعت عصبية بالشام وتخبيط من أهلها.
وفيها استقضى الرشيد يوسف ابن القاضي أبي يوسف وأبوه حي.
وفيها غزا الصائفة عبد الملك بن صالح فدخل بلاد الروم.
وفيها حج بالناس الرشيد، فلما اقترب من مكة بلغه أن فيها وباء فلم يدخل مكة حتى كان وقت الوقوف وقف ثم جاء المزدلفة ثم منى ثم دخل مكة فطاف وسعى ثم ارتحل ولم ينزل بها.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة فيها أخذ الرشيد بولاية العهد من بعده لولده محمد بن زبيدة وسماه الامين، وعمره إذ ذاك خمس سنين، فقال في ذلك سلم الخاسر: قد وفق الله الخليفة إذ بنى * بيت الخلافة للهجان الازهر فهو الخليفة عن أبيه وجده * شهدا عليه بمنظر وبمخبر قد بايع الثقلان في مهد الهدى * لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر وقد كان الرشيد يتوسم النجابة والرجاحة في عبد الله المأمون، ويقول: والله إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة نفس الهادي.
ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت، وإني لاقدم محمد بن زبيدة وإني لاعلم أنه متبع هواه ولكن لا أستطيع غير ذلك.
ثم أنشأ يقول: لقد بان وجه الرأي لي غير أنني * غلبت على الامر الذي كان أحزما
وكيف يرد الدر في الضرع بعدما * نوزع حتى صار نهبا مقسما أخاف التواء الامر بعد استوائه * وأن ينقض الامر الذي كان أبرما وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح، في قول الواقدي.
وحج بالناس الرشيد.
وفيها سار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم وتحرك هناك.
وفيها توفي من الاعيان: شعوانة العابدة الزاهدة كانت أمة سوداء كثيرة العبادة روي عنها كلمات حسان، وقد سألها الفضيل بن عياض الدعاء فقالت: أما بينك وبينه ما إن دعوته استجاب لك ؟ فشهق الفضيل ووقع مغشيا عليه.
وفيها توفي: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم قال ابن خلكان: كان مولى قيس بن رفاعة وهو مولى عبد الرحمن بن مسافر الفهمي، كان الليث إمام الديار المصرية بلا مدافعة، وولد بقرقشندة من بلاد مصر سنة أربع وتسعين.
وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة، ونشأ بالديار المصرية.
وقال ابن خلكان: أصله من قلقشندة (1) وضبطه بلامين الثانية متحركة.
وحكى عن بعضهم أنه كان جيد الذهن، وأنه ولي القضاء بمصر فلم يحمدوا
__________
(1) قلقشندة: قرية من قرى الوجه البحري من القاهرة، بينها وبين القاهرة مقدار ثلاثة فراسخ وقرقشندة: قرية بأسفل مصر بالريف ولد بها الليث بن سعد، وأهل بيته يقولون إن أصله من الفرس من أهل أصبهان (معجم البلدان 4 / 327).

ذهنه بعد ذلك، ولد سنة أربع وعشرين ومائة، وذلك غريب جدا.
وذكروا أنه كان يدخله من ملكه في كل سنة آلاف دينار.
وقال آخرون: كان يدخله من الغلة في كل سنة ثمانون ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة، وكان إماما في الفقه والحديث والعربية.
قال الشافعي: كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه.
وبعث إليه مالك يستهديه شيئا من العصفر لاجل جهاز ابنته، فبعث إليه بثلاثين حملا، فاستعمل منه مالك حاجته وباع منه بخمسمائة دينار، وبقييت عنده منه بقية.
وحج مرة فأهدى له مالك طبقا فيه رطب فرد الطبق وفيه ألف دينار.
وكان يهب للرجل من أصحابه من العلماء
الالف دينار وما يقارب ذلك.
وكان يخرج إلى الاسكندرية في البحر هو وأصحابه في مركب ومطبخه في مركب.
ومناقبه كثيرة جدا.
وحكى ابن خلكان أنه سمع قائلا يقول يوم مات الليث: ذهب الليث فلا ليث لكم * ومضى العلم غريبا وقبر فالتفتوا فلم يروا أحدا.
وفيها توفي: المنذر بن عبد الله بن المنذر القرشي، عرض عليه المهدي أن يلي القضاء ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم، فقال: إني عاهدت الله أن لامألي شيئا، وأعيذ أمير المؤمنين بالله أن أخيس بعهدي.
فقال له المهدي: الله ؟ قال: الله.
قال: انطلق فقد أعفيتك.
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة فيها كان ظهور يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ببلاد الديلم، واتبعه خلق كثير وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والامصار، فانزعج لذلك الرشيد وقلق من أمره، فندب إليه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في خمسين ألفا، وولاه كور الجبل والري وجرجان وطبرستان وقومس وغير ذلك.
فسار الفضل بن يحيى إلى تلك الناحية في أبهة عظيمة، وكتب الرشيد تلحقه مع البرد في كل منزلة، وأنواع التحف والبر، وكاتب الرشيد صاحب الديلم ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خروج يحيى إليهم، وكتب الفضل إلى يحيى بن عبد الله يعده ويمنيه ويؤمله ويرجيه، وأنه إن خرج إليه أن يقيم له العذر عند الرشيد.
فامتنع يحيى أن يخرج إليهم حتى يكتب له الرشيد كتاب أمان بيده.
فكتب الفضل إلى الرشيد بذلك ففرح الرشيد ووقع منه موقعا عظيما.
وكتب الامان بيده وأشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بني هاشم، منهم عبد الصمد بن علي (1)، وبعث الامان وأرسل معه جوائز وتحفا كثيرة إليهم، ليدفعوا ذلك جميعه إليه.
__________
(1) وذكر الطبري منهم: والعباس بن محمد ومحمد بن ابراهيم وموسى بن عيسى 10 / 55.

ففعلوا وسلمه إليه فدخلوا به بغداد، وتلقاه الرشيد وأكرمه وأجزل له في العطاء، وخدمه آل برمك
خدمة عظيمة، بحيث أن يحيى بن خالد كان يقول: خدمته بنفسي وولدي: وعظم الفضل عند الرشيد جدا بهذه الفعلة حيث سعى بالصلح بين العباسيين والفاطميين، ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة يمدح الفضل بن يحيى ويشكره على صنيعه هذا: ظفرت فلا شلت يد برمكية * رتقت بها الفتق الذي بين هاشم على حين أعيا الراتقين التئامه * فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم فأصحبت قد فازت يداك بخطة * من المجد باق ذكرها في المواسم وما زال قدح الملك يخرج فائزا * لكم كلما ضمت قداح المساهم قالوا: ثم إن الرشيد تنكر ليحيى بن عبد الله بن حسن وتغير عليه، ويقال: إنه سجنه ثم استحضره وعنده جماعات من الهاشميين، وأحضر الامان الذي بعث به إليه فسأل الرشيد محمد بن الحسن عن هذا الامان أصحيح هو ؟ قال: نعم ! فتغيظ الرشيد عليه.
وقال أبو البختري: ليس هذا الامان بشئ فأحكم فيه بما شئت، ومزق الامان.
وبصق فيه أبو البختري، وأقبل الرشيد على يحيى (1) ابن عبد الله فقال: هيه هيه، وهو يبسم تبسم الغضب، وقال: إن الناس يزعمون أنا سممناك.
فقال يحيى: يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة ورحما وحقا، فعلام تعذبني وتحبسني ؟ فرق له الرشيد، فاعترض بكار (2) بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين لا يغرنك هذا الكلام من هذا، فإنه عاص شاق، وإنما هذا منه مكر وخبث.
وقد أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان فقال له يحيى: ومن أنتم عافاكم الله ؟ وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بآبائي وآباء هذا ثم قال يحيى: يا أمير المؤمنين لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله فقال: لعن الله قاتله، وأنشدني فيه نحوا من عشرين بيتا، وقال لي، إن تحركت إلى هذا الامر فأنا من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة وأيدينا معك ؟ قال: فتغير وجه الرشيد ووجه الزبيري وأنكر وشرع يحلف بالايمان المغلظة إنه لكاذب في ذلك، وتحير الرشيد.
ثم قال ليحيى: أتحفظ شيئا من المرثية ؟ قال: نعم.
وأنشده منها جانبا (3).
فازداد الزبيري في الانكار، فقال له يحيى بن عبد الله، فقل: إن كنت كاذبا فقد برئت من حول الله وقوته، ووكلني الله إلى حولي وقوتي.
فامتنع من الحلف بذلك، فعزم عليه الرشيد وتغيظ عليه، فحلف بذلك
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 417: ذكره وسماه موسى بن عبد الله، ثم قال: وقيل إن صاحب هذا الخبر هو يحيى بن عبد الله.
(2) في الطبري 10 / 56: بكار بن عبد الله مصعب (انظر مورج الذهب 3 / 417 وفيه: عبد الله بن مصعب).
(3) في مروج الذهب 3 / 417 ذكر منها: قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا * إن الخلافة فيكم يا بني حسن في شعر طويل.

فما كان إلا أن خرج من عند الرشيد فرماه الله بالفالج فمات من ساعته.
ويقال إن امرأته غمت وجهه بمخدة فقتله الله.
ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد الله وأطلق له مائة ألف دينار، ويقال إنما حبسه بعض يوم وقيل ثلاثة أيام.
وكان جملة ما وصله من المال من الرشيد أربعمائة ألف دينار من بيت المال، وعاش بعد ذلك كله شهرا واحدا ثم مات رحمه الله (1).
وفيها وقعت فتنة عظيمة بالشام بين النزارية، وهم قيس، واليمانية وهم يمن، وهذا كان أول بدو أمر العشيرتين بحوران، وهم قيس ويمن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الآن.
وقتل منهم في هذه السنة بشر كثير.
وكان على نيابة الشام كلها من جهة الرشيد ابن عمه موسى بن عيسى، وقيل عبد الصمد بن علي فالله أعلم.
وكان على نيابة دمشق بخصوصها سندي بن سهل أحد موالي جعفر المنصور، وقد هدم سور دمشق حين ثارت الفتنة خوفا من أن يتغلب عليها أبو الهيذام المزي (2) رأس القيسية، وقد كان مزي هذا دميم الخلق.
قال الجاحظ: وكان لا يحلف المكاري ولا الملاح ولا الحائك، ويقول: القول قولهم، ويستخير الله في الحمال ومعلم الكتاب.
وقد توفي سنة أربع ومائتين (3).
فلما تفاقم الامر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعة من القواد ورؤوس الكتاب، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة واستقام أمر الرعية، وحملوا جماعات من رؤوس الفتنة إلى الرشيد فرد أمرهم إلى يحيى بن خالد فعفا عنهم وأطلقهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
قد هاجت الشام هيجا * يشيب رأس وليده فصب موسى عليها * بخيله وجنوده فدانت الشام لما * أتى بسنح وحيده هذا الجواد الذي ب * ذ كل جود بجوده أعداه جود أبيه * يحيى وجود جدوده فجاد موسى بن يحيى * بطارف وتليده ونال موسى ذرى المج * د وهو حشو مهوده خصصته بمديحي * منثوره وقصيده
__________
(1) في الفخري ص 195: قتل يحيى في الحبس شر قتلة، وفي مروج الذهب 3 / 419: ألقي في بركة فيها سباع ف جوعت فامسكت عن أكله فبني عليه ركن بالجص والحجر وهو حي.
(2) واسمه عامر بن عمارة بن خريم الناعم بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان المري أحد فرسان العرب المشهورين.
(3) في ابن الاثير 6 / 133: مات أبو الهيذام سنة اثنتين وثمانين ومائة.

من البرامك عودا * له فأكرم بعوده حووا على الشعر طرا * خفيفه ومديده وفيها عزل الرشيد الغظريف بن عطاء عن خراسان وولاها حمزة بن مالك بن الهيثم الخزاعي الملقب بالعروس.
وفيها ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد نيابة مصر، فاستناب عليها جعفر عمر بن مهران، وكان ردئ الخلق ردئ الشكل زمن الكف أحول، وكان سبب ولايته إياها أن نائبها موسى بن عيسى كان قد عزم على خلع الرشيد.
فقال الرشيد: والله لاعزلنه ولاولين عليها أحسن (1) الناس.
فاستدعى عمر بن مهران هذا فولاه عليها عن نائبه جعفر بن يحيى البرمكي.
فسار إليها على بغل وغلامه أبو درة على بغل آخر، فدخلها كذلك فانتهى إلى مجلس نائبها موسى بن عيسى
فجلس في أخريات الناس، فلما انفض الناس أقبل عليه موسى بن عيسى وهو لا يعرف من هو، فقال: ألك حاجة يا شيخ ؟ قال: نعم أصلح الله الامير.
ثم دفع الكتب إليه فلما قرأها قال: أنت عمر بن مهران ؟ قال: نعم ! قال: لعن الله فرعون حين قال: (أليس لي ملك مصر) [ الزخرف: 51 ] ثم سلم إليه العمل وارتحل منها، وأقبل عمر بن مهران على عمله، وكان لا يقبل شيئا من الهدايا إلا ما كان ذهبا أو فضة أو قماشا، ثم يكتب على كل هدية اسم مهديها، ثم يطالب بالخراج ويلح في طلبه عليهم، وكان بعضهم يماطله به، فأقسم لا يماطله أحد إلا فعل به وفعل.
فجمع من ذلك شيئا كثيرا، وكان يبعث ما جمعه إلى بغداد، ومن ما طله بعثه إلى بغداد.
فتأدب الناس معه.
ثم جاءهم القسط الثاني فعجز كثير منهم عن الاداء فجعل يستحضر ما كانوا أدوه إليه من الهدايا، فإن كان نقدا أداه عنهم، وإن كان برا باعه وأداه عنهم، وقال لهم: إني إنما ادخرت هذا لكم إلى وقت حاجتكم.
ثم أكمل استخراج جميع الخراج بديار مصر ولم يفعل ذلك أحد قبله، ثم انصرف عنها لانه كان قد شرط على الرشيد أنه إذا مهد البلاد وجبى الخراج، فذاك إذنه في الانصراف.
ولم يكن معه بالديار المصرية جيش ولا غيره سوى مولاه أبو درة وحاجبه، وهو منفذ أموره.
وفيها غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك ففتح حصنا.
وفيها حجت زبيدة زوجة الرشيد ومعها أخوها، وكان أمير الحج سليمان بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد.
وفيها توفي: إبراهيم بن صالح ابن علي بن عبد الله بن عباس، كان أميرا على مصر، توفي في شعبان.
وإبراهيم بن هرمة كان شاعرا.
وهو إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة أبو إسحاق الفهري المدني، وفد على المنصور في وفد أهل المدينة حين استوفدهم عليه، فجلسوا إلى ستر دون المنصور، يرى الناس من ورائه ولا يرونه، وأبو الخصيب الحاجب واقف يقول: يا أمير المؤمنين هذا فلان الخطيب، فيأمره فيخطب،
__________
(1) في الطبري 10 / 61 وابن الاثير 6 / 126: أخس وهو أصوب.

ويقول: هذا فلان الشاعر فيأمره فينشد.
حتى كان من آخرهم ابن هرمة هذا، فسمعته يقول: لا
مرحبا ولا أهلا ولا أنعم الله بك عينا.
قال: فقلت: هلكت، ثم استنشدني فأنشدته قصديتي التي أقول فيها: سرى ثوبه عند الصبا المتجابل (1) * وقرب للبين الخليط المزايل حتى انتهيت إلى قولي: فأما الذي أمنته يأمن الردى * وأما الذي حاولت بالثكل ثاكل قال: فأمر برفع الحجاب فإذا وجهه كأنه فلقة قمر، فاستنشدني بقية القصيدة وأمر لي بالقرب بين يديه، والجلوس إليه، ثم قال: ويحك يا إبراهيم ! لولا ذنوب بلغتني عنك لفضلتك على أصحابك، فقلت: يا أمير المؤمنين كل ذنب بلغك عني لم تعف عنه فأنا مقر به.
قال: فتناول المخصرة فضربني بها ضربتين وأمر لي بعشرة آلاف وخلعة وعفا عني وألحقني بنظرائي.
وكان من جملة ما نقم المنصور عليه قوله: ومهما الام (2) على حبهم * فإني أحب بني فاطمه بني بنت من جاء بالمحكما * ت وبالدين وبالسنة القائمة فلست أبالي بحبي لهم * سواهم من النعم السائمة قال الاخفش.
قال لنا ثعلب قال الاصمعي: ختمت الشعراء بابن هرمة.
ذكر وفاته في هذه السنة أبو الفرج ابن الجوزي (3).
وفيها توفي الجراح بن مليح والد وكيع بن الجراح، وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جميل أبو عبد الله المديني، ولي قضاء بغداد سبع عشرة سنة لعسكر المهدي، وثقه ابن معين وغيره.
وفيها توفي: صالح بن بشير المري أحد العباد والزهاد، كان كثير البكاء وكان يعظ فيحضر مجلسه سفيان الثوري وغيره من العلماء، ويقول: سفيان هذا نذير قوم، وقد استدعاه المهدي ليحضر عنده فجاء إليه راكبا على حمار فدنا من بساط الخليفة وهو راكب فأمر الخليفة ابنيه - وليي العهد من بعده موسى الهادي وهارون
__________
(1) كذا بالاصل ولعل فيه تحريفا.
(2) لم يجزم الفعل هنا، وهو شاذ لضرورات الشعر.
(3) في خزانة الادب 1 / 425: مات في خلافة الرشيد بعد الخمسين ومائة تقريبا.
وقال في الذريعة 1 / 314: وفي سنتي ولادته ووفاته خلاف.

الرشيد - أن يقوما إليه لينزلاه عن دابته، فابتدراه فأنزلاه، فأقبل صالح على نفسه فقال: لقد خبت وخسرت إن أنا داهنت ولم اصدع بالحق في هذا اليوم، وفي هذا المقام.
ثم جلس إلى المهدي فوعظه موعظة بليغة حتى أبكاه، ثم قال له: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خصم من خالفه في أمته، ومن كان محمد خصمه كان الله خصمه، فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسوله حججا تضمن لك النجاة، وإلا فاستسلم للهلكة، واعلم أن أبطا الصرعى نهضة صريع هوى بدعته، وأعلم أن الله قاهر فوق عباده، وأن أثبت الناس قدما آخذهم بكتاب الله وسنة رسوله، وكلام طويل.
فبكى المهدي وأمر بكتابة ذلك الكلام في دواوينه.
وفيها توفي عبد الملك بن محمد بن محمد بن أبي بكر عمرو بن حزم قدم قاضيا بالعراق.
وفرج بن فضالة التنوخي الحمصي، كان على بيت المال ببغداد في خلافة الرشيد، فتوفي في هذه السنة، وكان مولده سنة ثمان وثمانين فمات وله ثمان وثمانون سنة.
ومن مناقبه أن المنصور دخل يوما إلى قصر الذهب فقام الناس إلا فرج بن فضالة فقال له وقد غضب عليه: لم لم تقم ؟ قال: خفت أن سيألني الله عن ذلك ويسألك لم رضيت بذلك، وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام للناس.
قال: فبكى المنصور وقربه وقضى حوائجه.
والمسيب بن زهير بن عمرو أبو سلمة الضبي، كان والي الشرطة ببغداد في أيام المنصور والمهدي والرشيد، وولي خراسان مرة للمهدي.
عاش ستا وتسعين سنة.
والوضاح بن عبد الله أبو عوانة السري مولاهم، كان من أئمة المشايخ في الرواية.
توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة فيها عزل الرشيد جعفر البرمكي عن مصر وولى عليها إسحاق بن سليمان، وعزل حمزة بن
مالك عن خراسان وولى عليها الفضل بن يحيى البرمكي مضافا إلى ما كان بيده من الاعمال بالري وسجستان وغير ذلك.
وذكر الواقدي أنه أصاب الناس ريح شديدة وظلمة في أواخر المحرم من هذه السنة، وكذلك في أواخر صفر منها.
وفيها حج بالناس الرشيد وفيها توفي (شريك بن عبد الله) القاضي الكوفي النخعي، سمع أبا إسحاق وغير واحد، وكان مشكورا في حكمه وتنفيذ الاحكام، وكان لا يجلس للحكم حتى يتغدى ثم يخرج ورقة من خفه فينظر فيها ثم يأمر بتقديم الخصومة إليه، فحرص بعض أصحابه على قراءة ما في تلك الورقة فإذا فيها يا شريك بن عبد الله اذكر الصراط وحدته يا شريك بن عبد الله اذكر الموقف بين يدي الله عز وجل.
كانت وفاته يوم السبت مستهل ذي القعدة منها.
وفيها توفي عبد الواحد بن زيد، ومحمد بن مسلم وموسى بن أعين.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة فيها وثبت طائفة من الحوفية (1) من قيس وقضاعة على عامل مصر إسحاق بن سليمان فقاتلوه وجرت فتنة عظيمة فبعث الرشيد هرثمة بن أعين نائب فلسطين في خلق من الامراء مددا لاسحاق، فقاتلوهم حتى أذعنوا بالطاعة وأدوا ما عليهم من الخراج والوظائف، واستمر هرثمة نائبا على مصر نحوا من شهر عوضا عن إسحاق بن سليمان، ثم عزله الرشيد عنها وولى عليها عبد الملك بن صالح.
وفيها وثبت طائفة من أهل إفريقية فقتلوا الفضل بن روح بن حاتم وأخرجوا من كان بها من آل المهلب، فبعث إليهم الرشيد هرثمة فرجعوا إلى الطاعة على يديه.
وفيها فوض الرشيد أمور الخلافة كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها خرج الوليد بن طريف بالجزيرة وحكم بها وقتل خلقا من أهلها، ثم مضى منها إلى أرمينية فكان من أمره ما سنذكره.
وفيها سار الفضل بن يحيى إلى خراسان فأحسن السيرة فيها وبنى فيها الربط والمساجد، وغزا ما وراء النهر، واتخذ بها جندا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم له، وكانوا نحوا من خمسمائة ألف، وبعث منهم نحوا من عشرين ألفا إلى بغداد، فكانوا يعرفون بها بالكرمينية (2)، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة: ما الفضل إلا شهاب لا أفول له * عند الحروب إذا ما تأفل الشهب
حمام على ملك غر سهمهم * من الوراثة في أيديهم سبب أمست يد لبني ساقي الحجيج بها * كتائب ما لها في غيرهم أرب كتائب لبني العباس قد عرفت * ما ألف الفضل منها العجم والعرب أثبت خمس مئين في عدادهم * من الالوف التي أحصت لها الكتب يقارعون عن القوم الذين هم * أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا إن الجواد ابن يحيى الفضل لاورق * يبقى على جود كفيه ولا ذهب ما مر يوم له مذ شد مئزره * إلا تمول أقوام بما يهب كم غاية في الندى والبأس أحرزها * للطالبين مداها دونها تعب يعطي النهي (3) حين لا يعطي الجواد ولا * ينبو إذا سلت الهندية القضب ولا الرضى والرضى لله غايته * إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب قد فاض عرفك حتى ما يعادله * غيث ولا بحر له حدب وكان قد أنشده قبل خروجه إلى خراسان:
__________
(1) وكان سبب ذلك أن اسحاق زاد على المزارعين في الخراج - ما كان يقبله غيره من الامراء - زيادة أجحفت بهم فخرج عليه أهل الحوف مطالبين برد الخراج إلى سابق عهده.
(2) في الطبري 10 / 63: الكرنبية.
(3) في الطبري: اللهى.

ألم تر أن الجود من يد (1) آدم * تحدر حتى صار في راحة الفضل إذا ما أبو العباس سحت (2) سماؤه * فيا لك من هطل ويا لك من ويل وقال فيه أيضا: إذا أم طفل راعها جوع طفلها * دعته باسم الفضل فاعتصم الطفل ليحيى بك الاسلام إنك عزه * وإنك من قوم صغيرهم كهل
قال فأمر له بمائة ألف درهم.
ذكره ابن جرير.
وقال سلم الخاسر فيهم أيضا: وكيف تخاف من بؤس بدار * يجاورها (3) البرامكة البحور وقوم منهم الفضل بن يحيى * نفير ما يوازنه نفير له يومان يوم ندى وبأس * كأن الدهر بينهما أسير إذا ما البرمكي غدا ابن عشر * فهمته أمير أو وزير وقد اتفق للفضل في هذه السفرة إلى خراسان أشياء غريبة، وفتح بلادا كثيرة، منها كابل وما وراء النهر، وقهر ملك الترك وكان ممتنعا، وأطلق أموالا جزيلة جدا، ثم قفل راجعا إلى بغداد، فلما اقترب منها خرج الرشيد ووجوه الناس إليه، وقدم عليه الشعراء والخطباء وأكابر الناس، فجعل يطلق الالف ألف، والخمسمائة ألف ونحوها، وأنفذ في ذلك من الاحوال شيئا كثيرا لا يمكن حصره إلا بتعب وكلفة، وقد دخل عليه بعض الشعراء (4) والبدر موضوعة بين يديه وهي تفرق على الناس فقال: كفى الله بالفضل بن يحى بن خالد * وجود يديه بخل كل بخيل فأمر له بمال جزيل.
وغزا الصائفة في هذه السنة معاوية بن زفر بن عاصم.
وغزا الشاتية سليمان بن راشد.
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس نائب مكة.
وفيها توفي جعفر بن سليمان، وعنتر بن القاسم، وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم القاضي ببغداد، وصلى عليه الرشيد ودفن بها، وقد قيل إنه مات في التي قبلها فالله أعلم.
__________
(1) في الطبري: لدن.
(2) في الطبري: راحت.
(3) في الطبري: تكنفها.
(4) ذكره الطبري 10 / 65: حفص بن مسلم.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة فيها كان قدوم الفضل بن يحيى من خراسان وقد استخلف عليها عمر بن جميل (1)، فولى الرشيد عليها منصور بن يزيد بن منصور الحميري.
وفيها عزل الرشيد (2) خالد بن برمك عن الحجوبة وردها إلى الفضل بن الربيع.
وفيها خرج بخراسان حمزة بن أترك السجستاني، وكان من أمره ما سيأتي طرف منه.
وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته وكثر أتباعه، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فراوغه حتى قتله وتفرق أصحابه، فقالت الفارعة في أخيها الوليد بن طريف ترثيه: أيا شجر الخابور ما لك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يحب الزاد الا من التقى * ولا المال إلا من قنا وسيوف وفيها خرج الرشيد معتمرا من بغداد شكرا لله عز وجل، فلما قضى عمرته أقام بالمدينة حتى حج بالناس في هذه السنة، فمشى من مكة إلى منى ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر كلها ماشيا، ثم انصرف إلى بغداد على طريق البصرة.
وفيها توفي: إسماعيل بن محمد ابن يزيد بن ربيعة أبو هاشم الحميري الملقب بالسيد، كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه، ولكنه كان رافضيا خبيثا، وشيعيا غثيثا، وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة - أي بالدور - قال يوما لرجل: أقرضني دينارا ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا.
فقال له الرجل: إني أخشى أن تعود كلبا أو خنزيرا فيذهب ديناري.
وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره.
قال الاصمعي: ولو لا ذلك ما قدمت عليه أحدا في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيهما.
وقد أورد ابن الجوزي شيئا من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته، وقد اسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جدا.
ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم.
وفيها توفي: حماد بن زيد
أحد أئمة الحديث.
وخالد بن عبد الله أحد الصلحاء، كان من سادات المسلمين، اشترى
__________
(1) في الطبري 1 / 65: عمرو بن شرحبيل.
(2) في الطبري: عزل الرشيد محمد بن خالد بن برمك، والمشهور أن خالد والده كان قد مات سنة خمس وستين ومائة (انظر شذرات الذهب 1 / 261).

نفسه من الله أربع مرات.
ومالك بن أنس الامام، والهقل بن زياد صاحب الاوزاعي، وأبو الاحوص.
وكلهم قد ذكرناهم في التكميل.
والامام مالك هو أشهرهم وهو أحد الائمة الاربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فهو مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيلان بن حشد بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح الحميري، أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة في زمانه، روى مالك عن غير واحد من التابعين (1)، وحدث عنه خلق من الائمة، منهم السفيانان، وشعبة، وابن المبارك، والاوزاعي، وابن مهدي وابن جريج والليث والشافعي والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الانصاري وهو شيخه، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الاندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري.
قال البخاري: أصح الاسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.
وقال سفيان بن عيينة: ما كان أشد انتقاده للرجال.
وقال يحيى بن معين: كل من روى عنه مالك فهو ثقة، إلا أبا أمية.
وقال غير واحد: هو أثبت أصحاب نافع والزهري.
وقال الشافعي: إذا جاء الحديث فمالك النجم.
وقال: من أراد الحديث فهو عيال على مالك.
ومناقبه كثيرة جدا، وثناء الائمة عليه أكثر من أن يحصر في هذا المكان.
قال أبو مصعب: سمعت مالكا يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.
وكان إذا أراد أن يحدث تنظف وتطيب وسرح لحيته ولبس أحسن ثيابه، وكان يلبس حسنا.
وكان نقش خاتمه حسبي الله ونعم الوكيل، وكان إذا دخل منزله قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وكان منزله مبسوطا بأنواع المفارش.
ومن وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن لزم مالك بيته فلم يكن يأتي أحدا لا لعزاء ولا لهناء، ولا
يخرج لجمعة ولا لجماعة، ويقول: ما كل ما يعلم يقال، وليس كل أحد يقدر على الاعتذار ولما احتضر قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم جعل يقول: لله الامر من قبل ومن بعد، ثم قبض في ليلة أربعة عشر من صفر، وقيل من ربيع الاول من هذه السنة، وله خمس وثمانون سنة.
قال الواقدي: بلغ سبعين سنة ودفن بالبقيع.
وقد روى الترمذي عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة: " يوشك أن يضرب الناس أكباد الابل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة ".
ثم قال: هذا حديث حسن.
وقد روى عن ابن عيينة أنه قال: هو مالك بن أنس.
وكذا قال عبد الرزاق.
وعن ابن عيينة رواية أنه عبد العزيز بن عبد الله العمري.
وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات فأطنب وأتى بفوائد جمة.
__________
(1) حدث عن نافع والمقبري ونعيم المجمر والزهري وعامر بن عبد الله وابن المنكدر وعبد الله بن دينار (تذكرة الحفاظ 1 / 207).

ثم دخلت سنة ثمانين ومائة فيها هاجت الفتنة بالشام بين النزارية واليمنية، فانزعج الرشيد لذلك فندب جعفر البرمكي إلى الشام في جماعة من الامراء والجنود، فدخل الشام فانقاد الناس له ولم يدع جعفر بالشام فرسا ولا سيفا ولا رمحا إلا استلبه من الناس، وأطفأ الله به نار تلك الفتنة.
وفي ذلك يقول بعض الشعراء (1): لقد أوقدت بالشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها إذا جاش موج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانكسارها (2) رماها بميمون النقيبة ماجد * تراضى به قحطانها ونزارها ثم كر جعفر راجعا إلى بغداد بعد ما استخلف على الشام عيسى العكي، ولما قدم على الرشيد أكرمه وقربه وأدناه، وشرع جعفر يذكر كثرة وحشته له في الشام، ويحمد الله الذي من عليه برجوعه إلى أمير المؤمنين ورؤيته وجهه.
وفيها ولى الرشيد جعفرا خراسان وسجستان فاستعمل على ذلك
محمد بن الحسن بن قحطبة، ثم عزل الرشيد جعفرا عن خراسان بعد عشرين ليلة.
وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب كثرة الخوارج، وجعل الرشيد جعفرا على الحرس، ونزل الرشيد الرقة واستوطنها واستناب على بغداد ابنه الامين محمدا وولاه العراقين، وعزل هرثمة عن إفريقية واستدعاه إلى بغداد فاستنابه جعفر على الحرس.
وفيها كانت بمصر زلزلة شديدة سقط منها رأس منارة الاسكندرية.
وفيها خرج بالجزيرة خراشة الشيباني فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي.
وفيها ظهرت طائفة بجرجان يقال لها المحمرة لبسوا الحمرة واتبعوا رجلا يقال له عمرو بن محمد العمركي، وكان ينسب إلى الزندقة، فبعث الرشيد يأمر بقتله فقتل وأطفأ الله نارهم في ذلك الوقت.
وفيها غزا الصائفة زفر بن عاصم (3).
وحج بالناس موسى (4) بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها كانت وفاة جماعة من الاعيان: إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الانصاري قارئ أهل المدينة ومؤدب علي بن المهدي ببغداد.
وقد مات علي بن المهدي في هذه السنة أيضا.
وقد ولي إمارة الحج غير مرة، وكان أسن من الرشيد بشهور.
__________
(1) نسب الطبري الابيات إلى منصور النمري.
(10 / 66) (2) في الطبري: وانجبارها.
(3) في الطبري: معاوية بن زفر بن عاصم، وفي ابن الاثير، محمد بن معاوية بن زفر بن عاصم.
(4) في الطبري وابن الاثير: موسى بن عيسى بن موسى.

حسان بن أبي سنان ابن أبي أوفى بن عوف التنوخي الانباري، ولد سنة ستين، ورأى أنس بن مالك ودعا له فجاء من نسله قضاة ووزراء وصلحاء، وأدرك الدولتين الاموية والعباسية.
وكان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه وكان يكتب بالعربية والفارسية والسريانية، وكان يعرب الكتب بين يدي ربيعة لما ولاه السفاح الانبار.
وفيها توفي:
عبد الوارث بن سعيد البيروتي أحد الثقات وعافية بن يزيد ابن قيس القاضي للمهدي على جانب بغداد الشرقي، هو وابن علاثة، وكانا يحكمان بجامع الرصافة، وكان عافية عابدا زاهدا ورعا، دخل يوم على المهدي في وقت الظهيرة فقال: يا أمير المؤمنين اعفني، فقال له المهدي: ولم أعفيك ؟ هل اعترض عليك أحد من الامراء ؟ فقال له: لا ولكن كان بين اثنين خصومة عندي فعمد أحدهما إلى رطب السكر - وكأنه سمع أني أحبه - فأهدى إلي منه طبقا لا يصلح إلا لامير المؤمنين، فرددته عليه، فلما أصبحنا: وجلسنا إلى الحكومة لم يستويا عندي في قلبي ولا نظري، بل مال قلبي إلى المهدي منهما، هذا مع أني لم أقبل منه ما أهداه فكيف لو قبلت منه ؟ فاعفني عفا الله عنك فأعفاه.
وقال الاصمعي: كنت عند الرشيد يوما وعنده عافية وقد أحضره لان قوما استعدوا عليه إلى الرشيد، فجعل الرشيد يوقفه على ما قيل عنه وهو يجيب عما يسأله.
وطال المجلس فعطس الخليفة فشمته الناس ولم يشمته عافية، فقال له الرشيد: لم لم تشمتني مع الناس ؟ فقال: لانك لم تحمد الله، واحتج بالحديث في ذلك.
فقال له الرشيد: ارجع لعملك فوالله ما كنت لتفعل ما قيل عنك، وأنت لم تسامحني في عطسة لم أحمد الله فيها.
ثم رده ردا جميلا إلى ولايته.
وفيها توفي: سيبويه إمام النحاة، واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر، المعروف بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب، وقيل مولى آل الربيع بن زياد، وإنما سمي سيبويه لان أمه كانت ترقصه وتقول له ذلك، ومعنى سيبويه رائحة التفاح، وقد كان في ابتداء أمره يصحب أهل الحديث والفقهاء، وكان يستملي على حماد بن سلمة، فلحن يوما فرد عليه قوله فأنف من ذلك، فلزم الخليل بن أحمد فبرع في النحو، ودخل بغداد وناظر الكسائي.
وكان سيبويه شابا حسنا جميلا نظيفا، وقد تعلق من كل علم بسبب، وضرب مع كل أهل أدب بسهم، مع حداثة سنه.
وقد صنف في النحو كتابا لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده فانغمروا في لجج بحره، واستخرجوا من درره، ولم يبلغوا إلى قعره.
وقد زعم ثعلب أنه لم ينفرد بتصنيفه، بل ساعده جماعة في تصنيفه نحوا من أربعين نفسا هو أحدهم، وهو أصول الخليل،

فادعاه سيبويه إلى نفسه.
وقد استبعد ذلك السيرافي في كتاب طبقات النحاة.
قال: وقد أخذ سيبويه اللغات عن أبي الخطاب والاخفش وغيرهما، وكان سيبويه يقول: سعيد بن أبي العروبة، والعروبة يوم الجمعة، وكان يقول: من قال عروبة فقد أخطأ.
فذكر ذلك ليونس فقال أصاب لله دره، وقد ارتحل إلى خراسان ليحظى عند طلحة بن طاهر فإنه كان يحب النحو فمرض هناك مرضه الذي توفي فيه فتمثل عند الموت: يؤمل دنيا لتبقى له * فمات المؤمل قبل الامل يربي فسيلا ليبقى له * فعاش الفسيل ومات الرجل ويقال: إنه لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فدمعت عين أخيه فاستفاق فرآه يبكي فقال: وكنا جميعا فرق الدهر بيننا * إلى الامد الاقصى فمن يأمن الدهرا قال الخطيب البغدادي: يقال إنه توفي وعمره ثنتان وثلاثون سنة.
وفيها توفيت: عفيرة العابدة كانت طويلة الحزن كثيرة البكاء.
قدم قريب لها من سفر فجعلت تبكي، فقيل لها في ذلك فقالت: لقد ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله، فمسرور ومثبور (1).
وفيها مات مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي، كان من أهل مكة، ولقد تكلموا فيه لسوء حفظه.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة فيها غزا الرشيد بلاد الروم فافتتح حصنا يقال له الصفصاف، فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة: إن أمير المؤمنين المنصفا (2) * قد ترك الصفصاف قاعا صفصفا وفيها غزا عبد الملك بن صالح بلاد الروم فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.
وفيها تغلبت المحمرة على جرجان (3).
وفيها أمر الرشيد أن يكتب في صدور الرسائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على الله عز وجل.
وفيها حج بالناس الرشيد وتعجل بالنفر، وسأله يحيى بن خالد أن يعفيه من الولاية
فأعفاه وأقام يحيى بمكة.
وفيها توفي:
__________
(1) مثبور: هالك أو خاسر.
(2) في الطبري 10 / 69: المصطفى.
(3) في ابن الاثير 6 / 159: خراسان.

الحسن بن قحطبة أحد أكابر الامراء، وحمزة بن مالك، ولي إمرة خراسان في أيام الرشيد، وخلف بن خليفة شيخ الحسن بن عرفة عن مائة سنة.
وعبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن المروزي، كان أبوه تركيا مولى لرجل من التجار من بني حنظلة من أهل همذان، وكان ابن المبارك إذا قدمها أحسن إلى ولد مولاهم، وكانت أمه خوارزمية، ولد لثمان عشرة ومائة، وسمع إسماعيل بن خالد، والاعمش، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وغيرهم من أئمة التابعين.
وحدث عن خلائق من الناس، وكان موصوفا بالحفظ والنفقه والعربية والزهد والكرم والشجاعة والشعر، له التصانيف الحسان، والشعر الحسن المتضمن حكما جمة، وكان كثير الغزو والحج، وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلها في أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله.
قال سفيان بن عيينة: نظرت في أمره وأمر الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الارض مثله، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم.
وقدم مرة الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها احتفل الناس به وازدحم الناس حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت: ما للناس ؟ فقيل لها: قدم رجل من علماء خراسان يقال له عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه.
فقالت المرأة: هذا هو الملك، لا
ملك هارون الرشيد الذي (1) يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة.
وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت أنا وأخي هنا ليس لنا شئ إلا هذا الازار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام.
وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل.
فأمر ابن المبارك برد الاحمال وقال لوكيله: كم معك من النفقة ؟ قال: ألف دينار.
فقال: عد منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو واعطها الباقي.
فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع.
وكان إذا عزم على الحج يقول لاصحابه: من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتني بنفقته
__________
(1) في صفة الصفوة 4 / 137: الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.

حتى أكون أنا أنفق عليه، فكان يأخذ منهم نفقاتهم ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمعها في صندوق، ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب، وحسن الخلق والتيسير عليهم، فإذا قضوا حجتهم فيقول لهم: هل أوصاكم أهلوكم بهدية، فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المكية واليمنية وغيرها، فإذا جاؤوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية، فإذا رجعوا إلى بلادهم بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وبيضت أبوابها ورمم شعثها، فإذا وصلوا إلى البلد عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم، ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه، فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل.
وكانت سفرته تحمل على بعير وحدها، وفيها من أنواع المأكول من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك، ثم يطعم الناس وهو الدهر صائم في الحر الشديد.
وسأله مرة سائل فأعطاه درهما فقال له بعض أصحابه: إن هؤلاء يأكلون الشواء والفالوذج، وقد كان يكفيه قطعة.
فقال: والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز، فأما إذا كان يأكل الفالوذج والشواء
فإنه لا يكفيه درهم.
ثم أمر بعض غلمانه فقال: رده وادفع إليه عشرة دراهم.
وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.
قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله.
توفي عبد الله بن المبارك بهيت (1) في هذه السنة في رمضانها عن ثلاث وستين سنة.
ومفضل بن فضالة ولي قضاء مصر مرتين، وكان دينا ثقة، فسأل الله أن يذهب عنه الامل فأذهبه، فكان بعد ذلك لا يهنئه العيش ولا شئ من الدنيا، فسأل الله أن يرده عليه فرده فرجع إلى حاله.
ويعقوب التائب العابد الكوفي، قال علي بن الموفق عن منصور بن عمار: خرجت ذات ليلة وأنا أظن أني قد أصبحت، فإذا علي ليل، فجلست إلى باب صغير وإذا شاب يبكي وهو يقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخى علي فالآن من عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك عني ؟ واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي، يا ويلي كم أتوب وكم أعود، قد حان لي أن أستحي من ربي عز وجل.
قال منصور
__________
(1) هيت: بكسر الهاء، مدينة على الفرات فوق الانبار من أعمال العراق، عندها كانت القوافل تقطع الفرات في طريقها بين بغداد وحلب، واشتهرت قديما بالتمر والقمح والخمر.
وبالقرب منها ينابيع النفط.

فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [ التحريم: 6 ] قال: فسمعت صوتا واضطرابا شديدا فذهبت لحاجتي، فلما رجعت مررت بذلك الباب فإذا جنازة موضوعة، فسألت عنه فإذا ذاك الفتى قد مات من هذه الآية.
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائة فيها أخذ الرشيد لولده عبد الله المأمون ولاية العهد من بعد أخيه محمد الامين بن زبيدة، وذلك
بالرقة بعد مرجعه من الحج، وضم ابنه المأمون إلى جعفر بن يحيى البرمكي وبعثه إلى بغداد ومعه جماعة من أهل الرشيد خدمة له، وولاه خراسان وما يتصل بها، وسماه المأمون.
وفيها رجع يحيى بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد.
وفيها غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ مدينة أصحاب الكهف (1).
وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن إليون وملكوا عليهم أمه ريني وتلقب أغسطه.
وحج بالناس موسى بن عيسى بن العباس.
وفيها توفي من الاعيان إسماعيل بن عياش الحمصي أحد المشاهير من أئمة الشاميين، وفيه كلام.
ومروان بن أبي حفصة الشاعر المشهور المشكور.
كان يمدح الخلفاء والبرامكة.
ومعن بن زائدة حصل من الاموال شيئا كثيرا جدا، وكان مع ذلك من أبخل الناس، لا يكاد يأكل اللحم من بخله، ولا يشعل في بيته سراجا، ولا يلبس من الثياب إلا الكرباسي والفرو الغليظ، وكان رفيقه سلم الخاسر إذا ركب إلى دار الخلافة يأتي على برذون وعليه حلة تساوي ألف دينار، والطيب ينفح من ثيابه، ويأتي هو في شر حالة وأسوئها.
وخرج يوما إلى المهدي فقالت امرأة من أهله: إن أطلق لك الخليفة شيئا فاجعل لي منه شيئا.
فقال: إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم.
فأعطاه ستين ألفا فأعطاها أربعة دوانيق.
توفي ببغداد في هذه السنة، ودفن في مقبرة نصر بن مالك.
والقاضي أبو يوسف واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة (2)، وهي أمه، وأبوه (3) بجير بن
__________
(1) وهي مدينة دفسوس على ما قاله الطبري، وفي ابن الاثير 6 / 161: أفسوس.
(2) من وفيات الاعيان 6 / 378 ومصباح السعادة 2 / 211 والمعارف ص 218: وفي الاصل حسنة.
وهي حيتة بنت مالك بن بني عمرو بن عوف.
(3) في الاستيعاب: أبو سعد هو عوف بن بحير، وفي تاريخ بغداد 14 / 242: هو بجير بن معاوية.
وفي مفتاح =

معاوية، استصغر يوم أحد، وأبو يوسف كان أكبر أصحاب أبي حنيفة، روى الحديث عن الاعمش
وهمام بن عروة ومحمد بن إسحاق ويحيى بن سعيد وغيرهم.
وعنه محمد بن الحسن وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
قال علي بن الجعد: سمعته يقول: توفي أبي وأنا صغير فأسلمتني أمي إلى قصار فكنت أمر على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها، فكانت أمي تتبعني فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة، فلما طال ذلك عليها قالت لابي حنيفة: إن هذا صبي يتيم ليس له شئ إلا ما أطعمه من مغزلي، وإنك قد أفسدته علي.
فقال لها: اسكتي يا رعناء، ها هوذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج فقالت له: إنك شيخ قد خرفت.
قال أبو يوسف: فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي وهو أول من لقب قاضي القضاة، وكان يقال له: قاضي قضاة الدنيا، لانه كان يستنيب في سائر الاقاليم التي يحكم فيها الخليفة -.
قال أبو يوسف: فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتي بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي: كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا في كل وقت.
وقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال: هذا الفالوذج.
قال فتبسمت فقال: ما لك تتبسم ؟ فقلت: لا شئ أبقى الله أمير المؤمنين.
فقال: لتخبرني.
فقصصت عليه القصة فقال: إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة.
ثم قال: رحم الله أبا حنيفة، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه.
وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف: إنه أعلم أصحابه.
وقال المزني: كان أبو يوسف أتبعهم للحديث.
وقال ابن المديني: كان صدوقا.
وقال ابن معين: كان ثقة.
وقال أبو زرعة: كان سليما من التجهم.
وقال بشار الخفاف: سمعت أبا يوسف يقول: من قال القرآن مخلوق فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه.
ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله: من طلب المال بالكيما (1) أفلس، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب العلم بالكلام تزندق.
ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضراوات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم، وبأنه لم يكن الخضراوات يخرج فيها شئ في زمن الخلفاء الراشدين.
فقال أبو يوسف: لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
وهذا إنصاف منه.
وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شابا وكان
__________
= السعادة أن سعدا استصغره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم أحد، لانه كان لا يأذن للخروج إلى الغزاة إلا للبالغ (انظر المعارف لابن قتيبة ص 218).
(1) الكيما: يعني الكيمياء، ولفظ الكيمياء عبراني معرف أصله (كيم يه) ومعنى ذلك آية من الله، وقد اختلف الناس فيها اختلافا شديدا وكثير منهم قائلون بامتناعها إلا ما يفيد الاستعباد.
وهو علم يراد به سلب الجواهر المعدنية خواصها، وافادتها خواصا لم تكن لها.
(مفتاح السعادة 1 / 317).

يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضا.
وقال: وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل إلى أحد، إلا يوما واحدا جاءني رجل فذكر أن له بستانا وأنه في يد أمير المؤمنين، فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال: البستان لي اشتراه لي المهدي.
فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لاسمع دعواه.
فأحضره فادعى بالبستان فقلت: ما تقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال: هو بستاني.
فقلت للرجل: قد سمعت ما أجاب.
فقال الرجل: يحلف، فقلت أتحلف يا أمير المؤمنين ؟ فقال: لا، فقلت سأعرض عليك اليمين ثلاثا فإن حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين.
فعرضتها عليه ثلاثا فامتنع فحكمت بالبستان للمدعي.
قال: فكنت في أثناء الخصومة أود أن ينفصل ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة.
وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل.
وروى المعافى بن زكريا الجريري، عن محمد بن أبي الازهر، عن حماد بن أبي إسحاق، عن أبيه عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف.
قال: بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش، إذا رسول الخليفة يطرق الباب، فخرجت منزعجا فقال: أمير المؤمنين يدعوك، فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى بن جعفر فقال لي الرشيد: إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلم يفعل، أو يبعنيها، وإني أشهدك إن لم يجبني إلى ذلك قتلته.
فقلت لعيسى: لم لم تفعل ؟ فقال: إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالي كله أن لا أبيعها ولا أهبها.
فقال لي الرشيد: فهل له من مخلص (1) ؟ فقلت: نعم يبيعك نصفها ويهبك نصفها (2).
فوهبه النصف وباعه النصف بمائة ألف دينار، فقبل منه ذلك وأحضرت الجارية، فلما رآها
الرشيد قال: هل لي من سبيل عليها الليلة ؟ قلت: إنها مملوكة ولا بد من استبرائها، إلا أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ.
قال فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار، وأمر لي بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب، وأرسلت إلي الجارية بعشرة آلاف دينار.
وقال يحيى بن معين: كنت عند أبي يوسف فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل ند وغير ذلك، فذاكرني رجل في إسناد حديث (من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه) فقال أبو يوسف: إنما ذاك في الاقط والتمر والزبيب، ولم تكن الهدايا في ذلك الوقت ما ترون، يا غلام ارفع هذا إلى الخزائن، ولم يعطهم منها شيئا.
وقال بشر بن غياث المريسي: سمعت أبا يوسف يقول: صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت علي الدنيا سبع عشرة سنة، وما أظن أجلي إلا أن اقترب.
فما مكث بعد ذلك إلا شهورا حتى مات.
وقد مات أبو يوسف في ربيع الاول من هذه السنة عن سبع وستين سنة، ومكث في القضاء بعده
__________
(1) في وفيات الاعيان 6 / 385: مخرج.
(2) زيد في الوفيات ومفتاح السعادة: فيكون لم يهب ولم يبع.

ولده يوسف.
وقد كان نائبه على الجانب الشرقي (1) من بغداد.
ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوي الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك، إنما ورد الشافعي بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين.
وإنما اجتمع الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني فأحسن إليه وأقبل عليه، ولم يكن بينهما شنآن كما يذكره بعض من لا خبرة له في هذا الشأن والله أعلم.
وفيها توفي: يعقوب بن داوود بن طهمان أبو عبد الله مولى عبد الله بن حازم السلمي، استوزره المهدي وحظي عنده جدا، وسلم إليه أزمة الامور، ثم لما أمر بقتل العلوي كما تقدم فأطلقه ونمت عليه تلك الجارية سجنه المهدي في بئر وبنيت عليه قبة، ونبت شعره حتى صار مثل شعور الانعام، وعمي، ويقال بل غشي بصره، ومكث
نحوا من خمسة عشر سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءا ولا يسمع صوتا إلا في أوقات الصلوات يعلمونه بذلك، ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء، فمكث كذلك حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من أيام الرشيد، قال يعقوب: فأتاني آت في منامي فقال: عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب فيأمن خائف ويفك عان * ويأتي أهله النائي الغريب فلما أصبحت نوديت فظننت أني أعلم بوقت الصلاة، ودلي إلي حبل وقيل لي: اربط هذا الحبل في وسطك، فأخرجوني، فلما نظرت إلى الضياء لم أبصر شيئا، وأوقفت بين يدي الخليفة فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فظننته المهدي فسلمت عليه باسمه، فقال: لست به، فقلت الهادي ؟ فقال: لست به.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد.
فقال: نعم، ثم قال: والله إنه لم يشفع فيك عندي أحد، ولكني البارحة حملت جارية لي صغيرة على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك فرحمت ما أنت فيه من الضيق فأخرجتك.
ثم أنعم عليه وأحسن إليه.
فغار منه يحيى بن خالد بن برمك، وخشي أن يعيده إلى منزلته التي كان عليها أيام المهدي، وفهم ذلك يعقوب فاستأذن الرشيد في الذهاب إلى مكة فأذن له، فكان بها حتى مات في هذه السنة رحمه الله.
وقال: يخشى يحيى أن أرجع إلى الولايات لا والله ما كنت لافعل أبدا، ولو رددت إلى مكاني.
وفيها توفي يزيد بن زريع أبو معاوية شيخ الامام أحمد بن حنبل في الحديث، كان ثقة عالما عابدا ورعا، توفي أبوه وكان والي البصرة وترك من المال خمسمائة درهم، فلم يأخذ منها يزيد درهما واحدا، وكان يعمل الخوص بيده ويقتات منه هو وعياله.
توفي بالبصرة في هذه السنة، وقيل قبل ذلك فالله أعلم.
__________
(1) في ابن خلكان 6 / 388 ومفتاح السعادة 1 / 211: الغربي.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة فيها خرجت الخزر على الناس من ثلمة أرمينية فعاثوا في تلك البلاد فسادا، وسبوا من المسلمين وأهل الذمة نحوا من مائة ألف، وقتلوا بشرا كثيرا وانهزم نائب أرمينية سعيد بن مسلم (1)،
فأرسل الرشيد إليهم خازم بن خزيمة (2) ويزيد بن مزيد في جيوش كثيرة كثيفة، فأصلحوا ما فسد في تلك البلاد.
وحج بالناس العباس بن موسى الهادي.
وفيها توفي من الاعيان علي بن الفضيل بن عياض في حياة أبيه.
كان كثير العبادة والورع والخوف والخشية.
ومحمد بن صبيح أبو العباس مولى بني عجل المذكر.
ويعرف بابن السماك.
روى عن إسماعيل بن أبي خالد والاعمش والثوري وهشام بن عروة وغيرهم، ودخل يوما على الرشيد فقال: إن لك بين يدي الله موقفا فانظر أين منصرفك، إلى الجنة أم النار ؟ فبكى الرشيد حتى كاد يموت.
وموسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي، ويقال له الكاظم، ولد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة، وكان كثير العبادة والمروءة، إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل إليه بالذهب والتحف، ولد له من الذكور والاناث أربعون نسمة.
وأهدي له مرة عبد عصيدة فاشتراه واشترى المزرعة التي هو فيها بألف دينار وأعتقه، ووهب المزرعة له.
وقد استدعاه المهدي إلى بغداد فحبسه، فلما كان في بعض الليالي رأى المهدي علي بن أبي طالب وهو يقول له: يا محمد (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم) [ محمد: 22 ] فاستيقظ مذعورا وأمر به فأخرج من السجن ليلا فأجلسه معه وعانقه وأقبل عليه، وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا على أحد من أولاده، فقال: والله ما هذا من شأني ولا حدثت فيه نفسي، فقال: صدقت.
وأمر له بثلاثة آلاف دينار، وأمر به فرد إلى المدينة فما أصبح الصباح إلا وهو على الطريق، فلم يزل بالمدينة حتى كانت خلافة الرشيد فحج، فلما دخل ليسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه موسى بن جعفر الكاظم، فقال الرشيد: السلام عليك يا رسول الله يا بن عم.
فقال موسى: السلام عليك يا أبت.
فقال الرشيد: هذا هو الفخر يا أبا الحسن (3).
ثم لم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه في سنة تسع وسبعين وسجنه فأطال سجنه، فكتب إلى موسى رسالة يقول فيها: أما بعد يا أمير المؤمنين إنه لم ينقض عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك إلى
__________
(1) من الطبري 10 / 70 وابن الاثير 6 / 163 وفي الاصل: مسلم.
(2) في الطبري وابن الاثير: خزيمة بن خازم.
(3) من ابن الاثير 6 / 164 وفي الاصل: أبا الحسن.

يوم يخسر فيه المبطلون.
توفي لخمس بقين من رجب من هذه السنة (1) ببغداد وقبره هناك مشهور.
وفيها توفي: هاشم (2) بن بشير بن أبي حازم القاسم بن دينار أبو معاوية السلمي الواسطي، كان أبوه طباخا للحجاج بن يوسف الثقفي، ثم كان بعد ذلك يبيع الكوامخ (3)، وكان يمنع ابنه من طلب العلم ليساعده على شغله، فأبى إلا أن يسمع الحديث.
فاتفق أن هاشما مرض فجاءه أبو شيبة قاضي واسط عائدا له ومعه خلق من الناس، فلما رآه بشير فرح بذلك وقال: يا بني أبلغ من أمرك أن جاء القاضي إلى منزلي ؟ لا أمنعك بعد هذا اليوم من طلب الحديث.
كان هاشم من سادات العلماء، وحدث عن مالك وشعبة والثوري وأحمد بن حنبل وخلق غير هؤلاء، وكان من الصلحاء العباد.
ومكث يصلي الصبح بوضوء العشاء قبل أن يموت بعشر سنين.
ويحيى بن زكريا ابن أبي زائدة قاضي المدائن كان من الائمة الثقات.
ويونس بن حبيب أحد النحاة النجباء، أخذ النحو عن أبي عمرو بن العلاء وغيره، وأخذ عنه الكسائي والفراء، وقد كانت له حلقة بالبصرة ينتابها أهل العلم والادب والفصحاء من الحاضرين والغرباء.
توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة (4).
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة فيها رجع الرشيد من الرقة إلى بغداد فأخذ الناس بأداء بقايا الخراج الذي عليهم، وولى رجلا (5) يضرب الناس على ذلك ويحبسهم، وولى على أطراف البلاد.
وعزل وولى وقطع ووصل.
وخرج بالجزيرة أبو عمرو الشاري فبعث إليه الرشيد من قبله (6) شهر زور.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد العباسي.
وفيها توفي:
__________
(1) في مروج الذهب: 3 / 435: مات سنة ست وثمانين ومائة مسموما ببغداد، وقال الخطيب في تاريخ بغداد: مات في الحبس ودفن في مقابر الشونيزيين خارج القبة.
(2) في ابن الاثير 6 / 165: هشيم (انظر شذرات الذهب 1 / 303 وصفة الصفوة 3 / 15).
(3) الكوامخ مفردها الكامخ وهو إدام يؤتدم به وخصه بعضهم بالمخللات التي تستعمل لتشهي الطعام.
(4) في ابن الاثير 6 / 165: زاد عمره على مائة سنة.
(5) ذكره الطبري وهو: عبد الله بن الهيثم بن سام (6 / 70).
(6) في الكلام نقص وتمامه من ابن الاثير والطبري: فوجه إليه زهيرا القصاب فقتله في شهرزور.

أحمد بن الرشيد (1) كان زاهدا عابدا قد تنسك، وكان لا يأكل إلا من عمل يده في الطين، كان يعمل فاعلا فيه، وليس يملك إلا مروا وزنبيلا - أي مجرفة وقفة - وكان يعمل في كل جمعة بدرهم ودانق يتقوت بهما من الجمعة إلى الجمعة، وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط.
ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة.
وكان من زبيدة في قول بعضهم، والصحيح أنه من امرأة كان الرشيد قد أحبها فتزوجها فحملت منه بهذا الغلام، ثم إن الرشيد أرسلها إلى البصرة وأعطاها خاتما من يا قوت أحمر، وأشياء نفيسة، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه.
فلما صارت الخلافة إليه لم تأته ولا ولدها، بل اختفيا، وبلغه أنهما ماتا، ولم يكن الامر كذلك، وفحص عنهما فلم يطلع لهما على خبر، فكان هذا الشاب يعمل بيده ويأكل من كدها، ثم رجع إلى بغداد، وكان يعمل في الطين ويأكل مدة زمانية.
هذا وهو ابن أمير المؤمنين، ولا يذكر للناس من هو إلى أن اتفق مرضه في دار كان يستعمله في الطين فمرضه عنده، فلما احتضر أخرج الخاتم وقال لصاحب المنزل: اذهب بهذا إلى الرشيد وقل له: صاحب هذا الخاتم يقول لك: إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم حيث لا ينفع نادما ندمه،
واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، وأن يكون آخر العهد بك، فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك وقد بلغك أخبار من مضى.
قال: فلما مات دفنته وطلبت الحضور عند الخليفة، فلما أوقفت بين يديه قال: ما حاجتك ؟ قلت: هذا الخاتم دفعه إلي رجل وأمرني أن أدفعه إليك، وأوصاني بكلام أقوله لك، فلما نظر الخاتم عرفه فقال: ويحك وأين صاحب هذا الخاتم ؟ قال فقلت: مات يا أمير المؤمنين.
ثم ذكرت الكلام الذي أوصاني به، وذكرت له أنه كان يعمل بالفاعل في كل جمعة يوم بدرهم وأربع دوانيق، أو بدرهم ودانق، يتقوت به سائر الجمعة، ثم يقبل على العبادة.
قال: فلما سمع هذا الكلام قام فضرب بنفسه الارض وجعل يتمرغ ويتقلب ظهرا لبطن ويقول: والله لقد نصحتني يا بني، ثم بكي، ثم رفع رأسه إلى الرجل وقال: أتعرف قبره ؟ قلت: نعم أنا دفنته.
قال: إذا كان العشى فائتني.
قال: فأتيته فذهب الى قبره فلم يزل يبكي عنده حتى أصبح، ثم أمر لذلك الرجل بعشرة آلاف درهم.
وكتب له ولعياله رزقا.
وفيها مات: عبد الله بن مصعب ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي الاسدي، والد بكار.
ألزمه الرشيد بولاية المدينة فقبلها بشروط عدل اشترطها، فأجابه إلى ذلك، ثم أضاف إليه نيابة اليمن، فكان من أعدل الولاة، وكان عمره يوم تولى نحوا من سبعين سنة.
__________
(1) لم يذكر الطبري ولا ابن الاثير في جملة من ذكراه من أولاده.

عبد الله بن عبد العزيز العمري (1) أدرك أبا طوالة، وروى عن أبيه وإبراهيم بن سعد، وكان عابدا زاهدا، وعظ الرشيد يوما فأطنب وأطيب.
قال له وهو واقف على الصفا: أتنظركم حولها - يعني الكعبة - من الناس ؟ فقال: كثير.
فقال: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلهم.
فبكى الرشيد بكاء كثيرا، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل ينشف به دموعه.
ثم قال له: يا هارون إن الرجل
ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم ؟ ثم تركهم وانصرف والرشيد يبكي.
وله معه مواقف محمودة غير هذه.
توفي عن ست وستين سنة.
ومحمد بن يوسف بن معدان أبو عبد الله الاصبهاني، أدرك التابعين، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة.
كان عبد الله بن المبارك يسميه عروس الزهاد.
وقال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أفضل منه، كان كأنه قد عاين.
وقال ابن مهدي: ما رأيت مثله، وكان لا يشترى خبزه من خباز واحد، ولا بقله من بقال واحد، كان لا يشتري إلا ممن لا يعرفه، يقول: أخشى أن يحابوني فأكون ممن يعيش بدينه.
وكان لا يضع جنبه للنوم صيفا ولا شتاء.
ومات ولم يجاوز الاربعين سنة رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة فيها قتل أهل طبرستان متوليهم مهرويه الرازي، فولى الرشيد عليهم عبد الله بن سعيد الحرشي.
وفيها قتل عبد الرحمن الانباري أبان بن قحطبة الخارجي بمرج القلعة.
وفيها عاث حمزة الشاري ببلاد باذغيس من خراسان، فنهض عيسى بن علي بن عيسى إلى عشرة آلاف من جيش حمزة فقتلهم، وسار وراء حمزة إلى كابل وزابلستان.
وفيها خرج أبو الخصيب فتغلب على أبيورد وطوس ونيسابور وحاصر مرو وقوي أمره.
وفيها توفي يزيد بن يزيد ببرذعة، فولى الرشيد مكانه ابنه أسد بن يزيد.
واستأذن الوزير يحيى (2) بن خالد الرشيد في أن يعتمر في رمضان فأذن له، ثم رابط بجنده إلى وقت الحج.
وكان أمير الحج في هذه السنة منصور بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها توفي: عبد الصمد بن علي ابن عبد الله بن عباس عم السفاح والمنصور.
ولد سنة أربع ومائة، وكان ضخم الخلق جدا ولم يبدل أسنانه، وكانت أصولها صفيحة واحدة، قال يوما للرشيد: يا أمير المؤمنين هذا المجلس
__________
(1) واسمه عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
(2) كذا بالاصل والطبري، وفي ابن الاثير 6 / 168: جعفر بن يحيى بن خالد.

اجتمع فيه عم أمير المؤمنين، وعم عمه، وعم عم عمه، وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد، والعباس بن محمد بن علي عم سليمان، وعبد الصمد بن علي السفاح، وتلخيص ذلك أن عبد الصمد عم عم عم الرشيد لانه عم جده.
روى عبد الصمد عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن البر والصلة ليطيلان الاعمار، ويعمران الديار، ويثريان الاموال، ولو كان القوم فجارا ".
وبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن البر والصلة ليخففان الحساب يوم القيامة " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) [ الرعد: 21 ].
وغير ذلك من الاحاديث.
ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، المعروف بالامام، كان علي إمارة الحاج، وإقامة سقايته في خلافة المنصور عدة سنين.
توفي ببغداد فصلى عليه الامين في شوال من هذه السنة، ودفن بالعباسية.
وفيها توفى من مشايخ الحديث: ضمام (1) بن إسماعيل، وعمرو بن عبيد (2).
والمطلب بن زياد (3).
والمعافى بن عمران (4).
في قول.
ويوسف بن الماجشون.
وأبو إسحاق الفزاري إمام أهل الشام بعد الاوزاعي في المغازي والعلم والعبادة.
ورابعة العدوية وهي رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك، العدوية البصرية العابدة المشهورة.
ذكرها أبو نعيم في الحلية والرسائل، وابن الجوزي في صفوة الصفوة، والشيخ شهاب الدين السهروردي في المعارف، والقشيري.
وأثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني، واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر.
وأنشد لها السهروردي في المعارف: - إني جعلتك في الفؤاد محدثي * وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس موانس * وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وقد ذكروا لها أحوالا وأعمالا صالحة، وصيام نهار وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة فالله
__________
(1) من تقريب التهذيب 1 / 374 وشذرات الذهب 1 / 308 وفي الاصل: تمام.
وهو ابن اسماعيل بن مالك المرادي أبو اسماعيل المصري قال أبو حاتم: كان صدوقا متعبدا لم يخرجوا له شيئا في الكتب الستة.
قال في المغني: لينه بعض الحفاظ.
(2) عمرو بن عبيد: الطنافسي الكوفي روى عن زياد بن علاقة والكبار.
وثقه أحمد وابن معين.
(3) المطلب بن زياد: ابن أبي زهير الثقفي مولاهم الكوفي صدوق.
(4) المعافى بن عمران: أبو سعود الازدي عالم أهل الموصل وزاهدهم سمع من ابن جريج وطبقته.
قال الثوري فيه: ياقوتة العلماء.
وقال ابن سعد: كان ثقة فاضلا صاحب سنة.
وقال في تقريب التهذيب: ثقة عابد فقيه.

أعلم.
توفيت بالقدس الشريف وقبرها شرقيه بالطور.
والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة فيها خرج علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا فقاتله بها، وسبى نساءه وذراريه.
واستقامت خراسان.
وحج بالناس فيها الرشيد ومعه ابناه محمد الامين، وعبد الله المأمون، فبلغ جملة ما أعطى لاهل الحرمين ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وذلك أنه كان يعطي الناس فيذهبون إلى الامين فيعطيهم، فيذهبون إلى المأمون فيعطيهم.
وكان إلى الامين ولاية الشام والعراق، وإلى المأمون من همدان إلى بلاد المشرق.
ثم تابع الرشيد لولده القاسم من بعد ولديه، ولقبه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، وكان الباعث له على ذلك أن ابنه القاسم هذا كان في حجر عبد الملك بن صالح، فلما بايع الرشيد لولديه كتب إليه: - يا أيها الملك الذي * لو كان نجما كان سعدا اعقد لقاسم بيعة * واقدح له في الملك زندا فالله فرد واحد * فاجعل ولاة العهد فردا ففعل الرشيد ذلك، وقد حمده قوم على ذلك، وذمه آخرون.
ولم ينتظم للقاسم هذا أمر، بل اختطفته المنون والاقدار عن بلوغ الامل والاوطار.
ولما قضى الرشيد حجه أحضر من معه من
الامراء والوزراء، وأحضر وليي العهد محمدا الامين وعبد الله المأمون.
وكتب بمضمون ذلك صحيفة، وكتب فيها الامراء والوزراء خطوطهم بالشهادة على ذلك (1)، وأراد الرشيد أن يعلقها في الكعبة فسقطت فقيل: هذا أمر سريع انتقاضه.
وكذا وقع كما سيأتي.
وقال إبراهيم الموصلي في عقد هذه البيعة في الكعبة: خير الامور مغبة * وأحق أمر بالتمام أمر قضى أحكامه الر * حمن في البلد الحرام وقد أطال القول في هذا المقام أبو جعفر بن جرير وتبعه ابن الجوزي في المنتظم.
وفيها توفي من الاعيان أصبغ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم أبو ريان في رمضان منها.
وحسان بن إبراهيم قاضي كرمان عن مائة سنة.
__________
(1) انظر نسخة الكتاب في الطبري 10 / 73.

وسلم الخاسر الشاعر وهو سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء، وإنما قيل له الخاسر لانه باع مصحفا واشترى به ديوان شعر لامرئ القيس، وقيل لانه أنفق مائتي ألف في صناعة الادب (1).
وقد كان شاعرا منطقيا له قدرة على الانشاء على حرف واحد، كما قال في موسى الهادي: موسى المطر غيث بكر ثم انهمر كم اعتبر ثم فتر وكم قدر ثم غفر عدل السير باقي الاثر خير البشر فرع مضر بدر بدر لمن نظر هو الوزر لمن حضر والمفتخر لمن غبر.
وذكر الخطيب أنه كان على طريقة غير مرضية من المجون والفسق، وأنه كان من تلاميذ بشار ابن برد، وأن نظمه أحسن من نظم بشار، فمما غلب فيه بشارا قوله: من راقب الناس لم يظفر بحاجته * وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فقال سلم: من راقب الناس مات غما * وفاز باللذة الجسور فغضب بشار وقال: أخذ معاني كلامي فكسناها ألفاظا أخف من ألفاظي.
وقد حصل له من الخلفاء والبرامكة نحوا من أربعين ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك.
ولما مات ترك ستة وثلاثين ألف دينار وديعة عند أبي الشمر (2) الغساني، فغنى إبراهيم الموصلي يوما الرشيد فأطر به فقال له: سل.
فقال: يا أمير المؤمنين أسألك شيئا ليس فيه من مالك شئ، ولا أرزأوك شيئا سواه.
قال: وما هو ؟ فذكر له وديعة سلم الخاسر، وأنه لم يترك وارثا.
فأمر له بها (3).
ويقال إنها كانت خمسين ألف دينار.
والعباس بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس عم الرشيد، كان من سادات قريش، ولي إمارة الجزيرة في أيام الرشيد، وقد أطلق له الرشيد في يوم خمسة آلاف درهم، وإليه تنسب العباسية، وبها دفن وعمره خمس وستون سنة، وصلى عليه الامين.
ويقطين بن موسى كان أحد الدعاة إلى دولة بني العباس، وكان داهية ذا رأي، وقد احتال مرة حيلة عظيمة لما
__________
(1) في الاغاني 19 / 261 ووفيات الاعيان 2 / 350: لقب بالخاسر لانه باع مصحفا واشترى بثمنه طنبورا.
(2) في وفيات الاعيان: أبي السمراء.
(3) في الاغاني 19 / 280: ان الرشيد هو الذي أخذ تركة سلم الخاسر وقال: هذا خادمي ونديمي والذي خلفه من مالي، فأنا أحق به.

حبس مروان الحمار إبراهيم بن محمد بحران، فتحيرت الشيعة العباسية فيمن يولون، ومن يكون ولي الامر من بعده إن قتل ؟ فذهب يقطين هذا إلى مروان فوقف بين يديه في صورة تاجر فقال: يا أمير المؤمنين إني قد بعث إبراهيم بن محمد بضاعة ولم أقبض ثمنها منه حتى أخذته رسلك، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بيني وبينه لاطالبه بمالي فعل قال: نعم ! فأرسل به إليه مع غلام، فلما رآه
قال: يا عدو الله إلى من أوصيت بعدك آخذ مالي منه ؟ فقال له: إلى ابن الحارثية - يعني أخاه عبد الله السفاح - فرجع يقطين إلى الدعاة إلى بني العباس فأعلمهم بما قال، فبايعوا السفاح، فكان من أمره ما ذكرناه.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة فيها كان مهلك البرامكة على يدي الرشيد، قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، ودمر ديارهم واندرست آثارهم، وذهب صغارهم وكبارهم.
وقد اختلف في سبب ذلك على أقوال ذكرها ابن جرير وغيره، قيل إن الرشيد كان قد سلم يحيى بن عبد الله بن حسن إلى جعفر البرمكي ليسجنه عنده، فما زال يحيى يترفق له حتى أطلقه، فنم الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد فقال له الرشيد: ويلك لا تدخل بيني وبين جعفر، فلعله أطلقه عن أمري وأنا لا أشعر.
ثم سأل الرشيد جعفرا عن ذلك فصدقه فتغيظ عليه وحلف ليقتلنه، وكره البرامكة، ثم قتلهم وقلاهم بعد ما كانوا أحظى الناس عنده، وأحبهم إليه، وكانت أم جعفر والفضل أم الرشيد من الرضاعة، وقد جعلهم الرشيد من الرفعة في الدنيا وكثرة المال بسبب ذلك شيئا كثيرا لم يحصل لمن قبلهم من الوزراء ولا لمن بعدهم من الاكابر والرؤساء، بحيث إن جعفرا بنى دارا غرم عليها عشرين ألف ألف درهم، وكان ذلك من جملة ما نقمه عليه الرشيد.
ويقال: إنما قتلهم الرشيد لانه كان لا يمر ببلد ولا إقليم ولا قرية ولا مزرعة ولا بستان إلا قيل هذا لجعفر، ويقال إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة.
وقيل إنما قتلهم بسبب العباسة.
ومن العلماء من أنكر ذلك وإن كان ابن جرير قد ذكره.
وذكر ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن سبب قتله البرامكة فقال: لو أعلم أن قميصي يعلم ذلك لاحرقته.
وقد كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه - وهذه وجاهة ومنزلة عالية - وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المسكر - فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر أيام خلافته المسكر - وكان أحب أهله إليه أخته العباسة بنت المهدي، وكان يحضرها معه، وجعفر البرمكي حاضر أيضا معه، فزوجه بها ليحل النظر إليها، واشترط عليه أن لا يطأها.
وكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب فربما واقعها جعفر فحبلت منه فولدت
ولدا وبعثته مع بعض جواريها إلى مكة، وكان يربى بها.
وذكر ابن خلكان أن الرشيد لما زوج أخته العباسة من جعفر أحبها حبا شديدا، فراودته عن

نفسه فامتنع أشد الامتناع خوفا من الرشيد، فاحتالت عليه - وكانت أمه تهدي له في كل ليلة جمعة جارية حسناء بكرا - فقالت لامه: أدخليني عليه بصفة جارية: فهابت ذلك فتهددتها حتى فعلت ذلك.
فلما دخلت عليه لم يتحقق وجهها فواقعها فقالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك ؟ وحملت من تلك الليلة، فدخل على أمه فقال: بعتيني والله برخيص.
ثم إن والده يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة حتى شكت زبيدة ذلك إلى الرشيد مرات، ثم أفشت له سر العباسة، فاستشاط غيظا، ولما أخبرته أن الولد قد أرسلت به إلى مكة حج عام ذلك حتى تحقق الامر.
ويقال: إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد وأخبرته بما وقع، وأن الولد بمكة وعنده جوار وأموال وحلى كثيرة.
فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية، ثم كشف الامر عن الحال، فإذا هو كما ذكر.
وقد حج في هذه السنة التي حج فيها الرشيد يحيى بن خالد، فجعل يدعو عند الكعبة: اللهم إن كان يرضيك عني سلب جميع مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك وأبق علي منهم الفضل، ثم خرج.
فلما كان عند باب المسجد رجع فقال: اللهم والفضل معهم فإني راض برضاك عني ولا تستثن منهم أحدا.
فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة ثم ركب في السفن إلى العمر (1) من أرض الانبار، فلما كانت ليلة السبت سلخ المحرم من هذه السنة أرسل مسرورا الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجعفر بن يحيى ليلا، فدخل عليه مسرور الخادم وعنده بختيشوع المتطبب، وأبو ركانة الاعمى المغني الكلوذاني، وهو في أمره وسروره، وأبو زكار (2) يغنيه: فلا تبعد فكل فتى سيأتي * عليه الموت يطرق أو يغادي فقال الخادم له: يا أبا الفضل هذا الموت قد طرقك، أجب أمير المؤمنين.
فقام إليه يقبل قدميه ويدخل عليه أن يمكنه فيدخل إلى أهله فيوصي إليهم ويودعهم، فقال: أما الدخول فلا سبيل
إليه، ولكن أوص.
فأوصى وأعتق جميع مماليكه أو جماعة منهم، وجاءت رسل الرشيد تستحثه فأخرج إخراجا عنيفا، فجعلوا يقودونه حتى أتوا به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأعلموا الرشيد بما كان يفعل، فأمر بضرب عنقه، فجاء السياف إلى جعفر فقال: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن آتيه برأسك.
فقال: يا أبا هاشم لعل أمير المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتبك في، فعاوده.
فرجع إلى الرشيد فقال: إنه يقول: لعلك مشغول.
فقال: يا ماص بظر أمه ائتني
__________
(1) العمر: بضم العين، وفي نسخ البداية المطبوعة الغمر، وقال البكري في معجم ما استعجم: قلاية العمر والعمر عندهم: الدير، والعمر: من السريانية (عمرا) وهي تعني البيت ثم خصصت بالدير.
أما القلاية فهي صومعة الراهب.
ويضم الدير على هذا عدة قلايات.
(2) من الطبري وابن الاثير والفخري.
وفي الاصل: أبو ركانة

برأسه.
فكرر عليه جعفر المقالة فقال الرشيد في الثالثة: برئت من المهدي إن لم تأتني برأسه لابعثن من يأتيني برأسك ورأسه.
فرجع إلى جعفر فحز رأسه وأتى به إلى الرشيد فألقاه بين يديه، وأرسل الرشيد من ليلته البرد بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها،، ومن كان منهم بسبيل.
فأخذوا كلهم عن آخرهم.
فلم يفلت منهم أحد.
وحبس يحيى بن خالد في منزله، وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الدنيا، وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس عند الجسر الاعلى، وشقت الجثة باثنتين فنصب نصفها الواحد عند الجسر الاسفل، والآخر عند الجسر الآخر، ثم أحرقت بعد ذلك.
ونودي في بغداد: أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم، إلا محمد بن يحيى بن خالد فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة.
وأتي الرشيد بأنس بن أبي شيخ كان يتهم بالزندقة، وكان مصاحبا لجعفر، فدار بينه وبين الرشيد كلام، ثم أخرج الرشيد من تحت فراسه سيفا وأمر بضرب عنقه به (1).
وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك (2): تلمظ السيف من شوق إلى أنس (3) * فالسيف يلحظ والاقدار تنتظر
فضربت عنق أنس فسبق السيف الدم فقال الرشيد: رحم الله عبد الله بن مصعب، فقال الناس: إن السيف كان للزبير بن العوام.
ثم شحنت السجون بالبرامكة واستلبت أموالهم كلها، وزالت عنهم النعمة.
وقد كان الرشيد في اليوم الذي قتل جعفرا في آخره، هو وإياه راكبين في الصيد في أوله، وقد خلا به دون ولاة العهود، وطيبه في ذلك بالغالية بيده، فلما كان وقت المغرب ودعه الرشيد وضمه إليه وقال: لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك، فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب وطب عيشا حتى تكون على مثل حالي، فأكون أنا وأنت في اللذة سواء.
فقال: والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك.
فقال: لا ! انصرف إلى منزلك.
فانصرف عنه جعفر فما هو إلا أن ذهب الليل بعضه حتى أوقع به من البأس والنكال ما تقدم ذكره.
وكان ذلك ليلة السبت آخر ليلة من المحرم، وقيل إنها أول ليلة من صفر في هذه السنة، وكان عمر جعفر إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة، ولما جاء الخبر إلى أبيه يحيى بن خالد بقتله قال: قتل الله ابنه.
ولما قيل له: قد خربت دارك قال: خرب الله دوره.
ويقال: إن يحيى لما نظر إلى دوره وقد هتكت ستورها واستبيحت قصورها، وانتهب ما فيها.
قال: هكذا تقوم الساعة.
وقد كتب إليه بعض أصحابه يعزيه فيما جرى له، فكتب إليه جواب التعزية: أنا بقضاء الله راض، وباختياره عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما الله بظلام للعبيد.
وما يغفر الله أكثر ولله الحمد.
وقد أكثر الشعراء من المراثي في
__________
(1) تولى قتله - في رواية للطبري - ابراهيم بن عثمان بن نهيك.
(2) نسبه ابن الاعثم لابي كبير الهذلي، والبيت ليس في ديوان الهذليين.
(3) في ابن الاعثم 8 / 277: إلى النفس.

البرامكة فمن ذلك قول الرقاشي، وقيل إنها لابي نواس (1): الآن استرحنا واستراحت ركابنا * وأمسك من يحدي ومن كان يحتدي (2) فقل للمطايا قد أمنت من السرى * وطي الفيافي فدفدا بعد فدفد وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر * ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للمطايا بعد فضل: تعطلي * وقل للرزايا كل يوم تجددي ودونك سيفا برمكيا مهندا * أصيب بسيف هاشمي مهند وقال الرقاشي (3)، وقد نظر إلى جعفر وهو على جذعه: أما والله لولا خوف واش * وعين للخليفة لا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا * كما للناس بالحجر استلام فما أبصرت قبلك (4) يا بن يحيى * حساما فله السيف الحسام على اللذات والدنيا جميعا (5) * ودولة آل برمك السلام قال فاستدعاه الرشيد فقال له: كم كان يعطيك جعفر كل عام ؟ قال: ألف دينار.
قال: فأمر له بألفي دينار.
وقال الزبير بن بكار عن عمه مصعب الزبيري قال: لما قتل الرشيد جعفرا وقفت امرأة على حمار فاره فقالت بلسان فصيح: والله يا جعفر لئن صرت اليوم آية لقد كنت في المكارم غاية، ثم أنشأت تقول (6): ولما رأيت السيف خالط (7) جعفرا * ونادى مناد للخليفة في يحيى بكيت على الدنيا وأيقنت أنما * قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا وما هي إلا دولة بعد دولة * تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى إذا أنزلت هذا منازل رفعة * من الملك حطت ذا إلى الغاية القصوى قال: ثم حركت حمارها فذهبت فكأنها كانت ريحا لا أثر لها، ولا يعرف أين ذهبت.
وذكر ابن الجوزي أن جعفرا كان له جارية يقال لها فتينة مغنية، لم يكن لها في الدنيا نظير، كان
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 467 قال: هو أشجع السلمي.
(2) في مروج الذهب: يجدي ويجتدي.
(3) نسب الطبري الابيات إلى أبي عبد الرحمن العطوي.
(4) في شذرات الذهب: مثلك، وليس البيت في الطبري.
(5) في الطبري: على الدنيا وساكنها جميعا...(6) نسب ابن خلكان الابيات إلى دعبل بن علي الخزاعي 1 / 340.
(7) في وفيات الاعيان: صبح.

مشتراها عليه بمن معها من الجواري مائة ألف دينار، فطلبها منه الرشيد فامتنع من ذلك، فلما قتله الرشيد اصطفى تلك الجارية فأحضرها ليلة في مجلس شرابه وعنده جماعة من جلسائه وسماره، فأمر من معها أن يغنين فاندفعت كل واحدة تغني، حتى انتهت النوبة إلى فتينة، فأمرها بالغناء فأسبلت دمعها وقالت: أما بعد السادة فلا.
فغضب الرشيد غضبا شديدا، وأمر بعض الحاضرين أن يأخذها إليه فقد وهبها له، ثم لما أراد الانصراف قال له فيما بينه وبينه: لا تطأها.
ففهم أنه إنما يريد بذلك كسرها.
فلما كان بعد ذلك أحضرها وأظهر أنه قد رضي عنها وأمرها بالغناء فامتنعت وأرسلت دمعها وقالت: أما بعد السادة فلا.
فغضب الرشيد أشد من غضبه في المرة الاولى وقال: النطع والسيف، وجاء السياف فوقف على رأسها فقال له الرشيد: إذا أمرتك ثلاثا وعقدت أصابعي ثلاثا فاضرب.
ثم قال لها غن: فبكت وقالت: أما بعد السادة فلا.
فعقد أصبعه الخنصر، ثم أمرها الثانية فامتنعت، فعقد اثنتين، فارتعد الحاضرون وأشفقوا غاية الاشفاق وأقبلوا عليها يسألونها أن تغني لئلا تقتل نفسها، وأن تجيب أمير المؤمنين إلى ما يريد.
ثم أمرها الثالثة فاندفعت تغني كارهة: لما رأيت الدنيا قد درست * أيقنت أن النعيم لم يعد قال فوثب إليها الرشيد وأخذ العود من يدها وأقبل يضرب به وجهها ورأسها حتى تكسر، وأقبلت الدماء وتطايرت الجوار من حولها، وحملت من بين يديه فماتت بعد ثلاث.
وروي أن الرشيد كان يقول: لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا راحة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي وأني تركتهم على حالهم.
وحكى ابن ؟ ن أن جعفرا اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار، فالتفتت إلى بائعها وقالت: اذكر العهد الذي بيني وبينك، لا تأكل من ثمني شيئا.
فبكى سيدها وقال: اشهدوا أنها حرة، وأني قد تزوجتها.
فقال جعفر: أشهدوا أن الثمن له أيضا.
وكتب إلى نائب له: أما بعد فقد
كثر شاكوك، وقل شاكروك، فأما أن تعدل، وإما تعتزل.
ومن أحسن ما وقع منه من التلطف في إزالة هم الرشيد، وقد دخل عليه منجم يهودي فأخبره أنه سيموت في هذه السنة، فحمل الرشيدهما عظيما، فدخل عليه جعفر فسأله: ما الخبر ؟ فأخبره بقول اليهودي فاستدعى جعفر اليهودي فقال له: كم بقي لك من العمر ؟ فذكر مدة طويلة.
فقال: يا أمير المؤمنين اقتله حتى تعلم كذبه فيما أخبر عن عمره.
فأمر الرشيد باليهودي فقتل، وسرى عن الرشيد الذي كان فيه.
وبعد مقتل البرامكة قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك، وذلك أنه حزن على البرامكة، ولا سيما على جعفر، كان يكثر البكاء عليهم، ثم خرج من حيز البكاء إلى حيز الانتصار لهم والاخذ بثأرهم، وكان إذا شرب في منزله يقول لجاريته: ائتني بسيفي، فيسله ثم يقول: والله لاقتلن قاتله، فأكثر أن يقول ذلك، فخشي ابنه عثمان أن يطلع الخليفة على ذلك فيهلكهم عن آخرهم،

ورأى أن أباه لا ينزع عن هذا، فذهب إلى الفضل بن الربيع فأعلمه، فأخبر الفضل الخليفة، فاستدعى به فاستخبره فأخبره، فقال: من يشهد معك عليه ؟ فقال: فلان الخادم فجاء به فشهد، فقال الرشيد: لا يحل قتل أمير كبير بمجرد قول غلام وخصي، لعلهما قد تواطا على ذلك.
فأحضره الرشيد معه على الشراب ثم خلا به فقال: ويحك يا إبراهيم ! إن عندي سرا أحب أن أطلعك عليه، أقلقني في الليل والنهار.
قال: وما هو ؟ قال: إني ندمت على قتل البرامكة ووددت أني خرجت من نصف ملكي ونصف عمري ولم أكن فعلت بهم ما فعلت، فإني لم أجد بعدهم لذة ولا راحة.
فقال: رحمة الله على أبي الفضل - يعني جعفرا - وبكى، وقال: والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله.
فقال له: قم لعنك الله، ثم حبسه ثم قتله بعد ثلاثة أيام.
وسلم أهله وولده.
وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بسبب أنه بلغه أن يريد الخلافة، واشتد غضبه بسببه على البرامكة الذين هم في الحبوس، ثم سجنه فلم يزل في السجن حتى مات الرشيد فأخرجه الامين وعقد له على نيابة الشام.
وفيها ثارت العصبية بالشام بين المضرية والنزارية، فبعث إليهم الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالمصيصة فانهدم بعض سورها ونضب ماؤها ساعة من الليل.
وفيها بعث الرشيد ولده القاسم على الصائفة، وجعله قربانا ووسيلة بين يديه، وولاه العواصم، فسار إلى بلاد الروم فحاصرهم حتى افتدوا بخلق من الاسارى يطلقونهم ويرجع عنهم، ففعل ذلك.
وفيها نقضت الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين، الذي كان عقده الرشيد بينه وبين رني ملكة الروم الملقبة أغسطه.
وذلك أن الروم عزلوها عنهم وملكوا عليهم النقفور، وكان شجاعا، يقال إنه من سلالة آل جفنة، فخلعوا رني وسملوا عينيها.
فكتب نقفور إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله (1) إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته إليك من الاموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه، ولا يستطيع مخاطبته، وأشفق عليه جلساؤه خوفا منه، ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم.
قد قرأت كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام.
ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها، وغنم من الاموال شيئا كثيرا، وخرب وأحرق، فطلب نقفور منه الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك.
فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق، وكان البرد قد اشتد جدا، فلم يقدر أحد أن يجئ فيخبر الرشيد
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 185: أضعافها.

بذلك لخوفهم على أنفسهم من البرد، حتى يخرج فصل الشتاء.
وحج بالناس فيها عبد الله (1) بن عباس بن محمد بن علي.
ذكر في توفي فيها من الاعيان جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أبو الفضل البرمكي الوزير ابن الوزير، ولاه الرشيد
الشام وغيرها من البلاد، وبعثه إلى دمشق لما ثارت الفتنة العشيران بحوران بين قيس ويمن، وكان ذلك أول نار ظهرت بين قيس ويمن في بلاد الاسلام، كان خامدا من زمن الجاهلية فأثاروه في هذا الاوان، فلما قدم جعفر بجيشه خمدت الشرور وظهر السرور، وقيلت في ذلك أشعار حسان، قد ذكر ذلك ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه منها: - لقد أوقدت في الشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها إذا جاش موج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلاقى صدعها وانجبارها هو الملك المأمول للبر والتقى * وصولاته لا يستطاع خطارها وهي قصيدة طويلة (2)، وكانت له فصاحة وبلاغة وذكاء وكرم زائد، كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف فتفقه عليه، وصار له اختصاص بالرشيد، وقد وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في شئ منها عن موجب الفقه.
وقد روى الحديث عن أبيه، عن عبد الحميد الكاتب، عن عبد الملك بن مروان كاتب عثمان، عن زيد بن ثابت كاتب الوحي.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبين السين فيه ".
رواه الخطيب وابن عساكر من طريق أبي القاسم الكعبي المتكلم، واسمه عبد الله بن أحمد البلخي - وقد كان كاتبا لاحمد بن زيد - عن أبيه عن عبد الله بن طاهر عن طاهر بن الحسين بن زريق، عن الفضل بن سهل ذي الرياستين عن جعفر بن يحيى به.
وقال عمرو بن بحر الجاحظ قال جعفر للرشيد: يا أمير المؤمنين ! قال لي أبي يحيى: إذا أقبلت الدنيا عليك فاعط، وإذا أدبرت فاعط، فإنها لا تبقى، وأنشدني أبي: لا بتخلن بدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير والسرف فان تولت فأحرى أن تجود بها * فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف قال الخطيب: ولقد كان جعفر من علو القدر ونفاذ الامر وعظم المحل وجلالة المنزلة عند
__________
(1) في الطبري 10 / 94: عبيد الله.
وفي مروج الذهب 4 / 455 كالاصل.
وقال: وقيل منصور بن المهدي.
(2) نسب القصيدة الطبري إلى منصور النمري (10 / 66 - 67).

الرشيد على حالة انفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد.
وكان سمح الاخلاق طلق الوجه ظاهر البشر.
أما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فأشهر من أن يذكر.
وكان أيضا من ذوي الفصاحة والمذكورين بالبلاغة.
وروى ابن عساكر عن مهذب حاجب العباس بن محمد صاحب قطيعة العباس والعباسية أنه أصابته فاقة وضائقة، وكان عليه ديون، فألح عليه المطالبون وعنده سفط فيه جواهر شراؤه عليه ألف ألف، فأتى به جعفرا فعرضه عليه وأخبره بما هو عليه من الثمن، وأخبره بالحاح المطالبين بديونهم، وأنه لم يبق له سوى هذا السفط.
فقال: قد اشتريته منك بألف ألف ثم أقبضه المال وقبض السفط منه، وكان ذلك ليلا.
ثم أمر من ذهب بالمال إلى منزله وأجلسه معه في السمر تلك الليلة، فلما رجع إلى منزله إذا السفط قد سبقه إلى منزله أيضا.
قال فلما أصبحت غدوت إلى جعفر لا تشكر له فوجدته مع أخيه الفضل على باب الرشيد يستأذنان عليه، فقال له جعفر: إني قد ذكرت أمرك للفضل، وقد أمر لك بألف ألف، وما أظنها إلا قد سبقتك إلى منزلك، وسأفاوض فيك أمير المؤمنين.
فلما دخل ذكر له أمره وما لحقه من الديون فأمر له بثلاثمائة ألف دينار.
وكان جعفر ليلة في سمره عند بعض أصحابه (1) فجاءت الخنفساء فركبت ثياب الرجل فألقاها عنه جعفر وقال: إن الناس يقولون: من قصدته الخنفساء يبشر بمال يصيبه.
فأمر له جعفر بألف دينار.
ثم عادت الخنفساء، فرجعت إلى الرجل فأمر له بألف دينار أخرى.
وحج مرة مع الرشيد فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه: انظر جارية أشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة، ففتش الرجل فوجد جارية على النعت فطلب سيدها فيها مالا كثيرا على أن يراها جعفر، فذهب جعفر إلى منزل سيدها فلما رآها أعجب بها، فلما غنته أعجبته أكثر، فساومه صاحبها فيها، فقال له جعفر: قد أحصرنا مالا فإن أعجبك وإلا زدناك، فقال لها سيدها: إني كنت في نعمة وكنت عندي في غاية السرور، وإنه قد انقبض علي حالي، وإني قد أحببت أن
أبيعك لهذا الملك، لكي تكوني عنده كما كنت عندي.
فقالت له الجارية: والله يا سيدي لو ملكت منك كما ملكت مني لم أبعك بالدنيا وما فيها، وأين ما كنت عاهدتني أن لا تبيعني ولا تأكل من ثمني.
فقال سيدها لجعفر وأصحابه: أشهدكم أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها.
فلما قال ذلك نهض جعفر وقام أصحابه وأمروا الحمال أن يحمل المال.
فقال جعفر: والله لا يتبعني، وقال للرجل: قد ملكتك هذا المال فأنفقه على أهلك، وذهب وتركه.
هذا وقد كان يبخل بالنسبة إلى أخيه الفضل، إلا أن الفضل كان أكثر منه مالا.
وروى ابن عساكر من طريق الدار قطني بسنده أنه لما أصيب جعفر وجدوا له في جرة ألف دينار، زنة كل دينار
__________
(1) الرواية في ابن خلكان وذكر: أنه كان عنده أبو عبيد الثقفي...وذكر تمام الرواية 1 / 331.

مائة دينار، مكتوب على صفحة الدينار جعفر: وأصفر من ضرب دار الملوك * يلوح على وجهه جعفر يزيد على مائة واحدا * متى تعطه معسرا يوسر وقال أحمد بن المعلى الراوية: كتبت عنان جارية الناطفي لجعفر تطلب منه أن يقول لابيه يحيى أن يشير على الرشيد بشرائها، وكتبت إليه هذه الابيات من شعرها في جعفر: - يا لائمي جهلا ألا تقصر * من ذا على حر الهوى يصبر لا تلحني إذا شربت الهوى * صرفا فممزوج الهوى سكر أحاط بي الحب فخلفي له * بحر وقدامي له أبحر تخفق رايات الهوى بالردى * فوقي وحولي للهوى عسكر سيان عندي في الهوى لائم * أقل فيه والذي يكثر أنت المصفى من بني برمك * يا جعفر الخيرات يا جعفر لا يبلغ الواصف في وصفه * ما فيك من فضل ولا يعشر من وفر المال لاغراضه * فجعفر أغراضه أوفر
ديباجة الملك على وجهه * وفي يديه العارض الممطر سحت علينا منهما ديمة * ينهل منها الذهب الاحمر لو مسحت كفاه جلمودة * نضر فيها الورق الاخضر لا يستتم المجد إلا فتى * يصبر للبذل كما يصبر يهتز تاج الملك من فوقه * فخرا ويزهى تحته المنبر أشبهه البدر إذا ما بدا * أو غرة في وجهه يزهر والله ما أدري أبدر الدجى * في وجهه أم وجهه أنور يستمطر الزوار منك الندى * وأنت بالزوار تستبشر وكتبت تحت أبياتها حاجتها، فركب من فوره إلى أبيه فأدخله على الخليفة فأشار عليه بشرائها فقال: لا والله لا أشتريها، وقد قال فيها الشعراء فأكثروا، واشتهر أمرها وهي التي يقول فيها أبو نواس: لا يشتريها إلا ابن زانية * أو قلطبان يكون من كانا وعن تمامة بن أشرس قال: بت ليلة مع جعفر بن يحيى بن خالد، فانتبه من منامه يبكي مذعورا فقلت: ما شأنك ؟ قال: رأيت شيخا جاء فأخذ بعضادتي هذا الباب وقال: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر

قال فأجبته: بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر قال ثمامة: فلما كانت الليلة القابلة قتله الرشيد ونصب رأسه على الجسر ثم خرج الرشيد فنظر إليه فتأمله ثم أنشأ يقول: تقاضاك دهرك ما أسلفا * وكدر عيشك بعد الصفا فلا تعجبن فإن الزمان * رهين بتفريق ما ألفا
قال: فنظرت إلى جعفر وقلت: أما لئن أصبحت اليوم آية فلقد كنت في الكرم والجود غاية، قال: فنظر إلي كأنه جمل صؤول ثم أنشأ يقول: - ما يعجب العالم من جعفر * ما عاينوه فبنا كانا من جعفر أو من أبوه ومن * كانت بنو برمك لولانا ثم حول وجه فرسه وانصرف (1).
وقد كان مقتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر من سنة سبع وثمانين ومائة، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة، ومكث وزيرا سبع عشرة سنة.
وقد دخلت عبادة أم جعفر على أناس في يوم عيد أضحى تستمنحهم جلد كبش تدفأ به، فسألوها عن ما كانت فيه من النعمة فقالت: لقد أصبحت في مثل هذا اليوم وإن على رأسي أربعمائة وصيفة، وأقول إن ابني جعفرا عاق لي.
وروى الخطيب البغدادي باسناده أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد جعفرا وما أحل بالبرامكة، استقبل القبلة وقال: اللهم إن جعفرا كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة.
حكاية غريبة ذكر ابن الجوزي في المنتظم أن المأمون بلغه أن رجلا يأتي كل يوم إلى قبور البرامكة فيبكي عليهم ويندبهم، فبعث من جاء به فدخل عليه وقد يئس من الحياة، فقال له: ويحك ! ما يحملك على صنيعك هذا ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنهم أسدوا إلي معروفا وخيرا كثيرا.
فقال: وما الذي أسدوه إليك ؟ فقال: أنا المنذر بن المغيرة من أهل دمشق، كنت بدمشق في نعمة عظيمة واسعة، فزالت عني حتى أفضى بي الحال إلى أن بعت داري، ثم لم يبق لي شئ، فأشار بعض أصحابي علي بقصد البرامكة ببغداد، فأتيت أهلي وتحملت بعيالي، فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة
__________
(1) الرواية في وفيات الاعيان 1 / 339 والعقد الفريد 1 / 22 وذكر أن صاحب الرواية هو يحيى بن خالد.

فانزلتهن في مسجد مهجور ثم قصدت مسجدا مأهولا أصلي فيه.
فدخلت مسجدا فيه جماعة لم ار أحسن وجوها منهم، فجلست إليهم فجعلت أدبر في نفسي كلاما أطلب به منهم قوتا للعيال الذين
معي، فيمنعني من ذلك السؤال الحياء، فبينا أنا كذلك إذا بخادم قد أقبل فدعاهم فقاموا كلهم وقمت معهم، فدخلوا دارا عظيمة، فإذا الوزير يحيى بن خالد جالس فيها فجلسوا حوله، فعقد عقد ابنته عائشة على ابن عم له ونثروا فلق المسك وبنادق العنبر، ثم جاء الخدم إلى كل واحد من الجماعة بصينية من فضة فيها ألف دينار، ومعها فتات المسك، فأخذها القوم ونهضوا وبقيت أنا جالسا، وبين يدي الصينية التي وضعوها لي، وأنا أهاب أن آخذها من عظمتها في نفسي، فقال لي بعض الحاضرين: ألا تأخذها وتذهب ؟ فمددت يدي فأخذتها فأفرغت ذهبها في جيبي وأخذت الصينية تحت إبطي وقمت، وأنا خائف أن تؤخذ مني، فجعلت أتلفت والوزير ينظر إلي وأنا لا أشعر، فلما بلغت الستارة أمرهم فردوني فيئست من المال، فلما رجعت قال لي: ما شأنك خائف ؟ فقصصت عليه خبري، فبكى ثم قال لاولاده: خذوا هذا فضموه إليكم.
فجاءني خادم فأخذ مني الصينية والذهب وأقمت عندهم عشرة أيام من ولد إلى ولد، وخاطري كله عند عيالي، ولا يمكنني الانصراف، فلما انقضت العشرة الايام جاءني خادم فقال: ألا تذهب إلى عيالك ؟ فقلت: بلى والله، فقام يمشي أمامي ولم يعطني الذهب والصينية، فقلت: يا ليت هذا كان قبل أن يؤخذ مني الصينية والذهب، يا ليت عيالي رأوا ذلك.
فسار يمشي أمامي إلى دار لم أر أحسن منها، فدخلتها فإذا عيالي يتمرغون في الذهب والحرير فيها، وقد بعثوا إلى الدار مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، وكتابا فيه تمليك الدار بما فيها، وكتابا آخر فيه تمليك قريتين جليلتين، فكنت مع البرامكة في أطيب عيش، فلما أصيبوا أخذ مني عمرو بن مسعدة القريتين وألزمني بخراجهما، فكلما لحقتني فاقة قصدت دورهم وقبورهم فبكيت عليهم.
فأمر المأمون برد القريتين، فبكى الشيخ بكاء شديدا فقال المأمون: مالك ؟ ألم استأنف بك جميلا ؟ قال: بلى ! ولكن هو من بركة البرامكة.
فقال له المأمون: امض مصاحبا فإن الوفاء مبارك، ومراعاة حسن العهد والصحبة من الايمان.
وفيها توفي: الفضيل بن عياض أبو علي التميمي أحد أئمة العباد الزهاد، وهو أحد العلماء والاولياء، ولد بخراسان بكورة دينور (1) وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع بها الاعمش ومنصور بن المعتمر وعطاء بن السائب
وحصين بن عبد الرحمن وغيرهم.
ثم انتقل إلى مكة فتعبد بها، وكان حسن التلاوة كثير الصلاة والصيام، وكان سيدا جليلا ثقة من أئمة الرواية رحمه الله ورضي عنه.
وله مع الرشيد قصة طويلة.
وقد روينا ذلك مطولا في كيفية دخول الرشيد عليه منزله، وما قال له الفضيل بن عياض، وعرض
__________
(1) قال ابن سعد: ولد بخراسان.
وفي تذكرة الحفاظ 1 / 246 وابن الاثير 6 / 189: ولد بسمرقند ونشأ بأبيورد وفي صفة الصفوة 2 / 237: ولد بخراسان بكورة أبيورد.
وانظر مروج الذهب 3 / 434 ووفيات الاعيان 4 / 49.

عليه الرشيد المال فأبى أن يقبل منه ذلك (1).
توفي بمكة في المحرم من هذه السنة.
وذكروا أنه كان شاطرا يقطع الطريق، وكان يتعشق جارية، فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جدارا إذ سمع قارئا يقرأ (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) [ الحديد: 16 ] فقال: بلى ! وتاب وأقلع عما كان عليه.
ورجع إلى خربة فبات بها فسمع سفارا يقولون: خذوا حذركم إن فضيلا أمامكم يقطع الطريق، فأمنهم واستمر على توبته حتى كان منه ما كان من السيادة والعبادة والزهادة، ثم صار علما يقتدى به ويهتدى بكلامه وفعاله.
قال الفضيل: لو أن الدنيا كلها حلال أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه، وقال: العمل لاجل الناس شرك، وترك العمل لاجل الناس رياء، والاخلاص أن يعافيك الله منهما.
وقال له الرشيد يوما: ما أزهدك، فقال: أنت أزهد مني، لاني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة، وأنت زهدت في الآخرة التي لا قيمة لها، فأنا زاهد في الفاني وأنت زاهد في الباقي.
ومن زهد في درة أزهد ممن زهد في بعرة.
وقد روى مثل هذا عن أبي حازم أنه قال ذلك لسليمان بن عبد الملك.
وقال: لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للامام، لان به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد.
وقال: إني لاعصى الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفأر بيتي.
وقال في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) [ هود: 7 ].
قال: يعني أخلصه وأصوبه، إن العمل يجب أن يكون خالصا لله، وصوابا على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها توفي:
بشر بن المفضل، وعبد السلام بن حرب، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد العزيز العمي، وعلي بن عيسى، الامير ببلاد الروم مع القاسم بن الرشيد في الصائفة.
ومعتمر بن سليمان وأبو شعيب البراثي الزاهد، وكان أول من سكن براثا في كوخ له يتعبد فيه، فهويته امرأة من بنات الرؤساء فانخلعت مما كانت فيه من الدنيا والسعادة والحشمة، وتزوجته وأقامت معه في كوخه تتعبد حتى ماتا، يقال إن اسمها جوهرة.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة فيها غزا إبراهيم بن إسرائيل (2) الصائفة فدخل بلاد الروم من درب الصفصاف فخرج النقفور
__________
(1) لعل المؤلف ذكر الرواية في كتاب آخر وسها عن ذلك فأثبت ملاحظته هنا ولم يأت على ذكرها في كتابنا.
وقد ذكر المسعودي رواية بهذا المعنى بينه وبين الرشيد مروج الذهب: 3 / 434 ووفيات الاعيان 4 / 48.
وصفة الصفوة 2 / 245.
(2) في الطبري 10 / 95 جبريل وابن الاثير 6 / 190: جبرائيل.

للقائه فجرح النقفور ثلاث جراح، وانهزم وقتل من أصحابه أكثر من أربعين ألفا، وغنموا أكثر من أربعة آلاف دابة.
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق.
وفيها حج بالناس الرشيد، وكانت آخر حجاته.
وقد قال أبو بكر حين رأى الرشيد منصرفا من الحج - وقد اجتاز بالكوفة - لا يحج الرشيد بعدها، ولا يحج بعده خليفة أبدا.
وقد رأى الرشيد بهلول الموله فوعظه موعظة حسنة، فروينا من طريق الفضل بن الربيع الحاجب قال: حججت مع الرشيد فمررنا بالكوفة فإذا بهلول المجنون يهذي، فقلت: اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين، فسكت.
فلما حاذاه الهودج قال: يا أمير المؤمنين حدثني أيمن بن نائل (1)، ثنا قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث، ولم يكن ثم طرد ولا ضرب ولا إليك إليك.
قال الربيع فقلت: يا أمير المؤمنين إنه بهلول، فقال: قد عرفته، قل يا بهلول فقال: هب أن قد ملكت الارض طرا * ودان لك العباد فكان ماذا
أليس غدا مصيرك جوف قبر (2) * ويحثو عليك التراب هذا ثم هذا قال: أجدت يا بهلول، أفغيره ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ! من رزقه الله مالا وجمالا فعف في جماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الله من الابرار.
قال: فظن أنه يريد شيئا، فقال: إنا أمرنا بقضاء دينك.
فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يقضى دين بدين، اردد الحق إلى أهله واقض دين نفسك من نفسك.
قال: إنا أمرنا أن يجري عليك رزق تقتات به.
قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنه سبحانه لا يعطيك وينساني.
وها أنا قد عشت عمرا لم تجر علي رزقا، انصرف لا حاجه لي في جرايتك.
قال: هذه ألف دينار خذها.
فقال: ارددها على أصحابها فهو خير لك، وما أصنع أنا بها ؟ انصرف عني فقد آذيتني.
قال: فانصرف عنه الرشيد وقد تصاغرت عنده الدنيا.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو إسحاق الفزاري إبراهيم بن محمد بن الحارث بن إسماعيل بن خارجة، إمام أهل الشام في المغازي وغير ذلك.
أخذ عن الثوري والاوزاعي وغيرهما، توفي في هذه السنة.
وقيل قبلها.
وإبراهيم الموصلي النديم، وهو إبراهيم بن ماهان بن بهمن أبو إسحاق، أحد الشعراء والمغنين والندماء للرشيد
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 517: نابل.
وهو أبو عمران ويقال أبو عمرو الحبشي المكي نزيل عسقلان صدوق يهم، من الخامسة.
(انظر تقريب التهذيب 1 / 88).
(2) في صفة الصفوة: ترب بدل جوف قبر.

وغيره، أصله من الفرس وولد بالكوفة وصحب شبانها وأخذ عنهم الغناء، ثم سافر إلى الموصل ثم عاد إلى الكوفة فقالوا: الموصلي.
ثم اتصل بالخلفاء أولهم المهدي وحظي عند الرشيد، وكان من جملة سماره وندمائه ومغنيه، وقد أثرى وكثر ماله جدا، حتى قيل إنه ترك أربعة وعشرين ألف ألف درهم، وكانت له طرف وحكايات غريبة، وكان مولده سنة خمس عشرة (1) ومائة في الكوفة، ونشأ في كفالة بني تميم، فتعلم منهم ونسب إليهم، وكان فاضلا بارعا في صناعة الغناء، وكان مزوجا بأخت المنصور
الملقب بزلزل، الذي كان يضرب معه، فإذا غنى هذا وضرب هذا اهتز المجلس.
توفي في هذه السنة على الصحيح، وحكى ابن خلكان في الوفيات أنه توفي وأبو العتاهية وأبو عمرو الشيباني ببغداد في يوم واحد من سنة ثلاث عشرة ومائتين.
وصحح الاول.
ومن قوله في شعره عند احتضاره قوله: مل والله طبيبي * من مقاساة الذي بي سوف أنعى عن قريب * لعدو وحبيب وفيها مات جرير بن عبد الحميد (2)، ورشد (3) بن سعد، وعبدة بن سليمان (4)، وعقبة بن خالد (5)، وعمر بن أيوب العابد أحد مشايخ أحمد بن حنبل، وعيسى بن يونس (6) في قول.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة فيها رجع الرشيد من الحج وسار إلى الري فولى وعزل.
وفيها رد علي بن عيسى إلى ولاية خراسان، وجاءه نواب تلك البلاد بالهدايا والتحف من سائر الاشكال والالوان، ثم عاد إلى بغداد فأدركه عيد الاضحى بقصر اللصوص (7) فضحى عنده، ودخل إلى بغداد لثلاث بقين من ذي الحجة، فلما اجتاز بالجسر أمر بجثة جعفر بن يحيى البرمكي فأحرقت ودفنت، وكانت مصلوبة من حين قتل إلى هذا اليوم، ثم ارتحل الرشيد من بغداد إلى الرقة ليسكنها وهو متأسف على بغداد وطيبها،
__________
(1) في الاغاني 5 / 155 وابن خلكان 1 / 43: خمس وعشرين.
(2) وهو جرير بن عبد الحميد الضبي أبو عبد الله مات وله ثمان وسبعون سنة روى عن منصور وطبقته من الكوفيين ورحل إليه الناس لثقته وسعة علمه.
(3) وهو رشيدين المهري محدث مصر رجل دين صالح فيه ضعف.
قال السيوطي في حسن المحاضرة هو أبو الحجاج المصري من عقيل.
روى عن زياد بن فائد وحميد بن هاني وخلق.
(4) الكلابي الكوفي، أبو محمد، روى عن عاصم الاحول وطبقته.
قال فيه أحمد: ثقة وزيادة مع صلاح وشدة فقر.
(5) عقبة بن خالد السكوني روى عن هشام بن عروة وطبقته.
(6) أبو عمرو بن يونس بن أبي اسحاق السبيعي.
ثقة مأمون، كان بصيرا بالنحو.
وكان يغزو سنة ويحج سنة.
(7) سمي بذلك لان جيشا من المسلمين نزلوا به فسرقت دوابهم.

وإنما مراده بمقامه بالرقة ردع المفسدين بها، وقد قال العباس بن الاحنف في خروجهم من بغداد مع الرشيد: ما أنخنا حتى ارتحلنا فما ن * فرق بين المناخ والارتحال ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا * فقرنا وداعهم بالسؤال وفيها فادى الرشيد الاسارى من المسلمين الذين كانوا ببلاد الروم، حتى يقال إنه لم يترك بها أسيرا من المسلمين.
فقال فيه بعض الشعراء: وفكت بك الاسرى التي شيدت لها * محابس ما فيها حميم يزورها على حين أعيا المسلمين فكاكها * وقالوا سجون المشركين قبورها وفيها رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق يحاصر الروم.
وفيها حج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
ذكر من توفي فيها من الاعيان علي بن حمزة بن عبد الله بن فيروز أبو الحسن الاسدي مولاهم، الكوفي المعروف بالكسائي لاحرامه في كساء، وقيل لاشتغاله على حمزة الزيات في كساء، كان نحويا لغويا أحد أئمة القراء، أصله من الكوفة ثم استوطن بغداد، فأدب الرشيد وولده الامين، وقد قرأ على حمزة بن حبيب الزيات قراءته، وكان يقرئ بها، ثم اختار لنفسه قراءة وكان يقرأ بها.
وقد روى عن أبي بكر بن عياش وسفيان بن عيينة وغيرهما، وعنه يحيى بن زياد الفراء وأبو عبيد.
قال الشافعي: من أراد النحو فهو عيال على الكسائي.
أخذ الكسائي عن الخليل صناعة النحو فسأله يوما: عن من أخذت هذا العلم ؟ قال: من بوادي الحجاز.
فرحل الكسائي إلى هناك فكتب عن العرب شيئا كثيرا، ثم عاد إلى الخليل فإذا هو قد مات وتصدر في موضعه يونس، فجرت بينهما مناظرات أقر له فيها يونس بالفضل، وأجلسه في موضعه.
قال الكسائي: صليت يوما بالرشيد فأعجبتني قراءتي، فغلطت غلطة ما غلطها صبي، أردت
أن أقول لعلهم يرجعون، فقلت لعلهم ترجعين، فما تجاسر الرشيد أن يردها.
فما سلمت قال: أي لغة هذه ؟ فقلت: إن الجواد قد يعثر.
فقال: أما هذا فنعم.
وقال بعضهم: لقيت الكسائي فإذا هو مهموم، فقلت: ما لك ؟ فقال: إن يحيى بن خالد قد وجه إلي ليسألني عن أشياء فأخشى من الخطأ، فقلت: قل ما شئت فأنت الكسائي، فقال: قطعه الله - يعني لسانه - إن قلت ما لم أعلم.
وقال الكسائي يوما قلت لنجار: بكم هذان البابان ؟ فقال: بسالجيان يا مصفعان.
توفي الكسائي في هذه السنة على المشهور، عن سبعين سنة.
وكان في صحبة الرشيد ببلاد الري

فمات بنواحيها هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد، وكان الرشيد يقول: دفنت الفقه والعربية بالري.
قال ابن خلكان: وقيل إن الكسائي توفي بطوس سنة ثنتين وثمانين ومائة، وقد رأى بعضهم الكسائي في المنام ووجهه كالبدر فقال: ما فعل بك ربك ؟ فقال: غفر لي بالقرآن.
فقلت: ما فعل حمزة ؟ قال: ذاك في عليين، ما نراه إلا كما نرى الكوكب.
وفيها توفي: محمد بن الحسن بن زفر أبو عبد الله الشيباني مولاهم، صاحب أبي حنيفة.
أصله من قرية (1) من قرى دمشق، قدم أبوه العراق فولد بواسط سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ونشأ بالكوفة فسمع من أبي حنيفة ومسعر والثوري وعمر بن ذر ومالك بن مغول، وكتب عن مالك بن أنس والاوزاعي وأبي يوسف، وسكن بغداد وحدث بها، وكتب عنه الشافعي حين قدمها في سنة أربع وثمانين ومائة، وولاه الرشيد قضاء الرقة ثم عزله.
وكان يقول لاهله: لا تسألوني حاجة من حاجات الدنيا فتشغلوا قلبي.
وخذوا ما شئتم من مالي فإنه أقل لهمي وأفرغ لقلبي.
وقال الشافعي: ما رأيت حبرا سمينا مثله، ولا رأيت أخف روحا منه، ولا أفصح منه.
كنت إذا سمعته يقرأ القرآن كأنما ينزل القرآن بلغته.
وقال أيضا: ما رأيت أعقل منه، كان يملا العين والقلب، قال الطحاوي: كان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم يجبه إلى الاعارة فكتب إليه: قل للذي لم تر عيناي مثله * حتى كأن من رآه قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله * لعله ببذله لاهله لعله قال: فوجه به إليه في الحال هدية لا عارية.
وقال إبراهيم الحربي: قيل لاحمد بن حنبل: هذه المسائل الدقاق من أين هي لك ؟ قال: من كتب محمد بن الحسن رحمه الله.
وقد تقدم أنه مات هو والكسائي في يوم واحد من هذه السنة.
فقال الرشيد: دفنت اليوم اللغة والفقه جميعا.
وكان عمره ثمانية وخمسين سنة.
ثم دخلت سنة تسعين ومائة من الهجرة فيها خلع رافع بن ليث بن نصر بن سيار نائب سمرقند الطاعة ودعا إلى نفسه (2)، وتابعه أهل بلده وطائفة كثيرة من تلك الناحية، واستفحل أمره، فسار إليه نائب خراسان علي بن عيسى فهزمه
__________
(1) وهي حرستا على باب دمشق في وسط الغوطة (2) قال في الاخبار الطوال ص 391: وكان سبب خروجه أن علي بن عيسى بن ماهان لما ولي خراسان أساء السيرة.
وتحامل على من كان بها من العرب.
وأظهر الجور وانظر الطبري 10 / 98 وابن الاثير 6 / 195.

رافع وتفاقم الامر به.
وفيها سار الرشيد لغزو بلاد الروم لعشر بقين من رجب، وقد لبس على رأسه قلنسوة فقال فيها أبو المعلا الكلابي: فمن يطلب لقاءك أو يرده * فبالحرمين أو أقصى الثغور ففي أرض العدو على طمر * وفي أرض الترفه فوق كور وما حاز الثغور سواك خلق * من المتخلفين على الامور فسار حتى وصل إلى الطوانة فعسكر بها وبعث إليه نقفور بالطاعة وحمل الخراج والجزية حتى عن رأس ولده ورأسه، وأهل مملكته، في كل سنة خمسة عشر ألف دينار، وبعث يطلب من الرشيد جارية قد أسروها وكانت ابنة ملك هرقلة (1)، وكان قد خطبها على ولده، فبعث بها الرشيد مع هدايا وتحف وطيب بعث يطلبه من الرشيد، واشترط عليه الرشيد أن يحمل في كل سنة ثلثمائة ألف دينار، وأن لا يعمر هرقلة.
ثم انصرف الرشيد راجعا واستناب على الغزو عقبة بن جعفر ونقض أهل قبرص العهد
فغزاهم معيوف بن يحيى، فسبى أهلها وقتل منهم خلقا كثيرا.
وخرج رجل من عبد القيس فبعث إليه الرشيد من قتله.
وحج بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي.
من توفي فيها من الاعيان والمشاهير أسد بن عمرو بن عامر أبو المنذر البجلي الكوفي صاحب أبي حنيفة، حكم ببغداد وبواسط، فلما انكف بصره عزل نفسه عن القضاء.
قال أحمد بن حنبل: كان صدوقا.
ووثقه ابن معين، وتكلم فيه علي بن المديني والبخاري.
وسعدون المجنون صام ستين سنة فخف دماغه فسماه الناس مجنونا، وقف يوما على حلقة ذي النون المصري فسمع كلامه فصرخ ثم أنشأ يقول: ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى * ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر وقال الاصمعي: مررت به وهو جالس عند رأس شيخ سكران يذب عنه، فقلت له: ما لي أراك عند رأس هذا الشيخ ؟ فقال: إنه مجنون.
فقلت: أنت مجنون أو هو ؟ قال: لا بل هو، لاني صليت الظهر والعصر في جماعة وهو لم يصل جماعة ولا فرادى.
وهو مع هذا قد شرب الخمر وأنا لم أشربها.
قلت: فهل قلت في هذا شيئا ؟ قال: نعم، ثم أنشأ يقول: تركت النبيذ لاهل النبيذ * وأصبحت أشرب ماء قراحا لان النبيذ يذل العزيز * ويكسو السواد الوجوه الصباحا فإن كان ذا جائزا للشباب * فما العذر منه إذا الشيب لاحا
__________
(1) نسخة كتاب نقفور إلى الرشيد في شأن ابنته الاسيرة في الطبري 10 / 99.

قال الاصمعي: فقلت له: صدقت، أنت العاقل وهو المجنون.
وعبيدة بن حميد بن صهيب، أبو عبد الرحمن التميمي الكوفي، مؤدب الامين.
روى عن الاعمش وغيره، وعنه أحمد بن حنبل.
وكان يثني عليه.
وفيها توفي: يحيى بن خالد بن برمك أبو علي الوزير والد جعفر البرمكي، ضم إليه المهدي ولده الرشيد فرباه، وأرضعته امرأته مع
الفضل بن يحيى، فلما ولي الرشيد عرف له حقه، وكان يقول: قال أبي، قال أبي.
وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها، ولم يزل كذلك حتى نكبت البرامكة فقتل جعفر وخلد أباه يحيى في الحبس حتى مات في هذه السنة.
وكان كريما فصيحا، ذا رأي سديد، يظهر من أموره خير وصلاح.
قال يوما لولده: خذوا من كل شئ طرفا، فإن من جهل شيئا عاداه.
وقال لاولاده: أكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون.
وكان يقول لهم: إذا أقبلت الدنيا فأنفقوا منها فإنها لا تبقى، وإذا أدبرت فأنفقوا منها فإنها لا تبقى، وكان إذا سأله سائل في الطريق وهو راكب أقل ما يأمر له بمائتي درهم فقال رجل يوما: يا سمي الحصور (1) يحيى * أتيحت لك من فضل ربنا جنتان كل من مر في الطريق عليكم * فله من نوالكم مائتان مائتا درهم لمثلي قليل * هي (2) للفارس العجلان فقال: صدقت.
وأمر فسبق به إلى الدار، فلما رجع سأل عنه فإذا هو قد تزوج وهو يريد أن يدخل على أهله فأعطاه صداقها أربعة آلاف، وعن دار أربعة آلاف، وعن الامتعة أربعة آلاف.
وكلفة الدخول أربعة آلاف، وأربعة آلاف يستظهر بها.
وجاء رجل يوما فسأله شيئا فقال: ويحك لقد جئتني في وقت لا أملك فيه مالا، وقد بعث إلي صاحب لي يطلب مني أن يهدي إلي ما أحب، وقد بلغني أنك تريد أن تبيع جارية لك، وأنك قد أعطيت فيها ثلاثة آلاف دينار، وإني سأطلبها فلا تبعها منه بأقل من ثلاثين ألف دينار.
فجاؤوني فبلغوا معي بالمساومة إلى عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها، وأجبت إلى بيعها، فأخذها وأخذت العشرين ألف دينار.
فأهداها إلى يحيى، فلما اجتمعت بيحيى قال: بكم بعتها ؟ قلت: بعشرين ألف دينار.
قال: إنك لخسيس خذ جاريتك إليك وقد بعث إلى صاحب فارس يطلب مني أن أستهديه شيئا، وإني سأطلبها منه فلا تبعها بأقل من خمسين ألف دينار.
فجاؤوني فوصلوا في ثمنها إلى ثلاثين ألف دينار، فبعتها منهم.
فلما جئته لامني أيضا
__________
(1) الحصور: الذي لم يتزوج، ويحيى المشار إليه هنا هو يحيى بن زكريا.
(2) في وفيات الاعيان 6 / 223: هي منكم للقابس.

وردها علي، فقلت: أشهدك أنها حرة وأني قد تزوجتها، وقلت: جارية قد أفادتني خمسين ألف دينار لا أفرط فيها بعد اليوم.
وذكر الخطيب أن الرشيد طلب من منصور بن زياد عشرة آلاف ألف درهم، ولم يكن عنده منها سوى ألف ألف درهم، فضاق ذرعا، وقد توعده بالقتل وخراب الديار إن لم يحملها في يومه ذلك، فدخل على يحيى بن خالد وذكر أمره فأطلق له خمسة آلاف ألف، واستطلق له من ابنه الفضل ألفي ألف، وقال لابنه: يا بني بلغني أنك تريد أن تشتري بها ضيعة.
وهذه ضيعة تغل الشكر وتبقى مدى الدهر.
وأخذ له من ابنه جعفر ألف ألف، ومن جاريته دنانير عقدا اشتراه بمائة ألف دينار، وعشرون ألف دينار، وقال للمترسم عليه: قد حسبناه عليك بألفي ألف.
فلما عرضت الاموال على الرشيد رد العقد، وكان قد وهبه لجارية يحيى، فلم يعد فيه بعد إذ وهبه.
وقال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود: يا أبت بعد الامر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال، فقال: يا بني دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون ولم يغفل الله عنها.
ثم أنشأ يقول: رب قوم قد غدوا في نعمة * زمنا والدهر ريان غدق سكت الدهر زمانا عنهم * ثم أبكاهم دما حين نطق وقد كان يحيى بن خالد هذا يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم، وكان سفيان يدعو له في سجوده يقول: اللهم إنه قد كفاني المؤنة وفرغني للعبادة فاكفه أمر آخرته.
فلما مات يحيى رآه بعض أصحابه في المنام فقال: ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي بدعاء سفيان.
وقد كانت وفاة يحيى بن خالد رحمه الله في الحبس في الرافقة لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة عن سبعين سنة، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن على شط الفرات، وقد وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه: قد تقدم الخصم والمدعا عليه بالاثر، والحاكم الحكم العدل الذي لا يجوز ولا يحتاج إلى بينة.
فحملت إلى الرشيد فلما قرأها بكى يومه ذلك، وبقي أياما يتبين الاسى في وجهه.
وقد قال بعض الشعراء في يحيى بن خالد:
سألت الندا هل أنت حر فقال لا * ولكنني عبد ليحيى بن خالد فقلت شراء قال لا بل وراثة * توارث رقي والد بعد والد (1)
__________
(1) ذكرهما صاحب شذرات الذهب ونسبهما لكلثوم العتابي باختلاف: 1 / 327: سألت الندى والجود حران أنتما ؟ * فقالا: كلانا عبد يحيى بن خالد فقلت: شراء ذلك الملك قال لا * ولكن ارثا والدا بعد والد

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة فيها خرج رجل بسواد العراق يقال له ثروان بن سيف، وجعل يتنقل فيها من بلد إلى بلد، فوجه إليه الرشيد طوق بن مالك فهزمه وجرح ثروان وقتل عامة أصحابه، وكتب بالفتح إلى الرشيد.
وفيها خرج بالشام أبو النداء فوجه إليه الرشيد يحيى بن معاذ واستنابه على الشام.
وفيها وقع الثلج ببغداد.
وفيها غزا بلاد الروم يزيد بن مخلد الهبيري في عشرة آلاف، فأخذت عليه الروم المضيق فقتلوه في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس، وانهزم الباقون، وولى الرشيد غزو الصائفة لهرثمة بن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفا فيهم مسرور الخادم، وإليه النفقات.
وخرج الرشيد إلى الحدث ليكون قريبا منهم.
وأمر الرشيد بهدم الكنائس والديور، وألزم أهل الذمة بتمييز لباسهم وهيآتهم في بغداد وغيرها من البلاد.
وفيها عزل الرشيد علي بن موسى عن إمرة خراسان وولاها هرثمة بن أعين.
وفيها فتح الرشيد هرقلة في شوال وخربها وسبى أهلها وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم إلى عين زربة، والكنيسة السوداء.
وكان دخل هرقلة في كل يوم مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق، وولى حميد بن معيوف سواحل الشام إلى مصر، ودخل جزيرة قبرص فسبى أهلها وحملهم حتى باعهم بالرافقة، فبلغ ثمن الاسقف ألفي دينار، باعهم أبو البختري القاضي.
وفيها أسلم الفضل بن سهل على يدي المأمون.
وحج بالناس فيها الفضل بن عباس بن محمد بن علي العباسي، وكان والي مكة، ولم يكن للناس بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة
ومائتين.
وفيها توفي من الاعيان: سلمة بن الفضل الابرش (1)، وعبد الرحمن بن القاسم الفقيه الراوي عن مالك بن يونس بن أبي إسحاق، قدم على الرشيد فأمر له بمال جزيل، نحوا من خمسين ألفا فلم يقبله.
والفضل بن موسى الشيباني (2).
ومحمد بن سلمة (3)، ومحمد بن الحسين المصيصي أحد الزهاد الثقات.
قال لم أتكلم بكلمة أحتاج إلى الاعتذار منها منذ خمسين سنة.
وفيها توفي معمر الرقي.
__________
(1) قاضي الري وراوي المغازي عن ابن اسحاق مختلف في الاحتجاج ولكنه في ابن اسحاق ثقة.
(2) في ابن الاثير 6 / 206: السيناني: نسبة إلى سينان وهي قرية من قرى مرو.
وهو مولى بني قطيعة وشيخ مرو ومحدثها.
ثقة.
(3) الحراني الفقيه محدث حران ومفتيها روى عن هشام بن حسان وطبقته.
قال ابن سعد: ثقة فاضل له رواية وفتوى.

ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومائة فيها دخل هرثمة بن أعين إلى خراسان نائبا عليها، وقبض على علي بن عيسى فأخذ أمواله وحواصله وأركبه على بعير وجهه لذنبه ونادى عليه ببلاد خراسان، وكتب إلى الرشيد بذلك فشكره على ذلك، ثم أرسله إلى الرشيد بعد ذلك فحبس بداره ببغداد.
وفيها ولى الرشيد ثابت بن نصر بن مالك نيابة الثغور فدخل بلاد الروم وفتح مطمورة.
وفيها كان الصلح بين المسلمين والروم على يد ثابت بن نصر.
وفيها خرجت الخرمية بالجبل وبلاد أذربيجان.
فوجه الرشيد إليهم عبد الله بن مالك بن الهيثم الخزاعي في عشرة آلاف فارس فقتل منهم خلقا وأسر وسبى ذراريهم، وقدم بهم بغداد فأمر له الرشيد بقتل الرجال منهم، وبالذرية فبيعوا فيها.
وكان قد غزاهم قبل ذلك خزيمة بن خازم.
وفي ربيع الاول منها قدم الرشيد من الرقة إلى بغداد في السفن وقد استخلف على الرقة ابنه القاسم وبين يديه خزيمة بن خازم، ومن نية الرشيد الذهاب إلى خراسان لغزو رافع بن ليث الذي كان قد خلع الطاعة واستحوذ على بلاد كثيرة من بلاد سمرقند وغيرها، ثم خرج الرشيد في شعبان قاصدا
خراسان، واستخلف على بغداد انبه محمدا الامين، وسأل المأمون من أبيه أن يخرج معه خوفا من غدر أخيه الامين، فأذن له فسار معه وقد شكا الرشيد في أثناء الطريق إلى بعض أمرائه جفاء بنيه الثلاثة الذين جعلهم ولاة العهد من بعده، وأراه داء في جسده، وقال إن لكل واحد من الامين والمأمون والقاسم عندي عينا علي، وهم يعدون أنفاسي ويتمنون انقضاء أيامي، وذلك شر لهم لو كانوا يعلمون.
فدعا له ذلك الامير ثم أمر له الرشيد بالانصراف إلى عمله وودعه، وكان آخر العهد به.
وفيها تحرك ثروان الحروري وقتل عامل السلطان بطف البصرة.
وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني.
ومات عيسى بن جعفر وهو يريد اللحاق بالرشيد فمات في الطريق.
وفيها حج بالناس العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور.
وفيها توفي: إسماعيل بن جامع ابن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة (1) أبو القاسم، أحد المشاهير بالغناء، كان ممن يضرب به المثل، وقد كان أولا يحفظ القرآن ثم صار إلى صناعة الغناء وترك القرآن، وذكر عنه أبو الفرج بن علي بن الحسين صاحب الاغاني حكايات غريبة، من ذلك أنه قال كنت يوما مشرفا من غرفة (2) بحران إذ أقبلت جارية سوداء معها قربة تستقي الماء، فجلست ووضعت قربتها واندفعت تغني:
__________
(1) اسم أبي وداعة: الحارث أسر يوم بدر وفداه ابنه المطلب بأربعة الآف درهم.
وهو أول أسير فدي يوم بدر.
(2) في الاغاني 6 / 335: مشرعة.
والمشرعة مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون.
وتسمي العرب المشرعة إذا كان الماء فيها لا انقطاع له كماء الانهار.

إلى الله أشكو بخلها وسماحتي * لها عسل مني وتبذل علقما فردي مصاب القلب أنت قتلته * ولا تتركيه هائم القلب مغرما (1) قال: فسمعت ما لا صبر لي عنه ورجوت أن تعيده فقامت وانصرفت، فنزلت وانطلقت وراءها وسألتها أن تعيده فقالت: إن علي خراجا كل يوم درهمين، فأعطيتها درهمين فأعادته فحفظته وسلكته
يومي ذلك، فلما أصبحت أنسيته فأقبلت السوداء فسألتها أن تعيده فلم تفعل إلا بدرهمين، ثم قالت: كأنك تستكثر أربعة دراهم، كأني بك وقد أخذت عليه أربعة آلاف دينار.
قال فغنيته ليلة للرشيد فأعطاني ألف دينار، ثم استعادنيه ثلاث مرات أخرى وعطاني ثلاثة آلاف دينار، فتبسمت فقال: مم تبسمت ؟ فذكرت له القصة فضحك وألقى إلي كيسا آخر فيه ألف دينار.
وقال: لا أكذب السوداء.
وحكى عنه أيضا قال: أصبحت يوما بالمدينة وليس معي إلا ثلاثة دراهم، فإذا جارية على رقبتها جرة تريد الركي (2) وهي تسعى وتترنم بصوت شجي: شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا * فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا وذاك لان النوم يغشى عيونهم * سريعا ولا يغشى (3) لنا النوم أعينا إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى * جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا فلو أنهم كانوا يلاقون مثلما * نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا قال: فاستعدته منها وأعطيتها الدراهم الثلاثة فقالت: لتأخذن بدلها ألف دينار، وألف دينار وألف دينار.
فأعطاني الرشيد ثلاثة آلاف دينار في ليلة على ذلك الصوت.
وفيها توفي: بكر بن النطاح أبو وائل الحنفي البصري الشاعر المشهور، نزل بغداد زمن الرشيد، وكان يخالط أبا العتاهية.
قال أبو عفان: أشعر أهل العدل من المحدثين أربعة، أولهم بكر بن النطاح.
وقال المبرد: سمعت الحسن بن رجاء يقول اجتمع جماعة من الشعراء ومعهم بكر بن النطاح يتناشدون، فلما فرغوا من طوالهم أنشد بكر بن النطاح لنفسه: ما ضرها لو كتبت بالرضى * فجف جفن العين أو أغمضا شفاعة مردودة عندها * في عاشق يود لو قد قضى يا نفس صبرا واعلمي أنما * يأمل منها مثلما قد مضى
__________
(1) ويروى: ولا تبعدي فيما تجشمت كلثما.
(2) الركي: جنس للركية وهي البئر.
(3) في الاغاني 6 / 311: سراعا وما يغشى.

لم تمرض الاجفان من قاتل * بلحظه إلا لان أمرضا قال: فابتدروه يقبلون رأسه.
ولما مات رثاه أبو العتاهية فقال: مات ابن نطاح أبو وائل * بكر فأمسى الشعر قد بانا وفيها توفي بهلول المجنون، كان يأوي إلى مقابر الكوفة، وكان يتكلم بكلمات حسنة، وقد وعظ الرشيد وغيره كما تقدم.
وعبد الله بن إدريس الاودي الكوفي، سمع الاعمش وابن جريج وشعبة ومالكا وخلقا سواهم.
وروى عنه جماعات من الائمة، وقد استدعاه الرشيد ليوليه القضاء فقال: لا أصلح، وامتنع أشد الامتناع، وكان قد سأل قبله وكيعا فامتنع أيضا، فطلب حفص بن غياث فقبل.
وأطلق لكل واحد خمسة آلاف عوضا عن كلفته التي تكلفها في السفر، فلم يقبل وكيع ولا ابن إدريس، وقبل ذلك حفص، فحلف ابن إدريس لا يكلمه أبدا.
وحج الرشيد في بعض السنين فاجتاز بالكوفة ومعه القاضي أبو يوسف والامين والمأمون، فأمر الرشيد أن يجتمع شيوخ الحديث ليسمعوا ولديه، فاجتمعوا إلا ابن إدريس هذا، وعيسى بن يونس.
فركب الامين والمأمون بعد فراغهما من سماعهما على من اجتمع من المشايخ إلى ابن إدريس فأسمعهما مائة حديث، فقال له المأمون: يا عم إن أردت أعدتها من حفظي، فأذن له فأعادها من حفظه كما سمعها، فتعجب لحفظه.
ثم أمر له المأمون بعشرة آلاف فلم يقبلها، فظن أنه استقلها فأضعفها فقال: والله لو ملات لي المسجد مالا إلى سقفه ما قبلت منه شيئا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما احتضر ابن إدريس بكت ابنته فقال: علام تبكي ؟ فقد ختمت في هذا البيت أربعة آلاف ختمة.
صعصعة بن سلام ويقال ابن عبد الله أبو عبد الله الدمشقي، ثم تحول إلى الاندلس فاستوطنها في زمن عبد الملك بن معاوية وابنه هشام، وهو أول من أدخل علم الحديث ومذهب الاوزاعي إلى بلاد الاندلس،
وولي الصلاة بقرطبة، وفي أيامه غرست الاشجار بالمسجد الجامع هناك كما يراه الاوزاعي والشاميون ويكرهه مالك وأصحابه.
وقد روى عن مالك والاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز.
وروى عنه جماعة منهم عبد الملك بن حبيب الفقيه، وذكره في كتاب الفقهاء، وذكره ابن يونس في تاريخه - تاريخ مصر - والحميدي في تاريخ الاندلس، وحرر وفاته في هذه السنة.
وحكى عن شيخه ابن حزم أن صعصعة هذا أول من أدخل مذهب الاوزاعي إلى الاندلس.
وقال ابن يونس: أول من أدخل علم الحديث إليها.
وذكر أنه توفي قريبا من سنة ثمانين ومائة، والذي حرره الحميدي في هذه السنة أثبت.

علي بن ظبيان أبو الحسن العبسي قاضي الشرقية من بغداد، ولاه الرشيد ذلك.
كان ثقة عالما من أصحاب أبي حنيفة، ثم ولاه الرشيد قضاء القضاة، وكان الرشيد يخرج معه إذا خرج من عنده، مات بقوميسين في هذه السنة.
العباس بن الاحنف ابن الاسود بن طلحة الشاعر المشهور، كان من عرب خراسان ونشأ ببغداد، وكان لطيفا ظريفا مقبولا حسن الشعر.
قال أبو العباس قال عبد الله بن المعتز: لو قيل لي من أحسن الناس شعرا تعرفه ؟ لقلت العباس: قد سحب الناس أذيال الظنون بنا * وفرق الناس فينا قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظن (1) غيركم * وصادق ليس يدري أنه صدقا وقد طلبه الرشيد ذات ليلة في أثناء الليل فانزعج لذلك وخاف نساؤه، فلما وقف بين يدي الرشيد قال له: ويحك إنه قد عن لي بيت في جارية لي فأحببت أن تشفعه بمثله، فقال: يا أمير المؤمنين ما خفت أعظم من هذه الليلة، فقال: ولم ؟ فذكر له دخول الحرس عليه في الليل، ثم جلس حتى سكن روعه ثم قال: ما قلت يا أمير المؤمنين ؟ فقال: حنان قد رأيناها * فلم نر مثلها بشرا
يزيدك وجهها حسنا * إذا ما زدته نظرا فقال الرشيد: زد.
فقال: إذا ما الليل مال علي * ك بالاظلام واعتكرا ودج فلم تر فجرا (2) * فأبرزها تر قمرا فقال: إنا قد رأيناها، وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم.
ومن شعره الذي أقر له فيه بشار بن برد وأثبته في سلك الشعراء بسببه قوله: أبكي الذين أذاقوني مودتهم * حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا واستنهضوني فلما قمت منتصبا * بثقل ما حملوني منهم قعدوا
__________
(1) في الاغاني 8 / 367: بالحب.
(2) في وفيات الاعيان 3 / 22: قمرا.

وله أيضا: وحدثتني يا سعد عنها فزدتني * جنونا فزدني من حديثك يا سعد هواها هوى لم يعرف القلب غيره * فليس له قبل وليس له بعد قال الاصمعي: دخلت على العباس بن الاحنف بالبصرة وهو طريح على فراشه يجود بنفسه وهو يقول: يا بعيد (1) الدار عن وطنه * مفردا يبكي على شجنه كلما جد النحيب (2) به * زادت الاسقام في بدنه ثم أغمي عليه ثم انتبه بصوت طائر على شجرة فقال: ولقد زاد الفؤاد شجا * هاتف (3) يبكي على فننه شاقه ما شاقني (4) فبكى * كلنا يبكي على سكنه قال ثم أغمي عليه أخرى فحركته فإذا هو قد مات.
قال الصولي: كانت وفاته في هذه السنة،
وقيل بعدها، وقيل قبلها في سنة ثمان وثمانين ومائة فالله أعلم.
وزعم بعض المؤرخين أنه بقي بعد الرشيد.
عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور أخو زبيدة، كان نائبا على البصرة في أيام الرشيد فمات في أثناء هذه السنة.
وفيها توفي: الفضل بن يحيى ابن خالد بن برمك أخو جعفر وأخوته، كان هو والرشيد يتراضعان.
أرضعت الخيزران فضلا، وأرضعت أم الفضل وهي زبيدة بنت بن بريه هارون الرشيد.
وكانت زبيدة هذه من مولدات بتبين البرية، وقد قال في ذلك بعض الشعراء (5):
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 127 ووفيات الاعيان 3 / 26: يا غريب.
(2) في مروج الذهب: البكاء به...* دبت الاسقام...(3) في مروج الذهب والوفيات: طائر.
(4) في مروج الذهب: شفه ما شفني.
(5) هو مروان بن أبي حفصة كما في الفخري ووفيات الاعيان.

كفى لك فضلا أن أفضل حرة (1) * غذتك بثدي والخليفة واحد لقد زنت يحيى في المشاهد كلها * كما زان يحيى خالدا في المشاهد قالوا: وكان الفضل أكرم من أخيه جعفر، ولكن كان فيه كبر شديد، وكان عبوسا، وكان جعفر أحسن بشرا منه وأطلق وجها، وأقل عطاء.
وكان الناس إليه أميل، ولكن خصلة الكرم تغطي جميع القبائح، فهي تستر تلك الخصلة التي كانت في الفضل.
وقد وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعابه أبوه على ذلك، فقال: يا أبت إن هذا يصحبني في العسر واليسر والعيش الخشن، واستمر معي في هذا الحال فأحسن صحبتي، وقد قال بعض الشعراء:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا * من كان يعتادهم في المنزل الخشن ووهب يوما لبعض الادباء عشرة آلاف دينار فبكى الرجل فقال له: مم تبكي، أستقللتها ؟ قال: لا والله، ولكني أبكي أن الارض تأكل مثلك، أو تواري مثلك.
وقال علي بن الجهم عن أبيه: أصبحت يوما لا أملك شيئا حتى ولا علف الدابة.
فقصدت الفضل بن يحيى، فإذا هو قد أقبل من دار الخلافة في موكب من الناس، فلما رآني رحب بي وقال: هلم.
فسرت معه، فلما كان ببعض الطريق سمع غلاما يدعو جارية من دار، وإذا هو يدعوها باسم جارية له يحبها، فانزعج لذلك وشكا إلي ما لقي من ذلك، فقلت: أصابك ما أصاب أخي بني عامر حيث يقول: وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى * فهيج أحزان الفؤاد ولا يدري دعا باسم ليلى غيرها وكأنما * أطار بليلى طائرا كان في صدري فقال: اكتب لي هذين البيتين.
قال: فذهبت إلى بقال فرهنت عنده خاتمي على ثمن ورقة وكتبتهما له، فأخذهما وقال: انطلق راشدا.
فرجعت إلى منزلي فقال لي غلامي: هات خاتمك حتى نرهنه على طعام لنا وعلف للدابة، فقلت: إني رهنته.
فما أمسينا حتى أرسل إلي الفضل بثلاثين ألفا من الذهب، وعشرة آلاف من الورق، أجراه علي كل شهر، وأسلفني شهرا.
ودخل على الفضل يوما بعض الاكابر فأكرمه الفضل وأجلسه معه على السرير، فشكا إليه الرجل دينا عليه وسأله أن يكلم في ذلك أمير المؤمنين.
فقال: نعم، وكم دينك ؟ قال ثلاثمائة ألف ردهم.
فخرج من عنده وهو مهموم لضعف رده عليه، ثم مال إلى بعض إخوانه فاستراح عنده ثم رجع إلى منزله فإذا المال قد سبقه إلى داره.
وما أحسن ما قال فيه بعض الشعراء:
__________
(1) في الفخري: كفى لك فخرا أن أكرم حرة.

لك الفضل يا فضل بن يحيى بن خالد * وما كل من يدعى بفضل له فضل رأى الله فضلا منك في الناس واسعا * فسماك فضلا فالتقى الاسم والفعل
وقد كان الفضل أكبر رتبة عند الرشيد من جعفر، وكان جعفر أحظى عند الرشيد منه وأخص.
وقد ولي الفضل أعمالا كبارا، منها نيابة خراسان وغيرها.
ولما قتل الرشيد البرامكة وحبسهم جلد الفضل هذا مائة سوط وخلده في الحبس حتى مات في هذه السنة، قبل الرشيد بشهور خمسة في الرقة وصلى عليه بالقصر الذي مات فيه أصحابه، ثم أخرجت جنازته فصلى عليها الناس، ودفن هناك وله خمس وأربعون سنة، وكان سبب موته ثقل أصابه في لسانه اشتد به يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي قبل أذان الغداة من يوم السبت.
قال ابن جرير: وذلك في المحرم من سنة ثلاث وتسعين مائة، وقال ابن الجوزي: في سنة ثنتين وتسعين فالله أعلم.
وقد أطال بن خلكان ترجمته وذكر طرفا صالحا من محاسنه ومكارمه، من ذلك أنه ورد بلخ حين كان نائبا على خراسان، وكان بها بيت النار التي كانت تعبدها المجوس، وقد كان جده برمك من خدامها، فهدم بعضه ولم يتمكن من هدمه كله، لقوة إحكامه، وبنى مكانه مسجدا لله تعالى.
وذكر أنه كان يتمثل في السجن بهذه الابيات ويبكي: إلى الله فيما نالنا نرفع الشكوى * ففي يده كشف المضرة والبلوى خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلا نحن في الاموات فيها ولا الاحيا إذا جاءنا السجان يوما لجاجة * عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا (1) ومحمد بن أمية الشاعر الكاتب، وهو من بيت كلهم شعراء، وقد اختلط أشعار بعضهم في بعض.
ومنصور بن الزبرقان ابن سلمة أبو الفضل النميري الشاعر، امتدح الرشيد، وأصله من الجزيرة وأقام ببغداد ويقال لجده مطعم الكبش الرخم، وذلك أنه أضاف يوما فجعلت الرخم تحوم حولهم، فأمر بكبش يذبح للرخم حتى لا يتأذى بها ضيفانه، ففعل له ذلك.
فقال الشاعر فيه: أبوك زعيم بني قاسط * وخالك ذو الكبش يغذي الرخم وله أشعار حسنة، وكان يروي عن كلثوم بن عمرو، وكان شيخه الذي أخذ عنه الغناء.
__________
(1) نسبها ابن خلكان لصالح بن عبد القدوس، وقيل إنها لعلي بن الخليل، وقال غيره هي لابي العتاهية.

يوسف بن القاضي أبي يوسف سمع الحديث من السري بن يحيى، ويونس بن أبي إسحاق، ونظر في الرأي وتفقه، وولي قضاء الجانب الشرقي ببغداد في حياة أبيه أبي يوسف، وصلى بالناس الجمعة بجامع المنصور عن أمر الرشيد.
توفي في رجب من هذه السنة وهو قاضي ببغداد.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة قال ابن جرير: في المحرم منها توفي الفضل بن يحيى، وقال ابن الجوزي توفي الفضل في سنة ثنتين وتسعين كما تقدم.
وما قاله ابن جرير أقرب.
قال: وفيها توفي سعيد الجوهري، قال: وفيها وافى الرشيد جرجان وانتهت إليه خزائن علي بن عيسى تحمل على ألف وخمسمائة بعير، وذلك في صفر منها، ثم تحول منها إلى طوس وهو عليل، فلم يزل بها حتى كانت وفاته فيها.
وفيها تواقع هرثمة نائب العراق هو ورافع بن الليث فكسره هرثمة وافتتح بخارى وأسر أخاه بشير بن الليث، فبعثه إلى الرشيد وهو بطوس قد ثقل عن السير، فلما وقف بين يديه شرع يترقق له فلم يقبل منه، بل قال: والله لو لم يبق من عمري إلا أن أحرك شفتي بقتلك لقتلتك، ثم دعا بقصاب فجزأه بين يديه أربعة عشر عضوا، ثم رفع الرشيد يديه إلى السماء يدعو الله أن يمكنه من أخيه رافع كما مكنه من أخيه بشير.
وفاة الرشيد كان قد رأى وهو بالكوفة رؤيا أفزعته وغمه ذلك، فدخل عليه جبريل بن بختيشوع فقال: ما لك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: رأيت كفا فيها تربة حمراء خرجت من تحت سريري وقائلا يقول: هذه تربة هارون.
فهون عليه جبريل أمرها وقال: هذه من أضغاث الاحلام من حديث النفس، فتناسها يا أمير المؤمنين.
فلما سار يريد خراسان ومر بطوس واعتقلته العلة بها، ذكر رؤياه فهاله ذلك وقال لجبريل: ويحك ! أما تذكر ما قصصته عليه من الرؤيا ؟ فقال: بلى.
فدعا مسرورا الخادم وقال: ائتني بشئ من تربة هذه الارض، فجاءه بتربة حمراء في يده، فلما رآها قال: والله هذه الكف التي رأيت، والتربة التي
كانت فيها.
قال جبريل: فوالله ما أتت عليه ثلاث حتى توفي، وقد أمر بحفر قبره قبل موته في الدار التي كان فيها، وهي دار حميد بن أبي غانم الطائي، فجعل ينظر إلى قبره وهو يقول: يا بن آدم تصير إلى هذا.
ثم أمر أن يقرأوا القرآن في قبره، فقرأوه حتى ختموه وهو في محفة على شفير القبر ولما حضرته الوفاة احتبى بملاءة وجلس يقاسي سكرات الموت، فقال له بعض من حضر: لو اضطجعت كان أهون عليك.
فضحك ضحكا صحيحا ثم قال: أما سمعت قول الشاعر: وإني من قوم كرام يزيدهم * شماسا وصبرا شدة الحدثان

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55