كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

وفيها خرج الملك الظاهر في عساكره فقصد بلاد الساحل لقتال الفرنج ففتح قيسارية في ثلاث ساعات من يوم الخميس ثامن (1) جمادى الاولى يوم نزوله عليها، وتسلم قلعتها في يوم الخميس الآخر خامس عشره فهدمها وانتقل إلى غيرها، ثم جاء الخبر بأنه فتح مدينة أرسوف وقتل من بها من الفرنج وجاءت البريدية بذلك (2).
فدقت البشائر في بلاد المسلمين وفرحوا بذلك فرحا شديدا.
وفيها ورد خبر من بلاد المغرب بأنهم انتصروا على الفرنج وقتلوا منهم خمسة وأربعين ألفا، وأسروا عشرة آلاف، واسترجعوا منهم ثنتين وأربعين بلدة منها برنس وإشبيلية وقرطبة ومرسية، وكانت النصرة في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثنتين وستين.
وفي رمضان من هذه السنة شرع في تبليط باب البريد من باب الجامع إلى القناة التي عند الدرج وعمل في الصف القبلي منها بركة وشاذروان.
وكان في مكانها قناة من القنوات ينتفع الناس بها عند انقطاع نهر ماناس فغيرت وعمل الشاذروان، ثم غيرت وعمل مكانها دكاكين.
وفيها استدعى الظاهر نائبه على دمشق الامير آقوش، فسار إليه سامعا مطيعا، وناب عنه الامير علم الدين الحصني حتى عاد مكرما معزوزا.
وفيها ولى الظاهر قضاة من بقية المذاهب في مصر مستقلين بالحكم يولون من جهتهم في البلدان أيضا كما يولى الشافعي، فتولى قضاء الشافعية التاج عبد الوهاب ابن بنت الاعز، والحنفية شمس الدين سليمان، والمالكية شمس الدين السبكي، والحنابلة شمس الدين محمد المقدسي، وكان ذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة بدار العدل، وكان سبب ذلك كثرة توقف
القاضي ابن بنت الاعز في أمور تخالف مذهب الشافعي، وتوافق غيره من المذاهب، فأشار الامير جمال الدين أيد غدي العزيزي على السلطان بأن يولي من كل مذهب قاضيا مستقلا يحكم بمقتضى مذهبه، فأجابه إلى ذلك، وكان يحب رأيه ومشورته، وبعث بأخشاب ورصاص وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل منبرا فنصب هنالك.
وفيها وقع حريق عظيم ببلاد مصر واتهم النصارى فعاقبهم الملك الظاهر عقوبة عظيمة (3).
وفيها جاءت الاخبار بأن سلطان التتار هولاكو هلك إلى لعنة الله وغضبه في سابع (4) ربيع الآخر بمرض الصرع بمدينة مراغة، ودفن بقلعة تلا وبنيت عليه قبة واجتمعت التتار على ولده
__________
(1) في الروض الزاهر: ص 230: تاسع.
(2) نزل بها مستهل جمادى الآخرة.
(3) قال في بدائع الزهور 1 / 1 / 324: أمر بجمع سائر النصارى من مصر والقاهرة فلما جمعوا أمر بحرقهم، فشفع بهم اقطاي المستعرب فرسم السلطان أن يوردوا إلى الخزائن الشريفة خمسين ألف دينار وأن يصلحوا ما قد فسد من الدور التي احترقت.
(4) في تاريخ أبي الفداء: تاسع عشر، وفي بدائع الزهور ذكر وفاته سنة 661 ه.

أبغا، فقصده الملك بركه خان فكسره وفرق جموعه، ففرح الملك الظاهر بذلك، وعزم على جمع العساكر ليأخذ بلاد العراق فلم يتمكن من ذلك لتفرق العساكر في الاقطاعات.
وفيها في ثاني عشر (1) شوال سلطن الملك الظاهر ولده الملك السعيد محمد بركه خان، وأخذ له البيعة من الامراء وأركبه ومشى الامراء بين يديه، وحمل والده الظاهر الغاشية (2) بنفسه والامير بدر الدين بيسرى حامل الخبز، والقاضي تاج الدين والوزير بهاء الدين بن حنا راكبان وبين يديه، وأعيان الامراء ركبان وبقيتهم مشاة حتى شقوا القاهرة وهم كذلك.
وفي ذي القعدة ختن الظاهر ولده الملك السعيد المذكور، وختن معه جماعة من أولاد الامراء وكان يوما مشهودا (3).
وفيها توفي: خالد بن يوسف بن سعد النابلسي الشيخ زين الدين بن الحافظ شيخ دار الحديث النورية بدمشق، كان عالما بصناعة الحديث حافظا لاسماء الرجال، وقد اشتغل عليه في ذلك الشيخ محيي الدين النواوي وغيره، وتولى بعده مشيخة دار الحديث النورية الشيخ تاج الدين الفزاري، كان الشيخ زين الدين حسن الاخلاق فكه النفس كثير المزاح على طريقة المحدثين، رحل إلى بغداد واشتغل بها، وسمع الحديث وكان فيه خير وصلاح وعبادة، وكانت جنازته حافلة ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله.
الشيخ أبو القاسم الحواري هو أبو القاسم يوسف بن أبي القاسم بن عبد السلام الاموي الشيخ المشهور صاحب الزاوية بحواري، توفي ببلده، وكان خيرا صالحا له أتباع وأصحاب يحبونه، وله مريدون كثير من قرايا حوران في الجبل والبثنية وهم حنابلة لا يرون الضرب بالدف بل بالكف، وهم أمثل من غيرهم.
القاضي بدر الدين الكردي السنجاري الذي باشر القضاء بمصر مرارا توفي بالقاهرة.
قال أبو شامة: وسيرته معروفة في أخذ الرشا
__________
(1) في الروض الزاهر: يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة 662 (ص 204).
(2) الغاشية: أصل الغاشية السرج أو الغطاء المزركش الذي يوضع على ظهر الفرس فوق البرذعة.
ويقول القلقشندي: وهي غاشية سرج من أديم مخزوزة بالذهب تحمل بين يديه (السلطان) عند الركوب في المواكب الحفلة رافعا على يديه يلفتها يمينا وشمالا (الصبح 4 / 7 والتعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 254).
(3) في الروض الزاهر وابن إياس: تم ذلك في سنة 662.
قال ابن إياس وختن معه من أولاد الناس 1645 ولدا خارجا عن أولاد الامراء وأعيان الناس 1 / 1 / 323.

من قضاة الاطراف والمتحاكمين إليه، إلا أنه كان جوادا كريما صودر هو وأهله.
ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة
استهلت والخليفة الحاكم العباسي والسلطان الملك الظاهر وقضاة مصر أربعة.
وفيها جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل مصر عام أول، ونائب الشام آقوش النجيبي، وكان قاضي قضاة الشافعية ابن خلكان، والحنفية شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطا والحنابلة شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر، والمالكية عبد السلام بن الزواوي، وقد امتنع من الولاية فألزم بها حتى قبل ثم عزل نفسه، ثم ألزم بها فقبل بشرط أن لا يباشر أوقافا ولا يأخذ جامكية على أحكامه، وقال: نحن في كفاية فأعفي من ذلك أيضا رحمهم الله.
وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الاول بمصر كما تقدم، واستقرت الاحوال على هذا المنوال.
وفيها كمل عمارة الحوض الذي شرقي قناة باب البريد وعمل له شاذروان وقبة وأنابيب يجري منها الماء إلى جانب الدرج الشمالية.
وفيها نازل الظاهر صفد واستدعى بالمنجانيق من دمشق وأحاط بها ولم يزل حتى افتتحها، ونزل أهلها على حكمه، فتسلم البلد في يوم الجمعة ثامن عشر شوال (1)، وقتل المقاتلة وسبى الذرية، وقد افتتحها الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب في شوال أيضا في أربع وثمانين وخمسمائة، ثم استعادها الفرنج فانتزعها الظاهر منهم قهرا في هذه السنة ولله الحمد، وكان السلطان الظاهر في نفسه منهم شئ كثير، فلما توجه إلى فتحها طلبوا الامان، فأجلس على سرير مملكته الامير سيف الدين كرمون التتري، وجاءت رسلهم فخلعوه وانصرفوا ولا يشعرون أن الذي أعطاهم العهود بالامان إنما هو الامير الذي أجلسه على السرير والحرب خدعة، فلما خرجت الاسبتارية والداوية من القلعة وقد فعلوا بالمسلمين الافاعيل القبيحة، فأمكن الله منهم فأمر السلطان بضرب رقابهم عن آخرهم، وجاءت البريدية إلى البلاد بذلك، فدقت البشائر وزينت البلاد، ثم بث السرايا يمينا وشمالا في بلاد الفرنج فاستولى المسلمون على حصون كثيرة تقارب عشرين حصنا، وأسروا قريبا من ألف أسير ما بين امرأة وصبي، وغنموا شيئا كثيرا.
وفيها قدم ولد الخليفة المستعصم بن المستنصر من الاسر واسمه علي، فأكرم وأنزل بالدار
الاسدية تجاه العزيزية، وقد كان أسيرا في أيدي التتار، فلما كسرهم بركه خان تخلص من أيديهم وسار إلى دمشق، ولما فتح السلطان صفدا أخبره بعض من كان فيها من أسرى المسلمين أن سبب
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 4 / 3 تاسع عشر شعبان، وفي الروض الزاهر: ص 260: مستهل ثامن عشر شوال.

أسرهم أن أهل قرية فأرا (1) كانوا يأخذونهم فيحملونهم إلى الفرنج فيبيعونهم منهم، فعند ذلك ركب السلطان قاصدا فأرا (1) فأوقع بهم بأسا شديدا وقتل منهم خلقا كثيرا، وأسر من أبنائهم ونسائهم أخذا بثأر المسلمين جزاه الله خيرا، ثم أرسل السلطان جيشا هائلا إلى بلاد سيس، فجاسوا خلال الديار وفتحوا سيس عنوة (2) وأسروا ابن ملكها (3) وقتلوا أخاه ونهبوها، وقتلوا أهلها وأخذوا بثأر الاسلام وأهله منهم، وذلك أنهم كانوا أضر شئ على المسلمين زمن التتار، لما أخذوا مدينة حلب وغيرها أسروا من نساء المسلمين وأطفالهم خلقا كثيرا، ثم كانوا بعد ذلك يغيرون على بلاد المسلمين في زمن هولاكو فكبته الله وأهانه على يدي أنصار الاسلام، هو وأميره كتبغا، وكان أخذ سيس يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة من هذه السنة، وجاءت الاخبار بذلك إلى البلاد وضربت البشائر، وفي الخامس والعشرين من ذي الحجة دخل السلطان وبين يديه ابن صاحب سيس وجماعة من ملوك الارمن أسارى أذلاء صغرة، والعساكر صحبته وكان يوما مشهودا.
ثم سار إلى مصر مؤيدا منصورا، وطلب صاحب سيس أن يفادي ولده، فقال السلطان لا نفاديه إلا بأسير لنا عند التتار يقال له سنقر الاشقر، فذهب صاحب سيس إلى ملك التتر فتذلل له وتمسكن وخضع له، حتى أطلقه له، فلما وصل سنقر الاشقر إلى السلطان أطلق ابن صاحب سيس.
وفيها عمر الظاهر الجسر المشهور بين قرارا ودامية، تولى عمارته الامير جمال الدين محمد بن بهادر وبدر الدين محمد بن رحال والي نابلس والاغوار، ولما تم بناؤه اضطرب بعض أركانه فقلق السلطان من ذلك وأمر بتأكيده فلم يستطيعوا من قوة جري الماء حينئذ، فاتفق بإذن الله أن انسالت على النهر أكمة من تلك الناحية، فسكن الماء بمقدار أن أصلحوا ما يريدون، ثم عاد الماء كما كان وذلك بتيسير الله وعونه وعنايته العظيمة.
وفيها توفي من الاعيان: أيد غدي بن عبد الله الامير جمال الدين العزيزي، كان من أكابر الامراء وأحظاهم عند الملك الظاهر، لا يكاد الظاهر يخرج عن رأيه، وهو الذي أشار عليه بولاية القضاة من كل مذهب قاض على سبيل الاستقلال وكان متواضعا لا يلبس محرما، كريما وقورا رئيسا معظما في الدولة، أصابته جراحة في حصار صفد فلم يزل مريضا منها حتى مات ليلة عرفة، ودفن بالرباط الناصري بسفح قاسيون من صلاحية دمشق رحمه الله.
__________
(1) في تاريخ ابي الفداء: قارا، وفي معجم البلدان: قارة: وهي قرية كبيرة على قارعة الطريق وهي المنزل الاول من حمص للقاصد إلى دمشق وهي كانت آخر حدود حمص وما عداها من أعمال دمشق.
وأهلها كلهم نصارى.
(2) أسر الملك ليفون بن هيثوم.
(3) في بدائع الزهور 1 / 1 / 325: سلموا المدينة بالامان.

هولاكو خان بن تولى (1) خان بن جنكيز خان ملك التتار ابن ملك التتار، وهو والد ملوكهم، والعامة يقولون هو لاوون مثل قلاوون، وقد كان هولاكو ملكا جبارا فاجرا كفارا لعنه الله، قتل من المسلمين شرقا وغربا ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم وسيجازيه على ذلك شر الجزاء، كان لا يتقيد بدين من الاديان، وإنما كانت زوجته ظفر خاتون قد تنصرت وكانت تفضل النصارى على سائر الخلق، وكان هو يترامى على محبة المعقولات، ولا يتصور منها شيئا، وكان أهلها من أفراخ الفلاسفة لهم عنده وجاهة ومكانة، وإنما كانت همته في تيسير مملكته وتملك البلاد شيئا فشيئا، حتى أباده الله في هذه السنة، وقيل في سنة ثلاث وستين، ودفن في مدينة تلا، لا رحمه الله، وقام في الملك من بعده ولده أبغا خان وكان أبغا أحد إخوة عشرة ذكور.
والله سبحانه أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة
في يوم الاحد ثاني المحرم توجه الملك الظاهر من دمشق إلى الديار المصرية وصحبته العساكر المنصورة، وقد استولت الدولة الاسلامية على بلاد سيس بكمالها، وعلى كثير من معاقل الفرنج في هذه السنة، وقد أرسل العساكر بين يديه إلى غزة، وعدل هو إلى ناحية الكرك لينظر في أحوالها، فلما كان عند بركة زيزي تصيد هنالك فسقط عن فرسه (2) فانكسرت فخذه، فأقام هناك أياما يتداوى حتى أمكنه أن يركب في المحفة، وسار إلى مصر فبرأت رجله في أثناء الطريق فأمكنه الركوب وحده على الفرس.
ودخل القاهرة في أبهة عظيمة، وتجمل هائل، وقد زينت البلد، واحتفل الناس له احتفالا عظيما، وفرحوا بقدومه وعافيته فرحا كثيرا، ثم في رجب (3) منها رجع من القاهرة إلى صفد، وحفر خندقا حول قلعتها وعمل فيه بنفسه وأمرائه وجيشه وأغار على ناحية عكا، فقتل وأسر وغنم وسلم وضربت لذلك البشائر بدمشق.
وفي ثاني عشر (4) ربيع الاول صلى الظاهر بالجامع الازهر الجمعة , ولم يكن تقام به الجمعة من زمن العبيديين إلى هذا الحين، مع أنه أول مسجد بني بالقاهرة، بناه جوهر القائد وأقام فيه الجمعة، فلما بنى الحاكم جامعه حول الجمعة منه إليه، وترك الازهر لا جمعة فيه فصار في حكم بقية المساجد وشعث حاله وتغيرت أحواله، فأمر السلطان بعمارته وبياضه وإقامة الجمعة وأمر بعمارة جامع الحسينية وكمل في سنة سبع وستين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في تاريخ الذهبي: قولى خان.
(2) وكان ذلك يوم الاحد ثامن المحرم (الروض الزاهر، ص 271).
(3) في الروض الزاهر: في رابع وعشرين رجب.
(4) في الروض ص 277: يوم الجمعة ثامن عشر، وفي السلوك 1 / 556: ثامن عشر ربيع الآخر.

وفيها أمر الظاهر أن لا يبيت أحد من المجاورين بجامع دمشق فيه وأمر بإخراج الخزائن منه، والمقاصير التي كانت فيه، فكانت قريبا من ثلاثمائة، ووجدوا فيها قوارير البول والفرش والسجاجيد الكثيرة، فاستراح الناس والجامع من ذلك واتسع على المصلين.
وفيها أمر السلطان بعمارة أسوار صفد وقلعتها، وأن يكتب عليها (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون) [ الانبياء: 105 ] (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) [ المجادلة: 22 ].
وفيها التقى أبغا ومنكو تمر الذي قام مقام بركه خان فكسره أبغا وغنم منه شيئا كثيرا.
وحكى ابن خلكان فيما نقل من خط الشيخ قطب الدين اليونيني قال: بلغنا أن رجلا يدعى أبا سلامة (1) من ناحية بصرى، كان فيه مجون واستهتار، فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة، فقال: والله لا أستاك إلا في المخرج - يعني دبره - فأخذ سواكا فوضعه في مخرجه ثم أخرجه، فمكث بعده تسعة أشهر (2) فوضع ولدا على صفة الجرذان له أربعة قوائم، ورأسه كرأس السمكة (3)، وله دبر كدبر الارنب.
ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات، فقامت ابنة ذلك الرجل فرضخت رأسه فمات، وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له يومين ومات في الثالث، وكان يقول هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي، وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية وخطباء ذلك المكان، ومنهم من رأى ذلك الحيوان حيا، ومنهم من رآه بعد موته.
وممن توفي فيها من الاعيان: السلطان بركه (4) خان بن تولى بن جنكيز خان وهو ابن عم هولاكو، وقد أسلم بركه خان هذا، وكان يحب العلماء والصالحين ومن أكبر حسناته كسره لهولاكو وتفريق جنوده، وكان يناصح الملك الظاهر ويعظمه ويكرم رسله إليه، ويطلق لهم شيئا كثيرا، وقد قام في الملك بعده بعض أهل بيته وهو منكوتمر بن طغان بن بابو (5) بن تولى بن جنكيزخان، وكان على طريقته ومنواله ولله الحمد.
__________
(1) في شذرات الذهب نقلا عن ابن خلكان 5 / 317: قرية يقال لها دير أبي سلامة.
كان بها رجل من العربان فيه استهتار.
(2) زيد في رواية الشذرات: وهو يشكو من ألم البطن والمخرج.
(3) زيد في رواية الشذرات: وله أربعة أنياب بارزة وذنب طويل مثل شبر وأربع أصابع..(4) في تاريخ أبي الفداء: بركه بن باطوخان بن دوشي خان بن جنكيزخان.
(5) في تاريخ أبي الفداء: باطو بن دوشي خان بن جنكيزخان.

قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر ابن بنت الاعز الشافعي، كان دينا عفيفا نزها لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يقبل شفاعة أحد، وجمع له قضاء الديار المصرية بكمالها، والخطابة، والحسبة ومشيخة الشيوخ، ونظر الاجياش، وتدريس الشافعي والصالحية وإمامة الجامع، وكان بيده خمس عشرة (1) وظيفة، وباشر الوزارة في بعض الاوقات، وكان السلطان يعظمه، والوزير ابن حنا يخاف منه كثيرا، وكان يحب أن ينكبه عند السلطان ويضعه فلا يستطيع ذلك، وكان يشتهي أن يأتي داره ولو عائدا، فمرض في بعض الاحيان فجاء القاضي عائدا، فقام إلى تلقيه لوسط الدار، فقال له القاضي: إنما جئنا لعيادتك فإذا أنت سوي صحيح، سلام عليكم، فرجع ولم يجلس عنده.
وكان مولده في سنة أربع وستمائة، وتولى بعده القضاء تقي الدين بن رزين (2).
واقف القيمرية الامير الكبير ناصر الدين أبو المعالي الحسين بن العزيز بن أبي الفوارس القيمري الكردي، كان من أعظم الامراء مكانة عند الملوك، وهو الذي سلم الشام إلى الملك الناصر صاحب حلب، حين قتل توران شاه بن الصالح أيوب بمصر، وهو واقف المدرسة القيمرية عند مأذنة فيروز (3)، وعمل على بابها الساعات التي لم يسبق إلى مثلها، ولا عمل على شكلها، يقال إنه غرم عليها أربعين ألف درهم (4).
الشيخ شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن عباس أبو محمد وأبو القاسم المقدسي الشيخ الامام العالم الحافظ المحدث الفقيه المؤرخ المعروف بأبي شامة شيخ دار الحديث
الاشرفية، ومدرس الركنية، وصاحب المصنفات العديدة المفيدة، له اختصار تاريخ دمشق في مجلدات كثيرة، وله شرح الشاطبية، وله الرد إلى الامر الاول، وله في المبعث وفي الاسراء، وكتاب الروضتين في الدولتين النورية والصلاحية، وله الذيل على ذلك، وله غير ذلك من الفوائد
__________
(1) في الاصل: خمسة عشر، وفي بدائع الزهور: أربع عشرة من الوظائف السنية.
(2) في بدائع الزهور: محيي الدين عبد الله بن عز الدولة.
(3) في الوافي 12 / 422: بسوق الخريميين، وفي شذرات الذهب: شرقي جامع بني أمية.
(4) مات مرابطا بالساحل، وعمل عزاؤه بالجامع (جامع دمشق) وكان ذلك يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الاول 665 (الوافي 12 / 442 - ذيل مرآة الزمان 2 / 366).

الحسان والغرائب التي هي كالعقيان.
ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وذكر لنفسه ترجمة في هذه السنة في الذيل، وذكر مرباه ومنشأه، وطلبه العلم، وسماعه الحديث، وتفقهه على الفخر بن عساكر وابن عبد السلام، والسيف الآمدي، والشيخ موفق الدين بن قدامة، وما رئي له من المنامات الحسنة.
وكان ذا فنون كثيرة، أخبرني علم الدين البرزالي الحافظ عن الشيخ تاج الدين الفزاري، أنه كان يقول: بلغ الشيخ شهاب الدين أبو شامة رتبة الاجتهاد، وقد كان ينظم أشعارا في أوقات، فمنها ما هو مستحلى، ومنها ما لا يستحلى، فالله يغفر لنا وله.
وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في نفسه وديانته، وعفته وأمانته، وكانت وفاته بسبب محنة ألبوا عليه، وأرسلوا إليه من اغتاله وهو بمنزل له بطواحين الاشنان، وقد كان اتهم برأي، الظاهر براءته منه، وقد قال جماعة من أهل الحديث وغيرهم: إنه كان مظلوما، ولم يزل يكتب في التاريخ حتى وصل إلى رجب من هذه السنة، فذكر أنه أصيب بمحنة في منزله بطواحين الاشنان، وكان الذين قتلوه جاؤوه قبل فضربوه ليموت فلم يمت، فقيل له: ألا تشتكي عليهم، فلم يفعل وأنشأ يقول: قلت لمن قال: ألا تشتكي * ما قد جرى فهو عظيم جليل
يقيض الله تعالى لنا * من يأخذ الحق ويشفي الغليل إذا توكلنا عليه كفى * فحسبنا الله ونعم الوكيل وكأنهم عادوا إليه مرة ثانية وهو في المنزل المذكور فقتلوه بالكلية في ليلة الثلاثاء تاسع عشر رمضان رحمه الله.
ودفن من يومه بمقابر دار الفراديس، وباشر بعده مشيخة دار الحديث الاشرفية الشيخ محيي الدين النووي.
وفي هذه السنة كان مولد الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي، وقد ذيل على تاريخ أبي شامة لان مولده في سنة وفاته، فحذا حذوه وسلك نحوه، ورتب ترتيبه وهذب تهذيبه.
وهذا أيضا ممن ينشد في ترجمته: ما زلت تكتب في التاريخ مجتهدا * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا ويناسب أن ينشد هنا: إذا سيد منا خلا قام سيد * قؤول لما قال الكرام فعول ثم دخلت سنة ست وستين وستمائة استهلت هذه السنة والحاكم العباسي خليفة، وسلطان البلاد الملك الظاهر، وفي أول جمادى الآخرة خرج السلطان من الديار المصرية بالعساكر المنصورة، فنزل على مدينة يافا بغتة فأخذها عنوة، وسلم إليه أهلها قلعتها صلحا، فأجلاهم منها إلى عكا وخرب القلعة والمدينة وسار

منها في رجب (1) قاصدا حصن الشقيف، وفي بعض الطريق أخذ من بعض بريدية الفرنج كتابا من أهل عكا إلى أهل الشقيف يعلمونهم قدوم السلطان عليهم، ويأمرونهم بتحصين البلد، والمبادرة إلى إصلاح أماكن يخشى على البلد منها.
ففهم السلطان كيف يأخذ البلد وعرف من أين تؤكل الكتف، واستدعى من فوره رجلا من الفرنج فأمره أن يكتب بدله كتابا على ألسنتهم إلى أهل الشقيف، يحذر الملك من الوزير، والوزير من الملك، ويرمي الخلف بين الدولة.
فوصل إليهم فأوقع الله الخلف بينهم بحوله وقوته، وجاء السلطان فحاصرهم ورماهم بالمنجنيق فسلموه الحصن في التاسع والعشرين (2) من رجب وأجلاهم إلى صور، وبعث بالانفال إلى دمشق، ثم ركب
جريدة فيمن نشط من الجيش فشن الغارة على طرابلس وأعمالها، فنهب وقتل وأرعب وكر راجعا مؤيدا منصورا، فنزل على حصن الاكراد لمحبته في المرج، فحمل إليه أهله من الفرنج الاقامات فأبى أن يقبلها وقال: أنتم قتلتم جنديا من جيشي وأريد ديته مائة ألف دينار، ثم سار فنزل على حمص، ثم منها إلى حماة، ثم إلى فامية ثم سار منزلة أخرى، ثم سار ليلا وتقدم العسكر فلبسوا العدة وساق حتى أحاط بمدينة إنطاكية.
فتح إنطاكية على يد السلطان الملك الظاهر وهي مدينة عظيمة كثيرة الخير، يقال إن دور سورها اثنا عشر ميلا، وعدد بروجها مائة وستة وثلاثون برجا، وعدد شرافاتها أربعة وعشرون ألف شرافة، كان نزوله عليها في مستهل شهر رمضان، فخرج إليه أهلها يطلبون منه الامان، وشرطوا شروطا له عليهم فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين وصمم على حصارها، ففتحها يوم السبت رابع عشر رمضان بحول الله وقوته وتأييده ونصره، وغنم منها شيئا كثيرا، وأطلق للامراء أموالا جزيلة، ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين فيها خلقا كثيرا، كل هذا في مقدار أربعة أيام.
وقد كان الاغريس صاحبها وصاحب طرابلس، من أشد الناس أذية للمسلمين، حين ملك التتار حلب وفر الناس منها، فانتقم الله سبحانه منه بمن أقامه للاسلام ناصرا وللصليب دامغا كاسرا، ولله الحمد والمنة، وجاءت البشارة بذلك مع البريدية، فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة، وأرسل أهل بغراس حين سمعوا بقصد السلطان إليهم يطلبون منه أن يبعث إليهم من يتسلمها، فأرسل إليهم أستاذ داره الامير آقسنقر الفارقاني في ثالث عشر رمضان فتسلمها، وتسلموا حصونا كبيرة وقلاعا كثيرة، وعاد السلطان مؤيدا منصورا، فدخل دمشق في السابع والعشرين من رمضان من هذه السنة في أبهة عظيمة وهيبة هائلة، وقد زينت له البلد ودقت له البشائر فرحا بنصرة الاسلام على الكفرة
__________
(1) في الروض الزاهر ص 295: في ثاني عشر رجب.
(2) في الروض الزاهر ص 298: يوم الاحد سلخ رجب.

الطغام، لكنه كان قد عزم على أخذ أراضي كثيرة من القرى والبساتين التي بأيدي ملاكها بزعم أنه قد كانت التتار استحوذوا عليها ثم استنقذها منهم، وقد أفتاه بعض الفقهاء من الحنفية تفريعا على أن الكفار إذا أخذوا شيئا من أموال المسلمين ملكوها، فإذا استرجعت لم ترد إلى أصحابها، وهذه المسألة مشهورة وللناس فيها قولان (أصحها) قول الجمهور أنه يجب ردها إلى أصحابها لحديث العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين استرجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أخذها المشركون، استدلوا بهذا وأمثاله على أبي حنيفة، وقال بعض العلماء إذا أخذ الكفار أموال المسلمين وأسلموا وهي في أيديهم استقرت على أملاكهم، واستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام " وهل ترك لنا عقيل من رباع " وقد كان استحوذ على أملاك المسلمين الذين هاجروا وأسلم عقيل وهي في يده، فلم تنتزع من يده، وأما إذا انتزعت من أيديهم قبل، فإنها ترد إلى أربابها لحديث العضباء، والمقصود أن الظاهر عقد مجلسا اجتمع فيه القضاة والفقهاء من سائر المذاهب وتكلموا في ذلك وصمم السلطان على ذلك اعتمادا على ما بيده من الفتاوى، وخاف الناس من غائلة ذلك فتوسط الصاحب فخر الدين بن الوزير بهاء الدين بن احنا، وكان قد درس بالشافعي بعد ابن بنت الاعز، فقال: يا خوند أهل البلد يصالحونك عن ذلك كله بألف ألف درهم، تقسط كل سنة مائتي ألف درهم، فأبى إلا أن تكون معجلة بعد أيام، وخرج متوجها إلى الديار المصرية، وقد أجاب إلى تقسيطها، وجاءت البشارة بذلك، ورسم أن يعجلوا من ذلك أربعمائة ألف درهم، وأن تعاد إليه الغلات التي كانوا قد احتاطوا عليها في زمن القسم والثمار، وكانت هذه الفعلة مما شعثت خواطر الناس على السلطان.
ولما استقر أمر ابغا على التتار أمر باستمرار وزيره نصير الدين الطوسي، واستناب على بلاد الروم البرواناه (1) وارتفع قدره عنده جدا واستقل بتدبير تلك البلاد وعظم شأنه فيها.
وفيها كتب صاحب اليمن إلى الظاهر بالخضوع والانتماء إلى جانبه وأن يخطب له ببلاد اليمن، وأرسل إليه هدايا وتحفا كثيرة، فأرسل إليه السلطان هدايا وخلعا وسنجقا وتقليدا.
وفيها رافع ضياء الدين بن القفاعي للصاحب بهاء الدين بن الحنا عند الظاهر واستظهر عليه
ابن الحنا، فسلمه الظاهر إليه، فلم يزل يضربه بالمقارع ويستخلص أمواله إلى أن مات، فيقال إنه ضربه قبل أن يموت سبعة عشر ألف مقرعة وسبعمائة فالله أعلم.
__________
(1) البرواناه: لفظ فارسي معناه في الاصل الحاجب، وقد أطلق في دولة السلاجقة الروم بآسيا الصغرى على الوزير الاكبر (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 64).
(2) وهو معين الدين سليمان.

وفيها عمل البرواناه على قتل الملك علاء الدين (1) صاحب قونية وأقام ولده غياث الدين مكانه وهو ابن عشر سنين (2) وتمكن البرواناه في البلاد والعباد وأطاعه جيش الروم.
وفيها قتل الصاحب علاء الدين صاحب الديوان ببغداد ابن الخشكري النعماني الشاعر، وذلك أنه اشتهر عنه أشياء عظيمة، منها أنه يعتقد فضل شعره على القرآن المجيد، واتفق أن الصاحب انحدر إلى واسط فلما كان بالنعمانية حضر ابن الخشكري عنده وأنشده قصيدة قد قالها فيه، فبينما هو ينشدها بين يديه إذ أذن المؤذن فاستنصته الصاحب، فقال ابن الخشكري: يا مولانا اسمع شيئا جديدا، وأعرض عن شئ له سنين، فثبت عند الصاحب ما كان يقال عنده عنه، ثم باسطه وأظهر أنه لا ينكر عليه شيئا مما قال حتى استعلم ما عنده، فإذا هو زنديق، فلما ركب قال لانسان معه استفرده في أثناء الطريق واقتله، فسايره ذلك الرجل حتى إذا انقطع عن الناس قال لجماعة معه: أنزلوه عن فرسه كالمداعب له، فأنزلوه وهو يشتمهم ويلعنهم، ثم قال انزعوا عنه ثيابه فسلبوها وهو يخاصمهم، ويقول إنكم أجلاف، وإن هذا لعب بارد، ثم قال: اضربوا عنقه، فتقدم إليه أحدهم فضربه بسيفه فأبان رأسه.
وفيها توفي: الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال شيخ رباط المرزبانية، كان صالحا ورعا زاهدا حكى عن نفسه قال: كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت: يا رب كيف هذا وفيهم
الاطفال ومن لا ذنب له ؟ فرأيت في المنام رجلا وفي يده كتاب فأخذته فقرأته فإذا فيه هذه الابيات فيها الانكار علي: دع الاعتراض فما الامر لك * ولا الحكم في حركات الفلك ولا تسأل الله عن فعله * فمن خاض لجة بحر هلك إليه تصير أمور العباد * دع الاعتراض فما أجهلك وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) وهو قليج أرسلان بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان يبغو بن سلجوق.
(تاريخ أبي الفداء 4 / 5).
(2) في تاريخ أبي الفداء: أربع سنين.

الحافظ أبو إبراهيم إسحاق بن عبد الله ابن عمر المعروف بابن قاضي اليمن، عن ثمان وستين سنة (1)، ودفن بالشرف الاعلى، وكان قد تفرد بروايات جيدة وانتفع الناس به.
وفيها ولد الشيخ شرف الدين عبد الله بن تيمية أخو الشيخ تقي الدين بن تيمية، والخطيب القزويني.
ثم دخلت سنة سبع وستين وستمائة في صفر (2) منها جدد السلطان الظاهر البيعة لولده من بعده الملك السعيد محمد بركه خان، وأحضر الامراء كلهم والقضاة والاعيان وأركبه ومشى بين يديه، وكتب له ابن لقمان تقليدا هائلا بالملك من بعد أبيه، وأن يحكم عنه أيضا في حال حياته، ثم ركب السلطان في عساكره في (3) جمادى الآخرة قاصدا الشام، فلما دخل دمشق جاءته رسل من أبغا ملك التتار معهم مكاتبات ومشافهات، فمن جملة المشافهات: أنت مملوك بعت بسيواس فكيف يصلح لك أن تخالف ملوك الارض ؟ واعلم أنك لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الارض ما تخلصت مني فاعمل لنفسك على مصالحة السلطان إبغا.
فلم يلتفت إلى ذلك ولا عده شيئا بل أجاب عنه أتم جواب (4)، وقال
لرسله: أعلموه أني من وراءه بالمطالبة ولا أزال حتى أنتزع منه جميع البلاد التي استحوذ عليها من بلاد الخليفة، وسائر أقطار الارض.
وفي جمادى الآخرة رسم السلطان الملك الظاهر بإراقة الخمور وتبطيل المفسدات والخواطئ بالبلاد كلها، فنهبت الخواطئ وسلبن جميع ما كان معهن حتى يتزوجن، وكتب إلى جميع البلاد بذلك، وأسقط المكوس التي كانت مرتبة على ذلك، وعوض من كان محالا على ذلك بغيرها ولله الحمد والمنة.
ثم عاد السلطان بعساكره إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق عند خربة اللصوص تعرضت له امرأة فذكرت له أن ولدها دخل مدينة صور، وأن صاحبها الفرنجي غدر به وقتله وأخذ ماله، فركب السلطان وشن الغارة على صور فأخذ منها شيئا كثيرا، وقتل خلقا، فأرسل إليه ملكها ما سبب هذا ؟ فذكر له غدره ومكره بالتجار ثم قال السلطان لمقدم الجيوش: أوهم الناس أني مريض وأني بالمحفة وأحضر الاطباء واستوصف لي منهم ما يصلح لمريض به كذا وكذا، وإذا وصفوا لك فأحضر الاشربة إلى المحفة وأنتم سائرون.
ثم ركب السلطان على البريد وساق مسرعا فكشف أحوال ولده وكيف الامر بالديار المصرية بعده، ثم عاد مسرعا إلى الجيش فجلس في
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 322: كان مولده سنة 606 ه.
(2) يوم الخميس تاسع صفر.
(الروض الزاهر ص 338).
(3) في ثاني عشر منه (الروض الزاهر ص 339).
(4) نسخة كتاب أبغا بن هولاكو وجواب السلطان الظاهر عليه في الروض الزاهر ص 339 وما بعدها.

المحفة وأظهروا عافيته وتباشروا بذلك.
وهذه جرأة عظيمة، وإقدام هائل.
وفيها حج السلطان الملك الظاهر وفي صحبته الامير بدر الدين الخزندار، وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي، وفخر الدين بن لقمان، وتاج الدين بن الاثير ونحو من ثلاثمائة مملوك، وأجناد من الخلقة المنصورة، فسار على طريق الكرك ونظر في أحوالها ثم منها إلى المدينة النبوية، فأحسن إلى أهلها ونظر في أحوالها، ثم منها إلى مكة فتصدق على المجاورين ثم وقف
بعرفة وطاف طواف الافاضة وفتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد وطيبها بيده، ثم وقف بباب الكعبة فتناول أيدي الناس ليدخلوا الكعبة وهو بينهم، ثم رجع فرمى الجمرات ثم تعجل النفر (1) فعاد على المدينة النبوية فزار القبر الشريف مرة ثانية على ساكنه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام أجمعين إلى يوم الدين.
ثم سار إلى الكرك فدخلها في التاسع والعشرين (2) من ذي الحجة، وأرسل البشير إلى دمشق بقدومه سالما، فخرج الامير جمال الدين آقوش النجيبي نائبها ليتلقى البشير في ثاني المحرم، فإذا هو السلطان نفسه يسير في الميدان الاخضر، وقد سبق الجميع، فتعجب الناس من سرعة سيره وصبره وجلده، ثم ساق من فوره حتى دخل حلب في سادس المحرم ليتفقد أحوالها، ثم عاد إلى حماه ثم رجع إلى دمشق ثم سار إلى مصر فدخلها يوم الثلاثاء ثالث صفر من السنة المقبلة رحمه الله.
وفي أواخر ذي الحجة هبت ريح شديدة أغرقت مائتي مركب في النيل، وهلك فيها خلق كثير، ووقع هناك مطر شديد جدا، وأصاب الشام من ذلك صاعقة أهلكت الثمار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها أوقع الله تعالى الخلف بين التتار من أصحاب إبغا وأصحاب ابن منكوتمر ابن عمه وتفرقوا واشتغلوا ببعضهم بعضا، ولله الحمد.
وفيها خرج أهل حران منها وقدموا الشام، وكان فيهم شيخنا العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية صحبة أبيه وعمره ست سنين، وأخوه زين الدين عبد الرحمن وشرف الدين عبد الله، وهما أصغر منه.
وممن توفي فيها من الاعيان: الامير عز الدين أيدمر بن عبد الله الحلبي الصالحي، كان من أكابر الامراء وأحظاهم عند الملوك، ثم عند الملك الظاهر، كايستنيبه إذا غاب، فلما كانت هذه السنة أخذه معه وكانت وفاته بقلعة دمشق، ودفن بتربته
__________
(1) خرج من مكة في ثالث عشر ذي الحجة ووصل المدينة في العشرين من ذي الحجة وخرج باكر النهار الثاني (الروض الزاهر ص 357).
(2) في الروض الزاهر: سلخ ذي الحجة (تاريخ أبي الفداء).

بالقرب من اليغمورية، وخلف أموالا جزيلة، وأوصى إلى السلطان في أولاده، وحضر السلطان عزاءه بجامع دمشق.
شرف الدين أبو الظاهر محمد بن الحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية المصري، ولد سنة عشر وستمائة وسمع أباه وجماعة، وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية مدة، وحدث وكان فاضلا.
القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن وثاب بن رافع البجيلي الحنفي، درس وأفتى عن ابن عطاء بدمشق، ومات بعد خروجه من الحمام على مساطب الحمام فجأة ودفن بقاسيون.
الطبيب الماهر شرف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن حيدرة الرحبي شيخ الاطباء بدمشق (1)، ومدرس الدخوارية عن وصية واقفها بذلك وله التقدمة في هذه الصناعة على أقرانه من أهل زمانه، ومن شعره قوله: يساق بنو الدنيا إلى الحتف عنوة * ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي كأنهم الانعام في جهل بعضها * بمأثم من سفك الدماء على بعض الشيخ نصير الدين المبارك بن يحيى بن أبي الحسن أبي البركات بن الصباغ الشافعي، العلامة في الفقه والحديث، درس وأفتى وصنف وانتفع به، وعمر ثمانين سنة، وكانت وفاته في حادي عشرة جمادى الاولى من هذه السنة، رحمه الله تعالى.
الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الكوفي المقري النحوي الملقب بسيبويه، وكان فاضلا بارعا في صناعة النحو، توفي بمارستان القاهرة في هذه السنة عن سبع وستين سنة رحمه الله.
ومن شعره: عذبت قلبي بهجر منك متصل * يا من هواه ضمير غير منفصل
__________
(1) ذكره صاحب الشذرات في وفيات سنة 668 ه.

فما زادني غير تأكيد صدك لي * فما عدو لك من عطف إلى بدل وفيها ولد شيخنا العلامة كمال الدين محمد بن علي الانصاري بن الزملكاني شيخ الشافعية.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وستمائة في ثاني المحرم منها دخل السلطان من الحجاز على الهجن فلم يرع الناس إلا وهو في الميدان الاخضر يسير، ففرح الناس بذلك، وأراح الناس من تلقيه بالهدايا والتحف، وهذه كانت عادته، وقد عجب الناس من سرعة مسيره وعلو همته، ثم سار إلى حلب، ثم سار إلى مصر فدخلها في سادس (1) الشهر مع الركب المصري، وكانت زوجته أم الملك السعيد في الحجاز هذه السنة، ثم خرج في ثالث (2) عشر صفر هو وولده والامراء إلى الاسكندرية فتصيد هنالك، وأطلق للامراء الاموال الكثيرة والخلع، ورجع مؤيدا منصورا.
وفي المحرم منها قتل صاحب مراكش أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن محمد بن يوسف الملقب بالواثق، قتله بنو مرين في حرب كانت بينه وبينهم بالقرب من مراكش.
وفي ثالث عشر (3) ربيع الآخر منها وصل السلطان إلى دمشق في طائفة من جيشه، وقد لقوا في الطريق مشقة كثيرة من البرد والوحل، فخيم على الزنبقية وبلغه أن ابن أخت زيتون خرج من عكا يقصد جيش المسلمين، فركب إليه سريعا فوجده قريبا من عكا فدخلها خوفا منه.
وفي رجب تسلم نواب السلطان مصياف من الاسماعيلية، وهرب منها أميرهم الصارم مبارك بن الرضي، فتحيل عليه صاحب حماه حتى أسره وأرسله إلى السلطان فحبسه في بعض الابرجة في القاهرة.
وفيها أرسل السلطان الدرابزينات إلى الحجرة النبوية، وأمر أن تقام حول القبر صيانة له، وعمل لها أبوابا تفتح وتغلق من الديار المصرية، فركب ذلك عليها.
وفيها استفاضت الاخبار بقصد الفرنج بلاد الشام، فجهز السلطان العساكر لقتالهم، وهو مع ذلك مهتم بالاسكندرية خوفا عليها، وقد حصنها وعمل جسورة إليها إن دهمها العدو، وأمر بقتل الكلاب منها.
وفيها انقرضت دولة بني
عبد المؤمن من بلاد المغرب، وكان آخرهم إدريس بن عبد الله بن يوسف صاحب مراكش، قتله بنو مرين في هذه السنة.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) تقدم انه دخلها في ثالث صفر - وانظر الروض وتاريخ أبي الفداء.
(2) في الروض الزاهر ص 360: ثاني عشر، ووصلها في الحادي والعشرين منه ثم عاد منها إلى قلعته بالقاهرة ووصلها في ثامن ربيع الاول.
(3) في الروض: سابع ربيع الآخر.

الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الله الرفيع ابن زيد بن مالك المصري المعروف بابن الزبيري كان فاضلا رئيسا، وزر للملك المظفر قطز ثم للظاهر بيبرس في أول دولته، ثم عزله وولى بهاء الدين بن الحنا، فلزم منزله حتى أدركته منيته في الرابع عشر من ربيع الآخر من هذه السنة، وله نظم جيد.
الشيخ موفق الدين أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي الطبيب، المعروف بابن أبي أصيبعة، له تاريخ الاطباء في عشر مجلدات لطاف، وهو وقف بمشهد ابن عروة بالاموي، توفي بصرخد وقد جاوز التسعين.
الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم ابن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير، أبو العباس المقدسي النابلسي، تفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقد سمع ورحل إلى بلدان شتى، وكان فاضلا يكتب سريعا، حكى الشيخ علم الدين أنه كتب مختصر الخرقي في ليلة واحدة، وخطه حسن قوي، وقد كتب تاريخ ابن عساكر مرتين، واختصره لنفسه أيضا، وأضر في آخر عمره أربع سنين، وله شعر أورد منه قطب الدين في تذييله، توفي بسفح قاسيون وبه دفن في بكرة الثلاثاء عاشر رجب (1)، وقد جاوز التسعين رحمه الله.
القاضي محيي الدين بن الزكي أبو الفضل يحيى بن قاضي القضاة بهاء الدين أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم ابن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان القرشي الاموي بن الزكي، تولى قضاء دمشق غير مرة، وكذلك آباؤه من قبله، كل قد وليها، وقد سمع الحديث من حنبل وابن طبرزد والكندي وابن الحرستاني وجماعة، وحدث ودرس في مدارس كثيرة، وقد ولي قضاء الشام في الهلاوونية (2) فلم يحمد على ما ذكره أبو شامة، توفي بمصر في الرابع عشر (3) من رجب، ودفن بالمقطم وقد جاوز السبعين.
وله شعر جيد قوي، وحكى الشيخ قطب الدين في ذلك بعد ما نسبه
__________
(1) في الشذرات: يوم الاثنين سابع رجب.
(2) في الشذرات: ولاه هولاكو قضاء الشام.
(3) في العبر: سابع عشر رجب.

كما ذكرنا عن والده القاضي بهاء الدين أنه كان يذهب إلى تفضيل علي على عثمان موافقة لشيخه محيي الدين بن عربي، ولمنام رآه بجامع دمشق معرضا عنه بسبب ما كان من بني أمية إليه في أيام صفين، فأصبح فنظم في ذلك قصيدة يذكر فيها ميله إلى علي، وإن كان هو أموي: أدين بما دان الوصي ولا أرى * سواه وإن كانت أمية محتدي ولو شهدت صفين خيلي لا عذرت * وشاء بني حرب هنالك مشهدي لكنت أسن البيض عنهم تراضيا * وأمنعهم نيل الخلافة باليد ومن شعره: قالوا ما في جلق نزهة * تسليك عمن أنت به مغرا يا عاذلي دونك في لحظه * سهما وقد عارضه سطرا الصاحب (1) فخر الدين
محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن الحنا المصري، كان وزير الصحبة، وقد كان فاضلا، بنى رباطا بالقرافة الكبرى، ودرس بمدرسة والده بمصر، وبالشافعي بعد ابن بنت الاعز توفي بشعبان ودفن بسفح المقطم، وفوض السلطان وزارة الصحبة لولده تاج الدين.
الشيخ أبو نصر بن أبي الحسن ابن الخراز الصوفي البغدادي الشاعر، له ديوان حسن، وكان جميل المعاشرة حسن المذاكرة، دخل عليه بعض أصحابه فلم يقم له فأنشده قوله: نهض القلب حين أقبلت * إجلالا لما فيه من صحيح الوداد ونهوض القلوب بالود أولى * من نهوض الاجساد للاجساد ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة في مستهل (2) صفر منها ركب السلطان من الديار المصرية في طائفة من العسكر إلى عسقلان
__________
(1) الصاحب: في أصل اللغة اسم للصديق، وهو من ألقاب الوزراء المدنيين اختصوا به دون العسكريين وأول من لقب به من الوزراء كافي الكفاة: اسماعيل بن عماد.
وفي مصر اقتصر استعمال اللقب على الوزراء دون غيرهم.
(التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 212).
(2) في الروض الزاهر: سابع صفر (ص 373).

فهدم ما بقي من سورها مما كان أهمل في الدولة الصلاحية، ووجد فيما هدم كوزين فيهما ألفا دينار ففرقهما على الامراء.
وجاءته البشارة وهو هنالك بأن منكوتمر كسر جيش أبغا ففرح بذلك، ثم عاد إلى القاهرة.
وفي ربيع الاول بلغ السلطان أن أهل عكا ضربوا رقاب من في أيديهم من أسرى المسلمين صبرا بظاهر عكا، فأمر بمن كان في يده من أسرى أهل عكا فضربت رقابهم في صبيحة واحدة، وكانوا قريبا من مائتي أسير.
وفيها كمل جامع المنشية وأقيمت فيه الجمعة في الثاني والعشرين من ربيع الآخر.
وفيها جرت حروب يطول ذكرها بين أهل تونس والفرنج، ثم
تصالحوا بعد ذلك على الهدنة (1) ووضع الحرب، بعد ما قتل من الفريقين خلق لا يحصون.
وفي يوم الخميس ثامن رجب دخل الظاهر دمشق وفي صحبته ولده الملك السعيد وابن الحنا الوزير وجمهور الجيش ثم خرجوا متفرقين وتواعدوا أن يلتقوا بالساحل ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية ومرقب وعرقا وما هنالك من البلاد، فلما اجتمعوا فتحوا صافينا والمجدل، ثم ساروا فنزلوا على حصن الاكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر (2) رجب، وله ثلاثة أسوار، فنصبوا المنجنيقات ففتحها قسرا يوم نصف شعبان، فدخل الجيش، وكان الذي يحاصره ولد السلطان الملك السعيد، فأطلق السلطان أهله ومن عليهم وأجلاهم إلى طرابلس، وتسلم القلعة بعد عشرة أيام من الفتح، فأجلى أهلها أيضا وجعل كنيسة البلد جامعا، وأقام فيه الجمعة، وولى فيها نائبا وقاضيا وأمر بعمارة البلد، وبعث صاحب طرسوس بمفاتيح بلده يطلب منه الصلح على أن يكون نصف مغل بلاده للسلطان، وأن يكون له بها نائبا فأجابه إلى ذلك، وكذلك فعل صاحب المرقب فصالحه أيضا على المناصفة ووضع الحرب عشر سنين.
وبلغ السلطان وهو مخيم على حصن الاكراد أن صاحب جزيرة قبرص قد ركب بجيشه إلى عكا لينصر أهلها خوفا من السلطان، فأراد السلطان أن يغتنم هذه الفرصة فبعث جيشا كثيفا في اثني عشرة شيني ليأخذوا جزيرة قبرص في غيبة صاحبها عنها، فسارت المراكب مسرعة فلما قاربت المدينة جاءتها ريح قاصف فصدم بعضها بعضا فانكسر فيها أربعة عشر مركبا بإذن الله فغرق خلق وأسر الفرنج من الصناع والرجال قريبا من ألف وثمانمائة إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم سار السلطان فنصب المجانيق على حصن عكا فسأله أهلها الامان على أن يخليهم فأجابهم إلى ذلك، ودخل البلد يوم عيد الفطر فتسلمه، وكان الحصن شديد الضرر على المسلمين، وهو واد بين جبلين، ثم سار السلطان نحو طرابلس فأرسل إليه صاحبها يقول: ما مراد السلطان في هذه الارض ؟ فقال جئت لارعى زروعكم وأخرب بلادكم، ثم أعود إلى حصاركم في العام الآتي.
فأرسل يستعطفه ويطلب منه المصالحة ووضع
__________
(1) في الروض الزاهر ص 374: تم الصلح على أن يقوم " صاحب تونس بما غرموه، ويمدهم بنجدة.
" وبعد اتمام الصلح رحل الفرنج عن تونس في خامس صفر.
(2) في الروض: تاسع رجب، وهو خطأ.
وحصن الاكراد: حصن منيع من جند حمص، تولى حمايته في بادئ الامر جماعة من الاكراد سنة 422 فنسب إليهم وكان يسمى قبل ذلك " حصن السفح ".

الحرب بينهم عشر سنين فأجابه إلى ذلك، وأرسل إليه الاسماعيلية يستعطفونه على والدهم، وكان مسجونا بالقاهرة، فقال: سلموا إلي العليقة وانزلوا فخذوا إقطاعات بالقاهرة، وتسلموا أباكم.
فلما نزلوا أمر بحبسهم بالقاهرة واستناب بحصن العليقة (1).
وفي يوم الاحد الثاني عشر (2) من شوال جاء سيل عظيم إلى دمشق فأتلف شيئا كثيرا، وغرق بسببه ناس كثير، لا سيما الحجاج من الروم الذين كانوا نزولا بين النهرين، أخذهم السيل وجمالهم وأحمالهم، فهلكوا وغلقت أبواب البلد، ودخل الماء إلى البلد من مراقي السور، ومن باب الفراديس فغرق خان ابن المقدم وأتلف شيئا كثيرا، وكان ذلك في زمن الصيف في أيام المشمش، ودخل السلطان إلى دمشق يوم الاربعاء خامس عشر شوال فعزل القاضي ابن خلكان، وكان له في القضاء عشر سنين، وولى القاضي عز الدين بن الصائغ، وخلع عليه، وكان تقليده قد كتب بظاهر طرابلس بسفارة الوزير ابن الحنا، فسار ابن خلكان في ذي القعدة إلى مصر.
وفي ثاني عشر شوال دخل حصن الكردي شيخ السلطان الملك الظاهر وأصحابه إلى كنيسة اليهود فصلوا فيها وأزالوا ما فيها من شعائر اليهود، ومدوا فيها سماطا وعملوا سماعا، وبقوا على ذلك أياما، ثم أعيدت إلى اليهود، ثم خرج السلطان إلى السواحل فافتتح بعضها وأشرف على عكا وتأملها ثم سار إلى الديار المصرية، وكان مقدار غرمه في هذه المدة وفي الغزوات قريبا من ثمانمائة ألف دينار، وأخلفها الله عليه، وكان وصوله إلى القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة.
وفي اليوم السابع عشر من وصوله أمسك على جماعة من الامراء منهم الحلبي وغيره بلغه أنهم أرادوا مسكه على الشقيف.
وفي اليوم السابع عشر من ذي الحجة أمر بإراقة الخمور من سائر بلاده وتهدد من يعصرها أو يعتصرها بالقتل، وأسقط ضمان ذلك، وكان ذلك بالقاهرة وحدها كل يوم ضمانه ألف دينار،
ثم سارت البرد بذلك إلى الآفاق.
وفيها قبض السلطان على العزيز بن المغيث صاحب الكرك، وعلى جماعة من أصحابه كانوا عزموا على سلطنته.
وممن توفي فيها من الاعيان: الملك تقي الدين عباس بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، وهو آخر من بقي من أولاد العادل، وقد سمع الحديث من الكندي وابن الحرستاني، وكان محترما عند الملوك لا يرفع عليه أحد في المجالس والمواكب، وكان
__________
(1) في اليونيني 2 / 473 وأبو شامة 81: القليعة.
(2) في الروض الزاهر: ص 384: تاسع شوال.

لين الاخلاق حسن العشرة، لا تمل مجالسته.
توفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة بدرب الريحان، ودفن بتربته بسفح قاسيون.
قاضي القضاة شرف الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى السبكي المالكي، ولد سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث وتفقه وأفتى بالصلاحية، وولي حسبة القاهرة ثم ولي القضاء سنة ثلاث وستين، لما ولوا من كل مذهب قاضيا، وقد امتنع أشد الامتناع ثم أجاب بعد إكراه بشرط أن لا يأخذ على القضاء جامكية، وكان مشهورا بالعلم والدين، روى عنه القاضي بدر الدين ابن جماعة وغيره توفي لخمس بقين من ذي القعدة.
الطواشي شجاع الدين مرشد المظفري الحموي كان شجاعا بطلا من الابطال الشجعان، وكان له رأي سديد، كان أستاذه لا يخالفه، وكذلك الملك الظاهر، توفي بحماه ودفن بتربته بالقرب من مدرسته بحماه.
ابن سبعين: عبد الحق بن إبراهيم بن محمد ابن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن قطب الدين أبو محمد المقدسي الرقوطي، نسبة إلى
رقوطة بلدة قريبة من مرسية، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلم الاوائل والفلسفة، فتولد له من ذلك نوع من الالحاد، وصنف فيه، وكان يعرف السيميا (1)، وكان يلبس بذلك على الاغبياء من الامراء والاغنياء، ويزعم أنه حال من أحوال القوم، وله من المصنفات كتاب البدوي , وكتاب الهو، وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها ابن سمي، وجاور في بعض الاوقات بغار حراء يرتجي فيما ينقل عنه أن يأتيه فيه وحي كما أتى النبي صلى الله عليه وسلم، بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة، إن كان مات على ذلك، وقد كان إذا رأى الطائفين حول البيت يقول عنهم كأنهم الحمير حول المدار، وأنهم لو طافوا به كان أفضل من طوافهم بالبيت، فالله يحكم فيه وفي أمثاله.
وقد نقلت عنه عظائم من الاقوال والافعال، توفي في الثامن والعشرين من شوال بمكة.
__________
(1) لفظ سيمياء عبراني معرب، أصله سيم يه: ومعناه اسم الله.
وعلم السيمياء يطلق على غير الحقيقي من ال كما هو المشهور.
وحاصله احداث مثاليات خيالية في الجو لا وجود لها في الحس.
وقد يطلق على ايجاد تلك المثالات بصورها في الحس، ويكون صورا في جوهر الهواء، ولهذا يسرع زوالها لسرعة تغير جوهر الهواء، وعدم حفظه ما يقبله زمانا طويلا، لكنه سريع القبول وسريع الزوال لرطوبته.
(مفتاح السعادة لزاده - 1 / 316).

ثم دخلت سنة سبعين وستمائة من الهجرة استهلت وخليفة الوقت الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بالعباسي، وسلطان الاسلام الملك الظاهر.
وفي يوم الاحد الرابع عشر من المحرم ركب السلطان إلى البحر لالتقاء الشواني التي عملت عوضا عما غرق بجزيرة قبرص، وهي أربعون شينيا، فركب في شيني منها ومعه الامير بدر الدين، فمالت بهم فسقط الخزندار في البحر فغاص في الماء فألقى إنسان نفسه وراءه فأخذ بشعره وأنقذه من الغرق، فخلع السلطان على ذلك الرجل وأحسن إليه.
وفي أواخر (1) المحرم ركب السلطان في نفر يسير من الخاصكية، والامراء من الديار المصرية حتى قدم الكرك، واستصحب نائبها معه إلى دمشق، فدخلها في ثاني عشر (2) صفر، ومعه الامير عز الدين أيدمر نائب
الكرك (3)، فولاه نيابة دمشق وعزل عنها جمال الدين آقوش النجيبي في رابع عشر صفر، ثم خرج إلى حماة وعاد بعد عشرة أيام.
وفي ربيع الاول وصلت الجفال من حلب وحماة وحمص إلى دمشق بسبب الخوف من التتار، وجفل خلق كثير من أهل دمشق.
وفي ربيع الآخر وصلت العساكر المصرية إلى حضرة السلطان إلى دمشق فسار بهم منها في سابع الشهر، فاجتاز بحماة واستصحب ملكها المنصور، ثم سار إلى حلب فخيم بالميدان الاخضر بها، وكان سبب ذلك أن عساكر الروم جمعوا نحوا من عشرة آلاف فارس وبعثوا طائفة منهم فأغاروا على عين تاب، ووصلوا إلى نسطون ووقعوا على طائفة من التركمان بين حارم وإنطاكية فاستأصلوهم فلما سمع التتار بوصول السلطان ومعه العساكر المنصورة ارتدوا على أعقابهم راجعين، وكان بلغه أن الفرنج أغاروا على بلاد قاقون ونهبوا طائفة من التركمان، فقبض على الامراء الذين هناك حيث لم يهتموا بحفظ البلاد وعادوا إلى الديار المصرية.
وفي ثالث شعبان أمسك السلطان قاضي الحنابلة بمصر شمس الدين أحمد بن العماد المقدسي، وأخذ ما عنده من الودائع فأخذ زكاتها ورد بعضها إلى أربابها، واعتقله إلى شعبان من سنة ثنتين وسبعين، وكان الذي وشى به رجل من أهل حران يقال له شبيب (4)، ثم تبين للسلطان
__________
(1) في الروض الزاهر ص 391: ليلة سابع وعشرين.
(2) في الروض: ثالث عشر.
(3) تقدم انه مات سنة 667 ه.
وفي الروض الزاهر ص 391: صحبه السلطان معه هذه السنة - يعني انه لا يزال حيا حتى هذه السنة - وقلده نيابة السلطنة بالشام وكتب بتقليد نيابة السلطنة بالكرك إلى عز الدين أيدكين استاذ الدار وقد تسلمها في ثامن صفر، أما أبو الفداء فقال: انه ولى علاء الدين نيابة السلطنة في دمشق وتسلمها في مستهل ربيع الاول.
(4) وهو تقي الدين شبيب بن حمدان بن شبيب الحراني توفي بالقاهرة في ربيع الآخر سنة 695 ه.
وكان سبب الخلاف بينه وبين القاضي أنا أخا لشبيب - الامام نجم الدين أحمد - كان ينوب عن القاضي شمس الدين في المحلة - إحدى =

نزاهة القاضي وبراءته فأعاده إلى منصبه في سنة ثنتين وسبعين، وجاء السلطان في شعبان إلى أراضي عكا فأغار عليها فسأله صاحبها المهادنة فأجابه إلى ذلك فهادنه عشر (1) سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر (1) ساعات، وعاد إلى دمشق فقرئ بدار السعادة كتاب الصلح، واستمر الحال على ذلك ثم عاد السلطان إلى بلاد الاسماعيلية فأخذ عامتها (2).
قال قطب الدين: وفي جمادى الآخرة ولدت زرافة بقلعة الجبل، وأرضعت من بقرة.
قال وهذا شئ لم يعهد مثله.
وفيها توفي: الشيخ كمال الدين سلار بن حسن بن عمر (3) بن سعيد الاربلي الشافعي، أحد مشايخ المذهب، وقد اشتغل عليه الشيخ محيي الدين النووي، وقد اختصر البحر للروياني في مجلدات عديدة هي عندي بخط يده وكانت الفتيا تدور عليه بدمشق، توفي في عشر السبعين، ودفن بباب الصغير (4)، وكان مفيدا بالبادرائية من أيام الواقف، لم يطلب زيادة على ذلك إلى أن توفي في هذه السنة.
وجيه الدين محمد بن علي بن أبي طالب ابن سويد التكريتي التاجر الكبير بين التجار بن سويد ذو الاموال الكثيرة، وكان معظما عند الدولة، ولا سيما عند الملك الظاهر، كان يجله ويكرمه لانه كان قد أسدى إليه جميلا في حال إمرته قبل أن يلي السلطنة، ودفن برباطه وتربته بالقرب من الرباط الناصري بقاسيون، وكانت كتب الخليفة ترد إليه في كل وقت، وكانت مكاتباته مقبولة عند جميع الملوك، حتى ملوك الفرنج في السواحل.
وفي أيام التتار في أيام هولاكو، وكان كثير الصدقات والبر.
نجم الدين يحيى بن محمد بن عبد الواحد بن اللبودي واقف اللبودية التي عند حمام الفلك المبرر على الاطباء، ولديه فضيلة بمعرفة الطب، وقد
__________
= مدن مصر - فعزله، فحمله تعصبه لاخيه ان كتب رقعة للسلطان وشى بها القاضي.
(ابن رجب ذيل طبقات الحنابلة 2 / 332 المنهل الصافي 1 / 272).
(1) في الاصل: عشر.
وفي تاريخ الظاهر لابن شداد 2 / 3 (رسالة دكتوراه): في ثاني عشري رمضان.
(2) في تاريخ الظاهر لابن شداد 2 / 8: لم يبق خارج عن مملكة السلطان من جميع حصونهم سوى الكهف والقدموس والمينقة لا غير.
(3) في تاريخ الملك الظاهر: عمرو.
(4) في اليونيني 2 / 479: توفي ليلة الخميس 5 جمادى الآخرة بدمشق ودفن من الغد بباب الصغير، وفي تاريخ الظاهر لابن شداد 2 / 13: توفي ليلة الاحد 6 جمادى الآخرة ودفن من يومه...وكان مولده سنة 589 ه.

ولي نظر الدواوين بدمشق، ودفن بتربته عند اللبودية (1).
الشيخ علي البكاء صاحب الزاوية بالقرب من بلد الخليل عليه السلام، كان مشهورا بالصلاح والعبادة والاطعام لمن اجتاز به من المارة والزوار، وكان الملك المنصور قلاوون يثني عليه ويقول: اجتمعت به وهو أمير وأنه كاشفه في أشياء وقعت جميعها، ومن جملتها أنه سيملك.
نقل ذلك قطب الدين اليونيني، وذكر أن سبب بكائه الكثير أنه صحب رجلا كانت له أحوال وكرامات، وأنه خرج معه من بغداد فانتهوا في ساعة واحدة إلى بلدة بينها وبين بغداد مسيرة سنة، وأن ذلك الرجل قال له إني سأموت في الوقت الفلاني، فأشهدني في ذلك الوقت في البلد الفلاني.
قال: فلما كان ذلك الوقت حضرت عنده وهو في السياق، وقد استدار إلى جهة الشرق فحولته إلى القبلة فاستدار إلى الشرق فحولته أيضا ففتح عينيه وقال: لا تتعب فإني لا أموت إلا على هذه الجهة، وجعل يتكلم بكلام الرهبان حتى مات فحملناه فجئنا به إلى دير هناك فوجدناهم في حزن عظيم، فقلنا لهم: ما شأنكم ؟ فقالوا كان عندنا شيخ كبير ابن مائة سنة، فلما كان اليوم مات على الاسلام، فقلنا لهم: خذوا هذا بدله وسلمونا صاحبنا، قال فوليناه فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين، وولوا هم ذلك الرجل فدفنوه في مقبرة النصارى، نسأل الله حسن الخاتمة.
مات الشيخ علي في رجب من هذه السنة.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وستمائة
في خامس المحرم وصل الظاهر دمشق من بلاد السواحل التي فتحها وقد مهدها، وركب في أواخر (2) المحرم إلى القاهرة فأقام بها سنة (3) ثم عاد فدخل دمشق في رابع (4) صفر، وفي المحرم منها وصل صاحب النوبة إلى عيذاب (5) فنهب تجارها وقتل خلقا من أهلها، منهم الوالي
__________
(1) ولد سنة 607 ه وتوفي في العشر الاوسط من ذي الحجة بدمشق (تاريخ الملك الظاهر 2 / 23).
(2) في الروض الزاهر ص 403: السادس من المحرم.
وفي القطب اليونيني 3 / 1 وتاريخ الملك الظاهر 2 / 26: يوم الاحد سابع عشر المحرم.
(3) كذا بالاصل وهو تصحيف، لانه لم يبق في الديار المصرية إلا أياما من شهر محرم، فقد عاد من مصر ليلة تاسع وعشرين من المحرم (اليونيني 3 / 1 الروض الزاهر ص 404 تاريخ الملك الظاهر 2 / 27، وفي السلوك 1 / 605 تاسع عشره.
وفي المفضل: سابع وعشرين).
(4) في الروض الزاهر ص 404 وتاريخ ابن الوردي 2 / 315: ثالث صفر.
(5) كان مرفأ هاما على بحر القلزم (الاحمر) في صحراء قفر، وكان مرسى المراكب التي تأتيه من اليمن والحبشة والهند، كما كان يقصده الحجاج الذين يتوجهون من مصر إلى جدة.
وعيذاب الآن مندثرة.

والقاضي، فسار إليه (1) الامير علاء الدين أيدغدي الخزندار فقتل خلقا من بلاده ونهب وحرق وهدم ودوخ البلاد، وأخذ بالثأر ولله الحمد والمنة.
وفي [ يوم الخميس ثالث ] (2) ربيع الاول توفي الامير سيف الدين محمد بن مظفر الدين عثمان ابن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون (3)، ودفن في تربة والده في عشر السبعين، وكان له في ملك صهيون وبزريه إحدى عشرة سنة، وتسلمها بعده ولده سابق الدين، وأرسل إلى الملك الظاهر يستأذنه في الحضور فأذن له، فلما حضر أقطعه حيزا وبعث إلى البلدين نوابا من جهته.
وفي خامس جمادى الآخرة وصل السلطان بعسكره إلى الفرات لانه بلغه أن طائفة من التتار هنالك فخاض إليهم الفرات بنفسه وجنده، وقتل من أولئك مقتلة كبيرة وخلقا كثيرا، وكان أول من اقتحم الفرات يومئذ الامير سيف الدين قلاوون وبدر الدين بيسرى وتبعهما السلطان، ثم فعل
بالتتار ما فعل، ثم ساق إلى ناحية البيرة (4) وقد كانت محاصرة بطائفة من التتار أخرى، فلما سمعوا بقدومه هربوا وتركوا أموالهم وأثقالهم، ودخل السلطان إلى البيرة في أبهة عظيمة وفرق في أهلها أموالا كثيرة، ثم عاد إلى دمشق في ثالث جمادى الآخرة ومعه الاسرى.
وخرج منها في سابعه إلى الديار المصرية، وخرج ولده الملك السعيد لتلقيه ودخلا إلى القاهرة، وكان يوما مشهودا.
ومما قاله القاضي شهاب الدين محمود الكاتب، وأولاده يقال لهم بنو الشهاب محمود، في خوض السلطان الفرات بالجيش: سر حيث شئت لك المهيمن جار * واحكم فطوع مرادك الاقدار لم يبق للدين الذي أظهرته * يا ركنه عند الاعادي ثار لما تراقصت الرؤوس تحركت * من مطربات قسيك الاوتار خضت الفرات بعسكر أفضى به * موج الفرات كما أتى الاثار حملتك أمواج الفرات ومن رأى * بحرا سواك تقله الانهار وتقطعت فرقا ولم يك طودها * إذ ذاك إلا جيشك الجرار وقال بعض من شاهد ذلك: ولما تراءينا الفرات بخيلنا * سكرناه منا بالقنا والصوارم (5)
__________
(1) وصاحب النوبة اسمه: داود وهو ابن أخت مرتشكر (الروض الزاهر ص 416).
(2) مابين معكوفتين من الروض الزاهر ص 405.
(3) صهيون: بلدة من جندقنسرين ذات قلعة حصينة (تقويم البلدان 256).
(4) البيرة: قلعة حصينة شمالي الفرات قرب سميساط (ياقوت).
قارن بالنسبة لهذه الوقعة بابن عبد الظاهر 405 - 410 وتاريخ الملك الظاهر لابن شداد 2 / 30 - 32 واليونيني 3 / 2 - 5.
(5) في هامش الروض ص 406: بالقوى والقوائم.

ولجنا فأوقف التيار عن جريانه * إلى حين عدنا بالغنى والغنائم (1) وقال آخر ولا بأس به: الملك الظاهر سلطاننا * نفديه بالاموال والاهل اقتحم الماء ليطفي به * حرارة القلب من المغل وفي يوم الثلاثاء ثالث رجب خلع على جميع الامراء من حاشيته ومقدمي الحلقة وأرباب لدولة وأعطى كل إنسان ما يليق به من الخيل والذهب والحوايص، وكان مبلغ ما أنفق بذلك نحو (2) ثلثمائة ألف دينار.
وفي شعبان أرسل السلطان إلى منكوتمر هدايا عظيمة (3)، وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى السلطان شيخه الشيخ خضر الكردي إلى بين يديه إلى القلعة وحوقق على أشياء كثيرة ارتكبها (4)، فأمر السلطان عند ذلك باعتقاله وحبسه، ثم أمر باغتياله وكان آخر العهد به.
وفي ذي القعدة سلمت الاسماعيلية ما كان بقي بأيديهم من الحصون وهي الكهف والقدموس والمنطقة (5)، وعوضوا عن ذلك بإقطاعات، ولم يبق بالشام شئ لهم من القلاع، واستناب السلطان فيها.
وفيها أمر السلطان بعمارة جسورة في السواحل، وغرم عليها مالا كثيرا، وحصل للناس بذلك رفق كبير.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ تاج الدين أبو المظفر محمد (6) بن أحمد ابن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحوي (7)، التغلبي الدمشقي، كان من أعيان أهل دمشق، ولي نظر الايتام والحسبة، ثم وكالة بيت المال، وسمع الكثير وخرج له ابن بليان مشيخة قرأها عليه الشيخ شرف الدين الغراري بالجامع، فسمعها جماعة من الاعيان والفضلاء رحمه الله.
الخطيب فخر الدين أبو محمد عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الخطيب بها،
__________
(1) البيت في الروض، ونسبه في الهامش لابن النقيب.
(2) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 33: فوق الثلثماية..(3) وكانت جوهر وحوايص (وكانت تسمى قديما منطقة - وهي جمع حياصة - وهي مصنوعة من الفضة أو من
الذهب) وثيابا منوعة (تاريخ الملك الظاهر 2 / 33 - 34).
(4) ومنها اللواط والزنى (تاريخ الملك الظاهر 2 / 35).
(5) في الروض الزاهر ص 411: المنيقة، وفي تاريخ الملك الظاهر 2 / 36: المينقة.
(6) في تاريخ الظاهر 2 / 46: يحيى بن محمد...(7) في تاريخ الظاهر وتاريخ الاسلام: الحبوبي، وفي اليونيني 3 / 27: المحبوبي.

وبيته معروف بالعلم والخطابة والرياسة، ودفن بمقبرة الصوفية وقد قارب الستين (1) رحمه الله.
وقد سمع الحديث من جده فخر الدين صاحب ديوان الخطب المشهورة، توفي بخانقاه القصر ظاهر دمشق.
الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي شيخ الملك الظاهر بيبرس، كان حظيا عنده مكرما لديه، له عنده المكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية (2)، في كل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعا يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه مالا كثيرا، ويطلق له ما أراد، ووقف على زاويته شيئا كثيرا جدا، وكان معظما عند الخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له، وكان يمازحه إذا جلس عنده، وكان فيه خير ودين وصلاح، وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة، وقد دخل مرة كنيسة القمامة بالمقدس فذبح قسيسها بيده، ووهب ما فيها لاصحابه، وكذلك فعل بالكنيسة التي بالاسكندرية وهي من أعظم كنائسهم، نهبها وحولها مسجدا ومدرسة أنفق عليها أموالا كثيرة من بيت المال، وسماها المدرسة الخضراء، وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق، دخلها ونهب ما فيها من الآلات والامتعة، ومد فيها سماطا، واتخذها مسجدا مدة ثم سعوا إليه في ردها إليهم وإبقائها عليهم، ثم اتفق في هذه السنة أنه وقعت منه أشياء أنكرت عليه وحوقق عليها عند السلطان الملك الظاهر فظهر له منه ما أوجب سجنه، ثم أمر بإعدامه وهلاكه وكانت وفاته في هذه السنة (3)، ودفن بزاويته سامحه الله، وقد كان السلطان يحبه محبة عظيمة حتى إنه سمى بعض أولاده خضرا
موافقة لاسمه، وإليه تنسب القبة التي على الجبل غربي الربوة التي يقال لها قبة الشيخ خضر.
مصنف التعجيز العلامة تاج الدين عبد الرحيم بن محمد بن يونس بن محمد (4) بن سعد بن مالك أبو القاسم الموصلي، من بيت الفقه والرياسة والتدريس، ولد سنة ثمان وتسعين (5) وخمسمائة، وسمع
__________
(1) ولد بحران سنة 612 ه وتوفي بدمشق في 11 شوال هذه السنة.
(2) بناها الملك الظاهر لشيخه خضر سنة 660 ه.
ظاهر القاهرة وهي تقع خارج باب الفتوح من القاهرة بخط زقاق الكحل تشرف على الخليج الكبير وقد دفن هذا الاخير بها حين وفاته (اليونيني 3 - 6 المقريزي الخطط 2 / 430).
(3) بقي معتقلا في حبسه حتى مات سنة 675 ه.
(أبو الفداء 4 / 10) وقيل مات في المحرم سنة 676 ه وقد نيف على الخمسين (اليونيني 3 / 5 المقريزي 1 / 2 / 608 ابن فضل الله العمري 5 / 167).
(4) في اليونيني 3 / 14 وعبر الذهبي 5 / 293،..محمد بن منعة بن محمد.
(5) في اليونيني 3 / 15: " ولد بقلعة اربل سنة خمس وثلاثين وخمسمائة في بيت صغير منها " وهو بعيد.
(انظر طبقات السبكي 5 / 72 وتاريخ الظاهر 2 / 43 وفيه: توفي وقد نيف على الخمسين).

واشتغل وحصل وصنف واختصر الوجيز من كتابه التعجيز، واختصر المحصول (1)، وله طريقة في الخلاف أخذها عن ركن الدين الطاووسي، وكان جده عماد الدين بن يونس شيخ المذهب في وقته كما تقدم.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة في صفر (2) منها قدم الظاهر إلى دمشق وقد بلغه أن أبغا وصل إلى بغداد فتصيد بتلك الناحية، فأرسل إلى العساكر المصرية أن يتأهبوا للحضور، واستعد السلطان لذلك.
وفي جمادى الآخرة أحضر ملك الكرج (3) لبين يديه بدمشق، وكان قد جاء متنكرا لزيارة بيت المقدس فظهر عليه فحمل إلى بين يديه فسجنه بالقلعة.
وفيها كمل بناء جامع دير الطين ظاهر القاهرة، وصلى
فيه الجمعة.
وفيها سار السلطان إلى القاهرة فدخلها في سابع (4) رجب.
وفي أواخر رمضان دخل الملك السعيد بن الظاهر إلى دمشق في طائفة من الجيش، فأقام بها شهرا ثم عاد.
وفي يوم عيد الفطر ختن السلطان ولده خضرا الذي سماه باسم شيخه، وختن معه جماعة من أولاد الامراء، وكان وقتا هائلا.
وفيها فوض ملك التتار إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظر في تستر وأعمالها، فسار إليها ليتصفح أحوالها فوجد بها شابا من أولاد التجار يقال له " لي " قد قرأ القرآن وشيئا من الفقه والاشارات لابن سينا، ونظر في النجوم، ثم ادعى أنه عيسى ابن مريم، وصدقه على ذلك جماعة من جهلة تلك الناحية، وقد أسقط لهم من الفرائض صلاة العصر وعشاء الآخرة، فاستحضره وسأله عن ذلك فرآه ذكيا، إنما يفعل ذلك عن قصد، فأمر به فقتل بين يديه جزاه الله خيرا، وأمر العوام فنهبوا أمتعته وأمتعة العوام ممن كان اتبعه.
وممن توفي فيها من الاعيان: مؤيد الدين أبو المعالي الصدر الرئيس أسعد بن غالب المظفري ابن الوزير مؤيد الدين أسعد بن حمزة بن أسعد (5) بن علي بن محمد
__________
(1) وهو المحصول في أصول الفقه وصاحبه فخر الدين الرازي.
(2) في الروض الزاهر: ص 420: في السابع عشر من صفر.
(3) من الروض الزاهر ص 423 وتاريخ الملك الظاهر 2 / 53، وفي الاصل: " الكرخ " تصحيف.
انظر تفاصيل الحادث في المصادر المذكورة.
(4) في الروض الزاهر: رابع عشرين جمادى الآخرة.
(5) كذا بالاصل والوافي 9 / 39، وفي تاريخ الملك الظاهر 2 / 67 وشذرات الذهب 5 / 334: أسد.

التميمي بن القلانسي، جاوز التسعين (1) وكان رئيسا كبيرا واسع النعمة، لا يغفل أن يباشر شيئا من الوظائف وقد ألزموه بعد ابن سويد بمباشرة مصالح السلطان فباشرها بلا جامكية، وكانت وفاته ببستانه، ودفن بسفح قاسيون يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم.
والد الصدر عز الدين حمزة
رئيس البلدين دمشق والقاهرة، وحدهم مؤيد الدين أسعد بن حمزة الكبير كان وزيرا للملك الافضل علي بن الناصر فاتح القدس، كان رئيسا فاضلا له كتاب الوصية في الاخلاق المرضية وغير ذلك، وكانت له يد جيدة في النظم، فمن ذلك قوله: يا رب جد لي إذا ما ضمني جدثي * برحمة منك تنجيني من النار أحسن جواري إذا أمسيت (2) جارك في * لحدي فإنك قد أوصيت بالجار وأما والد حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي فهو العميد، وكان يكتب جيدا وصنف تاريخا فيما بعد سنة أربعين وأربعمائة إلى سنة وفاته في خمس وخمسمائة.
الامير الكبير فارس الدين أقطاي المستعربي أتابك الديار المصرية، كان أولا مملوكا لابن يمن (3)، ثم صار مملوكا للصالح أيوب فأمره، ثم عظم شأنه في دولة المظفر وصار أتابك العساكر، فلما قتل امتدت أطماع الامراء إلى المملكة فبايع أقطاي الملك الظاهر فتبعه الجيش على ذلك، وكان الظاهر يعرفها له ولا ينساها، ثم قبل وفاته بقليل انهضم عند الظاهر، ومات في هذه السنة بالقاهرة (4).
الشيخ عبد الله بن غانم ابن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين المقدسي، له زاوية بنابلس، وله أشعار رائقة، وكلام قوي في علم التصوف، وقد طول اليونيني ترجمته وأورد من أشعاره شيئا كثيرا.
قاضي القضاة كمال الدين أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي التفليسي الشافعي، ولد بتفليس سنة إحدى
__________
(1) كذا بالاصل، والارجح أن الصواب: السبعين لان مولده على الظن - سنة 597 أو 598 (الوافي - اليونيني - تاريخ الظاهر).
(2) في الوافي: أصبحت.
(3) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 97: كان أولا لمهذب الدين علي بن الدقاق الحلبي ثم باعه وانتقل إلى ابن يمن.
(4) ذكر وفاته ابن شداد في وفيات سنة 673 ه.
وله من العمر قريب من سبعين سنة.

وستمائة، وكان فاضلا أصوليا مناظرا، ولي نيابة الحكم مدة ثم استقل بالقضاء في دولة هلاوون - هولاكو - وكان عفيفا نزلها لم يرد منصبا ولا تدريسامع كثرة عياله وقلة ماله، ولما انقضت أيامهم تغضب عليه بعض الناس ثم ألزم بالمسير إلى القاهرة، فأقام بها يفيد الناس إلى أن توفي في ربيع الاول من هذه السنة، ودفن بالقرافة الصغرى.
إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن عبد الله التنوخي، وتنوخ من قضاعة، كان صدرا كبيرا، وكتب الانشاء للناصر داود بن المعظم، وتولى نظر المارستان النوري وغيره، وكان مشكور السيرة، وقد أثنى عليه غير واحد، وقد جاوز الثمانين (1)، ومن شعره قوله: خاب رجاء امرئ له أمل * بغير رب السماء قد وصله أيبتغي غيره أخو ثقة * وهو ببطن الاحشاء قد كفله وله أيضا: خرس اللسان وكل عن * أوصافكم ماذا يقول (2) وأنتم ما أنتم الامر أعظم من مقالة قائل * قد تاه عقل (3) أن يعبر عنكم العجز والتقصير وصفي دائما * والبر والاحسان يعرف منكم ابن مالك صاحب الالفية الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الجياني النحوي، صاحب التصانيف المشهورة المفيدة، منها الكافية الشافية وشرحها، والتسهيل وشرحه، والالفية التي شرحها ولده بدر الدين شرحا مفيدا.
ولد بجيان (4) سنة ستمائة وأقام بحلب مدة، ثم بدمشق.
وكان كثير الاجتماع بابن خلكان وأثنى عليه غير واحد، وروى عنه القاضي بدر الدين بن جماعة،
__________
(1) كان مولده سنة 589 في المحرم منها، وتوفي يوم الاحد 26 صفر من هذه السنة (الوافي 9 / 71 ذيل مرآة الزمان 3 / 38).
(2) في تاريخ الظاهر 2 / 68: أقول.
(3) في المصدر نفسه: مقالة حاير..قد تاه فيكم..(4) من معجم البلدان، وشذرات الذهب، وفي الاصل: حيان - والحياني - تصحيف.
وحيان مدينة لها كورة واسعة بالاندلس تتصل بكورة البيرة بينها وبين قرطبة 17 فرسخا.

وأجاز لشيخنا علم الدين البرزالي.
توفي ابن مالك بدمشق ليلة الاربعاء ثاني عشر رمضان (1)، ودفن بتربة القاضي عز الدين بن الصائغ بقاسيون.
النصير الطوسي محمد (2) بن عبد الله الطوسي، كان يقال له المولى نصير الدين، ويقال الخواجا نصير الدين، اشتغل في شبيبته وحصل علم الاوائل جيدا، وصنف في ذلك في علم الكلام، وشرح الاشارات لابن سينا، ووزر لاصحاب قلاع الالموت من الاسماعيلية، ثم وزر لهولاكو، وكان معه في واقعة بغداد، ومن الناس من يزعم أنه أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة فالله أعلم، وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل.
وقد ذكره بعض البغاددة فأثنى عليه، وقال: كان عاقلا فاضلا كريم الاخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين الله، وهو الذي كان قد بنى الرصد بمراغة، ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والاطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء، وبنى له فيه قبة عظيمة، وجعل فيه كتبا كثيرة جدا، توفي في بغداد في ثاني (3) عشر ذي الحجة من هذه السنة، وله خمس وسبعون سنة (4)، وله شعر جيد قوي وأصل اشتغاله على المعين سالم بن بدار بن علي المصري المعتزلي المتشيع، فنزع فيه عروق كثيرة منه، حتى أفسد اعتقاده.
الشيخ سالم البرقي صاحب الرباط بالقرافة الصغرى، كان صالحا متعبدا يقصد للزيارة والتبرك بدعائه، وله اليوم أصحاب معروفون على طريقه.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة فيها اطلع السلطان على ثلاثة عشر (5) أميرا منهم قجقار الحموي، وقد كانوا كاتبوا التتر
__________
(1) في تاريخ الظاهر 2 / 77 وشذرات الذهب 5 / 339: شعبان.
(2) الوافي بالوفيات 1 / 179 وتاريخ الظاهر 2 / 80 وفوات الوفيات 2 / 149 وغيرهما: محمد بن محمد بن حسن..(وفي مختصر أبي الفداء 4 / 8: محمد بن محمد بن حسين).
(3) في مختصر أبي الفداء 4 / 8: ثامن عشر.
(انظر تاريخ الملك الظاهر 2 / 81).
(4) في تاريخ 2 / 81: جاوز الثمانين ولم اتحقق مولده (انظر الوافي - وتاريخ أبي الفداء - وتاريخ ابن القوطي ص 380).
(5) ذكر ابن شداد في تاريخ الظاهر 2 / 87: أربعة عشر أميرا وهم: سيف الدين قجقار الحموي، وموغان، =

يدعونهم إلى بلاد المسلمين، وأنهم معهم على السلطان، فأخذوا فأقروا بذلك، وجاءت كتبهم مع البريدية وكان آخر العهد بهم.
وفيها أقبل السلطان بالعساكر فدخل بلاد سيس (1) يوم الاثنين الحادي والعشرين من رمضان، فقتلوا خلقا لا يعلمهم إلا الله وغنموا شيئا كثيرا من الابقار والاغنام والاثقال والدواب والانعام، فبيع ذلك بأرخص ثمن، ثم عاد فدخل دمشق مؤيدا منصورا في شهر ذي الحجة فأقام بها حتى دخلت السنة.
وفيها ثار على أهل الموصل رمل حتى عم الافق وخرجوا من دورهم يبتهلون إلى الله حتى كشف ذلك عنهم، والله تعالى أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: ابن عطاء الحنفي قاضي القضاة شمس الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ شرف الدين محمد بن عطاء بن حسن بن عطاء بن جبير بن جابر بن وهيب الاذرعي الحنفي، ولد سنة خمس (2) وتسعين وخمسمائة، سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وناب في الحكم عن الشافعي مدة، ثم استقل بقضاء الحنفية أول ما ولي القضاة من المذاهب الاربعة، ولما وقعت الحوطة على أملاك
الناس أراد السلطان منه أن يحكم بها بمقتضى مذهبه، فغضب من ذلك فقال: هذه أملاك بيد أصحابها، وما يحل لمسلم أن يتعرض لها ثم نهض من المجلس فذهب، فغضب السلطان من ذلك غضبا شديدا، ثم سكن غضبه فكان يثني عليه بعد ذلك ويمدحه، ويقول: لا تثبتوا كتبا إلا عنه.
كان ابن عطاء من العلماء الاخيار كثير التواضع قليل الرغبة في الدنيا، روى عنه ابن جماعة وأجاز للبرزالي.
توفي يوم الجمعة تاسع (3) جمادى الاولى، ودفن بالقرب من المعظمية بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.
بيمند بن بيمند بن بيمند ابرنس طرابلس الفرنجي، كان جده نائبا لبنت صيحل الذي تملك طرابلس من ابن عمار في حدود الخمسمائة، وكانت يتيمة تسكن بعض جزائر البحر، فتغلب هذا على البلد لبعدها
__________
= ومنكو، وسريغا، وطنغري فودى، وطنغري برمش، وأنوك، وبرمش، وبلبان مجلى، والبعلاي المرتد، وبلاغه (في اليونيني: بلاغا) وطبعني (طبوعون) وأيبك، وسنجر الحواشي التركي.
(1) انظر في أسباب دخوله سيس، وتفاصيل غزوته هذه: الروض الزاهر ص 432 وما بعدها وتاريخ الملك الظاهر 2 / 90.
(2) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 100: ثمان.
(3) في تاريخ الظاهر، واليونيني 3 / 96: ثامن.

عنه، ثم استقل بها ولده ثم حفيده هذا، وكان شكلا مليحا.
قال قطب الدين اليونيني: رأيته في بعلبك في سنة ثمان وخمسين وستمائة حين جاء مسلما على كتبغانوين، ورام أن يطلب منه بعلبك، فشق ذلك على المسلمين.
ولما توفي دفن في كنيسة طرابلس، ولما فتحها المسلمون في سنة ثمان وثمانين وستمائة نبش الناس قبره وأخرجوه منه وألقوا عظامه على المزابل للكلاب.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وستمائة لما كان يوم الخميس ثامن جمادى الاولى (1) نزل التتار على البيرة في ثلاثين ألف مقاتل، خمسة
عشر ألفا من المغول، وخمسة عشر ألفا من الروم، والمقدم على الجميع البرواناه بأمر أبغا ملك التتار ومعهم جيش الموصل وجيش ماردين والاكراد، ونصبوا عليها ثلاثة وعشرين منجنيقا، فخرج أهل البيرة في الليل فكبسوا عسكر التتار وأحرقوا المنجنيقات ونهبوا شيئا كثيرا، ورجعوا إلى بيوتهم سالمين، فأقام عليها الجيش مدة إلى تاسع (2) عشر الشهر المذكور، ثم رجعوا عنها بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا.
ولما بلغ السلطان نزول التتار على البيرة أنفق في الجيش ستمائة ألف دينار، ثم ركب سريعا وفي صحبته ولده السعيد، فلما كان في أثناء الطريق بلغه رحيل التتار عنها فعاد إلى دمشق، ثم ركب في رجب إلى القاهرة فدخلها في ثامن عشر فوجد بها خمسة وعشرين رسولا من جهة ملوك الارض ينتظرونه فتلقوه وحدثوه وقبلوا الارض بين يديه ودخل القلعة في أبهة عظيمة.
ولما عاد البرواناه إلى بلاد الروم حلف الامراء الكبار منهم شرف الدين مسعود وضياء الدين محمود ابنا الخطيري، وأمين الدين ميكائيل، وحسام الدين ميجار، وولده بهاء الدين، على أن يكونوا من جهة السلطان الملك الظاهر وينابذوا أبغا، فحلفوا له على ذلك، وكتب إلى الظاهر بذلك، وأن يرسل إليه جيشا ويحمل له ما كان يحمله إلى التتار، ويكون غياث الدين كنجري على ما هو عليه، يجلس على تخت مملكة الروم.
وفي هذه السنة استسقى أهل بغداد ثلاثة أيام فلم يسقوا.
وفيها في رمضان منها وجد رجل وامرأة في نهار رمضان على فاحشة الزنا، فأمر علاء الدين صاحب الديوان برجمهما فرجما، ولم يرجم ببغداد قبلهما قط أحد منذ بنيت.
وهذا غريب جدا.
وفيها استسقى أهل دمشق أيضا مرتين.
في أواخر رجب وأوائل شعبان - وكان ذلك في آخر كانون الثاني - فلم يسقوا أيضا.
وفيها أرسل السلطان جيشا إلى دنقلة فكسر جيش السودان وقتلوا منهم خلقا وأسروا شيئا كثيرا من السودان بحيث بيع الرقيق الرأس منها بثلاثة دراهم، ورهب ملكهم داوداه إلى صاحب النوبة
__________
(1) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 110: الآخرة.
(2) في ذيل مرآة الزمان 3 / 115 وتاريخ الملك الظاهر 2 / 112: يوم السبت السابع عشر.

فأرسله إلى الملك الظاهر محتاطا عليه (1)، وقرر الملك الظاهر على أهل دنقلة جزية تحمل إليه في كل سنة (2).
كل ذلك كان في شعبان من هذه السنة.
وفيها عقد عقد الملك السعيد بن الظاهر على بنت الامير سيف الدين قلاوون الالفي، في الايوان بحضرة السلطان والدولة على صداق خمسة آلاف دينار، تعجل منها ألفا دينار، وكان الذي كتبه وقرأه محيي الدين بن عبد الظاهر (3)، فأعطي مائة دينار، وخلع عليه.
ثم ركب السلطان مسرعا فوصل إلى حصن الكرك فجمع القيمرية الذين به فإذا هم ستمائة نفر، فأمر بشنقهم فشفع فيهم عنده فأطلقهم وأجلاهم منه إلى مصر، وكان قد بلغه عنهم أنهم يريدون قتل من فيه ويقيموا ملكا عليهم، وسلم الحصن إلى الطواشي شمس الدين رضوان السهيلي، ثم عاد في بقية الشهر إلى دمشق فدخلها يوم الجمعة ثامن عشر الشهر.
وفيها كانت زلزلة بأخلاط واتصلت ببلاد بكر.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الامام العلامة الاديب تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابد (4) بن الحسين بن محمد بن علي التميمي الصرخدي الحنفي، كان مشهورا بالفقه والادب، والعفة والصلاح، ونزاهة النفس ومكارم الاخلاق.
ولد سنة ثمان وسبعين (5) وخمسمائة، وسمع الحديث وروى، ودفن بمقابر الصوفية في ربيع الآخر منها، وله ست وتسعون سنة رحمه الله.
الشيخ الامام عماد الدين عبد العزيز بن محمد ابن عبد القادر بن عبد الله بن خليل بن مقلد الانصاري الدمشقي، المعروف بابن الصائغ، كان مدرسا بالعذراوية وشاهدا بالخزانة بالقلعة يعرف الحساب جيدا، وله سماع ورواية، ودفن بقاسيون.
__________
(1) وذلك في يوم الثلاثاء ثاني محرم من سنة 675 وحبس في بعض أبرجة القلعة (تاريخ الظاهر 2 / 117).
(2) وهي على كل بالغ من البلاد دينارا في السنة، وأن يحمل إلى السلطان في كل سنة من الهجن ومن البقر ومن العبيد.
(تاريخ الملك الظاهر 2 / 116).
(3) وهو صاحب ديوان الانشاء، لعب دورا هاما أيام الملك الظاهر والمنصور قلاوون وابنه الاشرف خليل، وهو صاحب سيرة الظاهر بيبرس (الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر) وسيرة المنصور قلاوون وأخرى للاشرف خليل.
توفي سنة 692 ه.
(4) فقط في تاريخ الملك الظاهر: عامد.
(5) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 137: 586 ه.
وفي فوات الوفيات 4 / 121: 598 ه.

ابن الساعي المؤرخ (1) تاج الدين بن المحتسب المعروف بابن الساعي البغدادي، ولد سنة ثلاث وتسعين وسمع الحديث واعتنى بالتاريخ، وجمع وصنف، ولم يكن بالحافظ ولا الضابط المتقن.
وقد أوصى إليه ابن النجار حين توفي، وله تاريخ كبير عندي أكثره، ومصنفات أخر مفيدة، وآخر ما صنف كتاب في الزهاد، كتب في حاشيته زكي الدين عبد الله بن حبيب الكاتب: ما زال تاج الدين طول المدى * من عمره يعتق في السير في طلب العلم وتدوينه * وفعله نفع بلا ضير علا علي بتصانيفه * وهذه خاتمة الخير ثم دخلت سنة خمس وسبعين وستمائة في ثالث عشر (2) المحرم منها دخل السلطان إلى دمشق وسبق العساكر إلى بلاد حلب، فلما توافت إليه أرسل بين يديه الامير بدر الدين الاتابكي بألف فارس إلى البلستين (3)، فصادف بها جماعة من عسكر الروم فركبوا إليه وحملوا إليه الاقامات، وطلب جماعة منهم أن يدخلوا بلاد الاسلام فأذن لهم، فدخل طائفة منهم بيجار وابن الخطير، فرسم لهم أن يدخلوا القاهرة فتلقاهم الملك السعيد، ثم عاد السلطان من حلب إلى القاهرة فدخلها في ثاني عشر ربيع الآخر.
وفي خامس جمادى الاولى عمل السلطان عرس ولده الملك السعيد على بنت قلاوون، واحتفل السلطان به احتفالا عظيما، وركب الجيش في الميدان خمسة أيام يلعبون ويتطاردون،
ويحمل بعضهم على بعض، ثم خلع على الامراء وأرباب المناصب، وكان مبلغ ما خلع ألف وثلثمائة خلعة بمصر، وجاءت مراسيمه إلى الشام بالخلع على أهلها، ومد السلطان سماطا عظيما حضره الخاص والعام، والشارد والوارد، وحبس فيه رسل التتار ورسل الفرنج وعليهم كلهم الخلع الهائلة، وكان وقتا مشهودا، وحمل صاحب حماه هدايا عظيمة وركب إلى مصر للتهنئة.
وفي حادي عشر شوال طيف بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة، وكان يوما مشهودا.
وقعة البلستين وفتح قيسارية ركب السلطان من مصر في العساكر فدخل دمشق في سابع عشر شوال، فأقام بها ثلاثة
__________
(1) وهو علي بن أنجب بن عثمان بن عبيد الله السلامي.
(2) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 139: الاربعاء الثالث من المحرم.
(3) وترسم أيضا الابلستين، مدينة ببلاد الروم، واسمها الحالي البستان (ياقوت).

أيام، ثم سار حتى دخل حلب في مستهل ذي القعدة، فأقام بها يوما ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكر حلب على الفرات لحفظ المنائر (1)، وسار السلطان فقطع الدربند (2) في نصف يوم، ووقع سنقر الاشقر في أثناء الطريق بثلاثة آلاف من المغول فهزمهم يوم الخميس تاسع ذي القعدة وصعد العسكر على الجبال فأشرفوا على وطأة البلستين فرأوا التتار قد رتبوا عسكرهم وكانوا أحد عشر ألف مقاتل، وعزلوا عنهم عسكر الروم خوفا من مخامرتهم، فلما تراأى الجمعان حملت ميسرة التتار فصدمت سناجق (3) السلطان، ودخلت طائفة منهم بينهم فشقوها، وساقت إلى الميمنة، فلما رأى السلطان ذلك أردف المسلمين بنفسه ومن معه، ثم لاحت منه التفاتة فرأى الميسرة قد كادت أن تتحطم فأمر جماعة من الامراء بأردافها، ثم حمل العسكر جميعه حملة واحدة على التتار فترجلوا إلى الارض عن آخرهم، وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا، وصبر المسلمون صبرا عظيما، فأنزل الله نصره على المسلمين، فأحاطت بالتتار العساكر من كل جانب، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقتل من المسلمين أيضا جماعة، وكان في جملة من قتل من سادات المسلمين الامير الكبير ضياء الدين بن
الخطير، وسيف الدين قيماز، وسيف الدين بنجو الجاشنكير (4)، وعز الدين أيبك الثقفي (5)، وأسر جماعة من أمراء المغول، ومن أمراء الروم، وهرب البرواناه فنجا بنفسه، ودخل قيسارية في بكرة الاحد ثاني عشر ذي القعدة (6)، وأعلم أمراء الروم ملكهم بكسرة التتار على البلستين، وأشار عليهم بالهزيمة فانهزموا منها وأخلوها، فدخلها الملك الظاهر وصلى بها الجمعة سابع (7) ذي القعدة، وخطب له بها، ثم كر راجعا مؤيدا منصورا.
وسارت البشائر إلى البلدان ففرح المؤمنون يومئذ بنصر الله.
ولما بلغ خبر هذه الوقعة أبغا جاء حتى وقف بنفسه وجيشه، وشاهد مكان المعركة ومن فيها من قتلى المغول، فغاظه ذلك وأعظمه وحنق على البرواناه إذ لم يعلمه بجلية الحال، وكان يظن أمر الملك الظاهر دون هذا كله، واشتد غضبه على أهل قيسارية وأهل تلك الناحية، فقتل منهم قريبا من مائتي ألف، وقيل قتل منهم خمسمائة ألف من قيسارية وأرزن الروم، وكان في جملة من قتل القاضي جلال الدين حبيب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 158: المعابر.
(2) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 159 والروض الزاهر ص 458: أقجادربند.
وهي قرية على فم الطريق الجبلي بين نهر كوكصو (الازرق) والبلستين (صبح الاعشى 14 / 143).
(3) سناجق ومفردها سنجق، ومعناه الرمح.
والمراد هنا الفرسان المكلفون حمل رايات السلطان في أعلى الرماح، ومهمتهم رفع معنويات العسكر ويكونون عادة في الوسط (الصبح 5 / 458).
(4) الجاشنكير: هو الذي يتصدى لذوقان المأكول والمشروب قبل السلطان أو الامير خوفا من أن يدس عليه فيه سم ونحوه.
وهو مركب من لفظين فارسيين: جاشنا: ومعناه الذوق، وكير: بمعنى التعاطي (صبح الاعشى 5 / 460).
(5) كذا بالاصل، وفي تاريخ الملك الظاهر 2 / 161 واليونيني 3 / 177: الشقيقي.
(6) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 162: ذي الحجة.
والصواب ما أثبتناه.
(7) كذا بالاصل، وفي تاريخ الملك الظاهر: السابع عشر وهو الاصح.

وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ أبو الفضل بن الشيخ عبيد بن عبد الخالق الدمشقي ودفن بالقرب من الشيخ أرسلان.
قال الشيخ علم الدين: وكان يذكر أن مولده كان سنة أربع وستين وخمسمائة.
الطواشي يمن الحبشي شيخ الخدم بالحرم الشريف، كان دينا عاقلا عدلا صادق اللهجة، مات في عشر السبعين (1) رحمه الله.
الشيخ المحدث شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بكر الموصلي، ثم الدمشقي الصوفي، سمع الكثير وكتب الكتب الكبار بخط رفيع جيد واضح، جاوز السبعين ودفن بباب الفراديس.
الشاعر شهاب الدين أبو المكارم محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة بن سالم بن عبد الله الشيباني التلعفري (3)، صاحب ديوان الشعر، جاوز الثمانين، مات بحماه (3)، وكان الشعراء مقرين له معترفين بفضله وتقدمه في هذا الفن.
ومن شعره قوله: لساني طري منك يا غاية المنى * ومن ولهي أني خطيب وشاعر فهذا لمعنى حسن وجهك ناظم * وهذا لدمعي في تجنيك ناشر القاضي شمس الدين علي بن محمود بن علي بن عاصم الشهرزوري الدمشقي، مدرس القيمرية بشرط واقفها له ولذريته من بعده التدريس من تأهل منهم، فدرس بها إلى أن توفي في هذه السنة، ودرس بعد
__________
(1) في تاريخ الملك الظاهر: توفي في 19 ربيع الاول بالمدينة وكان قد نيف على الثمانين.
(2) التلعفري: نسبة إلى التل الاعفر، موضع بنواحي الموصل.
(3) في اليونيني 3 / 219: توفي في ثالث عشر المحرم...بنصيبين.

ولده صلاح الدين، ثم ابن ابنه بعد ابن جماعة، وطالت مدة حفيده.
وقد ولى شمس الدين على نيابة ابن خلكان في الولاية الاولى، وكان فقيها جيدا نقالا للمذهب، رحمه الله.
وقد سافر مع ابن العديم لبغداد فسمع بها ودفن بمقابر الصوفية بالقرب من ابن الصلاح.
الشيخ الصالح العالم الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن سنجر الكناني الحموي له معرفة بالفقه والحديث، ولد سنة ست وتسعين بحماه، وتوفي بالقدس الشريف ودفن بماملا، وسمع من الفخر ابن عساكر، وروى عنه ولده قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة.
الشيخ الصالح جندل بن محمد المنيني كانت له عبادة وزهادة وأعمال صالحة، وكان الناس يترددون إلى زيارته بمنين، وكان يتكلم بكلام كثير لا يفهمه أحد من الحاضرين، بألفاظ غريبة، وحكى عنه الشيخ تاج الدين (1) أنه سمعه يقول: ما تقرب أحد إلى الله بمثل الذل له والتضرع إليه، وسمعه يقول: الموله منفي من طريق الله يعتقد أنه واصل ولو علم أنه منفي رجع عما هو فيه، لان طريق القوم من أهل السلوك لا يثبت عليها إلا ذوو العقول الثابتة.
وكان يقول: السماع وظيفة أهل البطالة.
قال الشيخ تاج الدين: وكان الشيخ جندل من أهل الطريق وعلماء التحقيق.
قال: وأخبرني في سنة إحدى وستين وستمائة أنه قد بلغ من العمر خمسا وتسعين سنة.
قلت: على هذا فيكون قد جاوز المائة، لانه توفي في رمضان من هذه السنة، ودفن في زاويته المشهورة بقرية منين، وتردد الناس لقبره يصلون عليه من دمشق وأعمالها أياما كثيرة رحمه الله.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد الحافظ بدر الدين أبو عبد الله بن الفويرة (2) السلمي الحنفي، اشتغل على الصدر سليمان وابن عطاء وفي النحو على ابن مالك، وحصل وبرع ونظم ونثر، ودرس في الشبلية والقصاعين.
وطلب لنيابة القضاء فامتنع، وكتب الكتابة المنسوبة.
رآه بعض أصحابه في المنام بعد وفاته
فقال: ما فعل الله بك ؟ فأنشأ يقول: ما كان لي من شافع عنده * غير اعتقادي أنه واحد
__________
(1) وهو عبد الرحمن بن الفركاح الفزاري.
(2) من تاريخ الملك الظاهر 2 / 202 وشذرات الذهب 5 / 347 والوافي 3 / 235.
وفي الاصل: ابن النويرة.
تحريف.

وكانت وفاته في جمادى الآخرة (1) ودفن بظاهر دمشق رحمه الله.
محمد بن عبد الوهاب بن منصور شمس الدين أبو عبد الله الحراني الحنبلي تلميذ الشيخ مجد الدين ابن تيمية، وهو أول من حكم بالديار المصرية من الحنابلة نيابة عن القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز، ثم ولى شمس الدين ابن الشيخ العماد القضاء مستقلا فاستناب به، ثم ترك ذلك ورجع إلى الشام يشتغل ويفتي إلى أن توفي وقد نيف على الستين رحمه الله.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وستمائة فيها كانت وفاة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، صاحب البلاد المصرية والشامية والحلبية وغير ذلك، وأقام ولده ناصر الدين أبا المعالي محمد بركه خان الملقب السعيد من بعده، ووفاة الشيخ محيي الدين النووي إمام الشافعية فيها في اليوم السابع من المحرم منها، ودخل السلطان الملك الظاهر من بلاد الروم وقد كسر التتار على البلستين، ورجع مؤيدا منصورا فدخل دمشق وكان يوم دخوله يوما مشهودا، فنزل بالقصر الابلق الذي بناه غربي دمشق بين الميدانين الاخضرين، وتواترت الاخبار إليه بأن أبغا جاء إلى المعركة ونظر إليها وتأسف على من قتل من المغول وأمر بقتل البرواناه وذكروا أنه قد عزم على قصد الشام، فأمر السلطان بجمع الامراء وضرب مشورة فاتفق مع الامراء على ملاقاته حيث كان [ من البقاع ] (2)، وتقدم بضرب الدهليز على القصر (3)، ثم جاء الخبر بأن أبغا قد رجع إلى بلاده فأمر برد الدهليز وأقام بالقصر الابلق
يجتمع عنده الاعيان والامراء والدولة في أسر حال، وأنعم بال.
وأما أبغا فإنه أمر بقتل البرواناه - وكان نائبه على بلاد الروم - وكان اسمه معين الدين سليمان بن علي بن محمد بن حسن، وإنما قتله لانه اتهمه بممالاته للملك الظاهر، وزعم أنه هو الذي حسن له دخول بلاد الروم، وكان البرواناه شجاعا حازما كريما جوادا، وله ميل إلى الملك الظاهر، وكان قد جاوز الخمسين لما قتل.
ثم لما كان يوم السبت خامس عشر المحرم توفي الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن السلطان المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، عن أربع وستين سنة، وكان رجلا جيدا سليم الصدر كريم الاخلاق، لين الكلمة كثير التواضع، يعاني ملابس العرب ومراكبهم، وكان
__________
(1) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 203: توفي يوم السبت حادي عشرين جمادى الاولى.
وكان مولده سنة 636 ه.
(2) ما بين معكوفين من تاريخ الملك الظاهر 2 / 214.
(3) كذا بالاصل، وفي تاريخ الملك الظاهر: القصير: تصغير لقصر، عرفها القلقشندي 4 / 367 بأنها ضيعة أول منزل لمن يريد حمص من دمشق.

معظما في الدولة شجاعا مقداما، وقد روى عن ابن الليثي وأجاز للبرزالي.
قال البرزالي ويقال إنه سم، وذكر غيره أن السلطان الملك الظاهر سمه في كأس خمر ناوله إياه فشربه وقام السلطان إلى المرتفق ثم عاد وأخذ الساقي الكأس من يد القاهر فملاه وناوله السلطان الظاهر والساقي لا يشعر بشئ مما جرى، وأنسى الله السلطان ذلك الكأس، أو ظن أنه غيره لامر يريده الله ويقضيه، وكان قد بقي في الكأس بقية كثيرة من ذلك السم، فشرب الظاهر ما في الكأس ولم يشعر حتى شربه فاشتكى بطنه من ساعته، ووجد الوهج والحر والكرب الشديد من فوره، وأما القاهر فإنه حمل إلى منزله وهو مغلوب فمات من ليلته.
وتمرض الظاهر من ذلك أياما (1) حتى كانت وفاته يوم الخميس بعد الظهر في السابع والعشرين من المحرم بالقصر الابلق، وكان ذلك يوما عظيما على الامراء، وحضر نائب السلطنة عز الدين أيدمر وكبار الامراء والدولة، فصلوا عليه سرا وجعلوه في تابوت ورفعوه إلى القلعة من السور وجعلوه في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته التي
بناها ولده له بعد موته، وهي دار العقيقي تجاه العادلية الكبيرة، ليلة الجمعة خامس رجب من هذه السنة، وكتم موته فلم يعلم جمهور الناس به حتى إذا كان العشر الاخير من ربيع الاول، وجاءت البيعة لولده السعيدمن مصر فحزن الناس عليه حزنا شديدا، وترحموا عليه ترحما كثيرا، وجددت البيعة أيضا بدمشق وجاء تقليد النيابة بالشام مجددا إلى عز الدين أيدمر نائبها.
وقد كان الملك الظاهر شهما شجاعا عالي الهمة بعيد الغور مقداما جسورا معتنيا بأمر السلطنة، يشفق على الاسلام، متحليا بالملك، له قصد صالح في نصرة الاسلام وأهله، وإقامة شعار الملك، واستمرت أيامه من يوم الاحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين إلى هذا الحين، ففتح في هذه المدة فتوحات كثيرة قيسارية وأرسون ويافا والشقيف وإنطاكية وبغراس (2) وطبرية والقصير وحصن الاكراد وحصن ابن عكار (3) والغرين وصافينا وغير ذلك من الحصون المنيعة التي كانت بأيدي الفرنج، ولم يدع مع الاسماعيلية شيئا من الحصون، وناصف الفرنج على المرقب، وبانياس وبلاد أنطرسوس، وسائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون، وولى في نصيبه
__________
(1) في الروض الزاهر ص 474: ثلاثة عشر يوما.
وحول ظروف مرضه وأسبابه كثرت الروايات منها تفيد بأنه مات بسبب دوزنطارية أصابته، وأخرى تشير إلى انه مات مسموما.
انظر (الروض الزاهر ص 473 - تاريخ الملك الظاهر 2 / 215 مختصر أبي الفداء 4 / 10 ابن العبري ص 503 شافع بن علي في حسن المناقب ص 163).
(2) في البداية المطبوعة: بعراض وهو تحريف.
(3) في الاصل: حصن عكا.
وهو تصحيف، وما أثبتناه من تاريخ الملك الظاهر 2 / 8، وفي المقريزي السلوك 1 / 2 / 602: حصن عكار، هذا الحصن يقع على مسافة يوم من مدينة طرابلس نحو الشرق، قبل سمي باسم بانيه محرز بن عكار استولى عليه الافرنج وبقي بيدهم حتى سقط بيد الظاهر بيبرس سنة 669 ه.
(الروض الزاهر ص 379 - أبو الفداء - المختصر 4 / 10).

مما ناصفهم عليه النواب والعمال وفتح قيسارية من بلاد الروم، وأوقع بالروم والمغول على البلستين
بأسا لم يسمع بمثله من دهور متطاولة، واستعاد من صاحب سيس بلادا كثيرة، وجاس خلال ديارهم وحصونهم، واسترد من أيدي المتغلبين من المسلمين بعلبك وبصرى وصرخد وحمص وعجلون والصلت وتدمر والرحبة وتل باشر وغيرها، والكرك والشوبك، وفتح بلاد النوبة بكمالها من بلاد السودان، وانتزع بلادا من التتار كثيرة، منها شيرزور والبيرة، واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة، وعمر شيئا كثيرا من الحصون والمعاقل والجسور على الانهار الكبار، وبنى دار الذهب بقلعة الجبل، وبنى قبة على اثني عشر عمودا ملونة مذهبة، وصور فيها صور خاصكيته وأشكالهم، وحفر أنهارا كثيرة وخلجانات ببلاد مصر، منها نهر السرداس، وبنى جوامع كثيرة ومساجد عديدة، وجدد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احترق، ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة، وعمل فيه منبرا وسقفه بالذهب، وجدد المارستان بالمدينة، وجدد قبر الخليل عليه السلام، وزاد في زاويته وما يصرف إلى المقيمين، وبنى على المكان المنسوب إلى قبر موسى عليه السلام قبة قبلي أريحا، وجدد بالقدس أشياء حسنة من ذلك قبة السلسلة، ورمم سقف الصخرة وغيرها، وبنى بالقدس خانا هائلا بماملا، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين من مصر، وعمل فيه طاحونا وفرنا وبستانا، وجعل للواردين إليه أشياء تصرف إليهم في نفقة وإصلاح أمتعتهم رحمه الله.
وبنى على قبر أبي عبيدة بالقرب من عمتنا مشهدا، ووقف عليه أشياء للواردين إليه، وعمر جسر دامية، وجدد قبر جعفر الطيار بناحية الكرك، ووقف على الزائرين له شيئا كثيرا، وجدد قلعة صفت وجامعها، وجدد جامع الرملة وغيرها في كثير من البلاد التي كانت الفرنج قد أخذتها وخربت جوامعها ومساجدها، وبنى بحلب دارا هائلة، وبدمشق القصر الابلق والمدرسة الظاهرية وغيرها، وضرب الدراهم والدنانير الجيدة الخالصة على النصح والمعاملة الجيدة الجارية بين الناس، فرحمه الله.
وله من الاثار الحسنة والاماكن ما لم يبن في زمن الخلفاء وملوك بني أيوب، مع اشتغاله في الجهاد في سبيل الله واستخدم من الجيوش شيئا كثيرا، ورد إليه نحوا من ثلاثة آلاف من المغول فأقطعهم وأمر كثيرا منهم، وكان مقتصدا في ملبسه ومطعمه وكذلك جيشه، وهو الذي أنشأ
الدولة العباسية بعد دثورها، وبقي الناس بلا خليفة نحوا من ثلاث سنين، وهو الذي أقام من كل مذهب قاضيا مستقلا قاضي قضاة.
وكان رحمه الله متيقظا شهما شجاعا لا يفتر عن الاعداء ليلا ولا نهارا، بل هو مناجز لاعداء الاسلام وأهله، ولم شعثه واجتماع شمله.
وبالجملة أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عونا ونصرا للاسلام وأهله، وشجا في حلوق المارقين من الفرنج والتتار، والمشركين.
وأبطل الخمور ونفى الفساق من البلاد، وكان لا يرى شيئا من الفساد والمفاسد إلى سعى في إزالته بجهده وطاقته.
وقد ذكرنا في سيرته ما أرشد إلى حسن طويته وسريرته، وقد جمع له كاتبه ابن عبد الظاهر سيرة مطولة، وكذلك ابن شداد أيضا.
وقد ترك من

الاولاد عشرة: ثلاثة ذكور (1) وسبع (2) إناث ومات وعمره ما بين الخمسين إلى الستين، وله أوقاف وصلات وصدقات، تقبل الله منه الحسنات، وتجاوز له عن السيئات والله سبحانه أعلم.
وقام في الملك بعده ولده السعيد بمبايعة أبيه له في حال حياته، وكان عمر السعيد يومئذ دون العشرين (3) سنة، وهو من أحسن الاشكال وأتم الرجال، وفي صفر وصلت الهدايا من الفنس مع رسله إلى الديار المصرية فوجدا السلطان قد مات، وقد أقيم الملك السعيد ولده مكانه والدولة لم تتغير، والمعرفة بعده ما تنكرت، ولكن البلاد قد فقدت أسدها بل أسدها وأشدها، بل الذي بلغ أشدها، وإذا انفتحت ثغرة من سور الاسلام سدها، وكلما انحلت عقدة من عرى العزائم شدها، وكلما رامت فرقة مارقة من طوائف الطغام أن تلج إلى حومة الاسلام صدها وردها، فسامحه الله، وبل بالرحمة ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه.
وكانت العساكر الشامية قد سارت إلى الديار المصرية ومعهم محفة يظهرون أن السلطان بها مريض، حتى وصلوا إلى القاهرة فجددوا البيعة للسعيد بعدما أظهروا موت الملك السديد الذي هو إن شاء الله شهيد.
وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد، وصلى على والده الملك الظاهر واستهلت عيناه بالدموع.
وفي منتصف ربيع الاول ركب الملك السعيد بالعصائب على عادته وبين يديه الجيش بكماله المصري والشامي، حتى
وصل إلى الجبل الاحمر وفرح الناس به فرحا شديدا، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة، وعليه أبهة الملك ورياسة السلطنة.
وفي يوم الاثنين رابع جمادى الاولى فتحت مدرسة الامير شمس الدين آقسنقر الفارقاني بالقاهرة، بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة.
وعمل فيها مشيخة حديث وقارئ.
وبعده بيوم عقد عقد ابن الخليفة المستمسك بالله بن الحاكم بأمر الله، على ابنة الخليفة المستنصر بن الظاهر، وحضر والده والسلطان ووجوه الناس.
وفي يوم السبت تاسع جمادى الاولى شرع في بناء الدار التي تعرف بدار العقيقي، تجاه العادلية، لتجعل مدرسة وتربة للملك الظاهر، ولم تكن قبل ذلك إلا دارا للعقيقي، وهي المجاورة لحمام العقيقي، وأسس أساس التربة في خامس جمادى الآخرة وأسست المدرسة أيضا.
وفي رمضان طلعت سحابة عظيمة بمدينة صفت لمع منها برق شديد، وسطع منها لسان نار، وسمع منها صوت شديد هائل، ووقع منها على منارة صفت صاعقة شقتها من أعلاها إلى أسفلها شقا يدخل الكف فيه.
__________
(1) ذكر ابن شداد في تاريخه 2 / 226: الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة - ونجم الدين خضر، والعادل بدر الدين سلامش، وولدين ماتا طفلين في شهر واحد سنة 668 - ولكل واحد سنتان.
(2) في الاصل: سبعة.
(3) كان مولده في صفر سنة 658 ه، أمه بنت حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمي.

وممن توفي فيها من الاعيان البرواناه في العشر الاول من المحرم.
والملك الظاهر في العشر الاخير منه، وقد تقدم شئ من ترجمتهما.
الامير الكبير بدر الدين بيلبك (1) بن عبد الله الخزندار نائب الديار المصرية للملك الظاهر، كان جوادا ممدحا له إلمام ومعرفة بأيام الناس، والتواريخ، وقد وقف درسا بالجامع الازهر على الشافعية، ويقال إنه سم فمات، فلما مات انتقض بعده حبل الملك السعيد، واضطربت أموره.
قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي محمد بن الشيخ العماد أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، أول من ولي قضاء قضاة الحنابلة بالديار المصرية، سمع الحديث خصوصا على ابن طبرزد وغيره، ورحل إلى بغداد واشتغل بالفقه، وتفنن في علوم كثيرة، وولي مشيخة سعيد السعداء، وكان شيخا مهيبا حسن الشيبة كثير التواضع والبر والصدقة، وقد اشترط في قبول الولاية أن لا يكون له عليها جامكية ليقوم في الناس بالحق في حكمه، وقد عزله الظاهر عن القضاء سنة سبعين واعتقله بسبب الودائع التي كانت عنده، ثم أطلقه بعد سنتين فلزم منزله واستقر بتدريس الصالحية إلى أن توفي في أواخر المحرم، ودفن عند عم الحافظ عبد الغني بسفح جبل المقطم، وقد أجاز للبرزالي.
قال الحافظ البرزالي: وفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الاول ورد الخبر بموت ستة أمراء من الديار المصرية: سنقر البغدادي، وبسطا البلدي التتري، وبدر الدين الوزيري، وسنقر الرومي، وآق سنقر الفارقاني رحمهم الله.
الشيخ خضر الكردي شيخ الملك الظاهر خضر بن أبي بكر بن موسى الكردي النهرواني العدوي، ويقال إن أصله من قرية المحمدية من جزيرة ابن عمر، كان ينسب إليه أحوال ومكاشفات، ولكنه لما خالط الناس افتتن ببعض بنات الامراء، وكان يقول عن الملك الظاهر وهو أمير إنه سيلي الملك، فلهذا كان الملك الظاهر يعتقده ويبالغ في إكرامه بعد أن ولي المملكة، ويعظمه تعظيما زائدا، وينزل عنده إلى زاويته في الاسبوع مرة أو مرتين، ويستصحبه معه في كثير من أسفاره، ويلزمه ويحترمه ويستشيره فيشير عليه
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 4 / 11: تتليك.

برأيه ومكاشفات صحيحة مطابقة، إما رحمانية أو شيطانية، أو حال أو سعادة، لكنه افتتن لما خالط الناس ببعض بنات الامراء، وكن لا يحتجبن منه، فوقع في الفتنة.
وهذا في الغالب واقع
في مخالطة الناس فلا يسلم المخالط لهم من الفتنة، ولا سيما مخالطة النساء مع ترك الاصحاب، فلا يسلم العبد البتة منهن.
فلما وقع ما وقع فيه حوقق عند السلطان وتيسرى وقلاوون والفارس إقطاي الاتابك، فاعترف، فهم بقتله فقال له: إنما بيني وبينك أيام قلائل، فأمر بسجنه فسجن سنين عديدة من سنة إحدى وسبعين إلى سنة ست وسبعين، وقد هدم بالقدس كنيسة وذبح قسيسها وعملها زاوية وقد قدمنا ترجمته قبل ذلك فيما تقدم، ثم لم يزل مسجونا حتى مات في يوم الخميس سادس المحرم من هذه السنة، فأخرج من القلعة وسلم إلى قرابته فدفن في تربة أنشأها في زاويته.
مات وهو في عشر الستين، وقد كان يكاشف السلطان في أشياء، وإليه تنسب قبة الشيخ خضر التي على الجبل غربي الربوة، وله زاوية بالقدس الشريف (1).
الشيخ محيي الدين النووي يحيى بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحازمي العالم، محيي الدين أبو زكريا النووي ثم الدمشقي الشافعي العلامة شيخ المذهب، وكبير الفقهاء في زمانه، ولد بنوى سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ونوى قرية من قرى حوران، وقد قدم دمشق سنة تسع وأربعين، وقد حفظ القرآن فشرع في قراءة التنبيه، فيقال إنه قرأه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع العبادات من المذهب في بقية السنة، ثم لزم المشايخ تصحيحا وشرحا، فكان يقرأ في كل يوم اثنا عشر درسا على المشايخ، ثم اعتنى بالتصنيف فجمع شيئا كثيرا، منها ما أكمله ومنها ما لم يكمله، فمما كمل شرح مسلم والروضة والمنهاج والرياض والاذكار والتبيان، وتحرير التنبيه وتصحيحه، وتهذيب الاسماء واللغات، وطبقات الفقهاء وغير ذلك.
ومما لم يتممه ولو كمل لم يكن له نظير في بابه: شرح المهذب الذي سماه المجموع، وصل فيه إلى كتاب الربا، فأبدع فيه وأجاد وأفاد، وأحسن الانتقاد، وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره، وحرر الحديث على ما ينبغي، والغريب واللغة وأشياء مهمة لا توجد إلا فيه، وقد جعله نخبة على ما عن له ولا أعرف في كتب الفقه أحسن منه، على أنه محتاج إلى أشياء كثيرة تزاد فيه وتضاف إليه، وقد كان من الزهادة والعبادة والورع والتحري والانجماح عن الناس على جانب كبير، لا يقدر عليه أحد من الفقهاء غيره، وكان يصوم الدهر
ولا يجمع بين إدامين، وكان غالب قوته مما يحمله إليه أبوه من نوى، وقد باشر تدريس الاقبالية نيابة عن ابن خلكان، وكذلك ناب في الفلكية والركنية، وولي مشيخة دار الحديث الاشرفية، وكان لا يضيع شيئا من أوقاته، وحج في مدة إقامته بدمشق، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
__________
(1) تقدمت ترجمته، وقد ذكر المؤلف وفاته في سنة 671 ه.
انظر حاشية رقم 3 صفحة 309.

للملوك وغيرهم.
توفي في ليلة أربع وعشرين من رجب من هذه السنة بنوى، ودفن هناك رحمه الله وعفا عنا وعنه.
علي بن علي بن أسفنديار نجم الدين الواعظ بجامع دمشق أيام السبوت في الاشهر الثلاثة، وكان شيخ الخانقاه المجاهدية وبها توفي في هذه السنة، وكان فاضلا بارعا، وكان جده يكتب الانشاء للخليفة الناصر، وأصلهم من بوشنج.
ومن شعر نجم الدين هذا قوله: إذا زار بالجثمان غيري فإنني * أزور مع الساعات ربعك بالقلب وما كل ناء عن ديار بنازح * ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب ثم دخلت سنة سبع وسبعين وستمائة كان أولها يوم الاربعاء وكان الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد شاما ومصرا وحلبا الملك السعيد.
وفي أوائل المحرم اشتهر بدمشق ولاية ابن خلكان قضاء دمشق عودا على بدء في أواخر ذي الحجة، بعد عزل سبع سنين، فامتنع القاضي عز الدين بن الصائغ من الحكم في سادس المحرم وخرج الناس لتلقي ابن خلكان، فمنهم من وصل إلى الرملة وكان دخوله في يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم، فخرج نائب السلطنة عز الدين أيدمر بجميع الامراء والمواكب لتلقيه، وفرح الناس بذلك، ومدحه الشعراء، وأنشد الفقيه شمس الدين محمد بن جعفر: لما تولى قضاء الشام حاكمه * قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم
من بعد سبع شداد قال خادمه * ذا العام فيه يغاث الناس بالنعم وقال سعد الله بن مروان الفارقي: أذقت الشام سبع سنين جدبا * غداة هجرته هجرا جميلا فلما زرته من أرض مصر * مددت عليه من كفيك نيلا وقال آخر: رأيت أهل الشام طرا * ما فيهم قط غير راض نالهم الخير بعد شر * فالوقت بسط بلا انقباض وعوضوا فرحة بحزن * قد أنصف الدهر في التقاضي

وسرهم بعد طول غم * بدور قاضي وعزل قاضي وكلهم شاكر وشاك * بحال مستقبل وماض قال اليونيني: وفي يوم الاربعاء ثالث عشر صفر ذكر الدرس بالظاهرية وحضر نائب السلطنة أيدمر الظاهري وكان درسا حافلا حضره القضاة، وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين محمود بن الفارقي، ومدرس الحنفية الشيخ صدر الدين سليمان الحنفي، ولم يكن بناء المدرسة كمل.
وفي جمادى الاولى باشر قضاء الحنفية صدر الدين سليمان المذكور عوضا عن مجد الدين بن العديم، بحكم وفاته، ثم توفي صدر الدين سليمان المذكور في رمضان وتولى بعده القضاء حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي، الذي كان قاضيا بملطية قبل ذلك.
وفي العشر الاول من ذي القعدة فتحت المدرسة النجيبية وحضر تدريسها ابن خلكان بنفسه، ثم نزل عنها لولده كمال الدين موسى، وفتحت الخانقاه النجيبية، وقد كانتا وأوقافهما تحت الحيطة إلى الآن.
وفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة دخل السلطان السعيد إلى دمشق وقد زينت له وعملت له قباب ظاهرة وخرج أهل البلد لتلقيه وفرحوا به فرحا عظيما لمحبتهم والده، وصلى عيد النحر
بالميدان، وعمل العيد بالقلعة المنصورة، واستوزر بدمشق الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسراني، وبالديار المصرية بعد موت بهاء الدين بن الحنا الصاحب برهان الدين بن الحضر بن الحسن السنجاري، وفي العشر الاخير من ذي الحجة جهز السلطان العساكر إلى بلاد سيس صحبة الامير سيف الدين قلاوون الصالحي، وأقام السلطان بدمشق في طائفة يسيرة من الامراء والخاصكية (1) والخواص، وجعل يكثر التردد إلى الزنبقية وفي يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة جلس السلطان بدار العدل داخل باب النصر، وأسقط ما كان حدده والده على بساتين أهل دمشق، فتضاعفت له منهم الادعية وأحبوه لذلك حبا شديدا، فإنه كان قد أجحف بكثير من أصحاب الاملاك، وود كثير منهم لو تخلص من ملكه جملة بسبب ما عليه.
وفيها طلب من أهل دمشق خمسين ألف دينار ضربت أجرة على أملاكهم مدة شهرين، وجبي منهم على القهر والعسف.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) الخاصكية: هم مماليك مقربون من السلطان يدخلون عليه في أوقات خلواته وفراغه بغير إذن، وينالون من ذلك ما لا يناله أكابر المقدمين، ويواكبون السلطان عند ركوبه، ويتأنقون في ركوبهم وملبوسهم بما يميزهم عن غيرهم، ولهم الرزق الواسع والعطايا الجزيلة.

آقوش بن عبد الله الامير الكبير جمال الدين النجيبي أبو سعيد الصالحي، أعتقه الملك نجم الدين أيوب الكامل، وجعله من أكابر الامراء، وولاه أستاذ داريته، وكان يثق إليه ويعتمد عليه، وكان مولده في سنة تسع أو عشر وستمائة، وولاه الملك الظاهر أيضا أستاذ داريته، ثم استنابه بالشام تسع سنين، فاتخذ فيها المدرسة النجيبية ووقف عليها أوقافا دارة واسعة، لكن لم يقرر للمستحقين قدرا يناسب ما وقفه عليهم، ثم عزله السلطان واستدعاه لمصر فأقام بها مدة بطالا، ثم مرض بالفالج أربع سنين، وقد عاده في بعضها الملك الظاهر ولم يزل به حتى كانت وفاته ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر بالقاهرة بداره بدرب
الملوخية، ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى، وقد كان بنى لنفسه تربة بالنجيبية، وفتح لها شباكين إلى الطريق، فلم يقدر دفنه بها.
وكان كثير الصدقة محبا للعلماء محسنا إليهم، حسن الاعتقاد.
شافعي المذهب، متغاليا في السنة ومحبة الصحابة وبغض الروافض، ومن جملة أوقافه الحسان البستان والاراضي التي أوقفها على الجسورة التي قبلي جامع كريم الدين اليوم، وعلى ذلك أوقاف كثيرة، وجعل النظر في أوقافه لابن خلكان.
أيدكين بن عبد الله (1) الامير الكبير علاء الدين الشهابي، واقف الخانقاه الشهابية، داخل باب الفرج.
كان من كبار الامراء بدمشق، وقد ولاه الظاهر بحلب مدة، وكان من خيار الامراء وشجعانهم، وله حسن ظن بالفقراء والاحسان إليهم، ودفن بتربة الشيخ عمار الرومي بسفح قاسيون، في خامس عشر ربيع الاول، وهو في عشر الخمسين، وخانقاه داخل باب الفرج، وكان لها شباك إلى الطريق.
والشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الكبير الصالحي.
قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز ابن وهيب أبو الربيع الحنفي شيخ الحنفية في زمانه، وعالمهم شرقا وغربا، أقام بدمشق مدة يفتي ويدرس، ثم انتقل إلى الديار المصرية يدرس بالصالحية، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالظاهرية، وولي القضاء بعد مجد الدين بن العديم ثلاثة أشهر، ثم كانت وفاته ليلة الجمعة سادس شعبان، ودفن في الغد بعد الصلاة بداره بسفح قاسيون، وله ثلاث وثمانون سنة، ومن لطيف شعره في مملوك تزوج جارية للملك المعظم: يا صاحبي قفا لي وانظرا عجبا * أتى به الدهر فينا من عجائبه
__________
(1) وهو غير أيدكين بن عبد الله البند قداري استاذ الملك الظاهر، والبند قداري توفي بالقاهرة سنة 684 ه.

البدر أصبح فوق الشمس منزلة * وما العلو عليها من مراتبه أضحى يماثلها حسنا وشاركها * كفوا وسار إليها في مواكبه
فأشكل الفرق لولا وشى نمنمة * بصدغه واخضرار فوق شاربه طه بن إبراهيم بن أبي بكر كمال الدين الهمداني الاربلي الشافعي، كان أديبا فاضلا شاعرا، له قدرة في تصنيف روبيت، وقد أقام بالقاهرة حتى توفي في جمادى الاولى من هذه السنة، وقد اجتمع مرة بالملك الصالح أيوب، فجعل يتكلم في علم النجوم فأنشده على البديهة هذين البيتين: دع النجوم لطرقي يعيش بها * وبالعزيمة فانهض أيها الملك إن النبي وأصحاب النبي نهوا * عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا وكتب إلى صاحب له اسمه شمس الدين يستزيره بعد رمد أصابه فبرأ منه: يقول لي الكحال عينك قد هدت * فلا تشغلن قلبا وطب بها نفسا ولي مدة يا شمس لم أركم بها * وآية برء العين أن تبصر الشمسا عبد الرحمن بن عبد الله ابن محمد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عفان جمال الدين بن الشيخ نجم الدين البادرائي البغدادي ثم الدمشقي، درس بمدرسة أبيه من بعده حتى حين وفاته يوم الاربعاء سادس رجب، ودفن بسفح قاسيون، وكان رئيسا حسن الاخلاق جاوز خمسين سنة.
قاضي القضاة مجد الدين عبد الرحمن بن جمال الدين عمر بن أحمد بن العديم، الحلبي، ثم الدمشقي الحنفي، ولي قضاء الحنفية بعد ابن عطاء بدمشق، وكان رئيسا ابن رئيس، له إحسان وكرم أخلاق، وقد ولي الخطابة بجامع القاهرة الكبير، وهو أول حنفي وليه، توفي بجوسقه بدمشق في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بالتربة التي أنشأها عند زاوية الحريري على الشرف القبلي غربي الزيتون.
الوزير ابن الحنا علي بن محمد بن سليم بن عبد الله الصاحب بهاء الدين أبو الحسن بن الحنا الوزير المصري، وزير الملك الظاهر وولده السعيد إلى أن توفي في سلخ ذي القعدة، وهو جد جد، وكان

ذا رأي وعزم وتدبير ذا تمكن في الدولة الظاهرية، لا تمضي الامور إلا عن رأيه وأمره، وله مكارم على الامراء وغيرهم، وقد امتدحه الشعراء، وكان ابنه تاج الدين وزير الصحبة، وقد صودر في الدولة السعيدية.
الشيخ محمد ابن الظهير اللغوي محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر مجد الدين أبو عبد الله الاربلي الحنفي المعروف بابن الظهير، ولد بإربل سنة ثنتين وستمائة، ثم أقام بدمشق ودرس بالقايمازية وأقام بها حتى توفي بها ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن بمقابر الصوفية، وكان بارعا في النحو واللغة، وكانت له يد طولى في النظم وله ديوان مشهور، وشعر رائق، فمن شعره قوله: كل حي إلى الممات مآبه * ومدى عمره سريع ذهابه يخرب الدار وهي دار بقاء * ثم يبنى ما عما قريب خرابه عجبا وهو في التراب غريق * كيف يلهيه طيبه وعلابه ؟ كل يوم يزيد نقصا وإن عم * ر حلت أوصاله أوصابه (1) والورى في مراحل الدهر ركب * دائم السير لا يرجى إيابه فتزود إن التقى خير زاد * ونصيب اللبيب منه لبابه وأخو العقل من يقضي بصدق * شيبته في صلاحه وشبابه وأخو الجهل يستلذ هوى النف * س فيغدو شهدا لديه مصابه وهي طويلة جدا قريبة من مائة وخمسين بيتا، وقد أورد الشيخ قطب الدين شيئا كثيرا من شعره الحسن الفائق الرائق.
ابن إسرائيل الحريري محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين نجم الدين أبو المعالي الشيباني الدمشقي، ولد في يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الاول سنة ثلاث
وستمائة، وصحب الشيخ علي بن أبي الحسن بن منصور اليسري الحريري، في سنة ثمان عشرة، وكان قد لبس الخرقة قبله من الشيخ شهاب الدين السهروردي، وزعم أنه أجلسه في ثلاث خلوات، وكان ابن إسرائيل يزعم أن أهله قدموا الشام مع خالد بن الوليد فاستوطنوا دمشق، وكان أديبا فاضلا في صناعة الشعر، بارعا في النظم، ولكن في كلامه ونظمه ما يشير به إلى نوع
__________
(1) أوصاب: مفردها وصب أي مرض.

الحلول والاتحاد على طريقة ابن عربي وابن الفارض وشيخه الحريري، والله أعلم بحاله وحقيقة أمره.
توفي بدمشق ليلة الاحد الرابع عشر من ربيع الآخر هذه السنة، عن أربع وسبعين سنة، ودفن بتربة الشيخ رسلان معه داخل القبة، وكان الشيخ رسلان شيخ الشيخ علي المغربل الذي تخرج على يديه الشيخ علي الحريري شيخ ابن إسرائيل، فمن شعره قوله: لقد عادني من لاعج الشوق عائد * فهل عهد ذات الخال بالسفح عائد ؟ وهل نارها بالاجرع الفرد تعتلي * لمنفرد شاب الدجى وهو شاهد ؟ نديمي من سعدى أديرا حديثها * فذكرى هواها والمدامة واحد منعمة الاطراف رقت محاسنا * حلى لي في حبها ما أكابد فللبدر ما لاثت عليه خمارها * وللشمس ما جالت عليه القلائد وله: أيها المعتاض بالنوم السهر * ذاهلا يسبح في بحر الفكر سلم الامر إلى مالكه * واصطبر فالصبر عقباه الظفر لا تكونن آيسا من فرج * إنما الايام تأتي بالعبر كدر يحدث في وقت الصفا * وصفي يحدث في وقت الكدر وإذا ما ساء دهر مرة * سر أهليه ومهما ساء سر فارض عن ربك في أقداره * إنما أنت أسير للقدر
وله قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم طويلة حسنة سمعها الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني وأصحابه على الشيخ أحمد إلا عفف عنه، وأورد له الشيخ قطب الدين اليونيني اشعارا كثيرة.
فمنها قصيدته الدالية المطولة التي أولها: وافى لي من أهواه جهرا لموعدي * وأرغم عذالي عليه وحسدي وزار على شط المزار مطولا * على مغرم بالوصل لم يتعود فيا حسن ما أهدى لعيني جماله * ويا برد ما أهدى إلى قلبي الصدي ويا صدق أحلامي ببشرى وصاله * ويا نيل آمالي ويا نجح مقصدي تجلى وجودي إذ تجلى لباطني * بجد سعيد أو بسعد مجدد لقد حق لي عشق الوجود وأهله * وقد علقت كفاي جمعا بموجدي ثم تغزل فأطال إلى أن قال: فلما تجلى لي على كل شاهد * وسامرني بالرمز في كل مشهد تجنبت تقييد الجمال ترفعا * وطالعت أسرار الجمال المبدد وصار سماعي مطلقا منه بدؤه * وحاشى لمثلي من سماع مقيد

ففي كل مشهود لقلبي شاهد * وفي كل مسموع له لحن معبد ثم قال: وصل في مشاهد الجمال أراه بأوصاف الجمال جميعها * بغير اعتقاد للحلول المبعد ففي كل هيفاء المعاطف غادة * وفي كل مصقول السوالف أغيد وفي كل بدر لاح في ليل شعره * على كل غصن مائس العطف أملد وعند اعتناقي كل قد مهفهف * ورشفي رضابا كالرحيق المبرد وفي الدر والياقوت والطيب والحلا * على كل ساجي الطرف لدن المقلد
وفي حلل الاثواب راقت لناظري * بزبرجها من مذهب ومورد وفي الراح والريحان والسمع والغنا * وفي سجع ترجيع الحمام المغرد وفي الدوح والانهار والزهر والندى * وفي كل بستان وقصر مشيد وفي الروضة الفيحاء تحت سمائها * يضاحك نور الشمس نوارها الندي وفي صفو رقراق الغدير إذا حكى * وقد جعدته الريح صفحة مبرد وفي اللهو والافراح والغفلة التي * تمكن أهل الفرق من كل مقصد وعند انتشار الشرب في كل مجلس * بهيج بأنواع الثمار المنضد وعند اجتماع الناس في كل حمعة * وعيد وإظهار الرياش المجدد وفي لمعان المشرفيات بالوغى * وفي ميل أعطاف القنا المتأود المظاهر العلوية وفي الاعوجيات العتاق إذا انبرت * تسابق وفد الريح في كل مطرد وفي الشمس تحكي وهي في برج نورها * لدى الافق الشرقي مرآة عسجد وفي البدر بدر الافق ليلة تمه * جلته سماء مثل صرح ممرد وفي أنجم زانت دجاها كأنها * نثار لآل في بساط زبرجد وفي الغيث روى الارض بعد همودها * قبال نداه متهم بعد منجد وفي البرق يبدو موهنا في سحابه * كباسم ثغر أو حسام مجرد وفي حسن الخطاب وسرعة الج * واب وفي الخط الانيق المجود ثم قال: المظاهر المعنوية وفي رقة الاشعار راقت لسامع * بدائعها من مقصر ومقصد وفي عود عيد الوصل من بعد جفوة * وفي أمن أحشاء الطريد المشرد

وفي رحمة المعشوق شكوى محبه * وفي رقة الالفاظ عند التودد وفي أريحيات الكريم إلى الندى * وفي عاطفات العفو من كل سيد وحالة بسط العارفين وأنسهم * وتحريكهم عند السماع المقيد وفي لطف آيات الكتاب التي بها * تنسم روح الوعد بعد التوعد ثم قال: المظاهر الجلالية كذلك أوصاف الجلال مظاهر * أشاهده فيها بغير تردد ففي سطوة القاضي الجليل وسمته * وفي سطوة الملك الشديد الممرد وفي حدة الغضبان حالة طيشه * وفي نخوة القرم المهيب المسود وفي صولة الصهباء جاز مديرها * وفي بؤس أخلاق النديم المعربد وفي الحر والبرد اللذين تقسما الز * زمان وفي إيلام كل محسد وفي سر تسليط النفوس بشرها * علي وتحسين التعدي لمعتدي وفي عسر العادات يشعر بالقضا * وتكحيل عين الشمس منه بأثمد وعند اصطدام الخيل في كل موقف * يعثر فيه بالوشيج المنضد وفي شدة الليث الصؤول وبأسه * وشدة عيش بالسقام منكد وفي جفوة المحبوب بعد وصاله * وفي غدره من بعد وعد مؤكد وفي روعة البين المسئ وموقف ال * وداع لحران الجوانح مكمد وفي فرقة الالاف بعد اجتماعهم * وفي كل تشتيت وشمل مبدد وفي كل دار أقفرت بعد أنسها * وفي طلل بال ودارس معمد وفي هول أمواج البحار ووحشة ال * قفار وسيل بالمزاييب مزبد وعند قيامي بالفرائض كلها * وحالة تسليم لسر التعبد وعند خشوعي في الصلاة لعزة ال * مناجي وفي الاطراق عند التهجد
وحالة إهلال الحجيج بحجهم * وأعمالهم للعيش في كل فدفد وفي عسر تخليص الحلال وفترة ال * ملال لقلب الناسك المتعبد المظاهر الكمالية وفي ذكريات العذاب وظلمة ال * حجاب وقبض الناسك المتزهد ويبدو بأوصاف الكمال فلا أرى * برؤيته شيئا قبيحا ولا ردي فكل مسئ لي إلي كمحسن * وكل مضل لي إلي كمرشد فلا فرق عندي بين أنس ووحشة * ونور وإظلام ومدن ومبعد

وسيان إفطاري وصومي وفترتي * وجهدي ونومي وادعاء تهجدي أرى تارة في حانة الخمر خالعا * عذاري وطورا في حنية مسجد تجلى لسري بالحقيقة مشرب * فوقتي ممزوج بكشف مسرمد تعمرت الاوطان بي وتحققت * مظاهرها عندي بعيني ومشهدي وقلبي على الاشياء أجمع قلب * وشربي مقسوم على كل مورد فهيكل أوثان ودير لراهب * وبيت لنيران وقبله معبدي ومسرح غرلان وحانة قهوة * وروضة أزهار ومطلع أسعد وأسرار عرفان ومفتاح حكمة * وأنفاس وجدان وفيض تبلد وجيش لضرغام وخدر لكاعب * وظلمة جيران ونور لمهتدي تقابلت الاضداد عندي جميعها * لمحنة مجهود ومنحة مجتدي وأحكمت تقرير المراتب صورة * ومعنى ومن عين التفرد موردي فما موطن إلا ولي فيه موقف * على قدم قامت بحق التفرد فلا غرو إن فت الانام جميعهم * وقد علقت بحبل من حبال محمد عليه صلاة الله تشفع دائما * بروح تحيات السلام المردد
ابن العود الرافضي أبو القاسم الحسين بن العود نجيب الدين الاسدي الحلي، شيخ الشيعة وإمامهم وعالمهم في أنفسهم، كانت له فضيلة ومشاركة في علوم كثيرة، وكان حسن المحضارة والمعاشرة، لطيف النادرة، وكان كثير التعبد بالليل، وله شعر جيد.
ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وتوفي في رمضان من هذه السنة عن ست وتسعين سنة، والله أعلم بأحوال عباده وسرائرهم ونياتهم.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وستمائة كان أولها يوم الاحد والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها، وقد اتفق في هذه السنة أمور عجيبة، وذلك أنه وقع الخلف بين الممالك كلها، اختلفت التتار فيما بينهم واقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واختلفت الفرنج في السواحل وصال بعضهم على بعض وقتل بعضهم بعضا، وكذلك الفرنج الذين في داخل البحور وجزائرها، فاختلفوا واقتتلوا، وقتلت قبائل الاعراب بعضها في بعض قتالا شديدا، وكذلك وقع الخلف بين العشير من الحوارنة وقامت الحرب بينهم على ساق، وكذلك وقع الخلف بين الامراء الظاهرية بسبب أن السلطان الملك السعيد بن الظاهر لما بعث الجيش إلى سيس أقام بعده بدمشق وأخذ في اللهو واللعب والانبساط مع الخاصكية، وتمكنوا من

الامور، وبعد عنه الامراء الكبار، فغضبت طائفة منهم ونابذوه وفارقوه وأقاموا بطريق العساكر الذين توجهوا إلى سيس وغيرهم، فرجعت العساكر إليهم فلما اجتمعوا شعثوا قلوبهم على الملك السعيد، ووحشوا خواطر الجيش عليه، وقالوا: الملك لا ينبغي له أن يلعب ويلهو، وإنما همة الملوك في العدل ومصالح المسلمين والذب عن حوزتهم، كما كان أبوه.
وصدقوا فيما قالوا، فإن لعب الملوك والامراء وغيرهم دليل على زوال النعم وخراب الملك، وفساد الرعية.
ثم راسله الجيش في إبعاد الخاصكية عنه ودنو ذوي الاحلام والنهي إليه كما كان أبوه، فلم يفعل، وذلك أنه كان لا يمكنه ذلك لقوة شوكة الخاصكية وكثرتهم، فركب الجيش وساروا قاصدين مرج الصفر، ولم يمكنهم العبور على دمشق بل أخذوا من شرقها، فلما اجتمعوا كلهم بمرج الصفر أرسل السلطان
أمه إليهم فتلقوها وقبلوا الارض بين يديها، فأخذت تتألفهم وتصلح الامور، فأجابوها واشترطوا شروطا على ولدها السلطان، فلما رجعت إليه لم يلتزم بها ولم تمكنه الخاصكية من ذلك، فسارت العساكر إلى الديار المصرية، فساق السلطان خلفهم ليتلافى الامور قبل تفاقمها وانفراطها، فلم يلحقهم وسبقوه إلى القاهرة، وقد كان أرسل أولاده وأهله وثقله إلى الكرك فحصنهم فيها، وركب في طائفة من الجيش الذين بقوا معه والخاصكية إلى الديار المصرية، فلما اقترب منها صدوه عنها وقاتلوه فقتل من الفريقين نفر يسير، فأخذه بعض الامراء فشق به الصفوف وأدخله قلعة الجبل ليسكن الامر، فما زادهم ذلك إلا نفورا، فحاصروا حينئذ القلعة وقطعوا عنها الماء، وجرت خطوب طويلة وأحوال صعبة.
ثم اتفق الحال بعد ذلك مع الامير سيف الدين قلاوون الالفي الصالحي - وهو المشار إليه حينئذ - أن يترك الملك السعيد الملك ويتعوض بالكرك والشوبك، ويكون في صحبته أخوه نجم الدين خضر، وتكون المملكة إلى أخيه الصغير بدر الدين سلامش، ويكون الامير سيف الدين قلاوون أتابكه.
خلع الملك السعيد وتولية أخيه الملك العادل سلامش لما اتفق الحال على ما ذكرنا نزل السلطان الملك السعيد من القلعة إلى دار العدل في سابع عشر الشهر (1)، وهو ربيع الآخر، وحضر القضاة والدولة من أولي الحل والعقد، فخلع السعيد نفسه من السلطنة وأشهدهم على نفسه بذلك، وبايعوا أخاه بدر الدين سلامش ولقب بالملك العادل، وعمره يومئذ سبع سنين (2)، وجعلوا أتابكه الامير سيف الدين قلاوون الالفي الصالحي، وخطب له الخطباء ورسمت السكة باسمهما، وجعل لاخيه الكرك ولاخيه خضر
__________
(1) في السلوك 1 / 3 / 663: سابع شهر ربيع الآخرة.
(2) في بدائع الزهور 1 / 1 / 346: سبع سنين ونصف.
وفي ابن خلدون 5 / 394: ثمان سنين.
وفي مختصر أبي الفداء 4 / 12: سبع سنين وشهور.

الشوبك، وكتبت بذلك مكاتيب، ووضع القضاة والمفتيون خطوطهم بذلك، وجاءت البريدية
إلى الشام بالتحليف لهم على ما حلف عليه المصريون.
ومسك الامير أيدمر نائب الشام الظاهري واعتقل بالقلعة عند نائبها، وكان نائبها إذ ذاك علم الدين سنجر الدواداري، وأحيط على أموال نائب الشام وحواصله، وجاء على نيابة الشام الامير شمس الدين سنقر الاشقر في أبهة عظيمة، وتحكم مكين، فنزل بدار السعادة وعظمه الناس وعاملوه معاملة الملوك، وعزل السلطان قضاة مصر الثلاثة الشافعي والحنفي والمالكي، وولوا القضاء صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين بن بنت الاعز عوضا عن الشافعي، وهو تقي الدين بن رزين وكأنهم إنما عزلوه لانه توقف في خلع الملك السعيد والله أعلم.
بيعة الملك المنصور قلاوون الصالحي لما كان يوم الثلاثاء (1) الحادي والعشرين من رجب اجتمع الامراء بقلعة الجبل من مصر وخلعوا الملك العادل سلامش بن الظاهر، وأخرجوه من البين، وإنما كانوا قد بايعوه صورة ليسكن الشر عند خلع الملك السعيد، ثم اتفقوا على بيعة الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولقبوه الملك المنصور، وجاءت البيعة إلى دمشق فوافق الامراء وحلفوا، وذكر أن الامير شمس الدين سنقر الاشقر لم يحلف مع الناس ولم يرض بما وقع، وكأنه داخله حسد من المنصور، لانه كان يرى أنه أعظم منه عند الظاهر.
وخطب للمنصور على المنابر في الديار المصرية والشامية، وضربت السكة باسمه، وجرت الامور بمقتضى رأيه فعزل وولى ونفذت مراسيمه في سائر البلاد بذلك، فعزل عن الوزارة (2) برهان الدين السنجاري وولى مكانه فخر الدين بن لقمان كاتب السر، وصاحب ديوان الانشاء بالديار المصرية.
وفي يوم الخميس الحادي عشر من ذي القعدة من هذه السنة توفي الملك السعيد بن الملك الظاهر بالكرك وسيأتي ذكر ترجمته إن شاء الله تعالى.
وفيها حمل الامير أيدمر الذي كان نائب الشام في محفة لمرض لحقه إلى الديار المصرية، فدخلها في أواخر ذي القعدة، واعتقل بقلعة مصر.
سلطنة سنقر الاشقر بدمشق لما كان يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة ركب الامير شمس الدين سنقر الاشقر
من دار السعادة بعد صلاة العصر وبين يديه جماعة من الامراء والجند مشاة، وقصد باب القلعة
__________
(1) في السلوك 1 / 3 / 663: يوم الاحد العشرين من رجب - انظر النجوم الزاهرة 7 / 292.
وفي بدائع الزهور 1 / 1 / 347: يوم الاحد ثاني وعشرين رجب.
(2) وذلك في ثاني شوال.

الذي يلي المدينة، فهجم منه ودخل القلعة واستدعى الامراء فبايعوه على السلطنة، ولقب بالملك الكامل، وأقام بالقلعة ونادت المنادية بدمشق بذلك، فلما أصبح يوم السبت استدعى بالقضاة والعلماء والاعيان ورؤساء البلد إلى مسجد أبي الدرداء بالقلعة، وحلفهم وحلف له بقية الامراء والعسكر، وأرسل العساكر إلى غزة لحفظ الاطراف وأخذ الغلات، وأرسل الملك المنصور إلى الشوبك (1) فتسلمها نوابه ولم يمانعهم نجم الدين خضر.
وفيها جددت أربع أضلاع في قبة النسر من الناحية الغربية.
وفيها عزل فتح الدين بن القيسراني من الوزارة بدمشق ووليها تقي الدين بن توبة التكريتي.
وممن توفي فيها من الاعيان: عز الدين بن غانم الواعظ عبد السلام بن أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين عز الدين أحمد الانصاري المقدسي، الواعظ المطبق المفلق الشاعر الفصيح، الذي نسج على منوال ابن الجوزي وأمثاله، وقد أورد له قطب الدين أشياء حسنة كثيرة مليحة، وكان له قبول عند الناس، تكلم مرة تجاه الكعبة المعظمة، وكان في الحضرة الشيخ تاج الدين بن الفزاري والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، وابن العجيل من اليمن وغيرهم من العلماء والعباد، فأجاد وأفاد وخطب فأبلغ وأحسن.
نقل هذا المجلس الشيخ تاج الدين بن الفزاري، وأنه كان في سنة خمس وسبعين.
الملك السعيد بن الملك الظاهر بركة خان ناصر الدين محمد بن بركة خان أبو المعالي بن السلطان الملك الظاهر.
ركن
الدين بيبرس البند قداري، بايع له أبوه الامراء في حياته، فلما توفي أبوه بويع له بالملك وله تسع عشرة سنة، ومشيت له الامور في أول الامر على السعادة، ثم إنه غلبت عليه الخاصكية فجعل يلعب معهم في الميدان الاخضر فيما قيل أول هوى، فربما جاءت النوبة عليه فينزل لهم، فأنكرت الامراء الكبار ذلك وأنفوا أن يكون ملكهم يلعب مع الغلمان، ويجعل نفسه كأحدهم، فراسلوه في ذلك ليرجع عما هو عليه فلم يقبل، فخلعوه كما ذكرنا، وولوا السلطان الملك المنصور قلاوون في أواخر رجب كما تقدم.
ثم كانت وفاته في هذه السنة بالكرك في يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة، يقال إنه سم فالله أعلم، وقد دفن أولا عند قبر جعفر وأصحابه الذين قتلوا بموته، ثم
__________
(1) الشوبك: قلعة حصينة في أطراف الشام بين عمان وأيلة القلزم قرب الكرك (ياقوت)، وقد تسلمها الامير بدر الدين بيلك الايدمري في 18 ذي الحجة سنة 678 (السلوك 1 / 670).

نقل إلى دمشق فدفن في تربة أبيه (1) سنة ثمانين وستمائة، وتملك الكرك بعده أخوه نجم الدين خضر وتلقب بالملك المسعود، فانتزعها المنصور من يده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وستمائة كان أولها يوم الخميس ثالث أيار، والخليفة الحاكم بأمر الله وملك مصر الملك المنصور قلاوون الصالحي، وبعض بلاد الشام أيضا، وأما دمشق وأعمالها فقد ملكها سنقر الاشقر، وصاحب الكرك الملك المسعود بن الظاهر، وصاحب حماه الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، والعراق وبلاد الجزيرة وخراسان والموصل وإربل وأذربيجان وبلاد بكر وخلاط وما والاها وغير ذلك من البلاد بأيدي التتار، وكذلك بلاد الروم في أيديهم أيضا، ولكن فيها غياث الدين بن ركن الدين، ولا حكم له سوى الاسم، وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وصاحب الحرم الشريف نجم الدين بن أبي نمي الحسني، وصاحب المدينة عز الدين جماز بن شيحه الحسيني.
ففي مستهل السنة المذكورة ركب السلطان الملك الكامل سنقر الاشقر من القلعة إلى الميدان
وبين يديه الامراء (ومقدمر الحلقة الغاشية، وعليهم الخلع والقضاة والاعيان ركاب معه، فسير في الميدان ساعة ثم رجع إلى القلعة، وجاء إلى خدمته الامير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب، فقبل الارض بين يديه، وجلس إلى جانبه وهو على السماط، وقام له الكامل، وكذلك جاء إلى خدمته ملك الاعراب بالحجاز، وأمر الكامل سنقر أن تضاف البلاد الحلبية إلى ولاية القاضي شمس الدين بن خلكان، وولاه تدريس الامينية وانتزعها من ابن سنى الدولة.
ولما بلغ الملك المنصور بالديار المصرية ما كان من أمر سنقر الاشقر بالشام أرسل إليه جيشا كثيفا فهزموا عسكر سنقر الاشقر الذي كان قد أرسله إلى غزة، وساقوهم بين أيديهم حتى وصل جيش المصريين إلى قريب دمشق، فأمر الملك الكامل أن يضرب دهليزه بالجسورة، وذلك في يوم الاربعاء ثاني عشر صفر، ونهض بنفسه وبمن معه فنزل هنالك واستخدم خلقا كثيرا وأنفق أموالا جزيلة، وانضاف إليه عرب الامير شرف الدين عيسى بن مهنا، وشهاب الدين أحمد بن حجى، وجاءته نجدة حلب ونجدة حماه ورجال كثيرة من رجال بعلبك، فلما كان يوم الاحد السادس عشر من صفر أقبل الجيش المصري صحبة الامير علم الدين سنجر الحلبي، فلما تراءا الجمعان وتقابل الفريقان تقاتلوا إلى الرابعة في النهار، فقتل نفر كثير وثبت الملك الكامل سنقر الاشقر ثباتا جيدا، ولكن خامر عليه الجيش فمنهم من صار إلى المصري ومنهم من انهزم في كل وجه، وتفرق عنه
__________
(1) وهي المدرسة الظاهرية المعروفة بدار العقيقي، وهي الظاهرية الجوانية والتي أنشأها الملك الظاهر بيبرس لتكون مدرسة للحنفية والشافعية ودار للحديث.
كرد علي: خطط الشام 6 / 82 الدارس في تاريخ المدارس 1 / 348.

أصحابه فلم يسعه إلا الانهزام على طريق المرح في طائفة يسيرة، في صحبة عيسى بن مهنا، فسار بهم إلى برية الرحبة فأنزلهم في بيوت من شعر، وأقام بهم وبدوابهم مدة مقامهم عنده، ثم بعث الامراء الذين انهزموا عنه فأخذوا لهم أمانا من الامير سنجر، وقد نزل في ظاهر دمشق وهي مغلوقة، فراسل نائب القلعة ولم يزل به حتى فتح باب الفرج من آخر النهار، وفتحت القلعة من داخل البلد فتسلمها للمنصور وأفرج عن الامير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالحالق،
والامير لاجين حسام الدين المنصوري وغيرهم من الامراء الذين كان قد اعتقلهم الامير سنقر الاشقر وأرسل سنجر البريدية إلى الملك المنصور يعلمونه بصورة الحال، وأرسل سنجر بثلاثة آلاف في طلب سنقر الاشقر.
وفي هذا اليوم جاء ابن خلكان ليسلم على الامير سنجر الحلبي فاعتقله في علو الخانقاه النجيبية، وعزله في يوم الخميس العشرين (1) من صفر، ورسم للقاضي نجم الدين بن سنى الدولة بالقضاء فباشره، ثم جاءت البريدية معهم كتاب من الملك المنصور قلاوون بالعتب على طوائف الناس، والعفو عنه كلهم، فتضاعفت له الادعية، وجاء تقليد النيابة بالشام للامير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، فدخل معه علم الدين سنجر الحلبي فرتبه في دار السعادة، وأمر سنجر القاضي ابن خلكان أن يتحول من المدرسة العادلية الكبيرة ليسكنها نجم الدين بن سنى الدولة، وألح عليه في ذلك، فاستدعى جمالا لينقل أهله وثقله عليها إلى الصالحية فجاء البريد بكتاب من السلطان فيه تقرير ابن خلكان على القضاء والعفو عنه وشكره والثناء عليه (2)، وذكر خدمته المتقدمة، ومعه خلعة سنية له فلبسها وصلى بها الجمعة وسلم على الامراء فأكرموه وعظموه، وفرح الناس به وبما وقع من الصفح عنه.
وأما سنقر الاشقر فإنه لما خرجت العساكر في طلبه فارق الامير عيسى بن مهنا وسار إلى السواحل فاستحوذ منها على حصون كثيرة، منها صهيون (3)، وقد كان بها أولاده وحواصله، وحصن بلاطس (4) وبرزية (5) وعكار (6) وجبلة واللاذقية، والشغر (7) وبكاس وشيزر واستناب فيها
__________
(1) في السلوك 1 / 678: حادي عشرين.
(2) وكان ذلك يوم الاربعاء تاسع عشر ربيع الاول، وكانت مدة ابن سنى الدولة في القضاء عشرين يوما.
(السلوك 1 / 679).
(3) صهيون: قلعة حصينة في طرف جبل من أعمال حمص (معجم البلدان).
(4) من معجم البلدان، وفي الاصل: بلاطس.
وهو حصن منيع بسواحل الشام مقابل اللاذقية من أعمال حلب.
(5) برزيه: وفي هامش السلوك 1 / 687: والصحيح برزويه.
وهو حصن قرب اللاذقية على سن جبل شاهق
(معجم البلدان).
(6) من تقويم البلدان لابي الفداء، وفي الاصل: عكا تحريف وقد تقدم.
(7) الشغر: وفي البداية المطبوعة " الشفر " بالفاء تحريف.
وهي قلعة حصينة في مقابله بكاس على رأس جبلين بينهما قرب أنطاكية (معجم البلدان).

الامير عز الدين ازدمر الحاج.
فأرسل السلطان المنصور لحصار شيزر طائفة من الجيش، فبينما هم كذلك إذ أقبلت التتار لما سمعوا بتفريق كلمة المسلمين، فانجفل الناس من بين أيديهم من سائر البلاد إلى الشام، ومن الشام إلى مصر، فوصلت التتار إلى حلب فقتلوا خلقا كثيرا، ونهبوا جيشا كبيرا، وظنوا أن جيش سنقر الاشقر يكون معهم على المنصور، فوجدوا الامر بخلاف ذلك، وذلك أن المنصور كتب إلى سنقر الاشقر.
إن التتار قد أقبلوا إلى المسلمين، والمصلحة أن نتفق عليهم لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم، وإذا ملكوا البلاد لم يدعوا منا أحدا.
فكتب إليه سنقر بالسمع والطاعة وبرز من حصنه فخيم بجيشه ليكون على أهبة متى طلب أجاب، ونزلت نوابه من حصونهم وبقوا مستعدين لقتال التتار، وخرج المنصور من مصر في أواخر جمادى الآخرة ومعه العساكر.
وفي يوم الجمعة الثالث من جمادى الآخرة قرئ على منبر جامع دمشق كتاب من السلطان أنه قد عهد إلى ولده علي، ولقب بالملك الصالح، فلما فرغ من قراءة الكتاب جاءت البريدية فأخبروا برجوع التتار من حلب إلى بلادهم، وذلك لما بلغهم من إتفاق كلمة المسلمين، ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد، وعاد المنصور إلى مصر وكان قد وصل إلى غزة، أراد بذلك تخفيف الوطأة عن الشام فوصل إلى مصر في نصف شعبان.
وفي جمادى الآخرة أعيد برهان الدين السنجاري إلى وزارة مصر ورجع فخر الدين بن لقمان إلى كتابة الانشاء.
وفي أواخر رمضان أعيد إلى القضاء ابن رزين وعزل ابن بنت الاعز، وأعيد القاضي نفيس الدين بن شكر المالكي، ومعين الدين الحنفي، وتولى قضاء الحنابلة عز الدين المقدسي.
وفي ذي الحجة جاء تقليد ابن خلكان بإضافة المعاملة الحلبية إليه يستنيب فيها من شاء
من نوابه.
وفي مستهل ذي الحجة خرج الملك المنصور من بلاد مصر بالعساكر قاصدا الشام، واستناب على مصر ولده الملك الصالح علي بن المنصور إلى حين رجوعه، قال الشيخ قطب الدين: وفي يوم عرفة وقع بمصر برد كبار أتلف شيئا كثيرا من المغلات، ووقعت صاعقة بالاسكندرية وأخرى في يومها تحت الجبل الاحمر على صخرة فأحرقتها، فأخذ ذلك الحديد فسبك فخرج منه أواقي بالرطل المصري (1).
وجاء السلطان فنزل بعساكره تجاه عكا، فخافت الفرنج منه خوفا شديدا وراسلوه في طلب تجديد الهدنة، وجاء الامير عيسى بن مهنا من بلاد العراق إلى خدمة المنصور، وهو بهذه المنزلة فتلقاه السلطان بجيشه وأكرمه واحترمه وعامله بالصفح والعفو والاحسان.
وممن توفي فيها من الاعيان: الامير الكبير جمال الدين آقوش الشمسي أحد أمراء الاسلام، وهو الذي باشر قتل كتبغانوين أحد مقدمي التتار، وهو المطاع فيهم
__________
(1) الاوقية من الاوزان المصرية، فالرطل المصري 12 أوقية، والاوقية 12 درهما (صبح الاعشى 3 / 441).

يوم عين جالوت، وهو الذي مسك عز الدين أيدمر الظاهري في حلب من السنة الماضية، وكانت وفاته بها.
الشيخ الصالح داود بن حاتم ابن عمر الحبال، كان حنبلي المذهب له كرامات وأحوال صالحة ومكاشفات صادقة، وأصل آبائه من حران، وكانت إقامته ببعلبك، وتوفي فيها رحمه الله عن ست وتسعين سنة، وقد أثنى عليه الشيخ قطب الدين بن الشيخ الفقيه اليونيني.
الامير الكبير نور الدين علي بن عمر أبو الحسن الطوري، كان من أكابر الامراء، وقد نيف على تسعين سنة وكانت وفاته بسبب أنه وقع يوم مصاف سنقر الاشقر تحت سنابك الخيل فمكث بعد ذلك
متمرضا إلى أن مات بعد شهرين ودفن بسفح قاسيون.
الجزار الشاعر يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علي جمال الدين أبو الحسين المصري، الشاعر الماجن، المعروف بالجزار.
مدح الملوك والوزراء والامراء، وكان ماجنا ظريفا حلو المناظرة، ولد في حدود ستمائة بعدها بسنة أو سنتين، وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شوال من هذه السنة.
ومن شعره: أدركوني فبي من البرد هم * ليس ينسى وفي حشاي التهاب ألبستني الاطماع وهما فها * جسمي عار ولي فرى وثياب كلما أزرق لون جسمي من ال * برد تخيلت أنه سنجاب وقال وقد تزوج أبوه بعجوزة: تزوج الشيخ أبي شيخة * ليس لها عقل ولا ذهن كأنها في فرشها رمة * وشعرها من حولها قطن وقال لي كم سنها * قلت ليس في فمها سن لو أسفرت غربها في الدجى * ما جسرت تبصرها الجن

ثم دخلت سنة ثمانين وستمائة من الهجرة استهلت والخليفة الحاكم وسلطان البلاد الملك المنصور قلاوون.
وفي عاشر المحرم انعقدت الهدنة (1) بين أهل عكا والمرقب والسلطان، وكان نازلا على الروحاء (2) وقد قبض على جماعة من الامراء ممن كان معه، وهرب آخرون إلى قلعة صهيون إلى خدمة سنقر الاشقر، ودخل المنصور إلى دمشق في التاسع عشر من المحرم فنزل القلعة وقد زينت له البلد، وفي التاسع (3) والعشرين من المحرم أعاد القضاء إلى عز الدين بن الصائغ وعزل ابن خلكان.
وفي أول صفر باشر قضاء الحنابلة نجم الدين بن الشيخ شمس بن أبي عمر، وقد كان المنصب شاغرا منذ عزل والده نفسه عن
القضاء، وتولى قضاء حلب في هذا الشهر تاج الدين يحيى بن محمد بن إسماعيل الكردي، وجلس الملك المنصور في دار العدل في هذا الشهر فحكم وأنصف المظلوم من الظالم، وقدم عليه صاحب حماه فتلقاه المنصور بنفسه في موكبه، ونزل بداره بباب الفراديس.
وفي ربيع الاول وقع الصلح بين الملك المنصور قلاوون وبين سنقر الاشقر الملك الكامل على أن يسلم للسلطان شيزر ويعوضه عنها بإنطاكية وكفر طاب وشغر بكاس وغير ذلك، وعلى أن يقيم على ما بيده ستمائة فارس (4)، وتحالفا على ذلك (5)، ودقت البشائر لذلك، وكذلك تصالح صاحب الكرك والملك المنصور خضر بن الظاهر على تقرير ما بيده ونودي بذلك في البلاد.
وفي العشر الاول من هذا الشهر ضمن الخمر والزنا بدمشق، وجعل عليه ديوان ومشد، فقام في إبطال ذلك جماعة من العلماء والصلحاء والعباد، فأبطل بعد عشرين يوما، وأريقت الخمور وأقيمت الحدود ولله الحمد والمنة.
وفي تاسع عشر ربيع الاول وصلت الخاتون بركة خان زوجة الملك الظاهر ومعها ولدها السعيد قد نقلته من قرية المساجد بالقرب من الكرك لتدفنه عند أبيه بالتربة الظاهرية، فرفع بحبال من السور ودفن عند والده الظاهر، ونزلت أمه بدار صاحب حمص، وهيئت لها الاقامات،
__________
(1) لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات، أولها يوم السبت ثاني عشرين المحرم (السلوك 1 / 685).
(2) الروحاء، وترسم الروحا دون همزة في آخرها، وهي بلد بالساحل من فلسطين.
(3) في السلوك 1 / 686: في ثاني عشري المحرم.
(4) في هامش السلوك 1 / 687 علق على شرط سنقر قال: " هذا الشرط يوجب الالتفات، إذ المعروف أن مرتبة أمير مائة كانت أعلى مراتب الامراء في دولة المماليك، وربما زيد حاملها العشرة أو العشرين فارسا من المماليك أو أكثر، فيكون أمير ثلاثمائة وهذا لا يتأتى إلا إذا أعطاه السلطان اقطاعا جديدا زيادة على ما بيده بمصر أو بالشام، فعلى هذا فإن الامير سنقر طلب إلى السلطان أن يعطيه اقطاعات مساوية لما يعطيه لستة من أكابر الامراء.
(5) وأورد صاحب السلوك شرطا آخر للامير سنقر لم يوافقه عليه السلطان، وهو: أن ينعته في التقليد بلفظ الملك ولم
يجبه إليه فنعته بالامير (نهاية الارب 29 / 270 ب).

وعمل عزاء ولدها يوم الحادي والعشرين من ربيع الآخر بالتربة المذكورة، وحضر السلطان المنصور وأرباب الدولة والقراء والوعاظ.
وفي أواخر ربيع الآخر عزل التقي بن توبة التكريتي من الوزارة بدمشق وباشرها بعده تاج الدين السهنوري، وكتب السلطان المنصور إلى مصر وغيرها من البلاد يستدعي الجيوش لاجل اقتراب مجئ التتار، فدخل أحمد بن حجى ومعه بشر كثير من الاعراب، وجاء صاحب الكرك الملك المسعود نجدة للسلطان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخرة، وقدم الناس عليه ووفدوا إليه من كل مكان، وجاءته التركمان والاعراب وغيرهم، وكثرت الاراجيف بدمشق، وكثرت العساكر بها وجفل الناس من بلاد حلب وتلك النواحي، وتركوا الغلات والاموال خوفا من أن يدهمهم العدو من التتار، ووصلت التتر صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى عنتاب، وسارت العساكر المنصورة إلى نواحي حلب يتبع بعضها بعضا، ونازلت التتار بالرحبة في أواخر جمادى الآخر جماعة من الاعراب، وكان فيهم ملك التتار إبغا مختفيا ينظر ماذا يفعل أصحابه، وكيف يقاتلون أعداءه، ثم خرج المنصور من دمشق وكان خروجه منها في أواخر جمادى وقنت الخطباء والائمة بالجوامع والمساجد في الصلوات وغيرها، وجاء مرسوم من السلطان باستسلام أهل الذمة من الدواوين والكتبة.
ومن لا يسلم يصلب، فأسلموا كرها، وكانوا يقولون آمنا وحكم الحاكم بإسلامنا بعد أن عرض من امتنع منهم على الصلب بسوق الخيل، وجعلت الحبال في أعناقهم، فأجابوا والحالة هذه، ولما انتهى الملك المنصور إلى حمص كتب إلى الملك الكامل سنقر الاشقر يطلبه إليه نجدة فجاء إلى خدمته فأكرمه السلطان واحترمه ورتب له الاقامات، وتكاملت الجيوش كلها في صحبة الملك المنصور عازمين على لقاء العدو لا محالة مخلصين في ذلك، واجتمع الناس بعد خروج الملك في جامع دمشق ووضعوا المصحف العثماني بين أيديهم، وجعلوا يبتهلون إلى الله تعالى في نصرة الاسلام وأهله على الاعداء، وخرجوا كذلك والمصحف على رؤوسهم إلى المصلى
يدعون ويبتهلون ويبكون، وأقبلت التتار قليلا قليلا فلما وصلوا حماه أحرقوا بستان الملك وقصره وما هنالك من المساكن، والسلطان المنصور مخيم بحمص في عساكر من الاتراك والتركمان وغيرهم جحفل كثير جدا، وأقبلت التتار في مائة ألف (1) مقاتل أو يزيدون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقعة حمص لما كان يوم الخميس رابع عشر رجب التقى الجمعان وتواجه الخصمان عند طلوع الشمس وعسكر التتر في مائة ألف فارس، وعسكر المسلمين على النصف من ذلك أو يزيد قليلا، والجميع
__________
(1) في تذكرة النبيه لابن حبيب 1 / 62: نحو ثمانين ألفا.
(السلوك 1 / 692 - مختصر أبي الفداء 4 / 15).

فيما بين مشهد خالد بن الوليد إلى الرستن، فاقتتلوا قتالا عظيما لم ير مثله من أعصار متطاولة، فاستظهر التتار أول النهار، وكسروا الميسرة واضطربت الميمنة أيضا وبالله المستعان.
وكسر جناح القلب الايسر وثبت السلطان ثباتا عظيما جدا في جماعة قليلة، وقد انهزم كثير من عسكر المسلمين، والتتار في آثارهم حتى وصلوا وراءهم إلى بحيرة حمص ووصلوا حمص وهي مغلقة الابواب، فقتلوا خلقا من العامة وغيرهم، وأشرف المسلمون على خطة عظيمة من الهلاك، ثم إن أعيان الامراء من الشجعان والفرسان تآمروا فيما بينهم مثل سنقر الاشقر وبيسرى وطيبرس الوزيري وبدر الدين أمير سلاح وايتمش السعدي وحسام الدين لاجين وحسام الدين طرنطاي والدويداري وأمثالهم، لما رأوا ثبات السلطان ردوا إلى السلطان وحملوا حملات متعددة صادقة، ولم يزالوا يتابعون الحملة بعد الحملة حتى كسر الله بحوله وقوته التتر، وجرح منكوتمر، وجاءهم الامير عيسى بن مهنا من ناحية العرض فصدم التتر فأضربت الجيوش لصدمته، وتمت الهزيمة ولله الحمد، وقتلوا من التتار مقتلة عظيمة جدا، ورجعت من التتار الذين اتبعوا المنهزمين من المسلمين فوجدوا أصحابهم قد كسروا، والعساكر في آثارهم يقتلون ويأسرون، والسلطان ثابت في مكانه تحت السناجق، والكوسات (1) تضرب خلفه وما معه إلا ألف فارس، فطمعوا فيه فقاتلوه فثبت لهم ثباتا عظيما
فانهزموا من بين يديه فلحقهم فقتل أكثرهم، وكان ذلك تمام النصر، وكان انهزام التتار قبل الغروب، وافترقوا فرقتين أخذت فرقة منهم إلى ناحية سلمية والبرية، والاخرى إلى ناحية حلب والفرات، فأرسل السلطان في آثارهم من يتبعهم وجاءت البطاقة بالبشارة بما وقع من النصر إلى دمشق يوم الجمعة خامس عشر رجب، فدقت البشائر وزينت البلد، وأوقدت الشموع وفرح الناس.
فلما أصبح الناس يوم السبت أقبلت طائفة من المنهزمين منهم بيليك الناصري والحالق وغيرهم، فأخبروا الناس بما شاهدوه من الهزيمة في أول الامر، ولم يكونوا شاهدوا بعد ذلك، فبقي الناس في قلق عظيم، وخوف شديد، وتهيأ ناس كثير للهرب، فبينما الناس في ذلك إذ أقبلت البريدية فأخبروا الناس بصورة ما وقع في أول الامر وآخره، فتراجع الناس وفرحوا فرحا شديدا ولله الحمد والمنة.
ثم دخل السلطان إلى دمشق الثاني والعشرين من رجب، وبين يديه الاسارى بأيديهم الرماح عليها شقف رؤوس القتلى، وكان يوما مشهودا، ومع السلطان طائفة من أصحاب سنقر الاشقر منهم علم الدين الدويداري، فنزل السلطان بالقلعة مؤيدا منصورا، وقد كثرت له المحبة والادعية وكان سنقر الاشقر ودع السلطان من حمص ورجع إلى صهيون، وأما التتر فإنهم انهزموا في أسوأ حال وأتعسه يتخطفون من كل جانب، ويقتلون من كل فج، حتى وصلوا إلى الفرات فغرق
__________
(1) الكوسات: من رسوم السلطان والاته وهي صنوج من نحاس شبه الترس الصغير يدق بأحدها على الآخر بايقاع مخصوص ويتولى ذلك الكرسي (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 290).

أكثرهم، ونزل إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا آخرين، والجيوش في آثارهم يطردونهم عن البلاد حتى أراح الله منهم الناس.
وقد استشهد في هذه الوقعة جماعة من سادات الامراء منهم الامير الكبير الحاج عز الدين ازدمر جمدار، وهو الذي جرح ملك التتار يومئذ منكوتمر، فإنه خاطر بنفسه وأوهم أنه مقفز إليه وقلب رمحه حتى وصل إليه فطعنه فجرحه فقتلوه رحمه الله، ودفن بالقرب من مشهد خالد.
وخرج السلطان من دمشق قاصدا الديار المصرية يوم الاحد ثاني شعبان والناس يدعون له، وخرج معه علم الدين الدويداري، ثم عاد من غزة وقد ولاه المشد في الشام والنظر في المصالح، ودخل السلطان إلى مصر في ثاني عشر (1) شعبان.
وفي سلخ (2) شعبان ولي قضاء مصر والقاهرة للقاضي وجيه الدين البهنسي الشافعي، وفي يوم الاحد سابع رمضان فتحت المدرسة الجوهرية بدمشق في حياة منشئها وواقفها الشيخ نجم الدين محمد بن عباس بن أبي المكارم التميمي الجوهري، ودرس بها قاضي الحنفية حسام الدين الرازي.
وفي بكرة يوم السبت التاسع والعشرين من شعبان وقعت مأذنة مدرسة أبي عمر بقاسيون على المسجد العتيق فمات شخص واحد، وسلم الله تعالى بقية الجماعة.
وفي عاشر رمضان وقع بدمشق ثلج عظيم وبرد كثير مع هواء شديد، بحيث أنه ارتفع عن الارض نحوا من ذراع، وفسدت الخضراوات، وتعطل على الناس معايش كثيرة.
وفي شوال وصل صاحب سنجار إلى دمشق مقفزا من التتار داخلا في طاعة السلطان بأهله وماله، فتلقاه نائب البلد وأكرمه وسيره إلى مصر معززا مكرما.
وفي شوال عقد مجلس بسبب أهل الذمة من الكتاب الذين كانوا قد أسلموا كرها وقد كتب لهم جماعة من المفتيين بأنهم كانوا مكرهين فلهم الرجوع إلى دينهم، وأثبت الاكراه بين يدي القاضي جمال الدين بن أبي يعقوب المالكي، فعاد أكثرهم إلى دينهم وضربت عليهم الجزية كما كانوا، سود الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
وقيل: إنهم غرموا مالا جزيلا جملة مستكثرة على ذلك، قبحهم الله.
وفي ذي القعدة قبض السلطان على أيتمش السعدي وسجنه بقلعة الجبل، وقبض نائبه بدمشق على سيف الدين بلبان الهاروني وسجنه بقلعتها.
وفي بكرة الخميس التاسع والعشرين من ذي القعدة، وهو العاشر من أذار، استسقى الناس بالمصلى بدمشق فسقوا بعد عشرة أيام.
وفي هذه السنة أخرج الملك المنصور جميع آل الملك الظاهر من النساء والولدان والخدام من الديار المصرية إلى الكرك ليكونوا في كنف الملك المسعود خضر بن الظاهر.
__________
(1) في السلوك 1 / 701: ثاني عشريه.
(2) في السلوك 1 / 702: سابع عشري شعبان، وهو وجيه الدين عبد الوهاب بن حسين المهلبي.

وممن توفي فيها من الاعيان: أبغا ملك التتار بن هولاكو خان ابن تولى بن جنكيزخان، كان عالي الهمة بعيد الغور له رأي وتدبير، وبلغ من العمر خمسين سنة، ومدة ملكه ثماني عشرة (1) سنة، ولم يكن بعد والده في التدبير والحزم مثله، ولم تكن وقعة حمص هذه برأيه ولا عن مشورته، ولكن أخوه منكوتمر أحب ذلك فلم يخالفه.
ورأيت في بعض تاريخ البغاددة أن قدوم منكوتمر إلى الشام إنما كان عن مكاتبة سنقر الاشقر إليه فالله أعلم.
وقد جاء إبغا هذا بنفسه فنزل قريبا من الفرات ليرى ماذا يكون من الامر، فلما جرى عليهم ما جرى ساءه ذلك ومات غما وحزنا.
توفي بين العيدين من هذه السنة، وقام بالملك بعده ولده السلطان أحمد (2).
وفيها توفي: قاضي القضاة [ محمد ] (3) نجم الدين أبو بكر بن قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين يحيى ابن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي الشافعي بن سنى الدولة، ولد سنة ست (4) عشرة وستمائة، وسمع الحديث وبرع في المذهب، وناب عن أبيه فشكرت سيرته، واستقل بالقضاء في الدولة المظفرية فحمد أيضا، وكان الشيخ شهاب الدين ينال منه ومن أبيه، وقال البرزالي: كان شديدا في الاحكام متحريا، وقد ألزم بالمقام بمصر فدرس بجامع مصر، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالامينية والركنية، وباشر قضاء حلب، وعاد إلى دمشق، وولاه سنجر قضاء دمشق، ثم عزل بابن خلكان كما تقدم، ثم كانت وفاته يوم الثلاثاء من المحرم، ودفن من الغد يوم تاسوعاء بتربة جده بقاسيون.
وفي عاشر المحرم توفي: قاضي القضاة صدر الدين عمر ابن القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم الغلابي (5) ابن بنت الاعز
__________
(1) في السلوك 1 / 704: سبع عشرة سنة وفي مختصر أبي الفداء 4 / 16: نحو سبع عشرة سنة: وذكر وفاته في المحرم من سنة 681 ه.
(2) واسمه تكدار - كما في السلوك - وبيكدار كما في مختصر أبي الفداء، وقال: لما جلس في الملك أظهر دين الاسلام وتسمى بأحمد سلطان أحمد بيكدار.
(3) في السلوك 1 / 704 وتذكرة النبيه 1 / 64.
(4) في تذكرة ابن حبيب: خمس عشرة.
(5) في السلوك 1 / 705: العلامي، وفي هامشه: العلامي نسبة إلى قبيلة بني علامة إحدى بطون لخم.

المصري، كان فاضلا بارعا عارفا بالمذهب، متحريا في الاحكام كأبيه، ودفن بالقرافة.
الشيخ إبراهيم بن سعيد الشاغوري الموله المعروف بالجيعانة، كان مشهورا بدمشق، ويذكر له أحوال ومكاشفات على ألسنة العوام ومن لا يعقل، ولم يكن ممن يحافظ على الصلوات ولا يصوم مع الناس، ومع هذا كان كثير من العوام وغيرهم يعتقدونه.
توفي يوم الاحد سابع جمادى الاولى ودفن بتربة المولهين بسفح قاسيون عند الشيخ يوسف القيميني، وقد توفي الشيخ يوسف قبله بمدة، وكان الشيخ يوسف يسكن إقمين حمام نور الدين الشهيد بالبزوريين، وكان يجلس على النجاسات والقذر، وكان يلبس ثيابا بداوية تجحف على النجاسات في الازقة، وكان له قبول من الناس ومحبة وطاعة، وكان العوام يغالون في محبته واعتقاده، وكان لا يصلي ولا يتقي نجاسة، ومن جاءه زائرا جلس عند باب الاقمين على النجاسة، وكان العوام يذكرون له مكاشفات وكرامات، وكل ذلك خرافات من خرافات العوام وأهل الهديان كما يعتقدون ذلك في غيره من المجانين والمولهين.
ولما مات الشيخ يوسف القميني خرج خلق في جنازته من العوام وغيرهم، وكانت جنازته حافلة بهم، وجمل على أعناق الرجال إلى سفح قاسيون، وبين يديه غوغاء وغوش كثير وتهليل وأمور لا تجوز من فعل العوام، حتى جاؤوا به إلى تربة المولهين بقاسيون فدفنوه بها، وقد اعتنى بعض العوام بقبره فعمل
عليه حجارة منقوشة وعمل على قبره سقفا مقرنصا بالدهان وأنواعه، وعمل عليه مقصورة وأبوابا، وغالى فيه مغالاة زائدة، ومكث هو وجماعة مجاورون عنده مدة في قراءة وتهليل، ويطبخ لهم الطبيخ فيأكلون ويشربون هناك.
والمقصود أن الشيخ إبراهيم الجيعانة لما مات الشيخ يوسف الاقميني جاء من الشاغور إلى باب الصغير في جماعة من أتباعه، وهم في صراخ وضجة وغوش كثير، وهم يقولون: أذن لنا في دخول البلد أذن لنا في دخول البلد، يكررون ذلك، فقيل له في ذلك فقال: لي عشرون سنة ما دخلت داخل سور دمشق، لاني كنت كلما أتيت بابا من أبوابها أجد هذا السبع رابضا بالباب فلا أستطيع الدخول خوفا منه، فلما مات أذن لنا في الدخول، وهذا كله ترويج على الطغام والعوام من الهمج الرعاع، الذين هم أتباع كل ناعق.
وقيل إن الشيخ يوسف كان يرسل إلى الجيعانة مما يأتيه من الفتوح والله سبحانه أعلم بأحوال العباد، وإليه المنقلب والمآب، وعليه الحساب.
وقد ذكرنا أنه استشهد في وقعة حمص جماعة من الامراء منهم الامير عز الدين أزدمر السلحداري عن نحو من ستين سنة، وكان من خيار الامراء وله همة عالية ينبغي أن ينال بها مكانا عاليا في الجنة.

قاضي القضاة تقي الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن رزين بن موسى العامري الحموي الشافعي، ولد سنة ثلاث وستمائة، وقد سمع الحديث وانتفع بالشيخ تقي الدين بن الصلاح، وأم بدار الحديث مرة، ودرس بالشامية، وولي وكالة بيت المال بدمشق، ثم سار إلى مصر فدرس بها بعدة مدارس، وولي الحكم بها، وكان مشكورا، توفي ليلة الاحد ثالث رجب منها، ودفن بالمقطم.
وفي يوم السبت الرابع والعشرين من ذي القعدة توفي: الملك الاشرف مظفر الدين موسى بن الملك الزاهر محيي الدين داود المجاهد بن أسد الدين شيركوه بن
الناصر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذي ابن صاحب حمص، ودفن بتربتهم بقاسيون.
وفي ذي القعدة توفي: الشيخ جمال الدين الاسكندري الحاسب بدمشق، وكان له مكتب تحت منارة كيروز، وقد انتفع به خلق كثير، وكان شيخ الحساب في وقته رحمه الله.
الشيخ علم الدين أبو الحسن محمد بن الامام أبي علي الحسين بن عيسى بن عبد الله بن رشيق الربعي المالكي المصري، ودفن بالقرافة، وكانت له جنازة حافلة، وقد كان فقيها مفتيا، سمع الحديث وبلغ خمسا وثمانين سنة.
وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي الحجة توفي: الصدر الكبير أبو الغنائم المسلم محمد بن المسلم مكي بن خلف بن غيلان (1)، القيسي الدمشقي، مولده سنة أربع وتسعين [ وخمسمائة ]، وكان من الرؤساء الكبار، وأهل البيوتات، وقد ولي نظر الدواوين بدمشق وغير
__________
(1) في السلوك 1 / 705 وتذكرة ابن حبيب 1 / 69: علان.

ذلك، ثم ترك ذلك كله وأقبل على العبادة وكتابة الحديث، وكان يكتب سريعا يكتب في اليوم الواحد ثلاث كراريس وقد أسمع مسند الامام أحمد ثلاث مرات، وحدث بصحيح مسلم وجامع الترمذي وغير ذلك، وسمع منه البرزالي والمزي وابن تيمية، ودفن من يومه بسفح قاسيون عن ست (1) وثمانين سنة رحمهم الله جميعا.
الشيخ صفي الدين أبو القاسم بن محمد بن عثمان بن محمد التميمي الحنفي، شيخ الحنفية ببصرى، ومدرس الامينية بها مدة سنين كثيرة، كان بارعا فاضلا عالما عابدا منقطعا عن الناس، وهو والد قاضي
القضاة صدر الدين علي، وقد عمر دهرا طويلا، فإنه ولد في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وتوفي ليلة نصف شعبان من هذه السنة عن تسع وتسعين سنة رحمه الله.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وستمائة استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله والسلطان الملك المنصور قلاوون.
وفيها أرسل ملك التتار أحمد إلى الملك المنصور يطلب منه المصالحة وحقن الدماء فيما بينهم، وجاء في الرسلية الشيخ قطب الدين الشيرازي أحد تلامذة النصير الطوسي، فأجاب المنصور إلى ذلك وكتب المكاتبات إلى ملك التتر بذلك (2).
وفي مستهل صفر قبض السلطان على الامير الكبير بدر الدين بيسرى السعدي، وعلى الامير علاء الدين السعدي (3) الشمسي أيضا.
وفيها درس القاضي بدر الدين بن جماعة بالقيمرية، والشيخ شمس الدين بن الصفي الحريري بالسرحانية، وعلاء الدين بن الزملكاني بالامينية.
وفي يوم الاثنين الحادي عشر من رمضان وقع حريق باللبادين عظيم (4)، وحضر نائب السلطنة إذ ذاك الامير حسام الدين لاجين السلحدار وجماعة كثيرة من الامراء، وكانت ليلة هائلة جدا وقى الله شرها، واستدرك بعد ذلك
__________
(1) في تذكرة النبيه: سبع وثمانين، وفي درة الاسلاك لابن حبيب ص 68: كالاصل: ست وثمانين.
(2) انظر نص خطاب أحمد تكدار إلى السلطان المنصور قلاوون وجوابه عليه في السلوك 1 / 977 ملحق رقم 7.
وفيها ثبت بالمصادر التي أخذ منها الخطابان.
(3) في السلوك 1 / 706: الامير كشتغدي الشمسي، وبعد اعتقالهما، قال صاحب السلوك: فأغلق باب زويلة وعامة الاسواق.
وارتجت القاهرة حتى نودي: من أغلق دكانه شنق، ففتحت الاسواق.
(4) ذكر النويري (نهاية الارب 29 / 280 أ) سبب هذا الحريق في العبارة الآتية: " وكان سبب هذا الحريق ان بعض الذهبيين غسل ثوبه ونشره، وجعل تحته مجمرة نار وتركها وتوجه للفطور، فتعلقت النار بالثوب، واتصلت ببارية كانت معلقة، ومنها إلى السقف " والبارية حصيرة من القصب توضع في الدور للجلوس عليها.

أمرها القاضي نجم الدين بن النحاس ناظر الجامع، فأصلح الامر وسد وأعاد البناء أحسن مما كان
ولله الحمد والمنة.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الصالح بقية السلف [ إبراهيم بن الدرحي ] (1) برهان الدين أبو إسحاق بن الشيخ صفي الدين أبي الفدا إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى بن علوي بن الرضى الحنفي إمام المعزية بالكشك.
وأسمع من جماعة منهم الكندي بن الحرستاني ولكن لم يظهر سماعه منهما إلا بعد وفاته، وقد أجاز له أبو نصر الصيدلاني وعفيفة الفارقانية وابن الميداني، وكان رجلا صالحا محبا لاسماع الحديث، كثير البر بالطلبة له، وقد قرأ عليه الحافظ جمال الدين المزي معجم الطبراني الكبير، وسمعه منه بقراءة الحافظ البرزالي وجماعة كثيرون.
وكان مولده في سنة تسع وتسعين [ وخمسمائة ] وتوفي يوم الاحد سابع صفر، وهو اليوم الذي قدم فيه الحجاج إلى دمشق من الحجاز، وكان هو معهم فمات بعد استقراره بدمشق.
القاضي أمين الدين الاشتري أبو العباس أحمد بن شمس الدين أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الجبار بن طلحة الحلبي المعروف بالاشتري الشافعي، المحدث، سمع الكثير وحصل ووقف أجزاء بدار الحديث الاشرفية وكان الشيخ محيي الدين النووي يثني عليه ويرسل إليه الصبيان ليقرأوا عليه في بيته لامانته عنده، وصيانته وديانته.
الشيخ برهان الدين أبو الثناء محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن المراغي الشافعي، مدرس الفلكية (2)، كان فاضلا بارعا، عرض عليه القضاء فلم يقبل، توفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر عن ست وسبعين سنة، وسمع الحديث وأسمعه، ودرس بعده بالفلكية القاضي بهاء الدين بن الزكي.
__________
(1) من السلوك 1 / 711 وشذرات الذهب 5 / 373.
(2) المدرسة الفلكية أنشأها الامير ملك الدين سليمان أخو الملك العادل الايوبي لامه والمتوفى سنة 599 (الدارس في
تاريخ المدارس 1 / 43).

القاضي الامام العلامة شيخ القراء زين الدين أبو محمد عبد السلام بن علي بن عمر الزواوي المالكي، قاضي قضاة المالكية بدمشق، وهو أول من باشر القضاء بها، وعزل نفسه عنها تورعا وزهادة، واستمر بلا ولاية ثمان سنين، ثم كانت وفاته ليلة الثلاثاء ثامن رجب منها عن ثلاث وثمانين سنة (1)، وقد سمع الحديث واشتغل على السنجاري وابن الحاجب.
الشيخ صلاح الدين محمد بن القاضي شمس الدين علي بن محمود بن علي الشهرزوري، مدرس القيمرية وابن مدرسها، توفي في أواخر رجب، وتوفي أخوه شرف الدين بعده بشهر، ودرس بالقيمرية بعد الصلاح المذكور القاضي بدر الدين بن جماعة.
ابن خلكان قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الاربلي الشافعي أحد الائمة الفضلاء، والسادة العلماء، والصدور الرؤساء، وهو أول من جدد في أيامه قضاء القضاة من سائر المذاهب، فاشتغلوا بالاحكام بعد ما كانوا نوابا له، وقد كان المنصب بينه وبين ابن الصائغ دولا يعزل هذا تارة ويولى هذا، ويعزل هذا ويولى هذا، وقد درس ابن خلكان في عدة مدارس لم تجتمع لغيره، ولم يبق معه في آخر وقت سوى الامينية (2)، وبيد ابنه كمال الدين موسى النجيبية (3).
توفي ابن خلكان بالمدرسة النجيبية المذكورة بإيوانها يوم السبت آخر النهار، في السادس والعشرين من رجب، ودفن من الغد بسفح قاسيون عن ثلاث وسبعين سنة.
وقد كان ينظم نظما حسنا رائقا، وقد كانت محاضرته في غاية الحسن، وله التاريخ المفيد الذي رسم بوفيات الاعيان من أبدع المصنفات، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة
فيها قدم الملك المنصور إلى دمشق في يوم الجمعة سابع (4) رجب في أبهة عظيمة، وكان يوما
__________
(1) في السلوك 1 / 711: اثنتين وتسعين سنة (انظر تذكرة النبيه 1 / 76 شذرات الذهب 5 / 374 وفيه: ولد ببجاية سنة تسع وثمانين وخمسمائة).
(2) المدرسة الامينية هي أول مدرسة للشافعية بدمشق أنشأها أتابك العساكر بدمشق ابن الدولة كمشتكين بن عبد الله الطغتكيني المتوفى سنة 541 ه (الدارس في تاريخ المدارس 1 / 178).
(3) وهي لصق المدرسة النورية، أنشأها جمال الدين أقوش الصالحي النجيبي استاذ دار الملك الصالح أيوب (الدارس 1 / 468).
(4) في السلوك 1 / 715: ثامن.

مشهودا وفيها ولى الخطابة بدمشق الشيخ عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي عوضا عن محيي الدين بن الحرستاني الذي توفي فيها كما سيأتي، وخطب يوم الجمعة الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة.
وفي هذا اليوم قبل الصلاة احتيط على القاضي عز الدين بن الصائغ بالقلعة وأثبت ابن الحصري نائب الحنفي محضرا يتضمن أن عنده وديعة بمقدار ثمانية آلاف دينار، من جهة ابن الاسكاف، وكان الذي أثار ذلك شخص قدم من حلب يقال له تاج الدين بن السنجاري، وولي القضاء بعده بهاء الدين يوسف بن محيي الدين بن الزكي، وحكم يوم الاحد ثالث وعشرين رجب ومنع الناس من زيارة ابن الصائغ، وسعى بمحضر آخر أن عنده وديعة بقيمة خمسة وعشرين ألف دينار للصالح إسماعيل بن أسد الدين، وقام في ذلك ابن الشاكري والجمال بن الحموي وآخرون، وتكلموا في قضية ثالثة، ثم عقد له مجلس تاله فيه شدة شديدة، وتعصبوا عليه ثم أعيد إلى اعتقاله، وقام في صفه نائب السلطنة حسام الدين لاجين، وجماعة من الامراء، فكلموا فيه السلطان فأطلقه وخرج إلى منزله، وجاء الناس إلى تهنئته يوم الاثنين الثالث والعشرين (1) من شعبان، وانتقل من العادلية إلى داره بدرب النقاشة، وكان عامة جلوسه في المسجد تجاه داره.
وفي رجب باشر حسبة دمشق جمال الدين بن صصرى.
وفي شعبان درس الخطيب جمال
الدين بن عبد الكافي بالغزالية عوضا عن الخطيب ابن الحرستاني، وأخذ منه الدولعية لكمال الدين بن النجار، الذي كان وكيل بيت المال، ثم أخذ شمس الدين الاربلي تدريس الغزالية من ابن عبد الكافي المذكور.
وفي آخر شعبان باشر نيابة الحكم عن ابن الزكي شرف الدين أحمد بن نعمة المقدسي أحد أئمة الفضلاء، وسادات العلماء المصنفين.
ولما توفي أخوه شمس الدين محمد في شوال ولي مكانه تدريس الشامية البرانية (2)، وأخذت منه العادلية الصغيرة (3)، فدرس فيها القاضي نجم الدين أحمد بن صصرى التغلبي في ذي القعدة، وأخذت من شرف الدين أيضا الرواحية (4) فدرس فيها نجم الدين البيابي نائب الحكم رحمهم الله أجمعين.
وممن توفي فيها من الاعيان: الصدر الكبير عماد الدين أبو الفضل محمد بن القاضي شمس الدين أبي نصر محمد بن هبة الله بن الشيرازي، صاحب الطريقة
__________
(1) في السلوك 1 / 715: افرج عنه في ثامن عشري شعبان.
(2) وهي بدمشق، أنشأتها ست الشام ابنه نجم الدين أيوب بن شادي أخت السلطان صلاح الدين (الدارس في تاريخ المدارس 1 / 277 خطط الشام 6 / 81).
(3) وهي بدمشق، أنشأتها زهرة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأول من درس بها أحمد بن أحمد بن نعمة (الدارس 1 / 413).
(4) وهي بدمشق، بناها زكي الدين أبي القاسم التاجر المعروف بابن رواحة سنة 623 (الدارس 1 / 265).

المنسوبة (1) في الكتابة، سمع الحديث وكان من رؤساء دمشق وأعيانها توفي في صفر منها.
شيخ الجبل الشيخ العلامة شيخ الاسلام شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي، أول من ولي قضاء الحنابلة بدمشق، ثم تركه وتولاه ابنه نجم الدين، وتدريس الاشرفية بالجبل، وقد سمع الحديث الكثير، وكان من علماء الناس وأكثرهم ديانة وأمانة في عصره، مع
هدى وسمت صالح حسن، وخشوع ووقار.
توفي ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، ودفن بمقبرة والده رحمهم الله.
ابن أبي جعوان (2) العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عباس بن أبي جعوان (2) الانصاري الدمشقي المحدث الفقيه الشافعي البارع في النحو واللغة، سمعت شيخنا تقي الدين ابن تيمية وشيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول كل منهما للآخر: هذا الرجل قرأ مسند الامام أحمد وهما يسمعان فلم يضبط عليه لحنة متفقا عليها، وناهيك بهذين ثناء على هذا وهما هما.
الخطيب محيي الدين يحيى (3) بن الخطيب قاضي القضاة عماد الدين عبد الكريم بن قاضي القضاة جمال الدين ابن الحرستاني (4) الشافعي خطيب دمشق ومدرس الغزالية، كان فاضلا بارعا أفتى ودرس وولي الخطابة والغزالية بعد أبيه، وحضر جنازته نائب السلطنة وخلق كثير، توفي في جمادى الآخرة عن ثمان وستين سنة، ودفن بقاسيون.
وفي خامس رجب توفي: الامير الكبير ملك عرب آل مثرى (5) أحمد بن حجى بمدينة بصرى، وصلي عليه بدمشق صلاة الغائب.
__________
(1) لم يرد في صبح الاعشى الخط المنسوب أو الطريقة المنسوبة فيما أورده من أنواع الخطوط والكتابة المستعملة في ديوان الانشاء، فلعل المقصود بالكتابة المنسوبة فن الخط عموما.
(2) من تذكرة النبيه 1 / 84 وشذرات الذهب 5 / 381 والنجوم الزاهرة 7 / 36، وفي الاصل: جفوان تصحيف.
(3) في تذكرة النبيه 1 / 86 وشذرات الذهب 5 / 380 الوافي 3 / 282: محمد.
(4) الحرستاني: نسبه إلى حرستا وهي قرية وسط بساتين دمشق (معجم البلدان).
(5) في السلوك 1 / 721: آل مرا وفي شذرات الذهب 5 / 376: آل مرى.

الشيخ الامام العالم شهاب الدين
عبد الحليم بن الشيخ الامام العلامة مجد الدين عبد الله (1) بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني، والد شيخنا العلامة العلم تقي الدين بن تيمية، مفتي الفرق، الفارق بين الفرق، كان له فضيلة حسنة، ولديه فضائل كثيرة، وكان له كرسي بجامع دمشق يتكلم عليه عن ظاهر قلبه، وولي مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين، وبها كان سكنه، ثم درس ولده الشيخ تقي الدين بها بعده في السنة الآتية كما سيأتي، ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وستمائة في يوم الاثنين ثاني المحرم منها درس الشيخ الامام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني بدار الحديث السكرية التي بالقصاعين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي الشافعي، والشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية، والشيخ زين الدين بن المرحل، وزين الدين بن المنجا الحنبلي، وكان درسا هائلا، وقد كتبه الشيخ تاج الدين الفزاري بخطه لكثرة فوائده، وكثرة ما استحسنه الحاضرون.
وقد أطنب الحاضرون في شكره على حداثة سنه وصغره، فإنه كان عمره إذ ذاك عشرين سنة وسنتين، ثم جلس الشيخ تقي الدين المذكور أيضا يوم الجمعة عاشر صفر بالجامع الاموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيئ له لتفسير القرآن العزيز، فابتدأ من أوله في تفسيره، وكان يجتمع عنده الخلق الكثير والجم الغفير من كثرة ما كان يورد من العلوم المتنوعة المحررة مع الديانة والزهادة والعبادة سارت بذكره الركبان في سائر الاقاليم والبلدان، واستمر على ذلك مدة سنين متطاولة.
وفيها قدم السلطان إلى دمشق من مصر يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة، فجاء صاحب حماه الملك المنصور إلى خدمته فتلقاه السلطان في موكبه وأكرمه، فلما كان ليلة الاربعاء الرابع (2) والعشرين من شعبان وقع مطر عظيم بدمشق، ورعد وبرق، وجاء سيل عظيم جدا حتى كسر أقفال باب الفراديس، وارتفع الماء ارتفاعا كثيرا، بحيث أغرق خلقا كثيرا، وأخذ جمال الجيش المصري وأثقالهم، فخرج السلطان إلى الديار المصرية بعد ثلاثة أيام، وتولى مشد الدواوين الامير شمس الدين سنقر عوضا عن الدويدراي علم الدين سنجر.
وفيها اختلف التتار فيما بينهم على
ملكهم السلطان أحمد فعزلوه عنهم وقتلوه، وملكوا عليهم السلطان أرغون بن أبغا، ونادوا بذلك
__________
(1) في تذكرة النبيه 1 / 85 وشذرات الذهب 5 / 376 والنجوم الزاهرة 7 / 360: عبد السلام.
(2) في السلوك 1 / 724: حادي عشري شعبان.
وفي رواية المقريزي أن السلطان رحل من دمشق في رابع عشريه فوصل قلعة الجبل في يوم الثلاثاء ثامن عشر رمضان.

في جيشهم، وتأطدت أحوالهم، ومشت أمورهم على ذلك، وبادت دولة السلطان أحمد.
وقامت دولة أرغون بن أبغا.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ طالب الرفاعي بقصر حجاج وله زاوية مشهورة به، وكان يزور بعض المريدين فمات.
وفيها مات: القاضي الامام عز الدين أبو المفاخر محمد بن شرف الدين عبد القادر بن عفيف الدين عبد الخالق بن خليل الانصاري الدمشقي ولي القضاء بدمشق مرتين، عزل بابن خلكان، ثم عزل ابن خلكان به ثانية، ثم عزل وسجن وولي بعده بهاء الدين بن الزكي، وبقي معزولا إلى أن توفي ببستانه في تاسع ربيع الاول (1)، وصلي عليه بسوق الخيل، ودفن بسفح قاسيون، وكان مولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان مشكور السيرة، له عقل وتدبير واعتقاد كثير في الصالحين، وقد سمع الحديث له ابن بلبان مشيخة قرأها ابن جعوان (2) عليه، ودرس بعده بالعذراوية (3) الشيخ زين الدين عمر بن مكي بن المرحل، وكيل بيت المال، ودرس ابنه محيي الدين أحمد بالعمادية وزاوية الكلاسة من جامع دمشق، ثم توفي ابنه أحمد هذا بعده في يوم الاربعاء ثامن رجب، فدرس بالعمادية والدماغية الشيخ زين الدين بن الفارقي شيخ دار الحديث نيابة عن أولاد القاضي عز الدين بن الصائغ بدر الدين وعلاء الدين.
وفيها توفي: الملك السعيد فتح الدين
عبد الملك بن الملك الصالح أبي الحسن إسماعيل بن الملك العادل، وهو والد الملك الكامل ناصر الدين محمد، في ليلة الاثنين ثالث رمضان، ودفن من الغد بتربة أم الصالح، وكان من خيار الامراء محترما كبيرا رئيسا، روى الموطأ عن يحيى بن بكير عن مكرم بن أبي الصقر، وسمع ابن اللتي (4) وغيره.
__________
(1) في تذكرة النبيه 1 / 91: ربيع الآخرة.
(2) في الاصل ابن جفوان، انظر حاشية رقم 5 صفحة 354.
(3) في الاصل العزروية، وهي التي أنشأتها بدمشق الست عذراء ابنة أخ السلطان صلاح الدين الايوبي سنة 580 ه (الدارس 1 / 374 خطط بالشام 6 / 86).
(4) من تذكرة النبيه 1 / 95، وفي الاصل: ابن الليثي تصحيف، وابن اللتي هو عبد الله بن عمر بن علي بن عمر بن زيد الحريمي القزاز المتوفى سنة 635 ه.
(العبر للذهبي 5 / 143 شذرات الذهبي 5 / 171).

القاضي نجم الدين عمر بن نصر بن منصور البياني (1) الشافعي، توفي في شوال منها، وكان فاضلا، ولي قضاء زرع ثم قضاء حلب، ثم ناب في دمشق ودرس بالرواحية وباشرها بعده شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي، يوم عاشر شوال.
وفي هذا اليوم توفي بحماه ملكها: الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود بن عمر بن ملكشاه (2)، بن أيوب، ولد سنة ثلاثين وستمائة (3)، وتملك حماه سنة ثنتين وأربعين، وله عشر سنين، فمكث في الملك أزيد من أربعين سنة، وكان له بر وصدقات، وقد أعتق في بعض موته خلقا من الارقاء، وقام في الملك بعده ولده الملك المظفر بتقليد الملك المنصور له بذلك.
القاضي جمال الدين أبو يعقوب يوسف بن عبد الله بن عمر الرازي، قاضي قضاة المالكية، ومدرسهم بعد القاضي زين
الزواوي الذي عزل نفسه، وقد كان ينوب عنه فاستقل بعده بالحكم، توفي في الخامس من ذي القعدة وهو في طريق الحجاز، وكان عالما فاضلا قليل التكليف والتكلف، وقد شغر المنصب بعده ثلاث سنين ودرس بعده للمالكية الشيخ جمال الدين الشريشي، وبعده أبو إسحاق اللوري، وبعده بدر الدين وأبو بكر البريسي، ثم لما وصل القاضي جمال الدين بن سليمان حاكما درس بالمدارس والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وستمائة في أواخر (4) المحرم قدم الملك المنصور إلى دمشق ومعه الجيوش وجاء إلى خدمته صاحب حماه الملك المظفر بن المنصور فتلقاه بجميع الجيوش، وخلع عليه خلعة الملوك، ثم سافر السلطان
__________
(1) في تذكرة النبيه 1 / 94: البيساني.
(2) في السلوك 1 / 726 وتذكرة النبيه 1 / 88: شاهنشاه.
(3) في تذكرة النبيه 1 / 88: مولده في ربيع الاول سنة اثنين وثلاثين وستمائة.
وفي السلوك: مات عن إحدى وخمسين سنة.
(4) في السلوك 1 / 727: في ثاني عشريه.

بالعساكر المصرية والشامية فنزل المرقب (1) ففتحه الله عليهم في يوم الجمعة ثامن عشر (2) صفر، وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق فدقت البشائر وزينت البلد وفرح المسلمون بذلك، لان هذا الحصن كان مضرة على المسلمين، ولم يتفق فتحه لاحد من ملوك الاسلام لا للملك صلاح الدين، ولا للملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداري، وفتح حوله بلنياس ومرقب وهي بلدة صغيرة إلى جانب البحر عند حصن منيع جدا لا يصل إليه سهم ولا حجر منجنيق، فأرسل إلى صاحب طرابلس فهدمه تقربا إلى السلطان الملك المنصور، واستنقذ المنصور خلقا كثيرا من أسارى المسلمين، الذين كانوا عند الفرنج، ولله الحمد.
ثم عاد المنصور إلى دمشق، ثم سافر بالعساكر المصرية إلى القاهرة.
وفي أواخر جمادى الآخرة (3) ولد للمنصور ولده الملك الناصر محمد بن قلاوون، وفيها عزل محيي الدين بن النحاس عن نظر الجامع ووليه عز الدين بن محيي الدين بن الزكي، وباشر ابن النحاس الوزارة عوضا عن التقي توبة التكريتي، وطلب التقي توبة إلى الديار المصرية وأحيط على أمواله وأملاكه، وعزل سيف الدين طوغان عن ولاية المدينة [ دمشق ]، وباشرها عز الدين بن أبي الهيجاء.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ عز الدين محمد بن علي ابن إبراهيم بن شداد، توفي في صفر، وكان فاضلا مشهورا، له كتاب سيرة الملك الظاهر، وكان معتنيا بالتاريخ.
البند قداري أستاذ الملك الظاهر بيبرس، وهو الامير الكبير علاء الدين أيدكين البند قداري الصالحي، كان من خيار الامراء سامحه الله.
توفي في ربيع الآخر منها، وقد كان الصالح نجم الدين صادر البند قداري هذا، وأخذ منه مملوكه بيبرس فأضافه إليه لشهامته ونهضته، فتقدم عنده على أستاذه وغيره.
__________
(1) المرقب: قلعة حصينة تشرف على البحر المتوسط كانت بيد الاسبتارية (تقويم البلدان ص 254).
(2) في السلوك فتحه عنوة يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الاول (1 / 728) وفي تذكرة ابن حبيب 1 / 96: فتحه بالامان في شهر ربيع الاول (وهو ما أشار إليه أبو الفداء في مختصره 4 / 21 من خلال حضوره حصار حصن المرقب).
(3) في السلوك 1 / 727: يوم السبت سادس عشر المحرم، وكان مولده بقلعة الجبل.
قال أبو الفداء في مختصره 4 / 21: وأمه بنت سكتاي بن قراجين بن جنعان.

الشيخ الصالح العابد الزاهد شرف الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن بن إسماعيل الاخميمي، كانت له جنازة هائلة،
ودفن بقاسيون رحمه الله.
ابن عامر المقري الذي ينسب إليه الميعاد الكبير، الشيخ الصالح المقري شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عامر بن أبي بكر الغسولي الحنبلي، سمع الحديث من الشيخ موفق الدين بن قدامة وغيره، وكان يعمل الميعاد ليلة الاحد، فإذا فرغوا من ذلك دعا بهم ثم وعظهم.
توفي يوم الاربعاء حادي عشر جمادى الآخرة ودفن بالقرب من تربة الشيخ عبد الله الارمني.
القاضي عماد الدين داود بن يحيى بن كامل القرشي النصروي الحنفي، مدرس العزية بالكشك، وناب في الحكم عن مجد الدين بن العديم، وسمع الحديث وتوفي ليلة النصف من شعبان، وهو والد الشيخ نجم الدين القجقازي، شيخ الحنفية، وخطيب جامع تنكر.
الشيخ حسن الرومي شيخ سعيد السعداء بالقاهرة.
وقد وليها بعده شمس الدين الاتابكي.
الرشيد سعيد بن علي بن سعيد، الشيخ رشيد الدين الحنفي مدرس الشبلية، وله تصانيف مفيدة كثيرة، ونظم حسن.
فمن ذلك قوله: قل لمن يحذر أن تدركه * نكبات الدهر لا يغني الحذر أذهب الحزن اعتقادي * أن (1) كل شئ بقضاء وقدر ومن شعره قوله: إلهي لك الحمد الذي أنت أهله * على نعم منها الهداية للحمد صحيحا خلقت الجسم مني مسلما * ولطفك بي ما زال مذ كنت في المهد وكنت يتيما قد أحاط بي الردى * فآويت واستنقذت من كل ما يردي وهبت لي العقل الذي بضيائه * إلى كل خير يهتدي طالب الرشد
__________
(1) في المنهل الصافي صدره: أذهب الخوف اعتقادي أنه...

ووفقت للاسلام قلبي ومنطقي * فيا نعمة قد حل موقعها عندي ولو رمت جهدي أن أجازي فضيلة * فضلت بها لم يجز أطرافها جهدي ألست الذي أرجو حنانك عندما * يخلفني الاهلون وحدي في لحدي فجدلي بلطف منك يهدي سريرتي * وقلبي ويدنيني إليك بلا بعد توفي يوم السبت ثالث رمضان، وصلي عليه العصر بالجامع المظفري، ودفن بالسفح.
أبو القاسم علي بن بلبان بن عبد الله الناصري المحدث المفيد الماهر، توفي يوم الخميس مستهل رمضان (1).
الامير مجير الدين محمد بن يعقوب بن علي المعروف بابن تميم الحموي الشاعر، صاحب الديوان في الشعر، فمن شعره قوله: عاينت ورد الروض يلطم خده * ويقول قولا في البنفسج يحنق (2) لا تقربوه وإن تضوع نشره * ما بينكم فهو العدو الازرق الشيخ العارف شرف الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ عثمان بن علي الرومي، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون، ومن عندهم خرج الشيخ جمال الدين محمد الساوحي وحلق ودخل في ذي الجوالقية وصار شيخهم ومقدمهم.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وستمائة استهلت والخليفة الحاكم أبو العباس أحمد، والسلطان الملك المنصور قلاوون، ونائبه بالشام الامير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، والامير بدر الدين الصوابي محاصر مدينة الكرك في أواخر السنة الماضية، وقدم عليه من مصر عسكر صحبة الامير حسام الدين
__________
(1) كان مولده بالقدس سنة 612 ه قدم القاهرة وسمع بها وبالعراق مات بدمشق وعمره 72 سنة (تذكرة النبيه
1 / 101 السلوك 1 / 730).
(2) عجزه في شذرات الذهب 5 / 390: ويقول وهو على البنفسج محنق.

طرقطاي (1)، فاجتمعوا على حصار الكرك حتى أنزلوا منها صاحبها الملك المسعود خضر بن الملك الظاهر، في مستهل صفر، وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق، فدقت البشائر ثلاثة أيام، وعاد طرقطاي (1) بالملك خضر وأهل بيته إلى الديار المصرية، كما فعل الملك الظاهر أبوه بالملك المغيث عمر بن العادل، كما تقدم ذلك.
واستناب في الكرك نائبا عن أمر المنصور (2)، ورتب أمورها وأجلوا منها خلقا من الكركيين، واستخدموا بقلعة دمشق.
ولما اقترب دخول آل الظاهر إلى القاهرة تلقاهم المنصور فأكرم لقياهم وأحسن إلى الاخوين نجم الدين خضر، وبدر الدين سلامش، وجعلهما يركبان مع ابنيه علي والاشرف خليل، وجعل عليهما عيونا يرصدون ما يفعلان، وأنزلا الدور بالقلعة وأجرى عليهم من الرواتب والنفقات ما يكفيهم وزيادة كثيرة، وكتب الامير بدر الدين بكتوت العلائي وهو مجرد بحمص إلى نائب دمشق لاجين، أنه قد انعقدت زوبعة في يوم الخميس سابع (3) صفر بأرض حمص ثم ارتفعت في السماء كهيئة العمود والحية والعظيمة، وجعلت تختطف الحجارة الكبار، ثم تصعد بها في الجو كأنها سهام النشاب وحملت شيئا كثيرا من الجمال بأحمالها، والاثاث والخيام والدواب، ففقد الناس من ذلك شيئا كثيرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي هذا اليوم وقع مطر عظيم في دمشق وجاء سيل كثير ولا سيما في الصالحية.
وفيها أعيد علم الدين الدويداري إلى مشد الدواوين بدمشق، والصاحب تقي الدين بن توبة إلى الوزارة بدمشق.
وفيها تولى قضاء المالكية بمصر زين الدين بن أبي مخلوف البريدي عوضا عن القاضي تقي الدين بن شاس (4) الذي توفي بها.
وفيها درس بالغزالية بدر الدين بن جماعة انتزعها من يد شمس الدين إمام الكلاسة، الذي كان ينوب عن شمس الدين الايكي، والايكي شيخ سعيد السعدا، باشرها شهرا ثم جاء مرسوم بإعادتها إلى الايكي، وأنه قد استناب عنه جمال
الدين الباجريقي، فباشرها الباجريقي في ثالث رجب.
وممن توفي فيها من الاعيان: أحمد بن شيبان ابن تغلب الشيباني أحد مشايخ الحديث المسندين المعمرين بدمشق، توفي بصفر عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بقاسيون.
__________
(1) في السلوك 1 / 730 وتذكرة ابن حبيب 1 / 49 و 102: طرنطاي (انظر مختصر أبي الفداء 4 / 22).
(2) وهو الامير عز الدين أيبك الموصلي.
(3) في السلوك 1 / 731: رابع صفر، بناحية الغسولة وهي منزل للقوافل فيما حمص وقارا (تذكرة النبيه 1 / 102، معجم البلدان).
(4) من السلوك وتذكرة النبيه، وفي الاصل: برساس تحريف.
وهو حسين بن عبد الرحيم بن عبد الله بن شاس السعدي المالكي.

الشيخ الامام العالم البارع الشيخ جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن بحمان (1) البكري الشريشي المالكي، ولد بشريش (2) سنة إحدى وستمائة، ورحل إلى العراق فسمع بها الحديث من المشايخ والقطيعي وابن زوربة وابن الليثي وغيرهم، واشتغل وحصل وساد أهل زمانه، ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية، ثم أقام بالقدس شيخ الحرم، ثم جاء إلى دمشق فولي مشيخة الحديث بتربة أم الصالح، ومشيخة الرباط الناصري بالسفح، ومشيخة المالكية، وعرض عليه القضاء فلم يقبل.
توفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب بالرباط الناصري بقاسيون، ودفن بسفح قاسيون تجاه الناصرية وكانت جنازته حافلة جدا.
قاضي القضاة يوسف ابن قاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى
ابن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان، القرشي الدمشقي المعروف بابن الزكي الشافعي، كان فاضلا مبرزا، وهو آخر من ولي القضاء من بني الزكي إلى يومنا هذا، ولد في سنة أربعين (3) وسمع الحديث، توفي ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة، ودفن بقاسيون، وتولى بعده ابن الخوي شهاب الدين.
الشيخ مجد الدين يوسف بن محمد بن محمد بن عبد الله المصري ثم الدمشقي الشافعي الكاتب المعروف بابن المهتار، كان فاضلا في الحديث والادب، يكتب كتابة حسنة جدا، وتولى مشيخة دار الحديث النورية، وقد سمع الكثير وانتفع الناس به وبكتابته، توفي عاشر ذي الحجة ودفن بباب الفراديس.
الشاعر الاديب شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم (4) بن محمد المعروف بابن الخيمي، كانت له
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 392 وتاريخ ابن الفرات 8 / 46: سحمان.
(2) شريش وتسمى شرش أيضا وهي مدينة من كورة شذونة بالاندلس (معجم البلدان تقويم البلدان).
(3) كذا بالاصل وتذكرة النبيه، وفي السلوك: مات عن ست وأربعين سنة بدمشق، وفي شذرات الذهب: مات وله خمس وأربعون سنة.
(4) في نهاية الارب 29 / 287 أ: محمد بن عبد المنعم بن يوسف بن أحمد الانصاري اليمني.

مشاركة في علوم كثيرة، ويد طولى في النظم الرائق، الفائق جاوز الثمانين وقد تنازع هو ونجم الدين بن إسرائيل في قصيدة بائية (1) فتحاكما إلى ابن الفارض فأمرهما بنظم أبيات على وزنها فنظم كل منهما فأحسن، ولكن لابن الخيمي يد طولى عليه، وكذلك فعل ابن خلكان، وامتدحه على وزنها بأبيات حسان، وقد أطال ترجمته الجزري في كتابه، وفيها كانت وفاة: الحاج شرف الدين (2)
ابن مري، والد الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله.
يعقوب بن عبد الحق أبو يوسف المريني سلطان بلاد المغرب، خرج على الواثق بالله أبي دبوس فسلبه الملك بظاهر مراكش، واستحوذ على بلاد الاندلس والجزيرة الخضراء، في سنة ثمان وستين وستمائة، واستمرت أيامه إلى محرم هذه السنة، وزالت على يديه دولة الموحدين بها.
البيضاوي (3) صاحب التصانيف هو القاضي الامام العلامة ناصر الدين عبد الله بن عمر الشيرازي، قاضيها وعالمها وعالم أذربيجان وتلك النواحي، مات بتبريز سنة خمس وثمانين وستمائة.
ومن مصنفاته: " المنهاج في أصول الفقه "، وهو مشهور، وقد شرحه غير واحد، وله: " شرح التنبيه " في أربع مجلدات، وله: " الغاية القصوى في دراية الفتوى "، و " شرح المنتخب " و " الكافية في المنطق "، وله: " الطوالع " و " شرح المحصول " أيضا، وله غير ذلك من التصانيف المفيدة، وقد أوصى إلى القطب الشيرازي أن يدفن بجانبه بتبريز والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وستمائة في أول المحرم ركبت العساكر صحبة نائب الشام حسام الدين لاجين إلى محاصرة صهيون
__________
(1) في المطبوعة، في هامشها: مطلعها: يا مطلبا ليس لي غيره أرب * إليك آل التقصي وانتهى الطلب (2) وهو شرف بن مري بن حسن بن حسين بن حزام بن محمد بن جمعة النووي (طبقات السبكي) قال في هامش المطبوعة: كانت وفاته سنة 682 ه.
(3) البيضاوي: نسبة إلى البيضاء من بلاد فارس.
(طبقات الشافعية 5 / 59 شذرات الذهب 5 / 392).

وحصن برزية، فما نعمهم الامير سيف الدين سنقر الاشقر، فلم يزالوا به حتى استنزلوه وسلمهم البلاد، وسار إلى خدمة السلطان الملك المنصور، فتلقاه بالاكرام والاحترام، وأعطاه تقدمة ألف
فارس، ولم يزل معظما في الدولة المنصورية إلى آخرها، وانقضت تلك الاحوال.
وفي النصف من المحرم حكم القاضي جلال الدين الحنفي نيابة عن أبيه حسام الدين الرازي، وفي الثالث عشر من ربيع الاول قدم القاضي شهاب الدين محمد بن القاضي شمس الدين بن الخليل الخوي من القاهرة على قضاء قضاة دمشق، وقرئ تقليده يوم الجمعة مستهل ربيع الآخر، واستمر بنيابة شرف الدين المقدسي.
وفي يوم الاحد ثالث شوال درس بالرواحية الشيخ صفي الدين الهندي، وحضر عنده القضاة والشيخ تاج الدين الفزاري، وعلم الدين الدويداري، وتولى قضاء قضاة القاهرة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الاعز، عوضا عن برهان الدين الخضر السنجاري (1)، وقد كان وليها شهرا بعد ابن الخوي فاجتمع حينئذ إلى ابن بنت الاعز بين القضاء كله بالديار المصرية، وذلك في أوائل صفر منها.
وفيها استدعى سيف الدين السامري من دمشق إلى الديار المصرية ليشتري منه ربع جزر ما الذي اشتراه من بنت الملك الاشرف موسى، فذكر لهم أنه وقفه، وكان المتكلم في ذلك علم الدين الشجاعي، وكان ظالما، وكان قد استنابه الملك المنصور بديار مصر، وجعل يتقرب إليه بتحصيل الاموال، ففتق لهم ناصر الدين محمد بن عبد الرحمن المقدسي أن السامري اشترى هذا من بنت الاشرف (2)، وهي غير رشيدة، وأثبت سفهها على زين الدين بن مخلوف الجائر الجاهل، وأبطل البيع من أصله، واسترجع على السامري بمغل (3) مدة عشرين سنة مائتي ألف درهم، وأخذوا منه حصة من الزنبقية قيمتها سبعين ألفا وعشرة آلاف مكملة، وتركوه فقيرا على برد الديار، ثم أثبتوا رشدها واشتروا منها تلك الحصص بما أرادوه، ثم أرادوا أن يستدعوا بالدماشقة واحدا بعد واحد، ويصادرونهم، وذلك أنه بلغهم أن من ظلم بالشام لا يفلح وأن من ظلم بمصر أفلح وطالت مدته، وكانوا يطلبونهم إلى مصر أرض الفراعنة والظلم، فيفعلون معهم ما أرادوا.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الامام العلامة قطب الدين أبو بكر محمد بن الشيخ الامام أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن
__________
(1) مات فجأة تاسع صفر عن سبعين سنة.
(السلوك 1 / 734).
(2) وهي ملكة خاتون، وكان والدها الاشرف قد أوصى لها بجميع جواهره وقف دار السعادة وبستان النيرب، ماتت في عاشر شعبان سنة 694 ه.
(انظر السلوك ص 735 وحاشية 2 منها).
(3) في السلوك 1 / 736: ربع حرزما - وقيل حزرما - عن عشرين سنة وهو مبلغ مائتي ألف وعشرة آلاف درهم من فضة.

عبد الله بن أحمد الميموني القيسي التوزري (1) المصري، ثم المالكي الشافعي المعروف بالقسطلاني، شيخ دار الحديث الكاملية (2) بالقاهرة، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، ورحل إلى بغداد فسمع الكثير وحصل علوما، وكان يفتي على مذهب الشافعي، وأقام بمكة مدة طويلة ثم صار إلى مصر فولي مشيخة دار الحديث، وكان حسن الاخلاق محببا إلى الناس، توفي في آخر المحرم ودفن بالقرافة الكبرى، وله شعر حسن أورد منه ابن الجزري قطعة صالحة.
عماد الدين محمد بن العباس الدنيسري الطبيب الماهر، والحاذق الشاعر، خدم الاكابر والوزراء وعمر ثمانين سنة وتوفي في صفر من هذه السنة بدمشق (3).
قاضي القضاة برهان الدين الخضر بن الحسين بن علي السنجاري، تولى الحكم بديار مصر غير مرة، وولي الوزارة أيضا، وكان رئيسا وقورا مهيبا، وقد باشر القضاء بعده تقي الدين ابن بنت الاعز.
شرف الدين سليمان بن عثمان (4) الشاعر المشهور، له ديوان.
مات في صفر منها (5).
الشيخ الصالح عز الدين عبد العزيز بن عبد المنعم بن الصيقل الحراني، ولد سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وسمع الكثير، ثم استوطن مصر حتى توفي بها في رابع عشر رجب، وقد جاوز التسعين، وقد سمع منه
الحافظ علم الدين البرزالي لما رحل إلى مصر في سنة أربع وثمانين، وحكى عنه أنه شهد جنازة في
__________
(1) من تذكرة النبيه والسلوك، وفي الاصل: النوري تصحيف.
والتوزري نسبة إلى توزر وهي مدينة بأفريقيا (معجم البلدان).
(2) وهي الدار التي أنشأها الملك الكامل الايوبي (المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 375).
(3) كان من الاطباء الاعيان والمعدودين من الادباء بنى مدرسة الدنيسرية للاطباء بدمشق غربي البيمارستان النوري (الدارس 2 / 133) وكان مولده بدنيسر سنة 605 ه.
ودنيسر من نواحي الجزيرة قرب ماردين (معجم البلدان).
(4) في تذكرة النبيه 1 / 111 وشذرات الذهب 5 / 395: بليمان، وفي السلوك 1 / 738: بنيمان.
(5) ولد ببرعبان - مدينة بين حلب وسميساط - ومات بدمشق عن نيف وتسعين سنة (السلوك تذكرة النبيه).

بغداد فتبعهم نباش، فلما كان الليل جاء إلى ذلك القبر ففتح عن الميت، وكان الميت شابا قد أصابته سكتة، فلما فتح القبر نهض ذلك الشاب الميت جالسا فسقط النباش ميتا في القبر، وخرج الشاب من قبره، ودفن فيه النباش.
وحكى له قال: كنت مرة بقليوب وبين يدي صبرة قمح، فجاء زنبور فأخذ واحدة ثم ذهب بها، ثم جاء فأخذ أخرى ثم ذهب بها، ثم جاء فأخذ أخرى أربع مرات، قال فاتبعته فإذا هو يضع الحبة في فم عصفور أعمى بين تلك الاشجار التي هناك.
قال: وحكى لي الشيخ عبد الكافي أنه شهد مرة جنازة فإذا عبد أسود معنا، فلما صلى الناس عليها لم يصل، فلما حضرنا الدفن نظر إلي وقال: أنا عمله، ثم ألقى نفسه في قبر ذلك الميت، قال فنظرت فلم أر شيئا.
الحافظ أبو اليمن أمين الدين عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن عساكر الدمشقي ترك الرياسة والاملاك، وجاور بمكة ثلاثين سنة، مقبلا على العبادة والزهادة، وقد حصل له قبول من الناس شاميهم ومصريهم وغيرهم، توفي بالمدينة النبوية في ثاني رجب منها.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وستمائة فيها قدم الشجاعي من مصر إلى الشام بنية المصادرة لارباب الاموال من أهل الشام وفي أواخر ربيع الآخر قدم الشيخ ناصر الدين عبد الرحمن المقدسي من القاهرة، على وكالة بيت المال ونظر الاوقاف، ونظر الخاص، ومعه تقاليد وخلع فتردد الناس إلى بابه وتكلم في الامور وآذى الناس، وكانت ولايته بسفارة الامير علم الدين الشجاعي المتكلم في الديار المصرية، توسل إليه بالشيخ شمس الدين الايكي وبابن الوحيد الكاتب، وكانا عنده لهما صورة، وقد طلب جماعة من أعيان الدماشقة في أول هذه السنة إلى الديار المصرية فطولبوا بأموال كثيرة، فدافع بعضهم بعضا، وهذا مما يخفف عقوبته من ظلمهم، وإلا فلو صبروا لعوجل الظالم بالعقوبة، ولزال عنهم ما يكرهون سريعا.
ولما قدم ابن المقدسي إلى دمشق كان يحكم بتربة أم الصالح، والناس يترددون إليه ويخافون شره، وقد استجد باشورة بباب الفراديس ومساطب باب الساعات للشهود، وجدد باب الجابية الشمالي ورفعه، وكان متواطئا، وأصلح الجسر الذي تحته، وكذلك أصلح جسر باب الفراديس تحت السويقة التي جددها عليه من الجانبين.
وهذا من أحسن ما عمله ابن المقدسي، وقد كان مع ذلك كثير الاذية للناس ظلوما غشوما، ويفتح على الناس أبوابا من الظلم لا حاجة إليها.
وفي عاشر جمادى الاولى قدم من الديار المصرية أيضا قاضي القضاة حسام الدين الحنفي،

والصاحب تقي الدين توبة التكريتي، وقاضي القضاة جمال الدين محمد بن سليمان الزواوي المالكي على قضاء المالكية بعد شغوره عن حاكم بدمشق ثلاث سنين ونصف، فأقام شعار المنصب ودرس ونشر المذهب وكان له سؤدد ورياسة.
وفي ليلة الجمعة رابع شعبان توفي الملك الصالح علاء الدين بن الملك المنصور قلاوون بالسنطارية (1) فوجد عليه أبوه وجدا شديدا، وقد كان عهد إليه بالامر من بعده وخطب له على المنابر من مدة سنين، فدفنه في تربته وجعل ولاية العهد من بعده إلى ابنه الاشرف خليل، من بعد
أبيه، وخطب له على المنابر من بعد ذكر أبيه يوم الجمعة، ودقت البشائر وزين البلد سبعة أيام، ولبس الجيش الخلع وركبوا، وأظهر الناس سرورا لشهامته، مع ما في قلوبهم على أبيه لاجل ظلم الشجاعي.
وفي رمضان باشر حسبة دمشق شمس الدين [ محمد ] (2) بن السلعوسي عوضا عن شرف الدين بن الشيزري وفيه توجه الشيخ بدر الدين بن جماعة إلى خطابة القدس بعد موت خطيبه قطب الدين، فباشر بعده تدريس القيمرية علاء الدين أحمد بن القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز.
وفي شهر رمضان كبس نصراني وعنده مسلمة وهما يشربان الخمر في نهار رمضان، فأمر نائب السلطنة حسام الدين لاجين بتحريق النصراني فبذل في نفسه أموالا جزيلة فلم يقبل منه، وأحرق بسوق الخيل، وعمل الشهاب محمود في ذلك أبياتا في قصيدة مليحة، وأما المرأة فجلدت الحد.
وممن توفي فيها من الاعيان: الخطيب الامام قطب الدين أبوالزكا (3) عبد المنعم بن يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر بن عبد الله بن محمد بن سعد ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، القرشي، الزهري، خطيب بيت المقدس أربعين سنة، وكان من الصلحاء الكبار محبوبا عند الناس، حسن الهيئة مهيبا عزيز النفس، يفتي الناس ويذكر التفسير من حفظه في المحراب بعد صلاة الصبح، وقد سمع الكثير وكان من الاخيار، ولد سنة ثلاث وستمائة، وتوفي ليلة الثلاثاء سابع رمضان عن أربع وثمانين سنة.
الشيخ الصالح العابد إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد الجعبري، تقي الدين أبو إسحاق، أصله من قلعة
__________
(1) قال في السلوك 1 / 744: وتحدثت طائفة أن أخاه الملك الاشرف خليلا سمه وقد أناف على الثلاثين وفي تذكرة النبيه 1 / 115 كان عمره عشرون سنة ونصف.
(2) من السلوك 1 / 745.
(3) في الشذرات 5 / 401: أبو الذكاء انظر السلوك 1 / 746 النجوم الزاهرة 7 / 378.

جعبر، ثم أقام بالقاهرة، وكان يعظ الناس وكان الناس ينتفعون بكلامه كثيرا.
توفي بالقاهرة يوم السبت الرابع والعشرين من المحرم، ودفن في تربته بالحسينية، وله نظم حسن، وكان من الصلحاء المشهورين رحمه الله.
الشيخ الصالح يس بن عبد الله المقري الحجام، شيخ الشيوخ محيي الدين النواوي، وقد حج عشرين حجة، وكانت له أحوال وكرامات.
الخونده غازية خاتون بنت الملك المنصور قلاوون، زوجة الملك السعيد.
الحكيم الرئيس علاء الدين [ علي ] (1) بن أبي الحزم (2) بن نفيس، شرح القانون لابن سينا وصنف الموجز وغيره من الفوائد وكان يكتب من حفظه، وكان اشتغاله على ابن الدخواري، وتوفي بمصر في ذي القعدة.
الشيخ بدر الدين عبد الله بن الشيخ جمال الدين بن مالك النحوي، شارح الالفية التي عملها أبوه، وهو من أحسن الشروح وأكثرها فوائد، وكان لطيفا ظريفا فاضلا، توفي في يوم الاحد الثامن من المحرم، ودفن من الغد بباب الصغير.
والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وستمائة فيها كان فتح مدينة طرابلس: وذلك أن السلطان قلاوون قدم بالجيوش المنصورة المصرية صحبته إلى دمشق، فدخلها في الثالث عشر من صفر، ثم سار بهم وبجيش دمشق وصحبته خلق كثير من المتطوعة، منهم القاضي نجم الدين الحنبلي، قاضي الحنابلة، وخلق من المقادسة
__________
(1) من السلوك 1 / 746 وتذكرة النبيه 1 / 115.
(2) في تذكرة ابن حبيب: الحرم (بالراء).

وغيرهم، فنازل طرابلس يوم الجمعة مستهل ربيع الاول، وحاصرها بالمجانيق حصارا شديدا، وضيقوا على أهلها تضييقا عظيما، ونصب عليها تسعة عشر منجنيقا، فلما كان يوم الثلاثاء رابع جمادى (1) الآخرة فتحت طرابلس في الساعة الرابعة من النهار عنوة، وشمل القتل والاسر جميع من فيها، وغرق كثير من أهل الميناء وسبيت النساء والاطفال، وأخذت الذخائر والحواصل، وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى هذا التاريخ، وقد كانت قبل ذلك في أيدي المسلمين من زمان معاوية، فقد فتحها سفيان بن نجيب لمعاوية، فأسكنها معاوية اليهود، ثم كان عبد الملك بن مروان جدد عمارتها وحصنها وأسكنها المسلمين، وصارت آمنة عامرة مطمئنة، وبها ثمار الشام ومصر، فإن بها الجوز والموز والثلج والقصب، والمياه جارية فيها تصعد إلى أماكن عالية، وقد كانت قبل ذلك ثلاث مدن متقاربة، ثم صارت بلدا واحدا، ثم حولت من موضعها كما سيأتي الآن.
ولما وصلت البشارة إلى دمشق دقت البشائر وزينت البلاد وفرح الناس فرحا شديدا ولله الحمد والمنة.
ثم أمر السلطان الملك المنصور قلاوون أن تهدم البلد بما فيها من العمائر والدور والاسوار الحصينة التي كانت عليها، وأن يبنى على ميل منها بلدة غيرها أمكن منها وأحسن، ففعل ذلك، فهي هذه البلدة التي يقال لها طرابلس، ثم عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا مسرورا محبورا، فدخلها يوم النصف من جمادى الآخرة، ولكنه فوض الامور والكلام في الاموال فيها إلى علم الدين الشجاعي، فصادر جماعة وجمع أموالا كثيرة، وحصل بسبب ذلك اذى الخلق، وبئس هذا الصنيع فإن ذلك تعجيل لدمار الظالم وهلاكه، فلم يغن عن المنصور ما جمع له الشجاعي من الاموال شيئا، فإنه لم يعش بعد ذلك إلا اليسير حتى أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة، كما سيأتي.
ثم سافر السلطان في ثاني شعبان بجيشه إلى الديار المصرية، فدخلها في أواخر شعبان.
وفيها فتحت قلاع كثيرة بناحية حلب: كركر، وتلك النواحي، وكسرت طائفة من التتر هناك، وقتل
ملكهم خربندا نائب التتر على ملطية.
وفيها تولى الحسبة بدمشق جمال الدين يوسف بن التقي توبة التكريتي ثم أخذها بعد شهور تاج الدين الشيرازي.
وفيها وضع منبر عند محراب الصحابة بسبب عمارة كانت في المقصورة، فصلى برهان الدين الاسكندري نائب الخطيب بالناس هناك مدة شهر، الجماعات والجمعات، ابتدأوا ذلك من يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجة.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخة فاطمة بنت الشيخ إبراهيم زوجة النجم بن إسرائيل، كانت من بيت الفقر، لها سلطنة وإقدام وترجمة وكلام في طريقة
__________
(1) في السلوك 1 / 747: رابع ربيع الآخرة، وفي مختصر أبي الفداء 4 / 23: أول ربيع الآخر.

الحريرية وغيرهم، وحضر جنازتها خلق كثير، ودفنت عند الشيخ رسلان.
العالم ابن الصاحب الشيخ الماجن، هو الشيخ الفاضل علم الدين أحمد بن يوسف بن عبد الله بن شكر، كان من بيت علم ورياسة، وقد درس في بعض المدارس، وكانت له وجاهة ورياسة، ثم ترك ذلك كله وأقبل على الحرفشة وصحبة الحرافيش (1) والتشبه بهم في اللباس والطريقة، وأكل الحشيش واستعمله، كان من الفهم في الخلاعة والمجون والزوائد الرائقة الفائقة التي لا يلحق في كثير منها، وقد كان له أولاد فضلاء ينهونه عن ذلك فلم يلتفت إليهم، ولم يزل ذلك دأبه حتى توفي ليلة الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الاول (2).
ولما ولي القضاة الاربعة كان ابن خالته تاج الدين ابن بنت الاعز مستقلا في القضاء قبل ذلك، فقال له ابن الصاحب المذكور: ما مت حتى رأيتك صاحب ربع، فقال له: تسكت وإلا خليتهم يسقونك السم، فقال له: في قلة دينك تفعل، وفي قلة عقولهم يسمعوا منك، وقال يمدح الحشيشة الخسيسة: في خمار الحشيش معنى مرامي * يا أهيل العقول والافهام
حرموها عن غير عقل ونقل * وحرام تحريم غير الحرام وله أيضا: يا نفس ميلي إلى التصابي * فاللهو منه الفتى يعيش ولا تملي من سكر يوم * إن أعوز الخمر فالحشيش وله أيضا: جمعت بين الحشيش والخمر * فرحت لا أهتدي من السكر يا من يريني لباب مدرستي * يربح والله غاية الاجر وقال يهجو الصاحب بهاء الدين بن الحنا: اقعد بها وتهنا * لا بد أن تتعنى تكتب على بن محمد * من أين لك يا بن حنا فاستدعاه فضربه ثم أمر به إلى المارستان فمكث فيه سنة ثم أطلق.
__________
(1) الحرافيش: مفردها حرفوش، أي الرعاع والدهماء وضعاف الخلق.
(2) في تذكرة النبيه 1 / 127: ربيع الآخرة.
وفي السلوك 1 / 750: مات وقد أناف على الستين.

شمس الدين الاصبهاني شارح المحصول: محمد بن محمود بن محمد بن عباد السلماني العلامة، قدم دمشق بعد الخمسين وستمائة، وناظر الفقهاء واشتهرت فضائله، وسمع الحديث وشرح المحصول للرازي، وصنف القواعد في أربعة فنون، أصول الفقه، وأصول الدين، والمنطق، والخلاف.
وله معرفة جيدة في المنطق والنحو والادب، وقد رحل إلى مصر فدرس بمشهد الحسين والشافعي وغيرهما، ورحل إليه الطلبة، توفي في العشرين من رجب في القاهرة عن ثنتين وسبعين سنة.
الشمس محمد بن العفيف سليمان بن علي بن عبد الله بن علي التلمساني، الشاعر المطبق، كانت وفاته في حياة أبيه
فتألم له ووجد عليه وجدا شديدا، ورثاه بأشعار كثيرة، توفي يوم الاربعاء الرابع عشر من رجب (1)، وصلي عليه بالجامع، ودفن بالصوفية.
فمن رائق شعره قوله: وإن ثناياه نجوم لبدره * وهن لعقد الحسن فيه فرائد وكم يتجافى خصره وهو ناحل * وكم يتحلى ثغره وهو بارد وله يذم الحشيشة: ما للحشيشة فضل عند آكلها * لكنه غير مصروف إلى رشده صفراء في وجهه خضراء في فمه * حمراء في عينه سوداء في كبده ومن شعره أيضا: بدا وجهه من فوق ذابل خده * وقد لاح من سود الذوائب في جنح فقلت عجيب كيف لم يذهب الدجا * وقد طلعت شمس النهار على رمح وله من جملة أبيات: ما أنت عندي والقضي * ب اللدن في حد سوى هذاك حركه الهوا * ء وأنت حركت الهوى الملك المنصور شهاب الدين محمود بن الملك الصالح إسماعيل بن العادل، توفي يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان (2)،
__________
(1) ولد في عاشر جمادى الآخرة سنة 661 ومات شابا.
(الوافي 3 / 129) وفي تذكرة النبيه 1 / 126: عاش نحو ثلاثين سنة.
(2) ولد سنة 619 بمدينة بصرى.

وصلي عليه بالجامع، ودفن من يومه بتربة جده، وكان ناظرها، وقد سمع الحديث الكثير، وكان يحب أهله، وكان فيه لطف وتواضع.
الشيخ فخر الدين أبو محمد
عبد الرحمن بن يوسف البعلبكي الحنبلي، شيخ دار الحديث النورية ومشهد ابن عروة، وشيخ الصدرية، كان يفتي ويفيد الناس مع ديانة وصلاح وزهادة وعبادة، ولد سنة إحدى عشرة وستمائة، وتوفي في رجب منها.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وستمائة فيها كانت وفاة الملك المنصور قلاوون، وكان الخليفة الحاكم العباسي، ونائب مصر حسام الدين طرقطاي (1)، ونائب الشام حسام الدين لاجين، وقضاة الشام شهاب الدين بن الخوي الشافعي، وحسام الدين الحنفي، ونجم الدين بن شيخ الجبل، وجمال الدين الزواوي المالكي، وجاء البريد يطلب شمس الدين سنقر الاشقر إلى الديار المصرية، فأكرمه السلطان وقواه وشد يده وأمره باستخلاص الاموال، وزاده مشد الجيوش، والكلام على الحصون إلى البيرة وكختا وغير ذلك، فقويت نفسه وزاد تجبره ولكن كان يرجع إلى مروءة وستر وينفع من ينتمي إليه، وذلك مودة في الدنيا في أيام قلائل، وفي جمادى الآخرة جاء البريد بالكشف على ناصر الدين المقدسي وكيل بيت المال، وناظر الخاص، فظهرت عليه مخازي من أكل الاوقاف وغيرها، فرسم عليه بالعذراوية وطولب بتلك الاموال وضيق عليه، وعمل فيه سيف الدين أبو العباس السامري قصيدة يتشفى فيها لما كان أسدى إليه من الظلم والايذاء، مع أنه راح إليه وتغمم له وتمازحا هنالك، ثم جاء البريد بطلبه إلى الديار المصرية فخاف النواب من ذهابه، فأصبح يوم الجمعة (2) وهو مشنوق بالمدرسة العذراوية، فطلبت القضاة والشهود فشاهدوه كذلك، ثم جهز وصلي عليه بعد الجمعة ودفن بمقابر الصوفية عند أبيه، وكان مدرسا بالرواحية وتربة أم الصالح، مع الوكالتين والنظر.
وجاء البريد بعمل مجانيق لحصار عكا فركب الاعسر (3) إلى أراضي بعلبك لما هنالك من
__________
(1) في السلوك 1 / 751: طرنطاي.
(2) في السلوك 1 / 753: يوم الجمعة ثالث شعبان.
(3) وهو الامير شمس الدين سنقر الاعسر، وقد قام الاعسر بتجهيز لوازم الحرب بصفته شاد ديوان الجيش بدمشق،
وقد كلف هذه السنة، فضلا عما بيده من مسؤوليات، بوظيفة شد الحصون بسائر النيابات الشامية والساحل.
(السلوك 1 / 754 وانظر حاشية رقم 2 من نفس الصفحة).

الاخشاب العظيمة التي لا يوجد مثلها بدمشق، وهي تصلح لذلك، فكثرت الجنايات والجبايات والسخر، وكلفوا الناس تكليفا كثيرا، وأخذوا أخشاب الناس، وحملت إلى دمشق بكلفة عظيمة وشدة كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفاة الملك المنصور قلاوون بينما الناس في هذا الهم والمصادرات وأمثال ذلك إذ وردت بريدية فأخبروا بوفاة الملك المنصور يوم السبت سادس ذي القعدة من هذه السنة، بالمخيم (1) ظاهر القاهرة، ثم حمل إلى قلعة الجبل ليلا وجلس بعده ولده الملك الاشرف خليل بولاية العهد له، وحلف له جميع الامراء، وخطب له على المنابر، وركب في أبهة الملك، والعساكر كلهم في خدمته مشاة من قلعة الجبل إلى الميدان الاسود الذي هو سوق الخيل، وعلى الامراء والمقدمين الخلع، وعلى القضاة والاعيان، ولما جاءت الاخبار بذلك حلف له الامراء بالشام، وقبض على حسام الدين طرقطاي (2) نائب أبيه وأخذ منه أموالا جزيلة أنفق منها على العساكر.
وفيها ولي خطابة دمشق زين الدين عمر بن مكي بن المرحل عوضا عن جمال الدين بن عبد الكافي وكان ذلك بمساعدة الاعسر، وتولى نظر الجامع الرئيس وجيه الدين بن المنجى الحنبلي، عوضا عن ناصر الدين بن المقدسي، وثمر وقفه وعمره وزاد مائة وخمسين ألفا.
وفيها احترقت دار صاحب حماه، وذلك أنه وقع فيها نار في غيبته فلم يتجاسر أحد يدخلها، فعملت النار فيها يومين فاحترقت واحترق كل ما فيها.
وفي شوال درس بتربة أم الصالح بعد ابن المقدسي القاضي إمام الدين القونوي، وفيها باشر الشرف حسين بن أحمد بن الشيخ أبي عمر قضاء الحنابلة عوضا عن ابن عمه نجم الدين بن شيخ الجبل، عن مرسوم الملك المنصور قبل وفاته.
وحج بالناس في هذه السنة من الشام الامير
بدر الدين بكتوت الدوباسي، وحج قاضي القضاة شهاب الدين بن الخوي، وشمس الدين بن السلعوس ومقدم الركب الامير عتبة، فتوهم منه أبو نمي، وكان بينهما عداوة، فأغلق أبواب مكة ومنع الناس من دخولها فأحرق الباب وقتل جماعة ونهب بعض الاماكن، وجرت خطوب فظيعة، ثم أرسلوا القاضي ابن الخوي ليصلح بين الفريقين، ولما استقر عند أبي نمي رحل الركوب وبقي هو في الحرم وحده وأرسل معه أبو نمي من ألحقه بهم سالما معظما.
وجاء الخبر بموت المنصور إلى
__________
(1) وكان قد برز من القاهرة فنزل بمسجد تبر، وهو في المنزلة الاولى في الطريق إلى الشام وموضعه قريب من المطرية وعرف قديما بمسجد البئر والجميزة، وتسميه العامة مسجد التبن.
(وفي مختصر أبي الفداء 4 / 23: مسجد التيرز، انظر السلوك 1 / 754).
(2) في المصادر: طرنطاي وقد تقدم.

الناس وهم بعرفات وهذا شئ عجيب.
وجاء كتاب يستحث الوزير ابن السلعوس في المسير إلى الديار المصرية، وبين الاسطر بخط الملك الاشرف: يا شقيريا وجه الخير احضر لتستلم الوزارة.
فساق إلى القاهرة فوصلها يوم الثلاثاء عاشر المحرم، فتسلم الوزارة كما قال السلطان.
وممن توفي فيها من الاعيان: السلطان الملك المنصور قلاوون ابن عبد الله التركي الصالحي الالفي، اشتراه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، بألفي دينار، وكان من أكابر الامراء عنده وبعده، ولما تزوج الملك السعيد بن الظاهر بابنته غازية خاتون، عظم شأنه جدا عند الظاهر، وما زال يترفع في الدولة حتى صار أتابك سلامش بن الظاهر، ثم رفعه من البين واستقل بالملك في سنة أربع وثمانين، وفتح طرابلس سنة ثمان وثمانين، وعزم على فتح عكا وبرز إليها فعاجلته المنية في السادس والعشرين (1) من ذي القعدة، ودفن بتربته بمدرسته الهائلة التي أنشأها بين القصرين، التي ليس بديار مصر ولا بالشام مثلها.
وفيها دار حديث ومارستان.
وعليها أوقاف دارة كثيرة
عظيمة، مات عن قريب من ستين (2) سنة، وكانت مدة ملكه اثنتي عشرة (3) سنة، وكان حسن الصورة مهيبا، عليه أبهة السلطنة ومهابة الملك، تام القامة حسن اللحية عالي الهمة شجاعا وقورا سامحه الله.
الامير حسام الدين طرقطاي (4) نائب السلطنة المنصورية بمصر، أخذه الاشرف فسجنه في قلعة الجبل، ثم قتله (5) وبقي ثمانية أيام لا يدرى به، ثم لف في حصير وألقي على مزبلة، وحزن عليه بعض الناس، فكفن كآحاد الفقراء بعد النعيم الكثير، والدنيا المتسعة، والكلمة النافذة، وقد أخذ السلطان من حواصله ستمائة ألف دينار وسبعين قنطارا بالمصري فضة، ومن الجواهر شيئا كثيرا، سوى الخيل والبغال والجمال والامتعة والبسط الجياد، والاسلحة المثمنة، وغير ذلك من الحواصل والاملاك
__________
(1) كذا بالاصل وهو تصحيف، وقد تقدم انه توفي في السادس من ذي القعدة.
(2) في السلوك 1 / 755: نحو سبعين سنة.
(3) في السلوك 1 / 755: إحدى عشرة سنة وشهرين وأربعة وعشرين يوما، وفي مختصر أبي الفداء 4 / 24: إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر وأياما، وفي تذكرة النبيه 1 / 135: إحدى عشرة وشهرين.
(4) كذا بالاصل، وفي المصادر طرنطاي وقد تقدم.
(5) في تاريخ أبي الفداء 4 / 24: يوم الجمعة ثاني عشر ذي القعدة.
وفي السلوك 1 / 757: يوم الاثنين خامس عشرة.

بمصر والشام، وترك ولدين أحدهما أعمى، وقد دخل هذا الاعمى على الاشرف فوضع المنديل على وجهه وقال شئ لله وذكر له أن لهم أياما لا يجدون شيئا يأكلونه، فرق له وأطلق لهم الاملاك يأكلون من ريعها، فسبحان الله المتصرف في خلقه بما يشاء، يعز من يشاء ويذل من يشاء.
الشيخ الامام العلامة رشيد الدين عمر بن إسماعيل بن مسعود الفارقي الشافعي، مدرس الظاهرية، توفي بها
وقد جاوز التسعين، وجد مخنوقا في المحرم، ودفن بالصوفية، وقد سمع الحديث وكان منفردا في فنون من العلوم كثيرة، منها علم النحو والادب وحل المترجم والكتابة والانشاء وعلم الفلك والنجوم وضرب الرمل والحساب وغير ذلك، وله نظم حسن.
الخطيب جمال الدين أبو محمد عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي، توفي بدار الخطابة وحضر الناس الصلاة عليه يوم السبت سلخ جمادى الاولى، وحمل إلى السفح فدفن إلى جانب الشيخ يوسف الفقاعي.
فخر الدين أبو الظاهر إسماعيل ابن عز القضاة أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الواحد بن أبي اليمن، الشيخ الزاهد المتقلل من متاع الدنيا، توفي في العشرين من رمضان، وصلي عليه في الجامع، ودفن بتربة بني الزكي بقاسيون محبة في محيي الدين بن عربي، فإنه كان يكتب من كلامه كل يوم ورقتين، ومن الحديث ورقتين وكان مع هذا يحسن الظن به، وكان يصلي مع الائمة كلهم بالجامع، وقد أخبر عنه بعض العلماء أنه رأى بخطه.
وفي كل شئ له آية * تدل على أنه عينه وقد صحح على " عينه " وإنما الصحيح المروي عمن أنشد هذا الشعر * تدل على أنه واحد * وله شعر فمنه: والنهر مذ جن في الغصون هوى (1) * فراح في قلبه يمثلها فغار منه النسيم عاشقها * فجاء عن وصله يميلها
__________
(1) صدره في تذكرة النبيه 1 / 130: النهر قد جن بالغصون هوى..

وله أيضا: لما تحقق بالامكان فوقكم * وقد بدا حكمه في عالم الصور
فميز الجمع عنه وهو متخذ * فلاح فرقكم في عالم الصور وله: لي سادة لا أرى سواهم * هم عين معناي وعين جوفي لقد أحاطوا بكل جزء * مني وعزوا عن درك طرفي هم نظروا في عموم فقري * وطول ذلي وفرط ضعفي فعاملوني ببحت جود * وصرف بر ومحض لطف فلا تلم إن جررت ذيلي * فخرا بهم أو ثنيت عطفي وله: مواهب ذي الجلال لدي تتري * فقد أخرستني ونطقن شكرا فنعمى إثر نعمى إثر نعمى * وبشرى بعد بشرى بعد بشرى لها بدء وليس لها انتهاء * يعم مزيدها دنيا وأخرى الحاج طيبرس بن عبد الله علاء الدين الوزير، صهر الملك الظاهر، كان من أكابر الامراء ذوي الحل والعقد، وكان دينا كثير الصدقات، له خان بدمشق أوقفه، وله في فكاك الاسرى وغير ذلك، وأوصى عند موته بثلثمائة ألف تصرف على الجند بالشام ومصر، فحصل لكل جندي خمسون درهما، وكانت وفاته في ذي الحجة، ودفن بتربته بسفح المقطم.
قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس [ أحمد ] (1) بن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر المقدسي، توفي ثاني عشر رجب بسوا، وكان فاضلا بارعا خطيبا مدرسا بأكثر المدارس، وهو شيخ الحنابلة وابن شيخهم، وتولى بعده القضاء الشيخ شرف الدين حسين (2) بن عبد الله بن أبي عمر، والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسعين وستمائة من الهجرة فيها فتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مدد متطاولة، ولم يبق لهم فيها
حجر واحد ولله الحمد والمنة.
__________
(1) من السلوك 1 / 759 وتذكرة النبيه 1 / 129.
(2) في السلوك 1 / 759: حسن، وكان مولده سنة 638 ه ووفاته سنة 695 ودفن بمقبرة جده (الوافي 12 / 93).

استهلت هذه السنة والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس العباسي، وسلطان البلاد الملك الاشرف خليل بن المنصور قلاوون، ونائبه بمصر وأعمالها بدر الدين بيدرا، ووزيره ابن السلعوس الصاحب شمس الدين، ونائبه بالشام حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها، وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول، وصاحب مكة نجم الدين أبو نمي محمد بن إدريس بن علي بن قتادة الحسيني، وصاحب المدينة عز الدين جماز بن شيحة الحسيني، وصاحب الروم غياث الدين كيخسرو، وهو ابن ركن الدين قلج أرسلان السلجوقي، وصاحب حماة تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمد، وسلطان بلاد العراق وخراسان وتلك النواحي أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنيكزخان.
وكان أول هذه السنة يوم الخميس وفيه تصدق عن الملك المنصور بأموال كثيرة جدا من الذهب والفضة، وأنزل السلطان إلى تربته في ليلة الجمعة فدفن بها تحت القبة، ونزل في قبره بدر الدين بيدرا، وعلم الدين الشجاعي، وفرقت صدقات كثيرة حينئذ، ولما قدم الصاحب شمس الدين بن السلعوس من الحجاز خلع عليه للوزارة، وكتب تقليده بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر كاتب الانشا بيده، وركب الوزير في أبهة الوزارة إلى داره، وحكم.
ولما كان يوم الجمعة (1) قبض على شمس الدين سنقر الاشقر وسيف الدين بن جرمك الناصري، وأفرج عن الامير زين الدين كتبغا وكان قد قبض عليه مع طرقطاي (2)، ورد عليه أقطاعه، وأعيد التقي توبة إلى وزارة دمشق مرة أخرى.
وفيها أثبت ابن الخوي محضرا يتضمن أن يكون تدريس الناصرية للقاضي الشافعي وانتزعها من زين الدين الفارقي.
فتح عكا وبقية السواحل وفيها جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الاول لتجهيز آلات الحصار لعكا، ونودي في دمشق الغزاة في سبيل الله إلى عكا، وقد كان أهل عكا في هذا الحين عدوا على من عندهم من تجار المسلمين فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأبرزت المناجيق إلى ناحية الجسورة، وخرجت العامة والمتطوعة يجرون في العجل حتى الفقهاء والمدرسين والصلحاء، وتولى ساقها الامير علم الدين الدويداري، وخرجت العساكر بين يدي نائب الشام، وخرج هو في آخرهم، ولحقه صاحب حماه الملك المظفر وخرج الناس من كل صوب، واتصل بهم عسكر طرابلس، وركب الاشرف من
__________
(1) في السلوك 1 / 762: سابع صفر.
(2) طرنطاي، انظر ما سبق.

الديار المصرية بعساكره قاصدا عكا، فتوافت الجيوش هنالك، فنازلها يوم الخميس رابع (1) ربيع الآخر ونصبت عليها المناجيق (2) من كل ناحية يمكن نصبها عليها، واجتهدوا غاية الاجتهاد في محاربتها والتضييق على أهلها، واجتمع الناس بالجوامع لقراءة صحيح البخاري، فقرأه الشيخ شرف الدين الفزاري، فحضر القضاة والفضلاء والاعيان.
وفي أثناء محاصرة عكا وقع تخبيط من نائب الشام حسام الدين لاجين، فتوهم أن السلطان يريد مسكه، وكان قد أخبره بذلك الامير الذي يقال له أبو خرص (3)، فركب هاربا فرده علم الدين الدويداري بالمسا به وجاء به إلى السلطان فطيب قلبه وخلع عليه ثم أمسكه بعد ثلاثة أيام وبعثه إلى قلعة صفد واحتاط على حواصله، ورسم على أستاذ داره بدر الدين بكداش، وجرى ما لا يليق وقوعه هنالك، إذ الوقت وقت عسر وضيق وحصار.
وصمم السلطان على الحصار فرتب الكوسات ثلثمائة حمل، ثم زحف يوم الجمعة سابع عشر جمادى الاولى (4) ودقت الكوسات جملة واحدة عند طلوع الشمس، وطلع المسلمون على الاسوار مع طلوع الشمس، ونصبت السناجق الاسلامية فوق أسوار البلد، فولت الفرنج عند ذلك الادبار، وركبوا هاربين في مراكب التجار، وقتل منهم عدد لا يعلمه إلا الله
تعالى، وغنموا من الامتعة والرقيق والبضائع شيئا كثيرا جدا، وأمر السلطان بهدمها وتخريبها، بحيث لا ينتفع بها بعد ذلك، فيسر الله فتحها نهار جمعة، كما أخذتها الفرنج من المسلمين في يوم الجمعة (5)، وسلمت صور وصيدا قيادتهما إلى الاشرف، فاستوثق الساحل للمسلمين، وتنظف من الكافرين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وجاءت البطاقة إلى دمشق بذلك ففرح المسلمون، ودقت البشائر في سائر الحصون، وزينت البلاد ليتنزه فيها الناظرون والمتفرجون، وأرسل السلطان إلى صور أميرا فهدم أسوارها وعفا آثارها.
وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة ثمان عشرة وخمسمائة.
وأما عكا فقد كان الملك الناصر يوسف بن أيوب أخذها من أيدي الفرنج، ثم إن الفرنج جاؤوا فأحاطوا بها بجيوش كثيرة، ثم جاء صلاح الدين ليمانعهم عنها مدة سبعة وثلاثين شهرا، ثم آخر ذلك استملكوها وقتلوا من كان فيها من المسلمين، كما تقدم ذلك.
ثم إن السلطان الملك الاشرف خليل بن المنصور قلاوون سار من عكا قاصدا دمشق في أبهة
__________
(1) في السلوك 1 / 764: ثالث ربيع الآخرة.
(2) في السلوك: المجانيق (انظر مختصر أبي الفداء 4 / 24).
(3) وهو علم الدين سنجر الحموي (مختصر أبي الفداء 4 / 26، السلوك 1 / 767).
(4) في مختصر أبي الفداء 4 / 25 وتذكرة النبيه 1 / 137 بدائع الزهور 1 / 1 / 368: جمادى الآخرة.
(5) كان ذلك يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة 587 ه.
واستولى يومئذ الفرنج على من بها من المسلمين ثم قتلوهم.

الملك وحرمة وافرة، وفي صحبته وزيره ابن السلعوس والجيوش المنصورة، وفي هذا اليوم استناب بالشام الامير علم الدين سنجر الشجاعي، وسكن بدار السعادة، وزيد في إقطاعه حرستا ولم تقطع لغيره، وإنما كانت لمصالح حواصل القلعة، وجعل له في كل يوم ثلثمائة على دار الطعام، وفوض إليه أن يطلق من الخزانة ما يريد من غير مشاورة ولا مراجعة، وأرسله السلطان إلى صيدا لانه كان
قد بقي بها برج عصي، ففتحه ودقت البشائر بسببه، ثم عاد سريعا إلى السلطان فودعه، وسار السلطان نحو الديار المصرية في أواخر رجب، وبعثه إلى بيروت ليفتحها فسار إليها ففتحها في أقرب وقت، وسلمت عثلية (1) وانطرطوس وجبيل.
ولم يبق بالسواحل ولله الحمد معقل للفرنج إلا بأيدي المسلمين، وأراح الله منهم البلاد والعباد، ودخل السلطان إلى القاهرة في تاسع شعبان في أبهة عظيمة جدا، وكان يوما مشهودا.
وأفرج عن بدر الدين بيسرى بعد سجن سبع سنين.
ورجع علم الدين سنجر الشجاعي نائب دمشق إلى دمشق في سابع عشرين الشهر المذكور، وقد نظف السواحل من الفرنج بالكلية، ولم يبق لهم بها حجر.
وفي رابع رمضان أفرج عن حسام الدين لاجين من قلعة صفد ومعه جماعة أمراء، ورد عليهم إقطاعاتهم، وأحسن إليهم وأكرمهم (2).
وفي أوائل رمضان طلب القاضي بدر الدين بن جماعة من القدس الشريف وهو حاكم به، وخطيب فيه، على البريد إلى الديار المصرية فدخلها في رابع عشرة، وأفطر ليلتئذ عند الوزير ابن السلعوس وأكرمه جدا واحترمه، وكانت ليلة الجمعة، فصرح الوزير بعزل تقي الدين ابن بنت الاعز وتولية ابن جماعة بالديار المصرية قضاء القضاة، وجاء القضاة إلى تهنئته وأصبح الشهود بخدمته (3)، ومع القضاء خطابة الجامع الازهر، وتدريس الصالحية، وركب في الخلعة والطرحة ورسم لبقية القضاة أن يستمروا بلبس الطرحات، وذهب فخطب بالجامع الازهر، وانتقل إلى الصالحية ودرس بها في الجمعة الاخرى وكان درسا حافلا، ولما كان يوم الجمعة رسم السلطان للحاكم بأمر الله أن يخطب هو بنفسه الناس يومئذ وأن يذكر في خطبته أنه قد ولى السلطنة للاشرف
__________
(1) في مختصر أبي الفداء 4 / 25 والسلوك 1 / 765: عثليث، قال أبو الفداء: تسلم عثليث في مستهل شعبان ثم تسلم انطرطوس في خامس شعبان (انظر هامش 3 صفحة 765 السلوك ج 1).
(2) قال في بدائع الزهور 1 / 369 إن السلطان أمر بخنق مجموعة من الامراء كان قد حبسهم بالقلعة - ببرج الحية - وبينهم الامير لاجين، فخنقوا ولما أرادوا دفنهم وجدوا الامير لاجين فيه الروح فأخبروا السلطان بذلك فعطف عليه وأفرج عنه.
أما المقريزي في السلوك فقال انه افرج عن الامراء كافة ومن بينهم الامير لاجين.
(1 / 771).
(3) الخدمة هنا بمعنى التحية، وهذا الاستعمال الاصطلاحي " للخدمة " كثير الورود في كتب المؤرخين، وللخدمة في حضرة السلطان صيغ كثيرة: منها الايماء باليد اليمنى إلى الارض، وخفض الرأس نحو الركوع، وتقبيل الارض سجودا...وقد يأتي فعل " خدم " بمعنى أهدى.

خليل بن المنصور، فلبس خلعة سوداء وخطب الناس بالخطبة التي كان خطب بها في الدولة الظاهرية، وكانت من إنشاء الشيخ شرف الدين المقدسي في سنة ستين وستمائة، فيكون بين الخطبتين أزيد من ثلاثين سنة، وذلك بجامع قلعة الجبل، ثم استمر ابن جماعة يخطب بالقلعة عند السلطان، وكان يستنيب في الجامع الازهر.
وأما ابن بنت الاعز فناله من الوزير إخراق ومصادرة وإهانة بالغة، ولم يترك له من مناصبه شيئا، وكان بيده سبعة عشر منصبا، منها القضاء والخطابة ونظر الاحباس (1) ومشيخة الشيوخ، ونظر الخزانة وتداريس كبار، وصادره بنحو من أربعين ألف، غير مراكبه وأشياء كثيرة، ولم يظهر منه استكانة له ولا خضوع، ثم عاد فرضي عنه وولاه تدريس الشافعي، وعملت ختمة عند قبر المنصور في ليلة الاثنين رابع ذي القعدة وحضرها القضاة والامراء، ونزل السلطان ومعه الخليفة إليهم وقت السحر، وخطب الخليفة بعد الختمة خطبة بليغة، حرض الناس على غزو بلاد العراق واستنقاذها من أيدي التتر، وقد كان الخليفة قبل ذلك محتجبا فرآه الناس جهرة، وركب في الاسواق بعد ذلك.
وعمل أهل دمشق ختمة عظيمة بالميدان الاخضر إلى جانب القصر الابلق، فقرئت ختمات كثيرة ثم خطب الناس بعدها الشيخ عز الدين القاروني، ثم ابن البزوري، ثم تكلم من له عادة بالكلام وجاءت البريدية بالتهيؤ لغزو العراق، ونودي في الناس بذلك، وعملت سلاسل عظام بسبب الجسورة على دجلة بغداد، وحصلت الاجور على المقصود وإن لم يقع المقصود، وحصل لبعض الناس أذى بسبب ذلك.
وفيها نادى نائب الشام الشجاعي أن لا تلبس امرأة عمامة كبيرة، وخرب الابنية التي على
نهر بانياس والجداول كلها والمسالح والسقايات التي على الانهار كلها، وأخرب جسر الزلابية وما عليه من الدكاكين، ونادى أن لا يمشي أحد بعد العشاء الآخرة، ثم أطلق لهم هذه فقط، وأخرب الحمام الذي كان بناه الملك السعيد ظاهر باب النصر، ولم يكن بدمشق أحسن منه، ووسع الميدان الاخضر من ناحية الشمال مقدار سدسه، ولم يترك بينه وبين النهر إلا مقدارا يسيرا، وعمل هو بنفسه والامراء بحيطانه.
وفيها حبس جمال الدين آقوش الافرم المنصوري وأميرا آخر معه في القلعة.
وفيها حمل الامير علم الدين الدويداري إلى الديار المصرية مقيدا.
وقد نظم الشيخ شهاب
__________
(1) هو ديوان الاوقاف، وقد أنشئ أول ما أنشئ في عهد الفاطميين وكان يتولى شؤون الاوقاف الخاصة والعامة.
ولا يخدم فيها إلا أعيان كتاب المسلمين من الشهود والمعدلين ومتوليه يختار من بين العلماء المشهورين بالتقوى والصلاح، وكان ناظر هذا الديوان يشرف على رواتب العلماء والفقهاء وارباب الحديث وأئمة المساجد (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى 141).

الدين محمود (1) قصيدة في فتح عكا: الحمد لله زالت (2) دولة الصلب * وعز الترك دين المصطفى العربي هذا الذي كانت الآمال لو طلبت * رؤياه في النوم لاستحيت من الطلب ما بعد عكا وقد هدت قواعدها * في البحر للترك (3) عند البر من أرب لم يبق من بعدها للكفر إذ خربت * في البحر والبر وما ينجي سوى الهرب أم الحروب فكم قد أنشأت فتنا * شاب الوليد بها هولا ولم تشب يا يوم عكا لقد أنسيت ما سبقت * به الفتوح وما قد خط في الكتب لم يبلغ النطق حد الشكر فيك فما * عسى يقوم به ذو الشعر والادب أغضبت عباد عيسى إذ أبدتهم * لله أي رضى في ذلك الغضب (4) وأشرف الهادي المصطفى البشير على * ما أسلف الاشرف السلطان من قرب
فقر عينا لهذا الفتح وابتهجت * ببشره الكعبة الغراء في الحجب وسار في الارض سيرا قد سمعت به (5) * فالبر في طرب، والبحر في حرب وهي طويلة جدا، وله ولغيره في فتح عكا أشعار كثيرة.
ولما رجع البريد أخبر بأن السلطان لما عاد إلى مصر خلع على وزيره ابن السلعوس جميع ملابسه التي كانت عليه، ومركوبه الذي كان تحته، فركبه ورسم له بثمانية وسبعين ألفا من خزانة دمشق، ليشتري له بها قرية قرحتا من بيت المال.
وفي هذه السنة انتهت عمارة قلعة حلب بعد الخراب الذي أصابها من هولاكو وأصحابه عام ثمان وخمسين.
وفيها في شوال شرع في عمارة قلعة دمشق وبناء الدور السلطانية والطارمة (6) والقبة الزرقاء، حسب ما رسم به السلطان الاشرف خليل بن قلاوون لنائبه علم الدين سنجر الشجاعي.
وفيها في رمضان أعيد إلى نيابة القلعة الامير أرجواش وأعطي إقطاعات سنية.
وفيها أرسل الشيخ الرجيحي من ذرية الشيخ يونس مضيقا عليه محصورا إلى القاهرة، وفيها درس عز الدين القاروني بالمدرسة النجيبية عوضا عن كمال الدين بن خلكان، وفي ذلك اليوم درس نجم الدين مكي بالرواحية عوضا عن ناصر الدين بن المقدسي، وفيه درس كمال الدين الطبيب
__________
(1) وهو شهاب الدين محمود بن سلمان الحلبي، أديب كبير عمل بدواوين الانشاء بالشام ومصر نحو خمسين عاما.
مولده بحلب سنة 644 ووفاته بدمشق سنة 725 ه (الدارس 2 / 236 فوات الوفيات ج 4 / ترجمة 508).
(2) في فوات الوفيات 1 / 410: ذلت.
(3) في فوات الوفيات: للشرك.
(4) في تذكرة النبيه 1 / 138: وكم له من رضى في ذلك الغضب.
(5) في الفوات: وسار في الارض سير الريح سمعته..(6) الطارمة: وهي لفظة فارسية الاصل، تعني هنا: بيت من خشب يبنى سقفه على هيئة لجلوس السلطان وجمعها طارمات (محيط المحيط، المقريزي المواعظ والاعتبار 1 / 35).

بالمدرسة الدخوانية الطبية، وفي هذا الشهر درس جلال الدين الخبازي بالخاتونية البرانية (1)،
وجمال الدين بن الناصر بقي بالفتحية، وبرهان الدين الاسكندري بالقوصية التي بالجامع، والشيخ نجم الدين الدمشقي بالشريفية عند حارة الغرباء.
وفيها أعيدت الناصرية إلى الفارقي وفيه درس بالامينية القاضي نجم الدين بن صصرى بعد ابن الزملكاني، وأخذت منه العادلية الصغيرة لكمال الدين بن الزملكاني.
وممن توفي فيها من الاعيان: أرغون بن أبغا ملك التتار كان شهما شجاعا سفاكا للدماء، قتل عمه السلطان أحمد بن هولاكو، فعظم في أعين المغول فلما كان في هذه السنة مات من شراب شربه فيه سهم، فاتهمت المغول اليهود به - وكان وزيره سعد الدولة بن الصفي يهوديا - فقتلوا من اليهود خلقا كثيرا، ونهبوا منهم أموالا عظيمة جدا في جميع مدائن العراق، ثم اختلفوا فيمن يقيمونه بعده، فمالت طائفة إلى كيختو فأجلسوه على سرير المملكة، فبقي مدة، قيل سنة وقيل أقل من ذلك، ثم قتلوه وملكوا بعده بيدرا.
وجاء الخبر بوفاة أرغون إلى الملك الاشرف وهو محاصر عكا ففرح بذلك كثيرا، وكانت مدة ملك أرغون ثمان سنين (2)، وقد وصفه بعض مؤرخي العراق بالعدل والسياسة الجيدة.
المسند المعمر الرحالة فخر الدين بن النجار (3) وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي المعروف بابن النجار (3)، ولد في سلخ أو مستهل سنة ست وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل مع أهله، وكان رجلا صالحا عابدا زاهدا ورعا ناسكا، تفرد بروايات كثيرة لطول عمره، وخرجت له مشيخات وسمع منه الخلق الكثير والجم الغفير، وكان منصوبا لذلك حتى كبر وأسن وضعف عن الحركة، وله شعر حسن، منه قوله: تكررت السنون علي حتى * بليت وصرت من سقط المتاع وقل النفع عندي غير أني * أعلل بالرواية والسماع
__________
(1) وهي بدمشق وقفتها زمرد خاتون أخت الملك دقاق صاحب دمشق، وأم شمس الملوك اسماعيل ومحمود وزوجة
تاج الملوك بوري توفيت سنة 557 ه (الدارس 1 / 502).
(2) في السلوك 1 / 776: نحو سبع سنين.
(مختصر أبي الفداء 4 / 26).
(3) في السلوك وتذكرة النبيه وشذرات الذهب: ابن البخاري.

فإن يك خالصا فله جزاء * وإن يك مالقا فإلى ضياع وله أيضا: إليك اعتذاري من صلاتي قاعدا * وعجزي عن سعي إلى الجمعات وتركي صلاة الفرض في كل مسجد * تجمع فيه الناس للصلوات فيا رب لا تمقت صلاتي ونجني * من النار واصفح لي عن الهفوات توفي ضحى نهار الاربعاء ثاني ربيع الآخر (1) من هذه السنة، عن خمس وتسعين سنة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن عند والده الشيخ شمس الدين أحمد بن عبد الواحد بسفح قاسيون.
الشيخ تاج الدين الفزاري عبد الرحمن (2) بن سباع بن ضياء الدين أبو محمد الفزاري، الامام العلامة العالم، شيخ الشافعية في زمانه، حاز قصب السبق دون أقرانه، وهو والد شيخنا العلامة برهان الدين.
كان مولد الشيخ تاج الدين في سنة ثلاثين (3) وستمائة، وتوفي ضحى الاثنين خامس جمادى الآخرة، بالمدرسة البادرائية وصلي عليه بعد الظهر بالاموي، تقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين بن الخوي، ثم صلي عليه عند جامع جراح الشيخ زين الدين الفارقي، ودفن عند والده بباب الصغير، وكان يوما شديد الزحام.
وقد كان ممن اجتمع فيه فنون كثيرة من العلوم النافعة، والاخلاق اللطيفة، فصاحة المنطق، وحسن التصنيف، وعلو الهمة، وفقه النفس، وكتابه الاقليد الذي جمع على أبواب التنبيه وصل فيه إلى باب الغصب، دليل على فقه نفسه وعلو قدره، وقوة همته ونفوذ نظره، واتصافه بالاجتهاد الصحيح في غالب ما سطره، وقد انتفع به الناس، وهو شيخ أكابر مشايخنا هو ومحيي الدين النووي، وله اختصار الموضوعات لابن الجوزي، وهو
عندي بخطه، وقد سمع الحديث الكثير وحضر عند ابن الزبيدي صحيح البخاري، وسمع من ابن الليثي (4) وابن الصلاح واشتغل عليه، وعلى ابن عبد السلام وانتفع بهما، وخرج له الحافظ علم الدين البرزالي أحد تلاميذه مشيخة في عشرة أجزاء عن مائة شيخ فسمعها عليه الاعيان: وله شعر جيد فمنه: لله أيام جمع الشمل ما برحت * بها الحوادث حتى أصبحت سمرا
__________
(1) في تذكرة النبيه 1 / 144: جمادى الآخرة.
(2) في النجوم الزاهرة 8 / 33 والسلوك وتذكرة النبيه 1 / 143: عبد الرحمن بن ابراهيم بن سباع.
(3) في تذكرة النبيه 1 / 143: مولده سنة 624 ه، قال ومات وله ست وستون سنة - وانظر السلوك 1 / 776.
(4) في شذرات الذهب 5 / 413: ابن اللتي.

ومبتدا الحزن من تاريخ مسألتي * عنكم، فلم ألق لا عينا ولا أثرا يا راحلين قدرتم فالنجاة لكم * ونحن للعجز لا نستعجز القدرا وقد ولي الدرس بعده بالبادرائية والحلقة والفتيا بالجامع ولده شيخنا برهان الدين، فمشى على طريقة والده وهديه وسمته رحمه الله.
وفي ثالث شعبان توفي: الطبيب الماهر عز الدين إبراهيم بن محمد بن طرخان السويدي الانصاري، ودفن بالسفح عن تسعين سنة، وروى شيئا من الحديث، وفاق أهل زمانه في صناعة الطب، وصنف كتبا في ذلك (1)، وكان يرمى بقلة الدين وترك الصلوات وانحلال في العقيدة، وإنكار أمور كثيرة مما يتعلق باليوم الآخر، والله يحكم فيه وفي أمثاله بأمره العدل الذي لا يجوز ولا يظلم.
وفي شعره ما يدل على قلة عقله ودينه وعدم إيمانه، واعتراضه على تحريم الخمر، وأنه قد طال رمضان عليه في تركها وغير ذلك.
الشيخ الامام العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن الامام العلامة كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم بن
خلف الانصاري الزملكاني، وقد درس بعد أبيه المذكور بالامينية، وكانت وفاة والده هذا ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الآخر بالامينية، ودفن بمقابر الصوفية عند والده الامير الكبير بدر الدين علي بن عبد الله الناصري، ناظر الرباط بالصالحية، عن وصية أستاذه، وهو الذي ولى الشيخ شرف الفزاري مشيخة الرباط بعد ابن الشريشي جمال الدين، وقد دفن بالتربة الكبيرة داخل الرباط المذكور.
الشيخ الامام أبو حفص عمر بن يحيى بن عمر الكرخي صهر الشيخ تقي الدين بن الصلاح، وأحد تلاميذه، ولد سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ومات يوم الاربعاء ثاني ربيع الآخر من هذا السنة، ودفن إلى جانب ابن الصلاح.
الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر الذي كان قد بويع بالملك بعد أخيه الملك السعيد، وجعل الملك المنصور قلاوون أتابكه،
__________
(1) من مؤلفاته: الباهر في الجواهر، تذكرة الاطباء المعروفة بتذكرة السويدي.
(حاجي خليفة: كشف الظنون 1 / 219، 386).

ثم استقل قلاوون بالملك، وأرسلهم إلى الكرك ثم أعادهم إلى القاهرة ثم سفرهم الاشرف خليل في أول دولته إلى بلاد الاشكري من ناحية اصطنبول، فمات سلامش هناك وبقي أخوه نجم الدين خضر وأهلوهم بتلك الناحية، وقد كان سلامش من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا، وقد افتتن به خلق كثير، واللوطية الذين يحبون المردان، وشبب به الشعراء وكان عاقلا رئيسا مهيبا وقورا.
العفيف التلمساني أبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن علي بن يس العابدي الكومي ثم التلمساني الشاعر المتقن المتفنن في علوم منها النحو والادب والفقه والاصول، وله في ذلك مصنفات، وله شرح مواقف النفر وشرح أسماء الله الحسنى، وله ديوان مشهور، ولولده محمد ديوان آخر، وقد نسب
هذا الرجل إلى عظائم في الاقوال والاعتقاد في الحلول والاتحاد والزندقة والكفر المحض، وشهرته تغني عن الاطناب في ترجمته، توفي يوم الاربعاء خامس رجب ودفن بالصوفية، ويذكر عنه أنه عمل أربعين خلوة كل خلوة أربعين يوما متتابعة فالله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وستمائة فيها فتحت قلعة الروم.
وسلطان البلاد من دنقلة إلى مصر إلى أقصى بلاد الشام بكماله وسواحله بلاد حلب وغير ذلك الملك الاشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور قلاوون، ووزيره شمس الدين بن السلعوس، وقضاته بالشام ومصرهم المذكور ون في التي قبلها، ونائب مصر بدر الدين بيدرا ونائب الشام علم الدين سنجر الشجاعي، وسلطان التتر بيدار بن أرغون ابن أبغا، [ وفي رابع صفر وقع حريق في بعض ] (1) الخزائن [ بقلعة الجبل ] (2) أتلف شيئا كثيرا من الذخائر والنفائس والكتب.
وفي التاسع والعشرين من ربيع الاول خطب الخليفة الحاكم وحث في خطبته على الجهاد والنفير، وصلى بهم الجمعة وجهر بالبسملة.
وفي ليلة السبت ثالث عشر صفر جئ بهذا الجرز الاحمر الذي بباب البرادة من عكا، فوضع في مكانه.
وفي ربيع الاول كمل بناء الطارمة وما عندها من الدور والقبة الزرقاء، وجاءت في غاية الحسن والكمال والارتفاع.
وفي يوم الاثنين ثاني جمادى الاولى ذكر الدرس بالظاهرية الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الارموي، عوضا عن علاء الدين ابن بنت الاعز، وفي هذا اليوم درس بالدولعية كمال الدين بن
__________
(1) كذا بالاصل والمعنى مختل، وما بين معكوفين زيادة استدركت من السلوك 1 / 777 لمقتضى السياق.
(2) من السلوك 1 / 777.

الزكي.
وفي يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة درس بالنجيبية الشيخ ضياء الدين عبد العزيز الطوسي، بمقتضى نزول الفارقي له عنها.
والله أعلم بالصواب.
فتح قلعة الروم وفي ربيع الاول منها توجه السلطان الاشرف بالعساكر نحو الشام فقدم دمشق ومعه وزيره
ابن السلعوس فاستعرض الجيوش وأنفق فيهم أموالا جزيلة، ثم سار بهم نحو بلاد حلب، ثم سار إلى قلعة الروم فافتتحها بالسيف قهرا في يوم السبت حادي عشر رجب، وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق، وزينت البلد سبعة أيام وبارك الله لجيش المسلمين في سعيهم، وكان يوم السبت إلبا على أهل يوم الاحد، وكان الفتح بعد حصار عظيم جدا، مدة ثلاثين يوما (1)، وكانت المنجنيقات تزيد على ثلاثين منجنيقا (2)، واستشهد من الامراء شرف الدين بن الخطير، وقد قتل من أهل البلد خلق كثير وغنم المسلمون منها شيئا كثيرا، ثم عاد السلطان إلى دمشق وترك الشجاعي بقلعة الروم يعمرون ما وهى من قلعتها بسبب رمي المنجنيقات عليها وقت الحصار، وكان دخوله إلى دمشق بكرة يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان، فاحتفل الناس لدخوله ودعوا له وأحبوه، وكان يوما مشهودا بسط له كما يبسط له إذا قدم من الديار المصرية، وإنما كان ذلك بإشارة ابن السلعوس، فهو أول من بسط له، وقد كسر أبوه التتر على حمص ولم يبسط له، وكذلك الملك الظاهر كسر التتر والروم على البلستين، وفي غير موطن ولم يبسط له، وهذه بدعة شنعاء قد أحدثها هذا الوزير للملوك، وفيها إسراف وضياع مال وأشر وبطر ورياء وتكليف للناس، وأخذ أموال ووضعها في غير مواضعها، والله سبحانه سائله عنها، وقد ذهب وتركها يتوارثها الملوك والناس عنه، وقد حصل للناس بسبب ذلك ظلم عظيم، فليتق العبد ربه ولا يحدث في الاسلام بسبب هواه ومراد نفسه ما يكون سبب مقت الله له، وإعراضه عنه، فإن الدنيا لا تدوم لاحد، ولا يدوم أحد فيها والله سبحانه أعلم.
وكان ملك قلعة الروم مع السلطان أسيرا، وكذلك رؤس أصحابه، فدخل بهم دمشق وهم يحملون رؤوس أصحابهم على رؤوس الرماح، وجهز السلطان طائفة من الجيش نحو جبل كسروان والجزر بسبب ممالاتهم للفرنج قديما على المسلمين، وكان مقدم العساكر بيدرا (3) وفي صحبته سنقر الاشقر، وقراسنقر المنصوري الذي كان نائب حلب فعزله عنه السلطان وولى مكانه
__________
(1) في السلوك 1 / 778: ثلاثة وثلاثين يوما.
(2) في السلوك 1 / 778: عشرين منجنيقا.
وبهامش الصفحة حاشية 2: " عين النويري (نهاية الارب ج
29 / 300 أ) أنواع المجانيق فقال: " خمسة منها فرنجية، وخمسة عشر قوابغا وشيطانية ".
(3) في الاصل بندار تصحيف، وهو الامير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بديار مصر.
وصحح اسمه في الخبر اينما ورد.

سيف الدين بلبان البطاحي (1) المنصوري، وجماعة آخرون من الامراء الكبار، فلما أحاطوا بالجبل ولم يبق إلا دمار أهليه حملوا في الليل إلى بيدرا حملا كثيرا ففتر في قضيتهم، ثم انصرف بالجيوش عنهم وعادوا إلى السلطان، فتلقاهم السلطان وترجل السلطان إلى الامير بيدرا وهو نائبه على مصر، ثم ابن السلعوس نبه السلطان على فعل بيدرا فلامه وعنفه، فمرض من ذلك مرضا شديدا أشفى به على الموت حتى قيل إنه مات، ثم عوفي فعمل ختمة عظيمة بجامع دمشق حضرها القضاة والاعيان، وأشغل الجامع نظير ليلة النصف من شعبان، وكان ذلك ليلة العشر الاول من رمضان، وأطلق السلطان أهل الحبوس وترك بقية الضمان عن أرباب الجهات السلطانية، وتصدق عنه بشئ كثير، ونزل هو عن ضمانات كثيرة كان قد حاف فيها على أربابها، وقد امتدح الشهاب محمود (2) الملك الاشرف خليل على فتحه قلعة الروم بقصيدة هائلة فاضلة أولها: لك الراية الصفراء يقدمها النصر * فمن كيقباد إن رآها وكيخسرو إذا خفقت في الافق هدت بنورها * هوى الشرك واستعلى الهدى وانجلى الثغر وإن نشرت مثل الاصائيل في الوغى * جلى النقع من لالاء طلعتها البدر وإن يممت زرق العدى سار تحتها * كتائب خضر دوحها البيض والسمر كأن مثار النقع ليل وخفقها * بروق وأنت البدر والفلك الحتر (4) وفتح أتى في إثر فتح كأنما * سماء بدت تترى كواكبها الزهر فكم فطنت طوعا وكرها معاقلا * مضى الدهر عنها وهي عانسة بكر بذلت لها عزما فلولا مهابة * كساها الحيا جاءتك تسعى ولا مهر قصدت حمى من قلعة الروم لم يتح * لغيرك إذ غرتهم المغل فاغتروا
ووالوهم سرا ليخفوا أذاهم * وفي آخر الامر استوى السر والجهر صرفت إليهم همة لو صرفتها * إلى البحر لاستولى على مده الجزر وما قلعة الروم التي حزت فتحها * وإن عظمت إلا إلى غيرها جسر طليعة ما يأتي من الفتح بعدها * كما لاح قبل الشمس في الافق الفجر فصبحتها بالجيش كالروض بهجة * صوارمه أنهاره والقنا الزهر وأبعدت بل كالبحر والبيض موجه * وجرد المزاكي السفن والخود الذر وأغربت بل كالليل عوج سيوفه * أهلته والنبل أنجمه الزهر
__________
(1) في السلوك 1 / 778 ومختصر أبي الفداء 4 / 27: الطباخي وكان الطباخي نائبا الفتوحات وكان مقامه بحصن الاكراد.
(2) وهو شهاب الدين محمود بن سلمان الحلبي.
وقد تقدمت الاشارة إليه.
(3) في فوات الوفيات 1 / 414: هدب بنودها.
(4) في الفوات: البحر.

ولحظات لا بل كالنهار شموسه * محياك (1) والآصال راياتك الصفر ليوث من الاتراك آجامها القنا * لها كل يوم في ذرى ظفر ظفر فلا الريح يجري بينهم لاشتباكها * عليهم ولا ينهل من فوقهم قطر عيون إذا الحرب العوان تعرضت * لخطابها بالنفس لم يغلها مهر ترى الموت معقودا بهدب نبالهم * إذا ما رماها القوس والنظر الشزر ففي كل سرح غصن بان مهفهف * وفي كل قوس مده ساعد بدر إذا صدموا شم الجبال تزلزلت * وأصبح سهلا تحت خيلهم الوعر ولو وردت ماء الفرات خيولهم * لقيل هنا قد كان فيما مضى نهر أداروا بها سورا فأضحت كخاتم * لدى خنصر أو تحت منطقه خصر
وأرخوا إليها من أكف بحارهم (2) * سحاب ردى لم يخل من قطره قطر كأن المجانيق التي قمن حولها * رواعد سخط وبلها النار والصخر أقامت صلاة الحرب ليلا صخورها * فأكثرها شفع وأكبرها وتر ودارت بها تلك النقوب فأسرفت * وليس عليها في الذي فعلت حجر فأضحت بها كالصب يخفى غرامه * حذار أعاديه وفي قلبه جمر وشبت بها النيران حتى تمزقت * وباحت بما أخفته وانهتك الستر فلاذوا بذيل العفو منك فلم تجب * رجاءهم لو لم يشب قصدهم مكر وما كره المغل اشتغالك عنهم * بها عند ما فروا ولكنهم سروا فأحرزتها بالسيف قهرا وهكذا * فتوحك فيما قد مضى كله قسر وأضحت بحمد الله ثغرا ممنعا * تبيد الليالي.
العدى وهو مفتر فيا أشرف الاملاك فزت بغزوة * تحصل منها الفتح والذكر والاجر ليهنيك عند المصطفى أن دينه * توالى له في يمن دولتك النصر وبشراك أرضيت المسيح وأحمدا * وإن غضب اليعفور من ذاك والكفر فسر حيث ما تختار فالارض كلها * تطيعك والامصار أجمعها مصر ودم وابق للدنيا ليحيى بك الهدى * ويزهى على ماضي العصور بك العصر حذفت منها أشياء كثيرة.
وفيها تولى خطابة دمشق الشيخ عز الدين أحمد الفاروثي الواسطي بعد وفاة زين الدين بن المرحل وخطب واستسقى بالناس فلم يسقوا، ثم خطب مرة ثانية بعد ذلك بأيام عند مسجد القدم،
__________
(1) في الفوات: وأخطأت...جيوشك.
(2) في الفوات: وأجروا إليها من بحار أكفهم.

فلم يسقوا ثم ابتهل الناس من غير دعاية واستسقاية فسقوا، ثم عزل الفاروثي بعد أيام بالخطيب
موفق الدين أبي المعالي محمد بن محمد بن محمد بن عبد المنعم بن حسن المهراني الحموي، كان خطيب حماه ثم نقل إلى دمشق في هذه السنة، فقام وخطب وتألم الفاروثي لذلك ودخل على السلطان واعتقد أن الوزير عزله من غير علمه، فإذا هو قد شعر لذلك واعتذر بأنه إنما عزله لضعفه، فذكر له أنه يصلي ليلة النصف مائة ركعة بمائة قل هو الله أحد، فلم يقبلوا واستمروا بالحموي.
وهذه دناءة وقلة عقل وعدم إخلاص من الفاروثي، وأصاب السلطان في عزله.
وفي هذا اليوم قبض السلطان على الامير سنقر الاشقر وغيره فهرب هو والامير حسام الدين لاجين السلحداري، فنادت عليه المنادية بدمشق من أحضره فله ألف دينار، ومن أخفاه شنق، وركب السلطان ومماليكه في طلبه، وصلى الخطيب بالناس في الميدان الاخضر، وعلى الناس كآبة بسبب تفرق الكلمة، واضطراب الجيش، واختبط الناس، فلما كان سادس شوال أمسكت العرب سنقر الاشقر فردوه على السلطان فأرسله مقيدا إلى مصر.
وفي هذا اليوم ولى السلطان نيابة دمشق لعز الدين أيبك الحموي، عوضا عن الشجاعي، وقدم الشجاعي من الروم ثاني يوم عزله فتلقاه الفاروثي فقال: قد عزلنا من الخطابة، فقال ونحن من النيابة، فقال الفاروثي (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون) فلما بلغ ابن السلعوس تغضب عليه وكان قد عين له القيمرية فترك ذلك، وسافر السلطان عاشر شوال إلى مصر فدخلها في أبهة الملك، وفي يوم دخوله أقطع قراسنقر مائة فارس بمصر عوضا عن نيابة حلب، وفي هذه السنة اشترى الامير سيف الدين طغاي الاشقري قيسارية القطن المعروفة بإنشاء الملك المعظم بن العادل من بيت المال، بمرسوم من السلطان، وكان حظيا عنده، ونقل سوق الحريريين تلك المدة إليها، وكان السلطان قد أفرج عن علم الدين الدويداري بعد رجوعه من قلعة الروم واستحضره إلى دمشق وخلع عليه واستصحبه معه إلى القاهرة، وأقطعه مائة فارس، وولاه مشد الدواوين مكرها.
وفي ذي القعدة استحضر السلطان سنقر الاشقر وطقصوا (1) فعاقبهما فاعترفا بأنهما أرادا قتله، فسألهما عن لاجين فقالا: لم يكن معنا ولا علم له بهذا، فخنقهما وأطلقه بعد ما جعل الوتر في حلقه، وكان قد بقي له مدة لا بد أن يبلغها، وقد ملك بعد ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي ذي الحجة عقد الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين عقده على بنت قاضي القضاة شهاب الدين الخويي بالبادرائية، وكان حافلا.
وفيها دخل الامير سنقر الاعسر على بنت الوزير شمس الدين بن السلعوس على صداق ألف دينار، وعجل لها خمسمائة، وفيها قفز جماعة من التتر نحوا من ثلثمائة إلى الديار المصرية فأكرموا.
__________
(1) وهو الامير ركن الدين بيبرس طقصوا حمو لاجين.

وممن توفي فيها من الاعيان: الخطيب زين الدين أبو حفص عمر بن مكي بن عبد الصمد الشافعي المعروف بابن المرحل، وهو والد الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، سمع الحديث وبرع في الفقه وفي علوم شتى، منها علم الهيئة وله فيه مصنف، تولى خطابة [ الجامع الاموي ب ] (1) دمشق ودرس وأفتى، توفي ليلة السبت الثالث والعشرين من ربيع الاول، وصلي عليه من الغد بباب الخطابة.
الشيخ عز الدين الفاروثي ولي الخطابة قليلا ثم عزل ثم مات ودفن بباب الصغير عفا الله عنا وعنه.
الصاحب فتح الدين أبو عبد الله محمد بن محيي الدين بن عبد الله بن عبد الظاهر، كاتب الاسرار في الدولة المنصورية بعد ابن لقمان وكان ماهرا في هذه الصناعة، وحظي عند المنصور وكذا عند ابنه الاشرف، وقد طلب منه ابن سلعوس أن يقرأ عليه كل ما يكتبه، فقال: هذا لا يمكن فإن أسرار الملوك لا يطلع عليها غيرهم، وأبصروا لكم غيري يكون معكم بهذه المثابة، فلما بلغ ذلك الاشرف أعجبه منه وازدادت عنده منزلته، توفي يوم السبت نصف رمضان، وأخرجت في تركته قصيدة قد رثا بها تاج الدين بن الاثير (2) وكان قد شوش فاعتقد أنه يموت فعوفي فبقيت بعده، وتولى ابن الاثير بعده ورثاه تاج الدين كما رثاه وتوفي ابن الاثير بعده بشهر وأربعة أيام.
يونس بن علي بن رضوان بن برقش الامير عماد الدين، كان أحد الامراء بطبلخانة في الدولة الناصرية، ثم حمل وبطل الجندية بالكلية في الدولة المظفرية وهلم جرا إلى هذه السنة، وكان الظاهر يكرمه، توفي في شوال ودفن عند والده بتربة الخزيميين رحمهم الله.
جلال الدين الخبازي عمر بن محمد بن عمر أبو محمد الخجندي أحد مشايخ الحنفية الكبار، أصله من بلاد ما
__________
(1) ما بين معكوفتين زيادة من تذكرة النبيه 1 / 155.
(2) وهو أحمد بن سعيد بن محمد بن سعيد بن الاثير الحلبي توفي بغزة وهو عائد إلى الديار المصرية.

وراء النهر من بلد يقال لها خجندة، واشتغل ودرس بخوارزم، وأعاد ببغداد، ثم قدم دمشق فدرس بالعزية والخاتونية البرانية، وكان فاضلا بارعا منصفا مصنفا في فنون كثيرة، توفي لخمس بقين من ذي الحجة منها، وله ثنتان وستون سنة، ودفن بالصوفية.
الملك المظفر قرا أرسلان الافريقي، صاحب ماردين (1)، توفي وله ثمانون سنة وقام بعده ولده شمس الدين داود ولقب بالملك السعيد والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وستمائة في تاريخ ظهير الدين الكازروني ظهرت نار بأرض المدينة النبوية في هذه السنة نظير ما كان في سنة أربع وخمسين على صفتها، إلا أن هذه النار كان يعلو لهيبها كثيرا، وكانت تحرق الصخر ولا تحرق السعف، واستمرت ثلاثة أيام.
استهلت هذه السنة والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد الملك الاشرف بن المنصور ونائبه بمصر بدر الدين بيدرا، وبالشام عز الدين أيبك الحموي، وقضاة مصر والشام هم الذين كانوا في التي قبلها، والوزير شمس الدين بن السلعوس.
وفي جمادى الآخرة قدم الاشرف دمشق فنزل في
القصر الابلق والميدان الاخضر، وجهز الجيوش وتهيأ لغزو بلاد سيس، وقدم في غضون ذلك رسل صاحب بلاد سيس يطلبون الصلح، فشفع الامراء فيهم فسلموا بهسنا (2) وتل حمدون (3).
ومرعش (4)، وهي أكبر بلادهم وأحسنها وأحصنها، وهي في فم الدربند، ثم ركب السلطان في ثاني رجب نحو سلمية بأكثر الجيش صورة أنه يريد أن يصيب الامير حسام الدين لاجين، فأضافه الامير مهنا بن عيسى، فلما انقضت الضيافة أمسك له حسام الدين لاجين، وكان عنده، فجاء به فسجنه في قلعة دمشق وأمسك مهنا بن عيسى وولى مكانه محمد بن علي بن حديثة (5) ثم أرسل السلطان جمهور الجيش بين يديه إلى الديار المصرية صحبة نائبه بيدرا، ووزيره ابن السلعوس، وتأخر هو في خاصكيته ثم لحقهم.
__________
(1) ماردين: قلعة مشهورة بجبل الجزيرة مشرفة على دنيسر ونصيبين (معجم البلدان).
(2) بهسنا: من حصون الشام الشمالية، شمال غرب عينتاب (تقويم البلدان لابي الفداء: ص 264).
(3) تل حمدون: قلعة من بلاد الارمن (أبو الفداء، تقويم البلدان ص 250).
(4) مرعش: من حصون الشام الشمالية بينها وبين انطاكية 78 ميلا (أبو الفداء: تقويم البلدان ص 262).
(5) في الاصل حذيفة، والتصحيح من تذكرة النبيه 1 / 160 والقلقشندي صبح الاعشى 4 / 206 السلوك 1 / 784.

وفي المحرم منها حكم القاضي حسام الدين الرازي الحنفي بالتشريك بين العلويين والجعفريين في الدباغة التي كانوا يتنازعونها من مدة مائتي سنة، وكان ذلك يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرم، بدار العدل، ولم يوافقه ابن الخويي ولا غيره، وحكم للاعناكيين بصحة نسبهم إلى جعفر الطيار.
وفيها رسم الاشرف بتخريب قلعة الشوبك فهدمت (1)، وكانت من أحصن القلاع وأمنعها وأنفعها، وإنما خربها عن رأي عتبة العقبى، ولم ينصح للسلطان فيها ولا للمسلمين، لانها كانت شجى في حلوق الاعراب الذين هناك.
وفيها أرسل السلطان الامير علم الدين الدويداري إلى صاحب القسطنطينية وإلى أولاد بركة ومع الرسول تحفا كثيرة جدا، فلم
يتفق خروجه حتى قتل السلطان فعاد إلى دمشق.
وفي عاشر جماد الاولى درس القاضي إمام الدين القزويني بالطاهرية البرانية.
وحضر عنده القضاة والاعيان.
وفي الثاني والعشرين من ذي الحجة يوم الاثنين طهر الملك الاشرف أخاه الملك الناصر محمد وابن أخيه الملك المعظم مظفر الدين موسى بن الصالح علي بن المنصور، وعمل مهم عظيم ولعب الاشرف بالقبق وتمت لهم فرحة هائلة، كانت كالوداع لسلطنته من الدنيا.
وفي أول المحرم درس الشيخ شمس الدين بن غانم بالعصرونية، وفي مستهل صفر درس الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بالرواحية عوضا عن نجم الدين بن مكي بحكم انتقاله إلى حلب وإعراضه عن المدرسة المذكورة، ودخل الركب الشامي في آخر صفر، وكان ممن حج في هذه السنة الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وكان أميرهم الباسطي ونالهم في معان ريح شديدة جدا مات بسببها جماعة، وحملت الريح جمالا عن أماكنها، وطارت العمائم عن الرؤوس، واشتغل كل أحد بنفسه.
وفي صفر منها وقع بدمشق برد عظيم أفسد شيئا كثيرا من المغلات بحيث بيع القمح كل عشرة أواق بدرهم، ومات شئ كثير من الدواب، وفيه زلزلت ناحية الكرك وسقط من تلفيتا أماكن كثيرة.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الارموي (2) الشيخ الصالح القدوة العارف أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ الصالح أبي محمد عبد الله يوسف (3) بن يونس بن إبراهيم بن سلمان الارموي، المقيم بزاويته بسفح قاسيون، كان فيه عبادة
__________
(1) في السلوك 1 / 785: ولم يبق منها إلا قلتها فقط (والقلة: هنا البرج).
(2) الارموي: قال ابن الفرات في تاريخه 8 / 159 يعرف بالارمني أو الارموي نسبة إلى أرمينيا، والارجح أنه ينسب إلى أرمية وهي مدينة عظيمة قديمة بأذربيجان (معجم البلدان).
(3) في الاصل: عبد الله بن يوسف، وفي السلوك 1 / 787 وتذكرة النبيه 1 / 163: هو ابراهيم بن يوسف المدعو عبد الله بن يونس.
مات وله سبع وسبعون سنة.

وانقطاع وله أوراد وأذكار، وكان محببا إلى الناس، توفي بالمحرم ودفن عند والده بالسفح.
ابن الاعمى صاحب المقامة الشيخ ظهير الدين محمد (1) بن المبارك بن سالم بن أبي الغنائم الدمشقي المعروف بابن الاعمى، ولد سنة عشر وستمائة، وسمع الحديث وكان فاضلا بارعا، له قصائد يمتدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سماها الشفعية، عدد كل قصيدة اثنان وعشرون بيتا.
قال البرزالي: سمعته وله المقامة البحرية المشهورة، توفي في المحرم ودفن بالصوفية.
الملك الزاهد مجير الدين أبو سليمان داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص ابن ناصر الدين محمد ابن الملك المعظم، توفي ببستانه عن ثمانين سنة، وصلي عليه بالجامع المظفري، ودفن بتربته بالسفح، وكان دينا كثير الصلاة في الجامع، وله إجازة من المؤيد الطوسي وزينب الشعرية وأبي روح وغيرهم.
توفي في جمادي الآخرة.
الشيخ تقي الدين الواسطي أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي ثم الدمشقي الحنبلي، شيخ الحديث بالظاهرية بدمشق، توفي يوم الجمعة آخر النهار رابع عشرين جمادى الآخرة عن تسعين سنة، وكان رجلا صالحا عابدا، تفرد بعلو الرواية، ولم يخلف بعده مثله، وقد تفقه ببغداد ثم رحل إلى الشام ودرس بالصالحية مدة عشرين سنة، وبمدرسة أبي عمر، وولي في آخر عمره مشيخة الحديث بالظاهرية بعد سفر الفاروثي، وكان داعية إلى مذهب السلف والصدر الاول، وكان يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان من خيار عباد الله تعالى رحمه الله.
وقد درس بعده بالصالحية الشيخ شمس الدين محمد بن عبد القوي المرداوي، وبدار الحديث الظاهرية شرف الدين عمر بن خواجا إمام الجامع المعروف بالناصح.
ابن صاحب حماه الملك الافضل
نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، توفي بدمشق وصلي عليه بجامعها، وخرج به من باب
__________
(1) في السلوك 1 / 788 ذكره: علي بن علي بن محمد..وفي تذكرة النبيه 1 / 165: علي بن محمد.

الفراديس محمولا إلى مدينة أبيه وتربتهم بها، وهو والد الاميرين الكبيرين بدر الدين حسن وعماد الدين إسماعيل الذي تملك حماة بعد مدة (1).
ابن عبد الظاهر محيي الدين عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر بن علي بن نجدة السعدي، كاتب الانشاء بالديار المصرية، وآخر من برز في هذا الفن على أهل زمانه، وسبق سائر أقرانه، وهو والد الصاحب فتح الدين النديم، وقد تقدم ذكر وفاته قبل والده، وقد كانت له مصنفات منها سيرة الملك الظاهر، وكان ذا مروءة، وله النظم الفائق والنثر الرائق.
توفي يوم الثلاثاء رابع رجب وقد جاوز السبعين، ودفن بتربته التي أنشأها بالقرافة.
الامير علم الدين سنجر الحلبي الذي كان نائب قطز على دمشق فلما جاءته بيعة الظاهر دعا لنفسه فبويع وتسمى بالملك المجاهد ثم حوصر وهرب إلى بعلبك فحوصر فأجاب إلى خدمة الظاهر فسجنه مدة وأطلقه وسجنه المنصور مدة وأطلقه الاشرف، واحترمه وأكرمه، بلغ الثمانين سنة، وتوفي في هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة في أولها كان مقتل الاشرف، وذلك أنه خرج إلى الصيد في ثالث المحرم، فلما كان بأرض تروجة (2) بالقرب من الاسكندرية ثاني عشر (3) المحرم، حمل عليه جماعة من الامراء الذين اتفقوا على قتله حين انفرد عن جمهور الجيش، فأول من صوبه نائبه بيدرا، وتمم عليه لاجين المنصوري، ثم اختفى إلى رمضان، ثم ظهر يوم العيد، وكان ممن اشترك في قتل الاشرف بدر الدين بيسرى وشمس الدين قراسنقر المنصوري، فلما قتل الاشرف اتفق الامراء على تمليك
بيدرا، وسموه الملك القاهر أو الاوحد، فلم يتم له ذلك، فقتل في اليوم الثاني بأمركتبغا، ثم اتفق زين الدين كتبغا، وعلم الدين سنجر الشجاعي على أن يملكوا أخاه محمد الملك الناصر بن
__________
(1) قال أبو الفداء في مختصره 4 / 29 - وهو ولده عماد الدين إسماعيل - مولده في آخر سنة 635 ه وتوفي بدمشق في أوائل ذي الحجة.
قال: وكان سبب مسيره من حلب إلى دمشق في طريقه إلى مصر بدعوة من السلطان لمرافقته في الصيد بديار مصر.
فمرض في أثناء الطريق ووصل إلى دمشق وقد اشتد به المرض حتى توفي بها.
(2) من السلوك 1 / 188 وتذكرة النبيه 1 / 167 ومختصر أبي الفداء 4 / 29 وفي الاصل: بروجه (3) في السلوك 1 / 789: الحادي عشر.
وفي بدائع ابن إياس 1 / 1 / 373: يوم السبت الخامس عشر من المحرم.

قلاوون، وكان عمره إذ ذاك ثمان سنين وشهورا (1)، فأجلسوه على سرير المملكة يوم الرابع عشر (2) من المحرم، وكان الوزير ابن السلعوس بالاسكندرية، وكان قد خرج في صحبة السلطان وتقدم هو إلى الاسكندرية فلم يشعر إلا وقد أحاط به البلاء، وجاءه العذاب من كل ناحية، وذلك أنه كان يعامل الامراء الكبار معاملة الصغار، فأخذوه وتولى عقوبته من بينهم الشجاعي فضرب ضربا عظيما، وقرر على الاموال ولم يزالوا يعاقبونه حتى كانت وفاته في عاشر صفر بعد أن احتيط على حواصله كلها.
وأحضر جسد الاشرف فدفن بتربته، وتألم الناس لفقده وأعظموا قتله، وقد كان شهما شجاعا عالي الهمة حسن المنظر، كان قد عزم على غزو العراق واسترجاع تلك البلاد من أيدي التتار، واستعد لذلك ونادى به في بلاده، وقد فتح في مدة ملكه - وكانت ثلاث سنين (4) - عكا وسائر السواحل، ولم يترك للفرنج فيها معلما ولا حجرا، وفتح قلعة الروم وبهسنا وغيرها.
فلما جاءت بيعة الناصر إلى دمشق خطب له بها على المنابر، واستقر الحال على ذلك، وجعل الامير كتبغا أتابكه، والشجاعي مشاورا كبيرا، ثم قتل بعد أيام بقلعة الجبل، وحمل رأسه إلى كتبغا فأمر أن يطاف به في البلد، ففرح الناس بذلك وأعطوا الذين حملوا رأسه مالا، ولم يبق
لكتبغا منازع، ومع هذا كان يشاور الامراء تطييبا لقلوبهم.
وفي صفر بعد موت ابن السلعوس عزل بدر الدين بن جماعة عن القضاء وأعيد تقي الدين ابن بنت الاعز واستمر ابن جماعة مدرسا بمصر في كفاية ورياسة، وتولى الوزارة بمصر الصاحب تاج الدين بن الحنا، وفي ظهر يوم الاربعاء الحادي والعشرين من صفر رتب إمام بمحراب الصحابة، وهو كمال الدين عبد الرحمن بن القاضي محيي الدين بن الزكي، وصلى بعدئذ بعد الخطيب، ورتب بالمكتب الذي بباب الناطفانيين إمام أيضا، وهو ضياء الدين بن برهان الدين الاسكندري، وباشر نظر الجامع الشريف زين الدين حسين ين محمد بن عدنان، وعاد سوق الحريريين إلى سوقه، وأخلوا قيسارية القطن الذي كان نواب طغجي ألزموهم بسكناها، وولي خطابة دمشق الشيخ العلامة شرف الدين أحمد بن جمال الدين أحمد بن نعمة بن أحمد المقدسي، بعد عزل موفق الدين الحموي دعوه إلى حماة فخطب المقدسي يوم الجمعة نصف رجب، وقرئ تقليده وكانت ولايته بإشارة تاج الدين بن الحنا الوزير بمصر، وكان فصيحا بليغا عالما بارعا.
__________
(1) في السلوك 1 / 794: تسع سنين سوا، وفي بدائع الزهور 1 / 1 / 378: نحو تسع سنين.
(2) في بدائع الزهور 1 / 1 / 378: يوم الخميس ثامن عشر المحرم.
وفي السلوك 1 / 1 / 794: يوم السبت سادس عشر المحرم.
(3) في بدائع الزهور 1 / 1 / 379: خامس عشر صفر.
(4) في السلوك 1 / 790: ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام وفي بدائع الزهور.
وفي تذكرة النبيه 1 / 167: ثلاث سنين وشهرين.

وفي أواخر رجب حلف الامراء للامير زين الدين كتبغامع الملك الناصر محمد بن قلاوون وسارت البيعة بذلك في سائر المدن والمعامل.
واقعة عساف النصراني كان هذا الرجل من أهل السويداء قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استجار
عساف هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الامير عز الدين أيبك الحموي نائب السلطنة فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليحضره فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس عسافا حين قدم ومعه رجل من العرب فسبوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم - يعني النصراني - فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسافا ووقعت خبطة قوية فأرسل النائب فطلب الشيخين ابن تيمية والفارقي فضربهما بين يديه، ورسم عليهما في العذراوية وقدم النصراني فأسلم وعقد مجلس بسببه، وأثبت بينه وبين الشهود عداوة، فحقن دمه، ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله ابن أخيه هنالك، وصنف الشيخ تقي الدين بن تيمية في هذه الواقعة كتابه الصارم المسلول على ساب الرسول.
وفي شعبان (1) منها ركب الملك الناصر في أبهة الملك وشق القاهرة، وكان يوما مشهودا، وكان هذا أول ركوبه، ودقت البشائر بالشام وجاء المرسوم من جهته، فقرئ على المنبر بالجامع فيه الامر بنشر العدل وطي الظلم، وإبطال ضمان الاوقاف والاملاك إلا برضى أصحابها.
وفي اليوم الثاني والعشرين من شعبان درس بالمسرورية القاضي جمال الدين القزويني، أخو إمام الدين، وحضر أخوه وقاضي القضاة شهاب الدين الخويي، والشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان درسا حافلا.
قال البرزالي: وفي شعبان اشتهر أن في الغيطة بجسرين تنينا عظيما ابتلع رأسا من المعز كبيرا صحيصا.
وفي أواخر رمضان (2) ظهر الامير حسام الدين لاجين، وكان مختفيا منذ قتل الاشرف فاعتذر له عند السلطان فقبله وخلع عليه وأكرمه، ولم يكن قتله باختياره.
وفي شوال منها اشتهر أن مهنا بن عيس خرج عن طاعة السلطان الناصر، وانحاز إلى التتر.
وفي يوم الاربعاء ثامن ذي القعدة درس بالغزالية الخطيب شرف الدين المقدسي عوضا عن قاضي القضاة شهاب الدين بن الخويي، توفي وترك الشامية البرانية، وقدم على قضاء الشام
__________
(1) في السلوك 1 / 803: في خامس عشريه (رجب).
(2) في السلوك 1 / 803: يوم عيد الفطر.

القاضي بدر الدين أحمد بن جماعة يوم الخميس الرابع عشر من ذي الحجة، ونزل العادلية وخرج نائب السلطنة والجيش بكماله لتلقيه، وامتدحه الشعراء، واستناب تاج الدين الجعبري نائب الخطابة وباشر تدريس الشامية البرانية، عوضا عن شرف الدين المقدسي، الشيخ زين الدين الفاروثي، وانتزعت من يده الناصرية فدرس بها ابن جماعة، وفي العادلية في العشرين من ذي الحجة، وفي هذا الشهر أخرجوا الكلاب من دمشق إلى الفلاة بأمر واليها جمال الدين اقياي، وشدد على الناس والبوابين بذلك.
وممن توفي فيها من الاعيان: الملك الاشرف خليل بن قلاوون المنصور.
وبيدرا والشجاعي، وشمس الدين بن السلعوس.
الشيخ الامام العلامة تاج الدين موسى بن محمد بن مسعود المراغي، المعروف بأبي الجواب الشافعي، درس بالاقبالية وغيرها وكان من فضلاء الشافعية، له يد في الفقه والاصول والنحو وفهم جيد، توفي فجأة يوم السبت، ودفن بمقابر باب الصغير، وقد جاوز السبعين.
الخاتون مؤنس بنت السلطان العادل أبي بكر بن أيوب وتعرف بدار القطبية، وبدار إقبال، ولدت سنة ثلاث وستمائة، وروت الاجازة عن عفيفة الفارقانية، وعن عين الشمس بنت أحمد بن أبي الفرج الثقفية، توفيت في ربيع الآخر بالقاهرة، ودفنت بباب زويلة.
الصاحب الوزير فخر الدين أبو إسحاق إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد البناني المصري رأس الموقعين، وأستاذ الوزراء المشهورين، ولد سنة ثنتي عشرة وستمائة، وروى الحديث، توفي في آخر جمادى الآخرة
في القاهرة.
الملك الحافظ غياث الدين بن محمد الملك السعيد معين الدين بن الملك الامجد بهرام شاه بن المعز عز الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب، وكان فاضلا بارعا، سمع الحديث وروى البخاري، وكان يحب العلماء

والفقراء، توفي يوم الجمعة سادس شعبان، ودفن عند جده لامه ابن المقدم، ظاهر باب الفراديس.
قاضي القضاة شهاب الدين بن الخويي أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى بن محمد الشافعي، أصلهم من خوي، اشتغل وحصل علوما كثيرة، وصنف كتبا كثيرة منها كتاب فيه عشرون فنا، وله نظم علوم الحديث وكفاية المتحفظ وغير ذلك، وقد سمع الحديث الكثير، وكان محبا له ولاهله، وقد درس وهو صغير بالدماغية، ثم ولي قضاء القدس، ثم بهسنا، ثم ولي قضاء حلب، ثم عاد إلى المحلة، ثم ولي قضاء القاهرة، ثم قدم على قضاء الشام مع تدريس العادلية والغزالية وغيرهما، وكان من حسنات الزمان وأكابر العلماء الاعلام، عفيفا نزها بارعا محبا للحديث وعلمه وعلمائه، وقد خرج له شيخنا الحافظ المزي أربعين حديثا متباينة الاسناد، وخرج له تقي الدين بن عتبة الاسودي الاسعردي مشيخة على حروف المعجم، اشتملت على مائتين وستة وثلاثين شيخا.
قال البرزالي: وله نحو ثلثمائة شيخ لم يذكروا في هذا المعجم، توفي يوم الخميس الخامس والعشرين من رمضان، عن سبع وستين سنة، وصلي عليه ودفن من يومه بتربة والده بسفح قاسيون.
رحمه الله تعالى.
الامير علاء الدين الاعمى ناظر القدس وباني كثيرا من معالمه اليوم، وهو الامير الكبير علاء الدين أيدكين بن عبد الله الصالحي النجمي، كان من أكابر الامراء، فلما أضر أقام بالقدس الشريف وولي نظره معمره
ومثمره وكان مهيبا لا تخالف مراسيمه، وهو الذي بنى المطهرة قريبا من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فانتفع الناس بها بالوضوء وغيره، ووجد بها الناس تيسيرا، وابتنى بالقدس ربطا كثيرة، وآثارا حسنة، وكان يباشر الامور بنفسه، وله حرمة وافرة، توفي في شوال منها.
الوزير شمس الدين محمد بن عثمان ابن أبي الرجا (1) التنوخي، المعروف بابن السلعوس، وزير الملك الاشرف، مات تحت الضرب الذي جاوز ألف مقرعة، في عاشر صفر من هذه السنة، ودفن بالقرافة، وقيل إنه نقل إلى الشام بعد ذلك.
وكان ابتداء أمره تاجرا، ثم ولي الحسبة بدمشق بسفارة تقي الدين بن توبة، ثم كان يعامل الملك الاشرف قبل السلطنة فظهر منه على عدل وصدق، فلما ملك بعد أبيه
__________
(1) في البداية المطبوعة: الرجال تصحيف.

المنصور استدعاه من الحج فولاه الوزارة، وكان يتعاظم على أكابر الامراء ويسميهم بأسمائهم، ولا يقوم لهم، فلما قتل أستاذه الاشرف تسلموه بالضرب والاهانة وأخذ الاموال، حتى أعدموه حياته، وصبروه وأسكنوه الثرى، بعد أن كان عند نفسه قد بلغ الثريا، ولكن حقا على الله أنه ما رفع شيئا إلا وضعه.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وستمائة استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن قلاوون وعمره إذ ذاك اثنتا عشرة سنة وأشهرا، ومدبر الممالك وأتابك العساكر الامير زين الدين كتبغا، ونائب الشام الامير عز الدين أيبك الحموي، والوزير بدمشق تقي الدين توبة التكريتي، وشاد الدواوين شمس الدين الاعسر، وقاضي الشافعية ابن جماعة، والحنفية حسام الدين الرازي، والمالكية جمال الدين الزواوي، والحنابلة شرف الدين حسن، والمحتسب شهاب الدين الحنفي، ونقيب الاشراف زين الدين بن عدنان، ووكيل بيت المال وناظر الجامع تاج الدين الشيرازي، وخطيب البلد شرف الدين المقدسي.
فلما كان يوم عاشوراء نهض جماعة من مماليك الاشرف وخرقوا حرمة السلطان وأرادوا الخروج عليه، وجاؤوا إلى سوق السلاح فأخذوا ما فيه، ثم احتيط عليهم، فمنهم من صلب ومنهم من شنق، وقطع أيدي آخرين منهم وألسنتهم، وجرت خبطة عظيمة جدا، وكانوا قريبا من ثلثمائة أو يزيدون.
سلطنة الملك العادل كتبغا وأصبح الامير كتبغا في الحادي عشر (1) من المحرم فجلس على سرير المملكة، وخلع الملك الناصر محمد بن المنصور، وألزمه بيت أهله، وأن لا يخرج منه، وبايعه الامراء على ذلك، وهنئوه ومد سماطا حافلا، وسارت البريدية بذلك إلى الاقاليم، فبويع له وخطب له مستقلا وضربت السكة باسمه، وتم الامر وزينت البلاد، ودقت البشائر، ولقب بالملك العادل، وكان عمره إذ ذاك نحوا من خمسين سنة، فإنه من سبي وقعة حمص الاولى التي كانت في أيام الملك الظاهر بعد وقعة عين جالوت، وكان من الغويرانية، وهم طائفة من التتر، واستناب في مصر الامير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، وكان بين يديه مدير المماليك.
وقد ذكر الجزري في تاريخه عن بعض الامراء أنه شهد هولاكو خان قد سأل منجمه أن يستخرج له من هؤلاء المقدمين في
__________
(1) في مختصر أبي الفداء 4 / 31: يوم الاربعاء تاسع محرم.

عسكره الذي يملك الديار المصرية، فضرب وحسب وقال له: أجد رجلا يملكها اسمه كتبغا فظنه كتبغا نوين، وهو صهر هولاكو، فقدمه على العساكر فلم يكن هو، فقتل في عين جالوت كما ذكرنا، وأن الذي ملك مصر هذا الرجل وهو من خيار الامراء وأجودهم سيرة ومعدلة، وقصدا في نصرة الاسلام.
وفي يوم الاربعاء مستهل ربيع الاول ركب كتبغا في أبهة الملك، وشق القاهرة ودعا له الناس وعزل الصاحب تاج الدين بن الحنا عن الوزارة وولى فخر الدين بن الخليلي (1)، واستسقى الناس بدمشق عند مسجد القدم، وخطب بهم تاج الدين صالح الجعبري نيابة عن مستخلفه شرف
الدين المقدسي، وكان مريضا فعزل نفسه عن القضاء، وخطب الناس بعد ذلك، وذلك يوم الاربعاء خامس جمادى الاولى، فلم يسقوا ثم استسقوا مرة أخرى يوم السبت سابع جمادى الآخرة بالمكان المذكور، وخطب بهم شرف الدين المقدسي، وكان الجمع أكثر من أول، فلم يسقوا.
وفي رجب حكم جمال الدين بن الشريشي نيابة عن القاضي بدر الدين بن جماعة، وفيه درس بالمعظمية لقاضي شمس الدين بن العز، إنتزعها من علاء الدين بن الدقاق.
وفيه ولي القدس والخليل للك الاوحد بن الملك الناصر داود بن المعظم.
وفي رمضان رسم للحنابلة أن يصلوا قبل الامام كبير وذلك أنهم كانوا يصلون بعده فلما أحدث لمحراب الصحابة إمام كانوا يصلون جميعا في وقت حد، فحصل تشويش بسبب ذلك، فاستقرت القاعدة على أن يصلوا قبل الامام الكبير، في ت صلاة مشهد علي بالصحن عند محرابهم في الرواق الثالث الغربي.
قلت: وقد تغيرت هذه القاعدة بعد العشرين وسبعمائة كما سيأتي وفي أواخر رمضان قدم القاضي نجم الدين بن صصرى من الديار المصرية على قضاء العساكر بالشام، وفي ظهر يوم الخميس خامس شوال صلى القاضي بدر الدين بن جماعة بمحراب لجامع إماما وخطيبا عوضا عن الخطيب المدرس شرف الدين المقدسي، ثم خطب من الغد شكرت خطبته وقراءته، وذلك مضاف إلى ما بيده من القضاء وغيره.
وفي أوائل شوال قدمت من الديار المصرية تواقيع شتى منها تدريس الغزالية لابن صصرى عوضا عن الخطيب المقدسي، وتوقيع بتدريس الامينية لامام الدين القزويني عوضا عن نجم الدين بن صصرى، ورسم لاخيه جلال الدين بتدريس الظاهرية البرانية عوضا عنه.
وفي شوال كملت عمارة الحمام الذي أنشأه عز الدين الحموي بمسجد القصب، وهو من أحسن الحمامات، وباشر مشيخة دار الحديث النورية الشيخ علاء الدين بن العطار عوضا عن شرف الدين المقدسي.
وحج
__________
(1) وكان الخليلي ناظر الدواوين في الوزارة، وقد تم تنفيذ هذا الاجراء يوم الثلاثاء خامس عشرين جمادى الاولى (السلوك 1 / 808).

فيها الملك المجاهد أنس بن الملك العادل كتبغا، وتصدقوا بصدقات كثيرة في الحرمين وغيرهما ونودي بدمشق في يوم عرفة أن لا يركب أحد من أهل الذمة خيلا ولا بغالا، ومن رأى من المسلمين أحدا من أهل الذمة قد خالف ذلك فله سلبه.
وفي أواخر هذه السنة والتي تليها حصل بديار مصر غلاء شديد هلك بسببه خلق كثير، هلك في شهر ذي الحجة نحو من عشرين ألفا (1).
وفيها ملك التتار قازان بن أرغون بن أبغا بن تولى بن جنكيزخان فأسلم وأظهر الاسلام على يد الامير توزون رحمه الله، ودخلت التتار أو أكثرهم في الاسلام ونثر الذهب والفضة واللؤلؤ على رؤوس الناس يوم إسلامه، وتسمى بمحمود، وشهد الجمعة والخطبة، وخرب كنائس كثيرة، وضرب عليهم الجزية ورد مظالم كثيرة ببغداد وغيرها من البلاد، وظهرت السبح والهياكل مع التتار والحمد لله وحده.
وفيها توفي من الاعيان: الشيخ أبو الرجال المنيني الشيخ الصالح الزاهد العابد أبو الرجال بن مري بن بحتر المنيني (2)، كانت له أحوال ومكاشفات وكان أهل دمشق والبلاد يزورونه في قرية منين، وربما قدم هو بنفسه إلى دمشق فيكرم ويضاف وكانت له زاوية ببلده، وكان بريئا من هذه السماعات الشيطانية، وكان تلميذ الشيخ جندل، وكان شيخه الشيخ جندل من كبار الصالحين سالكا طريق السلف أيضا، وقد بلغ الشيخ أبو الرجال ثمانين سنة، وتوفي بمنين في منزله في عاشر المحرم، وخرج الناس من دمشق إلى جنازته فمنهم من أدركها ومن الناس من لم يدرك فصلى على القبر ودفن بزاويته رحمه الله.
وفيها في أواخر ربيع الاول جاء الخبر بأن عساف بن أحمد بن حجى الذي كان قد أجار ذلك النصراني الذي سب الرسول قتل ففرح الناس بذلك.
الشيخ الصالح العابد الزاهد الورع بقية السلف جمال الدين أبو القاسم عبد الصمد بن الحرستاني ابن قاضي القضاة، وخطيب الخطباء، عماد الدين عبد الكريم بن جمال الدين عبد الصمد، سمع الحديث وناب عن أبيه في
__________
(1) في السلوك 1 / 810: سبعة عشر ألفا.
(2) من النجوم الزاهرة 8 / 76 ومرآة الجنان 4 / 227 وفي تذكرة النبيه: ابن مرا المنيني، وفي الاصل: ابن مرعي من بحتر المنين ولعله خطأ من الناسخ في اسمه، والمنيني نسبة إلى منين وهي قرية في جبل سنير من أعمال الشام وقيل من أعمال دمشق (معجم البلدان).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55