كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

الفاسق ابن زياد حصل لكم المراد.
فقالوا: صدقت.
فنادى فيهم: سيروا على اسم الله تعالى، فساروا عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الاول.
وقال في خطبته: من كان خرج منكم للدنيا ذهبها وزبرجدها فليس معنا مما يطلب شئ، وإنما معنا سيوف على عواتقنا، ورماح في أكفنا، وزاد يكفينا حتى نلقى عدونا.
فأجابوه إلى السمع والطاعة والحالة هذه، وقال لهم: عليكم بابن زياد الفاسق أولا، فليس له إلا السيف، وها هو قد أقبل من الشام قاصدا العراق.
فصمم الناس معه على هذا الرأي، فلما أزمعوا على ذلك بعث عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد أمراء الكوفة من جهة ابن الزبير، إلى سليمان بن صرد يقولان له: إنا نحب أن تكون أيدينا واحدة على ابن زياد: وأنهم يريدون أن يبعثوا معهم جيشا ليقويهم على ما هم قد قصدوا له، وبعثوا بريدا بذلك ينتظرهم حتى يقدموا عليه، فتهيأ سليمان بن صرد لقدومهم عليه في رؤس الامراء، وجلس في أبهته والجيوش محدقة به، وأقبل عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن طلحة في أشراف أهل الكوفة من غير قتلة الحسين، لئلا يطمعوا فيهم، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص في هذه الايام كلها لا يبيت إلا في قصر الامارة عند عبد الله بن يزيد خوفا على نفسه، فلما اجتمع الاميران عند سليمان بن صرد قالا له وأشارا عليه أن لا يذهبوا حتى تكون أيديهما واحدة على قتال ابن زياد، ويجهزوا معهم جيشا، فإن أهل الشام جمع
كثير وجم غفير، وهم يحاجفون عن ابن زياد، فامتنع سليمان من قبول قولهما وقال: إنا خرجنا لامر لا نرجع عنه ولا نتأخر فيه.
فانصرف الاميران راجعين إلى الكوفة، وانتظر سليمان بن صرد وأصحابه أصحابهم الذين كانوا قد واعدوهم من أهل البصرة وأهل المدائن فلم يقدموا عليهم ولا واحد منهم، فقام سليمان في أصحابه خطيبا وحرضهم على الذهاب لما خرجوا عليه، وقال: لو قد سمع إخوانكم بخروجكم للحقوكم سراعا.
فخرج سليمان وأصحابه من النخيلة يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الاول (1) سنة خمس وستين، فسار بهم مراحل (2)، ما يتقدمون مرحلة إلى نحو الشام إلا تخلف عنه طائفة من الناس الذين معه، فلما مروا بقبر الحسين صاحوا صيحة واحدة وتباكوا وباتوا عنده ليلة يصلون ويدعون، وظلوا يوما يترحمون عليه ويستغفرون له ويترضون عنه ويتمنون أن لو كانوا ماتوا معه شهداء - قلت: لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة، لكان أنفع له وأنصر من اجتماع سليمان وأصحابه لنصرته بعد أربع سنين - ولما أرادوا الانصراف جعل لا يريم أحد منهم حتى يأتي القبر فيترحم عليه ويستغفر له، حتى جعلوا يزدحمون أشد من ازدحامهم عند الحجر الاسود.
ثم ساروا قاصدين
__________
(1) في الطبري والكامل وابن الاعثم: ربيع الآخر.
(2) في الكامل 4 / 177 وصل دار الاهواز، وفي الطبري وابن الاعثم: نزل الاقساس، والاقساس: قرية بالكوفة أو كورة يقال لها اقساس مالك (معجم البلدان).

الشام، فلما اجتازوا بقرقيسيا تحصن منهم زفر بن الحارث، فبعث إليه سليمان بن صرد: إنا لم نأت لقتالكم فأخرج إلينا سوقا فإنا إنما نقيم عندكم يوما أو بعض يوم، فأمر زفر بن الحارث أن يخرج إليهم سوق، وأمر للرسول إليه وهو المسيب بن نجبة بفرس وألف درهم.
فقال: أما المال فلا.
وأما الفرس فنعم.
وبعث زفر بن الحارث إلى سليمان بن صرد ورؤس الامراء الذين معه إلى كل واحد عشرين جزورا وطعاما وعلفا كثيرا، ثم خرج زفر بن الحارث فشيعهم، وسار مع سليمان بن صرد وقال له: إنه قد بلغني أن أهل الشام قد جهزوا جيشا كثيفا وعددا كثيرا، مع
حصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي (1).
وربيعة بن مخارق الغنوي (2)، وجبلة بن عبد الله الخثعمي.
فقال سليمان بن صرد: على الله تولكنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
ثم عرض عليهم زفر أن يدخلوا مدينته أو يكونوا عند بابها، فإن جاءهم أحد كان معهم عليه، فأبوا أن يقبلوا وقالوا: قد عرض علينا أهل بلدنا مثل ذلك فامتنعنا.
قال: فإذا أبيتم ذلك فبادروهم إلى عين الوردة، فيكون الماء والمدينة والاسواق والسباق خلف ظهوركم، وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه، ثم أشار عليهم بما يعتمدونه في حال القتال فقال: ولا تقاتلوهم في فضاء فإنهم أكثر منكم عددا فيحيطون بكم، فإني لا أرى معكم رجالا والقوم ذووا رجال وفرسان، ومعهم كراديس فاحذروهم، فأثنى عليه سليمان بن صرد والناس خيرا، ثم رجع عنهم، وسار سليمان بن صرد فبادر إلى عين الوردة فنزل غربيها، وأقام هناك قبل وصول أعدائه إليه، واستراح سليمان وأصحابه واطمأنوا.
وقعة عين وردة فلما اقترب أهل الشام إليهم خطب سليمان أصحابه فرغبهم في الآخرة وزهدهم في الدنيا، وحثهم على الجهاد، وقال: إن قتلت فالامير عليكم المسيب بن نجبة، فإن قتل فعبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل فعبد الله بن وال، فإن قتل فرفاعة بن شداد، ثم بعث بين يديه المسيب بن نجبة في خمسمائة (3) فارس، فأغاروا على جيش ابن ذي الكلاع وهم عارون، فقتلوا منهم جماعة وجرحوا آخرين، واستاقوا نعما، وأتى الخبر إلى عبيد الله بن زياد فأرسل بين يديه الحصين بن نمير في اثني عشر ألفا، فصبح سليمان بن صرد وجيشه واقفون في يوم الاربعاء لثمان بقين من جمادى الاولى، وحصين بن نمير قائم في اثني عشر ألفا، وقد تهيأ كل من الفريقين
__________
(1) في الطبري 7 / 73 زاد: وأبو مالك بن أدهم.
(2) في الكامل 4 / 180: وعبيد الله بن زياد، ولم يذكر ربيعة بن مخارق الغنوي.
وفي ابن الاعثم 6 / 80: أن عبيد الله بن زياد قد ترك الرقة...وقد وجه نحوكم بخمسة من قواده...وذكرهم وفيه: حملة بن عبد الله الخثعمي بدل جبلة.
(3) في الكامل 4 / 181: أربعمائة فارس.

لصاحبه، فدعا الشاميون أصحاب سليمان إلى الدخول في طاعة مروان بن الحكم (1)، ودعا أصحاب سليمان الشاميين إلى أن يسلموا إلى إليهم عبيد الله بن زياد فيقتلونه عن الحسين، وامتنع كل من الفريقين أن يجيب إلى ما دعا إليه الآخر، فاقتتلوا قتالا شديدا عامة يومهم إلى الليل، وكانت الدائرة فيه للعراقيين على الشاميين، فلما أصبحوا أصبح ابن ذي الكلاع وقد وصل إلى الشاميين في ثمانية عشر (2) ألف فارس، وقد أنبه وشتمه ابن زياد، فاقتتل الناس في هذا اليوم قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط، لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الليل، فلما أصبح الناس من اليوم الثالث وصل إلى الشاميين أدهم بن محرز في عشرة آلاف، ذلك في يوم الجمعة، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى حين ارتفاع الضحى، ثم استدار أهل الشام بأهل العراق وأحاطوا بهم من كل جانب، فخطب سليمان بن صرد الناس وحرضهم على الجهاد، فاقتتل الناس قتالا عظيما جدا، ثم ترجل سليمان بن صرد وكسر جفن سيفه ونادى يا عباد الله، من أراد الرواح، إلى الجنة والتوبة من ذنبه والوفاء بعهده فليأت إلي، فترجل معه ناس كثيرون وكسروا جفون سيوفهم، وحملوا حتى صاروا في وسط القوم.
وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، وقتل سليمان بن صرد أمير العراقيين، رماه رجل يقال له يزيد بن الحصين بسهم فوقع، ثم وثب ثم وقع ثم وثب ثم وقع، وهو يقول: فزت ورب الكعبة فأخذ الراية المسيب بن نجبة فقاتل بها قتالا شديدا وهو يقول: قد علمت ميالة الذوائب * واضحة اللبات والترائب أني غداة الروع والتغالب * أشجع من ذي لبدة مواثب * قصاع أقران مخوف الجانب * (3) ثم قاتل قتالا شديدا فقضى ابن نجبة نحبه، ولحق في ذلك الموقف صحبه رحمهم الله، فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل فقاتل قتالا شديدا أيضا، وحمل حينئذ ربيعة بن مخارق على أهل
العراق حملة منكرة، وتبارز هو وعبد الله بن سعد بن نفيل، ثم اتحدا فحمل ابن أخي ربيعة على عبد الله بن سعد فقتله، ثم احتمل عمه، فأخذ الراية عبد الله بن وال، فحرض الناس على الجهاد وجعل يقول: الرواح إلى الجنة - وذلك بعد العصر - وحمل بالناس ففرق من كان حوله ثم
__________
(1) في الطبري 7 / 75 وابن الاعثم 6 / 82 والكامل 4 / 182: عبد الملك بن مروان.
والصواب مروان بن الحكم فوقعة عين الوردة كانت في جمادى الاولى، وكانت وفاة مروان على الارجح في رمضان سنة 65 ه، ولعل من قال عبد الملك يريد اعلان الطاعة والقبول بولاية عهد عبد الملك وقد كانت البيعة بولاية العهد قد أخذت له.
(2) في الطبري: ثمانية آلاف.
(3) ذكر ابن الاعثم 6 / 83 شعر المسيب قال: لقد منيتم يا أخي جلادي * بيت المقام مقفص الاعادي ليس بفرار ولا حياد * أشجع من ليث عرين عادي

قتل - وكان من الفقهاء المفتيين - قتله أدهم بن محرز الباهلي أمير حرب الشاميين ساعتئذ، فأخذ الراية رفاعة بن شداد فانحاز بالناس وقد دخل الظلام، ورجع الشاميون إلى رحالهم، وانشمر رفاعية بمن بقي معه راجعا إلى بلاده، فلما أصبح الشاميون إذا العراقيون قد كروا راجعين إلى بلادهم، فلم يبعثوا وراءهم طلبا ولا أحدا لما لقوا منهم من القتل والجراح، فلما وصلوا إلى هيت إذا سعد بن حذيفة بن اليمان قد أقبل بمن معه من أهل المدائن، قاصدين إلى نصرتهم (1)، فلما أخبروه بما كان من أمرهم وما حل بهم، ونعوا إليه أصحابهم ترحموا عليهم واستغفروا لهم وتباكوا على إخوانهم، وانصرف أهل المدائن إليها، ورجع راجعة أهل الكوفة إليها، وقد قتل منهم خلق كثير وجم غفير، وإذا المختار بن أبي عبيد كما هو في السجن لم يخرج منه (2)، فكتب إلى رفاعة بن شداد يعزيه فيمن قتل منهم ويترحم عليهم ويغبطهم بما نالوا من الشهادة، وجزيل الثواب ويقول: مرحبا بالذين أعظم الله أجورهم ورضي عنهم، والله ما خطا منهم أحد خطوة إلا كان ثواب الله له فيها أعظم من الدنيا وما فيها، وإن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل روحه
في أرواح النبيين والشهداء والصالحين، وبعد فأنا الامير المأمون، قاتل الجبارين والمفسدين إن شاء الله، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بدماء أهل البيت.
وذكر كلاما كثيرا في هذا المعنى.
وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن ربه الذي كان يأتي إليه من الشياطين، فإنه قد كان يأتي إليه شيطان فيوحي إليه قريبا مما كان يوحي شيطان مسيلمة إليه، وكان جيش سليمان بن صرد وأصحابه يسمى بجيش التوابين رحمهم الله، وقد كان سليمان بن صرد الخزرجي صحابيا جليلا نبيلا عابدا زاهدا، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في الصحيحين وغيرهما، وشهد مع علي صفين، وكان أحد من كان يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين، وكتب إلى الحسين فيمن كتب بالقدوم إلى العراق، فلما قدمها تخلوا عنه وقتل بكربلاء بعد ذلك، ورأى هؤلاء أنهم كانوا سببا في قدومه، وأنهم خذلوه حتى قتل هو وأهل بيته، فندموا، على ما فعلوا معه، ثم اجتمعوا في هذا الجيش وسموا جيشهم جيش التوابين، وسموا أميرهم سليمان بن صرد أمير التوابين، فقتل سليمان رضي الله عنه في هذه الوقعة بعين وردة سنة خمس وستين، وقيل سنة سبع وستين، والاول أصح.
وكان عمره يوم قتل ثلاثا وتسعين سنة رحمه الله.
وحمل رأسه ورأس المسيب بن نجبة إلى مروان بن الحكم (3) بعد الوقعة، وكتب أمراء الشاميين إلى مروان بما فتح الله عليهم
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 113 قال: " قيل لعبد الله بن سعد بن نفيل وهو في القتال: إن إخواننا قد لحقونا من البصرة والمدائن " قال وقد قاتلوا واستشهد منهم.
وفي ابن الاعثم 6 / 84 إشارة إلى وجود أهل المدائن في القتال وقد قاتلوا إلى جانب رفاعة بن شداد (وانظر الطبري 7 / 77).
(2) أما ابن الاعثم فقال أن المختار كان من جملة من خرج إليهم لاستقبالهم وتعزيتهم (6 / 86).
(3) في الطبري والكامل: عبد الملك بن مروان - وقد تقدم قريبا ملاحظة هذا الامر فليراجع.

وأظفرهم من عدوهم، فخطب الناس وأعلمهم بما كان من أمر الجنود ومن قتل من أهل العراق، وقد قال: أهلك الله رؤوس الضلال سليمان بن صرد وأصحابه، وعلق الرؤوس بدمشق، وكان
مروان بن الحكم قد عهد بالامر من بعده إلى ولديه عبد الملك ثم من بعده عبد العزيز: وأخذ بيعة الامراء على ذلك في هذه السنة، قاله ابن جرير وغيره.
وفيها دخل مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد الاشدق إلى الديار المصرية فأخذاها من نائبها الذي كان لعبد الله بن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدم، وكان سبب ذلك أن مروان قصدها فخرج إليه نائبها ابن جحدم فقابله مروان ليقاتله فاشتغل به، وخلص عمرو بن سعيد بطائفة من الجيش من وراء عبد الرحمن بن جحدم فدخل مصر فملكها، وهرب عبد الرحمن ودخل مروان إلى مصر فملكها، وجعل عليها ولده عبد العزيز.
وفيها بعث ابن الزبير أخاه مصعبا ليفتح له الشام، فبعث إليه مروان عمرو بن سعيد فتلقاه إلى فلسطين فهرب منه مصعب بن الزبير وكر راجعا ولم يظفر بشئ.
واستقر ملك الشام ومصر لمروان.
وقال الواقدي: إن مروان حاصر مصر فخندق عبد الرحمن بن جحدم على البلد خندقا، وخرج في أهل مصر إلى قتاله، وكانوا يتناوبون القتال ويستريحون، ويسمى ذلك يوم التراويح، واستمر القتال في خواص أهل البلد فقتل منهم خلق كثير، وقتل يومئذ عبد الله بن يزيد بن معدي كرب الكلاعي أحد الاشراف.
ثم صالح عبد الرحمن مروان على أن يخرج إلى مكة بماله وأهله، فأجابه مروان إلى ذلك، وكتب إلى أهل مصر كتاب أمان بيده، وتفرق الناس وأخذوا في دفن موتاهم والبكاء عليهم، وضرب مروان عنق ثمانين رجلا تخلفوا عن مبايعته، وضرب عنق الاكيدر بن حملة اللخمي، وكان من قتلة عثمان، وذلك في نصف جمادى الآخر يوم توفي عبد الله بن عمرو بن العاص، فما قدروا أن يخرجوا بجنازته فدفنوه في داره واستولى مروان على مصر وأقام بها شهرا، ثم استعمل عليها ولده عبد العزيز، وترك عنده أخاه بشر بن مروان وموسى بن نصير وزيرا له، وأوصاه بالاحسان إلى الاكابر ورجع إلى الشام.
وفيها جهز مروان جيشين أحدهما مع حبيش بن دلجة العتيبي ليأخذ له المدينة، وكان من أمره ما سنذكره، والآخر مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعه من نواب ابن الزبير، فلما كانوا ببعض الطريق لقوا جيش التوابين مع سليمان بن صرد وكان من أمرهم ما تقدم ذكره.
واستمر
جيش الشاميين ذاهبا إلى العراق، فلما كانوا بالجزيرة بلغهم موت مروان بن الحكم.
وكانت وفاته في شهر رمضان من هذه السنة، وكان سبب موته أنه تزوج بأم خالد امرأة يزيد بن معاوية، وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة، وإنما أراد مروان بتزويجه إياها

ليصغر ابنها خالدا في أعين الناس، فإنه قد كان في نفوس كثير من الناس منه (1) أن يملكوه بعد أخيه معاوية، فتزوج أمه ليصغر أمره، فبينما هو ذات يوم داخل إلى عند مروان، إذ جعل مروان يتكلم فيه عند جلسائه، فلما جلس قال له فيما خاطبه به: يا بن الرطبة الاست، فذهب خالد إلى أمه فأخبرها بما قال له، فقالت: اكتم ذلك ولا تعلمه أنك أعلمتني بذلك، فلما دخل عليها مروان قال لها: هل ذكرني خالد عندك بسوء ؟ فقالت له: وما عساه يقول لك وهو يحبك ويعظمك ؟ ثم إن مروان رقد عندها، فلما أخذه النوم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه وتحاملت عليها هي وجواريها حتى مات غما، وكان ذلك في ثالث شهر رمضان سنة خمس وستين بدمشق، وله من العمر ثلاث وستون سنة، وقيل إحدى وثمانون سنة، وكانت إمارته تسعة أشهر، وقيل عشرة أشهر إلا ثلاثة أيام.
ترجمة مروان بن الحكم هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الاموي، أبو عبد الملك ويقال أبو الحكم، ويقال أبو القاسم، وهو صحابي عند طائفة كثيرة لانه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه في حديث صلح الحديبية، وفي رواية في صحيح البخاري عن مروان والمسور بن مخرمة عن جماعة من الصحابة الحديث بطوله، وروى مروان عن عمر وعثمان وكان كاتبه - أي كان كاتب عثمان - وعلي وزيد بن ثابت وبسيرة بنت صفوان الازدية وكانت حماته، وقال الحاكم أبو أحمد: كانت خالته، ولا منافاة بين كونها حماته وخالته.
وروى عنه ابنه عبد الملك وسهل بن سعد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين زين العابدين ومجاهد وغيرهم.
قال الواقدي ومحمد بن سعد: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه شيئا، وكان عمره ثمان
سنين حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن سعد في الطبقة الاولى من التابعين، وقد كان مروان من سادات قريش وفضلائها، روى ابن عساكر وغيره أن عمر بن الخطاب خطب امرأة إلى أمها فقالت: قد خطبها جرير بن عبد الله البجلي وهو سيد شباب المشرق، ومروان بن الحكم وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر وهو من قد علمتم، فقالت المرأة: أجاد يا أمير المؤمنين ؟ قال: نعم.
قالت: قد زوجناك يا أمير المؤمنين.
وقد كان عثمان بن عفان يكرمه ويعظمه.
وكان كاتب الحكم بين يديه، ومن تحت رأسه جرت قضية الدار، وبسببه حصر عثمان بن عفان فيها.
وألح عليه أولئك أن يسلم مروان إليهم فامتنع عثمان أشد الامتناع، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالا شديدا، وقتل بعض الخوارج، وكان على الميسرة يوم الجمل، ويقال إنه رمى طلحة بسهم في ركبته فقتله فالله أعلم.
__________
(1) كذا بالاصول، ولعل كلمة: منه زائدة.

وقال أبو الحكم: سمعت الشافعي يقول: كان علي يوم الجمل حين انهزم الناس يكثر السؤال عن مروان فقيل له في ذلك فقال: إنه يعطفني عليه رحم ماسة، وهو سيد من شباب قريش.
وقال ابن المبارك عن جرير بن حازم عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر أنه قال لمعاوية: من تركت لهذا الامر من بعدك ؟ فقال: أما القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، مروان بن الحكم.
وقد استنابه على المدينة غير مرة، يعزله ثم يعيده إليها، وأقام للناس الحج في سنين متعددة، وقال حنبل عن الامام أحمد، قال: يقال كان عند مروان قضاء، وكان يتتبع قضايا عمر بن الخطاب.
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول وذكر مروان يوما فقال قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة ثم أصبحت فيما أنا فيه، من إهراق الدماء وهذا الشأن.
وقال إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرة عن شريح بن عبيد وغيره.
قال: كان مروان إذا ذكر الاسلام قال: بنعمت ربي لا بما قدمت يدي * ولا بتراثي إنني كنت خاطئا
وقال الليث عن يزيد بن حبيب، عن سالم أبي النضر أنه قال: شهد مروان جنازة فلما صلى عليها انصرف، فقال أبو هريرة: أصاب قيراطا وحرم قيراطا، فأخبر بذلك مروان فأقبل يجري حتى بدت ركبتاه، فقعد حتى أذن له.
وروى المدائني عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد: أن مروان كان أسلف علي بن الحسين حتى يرجع إلى المدينة بعد مقتل أبيه الحسين ستة آلاف دينار، فلما حضرته الوفاء أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع من علي بن الحسين شيئا، فبعث إليه عبد الملك بذلك فامتنع من قبولها، فألح عليه فقبلها.
وقال الشافعي: إنبأنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن الحسن والحسين كانا يصليان خلف مروان ولا يعيدانها، ويعتدان بها.
وقد روى عبد الرزاق: عن الثوري، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من قدم الخطبة على الصلاة يوم العيد مروان، فقال له رجل: خالفت السنة، فقال له مروان: إنه قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان " (1).
قالوا: ولما كان نائبا بالمدينة كان إذا وقعت معضلة جمع من عنده من الصحابة فاستشارهم فيها.
قالوا: وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها فنسب إليه الصاع، فقيل صاع مروان، وقال الزبير بن بكار: حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثني ابن أبي علي اللهبي عن إسماعيل بن أبي سعيد عن أبيه.
قال: خرج أبو هريرة من عند مروان فلقيه قوم قد خرجوا من عنده فقالوا له: يا أبا هريرة، إنه أشهدنا الآن على مائة
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة (242) باب وفي الملاحم (17) وابن ماجه في الاقامة (155) وفي الفتن (20) والامام أحمد في المسند 3 / 10، 52.

رقبة أعتقها الساعة، قال: فغمز أبو هريرة يدي وقال: يا أبا سعيد، بك من كسب طيب خير من مائة رقبة.
قال الزبير: البك الواحد.
وقال الامام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الاعمش، عن عطية، عن
أبي سعيد.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ بنو أبي فلان ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا، ودين الله دخلا، وعباد الله خولا " (1).
ورواه أبو يعلى عن زكريا بن زحمويه عن صالح بن عمر عن مطرف عن عطية عن أبي سعيد.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا دين الله دخلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا ".
وقد رواه الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب عن أبي المغيرة عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد عن أبي ذر.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا ".
وذكره، وهذا منقطع، ورواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة من قوله: " إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا " فذكره، ورواه البيهقي وغيره من حديث ابن لهيعة عن أبي قبيل عن ابن وهب، عن معاوية، وعبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا بلغوا ستة (2) وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عبد الملك بن مروان فقال أبو الجبابرة الاربعة ".
وهذه الطرق كلها ضعيفة.
وروى أبو يعلى وغيره من غير وجه عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بني الحكم يرقون على منبره وينزلون، فأصبح كالمتغيظ، وقال: رأيت بني الحكم ينزون على منبري نزو القردة، فما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات " (3) ورواه الثوري عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب مرسلا وفيه " فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها ".
فقرت عينه وهي قوله: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) * [ الاسراء: 60 ] يعني بلاء للناس واختبارا، وهذا مرسل وسنده إلى سعيد ضعيف.
وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة موضوعة، فلهذا أضربنا صفحا عن إيرادها لعدم صحتها.
وقد كان أبوه الحكم من أكبر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أسلم يوم الفتح، وقدم الحكم المدينة ثم طرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، ومات بها، ومروان كان أكبر الاسباب في حصار عثمان لانه زور على لسانه كتابا إلى مصر بقتل أولئك الوفد، ولما كان متوليا على المدينة لمعاوية كان يسب عليا كل جمعة على المنبر، وقال له الحسن بن علي: لقد لعن الله أباك الحكم وأنت في صلبه على لسان نبيه
__________
(1) مسند الامام أحمد 3 / 80.
(2) في دلائل البيهقي 6 / 508: تسعة.
- الدغل: دخل في الامر مفسد، والدول: العقبة في المال.
(3) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 509 و 511.

فقال: لعن الله الحكم وما ولد والله أعلم (1).
وقد تقدم أن حسان بن مالك لما قدم عليه مروان أرض الجابية، أعجبه إتيانه إليه، فبايع له وبايع أهل الاردن على أنه إذا انتظم له الامر نزل عن الامرة لخالد بن يزيد، ويكون لمروان إمرة حمص، ولعمرو بن سعيد نيابة دمشق، وكانت البيعة لمروان يوم الاثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين، قاله الليث بن سعد وغيره، وقال الليث: وكانت وقعة مرج راهط في ذي الحجة من هذه السنة بعد عيد النحر بيومين، قالوا: فغلب الضحاك بن قيس واستوثق له ملك الشام ومصر، فلما استقر ملكه في هذه البلاد بايع من بعده لولده عبد الملك، ثم من بعده لولده عبد العزيز - والد عمر بن عبد العزيز - وترك البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، لانه كان لا يراه أهلا للخلافة، ووافقه على ذلك مالك بن حسان، وإن كان خالا لخالد بن يزيد، وهو الذي قام بأعباء بيعة عبد الملك، ثم إن أم خلد دبرت أمر مروان فسمته ويقال: بل وضعت على وجهه وهو نائم وسادة فمات مخنوقا ثم إنها أعلنت الصراخ هي وجواريها وصحن: مات أمير المؤمنين فجأة.
ثم قام من بعده ولده عبد الملك بن مروان كما سنذكره.
وقال عبد الله بن أبي مذعور: حدثني بعض أهل العلم قال: كان آخر ما تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار، وكان نقش خاتمه العزة لله.
وقال الاصمعي: حدثنا عدي بن أبي عمار، عن أبيه، عن حرب بن زياد قال: كان نقش خاتم مروان آمنت بالعزيز الرحيم.
وكانت وفاته بدمشق عن إحدى وقيل ثلاث وستين سنة، وقال أبو معشر: كان عمره يوم توفي إحدى وثمانين سنة، وقال خليفة: حدثني الوليد بن هشام عن أبيه عن جده قال: مات
مروان بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه ابنه عبد الملك، وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوما، وقال غيره: عشرة أشهر.
وقال ابن أبي الدنيا وغيره: كان قصيرا أحمر الوجه أوقص دقيق العنق كبير الرأس واللحية، وكان يلقب خيط باطل، قال ابن عساكر: وذكر سعيد بن كثير بن عفير أن مروان مات حين انصرف من مصر بالصنبرة ويقال بلد، وقد قيل إنه مات بدمشق ودفن بين باب الجابية وباب الصغير.
وكان كاتبه عبيد بن أوس، وحاجبه المنهال مولاه، وقاضيه أبو إدريس الخولاني، وصاحب شرطته يحيى بن قيس الغساني، وكان له من الولد عبد الملك، وعبد العزيز، ومعاوية، وغير هؤلاء، وكان له عدة بنات من أمهات شتى (2).
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل من طريق عمرو بن مرة 6 / 512.
(2) في المعارف لابن قتيبة ص 154: فولد مروان: عبد الملك ومعاوية وعبيد الله وعبد الله وأبان وداود وعبد العزيز وعبد الرحمن وعمر وبشر ومحمد (ومن البنات) أم عمر وأم عثمان وأم عمرو.

خلافة عبد الملك بن مروان بويع له بالخلافة في حياة أبيه، فلما مات أبوه في ثالث رمضان منها جددت له البيعة بدمشق ومصر وأعمالهما، فاستقرت يده على ما كانت يد أبيه عليه، وقد كان أبوه قبل وفاته بعث بعثين أحدهما مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعها من نواب ابن الزبير، فلقي في طريقه جيش التوابين مع سليمان بن صرد عند عين الوردة، فكان من أمرهم ما تقدم، من ظفره بهم، وقتله أميرهم وأكثرهم.
والبعث الآخر مع حبيش بن دلجة إلى المدينة ليرتجعها من نائب ابن الزبير، فسأر نحوها، فلما انتهى إليها هرب نائبها جابر بن الاسود بن عوف، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، فجهز نائب البصرة من قبل ابن الزبير وهو الحارث بن عبد الله بن ربيعة، جيشا من البصرة إلى ابن دلجة بالمدينة، فلما سمع بهم حبيش بن دلجة سار إليهم.
وبعث ابن الزبير عباس (1) بن سهل بن سعد نائبا عن المدينة، وأمره أن يسير في طلب حبيش، فسار في
طلبهم حتى لحقهم بالربذة فرمى يزيد بن سياه (2) حبيشا بسهم فقتله، وقتل بعض أصحابه وهزم الباقون، وتحصن منهم خمسمائة في المدينة ثم نزلوا على حكم عباس بن سهل فقتلهم صبرا، ورجع فلهم إلى الشام.
قال ابن جرير: ولما دخل يزيد بن سياه الاسواري قاتل حبيش بن دلجة إلى المدينة مع عباس بن سهل كان عليه ثياب بياض وهو راكب برذونا أشهب، فما لبث أن اسودت ثيابه ودابته مما يتمسح الناس به ومن كثرة ما صبوا عليه من الطيب والمسك.
وقال ابن جرير: وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة، وفيها قتل نافع بن الازرق وهو رأس الخوارج ورأس أهل البصرة، مسلم بن عبيس فارس أهل البصرة، ثم قتله ربيعة السلوطي وقتل بينهما نحو خمسة أمراء، وقتل في وقعة الخوارج قرة بن إياس المزني أبو معاوية، وهو من الصحابة.
ولما قتل نافع بن الازرق رأست الخوارج عليهم عبيد الله بن ماحوز (3)، فسار بهم إلى المدائن فقتلوا أهلها ثم غلبوا على الاهواز وغيرها، وجبوا الاموال وأتتهم الامداد من اليمامة والبحرين، ثم ساروا إلى أصفهان وعليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فالتقاهم فهزمهم، ولما قتل أمير الخوارج ابن ماحوز كما سنذكر، أقاموا عليهم قطري بن الفجاءة أميرا.
__________
(1) في الطبري 7 / 84: عياش.
(2) في الكامل 4 / 191: يزيد بن سنان، وفي الطبري: جاءه سهم غرب فقتله، وعنده في رواية أخرى عن علي بن محمد: قتله يزيد بن سياه.
(3) من الكامل 4 / 195 والطبري 7 / 86: وفي الاصل: ماجور وفي الاخبار الطوال: ماحور.
وقد صحح في كل المواضع.

ثم أورد ابن جرير قصة قتالهم مع أهل البصرة بمكان يقال له دولاب (1)، وكانت الدولة للخوارج على أهل البصرة، وخاف أهل البصرة من الخوارج أن يدخلوا البصرة، فبعث ابن الزبير فعزل نائبها عبد الله بن الحارث المعروف بببة، بالحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقباع،
وأرسل ابن الزبير المهلب بن أبي صفرة الازدي على عمل خراسان، فلما وصل إلى البصرة قالوا له: إن قتال الخوارج لا يصلح إلا لك، فقال: إن أمير المؤمنين قد بعثني إلى خراسان، ولست أعصى أمره.
فاتفق أهل البصرة مع أميرهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على أن كتبوا كتابا (2) على لسان ابن الزبير إلى المهلب يأمره فيه بالمسير للخوارج ليكفهم عن الدخول إلى البصرة، فلما قرئ عليه الكتاب اشترط على أهل البصرة أن يقوي جيشه من بيت مالهم، وأن يكون له ما غلب عليه من أموال الخوارج، فأجابوه إلى ذلك، ويقال إنهم كتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأمضى لهم ذلك وسوغه، فسار إليهم المهلب.
وكان شجاعا بطلا صنديدا، فلما أراد قتال الخوارج أقبلوا إليه يزفون في عدة لم ير مثلها من الدروع والزرود والخيول والسلاح، وذلك أن لهم مدة يأكلون تلك النواحي، وقد صار لهم تحمل عظيم مع شجاعة لا تدانا، وإقدام لا يسامى، وقوة لا تجارى، وسبق إلى حومة الوغى فلما تواقف الناس بمكان يقال له سل وسل ابرى (3)، اقتتلوا قتالا شديدا عظيما، وصبر كل من الفريقين صبرا باهرا، وكان في نحو من ثلاثين ألفا ثم إن الخوارج حملوا حملة منكرة، فانهزم أصحاب المهلب لا يلوي والد على ولد، ولا يلتفت أحد إلى أحد، ووصل إلى البصرة فلا لهم، وأما المهلب فإنه سبق المنهزمين فوقف لهم بمكان مرتفع، وجعل ينادي: إلى عباد الله، فاجتمع إليه من جيشه ثلاثة آلاف من الفرسان الشجعان، فقام فيهم خطيبا فقال في خطبته: أما بعد أيها الناس، فإن الله تعالى ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، وأنتم فرسان الصبر وأهل النصر، وما أحب أن أحدا ممن انهزموا معكم الآن: * (ولو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) * [ التوبة: 47 ] ثم قال: عزمت على كل رجل منكم إلا أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا إلى عسكرهم فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيولهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لارجو أن لا ترجع خيولهم إلا وقد استبحتم عسكرهم، وتقتلوا أميرهم.
__________
(1) دولاب: من قرى الري.
(2) انظر نسخة الكتاب في الطبري 7 / 86 وأما في الاخبار الطوال ص 271 ففيه: أن الحارث بن عبد الله كتب إلى
عبد الله بن الزبير يسأله أن يأمر المهلب بالسير إلى الخوارج، فكتب ابن الزبير إلى الملهب.
(3) في الاخبار الطوال: سلي: وفي معجم البلدان: " سلى وسلبرى بكسر أوله وثانيه وتشديده وقصر الالف، وعن محمد بن موسى، سلى بالضم وفتح اللام وهو جبل بمناذر من أعمال الاهواز فذكرته فيما بعد مع سلبرى وكانت به وقعة للخوارج مع المهلب بن أبي صفرة، وسلبرى بكسر أوله وثانيه وتشديده وباء موحدة وراء مفتوحة وألف مقصورة موضع من نواحي خوزستان قرب جنديسابور وهي مناذر الصغرى ".

ففعل الناس ذلك، فزحف بهم المهلب بن أبي صفرة على معشر الخوارج فقتل منهم خلقا كثيرا نحوا من سبعة آلاف، وقتل عبيد الله بن الماحوز في جماعة كثيرة من الازارقة، وحتتاز من أموالهم شيئا كثيرا، وقد أرصد المهلب خيولا بينه وبين الذين يرجعون من طلب المنهزمين، فجعلوا يقتطعون دون قومهم، وانهزم فلهم إلى كرمان وأرض أصبهان، وأقام المهلب بالاهواز حتى قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة، وعزل عنها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كما سيأتي قريبا.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة وجه مروان بن الحكم قبل مهلكه ابنه محمدا إلى الجزيرة، وذلك قبل مسيره إلى مصر.
قلت: محمد بن مروان هذا هو والد مروان الحمار، وهو مروان بن محمد بن مروان، وهو آخر خلفاء بني أمية، ومن يده استلبت الخلافة العباسيون كما سيأتي.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل ابن الزبير أخاه عبيد (1) الله عن إمرة المدينة وولاها أخاه مصعبا، وذلك أن عبيد (1) الله خطب الناس فقال في خطبته: وقد رأيتم ما صنع الله بقوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم، فلما بلغت أخاه قال: إن هذا لهو التكلف، وعزله.
ويسمى عبيد (1) الله مقوم الناقة لذلك، قال ابن جرير: وفي آخرها عزل ابن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وولى عليها عبد الله بن مطيع الذي كان أمير المهاجرين يوم الحرة، لما خلعوا يزيد.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان الطاعون الجارف بالبصرة، وقال ابن الجوزي في المنتظم: كان في سنة أربع وستين، وقد قيل إنما كان في سنة تسع وستين، وهذا هو المشهور الذي
ذكره شيخنا الذهبي وغيره، وكان معظم ذلك بالبصرة، وكان ذلك في ثلاثة أيام، فمات في أول يوم من الثلاثة من أهل سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني منها إحدى وسبعون ألفا، وفي اليوم الثالث منها ثلاثة وسبعون ألفا، وأصبح الناس في اليوم الرابع موتي إلا قليل من آحاد الناس، حتى ذكر أن أم الامير بها ماتت فلم يوجد لها من يحملها، حتى استأجروا لها أربعة أنفس.
وقال الحافظ أبو نعيم الاصبهاني: حدثنا عبيد الله ثنا أحمد بن عصام، حدثني معدى، عن رجل، يكنى أبا النفيد، وكان قد أدرك من هذا الطاعون، قال: كنا نطوف بالقبائل وندفن الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار وقد مات أهلها فنسد بابها عليهم.
قال فدخلنا دارا ففتشناها فلم نجد فيها أحدا حيا فسددنا بابها، فلما مضت الطواعين كنا نطوف فنفتح تلك السدد عن الابواب، ففتحنا سدة الباب الذي كنا فتشناه - أو قال الدار التي كنا سددناها - وفتشناها فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين، كأنما أخذ ساعتئذ من حجر أمه، قال: فبينما نحن وقوف على الغلام نتعجب منه إذ دخلت كلبة من شق في الحائط فجعلت تلوذ بالغلام والغلام يحبها إليها حتى
__________
(1) في رواية الطبري 7 / 90 عبيدة، وقد تقدم ذكره (وانظر الكامل 4 / 206).

مص من لبنها، قال معدى: وأنا رأيت ذلك الغلام في مسجد البصرة وقد قبض على لحيته.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة بنى عبد الله بن الزبير الكعبة البيت الحرام، يعني أكمل بناءها وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
قال ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثني عبد العزيز عن خالد بن رستم الصنعاني، أبو محمد، حدثني زياد بن جبل: أنه كان بمكة يوم كان عليها ابن الزبير، فسمعته يقول: حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم فأزيد في الكعبة من الحجر ": قال: فأمر ابن الزبير فحفروا فوجدوا تلاعا أمثال الابل، فحركوا منها تلعة - أو قال صخرة - فبرقت برقة فقال: أقروها على أساسها، فبناها بن الزبير وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
قلت: هذا الحديث له طرق متعددة عن عائشة في الصحاح والحسان والمسانيد، وموضوع سياق طرق ذلك في كتاب الاحكام إن شاء الله تعالى.
وذكر ابن جرير في هذه السنة حروبا جرت بين عبد الله بن خازم بخراسان، وبين الحرشي بن هلال القزيعي (1) يطول تفصيلها.
قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي.
وممن توفي فيها من الاعيان عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل أبو محمد السهمي كان من خيار الصحابة وعلمائهم وعبادهم، وكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، أسلم قبل أبيه، ولم يكن أصغر من أبيه إلا باثني عشرة سنة، وكان واسع العلم مجتهدا في العبادة، عاقلا، وكان يلوم أباه في القيام مع معاوية، وكان سمينا، وكان يقرأ الكتابين القرآن والتوراة، وقيل إنه بكى حتى عمي، وكان يقوم الليل ويصوم يوما ويفطر يوما ويصوم يوما.
استنابه معاوية على الكوفة ثم عزله عنها بالمغيرة بن شعبة، توفي في هذه السنة بمصر.
وقتل بمكة عبد الله بن مسعدة الفزاري، له صحبة، نزل دمشق وقيل إنه من سبي فزارة.
ثم دخلت سنة ست وستين ففيها وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ليأخذوا ثأر الحسين بن علي فيما يزعم، وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن
__________
(1) في الطبري 7 / 91 والكامل 4 / 208: الحريش بن هلال القريعي.

صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد مسجونا فكتب إليهم يعزيهم في سليمان بن صرد ويقول: أنا عوضه وأنا أقتل قتلة الحسين.
فكتب إليه رفاعة بن شداد وهو الذي رجع بمن بقي من جيش التوابين نحن على ما تحب، فشرع المختار يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية: أبشروا فإني لو قد خرجت إليهم جردت فيما بين
المشرق والمغرب من أعدائكم السيف فجعلتهم باذن الله ركاما، وقتلهم أفرادا وتوأما، فرحب الله بمن قارب منهم واهتدى، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى، لما وصلهم الكتاب قرأوه سرا وردوا إليه: إنا كما تحب، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك، فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية، وكانت امرأة صالحة، وزوجها عبد الله بن عمر بن الخطاب، فكتب إليه أن يشفع في خروجه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة، فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه، فلم يمكنهما رده، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر: قد علمتما ما بيني وبينكما من الود، وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله والسلام.
فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه، واستخلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة، وكل مملوك له عبد وأمة حر، فالتزم لهما بذلك، ولزم منزله، وجعل يقول: قاتلهما الله، أما حلفاني بالله، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير، وأما إهدائي ألف بدنة فيسير، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الامر ولا أملك مملوكا واحدا، واجتمعت الشيعة عليه وكثر أصحابه وبايعوه في السر.
وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة، وهم السائب بن مالك الاشعري، ويزيد بن أنس، وأحمد بن شميط، ورفاعة بن شداد، وعبد الله بن شداد الجشمي.
ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع، حتى عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وبعث عبد الله بن مطيع نائبها عليها، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائبا على البصرة، فلما دخل عبد الله بن مطيع المخزومي إلى الكوفة في رمضان (1) سنة خمس وستين، خطب الناس وقال في خطبته: إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير أمرني أن أسير في فيئكم بسيرة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان (2).
فقام إليه السائب بن مالك الشيعي (3) فقال: لا نرضى إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا، ولا نريد
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 87: ليلة الخميس لثلاث بقين من الشهر (من رمضان) وفي الطبري 7 / 95 والكامل
4 / 212، يوم الخميس لخمس بقين من رمضان.
(2) انظر خطبته في الطبري والكامل، وذكر خطبته ابن الاعثم 6 / 87 باختلاف في أولها.
(3) في الطبري والكامل وابن الاعثم: الاشعري.

سيرة عثمان - وتكلم فيه - ولا سيرة عمر وإن كان لا يريد للناس إلا خيرا، وصدقه على ما قال بعض أمراء الشيعة، فسكت الامير وقال: إني سأسير فيكم بما تحبون من ذلك، وجاء صاحب الشرطة وهو إياس بن مضارب البجلي (1) إلى ابن مطيع فقال: إن هذا الذي يرد عليك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن من المختار، فابعث إليه فاردده إلى السجن فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له، وكأنك به وقد وثب في المصر.
فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة وأميرا آخر معه (2)، فدخلا على المختار فقالا له: أجب الامير.
فدعا بثيابه وأمر باسراج دابته، وتهيأ للذهاب معهما، فقرأ زائدة بن قدامة: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) * الآية [ الانفال: 30 ].
فألقى المختار نفسه وأمر بقطيفة أن تلقى عليه، وأظهر أنه مريض، وقال: أخبرا الامير بحالي، فرجعا إلى ابن مطيع فاعتذرا عنه، فصدقهما ولها عنه، فلما كان شهر المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب الاخذ بثأر الحسين فيما يزعم، فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر، ثم أنفذوا طائفة منهم إلى محمد بن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعا إليه (3)، فلما اجتمعوا به كان ملخص ما قال لهم: إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه، وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد بن الحنفية، فكره ذلك وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه، فإنه لم يكن باذن محمد بن الحنفية، وهم بالخروج قبل رجوع أولئك، وجعل يسجع لهم سجعا من سجع الكهان بذلك، ثم كان الامر على ما سجع به، فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية، فعند ذلك قوي أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبي عبيد.
وقد روى أبو مخنف أن أمراء الشيعة قالوا للمختار: اعلم أن جميع أمراء الكوفة مع
عبد الله بن مطيع وهم إلب علينا، وإنه إن بايعك إبراهيم بن الاشتر النخعي وحده أغنانا عن جميع من سواه.
فبعث إليه المختار جماعة (4) يدعونه إلى الدخول معهم في الاخذ بثأر الحسين، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه، فقال: قد أجبتكم إلى ما سألتم، على أن أكون أنا ولي أمركم، فقالوا: إن هذا لا يمكن، لان المهدي قد بعث لنا المختار وزيرا له وداعيا إليه، فسكت
__________
(1) في ابن الاعثم: العجلي.
(2) في الطبري والكامل: حسين بن عبد الله البرسمي من همدان، وفي ابن الاعثم: الحسين بن عبد الله الهمداني.
(3) ذكر الطبري وابن الاثير: أن عبد الرحمن بن شريح وسعيد بن منقذ الثوري وسعر بن أبي سعر الحنفي والاسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك الجشمي نهضوا إلى ابن الحنفية يسألونه خبر المختار (وانظر ابن الاعثم 6 / 91).
(4) في الطبري 7 / 98: يزيد بن أنس وعامر الشعبي وأبوه شراحيل وانظر الكامل 4 / 215، وفي ابن الاعثم 6 / 94: خرج جماعة من أهل الكوفة من أوجههم وفيهم يومئذ أبو عثمان النهدي وعامر الشعبي ومن أشبههما.

عنهم إبراهيم بن الاشتر فرجعوا إلى المختار فأخبروه، فمكث ثلاثا ثم خرج في جماعة من رؤس أصحابه إليه، فدخل على ابن الاشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه، فدعاه إلى الدخول معهم، وأخرج له كتابا على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة فيما قاموا فيه من نصرة آل البيت النبي صلى الله عليه وسلم، والاخذ بثأرهم.
فقال ابن الاشتر: إنه قد جائتني كتب محمد بن الحنفية بغير هذا النظام، فقال المختار: إن هذا زمان وهذا زمان، فقال ابن الاشتر: فمن يشهد أن هذا كتابه ؟ فتقدم جماعة من أصحاب المختار فشهدوا بذلك، فقام ابن الاشتر من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل.
قال الشعبي: وكنت حاضرا أنا وأبي أمر إبراهيم بن الاشتر.
ذلك المجلس، فلما انصرف المختار قال إبراهيم بن الاشتر: يا شعبي ما ترى فيما شهد به هؤلاء ؟ فقلت: إنهم قراه وأمراء ووجوه الناس، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون، قال: وكتمته ما في نفسي من اتهامهم، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للاخذ بثأر
الحسين، وكنت على رأي القوم.
ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخمس لاربع عشرة ليلة خلت [ من ربيع الاول ] (1) من هذه السنة - سنة ست وستين.
وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة وألزم كل أمير أن يحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الاشتر قاصدا إلى دار المختار في مائة رجل من قومه، وعليهم الدروع تحت الاقبية، فلقيه إياس بن مضارب (2) فقال له: أين تريد يا بن الاشتر في هذه الساعة ؟ إن أمرك لمريب، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الامير فيرى فيك رأيه، فتناول ابن الاشتر رمحا من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره فسقط، وأمر رجلا فاحتز رأسه، وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه، فقال له المختار: بشرك الله بخير، فهذا طائر صالح.
ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة، فأمر المختار بالنار أن ترفع وأن ينادي شعار أصحابه: يا منصور أمت، يا ثارات الحسين.
ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول: قد علمت بيضاء حسناء الطلل * واضحة الخدين عجزاء الكفل * أني غداة الروع مقدام بطل * وخرج بين يديه إبراهيم بن الاشتر فجعل يتقصد الامراء الموكلين بنواحي البلد فيطردهم عن أماكنهم واحدا واحدا.
وينادي شعار المختار، وبعث المختار أبا عثمان النهدي فنادى بشعار المختار، يا
__________
(1) ما بين معكوفتين سقط من الاصل واستدرك من الطبري 6 / 100 والكامل 4 / 216، وفي ابن الاعثم 6 / 98: ربيع الآخر.
(2) في الاخبار الطوال ص 290: إياس بن نضار العجلي.

ثارت الحسين.
فاجتمع الناس إليه من ههنا وههنا، وجاء شبث بن ربعي فاقتتل هو والمختار عند داره وحصره حتى جاء ابن الاشتر فطرده عنه، فرجع شبث إلى ابن مطيع وأشار عليه بأن يجمع الامراء
إليه، وأن ينهض بنفسه، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل، وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح، فقرأ فيها: * (والنازعات غرقا) * و * (عبس وتولى) * في الثانية قال بعض من سمعه: فما سمعت إماما أفصح لهجة منه، وقد جهز ابن مطيع جيشه (1) ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي، وأربعة آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب، فوجه المختار ابن الاشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي، فأما ابن الاشتر فإنه هزم قرنه راشد بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث وقتله وجاء فأحاط بالمختار وحصره.
وأقبل إبراهيم بن الاشتر نحوه فاعترض له حسان بن فائد بن العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع، فاقتتلوا ساعة.
فهزمه إبراهيم، ثم أقبل نحو المختار فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه، فما زال حتى طردهم فكروا راجعين، وخلص إبراهيم إلى المختار، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة، فقال له إبراهيم بن الاشتر اعمد بنا إلى قصر الامارة فليس دونه أحد يرد عنه، فوضعوا ما معهم من الاثقال، وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال، واستخلف على من هنالك أبا عثمان النهدي، وبعث بين يديه ابن الاشتر، وعبأ المختار جيشه كما كان، وسار نحو القصر، فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس وسار هو وابن الاشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن الذي قتل الحسين في ألفين آخرين، فبعث إليه المختار سعد بن منقذ الهمداني، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث.
وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف وخرج ابن مطيع من القصر في الناس، واستخلف عليه شبث بن ربعي، فتقدم ابن الاشتر إلى الجيش الذي مع ابن مساحق، فكان بينهم قتال شديد، قتل فيه رفاعة بن شداد أمير جيش التوابين الذين قدم بهم، وعبد الله بن سعد وجماعة غيرهم، ثم انتصر عليهم ابن الاشتر فهزمهم، وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة،
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 106: " وجعل عبد الله بن مطيع يوجه إليه بالكراديس كردوسا بعد كردوس، فأول كردوس زحف إلى المختار شبث بن ربعي الرياحي في أربعة آلاف، وراشد بن إياس بن مضارب العجلي في ثلاثة آلاف وحجار بن أبجر العجلي في ثلاثة آلاف، والغضبان بن القبثري [ وهو من بني همام بن مرة مشهور، ولم نجده لا في الطبري ولا في ابن الاثير ] في ثلاثة آلاف، والشمر بن ذي الجوشن في ثلاثة آلاف، وعكرمة بن ربعي في ألف، وشداد بن المنذر في ألف وسويد بن عبد الرحمن في ألف قال: فزحفت الخيل نحو المختار في عشرين ألف فارس أو يزيدون ".

فأطلقه، وكان لا ينساها بعد لابن الاشتر.
ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثا، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث فانه لزم داره، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أمانا، فقال: ما كنت لافعل هذا (1) وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة، فقال له: فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفيا حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الامر وبما كان منا في نصره وإقامته دولته، فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفيا حتى دخل دار أبي موسى الاشعري، فلما أصبح الناس أخذ الامراء إليهم أمانا من ابن الاشتر فأمنهم، فخرجوا من القصر وجاؤوا إلى المختار فبايعوه، ثم دخل المختار إلى القصر فبات فيه، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة ثم دعا الناس إلى البيعة وقال: فوالذي جعل السماء سقفا مكفوفا والارض فجاجا سبلا، ما بايعتم بعد بيعة علي أهدى منها.
ثم نزل فدخل الناس يبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بثأر أهل البيت (2) وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فأراه أنه لا يسمع قوله، فكرر ذلك ثلاثا فسكت الرجل، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم (3).
وقال له: اذهب فقد أخذت بمكانك - وكان له صديقا قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى ابن الزبير وهو مغلوب، وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة، ووجد في بيت المال تسعة
آلاف ألف، فأعطى الجيش الذي حضروا معه القتال نفقات كثيرة، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل اليشكري (4)، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره، وقالوا: لابي عمرة كيسان مولى غزينة - وكان على حرسه - قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا، فأنهى ذلك أبو عمرة إليه، فقال: بل هم مني وأنا منهم، ثم قال: * (إنا من المجرمين منتقمون) * [ السجدة: 22 ] فقال لهم أبو عمرة: أبشروا فإنه سيدنيكم ويقربك.
فأعجبهم ذلك وسكتوا.
ثم إن المختار بعث الامراء إلى النواحي والبلدان والرساتيق، من أرض العراق وخراسان، وعقد الالوية والرايات، وقرر الامارة والولايات (5)، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 292: سأل ابن مطيع الامامة لنفسه فأجابه المختار إلى ذلك، فأمنه.
(2) زيد في الطبري 7 / 108 والكامل 4 / 226: وجهاد المحلين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتكم لا نقيلكم ولا نستقبلكم.
(وانظر الفتوح لابن الاعثم 6 / 113 - 114).
(3) في ابن الاعثم: عشرة آلاف درهم.
(4) في الطبري والكامل: الشاكري.
(5) في الطبري: 7 / 109: أول رجل عقد له المختار راية عبد الله بن الحارث أخو الاشتر على أرمينية وبعث محمد بن عمير بن عطارد على آذربيجان وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث اسحاق بن مسعود على =

بينهم، فلما طال ذلك عليه استقضى شريحا فتكلم في شريح طائفة من الشيعة، وقالوا: إنه شهد حجر بن عدي، وإنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة كما أرسله به، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء.
فلما بلغ شريحا ذلك تمارض ولزم بيته، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا.
فصل ثم شرع المختار يتتبع قتلة الحسين من شريف ووضيع فيقتله، وكان سبب ذلك أن
عبيد الله بن زياد كان قد جهزه مروان من دمشق ليدخل الكوفة، فإن ظفر بها فليبحها ثلاثة أيام، فسار ابن زياد قاصدا الكوفة، فلقي جيش التوابين فكان من أمرهم ما تقدم.
ثم سار من عين وردة حتى انتهى إلى الجزيرة فوجد بها قيس غيلان، وهم من أنصار ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب منهم قتلى كثيرة يوم مرج راهط، فهم إلب عليه، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فتعوق عن المسير سنة وهو في حرب قيس غيلان وبالجزيرة، ثم وصل إلى الموصل فانحاز نائبها (1) عنه إلى تكريت، وكتب إلى المختار يعلمه بذلك فندب المختار يزيد بن أنس في ثلاثة آلاف اختارها، وقال له: إني سأمدك بالرجال بعد الرجال، فقال له: لا تمدني إلا بالدعاء.
وخرج معه المختار إلى ظاهر الكوفة فودعه ودعا له وقال له: ليكن خبرك في كل يوم عندي، وإذ لقيت عدوك فناجزك فناجزه، ولا تؤخر فرصة.
ولما بلغ مخرجهم ابن زياد (2) جهز بين يديه سريتين إحداهما مع ربيعة بن مخارق ثلاثة آلاف، والاخرى مع عبد الله بن حملة (3) ثلاثة آلاف، وقال: أيكم سبق فهو الامير، وإن سبقتما معا فالامير عليكم أسنكما.
فسبق ربيعة بن مخارق إلى يزيد بن أنس فالتقيا في طرف أرض الموصل مما يلي الكوفة، فتواقفا هنالك، ويزيد بن أنس مريض مدنف، وهو مع ذلك يحرض قومه على الجهاد ويدور على الارباع وهو محمول مضني وقال للناس: إن هلكت فالامير على
__________
= المدائن وأرض جوخى وبعث قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري على بهقباذ الاعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهبقباذ الاوسط، وبعث حبيب بن منقذ الثوري على بهقباذ الاسفل، وبعث سعد بن حذيفة بن حلوان على حلوان.
وانظر ابن الاثير 4 / 227 وانظر الاسماء باختلاف في الاخبار الطوال (ص 292).
(1) وهو عبد الرحمن بن سعيد بن قيس (الطبري - الكامل).
(2) في ابن الاعثم 6 / 139 والاخبار الطوال ص 293: ان عبد الملك بن مروان دعا بابن زياد وضم إليه ثمانين وكلفه بمقاتلة المختار ومصعب بن الزبير ثم يسير إلى عبد الله بن الزبير بالحجاز وقال له: أنت تعلم أن أبي مروان كان قد أمرك بالمسير إلى العراق على أنك تأتي الكوفة فتقتل أهلها وتنهبها ثلاثا ثم أن الموت عاجله، والآن فإني وليتك...(3) في ابن الاثير: عبد الله بن جملة الخثعمي.

الناس (1) عبد الله بن ضمرة الفزاري، وهو رأس الميمنة، وإن هلك فمسعر (2) بن أبي مسعر رأس الميسرة، وكان ورقاء (3) بن خالد الاسدي على الخيل.
وهو وهؤلاء الثلاثة أمراء الارباع، وكان ذلك في يوم عرفة من سنة ست وستين عند إضاءة الصبح، فاقتتلوا هم والشاميون قتالا شديدا، واضطربت كل من الميمنتين والميسرتين، ثم حمل ورقاء على الخيل فهمزها وفر الشاميون وقتل أميرهم ربيعة بن مخارق، واحتاز جيش المختار ما في معسكر الشاميين، ورجع فرارهم فلقوا الامير الآخر عبد الله بن حملة، فقال: ما خبركم ؟ فأخبروه فرجع بهم وسار بهم نحو يزيد بن أنس فانتهى إليهم عشاء، فبات الناس متحاجزين، فلما أصبحوا تواقفوا على تعبئتهم، وذلك يوم الاضحى من سنة ست وستين، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم جيش المختار جيش الشاميين أيضا، وقتلوا أميرهم عبد الله بن حملة واحتووا على ما في معسكرهم، وأسروا منهم ثلاثمائة أسير، فجاؤوا بهم إلى يزيد بن أنس وهو على آخر رمق، فأمر بضرب أعناقهم.
ومات يزيد بن أنس من يومه ذلك وصلى عليه خليفته ورقاء بن عامر (3) ودفنه، وسقط في أيدي أصحابه وجعلوا يتسللون راجعين إلى الكوفة، فقال لهم ورقاء يا قوم ماذا ترون ؟ إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل في ثمانين ألفا من الشام، ولا أرى لكم بهم طاقة، وقد هلك أميرنا، وتفرق عنا طائفة من الجيش من أصحابنا فلو انصرفنا راجعين إلى بلادنا ونظهر أنا إنما انصرفنا حزنا منا على أميرنا لكان خيرا لنا من أن نلقاهم فيهزموننا ونرجع مغلوبين، فاتفق رأي الامراء على ذلك، فرجعوا إلى الكوفة.
فلما بلغ خبرهم أهل الكوفة، وأن يزيد بن أنس قد هلك، أرجف أهل الكوفة بالمختار وقالوا قتل يزيد بن أنس في المعركة وانهزم جيشه، وعما قليل يقدم عليكم ابن زياد فيستأصلكم ويشتف خضراكم، ثم تمالاوا على الخروج على المختار وقالوا: هو كذاب، واتفقوا على حربه وقتاله وإخراجه من بين أظهرهم، واعتقدوا أنه كذاب، وقالوا: قد قدم موالينا على أشرافنا، وزعم أن ابن الحنفية قد أمره بالاخذ بثأر الحسين وهو لم يأمره بشئ، وإما هو متقول
عليه، وانتظروا بخروجهم عليه أن يخرج من الكوفة إبراهيم بن الاشتر فإنه قد عينه المختار أن يخرج في سبعة آلاف للقاء ابن زياد، فلما خرج ابن الاشتر اجتمع أشراف الناس ممن كان في جيش قتلة الحسين وغيرهم في دار شبث بن ربعي وأجمعوا أمرهم على قتال المختار، ثم وثبوا فركبت كل قبيلة مع أميرها في ناحية من نواحي الكوفة، وقصدوا قصر الامارة، وبعث المختار عمرو بن ثوبة (4) بريدا إلى إبراهيم بن الاشتر ليرجع إليه سريعا وبعث المختار إلى أولئك يقول لهم: ماذا
__________
(1) في الطبري 7 / 114: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الاسدي فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة.
(وانظر أيضا الفتوح 6 / 143).
(2) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: سعر بن أبي سعر.
(3) في الطبري وابن الاثير: ورقاء بن عازب الاسدي.
(4) في الطبري 7 / 117 وابن الاعثم 6 / 148: توبة.

تنقمون ؟ فإني أجيبكم إلى جميع ما تطلبون، وإنما يريد أن يثبطهم عن مناهضته حتى يقدم إبراهيم بن الاشتر، وقال: إن كنتم لا تصدقونني في أمر محمد بن الحنفية فابعثوا من جهتكم وأبعث من جهتي من يسأله عن ذلك، ولم يزل يطاولهم حتى قدم ابن الاشتر بعد ثلاث، فانقسم هو والناس فرقتين، فتكفل المختار بأهل اليمن، وتكفل ابن الاشتر بمضر وعليهم شبث بن ربعي، وكان ذلك بإشارة المختار، حتى لا يتولى ابن الاشتر بقتال قومه من أهل اليمن فيحنو عليهم وكان المختار شديدا عليهم.
ثم اقتتل الناس في نواحي الكوفة قتال عظيما وكثرت القتلى بينهم من الفريقين، وجرت فصل وأحوال حربية يطول استقصاؤها، وقتل جماعة من الاشراف، منهم عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الكندي، وسبعمائة وثمانين رجلا من قومه (1)، وقتل من مضر بضعة عشر رجلا، ويعرف هذا اليوم بجبانة السبيع، وكان ذلك يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، ثم كانت النصرة للمختار عليهم، وأسر منهم خمسمائة أسير، فعرضوا عليه فقال: أنظروا من كان
منهم شهد مقتل الحسين فاقتلوه، فقتل منهم مائتان وأربعون رجلا (2)، وقتل أصحابه منهم من كان يؤذيهم ويسئ إليهم بغير أمر المختار، ثم أطلق الباقين، وهرب عمرو بن الحجاج الزبيدي، وكان ممن شهد قتل الحسين فلا يدري أين ذهب من الارض.
مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسينا وهرب أشراف الكوفة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير، وكان ممن هرب لقصده شمر بن ذي الجوشن قبحه الله، فبعث المختار في أثره غلاما له يقال له زرنب (3)، فلما دنا منه قال شمر لاصحابه: تقدموا وذروني وراءكم بصفة أنكم قد هربتم وتركتموني حتى يطمع في هذا العلج، فساقوا وتأخر شمر فأدركه زرنب فعطف عليه شمر فدق ظهره فقتله، وسار شمر وتركه، وكتب كتابا إلى مصعب بن الزبير وهو بالبصرة ينذره بقدومه عليه، ووفادته إليه، وكان كل من فر من هذه الوقعة يهرب إلى مصعب بالبصرة، وبعث شمر الكتاب مع علج من علوج قرية قد نزل عندها يقال لها الكلبانية (4) عند نهر إلى جانب تل هناك، فذهب ذلك العلج فلقيه علج آخر فقال
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 151: فحصر من كان قتل من أصحاب المختار فكانوا مائة وخمسة وثلاثين رجلا، وأحصي من قتل من الخارجين عليه فكانوا ستمائة وأربعين رجلا، فذلك سبعمائة وخمسة وسبعون رجلا.
(2) في الطبري وابن الاثير: مائتان وثمانية وأربعين رجلا.
(3) في الطبري 7 / 121: زربيا، وفي ابن الاثير 4 / 236 زربى، وفي ابن الاعثم 6 / 155: رزين وفي تهذيب ابن عساكر 6 / 339: زريق.
(4) في ابن الاثير والطبري: الكلتانية، وانظر ابن الاعثم ومعجم البلدان.

له: إلى أين تذهب ؟ قال: إلى مصعب.
قال: ممن ؟ قال: من شمر، فقال: اذهب معي إلى سيدي، وإذا سيده أبو عمرة أمير حرس المختار، وهو (1) قد ركب في طلب شمر، فدله العلج على مكانه فقصده أبو عمرة، وقد أشار أصحاب شمر عليه أن يتحول من مكانه ذلك، فقال
لهم: هذا كله فرق من الكذاب، والله لا أرتحل من ههنا إلى ثلاثة أيام حتى أملا قلوبهم رعبا فلما كان الليل كابسهم أبو عمرة في الخيل فأعجلهم أن يركبوا أو يلبسوا أسلحتهم، وثار إليهم شمر بن ذي الحوشن فطاعنهم برمحه وهو عريان ثم دخل خيمته فاستخرج منها سيفا وهو يقول: نبهتم ليث عرين باسلا (2) * جهما محياه يدق الكاهلا لم ير يوما عن عدو ناكلا * إلا أكر مقاتلا أو قاتلا (3) يزعجهم (4) ضربا ويروي العاملا ثم ما زال يناضل عن نفسه حتى قتل، فلما سمع أصحابه وهم منهزمون صوت التكبير وقول أصحاب المختار الله أكبر قتل الخبيث عرفوا أنه قد قتل قبحه الله.
قال أبو مخنف: عن يونس بن أبي إسحاق قال: ولما خرج المختار من جبانة السبيع وأقبل إلى القصر - يعني منصرفه من القتال - ناداه سراقة بن مرداس بأعلا صوته وكان في الاسرى.
امنن علي اليوم يا خير معد * وخير من حل بشحر والجند وخير من لبى وصام وسجد (5) قال: فبعث إلى السجن فاعتقله ليلة ثم أطلقه من الغد، فأقبل إلى المختار وهو يقول: ألا أخبر (6) أبا إسحاق أنا * نزونا نزوة كانت علينا خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا * وكان خروجنا بطرا وشينا (7)
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 156: دعا برجل يقال له عبد الرحمن بن عبيد الهمداني في عشرة رجال.
(2) في ابن الاعثم: تيمموا ليثا هزبرا باسلا.
(3) في ابن الاعثم: لم يك...إلا كذا مقاتلا أو قاتلا وفي الطبري وابن الاثير: إلا كذا مقاتلا أو قاتلا.
وزاد شطرا آخر.
(4) في الطبري وابن الاثير وابن عساكر يبرحهم، وفي ابن الاعثم، يمنحكم طعنا وموتا عاجلا.
(5) في الطبري 7 / 122: وخير من حي ولبى وسجد، وفي ابن الاثير 4 / 238: من لبى حيا وسجد.
وفي ابن الاعثم 6 / 151:
وخير من حل بقوم ووفد * وخير من لبى لجبار صمد (6) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: ألا أبلغ.
(7) في ابن الاعثم:...لا نرى الابطال...وحينا (كما في الطبري وابن الاثير).

نراهم (1) في مصافهم (2) قليلا * وهم مثل الربا (3) حين التقينا برزنا إذ رأيناهم فلما * رأينا القوم قد برزوا إلينا رأينا منهم ضربا وطحنا * وطعنا صائبا حتى انثنينا (4) نصرت على عدوك كل يوم * بكل كثيبة تنعى حسينا (5) كنصر محمد في يوم بدر * ويوم الشغب إذ لاقى حنينا فاسجح إذ ملكت فلو ملكنا (6) * لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني * سأشكر إذ جعلت العفو دينا (7) وجعل سراقة بن مرداس يحلف أنه رأى الملائكة على الخيول البلق بين السماء والارض، وأنه لم يأسره إلا واحد من أولئك الملائكة، فأمره المختار أن يصعد المنبر فيخبر الناس بذلك.
فصعد المنبر فأخبر الناس بذلك، فلما نزل خلا به المختار فقال له: إني قد عرفت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت بقولك هذا أني لا أقتلك، ولست أقتلك فاذهب حيث شئت لئلا تفسد على أصحابي، فذهب سراقة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير وجعل يقول: ألا أخبر (8) أبا إسحاق أني * رأيت البلق دهما مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذرا * علي قتالكم (9) حتى الممات رأيت عيناي (10) ما لم تبصراه * كلانا عالم بالترهات
__________
(1) في ابن عساكر: تراهم، وليس البيت في ابن الاثير.
(2) في الطبري: مصافهم، وفي ابن عساكر: مصفهم، وفي ابن الاعثم: صفوفهم.
(3) في الطبري وابن الاعثم وابن عساكر: الدبى.
(4) في الطبري وابن الاثير: لقينا منهم ضربا طلحفا...وفي ابن الاعثم: لقينا منهم ضربا عنيدا * وطعنا مسحجا...(5) في ابن الاعثم: زففت الخيل يا مختار زفا * بكل كتيبة قتلت حسينا نصرت على عدوك كل يوم * بكل حضارم لم يلق شينا (6) في ابن الاعثم: فصفحا إذ قدرت فلو قدرنا...(7) في الاخبار الطوال ص 303 بدل الابيات المذكورة: ألا من مبلغ المختار أنا * نزونا نزوة كانت علينا خرجنا لا نرى الاشراك دينا * وكان خروجنا بطرا وحينا (8) في ابن الاثير والطبري وابن الاعثم: ألا أبلغ...وفي الاخبار الطوال ص 303: عجزه: رأيت الشهب كمتا مصمتات (9) في ابن عساكر: هجاءكم.
(10) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم وابن عساكر: أري عيني.

إذا قالوا: أقول لهم (1) كذبتم * وإن خرجوا لبست لهم أداتي قالوا: ثم خطب المختار أصحابه فحرضهم في خطبته تلك على من قتل الحسين من أهل الكوفة المقيمين بها، فقالوا: ما ذنبنا نترك أقواما قتلوا حسينا يمشون في الدنيا أحياء آمنين، بئس ناصرو آل محمد إني إذا كذاب كما سميتموني أنتم، فإني والله أستعين عليهم، فالحمد لله الذي جعلني سيفا أضربهم، ورمحا أطعنهم، وطالب وترهم، وقائما بحقهم، وإنه كان حقا على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم، فإنه لا يسيغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الارض منهم، وأنفي من في المصر منهم.
ثم جعل يتتبع من في الكوفة - وكانوا يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات مما يناسب ما
فعلوا -، ومنهم من حرقه بالنار، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات، ومنهم من يرمي بالنبال حتى يموت، فأتوه بمالك بن بشر فقال له المختار: أنت الذي نزعت برنس الحسين عنه ؟ فقال: خرجنا ونحن كارهون فامنن علينا، فقال: اقطعوا يديه ورجليه.
ففعلوا به ذلك ثم تركوه يضطرب حتى مات، وقتل عبد الله بن أسيد الجهني وغيره شر قتلة.
مقتل خولي بن يزيد الاصبحي الذي احتز رأس الحسين بعث إليه المختار أبا عمرة صاحب حرسه، فكبس بيته فخرجت إليهم امرأته فسألوها عنه فقالت: لا أدري أين هو، وأشارت بيدها إلى المكان الذي هو مختف فيه، - وكانت تبغضه من ليلة قدم برأس الحسين معه إليها، وكانت تلومه على ذلك - واسمها العبوق (2) بنت مالك بن نهار بن عقرب الحضرمي، فدخلوا عليه فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرة فحملوه إلى المختار فأمر بقتله قريبا من داره، وأن يحرق بعد ذلك.
وبعث المختار إلى حكيم بن فضيل (3) السنبسي - وكان قد سلب العباس بن علي بن أبي طالب يوم قتل الحسين - فأخذ فذهب أهله إلى عدي بن حاتم، فركب ليشفع فيه عند المختار، فخشي أولئك الذين أخذوه أن يسبقهم عدي إلى المختار فيشفعه فيه، فقتلوا حكيما قبل أن يصل إلى المختار، فدخل عدي فشفع فيه فشفعه فيه: فلما رجعوا وقد قتلوه شتمهم عدي وقام متغضبا عليهم وقد تقلد منة المختار.
وبعث المختار إلى يزيد بن ورقاء وكان قد قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، فلما أحاط الطلب بداره خرج فقاتلهم فرموه بالنبل والحجارة حتى سقط، ثم حرقوه وبه رمق الحياة، وطلب المختار سنان بن أنس، الذي كان يدعي أنه قتل الحسين، فوجدوه قد هرب إلى البصرة أو الجزيرة فهدمت داره، وكان
__________
(1) في ابن الاعثم: لكم، وليس البيت في ابن عساكر وابن الاثير.
(2) في الطبري 7 / 126 وابن الاثير 4 / 240: العيوف.
(3) في الطبري والكامل: حكيم بن طفيل الطائي السنبسي.

محمد بن الاشعث بن قيس ممن هرب إلى مصعب فأمر المختار بهدم داره وأن يبني بها دار حجر بن
عدي التي كان زياد هدمها.
مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الذين قتلوا الحسين قال الواقدي: كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جالسا ذات يوم إذ جاء غلام له ودمه يسيل على عقبيه، فقال له سعد: من فعل بك هذا ؟ فقال: ابنك عمر، فقال سعد: اللهم اقتله وأسل دمه.
وكان سعد مستجاب الدعوة، فلما خرج المختار على الكوفة استجار عمر بن سعد بعبد الله بن جعدة بن هبيرة، وكان صديقا للمختار من قرابته من علي، فأتى المختار فأخذ منه لعمر بن سعد أمانا مضمونه أنه آمن على نفسه وأهله وماله ما أطاع ولزم رحله ومصره، ما لم يحدث حدثا (1).
وأراد المختار ما لم يأت الخلاء فيبول أو يغوط.
ولما بلغ عمر بن سعد أن المختار يريد قتله خرج من منزله ليلا يريد السفر نحو مصعب أو عبيد الله بن زياد، فنمى للمختار بعض مواليه ذلك، فقال المختار: وأي حدث أعظم من هذا ؟ وقيل إن مولاه قال له ذلك، وقال له: تخرج من منزلك ورحلك ؟ ارجع، فرجع.
ولما أصبح بعث إلى المختار يقول له: هل أنت مقيم على أمانك ؟ وقيل إنه أتى المختار يتعرف منه ذلك فقال له المختار: اجلس، وقيل إنه أرسل عبد الله بن جعدة إلى المختار يقول له: هل أنت مقيم على أمانك له ؟ فقال له المختار: اجلس، فلما جلس قال المختار لصاحب حرسه: اذهب فأتني برأسه فذهب إليه فقتله وأتاه برأسه.
وفي رواية أن المختار قال ليلة: لاقتلن غدا رجلا عظيم القدمين غائر العينين، مشرف الحاجبين يسر بقتله المؤمنون والملائكة المقربون، وكان الهيثم بن الاسود حاضرا فوقع في نفسه أنه أراد عمر بن سعد فبعث إليه ابنه الغرثان فأنذره، فقال: كيف يكون هذا بعد ما أعطاني من العهود والمواثيق ؟ وكان المختار حين قدم الكوفة أحسن السيرة إلى أهلها أولا وكتب لعمر بن سعد كتاب أمان إلا أن يحدث حدثا.
قال أبو مخنف: وكان أبو جعفر الباقر يقول: إنما أراد المختار إلا أن يدخل الكنيف فيحدث فيه، ثم إن عمر بن سعد قلق أيضا، ثم جعل يتنقل من محلة إلى محلة ثم صار أمره أنه رجع إلى داره، وقد بلغ المختار انتقاله من موضع إلى موضع فقال: كلا والله إن في عنقه سلسلة ترده
لوجهه، إن يطير لادركه دم الحسين فآخذ برجله.
ثم أرسل إليه أبا عمرة فأراد الفرار منه فعثر في
__________
(1) انظر نسخة العهد في ابن الاعثم 6 / 122 وانظر في قتله الطبري 7 / 126 وابن الاثير 4 / 242 وأما في الاخبار الطوال ص 301 ففيه: أن عمر بن سعد هرب مع بعض أشراف الكوفة، فأخذوا طريق البصرة فأرسل رجلا من خاصته يسمى أبا القلوص الشبامي، فلحقهم بناحية المذار...ووقع عمر بن سعد بيده فأتى به المختار...فضرب عنقه.

جبته، فضربه أبو عمرة بالسيف حتى قتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار، فقال المختار، لابنه حفص - وكان جالسا عند المختار - فقال: أتعرف هذا الرأس ؟ فاسترجع وقال: نعم ولا خير في العيش بعده، فقال: صدقت، ثم أمر فضربت عنقه ووضع رأسه مع رأس أبيه، ثم قال المختار: هذا بالحسين وهذا بعلي بن الحسين الاكبر، ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله.
ثم بعث المختار برأسيهما إلى محمد بن الحنفية، وكتب إليه كتابا في ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد، سلام عليك أيها المهدي فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم فهم بين قتيل وأسير وطريد وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتلكم، ونصر مؤازركم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه وقد قتلنا ممن اشترك في دم الحسين وأهل بيته كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنحجم عنهم حتى يبلغني أنه لم يبق على وجه الارض منهم أحد، فاكتب إلي أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه، والسلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته.
ولم يذكر ابن جرير أن محمد بن الحنفية رد جوابه، مع أن ابن جرير قد تقصى هذا الفصل وأطال شرحه، ويظهر من غبون كلامه قوة وجده به وغرامه، ولهذا توسع في إيراده بروايات أبي مخنف لوط بن يحيى، وهو متهم فيما يرويه، ولا سيما في باب التشيع، وهذا المقام للشيعة فيه غرام وأي غرام، إذ فيه الاخذ بثأر الحسين وأهله من قتلتهم، والانتقام منهم، ولا شك أن قتل قتلته كان متحتما،
والمبادرة إليه كان مغنما، ولكن إنما قدره الله على يد المختار الكذاب الذي صار بدعواه إتيان الوحي إليه كافرا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " (1).
وقال تعالى في كتابه الذي هو أفضل ما يكتبه الكاتبون * (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) * [ الانعام: 129 ] وقال بعض الشعراء: وما من يد إلا يد الله فوقها * ولا ظالم إلا سيبلى بظالم وسيأتي في ترجمة المختار ما يدل على كذبه وافترائه، وادعائه نصرة أهل البيت، وهو في نفس الامر متستر بذلك ليجمع عليه رعاعا من الشيعة الذين بالكوفة.
ليقيم لهم دولة ويصول بهم ويجول على مخالفيه صولة.
ثم إن الله تعالى سلط عليه من انتقم منه، وهذا هو الكذاب الذي قال فيه الرسول في حديث أسماء بنت الصديق: " إنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير " (2).
فهذا هو الكذاب وهو
__________
(1) رواه البخاري عن أبي اليمان وقال البخاري قال عقبة تابعه معمر عن الزهري عن سعيد فتح الباري 7 / 471.
(2) رواه البيهقي عن أبي داود الطيالسي في الدلائل 6 / 482 ونحوه روى مسلم في فضائل الصحابة (58) باب.
=

؟ ظهر التشيع وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد ولي الكوفة من جهة عبد الملك بن مروان كما سيأتي، وكان الحجاج عكس هذا، كان ناصبيا جلدا ظالما غاشما، ولكن لم يكن في طبقة هذا، متهم على دين الاسلام ودعوة النبوة، وأنه يأتيه الوحي من العلي العلام.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة بعث المختار المثنى بن مخرمة العبدي إلى البصرة يدعو إليه من استطاع من أهلها، فدخلها وابتنى بها مسجدا يجتمع فيه إليه قومه، فجعل يدعو إلى المختار، ثم أتى مدينة الورق (1) فعسكر عندها فبعث إليه الحارث بن عبد الله بن ربيعة القباع - وهو أمير البصرة قبل أن يعزل بمصعب - جيشا مع عباد بن الحصين أمير الشرطة، وقيس بن الهيثم.
فقاتلوه وأخذوا منه المدينة وأنهزم أصحابه، وكان قد قام بنصرتهم بنو عبد القيس، فبعث إليهم الجيش فبعثوا إليه فأرسل الاحنف بن قيس وعمرو (2) بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا بين الناس،
وساعدهما مالك بن مسمع، فانحجز الناس بعضهم عن بعض، ورجع إلى المختار في نفر يسير مغلولا مغلوبا مسلوبا، وأخبر المختار بما وقع من الصلح على يدي الاحنف وغيره من أولئك الامراء، وطمع المختار فيهم وكاتبهم في أن يدخلوا معه فيما هو فيه من الامر، وكان كتابه إلى الاحنف بن قيس: من المختار إلى الاحنف بن قيس ومن قبله من الامراء: أفسلم أنتم أما بعد فويل لبني ربيعة من مضر، وأن الاحنف يورد قومه سقر، حيث لا يستطيع لهم صدر، وإني لا أملك لكم ما قد خط في القدر، وقد بلغني أنكم سميتموني الكذاب، وقد كذب الانبياء من قبلي ولست بخير منهم.
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، ثنا الحسن بن حماد، عن حماد (3) بن علي بن مجالد عن الشعبي.
قال: دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الاحنف بن قيس، فقال بعض القوم: ممن أنت ؟ فقلت: رجل من أهل الكوفة، فقال: أنتم موال لنا، قلت: وكيف ؟ قال: أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار، قلت: أتدري ما قال شيخ من همدان فينا وفيكم ؟ فقال الاحنف: وما قال ؟ قلت: قال: أفخرتم ان قتلتم أعبدا * وهزمتهم مرة آل عدل (4)
__________
= ح (229) ص (1971) عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت للحجاج: حدثنا رسول الله أن في ثقيف كذابا ومبيرا فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه.
(1) في الطبري 7 / 130 وابن الاثير 4 / 245: الرزق.
(2) في الطبري وابن الاثير: وعمر.
(3) في الطبري: حيان.
(4) في الطبري: آل عزل.

فإذا فاخرتمونا فاذكروا * ما فعلنا بكم يوم الجمل بين شيخ خاضب عثبونه * وفتى البيضاء وضاحا دقل (1)
جاء يهدج في سابغة * فذبحناه ضحى ذبح الجمل وعفونا فنسيتم عفونا * وكفرتم نعمة الله الاجل وقتلتم بحسين منهم * بدلا من قومكم شر بدل قال: فغضب الاحنف وقال: يا غلام هات الصحيفة، فأتى بصحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من المختار بن أبي عبيد إلى الاحنف بن قيس، أما بعد فويل لبني ربيعة من مضر فإن الاحنف يورد قومه سقر حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، فإن كذبت فقد كذبت رسل من قبلي، ولست بخير منهم، ثم قال الاحنف: هذا منا أو منكم.
فصل ولما علم المختار أن ابن الزبير لا ينام عنهم، وأن جيش الشام من قبل عبد الملك مع ابن زياد يقصدونه في جمع كثير لا يرام، شرع يصانع ابن الزبير ويعمل على خداعه والمكر به، فكتب إليه: إني كنت بايعتك على السمع والطاعة والنصح لك، فلما رأيتك قد أعرضت عني تباعدت عنك، فإن كنت على ما أعهد منك فأنا على السمع والطاعة لك، والمختار يخفي هذا كل الاخفاء عن الشيعة، فإذا ذكر له أحد شيئا من ذلك أظهر لهم أنه أبعد الناس من ذلك، فلما وصل كتابه إلى ابن الزبير أراد أن يعلم أصادق أم كاذب، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليتكها، فقال: وكيف وبها المختار ؟ فقال: يزعم أنه سامع لنا مطيع، وأعطاه قريبا من أربعين ألفا يتجهز بها، فسار فلما كان ببعض الطريق لقيه زائدة بن قدامة من جهة المختار في خمسمائة فارس ملبسة، ومعه سبعون ألفا من المال، وقد تقدم إليه المختار فقال: اعطه المال فإن هو انصرف وإلا فأره الرجال فقاتله حتى ينصرف، فلما رأى عمر بن عبد الرحمن الجد قبض المال وسار إلى البصرة فاجتمع هو وابن مطيع بها عند أميرها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخرمة كما تقدم، وقيل وصول مصعب بن الزبير إليها.
وبعث عبد الملك بن مروان ابن عمه عبد الملك بن الحارث بن الحكم في جيش إلى وادي
القرى ليأخذوا المدينة من نواب ابن الزبير، وكتب المختار إلى ابن الزبير إن أحببت أن أمدك بمدد، وإنما يريد خديعته ومكايدته، فكتب إليه ابن الزبير: إن كنت على طاعتي فلست أكره ذلك
__________
(1) في الطبري: بين...عثنونه * وفتى أبيض وضاح رفل.
والعثنون: اللحية.

فابعث بجند إلى وادي القرى ليكونوا مددا لنا على قتال الشاميين.
فجهز المختار ثلاثة آلاف عليهم شرحبيل بن ورس الهمداني، ليس فيهم من العرب إلا سبعمائة، وقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلت فاكتب إلي حتى يأتيك أمري، وإنما يريد أخذ المدينة من ابن الزبير، ثم يركب بعد ذلك إلى مكة ليحاصر ابن الزبير بها، وخشي ابن الزبير أن يكون المختار بعث ذلك الجيش مكرا فبعث العباس بن سهل بن سعد الساعدي في ألفين، وأمره أن يستعين بالاعراب وقال لهم: إن رأيتموهم في طاعتي وإلا فكايدوهم حتى يهلكهم الله.
فأقبل العباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد بقي ابن ورس في جيشه، فاجتمعا على ماء هنالك، فقال له العباس: ألستم في طاعة ابن الزبير ؟ فقال: بلى، قال: فإنه قد أمرني أن نذهب إلى وادي القرى فنقاتل من به من الشاميين.
فقال له ابن ورس: فإني لم أومر بطاعتك، وإنما أمرني أن أدخل المدينة ثم أكتب إلى صاحبي فإنه يأمرني بأمره، ففهم عباس مغزاه ولم يظهر له أنه فطن لذلك، فقال له: رأيك أفضل، فاعمل ما بدا لك.
ثم نهض العباس من عنده وبعث إليهم الجزر والغنم والدقيق، وقد كان عندهم حاجة شديدة إلى ذلك، وجوع كثير، فجعلوا يذبحون ويطبخون ويختبزون ويأكلون على ذلك الماء، فلما كان الليل بيتهم عباس بن سهل فقتل أميرهم وطائفة منهم نحوا من سبعين، وأسر منهم خلقا كثيرا فقتل أكثرهم، ورجع القليل منهم إلى المختار وإلى بلادهم خائبين.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف أن عباس بن سهل انتهى إليهم وهو يقول: أنا ابن سهل فارس غير وكل * أروع مقدام إذا الكبش نكل
وأعتلي رأس الطرماح البطل * بالسيف يوم الروع حتى ينجدل (1) فلما بلغ خبرهم المختار قام في أصحابه خطيبا فقال: إن الفجار الاشرار قتلوا الابرار الاخيار، ألا إنه كان أمر مأتيا، وقضاء مقضيا.
ثم كتب إلى محمد بن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثعمي: كتابا يذكر فيه أنه بعث إلى المدينة جيشا لنصرته فغدر بهم جيش ابن الزبير، فإن رأيت أن أبعث جيشا آخر إلى المدينة وتبعث من قبلك رسلا إليهم فافعل، فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد فإن أحب الامور كلها إلي ما أطيع الله فيه، فأطع الله فيما أسررت وأعلنت، واعلم أني لو أردت القتال لوجدت الناس إلي سراعا، والاعوان لي كثيرة، ولكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
وقال لصالح بن مسعود: قل للمختار فليتق الله وليكف عن الدماء.
فلما انتهى إليه كتاب محمد بن الحنفية قال: إني قد أمرت بجمع البر واليسر، وبطرح الكفر والغدر.
__________
(1) في الطبري 7 / 135: ينخزل.

وذكر ابن جرير من طريق المدائني وأبي مخنف: أن ابن الزبير عمد إلى ابن الحنفية وسبعة عشر رجلا من أشراف أهل الكوفة فحبسهم حتى يبايعوه، فكرهوا إن يبايعوا إلا من اجتمعت عليه الامة، فتهددهم وتوعدهم واعتقلهم بزمزم، فكتبوا إلى المختار بن أبي عبيد يستصرخونه ويستنصرونه، ويقولون له: إن ابن الزبير قد توعدنا بالقتل والحريق، فلا تخذلونا كما خذلتم الحسين وأهل بيته (1)، فجمع المختار الشيعة وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا صريخ أهل البيت يستصرخكم ويستنصركم، فقام في الناس بذلك وقال: لست أنا بأبي اسحاق إن لم أنصركم نصرا مؤزرا، وإن لم أرسل إليهم الخيل كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل، ثم وجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا من أهل القوة، وظبيان بن عمر (2) التيمي في أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، وكتب إلى محمد بن الحنفية مع الطفيل بن عامر (3) بتوجيه الجنود إليه، فنزل أبو عبد الله الجدلي بذات عرق حتى تلاحق به نحو
من مائة وخمسين فارسا، ثم سار بهم حتل دخل المسجد الحرام نهارا جهارا وهم يقولون: يا ثارات الحسين، وقد أعد ابن الزبير الحطب لابن الحنفية وأصحابه ليحرقهم به إن لم يبايعوه، وقد بقي من الاجل يومان، فعمدوا - يعني أصحاب المختار - إلى محمد بن الحنفية فأطلقوه من سجن ابن الزبير، وقالوا: إن أذنت لنا قاتلنا ابن الزبير، فقال: إني لا أرى القتال في المسجد الحرام، فقال لهم ابن الزبير: ليس نبرح وتبرحون حتى يبايع وتبايعوا معه، فامتنعوا عليه ثم لحقهم بقية أصحابهم فجعلوا يقولون وهم داخلون الحرم: يا ثارات الحسين فلما رأى ابن الزبير ذلك منهم خافهم وكف عنهم، ثم أخذوا محمد بن الحنفية وأخذوا من الحجيج مالا كثيرا فسار بهم حتى دخل شعب علي، واجتمع معه أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال.
هكذا أورده ابن جرير وفي صحتها نظر والله أعلم (4).
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله ابن الزبير وكان نائبه بالمدينة أخاه مصعب ونائبه على البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقد استحوذ المختار على الكوفة، وعبد الله بن خازم على بلاد خراسان، وذكر حروبا جرت فيها لعبد الله بن خازم يطول ذكرها.
فصل قال ابن جرير: وفي هذه السنة سار إبراهيم بن الاشتر إلى عبيد الله بن زياد، وذلك لثمان
__________
(1) نسخة الكتاب في ابن الاعثم 6 / 131.
(2) في الطبري: ابن عثمان أخا بني تميم، وفي ابن الاثير، ابن عمارة أخا بني تميم.
(3) نسخة الكتاب في ابن الاعثم 6 / 132.
(4) انظر الطبري 7 / 137 والكامل 4 / 251 وفتوح ابن الاعثم 6 / 135 - 136.

بقين من ذي الحجة.
وقال أبو مخنف عن مشايخه: ما هو إلا أن فرغ المختار من جبانة السبيع وأهل الكناسة، فما ترك ابن الاشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه فيه لقتال أهل الشام، فخرج يوم السبت لثمان بقين (1) من ذي الحجة سنة ست وستين، وخرج معه المختار
يودعه في وجوه أصحابه، وخرج معهم خاصة المختار، ومعهم كرسي المختار على بغل أشهب ليستنصروا به على الاعداء، وهم حافون به يدعون ويستصرخون ويستنصرون ويتضرعون، فرجع المختار بعد أن وصاه بثلاث قال: يا بن الاشتر اتق الله في سرك وعلانيتك، وأسرع السير، وعاجل عدوك بالقتال.
واستمر أصحاب الكرسي سائرين مع ابن الاشتر، فجعل ابن الاشتر يقول: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، سنة بني إسرائيل والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم، فلما جاوز القنطرة هو وأصحابه رجع أصحاب الكرسي.
قال ابن جرير: وكان سبب اتخاذ هذا الكرسي ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شيبويه حدثني أبي، ثنا سليمان، ثنا عبد الله بن المبارك عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، حدثني معبد بن خالد، حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة قال: أعدمت مرة من الورق فإني كذلك إذ مررت بباب رجل هو جار لي له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر في بالي أن لو قلت في هذا، فرجعت فأرسلت إليه أن ارسل إلي بالكرسي، فأرسل به، فأتيت المختار فقلت له: إني كنت أكتمك شيئا وقد بدا لي أن أذكره إليك، قال: وما هو ؟ قال: قلت كرسي كان جعدة بن هبيرة يجلس عليه كأنه كان يرى أن فيه أثرة من علم.
قال: سبحان الله ! ! فلم أخرت هذا إلى اليوم ؟ ابعثه إلي، قال فجئت به وقد غسل فخرج عودا ناضرا وقد شرب الزيت، فأمر لي باثني عشر ألفا، ثم نودي في الناس الصلاة جامعة، قال: فخطب المختار الناس فقال: إنه لم يكن في الامم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الامة مثله، وإنه قد كان في بني إسرائيل تابوت يستنصرون به، وإن هذا مثله، ثم أمر فكشف عنه أثوابه وقامت السبابية فرفعوا أيديهم وكبروا ثلاثا، فقام شبث بن ربعي فأنكر على الناس وكاد أن يكفر من يصنع بهذا التابوت هذا التعظيم.
وأشار بأن يكسر ويخرج من المسجد ويرمى في الخنس، فشكرها الناس لشبث بن ربعي، فلما قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد أقبل، وبعث المختار ابن الاشتر، بعث معه بالكرسي يحمل على بغل أشهب قد غشي بأثواب الحرير، عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، فلما تواجهوا مع الشاميين كما سيأتي وغلبوا الشاميين وقتلوا ابن زياد، ازداد تعظيمهم لهذا الكرسي حتى بلغوا به الكفر، قال الطفيل بن جعدة فقلت:
إنا لله وإنا إليه راجعون، وندمت على ما صنعت، وتكلم الناس في هذا الكرسي وكثر عيب الناس له، فغيب حتى لا يرى بعد ذلك.
وذكر ابن الكلبي أن المختار طلب من آل جعدة بن هبيرة الكرسي الذي كان علي يجلس عليه
__________
(1) في ابن الاعثم: خلون.

فقالوا: ما عندنا شئ مما يقول الامير، فألح عليهم حتى علموا أنهم لو جاؤوا بأي كرسي كان لقبله منهم، فحملوا إليه كرسيا من بعض الدور فقالوا: هذا هو، فخرجت شبام وشاكر وسائر رؤوس المختارية وقد عصبوه بالحرير والديباج.
وحكى أبو مخنف أن أول من سدن هذا الكرسي موسى بن أبي موسى الاشعري، ثم إن الناس عتبوا عليه في ذلك، فرفعه إلى حوشب البرسمي، وكان صاحبه حتى هلك المختار قبحه الله.
ويروى أن المختار كان يظهر أنه لا يعلم بما يعظم أصحابه هذا الكرسي، وقد قال في هذا الكرسي أعشى همدان: شهدت عليكم أنكم سبائية * وأني بكم يا شرطة الشرك عارف وأقسم ما كرسيكم بسكينة * وان كان قد لفت عليه اللفائف وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت * شبام حواليه ونهد وخارف وإني امرؤ أحببت آل محمد * وتابعت وحيا ضمنته المصاحف وتابعت عبد الله لما تتابعت * عليه قريش شمطها والغطارف وقال المتوكل الليثي: أبلغ أبا إسحاق إن جئته * أني بكرسيكم كافر تنزوا شبام حول أعواده * وتحمل الوحي له شاكر محمرة أعينهم حوله * كأنهن الحمص الحادر قلت: هذا وأمثاله مما يدل على قلة عقل المختار وأتباعه، وضعفه وقلة علمه وكثرة جهله، ورداءة فهمه، وترويجه الباطل على أتباعه وتشبهه الباطل بالحق ليضل به الطغام، ويجمع عليه
جهال العوام.
قال الواقدي: وفي هذه السنة وقع في مصر طاعون هلك فيه خلق كثير من أهلها، وفيها ضرب الدنانير عبد العزيز بن مروان بمصر، وهو أول من ضربها بها.
قال صاحب مرآت الزمان: وفيها ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الاقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين، وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناس بمكة، وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بني مروان، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما نسل، وأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحا، فمال معظم أهل الشام إليه، وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا، فبنى القبة على الصخرة والجامع الاقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة.
وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم، ففتح بذلك على نفسه بأن شنع ابن الزبير عليه، وكاد

يشنع عليه بمكة ويقول: ضاهى بها فعل الاكاسرة في إيوان كسرى، والخضراء، كما فعل معاوية.
ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالاموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالاموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الاموال إفراغا ولا يتوقفا فيه، فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت من أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وعملا للقبة جلالين أحدهما من اليود الاحمر للشتاء، وآخر من أدم للصيف، وحفا القبة بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداما بأنواع الطيب والمسك والعنبر والماورد والزعفران، ويعملون منه غالية ويبخرون القبة والمسجد من الليل، وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة والسلاسل الذهب والفضة شيئا كثيرا، وجعل فيها العود القماري المغلف بالمسك وفرشاها والمسجد بأنواع البسط
الملونة، وكانوا إذا أطلقوا البخور شم من مسافة بعيدة، وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياما، ويعرف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة، وكان فيه من السدنة والقوم القائمين بأمره خلق كثير، ولم يكن يومئذ على وجه الارض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس، بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس، وافتتن الناس بذلك افتتانا عظيما، وأتوه من كل مكان، وقد عملوا فيه من الاشارات والعلامات المكذوبة شيئا كثيرا مما في الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك، وإلى زماننا، وبالجملة أن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الارض بهجة ومنظرا، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شئ كثير، وأنواع باهرة.
ولما فرغ رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال، وقيل ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما: قد وهبته منكما، فكتبا إليه: إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نسائنا، فكتب إليهما إذ أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والابواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث.
فلما كان في خلافة أبي جعفر المنصور قدم بيت المقدس في سنة أربعين ومائة، فوجد المسجد خرابا، فأمر أن يقلع ذلك الذهب والصفائح التي على القبة والابواب، وأن يعمروا بها ما تشعث في المسجد، ففعلوا ذلك.
وكان المسجد طويلا فأمر أن يؤخذ من طوله ويزاد في عرضه، ولما كمل البناء كتب على القبة مما يلي الباب القبلي: أمر ببنائه بعد تشعيثه أمير المؤمنين عبد الملك سنة اثنتين وستين من الهجرة النبوية، وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال سبعمائة وخمسة وستون ذراعا، وعرضه أربعمائة وستون ذراعا، وكان فتوح

القدس سنة ست عشرة (1) والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وستين ففيها كان مقتل عبيد الله بن زياد على يدي إبراهيم بن الاشتر النخعي، وذلك أن إبراهيم بن الاشتر خرج من الكوفة يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة في السنة الماضية، ثم استهلت هذه السنة وهو سائر لقصد ابن زياد في أرض الموصل، فكان اجتماعهما بمكان يقال له الخازر، بينه وبين الموصل خمسة فراسخ، فبات ابن الاشتر تلك الليلة ساهرا لا يستطيع النوم، فلما كان قريب الصبح نهض فعبى جيشه وكتب كتائبه، وصلى بأصحابه الفجر في أول وقت، ثم ركب فناهض جيش ابن زياد، وزحف بجيشه رويدا وهو ماش في الرجالة حتى أشرف من فوق تل على جيش ابن زياد، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد، فلما رأوهم نهضوا إلى خيلهم وسلاحهم مدهوشين، فركب ابن الاشتر فرسه وجعل يقف على رايات القبائل فيحرضهم على قتال ابن زياد ويقول: هذا قاتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم الله به وأمكنكم الله منه اليوم، فعليكم به فإنه قد فعل في ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يفعله فرعون في بني إسرائيل هذا ابن زياد قاتل الحسين الذي حال بينه وبين ماء الفرات أن يشرب منه هو وأولاده ونساؤه، ومنعه أن ينصرف إلى بلده أو يأتي يزيد بن معاوية حتى قتله، ويحكم ! ! اشفوا صدروكم منه، وارووا رماحكم وسيوفكم من دمه، هذا الذي فعل في آل نبيكم ما فعل، قد جاءكم الله به، ثم أكثر من هذا القول وأمثاله، ثم نزل تحت رايته، وأقبل ابن زياد في خيله ورجله في جيش كثيف (2) قد جعل على ميمنته حصين بن نمير وعلى الميسرة، عمير بن الحباب السلمي - وكان قد اجتمع بابن الاشتر ووعده أنه معه وأنه سينهزم بالناس غدا - وعلى خيل ابن زياد شرحبيل بن الكلاع (3)، وابن زياد في الرجالة يمشي معهم.
فما كان إلا أن تواقفا الفريقان حتى حمل حصين بن نمير بالميمنة على ميسرة أهل العراق فهزمها، وقتل أميرها علي بن مالك الجشمي فأخذ رايته من بعده ولده محمد (4) بن علي فقتل أيضا، واستمرت الميسرة ذاهبة فجعل الاشتر يناديهم إلي يا شرطة الله، أنا ابن الاشتر، وقد كشف عن رأسه ليعرفوه، فالتاثوا به وانعطفوا عليه، واجتمعوا إليه، ثم حملت ميمنة أهل الكوفة
__________
(1) في الاصل ستة عشر وهو خطأ.
(2) في ابن الاعثم 6 / 173: " في ثلاثة وثمانين ألفا، وابراهيم يومئذ في أقل من عشرين ألفا.
(3) كذا بالاصل والطبري 7 / 143 وابن الاثير 4 / 262، وفي ابن الاعثم 6 / 176: فعباهم عبيد الله بن زياد فجعل على ميمنته شرحبيل بن ذي الكلاع، وعلى ميسرته ربيعة بن مخارق الغنوي، وعلى جناح ميسرته عبد الله بن حملة الخثعمي، وفي القلب يومئذ الحصين بن نمير السكوني ".
وقد تقدم أن ربيعة قتل في الموصل في لقائه مع يزيد بن أنس قائد جيوش المختار وذلك يوم عرفة سنة 66 ه.
وفي مروج الذهب 3 / 116: أن عمير بن حباب السلمي كان على مينة ابن زياد.
(4) في الطبري: قرة بن علي.
(وانظر ابن الاثير 4 / 263).

على ميسرة أهل الشام.
وقيل بل انهزمت ميسرة أهل الشام وانحازت إلى ابن الاشتر، ثم حمل ابن الاشتر بمن معه وجعل يقول لصاحب رايته: ادخل برايتك فيهم، وقاتل ابن الاشتر يومئذ قتالا عظيما، وكان لا يضرب بسيفه رجلا إلا صرعه، وكثرت القتلى بينهم، وقيل إن ميسرة أهل الشام ثبتوا وقاتلوا قتالا شديدا بالرماح ثم بالسيوف، ثم أردف الحملة ابن الاشتر فانهزم جيش الشام بين يديه، فجعل يقتلهم كما يقتل الحملان، واتبعهم بنفسه ومن معه من الشجعان: وثبت عبيد الله بن زياد في موقفه حتى اجتاز به ابن الاشتر فقتله وهو لا يعرفه، لكن قال لاصحابه: التمسوا في القتلى رجلا ضربته بالسيف فنفحتني منه ريح المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، وهو واقف عند راية منفردة على شاطئ نهر خازر: فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد، وإذا هو قد ضربه ابن الاشتر فقطعه نصفين، فاحتزوا رأسه وبعثوه إلى المختار إلى الكوفة مع البشارة بالنصر والظفر بأهل الشام، وقتل من رؤس أهل الشام أيضا حصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع، واتبع الكوفيون أهل الشام فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم أكثر ممن قتل، واحتازوا ما في معسكرهم من الاموال والخيول.
وقد كان المختار بشر أصحابه بالنصر قبل أن يجئ الخبر، فما ندري أكان ذلك تفاؤلا منه أو اتفاقا وقع له، أو كهانة.
وأما على ما كان يزعم أصحابه أنه أوحى إليه بذلك فلا، فإن من اعتقد
ذلك كفر ومن أقرهم على ذلك كفر، لكن: قال إن الوقعة كانت بنصيبين فأخطأ مكانها، فإنها إنما كانت بأرض الموصل، وهذا مما انتقده عامر الشعبي على أصحاب المختار حين جاءه الخبر، وقد خرج المختار من الكوفة ليتلقى البشارة، فأتى المدائن فصعد منبرها فبينما هو يخطب إذ جاءته البشارة وهو هنالك.
قال الشعبي: فقال لي بعض أصحابه: أما سمعته بالامس يخبرنا بهذا ؟ فقلت له: زعم أن الوقعة كانت بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما قال البشير: إنهم كانوا بالخازر من أرض الموصل، فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الاليم.
ثم رجع المختار إلى الكوفة.
وفي غيبته هذه تمكن جماعة ممن كان قاتله يوم جبانة السبيع والكناسة من الخروج إلى مصعب بن الزبير إلى البصرة، وكان منهم شبث بن ربعي، وأما ابن الاشتر فإنه بعث بالبشارة وبرأس ابن زياد وبعث رجلا على نيابة نصيبين واستمر مقيما في تلك البلاد، وبعث عمالا إلى الموصل وأخذ سنجار ودارا وما ولاها من الجزيرة.
وقال أبو أحمد الحاكم: كان مقتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة ست وستين، والصواب سنة سبع وستين.
وقد قال سراقة بن مرداس البارقي يمدح ابن الاشتر على قتله ابن زياد: أتاكم غلام من عرانين مذحج * جرئ على الاعداء غير نكول

فيا بن زياد بؤ بأعظم هالك (1) * وذق حد ماضي الشفرتين صقيل ضربناك بالعضب الحسام بحده * إذا ما أتانا قتيلا (2) بقتيل جزى الله خيرا شرطة الله إنهم * شفوا من عبيد الله أمس غليلي وهذه ترجمة ابن زياد هو عبيد الله بن زياد بن عبيد، المعروف بابن زياد بن أبي سفيان، ويقال له زياد بن أبيه، وابن سمية، أمير العراق بعد أبيه زياد، وقال ابن معين: ويقال له عبيد الله بن مرجانة وهي أمه،
وقال غيره: وكانت مجوسية، وكنيته أبو حفص، وقد سكن دمشق بعد يزيد بن معاوية، وكانت له دار عند الديماس تعرف بعده بدار ابن عجلان، وكان مولده في سنة تسع وثلاثين فيما حكاه ابن عساكر عن أبي العباس أحمد بن يونس الضبي، قال ابن عساكر: وروى الحديث عن معاوية وسعد بن أبي وقاص ومعقل بن يسار.
وحدث عنه الحسن البصري وأبو المليح بن أسامة.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: ذكروا أن عبيد الله بن زياد حين قتل الحسين كان عمره ثمانيا وعشرين سنة، قلت: فعلى هذا يكون مولده سنة ثلاث وثلاثين فالله أعلم.
وقد روى ابن عساكر أن معاوية كتب إلى زياد: أن أوفد إلي ابنك، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شئ إلا نفد منه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئا، فقال له: ما منعك من تعلم الشعر ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان، فقال معاوية: اغرب فوالله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا قول ابن الاطنابة حيث يقول: أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإعطائي على الاعدام مالي * وإقدامي على البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريح لادفع عن مآثر صالحات * وأحمي بعد عن إنف صحيح ثم كتب إلى أبيه: أن روه من الشعر، فرواه حتى كان لا يسقط عنه منه شئ بعد ذلك، ومن شعره بعد ذلك: سيعلم مروان بن نسوة أنني * إذا التقت الخيلان أطعنها شزرا وإني إذا حل الضيوف ولم أجد * سوى فرسي أو سعته لهم نحرا
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: مالك.
(2) في الطبري: قاتلا، وليس البيت في ابن الاثير.

وقد سأل معاوية يوما أهل البصرة عن ابن زياد فقالوا: إنه لظريف ولكنه يلحن، فقال: أو ليس اللحن أظرف له ؟ قال ابن قتيبة وغيره: إنما أرادوا أنه يلحن في كلامه، أي يلغز، وهو ألحن بحجته كما قال الشاعر في ذلك: منطق رائع ويلحن أحيانا * وخير الحديث ما كان لحنا وقيل إنهم أرادوا أنه يلحن في قوله لحنا وهو ضد الاعراب، وقيل أرادوا اللحن الذي هو ضد الصواب وهو الاشبه والله أعلم.
فاستحسن معاوية منه السهولة في الكلام وأنه لم يكن ممن يتعمق في كلامه ويفخمه، ويتشدق فيه، وقيل أرادوا أنه كانت فيه لكنة من كلام العجم، فإن أمه مرجانة كانت سيروية وكانت بنت بعض ملوك الاعاجم يزدجرد أو غيره، قالوا: وكان في كلامه شئ من كلام العجم، قال يوما لبعض الخوارج: أهروري أنت ؟ يعني أحروري أنت ؟ وقال يوما من كاتلنا كاتلناه، أي من قاتلنا قاتلناه، وقول معاوية ذاك أظرف له، أي أجود له حيث نزع إلى أخواله، وقد كانوا يوصفون بحسن السياسة وجودة الرعاية ومحاسن الشيم.
ثم لما مات زياد سنة ثلاث وخمسين ولى معاوية على البصرة سمرة بن جندب سنة ونصفا ثم عزله وولى عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان بن سلمة ستة أشهر، ثم عزله وولى عليها ابن زياد سنة خمس وخمسين.
فلما تولى يزيد الخلافة جمع له بين البصرة والكوفة، فبنى في إمارة يزيد البيضاء، وجعل باب القصر الابيض الذي كان لكسرى عليها.
وبنى الحمراء وهي على سكة المربد، فكان يشتي في الحمراء ويصيف في البيضاء، قالوا: وجاء رجل إلى ابن زياد فقال: أصلح الله الامير، إن امرأتي ماتت، وإني أريد أن أتزوج أمها، فقال له: كم عطاؤك في الديوان ؟ فقال: سبعمائة، فقال: يا غلام حط من عطائه أربعمائة، ثم قال له: يكفيك من فقهك هذا ثلاثمائة، قالوا: وتخاصمت أم الفجيج وزوجها إليه وقد أحبت المرأة أن تفارق زوجها، فقال أبو الفجيج: أصلح الله الامير إن خير شطري الرجل آخره، وإن شر شطري المرأة آخرها، فقال: وكيف ذلك ؟ فقال: إن الرجل إذا أسن اشتد عقله واستحكم رأيه وذهب جهله، وإن المرأة إذا أسنت ساء خلقها وقل عقلها وعقم رحمها واحتد لسانها، فقال: صدقت
خذ بيدها وانصرف، وقال يحيى بن معين: أمر ابن زياد لصفوان بن محرز بألفي درهم فسرقت، فقال: عسى أن يكون خيرا فقال أهله: كيف يكون هذا خيرا ؟ فبلغ ذلك ابن زياد فأمر له بألفين آخرين، ثم وجد الالفين فصارت أربعة آلاف فكان خيرا.
وقيل لهند بنت أسماء بن خارجة - وكانت قد تزوجت بعده أزواجا من نواب العراق - من أعز أزواجك عندك وأكرمهم عليك ؟ فقالت: ما أكرم النساء أحد إكرام بشير بن مروان، ولا هاب النساء هيبة الحجاج بن يوسف، ووددت أن القيامة قد قامت فأرى عبيد الله بن زياد وأشتفي من حديثه والنظر إليه - وكان أتى عذارتها - وقد تزوجت بالآخرين أيضا.

وقال عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: أول من جهر بالمعوذتين في الصلاة المكتوبة ابن زياد، قلت: يعني والله أعلم في الكوفة، فإن ابن مسعود كان لا يكتبهما في مصحفه وكان فقهاء الكوفة عن كبراء أصحاب ابن مسعود يأخذون والله أعلم.
وقد كانت قي ابن زياد جرأة وإقدام ومبادرة إلى مالا يجوز، ومالا حاجة له به، لما ثبت في الحديث الذي رواه أبو يعلى ومسلم، كلاهما عن شيبان بن فروخ عن جرير عن الحسن أن عائذ بن عمرو دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم ".
فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وهل كان فيهم نخالة ؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم.
وقد روى غير واحد عن الحسن أن عبيد الله بن زياد دخل على معقل بن يسار يعوده فقال له: إني محدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من رجل استرعاه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة ".
وقد ذكر غير واحد أنه لما مات معقل صلى عليه عبيد الله بن زياد ولم يشهد دفنه، واعتذر بما ليس يجدي شيئا وركب إلى قصره، ومن جراءته إقدامه على الامر بإحضار الحسين إلى بين يديه وإن قتل دون ذلك، وكان الواجب عليه أن يجيبه إلى سؤاله الذي سأله فيما طلب من ذهابه إلى يزيد أو
إلى مكة أو إلى أحد الثغور، فلما أشار عليه شمر بن ذي الجوشن بأن الحزم أن يحضر عندك وأنت تسيره بعد ذلك إلى حيث شئت من هذه الخصال أو غيرها، فوافق شمرا على ما أشار به من إحضاره بين يديه فأبى الحسين أن يحضر عنده ليقضي فيه بما يراه ابن مرجانة.
وقد تعس وخاب وخسر، فليس لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر بين يدي ابن مرجانة الخبيث، وقد قال محمد بن سعد: أنبأنا الفضل بن دكين ومالك بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك بن كردوس، عن حاجب عبيد الله بن زياد قال: دخلت معه القصر حين قتل الحسين قال فاضطرم في وجهه نارا أو كلمة نحوها، فقال بكمه هكذا على وجهه وقال: لا تحدثن بها أحدا، وقال شريك عن مغيرة قال: قالت مرجانة لابنها عبيد الله: يا خبيث قتلت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لا ترى الجنة أبدا.
وقد قدمنا أن يزيد بن معاوية لما مات بايع الناس في المصرين لعبيد الله حتى يجتمع الناس على إمام، ثم خرجوا عليه فأخرجوه من بين أظهرهم، فسار إلى الشام فاجتمع بمروان، وحسن له أن يتولى الخلافة ويدعو إلى نفسه ففعل ذلك، وخالف الضحاك بن قيس، ثم انطلق عبيد الله إلى الضحاك بن قيس فما زال به حتى أخرجه من دمشق إلى مرج راهط، ثم حسن له أن دعا إلى بيعة نفسه وخلع ابن الزبير ففعل، فانحل نظامه ووقع ما وقع بمرج راهط، من قتل الضحاك وخلق معه هنالك، فلما تولى مروان أرسل ابن زياد إلى العراق في جيش فالتقى هو وجيش التوابين مع سليمان بن صرد فكسرهم، واستمر قاصدا الكوفة في ذلك الجيش، فتعوق في الطريق بسبب من كان يمانعه من أهل الجزيرة من الاعداء الذي هم من جهة ابن الزبير.

ثم اتفق خروج ابن الاشتر إليه في سبعة آلاف، وكان مع ابن زياد أضعاف ذلك، ولكن ظفر به ابن الاشتر فقتله شر قتلة على شاطئ نهر الخازر قريبا من الموصل بخمس مراحل.
قال أبو أحمد الحاكم: وكان ذلك يوم عاشوراء قلت: وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين، ثم بعث ابن الاشتر برأسه إلى المختار ومعه رأس حصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع وجماعة من رؤساء أصحابهم، فسر بذلك المختار، فقال يعقوب بن سفيان: حدثني يوسف بن موسى بن
جرير، عن يزيد بن أبي زياد قال: لما جئ برأس ابن مرجانة وأصحابه طرحت بين يدي المختار فجاءت حية رقيقة ثم تخللت الرؤوس حتى دخلت في فم ابن مرجانة وخرجت من منخره، ودخلت في منخره وخرجت من فمه، وجعلت تدخل وتخرج من رأسه من بين الرؤوس.
ورواه الترمذي من وجه آخر بلفظ آخر فقال: حدثنا واصل بن عبد الاعلى بن أبي معاوية، عن الاعمش، عن عمارة بن عمير.
قال: لما جئ برأس عبيد الله وأصحابه فنصبت في المسجد في الرحبة، فانتهيت إليها وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا: قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا.
قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو سليمان بن زيد: وفي سنة ست وستين قالوا فيها قتل ابن زياد والحصين بن نمير، ولي قتلهما إبراهيم بن الاشتر وبعث برأسيهما إلى المختار فبعث بهما إلى ابن الزبير، فنصبت بمكة والمدينة.
وهكذا حكى ابن عساكر عن أبي أحمد الحاكم وغيره أن ذلك كان في سنة ست وستين، زاد أبو أحمد في يوم عاشوراء، وسكت ابن عساكر عن ذلك، والمشهور أن ذلك كان في سنة سبع وستين كما ذكره ابن جرير وغيره، ولكن بعث الرؤوس إلى ابن الزبير (1) في هذه السنة متعذر لان العداوة كانت قد قويت وتحققت بين المختار وابن الزبير في هذه السنة، وعما قليل أمر ابن الزبير أخاه مصعبا أن يسير من البصرة إلى الكوفة لحصار المختار وقتاله والله أعلم.
مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن الزبير كان عبد الله بن الزبير قد عزل في هذه السنة عن نيابة البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع، وولاها لاخيه مصعب بن الزبير، ليكون ردا وقرنا وكفء للمختار، فلما قدم مصعب البصرة دخلها متلثما فيمم المنبر، فلما صعده قال الناس: أمير أمير، فلما كشف اللثام عرفه الناس فأقبلوا إليه، وجاء القباع فجلس تحته بدرجة، فلما اجتمع الناس قام مصعب خطيبا فاستفتح القصص حتى بلغ: * (إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا) *
__________
(1) تقدم أنه بعث الرؤوس إلى محمد بن الحنفية.

[ القصص: 4 ] وأشار بيده نحو الشام أو الكوفة، ثم قال: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض) * [ القصص: 5 ] وأشار إلى الحجاز.
وقال: يا أهل البصرة إنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار، فاجتمع عليه الناس وفرحوا له، ولما انهزم أهل الكوفة حين خرجوا على المختار فقهرهم وقتل منهم من قتل، كان لا ينهزم أحد من أهلها إلا قصد البصرة، ثم خرج المختار ليلتقي بالذي جاء بالرؤوس والبشارة، اغتنم من بقي بالكوفة من أعداء المختار غيبته فذهبوا إلى البصرة فرارا من المختار لقلة دينه وكفره، ودعواه أنه يأتيه الوحي وأنه قدم الموالي على الاشراف واتفق أن ابن الاشتر حين قتل ابن زياد واستقل بتلك النواحي، فأحرز بلادا وأقاليم ورساتيق لنفسه، واستهان بالمختار، فطمع مصعب فيه وبعث محمد بن الاشعث بن قيس على البريد (1) إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو نائبهم على خراسان، فقدم في تجمل عظيم ومال ورجال وعدد وعدد، وجيش كثيف (2)، ففرح به أهل البصرة وتقوى به مصعب، فركب في أهل البصرة ومن اتبعهم من أهل الكوفة فركبوا في البحر والبر قاصدين الكوفة.
وقدم مصعب بين يديه عباد بن الحصين، وجعل على ميمنته عمر بن عبد الله بن معمر، وعلى الميسرة المهلب بن أبي صفرة، ورتب الامراء على راياتها وقبائلها، كمالك بن مسمع، والاحنف بن قيس، وزياد بن عمر (3)، وقيس بن الهيثم وغيرهم، وخرج المختار بعسكره فنزل المذار وقد جعل على مقدمته أبا كامل الشاكري (4)، وعلى ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب (5) الجشمي، وعلى الخيل وزير بن عبد الله السلولي، وعلى الموالي أبا عمرة صاحب شرطته.
ثم خطب الناس وحثهم على الخروج، وبعث بين يديه الجيوش، وركب هو وخلق من أصحابه وهو يبشرهم بالنصر، فلما انتهى مصعب إلى قريب الكوفة لقيتهم الكتائب المختارية
فحملت عليهم الفرسان الزبيرية، فما لبثت المختارية إلا يسيرا حتى هربوا على حمية، وقد قتل
__________
(1) انظر كتاب مصعب إلى المهلب في الطبري 7 / 147 وابن الاعثم 6 / 185.
(2) في الطبري: قدم بجموع كثيرة، وفي ابن الاعثم: سار في ألف رجل من فرسان عسكره حتى قدم البصرة وفي الاخبال الطوال ص 305: وسار المهلب بمن معه حتى وافى البصرة.
(3) في الطبري وابن الاثير: زياد بن عمرو.
(4) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: ندب المختار أصحابه للخروج مع أحمر بن شميط [ وفي معجم البلدان: سميط البجلي وفي الاخبار الطوال ص 305: أحمر بن سليط ] فخرج وعسكر بحمام أعين وبعث معه المختار رؤوس الارباع وعلى مقدمته ابن كامل الشاكري فوصلوا إلى المذار (والمذار في ميسان بين واسط والبصرة - معجم البلدان).
(5) في ابن الاثير: وهيب، وفي الطبري: عبد الله بن وهب بن نضلة الجشمي وعلى خيله رزين بن عبد السلولي.

منهم جماعة من الامراء، وخلق من القراء وطائفة كثيرة من الشيعة الاغبياء، ثم انتهت الهزيمة إلى المختار.
وقال الواقدي: لما انتهت مقدمة المختار إليه جاء مصعب فقطع الدجلة إلى الكوفة وقد حصن المختار القصر واستعمل عليه عبد الله بن شداد وخرج المختار بمن بقي معه فنزل حروراء فلما قرب جيش مصعب منه جهز إلى كل قبيلة كردوسا، فبعث إلى بكر بن وائل سعيد بن منقذ، وإلى عبد القيس مالك بن منذر (1)، وإلى العالية عبد الله بن جعدة، وإلى الازد مسافر بن سعيد، وإلى بني تميم سليم بن يزيد الكندي، وإلى محمد بن الاشعث السائب بن مالك، ووقف المختار في بقية أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الليل فقتل أعيان أصحاب المختار وقتل تلك الليلة محمد بن الاشعث وعمير (2) بن علي بن أبي طالب، وتفرق عن المختار باقي أصحابه، فقيل له القصر القصر، فقال: والله ما خرجت منه وأنا أريد أن أعود إليه، ولكن هذا حكم الله، ثم ساروا إلى القصر فدخل وجاءه مصعب ففرق القبائل في نواحي الكوفة، واقتسموا المحال، وخلصوا إلى
القصر، وقد منعوا المختار المادة والماء، وكان المختار يخرج فيقاتلهم ثم يعود إلى القصر، ولما اشتد عليه الحصار قال لاصحابه: إن الحصار لا يزيدنا إلا ضعفا، فانزلوا بنا حتى نقاتل حتى الليل حتى نموت كراما، فوهنوا فقال أما فوالله لا أعطي بيدي.
ثم اغتسل وتطيب وتحنط وخرج فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا.
وقيل بل أشار عليه جماعة من أساورته بأن يدخل القصر دار إمارته، فدخله وهو ملوم مذموم، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم، فحاصره مصعب فيه وجميع أصحابه حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم، وضيق عليهم المسالك والمقاصد، وانسدت عليهم أبواب الحيل، وليس فيهم رجل رشيد ولا حليم، ثم جعل المختار يجيل فكرته ويكرر رويته في الامر الذي قد حل به، واستشار من عنده في هذا السبب السئ الذي قد اتصل سببه بسببه من الموالي والعبيد، ولسان القدر والشرع يناديه: * (قد جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) * [ سبأ: 49 ] ثم قوى عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه، على أن أخرجته من بين من كان يحالفه ويواليه، ورأى أن يموت على فرسه، حتى يكون عليها انقضاء آخر نفسه، فنزل حمية وغضبا، وشجاعة وكلبا، وهو مع ذلك لا يجد مناصا ولا مفرا ولا مهربا، وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر، ولعله إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن لا يفارقه التسعة عشر الموكلون بسقر، ولما خرج من القصر سأل أن
__________
(1) في الطبري 7 / 250: بعث إلى عبد القيس وكان عليهم مالك بن المنذر عبد الرحمن بن شريح الشبامي.
وفي ابن الاثير: بعث سعيد بن منقذ على بكر وعبد القيس.
(2) في الطبري وابن الاثير ومروج الذهب 3 / 118 عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وفي ابن الاعثم: عبيد الله بن أبي طالب، وفي الاخبار الطوال 360: عمر بن علي بن أبي طالب.

يخلي سبيله فيذهب في أرض الله فقالوا له: إلا على حكم الامير.
والمقصود أنه لما خرج من القصر تقدم إليه رجلان شقيقان أخوان، وهما طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة (1)، فقتلاه بمكان الزياتين من الكوفة، واحتزا رأسه وأتيا به إلى مصعب بن الزبير، وقد دخل قصر
الامارة، فوضع بين يديه، كما وضع رأس ابن زياد بين يدي المختار، وكما وضع رأس الحسين بين يدي ابن زياد، وكما سيوضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان، فلما وضع رأس المختار بين يدي مصعب أمر لهما بثلاثين ألفا.
وقد قتل مصعب جماعة من المختارية، وأسر منهم خمسمائة أسير (2)، فضرب أعناقهم عن آخرهم في يوم واحد، وقد قتل من أصحاب مصعب في الوقعة محمد بن الاشعث بن قيس (3)، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد، فلم يزل هنالك حتى قدم الحجاج، فسأل عنها فقيل له هي كف المختار، فأمر بها فرفعت وانتزعت من هنالك، لان المختار كان من قبيلة الحجاج.
والمختار هو الكذاب، والمبير الحجاج، ولهذا أخذ الحجاج بثأره من ابن الزبير فقتله وصلبه شهورا، وقد سأل مصعب أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار عنه فقالت: ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه، فتركها واستدعى بزوجته الاخرى وهي عمرة بنت النعمان بن بشير فقال لها: ما تقولين فيه ؟ فقالت: رحمه الله لقد كان عبدا من عباد الله الصالحين، فسجنها وكتب إلى أخيه إنها تقول إنه نبي فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها، فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت، فقال في ذلك عمر بن أبي رمثة المخزومي (4).
إن من أعجب العجائب (5) عندي * قتل بيضاء حرة عطبول قتلت هكذا على (6) غير جرم * إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا * وعلى الغانيات (7) جر الذيول
__________
(1) في مروج الذهب: 3 / 118 قتله رجل من بني حنيفة يقال له عبد الرحمن بن أسد واحتز رأسه.
وفي الاخبار الطوال ص 308: قتله اخوان من بني حنيفة من أصحاب المهلب.
(2) في الامامة والسياسة 2 / 25: قتل ثمانية آلاف صبرا.
وفي الاخبار الطوال ص 309: كانوا ستة آلاف.
(3) في مروج الذهب 3 / 118 زاد: وابنان له.
(4) في الطبري 7 / 158: عمر بن أبي ربيعة القرشي، وفي ابن الاثير 4 / 275: عمر بن أبي ربيعة المخزومي وفي مروج الذهب 3 / 119: ففي ذلك يقول الشاعر، وفي ابن الاعثم 6 / 200: فقال بعضهم في ذلك.
(5) في مروج الذهب: الاعاجيب، والعطبول: المرأة الفتية الجميلة الطويلة العنق.
(6) في مروج الذهب: قتلوها ظلما على غير جرم.
(7) في الطبري وابن الاعثم وابن الاثير: المحصنات.

وقال أبو مخنف: حدثني محمد بن يوسف أن مصعبا لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب فسلم عليه فقال ابن عمر: من أنت ؟ فقال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير، فقال له ابن عمر: نعم، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة ؟ عش ما استطعت، فقال له مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدلهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا.
وهذه ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عفرة بن عميرة بن عوف بن ثقيف الثقفي، أسلم أبوه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة، وإنما ذكره ابن الاثير في الغابة، وقد كان عمر بعثه في جيش كثيف في قتال الفرس سنة ثلاث عشرة، فقتل يومئذ شهيدا وقتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين، كما قدمنا، وعرف ذلك الجسر به، وهو جسر على دجلة فيقال له إلى اليوم جسر أبي عبيد، وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد، وكانت من الصالحات العابدات.
وهي زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان عبد الله لها مكرما ومحبا، وماتت في حياته، وأما أخوها المختار هذا فإنه كان أولا ناصبيا يبغض عليا بغضا شديدا، وكان عند عمه في المدائن، وكان عمه نائبها، فلما دخلها الحسن بن علي خذله أهل العراق وهو سائر إلى الشام لقتال معاوية بعد مقتل أبيه، فلما أحس الحسن منهم بالغدر فر منهم إلى المدائن في جيش قليل، فقال المختار لعمه: لو أخذت الحسن فبعثته إلى معاوية لاتخذت عنده اليد البيضاء أبدا، فقال له عمه: بئس ما تأمرني به يا بن أخي، فما زالت الشيعة تبغضه حتى كان من أمر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ما كان، وكان المختار من الامراء بالكوفة، فجعل
يقول: أما لانصرنه، فبلغ ابن زياد ذلك فحبسه بعد ضربه مائة جلدة، فأرسل ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يتشفع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد فأطلقه وسيره إلى الحجاز في عباءة، فصار إلى ابن الزبير بمكة فقاتل معه حين حصره أهل الشام قتالا شديدا، ثم بلغ المختار ما قال أهل العراق فيه من التخبيط، فسار إليهم وترك ابن الزبير، ويقال إنه سأل ابن الزبير أن يكتب له كتابا إلى ابن مطيع نائب الكوفة ففعل، فسار إليها، وكان يظهر مدح ابن الزبير في العلانية ويسبه في السر، ويمدح محمد بن الحنفية ويدعو إليه، وما زال حتى استحوذ على الكوفة بطريق التشيع وإظهار الاخذ بثأر الحسين، وبسبب ذلك التفت عليه جماعات كثيرة من الشيعة وأخرج عامل ابن الزبير منها، واستقر ملك المختار بها، ثم كتب إلى ابن الزبير يعتذر إليه ويخبره أن ابن مطيع كان مداهنا لبني أمية، وقد خرج من الكوفة، وأنا ومن بها في طاعتك، فصدقه ابن الزبير لانه كان يدعو إليه على المنبر يوم الجمعة على رؤوس الناس، ويظهر طاعته، ثم شرع في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد، فقتل منهم خلقا كثيرا، وظفر برؤوس كبار منهم

كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذي قتلوا الحسين وشمر بن ذي الجوشن أمير الالف الذين ولوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولى بن يزيد الاصبحي، وخلق غير هؤلاء، وما زال حتى بعث سيف نقمته إبراهيم بن الاشتر في عشرين ألفا إلى ابن زياد، وكان ابن زياد حين التقاه في جيش أعظم من جيشه - في أضعاف مضاعفة - كانوا ثمانين ألفا، وقيل ستين ألفا، فقتل ابن الاشتر ابن زياد وكسر جيشه، واحتاز ما في معسكره، ثم بعث برأس ابن زياد ورؤوس أصحابه مع البشارة إلى المختار، ففرح بذلك فرحا شديدا، ثم إن المختار بعث برأس ابن زياد ورأس حصين بن نمير ومن معهما إلى ابن الزبير بمكة فأمر ابن الزبير بها فنصبت على عقبة الحجون.
وقد كانوا نصبوها بالمدينة، وطابت نفس المختار بالملك، وظن أنه لم يبق له عدو ولا منازع، فلما تبين ابن الزبير خداعه ومكره وسوء مذهبه، بعث أخاه مصعبا أميرا على العراق، فسارو إلى البصرة فجمع العساكر فما تم سرور المختار حتى سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة
في جيش هائل فقتله واحتز رأسه وأمر بصلب كفه على باب المسجد، وبعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشرط على البريد (1)، إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فوصل مكة بعد العشاء فوجد عبد الله يتنفل، فما زال يصلي حتى أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس، فلما كان قريب الفجر قال: ما جاء بك ؟ فألقى إليه الكتاب فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين معي الرأس، فقال: ألقه على باب المسجد، فألقاه ثم جاء فقال: جائزتي يا أمير المؤمنين، فقال: جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق.
ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها، وذلك لان الرجل لم يكن في نفسه صادقا، بل كان كاذبا يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل.
قال الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا عيسى القارئ، أبو عمير بن السدي، عن رفاعة القبابي قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال: لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لالقيتها لك، قال: فأردت أن أضرب عنقه قال فذكرت حديثا حدثنيه أخي عمرو بن الحمق، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله فأنا من القاتل برئ " (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن حماد بن سلمة، حدثني عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد.
قال: كنت أقوم على رأس المختار فلما عرفت كذبه هممت أن أسل سيفي فأضرب عنقه، فذكرت حديثا حدثناه عمرو بن الحمق.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أمن رجلا على نفسه فقتله أعطي لواء غدر يوم القيامة " (3) ورواه النسائي وابن ماجه من غير وجه
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 308: مع عبد الله بن عبد الرحمن.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 5 / 437.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 5 / 223، 224، 437.
وابن ماجه في الديات (33) باب.
ح (2688).

عن عبد الملك بن عمير وفي لفظ لهما: " من أمن رجلا على دم فقتله فأنا برئ من القاتل، وإن كان المقتول كافرا ".
وفي سند هذا الحديث اختلاف.
وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن
الوحي يأتيه، فقال صدق، قال تعالى: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) * [ الانعام: 121 ] وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل قال فقال لي: اخرج فحدث الناس، قال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي ؟ فقلت الوحي وحيان قال الله تعالى: * (إنا أوحينا إليك هذا القرآن) * [ يوسف: 3 ] وقال تعالى: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * [ الانعام: 112 ] قال فهموا أن يأخذوني فقلت: مالكم وذاك ! إني مفتيكم وضيفكم.
فتركوني، وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي ينزل عليه.
وروى الطبراني من طريق أنيسة بنت زيد بن الارقم: أن أباها دخل على المختار بن أبي عبيد فقال له: يا أبا عامر لو شفت رأي جبريل وميكائيل، فقال له زيد خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفتر على الله ورسوله، وقال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف ثنا ابن (1) عوف الصديق الناجي: أن الحجاج بن يوسف دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق، بعد ما قتل ابنها عبد الله بن الزبير فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل، فقالت له كذبت، كان بارا بالوالدين، صواما قواما، والله لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الاول، وهو مبير " (1).
هكذا رواه أحمد بهذا السند واللفظ.
وقد أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل عن عقبة بن مكرم العمي البصري، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي، عن الاسود بن شيبان، عن أبي نوفل عن أبي عقرب واسمه معاوية بن سلم، عن أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن في ثقيف كذابا ومبيرا " (2).
وفي الحديث قصة طويلة في مقتل الحجاج ولدها عبد الله في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي، وقد ذكر البيهقي هذا الحديث في دلائل النبوة، وقد ذكر العلماء أن الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة، وأسر إلى أخصائه أنه يوحى إليه، وكان ما أدري هلى كان يدعي النبوة أم لا ؟ وكان قد وضع له كرسي يعظم ويحف به الرجال، ويستر
بالحرير، ويحمل على البغال، وكان يضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شك
__________
= وفي الزوائد: إسناد صحيح ورجاله ثقات، لان رفاعة بن شداد، أخرجه النسائي في سننه ووثقه.
وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الاسناد على شرط مسلم.
(1) في مسند أحمد 6 / 351: ثنا عوف عن أبي الصديق الناجي.
(2) صحيح مسلم - فضائل الصحابة (58) باب.
ح (229) ص (1971).

أنه كان ضالا مضلا أراح الله المسلمين منه بعد ما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين، كما قال تعالى: * (وكذلك نولي بعض الظالمين ببعضا بما كانوا يكسبون) * [ الانعام: 129 ] وأما المبير فهو القتال وهو الحجاج بن يوسف الثقفي نائب العراق لعبد الملك بن مروان، الذي انتزع العراق من يد مصعب بن الزبير، كما سيأتي بيانه قريبا.
وذكر الواقدي أن المختار لم يزل مظهرا موافقة ابن الزبير حتى قدم مصعب إلى البصرة في أول سنة سبع وستين وأظهر مخالفته فسار إليه مصعب فقاتله وكان المختار في نحو من عشرين ألفا، وقد حمل عليه المختار مرة فهزمه، ولكن لم يثبت جيش المختار حتى جعلوا ينصرفون إلى مصعب ويدعون المختار، وينقمون عليه ما هو فيه من الكهانة والكذب، فلما رأى المختار ذلك انصرف إلى قصر الامارة فحاصره مصعب فيه أربعة أشهر، ثم قتله في رابع عشر رمضان سنة سبع وستين، وله من العمر سبع وستون سنة فيما قيل.
فصل ولما استقر مصعب بن الزبير بالكوفة بعث إلى إبراهيم بن الاشتر ليقدم عليه، وبعث إليه عبد الملك بن مروان ليقدم عليه (1)، فحار ابن الاشتر في أمره، وشاور أصحابه إلى أيهما يذهب، ثم اتفق رأيهم على الذهاب إلى بلدهم الكوفة، فقدم ابن الاشتر على مصعب بن الزبير فأكرمه وعظمه واحترمه كثيرا، وبعث مصعب المهلب بن أبي صفرة على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وكان قد استخلف على البصرة حين خرج منها عبيد الله بن عبد الله بن معمر، وأقام هو
بالكوفة، ثم لم تنسلخ هذه السنة حتى عزله أخوه عبد الله بن الزبير عن البصرة وولى عليها ابنه حمزة بن عبد الله بن الزبير، وكان شجاعا جوادا مخلطا يعطي أحيانا حتى لا يدع شيئا، ويمنع أحيانا ما لم يمنع مثله، وظهرت خفة وطيش في عقله، وسرعة في أمره، فبعث الاحنف إلى عبد الله بن الزبير فعزله وأعاد إلى ولايتها أخاه مصعبا مضافا إلى ما بيده من ولاية الكوفة، قالوا: وخرج حمزة بن عبد الله بن الزبير من البصرة بمال كثير من بيت مالها، فعرض له مالك بن مسمع، فقال: لا ندعك تذهب بأعطياتنا، فضمن له عبيد الله بن معمر العطاء فكف عنه، فلما انصرف حمزة لم يقدم على أبيه مكة، بل عدل إلى المدينة، فأودع ذلك المار رجالا فكلهم غل ما أودعه وجحده، سوى رجل من أهل الكتاب، فأدى إليه أمانته.
فلما بلغ أباه ما صنع قال: أبعده الله، أردت أن أباهي به بني مروان فنكص.
وذكر أبو مخنف أن حمزة بن عبد الله بن الزبير ولي البصرة سنة كاملة فالله أعلم.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها عبد الله بن الزبير، وكان عامله على الكوفة أخاه
__________
(1) نسخة الكتابين لابن الاشتر في الطبري 7 / 158 وابن الاعثم 6 / 200 - 201.

مصعبا، وعلى البصرة ابنه حمزة، وقيل بل كان رجع إليها أخوه، وعلى خراسان وتلك البلاد عبد الله بن خازم السلمي من جهة ابن الزبير والله سبحانه أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وأبو الجهم، وهو صاحب الانبجانية (1) المذكورة في الحديث الصحيح.
وفيها قتل خلق كثير يطول ذكرهم.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ففيها رد عبد الله أخاه مصعبا إلى إمرة البصرة، فأتاها فقام بها، واستخلف على الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، قباع، واستعمل على المدينة جابر بن الاسود الزهري، وعزل عنها عبد الرحمن بن الاشعث لكونه ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا، فإنه أراد منه أن يبايع لابن الزبير فامتنع من ذلك فضربه، فعزله ابن الزبير.
وفيها هلك ملك الروم
قسطنطين بن قسطنطين ببلده، وفيها كانت وقعة الازارقة.
وذلك أن مصعبا كان قد عزل عن ناحية فارس المهلب بن أبي صفرة، وكان قاهرا لهم وولاه الجزيرة، وكانا المهلب قاهرا للازارقة، وولى على فارس عمر بن عبيد الله بن معمر، فثاروا عليه فقاتلهم عمر بن عبيد الله فقهرهم وكسرهم، وكانوا مع أميرهم الزبير بن ماحوز (2)، ففروا بين يديه إلى اصطخر فاتبعهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وقتلوا ابنه (3)، ثم ظفر بهم مرة أخرى ثم هربوا إلى بلاد أصبهان ونواحيها، فتقووا هنالك وكثر عددهم وعدتهم، ثم أقبلوا يريدون البصرة، فمروا ببعض بلاد فارس وتركوا عمر بن عبيد الله بن معمر وراء ظهورهم، فلما سمع مصعب بقدومهم ركب في الناس وجعل يلوم عمر بن عبيد الله بتركه هؤلاء يجتازون ببلاده، وقد ركب عمر بن عبيد الله في آثارهم، فبلغ الخوارج أن مصعبا أمامهم وعمر بن عبيد الله وراءهم، فعدلوا إلى المدائن فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالا لم يفعلها غيرهم، فقصدهم نائب الكوفة الحارث بن أبي ربيعة ومعه أهلها وجماعات من أشرافها، منهم ابن الاشتر وشبث بن ربعي، فلما وصلوا إلى جسر الصراة قطعه الخوارج بينه وبينهم، فأمر الامير باعادته، ففرت الخوارج هاربين بين يديه، فاتبعهم عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف
__________
(1) الانبجانية: كساء من صوف لا علم لها.
وهي من أدون الثياب الغليظة.
وفي الحديث: قال صلى الله عليه وسلم: " شغلني اعلام هذه.
اذهبوا بها إلى أبي الجهم.
وائتوني بانبجانيته " رواه ابن ماجة عن عائشة قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام...وذكر الحديث.
في اللباس (1) باب ح (3550) ص 2 / 1176 والبخاري في اللباس (19) باب.
(2) من الطبري وابن الاثير، وقد تقدم، وفي الاصل ماجور.
(3) واسمه: عبيد الله بن عمر (الطبري - ابن الاثير).

فمروا على الكوفة ثم صاروا إلى أرض أصبهان، فانصرف عنهم ولم يقاتلهم، ثم أقبلوا فحاصروا عتاب بن ورقاء شهرا، بمدينة جيا، حتى ضيقوا على الناس فنزلوا إليهم فقاتلوهم فكشفوهم
وقتلوا أميرهم الزبير بن الماحوز (1) وغنموا ما في معسكرهم، وأمرت الخوارج عليهم قطري بن الفجاءة ثم ساروا إلى بلاد الاهواز، فكتب مصعب بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة - وهو على الموصل - أن يسير إلى قتال الخوارج وكان أبصر الناس بقتالهم، وبعث مكانه إلى الموصل إبراهيم بن الاشتر فانصرف المهلب إلى الاهواز فقاتل فيها الخوارج ثمانية أشهر قتالا لم يسمع بمثله.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان القحط الشديد ببلاد الشام بحيث لم يتمكنوا معه من الغزو لضعفهم وقلة طعامهم وميرتهم.
قال ابن جرير: وفيها قتل عبيد الله بن الحر وكان من خبره أنه كان رجلا شجاعا تتقلب به الاحوال والايام والآراء، حتى صار من أمره أنه لا يطاع لاحد من بني أمية ولا لآل الزبير، وكان يمر على عامل الكورة من العراق وغيره فيأخذ منه جميع ما في بيت ماله قهرا ويكتب له براءة ويذهب فينفقه على أصحابه.
وكان الخلفاء والامراء يبعثون إليه الجيوش فيطردها ويكسرها قلت أو كثرت، حتى كاع فيه مصعب بن الزبير وعماله ببلاد العراق، ثم إنه وفد على عبد الملك بن مروان فبعثه في عشرة نفر (2) وقال: ادخل الكوفة وأعلمهم أن الجنود ستصل إليهم سريعا، فبعث في السر إلى جماعة من إخوانه فظهر على أمره فأعلم أمير الكوفة الحارث بن عبد الله فبعث إليه جيشا (3) فقتلوه في المكان الذي هو فيه، وحمل رأسه إلى الكوفة، ثم إلى البصرة، واستراح الناس منه.
قال ابن جرير: وفيها شهد موقف عرفة أربع رايات متباينة، كل واحدة منها لا تأتم بالاخرى الواحدة لمحمد بن الحنفية في أصحابه، والثانية لنجدة الحروري وأصحابه، والثالثة لبني أمية، والرابعة لعبد الله بن الزبير، وكان اول من دفع رايته ابن الحنفية، ثم نجدة، ثم بنو أمية، ثم دفع ابن الزبير فدفع الناس معه، وكان عبد الله بن عمر فيمن انتظر دفع ابن الزبير، ولكنه تأخر دفعه، فقال ابن عمر: أشبه بتأخره دفع الجاهلية، فدفع ابن عمر فدفع ابن الزبير،
__________
(1) في الاصل: ماجور.
(2) كذا بالاصل والطبري 7 / 172 وفي ابن الاثير 4 / 293: فقال له: سر بأصحابك وادع من قدرت عليه وأنا
ممدك بالرجال.
وفي ابن الاعثم 6 / 232: ثم أمر له (أي عبد الملك) بأربعة آلاف رجل من أهل الشام فأعطاهم الارزاق وضمهم إليه وأمرهم بالمسير معه.
(3) بعث خمسمائة فارس عليهم رجل يقال له عبيد بن العباس (ابن الاعثم) وفي الطبري: وثب عليه رجل من الانباط فأخذ بعضديه وضربه الباقون بالمرادي.
وفي ابن الاعثم: طعنه رجل من بني محارب يكنى أبا كدية.
وفي ابن الاثير: من بني باهلة يكنى أبا كدية.

وتحاجز الناس في هذا العام فلم يكن بينهم قتال.
وكان على نيابة المدينة جابر بن الاسود بن عوف الزهري من جهة ابن الزبير، وعلى الكوفة والبصرة أخوه مصعب، وعلى ملك الشام ومصر عبد الملك بن مروان، والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان عبد الله بن يزيد الاوسي، شهد الحديبية، وعبد الرحمن بن الاسود بن عبد يغوث.
وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي، ابن أخي عمر بن الخطاب، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالمدينة عن نحو سبعين سنة.
عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الانصاري.
عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن امرئ القيس، صحابي جليل، سكن الكوفة ثم سكن قوميسيا.
زيد بن أرقم بن زيد صحابي جليل.
وفيها توفي عبد الله بن عباس ترجمان القرآن هو عبد الله بن عبدس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبر هذه الامة، ومفسر كتاب الله وترجمانه، كان يقال له الحبر والبحر، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كثيرا، وعن جماعة من الصحابة، وأخذ عنه خلق من الصحابة وأمم من التابعين، وله مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ونبل أصله، رضي الله عنه وأرضاه.
وأمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو والد الخلفاء العباسيين، وهو أخو أخوة عشرة
ذكور من أم الفضل للعباس، وهو آخرهم مولدا، وقد مات كل واحد منهم في بلد بعيد عن الآخر كما سيأتي ذلك.
قال مسلم بن خالد الزنجي المكي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس.
قال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب جاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد أرى أم الفضل قد اشتملت على حمل، فقال: " لعل الله أن يقر أعينكم ".
قال: فلما ولدتني أتى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في خرقة فحنكني بريقه.
قال مجاهد: فلا نعلم أحدا حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه غيره، وفي رواية أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعل الله أن يبيض وجوهنا بغلام " فولدت عبد الله بن عباس، وعن عمرو بن دينار قال: ولد ابن عباس عام الهجرة، وروى الواقدي من طريق شعبة عن ابن عباس أنه قال: ولدت قبل الهجرة بثلاث سنين، ونحن في الشعب، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، ثم قال الواقدي: وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل العلم.
واحتج الواقدي بأنه كان قد ناهز الحلم عام حجة الوداع.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مختون، وكانوا لا يختنون الغلام حتى يحتلم.
وقال شعبة وهشام وابن عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا

ابن عشر (1) سنين مختون.
زاد هشام: وقد جمعت المحكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وما المحكم ؟ قال: المفصل.
وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة مختون، وهذا هو الاصح ويؤيده صحة ما ثبت في الصحيحين، ورواه مالك عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال: أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الاتان ترتع ودخلت في الصف، فلم ينكر علي ذلك أحد.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، كانت أمي من النساء وكنت أنا من الولدان، وهاجر مع أبيه الفتح، فاتفق لقياهما النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وهو ذاهب لفتح مكة، فشهد الفتح وحنينا والطائف عام ثمان، وقيل كان في سنة تسع وحجة الوداع
سنة عشر، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ولزمه، وأخذ عنه وحفظ وضبط الاقوال والافعال والاحوال، وأخذ عن الصحابة علما عظيما مع الفهم الثاقب، والبلاغة والفصاحة والجمال والملاحة، والاصالة والبيان، ودعا له رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، كما وردت به الاحاديث الثابتة الاركان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعا له بأن يعلمه التأويل، وأن يفقهه في الدين ".
وقال الزبير بن بكار: حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه قال: إن عمر كان يدعو عبد الله بن عباس فيقربه ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوما فمسح رأسك وتفل في فيك وقال: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ".
وبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم بارك فيه وانشر منه ".
وقال حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: بت في بيت خالتي ميمونة فوضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا، فقال: " من وضع هذا ؟ قالوا: عبد الله بن عباس، فقال: اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين ".
وقد رواه غير واحد عن ابن خيثم بنحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بن بكير بن أبي صفرة، أبو يونس، عن عمرو بن دينار: أن كريبا أخبره أن ابن عباس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته خنست فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف من صلاته قال: " ما شأني أجعلك في حذائي فتخنس " (2) ؟ فقلت: يا رسول الله أو ينبغي لاحد أن يصلي في حذائك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله عز وجل ؟ قال: فأعجبته
__________
(1) قال ابن حجر في الاصابة 2 / 330: قوله ان عشر سنين محمول على إلغاء الكسر.
قال: والاثبت قبل الهجرة بثلاث سنين.
وهو يقارب ما في الصحيحين.
وقال ابن عبد البر - معلقا على قول أحمد بن حنبل: " والصواب ابن خمس عشرة سنة " -: " وما قاله أهل السير والعلم بأيام الناس عندي أصح والله أعلم وهو قولهم أن ابن عباس كان ابن ثلاث عشرة سنة يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(2) مسند الامام أحمد: 1 / 330.

فدعا الله لي أن يزيدني علما وفهما، قال: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نام حتى سمعت نفخه، ثم أتاه بلال فقال: يا رسول الله: الصلاة، فقام فصلى ما أعاد وضوءا.
وقال الامام أحمد وغيره: حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا ورقاء، وسمعت عبيد الله بن أبي يزيد يحدث عن ابن عباس قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوءا، فلما خرج قال من وضع ذا ؟ فقيل ابن عباس، فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " (1).
وقال الثوري وغيره عن ليث عن أبي جهضم موسى بن سالم عن ابن عباس أنه رأى جبريل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بالحكمة، وفي رواية بالعلم، مرتين.
وقال الدارقطني: حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي وآخرون قالوا: حدثنا العباس بن محمد، حدثنا محمد بن مصعب بن أبي مالك النخعي، عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: " رأيت جبريل مرتين، ودعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين "، ثم قال: غريب من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عكرمة تفرد به عنه أبو مالك النخعي عبد الملك بن حسين.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم، عن خالد، عن عكرمة عن ابن عباس.
قال: " ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم علمه الحكمة ".
ورواه أحمد أيضا عن إسماعيل بن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة عنه قال: " ضمني إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم علمه الكتاب " (2).
وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث خالد وهو ابن مهران الحذاء عن عكرمة عنه به وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد، ثنا سليمان بن بلال، ثنا حسين بن عبد الله بن عكرمة عن ابن عباس.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم اعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل " (3).
تفرد به أحمد، وقد روى هذا الحديث غير واحد عن عكرمة بنحو هذا.
ومنهم من أرسله عن عكرمة، والمتصل هو الصحيح، فقد رواه غير واحد من التابعين عن ابن عباس، وروي من طريق أمير المؤمنين المهدي، عن أبيه، عن أبي جعفر المنصور - عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - عن أبيه، عن جده عن عبد الله بن عباس.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم علمه الكتاب وفقهه في الدين ".
__________
(1) مسند الامام أحمد: ج 1 / 266، 314، 328، 335 ورواه البخاري عن عبد الله بن محمد السندي في الوضوء (10) باب فتح الباري 1 / 244.
(2) مسند أحمد 1 / 359 وأخرجه البخاري في فضائل الصحابة (24) باب.
ح (3756) فتح الباري 7 / 100 وقوله صلى الله عليه وسلم علمه الحكمة: اختلفوا في المراد بالحكمة فقيل: الاصابة في القول، وقيل الفهم عن الله، وقيل ما يشهد العقل بصحته، وقيل نور يفرق به بين الالهام والوسواس، وقيل سرعة الجواب بالصواب وقيل غير ذلك.
(3) مسند أحمد 1 / 269 وانظر الحاشية السابقة.

وقال الامام أحمد: حدثنا أبو كامل وعفان المعني قالا: ثنا حماد، ثنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.
قال: " كنت مع أبي عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يناجيه، قال عفان: وهو كالمعرض عن العباس، فخرجنا من عنده فقال العباس: ألم أر ابن عمك كالمعرض عني ؟ فقلت: إنه كان عنده رجل يناجيه، قال عفان قال عباس: أو كان عنده أحد ؟ قلت: نعم، فرجع إليه فقال: يا رسول الله هل كان عندك أحد آنفا ؟ فإن عبد الله أخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك، قال: هل رأيته يا عبد الله ؟ قال: قلت: نعم ! قال ذاك جبريل عليه السلام (1) وقد روي من حديث المهدي عن آبائه، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " أما إنك ستصاب في بصرك ".
وكان كذلك، وقد روي من وجه آخر أيضا والله أعلم.
ذكر صفة أخرى لرؤيته جبريل رواها قتيبة عن الدراوردي، عن ثور بن يزيد، عن موسى بن ميسرة أن العباس بعث ابنه عبد الله في حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده رجلا فرجع ولم يكلمه من أجل مكان ذلك الرجل، فلقي العباس بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس: يا رسول الله أرسلت إليك ابني فوجد عندك رجلا فلم يستطع أن يكلمك فرجع وراءه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم تدري من ذاك الرجل ؟ قال: لا ! قال: ذاك جبريل، ولن يموت ابنك حتى يذهب بصره ويؤتى علما " (2).
ورواه سليمان بن بلال عن ثور بن يزيد كذلك، وله طريق أخرى.
وقد ورد في فضائل ابن عباس أحاديث كثيرة منها ما هو منكر جدا أضربنا عن كثير منها صفحا، وذكرنا ما فيه مقنع وكفاية عما سواه.
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ عبد الله بن الحسن القاضي بمرو، ثنا الحارث بن محمد، أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة عن ابن عباس قال: " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الانصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير، فقال: يا عجبا لك يا بن عباس ! ! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم ؟ قال: فترك ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا بن عم رسول الله ما جاء بك ؟ هلا
__________
(1) مسند أحمد 1 / 294، 312 وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 276 وقال: رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجالهما رجال الصحيح.
ورواه البيهقي في الدلائل 7 / 75.
(2) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 478، والهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 276 وعزاه للطبراني وقال: " فيه من لم أعرفه ".

أرسلت إلي فأتيك ؟ فأقول: لا ! أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث، قال: فعاش هذا الرجل الانصاري حتى رآني وقد اجتمع حولي الناس يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني ".
وقال محمد بن عبد الله الانصاري: ثنا محمد بن عمرو بن علقمة ثنا أبو سلمة عن ابن عباس قال: وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الانصار، إن كنت لاقبل بباب أحدهم، ولو شئت أن يؤذن لي عليه لاذن لي، ولكن أبتغي بذلك طيب نفسه.
وقال محمد بن سعد: أنبأ محمد بن عمر حدثني قدامة بن موسى، عن أبي سلمة الحضرمي قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت ألزم الاكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والانصار فأسألهم عن
مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدا منهم إلا سر باتياني إليه، لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أبي بن كعب يوما - وكان من الراسخين في العلم - عما نزل من القرآن بالمدينة، فقال: نزل سبع وعشرون سورة وسائرها مكي.
وقال أحمد: عن عبد الرزاق عن معمر قال: عامة علم ابن عباس من ثلاثة، من عمر وعلي وأبي بن كعب، وقال طاوس عن ابن عباس أنه قال: إن كنت لاسأل عن الامر الواحد من ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مغيرة عن الشعبي قال: قيل لابن عباس: أنى أصبت هذا العلم ؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول.
وثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يجلس ابن عباس مع مشايخ الصحابة ويقول: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وكان إذا أقبل يقول عمر: جاء فتى الكهول، وذو اللسان السؤول، والقلب العقول.
وثبت في الصحيح أن عمر سأل الصحابة عن تفسير: * (إذا جاء نصر الله والفتح) * [ النصر: 1 ] فسكت بعض وأجاب بعض بجواب لم يرتضه عمر، ثم سأل ابن عباس عنها فقال: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه، فقال: لا أعلم منها إلا بما تعلم، وأراد عمر بذلك أن يقرر عندهم جلالة قدره، وكبير منزلته في العلم والفهم (1).
وسأله مرة عن ليلة القدر فاستنبط أنها في السابعة من العشر الاخير فاستحسنه عمر واستجاده كما ذكرنا في التفسير.
وقد قال الحسن بن عرفة: حدثنا يحيى بن اليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير عن عمر أنه قال لابن عباس: لقد علمت علما ما علمناه، وقال الاوزاعي قال عمر لابن عباس: إنك لاصبح فتياننا وجها، وأحسنهم عقلا، وأفقههم في كتاب الله عز وجل.
وقال مجاهد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال لي أبي: إن عمر يدنيك ويجلسك مع أكابر الصحابة فاحفظ عني ثلاثا، لا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يجربن عليك كذبا.
قال
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4) باب.
ح (4970) فتح الباري 8 / 734 عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

الشعبي: قلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف، فقال ابن عباس: بل كل واحدة خير من عشرة آلاف.
وقال الواقدي: حدثنا عبد الله بن الفضل بن أبي عبد الله، عن أبيه عن عطاء بن يسار: أن عمر وعثمان كانا يدعوان ابن عباس فيسير مع أهل بدر، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان إلى يوم مات.
قلت: وشهد فتح إفريقية سنة سبع وعشرين مع ابن أبي سرح، وقال الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه قال: نظر أبي إلى ابن عباس يوم الجمل يمشي بين الصفين، فقال: أقر الله عين من له ابن عم مثل هذا، وقد شهد مع علي الجمل وصفين وكان أميرا على الميسرة، وشهد معه قتال الخوارج وكان ممن أشار على علي أن يستنيب معاوية على الشام، وأن لا يعزله عنها في بادئ الامر، حتى قال له فيما قال: إن أحببت عزله فوله شهرا واعزله دهرا، فأبى علي إلا أن يقاتله، فكان ما كان مما قد سبق بيانه.
ولما تراوض الفريقان على تحكيم الحكمين طلب ابن عباس أن يكون من جهة علي ليكافئ عمرو بن العاص، فامتنعت مذحج وأهل اليمن إلا أن يكون من جهة علي أبو موسى الاشعري، وكان من أمر الحكمين ما سلف.
وقد استنابه علي على البصرة، وأقام للناس الحج في بعض السنين فخطب بهم في عرفات خطبة وفسر فيها سورة البقرة، وفي رواية سورة النور، قال من سمعه: فسر ذلك تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لاسلموا.
وهو أول من عرف بالناس في البصرة، فكان يصعد المنبر ليلة عرفة ويجتمع أهل البصرة حوله فيفسر شيئا من القرآن، ويذكر الناس من بعد العصر إلى الغروب، ثم ينزل فيصلي بهم المغرب، وقد اختلف العلماء بعده في ذلك، فمنهم من كره ذلك وقال: هو بدعة لم يعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه إلا ابن عباس، ومنهم من استحب ذلك لاجل ذكر الله وموافقة الحجاج.
وقد كان ابن عباس ينتقد على علي في بعض أحكامه فيرجع إليه علي في ذلك، كما قال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عكرمة أن عليا حرق ناسا ارتدوا عن الاسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تعذبوا بعذاب الله " بل كنت قاتلهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه ".
فبلغ ذلك عليا فقال: ويح ابن
عباس (1)، وفي رواية ويح ابن عباس إنه لغواص على الهنات وقد كافأه علي فإن ابن عباس كان يرى إباحة المتعة، وأنها باقية، وتحليل الحمر الانسية، فقال علي: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الانسية يوم خيبر ".
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما، وله ألفظ هذا من أحسنها والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال البيهقي: أنبأ أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا بكر بن المؤمل يقول: سمعت أبا
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 217، 220، 282.

نصر بن أبي ربيعة يقول: ورد صعصعة بن صوحان على علي بن أبي طالب من البصرة فسأله عن ابن عباس - وكان علي خلفه بها - فقال صعصعة: يا أمير المؤمنين، إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حدث وبأيسر الامرين إذا خولف.
وتر ؟ المراء ومقارنة اللئيم، وما يعتذر منه.
وقال الواقدي: ثنا أبو بكر بن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه.
قال: ما رأيت أحدا أحضر فهما ولا ألب لبا ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ثم يقول عندك قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حوله لاهل بدر من المهاجرين والانصار.
وقال الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد.
وكان يقول: نعم ترجمان القرآن ابن عباس، وعن ابن عمر أنه قال: ابن عباس أعلم الناس بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني يحيى بن العلاء، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول حين بلغه موت ابن عباس وصفق باحدى يديه على الاخرى: مات اليوم أعلم الناس وأحلم الناس، وقد أصيبت به هذه الامة مصيبة لا ترتق.
وبه إلى يحيى بن العلاء، عن عمر بن عبد الله، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
قال: لما مات ابن عباس قال رافع بن خديج: مات اليوم من كان يحتاج إليه من بين المشرق والمغرب في
العلم.
قال الواقدي: وحدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو: عن عكرمة قال: سمعت معاوية يقول مات والله أفقه من مات ومن عاش، وروى ابن عساكر عن ابن عباس قال: دخلت على معاوية حين كان الصلح وهو أول ما التقيت أنا وهو، فإذا عنده أناس فقال: مرحبا بابن عباس، ما تحاكت الفتنة بيني وبين أحد كان أعز علي بعدا ولا أحب إلي قربا، الحمد لله الذي أمات عليا، فقلت له: إن الله لا يذم في قضائه، وغير هذا الحديث أحسن منه، ثم قلت له: أحب أن تعفيني من ابن عمي وأعفيك من ابن عمك، قال: ذلك لك.
وقالت عائشة وأم سلمة حين حج ابن عباس بالناس: هو أعلم الناس بالمناسك.
وقال ابن المبارك عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: ركب زيد بن ثابت فأخذ ابن عباس بركابه فقال: لا تفعل يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فقال زيد: أنى يداك ؟ فأخرج يديه فقبلهما فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
وقال الواقدي: حدثني داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير سمعت ابن المسيب يقول: ابن عباس أعلم الناس.
وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عتبة.
قال: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال، بعلم ما سبق إليه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب ونائل، وما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم منه، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا تفسير

القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أعلم فيما مضى ولا أثقب رأيا فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوما ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوما ما يذكر فيه إلا التأويل، ويوما ما يذكر فيه إلا المغازي، ويوما الشعر، ويوما أيام العرب، وما رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له، ولا وجدت سائلا سأله إلا وجد عنده علما.
قال: وربما حفظت القصيدة من فيه ينشدها ثلاثين بيتا.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت مثل ابن عباس قط.
وقال عطاء: ما رأيت مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقها، ولا أعظم هيبة، أصحاب القرآن يسألونه، وأصحاب العربية
يسألونه، وأصحاب الشعر عنه يسألونه، فكلهم يصدر في واد أوسع.
وقال الواقدي: حدثني بشر بن أبي سليم، عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان ابن عباس قد يسبق على الناس في العلم كما تسبق النخلة السحوق على الودى الصغار.
وقال ليث بن أبي سليم قلت لطاوس: لم لزمت هذا الغلام ؟ - يعني ابن عباس - وتركت الاكابر من الصحابة ؟ فقال: إني رأيت سبعين من الصحابة إذا تماروا في شئ صاروا إلى قوله، وقال طاوس أيضا: ما رأيت أفقه منه، قال وما خالفه أحد قط فتركه حتى يقرره.
وقال علي بن المديني ويحيى بن معين وأبو نعيم وغيرهم عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
قال: ما رأيت مثله قط، ولقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الامة - يعني ابن عباس - وقال أبو بكر بن أبي شيبة وغيره: من أبي أسامة، عن الاعمش، عن مجاهد.
قال: كان ابن عباس أمدهم قامة، وأعظمهم جفنة، وأوسعهم علما.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مجلسا أجمع لكل خير من مجلسه - يعني ابن عباس - الحلال والحرام وتفسير القرآن والعربية والشعر والطعام.
وقال مجاهد: ما رأيت أعرب لسانا من ابن عباس، وقال محمد بن سعد: ثنا عفان بن مسلم ثنا سليم بن أخضر، عن سليمان التيمي - وهو ممن أرسله الحكم بن أديب - إلى الحسن سأله عن أول من جمع بالناس في هذا المسجد يوم عرفة ؟ قال: ابن عباس، وكان رجلا مثجى - أحسب في الحديث - كثير العلم، وكان يصعد المنبر فيقرأ سورة البقرة ويفسرها آية آية.
وقد روي من وجه آخر عن الحسن البصري نحوه، وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: روى سفيان عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال: كان ابن عباس أول من عرف بالبصرة، صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران ففسرهما حرفا حرفا.
مثجى: قال ابن قتيبة مثجى من الثج وهو السيلان، قال تعالى: * (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا) * [ النبأ: 14 ] وقيل كثيرا بسرعة: وقال يونس بن بكير: حدثنا أبو حمزة الثمالي عن أبي صالح: قال لقد رأيت من ابن عباس مجلسا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر، لقد رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجئ ولا أن يذهب، قال: فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، قال: فتوضأ وجلس
وقال: اخرج فقل لهم: من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أريد منه فليدخل.
قال: فخرجت فأذنتهم فدخلوا حتى ملاوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شئ إلا أخبرهم عنه وزادهم

مثل ما سألوا عنه أو أكثر، ثم قال: إخوانكم، فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل، قال فخرجت فأذنتهم فدخلوا حتى ملاوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شئ إلا أخبرهم به وزادهم مثله أو أكثر، ثم قال إخوانكم فخرجوا، ثم قال اخرج فقل: من كان يريد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها، فليدخل، فخرجت فأذنتهم فدخلوا حتى ملاوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شئ إلا أخبرهم وزادهم مثله أو أكثر، ثم قال: إخوانكم فخرجوا، ثم قال: اخرج فقل: من كان يريد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل، فخرجت فأذنتهم فدخلوا حتى ملاوا البيت والحجرة فما سألوه عن شئ إلا أخبرهم به وزادهم مثله، ثم قال إخوانكم فخرجوا، قال أبو صالح: فلو أن قريشا كلها فخرت بذلك لكان فخرا، فما رأيت مثل هذا لاحد من الناس.
وقال طاوس وميمون بن مهران: ما رأينا أورع من ابن عمر ولا أفقه من ابن عباس، قال ميمون: وكان ابن عباس أفقههما، وقال شريك القاضي، عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت أجمل الناس، فإذا نطق قلت أفصح الناس، فإذا تحدث قلت أعلم الناس.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن الزبير بن الحارث، عن عكرمة قال: كان ابن عباس أعلمهما بالقرآن، وكان علي أعلمهما بالمبهمات، وقال إسحاق بن راهويه: إنما كان كذلك لان ابن عباس كان قد أخذ ما عند علي من التفسير، وضم إلى ذلك ما أخذه عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي بن كعب وغيرهم من كبار الصحابة.
مع دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يعلمه الله الكتاب.
وقال أبو معاوية عن الاعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: خطب ابن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة البقرة فجعل يقرأها ويفسرها فجعلت أقول ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والروم
لاسلمت.
وقد روى أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل أن ابن عباس حج بالناس عام قتل عثمان فقرأ سورة النور وذكر نحو ما تقدم، فلعل الاول كان في زمان علي فقرأ في تلك الحجة سورة البقرة، وفي فتنة عثمان سورة النور، والله أعلم.
وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، وقال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس مرتين أقف عند كل آية فأسأل عنها، وروى عنه أنه قال أربع من القرآن لا أدري ما به جئ، الاواه، والحنان، والرقيم، والغسلين.
وكل القرآن أعلمه إلا هذه الاربع.
وقال ابن وهب وغيره عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس إذا سئل عن مسألة فإن كانت في كتاب الله قال بها، وإن لم تكن وهي السنة قال بها، فإن لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدها عن أبي بكر وعمر قال بها، وإلا اجتهد رأيه وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو عاصم و عبد الرحمن بن الشعبي، عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة.
قال: شتم رجل ابن عباس فقال له: إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال،

لآتي على الآية من كتاب الله فأود أن الناس علموا منها مثل الذي أعلم، وإني لاسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل ويحكم بالقسط فأفرح به وأدعو إليه، ولعلي لا أقاضي إليه ولا أحاكم أبدا وإني لاسمع بالغيث يصيب الارض من أرض المسلمين فأفرح به ومالي بها من سائمة أبدا، ورواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن الحسن بن مكرم، عن يزيد بن هارون عن كهمس به.
وقال ابن أبي مليكة: صحبت ابن عباس من المدينة إلى مكة، وكان يصلي ركعتين فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن حرفا حرفا، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب ويقرأ: * (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) * [ ق: 19 ] وقال الاصمعي: عن المعتمر بن سليمان، عن شعيب بن درهم قال: كان في هذا المكان - وأومأ إلى مجرى الدموع من خديه يعني خدي ابن عباس - مثل الشراك البالي من البكاء.
وقال غيره: كان يصوم يوم الاثنين والخميس، وقال: أحب أن يرتفع عملي وأنا صائم، وروى هاشم وغيره عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران،
عن ابن عباس أن ملك الروم كتب إلى معاوية يسأله عن أحب الكلام إلى الله عز وجل.
ومن أكرم العباد على الله عز وجل، ومن أكرم الاماء على الله عز وجل.
وعن أربعة فيهم الروح فلم يركضوا في رحم، وعن قبر سار بصاحبه، وعن مكان في الارض لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة، وعن قوس قزح ما هو ؟ وعن المجرة.
فبعث معاوية فسأل ابن عباس عنهن فكتب ابن عباس إليه: أما أحب الكلام إلى الله فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأكرم العباد على الله آدم، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شئ.
وأكرم الاماء على الله مريم بنت عمران، وأما الاربعة الذين لم يركضوا في رحم فآدم وحواء وعصى موسى، وكبش إبراهيم الذي فدى به إسماعيل.
وفي رواية وناقة صالح، وأما القبر الذي سار بصاحبه فهو حوت يونس، وأما المكان الذي لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة فهو البحر لما انفلق لموسى حتى جاز بنو إسرائيل فيه، وأما قوس قزح فأمان لاهل الارض من الغرق، والمجرة باب في السماء، وفي رواية الذي ينشق منه.
فلما قرأ ملك الروم ذلك أعجبه وقال: والله ما هي من عند معاوية ولا من قوله، وإنما هي من عند أهل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في هذه الاسئولة روايات كثيرة فيها وفي بعضها نظر والله أعلم.
فصل تولى ابن عباس إمامة الحج سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان بن عفان له وهو محصور، وفي غيبته هذه قتل عثمان، وحضر ابن عباس مع علي الجمل، وكان على الميسرة يوم صفين، وشهد قتال الخوارج وتأمر على البصرة من جهة علي، وكان إذا خرج منها يستخلف أبا الاسود الدؤلي على الصلاة، وزياد بن أبي سفيان على الخراج، وكان أهل البصرة مغبوطين به، يفقههم ويعلم جاهلهم، ويعظ مجرمهم، ويعطي فقيرهم، فلم يزل عليها حتى مات علي، ويقال إن عليا عزله

عنها قبل موته، ثم وفد على معاوية فأكرمه وقربه واحترمه وعظمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعا، فكان معاوية يقول: ما رأيت أحدا أحضر جوابا منه، ولما جاء الكتاب
بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن عباس عند معاوية فعزاه فيه بأحسن تعزية، ورد عليه ابن عباس ردا حسنا كما قدمنا، وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس وعزاه بعبارة فصيحة وجيزة، شكره عليها ابن عباس، ولما مات معاوية ورام الحسين الخروج إلى العراق نهاه ابن عباس أشد النهي، وأراد ابن عباس أن يتعلق بثياب الحسين - لان ابن عباس كان قد أضر في آخر عمره - فلم يقبل منه، فلما بلغه موته حزن عليه حزنا شديدا ولزم بيته، وكان يقول: يا لسان قل خيرا تغنم، واسكت عن شر تسلم، فإنك إن لا تفعل تندم.
وجاء إليه رجل يقال له جندب فقال له: أوصني، فقال: أوصيك بتوحيد الله والعمل له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن كل خير آتيه أنت بعد ذلك منك مقبول، وإلى الله مرفوع، يا جندب إنك لن تزدد من موتك إلا قربا، فصل صلاة مودع.
واصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر، فإنك من أهل القبور، وابك على ذنبك وتب من خطيئتك، ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع نعلك، فكأن قد فارقتها وصرت إلى عدل الله، ولن تنتفع بما خلفت، ولن ينفعك إلا عملك.
وقال بعضهم: أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم، قال: لا تكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعا، ولا تمار سفيها ولا حليما فإن الحليم يغلبك والسفيه يزدريك، ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه، واعمل عمل من يعلم أنه مجزى بالاحسان مأخوذ بالاجرام.
فقال رجل عنده: يا بن عباس ! هذا خير من عشرة آلاف.
فقال ابن عباس: كلمة منه خير من عشرة آلاف.
وقال ابن عباس: تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره - يعني أن تعجل العطية للمعطى، وأن تصغر في عين المعطي - وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها ! فإن في إظهارها فتح باب الرياء وكسر قلب المعطى، واستحياءه من الناس.
وقال ابن عباس: أعز الناس على جليس لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت، وقال أيضا: لا يكافئ من أتاني يطلب حاجة فرآني لها موضعا إلا الله عز وجل، وكذا رجل بدأني بالسلام أو أوسع لي في مجلس أو قام لي عن المجلس، أو رجل سقاني شربة ماء على ظمأ، ورجل حفظني بظهر الغيب.
والمأثور عنه من هذه المكارم كثير جدا وفيما ذكرنا إشارة إلى ما لم نذكره.
وقد عده الهيثم بن عدي في العميان من الاشراف، وفي بعض الاحاديث الواردة عنه ما يدل على ذلك، وقد أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه، فلما أصيبت الاخرى عاد إليه لحمه، فقيل له في ذلك فقال: أصابني ما رأيتم في الاولى شفقة على الاخرى، فلما ذهبتا اطمأن قلبي.
وقال أبو القاسم البغوي: ثنا علي بن الجعد، ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه وقع في عينيه الماء فقال له الطبيب: ننزعك من عينيك الماء على أن لا تصلي سبعة أيام.
فقال: لا ! إنه من ترك الصلاة وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان، وفي رواية أنه قيل له: نزيل

هذا الماء من عينيك على أن تبقى خمسة أيام ولا تصلي إلا على عود، وفي رواية إلا مستلقيا، فقال: لا والله ولا ركعة واحدة، إنه من ترك صلاة واحدة متعمدا لقي الله وهو عليه غضبان.
وقد أنشد المدائني لابن عباس حين عمي: إن يأخذ الله من عيني نورهما * ففي لساني وسمعي منهما نور قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل * وفي فمي صارم كالسيف مأثور ولما وقع الخلف بين ابن الزبير وبين عبد الملك بن مروان اعتزل ابن عباس ومحمد بن الحنفية الناس، فدعاهما ابن الزبير ليبايعاه فأبيا عليه، وقال كل منهما: لا نبايعك ولا نخالفك، فهم بهما فبعثا أبا الطفيل عامر بن واثلة فاستنجد لهما من العراق من شيعتهما.
فقدم أربعة آلاف فكبروا بمكة تكبيرة واحدة، وهموا بابن الزبير فهرب فتعلق بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ بالله، فكفوهم عنه، ثم مالوا إلى ابن عباس وابن الحنفية وقد حمل ابن الزبير حول دورهم الحطب ليحرقهم، فخرجوا بهما حتى نزلوا الطائف، وأقام ابن عباس سنتين لم يبايع أحدا كما تقدم.
فلما كان في سنة ثمان وستين توفي ابن عباس بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفية، فلما وضعوه ليدخلوه في قبره جاء طائر أبيض لم ير مثل خلقته، فدخل في أكفانه والتف بها حتى دفن معه.
قال عفان: وكانوا يرون علمه وعمله، فلما وضع في اللحد تلا تال لا يعرف من هو وفي رواية أنهم سمعوا من قبره: * (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي
وادخلي جنتي) * [ الفجر: 28 ] هذا القول في وفاته هو الذي صححه غير واحد من الائمة، ونص عليه أحمد بن حنبل والواقدي وابن عساكر، وهو المشهور عند الحافظ، وقيل إنه توفي في سنة ثلاث وستين، وقيل سنة ثلاث وسبعين، وقيل سنة سبع وستين، وقيل سنة تسع وستين، وقيل سنة سبعين.
والاول أصح، وهذه الاقوال كلها شاذة غريبة مردودة والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان عمره يوم مات ثنتين وسبعين سنة، وقيل إحدى وسبعين، وقيل أربع وسبعين، والاول أصح والله أعلم.
صفة ابن عباس كان جسيما إذا جلس يأخذ مكان رجلين، جميلا له وفرة، قد شاب مقدم رأسه، وشابت لمته، وكان يخضب بالحناء وقيل بالسواد، حسن الوجه يلبس حسنا ويكثر من الطيب بحيث إنه كان إذا مر في الطريق يقول النساء هذا ابن عباس أو رجل معه مسك، وكان وسيما أبيض طويلا جسيما فصيحا، ولما عمي اعترى لونه صفرة يسيرة.
وقد كان بنو العباس عشرة، وهم الفضل، و عبد الله، وعبيد الله، ومعبد، وقثم، وعبد الرحمن، وكثير، والحارث، وعون، وتمام.
وكان أصغرهم تمام، ولهذا كان يحمله ويقول:

تموا بتمام فصاروا عشرة * يا رب فاجعلهم كراما بررة واجعلهم ذكرا وانم الثمرة فأما الفضل فمات بأجنادين شهيدا، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، ومعبد وعبد الرحمن بافريقية، وقثم وكثير بينبع، وقيل إن قثما مات بسمرقند، وقد قال مسلم بن حماد المكي مولى بني مخزوم: ما رأيت مثل بني أم واحدة أشراف ولدوا في دار واحدة أبعد قبور من بني أم الفضل، ثم ذكر مواضع قبورهم كما تقدم، إلا أنه قال الفضل مات بالمدينة، وعبيد الله بالشام.
وقد كان عبد الله بن عباس يلبس الحلة بألف درهم، وكان له من الولد العباس وعلي،
وكان علي يدعى السجاد لكثرة صلاته، وكان أجمل قرشي على وجه الارض، وقد قيل إنه كان يصلي كل يوم ألف ركعة، وقيل في الليل والنهار مع الجمال التام، وعلى هذا فهو أبو الخلفاء العباسيين، ففي ولده كانت الخلافة العباسية كما سيأتي، وكان لابن عباس أيضا محمد والفضل وعبد الله، وأمهم زرعة بنت مسرح بن معدي كرب، وله أسماء وهي لام ولد، وكان له من الموالي عكرمة وكريب وأبو معبد وشعبة ودقيق وأبو عمرة وأبو عبيد.
وأسند ألفا وستمائة وسبعين حديثا والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفيها توفي أبو شريح الخزاعي العدوي الكعبي، اختلف في اسمه على أقوال أصحها خويلد بن عمرو، أسلم عام الفتح، وكان معه أحد ألوية بني كعب الثلاثة، قال محمد بن سعد: مات في هذه السنة وله أحاديث * وفيها توفي أبو واقد الليثي صحابي جليل مختلف في اسمه وفي شهوده بدرا، قال الواقدي توفي سنة ثمان وستين عن خمس وستين سنة، وكذا قال غير واحد في تاريخ وفاته.
وزعم بعضهم أنه عاش سبعين سنة، مات بمكة بعدما جاوز بها سنة ودفن في مقابر المهاجرين والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وستين ففيها (1) كان مقتل عمرو بن سعيد الاشدق الاموي قتله عبد الملك بن مروان وكان سبب ذلك أن عبد الملك ركب في أول هذه السنة في جنوده قاصدا قرقيسيا ليحاصر زفر بن الحارث الكلابي الذي أعان سليمان بن صرد على جيش مروان حين قاتلوهم بعين وردة.
ومن عزمه إذا فرغ من ذلك أن يقصد مصعب بن الزبير بعد ذلك، فلما سار إليها استخلف على دمشق عمرو بن سعيد الاشدق، فتحصن بها وأخذ أموال بيت المال وقيل بل كان مع عبد الملك ولكنه انخذل عنه في طائفة من الجيش وكر راجعا إلى دمشق في الليل، ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي،
__________
(1) وفي مروج الذهب 3 / 121: وفي سنة سبعين قتل عبد الملك عمرو بن سعيد.

وزهير بن الابرد الكلبي، فانتهوا إلى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم نائبا من جهة
عبد الملك، فلما أحس بهم هرب وترك البلد فدخلها عمرو بن سعيد الاشدق فاستحوذ على ما فيها من الخزائن، وخطب الناس فوعدهم العدل والنصف والعطاء الجزيل والثناء الجميل، ولما علم عبد الملك بما فعله الاشدق كر راجعا من فوره فوجد الاشدق قد حصن دمشق وعلق عليها الستائر والمسوح، وانحاز الاشدق إلى حصن رومي منيع كان بدمشق فنزله.
فحاصره عبد الملك وقاتله الاشدق مدة ستة عشر يوما (1)، ثم اصطلحا على ترك القتال، وعلى أن يكون ولي العهد بعد عبد الملك، وعلى أن يكون لكل عامل لعبد الملك عامل له، وكتبا بينهما كتاب أمان، وذلك عشية الخميس، ودخل عبد الملك إلى دمشق إلى دار الاماة على عادته، وبعث إلى عمرو بن سعيد الاشدق يقول له: رد على الناس أعطياتهم التي أخذتها من بيت المال، فبعث إليه الاشدق: إن هذا ليس إليك، وليس هذا البلد لك فاخرج منه، فلما كان يوم الاثنين بعث عبد الملك إلى الاشدق يأمره بالاتيان إلى منزله بدار الامارة الخضراء، فلما جاءه الرسول صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو زوج ابنته أم موسى بنت الاشدق، فاستشاره عمرو الاشدق في الذهاب إليه فقال له: يا أبا سعيد (2) والله لانت أحب إلي من سمعي وبصري، وأرى أن لا نأتيه، فإن تبيعا الحميري ابن امرأة كعب الاحبار قال: إن عظيما من عظماء بني إسماعيل يغلق أبواب دمشق فلا يلبث أن يقتل.
فقال عمرو: والله لو كنت نائما ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، وما كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه، وقال عمرو بن سعيد أبلغه السلام وقل له أنا رائح إليك العشية إن شاء الله.
فلما كان العشي - يعني بعد الظهر - لبس عمرو درعا بين ثيابه وتقلد سيفه ونهض فعثر بالبساط فقالت امرأته وبعض من حضره: إنا نرى أن لا تأتيه، فلم يلتفت إلى ذلك ومضى في مائة (3) من مواليه، وكان عبد الملك قد أمر بني مروان فاجتمعوا كلهم عنده، فلما انتهى عمرو إلى باب أمر عبد الملك أن يدخل وأن يحبس من معه عند كل باب طائفة منهم، فدخل حتى انتهى إلى صرحة المكان الذي فيه عبد الملك، ولم يبق معه من مواليه سوى وصيف، فرمى ببصره فإذا مروان عن بكرة أبيهم مجتمعون عند عبد الملك، فأحس بالشر فالتفت إلى ذلك الوصيف فقال له همسا: ويلك انطلق إلى أخي يحيى فقل له فليأتني، فلم
يفهم عنه وقال له: لبيك، فأعاد عليه ذلك فلم يفهم أيضا وقال: لبيك، فقال: ويلك أغرب عني في حرق الله وناره، وكان عند عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل، وقبيصة بن ذؤيب،
__________
(1) في الامامة والسياسة 2 / 26: حاصر عبد الملك دمشق أشهرا، حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفة بعده.
(2) في الطبري 7 / 176 وابن الاثير 4 / 298 والامامة والسياسة 2 / 26: يا أبا أمية.
(3) في الامامة والسياسة: فأخرج معه أربعة آلاف رجل من أهل دولته، وفي مروج الذهب 3 / 122 في نحو خمسمائة فارس يزولون معه حيث زال.

فأذن لهما عبد الملك بالانصراف، فلما خرجا غلقت الابواب واقترب عمرو من عبد الملك فرحب به وأجلسه معه على السرير، ثم جعل يحدثه طويلا، ثم إن عبد الملك قال: يا غلام خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين.
فقال له عبد الملك: أو تطمع أن تتحدث معي متقلدا سيفك ؟ فأخذ الغلام السيف عنه، ثم تحدثا ساعة، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: إنك حيث خلعتني آليت بيميني إن ملات عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة (1)، فقالت بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين، فقال ثم أطلقه، وما عسيت أن أفعل بأبي أمية، فقال بنو مروان: بر يمين أمير المؤمنين، فقال عمرو: بر قسمك يا أمير المؤمنين، فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه ثم قال: يا غلام قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أذكر الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس، فقال عبد الملك: أمكرا يا أبا أمية عند الموت ؟ لاها الله إذا ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولما نخرجها منك إلا صعدا، ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله أن يدعوك كسر عظمي إلى ما هو أعظم من ذلك، فقال عبد الملك: والله لو أعلم أنك إذا بقيت تفي لي وصلح قريش لاطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلد قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه، وفي رواية أنه قال له: أما علمت يا عمرو أنه لا يجتمع
فحلان في شرك ؟.
فلما تحقق عمرو ما يريد من قتله قال له: أغدرا يا بن الزرقاء ؟ وأسمعه كلاما رديئا بشعا، وبينما هما كذلك إذ أذن المؤذن للعصر، فقام عبد الملك ليخرج إلى الصلاة.
وأمر أخاه عبد العزيز بن مروان بقتله، وخرج عبد الملك وقام إليه عبد العزيز، بالسيف فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن لا تلي ذلك مني، وليتول ذلك غيرك، فكف عنه عبد العزيز.
ولما رأى الناس عبد الملك قد خرج وليس معه عمرو أرجف الناس بعمرو، فأقبل أخوه يحيى بن سعيد في ألف عبد لعمرو بن سعيد وأناس معهم كثير، وأسرع عبد الملك الدخول إلى دار الامارة، وجاء أولئك فجعلوا يدقون باب الامارة ويقولون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية، وضرب رجل منهم الوليد بن عبد الملك في رأسه بالسيف فجرحه، فأدخله إبراهيم بن عدي (3) صاحب الديوان بيتا، وأحرزه فيه، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد، وضجت الاصوات، ولما رجع عبد الملك وجد أخاه لم يقتله فلامه وسبه وسب أمه - ولم تكن أم عبد العزيز أم عبد الملك (3) فقال له: ناشدني الله والرحمن، وكان ابن عمه عبد الملك بن مروان، ثم إن عبد الملك قال: يا غلام أتني بالحربة، فأتاه بها فهزها وضربه بها فلم تغن شيئا، ثم ثنى فلم تغن شيئا، فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد
__________
(1) الجامعة: الغل.
(2) كذا بالاصل ومروج الذهب 3 / 124، وفي الطبري 7 / 178 وابن الاثير 4 / 300: إبراهيم بن عربي صاحب الديوان فاحتمله وادخله بيت القراطيس.
(3) أم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية وأم عبد العزيز ليلى الكلبية.

مس الدرع فضحك وقال: أدارع أيضا ؟ إن كنت معدا، يا غلام ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصرع (1) ثم جلس على صدره فذبحه وهو يقول: يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حتى (2) تقول الهامة اسقوني قالوا: وانتقض عبد الملك بعدما ذبحه كما تنتقض القصبة برعدة شديدة جدا، بحيث إنهم ما رفعوه عن صدره إلا محمولا، فوضعوه على سريره وهو يقول: ما رأيت مثل هذا قط قبله (3)
صاحب دنيا ولا آخرة، ودفع الرأس إلى عبد الرحمن بن أم الحكم فخرج إلى الناس فألقاه بين أظهرهم، وخرج عبد العزيز بن مروان ومعه البدر من الاموال تحمل، فألقيت بين الناس فجعلوا يختطفونها، ويقال: إنها استرجعت بعد ذلك من الناس إلى بيت المال، ويقال إن الذي ولي قتل عمرو بن سعيد مولى عبد الملك أبو الزعيزعة بعدما خرج عبد الملك إلى الصلاة فالله أعلم.
وقد دخل يحيى بن سعيد - أخو عمرو بن سعيد - دار الامارة بعد مقتل أخيه بمن معه فقام إليهم بنو مروان فاقتتلوا، وجرح جماعات من الطائفتين، وجاءت يحيى بن سعيد صخرة في رأسه أشغلته عن نفسه وعن القتال، ثم إن عبد الملك بن مروان خرج إلى المسجد الجامع فصعد المنبر فجعل يقول: ويحكم أين الوليد ؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عدي (4) الكناني فقال: هذا الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس، ثم أمر عبد الملك بحيى بن سعيد أن يقتل فتشفع فيه أخوه عبد العزيز بن مروان، وفي جماعات آخرين معه كان عبد الملك قد أمر بقتلهم، فشفعه فيهم وأمر بحبسه فحبس شهرا، ثم سيره وبني عمرو بن سعيد وأهليهم إلى العراق فدخلوا على مصعب بن الزبير فأكرمهم وأحسن إليهم، ثم لما انعقدت الجماعة لعبد الملك بعد مقتل ابن الزبير، وفدوا عليه فكاد يقتلهم فتلطف بعضهم في العبارة حتى رق لهم رقة شديدة، فقال لهم عبد الملك: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأرعاني لحقكم فأحسن جائزتهم وقربهم، وقد كان عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو بن سعيد أن ابعثي إلي بكتاب الامان الذي كنت كتبته لعمرو، فقالت: إني دفنته معه ليحاكمك به يوم القيامة عند الله.
وقد كان مروان بن الحكم وعد عمرو بن سعيد هذا أن يكون ولي العهد من بعد ولده عبد الملك، كلاما مجردا، فطمع في ذلك وقويت نفسه بسبب ذلك، وكان عبد الملك يبغضه بغضا شديدا من حال الصغر، ثم كان هذا صنيعه إليه في الكبر.
قال ابن جرير: وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: عجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرته حتى قتلته ؟ فقال:
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 123: قتله أبو الزعيزعة، وفي الامامة والسياسة 3 / 27: قتله ابن الزويرع.
(2) في الطبري وابن الاثير: حيث.
(3) في الطبري وابن الاثير: قتله.
(4) راجع هامش 2 ص 339.

وأدنيته مني ليسكن روعه (1) * فأصول صولة حازم مستمكن غضبا ومحمية لديني إنه * ليس المسئ سبيله كالمحسن قال خليفة بن خياط: وهذا الشعر للضبي بن أبي رافع تمثل به عبد الملك.
وروى ابن دريد عن أبي حاتم عن الشعبي أن عبد الملك قال: لقد كان عمرو بن سعيد أحب إلي من دم النواظر، ولكن والله لا يجتمع فحلان في الابل إلا أخرج أحدهما الآخر، وإنا لكما قال أخو بني يربوع: أجازي من جزاني الخير خيرا * وجازى الخير يجزى بالنوال وأجزي من جزاني الشر شرا * كما تحذا النعال على النعال قال خليفة بن خياط: وأنشد أبو اليقظان لعبد الملك في قتله عمرو بن سعيد: صحت ولا تشلل وضرت عدوها * يمين أراقت مهجة ابن سعيد وجدت ابن مروان ولا نبل عنده * شديد ضرير الناس غر بليد هو ابن أبي العاص لمروان ينتهي * إلى أسرة طابت له وجدود وكان الواقدي يقول: أما حصار عبد الملك لعمرو بن سعيد الاشدق فكان في سنة تسع وستين، رجع إليه من بطنان (2) فحاصره بدمشق ثم كان قتله في سنة سبعين والله أعلم.
وهذه ترجمة الاشدق هو عمرو بن سعيد بن العاص (3) بن أمية بن عبد شمس، أبو أمية القرشي الاموي، المعروف بالاشدق، يقال (4) إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنه قال: " ما نحل والد ولدا أحسن من أدب حسن " وحديثا آخر في العتق، وروى عن عمر وعثمان وعلي وعائشة، وحدث عنه بنوه أمية وسعيد وموسى وغيرهم، واستنابه معاوية على المدينة، وكذلك يزيد بن معاوية بعد أبيه كما تقدم،
وكان من سادات المسلمين، ومن الكرماء المشهورين، يعطي الكثير، ويتحمل العظائم، وكان وصي أبيه من بين بنيه (5)، وكان أبوه كما قدمنا من المشاهير الكرماء، والسادة النجباء، قال عمرو: ما شتمت رجلا منذ كنت رجلا، ولا كلفت من قصدني أن يسألني، لهو أمن علي مني
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 123: لتسكن نفرة.
(2) في ابن الاثير 4 / 297 والطبري 7 / 175: بطنان حبيب، وانظر حاشية رقم 1 ص 338.
(3) في الاصابة 2 / 47: عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية...(4) هذا بعيد، لان أباه سعيد ولد - في قول - عام الهجرة، وفي قول آخر كان عمره تسع سنين عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5) وقد احصي دينه لما مات وكان ثمانون ألف دينار وفاها عنه.

عليه، وقال سعيد بن المسيب: خطباء الناس في الجاهلية الاسود بن عبد المطلب، وسهيل بن عمرو، وخطباء الناس في الاسلام معاوية وابنه، وسعيد بن العاص وابنه، وعبد الله بن الزبير.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد، ثنا علي بن زيد، أخبرني من سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية حتى يسيل رعافه " قال: فأخبرني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سال رعافه (1).
وهو الذي كان يبعث البعوث إلى مكة بعد وقعة الحرة أيام يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير، فنهاه أبو شريح الخزاعي وذكر له الحديث الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم مكة، فقال: نحن أعلم بذلك منك يا شريح، إن الحرام لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم، ولا فارا بجزية، الحديث كما تقدم وهو في الصحيحين.
ثم إن مروان دخل إلى مصر بعدما دعا إلى نفسه واستقر له الشام، ودخل معه عمرو بن سعيد ففتح مصر، وقد كان وعد عمرا أن يكون ولي العهد من بعد عبد الملك، وأن يكون قبل ذلك نائبا بدمشق، فلما قويت شوكة مروان رجع عن ذلك، وجعل الامر من بعد ذلك لولده عبد العزيز، وخلع عمرا.
فما زال ذلك في نفسه حتى كان
من أمره ما تقدم، فدخل عمرو دمشق وتحصن بها وأجابه أهلها، فحاصره عبد الملك ثم استنزله على أمان صوري، ثم قتله كما قدمنا.
وكان ذلك في هذه السنة على المشهور عند الاكثرين، وقال الواقدي وأبو سعيد بن يونس سنة سبعين فالله أعلم.
ومن الغريب ما ذكره هشام بن محمد الكلبي بسند له أن رجلا سمع في المنام قائلا يقول على سور دمشق قبل أن يخرج عمرو بالكلية، وقبل قتله بمدة هذه الابيات: ألا يا قوم للسفاهة والوهن * وللفاجر الموهون والرأي الافن ولا بن سعيد بينما هو قائم * على قدميه خر للوجه والبطن رأى الحصن منجاة من الموت فالتجا * إليه فزارته المنية في الحصن قال: فأتى الرجل عبد الملك فأخبره فقال: ويحك سمعها منك أحد ؟ قال: لا ! قال: فضعها تحت قدميك، قال: ثم بعد ذلك خلع عمرو الطاعة وقتله عبد الملك بن مروان، وقد قيل إن عبد الملك لما حاصره راسله وقال: أنشدك الله والرحم أن تدع أمر بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة فإن فيما صنعت قوة لابن الزبير علينا، فارجع إلى بيعتك ولك علي عهد الله وميثاقه، وحلف له بالايمان المؤكدة أنك ولي عهدي من بعدي، وكتبا بينهما كتابا، فانخدع له عمرو وفتح له أبواب دمشق فدخلها عبد الملك وكان من أمرها ما تقدم.
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 522.

وممن توفي فيها من الاعيان أبو الاسود الدؤلي ويقال له الديلي.
قاضي الكوفة، تابعي جليل، واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن جلس بن شباثة (1) بن عدي بن الدؤل بن بكر، أبو الاسود الذي نسب إليه علم النحو، ويقال بأنه أول من تكلم فيه، وإنما أخذه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد اختلف في اسمه على أقوال، أشهرها أن اسمه ظالم بن عمرو، وقيل عكسه، وقال الواقدي:
اسمه عويمر بن ظويلم.
قال وقد أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وشهد الجمل وهلك في ولاية عبيد الله بن زياد، وقال يحيى بن معين وأحمد بن عبد الله العجلي: كان ثقة وهو أول من تكلم في النحو، وقال ابن معين وغيره: مات بالطاعون الجارف سنة تسع وستين.
قال ابن خلكان: وقيل إنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقد كان ابتداؤها في سنة تسع وتسعين.
قلت: وهذا غريب جدا.
قال ابن خلكان وغيره: كان أول من ألقى إليه علم النحو علي بن أبي طالب، وذكر له أن الكلام اسم وفعل وحرف، ثم إن أبا الاسود نحى نحوه وفرع على قوله، وسلك طريقه، فسمى هذا العلم النحو لذلك، وكان الباعث لابي الاسود على ذلك تغير لغة الناس، ودخول اللحن في كلام بعضهم أيام ولاية زياد على العراق، وكان أبو الاسود مؤدب بنيه، فإنه جاء رجل يوما إلى زياد فقال: توفي أبانا وترك بنون، فأمره زياد أن يضع الناس شيئا يهتدون به إلى معرفة كلام العرب، ويقال إن أول ما وضع منه باب التعجب من أجل أن ابنته قالت له ليلة: يا أبة ما أحسن السماء، قال نجومها، فقالت: إني لم أسأل عن أحسنها إنما تعجبت من حسنها، فقال قولي: ما أحسن السماء قال ابن خلكان: وقد كان أبو الاسود يبخل.
وكان يقول: أطعنا المساكين في أموالنا لكنا مثلهم، وعشى ليلة مسكينا ثم قيده وبيته عنده ومنعه أن يخرج ليلته تلك لئلا يؤذي المسلمين بسؤاله، فقال له المسكين: اطلقني، فقال هيهات، إنما عشيتك لاريح منك المسلمين الليلة، فلما أصبح أطلقه.
وله شعر حسن.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وقد أظهر خارجي التحكم بمنى فقتله عند الحجرة.
والنواب فيها هم الذين كانوا في السنة التي قبلها.
وممن توفي فيها جابر بن سمرة بن جنادة له صحبة ورواية ولابيه أيضا صحبة ورواية، وقيل توفي في سنة ست وستين فالله أعلم.
__________
(1) في الاصابة 2 / 241: نفاثة.

أسماء بنت يزيد ابن السكن الانصارية، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم وقتلت بعمود خيمتها يوم اليرموك تسعة من الروم ليلة عرسها، وسكنت دمشق ودفنت بباب الصغير.
حسان بن مالك أبو سليمان البحدلي قام ببيعة مروان لما تولى الخلافة، مات في هذه السنة والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة سبعين من الهجرة فيها ثارت الروم واستجاشوا على من بالشام، واستضعفوهم لما يرون من الاختلاف الواقع بين بني مروان وابن الزبير، فصالح عبد الملك ملك الروم وهادنه على أن يدفع إليه عبد الملك في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على الشام.
وفيها وقع الوباء بمصر فهرب منه عبد العزيز بن مروان إلى الشرقية، فنزل حلوان وهي على مرحلة من القاهرة، واتخذها منزلا واشتراها من القبط بعشرة آلاف دينار، وبنى بها دارا للامارة وجامعا، وأنزلها الجند.
وفيها ركب مصعب بن الزبير من البصرة إلى مكة ومعه أموال جزيلة.
فأعطى وفرق وأطلق لجماعة من رؤوس الناس بالحجاز أموالا كثيرة.
وممن توفي فيها من الاعيان عاصم بن عمر بن الخطاب الفرشي العدوي، وأمه جميلة بنت ثابت بن أبي الاقلح، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرو إلا عن أبيه حديثا واحدا " إذا أقبل الليل من ههنا " الحديث، وعنه ابناه حفص وعبد الله، وعروة بن الزبير، وقد طلق أبوه أمه فأخذته جدته الشموس بنت أبي عامر، أتى به الصديق وقال شمها ولطفها أحب إليه منك، ثم لما زوجه أبوه في أيام إمارته أنفق عليه من بيت المال شهرا، ثم كف عن الانفاق عليه وأعطاه ثمن ماله وأمره أن يتجر وينفق على عياله.
وذكر غير واحد أنه كان بين عاصم وبين الحسن والحسين منازعة في أرض، فلما تبين عاصم من الحسن الغضب قال: هي
لك، فقال له: بل هي لك، فتركاها ولم يتعرضا لها، ولا أحد من ذريتهما حتى أخذها الناس من كل جانب، وكان عاصم رئيسا وقورا كريما فاضلا.
قال الواقدي: مات سنة سبعين بالمدينة.

قبيصة بن ذؤيب الخزاعي الكلبي أبو العلاء من كبار التابعين وهو أخو معاوية من الرضاعة، كان من فقهاء أهل المدينة وصالحيهم، انتقل إلى الشام وكان معلم كتاب.
قيس بن ذريج المشهور أنه من بادية الحجاز، وقيل إنه أخو الحسين بن علي من الرضاعة، وكان قد تزوج لبنى بنت الحباب ثم طلقها، فلما طلقها هام لما به من الغرام، وسكن البادية، وجعل يقول فيها الاشعار ونحل جسمه، فلما زاد ما به أتاه ابن أبي عتيق فأخذه ومضى به إلى عبد الله بن جعفر فقال له: فداك أبي وأمي، اركب معي في حاجة، فركب واستنهض معه أربعة نفر من وجوه قريش، فذهبوا معه وهم لا يدرون ما يريد، حتى أتى بهم باب زوج لبنى، فخرج إليهم فإذا وجوه قريش، فقال: جعلني الله فداكم ! ما جاء بكم ؟ قالوا: حاجة لابن أبي عتيق، فقال الرجل: اشهدوا أن حاجته مقضية، وحكمه جائز، فقالوا: أخبره بحاجتك، فقال ابن أبي عتيق: اشهدوا على أن زوجته لبنى منه طالق، فقال عبد الله بن جعفر: قبحك الله، ألهذا جئت بنا ؟ فقال: جعلت فداكم يطلق هذا زوجته ويتزوج بغيرها خير من أن يموت رجل مسلم في هواها صبابة، والله لا أبرح حتى ينتقل متاعها إلى بيت قيس، ففعلت وأقاموا مدة في أرغد عيش وأطيبه رحمهم الله تعالى.
يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري الشاعر كان كثير الشعر والهجو، وقد أراد عبيد الله بن زياد قتله لكونه هجا أباه زيادا، فمنعه معاوية من قتله، وقال: أدبه، فسقاه دواء مسهلا وأركبه على حمار وطاف به في الاسواق وهو يسلح على الحمار فقال في ذلك:
يغسل الماء ما صنعت وشعري * راسخ منك في العظام البوالي بشير بن النضر قاضي مصر، كان رزقه في العام ألف دينار، توفي بمصر، وولى بعده عبد الرحمن بن حمزة الخولاني، والله سبحانه أعلم.
مالك بن يخامر السكسكي الالهاني الحمصي تابعي جليل، ويقال له صحبة فالله أعلم.
روى البخاري من طريق معاوية عنه عن معاذ بن جبل في حديث الطائفة الظاهرة على الحق أنهم بالشام، وهذا من

باب رواية الاكابر عن الاصاغر، إلا أن يقال له صحبة، والصحيح أنه تابعي وليس بصحابي، وكان من أخص أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال غير واحد: مات في هذه السنة، وقيل سنة اثنتين وسبعين والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة احدى وسبعين ففيها كان مقتل مصعب بن الزبير، وذلك أن عبد الملك بن مروان سار في جنود هائلة من الشام قاصدا مصعب بن الزبير، فالتقيا في هذه السنة، وقد كانا قبلها يركب كل واحد ليلتقي بالآخر فيحول بينهما الشتاء والبرد والوحل، فيرجع كل واحد منهما إلى بلده، فلما كان في هذا العام سار إليه عبد الملك وبعث بين يديه السرايا، ودخل بعض من أرسله إلى البصرة فدعا أهلها إلى عبد الملك في السر، فاستجاب له بعضهم، وقد كان مصعب سار إلى الحجاز فجاء ودخل البصرة على إثر ذلك، فأنب الكبراء من الناس وشتمهم ولامهم على دخول أولئك إليهم، وإقرارهم لهم على ذلك (1)، وهدم دور بعضهم، ثم شخص إلى الكوفة، ثم بلغه قصد عبد الملك له بجنود الشام فخرج إليه ووصل عبد الملك إلى مسكن، وكتب إلى المروانية الذين استجابوا لمن بعثه إليهم فأجابوه، واشترطوا عليه أن يوليهم أصبهان فقال نعم - وهم جماعة كثيرة من الامراء - وقد جعل عبد الملك على مقدمته أخاه محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى
ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية، وخرج مصعب وقد اختلف عليه أهل العراق، وخذلوه وجعل يتأمل من معه فلا يجدهم يقاومون أعداءه، فاستقتل وطمن نفسه على ذلك، وقال: لي بالحسين بن علي أسوة حين امتنع عن إلقائه يده، ومن الذلة لعبيد الله بن زياد، وجعل ينشد ويقول مسليا نفسه: وإن الاولى بالطف من آل هاشم * تأسوا فسنوا للكرام التأسيا وكان عبد الملك قد أشار عليه بعض أصحابه أن يقيم بالشام وأن يبعث إلى مصعب جيشا، فأبى وقال: لعلي إن بعثت رجلا شجاعا كان لا رأي له، ومن له رأي ولا شجاعة له، وإني أجد من نفسي بصيرا بالحرب وشجاعة، وإن مصعبا في بيت شجاعة، أبوه أشجع قرشي، وأخوه لا تجهل شجاعته، وهو شجاع ومعه من يخالفه ولا علم له بالحرب، وهو يحب الدعة والصفح، ومعي من ينصح لي ويوافقني على ما أريد، فسار بنفسه فلما تقارب الجيشان بعث عبد الملك إلى أمراء مصعب يدعوهم إلى نفسه ويعدهم الولايات، فجاء إبراهيم بن الاشتر إلى مصعب فألقى
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 254: كان أهل البصرة صفين: زبيريون ومروانيون فتحركت شيعة بني مروان وشيعة آل الزبير فاقتتلوا في موضع يقال له المربد - وكان مصعب يومئذ بالكوفة - ووقعت الهزيمة على المروانيين.

إليه كتابا مختوما (1) وقال: هذا جاءني من عبد الملك، ففتحه فإذا هو يدعوه إلى الاتيان إليه وله نيابة العراق، وقال لمصعب: أيها الامير ! إنه لم يبق أحد من أمرائك إلا وقد جاءه كتاب مثل هذا، فإن أطعتني ضربت أعناقهم.
فقال له مصعب: إني لو فعلت ذلك لم ينصحنا عشائرهم بعدهم، فقال: فابعثهم إلى أبيض كسرى فاسجنهم فيه، فإن كانت لك النصرة ضربت أعناقهم، وإن كانت عليك خرجوا بعد ذلك.
فقال له: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن هذا، ثم قال مصعب: رحم الله أبا بحر - يعني الاحنف - أن كان ليحذرني غدر أهل العراق، وكأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه الآن.
ثم تواجه الجيشان بدير الجاثليق من مسكن، فحمل إبراهيم بن الاشتر - وهو أمير المقدمة العراقية لجيش مصعب - على محمد بن مروان - وهو أمير مقدمة الشام - فأزالهم
عن موضعهم، فأردفه عبد الملك بعبد الله بن يزيد بن معاوية، فحملوا على ابن الاشتر ومن معه فطحنوهم، وقتل ابن الاشتر رحمه الله وعفا عنه، وقتل معه جماعة من الامراء، وكان عتاب بن ورقاء على خيل مصعب فهرب أيضا ولجأ إلى عبد الملك بن مروان، وجعل مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض أصحاب الرايات ويحث الشجعان والابطال أن يتقدموا إلى أمام القوم، فلا يتحرك أحد (2)، فجعل يقول: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم، وتفاقم الامر واشتد القتال، وتخاذلت الرجال، وضاق الحال، وكثر النزال.
قال المدائني: أرسل عبد الملك أخاه إلى مصعب يعطيه الامان فأبى وقال: إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموضع إلا غالبا أو مغلوبا.
قالوا: فنادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب فقال: يا بن أخي لا تقتل نفسك، لك الامان، فقال له مصعب: قد أمنك عمك فامض إليه، فقال: لا يتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل، فقال له: يا بني فاركب خيل السبق فالحق بعمك فأخبره بما صنع أهل العراق فإني مقتول ههنا، فقال: والله إني لا أخبر عنك أحدا أبدا، ولا أخبر نساء قريش بمصرعك، ولا أقتل إلا معك ولكن إن شئت ركبت خيلك وسرنا إلى البصرة فإنهم على الجماعة، فقال: والله لا يتحدث قريش بأني فررت من القتال، فقال لابنه: تقدم بين يدي حتى أحتسبك، فتقدم ابنه فقاتل حتى قتل، وأثخن مصعب بالرمي فنظر إليه زائدة بن قدامة وهو كذلك فحمل عليه فطعنه وهو يقول: يا ثارات المختار، ونزل إليه رجل يقال له عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي فقتله وحز رأسه وأتى به عبد الملك بن مروان، فسجد عبد الملك وأطلق له ألف دينار فأبى أن يقبلها وقال: لم أقتله على
__________
(1) انظر نسخة الكتاب في الاخبار الطوال ص 312، وقد أشار إليه الطبري وابن الاثير وابن قتيبة وابن الاعثم في الفتوح والمسعودي في مروج الذهب.
(2) طلب مصعب من أبي عثمان قطن بن عبد الله الحارثي التقدم برايته فرفض، فطلب مصعب من حجاز بن أبجر - أبو أسيد - التقدم برايته فرفض أيضا.
فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك.
فقال له: ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله.
انظر الطبري 7 / 185 وابن الاثير 4 / 326 وابن الاعثم 6 / 266.

طاعتك ولكن بثأر كان لي عنده (1)، وكان قد ولي له عملا قبل ذلك فعزله عنه وأهانه.
قالوا: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال عبد الملك: لقد كان بيني وبين مصعب صحبة قديمة، وكان من أحب الناس إلي، ولكن هذا الملك عقيم، وقال: لما تفرق عن مصعب جموعه قال له ابنه عيسى: لو اعتصمت ببعض القلاع وكاتبت من بعد عنك مثل المهلب بن أبي صفرة وغيره فقدموا عليك، فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم، فإنك قد ضعفت جدا.
فلم يرد عليه جوابا، ثم ذكر ما جرى للحسين بن علي وكيف قتل كريما ولم يلق بيده، ولم يجد من أهل العراق وفاء، وكذلك أبوه وأخوه، ونحن ما وجدنا لهم وفاء، ثم انهزم أصحابه وبقي في قليل من خواصه، ومال الجميع إلى عبد الملك، وقد كان عبد الملك يحب مصعبا حبا شديدا، وكان خليلا له قبل الخلافة، فقال لاخيه محمد: اذهب إليه فأمنه، فجاءه فقال له: يا مصعب قد أمنك ابن عمك على نفسك وولدك ومالك وأهلك، فاذهب حيث شئت من البلاد، ولو أراد بك غير ذلك لكان [ أنزله بك، فانشدك الله في نفسك ] (2)، فقال مصعب: قضي الامر، إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا، فتقدم ابنه عيسى فقاتل، فقال محمد بن مروان: يا بن أخي لا تقتل نفسك.
ثم ذكر من قوله ما تقدم، ثم قاتل حتى قتل رحمه الله، ثم ذكر من قتل منهم بعده كما تقدم، قال: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بكى وقال: والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم.
ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة، متى تلد النساء مثل مصعب ؟ ثم أمر بمواراته ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الاشتر في قبور بمسكن بالقرب من الكوفة.
قال المدائني: وكان مقتل مصعب بن الزبير يوم الثلاثاء (3) الثالث عشر من جمادى الاولى أو الآخرة من سنة إحدى وسبعين في قول الجمهور وقال المدائني: سنة ثنتين وسبعين والله أعلم.
قالوا: ولما قتل عبد الملك مصعبا ارتحل إلى الكوفة فنزل النخيلة فوفدت عليه الوفود من رؤساء القبائل وسادات العرب، وجعل يخاطبهم بفصاحة وبلاغة واستشهاد بأشعار حسنة، وبايعه أهل العراق وفرق العمالات في الناس، وولى الكوفة قطن بن عبد الله الحري أربعين يوما،
__________
(1) في ابن الاثير 4 / 328: ضربه ابن ظبيان فقتله، وفي ابن الاعثم 6 / 267: حمل عليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي فطعنه طعنة نكسه عن فرسه ثم نزل رجل من أهل الشام إلى مصعب فاحتز رأسه (وفي الامامة والسياسة 2 / 29 فجاء غلام لعبيد الله بن ظبيان فضرب مصعبا بالسيف فقتله).
وفي الطبري 7 / 186: طعنه زائدة ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاحتز رأسه وقال: إنه قتل أخي النابئ بن زياد.
وانظر تاريخ الاسلام للذهبي 3 / 110 والاخبار الطوال ص 313.
ومروج الذهب 3 / 129.
(2) من مروج الذهب 3 / 128.
(3) في الاخبار الطوال ص 313: يوم الخميس للنصف من جمادى الاولى سنة 72 (وانظر مروج الذهب 3 / 129)

ثم عزله وولى أخاه بشر بن مروان عليها.
وخطب عبد الملك يوما بالكوفة فقال في خطبته: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ولم يغرز ذنبه في الحرم، ثم قال لهم: إني قد استخلفت عليكم أخي بشر بن مروان وأمرته بالاحسان إلى أهل الطاعة، وبالشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
وأما أهل البصرة فانهم لما بلغهم مقتل مصعب تنازع في إمارتها أبان (1) بن عثمان بن عفان، وعبيد الله بن أبي بكرة، فغلبه أبان عليها، فبايعه أهلها فكان أشرف الرجلين، قال أعرابي: والله لقد رأيت رداء أبان مال عن عاتقه يوما فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه على منكبيه، وقال غيره: مد أبان يوما رجله فابتدرها معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها، قال: فبعث عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد واليا عليها - يعني على البصرة - فأخذها من أبان واستناب فيها عبيد الله بن أبي بكرة، وعزل أبانا عنها.
قالوا: وقد أمر عبد الملك بطعام كثير فعمل لاهل الكوفة فأكلوا من سماطه ومعه يومئذ على السرير عمرو بن حريث، فقال له عبد الملك: ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم ؟ ولكن كما قال الاول: وكل جديد يا أميم إلى البلى * وكل امرئ يوما يصير إلى كان فلما فرغ الناس من الاكل نهض فدار في القصر وجعل يسأل عمرو بن حريث عن أحوال
القصر ومن بنى أماكنه وبيوته ثم عاد إلى مجلسه فاستلقى وهو يقول: اعمل على مهل فانك ميت * واكدح لنفسك أيها الانسان فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى * وكأن ما هو كائن قد كان قال ابن جرير: وفيها رجع عبد الملك كما زعم الواقدي إلى الشام، وفيها عزل ابن الزبير جابر بن الاسود عن المدينة وولى عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وكان هو آخر أمرائه عليها، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان من جهة عبد الملك.
وفيها حج بالناس عبد الله بن الزبير ولم يبق له ولاية على العراق.
قال الواقدي: وفيها عقد عبد العزيز بن مروان نائب مصر لحسان العاني على غزو إفريقية فسار إليها في عدد كثير، فافتتح قرطاجنة وكان أهلها روما عباد أصنام.
وفيها قتل نجدة الحروري الذي تغلب على اليمامة، وفيها خرج عبد الله بن ثور في اليمامة.
وهذه ترجمة مصعب بن الزبير وهو مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو
__________
(1) في الطبري 7 / 189 وابن الاثير 4 / 336: حمران بن أبان.

عبد الله القرشي، ويقال له أبو عيسى أيضا الاسدي، وأمه كرمان بنت أنيف الكلبية، كان من أحسن الناس وجها، وأشجعهم قلبا.
وأسخاهم كفا، وقد حكى عن عمر بن الخطاب، وروى عن أبيه الزبير وسعد وأبي سعيد الخدري، وروى عنه الحكم بن عيينة وعمرو بن دينار الجمحي، وإسماعيل بن أبي خالد، ووفد على معاوية، وكان ممن يجالس أبا هريرة، وكان من أحسن الناس وجها، حكى الزبير بن بكار: أن جميلا نظر إليه وهو واقف بعرفة فقال: إن ههنا فتى أكره أن تراه بثينة، وقال الشعبي: ما رأيت أميرا على منبر قط أحسن منه، وكذا قال إسماعيل بن خالد.
وقال الحسن هو أجمل أهل البصرة، وقال الخطيب البغدادي: ولي إمرة العراقين لاخيه عبد الله حتى قتله عبد الملك بمسكن بموضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق، وقبره إلى الآن
معروف هناك.
وقد ذكرنا صفة مقتله المختار بن أبي عبيد، وأنه قتل في غداة واحدة من أصحاب المختار سبعة آلاف، قال الواقدي: لما قتل مصعب المختار طلب أهل القصر من أصحاب المختار من مصعب الامان فأمنهم، ثم بعث إليهم عباد بن الحصين فجعل يخرجهم ملتفين، فقال له الرجل: الحمد لله الذي نصركم علينا وابتلانا بالاسر، يا بن الزبير من عفا عفا الله عنه، ومن عاقب لا يأمن القصاص، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم وقد قدرت فاسمح واعف عنا، قال: فرق لهم مصعب وأراد أن يخلي سبيلهم، فقام عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث وغيره من كل قبيلة فقالوا: قد قتلوا أولادنا وعشائرنا وجرحوا منا خلقا، اخترنا أو اخترهم، فأمر حينئذ بقتلهم، فنادوا بأجمعهم: لا تقتلنا واجعلنا مقدمتك في قتال عبد الملك بن مروان، فإن ظفرنا فلكم، وإن قتلنا لا نقتل حتى نقتل منهم طائفة، وكان الذي تريد، فأبى ذلك مصعب، فقال له مسافر: اتق الله يا مصعب، فإن الله عز وجل أمرك أن لا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس، وإن: * (من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * [ النساء: 93 ] فلم يسمع له بل أمر بضرب رقابهم جميعهم وكانوا سبعة آلاف نفس، ثم كتب مصعب إلى ابن الاشتر أن أجبني فلك الشام وأعنة الخيل، فسار ابن الاشتر إلى مصعب.
وقيل إن مصعبا لما قدم مكة أتى عبد الله بن عمر فقال: أي عم: إني أسألك عن قوم خلعوا الطاعة وقاتلوا حتى غلبوا تحصنوا وسألوا الامان فأعطوه ثم قتلوا بعد ذلك.
فقال: وكم هم ؟ فقال: خمسة آلاف، فسبح ابن عمر واسترجع وقال: لو أن رجلا أتى ماشية الزبير فذبح منها خمسة آلاف ماشية في غداة واحدة ألست تعده مسرفا ؟ قال: نعم: قال: أفتراه إسرافا في البهائم ولا تراه إسرافا في من ترجو توبته ؟ يا بن أخي أصب من الماء البارد ما استطعت في دنياك.
ثم إن مصعبا بعث برأس المختار إلى أخيه بمكة وتمكن مصعب في العراق تمكنا زائدا، فقرر بها الويالات والعمال، وحظي عنده ابن الاشتر فجعله على الوفادة، ثم رحل مصعب إلى أخيه بمكة فأعلمه بما فعل فأقره على ما صنع، إلا ابن الاشتر لم يمض له ما جعله عليه، وقال له: أتراني أحب الاشتر وهو الذي جرحني هذه الجراحة، ثم استدعى بمن قدم مع مصعب من أهل العراق فقال لهم: والله لوددت

أن لي بكل رجلين منكم رجلا من أهل الشام.
فقال له أبو حاجز الاسدي - وكان قاضي الجماعة بالبصرة - إن لنا ولكم مثلا قد مضى يا أمير المؤمنين وهو ما قال الاعشى: علقتها عرضا وعلقت رجلا * غيري وعلق أخرى غيرها الرجل قلت كما قيل أيضا: جننا بليلى وهي جنت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونة لا نريدها علقناك يا أمير المؤمنين وعلقت أهل الشام وعلق أهل الشام إلى مروان، فما عسينا أن نصنع ؟ قال الشعبي: ما سمعت جوابا أحسن منه، وقال غيره: وكان مصعب من أشد الناس محبة للنساء وقد أمضى من ذلك شيئا كثيرا كما روى أنه اجتمع عند الحجر الاسود جماعة منهم ابن عمر ومصعب بن الزبير، فقالوا: ليقم كل واحد منكم وليسأل من الله حاجته، فسأل ابن عمر المغفرة، وسأل مصعب أن يزوجه الله سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وكانتا من أحسن النساء في ذلك الزمان، وأن يعطيه الله إمرة العراقين، فأعطاه الله ذلك، تزوج بعائشة بنت طلحة، وكان صداقها عليه مائة ألف دينار، وكانت باهرة الجمال جدا، وكان مصعب أيضا جميلا جدا، وكذلك بقية زوجاته، قال الاصمعي: عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب وعروة وابن الزبير وابن عمر، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم: وقال مصعب، أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين.
وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة.
قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر الله له.
وقال عامر الشعبي: بينما أنا جالس إذ دعاني الامير مصعب بن الزبير فأدخلني دار الامارة ثم كشف فإذا وراءه عائشة بنت طلحة، فلم أر منظرا أبهى ولا أحسن منها، فقال: أتدري من هذه ؟ فقلت: لا فقال: هذه عائشة بنت طلحة، ثم خرجت فقالت: من هذا الذي أظهرتني عليه ؟ قال: هذا عامر الشعبي، قالت: فأطلق له شيئا، فأطلق لي عشرة آلاف درهم.
قال
الشعبي: فكان أول مال ملكته، وحكى الحافظ ابن عساكر: أن عائشة بنت طلحة تغضبت مرة على مصعب فترضاها بأربعمائة ألف درهم، فأطلقتها هي للمرأة التي أصلحت بينهما، وقيل إنه أهديت له نخلة من ذهب ثمارها من صنوف الجواهر المثمنة، فقومت بألفي ألف دينار، وكانت من متاع الفرس فأعطاها لعائشة بنت طلحة.
وقد كان مصعب من أجود الناس وأكثرهم عطاء، لا يستكثر ما يعطي ولو كان ما عساه أن يكون فكانت عطاياه للقوي والضعيف، والوضيع والشريف متقاربة، وكان أخوه عبد الله يبخل.
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه أن مصعبا غضب مرة على رجل فأمر بضرب عنقه، فقال له

الرجل: أعز الله الامير ! ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فيتعلق بأطرافك هذه الحسنة، وبوجهك هذا الذي يستضاء به، فأقول: يا رب سل مصعبا فيم قتلني.
فعفا عنه، فقال الرجل: أعز الله الامير إن رأيت ما وهبتني من حياتي في عيش رضي، فأطلق له مائة ألف، فقال الرجل إني أشهدك أن نصفها لابن قيس الرقيات حيث يقول فيك: إن مصعبا شهاب من الله * تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك رحمة (1) ليس فيه * جبروت منه ولا كبرياء يتقي الله في الامور وقد * أفلح من كان همه الاتقاء وفي رواية أنه قال له: أيها الامير قد وهبتني حياة، فإن استطعت أن تجعل ما قد وهبتني من الحياة في عيش رضي وسعة فافعل، فأمر له بمائة ألف.
وقال الامام أحمد: حدثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن يزيد قال: بلغ مصعبا، عن عريف الانصاري شئ فهم به، فدخل عليه أنس بن مالك فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " استوصوا بالانصار خيرا - أو قال معروفا - اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم " (1).
فألقى مصعب نفسه عن سريره وألصق خده بالبساط وقال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين " فتركه.
ومن كلام مصعب في التواضع أنه قال: العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في
مجرى البول مرتين.
وقال محمد بن يزيد المبرد: سئل القاسم بن محمد عن مصعب فقال: كان نبيلا رئيسا تقيا أنيسا.
وقد تقدم أنه لما ظهر على المختار قتل من أصحابه في غداة واحدة خمسة آلاف، وقيل سبعة آلاف، فلما كان بعد ذلك لقي ابن عمر فسلم عليه فلم يعرفه ابن عمر، لانه كان قد انضر في عينيه، فتعرف له فعرفه، قال: أنت الذي قتلت في غداة واحدة خمسة آلاف ممن يوحد الله ؟ فاعتذر إليه بأنهم بايعوا المختار، فقال: أما كان فيهم من هو مستكره أو جاهل فينظر حتى يتوب ؟ أرأيت لو أن رجلا جاء إلى غنم الزبير فنحر منها خمسة آلاف في غداة واحدة، أما كان مسرفا ؟ قال: بلى ! قال: وهي لا تعبد الله ولا تعرفه كما يعرفه الآدمي، فكيف بمن هو موحد ؟ ثم قال له: يا بني تمتع من الماء البارد ما استطعت، وفي رواية أنه قال له: عش ما استطعت.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن زفر بن قتيبة، عن الكبي قال: قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه: من أشجع العرب والروم ؟ قالوا شبيب: وقال آخر: قطري بن الفجاءة وفلان وفلان.
فقال عبد الملك: إن أشجع الناس لرجل جمع بين سكينة بنت
__________
(1) في الكامل للمبرد 1 / 399: قوة.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 241.

الحسين وعائشة بنت طلحة وأمه الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وابنه ريان بن أنيف الكلبي، سيد ضاحية العرب وولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، مع ما لنفسه من الاموال وملك غير ذلك من الاثاث والدواب والاموال ما لا يحصى، وأعطى مع هذا الامان وأن يسلم هذا له جميعه مع الحياة فزهد في هذا كله وأبى واختار القتل على مقام ذل، ومفارقة هذا كله ومشى بسيفه فقاتل حتى مات، وذلك بعد خذلان أصحابه له، فذلك مصعب بن الزبير رحمه الله، وليس هو كمن قطع الجسور مرة ههنا ومرة ههنا.
فهذا هو الرجل وهذا هو الزهد.
قالوا: وكان مقتله يوم الخميس للنصف من جمادى الاولى سنة ثنتين وسبعين.
وقال الزبير بن بكار: حدثني فليح بن إسماعيل وجعفر بن أبي بشير عن أبيه.
قال: لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال: لقد أردى الفوارس يوم عبس * غلام غير مناع المتاع ولا فرح بخير إن أتاه * ولا هلع من الحدثان لاع ولا رقابة والخيل تعدو * ولا خال كانبوب اليراع فقال الرجل الذي جاء برأسه: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته والرمح في يده تارة والسيف تارة يفري بهذا ويطعن بهذا، لرأيت رجلا يملا القلب والعين شجاعة، لكنه لما تفرقت عنه رجاله وكثر من قصده وبقي وحده ما زال ينشد: وإني على المكروه عند حضوره * أكذب نفسي والجفون فلم تغض وما ذاك من ذل ولكن حفيظة * أذب بها عند المكارم عن عرضي وإني لاهل الشر بالشر مرصد * وإني لذي سلم أذل من الارض فقال عبد الملك: كان والله كما وصف به نفسه وصدق، ولقد كان من أحب الناس إلي، وأشدهم لي ألفة ومودة، ولكن الملك عقيم.
وروى يعقوب بن سفيان: عن سليمان بن حرب، عن غسان بن مضر، عن سعيد بن يزيد: أن عبيد الله بن زياد بن ظبيان قتل مصعبا عند دير الجاثليق على شاطئ نهر يقال له دجيل، من أرض مسكن، واحتز رأسه فذهب به إلى عبد الملك فسجد شكرا لله، وكان ابن ظبيان فاتكا رديئا وكان يقول: ليتني قتلت عبد الملك حين سجد يومئذ فأكون قد قتلت ملكي العرب، قال يعقوب: وكان ذلك سنة ثنتين وسبعين فالله أعلم.
وحكى الزبير بن بكار في عمره يوم قتل ثلاثة أقوال، أحدهما خمس وثلاثون سنة والثاني أربعون سنة، والثالث خمس وأربعون سنة فالله أعلم.
وروى الخطيب البغدادي أن امرأته سكينة بنت الحسن كانت معه في هذه الوقعة فلما قتل

طلبته في القتلى حتى عرفته بشامة في خده فقالت: نعم بعل المرأة المسلمة، كنت أدركك والله ما
قال عنتر: وخليل غانية تركت مجندلا * بالقاع لم يعهد ولم يتثلم فهتكت بالرمح الطويل إهابه * ليس الكريم على القنا بمحرم قال الزبير: وقال عبد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعب بن الزبير رحمه الله تعالى: لقد أورث (1) المصرين حزنا (2) وذلة * قتيل بدير الجاثليق مقيم فما نصحت (3) لله بكر بن وائل * ولا صدقت (4) يوم اللقاء تميم ولو كان بكريا يعطف حوله * كتائب يبقى حرها (5) ويدوم ولكنه ضاع الذمام (6) ولم يكن * بها مضري يوم ذاك كريم جزى الله كوفيا (7) هناك ملامة * وبصريهم إن الملوم ملوم وإن بني العلات أخلوا ظهورنا * ونحن صريح بينهم وصميم فإن نفن لا يبقي أولئك بعدنا * لذي حرمة في المسلمين حريم وقد قال أبو حاتم الرازي: ثنا يحيى بن مصعب الكلبي، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد الملك بن عمير قال: دخلت القصر بالكوفة فإذا رأس الحسين بن علي على ؟ رس بين يدي عبيد الله بن زياد وعبيد الله على السرير، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار، والمختار على السرير، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار على ترس بين يدي مصعب بن الزبير، ومصعب على السرير، ثم دخلت القصر بعد حين فرأيت رأس مصعب بن الزبير على ترس بين عبد الملك، وعبد الملك على السرير.
وقد حكى ذلك الامام أحمد وغير واحد عن عبد الملك بن عمير.
وقال عبد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا أيضا: نعت السحائب والغمام بأسرها * جسدا بمسكن عاري الاوصال
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 313: ورد.
(2) في الطبري 7 / 187: خزيا، وفي مروج الذهب 3 / 130: عارا وفي الاخبار الطوال ص 313: خزي.
(3) في الاخبار الطوال: فما صبرت، وفي ابن الاعثم 6 / 268: فما جد هدت.
(4) في الطبري ومروج الذهب وابن الاعثم: ولا صبرت.
وفي الاخبار الطوال: ولا ثبتت.
(5) في الطبري: يغلي حميمها.
(6) في مروج الذهب والاخبار الطوال: ضاع الذمار، وفي ابن الاعثم: ضاع الزمان.
(7) في مروج الذهب: بصريا وفي ابن الاعثم: كوفانا.
وليس البيت في الاخبار الطوال وتاريخ الاسلام.

تمسي عوائذه السباع وداره * بمنازل أطلالهن بوالي رحل الرفاق وغادروه ثاويا * للريح بين صبا وبين شمالي فصل وكان لمصعب من الولد عكاشة وعيسى الذي قتل معه وسكينة وأمهم فاطمة بنت عبد الله بن السائب، وعبد الله ومحمد، وأمهما عائشة بنت طلحة، وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وجعفر ومصعب وسعيد وعيسى الاصغر والمنذر لامهات شتى، والرباب وأمها سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم.
قال ابن جرير.
وذكر أبو زيد عن أبي غسان محمد بن يحيى حدثني مصعب بن عثمان قال: لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب قام في الناس خطيبا فقال: الحمد لله الذي له الخلق والامر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شئ قدير، ألا وإنه لم يذل الله من كان الحق معه وإن كان فردا وحده، ولن يفلح من كان وليه الشيطان وحزبه ولو كان معه الانام طرا، ألا وإنه أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب فأحزننا فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما الذي أحزننا فإن الحميم لفراقه لوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي من بعدها، وذو الرأي جميل الصبر كريم العزاء، ولئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله، وعون من أعواني، ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق
أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا في الاسلام، وما نموت إلا بأطراف الرماح أو تحت ظل السيوف، فإن بني أبي العاص يجمعون الناس بالرغبات والرهبات، ثم يقاتلون بهم أعداءهم ممن هو خير منهم وأكرم ولا يقاتلون تابعيهم زحفا، ألا وإن الدنيا عارية من الملك الاعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا لآخذها أخذ الاشر البطر، وإن تدبر لا أبكي عليها بكاء الحزين الاسف المهين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وممن توفي فيها من الاعيان إبراهيم بن الاشتر كان أبوه ممن قام على عثمان وقتله، وكان إبراهيم هذا من المعروفين بالشجاعة وله شرف، وهو الذي قتل عبيد الله بن زياد كما ذكرنا.

عبد الرحمن بن غسيلة أبو عبد الله المرادي الصنابحي، كان من الصلحاء، وكان عبد الملك يجلسه معه على السرير، وكان عالما فاضلا، توفي بدمشق.
عمر بن سلمة المخزومي المدني ربيب النبي صلى الله عليه وسلم ولد بأرض الحبشة.
سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عبد الرحمن (1) كان عبدا لام سلمة فأعتقته وشرطت عليه أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا لا أزال أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم تعتقيني ما عشت، وقد كانت سفينة بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم أليفا، وبهم خليطا، وروى الطبراني أن سفينة سئل عن اسمه لم سمي سفينة ؟ قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة، خرج مرة ومعه أصحابه فثقل عليهم متاعهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابسط كساءك فبسطته فجعل فيه متاعهم، ثم قال لي: احمل ما أنت إلا سفينة، قال فلو حملت
يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو خمسة أو ستة ما ثقل علي " (2).
وروى محمد بن المنكدر عن سفينة قال: ركبت مرة سفينة في البحر فانكسرت بنا فركبت لوحا منها فطرحني البحر إلى غيضة فيها الاسد فجاءني فقلت: يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبه أو بكفه حتى وضعني على الطريق، ثم همهم همهمة فظننت أنه يودعني.
وقال حماد بن سلمة: ثنا سعيد بن جهمان عن سفينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " دخل بيت فاطمة فرأى في ناحية البيت قرما مضروبا فرجع ولم يدخل، فقالت فاطمة لعلي: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي رده ؟ فسأله فقال: ليس لي ولا لنبي أن يدخل بيتا مزوقا ".
عمر بن أخطب أبو زيد الانصاري الاعرج غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة.
يزيد بن الاسود الجرشي السكوني كان عابدا زاهدا صالحا، سكن الشام بقرية زيدين، وقيل بقرية جرين، وكانت له دار داخل باب شرقي، وهو مختلف في صحبته، وله روايات عن الصحابة، وكان أهل الشام يستسقون به إذا قحطوا، وقد استسقى به معاوية والضحاك بن قيس، وكان يجلسه معه على
__________
(1) في صفة الصفوة 1 / 671: واسمه مهران.
(وانظر الاصابة 2 / 58).
(2) أخرجه الامام أحمد في المسند 5 / 220.

المنبر، قال معاوية: قم يزيد اللهم إنا نتوسل إليك بخيارنا وصلحائنا، فيستسقي الله فيسقون، وكان يصلي الصلوات في الجامع بدمشق، وكان إذا خرج من القرية يريد الصلاة بالجامع في الليلة المظلمة يضئ له إبهام قدمه، وقيل أصابع رجليه كلها حتى يدخل الجامع، فإذا رجع أضاءت له حتى يدخل القرية.
وذكروا أنه لم يدع شجرة في قرية زيدين إلا صلى عندها ركعتين، وكان يمشي في ضوء إبهامه في الليلة المظلمة ذاهبا إلى صلاة العشاء بالجامع بدمشق وآتيا إلى قريته، وكان يشهد الصلوات بالجامع بدمشق لا تفوته به صلاة.
مات بقرية زيدين أو جرين من غوطة دمشق رحمه
الله.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ففيها كانت وقعة عظيمة بين المهلب بن أبي صفرة وبين الازارقة من الخوارج بمكان يقال له سولاق (1) ثم مكثوا نحوا من ثمانية أشهر متواقفين، وجرت بينهم حروب يطول بسطها، وقد استقصاها ابن جرير، وقتل في أثناء ذلك من هذه المدة مصعب بن الزبير، ثم إن عبد الملك أقر المهلب بن أبي صفرة (2) على الاهواز وما معها، وشكر سعيه وأثنى عليه ثناء كثيرا، ثم تواقع الناس في دولة عبد الملك بالاهواز فكسر الناس الخوارج كسرة فظيعة، وهربوا في البلاد لا يلوون على أحد، واتبعهم خالد بن عبد الله أمير الناس وداود بن محندم (3) فطردوهم، وأرسل عبد الملك إلى أخيه بشر بن مروان أن يمدهم بأربعة آلاف، فبعث إليه أربعة آلاف عليهم عتاب بن ورقاء فطردوا الخوارج كل مطرد، ولكن لقي الجيش جهدا عظيما وماتت خيولهم ولم يرجع أكثرهم إلا مشاة إلى أهليهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الحارثي وهو من قيس بن ثعلبة، وغلب على البحرين، وقتل نجدة بن عامر الحارثي (4)، فبعث إليه خالد بن عبد الله أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله في جيش كثيف، فهزمهم أبو فديك وأخذ جارية لامية واصطفاها لنفسه،
__________
(1) في الطبري 7 / 191: سولاف، وهي قرية في غربي، دجيل من أرض خوزستان ققرب مناذر الكبرى (معجم البلدان).
(2) وكان خالد بن عبد الله بن أسيد قد عزل المهلب عن حرب الازارقة وولاها أخاه عبد العزيز وولى المهلب خراج الاهواز، فهزم عبد العزيز شر هزيمة فكتب خالد إلى عبد الملك يستخبره رأيه فكتب إليه عبد الملك: أما بعد فإن خطابي فيك حين وليتك أمر العراق كخطأك في عبد العزيز حين توليه الحرب وتولي المهلب الخراج...فابعث المهلب إلى حرب الازارقة واضمم أخاك عبد العزيز إليه (انظر الطبري 7 / 193 وابن الاعثم 6 / 303 وابن الاثير 4 / 342 والكامل للمبرد 2 / 261).
(3) في الطبري 7 / 194: داود بن قحذم.
وانظر أيضا ابن الاثير 4 / 344.
(4) في الطبري: الحنفي.

وكتب خالد أمير البصرة إلى عبد الملك يعلمه بما وقع، واجتمع على خالد هذا حرب أبي فديك وحرب الازارقة أصحاب قطرى بن الفجاءة بالاهواز.
قال ابن جرير: وفيها بعث عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي إلى عبد الله بن الزبير ليحاصره بمكة، قال: وكان السبب في بعثه له دون غيره، أن عبد الملك بن مروان لما أراد الرجوع إلى الشام بعد قتله مصعبا وأخذه العراق، ندب الناس إلى قتال عبد الله بن الزبير بمكة فلم يجبه أحد إلى ذلك، فقام الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين أنا له، وقص الحجاج على عبد الملك مناما زعم أنه رآه، قال: رأيت يا أمير المؤمنين كأني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعث بي إليه فإني قاتله، فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام وكتب معه أمانا لاهل مكة إن هم أطاعوه، قالوا: فخرج الحجاج في جمادى من هذه السنة ومعه ألفا فارس (1) من أهل الشام، فسلك طريق العراق ولم يعرض للمدينة حتى نزل الطائف، وجعل يبعث البعوث إلى عرفة، ويرسل ابن الزبير الخيل فيلتقيان فيهزم خيل ابن الزبير وتظفر خيل الحجاج، ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم ومحاصرة ابن الزبير، فإنه قد كلت شوكته، وملت جماعته، وتفرق عنه عامة أصحابه، وسأله أن يمده برجال أيضا، فكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه بالحجاج، وارتحل الحجاج من الطائف فنزل بئر ميمونة، وحصر ابن الزبير بالمسجد، فلما دخل ذو الحجة حج بالناس الحجاج في هذه السنة وعليه وعلى أصحابه السلاح وهم وقوف بعرفات، وكذا فيما بعدها من المشاعر، وابن الزبير محصور لم يتمكن من الحج هذه السنة، بل نحر بدنا يوم النحر، وهكذا لم يتمكن كثير ممن معه من الحج، وكذا لم يتمكن كثير ممن مع الحجاج وطارق بن عمرو أن يطوفوا بالبيت، فبقوا على إحرامهم لم يحصل لهم التحلل الثاني، والحجاج وأصحابه نزول بين الحجون وبئر ميمونة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم أمير خراسان يدعوه إلى
بيعته ويقطعه خراسان سبع سنين، فلما وصل إليه الكتاب قال للرسول (2): بعثك أبو الذبان ؟ والله لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك، ولكن كل كتابه فأكله، وبعث عبد الملك إلى بكير بن وشاح (3) نائب ابن خازم على مرو يعده بأمرة خراسان إن خلع عبد الله بن خازم، فخلعه، فجاء ابن خازم فقاتله فقتل في المعركة عبد الله بن خازم أمير خراسان، قتله رجل يقال له وكيع بن
__________
(1) في الامامة والسياسة 2 / 30: في ألف وخمسمائة رجل.
وفي رواية لابن الاثير 4 / 348: في ثلاثة آلاف وفي ابن الاعثم 6 / 272: ستة آلاف رجل.
(2) واسمه سوادة بن اشتم النميري، وذكره الطبري: سورة بن أشيم النميري، وقيل سنان بن مكمل الغنوي.
(3) في ابن الاثير: ابن وساج.

عميرة (1)، لكن كان قد ساعده غيره، فجلس وكيع على صدره وفيه رمق، فذهب ليوء فلم يتمكن من ذلك، وجعل وكيع يقول: يا ثارات دويلة - يعني أخاه - وكان دويلة قد قتله ابن خازم، ثم إن خازم تنخم في وجه وكيع قال وكيع: لم أر أحدا أكثر ريقا منه في تلك الحال، وكان أبو هريرة إذا ذكر هذا يقول: هذه والله هي البسالة، وقال له ابن خازم: ويحك أتقتلني بأخيك ؟ لعنك الله، أتقتل كبش مصر بأخيك العلج ؟ وكان لا يساوي كفا من تراب - أو قال من نوى - قال: فاحتز رأسه وأقبل بكير بن وشاح فأراد أخذ الرأس فمنعه منه بجير بن ورقاء فضربه بجير بعموده وقيده، ثم أخذ الرأس ثم بعثه إلى عبد الملك بن مروان وكتب إليه بالنصر والظفر، فسر بذلك سرورا كثيرا، وكتب إلى بكير بن وشاح باقراره على نيابة خراسان.
وفي هذه السنة أخذت المدينة من ابن الزبير واستناب فيها عبد الملك طارق بن عمرو، الذي كان بعثه مددا للحجاج.
وهذه ترجمة عبد الله بن خازم هو عبد الله بن خازم بن أسماء السلمي أبو صالح البصري أمير خراسان أحد الشجعان المذكورين، والفرسان المشكورين، قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه: ويقال له صحبة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في العمامة السوداء، وهو عند أبي داود والترمذي والنسائي لكن لم
يسموه، وروى عنه سعد بن عثمان الرازي وسعيد بن الازرق.
روى أبو بشير الدولابي أنه قتل في سنة إحدى وسبعين، وقيل: في سنة سبع وثمانين، وليس هذا القول بشئ.
انتهى ما ذكره شيخنا، وقد ذكره أبو الحسن بن الاثير في الغابة في أسماء الصحابة، فقال: عبد الله بن خازم بن أسماء بن الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن سماك بن عوف بن امرئ القيس بن نهية (2) بن سليم بن منصور، أبو صالح السلمي، أمير خراسان، شجاع مشهور، وبطل مذكور، وروى عنه سعيد بن الازرق، وسعد بن عثمان، قيل إن له صحبة، وفتح سرخس، وكان أميرا على خراسان أيام فتنة ابن الزبير، وأول ما وليها سنة أربع وستين بعد موت يزيد بن معاوية وابنه معاوية، وجرى له فيها حروب كثيرة حتى تم أمره بها، وقد استقصينا أخباره في كتاب الكامل في التاريخ، وقتل سنة إحدى وسبعين.
وهكذا حكى شيخنا عن الدولابي، وكذا رأيت في التاريخ لشيخنا الذهبي.
والذي ذكره ابن جرير في تاريخه أنه قتل سنة ثنتين وسبعين، قال: وزعم بعضهم أنه قتل بعد مقتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك بعث برأس ابن الزبير إلى ابن خازم بخراسان (3)، وبعث يدعوه إلى طاعته وله خراسان عشر سنين، وأن ابن خازم لما رأى رأس ابن
__________
(1) في ابن الاثير 4 / 346: بكير بن عمرو القريعي، وفي الاصابة 2 / 301 والمعارف لابن قتيبة ص 184: وكيع بن الدورقية.
(2) في أسد الغابة 3 / 148 والاصابة 2 / 310: بهثة.
(3) في رواية الاصابة: أن عبد الملك أرسل برأس مصعب بن الزبير بعد قتله إلى ابن خازم فغسله ثم صلى عليه.

الزبير حلف لا يعطي عبد الملك طاعة أبدا، ودعا بطست فغسل رأس ابن الزبير وكفنه وطيبه وبعث به أهله بالمدينة، ويقال بل دفنه عنده بخراسان والله أعلم.
وأطعم الكتاب للبريد الذي جاء به وقال: لولا أنك رسول لضربت عنقك، وقال بعضهم: قطع يديه ورجليه وضرب عنقه.
وممن توفي فيها من الاعيان
الاحنف بن قيس أبو (1) معاوية بن حصين التميمي السعدي أبو بحر البصري ابن أخي صعصعة بن معاوية، والاحنف لقب له، وإنما اسمه الضحاك، وقيل صخر، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وجاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له، وكان سيدا شريفا مطاعا مؤمنا، عليم اللسان، وكان يضرب بحلمه المثل وله أخبار في حلمه سارت بها الركبان، قال عنه عمر بن الخطاب: هو مؤمن عليم اللسان.
وقال الحسن البصري: ما رأيت شريف قوم أفضل منه، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: هو بصري تابعي ثقة، وكان سيد قومه، وكان أعور أحيف الرجلين ذميما قصيرا كوسجا له بيضة واحدة، احتسبه عمر عن قومه سنة يختبره، ثم قال: هذا والله السيد - أو قال السؤدد - وقيل إنه خطب عند عمر فأعجبه منطقه، قيل ذهبت عينه بالجدري، وقيل في فتح سمرقند، وقال يعقوب بن سفيان: كان الاحنف جوادا حليما، وكان رجلا صالحا.
أدرك الجاهلية ثم أسلم، وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فاستغفر له، وقال: كان ثقة مأمونا قليل الحديث، وكان كثير الصلاة بالليل، وكان يسرج المصباح ويصلي ويبكي حتى الصباح، وكان يضع أصبعه في المصباح ويقول: حس يا أحنف، ما حملك على كذا ؟ ما حملك على كذا ؟ ويقول لنفسه: إذا لم تصبر على المصباح فكيف تصبر على النار الكبرى ؟ وقيل له: كيف سودك قومك وأنت أرذلهم خلقة ؟ قال: لو عاب قومي الماء ما شربته، كان الاحنف من أمراء علي يوم صفين، وهو الذي صالح أهل بلخ على أربعمائة ألف دينار في كل سنة.
وله وقائع مشهودة مشهورة، وقتل من أهل خراسان خلقا كثيرا في القتال بينهما، وانتصر عليهم.
وقال الحاكم: وهو الذي افتتح مرو الروذ، وكان الحسن وابن سيرين في جيشه، وهو الذي افتتح سمرقند وغيرها من البلاد.
وقيل إنه مات سنة سبع وستين، وقيل غير ذلك، عن سبعين سنة.
وقيل عن أكثر من ذلك.
ومن كلامه وقد سئل عن الحكم ما هو ؟ فقال: الذل مع الصبر، وكان إذا تعجب الناس من حلمه يقول: والله إني لاجد ما يجدون، ولكني صبور.
وقال: وجدت الحلم أنصر لي من
__________
(1) في الاصابة 1 / 100 والمعارف ص 186 ابن معاوية.
ذكر ابن قتيبة في نسبه: هو صخر بن قيس بن معاوية بن
حصن بن عباد بن مرة بن عبيد بن تميم ورهطه بنو مرة بن عبيد.
وهو أبو اليقظان.

الرجال وقد انتهى إليه الحلم والسؤدد، وقال: احيى معروفك باماتة ذكره، وقال عجبت لمن يجري مجرى البول مرتين كيف يتكبر ؟ وقال: ما أتيت باب أحد من هؤلاء إلا أن أدعى، ولا دخلت بين اثنين إلا أن يدخلاني بينهما (1)، وقيل له: بم سدت قومك ؟ قال: بتركي من الامر مالا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وأغلظ له رجل في الكلام وقال: والله يا أحنف لئن قلت لي واحدة لتسمعن بدلها عشرا، فقال له: إنك إن قلت لي عشرا لا تسمع مني واحدة، وكان يقول في دعائه: اللهم إن تعذبني فأنا أهل لذلك، وإن تغفر لي فأنت أهل لذلك.
وقد كان زياد بن أبيه يقر به ويدنيه، فلما مات زياد وولي ابنه عبيد الله لم يرفع به رأسا، فتأخرت عنده منزلته، فلما وفد برؤوساء أهل العراق على معاوية أدخلهم عليه على مراتبهم عنده، فكان الاحنف آخر من أدخله عليه، فلما رآه معاوية أجله وعظمه، وأدناه وأكرمه، وأجلسه معه على الفراش، ثم أقبل عليه يحادثه دونهم، ثم شرع الحاضرون في الثناء على ابن زياد والاحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك لا تتكلم ؟ قال: إن تكلمت خالفتهم، فقال معاوية: أشهدكم أني قد عزلته عن العراق، ثم قال لهم.
انظروا لكم نائبا، وأجلهم ثلاثة أيام، فاختلفوا بينهم اختلافا كثيرا، ولم يذكر أحد منهم بعد ذلك عبيد الله، ولا طلبه أحد منهم، ولم يتكلم الاحنف في ذلك كلمة واحدة مع أحد منهم، فلما اجتمعوا بعد ثلاث أفاضوا في ذلك الكلام، وكثر اللغط، وارتفعت الاصوات والاحنف ساكت، فقال له معاوية: تكلم، فقال له: إن كنت تريد أن تولي فيها أحدا من أهل بيتك فليس فيهم من هو مثل عبيد الله، فإنه رجل حازم لا يسد أحد منهم مسده، وإن كنت تريد غيره فأنت أعلم بقرابتك، فرده معاوية إلى الولاية، ثم قال له بينه وبينه: كيف جهلت مثل الاحنف ؟ إنه هو الذي عزلك وولاك وهو ساكت، فعظمت منزلة الاحنف بعد ذلك عند ابن زياد جدا.
توفي الاحنف بالكوفة وصلى عليه مصعب بن الزبير، ومشى في جنازته، وقد تقدمت له
حكاية، ذكر الواقدي أنه قدم على معاوية فوجده غضبان على ابنه يزيد، وأنه أصلح بينهما بكلام، قال فبعث معاوية إلى يزيد بمال جزيل وقماش كثير، فأعطى يزيد نصفه للاحنف والله سبحانه أعلم.
البراء بن عازب ابن الحارث بن عدي بن مجدعة (2) بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الانصاري الحارثي الاوسي.
صحابي جليل، وأبوه أيضا صحابي، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر كلامه مفصلا في الكامل للمبرد ج 1 / 75 وص 104.
(2) كذا بالاصل والاستيعاب والاصابة، ولم يذكر ابن الكلبي في نسبه مجدعة وهو أصوب.

أحاديث كثيرة، وحدث عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وعنه جماعة من التابعين وبعض الصحابة.
وقيل إنه مات بالكوفة أيام ولاية مصعب بن الزبير على العراق.
عبيدة السلماني القاضي وهو عبيدة بن عمرو ويقال ابن قيس بن عمرو السلماني المرادي أبو عمرو الكوفي.
وسلمان بطن من مراد، أسلم عبيدة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن ابن مسعود وعلي وابن الزبير.
وحدث عنه جماعة من التابعين، وقال الشعبي: كان يوازي شريحا في القضاء، قال ابن نمير: كان شريح إذا أشكل عليه أمر كتب إلى عبيدة فيه، وانتهى إلى قوله، وقد أثنى عليه غير واحد، وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل سنة ثلاث وقيل أربع وسبعين فالله أعلم.
وقد قيل إن مصعب بن الزبير قتل فيها فالله أعلم.
وممن توفي فيها أيضا عبد الله بن السائب بن صيفي المخزومي، له صحبة ورواية، وقرأ على أبي بن كعب، وقرأ عليه مجاهد وغيره.
عطية بن بشر المازني له صحبة ورواية.
عبيدة بن نضيلة
أبو معاوية الخزاعي الكوفي مقرئ أهل الكوفة، مشهور بالخير والصلاح، توفي بالكوفة في هذه السنة.
عبد الله بن قيس الرقيات القرشي العامري أحد الشعراء، مدح مصعبا وابن جعفر.
عبد الله بن حمام أبو عبد الرحمن الشاعر السلولي هجا بني أمية بقوله: شربنا الغيض حتى لو سقينا * دماء بني أمية ما روينا ولو جاؤوا برملة أو بهند * لبايعنا أمير المؤمنينا وكان عبيدة السلماني أعورا، وكان أحد أصحاب ابن مسعود الذين يفتنون الناس.
توفي بالكوفة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين فيها كان مقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي المبير

قبحه الله وأخزاه، قال الواقدي: حدثني مصعب بن نائب عن نافع مولى بني أسد - وكان عالما بفتنة ابن الزبير - قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال الحجة (1) سنة ثنتين وسبعين وقتل لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الاول (2) سنة ثلاث وسبعين، فكان حصر الحجاج له خمسة أشهر وسبع عشرة ليلة (3).
وقد ذكرنا فيما تقدم أن الحجاج حج بالناس في هذه السنة الخارجة، وكان في الحج ابن عمر، وقد كتب عبد الملك إلى الحجاج أن يأتم بابن عمر في المناسك كم ثبت ذلك في الصحيحين، فلما استهلت هذه السنة استهلت وأهل الشام محاصرون أهل مكة، وقد نصب الحجاج المنجنيق على مكة ليحصر أهلها حتى يخرجوا إلى الامان والطاعة لعبد الملك وكان مع الحجاج الحبشة، فجعلوا يرمون بالمنجنيق فقتلوا خلقا كثيرا، وكان معه خمس مجانيق فألح عليها بالرمي من كل مكان، وحبس عنهم الميرة، والماء، فكانوا يشربون من ماء زمزم، وجعلت الحجارة
تقع في الكعبة، والحجاج يصيح بأصحابه: يا أهل الشام الله الله في الطاعة، فكانوا يحملون على ابن الزبير حتى يقال إنهم آخذوه في هذه الشدة، فيشد عليهم ابن الزبير وليس معه أحد حتى يخرجهم من باب بني شيبة، ثم يكرون عليه فيشد عليهم، فعل ذلك مرارا، وقتل يومئذ جماعة منهم وهو يقول: هذا وأنا ابن الحواري.
وقيل لابن الزبير ألا تكلمهم في الصلح ! ! فقال: والله لو وجدوكم في جوف الكعبة لذبحوكم جميعا والله لا أسألهم صلحا أبدا.
وذكر غير واحد أنهم لما رموا بالمنجنيق جاءت الصواعق والبروق والرعود حتى جعلت تعلو أصواتها على صوت المنجنيق، ونزلت صاعقة فأصابت من الشاميين اثني عشر رجلا فضعفت عند ذلك قلوبهم عن المحاصرة، فلم يزل الحجاج يشجعهم ويقول: إني خبير بهذه البلاد، هذه بروق تهامة ورعودها وصواعقها، وإن القوم يصيبهم مثل الذي يصيبكم، وجاءت صاعقة من الغد فقتلت من أصحاب ابن الزبير جماعة كثيرة أيضا، فجعل الحجاج يقول: ألم أقل لكم إنهم يصابون مثلكم وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة، وكان أهل الشام يرتجزون وهم يرمون بالمنجنيق ويقولون: مثل الفنيق المزبد * نرمي بها أعواد هذا المسجد (4)
__________
(1) في الطبري 7 / 202 وأسد الغابة 3 / 163.
وفي الامامة والسياسة 2 / 30 ومروج الذهب 3 / 135: ذي القعدة.
(2) في الاخبار الطوال ص 314 وابن الاثير 4 / 356: جمادى الآخرة، وفي مروج الذهب لاربع عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعين، وذلك يوم الثلاثاء.
وفي فتوح ابن الاعثم 6 / 279: يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى.
(3) في مروج الذهب 3 / 135: كانت مدة حصار الحجاج لابن الزبير بمكة خمسين ليلة.
(4) في الاخبار الطوال: خطارة مثل الفنيق الملبد * نرمي بها عواذ أهل المسجد وفي ابن الاثير 4 / 351: وكان أهل الشام يقولون: =

فنزلت صاعقة على المنجنيق فاحرقته، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة فخطبهم الحجاج فقال: ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من كان قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم ؟ فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته، فعادوا إلى المحاصرة.
وما زال أهل مكة يخرجون إلى الحجاج بالامان ويتركون ابن الزبير حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف، فأمنهم وقل أصحاب ابن الزبير جدا، حتى خرج إلى الحجاج حمزة وخبيب ابنا عبد الله بن الزبير، فأخذا لانفسهما أمانا من الحجاج فأمنهما، ودخل عبد الله بن الزبير على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك ؟ فقالت: يا بني أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت تعلم أنك إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك، وإن كنت على حق فما وهن الدين وإلى كم خلودك في الدنيا ؟ القتل أحسن.
فدنا منها فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، ثم قال: والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك فزدتيني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك، وسلمي لامر الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عامل فرضيته بل أنكرته، ولم يكن عندي آثر من رضى ربي عز وجل، اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، اللهم أنت أعلم بي مني ومن غيري، ولكني أقول ذلك تعزية لامي لتسلو عني، فقالت أمه: إني لارجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا، إن تقدمتني أو تقدمتك، ففي نفسي اخرج يا بني حتى أنظر ما يصير إليه أمرك، فقال جزاك الله يا أمه خيرا فلا تدعي الدعاء قبل وبعد.
فقالت: لا أدعه أبدا لمن قتل على باطل فلقد قتلت على حق، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه
وبي، اللهم إني قد سلمته لامرك فيه ورضيت بما قضيت فقابلني في عبد الله بن الزبير بثواب الصابرين الشاكرين.
ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه واعتنقها ليودعها - وكانت قد أضرت في آخر عمرها - فوجدته لابسا درعا من حديد فقالت: يا بني ما هذا لباس من يريد ما نريد من الشهادة ! ! فقال: يا أماه إنما لبسته لاطيب خاطرك وأسكن قلبك به، فقالت: لا يا بني ولكن
__________
يا بن الزبير طالما عصيكا * وطالما عنيتنا إليكا لتجزين بالذي أتيكا وفيه ص 124: أن أهل الشام جعلوا يرتجزون ويقولون: وذكر الشعر كما في الاصل، وكان ذلك في حصار الكعبة سنة أربع وستين في حصار حصين بن نمير أيام يزيد بن معاوية.

انزعه فنزعه وجعل يلبس بقية ثيابه ويتشدد وهي تقول: شمر ثيابك، وجعل يتحفظ من أسفل ثيابه لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبي بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيه القدوم عليهما إذا هو قتل شهيدا، ثم خرج من عندها فكان ذلك آخر عهده بها رضي الله عنهما وعن أبيه وأبيها.
قالوا: وكان يخرج من باب المسجد الحرام وهناك خمسمائة فارس وراجل فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمينا وشمالا، ولا يثبت له أحد وهو يقول: إني إذا أعرف يومي أصبر (1) * إذ بعضهم يعرف ثم ينكر وكانت أبواب الحرم قد قل من يحرسها من أصحاب ابن الزبير، وكان لاهل حمص حصار الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولاهل دمشق باب بني شيبة، ولاهل الاردن باب الصفا، ولاهل فلسطين باب بنى جمح، ولاهل قنسرين باب بني سهم (2)، وعلى كل باب قائد ومعه أهل تلك البلاد، وكان الحجاج وطارق بن عمرو في ناحية الابطح، وكان ابن الزبير لا يخرج على أهل الباب إلا فرقهم وبدد شملهم، وهو غير ملبس حتى يخرجهم إلى الابطح ثم يصيح: لو كان قرني واحدا كفيته
فيقول ابن صفوان وأهل الشام أيضا: إي والله وألف رجل، ولقد كان حجر المنجنيق يقع على طرف ثوبه فلا ينزعج بذلك، ثم يخرج إليهم فيقاتلهم كأنه أسد ضاري، حتى جعل الناس يتعجبون من إقدامه وشجاعته، فلما كان ليلة الثلاثاء السابع عشر من جمادى الاولى من هذه السنة بات ابن الزبير يصلي طول ليلته ثم جلس فاحتبى بحميلة سيفه فأغفى ثم انتبه مع الفجر على عادته، ثم قال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير ثم صلى ركعتي الفجر، ثم أقيمت الصلاة فصلى الفجر، ثم قرأ سورة ن حرفا حرفا (3)، ثم سلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم، فكشفوا وجوههم وعليهم المغافر، فحرضهم وحثهم على القتال والصبر، ثم نهض ثم حمل وحملوا حتى كشفوهم إلى الحجون فجاءته آجرة فأصابته في وجهه فارتعش لها (4)، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه تمثل بقول بعضهم:
__________
(1) زيد في الطبري 7 / 204 وابن الاثير 4 / 355 شعرا بعده: وإنما يعرف يوميه الحر وفي ابن الاثير: يومه.
(2) في ابن الاثير: بني تميم.
(3) كذا بالاصل والطبري 7 / 204 وتاريخ الاسلام للذهبي 3 / 174 وفي ابن الاعثم 6 / 278: فقرأ بهم الركعة الاولى بأم الكتاب وسبح اسم ربك الاعلى وفي الثانية بأم الكتاب وسورة الاخلاص.
(4) في ابن الاثير: رماه رجل من السكون، وفي ابن الاعثم 6 / 279: واعتوره رجلان من أهل الشام فضربه أحدهما بسيفه فأوهنه، وضربه الآخر على رأسه فسقط.

ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا تقطر الدما ثم سقط إلى الارض فأسرعوا إليه فقتلوه (1) رضي الله عنه، وجاؤوا إلى الحجاج فأخبروه فخر ساجدا قبحه الله، ثم قام هو وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه وهو صريع، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا، فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين ؟ قال: نعم ! هو أعذر لانا محاصروه وليس هو في حصن ولا خندق ولا منعة ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل موقف، فلما بلغ ذلك عبد الملك ضرب طارقا.
وروى ابن عساكر في ترجمة الحجاج أنه لما قتل ابن
الزبير ارتجت مكة بكاء على عبد الله بن الزبير رحمه الله، فخطب الحجاج الناس فقال: أيها الناس ! إن عبد الله بن الزبير من خيار هذه الامة حتى رغب في الخلافة ونازعها أهلها وألحد في الحرم فأذاقه من عذابه الاليم، وإن آدم كان أكرم على الله من ابن الزبير، وكان في الجنة، وهي أشرف من مكة، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة التي نهي عنها أخرجه الله من الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله، وقيل إنه قال: يا أهل مكة إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير، فإن ابن الزبير كان من خيار هذه الامة حتى رغب في الدنيا ونازع الخلافة أهلها، فخلع طاعة الله وألحد في حرم الله، ولو كانت مكة شيئا يمنع القضاء لمنعت آدم حرمة الجنة وقد خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.
وعلمه أسماء كل شئ، فلما عصاه أخرجه من الجنة وأهبطه إلى الارض، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، وان ابن الزبير غير كتاب الله.
فقال له عبد الله بن عمر: لو شئت أن أقول لك كذبت لقلت، والله إن ابن الزبير لم يغير كتاب الله، بل كان قواما به صواما، عاملا بالحق.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك بما وقع، وبعث برأس ابن الزبير مع رأس عبد الله بن صفوان وعمارة بن (2) حزم إلى عبد الملك، ثم أمرهم إذا مروا بالمدينة أن ينصبوا الرؤوس بها، ثم يسيروا بها إلى الشام، ففعلوا ما أمرهم به، وأرسل بالرؤوس مع رجل من الازد فأعطاه عبد الملك خمسمائة دينار، ثم دعا بمقراض فأخذ من ناصيته ونواصي أولاده فرحا بمقتل ابن الزبير، عليهم من الله ما يستحقون.
ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت على ثنية كدا عند الحجون، يقال منكسة، فما زالت مصلوبة، حتى مر به عبد الله بن عمر فقال: رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنت صواما قواما، ثم قال: أما آن لهذا الراكب أن ينزل (3) ؟ فبعث الحجاج فأنزل عن
__________
(1) في ابن الاثير: قتله رجل من مراد.
(2) في ابن الاثير والطبري: عمارة بن عمرو بن حزم.
(3) نسب ابن الاعثم 6 / 278 هذا القول إلى اسماء أم الزبير قالته للحجاج في اليوم الثالث لمقتل ابنها، وقابلته تستأذنه في انزاله ودفنه فرفض، ثم رق لها وأمر بانزاله وحمل إليها فصب عليه الماء وحنط وكفن وصلي عليه
ودفن.

الحذع ودفن هناك.
ودخل الحجاج إلى مكة فأخذ البيعة من أهلها إلى عبد الملك بن مروان، ولم يزل الحجاج مقيما بمكة حتى أقام للناس الحج عامه هذا أيضا وهو على مكة واليمامة واليمن.
وهذه ترجمة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو بكر ويقال له أبو خبيب القرشي الاسدي، أول مولود ولد بعد الهجرة بالمدينة من المهاجرين، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، ذات النطاقين، هاجرت وهي حامل به تم فولدته بقبا أول مقدمهم المدينة وقيل إنما ولدته في شوال سنة ثنتين من الهجرة، قاله الواقدي ومصعب الزبيري وغيرهما، والاول أصح لما رواه أحمد عن أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن أسماء أنها حملت بعبد الله بمكة قالت: فخرجت به وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقبا فولدته، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول ما دخل في جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ثم حنكه ثم دعا له وتبرك عليه، فكان أول مولود ولد في الاسلام.
وهو صحابي جليل، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وروى عن أبيه وعمر وعثمان وغيرهم.
وعنه جماعة من التابعين، وشهيد الجمل، مع أبيه وهو صغير، وحضر خطبة عمر بالجابية، ورواها عنه بطولها.
ثبت ذلك من غير وجه.
وقدم دمشق لغزو القسطنطينية، ثم قدمها مرة أخرى وبويع بالخلافة أيام يزيد بن معاوية لما مات معاوية بن يزيد، فكان على الحجاز واليمن والعراقين ومصر وخراسان وسائر بلاد الشام إلا دمشق، وتمت البيعة له سنة أربع وستين وكان الناس بخير في زمانه.
وثبت من غير وجه عن هشام عن أبيه عن أسماء أنها خرجت بعبد الله من مكة مهاجرة وهي حبلى به فولدته بقبا أول مقدمهم المدينة، فأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله ودعا له، وفرح المسلمون به لانه كانت اليهود قد زعموا أنهم قد سحروا المهاجرين فلا يولد لهم في المدينة، فلما ولد ابن الزبير كبر المسلمون، وقد سمع عبد الله بن عمر جيش الشام حين كبروا عند قتله،
فقال: أما والله للذين كبروا عند مولده خير من هؤلاء الذين كبروا عند قتله.
وأذن الصديق في أذنه حين ولد رضي الله عنهما، ومن قال إن الصديق طاف به حول الكعبة وهو في خرقة فهو واهم والله أعلم.
وإنما طاف الصديق به في المدينة ليشتهر أمر ميلاده على خلاف ما زعمت اليهود.
وقال مصعب الزبيري: كان عارضا عبد الله خفيفين، وما اتصلت لحيته حتى بلغ ستين سنة، وقال الزبير بن بكار: حدثني علي بن صالح، عن عامر بن صالح، عن سالم بن عبد الله بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم في غلمة ترعرعوا منهم عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن أبي سلمة، فقيل يا رسول الله لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ويكون لهم ذكر، فأتي بهم إليه فكأنهم تكعكعوا واقتحم عبد الله بن الزبير، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إنه ابن أبيه وبايعه ".
وقد روي من غير وجه أن عبد الله بن الزبير شرب من دم النبي صلى الله عليه وسلم، " كان النبي صلى الله عليه وسلم قد احتجم

في طست فأعطاه عبد الله بن الزبير ليريقه فشربه فقال له لا تمسك النار إلا تحلة القسم، وويل لك من الناس وويل للناس منك ".
وفي رواية أنه قال له: " يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهريقه حيث لا يراك أحد، فلما بعد عمد إلى ذلك الدم فشربه، فلما رجع قال: ما صنعت بالدم ؟ قال: إني شربته لازداد به علما وإيمانا، وليكون شئ من جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسدي، وجسدي أولى به من الارض، فقال: ابشر لا تمسك النار أبدا.
وويل لك من الناس وويل للناس منك ".
وقال محمد بن سعد: أنبأ مسلم بن إبراهيم ثنا الحارث بن عبيد، ثنا أبو عمران الجوني أن نوفا كان يقول: إني لاجد في كتاب الله المنزل أن ابن الزبير فارس الخلفاء.
وقال حماد بن زيد، عن ثابت البناني قال: كنت أمر بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك.
وقال الاعمش عن يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تصعد وتنزل لا تراه إلا جذم حائط.
وقال غيره: كان ابن الزبير يقوم ليله حتى يصبح، ويركع ليله حتى يصبح، ويسجد ليله حتى يصبح.
وقال بعضهم: ركع ابن الزبير يوما فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء: كنت إذا
رأيت ابن الزبير يصلي كأنه كعب راسب، وفي رواية ثابت.
وقال أحمد: تعلم عبد الرزاق الصلاة من ابن جريج، وابن جريج من عطاء، وعطاء من ابن الزبير، وابن الزبير من الصديق، والصديق من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الحميدي عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن ابن المنكدر قال: لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة يصفقها الريح، والمنجنيق يقع ها هنا وها هنا.
قال سفيان: كأنه لا يبالي به ولا يعده شيئا.
وحكى بعضهم لعمر بن عبد العزيز أن حجرا من المنجنيق وقع على شرفة المسجد فطارت فلقة منه فمرت بين لحية ابن الزبير وحلقه، فما زال عن مقامه ولا عرف ذلك في صورته، فقال عمر بن عبد العزيز: لا إله إلا الله، جاء ما وصفت.
وقال عمر بن عبد العزيز يوما لابن أبي مليكة: صف لنا عبد الله بن الزبير، فقال: والله ما رأيت جلدا قط ركب على لحم ولا لحما على عصب ولا عصبا على عظم مثله، ولا رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه، ولقد مرت آجرة من رمي المنجنيق بين لحيته وصدره فوالله ما خشع ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون ما كان يركع، وكان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شئ إليها.
ولقد كان يركع فيكاد الرخم أن يقع على ظهره ويسجد فكأنه ثوب مطروح.
وقال أبو القاسم البغوي: عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن منصور بن زاذان قال: أخبرني من رأى ابن الزبير يسرب في صلاته وكان ابن الزبير من المصلين.
وسئل ابن عباس عن ابن الزبير فقال: كان قارئا لكتاب الله، متبعا لسنة رسول الله، قانتا لله صائما في الهواجر من مخافة الله، ابن حواري رسول الله، وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله، زوجة رسول الله، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله.
وروي أن ابن الزبير كان يوما يصلي فسقطت حية من السقط فطوقت على بطن ابنه هاشم فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل واجتمعوا على قتل تلك

الحية فقتلوها، وسلم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ولا درى بما جرى حتى سلم.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الخزامي وعبد الملك بن عبد العزيز ومن لا أحصي كثرة من أصحابنا أن ابن الزبير كان يواصل الصوم سبعا، يصوم يوم الجمعة ولا
يفطر إلا ليلة الجمعة الاخرى، ويصوم بالمدينة ولا يفطر إلا بمكة، ويصوم بمكة فلا يفطر إلا بالمدينة، وكان إذا أفطر أول ما يفطر على لبن لقحة وسمن وصبر، وفي رواية أخرى فأما اللبن فيعصمه، وأما السمن فيقطع عنه العطش، وأما الصبر فيفتق الامعاء.
وقال ابن معين: عن روح عن حبيب بن الشيهد عن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام ويصبح في الثامن وهو أليثنا.
وروي مثله من غير وجه.
وقال بعضهم: لم يكن يأكل في شهر رمضان سوى مرة واحدة في وسطه.
وقال خالد بن أبي عمران: كان ابن الزبير لا يفطر من الشهر إلا ثلاثة أيام.
ومكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره.
وقال ليث عن مجاهد: لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة رضي الله عنه.
ولقد جاء سيل مرة فطبق البيت فجعل ابن الزبير يطوف سباحة، وقال بعضهم: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاث، في العبادة والشجاعة والفصاحة.
وقد ثبت أن عثمان جعله في النفر الذين نسخوا المصاحف مع زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وذكره سعيد بن المسيب في خطباء الاسلام مع معاوية وابنه وسعيد بن العاص وابنه، وقال عبد الواحد بن أيمن: رأيت على ابن الزبير رداءا يمانيا عدنيا يصلي فيه، وكان صيتا إذا خطب تجاوبه الجبلان أبو قبيس وزروراء.
وكان آدم نحيفا ليس بالطويل، وكان بين عينيه أثر السجود كثير العبادة مجتهدا شهما فصيحا صواما قواما شديد البأس ذا أنفة له نفس شريفة وهمة عالية، وكان خفيف اللحية ليس في وجهه من الشعر إلا قليلا.
وكانت له جمة وكان له لحية صفراء.
وقد ذكرنا أنه شهد مع ابن أبي سرح قتال البربر وكانوا في عشرين ومائة ألف، والمسلمون عشرون ألفا، فأحاطوا بهم من كل جانب، فما زال عبد الله بن الزبير يحتال حتى ركب في ثلاثين فارسا، وسار نحو ملك البربر وهو منفرد وراء الجيش، وجواريه يظللنه بريش النعام، فساق حتى انتهى إليه والناس يظنون أنه ذاهب برسالة إلى الملك، فلما فهمه الملك ولى مدبرا فلحقه عبد الله فقتله واحتز رأسه وجعله في رأس رمح وكبر وكبر المسلمون، وحملوا على البربر فهزموهم بين أيديهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا وغنموا أموالا وغنائم كثيرة جدا، وبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير فقص على عثمان الخبر وكيف جرى، فقال له عثمان: إن استطعت
أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر، قال: نعم ! فصعد ابن الزبير فوق المنبر فخطب الناس وذكر لهم كيفية ما جرى، قال عبد الله: فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر، فلما تبينت وجهه كاد أن يرتج علي في الكلام من هيبته في قلبي، فرمزني بعينه وأشار إلي ليحضني، فمضيت في الخطبة كما كنت، فلما نزلت قال: والله لكأني أسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الدارني يقول: خرج ابن الزبير في ليلة مقمرة على

راحلة له فنزل في تبوك فالتفت فإذا على الراحلة شيخ أبيض الرأس واللحية فشد عليه ابن الزبير فتنحى عنها فركب ابن الزبير راحلته ومضى، قال فناداه: والله يا بن الزبير لو دخل قلبك الليلة مني شعرة لخبلتك، قال: ومنك أنت يا لعين يدخل قلبي شئ ؟ وقد روى لهذه الحكاية شواهد من وجوه أخرى جيدة، وروى عبد الله بن المبارك: عن إسحاق بن يحيى، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: أقبل عبد الله بن الزبير من العمرة في ركب من قريش فلما كانوا عند الينا صب (1) أبصروا رجلا عند شجرة، فتقدمهم ابن الزبير، فلما انتهى إليه سلم عليه فلم يعبأ به ورد ردا ضعيفا، ونزل ابن الزبير فلم يتحرك له الرجل، فقال له ابن الزبير: تنح عن الظل، فانحاز متكارها، قال ابن الزبير: فجلست وأخذت بيده وقلت: من أنت ؟ فقال: رجل من الجن، فما عدا أن قالها حتى قامت كل شعرة مني فاجتذبته وقلت: أنت رجل من الجن وتبدو إلي هكذا ؟ وإذا له سفلة وانكسر ونهرته وقلت: إلي تتبدا وأنت من أهل الارض، فذهب هاربا وجاء أصحابي فقالوا: أين الرجل الذي كان عندك ؟ فقلت: إنه كان من الجن فهرب.
قال: فما منهم رجل إلا سقط إلى الارض عن راحلته، فأخذت كل رجل منهم فشددته على راحلته حتى أتيت بهم الحج وما يعقلون.
وقال سفيان بن عيينة قال ابن الزبير: دخلت المسجد ذات ليلة فإذا نسوة يطفن بالبيت فأعجبنني، فلما قضين طوافهن خرجن فخرجت في أثرهن لاعلم أين منزلهن، فخرجن من مكة حتى أتين العقبة ثم انحدرن حتى أتين فجا فدخلن خربة فدخلت في أثرهن.
فإذا مشيخة جلوس فقالوا: ما جاء بك يا بن الزبير ؟ فقلت: أشتهي رطبا، وما بمكة يومئذ من
رطبة، فأتوني برطب فأكلت ثم قالوا: احمل ما بقي معك، فجئت به المنزل فوضعته في سفط وجعلت السفط في صندوق، ثم وضعت رأسي لانام، فبينما أنا بين النائم واليقظان إذ سمعت جلبة في البيت، فقال بعضهم لبعض أين وضعه ؟ قالوا: في الصندوق، ففتحوه فإذا هو في السفط داخله، فهموا بفتحه فقال بعضهم: إنه ذكر اسم الله عليه، فأخذوا السفط بما فيه فذهبوا به، قال.
فلم آسف على شئ أسفي كيف لم أثب عليهم وهم في البيت.
وقد كان عبد الله بن الزبير ممن حاجف عن عثمان يوم الدار، وجرح يومئذ بضع عشرة جراحة، وكان على الراجلة يوم الجمل وجرح يومئذ تسع عشرة جراحة أيضا، وقد تبارز يومئذ هو ومالك بن الحارث بن الاشتر، فاتحدا فصرع الاشتر ابن الزبير فلم يتمكن من القيام عنه، بل احتضنه ابن الزبير وجعل ينادي: اقتلوني ومالكا، واقتلوا مالكا معي، فأرسلهما مثلا.
ثم تفرقا ولم يقدر عليه الاشتر، وقد قيل إنه جرح يومئذ بضع وأربعون جراحة، ولم يوجد إلا بين القتلى وبه رمق، وقد أعطت عائشة لمن بشرها أنه لم يقتل عشرة آلاف درهم وسجدت لله شكرا، وكانت تحبه حبا شديدا، لانه ابن أختها، وكان عزيزا عليها.
وقد روي عن عروة: أن عائشة لم تكن تحب أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الينا صب: أجبل متحاذيات في ديار بني بكر أو بني أسد بنجد، بينها وبين أضاخ أربعة أميال (معجم البلدان).

وأبي بكر مثل حبها ابن الزبير، قال: وما رأيت أبي وعائشة يدعوان لاحد من الخلق مثل دعائهما لابن الزبير.
وقال الزبير بن بكار: حدثني أخي هارون بن أبي بكر، عن يحيى بن إبراهيم، عن سليمان بن محمد، عن يحيى بن عروة، عن عمه عن عبد الله بن عروة قال أفحمت ألسنة نابغة بني جعدة فدخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام فأنشد هذه الابيات: حكيت لنا الصديق لما وليتها * وعثمان وفاروق فارتاح معدم وسويت بين الناس في الحق فاستووا * فعاد صباحا حالك اللون مظلم
أتاك أبو ليلى يجوب به الدجا * دجى الليل جواب الفلاة غشمشم لتجير منه جائيا غدرت به * صروف الليالي والزمان المصمم فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى.
فإن الشعر أهون رسائلك عندنا، أما صفوه فما لنا فلآل الزبير، وأما عفوه فإن بني أسد يشغلها عنك وتيما، ولكن لك في مال الله حقان، حق لرؤيتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق لشركتك أهل الاسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده فأدخله دار النعم فأعطاه قلائص سبعا وجملا وخيلا، وأوقر له الركاب برا وتمرا وثيابا، فجعل النابغة يستعجل ويأكل الحب صرفا، فقال له ابن الزبير: ويح أبي ليلى، لقد بلغ الجهد.
فقال النابغة: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما وليت قريش وعدلت، واسترحمت فرحمت وحدثت فصدقت، ووعدت خيرا فأنجزت، فأنا والنبيون فرط العاصفين ".
وقال محمد بن مروان صاحب كتاب المجالسة: أخبرني خبيب بن نصير الازدي ثنا محمد بن دينار الضبي، ثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن أبيه قال: أذن معاوية للناس يوما فدخلوا عليه فاحتفل المجلس وهو على سريره، فأجال بصره فيهم فقال: أنشدوني لقدماء العرب ثلاثة أبيات جامعة من أجمع ما قالتها العرب، ثم قال: يا أبا خبيب فقال: مهيم، قال أنشد ذلك، فقال: نعم يا أمير المؤمنين بثلاثمائة ألف كل بيت بمائة ألف، قال: نعم إن ساوت، قال أنت بالخيار، وأنت واف كاف، فأنشده للافوه الازدي: بلوت الناس قرنا بعد قرن * فلم أر غير ختال وقال فقال معاوية صدق ولم أر في الخطوب أشد وقعا * وكيدا من معادات الرجال فقال معاوية صدق وذقت مرارة الاشياء طرا * فما شئ أمر من السؤال فقال صدق

ثم قال معاوية: هيه يا خبيب، قال: إلى ههنا انتهى، قال: فدعا معاوية بثلاثين عبدا على عنق كل واحد منهم بدرة، ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ عشرة آلاف درهم، فمروا بين يدي ابن الزبير حتى انتهوا إلى داره.
وروى ابن أبي الدنيا ؟ عن أبي يزيد النميري، عن أبي عاصم النبيل، عن جويرية بن أسماء: أن معاوية لما حج تلقته الناس وتخلف ابن الزبير ثم جاءه وقد حلق رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين ما أكبر حجرة رأسك ! ! فقال له اتق أن لا يخرج عليك منها حية فتقتلك، فلما أفاض معاوية طاف معه ابن الزبير وهو آخذ بيده ثم استدعاه إلى داره ومنازله بقعيقعان، فذهب معه إليها، فلما خرجا قال: يا أمير المؤمنين إن الناس يقولون جاء معه أمير المؤمنين إلى دوره ومنازله ففعل معه ماذا، لا والله لا أدعك حتى تعطيني مائة ألف، فأعطاه فجاء مروان فقال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلك، جاءك رجل قد سمى بيت مال الديوان وبيت الخلافة، وبيت كذا، وبيت كذا، فأعطيته مائة ألف، فقال له: ويلك كيف أصنع بابن الزبير ؟ وقال ابن أبي الدنيا: أخبرني عمر بن بكير، عن علي بن مجاهد بن عروة قال: سأل ابن الزبير معاوية شيئا فمنعه، فقال: والله ما أجهل أن ألزم هذه البنية فلا أشتم لك عرضا ولا أقصم لك حسبا، ولكني أسدل عماتي من بين يدي ذراعا، ومن خلفي ذراعا في طريق أهل الشام وأذكر سيرة أبي بكر الصديق وعمر فيقول الناس: من هذا ؟ فيقولون ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن بنت الصديق، فقال معاوية: حسبك بهذا شرفا، ثم قال: هات حوائجك.
وقال الاصمعي: ثنا غسان بن نصر، عن سعيد بن يزيد.
قال: دخل ابن الزبير على معاوية فأمر ابنا له صغيرا فلطمه لطمة دوخ منها رأسه، فلما أفاق ابن الزبير قال للصبي: ادن مني، فدنا منه، فقال له: الطم معاوية، قال: لا أفعل، قال: ولم ؟ قال لانه أبي، فرفع ابن الزبير يده فلطم الصبي لطمة جعله يدور منها كما تدور الدوامة، فقال معاوية: تفعل هذا بغلام لم تجز عليه الاحكام ؟ قال: إنه والله قد عرف ما يضره مما ينفعه، فأحببت أن أحسن أدبه.
وقال أبو الحسن علي بن محمد المدائني: عن عبد الله بن أبي بكر قال: لحق ابن الزبير معاوية وهو سائر إلى الشام فوجده وهو ينعس على راحلته، فقال له:
أتنعس وأنا معك ؟ أما تخاف مني أن أقتلك ؟ فقال: إنك لست من قتال الملوك، إنما يصيد كل طائر قدره.
قال لقد سرت تحت لواء أبي إلى علي بن أبي طالب، وهو من تعلمه، فقال: لا جرم قتلكم والله بشماله.
قال: أما إن ذلك كان في نصرة عثمان، ثم لم يجز بها.
فقال: إنما كان لبغض علي لا لنصرة عثمان، فقال له ابن الزبير: إنا قد أعطيناك عهدا فنحن وافون لك به ما عشت، فسيعلم من بعدك، فقال: أما والله ما أخافك إلا على نفسك، وكأني بك قد خبطت في الحبالة واستحكمت عليك الانشوطة، فذكرتني وأنت فيها، فقلت ليت أبا عبد الرحمن لها، ليتني والله لها، أما والله لاحللتك رويدا، ولاطلقتك سريعا، ولبئس الولي أنت تلك الساعة.
وحكى أبو عبد الله نحو هذا، وقد تقدم أن معاوية لما مات وجاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة انشمر

منها ابن الزبير والحسين بن علي فقصدا مكة فأقاما بها، ثم خرج الحسين إلى العراق وكان من أمره ما تقدم، وتفرد بالرياسة والسؤدد بمكة ابن الزبير، ولهذا كان ابن عباس ينشد: يا لك من قنبرة (1) بمعمري * خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري يعرض بابن الزبير.
وقيل إن يزيد بن معاوية كتب إلى ابن الزبير يقول: إني قد بعثت إليك بسلسلة من فضة وقيد من ذهب وجامعة من فضة وحلفت لتأتيني في ذلك فأبر قسمي ولا تشق العصا، فلما قرأ كتابه ألقاه من يده وقال: ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى تلين لضرس الماضغ الحجر فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد من بعده قريبا، استفحل أمر عبد الله بن الزبير جدا، وبويع له بالخلافة في جميع البلاد الاسلامية، وبايع له الضحاك بن قيس بدمشق وأعمالها، ولكن عارضه مروان بن الحكم في ذلك وأخذ الشام ومصر من نواب ابن الزبير، ثم جهز السرايا إلى العراق، ومات وتولى بعده عبد الملك بن مروان فقتل مصعب بن الزبير بالعراق وأخذها، ثم بعث إلى الحجاج فحاصر ابن الزبير بمكة قريبا من سبعة أشهر حتى ظفر به في يوم
الثلاثاء سابع عشر جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعين.
وكانت ولاية ابن الزبير في سنة أربع وستين، وحج بالناس فيها كلها، وبنى الكعبة في أيام ولايته كما تقدم، وكساها الحرير (2)، وكانت كسوتها قبل ذلك الانطاع والمسوح (3)، وكان ابن الزبير عالما عابدا مهيبا وقورا كثير الصيام والصلاة، شديد الخشوع جيد السياسة، قال أبو نعيم الاصبهاني: حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو عاصم عن عمر بن قيس.
قال: كان لابن الزبير مائة غلام يتكلم كل غلام منهم بلغة غير لغة الآخر، وكان ابن الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته، وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت: هذا رجل لم يرد الله والدار الآخرة طرفة عين، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت: هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين.
وقال الثوري: عن الاعمش عن أبي الضحى قال:
__________
(1) في ابن الاثير 4 / 39: قبرة.
(2) في أخبار مكة للازرقي 1 / 210: كساها القباطي [ والقباطي: جمع قبطية بالضم وهو ثوب رقيق أبيض من ثياب مصر ].
وفي رواية عنده ص 254 أنه كساها الديباج الخسرواني: والديباج: القماش المنقوش وهي معربة.
(3) الانطاع: جمع نطع: وهو البساط.
المسوح: المناديل.

رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي كان رأس مال.
وكان يطيب الكعبة حتى كان يوجد رحيها من مسافة بعيدة.
وقال ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس، عن أبيه قال: دخل ابن الزبير على امرأته بنت الحسن فرأى ثلاث مثل - يعني أفرشة - فقال: هذا لي وهذا لابنة الحسن، وهذا للشيطان فأخرجوه.
وقال الثوري عن عبد الله بن أبي بشير عن عبد الله بن مساور.
قال: سمعت ابن عباس يعاتب ابن الزبير على البخل ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس بالمؤمن من يبيت شبعان وجاره إلى جنبه جائع ".
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل بن أبان
الوراق، ثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى، عن عثمان بن عفان.
قال قال له عبد الله بن الزبير حين حصر: إن عندي نجائب قد أعددتها لك، فهل لك أن تتحول إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك ؟ قال: لا ! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يلحد كبش من قريش اسمه عبد الله، عليه مثل أوزار الناس ".
وهذا الحديث منكر جدا وفي إسناده ضعف، ويعقوب هذا هو القمي وفيه تشيع، ومثل هذا لا يقبل تفرده به، وبتقدير صحته فليس هو بعبد الله بن الزبير، فإنه كان على صفات حميدة، وقيامه في الامارة إنما كان لله عز وجل، ثم هو كان الامام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد من مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الامر والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، ثنا إسحاق بن سعيد، ثنا سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو في الحجر جالس فقال: يا بن الزبير إياك والالحاد في حرم الله، فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يحلها وتحل به رجل من قريش، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها ".
فانظر أن لا تكونه، فقال له: يا بن عمر فإنك قد قرأت الكتب وصحبت النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإني أشهد أن هذا وجهي إلى الشام مجاهدا.
وهذا قد يكون رفعه غلطا، وإنما هو من كلام عبد الله بن عمر، وما أصابه من الزاملتين يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب، والله أعلم.
وقال وكيع عن الثوري عن سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، عن حبشي الكناني عن عليم الكندي عن سلمان الفارسي.
قال: " ليحرقن هذا البيت على يدي رجل من آل الزبير ".
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين عن أبي فضيل، ثنا سالم بن أبي حفصة عن منذر الثوري قال: قال ابن الحنفية: اللهم إنك تعلم إني كنت أعلم مما علمتني أن ابن الزبير لا يخرج منها إلا قتيلا يطاف برأسه في الاسواق.
وقد روى الزبير بن بكار: عن هشام بن عروة قال: إن أول ما فصح به عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف السيف، فكان لا يضعه من فيه، وكان الزبير إذا سمع ذلك منه يقول له: أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام، وقد تقدم كيفية مقتله، وأن الحجاج صلبه على جذع فوق الثنية، وأن أمه
جاءت حتى وقفت عليه فدعت له طويلا ولا يقطر من عينها دمعة ثم انصرفت، وكذلك وقف عليه ابن عمر فدعا له وأثنى عليه ثناء كثيرا جدا.
وقال الواقدي: حدثني نافع بن ثابت، عن عبد الله

مولى أسماء قال: لما قتل عبد الله خرجت إليه أمه حتى وقفت عليه وهي على دابة، فأقبل الحجاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره ؟ فقالت: ربما أديل الباطل على الحق وأهله، وإنك بين فرثها والجنة، فقال إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله تعالى: * (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) * [ الحج: 25 ] وقد أذقه الله ذلك العذاب الاليم، قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الاسلام بالمدينة، وسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به، وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ بمولده خير منك ومن أصحابك، وكان مع ذلك برا بالوالدين صواما قواما بكتاب الله، معظما لحرم الله، يبغض من يعصى الله عز وجل، أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعته يقول: " يخرج من ثقيف كذاب ومبير " وفي رواية: " سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الاول وهو مبير " فانكسر الحجاج وانصرف، فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء، وقال: مالك ولابنة الرجل الصالح ؟ وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: ثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، أنبأنا الاسود بن شيبان عن أبي نوفل.
قال: رأيت عبد الله بن الزبير على ثنية الحجون مصلوبا فجعلت قريش تمر عليه والناس حتى مر عليه عبد الله بن عمر فوقف عليه فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواما قواما وصولا للرحم، أما والله لامة أنت شرها لامة خير، ثم بعد عبد الله بن عمر.
فبلغ الحجاج وقوف ابن عمر عليه وقوله ما قال، فأرسل إليه فأنزله عن جذعه وألقي في قبور اليهود، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه فأعاد عليها الرسول لتأتيني أو لابعثن إليك من يسحبك من
قرونك، فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إلي من يسحبني بقروني، فقال الحجاج: أروني سبتيتي فأخذ نعليه ثم انطلق يتوذف حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتني صنعت بعد والله ؟ قالت رأيتك فسدت عليه دنياه، وأفسدت عليك آخرتك، بلغني أنك تقول: يا بن ذات النطاقين، أنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه.
قال: فقام عنها ولم يراجعها " انفرد به مسلم.
وروى الواقدي أن الحجاج لما صلب ابن الزبير على ثنية الحجون بعثت إليه أسماء تدعو عليه، وطلبت منه أن يدفن فأبى عليها، حتى كتب إلى عبد الملك في ذلك فكتب إليه أن يدفن فدفن بالحجون، وذكروا أنه كان يشتم من عند قبره ريح المسك.
وكان الحجاج قد قدم من الشام في ألفي فارس وانضاف إليه طارق بن عمرو في خمسة آلاف، وروى محمد بن سعد وغيره بسنده أن الحجاج حاصر ابن الزبير، وأنه اجتمع معه أربعون

ألفا: وأنه نصب المنجنيق على أبي قبيس ليرمي به المسجد الحرام، وأنه أمن من خرج إليه من أهل مكة ونادى فيهم بذلك، وقال: إنا لم نأت لقتال أحد سوى ابن الزبير، وأنه خير ابن الزبير بين ثلاث إما أن يذهب في الارض حيث شاء، أو يبعثه إلى الشام مقيدا بالحديد، أو يقاتل حتى يقتل.
فشاور أمه فأشارت عليه بالثالث فقط، ويروى أنها استدعت بكفن له وبخرته وشجعته على القتل، فخرج بهذه النية فقاتل يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعين قتالا شديدا فجاءته آجرة ففلقت رأسه فسقط على وجهه إلى الارض، ثم أراد أن ينهض فلم يقدر، فاتكأ على مرفقه الايسر وجعل يحدم بالسيف من جاءه، فأقبل إليه رجل من أهل الشام فضربه فقطع رجله، ثم تكاثروا عليه حتى قتلوه واحتزوا رأسه، وكان مقتله قريبا من الحجون، ويقال: بل قتل وهو متعلق بأستار الكعبة فالله أعلم.
ثم صلبه الحجاج منكسا على ثنية كدا عند الحجون، ثم لما أنزله دفنه في مقابر اليهود كما رواه مسلم، وقيل دفن بالحجون بالمكان الذي
صلب فيه، فالله أعلم.
وقال عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب عن ابن سيرين قال قال عبد الله بن الزبير لما جئ برأس المختار: ما كان يحدثنا كعب الاحبار شيئا إلا وجدناه إلا قوله إن فتى ثقيف يقتلني، وهذا رأسه بين يدي، قال ابن سيرين: ولم يشعر أنه قد خبئ له الحجاج.
وروي هذا من وجه آخر.
قلت: والمشهور أن مقتل الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الاولى، وقيل الآخرة منها، وعن مالك وغيره أن مقتله كان على رأس اثنين وسبعين، والمشهور الصحيح هو الاول، وكانت بيعته في سابع رجب سنة أربع وستين، وكان مولده في أول سنة إحدى من الهجرة، وقيل في شوال سنة ثنتين من الهجرة، فمات وقد جاوز السبعين قطعا والله أعلم.
وأما أمه فانها لم تعش بعده إلا مائة يوم، وقيل عشرة أيام، وقيل خمسة، والاول هو المشهور وستأتي ترجمتها قريبا رضي الله عنها وعن أبيها وابنها، وقد رثي ابن الزبير وأخوه مصعب بمراث كثيرة حسنة بليغة، من ذلك قول معمر بن أبي معمر الذهلي يرثيهما بأبيات: لعمرك ما أبقيت في الناس حاجة * ولا كنت ملبوس الهدى متذبذبا غداة دعاني مصعب فأجبته * وقلت له أهلا وسهلا ومرحبا أبوك حواري الرسول وسيفه * فأنت بحمد الله من خيرنا أبا وذاك أخوك المهتدى بضيائه * بمكة يدعونا دعاء مثوبا ولم أك ذا وجهين وجه لمصعب * مريض ووجه لابن مروان إذ صبا وكنت امرأ ناصحته غير مؤثر * عليه ابن مروان ولا متقربا إليه بما تقذى به عين مصعب * ولكنني ناصحت في الله مصعبا إلى أن رمته الحادثات بسهمها * فيالله سهما ما أسد وأصوبا فان يك هذا الدهر أردى بمصعب * وأصبح عبد الله شلوا ملحبا

فكل امرئ حاس من الموت جرعة * وإن حاد عنها جهده وتهيبا
وقيل: إن عبد الله بن الزبير غسلته أمه أسماء بعد أن قطعت مفاصيله وحنطته وطيبته وكفنته وصلت عليه وحملته إلى المدينة، فدفنته بدار صفية بنت حيي، ثم إن هذه الدار زيدت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدفون في المسجد مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وقد ذكر ذلك غير واحد فالله أعلم.
وقد روى الطبراني عن عامر بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دم محاجمه يهريقه فحساه، فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما صنعت يا عبد الله بالدم ؟ قلت: جعلته في مكان ظننت أنه خاف على الناس، قال: فلعلك شربته ؟ قلت: نعم ! قال: ومن أمرك أن تشرب الدم ؟ ويل لك من الناس، وويل للناس منك ".
ودخل سلمان الفارسي مرة على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عبد الله بن الزبير قائم في الدهليز ومعه طست يشرب منه، فدخل سلمان ودخل عبد الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: " فرغت ؟ قال: نعم.
قال سلمان: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: أعطيته غسالة محاجمي يهريق ما فيها، قال سلمان: شربها والذي بعثك بالحق، قال شربته ؟ قال: نعم ! قال: لم ؟ قال: أحببت أن يكون دم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوفي، فقال بيده على رأس ابن الزبير، وقال: ويل لك من الناس، وويل للناس منك، لا تمسك النار إلا تحلة القسم ".
ولما بعث يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير ذلك القيد من ذهب وسلسلة من فضة وجامعة من فضة وأقسم لتأتيني فيها، فقالوا له: بر قسم أمير المؤمنين فقال: ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى تلين لضرس الماضغ الحجر ثم قال: والله لضربة بسيف بعز، أحب إلي من ضربة بسوط في ذل، ثم دعا إلى نفسه وأظهر الخلاف ليزيد بن معاوية.
وروى الطبراني أن ابن الزبير دخل على أمه فقال: إن في الموت لراحة، وكانت أمه قد أتت عليها مائة سنة لم تسقط لها سن، ولم يفسد لها بصر، فقالت: ما أحب أن أموت حتى آتي على أحد طرفيك، إما أن تملك فتقر عيني، وإما أن تقتل فأحتسبك، ثم خرج عنها وهو يقول: ولست بمبتاع الحياة بسبة * ولا بمريق من خشية الموت سلما (1)
ثم أقبل على آل الزبير يعظهم ويقول ليكن أحدكم سيفه كما وجهه فيدفع عن نفسه بيده كأنه أمراه، والله ما بقيت زحفا قط إلا في الرعيل الاول، وما ألمت جرحا إلا ألم الدواء، ثم حمل
__________
(1) في الطبري 7 / 205: ولا مرتق من خشية الموت سلما.
وفي مروج الذهب 3 / 137: ولا أبتغي من رهبة الموت سلما.
والبيت للحصين بن الحمام من المفضلية.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55