كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

داره كهفا للمسلمين يأوي إليها رسول الله ومن أسلم من قريش، وكانت عند الصفا وقد صارت فيما بعد ذلك للمهدي فوهبها لامرأته الخيزران أم موسى الهادي وهارون الرشيد، فبنتها وجددتها فعرفت بها، ثم صارت لغيرها (1)، وقد شهد الارقم بدرا وما بعدها من المشاهد، ومات بالمدينة في هذه السنة، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص أوصى به رضي الله عنهما، وله بضع وثمانون سنة.
سحبان بن زفر بن إياس ابن عبد شمس بن الاجب الباهلي الوائلي، الذي يضرب بفصاحته المثل، فيقال: أفصح من سحبان وائل، ووائل هو ابن معد بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار، وباهلة امرأة مالك بن أعصر، ينسب إليها ولدها، وهي باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة.
قال ابن عساكر: سحبان المعروف بسحبان وائل، بلغني أنه وفد إلى معاوية فتكلم فقال معاوية: أنت الشيخ ؟ فقال: إي والله وغير ذلك، ولم يزد ابن عساكر على هذا، وقد نسبه ابن
الجوزي في كتابه المنتظم كما ذكرنا، ثم قال: وكان بليغا يضرب المثل بفصاحته، دخل يوما على معاوية وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه، فقال سحبان: لقد علم الحي اليمانون أنني * إذا قلت أما بعد أني خطيبها فقال له معاوية: اخطب ! فقال: أنظروا لي عصى تقيم من أودي، فقالوا: وماذا تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين ؟ فقال: ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قاربت العصر، ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيت عليه بقية فيه، فقال معاوية: الصلاة ! فقال: الصلاة أمامك، ألسنا في تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه، وتذكير ووعد ووعيد ؟ فقال معاوية: أنت أخطب العرب، قال: العرب وحدها ؟ بل أخطب الجن والانس.
قال: كذلك أنت.
سعد بن أبي وقاص واسمه مالك بن أهيب (2) بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، أبو إسحاق القرشي الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذي توفي رسول الله وهو عنهم راض، أسلم قديما، قالوا: وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الاسلام سابع سبعة، وهو الذي كوف الكوفة ونفى عنها الاعاجم، وكان مجاب الدعوة، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارسا شجاعا من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) قال ابن سعد: صارت لجعفر بن موسى ثم سكنها أصحاب الشطوي والعدني ثم اشترى عامتها أو أكثرها غسان بن عباد من ولد موسى بن جعفر (3 / 244).
(2) في ابن سعد 3 / 137: وهيب.

وكان في أيام الصديق معظما جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر، وقد استنابه على الكوفة، وهو الذي فتح المدائن، وكانت بين يديه وقعة جلولاء.
وكان سيدا مطاعا، وعزله عن الكوفة عن غير
عجز ولا خيانة، ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك.
وقد ذكره في الستة أصحاب الشورى، ثم ولاه عثمان بعدها ثم عزله عنها.
وقال الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: شهد سعد بن أبي وقاص وابن عمر دومة الجندل يوم الحكمين (1).
وثبت في صحيح مسلم أنه ابنه عمر جاء إليه وهو معتزل في إبله فقال: الناس يتنازعون الامارة وأنت هاهنا ؟ فقال: يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي ".
قال ابن عساكر: ذكر بعض أهل العلم أن ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص جاءه فقال له: يا عم ها هنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الامر، فقال: أريد من مائة ألف سيفا واحدا إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا، وإذا ضربت به الكافر قطع.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني زكريا بن عمر وأن سعد بن أبي وقاص وفد على معاوية فأقام عنده شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر، وقال غيره: فبايعه وما سأله سعد شيئا إلا أعطاه إياه.
قال أبو يعلى: حدثنا زهير ثنا إسماعيل بن علية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم.
قال: قال سعد: إني لاول رجل رمى بسهم في المشركين، وما جمع رسول الله أبويه لاحد قبلي، ولقد سمعته يقول: " ارم فداك أبي وأمي ".
وقال أحمد: حدثنا يزيد بن هارون ثنا إسماعيل عن قيس سمعت سعد بن مالك يقول: والله إني لاول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله وما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة وهذا السمر، حتى أن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الدين، لقد خبت إذا وضل عملي.
وقد رواه شعبة ووكيع غير واحد عن إسماعيل بن أبي خالد به.
وقال أحمد: حدثنا ابن سعيد عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب عن سعد.
قال: " جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد ".
ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد الانصاري.
وقد رواه الليث وغير واحد عن يحيى الانصاري.
ورواه غير واحد عن سعيد بن المسيب عن سعد.
ورواه الناس من حديث عامر بن سعد عن أبيه.
وفي بعض الروايات " فداك أبي وأمي " وفي رواية: " فقال أرم وأنت الغلام الحزور " قال سعيد: وكان سعد جيد الرمي.
وقال الاعمش عن أبي خالد عن جابر بن
سمرة.
قال: أول الناس رمى بسهم في سبيل الله سعد رضي الله عنه.
وقال أحمد: حدثنا وكيع ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن شداد سمعت عليا يقول: " ما سمعت رسول الله يفدي أحدا بأبويه إلا سعد بن مالك، وإني سمعته يقول له يوم أحد: ارم سعد فداك أمي وأبي ".
ورواه البخاري عن أبي نعيم عن مسعر عن سعد بن إبراهيم به.
ورواه شعبة عن
__________
(1) تقدم التعليق، انظر اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص في الجزء السابع من هذا الكتاب.

سعد بن إبراهيم، ورواه سفيان بن عيينة وغير واحد عن يحيى بن سعيد الانصاري عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب فذكره.
وقال عبد الرزاق: أنا معمر عن أيوب أنه سمع عائشة بنت سعد تقول: أنا بنت المهاجر الذي فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابوين.
وقال الواقدي: حدثني عبيدة بن نابل عن عائشة بنت سعد عن أبيها.
قال: " لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتى كان بعد ذلك فظننت أنه ملك ".
وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، ثنا إبراهيم، عن سعد، عن أبيه عن سعد بن أبي وقاص.
قال: " لقد رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد ".
ورواه الواقدي: حدثني إسحاق بن أبي عبد الله عن عبد العزيز - جد ابن أبي عون - عن زياد مولى سعد عن سعد - قال: " رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن رسول الله أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وإني لاراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة مسرورا بما ظفره الله عز وجل ".
وقال سفيان عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود عن أبيه.
قال اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فيما أصبنا من الغنيمة، فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشئ.
وقال الاعمش عن إبراهيم بن علقمة عن ابن مسعود.
قال: لقد رأيت سعد بن أبي وقاص يوم بدر يقاتل قتال الفارس للراجل.
وقال مالك، عن يحيى بن سعيد: أنه سمع عبد الله بن عامر يقول قالت عائشة بات رسول الله أرقا ذات ليلة ثم قال: " ليت رجلا صالحا يحرسني الليلة ؟ قلت: إذ سمعنا صوت السلاح، فقال: من هذا ؟ قال: أنا سعد بن
أبي وقاص، أنا أحرسك يا رسول الله، قالت: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ".
أخرجاه من حديث يحيى بن سعيد.
وفي رواية " فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام " وقال أحمد: حدثنا قتيبة، ثنا رشدين بن سعد، عن يحيى بن الحجاج بن شداد، عن أبي صالح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: " أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة، فدخل سعد بن أبي وقاص ".
وقال أبو يعلى: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الله بن قيس الرقاشي الخراز، بصري: ثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر.
قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يدخل عليكم من ذا الباب رجل من أهل الجنة، قال فليس منا أحد إلا وهو يتمنى أن يكون من أهل بيته، فإذا سعد بن أبي وقاص قد طلع ".
وقال حرملة، عن ابن وهب أخبرني حيوة أخبرني عقيل عن ابن شهاب: حدثني من لا أتهم عن أنس بن مالك.
قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فاطلع سعد بن أبي وقاص، حتى إذا كان الغد قال رسول الله مثل ذلك، قال فاطلع سعد بن أبي وقاص على ترتيبه الاول، حتى إذا كان الغد قال رسول الله مثل ذلك، قال فطلع على ترتيبه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني غاضبت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليال، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تنحل يميني فعلت، قال أنس: فزعم عبد الله بن

عمرو أنه بات معه ليلة حتى إذا كان الفجر فلم يقم تلك الليلة شيئا، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبره حتى يقوم مع الفجر، فإذا صلى المكتوبة أسبغ الوضوء وأتمه ثم يصبح مفطرا، قال عبد الله بن عمرو: فرمقته ثلاث ليال وأيامهن لا يزيد على ذلك، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله، قلت: إنه لم يكن بيني وبين أبي غضبت ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله قال ذلك ثلاث مرات في ثلاث مجالس: " يطلع عليكم رجل من أهل الجنة " فاطلعت أنت أولئك المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك فأقتدي بك لانال ما نلت، فلم أرك تعمل كثير عمل، ما الذي بلغ بك ما قال
رسول الله ؟ فقال: ما هو إلا الذي رأيت.
قال: فلما رأيت ذلك انصرفت فدعا بي حين وليت، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي سوءا لاحد من المسلمين، ولا أنوي له شرا ولا أقوله.
قال قلت: هذه التي بلغت بك وهي التي لا أطيق.
وهكذا رواه صالح المزي عن عمرو بن دينار - مولى الزبير - عن سالم عن أبيه فذكر مثل رواية أنس بن مالك.
وثبت في صحيح مسلم من طريق سفيان الثوري عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد في قوله تعالى: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) * [ الانعام: 52 ] نزلت في ستة، أنا وابن مسعود منهم وفي رواية أنزل الله في: * (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم) * [ العنكبوت: 8 ] وذلك أنه لما أسلم امتنعت أمه من الطعام والشراب أياما، فقال لها: تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشئ، إن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي.
فنزلت هذه الآية.
وأما حديث الشهادة للعشرة بالجنة فثبت في الصحيح عن سعيد بن زيد.
وجاء من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة في قصة حراء ذكر سعد بن أبي وقاص منهم.
وقال هشيم وغير واحد عن مجالد عن الشعبي عن جابر.
قال: كنا مع رسول الله فأقبل سعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا خالي فليرني امرؤ خاله ".
رواه الترمذي.
وقال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا عبد الوهاب بن الضحاك، ثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التميمي عن جابر.
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل سعد فقال: " هذا خالي ".
وثبت في الصحيح من حديث مالك وغيره عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه " أن رسول الله جاءه يعوده عام حجة الوداع من وجع اشتد به.
فقلت: يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال: لا ! قلت: فالشطر يا رسول الله ؟ قال: لا ! قلت: فالثلث ؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك.
قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي ؟ فقال إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك
أقوام ويضر بك آخرون.
ثم قال: اللهم أمض لاصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن

البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله إن مات بمكة ".
ورواه أحمد عن يحيى بن سعيد، عن الجعد بن أوس، عن عائشة بنت سعد عن أبيها فذكر نحوه، وفيه قال: " فوضع يده على جبهته فمسح وجهه وصدره وبطنه وقال: اللهم اشف سعدا وأتم له هجرته ".
قال سعد: فما زلت يخيل إلي أني أجد على كبدي حتى الساعة.
وقال ابن وهب: حدثني موسى بن علي بن رباح عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعدا فقال: " اللهم أذهب عنه الباس، إله الناس، ملك الناس، أنت الشافي لا شافي له إلا أنت، بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك، من حسد وعين، أللهم أصح قلبه وجسمه، واكشف سقمه وأجب دعوته ".
وقال ابن وهب: أخبرني عمرو بن بكر بن الاشج قال: سألت عامر بن سعد عن قول رسول الله لسعد: " وعسى أن تبقى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ".
فقال: أمر سعد على العراق فقتل قوما على الردة فضرهم، واستتاب قوما كانوا سجعوا سجع مسيلمة الكذاب فتابوا فانتفعوا به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة ثنا معاذ بن رفاعة حدثني علي بن زيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة.
قال: جلسنا إلى رسول الله فذكرنا ورققنا، فبكى سعد بن أبي قاص فأكثر البكاء وقال: يا ليتني مت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا سعد إن كنت للجنة خلقت فما طال عمرك أو حسن من عملك فهو خير لك ".
وقال موسى بن عقبة وغيره: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن سعد.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم سدد رميته وأجب دعوته ".
ورواه سيار بن بشير، عن قيس، عن أبي بكر الصديق.
قال: سمع رسول الله يقول لسعد: " اللهم سدد سهمه وأجب دعوته، وحببه إلى عبادك ".
وروي من حديث ابن عباس، وفي رواية محمد بن عائد الدمشقي عن الهيثم بن حميد، عن مطعم، عن المقدام وغيره أن سعدا قال: يا رسول الله ادع الله أن يجيب دعوتي فقال: " إنه لا يستجيب الله دعوة عبد حتى يطيب مطعمه، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يطيب مطعمي فدعا له ".
قالوا: فكان سعيد يتورع من السنبلة
يجدها في زرعه فيردها من حيث أخذت.
وقد كان كذلك مجاب الدعوة لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجيب له، فمن أشهر ذلك ما روي في الصحيحين من طريق عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سلمة: أن أهل الكوفة شكوا سعدا إلى عمر في كل شئ حتى قالوا: لا يحسن يصلي، فقال سعد: أما إني لا آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله، أطيل الاوليين وأحذف الاخرتين، فقال: الظن بك يا أبا إسحاق، وكان قد بعث من يسأل عنه بمحال الكوفة، فجعلوا لا يسألون أهل مسجد إلا أثنوا خيرا، حتى مروا بمسجد لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أبو سعدة أسامة بن قتادة فقال: إن سعدا كان لا يسير في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية القضية، فبلغ سعدا فقال: اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء وسمعة فأطل عمره وأدم فقره، وأعم بصره وعرضه للفتن، قال: فأنا رأيته بعد ذلك شيخا كبيرا قد سقطت حاجباه على عينيه يقف في الطريق فيغمز الجواري فيقال له، فيقول: شيخ مفتون أصابته دعوة سعد.
وفي رواية غريبة أنه

أدرك فتنة المختار بن أبي عبيد فقتل فيها.
وقال الطبراني: ثنا يوسف القاضي ثنا عمرو بن مرزوق ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن سعيد بن المسيب.
قال: خرجت جارية لسعد يقال لها زبراء، وعليها قميص جديد فكشفتها الريح فشد عليها عمر بالدرة، وجاء سعد ليمنعه فتناوله عمر بالدرة فذهب سعد يدعو على عمر، فناوله الدرة وقال: اقتص مني فعفى عن عمر.
وروي أيضا أنه كان بين سعد وابن مسعود كلام فهم سعد أن يدعو عليه فخاف ابن مسعود وجعل يشتد في الهرب.
وقال سفيان بن عيينة: لما كان يوم القادسية كان سعد على الناس وقد أصابته جراح فلم يشهد يوم الفتح، فقال رجل من بجيلة: ألم تر أن الله أظهر دينه * وسعد بباب القادسية معصم فأبنا وقد أيمت نساء كثيرة * ونسوة سعد ليس فيهن أيم فقال سعد: اللهم اكفنا يده ولسانه.
فجاءه سهم غرب فأصابه فخرس ويبست يداه جميعا.
وقد أسند زياد البكائي وسيف بن عمر عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، عن
ابن عمر فذكر مثله، وفيه: ثم خرج سعد فأرى الناس ما به من القروح في ظهره ليعتذر إليهم.
وقال هشيم عن أبي بلح عن مصعب بن سعد أن رجلا نال من علي فنهاه سعد فلم ينته، فقال سعد: أدعو عليك، فلما ينته، فدعا الله عليه حتى جاء بعير ناد فتخبطه.
وجاء من وجه آخر عن عامر بن سعد أن سعدا رأى جماعة عكوفا على رجل فأدخل رأسه من بين اثنين فإذا هو يسب عليا وطلحة والزبير، فنهاه عن ذلك فلم ينته، فقال: أدعو عليك، فقال الرجل: تتهددني كأنك نبي ؟ فانصرف سعد فدخل دار آل فلان فتوضأ وصلى ركعتين ثم رفع يديه فقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى، وأنه قد أسخطك سبه إياهم، فاجعله اليوم آية وعبرة.
قال: فخرجت بختية نادة من دار آل فلان لا يردها شئ حتى دخلت بين أضعاف الناس، فافترق الناس فأخذته بين قوائمها، فلم يزل تتخبطه حتى مات.
قال: فلقد رأيت الناس يشتدون وراء سعد يقولون: استجاب الله دعاءك يا أبا إسحاق.
ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب فذكر نحوه وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر القرشي ثنا عبد الرزاق عن أبيه عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف أن امرأة كانت تطلع على سعد فنهاها فلم تنته، فاطلعت يوما وهو يتوضأ فقال: شاه وجهك، فعاد وجهها في قفاها.
وقال كثير النوري: عن عبد الله بن بديل قال: دخل سعد على معاوية فقال له: مالك لم تقاتل معنا ؟ فقال: إني مرت بي ريح مظلمة فقلت: اخ اخ.
فأنخت راحلتي حتى انجلت عني ثم عرفت الطريق فسرت، فقال معاوية: ليس في كتاب الله: اخ اخ.
ولكن قال الله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) * [ الحجرات: 9 ] فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية.
فقال سعد: ما كنت لاقاتل رجلا قال له

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ".
فقال معاوية: من سمع هذا معك ؟ فقال: فلان وفلان وأم سلمة.
فقال معاوية: أما إني لو سمعته منه صلى الله عليه وسلم لما
قاتلت عليا.
وفي رواية من وجه آخر أن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة حجها معاوية، وأنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها فحدثتهما بما حدث به سعد، فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت أو أموت.
وفي إسناد هذا ضعف والله أعلم.
وقد روي عن سعد أنه سمع رجلا يتكلم في علي وفي خالد فقال: إنه لم يبلغ ما بيننا إلى ديننا.
وقال محمد بن سيرين: طاف سعد على تسع جوار في ليلة فلما انتهى إلى العاشرة أخذه النوم فاستحيت أن توقظه.
ومن كلامه الحسن أنه قال لابنه مصعب: يا بني إذا طلبت شيئا فاطلبه بالقناعة، فإنه من لا قناعة له لم يغنه المال.
وقال حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد.
قال: كان رأس أبي في حجري وهو يقضي فبكيت، فقال: ما يبكيك يا بني ؟ والله إن الله لا يعذبني أبدا، وإني من أهل الجنة.
إن الله يدين للمؤمنين بحسناتهم فاعملوا لله، وأما الكفار فيخفف عنهم بحسناتهم، فإذا نفدت قال: ليطلب كل عامل ثواب عمله ممن عمل له.
وقال الزهري: لما حضرت سعدا الوفاة دعا بخلق جبة فقال: كفنوني في هذه فإني لقيت فيها المشركين يوم بدر، وإنما خبأتها لهذا اليوم.
وكانت وفاة سعد بالعقيق خارج المدينة، فحمل إلى المدينة على أعناق الرجال فصلى عليه مروان، وصلى بصلاته أمهات المؤمنين الباقيات الصالحات، ودفن بالبقيع، وكان ذلك في هذه السنة - سنة خمس وخمسين - على المشهور الذي عليه الاكثرون، وقد جاوز الثمانين على الصحيح.
قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة.
وقال غيره: كان آخر المهاجرين وفاة، رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وقال الهيثم بن عدي: سنة خمسين، وقال أبو معشر وأبو نعيم مغيث بن المحرر: توفي سعد سنة ثمان وخمسين، زاد مغيث: وفيها توفي الحسن بن علي وعائشة وأم سلمة، والصحيح الاول - خمس وخمسين - قالوا وكان قصيرا غليظا شثن الكفين أفطس أشعر الجسد، يخضب بالسواد، وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفا.
فضالة بن عبيد الانصاري الاوسي
أول مشاهده أحد، وشهد بيعة الرضوان، ودخل الشام، وتولى القضاء بدمشق في أيام معاوية بعد أبي الدرداء.
قال أبو عبيد: مات سنة ثلاث وخمسين.
وقال غيره: سنة سبع وستين، وقال ابن الجوزي في المنتظم: توفي في هذه السنة والله أعلم.

قثم بن العباس بن عبد المطلب كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، تولى نيابة المدينة في أيام علي، وشهد فتح سمرقند فاستشهد بها.
كعب بن عمرو أبو اليسر الانصاري السلمي، شهد العقبة وبدرا، وأسر يومئذ العباس بن عبد المطلب، وشهد ما بعد ذلك من المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حاتم وغيره: مات سنة خمس وخمسين، زاد غيره: وهو آخر من مات من أهل بدر.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وذلك في أيام معاوية، ففيها شتى جنادة بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل عبد الرحمن بن مسعود، ويقال فيها غزا في البحر يزيد بن سمرة (1)، وفي البر عياض بن الحارث.
وفيها اعتمر معاوية في رجب، وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وفيها ولى معاوية سعيد بن عثمان بلاد خراسان (2)، وعزل عنها عبيد الله بن زياد، فسار سعيد إلى خراسان والتقى مع الترك عند صغد سمرقند، فقتل منهم خلقا كثيرا، واستشهد معه جماعة منهم فيما قيل قثم بن العباس بن عبد المطلب.
قال ابن جرير: سأل سعيد بن عثمان بن عفان معاوية أن يوليه خراسان فقال: إن بها عبيد الله بن زياد، فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورقاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته بآلائه، وقدمت علي هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له، ووالله لانا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له معاوية: أما بلاء أبيك عندي فقد يحق علي الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الامور، ولست
بلائم لنفسي في التشمير، وأما فضل أبيك على أبيه، فأبوك والله خير مني وأقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما فضل أمك على أمه فما لا ينكر، فإن امرأة من قريش خير من امرأة من كلب (3)، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك (4) - يعني أن الغوطة لو ملئت رجالا مثل سعيد بن عثمان كان يزيد خيرا وأحب إلي منهم.
فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت
__________
(1) في الطبري 6 / 168 يزيد بن شجرة الرهاوي، وفي الكامل: 3 / 503 يزيد بن شجرة.
(2) في فتوح ابن الاعثم 4 / 186: ولاه خراسان وكان زياد - لا يزال حيا - على البصرة والكوفة، وكتب إلى زياد أن يفرض لسعيد فرضا وأن يقويه بالمال والسلاح وأن لا يجعل له في ذلك علة.
(3) كذا بالاصل والطبري والكامل، وفي فتوح ابن الاعثم 4 / 185: من اليمن.
(4) في فتوح ابن الاعثم: فوالله يا بن أخ ! ما يسرني أن حبلا مدلى فيما بيني وبين العراق فنظم لي فيه أمثالك بيزيد.

أحق من نظر في أمره، وقد عتب عليك في فأعتبه.
فولاه حرب خراسان، فأتى سمرقند فخرج إليه أهل الصغد من الترك فقاتلهم وهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا خمسين غلاما يكونون في يده من أبناء عظمائهم، فأقام بالترمذ ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه إلى المدينة.
وفيها دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون ولي عهده من بعده، - وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة بن شعبة - فروى ابن جرير: من طريق الشعبي، أن المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص، فلما بلغ ذلك المغيرة كأنه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون ولي العهد، فسأل ذلك من أبيه فقال: من أمرك بهذا ؟ قال: المغيرة، فأعجب ذلك معاوية من المغيرة ورده إلى عمل الكوفة، وأمره أن يسعى في ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك، وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك، وهو عبيد بن كعب بن النميري
- وكان صاحبا أكيدا لزياد - فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أولا، فكلمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك، فإن تركه خير له من السعي فيه، فانزجر يزيد عما يريد من ذلك، واجتمع بأبيه واتفقا على ترك ذلك في هذا الوقت، فلما مات زياد وكانت هذه السنة، شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك، فبايع له الناس في سائر الاقاليم، إلا عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر والحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وابن عباس، فركب معاوية إلى مكة معتمرا، فلما اجتاز بالمدينة - مرجعه من مكة - استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة فأوعده وتهدده بانفراده، فكان من أشدهم عليه ردا وأجلدهم في الكلام، عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان ألينهم كلاما عبد الله بن عمر بن الخطاب، ثم خطب معاوية وهؤلاء حضور تحت منبره، وبايع الناس ليزيد وهم قعود ولم يوافقوا ولم يظهروا خلافا، لما تهددهم وتوعدهم (1)، فاتسقت البيعة ليزيد في سائر البلاد، ووفدت الوفود من سائر الاقاليم إلى يزيد، فكان فيمن قدم الاحنف بن قيس، فأمره معاوية أن يحادث يزيد، فجلسا ثم خرج الاحنف فقال له معاوية: ماذا رأيت من ابن أخيك ؟ فقال: إنا نخاف الله إن كذبنا ونخافكم إن صدقنا، وأنت أعلم به في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، وأنت أعلم به بما
__________
(1) قال ابن الاثير في الكامل 3 / 510: إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه فلا يبقين رجل إلا على نفسه.
ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين مع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.
وقال ابن الاعثم في فتوحه 4 / 247: قال معاوية عزمت أن أتكلم على المنبر بكلام والمبقي في ذلك الوقت إنما يبقي على نفسه من أهل الشام وأنتم أعلم وقد أعذر من أنذر.

أردت، وإنما علينا أن نسمع ونطيع، وعليك أن تنصح للامة.
وقد كان معاوية لما صالح الحسن عهد للحسن بالامر من بعده، فلما مات الحسن قوي أمر يزيد عند معاوية، ورأى أنه لذلك
أهلا، وذاك من شدة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى، ولهذا قال لعبد الله بن عمر فيما خاطبه به: إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راع، فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلهم بايعته ولو كان عبدا مجدع الاطراف.
وقد عاتب معاوية في ولايته يزيد، سعيد بن عثمان بن عفان وطلب منه أن يوليه مكانه، وقال له سعيد فيما قال: إن أبي لم يزل معتنيا بك حتى بلغت ذروة المجد والشرف، وقد قدمت ولدك علي وأنا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له: أما ما ذكرت من إحسان أبيك إلي فإنه أمر لا ينكر، وأما كون أبيك خير من أبيه فحق وأمك قرشية وأمه كلبية فهي خير منها، وأما كونك خيرا منه فوالله لو ملئت إلى الغوطة رجالا مثلك لكان يزيد أحب إلي منكم كلكم.
وروينا عن معاوية أنه قال يوما في خطبته: اللهم إن كنت تعلم أني وليته لانه فيما أراه أهل لذلك فأتمم له ما وليته، وإن كنت وليته لاني أحبه فلا تتمم له ما وليته.
وذكر الحافظ ابن عساكر: أن معاوية كان قد سمر ليلة فتكلم أصحابه في المرأة التي يكون ولدها نجيبا، فذكروا صفة المرأة التي يكون ولدها نجيبا: فقال معاوية: وددت لو عرفت بامرأة تكون بهذه المئابة ؟ فقال أحد جلسائه: قد وجدت ذلك يا أمير المؤمنين.
قال: ومن ؟ قال: ابنتي يا أمير المؤمنين.
فتزوجها معاوية فولدت له يزيد بن معاوية فجاء نجيبا ذكيا حاذقا.
ثم خطب امرأة أخرى فحظيت عنده وولدت له غلاما آخر، وهجر أم يزيد فكانت عنده في جنب داره، فبينما هو في النظارة ومعه امرأته الاخرى، إذ نظر إلى أم يزيد وهي تسرحه، فقالت امرأته: قبحها الله وقبح ما تسرح.
فقال: ولم ؟ فوالله إن ولدها أنجب من ولدك، وإن أحببت بينت لك ذلك، ثم استدعى ولدها فقال له: إن أمير المؤمنين قد عن له أن يطلق لك ما تتمناه عليه فاطلب مني ما شئت.
فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يطلق لي كلابا للصيد وخيلا ورجالا يكونون معي في الصيد.
فقال: قد أمرنا لك بذلك، ثم استدعى يزيد فقال له كما قال لاخيه، فقال يزيد: أو يعفيني أمير المؤمنين في هذا الوقت عن هذا ؟ فقال: لابد لك أن تسأل حاجتك ؟ فقال: أسأل - وأطال الله عمر أمير المؤمنين - أن أكون ولي
عهده من بعده، فإنه بلغني أن عدل يوم في الرعية كعبادة خمسمائة عام.
فقال: قد أجبتك إلى ذلك، ثم قال لامرأته: كيف رأيت ؟ فعلمت وتحققت فضل يزيد على ولدها.
وقد ذكر ابن الجوزي في هذه السنة وفاة أم حرام بنت ملحان الانصارية امرأة عبادة بن عبادة بن الصامت، والصحيح الذي لم يذكر العلماء غيره أنها توفيت سنة سبع وعشرين، في خلافة عثمان، وكانت هي وزوجها مع معاوية حين دخل قبرص، وقصتها بغلتها فماتت هناك وقبرها بقبرص، والعجب أن ابن الجوزي أورد في ترجمتها حديثها المخرج في الصحيحين في قيلولة

النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، ورؤياه في منامه قوما من أمته يركبون ثبج البحر مثل الملوك على الاسرة غزاة في سبيل الله، وأنها سألته أن يدعو لها أن تكون منهم فدعا لها، ثم نام فرأى كذلك، فقالت: ادعو الله أن يجعلني منهم، فقال " لا ! أنت من الاولين " وهم الذين فتحوا قبرص فكانت معهم، وذلك في سنة سبع وعشرين، ولم تكن من الآخرين الذين غزوا بلاد الروم سنة إحدى وخمسين مع يزيد بن معاوية ومعهم أبو أيوب، وقد توفي هناك فقبره قريب من سور قسطنطينية وقد ذكرنا هذا مقرارا في دلائل النبوة.
سنة سبع وخمسين فيها كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم، قال الواقدي: وفي شوالها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة (1)، وولى عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (2)، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، لانه صارت إليه إمرة المدينة، وكان على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان.
قال ابن الجوزي: وفيها توفي عثمان بن حنيف الانصاري الاوسي، وهو أخو عبادة وسهل ابني حنيف، بعثه عمر لمساحة خراج السواد بالعراق، واستنابه عمر على الكوفة، فلما قدم طلحة والزبير صحبة عائشة وامتنع من تسليم دار الامارة، نتفت لحيته وحواجبه وأشفار عينيه ومثل به، فلما جاء علي وسلمه البلد قال له: يا أمير المؤمنين فارقتك ذا لحية واجتمعت بك أمرد، فتبسم علي رضي الله عنه وقال: لك
أجر ذلك عند الله، وله في المسند والسنن حديث الاعمى الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه ضوء بصره فرده الله عليه، وله حديث آخر عند النسائي، ولم أر أحدا أرخ وفاته بهذه السنة سوى ابن الجوزي والله أعلم.
سنة ثمان وخمسين فيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم، قال الواقدي: وفيها قيل شتى يزيد بن
__________
(1) قال المسعودي في مروج الذهب 3 / 35: أن مروان بن الحكم قدم دمشق، لما كتب إليه معاوية وهو عامله على المدينة يأمره بمبايعة يزيد وأخذ البيعة له على من قبله، واعلن معارضته لبيعة يزيد، فجعله معاوية وليا لعهد يزيد ورده إلى المدينة، ثم إنه عزله عنها ولم يف لمروان بما جعل له من ولاية عهد يزيد.
ولم يشر الطبري وابن الاثير وابن الاعثم إلى هذا الموقف.
أما ابن قتيبة قال: أن مروان لما قرأ كتاب معاوية أبى من ذلك، وأبته قريش فكتب لمعاوية أن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك، فر رأيك، فلما بلغ معاوية كتاب مروان عرف أن ذلك من قبله.
فكتب إليه يأمره أن يعتزل عن عمله.
فجاءه مروان مع قومه وأهل بيته...فقال له معاوية: إليك عهد عهده وأنت نظير أمير المؤمنين بعده (الامامة والسياسة) 1 / 176 - 177.
(2) في الامامة والسياسة 1 / 177 سعيد بن العاص.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: أن ذلك كان سنة ثمان واربعين ثم عزله وولاها مروان ثم عزله وولى الوليد بن عتبة.

شجرة في البحر، وقيل: بل غزا البحر وبلاد الروم جنادة بن أبي أمية، وقيل: إنما شتى بأرض الروم عمرو بن يزيد الجهني.
قال أبو معشر والواقدي: وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وفيها ولى معاوية الكوفة لعبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، ابن أم الحكم، وأم الحكم هي أخت معاوية، وعزل عنها الضحاك بن قيس، فولى ابن أم الحكم على شرطته زائدة بن قدامة، وخرجت الخوارج في أيام ابن أم الحكم، وكان رئيسهم في هذه الوقعة حيان بن ضبيان السلمي، فبعث إليهم جيشا فقتلوا الخوارج جميعا، ثم إن ابن أم الحكم أساء السيرة في أهل الكوفة فأخرجوه من بين أظهرهم طريدا، فرجع إلى خاله معاوية فذكر له ذلك،
فقال: لاولينك مصرا هو خير لك، فولاه مصر، فلما سار إليها تلقاه معاوية بن خديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك معاوية، فلعمري لا ندعك تدخلها فتسير فيها وفينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة، فرجع ابن أم الحكم إلى معاوية ولحقه معاوية بن خديج وافدا على معاوية، فلما دخل عليه وجده عنده أخته أم الحكم، وهي أم عبد الرحمن الذي طرده أهل الكوفة وأهل مصر، فلما رآه معاوية قال: بخ بخ، هذا معاوية بن خديج، فقالت أم الحكم: لامر حبابه، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال معاوية بن خديج: على رسلك يا أم الحكم، أما والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا أهل الكوفة، فما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضربا يطأطئ منه رأسه، - أو قال لضربنا ما صاصا منه - وإن كره ذلك الجالس - يعني معاوية - فالتفت إليها معاوية فقال: كفى.
قصة غريبة ذكرها ابن الجوزي في كتابه المنتظم بسنده، وهو أن شابا من بني عذرة جرت له قصة مع ابن أم الحكم، وملخصها أن معاوية بينما هو يوما على السماط إذا شاب من بني عذرة قد تمثل بين يديه فأنشده شعرا مضمونه التشوق إلى زوجته سعاد، فاستدناه معاوية واستحكاه عن أمره، فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت مزوجا بابنة عم لي، وكان لي إبل وغنم، وأنفقت ذلك عليها، فلما قل ما بيدي رغب عني أبوها وشكاني إلى عاملك بالكوفة، ابن أم الحكم، وبلغه جمالها فحبسني في الحديد وحملني على أن أطلقها، فلما انقضت عدتها أعطاها عاملك عشرة آلاف درهم فزوجه إياها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحزون الملهوف المكروب، وسند المسلوب، فهل من فرج ؟ ثم بكى وأنشأ يقول: في القلب مني نار * والنار فيها شرار والجسم مني نحيل * واللون فيه اصفرار والعين تبكي بشجو * فدمعها مدرار

والحب ذا عبر * فيه الطبيب يحار حملت فيه عظيما * فما عليه اصطبار فليس ليلي بليل * ولا نهاري نهار قال: فرق له معاوية وكتب إلى ابن أم الحكم يؤنبه على ذلك ويعيبه عليه، ويأمره بطلاقها فولا واحدا، فلما جاءه كتاب معاوية تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف، وجعل يؤامر نفسه على طلاقها فلا يقدر على ذلك ولا تجيبه نفسه، وجعل البريد الذي ورد عليه بالكتاب يستحثه، فطلقها وأخرجها عنه وسيرها مع الوفد إلى معاوية، فلما وقفت بين يديه رأى منظرا جميلا، فلما استنطقها فإذا أفصح الناس وأحلاهم كلاما، وأكملهم جمالا ودلالا، فقال لابن عمها: يا أعرابي هل من سلو عنها بأفضل الرغبة ؟ قال: نعم إذا فرقت بين رأسي وجسدي ثم أنشأ يقول: لا تجعلني والامثال تضرب بي * كالمستغيث من الرمضاء بالنار اردد سعاد على حيران مكتئب * يمسي ويصبح في هم وتذكار قد شفه قلق ما مثله قلق * وأسعر القلب منه أي إسعار والله والله لا أنسى محبتها * حتى أغيب في رمسي وأحجاري كيف السلو وقد هام الفؤاد بها * وأصبح القلب عنها غير صبار ؟ فقال معاوية: فإنا نخيرها بيني وبينك وبين ابن أم الحكم فأنشأت تقول: هذا وإن اصبح في إطار * وكان في نقص من اليسار أحب عندي من أبي وجاري * وصاحب الدرهم والدينار أخشى إذا غدرت حر النار قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم ومركب ووطاء، ولما انقضت عدتها زوجه بها وسلمها إليه.
حذفنا منها أشعارا كثيرة مطولة.
وجرت في هذه السنة فصول طويلة بين عبيد الله بن زياد والخوارج، فقتل منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا، وحبس منهم آخرين، وكان صارما كأبيه مقداما في أمرهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر من توفي فيها من الاعيان توفي في هذا العام سعيد بن العاص (1) بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي
__________
(1) وهو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص...

الاموي، قتل أبوه يوم بدر كافرا، قتله علي بن أبي طالب، ونشأ سعيد في حجر عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان عمر سعيد يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين (1)، وكان من سادات المسلمين والاجواد المشهورين، وكان جده سعيد بن العاص - ويكنى بأبي أجنحة - (2) رئيسا في قريش، يقال له ذو التاج، لانه كان إذا اعتم لا يعتم أحد (3) يومئذ إعظاما له، وكان سعيد هذا من عمال عمر على السواد، وجعله عثمان فيمن يكتب المصاحف لفصاحته، وكان أشبه الناس لحية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في جملة الاثني عشر رجلا، الذين يستخرجون القرآن ويعلمونه ويكتبونه، منهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت.
واستنابه عثمان على الكوفة بعد عزله الوليد بن عقبة، فافتتح طبرستان وجرجان، ونقض العهد أهل أذربيجان فغزاهم ففتحها، فلما مات عثمان اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، فلما استقر الامر لمعاوية وفد إليه فعتب عليه فاعتذر إليه فعذره في كلام طويل جدا، وولاه المدينة مرتين، وعزله عنها مرتين بمروان بن الحكم، وكان سعيد هذا لا يسب عليا، ومروان يسبه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعائشة، وعنه ابناه عمرو بن سعيد الاشدق وأبو سعيد وسالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، وغيرهم، وليس له في المسند ولا في الكتب الستة شئ.
وقد كان حسن السيرة، جيد السريرة، وكان كثيرا ما يجمع أصحابه في كل جمعة فيطعمهم ويكسوهم الحلل، ويرسل إلى بيوتهم بالهدايا والتحف والبر الكثير، وكان يصر الصرر فيضعها بين يدي المصلين من
ذوي الحاجات في المسجد.
قال ابن عساكر: وقد كانت له دار بدمشق تعرف بعده بدار نعيم، وحمام نعيم، بنواحي الديماس، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات، وكان كريما جوادا ممدحا.
ثم أورد شيئا من حديثه من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو سعيد الجعفي ثنا عبد الله بن الاجلح ثنا هشام بن عروة عن أبيه أن سعيد بن العاص قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خياركم في الاسلام خياركم في الجاهلية " وفي طريق الزبير بن بكار: حدثني رجل عن عبد العزيز بن أبان حدثني خالد بن سعيد عن أبيه عن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرد.
فقالت: إني نذرت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب، فقال: " اعطه هذا الغلام " - يعني سعيد بن العاص - وهو واقف، فلذلك سميت الثياب السعيدية وأنشد الفرزدق قوله فيه: ترى الغر الجحاجح من قريش * إذا ما الخطب (4) في الحدثان عالا
__________
(1) قال ابن عبد البر في الاستيعاب: ولد عام الهجرة وقيل سنة احدى (هامش الاصابة 2 / 9 وأسد الغابة 2 / 310).
(2) في الاصابة: أبي أحيحة (وانظر أسد الغابة 2 / 309).
(3) في أسد الغابة: لا يعتم أحد بلون عمامته...(4) في الاستيعاب: الامر.

قياما ينظرون إلى سعيد * كأنهم يرون به هلالا وذكر أن عثمان عزل عن الكوفة المغيرة وولاها سعد بن أبي وقاص، ثم عزله وولاها الوليد بن عتبة، ثم عزله وولى سعيد بن العاص، فأقام بها حينا، ولم تحمد سيرته فيهم ولم يحبوه، ثم ركب مالك بن الحارث - وهو الاشتر النخعي - في جماعة إلى عثمان وسألوه أن يعزل عنهم سعيدا فلم يعزله، وكان عنده بالمدينة فبعثه إليهم، وسبق الاشتر إلى الكوفة فخطب الناس وحثهم على منعه من الدخول إليهم، وركب الاشتر في جيش يمنعوه من الدخول، قيل تلقوه إلى
العذيب، - وقد نزل سعيد بالرعثة - (3) فمنعوه من الدخول إليهم، ولم يزالوا به حتى ردوه إلى عثمان، وولى الاشتر أبا موسى الاشعري على الصلاة والثغر وحذيفة بن اليمان على الفئ، فأجاز ذلك أهل الكوفة وبعثوا إلى عثمان في ذلك فأمضاه وسره ذلك فيما أظهره، ولكن هذا كان أول وهن دخل على عثمان.
وأقام سعيد بن العاص بالمدينة حتى كان زمن حصر عثمان فكان عنده بالدار، ثم لما ركب طلحة والزبير مع عائشة من مكة يريدون قتلة عثمان ركب معهم، ثم انفرد عنهم هو والمغيرة بن شعبة وغيرهما، فأقام بالطائف حتى انقضت تلك الحروب كلها، ثم ولاه معاوية إمرة المدينة سنة تسع وأربعين، وعزل مروان فأقام سبعا ثم رد مروان.
وقال عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال: بعثني زياد في شغل إلى معاوية، فلما فرغت من أموري قلت: يا أمير المؤمنين لم يكن الامر من بعدك ؟ فسكت ساعة ثم قال.
يكون بين جماعة، إما كريم قريش سعيد بن العاص، وإما فتى قريش، حياء ودهاء وسخاء، عبد الله بن عامر، وإما الحسن بن علي فرجل سيد كريم، وإما القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، مروان بن الحكم، وأما رجل فقيه عبد الله بن عمر، وإما رجل يتردد الشريعة مع دواهي السباع ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير.
وروينا أنه استسقى يوما في بعض طرق المدينة، فأخرج له رجل من دار ماء فشرب، ثم بعد حين رأى ذلك يعرض داره للبيع فسأل عنه لم يبيع داره ؟ فقالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فبعث إلى غريمه فقال: هي لك علي، وأرسل إلى صاحب الدار فقال: استمتع بدارك.
وكان رجل من القراء الذين يجالسونه قد افتقر وأصابته فاقة شديدة، فقالت له امرأته: إن أميرنا هذا يوصف بكرم، فلو ذكرت له حالك فلعله يسمح لك بشئ ؟ فقال: ويحك ! لا تحلقي وجهي، فألحت عليه في ذلك، فجاء فجلس إليه، فلما انصرف الناس عنه مكث الرجل جالسا في مكانه، فقال له سعيد: أظن جلوسك لحاجة ؟ فسكت الرجل، فقال سعيد لغلمانه: انصرفوا، ثم قال له سعيد: لم يبق غيرك وغيرك، فسكت، فأطفأ المصباح ثم قال له: رحمك الله لست ترى وجهي فاذكر حاجتك، فقال: أصلح الله الامير أصابتنا فاقة وحاجة فأحببت ذكرها لك فاستحييت، فقال له: إذا أصبحت فالق وكيلي
فلانا، فلما أصبح الرجل لقي الوكيل فقال له الوكيل: إن الامير قد أمر لك بشئ فأت بمن يحمله معك، فقال: ما عندي من يحمله، ثم انصرف الرجل إلى امرأته فلامها وقال: حملتيني على بذل

وجهي للامير، فقد أمر لي بشئ يحتاج إلى من يحمله، وما أراه أمر لي إلا بدقيق أو طعام، ولو كان مالا لما احتاج إلى من يحمله، ولاعطانيه.
فقالت المرأة: فمهما أعطاك فإنه يقوتنا فخذه، فرجع الرجل إلى الوكيل فقال له الوكيل: إني أخبرت الامير أنه ليس لك أحد يحمله، وقد أرسل بهؤلاء الثلاثة السودان يحملونه معك، فذهب الرجل، فلما وصل إلى منزله إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف دراهم، فقال للغلمان: ضعوا ما معكم وانصرفوا، فقالوا: إن الامير قد أطلقنا لك، فإنه ما بعث مع خادم هدية إلى أحد إلا كان الخادم الذي يحملها من جملتها، قال: فحسن حال ذلك الرجل.
وذكر ابن عساكر: أن زياد بن أبي سفيان بعث إلى سعيد بن العاص هدايا وأموالا وكتابا ذكر فيه أنه يخطب إليه ابنته أم عثمان من آمنة بنت جرير بن عبد الله البجلي، فلما وصلت الهدايا والاموال والكتاب قرأه، ثم فرق الهدايا في جلسائه، ثم كتب إليه كتابا لطيفا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم ! قال الله تعالى: * (كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى) * [ العلق: 6 ] والسلام.
وروينا أن سعيدا خطب أم كلثوم بنت علي من فاطمة، التي كانت تحت عمر بن الخطاب، فأجابت إلى ذلك وشاورت أخويها فكرها ذلك، وفي رواية إنما كره ذلك الحسين وأجاب الحسن، فهيأت دارها ونصبت سريرا وتواعدوا للكتاب، وأمرت ابنها زيد بن عمر أن يزوجها منه، فبعث إليها بمائة ألف، وفي رواية بمائتي ألف مهرا، واجتمع عنده أصحابه ليذهبوا معه، فقال: إني أكره أن أخرج أمي فاطمة، فترك التزويج وأطلق جميع ذلك المال لها.
وقال ابن معين وعبد الاعلى بن حماد: سأل أعرابي سعيد بن العاص فأمر له بخمسمائة، فقال الخادم: خمسمائة درهم أو دينار ؟ فقال: إنما أمرتك بخمسمائة درهم، وإذ قد جاش في نفسك أنها دنانير فادفع إليه خمسمائة دينار، فلما قبضها الاعرابي جلس يبكي، فقال له: مالك ؟ ألم تقبض نوالك ؟ قال: بلى والله ! ولكن أبكي على الارض كيف تأكل مثلك.
وقال عبد الحميد بن جعفر: جاء رجل في
حمالة أربع ديات سأل فيها أهل المدينة، فقيل: له عليك بالحسن بن علي، أو عبد الله بن جعفر، أو سعيد بن العاص، أو عبد الله بن عباس، فانطلق إلى المسجد فإذا سعيد داخل إليه، فقال: من هذا ؟ قيل: سعيد بن العاص، فقصده فذكر له ما أقدمه، فتركه حتى انصرف من المسجد إلى المنزل فقال للاعرابي: إئت بمن يحمل معك ؟ فقال: رحمك الله ! إنما سألتك مالا لا تمرا، فقال: أعرف، إئت بمن يحمل معك ؟ فأعطاه أربعين ألفا فأخذها الاعرابي وانصرف ولم يسأل غيره.
وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني أجر لله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه، أو جاءك مخاطرا لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته.
وقال سعيد: لجليسي على ثلاث، إذا دنا رحبت به، وإذ جلس أوسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه.
وقال أيضا: يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنئ فتهون عليه، وفي رواية فيجترئ عليك.
وخطب يوما فقال: من رزقه الله رزقا حسنا فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لاحد رجلين، إما مصلح فيسعد بما جمعت له وتخيب أنت،

والمصلح لا يقل عليه شئ، وإما مفسد فلا يبقى له شئ.
فقال أبو معاوية: جمع أبو عثمان طرف الكلام.
وروى الاصمعي عن حكيم بن قيس.
قال سعيد بن العاص: موطنان لا أستحيي من رفقي فيهما والتأني عندهما، مخاطبتي جاهلا أو سفيها، وعند مسألتي حاجة لنفسي.
ودخلت عليه امرأة من العابدات وهو أمير الكوفة فأكرمها وأحسن إليها، فقالت: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت المنة لك في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سببا لردها عليه.
وقد كان له عشرة من الولد ذكورا وإناثا، وكانت إحدى زوجاته أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص - أخت مروان بن الحكم - ولما حضرت سعيدا الوفاة جمع بنيه وقال لهم: لا يفقدن أصحابي غير وجهي، وصلوهم بما كنت أصلهم به، وأجروا عليهم ما كنت أجري عليهم، واكفوهم مؤنة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه، وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجته أعظم منة عليكم مما تعطونه.
ثم
أوصاهم بوصايا كثيرة، منها أن يوفوا ما عليه من الدين والوعود، وأن لا يزوجوا أخوانهم إلا من الاكفاء، وأن يسودوا أكبرهم.
فتكفل بذلك كله ابنه عمرو بن سعيد الاشدق، فلما مات دفنه بالبقيع ثم ركب عمرو إلى معاوية فعزاه فيه واسترجع معاوية وحزن عليه وقال: هل ترك من دين عليه ؟ قال: نعم ! قال: وكم هو ؟ قال: ثلثمائة ألف درهم، وفي رواية ثلاثة آلاف ألف درهم (1)، فقال معاوية: هي علي ! فقال ابنه: يا أمير المؤمنين، إنه أوصاني أن لا أقضي دينه إلا من ثمن أراضيه، فاشترى منه معاوية أراضي بمبلغ الدين، وسأل منه عمرو أن يحملها إلى المدينة فحملها له، ثم شرع عمرو يقضي ما على أبيه من الدين حتى لم يبق أحد، فكان من جملة من طالبه شاب معه رقعة من أديم فيها عشرون ألفا، فقال له عمرو: كيف استحققت هذه على أبي ؟ فقال الشاب: إنه كان يوما يمشي وحده فأحببت أن أكون معه حتى يصل إلى منزله، فقال: ابغني رقعة من أدم، فذهبت إلى الجزارين فأتيته بهذه فكتب لي فيها هذا المبلغ، واعتذر بأنه ليس عنده اليوم شئ.
فدفع إليه عمرو ذلك المال وزاده شيئا كثيرا، ويروى أن معاوية قال لعمرو بن سعيد: من ترك مثلك لم يمت، ثم قال: رحم الله أبا عثمان: قد مات من هو أكبر مني ومن هو أصغر مني، وأنشد قول الشاعر: إذا سار من دون امرئ وأمامه * وأوحش من إخوانه فهو سائر وكانت وفاة سعيد بن العاص في هذه السنة، وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها.
وقال بعضهم: كانت وفاته قبل عبد الله بن عامر بجمعة.
شداد بن أوس بن ثابت ابن المنذر بن حرام، أبو يعلى الانصاري الخزرجي، صحابي جليل، وهو ابن أخي
__________
(1) في أسد الغابة 2 / 311 والاصابة 2 / 48: ثمانون ألف دينار.

حسان بن ثابت.
وحكى ابن منده عن موسى بن عقبة أنه قال: شهد بدرا.
قال ابن منده وهو وهم، وكان من الاجتهاد في العبادة على جانب عظيم، كان إذا أخذ مضجعه تعلق على فراشه
ويتقلب عليه ويتلوى كما تتلوى الحية ويقول: اللهم إن خوف النار قد أقلقني، ثم يقوم إلى صلاته.
قال عبادة بن الصامت: كان شداد من الذين أوتوا العلم والحلم.
نزل شداد فلسطين وبيت المقدس، ومات في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة، وقيل: مات سنة أربع وستين، وقيل سنة إحدى وأربعين.
فالله أعلم.
عبد الله بن عامر ابن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي، ابن خال عثمان بن عفان، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفل في فيه، فجعل يبتلع ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إنه لمسقاء "، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء، وكان كريما ممدحا ميمون النقيبة، استنابه عثمان على البصرة بعد أبي موسى، وولاه بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص، وعمره إذا ذاك خمسا وعشرين سنة، ففتح خراسان كلها، وأطراف فارس وسجستان وكرمان وبلاد غزنة، وقتل كسرى ملك الملوك في أيامه - وهو يزدجرد - ثم أحرم عبد الله بن عامر بحجة، وقيل بعمرة من تلك البلاد شكرا لله عز وجل، وفرق في أهل المدينة أموالا كثيرة جزيلة، وهو أول من لبس الخز بالبصرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهو أول من اتخذ الحياض (1) بعرفة وأجرى إليها الماء المعين والعين، ولم يزل على البصرة حتى قتل عثمان، فأخذ أموال بيت المال وتلقى بها طلحة والزبير وحضر معهم الجمل، ثم سار إلى دمشق، ولم يسمع له بذكر في صفين، ولكن ولاه معاوية البصرة بعد صلحه مع الحسن، وتوفي في هذه السنة بأرضه بعرفات، وأوصى إلى عبد الله بن الزبير.
له حديث واحد، وليس له في الكتب شئ، روى مصعب الزبيري عن أبيه عن حنظلة بن قيس عن عبد الله بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل دون ماله فهو شهيد " وقد زوجه معاوية بابنته هند، وكانت جميلة، فكانت تلي خدمته بنفسها من محبتها له، فنظر يوما في المرآة فرأى صباحة وجهها وشيبة في لحيته فطلقها، وبعث إلى أبيها أن يزوجها بشاب كأن وجهه ورقة مصحف.
توفي في هذه السنة وقيل بعدها بسنة.
عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما
وهو أكبر ولد أبي بكر الصديق، قاله الزبير بن بكار، قال: وكانت فيه دعابة، وأمه أم رومان، وأم عائشة فهو شقيقها، بارز يوم بدر وأخذ مع المشركين، وأراد قتل أبيه أبي بكر، فتقدم إليه أبوه أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمتعنا بنفسك " ثم أسلم عبد الرحمن بعد ذلك في
__________
(1) في الاصابة: السقايات، والحياض والسقايات، الاحواض.

الهدنة، وهاجر قبل الفتح، ورزقه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر كل سنة أربعين وسقا، وكان من سادات المسلمين، وهو الذي دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات وعائشة مسندته إلى صدرها، ومع عبد الرحمن سواك رطب فأخذه بصره، فأخذت عائشة ذلك السواك فقضمته وطيبته، ثم دفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به أحسن استنان ثم قال: " اللهم في الرفيق الاعلا ".
ثم قضى.
قالت: فجمع الله بين ريقي وريقه، ومات بين سحري ونحري، في بيتي ويومي لم أظلم فيه أحدا.
وقد شهد عبد الرحمن فتح اليمامة وقتل يومئذ سبعة، وهو الذي قتل محكم بن الطفيل.
صديق مسيلمة على باطله - كان محكم واقفا في ثلمة حائط فرماه عبد الرحمن فسقط محكم، فدخل المسلمون من الثلمة فخلصوا إلى مسيلمة فقتلوه.
وقد شهد فتح الشام، وكان معظما بين أهل الاسلام ونفل ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام، نفله إياها خالد بن الوليد عن أمر عمر بن الخطاب كما سنذكره مفصلا.
وقد قال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكر - ولم يجرب عليه كذبة قط - ذكر عنه حكاية أنه لما جاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة، قال عبد الرحمن لمروان: جعلتموها والله هرقلية وكسروية - يعني جعلتم ملك الملك لمن بعده من ولده - فقال له مروان: اسكت فإنك أنت الذي أنزل الله فيك: * (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج) * [ الاحقاف: 17 ] فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أنه أنزل عذري، ويروى أنها بعثت إلى مروان تعتبه وتؤنبه وتخبره بخبر فيه ذم له ولابيه لا يصح عنها، قال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري
عن أبيه عن جده.
قال: بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها، وقال: أبيع ديني بدنياي ؟ وخرج إلى مكة فمات بها.
وقال أبو زرعة الدمشقي: ثنا أبو مسهر ثنا مالك قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومة نامها.
ورواه أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد فذكره وزاد: فأعتقت عنه عائشة رقابا.
ورواه الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم فذكره.
ولما توفي كانت وفاته بمكان يقال له الحبشي - على ستة أميال من مكة، وقيل اثني عشر ميلا - فحمله الرجال على أعناقهم حتى دفن بأعلى مكة، فلما قدمت عائشة مكة زارته وقالت: أما والله لو شهدتك لم أبك عليك، ولو كنت عندك لم أنقلك من موضعك الذي مت فيه، ثم تمثلت بشعر متمم بن نويرة في أخيه مالك: وكنا كندماني جذيمة برهة (1) * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالك * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا رواه الترمذي وغيره.
وروى ابن سعد أن ابن عمر مرة رأى فسطاطا مضروبا على قبر
__________
(1) في الاستيعاب وأسد الغابة حقبة.

عبد الرحمن - ضربته عائشة بعدما ارتحلت - فأمر ابن عمر بنزعه وقال: إنما يظله عمله.
وكانت وفاته في هذا العام في قول كثير من علماء التاريخ، ويقال إن عبد الرحمن توفي سنة ثلاث وخمسين قاله الواقدي وكاتبه محمد بن سعد وأبو عبيد وغير واحد، وقيل سنة أربع وخمسين فالله أعلم.
قصته مع ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الحزامي عن أبيه أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قدم الشام في تجارة - يعني في زمان جاهليته - فرأى امرأة يقال لها ليلى ابنة الجودي على طنفسة لها وحولها ولائدها فأعجبته، قال ابن عساكر: رآها بأرض بصرى فقال فيها: تذكرت ليلى والسماوة دونها * فمال ابنة الجودي ليلى وماليا
وأنى تعاطى قلبه حارثية * تؤمن بصرى أو تحل الحوابيا وإني بلاقيها (1) بلى ولعلها * إن الناس حجوا قابلا أن توافيا قال: فلما بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال للامير على الجيش: إن ظفرت بليلى بنت الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فظفر بها فدفعها إليه فأعجب بها وآثرها على نسائه حتى جعلن يشكونها إلى عائشة، فعاتبته عائشة على ذلك، فقال: والله كأني أرشف بأنيابها (2) حب الرمان، فأصابها وجع سقط له فوها فجفاها حتى شكته إلى عائشة، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن لقد أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضتها فأفرطت، فإما أن تنصفها وإما أن تجهزها إلى أهلها.
قال الزبيري: وحدثني عبد الله بن نافع عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه.
قال: إن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي حين فتح دمشق، وكانت ابنة ملك دمشق - يعني ابنة ملك العرب الذين حول دمشق - والله أعلم.
عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أصغر من أخيه عبد الله بسنة، وأمها أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، وكان عبيد الله كريما جميلا وسيما يشبه أباه في الجمال، روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا صفا ويقول: من سبق إلي فله كذا، فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم ".
وقد استنابه علي بن أبي طالب في
__________
(1) في الاصابة 2 / 408 وأسد الغابة 3 / 305: وأنى تلاقيها...(2) في أسد الغابة: أرشف من ثناياها.

أيام خلافته على اليمن.
وحج بالناس سنة ست وثلاثين وسنة سبع وثلاثين، فلما كان سنة ثمان وثلاثين اختلف هو ويزيد بن سمرة (1) الرهاوي الذي قدم على الحج من جهة معاوية، ثم اصطلحا على شيبة بن عثمان الحجبي، فأقام للناس الحج عامئذ، ثم لما صارت الشوكة لمعاوية
تسلط على عبيد الله بسر بن أبي أرطاة فقتل له ولدين، وجرت أمور باليمن قد ذكرنا بعضها.
وكان يقدم هو وأخوه عببد الله المدينة فيوسعهم عبد الله علما، ويوسعهم عبيد الله كرما.
وقد روي أنه نزل في مسير له مع مولى له على خيمة رجل من الاعراب، فلما رآه الاعرابي أعظمه وأجله، ورأى حسنه وشكله، فقال لامرأته: ويحك ماذا عندك لضيفنا هذا ؟ فقالت: ليس عندنا إلا هذه الشويهة التي حياة ابنتك من لبنها، فقال: إنها لابد من ذبحها، فقالت: أتقتل ابنتك ؟ فقال: وإن، فأخذ الشفرة والشاة وجعل يذبحها ويسلخها وهو يقول مرتجزا: يا جارتي لا توقظي البنية * إن توقظيها تنتحب عليه وتنزع الشفرة من يديه ثم هيأها طعاما فوضعها بين يدي عبيد الله ومولاه فعشاهما، وكان عبيد الله قد سمع محاورته لامرأته في الشاة، فلما أراد الارتحال قال لمولاه: ويلك ماذا معك من المال ؟ فقال: معي خمسمائة دينار فضلت من نفقتك، فقال: ادفعها إلى الاعرابي، فقال: سبحان الله ! تعطيه خمسمائة دينار وإنما ذبح لك شاة واحدة تساوي خمسة دراهم ؟ فقال: ويحك والله لهو أسخى منا وأجود، لانا إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا بجميع ما يملك، وآثرنا على مهجة نفسه وولده.
فبلغ ذلك معاوية فقال: لله در عبيد الله، من أي بيضة خرج ؟.
ومن أي شئ درج.
قال خليفة بن خياط: توفي سنة ثمان وخمسين.
وقال غيره: توفي في أيام يزيد بن معاوية، قال أبو عبيد القاسم بن سلام ! توفي في سنة سبع وثمانين، وكانت وفاته بالمدينة، وقيل باليمن، وله حديث واحد، قال أحمد: ثنا هشيم، ثنا يحيى بن [ أبي ] إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس قال: جاءت العميصا - أو الرميصا - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها تزعم أنه لا يصل إليها، فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها فزعم أنها كاذبة، وأنها تريد أن ترجع إلى زوجها الاول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس لك ذلك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره " (2) وأخرجه النسائي عن علي بن حجرة عن هشيم به.
وممن توفي فيها: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق
وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أزواجه إليه، المبرأة من فوق سبع سموات رضي الله
__________
(1) في الاستيعاب 2 / 430 وأسد الغابة 3 / 340: شجرة.
(2) مسند أحمد ج 1 / 214.

عنها، وعن أبيها.
وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، تكنى عائشة بأم عبد الله، قيل كناها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير، وقيل إنها أسقطت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سقطا فسماه عبد الله، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها، تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حريرة، مرتين أو ثلاثا، فيقول: هذه زوجتك.
قال: " فأكشف عنك فإذا هي أنت، فأقول، إن يكن هذا من عند الله يمضه، فخطبها من أبيها فقال: يا رسول الله أو تحل لك ؟ قال: نعم ! قال: أو لست أخوك ؟ قال: بلى في الاسلام، وهي لي حلال، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضيت عنده ".
وقد قدمنا ذلك في أول السيرة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين، وقيل بسنة ونصف، وقيل بثلاث سنين، وكان عمرها إذ ذاك ست سنين ثم دخل بها وهي بنت تسع سنين بعد بدر، في شوال من سنة ثنتين من الهجرة فأحبها.
ولما تكلم فيها أهل الافك بالزور والبهتان، غار الله لها فأنزل براءتها في عشر آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان.
وقد ذكرنا ذلك مفصلا فيما سلف، وشرحنا الآيات والاحاديث الواردة في ذلك في غزوة المريسيع، وبسطنا ذلك أيضا في كتاب التفسير بما فيه كفاية ومقنع، ولله الحمد والمنة.
وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها، واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين، هل يكفر من قذفهن أم لا ؟ على قولين، وأصحهما أنه يكفر، لان المقذوفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضب لها لانها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء.
ومن خصائصها رضي الله عنها أنها كان لها في القسم يومان يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقربا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته
في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا وكيع عن إسماعيل عن مصعب بن إسحاق بن طلحة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: " إنه ليهون علي أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة " (1) تفرد به أحمد.
وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة أنه يرتاح لانه رأى بياض كفها أمامه في الجنة.
ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم النساء على الاطلاق.
قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة.
وقال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة، ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها، وقال أبو موسى الاشعري: " ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما " (2).
رواه الترمذي، وقال أبو الضحى عن مسروق: رأيت
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 6 / 138.
(2) رواه الترمذي في المناقب ح 3883 ص 5 / 705.

مشيخة أصحاب محمد الاكابر يسألونها عن الفرائض.
فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الاصول من إيراد حديث: " خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء " (1) فإنه ليس له أصل ولا هو مثبت في شئ من أصول الاسلام، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال: لا أصل له.
ثم لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها عمرة بنت عبد الرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة.
وقد تفردت أم المؤمنين عائشة بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها، وانفردت باختيارات أيضا وردت أخبار بخلافها بنوع من التأويل.
وقد جمع ذلك غير واحد من الائمة، فمن ذلك قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات.
وثبت في صحيح البخاري من حديث أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص.
قال: " قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟
قال: عائشة، قلت: ومن الرجال ؟ قال: أبوها " وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (2) وقد استدل كثير من العلماء ممن ذهب إلى تفضيل عائشة على خديجة بهذا الحديث، قال: فإنه دخل فيه سائر النساء الثلاث المذكورات وغيرهن، ويعضد ذلك أيضا الحديث الذي رواه البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل ثنا، علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة.
قالت: " استأذنت هالة بنت خويلد - أخت خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة، قالت عائشة: فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر الاول، قد أبدلك الله خيرا منها ؟ " هكذا رواه البخاري، فأما ما يروى فيه من الزيادة: " والله ما أبدلني خيرا منها " فليس يصح سندها.
وقد ذكرنا ذلك مطولا عند وفاة خديجة، وذكرنا حجة من ذهب إلى تفضيلها على عائشة بما أغنى عن إعادتها ههنا.
وروى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما: " يا عائش هذا جبرئيل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى مالا أرى " (1) وثبت في صحيح البخاري أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمع أزواجه إلى أم سلمة وقلن لها: قولي له يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان، فقالت أم سلمة: فلما دخل علي قلت له ذلك فأعرض عني، ثم قلن لها ذلك فقالت له فأعرض عنها، ثم لما دار إليها قالت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي في بيت وأنا في لحاف امرأة منكن
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب ح 3885 ص 5 / 706.
(2) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ح 3770 فتح الباري 7 / 106 والترمذي في المناقب ح 3887 ص 5 / 706.

غيرها " (1) وذكر أنهن بعثن فاطمة ابنته إليه فقالت: " إن نساءك ينشدونك العدل في ابنة أبي
بكر بن أبي قحافة، فقال: يا بنية ألا تحبين من أحب ؟ قالت: قلت بلى ! قال: فأحبي هذه ".
ثم بعثن زينب بنت جحش فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فتكلمت زينب ونالت من عائشة، فانتصرت عائشة منها وكلمتها حتى أفحمتها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عائشة ويقول: " إنها ابنة أبي بكر ".
وذكرنا أن عمارا لما جاء يستصرخ الناس ويستنفرهم إلى قتال طلحة والزبير أيام الجمل، صعد هو والحسن بن علي على منبر الكوفة، فسمع عمار رجلا ينال من عائشة فقال له: اسكت مقبوحا منبوذا، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أو إياها (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، ثنا عبد الله بن خثيم، حدثني عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان - حاجب عائشة - أنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة فجئت - وعند رأسها عبد الله ابن أخيها عبد الرحمن - فقلت: هذا ابن عباس يستأذن، فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال: هذا عبد الله بن عباس يستأذن - وهي تموت - فقالت: دعني من ابن عباس، فقال: يا أماه ! ! إن ابن عباس من صالح بنيك يسلم عليك ويودعك، فقالت: ائذن له إن شئت، قال فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري فقالت: بماذا ؟ فقال: ما بينك وبين أن تلقي محمدا والاحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبا، وسقطت قلادتك ليلة الابواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم، فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله من الرخصة لهذه الامة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها الروح الامين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار، فقالت: دعني منك يا بن عباس، والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا.
والاحاديث في فضائلها ومناقبها كثيرة جدا.
وقد كانت وفاتها في هذا العام سنة ثمان وخمسين وقيل قبله بسنة، وقيل بعده بسنة، والمشهور في رمضان منه وقيل في شوال، والاشهر ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان، وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا، وصلى عليها أبو هريرة بعد صلاة الوتر، ونزل في قبرها خمسة، وهم عبد الله وعروة ابنا الزبير بن العوام، من أختها أسماء بنت أبي بكر، والقاسم
وعبد الله ابنا أخيها محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان عمرها يومئذ سبعا وستين سنة، لانه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرها ثمان عشرة سنة، وكان عمرها عام الهجرة ثمان سنين أو تسع سنين، فالله أعلم ورضي الله تعالى عن أبيها وعن الصحابة أجمعين.
__________
(1) فتح الباري - كتاب المناقب ح 3775 ص 7 / 107 وفي الترمذي - المناقب ح 3879 ص 5 / 703 كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
(2) فتح الباري 7 / 106 كتاب المناقب ح 3772.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين فيها شتى عمرو بن مرة الجهني في أرض الروم في البر، قاله الواقدي، ولم يكن فيها غزو في البحر، وقال غيره: بل غزا في البحر عامئذ جنادة بن أبي أمية.
وفيها عزل معاوية ابن أم الحكم عن الكوفة لسوء سيرته فيهم، وولى عليهم النعمان بن بشير.
وفيها ولى معاوية عبد الرحمن بن زياد ولاية خراسان وعزل عنها سعيد بن عثمان بن عفان، فصار عبيد الله على البصرة، وأخوه عبد الرحمن هذا على خراسان، وعباد بن زياد على سجستان، ولم يزل عبد الرحمن عليها واليا إلى زمن يزيد، فقدم عليه بعد مقتل الحسين فقال له: كم قدمت به من هذا المال ؟ قال: عشرون ألف ألف، فقال له: إن شئت حاسبناك، وإن شئت سوغناكها وعزلناك عنها، على أن تعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، قال: بل سوغها، وأما عبد الله بن جعفر فأعطيه ما قلت ومثلها معها، فعزله وولى غيره، وبعث عبد الرحمن بن زياد إلى عبد الله بن جعفر بألف ألف درهم، وقال: خمسمائة ألف من جهة أمير المؤمنين، وخمسمائة ألف من قبلي.
وفي هذه السنة وفد عبيد الله بن زياد على معاوية ومعه أشراف أهل البصرة والعراق، فاستأذن لهم عبد الله عليه على منازلهم منه، وكان آخر من أدخله على معاوية الاحنف بن قيس، - ولم يكن عبيد الله يجله - فلما رأى معاوية الاحنف رحب به وعظمه وأجله وأجلسه معه على السرير، ورفع منزلته، ثم تكلم القوم فأثنوا على عبيد الله والاحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك يا أبا بحر لا تتكلم ؟ فقال
له: إن تكلمت خالفت القوم، فقال معاوية: انهضوا فقد عزلته عنكم فاطلبوا واليا ترضونه، فمكثوا أياما يترددون إلى أشراف بني أمية، يسألون كل واحد أن يتولى عليهم فلم يقبل أحد منهم ذلك، ثم جمعهم معاوية فقال: من اخترتم ؟ فاختلفوا عليه، والاحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك لا تتكلم ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد غير أهل بيتك فرأيك فقال معاوية: قد أعدته إليكم.
وقال ابن جرير: قال الاحنف: يا أمير المؤمنين إن وليت علينا من أهل بيتك فإنا لا نعدل بعبيد الله بن زياد أحدا، وإن وليت علينا من غيرهم فانظر لنا في ذلك.
فقال معاوية: قد أعدته إليكم.
ثم إن معاوية أوصى عبيد الله بن زياد بالاحنف خيرا، وقبح رأيه فيه وفي مباعدته، فكان الاحنف بعد ذلك أخص أصحاب عبيد الله، ولما وقعت الفتنة لم يف لعبيد الله غير الاحنف بن قيس، والله أعلم.
قصة يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري مع ابني زياد عبيد الله وعباد ذكر ابن جرير عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وغيره أن هذا الرجل كان شاعرا، وكان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، وضاق على الناس علف الدواب، فقال ابن مفرغ شعرا يهجو به ابن زياد على ما كان منه فقال: ألا ليت اللحى كانت حشيشا * فنعلفها خيول المسلمينا

وكان عباد بن زياد عظيم اللحية كبيرها جدا، فبلغه ذلك فغضب وتطلبه فهرب منه وقال فيه قصائده يهجوه بها كثيرة فمن ذلك قوله: إذا أودى معاوية بن حرب * فبشر شعب قعبك بانصداع فأشهد أن أمك لم تباشر * أبا سفيان واضعة القناع ولكن كان أمرا فيه لبس * على خوف (1) شديد وارتياع وقال أيضا: ألا أبلغ معاوية بن حرب * مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف * وترضى أن يقال أبوك زاني فأشهد أن رحمك من زياد * كرحم الفيل من ولد الاتان فكتب عباد بن زياد إلى أخيه عبيد الله وهو وافد على معاوية بهذه الابيات، فقرأها عبيد الله على معاوية واستأذنه في قتله، فقال: لا تقتله، ولكن أدبه ولا تبلغ به القتل، فلما رجع عبيد الله إلى البصرة استحضره وكان قد استجار بوالد زوجة عبيد الله بن زياد، وهو المنذر بن الجارود، وكانت ابنته بحرية عند عبيد الله، فأجاره وآواه إلى داره، وجاء الجارود مسلما على عبيد الله، وبعث عبيد الله الشرط إلى دار المنذر فجاؤوا بابن مفرغ فأوقف بين يديه، فقال المنذر: إني قد أجرته، فقال: يمدحك ويمدح أباك فترضى به، ويهجوني ويهجو أبي ثم تجيره علي، ثم أمر عبيد الله بابن مفرغ فسقي دواء مسهلا وحملوه على حمار عليه إكاف وجعلوا يطوفون به في الاسواق وهو يسلح والناس ينظرون إليه، ثم أمر به فنفي إلى سجستان إلى عند أخيه عباد، فقال ابن مفرغ لعبيد الله بن زياد: يغسل الماء ما صنعت وقولي * راسخ منك في العظام البوالي فلما أمر عبيد الله بنفي ابن مفرغ إلى سجستان، كلم اليمانيون معاوية في أمر ابن مفرغ، وأنه إنما بعثه إلى أخيه ليقتله، فبعث معاوية إلى ابن مفرغ وأحضره، فلما وقفت بين يديه بكى وشكى إلى معاوية ما فعل به ابن زياد، فقال له معاوية: إنك هجوته، ألست القائل كذا ؟ ألست القائل كذا ؟ فأنكر أن يكون قال من ذلك شيئا، وذكر أن القائل ذلك هو عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان، وأحب أن يسندها إلي، فغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم ومنعه العطاء حتى يرضى عنه عبيد الله بن زياد، وأنشد ابن مفرغ ما قاله في الطريق في معاوية يخاطب راحلته:
__________
(1) في الطبري والكامل: وجل.

عدس ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوة الردى * إمام وحبل للانام وثيق سأشكر ما أوليت من حسن نعمة * ومثلي بشكر المنعمين حقيق فقال له معاوية: أما لو كنا نحن الذين هجوتنا لم يكن من أذانا شئ يصل إليك، ولم نتعرض لذلك، فقال: يا أمير المؤمنين إنه ارتكب في ما لم يرتكب مسلم من مسلم على غير حدث ولا جرم، قال: ألست القائل كذا ؟ ألست القائل كذا ؟ فقد عفونا عن جرمك، أما إنك لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شئ فانظر الآن من تخاطب ومن تشاكل، فليس كل أحد يحتمل الهجاء، ولا تعامل أحدا إلا بالحسنى، وانظر لنفسك أي البلاد أحب إليك تقيم بها حتى نبعثك إليها، فاختار الموصل فأرسله إليها، ثم استأذن عبيد الله في القدوم إلى البصرة والمقام بها فأذن له.
ثم إن عبد الرحمن ركب إلى عبيد الله فاسترضاه فرضي عنه وأنشده عبد الرحمن: لانت زيادة في آل حرب * أحب إلي من إحدى بناني أراك أخا وعما وابن عم * فلا أدري بغيب ما تراني فقال له عبيد الله: أراك والله شاعر سوء، ثم رضي عنه وأعاد إليه ما كان منعه من العطاء.
قال أبو معشر والواقدي: وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وكان نائب المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وقاضيها شريح، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الاعور الحارثي، من قبل عبيد الله بن زياد.
من توفي في هذه السنة من الاعيان قال ابن الجوزي: توفي فيها أسامة بن زيد، والصحيح قبلها كما تقدم.
الحطيئة الشاعر واسمه جرول (1) بن مالك بن جرول بن مالك بن جوية بن مخزوم بن مالك بن قطيعة بن عيسى بن مليكة، الشاعر الملقب بالحطيئة لقصره (2)، أدرك الجاهلية وأسلم في زمن الصديق،
__________
(1) في الاصابة 1 / 378: جرول بن أوس بن مالك بن حيوة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس
العبسي.
(انظر الاغاني 2 / 157 طبقات ابن سلام: 93 الشعر والشعراء: 238).
(2) في الاغاني 2 / 157 والاصابة 1 / 378: لقب بالحطيئة لانه ضرط ضرطة بين قوم، فقيل له، ما هذا ؟ فقال: إنما هي حطيئة: فسمي الحطيئة.
والحطيئة تصغير حطأة: فعلة من قولهم حطأ حطأ إذا ضرط (تاج العروس).

وكان كثير الهجاء حتى يقال إنه هجا أباه وأمه، وخاله وعمه، ونفسه وعرسه، فمما قال في أمه قوله: تنحي فاقعدي عني بعيدا (1) * أراح الله منك العالمينا أغربالا إذا استودعت سرا * وكانونا على المتحدثينا (2) جزاك الله شرا من عجوز * ولقاك العقوق من البنينا وقال في أبيه وعمه وخاله: لحاك الله ثم لحاك حقا * أبا ولحاك من عم وخال فنعم الشيخ أنت لدى المخازي * وبئس الشيخ أنت لدي المعالي ومما قال في نفسه يذمها (3): أبت شفتاي اليوم أن تتكلما * بشر فما أدري لمن أنا قائله ؟ أرى لي وجها شوه (4) الله خلقه * فقبح من وجه وقبح حامله وقد شكاه الناس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأحضره وحبسه، وكان سبب ذلك أن الزبرقان بن بدر شكاه لعمر أنه قال له يهجوه: دع المكارم لا ترحل لبغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فقال له عمر: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه لا يكون هجاء أشد من هذا، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله عن ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين ما هجاه ولكن سلح عليه، فعند ذلك حبسه عمر وقال: يا خبيث لاشغلنك عن أعراض
المسلمين، ثم شفع فيه عمرو بن العاص فأخرجه وأخذ عليه العهد أن لا يهجو الناس واستتابه، ويقال إنه أراد أن يقطع لسانه فشفعوا فيه حتى أطلقه، وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحرامي عن عبد الله بن مصعب حدثني عن ربيعة بن عثمان عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: أمر عمر بإخراج الحطيئة من الحبس وقد كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأخرج وأنا حاضر فأنشأ يقول:
__________
(1) في الكامل للمبرد 1 / 354 وفوات الوفيات 1 / 276 والاغاني 2 / 163: تنحي فاجلسي عني بعيدا...(2) الكانون: قيل النمام، وقيل الثقيل، وقيل الذي إذا دخل على القوم كنوا حديثهم منه وقيل هو المصطلي.
وقيل الغربال: النمام أيضا.
(3) في الكامل للمبرد وقوات الوفيات: اطلع في حوض ماء فرأس وجهه فقال: (4) في الكامل للمبرد وفوات الوفيات: قبح.

ماذا تقول لافراخ بذي مرخ (1) * زغب (2) الحواصل لا ماء ولا شجر غادرت كاسبهم في قعر مظلمة * فارحم هداك مليك الناس يا عمر (3) أنت الامام الذي من بعد صاحبه * ألقى إليك مقاليد النهى البشر لم يؤثروك بها إذ قدموك لها * لكن لانفسهم كانت بك الاثر (4) فامنن على صبية بالرمل مسكنهم * بين الاباطح يغشاهم بها القدر (5) نفسي فداؤك كم بيني وبينهم * من عرض وادية يعمى بها الخبر قال: فلما قال الحطيئة: ماذا تقول الافراخ بذي مرخ، بكى عمر، فقال عمرو بن العاص: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة.
ثم ذكروا أنه أراد قطع لسان الحطيئة لئلا يهجو به الناس فأجلسه على كرسي وجئ بالموسى، فقال الناس: لا يعود يا أمير المؤمنين وأشاروا إليه قل: لا أعود، فقال له عمر النجا، فلما ولى قال له عمر: ارجع يا حطيئة، فرجع فقال له: كأني بك عند شاب من قريش قد كسر لك نمرقة، وبسط لك
أخرى، وقال: يا حطيئة غننا، فاندفعت تغنيه بأعراض الناس، قال أسلم: فرأيت الحطيئة بعد ذلك عند عبيد الله بن عمرو وقد كسر له نمرقة وبسط له أخرى، وقال: يا حطيئة غننا فاندفع حطيئة يغني، فقلت له: يا حطيئة أتذكر يوم عمر حين قال لك ما قال ؟ ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء، لو كان حيا ما فعلنا هذا، فقلت لعبيد الله: إني سمعت أباك يقول كذا وكذا فكنت أنت ذلك الرجل، وقال الزبير: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال قال عمر للحطيئة: دع قول الشعر.
قال لا أستطيع، قال: لم ؟ قال: هو مأكلة عيالي، وعلة لساني، قال: فدع المدحة المجحفة، قال: وما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال تقول بنو فلان أفضل من بني فلان، امدح ولا تفضل، فقال: أنت أشعر مني يا أمير المؤمنين.
ومن مديحه الجيد المشهور قوله: أقلوا عليهم لا أبا لابيكم * من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا أولئك قومي إن بنوا أحسنوا البنا * وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها * وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
__________
(1) مرخ: قال ياقوت: واد بين فدك والوابشية كثير الشجر.
ويروى بذي أمر: موضع بنجد من ديار غطفان.
(2) في الكامل للمبرد: حمر.
(3) في الاغاني 2 / 186 وفوات الوفيات 12 / 277 والكامل للمبرد 1 / 353: ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة...فاغفر عليك سلام الله يا عمر (4) الاثر: جمع أثرة وهي المكرمة، وفي الديوان: كانت بها الخير.
(5) في الاغاني: أهلي...من عرض داوية...والداوية والدوية: الفلاة الواسعة.

قالوا: ولما احتضر الحطيئة قيل له أوص قال أوصيكم بالشعر، ثم قال: الشعر صعب وطويل سلمه * إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه * والشعر لا يستطبعه من يظلمه أراد أن يعربه فأعجمه
قال أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم.
توفي الحطيئة في هذه السنة، وذكر أيضا فيها وفاة عبد الله بن عامر بن كريز، وقد تقدم في التي قبلها.
عبد الله بن مالك بن القشب واسمه جندب بن نضلة بن عبد الله بن رافع الازدي، أبو محمد حليف بني عبد المطلب، المعروف بابن بجينة، وهي أمه بحينة بنت الارث، واسمه الحارث بن المطلب بن عبد مناف، أسلم قديما، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ناسكا قواما صواما، وكان ممن يسرد صوم الدهر كله، قال ابن سعد: كان ينزل بطن ريم على ثلاثين ميلا من المدينة، ومات في عمل مروان في المرة الثانية، ما بين سنة أربع وخمسين إلى ثمان وخمسين، والعجب أن ابن الجوزي نقل من كلام محمد بن سعد، ثم إنه ذكر وفاته في هذه السنة - يعني سنة تسع وخمسين فالله أعلم.
قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي صحابي جليل كأبيه، له في الصحيحين حديث، وهو القيام للجنازة، وله في المسند حديث في صوم عاشوراء، وحديث غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارهم وغير ذلك، وخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وثبت في صحيح البخاري عن أنس قال: كان قيس بن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الامير.
وحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، واستعمله على الصدقة، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح ومعه ثلثمائة من المهاجرين والانصار، فأصابهم ذلك الجهد الكثير فنحر لهم قيس بن سعد تسع جزائر، حتى وجدوا تلك الدابة على سيف البحر فأكلوا منها، وأقاموا عليها شهرا حتى سمنوا، وكان قيس سيدا مطاعا كريما ممدحا شجاعا، ولاه علي نيابة مصر، وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص، ولم يزل معاوية يعمل عليه حتى عزله علي عن مصر وولى عليها محمد بن أبي بكر الصديق، فاستخفه معاوية، ولم يزل حتى أخذ منه مصر كما قدمنا.
وأقام قيس عند علي فشهد معه صفين والنهروان ولزمه حتى قتل ثم صار إلى المدينة، فلما اجتمعت الكلمة على معاوية جاءه ليبايعه كما بايعه أصحابه، قال عبد الرزاق عن ابن عيينة قال قدم قيس بن سعد على معاوية فقال له معاوية:
وأنت يا قيس تلجم علي مع من ألجم ؟ أما والله لقد كنت أحب أن لا تأتيني هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع، فقال له قيس: وأنا والله قد كنت كارها أن أقوم في هذا المقام

فأحييك بهذه التحية، فقال له معاوية: ولم ؟ وهل أنت إلا حبر من أحبار اليهود ؟ فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنت صنما من أصنام الجاهلية، دخلت في الاسلام كارها، وخرجت منه طائعا، فقال معاوية: اللهم غفرا، مد يدك، فقال له قيس بن سعد: إن شئت.
زدت وزدت.
وقال موسى بن عقبة: قالت عجوز لقيس: أشكو إليك قلة فأر بيتي، فقال قيس: ما أحسن هذه الكناية ! ! املاوا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا.
وقال غيره: كانت له صحفة يدار بها حيث دار، وكان ينادي له مناد: هلموا إلى اللحم والثريد وكان أبوه وجده من قبله يفعلان كفعله، وقال عروة بن الزبير: باع قيس بن سعد من معاوية أرضا بتسعين ألفا، فقدم المدينة فنادى مناديه: من أراد القرض فليأت، فأقرض منها خمسين ألفا وأطلق الباقي، ثم مرض بعد ذلك فقل عواده، فقال لزوجته - قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصديق - إني أرى قلة من عادني في مرضي هذا، وإني لارى ذلك من أجل مالي على الناس من القرض، فبعث إلى كل رجل ممن كان له عليه دين بصكه المكتوب عليه، فوهبهم ماله عليهم، وقيل: إنه أمر مناديه فنادى: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو منه في حل، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه من كثرة العواد، وكان ؟ قول: اللهم ارزقني مالا وفعالا، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.
وقال سفيان الثوري: اقترض رجل من قيس بن سعد ثلاثين ألفا فلما جاء ليوفيه إياها قال له قيس: إنا قوم ما أعطينا أحدا شيئا فنرجع فيه.
وقال الهيثم بن عدي: اختلف ثلاثة عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم، فقال أحدهم: عبد الله بن جعفر، وقال الآخر: قيس بن سعد، وقال الآخر: عرابة الاوسي، فتماروا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة، فقال لهم رجل: فليذهب كل رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره، فلينظر ما يعطيه وليحكم على العيان.
فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه فوجده قد وضع رجله في الغرز ليذهب إلى ضيعة له، فقال له: يا بن عم رسول الله ابن
سبيل ومنقطع به، قال: فأخرج رجله من الغرز وقال: ضع رجلك واستو عليها فهي لك بما عليها، وخذ ما في الحقيبة ولا تخدعن عن السيف فإنه من سيوف علي، فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة وإذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار، ومطارف من خز وغير ذلك، وأجل ذلك سيف علي بن أبي طالب.
ومضى صاحب قيس بن سعد إليه فوجده نائما، فقالت له الجارية: ما حاجتك إليه ؟ قال: ابن سبيل ومنقطع به، قالت: فحاجتك أيسر من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس مال غيره اليوم، واذهب إلى مولانا في معاطن الابل فخذ لك ناقة وعبدا، واذهب راشدا.
فلما استيقظ قيس من نومه أخبرته الجارية بما صنعت فأعتقها شكرا على صنيعها ذلك، وقال: هلا أيقظتيني حتى أعطيه ما يكفيه أبدا، فلعل الذي أعطيتيه لا يقع منه موقع حاجته.
وذهب صاحب عرابة الاوسي إليه فوجده وقد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكأ على عبدين له - وكان قد كف بصره - فقال له: يا عرابة، فقال: قل، فقال: ابن سبيل ومنقطع به، قال: فخلى عن العبدين ثم صفق بيديه، باليمنى على اليسرى، ثم قال أوه أوه، والله ما أصبحت ولا

أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئا، ولكن خذ هذين العبدين، قال: ما كنت لافعل، فقال: إن لم تأخذهما فهما حران، فإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ.
وأقبل يلتمس الحائط بيده، قال: فأخذهما وجاء بهما إلى صاحبيه، قال فحكم الناس على أن ابن جعفر قد جاد بمال عظيم، وأن ذلك ليس بمستنكر له، إلا أن السيف أجلها.
وأن قيسا أحد الاجواد حكم مملوكته في ماله بغير علمه واستحسن فعلها وعتقها شكرا لها على ما فعلت، وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الاوسي، لانه جاد بجميع ما يملكه، وذلك جهد من مقل.
وقال سفيان الثوري عن عمرو عن أبي صالح قال: قسم سعد بن عبادة ماله بين أولاده وخرج إلى الشام فمات بها، فولد له ولد بعد وفاته، فجاء أبو بكر وعمر إلى قيس بن سعد فقالا: إن أباك قسم ماله ولم يعلم بحال هذا الولد إذ كان حملا، فاقسموا له معكم، فقال قيس: إني لا أغير ما فعله سعد ولكن نصيبي له.
ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين فذكره.
ورواه عبد الرزاق
عن ابن جريج أخبرني عطاء فذكره.
وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أبو نعيم ثنا مسعر، عن معبد بن خالد.
قال: كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعا أصبعه المسبحة - يعني يدعو - وقال هشام بن عمار: ثنا الجراح بن مليح ثنا أبو رافع عن قيس بن سعد.
قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المكر والخديعة في النار ": لكنت من أمكر هذه الامة.
وقال الزهري: دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل وكانا مع علي، وكان المغيرة معتزلا بالطائف حتى حكم الخصمان فصارا إلى معاوية.
وقد تقدم أن محمد بن أبي حذيفة كان قد تغلب على مصر وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، نائب عثمان بعد عمرو بن العاص، فأقره عليها علي مدة يسيرة ثم عزله بقيس بن سعد، فلما دخلها سار فيها سيرة حسنة وضبطها، وذلك سنة ست وثلاثين، فثقل أمره على معاوية وعمرو بن العاص، فكاتباه ليكون معهما على علي فامتنع وأظهر للناس مناصحته لهما، وفي الباطن هو مع علي، فبلغ ذلك عليا فعزله وبعث إلى مصر الاشتر النخعي فمات الاشتر في الرملة قبل أن يصل إليها، فبعث علي محمد بن أبي بكر فخف أمره على معاوية وعمرو، فلم يزالا حتى أخذا منه الديار المصرية، وقتل محمد بن أبي بكر هذا وأحرق في جيفة حمار.
ثم سسار قيس إلى المدينة، ثم سار إلى علي بن أبي طالب إلى العراق، فكان معه في حروبه حتى قتل علي، ثم كان مع الحسن بن علي حين سار إلى معاوية ليقاتله، فكان قيس على مقدمة الجيش، فلما بايع الحسن معاوية ساء قيسا ذلك وما أحبه، وامتنع من طاعته معاوية، ثم ارتحل إلى المدينة، ثم قدم على معاوية في وفد من الانصار فبايع معاوية بعد معاتبة شديدة وقعت بينهما، وكلام فيه غلظة، ثم أكرمه معاوية وقدمه وحظي عنده، فبينما هو مع الوفد عند معاوية إذ قدم كتاب ملك الروم على معاوية وفيه: أن ابعث إلي بسراويل أطول رجل في العرب، فقال معاوية: ما أرنا إلا قد احتجنا إلا سراويلك ؟ - وكان قيس مديد القامة جدا لا يصل أطول الرجال إلى صدره - فقام قيس فتنحى

ثم خلع سراويله فألقاها إلى معاوية فقال له معاوية: لو ذهبت إلى منزلك ثم أرسلت بها إلينا،
فأنشأ قيس يقول عند ذلك: أردت بها كي يعلم الناس أنها * سراويل قيس والوفود شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه * سراويل غادي سمد وثمود وإني من الحي اليماني لسيد * وما الناس إلا سيد ومسود فكدهم بمثلي إن مثلي عليهم * شديد وخلقي في الرحال مديد وفضلني في الناس أصل ووالد * وباع به أعلو الرجال مديد قال: فأمر معاوية أطول رجل في الوفد فوضعها على أنفه فوقعت بالارض، وفي رواية أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه يزعم أن أحدهما أقوى الروم، والآخر أطول الروم فانظر هل في قومك من يفوقهما في قوة هذا وطول هذا ؟ فإن كان في قومك من يفوقهما بعثت إليك من الاسارى كذا وكذا، ومن التحف كذا وكذا، وإن لم يكن في جيشك من هو أقوى وأطول منهما فهادني ثلاث سنين.
فلما حضرا عند معاوية قال: من لهذا القوي ؟ فقالوا: ماله إلا أحد رجلين، إما محمد بن الحنفية، أو عبد الله بن الزبير، فجئ بمحمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب، فلما اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية: أتعلم فيم أرسلت إليك ؟ قال: لا ! فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه، فقال للرومي: إما أن تجلس لي أو أجلس إليك وتناولني يدك أو أناولك يدي، فأينا قدر على أن يقيم الآخر من مكانه غلبه، وإلا فقد غلب.
فقال له: ماذا تريد ؟ تجلس أو أجلس ؟ فقال له الرومي: بل اجلس أنت، فجلس محمد بن الحنفية وأعطى الرومي يده فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيله من مكانه أو يحركه ليقيمه فلم يقدر على ذلك، ولا وجد إليه سبيلا، فغلب الرومي: عند ذلك، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غلب، ثم قام محمد بن الحنفية فقال للرومي اجلس لي، فجلس وأعطى محمدا يده فما أمهله أن أقامه سريعا، ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الارض فسر بذلك معاوية سرورا عظيما، ونهض قيس بن سعد فتنحى عن الناس ثم خلع سراويله وأعطاها لذلك الرومي الطويل فلبسها فبلغت إلى ثدييه وأطرافها تخط بالارض، فاعترف الرومي بالغلب، وبعث ملكهم ما كان
التزمه لمعاوية، وعاتب الانصار قيس بن سعد في خلعه سراويله بحضرة الناس فقال: ذلك الشعر المتقدم معتذرا به إليهم، وليكون ذلك ألزم للحجة التي تقوم على الروم، وأقطع لما حاولوه.
ورواه الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: كان قيس بن سعد رجلا ضخما جسيما صغير الرأس له لحية في ذقنه، وكان إذا ركب الحمار العالي خطت رجلاه الارض، وقال الواقدي وخليفة بن خياط وغير واحد: توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية.
وذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، فتبعناه في ذلك.

معقل بن يسار المزني صحابي جليل، شهد الحديبية، وكان هو الذي كان يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس تحتها، وكانت من السمر، وهي المذكورة في القرآن في قوله تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * [ الفتح: 18 ] وقد ولاه عمر إمرة البصرة فحفر بها النهر المنسوب إليه، فيقال نهر معقل، وله بها دار، قال الحسن البصري: دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار يعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو لم أكن على حالتي هذه لم أحدثك به، سمعته يقول: " من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام ".
وممن توفي في هذه السنة: أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه وقد اختلف في اسمه في الجاهلية والاسلام، واسم أبيه على أقوال متعددة (1)، وقد بسطنا أكثرها في كتابنا التكميل، وقد بسط ذلك ابن عساكر في تاريخه، والاشهر أن اسمه عبد الرحمن بن صخر وهو من الازد، ثم من دوس.
ويقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، وقيل عبد نهم، وقيل عبد غنم، ويكنى بأبي الاسود، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وقيل عبد الرحمن، وكناه بأبي هريرة، وروى عنه أنه قال: وجدت هريرة وحشية فأخذت أولادها فقال
لي أبي: ما هذه في حجرك ؟ فأخبرته، فقال: أنت أبو هريرة.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " أبا هر " وثبت أنه قال له: " يا أبا هريرة " قال محمد بن سعد وابن الكلبي والطبراني: اسم أمه ميمونة بنت صفيح بن الحارث (2) بن أبي صعب بن هبة بن سعد بن ثعلبة، أسلمت وماتت مسلمة.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب، وكان من حفاظ الصحابة، وروى عن أبي بكر وعمر وأبي بن كعب، وأسامة بن زيد، ونضرة بن أبي نضرة، والفضل بن العباس، وكعب الاحبار، وعائشة أم المؤمنين.
وحدث عنه خلائق من أهل العلم قد ذكرناهم مرتبين على حروف المعجم في التكميل، كما ذكره شيخنا في تهذيبه.
قال البخاري: روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيرهم.
وقال عمرو بن علي الفلاس: كان ينزل المدينة وكان إسلامه سنة خيبر: قال الواقدي: وكان بذي الحليفة له دار، وقال غيره: كان آدم اللون، بعيد ما بين المنكبين، ذا طفرتين، أقرن
__________
(1) انظر الاصابة 4 / 202 والاستيعاب على هامش الاصابة 4 / 202 طبقات ابن سعد 4 / 325 صفة الصفوة 1 / 685 أسد الغابة 5 / 315.
(2) في ابن سعد: الحارث بن شابي بن أبي صعب بن هنية.

الثنيتين.
وقال أبو داود الطيالسي وغير واحد عن أبي خلدة، خالد بن دينار عن أبي العالية عن أبي هريرة قال: لما أسلمت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ممن أنت ؟ فقلت: من دوس، فوضع يده على جبهته وقال: ما كنت أرى أن في دوس رجلا فيه خير " وقال الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وروى عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن إسماعيل عن قيس.
قال: قال أبو هريرة: جئت يوم خيبر بعدما فرغوا من القتال.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد بن أبي مريم ثنا الدراوردي.
قال: حدثني خيثم، عن عراك بن مالك، عن أبيه عن أبي هريرة.
قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، قال أبو هريرة: وقدمت المدينة فهاجروا فصليت الصبح وراء سباع فقرأ في السجدة الاولى سورة مريم،
وفي الثانية ويل للمطففين، قال أبو هريرة: فقلت في نفسي: ويل لابي فلان، لرجل كان بأرض الازد - وكان له مكيالان مكيال يكيل به لنفسه، ومكيال يبخس به الناس ".
وقد ثبت في صحيح البخاري أنه ضل غلام له في الليلة التي اجتمع في صبيحتها برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جعل ينشد: يا ليلة من طولها وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجت فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " هذا غلامك " ؟ فقال هو حر لوجه الله عز وجل.
وقد لزم أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، فلم يفارقه في حضر ولا سفر، وكان أحرص شئ على سماع الحديث منه، وتفقه عنه، وكان يلزمه على شبع بطنه.
وقال أبو هريرة - وقد تمخط يوما في قميص له كتان - بخ بخ، أبو هريرة يمتخط في الكتان، لقد رأيتني أخر فيما بين المنبر والحجر من الجوع، فيمر المار فيقول: به جنون وما بي إلا الجوع، والله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أعتمد بكبدي على الارض من الجوع، وأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد كنت أستقرئ أحدهم الآية وأنا أعلم بها منه، وما بي إلا أن يستتبعني إلى منزله فيطعمني شيئا، وذكر الحديث اللبن مع أهل الصفة كما قدمناه في دلائل النبوة.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، ثنا عكرمة بن عامر، حدثني أبو كثير - وهو يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة السحيمي الاعمى - حدثني أبو هريرة.
قال: والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني، قلت: وما عملك بذلك يا أبا هريرة ؟ قال: إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الاسلام وكانت تأبى علي، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الاسلام فكانت تأبى علي، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال: " اللهم اهد أم أبي هريرة " فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فلما أتيت الباب إذا هو مجاف، وسمعت خضخضة (خشخشة) وسمعت خشف رجل - يعني وقعها - فقالت: يا أبا هريرة كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها وعجلت عن خمارها أن تلبسه، وقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن

محمدا عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن، فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعاءك، قد هدى الله أم أبي هريرة، وقلت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين، فقال: اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما " قال أبو هريرة: فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني (1).
وقد رواه مسلم من حديث عكرمة عن عمار نحوه.
وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس، وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس في الجوامع المتعددة في سائر الاقاليم في الانصات يوم الجمعة بين يدي الخطبة، والامام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له رضي الله عنه.
وقال هشام بن عمار: حدثنا سعيد، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن المقبري، عن سالم مولى النضريين: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما محمد بشر أغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما رجل من المسلمين آذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له قربة بها عندك يوم القيامة " قال أبو هريرة: لقد رفع علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الدرة ليضربني بها فلان يكون ضربني بها أحب إلي من حمر النعم، ذلك بأني أرجو أن أكون مؤمنا وأن يستجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته، وقال ابن أبي ذيب، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة.
قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثا كثيرا فأنساه، فقال: " ابسط رداءك، فبسطته، ثم قال: ضمه فضممته فما نسيت حديثا بعد " (2) رواه البخاري.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الاعرج.
قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق في الاسواق، وكانت الانصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مجلسا فقال: " من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئا سمعه مني ".
فبسطت بردة علي حتى قضى مقالته ثم قبضتها إلي فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئا سمعته منه بعد ذلك (3).
وقد رواه ابن وهب عن يونس عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وله طرق أخر عنه.
وقد قيل إن هذا كان خاصا بتلك المقالة لم ينس منها شيئا، بدليل أنه نسي بعض الاحاديث كما هو مصرح في الصحيح، حيث نسي حديث " لا عدوى ولا طيرة " مع حديثه " لا يورد ممرض على مصح " وقيل: إن هذا كان عاما في
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في فضائل الصحابة (35) باب ح 158 ص (1938).
وأخرجه الامام أحمد في مسنده ج 2 / 320.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم باب (42) وفي المناقب باب (28) ح 3648 فتح الباري 6 / 633 والترمذي في المناقب ح 3835 ص 5 / 684.
(3) مسند أحمد ج 2 / 240.

تلك المقالة وغيرها والله أعلم.
وقال الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: " يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال: لقد ظننت يا أبا هريرة أن أحدا لا يسألني عن هذا الحديث أول منك، لما رأيت من حرصك على الناس، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه " (1) ورواه البخاري من حديث عمرو بن أبي عمرو به.
وقال ابن أبي ذيب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه قال: " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم " رواه البخاري من حديث ابن أبي ذيب، ورواه غير واحد عن أبي هريرة، وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق، كما قال: لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني.
وقد يتمسك بهذا الحديث طوائف من أهل الاهواء والبدع الباطلة، والاعمال الفاسدة، ويسندون ذلك إلى هذا الجواب الذي لم يقله أبو هريرة، ويعتقدون أن ما هم عليه كان في هذا الجواب الذي لم يخبر به أبو هريرة، وما من مبطل مع تضاد أقوالهم إلا وهو يدعي هذا وكلهم يكذبون، فإذا لم يكن أبو هريرة
قد أخبر به فمن علمه بعده ؟ وإنما كان الذي فيه شئ من الفتن والملاحم كما أخبر بها هو وغيره من الصحابة، مما ذكرناه ومما سنذكره في كتاب الفتن والملاحم.
وقال حماد بن زيد: حدثنا عمرو بن عبيد الانصاري، ثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة وأقعده خلف السرير، وجعل مروان يسأل وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخر.
وروى أبو بكر بن عياش وغيره عن الاعمش عن أبي صالح.
قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن بأفضلهم.
وقال الربيع قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره.
وقال أبو القاسم البغوي.
حدثنا أبو خيثمة ثنا الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال: تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة فحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح.
وقال سفيان بن عيينة، عن معمر، عن وهب بن منبه، عن أخيه همام بن منبه.
قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عنه عني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.
وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زرعة الرعيني، ثنا مروان بن محمد، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم (33) باب.
وأعاده في الرقاق (51) باب.
وأخرجه الامام أحمد في مسنده 2 / 373.

لابي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولالحقنك بأرض دوس، وقال لكعب الاحبار: لتتركن الحديث عن الاول أو لالحقنك بأرض القردة.
قال أبو زرعة، وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوا منه ولم يسنده، وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الاحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه أو نحو
ذلك.
وقد جاء أن عمر أذن له بعد ذلك في التحديث، فقال مسدد: حدثنا خالد الطحان، ثنا يحيى بن عبد الله، عن أبيه عن أبي هريرة.
قال: بلغ عمر حديثي فأرسل إلي فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان ؟ قال قلت: نعم ! وقد علمت لم تسألني عن ذلك ؟ قال: ولم سألتك ؟ قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " قال: أما إذا فاذهب فحدث.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان ثنا عبد الواحد - يعني ابن زياد - ثنا عاصم بن كليب حدثني أبي.
قال: سمعت أبا هريرة يقول - وكان يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق: " من كذب علي عامدا فليتبوأ مقعده من النار ".
وروى مثله من وجه آخر عنه.
وقال ابن وهب: حدثني يحيى بن أيوب عن محمد بن عجلان.
أنا أبا هريرة كان يقول: إني لاحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي.
وقال صالح بن أبي الاخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر، وقال محمد بن يحيى الذهلي، ثنا عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري.
قال قال عمر: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به.
قال ثم يقول أبو هريرة: أفكنت محدثكم بهذه الاحاديث وعمر حي ؟ أما والله إذا لايقنت أن المحففة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول، اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله، ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالاحاديث، وأنا شريكك في ذلك.
هذا معروف عن عمر رضي الله عنه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر.
أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط أعظم من أحد ".
فقال له ابن عمر: أبا هر انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط فإن شهد دفنها فله قيراطان " ؟ فقالت: اللهم نعم.
فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلني
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس بالوادي وصفق بالاسواق، إني إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها، فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هر كنت ألزمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا

بحديثه (1).
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع عن أبيه.
قال: كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه، ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين (2).
وقد روي أن عائشة تأولت أحاديث كثيرة من أبي هريرة ووهمته في بعضها، وفي الصحيح أنها عابت عليه سرد الحديث، أي الاكثار منه في الساعة الواحدة.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا إسحاق بن سعد، عن سعيد أن عائشة قالت لابي هريرة: أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة، قال: إني والله ما كنت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي.
قالت: لعله.
وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم الشامي، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها، فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا ؟ قال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب * (لتبيننه للناس ولا يكتمونه) * [ آل عمران: 187 ] ما حدثتكم بشئ، سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: " إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الارض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة " (3).
فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك - شك أبو يعلى - وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني كثير ين زيد، عن الوليد بن رباح.
قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: والله ما أنت بوال، وإن الوالي لغيرك فدعه - يعني حين أرادوا يدفنون الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولكن تدخل فيما لا يعنيك، إنما يريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك - يعني معاوية - قال: فأقبل عليه مروان مغضبا فقال: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وإنما قدمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فقال أبو هريرة: نعم ! قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة
سنوات، وأقمت معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذ مقل، وأصلي خلفه وأحج وأغزو معه، فكنت والله أعلم الناس بحديثه، قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والانصار، وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه، منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا والله ما يخفى علي كل حديث كان بالمدينة، وكل من أحب الله ورسوله، وكل من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة، وكل صاحب له، وكان أبو بكر صاحبه في الغار وغيره، وقد أخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساكنه - يعرض بأبي مروان الحكم بن العاص -.
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 5 / 276.
(2) طبقات ابن سعد 4 / 340.
(3) أخرجه البخاري في اللباس (5) باب.
وفي أحاديث الانبياء (54) باب.
ومسلم في اللباس (49) باب.
والنسائي في الزينة (101) باب.
وابن ماجه في الفتن باب (22).
والدارمي في المقدمة (40) وأحمد في المسند 2 / 66، 267، 315، 390، 413، 456، 467، 531، 3 / 40.

ثم قال أبو هريرة: ليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه فإنه يجد عندي منه علما جما ومقالا، قال: فوالله ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة ويتقيه بعد ذلك ويخافه ويخاف جوابه.
وفي رواية أن أبا هريرة قال لمروان: إني أسلمت وهاجرت اختيارا وطوعا، وأحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا شديدا، وأنتم أهل الدار وموضع الدعوة، أخرجتم الداعي من أرضه، وآذيتموه وأصحابه، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم.
فندم مروان على كلامه له واتقاه.
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف ثنا محمد بن سلمة ثنا محمد بن إسحاق عن عمر أو عثمان بن عروة عن أبيه - يعني عروة بن الزبير بن العوام - قال: قال لي أبي الزبير: ادنني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب صدق، كذب.
قال: قلت يا أبة ما قولك صدق كذب ؟ قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الاحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك، ولكن منها
ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه.
وقال علي بن المديني عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي اليسر بن أبي عامر.
قال: كنت عند طلحة بن عبيد الله إذ دخل رجل فقال: يا أبا محمد والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، أم يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع، أو ما لم يقل ؟ فقال طلحة.
والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوما أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث ما دار، فما شك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع (1).
وقد رواه الترمذي بنحوه.
وقال شعبة عن أشعث بن سليم عن أبيه قال: سمعت أبا أيوب يحدث عن أبي هريرة فقيل له: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدث عن أبي هريرة ؟ فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإني إن أحدث عنه أحب إلي من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني ما لم أسمعه منه - وقال مسلم بن الحجاج: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا مروان الدمشقي عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الاشج.
قال: قال لنا بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثنا عن كعب الاحبار ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث، وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس - أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يميز هذا من هذا - ذكره ابن عساكر.
وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب ح (3837) ص 5 / 684 وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن اسحاق.

" من أصبح جنبا فلا صيام له " فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال شريك عن مغيرة عن إبراهيم.
قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، وروى الاعمش عن إبراهيم.
قال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة، وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة شيئا، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة، إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهي عن شر جاء القرآن به.
وقد انتصر ابن عساكر لابي هريرة ورد هذا الذي قاله إبراهيم النخعي.
وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين، والجمهور على خلافهم.
وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم.
قال حماد بن زيد: عن عباس الجريري، عن أبي عثمان النهدي.
قال: كان أبو هريرة يقوم ثلث الليل.
وامرأته ثلثه، وابنته ثلثه، يقوم هذا ثم يوقظ هذا، ثم يوقظ هذا هذا (1).
وفي الصحيحين عنه أنه قال: " أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام ": وقال ابن جريج عمن حدثه.
قال قال أبو هريرة: إني أجزئ الليل ثلاثة أجزاء فجزءا لقراءة القرآن، وجزءا أنام فيه، وجزءا أتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن سعد: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن عثمان القرشي، ثنا أبو أيوب.
قال كان لابي هريرة مسجد في مخدعه، ومسجد في بيته، ومسجد في حجرته، ومسجد على باب داره، إذا خرج صلى فيها جميعها، وإذا دخل صلى فيها جميعا.
وقال عكرمة: كان أبو هريرة يسبح كل ليلة ثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبح على قدر ديتي.
وقال هشيم عن يعلى بن عطاء، عن ميمون بن أبي ميسرة.
قال: كانت لابي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار صيحة يقول: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، وإذا كان العشي يقول: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا موسى بن عبيدة، عن زياد بن ثوبان، عن أبي هريرة.
قال: لا تغبطن فاجرا بنعمة فإن من ورائه طالبا حثيثا طلبه، جهنم كلما خبث زدناهم سعيرا.
وقال ابن لهيعة عن أبي يونس، عن أبي هريرة أنه صلى بالناس يوما فلما اسلم رفع صوته فقال: الحمد لله
الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما، بعدما كان أجيرا لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله.
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: ثنا عفان، ثنا سليم بن حيان قال: سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة قال: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحدو بهم إذا ركبوا وأحتطب إذا نزلوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما
__________
(1) في صفة الصفوة عن أبي عثمان النهدي قال: كان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثا (أي يتناوبون) يصلي هذا ثم يوقظ هذا ويصلي هذا ثم يوقظ هذا 1 / 692.

وجعل أبا هريرة إماما، ثم يقول: والله يا أهل الاسلام إن كانت إجارتي معهم إلا على كسرة يابسة، وعقبة في ليلة غبراء مظلمة، ثم زوجنيها الله فكنت أركب إذا ركبوا، وأخذم إذا خدموا، وأنزل إذا نزلوا.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجورجاني: حدثنا الحجاج بن نصر ثنا هلال بن عبد الرحمن الحنفي، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي سلمة.
قال قال أبو هريرة وأبو ذر: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا، وباب نعلمه علمنا به أو لم نعمل به، أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا، وقالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جاء طالب العلم الموت وهو على هذه الحال مات وهو شهيد " وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وروى غير واحد عن أبي هريرة أنه كان يتعوذ في سجوده أن يزني أو يسرق، أو يكفر أو يعمل كبيرة.
فقيل له: أتخاف ذلك ؟ فقال: ما يؤمنني وإبليس حي، ومصرف القلوب يصرفها كيف يشاء ؟.
وقالت له ابنته: يا أبة إن النبات يعيرنني يقلن: لم لا يحليك أبوك بالذهب ؟ فقال: يا بنية قولي لهن.
إن أبي يخشى على حر اللهب وقال أبو هريرة أتيت عمر بن الخطاب فقمت له وهو يسبح بعد الصلاة فانتظرته فلما انصرف دنوت منه فقلت.
اقرئني آيات من كتاب الله، قال: وما أريد إلا الطعام، قال فأقرأني آيات من سورة آل عمران، فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب، فقلت: ينزع ثيابه ثم يأمر لي بطعام، فلم أر شيئا، فلما طال علي قمت فمشيت فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمني فقال: " يا أبا هريرة إن خلوف فمك الليلة لشديد ؟ فقلت: أجل يا رسول الله، لقد
ظللت صائما وما أفطرت بعد، وما أجد ما أفطر عليه، قال: فانطلق، فانطلقت معه حتى أتى بيته فدعا جارية له سوداء فقال: إيتنا بتلك القصعة، فأتينا بقصعة فيها وضر من طعام أراه شعيرا قد أكل وبقي في جوانبها بعضه وهو يسير، فسميت وجعلت أتتبعه فأكلت حتى شبعت ".
وقال الطبراني: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين أنا أبا هريرة قال لابنته: لا تلبسي الذهب فإني أخشى عليك حر اللهب.
وقد روي هذا عن أبي هريرة من طرق.
وقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي الربيع عن أبي هريرة أنه قال: إن هذه الكناسة مهلكة دنياكم وآخرتكم - يعني الشهوات وما يأكلونه - وروى الطبراني عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب دعاه ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال: أتكره العمل وقد عمل من هو خير منك ؟ - أو قال: قد طلبه من هو خير منك - ؟ قال: من ؟ قال: يوسف عليه السلام فقال أبو هريرة: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، فأخشى ثلاثا أو اثنتين.
فقال عمر: أفلا قلت خمسا ؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي.
وقال سعيد بن أبي هند، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ألا تسألني من هذه الغنائم التي سألني أصحابك ؟ فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، قال: فنزع نمرة على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني إلى القمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعب حديثه قال: اجمعها إليك

فصرها، فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني ".
وقال أبو عثمان النهدي: قلت لابي هريرة: كيف تصوم ؟ قال: أصوم أول الشهر ثلاثا فإن حدث بي حدث كان لي أجر شهري.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان النهدي: أنا أبا هريرة كان في سفر ومعه قوم فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه ليأكل معهم فقال: إني صائم، فلما كادوا أن يفرغوا من أكلهم جاء فجعل يأكل، فجعل القوم ينظرون إلى رسولهم الذي أرسلوه إليه، فقال لهم: أراكم تنظرون إلي، قد والله أخبرني أنه صائم، فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" صوم شهر صوم الصبر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر ".
وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله عز وجل.
وروى الامام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة أنه كان هو وأصحاب له إذا صاموا يجلسون في المسجد وقالوا نطهر صيامنا.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا عثمان الشحام، أبو سلمة، ثنا فرقد السبخي قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت وهو يقول: ويل لي من بطني، إن أشبعته كهظني، وإن أجعته أضعفني.
وروى الامام أحمد عن عكرمة قال: قال أبو هريرة: إني لاستغفر الله عز وجل وأتوب إليه كل يوم اثنتي عشرة ألف مرة، وذلك على قدر ديتي: وروى عبد الله بن أحمد عن أبي هريرة: أنه كان له خى فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبح به قبل أن ينام.
وفي رواية ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به، وهو أصح من الذي قبله.
ولما حضره الموت بكى فقيل له: ما يبكيك ؟ فقال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بعد سفري وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود ومهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي.
وروى قتيبة بن سعيد، ثنا الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: " إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم " وروى الطبراني عن معمر قال: بلغني عن أبي هريرة أنه كان إذا مر به جنازة قال روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة، وعقلة سريعة، يذهب الاول ويبقى الآخر لا عقل له.
وقال الحافظ أبو بكر بن مالك: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو بكر ليث بن خالد البجلي، ثنا عبد المؤمن بن عبد الله السدوسي.
قال: سمعت أبن يزيد المديني يقول: قام أبو هريرة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم دون مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتبة، فقال: ويل للعرب من شر قد اقترب، ويل لهم من إمارة الصبيان، يحكمون فيهم بالهوى ويقتلون بالغضب.
وقال الامام أحمد: حدثنا علي بن ثابت، عن أسامة بن زيد، عن أبي زياد - مولى ابن عباس - عن أبي هريرة قال: كانت لي خمس عشرة ثمرة فأفطرت على خمس وتسحرت بخمس وأبقيت خمسا لفطري.
وقال أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل - يعني العبدي - عن أبي المتوكل: أن أبا هريرة كانت لهم زنجية قد غمتهم بعملها،
فرفع عليها السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لاغشينك به، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، أحوج ما أكون إليه، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل.
وروى حماد بن سلمة: عن

أيوب عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن أبا هريرة مرض فدخلت عليه أعوده فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: اللهم لا ترجعها، ثم قال: يا أبا سلمة يوشك أن يأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الاحمر.
وروى عطاء عن أبي هريرة قال: إذا رأيتم ستا فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها، فلذلك أتمنى الموت أخاف أن تدركني، إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم، وتهون بالدم، وقطعت الارحام، وكثرت الجلاوزة، ونشأ نشو يتخذون القرآن مزامير.
وقال ابن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي: أن ثعلبة بن أبي مالك القرظي حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمتي حطب - وهو يومئذ أمير لمروان بن الحكم - فقال: أوسع الطريق للامير يا بن أبي مالك، فقلت يرحمك الله يكفي هذا ! فقال: أوسع الطريق للامير والحزمة عليه.
وله فضائل ومناقب كثيرة وكلام حسن ومواعظ جمة، أسلم كما قدمنا عام خيبر، فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه إلا حين بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، ووصاه به، فجعله العلاء مؤذنا بين يديه، وقال له أبو هريرة: لا تسبقني بآمين أيها الامير.
وقد استعمله عمر بن الخطاب عليها في أيام إمارته، وقاسمه مع جملة العمال.
قال عبد الرزاق: حدثنا معمر: عن أيوب، عن ابن سيرين.
أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذا الاموال أي عدو الله وعدو كتابه ؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكن عدو من عاداهما.
فقال: فمن أين هي لك ؟ قال: خيل نتجت، وغلة ورقيق لي، وأعطية تتابعت علي.
فنظروا فوجدوه كما قال.
فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرا منك ؟ طلبه يوسف عليه السلام، فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أمية وأخشى ثلاثا واثنين، قال
عمر: فهلا قلت خمسة ؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، أو يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي.
وذكر غيره أن عمر غرمه في العمالة الاولى اثنى عشر ألفا فلهذا امتنع في الثانية.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن محمد بن زياد.
قال: كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة فإذا غضب عليه عزله وولى مروان بن الحكم، فإذا جاء أبو هريرة إلى مروان حجبه عنه، فعزل مروان ورجع أبو هريرة، فقال لمولاه: من جاءك فلا ترده واحجب مروان، فلما جاء مروان دفع الغلام في صدره فلما دخل إلا بعد جهد جهيد، فلما دخل قال: إن الغلام حجبنا عنك، فقال له أبو هريرة: إنك أحق الناس أن لا تغضب من ذلك.
والمعروف أن مروان هو الذي كان يستنيب أبا هريرة في إمرة المدينة، ولكن كان يكون عن إذن معاوية في ذلك والله أعلم.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب الحمار ويلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الامير - يعني نفسه - وكان يمر بالصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الاعراب، وهو أمير، فلا يشعرون إلا وقد ألقى نفسه بينهم

ويضرب برجليه كأنه مجنون، يريد بذلك أن يضحكهم، فيفزع الصبيان منه ويفرون عنه ههنا وههنا يتضاحكون.
قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل فيقول: دع العراق للامير - يعني قطع اللحم - قال: فأنظر فإذا هو ثريد بالزيت.
وقال ابن وهب: حدثني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي أن ثعلبة بن أبي مالك حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة مروان فقال: أوسع الطريق للامير يا بن أبي مالك.
فقلت: أصلحك الله تلقى هذا، فقال: أوسع الطريق للامير والحزمة عليه.
وقد تقدم هذا.
وروى نحوه من غير وجه.
وقال أبو الزعيزعة كاتب مروان: بعث مروان إلى أبي هريرة بمائة دينار، فلما كان الغد بعث إليه: إني غلطت ولم أردك بها، وإني إنما أردت غيرك.
فقال أبو هريرة: قد أخرجتها فإذا خرج عطائي فخذها منه - وكان قد تصدق بها - وإنما أراد مروان اختباره.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الاعلا بن عبد الجبار، ثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد بن المسيب
قال: كان معاوية إذا أعطى أبا هريرة سكت، وإذا أمسك عنه تكلم.
وروى غير واحد عن أبي هريرة أنه جاءه شاب فقال: يا أبا هريرة إني أصبحت صائما فدخلت على أبي فجاءني بخبز ولحم فأكلت ناسيا، فقال: طعمة أطعمكها الله لا عليك، قال: ثم دخلت دارا لاهلي فجئ بلبن لقحة فشربته ناسيا، قال: لا عليك، قال: ثم نمت فاستيقظت فشربت ماء، وفي رواية وجامعت ناسيا، فقال أبو هريرة: إنك يا بن أخي لم تعتد الصيام.
وقال غير واحد: كان أبو هريرة إذا رأى الجنازة قال: روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون.
وروى غير واحد أنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك ؟ قال: على قلة الزاد وشدة المفازة، وأنا على عقبة هبوط إما إلى جنة إو إلى نار فما أدري إلى أيهما أصير.
وقال مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.
قال: دخل مروان على أبي هريرة في مرضه الذي مات فيه فقال: شفاك الله يا أبا هريرة، فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.
قال: فما بلغ مروان أصحاب القطن حتى مات أبو هريرة وقال يعقوب بن سفيان عن دحيم، عن الوليد بن جابر، عن عمير بن هانئ.
قال قال أبو هريرة: اللهم لا تدركني سنة ستين، قال: فتوفي فيها أو قبلها بسنة، وهكذا قال الواقدي: إنه توفي سنة تسع وخمسين، عن ثمان وسبعين سنة، قال الواقدي: وهو الذي صلى على عائشة في رمضان، وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع وخمسين، ثم توفي أبو هريرة بعدهما فيها، كذا قال، والصواب أن أم سلمة تأخرت بعد أبي هريرة.
وقد قال غير واحد: إنه توفي سنة تسع وخمسين وقيل ثمان، وقيل سبع وخمسين، والمشهور تسع وخمسين.
قالوا: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان نائب المدينة، وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد وخلق من الصحابة وغيرهم، وكان ذلك عند صلاة العصر، وكانت وفاته في داره بالعقيق، فحمل إلى المدينة فصلي عليه، ثم دفن بالبقيع رحمه الله ورضي عنه.
وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، فكتب إليه معاوية: أن انظروا ورثته فأحسن إليهم، واصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، واعمل إليهم معروفا، فإنه كان ممن نصر عثمان، وكان معه في الدار رحمهما الله تعالى.

سنة ستين من الهجرة النبوية فيها كانت غزوة مالك بن عبد الله مدينة سورية، قال الواقدي: وفيها دخل جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس، وفيها أخذ معاوية البيعة ليزيد من الوفد الذين قدموا صحبة عبيد الله بن زياد إلى دمشق، وفيها مرض معاوية مرضه الذي توفي فيه في رجب منها كما سنبينه.
فروى ابن جرير: من طريق أبي مخنف: حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها، دعا ابنه يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والرجال (1).
ووطأت لك الاشياء، وذللت لك الاعزاء (2)، وأخضعت لك أعناق العرب، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الامر الذي أسسته إلا أربعة نفر، الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
كذا قال: والصحيح أن عبد الرحمن كان قد توفي قبل موت معاوية بسنتين كما قدمنا، فاما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقدته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه لا يدعونه حتى يخرجونه عليك، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة، وحقا عظيما.
وأما ابن أبي بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله، ليست له همة إلا في النساء واللهو.
وأما الذي يجثم لك جثوم الاسد، ويراوغك روغان الثعلب، وإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربا إربا.
قال غير واحد: فحين حضرت معاوية الوفاة كان يزيد في الصيد (3)، فاستدعى معاوية الضحاك بن قيس الفهري - وكان على شرطة دمشق - ومسلم بن عقبة فأوصى إليهما أن يبلغا يزيد السلام ويقولان له يتوصى بأهل الحجاز، وإن سأله أهل العراق في كل يوم أن يعزل عنهم عاملا ويولي عليهم عاملا فليفعل، فعزل واحد أحب إليك من أن يسل عليك مائة ألف سيف، وأن يتوصى بأهل الشام، وأن يجعلهم أنصاره، وأن يعرف لهم حقهم، ولست أخاف عليه من قريش سوى ثلاثة، الحسين، وابن عمر، وابن الزبير.
ولم يذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا أصح، فأما ابن عمر فقد وقدته العبادة، وأما الحسين فرجل ضعيف (4) وأرجو أن يكفيكه الله تعالى بمن قتل أباه وخذل أخاه، وإن له رحما ماسة وحقا عظيما،
__________
(1) في الطبري 6 / 179: الرحلة والترحال، وفي الكامل 4 / 6: الشدة والترحال.
وفي ابن الاعثم: الجد والترحال.
(2) في الطبري والكامل: الاعداء.
وفي فتوح ابن الاعثم: ولقد وطأت لك يا بني البلاد، وذللت لك رقاب العرب الصعاب...(وزاد انظر الفتوح ج 4 / 259).
(3) في الاخبار الطوال ص 226: أن يزيد بن معاوية كان غائبا عن دمشق، وقد أبطأ عليه فدفع الكتاب إلى الضحاك ومسلم بن عقبة...ثم عاد يزيد، فأعاد عليه الوصية ثم قضى.
وقال في الامامة والسياسة 1 / 203: أن يزيد قدم دمشق بعد موت أبيه.
(4) في الطبري والكامل: خفيف.

وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه فإني لو صاحبته عفوت عنه.
وأما ابن الزبير فإنه خب ضب فإن شخص لك فانبذ إليه أن يلتمس منك صلحا،: فإن فعل فاقبل منه، واصفح عن دماء قومك ما استطعت (1).
وكان موت معاوية لاستهلال رجب من هذه السنة، قاله هشام بن الكلبي.
وقيل للنصف منه، قاله الواقدي.
وقيل يوم الخميس لثمان بقين منه، قاله المدائني.
قال ابن جرير: وأجمعوا على أنه هلك في رجب منها، وكان مدة ملكه استقلالا من جمادى سنة إحدى وأربعين حين بايعه الحسن بن علي باذرج، فذلك تسع عشرة سنة وثلاث أشهر، وكان نائبا في الشام عشرين سنة تقريبا، وقيل غير ذلك: وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة، وقيل خمسا وسبعين سنة، وقيل ثمانيا وسبعين سنة، وقيل خمسا وثمانين سنة (2)، وسيأتي بقية الكلام في آخر ترجمته.
وقال أبو السكن زكريا بن يحيى: حدثني عم أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب.
قال: كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة، ثم خرج الفاكه لبعض شأنه، وأقبل رجل ممن كان يغشاه فولج البيت فلما رأى المرأة فيه ولى هاربا، ورآه الفاكه وهو خارج من
البيت، فأقبل إلى هند وهي مضطجعة فضربها برجله وقال: من هذا الذي كان عندك ؟ قالت: ما رأيت أحدا ولا انتبهت حتى أنبهتني أنت، فقال لها: الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك القالة، فانبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست إليه من يقتله فينقطع عنك القالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فعند ذلك حلفت هند لابيها بما كانوا يحلفون في الجاهلية إنه لكاذب عليها، فقال عتبة بن ربيعة للفاكه: يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، وعار كبير، لا يغسله الماء، وقد جعلتنا في العرب بمكان ذلة ومنقصة، ولولا أنك مني ذو قرابة لقتلتك، ولكن سأحاكمك إلى كاهن اليمن.
فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في بعض جماعة من بني - مخزوم أقاربه - وخرج عتبة في جماعة من بني عبدمناف، وخرجوا بهند ونسوة معها من أقاربهم، ثم ساروا قاصدين بلاد اليمن، فلما شارفوا بلاد الكاهن قالوا غدا نأتي الكاهن، فلما سمعت هند ذلك تنكرت حالها وتغير وجهها، وأخذت في البكاء، فقال لها أبوها: يا بنية قد أرى ما بك من تنكر الحال، وكثرة البكاء، وما ذاك أراه عندك إلا لمكروه أحدثتيه، وعمل اقترفتيه، فهلا كان هذا قبل أن يشيع في الناس ويشتهر مسيرنا ؟ فقالت: والله يا أبتاه ما هذا الذي تراه مني لمكروه وقع مني، وإني لبريئة،
__________
(1) انظر كتاب العهد (الوصية) في الطبري 6 / 179 - 180 الكامل 4 / 5 - 6 الاخبار الطوال 226 فتوح ابن الاعثم 4 / 256 وما بعدها.
والبيان والتبيين 2 / 107.
(2) في مدة عمره ومدة خلافته اختلاف انظر الطبري 6 / 180 - 181 الكامل 4 / 76.
والاصابة 3 / 433 - 434 والاستيعاب على هامش الاصابة 3 / 398.
وأسد الغابة 4 / 386.

ولكن هذا الذي تراه من الحزن وتغير الحال هو أني أعلم أنكم تأتون هذا الكاهن وهو بشر يخطئ ويصيب، وأخاف أن يخطئ في أمري بشئ يكون عاره على إلى آخر الدهر، ولا آمنه أن يسمني ميسما تكون علي سبة في العرب.
فقال لها أبوها: لا تخافي فإني سوف أختبره وأمتحنه قبل أن يتكلم في شأنك وأمرك، فإن أخطأ فيما أمتحنه به لم أدعه يتكلم في أمرك.
ثم إنه انفرد عن القوم - وكان
راكبا مهرا - حتى توارى عنهم خلف رابية فنزل عن فرسه ثم صفر له حتى أدلى، ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليل المهر، وأوكى عليها بسير حتى أحكم ربطها، ثم صفر له حتى اجتمع إحليله، ثم أتى القوم فظنوا أنه ذهب ليقضي حاجة له، ثم أتى الكاهن فلما قدموا عليه أكرمهم ونحر لهم، فقال له عتبة: إنا قد جئناك في أمر، ولكن لا أدعك تتكلم فيه حتى تبين لنا ما خبأت لك، فإني قد خبأت لك خبيئا فانظر ما هو، فأخبرنا به.
قال الكاهن: ثمرة في كمرة، قال: أريد أبين من هذا، قال: حبات بر في إحليل مهر، قال: صدقت فخذ لما جئناك له، أنظر في أمر هؤلاء النسوة، فأجلس النساء خلفه وهند معهم لا يعرفها، ثم جعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها ويبريها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها وقال انهضي حصان رزان، غير رسخا ولا زانية، ولتلدن ملكا يقال له معاوية.
فوثب إليها الفكه فأخذ بيدها، فنترت يدها من يده وقالت له: إليك عني، والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة، والله لاحرصن أن يكون هذا الملك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان بن حرب فجاءت منه بمعاوية هذا.
وفي رواية أن أباها هو الذي قال للفاكه ذلك والله سبحانه أعلم.
وهذه ترجمة معاوية وذكر شئ من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، القرشي الاموي، أبو عبد الرحمن، خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول الله رب العالمين.
وأمه هند بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أسلم معاوية عام الفتح، وروي عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه، فقلت له: لم آل نفسي جهدا.
قال معاوية: ولقد دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي فجئته فرحب بي، وكتبت بين يديه.
قال الواقدي: وشهد معه حنينا، وأعطاه مائة من الابل، وأربعين أوقية من ذهب، وزنها بلال، وشهد اليمامة.
وزعم بعضهم أنه هو الذي قتل مسيلمة، حكاه ابن عساكر، وقد
يكون له شرك في قتله، وإنما الذي طعنه وحشي، وجلله أبو دجانة سماك بن خرشة بالسيف، وكان أبوه من سادات قريش، وتفرد بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه، وكان له مواقف شريفة، وآثار محمودة في يوم اليرموك وما قبله وما بعده، وصحب معاوية

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب الوحي بين يديه مع الكتاب، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كان معاوية طويلا أبيض جميلا، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب.
حدثني محمد بن يزيد الازدي، ثنا أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد رب قال: رأيت معاوية يصفر لحيته كأنها الذهب.
وقال غيره: كان أبيض طويلا أجلح أبيض الرأس واللحية يخضبهما بالحناء والكتم.
وقد أصابته لوقة في آخر عمره، فكان يستر وجهه ويقول: رحم الله عبدا دعا لي بالعافية، فقد رميت في أحسني وما يبدو مني ولولا هواي في يزيد لابصرت رشدي، وكان حليما وقورا رئيسا سيدا في الناس، كريما عادلا شهما.
وقال المدائني عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صبي صغير، فقال: إني لاظن هذا الغلام سيسود قومه، فقالت هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه.
وقال الشافعي قال أبو هريرة: رأيت هندا بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجال الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لارى غلاما إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله، وهو معاوية بن أبي سفيان.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف قال: نظر أبو سفيان يوما إلى معاوية وهو غلام فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند: قومه فقط، ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة.
وكانت هند تحمله وهو صغير وتقول: إن بني معرق كريم * محبب في أهله حليم ليس بفاحش ولا لئيم * ولا ضجور ولا سؤوم
صخر بني فهر به زعيم * لا يخلف الظن ولا يخيم قال: فلما ولى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من الشام، خرج إليه معاوية فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت صار ابنك تابعا لابني ؟ فقالت: إن اضطربت خيل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني، فلما مات يزيد بن أبي سفيان سنة بضع عشرة، وجاء البريد إلى عمر بموته، رد عمر البريد إلى الشام بولاية معاوية مكان أخيه يزيد، ثم عزى أبا سفيان في ابنه يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه ؟ قال أخوه معاوية، قال: وصلت رحما يا أمير المؤمنين.
وقالت هند لمعاوية فيما كتبت به إليه: والله يا بني إنه قل أن تلد حرة مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الامر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت.
وقال له أبوه: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله، وقصر بنا تأخيرنا فصاروا قادة وسادة.
وصرنا أتباعا، وقد ولوك جسيما من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقبك، فلم يزل معاوية نائبا على الشام في الدولة العمرية والعثمانية مدة خلافة عثمان، وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص وسكنها المسلمون قريبا

من ستين سنة في أيامه ومن بعده، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها، فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان، لم يقع في تلك الايام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لاصطلحن أنا وابن عمي عليك ولاخرجنك من جميع بلادك، ولاضيقن عليك الارض بما رحبت.
فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة.
ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا، فلم يزل مستقلا بالامر في
هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية.
والغنائم ترد إليه من أطراف الارض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو.
وقد ثبت في صحيح مسلم: من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل: سماك بن الوليد، عن ابن عباس.
قال قال أبو سفيان: يا رسول الله ثلاثا أعطنيهن، قال: نعم، قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم ! قال ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال: نعم: وذكر الثالثة وهو أنه أراد أن يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته الاخرى عزة بنت أبي سفيان، واستعان على ذلك باختها أم حبيبة، فقال: " إن ذلك لا يحل لي " (1) وقد تكلمنا على ذلك في جزء مفرد، وذكرنا أقوال الائمة واعتذارهم عنه ولله الحمد.
والمقصود منه أن معاوية كان من جملة الكتاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يكتبون الوحي.
وروى الامام أحمد ومسلم والحاكم في مستدركه من طريق أبي عوانة - الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء عن ابن عباس.
قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء فقلت: ما جاء إلا إلي، فاختبأت على باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين (2)، ثم قال " اذهب فادع لي معاوية - وكان يكتب الوحي - قال: فذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة (40) باب.
ح 168 وعند مسلم: قال عندي أحسن العرب وأجمله: أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها.
هذا الحديث من الاحاديث المشهورة بالاشكال ووجهه أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة وهذا لا خلاف فيه ومتعارف عليه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج بأم حبيبة قبل ذلك بزمن طويل - تزوجها سنة ست - وقيل سنة سبع - واختلفوا اين تزوجها - قال ابن سعد زوجه إياها النجاشي وهي في الحبشة وقدم بها خالد بن سعيد بن العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وغيره قال بعد قدومها من الحبشة إلى المدينة، والجمهور: بالحبشة.
هنا الارجح صوابية ما أثبتنا من أن أبا سفيان عرض أن يزوجه ابنته عزة.
(2) في صحيح مسلم: فحطأني حطأة: أي قفدني، وهو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين.

فقلت إنه يأكل، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل فأخبرته، فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه " قال: فما شبع بعدها (1)، وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه، أما في دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير ويصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا ويقول والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.
وأما في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة " (2).
فركب مسلم من الحديث الاول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك.
وقال المسيب بن واضح عن أبي إسحاق الفزاري، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.
قال: " أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اقرئ معاوية السلام واستوص به خيرا، فإنه أمين الله على كتابه ووحيه ونعم الامين.
ثم أورده ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الملك بن أبي سليمان، ثم أورده أيضا من رواية علي وجابر بن عبد الله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار جبريل في استكتابه معاوية، فقال: استكتبه فإنه أمين ".
ولكن في الاسانيد إليهما غرابة، ثم أورد عن علي في ذلك غرائب كثيرة عن غيره أيضا.
وقال أبو عوانة عن سليمان عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الاقمر الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو.
قال: كان معاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد الصيدلاني ثنا السري، عن عاصم، ثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه عن هشام بن عروة، عن عائشة.
قالت: لما كان يوم أم حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم، دق الباب داق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظروا من هذا ؟ قالوا: معاوية، قال: ائذنوا له، فدخل وعلى أذنه قلم يخط به، فقال: ما هذا القلم على أذنك يا معاوية ؟ قال: قلم أعددته لله ولرسوله، فقال له: جزاك الله عن نبيك خيرا، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله، كيف بك لو قمصك الله قميصا - يعني الخلافة - ؟
فقامت أم حبيبة فجلست بين يديه وقالت: يا رسول الله وإن الله مقمصه قميصا ؟ قال: نعم ! ولكن فيه هنات وهنات.
فقالت: يا رسول الله فادع الله له، فقال: اللهم اهده بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والاولى ".
قال الطبراني تفرد به السري، عن عاصم عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن هشام.
وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث كثيرة موضوعة، والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها والله الموفق للصواب.
وقد أوردنا من طريق أبي هريرة وأنس وواثلة بن الاسقع مرفوعا: " الامناء ثلاثة، جبريل، وأنا
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 291، 335 ومسلم في البر والصلة (25) باب ح (96) ص (2010).
(2) أخرجه مسلم في البر والصلة (25) باب ح (95) ص (2009) عن أنس بن مالك.

ومعاوية " ولا يصح من جميع وجوهه، ومن رواية ابن عباس: " الامناء سبعة، القلم، واللوح، وإسرافيل، وميكائيل، وجبريل، وأنا، ومعاوية " وهذا أنكر من الاحاديث التي قبله، وأضعف إسنادا.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية - يعني ابن صالح - عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم، عن العرباض بن سارية السلمي.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى السحور في شهر رمضان: هلم إلى الغداء المبارك، ثم سمعته يقول: اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب " (1).
تفرد به أحمد.
ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي، وكذلك رواه أسد بن موسى، وبشر بن السري، وعبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، باسناده مثله.
وفي رواية بشر بن السري " وأدخله الجنة " ورواه ابن عدي وغيره من حديث عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عن عطاء، عن ابن عباس.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب ".
وقال محمد بن سعد: ثنا سليمان بن حرب والحسين بن موسى الاشيب قال: ثنا أبو هلال محمد بن سليم، ثنا جبلة بن عطية، عن مسلمة بن مخلد، وقال الاشهب: قال أبو هلال أو عن رجل عن مسلمة بن مخلد، وقال سليمان بن حرب أو حدثه مسلمة عن رجل أنه رأى معاوية يأكل فقال
لعمرو بن العاص: إن ابن عمك هذا لمخضد: قال أما أني أقول لك هذا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم علمه الكتاب ومكن له في البلاد وقه العذاب ".
وقد أرسله غير واحد من التابعين منهم الزهري، وعروة بن رويم، وجرير بن عثمان الرحبي الحمصي، ويونس بن ميسرة بن حلبس.
وقال الطبراني: ثنا أبو زرعة وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الدمشقيان قالا: ثنا أبو مسهر، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: " اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب " قال ابن عساكر: وهذا غريب، والمحفوظ بهذا الاسناد حديث العرباض الذي تقدم، ثم روي من طريق الطبراني عن أبي زرعة، عن أبي مسهر، عن سعيد، عن ربيعة، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: " اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به " وقال الامام أحمد: حدثنا علي بن بحر، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر معاوية فقال: " اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به " (2) وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يحيى، عن أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز به.
وقال حسن غريب.
وقد رواه عمر بن عبد الواحد، ومحمد بن سليمان الحراني كما رواه الوليد بن مسلم وأبو مسهر عن سعيد، عن ربيعة بن يزيد عن
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 127.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ج 4 / 216، 365 والترمذي في المناقب ح (3842) ص 5 / 687.

عبد الرحمن بن أبي عميرة.
ورواه محمد بن المصفى عن مروان بن محمد الطاطري عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس عن ابن أبي عميرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لمعاوية فقال: " اللهم علمه العلم، واجعله هاديا مهديا، واهده واهد به " وقد رواه سلمة بن شبيب وصفوان بن صالح وعيسى بن هلال وأبو الازهر عن مروان الطاطري، ولم يذكروا أبا إدريس في
إسناده.
ورواه الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن علي بن سهل الرملي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني.
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر معاوية فقال: " اللهم اجعله هاديا مهديا واهده " قال ابن عساكر: وقول الجماعة هو الصواب.
وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث وأطنب فيه وأطيب وأطرب، وأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد، فرحمه الله، كم له من موطن قد تبرز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد.
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني قال: لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن الشام وولى معاوية قال الناس: عزل عمر عميرا وولى معاوية، فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخبر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم اهد به " (1) تفرد به الترمذي وقال: غريب.
وعمرو بن واقد ضعيف، هكذا ذكره أصحاب الاطراف في مسند عمير بن سعد الانصاري.
وعندي أنه ينبغي أن يكون من رواية عمر بن الخطاب، ويكون الصواب فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخير، ليكون عذرا له في توليته له.
ومما يقوي هذا أن هشام بن عمار قال: حدثنا ابن أبي السائب - وهو عبد العزيز بن الوليد بن سليمان - قال: وسمعت أبي يذكر أن عمر بن الخطاب ولى معاوية بن أبي سفيان فقالوا: ولى حدث السن، فقال: تلومونني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به " وهذا منقطع يقويه ما قبله.
قال الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا نعيم بن حماد، ثنا محمد بن شعيب بن سابور، ثنا مروان بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الله بن بسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استشار أبا بكر وعمر في أمر فقال: أشيروا علي، فقالا: الله ورسوله أعلم، فقال: ادعوا معاوية ؟ فقال أبو بكر وعمر: أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من رجال قريش ما يتقنون أمرهم، حتى يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غلام من غلمان قريش ؟ فقال: ادعوا لي معاوية فدعي له، فلما وقف بين يديه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحضروه أمركم وأشهدوه أمركم، فإنه قوي
أمين ".
ورواه بعضهم عن نعيم وزاد " وحملوه أمركم ".
ثم ساق ابن عساكر أحاديث كثيرة
__________
(1) صحيح الترمذي - كتاب المناقب ح (3843) ص 5 / 687 وفيه: عزل عمر عمير بن سعيد عن حمص.

موضوعة بلا شك في فضل معاوية، أضربنا عنها صفحا، واكتفينا بما أوردناه من الاحاديث الصحاح والحسان والمستجادات عما سواها من الموضوعات والمنكرات.
ثم قال ابن عساكر: وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي جمرة عن ابن عباس " أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلم " أخرجه مسلم في صحيحه، وبعده حديث العرباض: " اللهم علم معاوية الكتاب " وبعده حديث ابن أبي عميرة: " اللهم اجعله هاديا مهديا " قلت: وقد قال البخاري في كتاب المناقب (1): ذكر معاوية بن أبي سفيان: حدثنا الحسن بن بشر، ثنا المعافى، عن عثمان بن الاسود، عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس (2)، فأتى ابن عباس، فقال: أوتر معاوية بركعة بعد العشاء، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن أبي مريم ثنا نافع بن عمر، ثنا ابن أبي مليكة.
قال: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية ؟ فإنه ما أوتر إلا بواحدة ! قال: أصاب، إنه فقيه.
ثنا عمرو بن عباس ثنا جعفر ثنا شعبة، عن أبي التياح قال: سمعت حمران بن أبان (3) عن معاوية.
قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما - يعني الركعتين بعد العصر - ثم قال البخاري بعد ذلك (4): ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة: حدثنا عبدان ثنا عبد الله يونس عن الزهري حدثني عروة أن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة - امرأة أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر الارض من أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل خبائك [ ثم ما أصبح اليوم على ظهر الارض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك ] (5)، فقال: وأيضا والذي نفسي بيده.
فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل علي من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا ؟ قال: لا إلا بالمعروف ".
فالمدحة في قوله: " وأيضا والذي نفسي بيده " وهو أنه كان يود أن هند وأهلها وكل كافر يذلوا في
حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحب أن يعزوا فأعزهم الله - يعني أهل خبائها.
وقال الامام أحمد: حدثنا روح، ثنا أبو أمية، عمرو بن يحيى بن سعيد قال.
سمعت جدي يحدث أن معاوية أخذ الاداوة بعد أبي هريرة فتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها - وكان أبو هريرة قد
__________
(1) كذا بالاصل، أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة 28 باب ح 3764 - 3765.
فتح الباري 7 / 104.
(2) وهو كريب، قاله محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: حمدان عن أبان تحريف.
(4) في كتاب مناقب الانصار 23 باب.
فتح الباري 7 / 141.
حديث (3825).
(5) ما بين معكوفتين زيادة من البخاري.

اشتكى - فبينما هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ فقال: يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل.
قال معاوية فما زلت أظن أني سأبتلي بعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت " (1).
تفرد به أحمد، ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي إسحاق الهمذاني، سعيد بن زنبور بن ثابت، عن عمرو بن يحيى بن سعيد.
ورواه ابن منده من حديث بشر بن الحكم عن عمرو بن يحيى به.
وقال أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده عن معاوية قال: " اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فلما توضأ نظر إلي فقال: يا معاوية إن وليت أمرا فاتق واعدل، فما زلت أظن أني مبتلى بعمل حتى وليت ".
ورواه غالب القطان عن الحسن.
قال: سمعت معاوية يخطب وهو يقول: " صببت يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه فرفع رأسه إلي فقال: أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي، فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم، وقال: فما زلت أرجو حتى قمت مقامي هذا ".
وروى البيهقي عن الحاكم بسنده إلى إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير.
قال قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ملكت فأحسن " قال البيهقي: إسماعيل بن إبراهيم (2)
هذا ضعيف، إلا أن للحديث شواهد (3).
وروى ابن عساكر باسناده عن نعيم بن حماد: ثنا محمد بن حرب، عن أبي بكر بن أبي مريم، ثنا محمد بن زياد، عن عوف بن مالك الاشجعي قال: " بينما أنا راقد في كنيسة يوحنا - وهي يومئذ مسجد يصلى فيها - إذا انتبهت من نومي فإذا أنا بأسد يمشي بين يدي، فوثبت إلى سلاحي، فقال الاسد: مه ! إنما أرسلت إليك برسالة لتبلغها، قلت: ومن أرسلك ؟ قال: الله أرسلني إليك لتبلغ معاوية السلام وتعلمه أنه من أهل الجنة، فقلت له.
ومن معاوية ؟ قال: معاوية بن أبي سفيان " ورواه الطبراني عن أبي يزيد القراطيسي عن المعلى بن الوليد القعقاعي، عن محمد بن حبيب الخولاني، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، وفيه ضعف وهذا غريب جدا، ولعل الجميع مناما، ويكون قوله: إذا انتبهت من نومي مدرجا لم يضبطه ابن أبي مريم، والله أعلم.
وقال محمد بن عائذ، عن الوليد، عن ابن لهيعة، عن يونس عن الزهري.
قال: قدم عمر الجابية فنزع شرحبيل وأمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، ونفى الشام على أميرين أبي عبيدة ويزيد، ثم توفي أبو عبيدة فاستخلف عياض بن غنم، ثم توفي يزيد فأمر معاوية مكانه، ثم نعاه عمر لابي سفيان، فقال لابي سفيان: احتسب يزيد بن أبي سفيان، قال: من أمرت مكانه ؟
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 101.
(2) اسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي - كان فاحش الخطأ، ضعفه غير واحد، قال البخاري: فيه نظر، وذكره العقيلي في الضعفاء الكبير (1 / 73) وابن حيان في المجروحين (1 / 122).
(3) دلائل البيهقي 6 / 446.

قال: معاوية، فقال: وصلت رحما يا أمير المؤمنين، فكان معاوية على الشام، وعمير بن سعد حتى قتل عمر، رضي الله عنهم.
وقال محمد بن إسحاق: مات أبو عبيدة في طاعون عمواس واستخلف معاذا، فمات معاذ واستخلف يزيد بن أبي سفيان، فمات واستخلف أخاه معاوية فأقره عمر، وولى عمرو بن العاص فلسطين والاردن، ومعاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى
سعد بن عامر بن جذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية بن أبي سفيان، ثم أمره عثمان بن عفان على الشام.
وقال إسماعيل بن أمية: أفرد عمر معاوية بامرة الشام، وجعل له في كل شهر ثمانين دينارا.
والصواب أن الذي جمع لمعاوية الشام كلها عثمان بن عفان، وأما عمر فإنه إنما ولاه بعض أعمالها.
وقال بعضهم: لما عزيت هند في يزيد بن أبي سفيان - ولم يكن منها - قيل لها: إنه قد جعل معاوية أميرا مكانه، فقالت: أو مثل معاوية يجعل خلفا من أحد ؟ فوالله لو أن العرب اجتمعت متوافرة ثم رمي به فيها لخرج من أي أعراضها (نواحيها) شاء.
وقال آخرون: ذكر معاوية عند عمر فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها، إنه لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلا على الرضا، ومن لا يؤخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن قدامة الجوهري، حدثني عبد العزيز بن يحيى، عن شيخ له.
قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا من عمر قال له: أنت صاحب الموكب ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك ؟ قال: هو ما بلغك من ذلك.
قال: ولم تفعل هذا ؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافيا إلى بلاد الحجاز، قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للاسلام وأهله ويرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت.
فقال له عمر: يا معاوية ما سألتك عن شئ إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريت (1)، ولئن كان باطلا إنه لخديعة أديت.
قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت، قال: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه ؟ ! فقال عمر: لحسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه.
وفي رواية أن معاوية تلقى عمر حين قدم الشام، ومعاوية في موكب كثيف، فاجتاز بعمر وهو وعبد الرحمن بن عوف راكبان على حمار، ولم يشعر بهما، فقيل له: إنك جاوزت أمير المؤمنين، فرجع، فلما رأى عمر ترجل وجعل يقول له ما ذكرنا، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين ؟ ! فقال: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه.
وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: أخبرنا محمد بن ذئب، عن مسلم بن جندب، عن أسلم مولى عمر قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض نص وباص، أبض الناس وأجملهم،
__________
(1) في الاستيعاب هامش الاصابة 3 / 397: أريب وإن كان باطلا أنه لخدعة أديب.

فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه، ثم يضع أصبعه على متن معاوية ثم يرفعها عن مثل الشراك، فيقول: بخ بخ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة.
فقال معاوية: يا أمير المؤمنين سأحدثك أنا بأرض الحمامات والريف والشهوات، فقال عمر: سأحدثك ما بك إلا إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك، وذووا الحاجات وراء الباب.
فقال: يا أمير المؤمنين علمني أمتثل.
قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحا كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجا مقلا حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما ؟ ! فقال معاوية: إنما لبستهما لادخل فيهما على عشيرتي وقومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، فالله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه، ثم نزع معاوية ثوبيه ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبي، عن هشام بن محمد، عن أبي عبد الرحمن المدني.
قال: كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب (1).
وهكذا حكى المدائني عن عمر أنه قال ذلك.
وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الاموي، عن جده.
قال: دخل معاوية على عمر وعليه حلة خضراء، فنظر إليها الصحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدرة فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين الله الله في، فرجع عمر إلى مجلسه فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين ؟ وما في قومك مثله ؟ فقال: والله ما رأيت إلا خيرا، وما بلغني إلا خير، ولو بلغني غير ذلك لكان مني إليه غير ما رأيتم، ولكن رأيته - وأشار بيده - فأحببت أن أضع منه ما شمخ.
وقد قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا يحيى بن
حمزة، ثنا ابن أبي مريم أن القاسم بن مخيمرة أخبره، أن أبا مريم الازدي أخبره.
قال: دخلت على معاوية فقال: ما أنعمنا بك أبا فلان - وهي كلمة تقولها العرب - فقلت: حديث سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره ".
قال: فجعل معاوية حين سمع هذا الحديث رجلا على حوائج الناس (2).
ورواه الترمذي وغيره.
وقال الامام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، ثنا حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز.
قال: خرج معاوية على الناس فقاموا له فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " (3).
وفي رواية.
قال: خرج معاوية على ابن
__________
(1) في رواية ابن عبد البر أن عمر قال ذلك في معاوية عند قدومه الشام وتلقاه معاوية في موكب عظيم.
(2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج - باب فيما يلزم الامام من أمر الرعية ح (2948) ص (3 / 135).
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده 4 / 91.

عامر وابن الزبير فقام له ابن عامر ولم يقم له ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: إجلس ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب أن يتمثل له العباد قياما فليبتوأ مقعده من النار ".
ورواه أبو داود والترمذي من حديث حبيب بن الشهيد، وقال الترمذي: حديث حسن.
وروى أبو داود من حديث الثوري عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد المقري الحمصي، عن معاوية.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم ".
قال: كلمة سمعها معاوية نفعه الله بها.
تفرد به أحمد - يعني أنه كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر رحمه الله تعالى - وثبت في الصحيحين: من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن معاوية.
أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون ".
وفي رواية " وهم على
ذلك " وقد خطب معاوية بهذا الحديث مرة ثم قال: وهذا مالك بن يخامر يخبر عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهم بالشام - يحث بهذا أهل الشام على مناجزة أهل العراق: " وإن أهل الشام هم الطائفة المنصورة على من خالفها " وهذا مما كان يحتج به معاوية لاهل الشام في قتالهم أهل العراق.
وقال الليث بن سعد: فتح معاوية قيسارية سنة تسع عشرة في دولة عمر بن الخطاب.
وقال غيره: وفتح قبرص سنة خمس وقيل سبع، وقيل ثمان وعشرين في أيام عثمان.
قالوا: وكان عام غزوة المضيق - يعني مضيق القسطنطينية - في سنة ثنتين وثلاثين في أيامه وكان هو الامير على الناس عامئذ.
وجمع عثمان لمعاوية جميع الشام، وقيل إن عمر هو الذي جمعها له، والصحيح عثمان.
واستقضى معاوية فضالة بن عبيد بعد أبي الدرداء، ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان، على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم كما قدمنا، وكان الحق والصواب مع علي، ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفا وخلفا، وقد شهدت الاحاديث الصحيحة بالاسلام للفريقين من الطرفين - أهل العراق وأهل الشام - كما ثبت في الحديث الصحيح " تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين، فيقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق " (1) فكانت المارقة الخوارج، وقتلهم علي وأصحابه، ثم قتل علي فاستقل معاوية بالامر سنة إحدى وأربعين، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، ويأمر بجلا من قومه فيحج بالناس، وحج هو سنة خمسين، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين.
وفيها أو في التي بعدها أغزاه بلاد الروم فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينية، وقد ثبت في الصحيح: " أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم ".
وقال وكيع عن الاعمش عن أبي صالح.
قال: كان الحادي
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد في الزكاة (47) باب.
ح (150) و (151) وفيه: تمرق مارقة عند فرقة المسلمين تقتلها أولى الطائفتين بالحق.
وفي رواية من طريق أبي أحمد: تقتلهم أقرب الطائفتين من الحق ح (153).
ص 2 / 746.

يحدو بعثمان فيقول:
إن الامير بعده علي * وفي الزبير خلف مرضي فقال كعب: بل هو صاحب البغلة الشهباء - يعني معاوية - فقال: يا أبا إسحاق تقول هذا وههنا علي والزبير وأصحاب محمد ؟ فقال: أنت صاحبها.
ورواه سيف عن بدر بن الخليل عن عثمان بن عطية الاسدي عن رجل من بني أسد.
قال: ما زال معاوية يطمع فيها منذ سمع الحادي في أيام عثمان يقول: إن الامير بعده علي * وفي الزبير خلف مرضي فقال كعب: كذبت ! بل صاحب البغلة الشهباء بعده - يعني معاوية - فقال له معاوية في ذلك فقال: نعم ! أنت الامير بعده، ولكنها والله لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا، فوقعت في نفس معاوية.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عباد المكي، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي هارون قال قال عمر: إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم فإن معاوية بالشام، وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها دونكم.
ورواه الواقدي من وجه آخر عن عمر رضي الله عنه.
وقد روى ابن عساكر عن عامر الشعبي: أن عليا حين بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية قبل وقعة صفين - وذلك حين عزم علي على قصد الشام، وجمع الجيوش لذلك - وكتب معه كتابا إلى معاوية يذكر له فيه أنه قد لزمته بيعته، لانه قد بايعه المهاجرون والانصار، فإن لم تبايع استعنت بالله عليك وقاتلتك.
وقد أكثرت القول في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله، في كلام طويل.
وقد قدمنا أكثره، فقرأ معاوية على الناس وقام جرير فخطب الناس، وأمر في خطبته معاوية بالسمع والطاعة، وحذره من المخالفة والمعاندة، ونهاه عن إيقاع الفتنة بين الناس، وأن يضرب بعضهم بعضا بالسيوف (1).
فقال معاوية: انتظر حتى آخذ برأي أهل الشام، فلما كان بعد ذلك أمر معاوية مناديا فنادى في الناس: الصلاة جامعة.
فلما اجتمع الناس صعد المنبر فخطب فقال: " الحمد لله الذي جعل الدعائم للاسلام أركانا، والشرائع للايمان برهانا، يتوقد مصباحه (2) بالسنة في الارض المقدسة التي جعلها الله محل الانبياء والصالحين
من عباده، فأحلها أهل الشام ورضيهم لها، ورضيها لهم، لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابين عن دينه وحرماته، ثم جعلهم لهذه (3) الامة
__________
(1) انظر خطبة جرير بن عبد الله في فتوح ابن الاعثم 2 / 379 - 380.
(2) في ابن الاعثم: مقباسه.
(3) في ابن الاعثم: ثم جعل لهذه البلدة الآمنة نظاما ولسننه أعلاما.

نظاما، وفي أعلام الخير عظاما، يردع الله بهم الناكثين، ويجمع بهم الالفة بين المؤمنين، والله نستعين على إصلاح ما تشعث من أمور المسلمين، وتباعد بينهم بعد القرب والالفة، اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائما، ويخيفون آمنا، ويريدون هراقة دمائنا، وإخافة سبلنا، وقد يعلم الله أنا لا نريد لهم عقابا، ولا نهتك لهم حجابا، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى، وقد علمنا أن الذي حملهم على خلافنا البغي والحسد لنا، فالله نستعين عليهم.
أيها الناس ! قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أقم رجلا منكم على خزائه قط، وإني ولي عثمان وابن عمه، قال الله تعالى في كتابه: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * [ الاسراء: 33 ] وقد علمتم أنه قتل مظلوما، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.
فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك، فلما رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما رأى، أفزعه ذلك، وعجب منه.
وقال معاوية لجرير: إن ولاني علي الشام ومصر بايعته على أن لا يكون لاحد بعده على بيعة، فقال: اكتب إلى علي بما شئت، وأنا أكتب معك، فلما بلغ عليا الكتاب قال: هذه خديعة، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك * (وما كنت متخذ المضلين عضدا) * [ الكهف: 51 ] ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه، فما قدم إلا وقد اجتمعت العساكر إلى علي، وكتب معاوية إلى عمرو بن
العاص - وكان معتزلا بفلسطين حين قتل عثمان - وكان عثمان قد عزله عن مصر فاعتزل بفلسطين، فكتب إليه معاوية يستدعيه ليستشيره في أموره فركب إليه فاجتمعا على حرب علي.
وقد قال (1) عقبة بن أبي معيط في كتاب معاوية إلى علي حين سأله نيابة الشام ومصر، فكتب إلى معاوية يؤنبه ويلومه على ذلك ويعرض بأشياء فيه: معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الافاعيا فإن عليا ناظر ما تجيبه * فأهد له حربا يشيب النواصيا
__________
(1) كذا بالاصل، والصواب الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهي من قصيدة وجهها إلى معاوية وإلى أخيه عتبة بن أبي سفيان يعرض فيها بموقف معاوية وحاول تحريك عتبة ومنها: أعتبة حرك من أخيك ولا تكن * فول الهوينا إن أراد مؤاتيا وانك قد اشبهت صخرا ومن يكن * شبيها له يصبح على الناس عاليا وقال في قصيدة أخرى يحرض معاوية فيها: فوالله ما هند بأمك إن مضى ال * - نهار ولم يثأر بعثمان ثائر أيقتل عبد القوم سيد قومه * ولم تقتلوه ليت أمك عاقر الاستيعاب على هامش الاصابة 3 / 636 فتوح ابن الاعثم 2 / 395.

وحام عليها بالقتال وبالقنا * ولا تك مخشوش الذراعين وانيا وإلا فسلم إن في الامن راحة * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا وإن كتابا يا بن حرب كتبته * على طمع جان عليك الدواهيا سألت عليا فيه مالا تناله * ولو نلته لم يبق إلا لياليا إلى أن ترى منه الذي ليس بعدها * بقاء فلا تكثر عليك الامانيا ومثل علي تغترره بخدعة * وقد كان ما خربت من قبل بانيا ولو نشبت أظفاره فيك مرة * فراك ابن هند بعد ما كنت فاريا
وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليا أم أنت مثله ؟ فقال: والله إني لاعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالامر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، وأنا أطلب بدمه وأمره إلي ؟ فقولوا له: فليسلم إلي قتلة عثمان وأنا أسلم له أمره.
فأتوا عليا فكلموه في ذلك فلم يدفع إليهم أحدا، فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية.
وعن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي وأبي جعفر الباقر.
قال: بعث علي رجلا إلى دمشق ينذرهم أن عليا قد نهد في أهل العراق إليكم ليستعلم طاعتكم لمعاوية، فلما قدم أمر معاوية فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فملاوا المسجد ثم صعد المنبر فقال في خطبته: إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق فما الرأي ؟ فضرب كل منهم على صدره، ولم يتكلم أحد منهم، ولا رفعوا إليه أبصارهم، وقام ذو الكلاع فقال: يا أمير المؤمنين عليك الرأي وعلينا الفعال، ثم نادى معاوية في الناس: أن اخرجوا إلى معسكركم في ثلاث، فمن تخلف بعدها فقد أحل بنفسه، فاجتمعوا كلهم، فركب ذلك الرجل إلى علي فأخبره، فأمر علي مناديا فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمعوا فصعد المنبر فقال: إن معاوية قد جمع الناس لحربكم، فما الرأي ؟ فقال كل فريق منهم مقالة، واختلط كلام بعضهم في بعض، فلم يدر علي مما قالوا شيئا، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله بها ابن آكلة الاكباد.
ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان، كما ذكرناه مبسوطا في سنة ست وثلاثين.
وقد قال أبو بكر بن دريد: أنبأنا أبو حاتم عن أبي عبيدة.
قال قال معاوية: لقد وضعت رجلي في الركاب وهممت يوم صفين بالهزيمة، فما منعني إلا قول ابن الاطنابة حيث يقول: أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإكراهي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي وروى البيهقي عن الامام أحمد أنه قال: الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقيل له: فمعاوية ؟ قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي، ورحم الله معاوية.
وقال

علي بن المديني: سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما كنت في علي خصلة تقصر به عن الخلافة، ولم يكن في معاوية خصلة ينازع بها عليا.
وقيل لشريك القاضي: كان معاوية حليما ؟ فقال: ليس بحليم من سفه الحق وقاتل عليا.
رواه ابن عساكر.
وقال سفيان الثوري، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه ذكر معاوية وأنه لبى عشية عرفة فقال فيه قولا شديدا، ثم بلغه أن عليا لبى عشية عرفة فتركه.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني عباد بن موسى، ثنا علي بن ثابت الجزري، عن سعيد بن أبي عروبة عن عمر بن عبد العزيز.
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر وعمر جالساه عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية، فأدخلا بيتا وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة.
وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية، فقال له: ولم ؟ قال: لانه قاتل عليا، فقال له أبو زرعة: ويحك إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما ؟ رضي الله عنهما.
وسئل الامام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ: * (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) * [ البقرة: 134 ] وكذا قال غير واحد من السلف.
وقال الاوزاعي: سئل الحسن عما جرى بين علي وعثمان فقال: كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة، ولهذا قرابة ولهذا قرابة، فابتلى هذا وعوفي هذا.
وسئل عما جرى بين علي ومعاوية فقال: كانت لهذا قرابة ولهذا قرابة، ولهذا سابقة ولم يكن لهذا سابقة، فابتليا جميعا.
وقال كلثوم بن جوشن: سأل النضر أبو عمر الحسن البصري فقال: أبو بكر أفضل أم علي ؟ فقال: سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق يشركه فيها أبو بكر، وأحدث علي حوادث لم يشركه فيها أبو بكر، أبو بكر أفضل.
قال: فعمر أفضل أم علي ؟ فقال: مثل قوله في أبي بكر، ثم قال: عمر أفضل.
ثم قال: عثمان أفضل أم علي ؟ فقال مثل قوله الاول، ثم قال: عثمان أفضل.
قال:
فعلي أفضل أم معاوية ؟ فقال: سبحان الله ولا سواء سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية، وأحدث علي أحداثا شركه فيها معاوية، علي أفضل من معاوية.
وقد روي عن الحسن البصري أنه كان ينقم على معاوية أربعة أشياء، قتاله عليا، وقتله حجر بن عدي، واستلحاقه زياد بن أبيه، ومبايعته ليزيد ابنه.
وقال جرير بن عبد الحميد عن مغيرة.
قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته ؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم، وفي رواية أنها قالت له بالامس تقاتلنه واليوم تبكينه ؟.
قلت: وقد كان مقتل علي في رمضان سنة أربعين، ولهذا قال الليث بن سعد: إن معاوية بويع له بإيليا بيعة الجماعة، ودخل الكوفة سنة أربعين، والصحيح الذي قاله ابن إسحاق والجمهور أنه بويع له بإيليا في رمضان سنة أربعين، حين بلغ أهل الشام مقتل علي، ولكنه إنما

دخل الكوفة بعد مصالحة الحسن له في شهر ربيع الاول سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة، وذلك بمكان يقال له أدرج، وقيل بمسكن من أرض سواد العراق من ناحية الانبار، فاستقل معاوية بالامر إلى أن مات سنة ستين.
قال بعضهم: كان نقش خاتم معاوية: كل عمل ثواب.
وقيل بل كان: لا قوة إلا بالله.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وسعيد بن منصور قالا: ثنا أبو معاوية ثنا الاعمش عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد.
قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة - يعني خارج الكوفة - الجمعة في الضحى ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لاتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون ".
رواه محمد بن سعد عن يعلى بن عبيد عن الاعمش به.
وقال محمد بن سعد: حدثنا عارم ثنا حماد بن يزيد، عن معمر، عن الزهري، أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه، ثم إنه بعد عن ذلك.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا ابن فضيل عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي، حدثني سفيان بن الليل قال: قلت للحسن بن علي لما قدم من الكوفة إلى المدينة: يا مذل المؤمنين، قال: لا تقل ذلك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا تذهب الايام والليالي حتى يملك معاوية ".
فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تهراق بيني وبينه دماء المسلمين.
وقال مجالد عن الشعبي عن الحارث الاعور.
قال قال علي بعدما رجع من صفين: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل.
وقال ابن عساكر باسناده عن أبي داود الطيالسي: ثنا أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الاسود بن يزيد، قال قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلافة ؟ فقالت: وما تعجب من ذلك ؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة، وكذلك غيره من الكفار.
وقال الزهري: حدثني القاسم بن محمد أن معاوية حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة فكلمها خاليين لم يشهد كلامهما أحد إلا ذكوان أبو عمر ومولى عائشة، فقالت: أمنت أن أخبأ لك رجلا يقتلك بقتلك أخي محمدا ؟ فقال: صدقتي، فلما قضى معاوية كلامه معها تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والذي سن الخلفاء بعده، وحضت معاوية على العدل واتباع أثرهم، فقالت في ذلك فلم يترك له عذرا، فلما قضت مقالتها قال لها معاوية: أنت والله العالمة العاملة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الناصحة المشفقة البليغة الموعظة، حضضت على الخير، وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا مصلحة، وأنت أهل أن تطاعي.
وتكلمت هي ومعاوية كلاما كثيرا.
فلما قام معاوية اتكأ على ذكوان وقال: والله ما سمعت خطيبا ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ من عائشة.
وقال محمد بن سعد: حدثنا خالد بن مخلد البجلي، ثنا سليمان بن بلال، حدثني علقمة بن أبي علقمة عن أمه.
قالت: قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة فأرسل إلى عائشة: أن ارسلي بانبجانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره، فأرسلت به معي أحمله، حتى

دخلت به عليه، فأخذ الانبجانية فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله وشربه وأفاض على جلده.
وقال الاصمعي عن الهذلي، عن الشعبي قال: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلا أمرك.
فما رد عليهم جوابا
حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد ! فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه، وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت أشد نفورا وأعظم هربا من ذلك، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت علي وأين مثل هؤلاء ؟ ومن يقدر على أعمالهم ؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم ؟ رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني سلكت بها طريقا لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك.
ولكل فيه مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فانها بقاببة قوبها، وإن السيل إذا جاء يبرى، وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستيصال، أستغفر الله لي ولكم، أستغفر الله.
ثم نزل.
- قال أهل اللغة: القاببة البيضة، والقوب الفرخ، قابت البيضة تقوب إذا انفلقت عن الفرخ -.
والظاهر أن هذه الخطبة كانت عام حج في سنة أربع وأربعين، أو في سنة خمسين، لا في عام الجماعة.
وقال الليث: حدثني علوان بن صالح بن كيسان أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل فسكن عائشة بن عثمان، وأمرها بالكف وقال لها: يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتحها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا ؟ وأن تكوني ابنة عثمان
أمير المؤمنين أحب إلي أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك.
وقد روي ابن عدي من طريق علي بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة عن أبي سعيد، ومن حديث مجالد، وهو ضعيف أيضا، عن أبي الوداك عن أبي سعيد.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ".
وأسنده أيضا من طريق الحكم بن ظهير - وهو متروك - عن عاصم عن زر عن ابن مسعود مرفوعا.
وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحا لبادر الصحابة

إلى فعل ذلك، لانهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.
وأرسله عمرو بن عبيد عن الحسن البصري، قال أيوب: وهو كذب ورواه الخطيب البغدادي باسناد مجهول عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: " إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه (1) فإنه أمين مأمون ".
وقد قال أبو زرعة الدمشقي عن دحيم، عن الوليد، عن الاوزاعي قال: أدركت خلافة معاوية عدة من الصحابة منهم أسامة وسعد وجابر وابن عمر وزيد بن ثابت وسلمة بن مخلد وأبو سعيد ورافع بن خديج وأبو أمامة وأنس بن مالك، ورجال أكثر وأطيب ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، ومن الدين جديده، وعرفوا من الاسلام ما لم يعرفه غيرهم، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويل القرآن.
ومن التابعين لهم باحسان ما شاء الله، منهم المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الاسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن محيريز، وفي أشباه لهم لم ينزعوا يدا من جماعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو زرعة عن دحيم، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز.
قال: لما قتل عثمان لم يكن للناس غازية تغزو، حتى كان عام الجماعة فأغزا معاوية أرض الروم ست عشرة غزوة، تذهب سرية في الصيف ويشتوا بأرض الروم، ثم تقفل وتعقبها أخرى، وكان في جملة من أغزى ابنه يزيد ومعه خلق من الصحابة، فجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل بهم راجعا إلى الشام، وكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شد خناق الروم.
وقال ابن وهب عن يونس عن الزهري قال.
حج معاوية بالناس في أيام خلافته مرتين، وكانت أيامه
عشرين سنة إلا شهرا.
وقال أبو بكر بن عياش: حج بالناس معاوية سنة أربع وأربعين، وسنة خمسين.
وقال غيره: سنة إحدى وخمسين (2) فالله أعلم.
وقال الليث بن سعد: حدثنا بكير عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال: ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب - يعني معاوية - وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ثنا المسور بن مخرمة أنه وفد على معاوية.
قال: فلما دخلت عليه - حسبت أنه قال سلمت عليه - فقال: ما فعل طعنك على الائمة يا مسور ؟ قال قلت: ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له، فقال: لتكلمني بذات نفسك، قال: فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلا أخبرته به، فقال: لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من ذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك ؟ قال: قلت: نعم ! إن لي ذنوبا إن لم تغفرها هلكت بسببها، قال: فما الذي يجعلك أحق بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوالله لما
__________
(1) كذا بالاصل، وفي هامش المطبوعة: " لعله فاقبلوه بدليل قوله في سياق الكلام: فإنه أمين مأمون، ولا يطعن في الحديث، ويصح المعنى والله أعلم ".
(2) في الطبري 6 / 161: حج بالناس سنة إحدى وخمسين يزيد بن معاوية، وقال بعضهم حج يزيد في سنة خمسين وقال بعضهم الآخر حج معاوية.

إلي من إصلاح الرعايا وإقامة الحدود والاصلاح بين الناس والجهاد في سبيل الله والامور العظام التي لا يحصيها إلا الله ولا نحصيها أكثر مما تذكر من العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيئات، والله على ذلك ما كنت لاخير بين الله وغيره إلا اخترت الله على غيره مما سواه، فقال: ففكرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خصمني.
قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير.
وقد رواه شعيب عن الزهري عن عروة عن المسور بنحوه.
وقال ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي قال قال معاوية: يأيها الناس ! ما أنا بخيركم وإن منكم لمن هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الافاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدركم حلبا.
وقد رواه أصحاب محمد عن ابن
سعد عن محمد بن مصعب، عن أبي بكر بن أبي مريم عن ثابت مولى معاوية أنه سمع معاوية يقول نحو ذلك.
وقال هشام بن عمار خطيب دمشق: حدثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس بن حلبس قال سمعت معاوية على منبر دمشق يوم جمعة يقول: أيها الناس اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطن الله عليكم عدوكم فليسومنكم سوء العذاب.
تصدقوا ولا يقولن الرجل إني مقل، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني، إياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: سمعت وبلغني، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يزيد بن طهمان الرقاشي ثنا محمد بن سيرين.
قال: كان معاوية إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتهم.
ورواه أبو القاسم البغوي عن سويد بن سعيد، عن همام بن إسماعيل، عن أبي قبيل.
قال: كان معاوية يبعث رجلا يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على المجالس يسأل هل ولد لاحد مولود ؟ أو قدم أحد من الوفود ؟ فإذا أخبر بذلك أثبت في الديوان - يعني ليجري عليه الرزق - وقال غيره: كان معاوية متواضعا ليس له مجالد إلا كمجالد الصبيان التي يسمونها المخاريق فيضرب بها الناس.
وقال هشام بن عمار، عن عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس.
قال: رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصفيا عليه قميص مرقوع الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق، وقال الاعمش عن مجاهد، إنه قال: لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي.
وقال هشيم عن العوام عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمرو.
قال: ما رأيت أحدا أسود من معاوية، قال قلت: ولا عمر ؟ قال: كان عمر خيرا منه، وكان معاوية أسود منه.
ورواه أبو سفيان الحيري، عن العوام بن حوشب به.
وقال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية، قيل ولا أبو بكر ؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرا منه، وهو أسود.
وروى من طريق عن ابن عمر مثله.
وقال عبد الرزاق: عن معمر عن همام سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت رجلا كان أخلق بالملك من معاوية، وقال حنبل بن إسحاق:

حدثنا أبو نعيم حدثنا ابن أبي عتيبة عن شيخ من أهل المدينة قال قال معاوية.
أنا أول الملوك (1).
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف حدثنا حمزة عن ابن شوذب قال: كان معاوية يقول أنا أول الملوك وآخر خليفة، قلت: والسنة أن يقال لمعاوية ملك، ولا يقال له خليفة لحديث سفينة: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا " (2).
وقال عبد الملك بن مروان يوما وذكر معاوية فقال: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه.
وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحدا أعظم حلما ولا أكثر سؤددا ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجا، ولا أرحب باعا بالمعروف من معاوية.
وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاما شيئا شديدا، فقيل له لو سطوت عليه ؟ فقال: إني لاستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.
وفي رواية قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك ؟ فقال: إني لاستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي.
وقال الاصمعي عن الثوري: قال قال معاوية: إني لاستحيي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو تكون عورة لا أواريها بستري.
وقال الشعبي والاصمعي عن أبيه قالا: جرى بين رجل يقال له أبو الجهم وبين معاوية كلام فتكلم أبو الجهم بكلام فيه غمر لمعاوية، فأطرق معاوية.
ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان، ويأخذ أخذ الاسد، وإن قليله يغلب كثير الناس.
ثم أمر معاوية لابي الجهم بمال فقال: أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية: نميل على جوانبه كأنا * نميل إذا نميل على أبينا نقلبه لنخبر حالتيه * فنخبر منهما كرما ولينا وقال الاعمش: طاف الحسن بن علي مع معاوية فكان معاوية يمشي بين يديه، فقال الحسن: ما أشبه أليتيه بأليتي هند ؟ ! فالتفت إليه معاوية فقال: أما إن ذلك كان يعجب أبا سفيان.
وقال ابن أخته عبد الرحمن بن أبي الحكم لمعاوية: إن فلانا يشتمني، فقال له: طأطئ لها فتمر فتجاوزك.
وقال ابن الاعرابي: قال رجل لمعاوية: ما رأيت أنذل منك، فقال معاوية: بلى
من واجه الرجال بمثل هذا.
وقال أبو عمرو بن العلاء قال معاوية: ما يسرني بذل الكرم حمر
__________
(1) في رواية عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خلافة نبوة ثلاثين عاما ثم يؤتي الله الملك من يشاء " فقال معاوية: قد رضينا بالملك.
أنظر الحديث في سنن أبي داود - كتاب السنة (4 / 211) والترمذي في الفتن 4 / 503 والامام أحمد في المسند 4 / 273 ودلائل البيهقي 6 / 342.
(2) أخرجه الامام أحمد 5 / 44 و 5 / 220 وأبو داود في السنة ح (4646) بلفظ خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يأتي الملك من يشاء.
ومن طريق يعقوب بن سفيان عن سفينة الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ملك.

النعم.
وقال: ما يسر بي بذل الحلم عز النصر.
وقال بعضهم: قال معاوية: يا بني أمية فارقوا قريشا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرما وقال: آفة الحلم الذل.
وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم.
وقال عبد الله بن الزبير: لله در ابن هند، إن كنا لنفرقه وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الارض بأدهى منة فيتخادع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا الجبل حجر - وأشار إلى أبي قيس - وقال رجل لمعاوية: من أسود الناس ؟ فقال: أسخاهم نفسا حين سأل، وأحسنهم في المجالس خلقا، وأحلمهم حين يستجهل.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان معاوية يتمثل بهذه الابيات كثيرا: فما قتل السفاهة مثل حلم * يعود به على الجهل الحليم فلا تسفه وإن ملئت غيظا * على أحد فإن الفحش لوم ولا تقطع أخا لك عند ذنب * فإن الذنب يغفره الكريم وقال القاضي الماوردي في الاحكام السلطانية: وحكي أن معاوية أتي بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد من بينهم، فقال:
يميني أمير المؤمنين أعيذها * بعفوك أن تلقى مكانا يشينها يدي كانت الحسناء لو تم سترها * ولا تعدم الحسناء عيبا يشيبها فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة * إذا ما شمالي فارقتها يمينها فقال معاوية: كيف أصنع بك ؟ قد قطعنا أصحابك ؟ فقالت أم السارق: يا أمير المؤمنين ! اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها.
فخلى سبيله، فكان أول جد ترك في الاسلام وعن ابن عباس أنه قال: قد علمت بم غلب معاوية الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقع طاروا، وقال غيره: كتب معاوية إلى نائبه زياد: إنه لا ينبغي أن يسوس الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فيحمل الناس على المهالك، ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأنا للين والالفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد بابا يدخل منه.
وقال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز.
قال: قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: بعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف ففرقتها من يومها فلم يبق منها درهم،

فقالت لها خادمتها: هلا أبقيت لنا درهما نشتري به لحما تفطري عليه ؟ فقالت: لو ذكرتيني لفعلت (1).
وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته مائة ألف فقبلته.
وقال زيد بن الحباب عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة.
قال: قدم الحسن بن علي على معاوية فقال له: لاجيزنك بجائزة لم يجزها أحد كان قبلي، فأعطاه أربعمائة ألف ألف (2).
ووفد إليه مرة الحسن والحسين فأجازهما على الفور بمائتي ألف، وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي، فقال له الحسين: ولم تعط أحدا أفضل منا.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا يوسف ابن موسى ثنا جرير عن مغيرة.
قال: أرسل الحسن بن علي وعبد الله بن جعفر إلى معاوية يسألانه المال، فبعث إليهما - أو إلى كل منهما - بمائة ألف، فبلغ ذلك عليا فقال لهما: ألا تستحيان ؟ رجل نطعن في عينه غدوة وعشية تسألانه المال ؟ فقالا: بل حرمتنا أنت وجاد هولنا.
وروى الاصمعي قال: وفد الحسن وعبد الله بن الزبير على معاوية فقال للحسن: مرحبا وأهلا بابن رسول الله، وأمر له بثلاثمائة ألف، وقال لابن الزبير: مرحبا وأهلا بابن عمة رسول الله، وأمر له بمائة ألف.
وقال أبو مروان المرواني: بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف فقسمها على جلسائه، وكانوة عشرة، فأصاب كل واحد عشرة آلاف.
وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف فاستو هبتها منه امرأته فاطمة فأطلقها لها، وبعث إلى مروان بن الحكم بمائة ألف فقسم منها خمسين ألفا وحبس خمسين ألفا، وبعث إلى ابن عمر بمائة ألف ففرق منها تسعين واستبقى عشرة آلاف.
فقال معاوية: إنه لمقتصد يحب الاقتصاد.
وبعث إلى عبد الله بن الزبير بمائة ألف فقال للرسول: لم جئت بها بالنهار ؟ فلا جئت بها بالليل ؟ ثم حبسها عنده ولم يعط منها أحدا شيئا، فقال معاوية: إنه لخب ضب (3)، كأنك به قد رفع ذنبه وقطع حبله.
وقال ابن دآب: كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، ويقضي له معها مائة حاجة، فقدم عليه عاما فأعطاه المال وقضى له الحاجات، وبقيت منها واحدة، فبينما هو عنده إذ قدم أصبغهند سجستان يطلب من معاوية أن يملكه على تلك البلاد، ووعد من قضى له هذه الحاجة من ماله ألف ألف، فطاف على رؤوس الاشهاد والامراء من أهل الشام وأمراء العراق، ممن قدم مع الاحنف بن قيس، فكلمهم يقولون: عليك بعبد الله بن جعفر، فقصده الدهقان فكلم فيه ابن جعفر معاوية فقضى حاجته تكملة المائة حاجة، وأمر الكتاب فكتب له عهده، وخرج به ابن جعفر إلى الدهقان فسجد له وحمل إليه ألف ألف درهم، فقال له ابن جعفر: اسجد لله واحمل مالك إلى منزلك، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالثمن.
فبلغ ذلك معاوية فقال: لان يكون يزيد قالها أحب إلي من
__________
(1) في ابن سعد 8 / 66 ذكر الرواية عن هشام بن عروة عن ابن المنكدر عن ام ذرة وفيها أن ابن الزبير بعث بالمائة ألف إلى عائشة.
ونقلها ابن حجر في الاصابة عن ابن سعد 4 / 361 ولم يذكر فيها من أرسل إليها المال.
(2) الرواية في الاصابة من طريق الحسن بن شقيق وفيه: أربعمائة ألف (1 / 330).
(3) خب: خداع.
ضب: حاقد.

خراج العراق، أبت بنو هاشم إلا كرما، وقال غيره: كان لعبدالله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه في بعض الاوقات دين خمسمائة ألف، فألح عليه غرماؤه فاستنظرهم حتى يقدم على معاوية فيسأله أن يسلفه شيئا من العطاء، فركب إليه فقال له: ما أقدمك يا بن جعفر ؟ فقال: دين ألح علي غرماؤه، فقال: وكم هو ؟ قال: خمسمائة ألف.
فقضاها عنه وقال له: إن الالف ألف ستأتيك في وقتها.
وقال ابن سعيد: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا ابن هلال عن قتادة.
قال قال معاوية: يا عجبا للحسن بن علي ! ! شرب شربة غسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه، ثم قال لابن عباس: لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي، فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسؤني ما أبقى الله أمير المؤمنين.
قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضا وأشياء، وقال: خذها فاقسمها في أهلك.
وقال أبو الحسن المدايني عن سلمة بن محارب قال: قيل لمعاوية أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم ؟ قال: كنا أكثر أشرافا وكانوا هم أشرف، فيهم واحد لم يكن في بني عبد مناف مثل هاشم، فلما هلك كنا أكثر عددا وأكثر اشرافا، وكان فيهم عبد المطلب ولم يكن فينا مثله، فلما مات صرنا أكثر عددا وأكثر أشرافا، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي، فجاء نبي لم يسمع الاولون والآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف ؟.
وروى ابن أبي خيثمة عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمرو بن العاص قص على معاوية مناما رأى فيه أبا بكر وعمر وعثمان وهم يحاسبون على ما ولوه في أيامهم، ورأى معاوية وهو موكل به رجلان يحاسبانه على ما عمل في أيامه، فقال له معاوية: وما رأيت ثم دنانير مصر ؟.
وقال ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي.
قال: دخل عمرو على معاوية وقد ورد عليه كتاب فيه تعزية له في بعض الصحابة، فاسترجع معاوية فقال عمرو بن العاص: تموت الصالحون وأنت حي * تخطاك المنايا لا تموت فقال له معاوية:
أترجو أن أموت وأنت حي * فلست بميت حتى تموت وقال ابن السماك قال معاوية: كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها، وقال الزهري عن عبد الملك عن أبي بحرية.
قال قال معاوية: المروءة في أربع، العفاف في الاسلام، واستصلاح المال، وحفظ الاخوان، وحفظ الجار.
وقال أبو بكر الهذلي: كان معاوية يقول الشعر فلما ولي الخلافة قال له أهله: قد بلغت الغاية فماذا تصنع بالشعر ؟ فارتاح يوما فقال: صرمت سفاهتي وأرحت حلمي * وفي على تحملي اعتراض

على أني أجيب إذا دعتني * إلى حاجاتها الحدق المراض وقال مغيرة عن الشعبي: أول من خطب جالسا معاوية حين كثر شحمه وعظم بطنه.
وكذا روى عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال: أول من خطب جالسا يوم الجمعة معاوية.
وقال أبو المليح عن ميمون: أول من جلس على المنبر معاوية واستأذن الناس في الجلوس.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: أول من أذن وأقام يوم الفطر والنحر معاوية.
وقال أبو جعفر الباقر: كانت أبواب مكة لا أغلاق لها، وأول من اتخذ لها الابواب معاوية.
وقال أبو اليمان عن شعيب عن الزهري: مضت السنة أن لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، وأول من ورث المسلم من الكافر معاوية، وقضى بذلك بنو أمية بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنة، وأعاد هشام ما قضى به معاوية وبنو أمية من بعده، وبه قال الزهري، ومضت السنة أن دية المعاهد كدية المسلم، وكان معاوية أول من قصرها إلى النصف، وأخذ النصف لنفسه.
وقال ابن وهب عن مالك عن الزهري قال: سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: اسمع يا زهري، من مات حبا لابي بكر وعمر وعثمان وعلي، وشهد للعشرة بالجنة، وترحم على معاوية، كان حقا على الله أن لا يناقشه الحساب.
وقال سعيد بن يعقوب الطالقاني: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: تراب في أنف معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز.
وقال محمد بن
يحيى بن سعيد: سئل ابن المبارك عن معاوية فقال: ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده، فقال خلفه: ربنا ولك الحمد، فقيل له: أيهما أفضل ؟ هو أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز.
وقال غيره عن ابن المبارك قال معاوية: عندنا محنة فمن رأيناه ينظر إليه شزرا اتهمناه على القول - يعني الصحابة - وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره: سئل المعافى بن عمران أيهما أفضل ؟ معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟ فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلا من الصحابة مثل رجل من التابعين ؟ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوا لي أصحابي وأصهاري، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وكذا قال الفضل بن عتيبة.
وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: معاوية ستر لاصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه.
وقال الميموني قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الاسلام.
وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي ؟ فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدا من الصحابة إلا وله داخلة سوء.
وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة.
قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا إنسانا شتم معاوية، فإنه ضرب أسواطا.
وقال بعض السلف: بينما أنا على جبل بالشام إذ سمعت هاتفا يقول: من أبغض الصديق فذاك زنديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنم

زمرا، ومن أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمن، ومن أبغض عليا فذاك خصمه النبي، ومن أبغض معاوية سحبته الزبانية، إلى جهنم الحامية، يرمى به في الحامية الهاوية.
وقال بعضهم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية، إذ جاء رجل فقال عمر: يا رسول الله هذا يتنقصنا، فكأنه انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لا أتنقص هؤلاء ولكن هذا - يعني معاوية - فقال: " ويلك ! أو ليس هو من أصحابي ؟ قالها ثلاثا، ثم أخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم حربة فناولها معاوية فقال: جابها في لبته " فضربه بها وانتبهت فبكرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات، وهو راشد الكندي.
وروى ابن عساكر عن الفضيل بن عياض أنه كان يقول: معاوية من الصحابة، من العلماء الكبار، ولكن ابتلى بحب الدنيا.
وقال العتبي: قيل لمعاوية أسرع إليك الشيب ؟ فقال: كيف لا ولا أزال أرى رجلا من العرب قائما على رأسي يلقح لي كلاما يلزمني جوابه، فإن أصبت لم أحمد، وإن أخطأت سارت بها البرود.
وقال الشعبي وغيره: أصابت معاوية في آخر عمره لوقة (1)، وروى ابن عساكر في ترجمة خديج الخصي مولى معاوية قال: اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة فأدخلتها عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها - يعني فرجها - ويقول: هذا المتاع لو كان لي متاع، اذهب بها إلى يزيد بن معاوية، ثم قال: لا ! ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد، قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين ! فإنها لا تصلح له، فقال: نعم ما رأيت، قال: ثم وهبها لعبد الله بن مسعدة الفزاري مولى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسود فقال له: بيض بها ولدك، وهذا من فقه معاوية ونحريه، حيث كان نظر إليها بشهوة، ولكنه استضعف نفسه عنها، فتحرج أن يهبها من ولده يزيد لقوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * [ النساء: 22 ] وقد وافقه على ذلك الفقيه ربيعة بن عمرو الجرشي الدمشقي.
وذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص قدم في وفد أهل مصر إلى معاوية، فقال لهم في الطريق: إذا دخلتم على معاوية فلا تسلموا عليه بالخلافة فإنه لا يحب ذلك، فلما دخل عليه عمرو قبلهم، قال معاوية لحاجبه: أدخلهم، وأوعز إليه أن يخوفهم في الدخول ويرعبهم، وقال: إني لاظن عمرا قد تقدم إليهم في شئ ؟.
فلما أدخلوهم عليه - وقد أهانوهم - جعل أحدهم إذا دخل يقول: السلام عليك يا رسول الله، فلما نهض عمرو من عنده قال: قبحكم الله ! نهيتكم عن أن تسلموا عليه بالخلافة فسلمتم عليه بالنبوة.
__________
(1) قال الجاحظ في البيان والتبيين 3 / 134 لما سقطت ثنيتا معاوية لف وجهه بعمامة، ثم خرج إلى الناس فقال:
لئن ابتليت لقد ابتلى الصالحون قبلي، وإني لارجو أن أكون منهم، ولئن عوقبت لقد عوقب الخاطئون قبلي، وما آمن أن أكون منهم ولئن سقط عضوان مني لما بقي أكثر...

وذكر أن رجلا سأل من معاوية أن يساعده في بناء داره باثني عشر ألف جذع من الخشب.
فقال له معاوية: أين دارك ؟ قال: بالبصرة، قال: وكم اتساعها ؟ قال: فرسخان في فرسخين، قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري.
وذكر أن رجلا دخل بابن معه فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلا ذريعا، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدخول، فقال له معاوية ! أين ابنك التلقامة ؟ قال: اشتكى.
قال: قد علمت أن أكله سيورثه داء.
قال: ونظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة فجعل يزدريه، فقال: يا أمير المؤمنين إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من بها.
وقال معاوية: أفضل الناس من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا وعد أنجز، وإذا أساء استغفر.
وكتب رجل (1) من أهل المدينة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: إذا الرجال ولدت أولادها * واضطربت من كبر أعضادها وجعلت أسقامها تعتادها * فهي زروع قد دنا حصادها فقال معاوية: نعى إلي نفسي وقال ابن أبي الدنيا: حدثني هارون بن سفيان عن عبد الله السهمي حدثني ثمامة بن كلثوم أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال: أيها الناس ! إن من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي خير مني، وإنما يليكم من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيرا مني (2)، ويا زيد إذا دنا أجلي فول غسلي رجلا لبيبا، فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراضة من شعره وأظفاره، فاستودع القراضة أنفي وفمي، وأذني وعيني (3)، واجعل ذلك الثوب مما يلي
جلدي دون لفافي، ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين.
وقال بعضهم: لما احتضر معاوية جعل يقول: لعمري لقد عمرت في الدهر برهة * ودانت لي الدنيا بوقع البواتر وأعطيت حمر المال والحكم والنهى * ولي سلمت كل الملوك الجبابر
__________
(1) في الطبري 6 / 187: زر بن حبيش أو أيمن بن خريم.
(2) في الكامل للمبرد 2 / 381: ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما لم يكن قبلي إلا من هو خير مني.
(3) في ابن الاعثم 4 / 264 قال: اعملوا أني كنت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يقلم أظفاره فأخذت من قلامته فجعلتها في قارورة فهي عندي، وعندي أيضا شئ من شعره، إذا أنا مت وغسلتموني وكفنتموني فقطعوا تلك القلامة فاجعلوها في عيني، واجعلوا الشعر في فمي وأذني..

فأضحى الذي قد كان مما يسرني * كحكم مضى في المزمنات الغوابر فيا ليتني لم أعن في الملك ساعة * ولم أسع في لذات عيش نواضر وكنت كذي طمرين عاش ببلغة * فلم يك حتى زار ضيق المقابر وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد، عن محمد بن الحكم، عمن حدثه أن معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال - كأنه أراد أن يطيب له - لان عمر بن الخطاب قاسم عماله.
وذكروا أنه في آخر عمره اشتد به البرد فكان إذا لبس أو تغطى بشئ ثقيل يغمه، فاتخذ له ثوبا من حواصل الطير، ثم ثقل عليه بعد ذلك، فقال: تبا لك من دار، ملكتك أربعين سنة، عشرين أميرا، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيك، ومصيري منك، تبا للدنيا ولمحبيها.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير.
قال: لما ثقل معاوية وتحدث الناس بموته قال لاهله: احشوا عيني إثمدا، وأوسعوا رأسي دهنا، ففعلوا وغرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له مجلس وقال: اسندوني، ثم قال: إيذنوا للناس فليسلموا علي قياما ولا يجلس أحد، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائما فيراه مكتحلا متدهنا فيقول
متقول الناس إن أمير المؤمنين لما به وهو أصح الناس، فلما خرجوا من عنده قال معاوية في ذلك: وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع (1) قال: وكان به النقابة (2) - يعني لوقة - فمات من يومه (3) ذلك رحمه الله.
وقال موسى بن عقبة: لما نزل معاوية الموت قال: يا ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى، ولم أل من هذا الامر شيئا.
وقال أبو السائب المخزومي: لما حضرت معاوية الوفاة تمثل بقول الشاعر: إن تناقش يكن نقاشك يا رب * عذابا لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز تجاوز العفو واصفح (4) * عن مسئ ذنوبه كالتراب وقال بعضهم: لما احتضر معاوية جعل أهله يقلبونه فقال لهم: أي شيخ تقلبون ؟ إن نجاه الله من عذاب النار غدا.
__________
(1) في ابن الاعثم 4 / 252 كان في عنقه تعويذ فقطعه ورمى به وتمثل بهذا الشعر.
(2) في الطبري 6 / 181 والكامل لابن الاثير 4 / 7: وكان به النفاثات، وفي ابن الاعثم كان به اللقوة.
(3) في ابن الاعثم: مات بعد خمسة أيام أي يوم الاحد لايام خلت من رجب.
(4) في الكامل لابن الاثير 4 / 8: أو تجاوز فأنت رب صفوح، وفي فتوح ابن الاعثم 4 / 264: أو تجاوز فأنت رب رحيم.

وقال محمد بن سيرين: جعل معاوية لما احتضر يضع خدا على الارض ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * [ النساء: 48 ] اللهم فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له.
وقال العتبي عن أبيه: تمثل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السياق: هو الموت لا منجا من الموت والذي * نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج
غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك.
ورواه ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء فذكر مثله، وزاد: ثم مات.
وقال غيره: أغمي عليه ثم أفاق فقال لاهله: اتقوا الله فإن الله تعالى يقي من اتقاه، ولا يقي من لا يتقي، ثم مات (1) رحمه الله وقد روى أبو مخنف عن عبد الملك بن نوفل.
قال: لما مات معاوية صعد الضحاك بن قيس المنبر فخطب الناس - وأكفان معاوية على يديه - فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن معاوية الذي كان سور العرب وعونهم وجدهم، قطع الله به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد، ألا إنه قد مات وهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله، ثم هول البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الاولى.
ثم نزل وبعث البريد إلى يزيد بن معاوية يعلمه ويستحثه على المجئ (2).
ولا خلاف أنه توفي بدمشق في رجب سنة ستين.
فقال جماعة: ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين، وقيل ليلة الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين.
قاله ابن إسحاق وغير واحد، وقيل لاربع خلت من رجب، قاله الليث.
وقال سعد بن إبراهيم لمستهل رجب، قال محمد بن إسحاق والشافعي: صلى عليه ابنه يزيد، وقد ورد من غير وجه أنه أوصى إليه أن يكفن في ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كساه إياه، وكان مدخرا عنده لهذا اليوم، وأن يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره في فمه وأنفه وعينيه وأذنيه.
وقال آخرون: بل كان ابنه يزيد غائبا فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق، ثم دفن فقيل بدار الامارة وهي
__________
(1) في ابن الاعثم 4 / 264: اتقوا الله حق تقاته، فإن تقوى الله جنة حصينة، وويل لمن لم يتق الله ويخاف عذابه وأليم عقابه...ثم توفي من الغد.
(2) في الطبري 6 / 183 والكامل لابن الاثير 4 / 9 والفتوح لابن الاعثم 4 / 265: كان يزيد قد خرج في مرض أبيه إلى حوارين الثنية مقتصدا للصيد، ومات معاوية ويزيد ليس بحضرته فكتبوا إليه فأقبل وقد دفن فأتى قبره فصلى عليه وقال: جاء البريد بقرطاس يخب به * فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه * كانا جميعا فماتا قاطنين معا

الخضراء، وقيل بمقابر باب الصغير، وعليه الجمهور فالله أعلم.
وكان عمره إذ ذاك ثمانيا وسبعين سنة، وقيل جاوز الثمانين وهو الاشهر والله أعلم.
ثم ركب الضحاك بن قيس في جيش وخرج ليتلقى يزيد بن معاوية - وكان يزيد بحوارين - فلما وصلوا إلى ثنية العقاب تلقتهم أثقال يزيد، وإذا يزيد راكب على بختي وعليه الحزن ظاهر، فسلم عليه الناس بالامارة وعزوه في أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلم معه إلا الضحاك بن قيس، فانتهى إلى باب توما، فظن الناس أنه يدخل منه إلى المدينة، فأجازه مع السور حتى انتهى إلى الباب الشرقي، فقيل: يدخل منه لانه باب خالد، فجازه حتى أتى الباب الصغير فعرف الناس أنه قاصد قبر أبيه، فلما وصل إلى باب الصغير ترجل عند القبر ثم دخل فصلى على أبيه بعدما دفن (1) ثم انفتل، فلما خرج من المقبرة أتى بمراكب الخلافة فركب.
ثم دخل البلد وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء فاغتسل ولبس ثيابا حسنة ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس ! إن معاوية كان عبدا من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده ودون من قبله، ولا أزكيه على الله عز وجل فإنه أعلم به، إن عفى عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الامر من بعده، ولست آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط (2)، وإذا أراد الله شيئا كان.
وقال لهم في خطبته هذه: وإن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملا أحدا من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم ولست مشتيا أحدا بأرض الروم، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثا وأنا أجمعه لكم كله.
قال: فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدا.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: بعث معاوية وهو مريض إلى ابنه يزيد، فلما جاءه البريد ركب وهو يقول: جاء البريد بقرطاس يخب (3) به * فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم (4) * قال الخليفة أمسى مثقلا وجعا (5) فمادت الارض أو كادت تميد بنا * كأن أغبر من أركانها انقلعا (6)
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 5 / 2: صار إلى دمشق بعد ثلاثة أيام من مدفن معاوية.
(2) في ابن الاعثم 5 / 8 ولست أقصر عن طلب حق، ولا أعذر من تفريط في باطل.
وانظر خطبة ليزيد بعد موت أبيه في العقد الفريد 2 / 142 و 2 / 250.
(3) في ابن الاعثم 5 / 4: يحث به.
(4) في الكامل لابن الاثير 4 / 9 والطبري 6 / 182 وابن الاعثم: كتابكم.
(5) في الطبري وابن الاثير والعقد الفريد: مثبتا وجعا: وفي ابن الاعثم: مدنفا وجعا.
(6) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: انقطعا.

ثم انبعثنا إلى خوص مضمرة (1) * نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعا فما نبالي إذا بلغن أرجلنا * ما مات منهن بالمرمات (2) أو طلعا لما انتهينا وباب الدار منصفق * بصوت رملة ريع القلب فانصدعا من لا تزل (3) نفسه توفي على شرف * توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه * كأنا جميعا خليطا سالمين معا (4) أغر أبلج يستسقي الغمام به * لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا (5) لا يرقع الناس ما أوهى وإن جهدوا * أن يرقعوه ولا يوهون ما رقعا وقال الشافعي: سرق يزيد هذين البيتين من الاعشى، ثم ذكر أنه دخل قبل موت أبيه دمشق وأنه أوصى إليه، وهذا قد قاله ابن إسحاق وغير واحد، ولكن الجمهور على أن يزيد لم يدخل دمشق إلا بعد موت أبيه، وأنه صلى على قبره بالناس كما قدمناه والله أعلم.
وقال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه: ألا أنعى معاوية بن حرب * نعاة الحل للشهر الحرام
نعاه الناعيات بكل فج * خواضع في الازمة كالسهام فهاتيك النجوم وهن خرس * ينحن على معاوية الهمام وقال أيمن بن خريم يرثيه أيضا (6): رمى الحدثان نسوة آل حرب * بمقدار سمدن له سمودا (7) فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوهن (8) البيض سودا فإنك لو شهدت بكاء هند * ورملة إذ يصفقن (9) الخدودا
__________
(1) في ابن الاثير والعقد الفريد: مزممة.
(2) في ابن الاعثم: بالبيداء، والبيت ليس في الطبري وابن الاثير.
(3) في ابن الاثير، من لم تزل وفي ابن الاعثم: من لا تزال له نفس على شرف.
(4) في ابن الاثير: كانا جميعا فماتا قاطنين معا، وفي ابن الاعثم: كانا يكونان دهرا قاطعين معا وفي العقد الفريد: كذاك كنا جميعا قاطنين معا.
وليس البيت في الطبري.
(5) في ابن الاعثم: لو صارع الناس عن احلامهم صرعا.
(6) في الامالي للقالي 3 / 115 نسبت الابيات للكميت بن معروف الاسدي.
(7) في ابن عساكر 3 / 189: بأمر قد سمدن له سمودا.
والسمود هنا: الحزن.
(8) في الامالي وتاريخ ابن عساكر: خدودهن.
(9) في الامالي: إذ تصكان، وفي ابن الاعثم 5 / 2: حين يلطمن.

بكيت بكاء معولة قريح (1) * أصاب الدهر واحدها الفريدا ذكر من تزوج من النساء ومن ولد له كان له عبد الرحمن وبه كان يكنى، وعبد الله، وكان ضعيف العقل، وأمهما فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، وقد تزوج بأختها منفردة عنها بعدها، وهي كنوة بنت قرظة وهي التي كانت معه حين افتتح قبرص، وتزوج نائلة بنت عمارة الكلبية فأعجبته وقال
لميسون بنت بحدل: ادخلي فانظري إلى ابنة عمك، فدخلت فسألها عنها فقالت: إنها لكاملة الجمال، ولكن رأيت تحت سرتها خالا، وإني لارى هذه يقتل زوجها ويوضع رأسه في حجرها.
فطلقها معاوية فتزوجها بعده حبيب بن مسلمة الفهري، ثم خلف عليها بعده النعمان بن بشير فقتل ووضع رأسه في حجرها.
ومن أشهر أولاده يزيد وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة بن قنافة الكلبي، وهي التي دخلت على نائلة فأخبرت معاوية عنها بما أخبرته، وكانت حازمة عظيمة الشأن جمالا ورياسة وعقلا ودينا، دخل عليها معاوية يوما ومعه خادم خصي فاستترت منه وقالت: ما هذا الرجل معك ؟ فقال: إنه خصي فاظهري عليه، فقالت: ما كانت المثلة لتحل له ما حرم الله عليه، وحجبته عنها.
وفي رواية أنها قالت له: إن مجرد مثلتك له لن تحل ما حرمه الله عليه، فلهذا أولى الله ابنها يزيد الخلافة بعد أبيه.
وذكر ابن جرير: أن ميسون هذه ولدت لمعاوية بنتا أخرى يقال لها: أمة رب المشارق، ماتت صغيرة، ورملة تزوجها عمرو بن عثمان بن عفان، كانت دارها بدمشق عند عقبة السمك تجاه زقاق الرمان، قاله ابن عساكر قال: ولها طاحون معروفة إلى الآن، وهند بنت معاوية تزوجها عبد الله بن عامر، فلما أدخلت عليه بالخضراء جوار الجامع أرادها على نفسها فتمنعت عليه وأبت أشد الاباء، فضربها فصرخت، فلما سمع الجواري صوتها صرخن وعلت أصواتهن، فسمع معاوية فنهض إليهن فاستعلمهن ما الخبر ؟ فقلن: سمعنا صوت سيدتنا فصحنا، فدخل فإذا بها تبكي من ضربه، فقال لابن عامر: ويحك ! ! مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة ؟ ثم قال له: اخرج من ههنا، فخرج ابن عامر وخلا بها معاوية فقال لها: يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك، أو ما سمعت قول الشاعر: من الخفرات البيض أما حرامها * فصعب وأما حلها فذلول ؟ ثم خرج معاوية من عندها وقال لزوجها: ادخل فقد مهدت لك خلقها ووطأته.
فدخل ابن عامر فوجدها قد طابت أخلاقها فقضى حاجته منها رحمهم الله تعالى.
كان على قضاء معاوية أبو الدرداء بولاية عمر بن الخطاب، فلما حضره الموت أشار على
__________
(1) في الامالي: معولة حزين، وفي تاريخ ابن عساكر: معولة ثكول، وفي ابن الاعثم: موجعة بحزن.

معاوية بتولية فضالة بن عبيد، ثم مات فضالة فولى أبا إدريس الخولاني (1).
وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له المختار وقيل مالك، ويكنى أبا المخارق - مولى لحمير - وكان معاوية أول من اتخذ الحرس، وعلى حجابته سعد مولاه وعلى الشرطة قيس بن حمزة، ثم زميل بن عمرو العذري، ثم الضحاك بن قيس الفهري، وكان صاحب أمره سرجون بن منصور الرومي.
وكان معاوية أول من اتخذ ديوان الخاتم وختم الكتب (2).
وممن ذكر أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة ستين - (صفوان بن المعطل) بن رخصة بن المؤمل بن خزاعي أبو عمرو، وأول مشاهده المريسيع، وكان في الساقة يومئذ، وهو الذي رماه أهل الافك بأم المؤمنين فبرأه الله وإياها مما قالوا، وكان من سادات المسلمين، وكان ينام نوما شديدا حتى كان ربما طلعت عليه الشمس وهو نائم لا يستيقظ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا استيقظت فصل " وقد قتل صفوان شهيدا.
أبو مسلم الخولاني عبد بن ثوب الخولاني من خولان ببلاد اليمن.
دعاه الاسود العنسي إلى أن يشهد أنه رسول الله فقال له: أتشهد أني رسول الله ؟ فقال: لا أسمع، أشهد أن محمدا رسول الله، فأجج له نارا وألقاه فيها فلم تضره، وأنجاه الله منها فكان يشبه بابراهيم الخليل، ثم هاجر فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فقدم على الصديق فأجلسه بينه وبين عمر وقال له عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى في أمة محمد من فعل به كما فعل بابراهيم الخليل، وقبله بين عينيه، وكانت له أحوال ومكاشفات والله سبحانه أعلم.
ويقال إنه توفي فيها النعمان بن بشير، والاظهر أنه مات بعد ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
يزيد بن معاوية وما جرى في أيامه بويع له بالخلافة بعد أبيه في رجب سنة ستين، وكان مولده سنة ست وعشرين، فكان يوم بويع ابن أربع وثلاثين سنة، فأقر نواب أبيه على الاقاليم، لم يعزل أحدا منهم، وهذا من ذكائه.
__________
(1) قال أبو زرعة الدمشقي: جاء بعد فضالة النعمان بن بشير الانصاري ثم بلال بن أبي الدرداء الانصاري وبقي في منصبه إلى وفاة معاوية سنة 60 ه.
ص 198 - 199 وانظر الذهبي سير أعلام النبلاء ج 2 / 241 والاصابة 3 / 559.
(2) في الطبري 6 / 184 والكامل 4 / 11: وحزم الكتب ولم تكن تحزم.
وديوان الخاتم شبيه بدائرة السجلات أو الارشيف العام في الوقت الحاضر (وانظر العسكري: الاوائل ج 1 / 157.
وقد عين معاوية موظفين مشرفين على هذا الديوان منهم عبد الله بن محصن الحميري وقيل عبيد بن أوس الغساني (الطبري 6 / 184 والكامل 4 / 11 وخليفة بن خياط ص 228).

قال هشام بن محمد الكلبي عن أبي مخنف لوط بن يحيى الكوفي في الاخباري: ولي يزيد في هلال رجب سنة ستين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير الكوفة النعمان بن بشير، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية البيعة ليزيد، فكتب إلى نائب المدينة الوليد بن عتبة (1): " بسم الله الرحمن الرحيم من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد فإن معاوية كان عبدا من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له، فعاش بقدر ومات بأجل، فرحمه الله، فقد عاش محمودا ومات برا تقيا والسلام (2).
وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن الفأرة: أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام.
فلما أتاه نعي معاوية فظع به وكبر عليه، فبعث إلى مروان فقرأ عليه الكتاب واستشاره في أمر هؤلاء النفر، فقال: أرى أن تدعوهم قبل أن يعلموا بموت معاوية إلى البيعة (3)، فإن أبوا ضربت أعناقهم.
فأرسل من فوره عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إلى الحسين وابن الزبير - وهما في المسجد - فقال لهما: أجيبا الامير، فقالا: انصرف الآن نأتيه، فلما انصرف عنهما قال الحسين لابن الزبير: إني أرى طاغيتهم قد هلك، قال ابن الزبير: وأنا ما أظن غيره (4).
قال: ثم نهض حسين فأخذ معه مواليه (5) وجاء
باب الامير فاستأذن فأذن له، فدخل وحده، وأجلس مواليه على الباب، وقال: إن سمعتم أمرا يريبكم فادخلوا، فسلم وجلس ومروان عنده، فناوله الوليد بن عتبة الكتاب ونعى إليه معاوية، فاسترجع وقال: رحم الله معاوية، وعظم لك الاجر، فدعا الامير إلى البيعة فقال له الحسين: إن مثلي لا يبايع سرا، وما أراك تجتزي مني بهذا، ولكن إذا اجتمع الناس دعوتنا معهم فكان أمرا واحدا، فقال له الوليد - وكان يحب العافية - فانصرف على اسم الله حتى تأتينا في جماعة الناس.
فقال مروان للوليد: والله لئن فارقك ولم يبايع الساعة ليكثرن القتل بينكم وبينه، فاحبسه ولا تخرجه حتى يبايع وإلا ضربت عنقه، فنهض الحسين وقال: يا بن الزرقاء أنت تقتلني ؟ كذبت والله وأثمت.
ثم انصرف إلى داره، فقال مروان للوليد: والله لا تراه بعدها أبدا.
فقال الوليد: والله يا مروان ما أحب أن لي الدنيا وما فيها وأني قتلت الحسين، سبحان الله ! أقتل حسينا أن قال
__________
(1) في الامامة والسياسة 1 / 204: خالد بن الحكم.
(2) انظر كتابه في فتوح ابن الاعثم باختلاف يسير وفيه زيادة 4 / 10.
(3) في الطبري 6 / 189 والكامل لابن الاثير 4 / 14 زيد فيهما: فإنهم إن علموا بموته وثب كل رجل منهم بناحية وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه.
(4) ما جعلهما يشكان في وفاة معاوية أن عبد الله أتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس ولا يأتيانه في مثلها (الطبري - ابن الاثير).
(5) في فتوح ابن الاعثم 5 / 16: كان في ثلاثين رجلا

لا أبايع ؟ والله إني لاظن أن من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة.
وبعث الوليد إلى عبد الله بن الزبير فامتنع عليه وماطله يوما وليلة، ثم إن ابن الزبير ركب في مواليه واستصحب معه أخاه جعفرا وسار إلى مكة على طريق الفرع، وبعث الوليد خلف ابن الزبير الرجال (1) والفرسان فلم يقدروا على رده، وقد قال جعفر لاخيه عبد الله وهما سائران متمثلا بقول صبرة الحنظلي: وكل بني أم سيمسون ليلة * ولم يبق من أعقابهم غير واحد
فقال: سبحان الله ! ما أردت إلى هذا ؟ فقال: والله ما أردت به شيئا يسوءك، فقال: إن كان إنما جرى على لسانك فهو أكره إلي، قالوا وتطير به.
وأما الحسين بن علي فإن الوليد تشاغل عنه بابن الزبير وجعل كلما بعث إليه يقول حتى تنظر وننظر، ثم جمع أهله وبنيه وركب ليلة الاحد لليلتين بقيتا من رجب من هذه السنة (2)، بعد خروج ابن الزبير بليلة، ولم يتخلف عنه أحد من أهله سوى محمد بن الحنفية، فإنه قال له: والله يا أخي لانت أعز أهل الارض علي، وإني ناصح لك لا تدخلن مصرا من هذه الامصار، ولكن اسكن البوادي والرمال، وابعث إلى الناس فإذا بايعوك واجتمعوا عليك فادخل المصر، وإن أبيت إلا سكنى المصر فاذهب إلى مكة، فإن رأيت ما تحب وإلا ترفعت إلى الرمال والجبال فقال له: جزاك الله خيرا فقد نصحت وأشفقت، وسار الحسين إلى مكة فاجتمع هو وابن الزبير بها، وبعث الوليد إلى عبد الله بن عمر فقال: بايع ليزيد، فقال: إذا بايع الناس بايعت، فقال رجل: إنما تريد أن تختلف الناس ويقتتلون حتى يتفانوا، فإذا لم يبق غيرك بايعوك ؟ فقال ابن عمر: لا أحب شيئا مما قلت، ولكن إذا بايع الناس فلم يبق غيري بايعت، وكانوا [ لا ] (2) يتخوفونه.
وقال الواقدي: لم يكن ابن عمر بالمدينة حين قدم نعي معاوية، وإنما كان هو وابن عباس بمكة فلقيهما وهما مقبلان منها الحسين وابن الزبير، فقال: ما وراءكما ؟ قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد بن معاوية، فقال لهما ابن عمر: اتقيا الله ولا تفرقا بين جماعة المسلمين، وقدم ابن عمر وابن عباس إلى المدينة فلما جاءت البيعة من الامصار بايع ابن عمر مع الناس، وأما الحسين وابن الزبير فإنهما قدما مكة فوجدا بها عمرو بن سعيد بن العاص فخافاه وقالا: إنا جئنا عواذا بهذا البيت.
وفي هذه السنة في رمضان منها عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة عن إمرة المدينة لتفريطه، وأضافها إلى عمرو بن سعيد بن العاص نائب مكة (4)، فقدم المدينة في رمضان، وقيل
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 5 / 21: دعا حبيب بن كزبر فوجه به في ثلاثين راكبا، وفي الاخبار الطوال ص 228: فوجه في أثره حبيب بن كوين في ثلاثين فارسا.
(2) في فتوح ابن الاعثم 5 / 34: لثلاث ليال مضين من شهر شعبان سنة 60 ه.
(3) من الطبري والكامل.
(4) في الامامة والسياسة 1 / 205: عزل عن المدينة خالد بن الحكم وولاها عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وأصبح واليا على المدينة ومكة وعلى الموسم.

في ذي القعدة، وكان متآلها متكبرا، وسلط عمرو بن الزبير - وكان عدوا لاخيه عبد الله - على حربه وجرده له، وجعل عمرو بن سعيد يبعث البعوث إلى مكة لحرب ابن الزبير.
وقد ثبت في الصحيحين أن أبا شريح الخزاعي قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: إيذن لي أيها الامير أن أحدثك حديثا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي حين تلكم به إنه حمد الله وأثنى عليه وقال: " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، وإنه لم يحل القتال فيها لاحد كان قبلي، ولم تحل لاحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم قد صارت حرمتها اليوم كحرمتها بالامس، فليبلغ الشاهد الغائب ".
وفي رواية " فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم " فقيل لابي شريح: ما قال لك ؟ فقال: قال لي نحن أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة (1) (2).
قال الواقدي: ولى عمرو بن سعيد شرطة المدينة عمرو بن الزبير فتتبع أصحاب أخيه ومن يهوى هواه، فضربهم ضربا شديدا حتى ضرب من جملة من ضرب أخاه المنذر بن الزبير، وانه لابد أن يأخذ أخاه عبد الله في جامعة (3) من فضة حتى يقدم به على الخليفة، فضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الاسود بن عبد يغوث وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم، ضربهم من الاربعين إلى الخمسين إلى الستين جلدة، وفر منه عبد الرحمن بن عثمان التيمي، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل في أناس إلى (4) مكة ثم جاء العزم من يزيد إلى عمرو بن سعيد في تطلب ابن الزبير، وأنه لا يقبل منه وإن بايع حتى يؤتى به إلي في جامعة من ذهب أو من فضة تحت برنسه، فلا ترى
إلا أنه يسمع صوتها، وكان ابن الزبير قد منع الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة، وكان نائب عمرو بن سعيد عليها، فحينئذ صمم عمرو على تجهيز سرية إلى مكة بسبب ابن الزبير، فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير: من يصلح أن نبعثه إلى مكة لاجل قتاله ؟ فقال
__________
(1) ولا فارا بخربة: هي بفتح الخاء وإسكان الراء، هذا هو المشهور، ويقال بضم الخاء أيضا حكاها القاضي وصاحب المطالع وآخرون وأصلها سرقة الابل، وتطلق على كل خيانة.
قال الخليل: هي الفساد في الدين من الخارب، وهو اللص المفسد في الارض.
(2) أخرجه البخاري عن سعيد بن شرحبيل عن الليث في المغازي (64) ح (4925) فتح الباري (8 / 20).
وأخرجه في العلم باب ليبلغ الشاهد الغائب عن عبد الله بن يوسف، وفي الحج باب لا يعضد شجرة الحرم.
عن قتيبة.
وأخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد في الحج (15)، (82) باب.
ح (446) ص 2 / 987.
والترمذي في أول كتاب الحج عن قتيبة وقال حسن صحيح.
(3) الجامعة: الغل والقيد، وسميت بالغل لانها تجمع اليدين إلى العنق.
(4) من الطبري والكامل، وفي الاصل: من، تحريف.

له عمرو بن الزبير: إنك لا تبعث إليه من هو أنكى له مني (1)، فعينه على تلك السرية وجعل على مقدمته أنيس بن عمرو الاسلمي في سبعمائة مقاتل.
وقال الواقدي، إنما عينهما يزيد بن معاوية نفسه، وبعث بذلك إلى عمرو بن سعيد، فعسكر أنيس بالجرف وأشار مروان بن الحكم على عمرو بن سعيد أن لا يغزو مكة وأن يترك ابن الزبير بها، فإنه عما قليل إن لم يقتل يمت، فقال أخوه عمرو بن الزبير: والله لنغزونه ولو في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم.
فقال مروان: والله إن ذلك ليسرني.
فسار أنيس واتبعه عمرو بن الزبير في بقية الجيش - وكانوا ألفين - حتى نزل بالابطح، وقيل بداره عند الصفا، ونزل أنيس بذي طوى، فكان عمرو بن الزبير يصلي بالناس، ويصلي وراءه أخوه عبد الله بن الزبير، وأرسل عمرو إلى أخيه يقول له: بر يمين الخليفة، وأته وفي عنقك جامعة من ذهب أو فضة، ولا تدع الناس يضرب بعضهم بعضا، واتق الله فإنك في بلد
حرام.
فأرسل عبد الله يقول لاخيه: موعدك المسجد.
وبعث عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان بن أمية في سرية فاقتتلوا مع عمرو بن أنيس الاسلمي فهزموا أنيسا هزيمة قبيحة، وتفرق عن عمرو بن الزبير أصحابه وهرب عمرو إلى دار ابن علقمة، فأجاره أخوه عبيدة بن الزبير، فلامه أخوه عبد الله بن الزبير وقال: تجير من في عنقه حقوق الناس ؟ ثم ضربه بكل من ضربه بالمدينة إلا المنذر بن الزبير وابنه فإنهما أبيا أن يستقيدا من عمرو، وسجنه ومعه عارم، فسمي سجن عارم، وقد قيل إن عمرو بن الزبير مات تحت السياط والله أعلم.
قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الامارة وكيفية مقتله ولنبدأ قبل ذلك بشئ من ترجمته ثم نتبع الجميع بذكر مناقبه وفضائله.
هو الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم أبو عبد الله القرشي الهاشمي، السبط الشهيد بكربلاء ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء، وريحانته من الدنيا، ولد بعد أخيه الحسن، وكان مولد الحسن في سنة ثلاث من الهجرة، وقال بعضهم: إنما كان بينهما طهر واحد ومدة الحمل، وولد لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع.
وقال قتادة: ولد الحسين لست سنين وخمسة أشهر ونصف (2) من التاريخ، وقتل يوم الجمعة يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين، وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف، رضي الله عنه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حنكه وتفل في فيه ودعا له وسماه حسينا، وقد كان سماه أبوه قبل ذلك حربا، وقيل جعفرا،
__________
(1) قال في فتوح ابن الاعثم 5 / 284: وكانت بنو أمية يكرمون عمرو بن الزبير لان أمه كانت بنت خالد بن سعيد بن العاص، فهو ابن اختهم.
(2) في الاستيعاب نقلا عن قتادة: ولد الحسين بعد الحسن بسنة وعشرة أشهر، لخمس سنين وستة أشهر من التاريخ (هامش الاصابة 1 / 378).

وقيل: إنما سماه يوم سابعه وعق عنه.
وقال جماعة عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانئ بن
هانئ عن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه به ما بين أسفل من ذلك (1)، وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الحزامي.
قال: كان وجه الحسن يشبه وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جسد الحسين يشبه جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى محمد بن سيرين وأخته حفصة، عن أنس.
قال: كنت عند ابن زياد فجئ برأس الحسين فجعل يقول بقضيب في أنف ويقول: ما رأت مثل هذا حسنا، فقلت له: إنه كان من أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال سفيان: قلت لعبيد الله بن زياد: رأيت الحسين ؟ قال: نعم أسود الرأس واللحية إلا شعرات ههنا في مقدم لحيته، فلا أدري أخضب وترك ذلك المكان تشبها برسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن شاب منه غير ذلك ؟ وقال ابن جريج: سمعت عمر بن عطاء قال: رأيت الحسين بن علي يصبغ بالوشمة، أما هو فكان ابن ستين سنة، وكان رأسه ولحيته شديدي السواد، فأما الحديث الذي روي من طريقين ضعيفين أن فاطمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض الموت أن ينحل ولديها شيئا فقال: " أما الحسن فله هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فله جرأتي وجودي " فليس بصحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب المعتبرة، وقد أدرك الحسين من حياة النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنين أو نحوها، وروى عنه أحاديث، وقال مسلم بن الحجاج له رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه أنه قال في الحسن بن علي: إنا تابعي ثقة، وهذا غريب فلان يقول في الحسين إنه تعابي بطريق الاولى.
وسنذكر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمهما به، وما كان يظهر من محبتهما والحنو عليهما.
والمقصود أن الحسين عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض، ولكنه كان صغيرا.
ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان، وصحب أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلها، في الجمل وصفين، وكان معظما موقرا، ولم يزلا في طاعة أبيه حتى قتل، فلما آلت الخلافة إلى أخيه وأراد أن يصالح شق ذلك عليه ولم يسدد رأي أخيه في ذلك، بل حثه على قتل أهل الشام، فقال له أخوه: والله لقد هممت أن أسجنك في بيت وأطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن ثم أخرجك.
فلما رأى الحسين ذلك سكت وسلم، فلما استقرت الخلافة
لمعاوية كان الحسين يتردد إليه مع أخيه الحسن فيكرمهما معاوية إكراما زائدا، ويقول لهما: مرحبا وأهلا، ويعطيهما عطاء جزيلا، وقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي ألف، وقال: خذاها وأنا ابن هند، والله لا يعطيكماها أحد قبلي ولا بعدي، فقال الحسين: والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلا منا.
ولما توفي الحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه، وقد كان في الجيش الذين غزوا القسطنطينية مع ابن معاوية يزيد، في سنة إحدى وخمسين.
ولما أخذت
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب (31) باب.
ح (3779) ص 5 / 660 والامام أحمد في مسنده ج 1 / 90.

البيعة ليزيد في حياة معاوية كان الحسين ممن امتنع من مبايعته هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس، ثم مات ابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك، فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد، بايع ابن عمر وابن عباس، وصمم على المخالفة الحسين وابن الزبير، وخرجا من المدينة فارين إلى مكة فأقاما بها، فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ويقدمون عليه ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد، وأما ابن الزبير فإنه لزم مصلاه عند الكعبة، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولا يمكنه أن يتحرك شئ مما في نفسه مع وجود الحسين، لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه، غير أنه قد تعينت السرايا والبعوث إلى مكة بسببه، ولكن أظفره الله بهم كما تقدم ذلك آنفا، فانقشعت السرايا عن مكة مفلولين وانتصر عبد الله بن الزبير على من أراد هلاكه من اليزيديين، وضرب أخاه عمرا وسجنه واقتص منه وأهانه، وعظم شأن ابن الزبير عند ذلك ببلاد الحجاز، واشتهر أمره وبعد صيته، ومع هذا كله ليس هو معظما عند الناس مثل الحسين، بل الناس إنما ميلهم إلى الحسين لانه السيد الكبير، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس على وجه الارض يومئذ أحد يساميه ولا يساويه، ولكن الدولة اليزيدية كانت كلها تناوئه.
وقد كثر ورود الكتب عليه من بلاد العراق يعدونه إليهم - وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد - فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع
الهمداني، وعبد الله بن وال (1)، معهما كتاب (2) فيه السلام والتهنئة بموت معاوية، فقدما على الحسين لعشر مضين من رمضان من هذه السنة، ثم بعثوا بعدها نفرا منهم قيس (3) بن مسهر الضدائي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكوا الارحبي (4)، وعمارة بن عبد الله السلولي (5)، ومعهم نحو من مائة وخمسين (6) كتابا إلى الحسين، ثم بعثوا هانئ بن السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم، وكتب إليه شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم، وعمرو بن حجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر (7) بن
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 5 / 48: عبد الله بن مسمع البكري.
(2) في الطبري 6 / 197 والكامل لابن الاثير 4 / 20: اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي وكتبوا كتابا عن نفر منهم: سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وغيرهم (في الكامل: مطهر)...أنظر الكتاب فيهما.
وفي فتوح ابن الاعثم 5 / 46 ومقتل الحسين لابي مخنف.
(3) في الاخبار الطوال ص 229: بشر بن مسهر الصيداوي.
(4) في الاخبار الطوال: عبد الرحمن بن عبيد، وفي الطبري: عبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الارحبي.
(5) زاد ابن الاعثم: وعبد الله بن وال، وقد تقدم أنه كان أول الوافدين على الحسين...(6) في الطبري: ثلاثة وخمسين كتابا.
وفي الاخبار الطوال: نحو من خمسين كتابا.
(7) في الطبري والكامل: عمير، وزادا اسما آخر: وعروة بن قيس (وفي الطبري: عزرة).

يحيى التميمي: أما بعد فقد اخضرت الجنان (1) وأينعت الثمار ولطمت الجمام (2)، فإذا شئت فأقدم على جند لك مجندة والسلام عليك.
فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه ويتكلمون في دولته، وأنهم لما يبايعوا أحدا إلى الآن، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم، فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق (3): ليكشف له حقيقة هذا الامر والاتفاق، فإن كان متحتما وأمرا حازما محكما بعث إليه
ليركب في أهل وذويه، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه، وكتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك، فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة فأخذ منها دليلين فسارا به على براري مهجورة المسالك، فكان أحد الدليلين منهما أول هالك، وذلك من شدة العطش، وقد أضلوا الطريق فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له المضيق، من بطن خبيت (4)، فتطير به مسلم بن عقيل، فتلبث مسلم على ما هنالك ومات الدليل الآخر فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره، فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق، وأن يجتمع بأهل الكوفة ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم.
فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له مسلم بن عوسجة الاسدي، وقيل نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي فالله أعلم.
فتسامع أهل الكوفة بقدومه فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا، فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمهدت له البيعة والامور، فتجهز الحسين من مكة قاصدا الكوفة كما سنذكره.
وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير خبره رجل بذلك، فجعل يضرب عن ذلك صفحا ولا يعبأ به، ولكنه خطب الناس ونهاهم عن الاختلاف والفتنة، وأمرهم بالائتلاف والسنة، وقال: إني لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب علي، ولا آخذكم بالظنة، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته لاقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته.
فقام إليه رجل يقال له عبد الله بن مسلم بن شعبة (5) الحضرمي فقال له: إن هذا الامر لا يصلح إلا بالغشمة، وإن الذي سلكته أيها الامير مسلك المستضعفين.
فقال له النعمان: لان أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الاقوياء الاعزين في معصية الله.
ثم نزل فكتب ذلك الرجل إلى يزيد
__________
(1) في الطبري: الجناب.
وفي ابن الاعثم: الجنات.
(2) في ابن الاعثم: وأينعت الثمار وأعشبت الارض وأورقت الاشجار.
(3) في الطبري: فسرحه مع قيس بن مسهر وعمارة بن عبيد السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الارحبي.
(4) في الاخبار الطوال: بطن الحربث.
البطن: الموضع الغامض من الوادي.
والبطون كثيرة.
والحربث نبت
أسود وزهرته بيضاء وهو من أطيب المراعي.
(5) في الطبري والكامل سعيد.
وفي الاخبار الطوال ص 231: مسلم بن سعيد الحضرمي.

يعلمه بذلك، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة (1) وعمرو (2) بن سعد بن أبي وقاص، فبث يزيد فعزل النعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة، وذلك باشارة سرجون مولى (3) يزيد بن معاوية، وكان يزيد يستشيره، فقال سرجون: أكنت قابلا من معاوية ما أشار به لو كان حيا ؟ قال: نعم ! قال: فاقبل مني فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد، فوله إياها.
وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولاه البصرة والكوفة معا لما يريده الله به وبغيره.
ثم كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمت الكوفة فاطلب مسلم بن عقيل فإن قدرت عليه فاقتله أو انفه، وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة، فلما دخل دخلها متلثما بعمامة سوداء (4)، فجعل لا يمر بملا من الناس إلا قال: سلام عليكم.
فيقولون: وعليكم السلام مرحبا بابن رسول الله - يظنون أنه الحسين وقد كانوا ينتظرون قدومه - وتكاثر الناس عليه، ودخلها في سبعة عشر راكبا، فقال لهم مسلم بن عمرو من جهة يزيد: تأخروا، هذا الامير عبيد الله بن زياد، فلما علموا ذلك علتهم كآبة وحزن شديد، فتحقق عبيد الله الخبر، ونزل قصر الامارة من الكوفة، فلما استقر أمره أرسل مولى أبي رهم - وقيل كان مولى له يقال له معقل - ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص، وأنه إنما جاء لهذه البيعة، فذهب ذلك المولى فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التي يبايعون بها مسلم بن عقيل حتى دخلها، وهي دار هانئ بن عروة التي تحول إليها من الدار الاولى، فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل فلزمهم أياما حتى اطلع على جلية أمرهم، فدفع المال إلى أبي ثمامة العامري بأمر مسلم بن عقيل - وكان هو الذي يقبض ما يؤتى به من الاموال ويشتري السلاح - وكان من فرسان العرب، فرجع ذلك المولى وأعلم عبيد الله بالدار وصاحبها، وقد تحول مسلم بن عقيل إلى دار
هانئ بن حميد بن عروة المرادي (5)، ثم إلى دار شريك بن الاعور وكان من الامراء الاكابر، وبلغه أن عبيد الله يريد عيادته (6)، فبعث إلى هانئ يقول له: ابعث مسلم بن عقيل حتى يكون في داري
__________
(1) في سمط النجوم العوالي 3 / 59: عمارة بن الوليد.
(2) كذا بالاصل والكامل، وفي الطبري: عمر وهو الصواب.
(3) في الطبري والكامل: مولى معاوية، وفي ابن الاعثم: غلام أبيه واسمه سرجون.
(4) في ابن الاعثم 5 / 65: غبراء، وفي الاخبار الطوال: دخلها وهو متلثم.
(5) في ابن الاعثم والاخبار الطوال: هاني بن عروة المذحجي.
(6) قيل أن هانئ مرض وأرسل إليه عبيد الله بن زياد أنه يرغب في عيادته (الطبري والكامل) أما في الاخبار الطوال قال: أن شريك بن الاعور نزل دار هانئ ومرض مرضا شديدا وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فأرسل إليه يعلمه أنه يأتيه عائدا.
(ص 234) وفي الطبري والكامل: مرض شريك بعد جمعة من مرض هانئ فجاءه عبيد الله عائدا في منزل هانئ بن عروة.
وفي الامامة والسياسة: قال هانئ سوف أتمارض، وإن لي من ابن زياد مكانا، فإذا جاء يعودني فاضرب عنقه 2 / 5.

ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني، فبعثه إليه فقال له شريك: كن أنت في الخباء، فإذا جلس عبيد الله فإني أطلب الماء وهي إشارتي إليك، فاخرج فاقتله، فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك وعنده هانئ بن عروة، وقام من بين يديه غلام يقال له مهران، فتحدث عنده ساعة ثم قال شريك: اسقوني، فتجبن مسلم عن قتله، وخرجت جارية بكوز من ماء فوجدت مسلما في الخباء فاستحيت ورجعت بالماء ثلاثا، ثم قال: اسقوني ولو كان فيه ذهاب نفسي أتحمونني من الماء ؟ ففهم مهران الغدر فغمز مولاه فنهض سريعا وخرج، فقال شريك: أيها الامير، إني أريد أن أوصي إليك، فقال: سأعود ! فخرج به مولاه فأركبه وطرد به - أي ساق به - وجعل يقول له مولاه: إن القوم أرادوا قتلك فقال: ويحك إني بهم لرفيق.
فما بالهم ؟ وقال شريك لمسلم: ما منعك أن تخرج فتقتله ؟ قال: حديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " الايمان ضد الفتك، لا
يفتك مؤمن " (1) وكرهت أن أقتله في بيتك، فقال: أما لو قتلته لجلست في القصر لم يستعد منه أحد وليكفينك أمر البصرة، ولو قتلته لقتلت ظالما فاجرا، ومات شريك بعد ثلاث.
ولما انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثم ظنه النعمان بن بشير الحسين قد قدم، فأغلق باب القصر وقال: ما أنا بمسلم إليك أمانتي، فقال له عبيد الله: افتح لافتحته، ففتح وهو يظنه الحسين، فلما تحقق أنه عبيد الله أسقط في يده، فدخل عبيد الله إلى قصر الامارة وأمر مناديا فنادى: إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن أمير المؤمنين قد ولاني أمركم وثغركم وفيأكم، وأمرني بأنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، والاحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على مريبكم وعاصيكم، وإنما أنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده، ثم نزل وأمر العرفاء أن يكتبوا من عندهم من الزورية (2) وأهل الريب والخلاف والشقاق، وأيما عريف لم يطلعنا على ذلك صلب أو نفي وأسقطت عرافته من الديوان - وكان هانئ أحد الامراء الكبار - ولم يسلم على عبيدالله منذ قدم وتمارض، فذكره عبيد الله وقال: ما بال هانئ لم يأتني مع الامراء ؟ فقالوا: أيها الامير إنه يشتكي، فقال: إنه بلغني أنه يجلس على باب داره.
وزعم بعضهم أنه عاده قبل شريك بن الاعور وسلم بن عقيل عنده، وقد هموا بقتله فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره، فجاء الامراء إلى هانئ بن عروة فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد الله بن زياد، فالتفت عبيد الله إلى القاضي شريح فقال متمثلا بقول الشاعر: أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد فلما سلم هانئ على عبيد الله قال: يا هانئ أين مسلم بن عقيل ؟ قال: لا أدري، فقام
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد (باب 157) والامام أحمد في مسنده ج 1 / 166 - 167، 4 / 92 وفيه: الايمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن.
(2) في الطبري والكامل: الحرورية.

ذلك المولى التميمي الذي دخل دار هانئ في صورة قاصد من حمص فبايع في داره ودفع الدراهم
بحضرة هانئ إلى مسلم، فقال: أتعرف هذا ؟ قال: نعم ! فلما رآه هانئ قطع وأسقط في يده، فقال: أصلح الله الامير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه علي، فقال عبيد الله: فأتني به، فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه، فقال: أدنوه مني، فأدنوه فضربه بحربة على وجهه فشجه على حاجبه وكسر أنفه، وتناول هانئ سيف شرطي ليسله فدفع عن ذلك، وقال عبيدالله: قد أحل الله لي دمك، لانك حروري، ثم أمر به فحبسه في جانب الدار وجاء قومه من بني مذحج مع عمرو بن الحجاج فوقفوا على باب القصر يظنون أنه قد قتل، فسمع عبيد الله لهم جلبة، فقال لشريح القاضي وهو عنده: اخرج إليهم فقل لهم: إن الامير لم يحبسه إلا ليسأله عن مسلم بن عقيل، فقال لهم: إن صاحبكم حي وقد ضربه سلطاننا ضربا لم يبلغ نفسه، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم.
فتفرقوا إلى منازلهم، وسمع مسلم بن عقيل الخبر فركب ونادى بشعاره " يا منصور أمت " فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، وكان معه المختار بن أبي عبيد، ومعه راية خضراء، عبد الله بن نوفل بن الحارث براية حمراء، فرتبهم ميمنة وميسرة وسار هو في القلب إلى عبيد الله، وهو يخطب الناس في أمر هانئ ويحذرهم من الاختلاف، وأشراف الناس وأمراؤهم تحت منبره، فبينما هو كذلك إذ جاءت النظارة يقولون: جاء مسلم بن عقيل، فبادر عبيد الله فدخل القصر ومن معه وأغلقوا عليهم الباب، فلما انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهددوهم وتوعدوهم، وأخرج عبيد الله بعض الامراء (1) وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل، ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجئ إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت، الناس يكفونك ويقول الرجل لابنه وأخيه: كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم ؟ فتخاذل الناس وقصروا وتصرموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس، ثم تقالوا حتى بقي في ثلاثمائة ثم تقالوا حتى بقي معه ثلاثون رجلا، فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة، ثم انصرفوا عنه فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق، ولا من يؤانسه
بنفسه، ولا من يأويه إلى منزله، فذهب على وجهه واختلط الظلام وهو وحده يتردد في الطريق لا يدري أين يذهب، فأتى بابا فنزل عنده وطرقه فخرجت منه امرأة يقال لها طوعة، كانت أم ولد للاشعث بن قيس، وقد كان لها ابن من غيره يقال له بلال بن أسيد (2)، خرج مع الناس وأمه
__________
(1) منهم كثير بن شهاب الحارثي (وفي الطبري: كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي) والقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي جوشن الضبابي (وفي الطبري: العامري) ومحمد بن الاشعث ولم يذكر ابن الاعثم إلا كثير بن شهاب.
(2) كذا بالاصل والطبري والكامل وفي فتوح ابن الاعثم 5 / 88: كانت فيما مضى امرأة قيس الكندي فتزوجها رجل =

قائمة بالباب تنتظره، فقال لها مسلم بن عقيل: اسقني ماء فسقته، ثم دخلت وخرجت فوجدته، فقالت: ألم تشرب ؟ قال: بلى ! قالت: فاذهب إلى أهلك عافاك الله، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أجمله لك، فقام فقال: يا أمة الله ليس لي في هذا البلد منزل ولا عشيرة، فهل إلى أجر ومعروف وفعل نكافئك به بعد اليوم ؟ فقالت: يا عبد الله وما هو ؟ قال أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغروني، فقالت: أنت مسلم ؟ قال: نعم ! قالت ادخل ! فأدخلته بيتا من دارها غير البيت الذي يكون فيه وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعش، فلم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول والخروج، فسألها عن شأنها فقالت: يا بني اله عن هذا، فألح عليها فأخذت عليه أن لا يحدث أحدا، فأخبرته خبر مسلم، فاضطجع إلى الصباح ساكتا لا يتكلم.
وأما عبيد الله بن زياد فإنه نزل من القصر بمن معه من الامراء والاشراف بعد العشاء الآخرة فصلى بهم العشاء في المسجد الجامع، ثم خطبهم وطلب منهم مسلم بن عقيل وحث على طلبه، ومن وجده عنده ولم يعلم به فدمه هدر، ومن جاء به فله ديته (1)، وطلب الشرط وحثهم على ذلك وتهددهم.
فلما أصبح ابن تلك العجوز ذهب إلى عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث فأعلمه بأن مسلم بن عقيل في دارهم، فجاء عبد الرحمن فسار أباه بذلك وهو عند ابن زياد، فقال ابن زياد: ما الذي سارك به ؟ فأخبره الخبر فنخس بقضيب في جنبه وقال: قم فأتني
به الساعة.
وبعث ابن زياد عمرو بن حريث المخزومي - وكان صاحب شرطته - ومعه عبد الرحمن ومحمد بن الاشعث في سبعين أو ثمانين فارسا (2)، فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط بالدار التي هو فيها، فدخلوا عليه فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات، وأصيبت شفته العليا والسفلى، ثم جعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطناب القصب فضاق بهم ذرعا، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرحمن الامان فأمكنه من يده (3)، وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا عنه سيفه فلم يبق يملك من نفسه شيئا، فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول، فيئس من نفسه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال بعض من حوله: إن من يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي إذا نزل به هذا، فقال: أما والله لست أبكي على نفسي، ولكن أبكي على الحسين، وآل الحسين، إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمس من مكة، ثم التفت إلى محمد بن الاشعث فقال: إن
__________
= من حضرموت يقال له أسد بن البطين فأولدها ولدا يقال له أسد.
(1) في ابن الاعثم: له عشرة آلاف درهم والمنزلة الرفيعة من يزيد بن معاوية وله في كل يوم حاجة مقضية.
(2) في الطبري والكامل: أمر عبيد الله عمرو بن حريث: أن أبعث مع ابن الاشعث ستين أو سبعين رجلا كلهم من قيس وابعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي في ستين أو سبعين من قيس (في مروج الذهب 3 / 72 عبد الله بن العباس السلمي) وفي ابن الاعثم 5 / 92: بعث مع محمد بن الاشعث ثلاثمائة راجل من صناديد أصحابه.
(3) أما ابن الاعثم فقال إنه لم يسلم لنفسه بل قاتل فطعن من ورائه طعنة فسقط إلى الارض فأخذ أسيرا (5 / 96) وانظر الامامة والسياسة 2 / 5.

استطعت أن تبعث إلى الحسين على لساني تأمره بالرجوع فافعل (1)، فبعث محمد بن الاشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع فلم يصدق الرسول في ذلك، وقال: كل ما حم الاله واقع.
قالوا: ولما انتهى مسلم بن عقيل إلى باب القصر إذا على بابه جماعة من الامراء من أبناء الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ينتظرون أن يؤذن لهم على ابن زياد، ومسلم مخضب بالدماء في وجهه وثيابه، وهو
مثخن بالجراح، وهو في غاية العطش، وإذا قلة من ماء بارد هنالك فأراد أن يتناولها ليشرب منها فقال له رجل (2) من أولئك: والله لا تشرب منها حتى تشرب من الحميم، فقال له: ويلك يا ابن ناهلة، أنت أولى بالحميم والخلود في نار الجحيم مني، ثم جلس فتساند إلى الحائط من التعب والكلال والعطش، فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط (3) مولى له إلى داره فجاء بقلة عليها منديل ومعه قدح، فجعل يفرغ له في القدح ويعطيه فيشرب فلا يستطيع أن يسيغه من كثرة الدماء التي تعلو على الماء مرتين أو ثلاثا، فلما شرب سقطت ثناياه مع الماء فقال: الحمد لله لقد كان بقي لي من الرزق المقسوم شربة ماء، ثم أدخل على ابن زياد، فلما وقف بين يديه لم يسلم عليه، فقال له الحرسي: ألا تسلم على الامير ؟ ! فقال: لا ! إن كان يريد قتلي فلا حاجة لي بالسلام عليه، وإن لم يرد قتلي فسأسلم عليه كثيرا، فأقبل ابن زياد عليه فقال: إيه يا بن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرق كلمتهم وتحمل بعضهم على قتل بعض ؟ قال: كلا لست لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.
قال: وما أنت وذاك يا فاسق ؟ لم لا كنت تعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ؟.
فقال: أنا أشرب الخمر ؟ ! والله إن الله ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأنت أحق بذلك مني، فإني لست كما ذكرت، وإن أولى بها مني من يلغ في دماء المسلمين ولغا، ويقتل النفس التي حرم الله بغير نفس، ويقتل على الغضب والظن، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا.
فقال له ابن زياد: يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونك ودونه، ولم يرك أهله، قال: فمن أهله يا بن زياد ؟ قال: أمير المؤمنين يزيد.
قال: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم.
قال: كأنك تظن أن لكم في الامر شيئا ؟ قال: لا والله ما هو بالظن ولكنه اليقين.
قال له: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الاسلام من الناس.
قال: أما إنك أحق من أحدث في الاسلام ما لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة المكتسبة عن كتابكم وجهالكم.
وأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم حسينا وعليا، ومسلم ساكت لا يكلمه رواه ابن جرير
__________
(1) في الامامة والسياسة 2 / 6 أوصى عمرو بن سعيد أن يكتب للحسين بما أصابه.
(2) في الطبري 6 / 212 والكامل 4 / 34: مسلم بن عمرو الباهلي.
(3) في الطبري والكامل: يدعى قيسا، وفي رواية أبي مخنف عن قدامة بن سعد أن عمرو بن حريث بعث غلاما له يدعى سليمان فجاءه بقلة من ماء فسقاه (انظر فتوح ابن الاعثم 5 / 97).

عن أبي مخنف وغيره من رواة الشيعة.
ثم قال له ابن زياد: إني قاتلك.
قال: كذلك ؟ قال: نعم.
قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوص.
فنظر في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص.
فقال: يا عمر إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريبا من ابن زياد فقال له مسلم: إن علي دينا في الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلا، فقام عمر فعرض على ابن زياد ما قال له فأجاز ذلك له كله (1)، وقال: أما الحسين فإن لم يردنا لا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل فأصعد إلى أعلا القصر وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له بكير بن حمران (2)، ثم ألقي رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده.
ثم أمر بهانئ بن عروة المذحجي فضربت عنقه (3) بسوق الغنم، وصلب بمكان من الكوفة يقال له الكناسة، فقال رجل شاعر في ذلك قصيدة (4): فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل أصابهما أمر الامام (5) فأصبحا * أحاديث من يغشى (6) بكل سبيل إلى بطل قد هشم السيف وجهه (7) * وآخر يهوي في طماره (8) قتيل ترى جسدا قد غير الموت لونه * ونضح دم قد سال كل مسيل فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم * فكونوا بغيا (9) أرضيت بقليل
__________
(1) انظر فتوح ابن الاعثم 5 / 100 - 101، والاخبار الطوال ص 241.
(2) كذا في الاصل والطبري، وقد ذكر ابن الاعثم أن بكير بن حمران الاحمري قد قتل عندما ذهب ابن الاشعث ليقتاد مسلما من بيت طوعة 5 / 95 وفي الاخبار الطوال ص 241: أحمر بن بكير.
وقد كان قتل مسلم يوم الثلاثاء لثلاث خلون من ذي الحجة سنة ستين.
وفي مروج الذهب 3 / 73: بكير الاحمري وكان مسلم قد ضربه وقال له زياد كن أنت الذي تضرب عنقه لتأخذ بثأرك من ضربته.
(3) ضربه غلام عبيد الله بن زياد يدعى رشيد.
(4) في الطبري والكامل عبد الله بن الزبير الاسدي وقيل الفرزدق وفي الاخبار الطوال ص 242: عبد الرحمن بن الزبير الاسدي.
وفي فتوح ابن الاعثم: رجل من بني أسد.
وفي مروج الذهب: فقال الشاعر.
(5) في الطبري ومروج الذهب: الامير، وفي ابن الاعثم: الاله، وفي مقتل الحسين: ريب المنون وفي الاخبار الطوال: ريب الزمان.
(6) في الطبري: يسري، وفي الاخبار الطوال وابن الاعثم ومروج الذهب: يسعى.
(7) في ابن الاعثم: رأسه.
وفي الاخبار الطوال: أنفه.
(8) في ابن الاعثم: من جدار قتيل، وفي الاخبار الطوال: من طمار قتيل.
(9) في الطبري: بغايا، وزيد في الطبري ومروج الذهب أبيات أخرى.

ثم إن ابن زياد قتل معهما أناسا آخرين، ثم بعث برؤوسهما إلى يزيد بن معاوية إلى الشام، وكتب له كتابا صورة ما وقع من أمرهما (1).
وقد كان عبيد الله قبل أن يخرج من البصرة بيوم خطب أهلها خطبة بليغة ووعظهم فيها وحذرهم وأنذرهم من الاختلاف والفتنة والتفرق، وذلك لما رواه هشام بن الكلبي وأبو مخنف عن الصقعب بن زهير عن أبي عثمان النهدي.
قال: بعث الحسين مع مولى له يقال له سلمان (2) كتابا إلى أشراف أهل البصرة فيه: أما بعد فإن الله اصطفى محمدا على خلقه وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وورثته وأحق الناس
به وبمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق فرحم الله وغفر لنا ولهم، وقد بعثت (3) إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فإن السنة قد أميتت، وإن البدعة قد أحييت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإن فعلتم أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله.
وعندي في صحة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنه مطرز بكلام مزيد من بعض رواة الشيعة.
قال: فكل من قرأ ذلك من الاشراف كتمه إلا المنذر بن الجارود فإنه ظن أنه دسيسة من ابن زياد فجاء به إليه، فبعث خلف الرسول الذي جاء به من حسين فضربه عنقه، وصعد عبيد الله بن زياد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فوالله ما بي تقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإني (4) لنكال لمن عاداني، وسهام لمن حاربني، أنصف " القارة " (5) من رماها، يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين ولاني الكوفة وأنا غاد إليها الغداة، وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان (6)، وإياكم والخلاف
__________
(1) نص الكتاب في فتوح ابن الاعثم 5 / 108 والطبري 6 / 215.
(2) في الطبري 6 / 200: سليمان، وفي كتاب مقتل الحسين: " وكان اسمه ذراع وكان أخ الحسين من الرضاع ".
(3) في الطبري 6 / 200: بعثت رسولي إليكم.
(4) في الطبري: وإني لنكل لمن عاداني وسم لما حاربني.
(5) القارة: قوم رماة من العرب، وفي المثل: قد أنصف القارة من راماها وقد زعموا أن رجلين التقيا أحدهما قاري والآخر أسدي، فقال القاري: إن شئت صارعتك، وإن شئت سابقتك وإن شئت راميتك، فقال: اخترت المراماة، فقال القاري: قد أنصفتني وأنشد: قد أنصفت القارة من راماها * إنا إذا ما فئة نلقاها نرد أولادها على أخراها ثم انتزع له سهما فشك فؤاده.
(6) في ابن الاعثم 5 / 64: وقد استخلفت عليكم أخي عثمان بن زياد وانظر الاخبار الطوال ص 232.

والارجاف، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لاقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الادنى بالاقصى، حتى يستقيم لي الامر (1)، ولا يكن فيكم مخالف ولا مشاقق، أنا ابن زياد أشبهته من بين من وطئ الحصى، ولم يتنزعني شبه خال ولا عم.
ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي فكان من أمره ما تقدم.
قال أبو مخنف عن الصقعب بن زهير عن عون بن أبي جحيفة قال: كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة، وقتل يوم الاربعاء لتسع مضين من ذي الحجة (2)، وذلك يوم عرفة سنة ستين، وكان ذلك بعد مخرج الحسين من مكة قاصدا أرض العراق بيوم واحد، وكان خروج الحسين من المدينة إلى مكة يوم الاحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكة بقية شعبان ورمضان وشوال و [ ذي ] القعدة، وخرج من مكة لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية، وفي رواية ذكرها ابن جرير أن مسلم بن عقيل لما بكى قال له عبيد الله بن عباس السلمي.
إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك، قال: إني والله ما لنفسي أبكي، وما لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكنني أبكي لاهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي الحسين وآل حسين، ثم أقبل على محمد بن الاشعث فقال: يا عبد الله ! إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلا على لساني يبلغ حسينا عني رسالة ؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غدا هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول له: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لكاذب رأي، فقال ابن الاشعث: والله لافعلن ولاعلمن ابن زياد أني قد أمنتك.
قال أبو مخنف: فدعا محمد بن الاشعث إياس بن العباس (3)
الطائي من بني مالك بن ثمامة - وكان شاعرا - فقال له: اذهب فالق حسينا فأبلغه هذا الكتاب - وكتب فيه الذي أمره به ابن عقيل - ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره، فخرج حتى لقي الحسين بزبالة، لاربع ليال من الكوفة فأخبره الخبر وأبلغه الرسالة، فقال الحسين: كل ما حم نازل، عند الله نحتسب وأنفسنا وفساد أئمتنا.
ولما انتهى مسلم إلى باب القصر وأراد شرب الماء قال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها ؟ والله لا تذوقها أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم.
فقال له ابن عقيل: ويحك من أنت ؟ قال: أنا من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لامامه
__________
(1) في الطبري: حتى تستقيموا إلي وفي الاخبار الطوال: والبرئ بالسقيم حتى تستقيموا.
(2) في الاخبار الطوال ص 242: قتل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من ذي الحجة سنة ستين.
(3) في الطبري 6 / 211: العثل.

إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.
فقال له مسلم: لامك الويل ! ما أجفاك وأفظك، وأغلظك يا بن ناهلة ! ! أنت والله أولى بالحميم ونار الجحيم.
صفة مخرج الحسين إلى العراق لما تواترت الكتب إلى الحسين من جهة أهل العراق وتكررت الرسل بينهم وبينه، وجاءه كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله، ثم وقع في غبون ذلك ما وقع من قتل مسلم بن عقيل، والحسين لا يعلم بشئ من ذلك، بل قد عزم على المسير إليهم والقدوم عليهم، فاتفق خروجه من مكة أيام التروية قبل مقتل مسلم بيوم واحد - فإن مسلما قتل يوم عرفة - ولما استشعر الناس خروج أشفقوا عليه من ذلك، وحذروه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام بمكة، وذكروه ما جرى لابيه وأخيه معهم.
قال سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس.
قال: استشارني الحسين بن علي في الخروج فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس لشبثت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب، فكان الذي رد علي أن قال: لان أقتل في مكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة.
قال: فكان هذا
الذي سلى نفسي عنه.
وروى أبو مخنف عن الحارث بن كعب الوالبي عن عقبة (1) بن سمعان.
أن حسينا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه ابن عباس فقال: يا بن عم إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع ؟ فقال: إني قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى، فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان قد دعوك بعدما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة (2) والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك.
فقال الحسين: إني أستخير الله وأنظر ما يكون.
فخرج ابن عباس عنه، ودخل ابن الزبير فقال له: ما أدري ما تركنا لهؤلاء القوم ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الامر دونهم، أخبرني ما تريد أن تصنع ؟.
فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي باتيان الكوفة، ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشرافها بالقدوم عليهم، وأستخير الله.
فقال ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت عنها (3).
فلما خرج من عنده قال
__________
(1) في الطبري: عتبة.
(2) في الطبري 6 / 216 والكامل 4 / 37: إلى الحرب.
(3) في الاخبار الطوال 244 أن ابن الزبير أقبل حتى دخل على الحسين: " فقال له: لو أقمت بهذا الحرم وبثثت رسلك في البلدان وكتبت إلى شيعتك في العراق أن يقدموا عليك...وعلي لك المكاتفة والمؤازرة..." وفي مروج الذهب 3 / 69: أن ابن الزبير قال للحسين: أما لو أن لي مثل أنصارك ما عدلت عنها.
ثم خاف أن يتهمه (الحسين) فقال: ولو أقمت بمكانك فدعوتنا وأهل الحجاز إلى بيعتك وكنا إليك سراعا.

الحسين: قد علم ابن الزبير أنه ليس له من الامر معي شئ، وأن الناس لم يعدلوا بي غيري، فود أني خرجت لتخلو له.
فلما كان من العشي أو الغد، جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له يا بن عم ! إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن
فإن به حصونا وشعابا، ولابيك به شيعة، وكن عن الناس في معزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب.
فقال الحسين: يا بن عم ! والله إني لاعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير.
فقال له: فإن كنت ولابد سائرا فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.
ثم قال ابن عباس: أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه بالحجاز، فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني وأقمت لفعلت ذلك.
قال: ثم خرج من عنده فلقي ابن الزبير فقال قرت عينك يا بن الزبير ؟ ثم قال: يا لك من قنبرة (1) بمعمر * خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري (2) * صيادك اليوم قتيل فابشري ثم قال ابن عباس: هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز.
وقال غير واحد عن شبابة بن سوار.
قال: حدثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الاسدي.
قال: سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر أنه كان بمكة فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليال، فقال: أين تريد ؟ قال: العراق، وإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال: لا تأتهم، فأبى.
فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا، إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما يليها أحد منكم أبدا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع.
قال فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: استودعك الله من قتيل.
وقال يحيى بن ميعن: حدثنا أبو عبيدة، ثنا سليم بن حيان، عن سعيد بن مينا.
قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: عجل حسين قدره، والله لو أدركته ما تركته يخرج إلا أن يغلبني، ببني هاشم فتح هذا الامر، وببني هاشم يختم، فإذا رأيت الهاشمي قد ملك فقد ذهب الزمان.
قلت: وهذا مع حديث ابن عمر يدل على أن الفاطميين أدعياء كذبة، لم يكونوا من سلالة فاطمة كما نص عليه غير واحد من الائمة على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله.
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 69 والكامل 4 / 39 وابن الاعثم 5 / 114: قبرة.
(2) بعده في فتوح ابن الاعثم: قد رفع الفخ فماذا تحذري * لابد من أخذك يوما فاصبري

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55