كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

وقد قطَع الواشُون ما كان بَيننا ... ونحنُ إلى أن نُوصِلَ الحَبلَ أحْوَجُ
رَأوْا عَوْرةً فاستَقْبلوها بألْبهِم ... فلم يَنْههم حِلْمٌ ولم يَتحرجوا
وكانوا أناسا كنتُ آمنُ غيْبَهم ... فراحُوا على ما لا نُحبّ فأدْلجوا
الغِيبَة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قلتَ في الرجل ما فيه فقد اغتَبْته، وإذا قلتَ ما ليس فيه فقد بهَته: ومرَّ محمدُ سِيرين بقوم، فقال إليه رجل منهم فقال: أبا بكر، إنّا قد نِلْنا منك فحَلِّلنا؟ فقال: " إني " ، لا أحِلّ لك ما حَرّم اللهّ عليك، " فأمّا ما كان إليَّ فهو لك " . وكان رَقَبة بن مَصْقلة جالساً مع أصحابه فذَكَروا رجلاً بشيء، فاطْلعَ ذلك الرجلُ، فقال " له " بعضُ أصحابه: أَلا أخْبره بما قًلنا فيه لئلا تكون غِيبة؟ قال: أخبره حتى تكون نميمة.
اغتاب رجلٌ رجلاً عند قُتيبة بن مُسلم، فقال له " قُتَيبة " : أمْسك عليك أيها الرجل، فواللّه لقد تلَمَّظت بمُضْغة طالما لَفَظها الكِرام.
محمد بن مُسلم الطائفيّ قال: جاء رجلٌ إلى ابن سِيرين، فقال له: بَلغني أنك نِلْتَ منّي، قال: نفسي أعزًّ " علي " ، من ذلك.
وقال رجل لبَكْر بن محمد بن عِصْمة: بلَغني أنَّك تقع فيّ؟ قال: أنتَ إذًا عليَّ أكرمِ من نفسي.
وَوقع رجلٌ في طَلْحَة والزُبير عند سَعد بن أبي وَقّاص، فقال له: اسكُتْ، فإن الذي بيننا لم يَبْلُغ دينَنا.
وعاب رجلٌ رجلاً عند بعض الأشراف، فقال له: قد استدللتُ على كَثرة عُيوبك بما تكثر من عُيوب الناس، لأن طالبَ العُيوب إِنما يَطْلبها بقَدر ما فيه منها، أما سمعتَ قولَ الشاعر:
لا تَهْتِكَنْ من مَساوي الناس ما سترُوا ... فَيَهْتِكَ الله سِتْراً مِن مَساوِيكَا
واذكُرْ محَاسِنَ ما فيهم إذا ذُكِروا ... ولا تَعِبْ أحداً منهم بما فِيكا
وقال آخر:
لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثْلَه ... عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عَظيمُ
وابْدَأْ بنفسك فانهَها عنَ غَيِّها ... فإِذا انتهت عنه فأنتَ حَكيمِ
وقال محمد بن السماك: تَجَنَب القول في أخيكَ لخَلتين: أمَّا واحدة، فعلَّك تعِيبه بشيءٍ هو فيك؟ وأما الأخرى، فإنْ يَكُن الله عافاك ممَّا ابتلاه به، كان شُكْرك الله على العافية تعبيراً لأخيك على البَلاء.
وقيل لبعض الحُكماء: فلانٌ يَعِيبك؛ قال: إنما يَقْرض الدَرهمَ الوازنُ.
" قيل لبُزَرْجَمُهر: هل تعلم أحداً لا عيبَ فيه؟ قال: إن الذي لا عيب فيه لا يموت " .
وقيل لعمرو بن عُبيد: لقد وَقع فيك أيوب السِّخْتيانيّ حتى رَحمْناك؟ قال: إياه فارحَمُوا. " وقال ابن عبَّاس: اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودَع منه ما تُحِبُّ أن يَدَع منك.
وقَدم العلاء بن الحَضرميّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: هل تَرْوِي من الشعر شيئَاَ؟ قال: نعم؟ قال: فأنشِدني؟ فأنشِده:
تَحَببْ ذَوي الأضغان تَسْب نفوسَهم ... تَحَببَك القُربَى فقد تُرْقع النَّعَلْ
وإن دَحسوا بالكُرْه فاَعفُ تكرُّمًا ... وإن غَيَّبوا عنك الحديثَ فلا تَسَل
فإن الذي يُؤْذيك منه سماعُه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يُقل
فقال النبي عليه السلام: إن من الشِّعر لَحِكْمة.
وقال الحسنُ البَصْرِي: لا غِيبةَ في ثَلاثة: فاسقٍ مُجاهر " بالفِسْقِ " ، وإمام جائر، وصاحب بِدْعة لم يَدَع بِدْعته.
وكتب الكِسائي إلى الرَّقاشي:
تركتَ المسجد آلْجَام ... عَ والتَرك له ريبَهْ
فلا نافلةً تَقْضي ... ولا تَقضي لمَكْتوبَه
وأخبارُكَ تَأْتينا ... على الأعْلام مَنْصوبَه
فإنْ زِدْتَ من الغيَب ... بة زِدْناك من الغِيبه

مداراة أهل الشر
قال النبي عليه الصلاة والسلام: شَرّ الناس من اتّقاه الناسُ لشَرّه.
وقال عليه الصلاة والسلام: إذا لقيتَ اللئيمَ فخالِفْه، وإذا لقيتَ الكريمَ فخالِطْه.
وقال أبو الدِّرداء: إنا لنَكْشِرُ في وُجوه قوم وإنّ قلوبنا لتَلْعنهم وسُئل شَبيب بن شَيْبة عن خالد بن صَفْوان، فقال: ليس له صديق في السرّ ولا عدوّ في العَلاَنية.

وقال الأحنف: رُبَّ رجل لا تَغيب فوائدُه وإن غابَ، وآخرَ لا يسلم منه جليسهُ وإِن احتَرس.
وقال كثير بن هَرَاسة: إنّ من الناس ناسًا يَنْقصونك إذا زِدْتهم، وتَهُون عندهم إذا خاصصْتَهم، ليس لرضاهم مَوْضع تَعْرِفه، ولا لسُخْطهم موضع تَحْذره، فإذا عرفتَ أُولئك بأعْيانهمِ فابذُل لهم موضِعَ الموَدة، واحرمهم موضعَ يَكُن ما بذلتَ لهم من المودة حائلاً دون شرِّهم، وما حَرَمتهم من الخاصة، قاطعاً لحرْمتهم.
وأنشد العُتْبيّ:
لي صديقٌ يَرَى حُقوقي عليه ... نافلاتٍ وحقَّه الدهرَ فَرْضَا
لو قطعتُ البلادَ طُولاً إليه ... ثم من بَعْد طُولها سِرْتُ عَرْضا
لرَأَى ما فعلتُ غَيْر كَثِير ... وآشتَهى أن يَزيد في الأرْض أَرْضا
وفي هذه الطَّبقة من الناس يقول دِعْبل الخُزاعيّ:
اْسقِهم السُّمّ إن ظَفِرت بهم ... وآمزُجْ لهم من لِسانك العَسَلاَ
كَتب سهلُ بن هارون إلى مُوسى بن عِمْران في أبي الهُذَيل العَلاّف:
إنّ الضَّمِير إذا سألتًكَ حاجةً ... لأبي الهُذَيل خلافُ ما أبدِي
" فأَلِن له كنفا ليحسن ظنًّه ... في غير منفعة ولا رِفد "
حتى إذا طالتْ شَقاوةُ جَدِّه ... وعَنَاؤه فاجْبَهه بالردّ
وقال صالحُ بن عبد القُدُوس:
تجنب صدِيق السّوء وآصرِمْ حِبالَه ... وإِن لم تَجدْ عنه مَحيصاً فَدَارِهِ
ومَن يَطلب المعْروف من غير أَهله ... يَجدْه ورَاءَ البحر أو في قَرارِه
وللّه في عَرْضُ السمواتِ جَنَّةٌ ... ولكنّها مَحْفوفة بالمَكاره
وقال آخر:
بَلاءٌ ليس يُشْبِهه بَلاءٌ ... عدَاوةُ غير ذي حَسَبٍ ودينِ
يبيحك منه عِرْضاً لم يَصُنْه ... لِيرْتع منكَ في عِرْض مَصون
عُرض على أبي مُسلم صاحب الدّعْوة فرسٌ جواد، فقال لقُوّاده: لماذا يصلُح مثلُ هذا الفرس؟ قالوا: إنا نَغْزو عَليه العدوّ؛ قال: لا، ولكن يركبه الرجلُ فيَهْرُب عليه من جار السّوء.

ذم الزمان
قالت الحُكماء: جُبل الناسُ على ذمّ زَمانهم وقلّة الرِّضا عن أهل عَصْرهم، فمنه قولُهم: رضَا الناسُ غايةٌ لا تُدرك. وقولهم: لا سبيلَ إلى السلامة من أَلْسنة العامّة. وقولهم: الناسُ يعيّرون ولا يَغْفِرون، واللّه يَغْفر ولا يُعيِّر.
وفي الحديث: لو أن المؤمن كالقِدْح المُقوّم لقال الناس: ليت ولو.
وقال الشاعر:
مَن لابَس النَّاس لم يَسْلم من الناس ... وضَرَّسُوهُ بأَنْيَابٍ وأَضْرَاس
هِشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: رَحِمَ الله لَبِيداً كًان يقول:
ذَهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبَقِيتُ في خَلَف كجِلْد الأجْرَبِ
فكيف لو أَبصر زمانَنا هذا.
قال عُروة: ونحن نقول: رَحِم الله عائشة، فكيف لو أدركت زمانَنا هذا.
وكان بعضهم يقول: ذهب الناسُ وبَقيَ النَسْناس، فكيف لو أدْرك زماننا هذا.
دخل مُسلم بن يَزِيد بن وَهْب على عبد الملك بن مَرْوَان،. فقال له عبدُ الملك: أيُّ زمان أدركتَ أفضَل، وأيُّ الملوك أكمل؟ قال: أمّا المُلوك فلم أَرَ إلا حامداً أو ذامًّا، وأما الزمان فيَرْفع أقواماً، وكلّهم يَذُم زمانَه لأنه يُبْلِي جديدَهم، ويُفرَق عديدهم، ويهْرِم صغيرَهم؛ ويهلك كَبيرَهم.
وقال الشاعر:
أيا دهرُ إن كنتَ عاديتَنا ... فَها قد صَنَعتَ بِنا ما كفَاكَا
جَعلت الشرَارَ علينا خِياراً ... وولَيتنا بعد وَجْهٍ قفَاكا
وقال آخر:
إذا كان الزمانُ زمانَ تَيْمٍ ... وعكْلٍ فالسلامُ على الزّمانِ
زمان صارَ فيه الصدرُ عَجْزا ... وصار الزُّجّ قُدّامَ السّنان
لعلّ زمانَنا سَيعود يومًا ... كما عاد الزمانُ على بِطان
أبو جعفر الشّيباني قال: أتانا يوماً أبو مَيَّاس الشاعر ونحن في جماعة، فقال: ما أنَتم " فيه " وما تتذاكرون؟ قلنا: نَذْكُر الزمان وفَساده؟ قال: كلا، إنما الزمانُ وِعاء وما ألْقِي فيه مِن خَيْر أو شرّ كان على حاله، ثم أنشأ يقول:

أرَى حُللاً تُصان على أناسٍ ... وأخلاقاً تُدَاسُ فَما تُصَان
يَقولوِن الزمانُ به فَسادٌ ... وهُم فَسدوا وما فَسد الزمان
أنشد فرج بن سلاّم:
هذا الزمان الذيِ كنَّا نُحذَّرُه ... فيما يُحدِّث كعبٌ وابن مسعودِ
إن دام ذا الدهرُ لم نحْزَن على أحدٍ ... يموتُ منَا ولم نَفْرح بِمَوْلود
وقال حَبِيب الطائيّ:
لم أَبكِ في زَمن لم أرضَ خَلَته ... إلا بكيتُ عليه حين يَنْصَرِمُ
وقال آخر في طاهر بن الحسين:
إذا كانت الدُنيا تًنال بِطاهرٍ ... تَجَنَّبت منها كلَّ ما فيه طاهرُ
وأعرضتُ عنها عِفَةَ وتكَرُّماَ ... وأرجأتُها حتى تَدورَ الدوائر
وقال مُؤمن بن سَعيد في مَعْقل الضَّبيّ وابن أخيه عثمان:
لقد ذلَّت الدنيا وقد ذلّ أهلُها ... وقد مَلَّها أهلُ النَدى والتَّفضُّل
إذا كانت الدُّنيا تَميل بخَيّرها ... إلى مِثل عًثمانٍ ومِثل المُحوّل
ففي استِ ام دُنيانا وفي آست ام خَيّرها ... وفي آست آم عثمان وفي آست ام مَعقِل
وقال محمد بن مُناذر:
يا طالبَ الأشعار والنَّحوِ ... هذا زمانٌ فاسدُ الحَشْوِ
نهارُه أوْحشً من لَيْله ... ونَشْوُه من أخْبَث النّشْو
فَدَع طِلاَبَ النَّحو لا تَبغِهِ ... ولا تقل شعراً ولا تَرْو
فَما يَجوز اليومَ إلا آمرؤٌ ... مُسْتَحكم العَزْف أو الشَّدْو
أو طِرْمِذان قولُه كَذِبٌ ... لا يَفْعل الخير ولا ينوي
ومن قولنا في هذا المعنى:
رَجاءٌ دُون أَقْربه السَّحابُ ... وَوَعْدٌ مثلُ ما لمَع السَّرَابُ
ودَهْر سادت العُبْدان فيه ... وعاثَتْ في جوانبه الذِّئاب
وأيّام خلَتْ من كلِّ خَيْرٍ ... ودُنيا قد تَوَزّعها الكِلاب
كلابٌ لو سألتَهم تُرَاباً ... لقالوا عندنا آنقطع التّراب
يُعاقَب مَن أساء القولَ فيهم ... وإنْ يُحْسِن فليس له ثَواب
كتب عَمْرو بن بحر الجاحظ إلى بعض إِخوانه في ذمِّ الزمان: بسم الله الرحمن الرحيم، حَفِظك الله حفْظ مَن وَفّقه للقَناعة، واستَعمله في الطاعة. كتبتُ إليك وحالي حالُ من كَثُفت غمومه، وأشْكلت عليه أموره، واشتَبه عليه حالُ دهره، ومَخْرج أمْره، وقَلَّ عنده من يَثِق بوَفائه، أو يَحمد مَغبة إخائه، لاستحالة زمانِنا، وفَساد أيّامنا، ودَوْلة أنذالِنا. وقِدْماً كان يقال مَن قَدَم الحياءَ على نَفْسه، وحكَّم الصِّدْق في قوله، وآثر الحقً في أموره، ونَبَذ المُشتبِهات عليه من شئونه، تَمٌتْ له السلامة، وفاز بوُفورِ حظّ العافية. وحَمِد مَغبة مكْروه العاقِبة؛ فنَظرنا إذ حال عِنْدنا حُكْمُه، وتحوّلت دولتُه، فَوَجَدْنا الحياء متَّصلاً بالحِرْمان، والصِّدْق آفةً علِى المال، والقَصْدَ في الطّلَب برك استعمال القِحة وإخْلاقِ العِرض في طريق التوكّل دليلاَ على سَخافة الرأي، إذا صارت الخُطوة السابقة والنًعمة السابغة في لُؤم النِّيَّة، وتناولُ الرِّزق من جهة محاشاة الوفاء ومُلابسة مَعرّة العار. ثم نَظَرنا في تعقّب المُتعقّب لقولنا، والكاسِر لحُجّتنا، فأقَمنا له عًلَماً واضِحا، وشاهِداً قائماً، ومنارًا بيِّناً، إذ وَجَدْنا مَن فيه السُّفوليةَ الواضحة، والمَثالب الفاضحة، والكَذِب المُبرِّح، والخُلْفَ المُصَرّح، والجَهالة المُفْرطة، والرِّكاكة المُسْتَخِفّة؛ وضَعْف اليقين والاستيثاب، وسرْعة الغَضب والخِفّة، قد استُكْمل سروره، واعتدلت أمورُه، وفاز بالسِّهْم الأغْلب، والحظّ الأوْفر، والقَدْر الرَّفيع، وَالجَواب الطّائع، والأمر النافِذ، إن زلّ قيل حَكُم، وإنْ أخطأَ قيل أصاب، وإن هَذَى في كَلامه وهو يَقْظان، قيل رُؤْيا صادِقة في سِنَة مُباركة، فهذه حُجّتنا " أبقاك اللّه " على مَن زَعم أنّ الجهْل يَخْفِضُ، وأن الحُمق يَضَع، وأنّ النَّوْك يُرْدي، وأن الكَذِب يَضُر وأنّ الخُلفَ يُزْرِي.

ثم نَظَرْنا في الوَفاء والأمانة، والنُّبْل والبَراعة، وحُسْن المَذْهب وكماله المُروءَة، وسَعة الصَّدْر، وقلّة الغَضب، وكَرِم الطبيعة، والفائق في سَعة عِلْمه، والحاكم على نَفْسه، والغالِب لِهَواه، فَوَجدنا فُلان بن فلان، ثم وَجدنا الزَّمان لم يًنْصفه من حقّه، ولا قامَ له بوَظائف فرْضه. وَوَجَدْنا فضائلَه القائمة له قاعدهً به. فهذا دليلٌ على أنّ الطًلاح أجدَى من الصَّلاح، وأنّ الفَضْل قد مَضى زمانُه، وعَفَت آثارُه، وصارت الدائرة عليه، كما كانت الدائرة على ضدّه؛ وَوَجدْنا العَقْلَ يَشْقى به قرينُه، كما أن الجَهْل والحمْق يَحْظَى به خَدِينُه. وَوَجدْنا الشعرَ ناطقاً على الزَّمان، ومُعْرباً عن الأيّام حيث يقول:
تَحَامَقْ مع الحَمْقَى إِذا ما لَقيتَهمِ ... ولاقِهمُ بالجَهْل فعْلَ أخِي الجَهْل
وخَلِّط إذا لاقَتْ يوماً مُخَلِّطا ... يُخَلِّط في قَوْلٍ صَحيح وفي هَزْل
فإنِّي رأيتُ المَرْء يَشْقَى بعَقْلِه ... كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعَقْل
فبقيتُ أبقاك الله مثلَ مَن أصبح على أَوْفاز، ومن النُّقلة على جهَاز، لا تَسوغ له نِعْمة، ولا يُطعم عَيْنيه غَمْضة؛ في أهاويل يُباكره مكْرُوهها، وتُراوحه عقابيلُها، فلو أنّ الدُّعاءَ أجيب، والتَضرًع سُمع، لكانت الهَدّة العُظمى، والرَّجفة الكبرى؟ فليتَ الذي يا أخي ما أَستَبْطئه من النّفْخة، ومن فَجْأَة الصَّيحة، قُضي فحان، وأذن به فكان؟ فواللهّ ما عُذبت أُمةٌ برَجفة، ولا ريح ولا سَخْطة، عذابَ عَينيّ برُؤْية المُغايظة المُضْنية، والأخبار المُهلكة، كأنّ الزَّمان توكَّل بعَذَابي، أو انتصب لإيلامي؟ فما عَيْشُ مَن لا يُسَر بأخ شقيق، " ولا خِدْن شفيق " ، ولا يَصْطبح في أوَّل نهارِه إلا برُؤية من تُكْره " رؤيتُه " ونَغمة من تَغُمه طَلْعته، فبدَّل الله " لي أي، أخي بالمسكن مَسكنا وبالرَّبع رَبْعا، فقد طالت الغُمة، وواطنت الكُرْبة، ادلهمتْ الظُّلمة، وخَمد السِّراج، وتَباطأ الانفِراج. " والسلام " .

فساد الإخوان
قال أبو الدَّرداء: كان الناس وَرَقاً لا شَوْك فيه، فصاروا شَوْكاً لا وَرَق فيه.
وقيل لعُرْوة بن الزُّبير: ألا تَنْتقل إلى المدينة؟ قال: ما بَقِى بالمدينة إلا حاسدٌ على نِعْمة، أو شامت بمُصِيبة.
الخُشني قال أنشدني الرِّياشيّ:
إذا ذَهَب التكرُّم والوَفاء ... وباد رِجالُه وبَقِي الغُثَاءُ
وأَسْلَمني الزَّمانُ إلى رِجالٍ ... كأمْثال الذِّئاب لها عُواء
صَديق كلَّما استَغْنيت عنهم ... وأَعْداء إذا جَهَدَ البَلاء
إذا ما جئتهم يَتدافَعوني ... كأنِّي أجربٌ آذاه داء
أقولُ ولا ألاَم على مَقالعلى الإخوان كُلِّهم العَفاء
وقالت الحًكماء: لا شيءَ أضيع من مَوَدَةِ من لا وَفاء له: واصطناع مَن لا شكر عِنده، والكريمُ يَوَدُّ الكريم عن لُقْية واحدة، واللّئيم لا يَصِل أحداً إلا عن رَغْبة أو رَهْبة.
وفي كتاب لِلْهند: إنّ الرَّجل السًوْء لا يَتَغَيّر عن طبْعه، كما أنَّ الشَّجرة المُرَّة لو طَلَيْتها بالعَسل لم تثمر إلا مُرًّا.
وسَمِع رجلٌ أبا العتاهية يُنْشد:
فارْم بطَرْفك حيث شئ ... تَ فلا ترى إلا بَخيلاَ
" فقال له: بَخلت الناس كًلَّهم؛ قال: فأَكذبني بسَخِيّ واحد " .
وقال أيضا في هذا المعنى:
للّه درُّ أَبيك أيّ زَمان ... أصبحتُ فيه وأيّ أهل زَمانِ
كلّ يُوازنك المَودة جاهداً ... يُعْطِي ويأخُذ منك بالميزان
فإذا رأى رُجْحانَ حَبَّة خَرْدلٍ ... مالتْ مَودَّتُه مع الرًّجحان
وقال فيه أيضاً:
أَرَى قوماً وُجُوهُهمُ حِسانٌ ... إذا كانت حَوائجُهم إلينَا
وإن كانت حَوائجُنا إِليهم ... يُقبح حُسْن أوجههم عَلَينا
فإن مَنع الأشحّةُ ما لَدَيهم ... فإنّا سوف نَمْنح ما لَدَينا
وقال:
مَوالينا إذا احتاجوا إلينا ... وليسَ لنا إذا احتجنا موالى
للبَكريّ:
وخَليلٍ لم أَخُنْه ساعةً ... في دَمِي كَفّيه ظُلْماً قد غمٍسْ

كان في سِرِّي وجَهْري ثِقَتي ... لستُ عنه في مُهِمّ أحترس
ستر البغض بألفاظ الهوى ... وادَّعىٍ الوُدَّ بغِش ودَلَس
إنْ رآني قال لي خَيراً وإنْ ... غبت عنه الود بغش ودلس
ثم لمّا أمكَنَتهُ فًرْصةٌ ... حَمَل السيفَ على مَجْرَى النّفس
وأرادَ الرُوح لكنْ خانَهُ ... قَدَرٌ أيقَظَ مَن كانَ نَعَس
وأنشد العُتبي:
إِذا كنتَ تَغْضب من غير ذَنْب ... وتَعْتِب من غَير جُرْم عَلَيّا
طَلبتُ رِضاكَ فإن عَزَّني ... عَدْدتُكَ مَيْتاً وإن كنتً حَيّا
فلا تعجبنّ بمَا في يَدَيْكا ... فأكثْر منه الذي في يَدَيّا
وقال ابن أبي حازم:
وصاحب كانَ لي وكنتُ لهُ ... أشفقَ من والدٍ عَلَى وَلَدِ
كُنّا كَسَاقٍ تَسْعى بها قَدَمٌ ... أو كَذِراعٍ نيطت إلى عَضد
حتى إذا دَبَّت الحوادثُ في ... عَظْمِي وحًل الزّمانُ من عقَدي
ازور عنّي وكان يَنْظُر مِنْ ... طَرْفي ويَرْمِي بساعِدِي ويَدِي
وقال:
وخِلٍّ كان يَخْفِض لي جَناحًا ... أعادَ غِنًى فنابذَني جماحَا
فقلتُ لهُ وَلِي نَفْس عَزُوف ... إذَا حَمُيت تَقحَمت الرًّماحا
سأبدِل بالمَطامع فيك يأسًا ... وباليَأْس آستَراح من استراحا
وقال عبد الله بن مُعاوية بن " عبد الله بن " جعفر:
وأنتَ أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ ... فإِنْ عَرَضت أيقنتُ أنْ لا أخا لِيَا
فلا زاد ما بَيْني وبَيْنك بعدَ ما ... بَلَوْتُكَ في الحاجاتِ إلا تمَادِيا
كِلاَنَا غنيٌّ عن أَخِيه حياتَه ... ونحنُ إذا مِتْنا أشدُّ تَغانِيا
وعينُ الرِّضَا عن كلِّ عَيْبٍ كليلةٌ ... كما أنّ عينَ السُّخط تُبدِي المَساوِيا
وقال البُحتريّ:
أشرِّق أم أغَرِّبً يا سعيدُ ... وأَنْقُص من ذِمامِي أو أزِيدُ
عَدَتني عن نَصِيبين العَوادِي ... فبَخْتى أبلهٌ فيها بَلِيدُ
وخَلَّفني الزّمانُ على رِجالٍ ... وجُوههمُ وأيديهمْ حَدِيد
لهم حُلَل فهُنَّ بِيضٌ ... وأخلاقٌ سَمُجن فهُنَّ سُود
أَلا ليتَ المَقَادر لم تُقَدَّر ... ولم تَكُنِ العطايا والجُدودُ
وقال ابن أبي حازِمِ:
وقالُوا لو مَدحت فَتًى كَرِيماً ... فقلتُ وكيفَ لي بفتًى كَريم
بُلِيتُ ومَرَّ بي خَمْسون حَولاً ... وحَسْبُك باْلمُجَرِّب من عَلِيم
فلا أَحدٌ يُعَدُّ ليومِ خيْرٍ ... ولا أحدٌ يَعود علَى عَدِيم
وقال:
قد بلوتُ النّاسَ طُرَّا ... لم أحِدْ في الناس حرا
صار حُلْوُ الناس في العَي ... ن إذا ما ذيق مُرا
وقال:
مَن سَلاَ عنِّيَ أَطْلَق ... تُ حِبالِي من حِبالهْ
أَو أَجَدّ الوَصل سارَع ... ت بجَهْدِي في وصاله
إنَّما أَحْذو على فع ... ل صَدِيقي بمثَاله
غيرَ مُستجْدٍ إِذا ازوَر ... ر كأني مِن عِيَاله
لَنْ تراني أبداً أع ... ظِم ذا مالٍ لماله
لا ولا أَزْرَى بمَنْ يع ... قِل عندي سُوءُ حاله
إنما أقضي عَلَى ذَا ... كَ وهذا بفِعاله
كيفَما صَرّفني الدَّه ... رُ فإني من رِجاله
ومن قولنا في هذا المعنى:
أبا صالحٍِ جاءت على الناس غَفْلةٌ ... على غَفْلَةٍ بانت بكلِّ كَرِيم
فَليتَ الآلي باتُوا يُفادون بالألى ... أقاموا فَيُفْدَى ظاعنٌ بمقيم
وياليتَها الكُبْرَى فتُطْوى سماؤنا ... لها وتُمَدّ الأرضُ مَدَّ أَديم
فما الموتُ إلا عَيْش كلِّ مُبَخَّل ... وما العَيْش إلا موت كل ذَميم

وأعذَرُ ما أدمى الجُفونَ من البُكا ... كَريمٌ رَأى الدًّنيا بكَفّ لَئيم
ومثلُه في هذا المعنى:
أبا صالحٍ أينَ الكِرامُ بأَسْرِهم ... أفِدْني كريماً فالكريمُ رِضَاءُ
أحقًّا يقول الناسُ في جود حاتمٍ ... وابن سِنان كان فيه سَخاء
عَذِيريَ مِن خَلْق تَخَلَّق منهم ... غَباءٌ ولُؤْم فاضحٌ وجَفاء
حِجارةُ بُخْلٍ ما تَجُود ورُبَّما ... تَفجَّر من صُمِّ الحجارة ماء
ولو أنّ موسى جاَء يَضْربُ بالعَصا ... لما انبجَسَت من ضَرْبه البُخلاء
بَقاءُ لِئام الناس مَوْتٌ عليهمُ ... كما أنّ موتَ الأكْرمين بَقاء
عَزيزٌ عليَهم أن تَجود أكفّهم ... عليهم مِن الله العَزيزِ عَفاء
ومثلُه قولُنا في هذا المعنى:
ساقٌ تَرنّح يَشْدُو فوقَهُ ساقُ ... كأنّه لِحَنِين الصَّوْتِ مُشْتاقُ
يا ضَيْعَةَ الشِّعر في بُلْهٍ جَرامقةٍ ... تَشابهت منهُمُ في اللُّؤْم أخلاق
" غُلَّت باَّعناقِهم أَيدٍ مُقَفَّعَةٌ ... لا بُوركت منهُمُ أَيدٍ وأعنَاق
كأنما بينهم في مَنْع سائلهم ... وحَبْس نائلهم عَهْد ومِيثاقُ
كم سُقْتهم بأَماديحي وقُدْتهم ... نحو المَعالي فما انقادوا ولا انساقوا
وإن نَبا بيَ في ساحاتهم وَطنٌ ... فالأرض واسعة والناس أَفراق
ما كنتُ أوّلَ ظمآن بمَهمهة ... يَغرُّه من سراب القَفْر رَقراق
رِزْقٌ من الله أرضاهم وأسخطَني ... اللّهُ للأنْوك المَعْتوه رَزَّاق
يا قابضَ الكف لا زالت مُقبَّضة ... فما أناملُها للناس أرزاق
وغِبْ إذا شِئت حتى لا تُرى أبداً ... فما لفقدك في الأحشاء إقلاق
ولا إليك سبيلُ الجود شارعةٌ ... ولا عليكَ لنور المجد إشراق
لم يَكتنفني رَجاء لا ولا أمل ... إلا تكنّفه ذُلّ وإملاق
وقال مُؤَمِّل بن سَعيد في هذا المعنى:
إنما أزرى بقدْري أنَني ... لستُ من نابِهِ أهل البلدِ
ليس منهم غير ذي مَقْلية ... لذوي الألباب أو ذي حَسَد
يَتحامَوْن لِقائي مثلَ ما ... يَتحامَوْن لِقاءَ الأسد
طَلْعتي أثقلُ في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحُد
لو رأوني وَسْط بحْرٍ لم يكن ... أحَدٌ يأخذ منهم بيَدىِ "

باب في الكبر
أقال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تبارك وتعالى: العَظمة إزاري، والكِبْرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما قصمتُه وأهنته.
وقال عليه السلام: لا يدخل حَضْرة القدس مُتكبِّر.
وقال: فَضل الإزار في النار. معناه: من سَحب ذيلَه في الخُيلاء قاده ذلك إلى النار.
و " نَظر الحسنُ إلى عبد الله بن الأهْتم يَخْطِر في المَسْجِد، فقال: انظروا إلى هذا، ليس منه عضو إلا وللّه عليه نِعْمة، وللشيطان في لَعْنة.
وقال سَعد بن أبي وَقّاص لابنه: يا بُني: إيّاك والكِبرَ، ولْيكُنْ فيما تَسْتَعِين به على تَرْكه: عِلْمُك بالذي منه كنتَ، والذي إليه تَصِير، وكيف الكِبْر مع النُّطْفة التي منها خُلِقتَ، والرحِم التي منها قُذِفْت، والغِذَاء الذي به غُذِيت.
وقال يحيى بن حَيّان: الشريفُ إذا تَقَوى تواضَع، والوَضيع إذا تقوَّى تَكَبَّر.
وقال بعضُ الحُكماء: كيف يَسْتقِرّ الكِبر فيمن خُلِق من ترَاب، وطُوِي على القَذَر، وجَرى مجرى البول.
وقال الحسن: عجباً لابن آدم كيف يَتَكبر وفيه تِسع سُموِم كلّها يُؤْذي وذكر الحسنُ المُتكبرين فقال: يُلْفي أحدُهم ينص " رَقَبَته " نصّا، ينفَض مذرويه، ويَضرب أصْدَريه، يَمْلُخ في الباطل مَلْخا، يقول: ها أناذا فاعرفُوني؟ قد عَرَفناك يا أَحمق، مَقتك الله ومَقتك الصالحون.

ووَقف عُيينة بن حِصْن بباب عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: استأذِنُوا لي على أمير المؤمنين وقولُوا له: هذا ابن الأخيار بالباب. فأذِن له، فلما دَخل عليه، قال له: أنتَ ابن الأخْيار؟ قال نعم؛ قال له: بل أنتَ ابن الأَشْرار، وأما ابن الأخيار فهو يُوسف بن يَعْقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وقيل لعبيد اللهّ بن ظَبْيان: كثر الله في العَشِيرة أمثالك، فقال: لقد سألتم الله شَططا.
وقيل لرجُل من بني عبد الدَّار عَظِيم الكِبْر: ألا تَأْتي الخَلِيفة؟ قال: أخشى أَلا يَحمل الجسْرُ شرفي.
وقَيل له: ألا تَلبَس فإنَّ البَردَ شدِيد؟ قال: حَسَبي يُدْفئني.
قيل للحجاجِ: كيف وجدت منزلَك بالعِرَاق أيها الأمِير؟ قال: خَير مَنزِل، لو أدركتُ بها أربعةَ نفر فَتقرَّبت إلى الله سُبحانه وتعالى بدمائهم؛ قيل له: ومَن هم؟ قال: مُقاتل بن مِسْمع، وَلِي سِجِسْتان، فأتاه الناسُ فأعْطاهم الأموال؛ فلما قَدِم البصرة بسط له الناسُ أرديتهم فمشى عليها؛ فقال: لمثْل هذا فليعمل العامِلُون. وعبيد اللهّ بن ظَبيان خطَب خُطْبة أَوْجَز فيها، فناداه الناسُ من أَعْراض المَسْجد. كثَّر الله فينا أمثالك؟ قال: لقد كلَّفتم ربكم شططا. ومَعْبد بن زُرارة، كان ذات يومٍ جالساً على طريق، فمرَّت به امرأةٌ، فقالت: يا عبد الله، أين الطَّريق لِمَكان كذا؟ فقالَ لمِثْلي يُقال يا عبد الله! وَيلك! وأبو السَّمّال الحَنَفِيّ، أضلَّ ناقَته، فقال: واللهّ لئن لم تُرَدَّ عليَّ ناقتي لا صلّيتُ أبداً.
وقال ناقلُ الحديث: ونَسيِ الحجَّاج نفسَه، وهو خامسُ هؤلاء الأربعة، بل هو أشدُّهم كُفْراً وأعْظَمهم إلحاداَ، حين كتب إلى عبد الملك بن مروان في عَطْسة عَطسها فَشَمَّته أصحابُه ورَدَ عليهم: بَلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين وتشْميت أصحابه له وردّه عليهم، فيا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيما.
وكتابُه إليه: إنّ خَليفة الرَّجل في أهلِه أكرمُ عليه من رَسوله إليهم، وكذلك الخُلفاء يا أميرَ المؤمنين أعلَى منزِلةً من المُرسلين.
العُتْبيّ قال: رأيتُ مُحْرِزاَ مولَى باهلة يَطوف على بَغْلة بين الصَّفا والمَرْوة، ثم رأيتُه بعد ذلك على جِسْر بَغْداد راجلاً، فقلتُ له: أراجلٌ أنتَ في مِثْل هذا المَوْضع؟ قال: نعم، إنّي ركبتُ في مَوْضع يمْشي الناسُ فيه، فكان حقيقاً على الله أن يُرَجِّلني في مَوْضع يَرْكب الناس فيه.
وقال بعضُ الحكماء " لابنه: يا بُني، عليك بالترحيب والبشر، وإياك والتقطيبَ والكبر، فأنَ الأحرار أحبُّ إليهم أن يًلْقَوْا بما يُحبون ويُحرَموا، مِن أن يُلْقَوْا بما يكرهون ويًعْطَوْا. فانظر إلى خَصْلة غَطّت على مِثْل اللؤم فالزمها، وانظر إلى خَصلة عَفَّت على مثل الكرة فاجتنبها. ألم تسمع قول حاتم الطائي:
أضاحِك ضيفي قبل إنزال رَحْله ... ويُخصب عندي المَحَلُّ جديبُ
وما الخِصب للأضياف أن يَكْثُرَ القِرَى ... ولكنما وجهُ الكريم خَصيب
وقال محمود الوراق:
التِّيه مَفسدة للدِّين منقصة ... للعَقل لمجلبة للذمّ والسخَطِ
مَنْع العطاء وبَسْط الوجه أحسنُ من ... بَذْل العطاء بوَجْه غير منبسط
وقال أيضاً:
بِشْرُ البخيلِ يكاد يصْلِح بُخلَه ... والتِّيهُ مَفْسدة لكلِّ جوادِ
ونقيصة تبْقى على أيامه ... ومَسبَّة في الأهل والأولاد
وقال آخر في الكِبر:
مع الأرض يا بنَ الأرض في الطَيران ... أَتأْمُل أن تَرْقَى إلى الدَبَرَانِ
فواللّه ما أبصرتُ يوماً مُحلِّقاً ... ولو حَلَّ بين الجَدْي والسَّرطان
حَمَاهُ مكانُ البُعد مِن أَن تَناله ... بسَهْم من البَلْوى يدُ الحَدثان

التسامح مع النعمة
والتذلل مع المصيبة
قالوا: من عَزّ بإقبال الدَّهر ذَلّ بإِدْباره.
وقالوا: مَن أَبْطره الغِنَى أذلّه الفقر.
وقالوا: مَن وَليَ وِلاية يَرى نفْسَه أكبر منها لم يتغيَّر لها، ومَن وَليَ ولايةً يراها أكبر من نفسه تغير لها.
وقال يحيى بن حَيّان: الشرَّيف إذا تقوَّى تواضع، والوضيعُ إذا تقوَّى تكبَّر.

وقال كِسرى: احذَرُوا صَوْلة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شَبع.
وكتب عليًّ بن الجَهْم إلى ابن الزيّات:
أبا جعفر عرج على خُلطائكَا ... وأَقصِر قليلاً من مَدى غُلوائكَا
فإن كنتَ قد أُوتيت في اليوم رِفْعةً ... فإنّ رَجائي في غَدٍ كرجائكا
وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابيّ:
لقد عجبتْ منهُ اللًيالي لأنَهُ ... صَبُورٌ على عَضلاء تلك البلابِل
إذا نال لم يَفْرَح وليس لنَكبة ... أَلمَت به بالخاشع المُتَضائل
وقال الحسنُ بن هانئ:
لقد حَزِنْتُ فلَم أَمُتْ تَرَحا ... ولقد فَرِحْتُ فلم أمُت فَرَحا
كتب عقِيلُ بن أبي طالب إلى أخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلامُ يسأله عن حاله، فكتب إليه عليٌّ رضي الله عنه:
فإنْ تَسألِينيّ كيفَ أنتَ فإنني ... جَليِدٌ على عَض الزَّمان صَلِيبُ
عَزِيزٌ عليًّ أنْ تُرى بي كآبةٌ ... فيفرح واشٍ أو يُسَاء حَبِيب

ما جاء في ذم الحمق والجهل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الجاهلُ يظلم مَن خالطه، ويعتدي على مَن هو دونه، ويتَطاول على مَن هو فَوْقه، ويتَكلّم بغير تَمييز، وإن رَأَى كريمةً أعرض عنها، وإن عَرَضت فتْنة أرْدَتْه وتهوَّر فيها.
وقال أبو الدَّرداء: عَلامة الجاهل ثلاث: العُجُب، وكَثرة المَنطق، وأن يَنْهَى عن شيء ويأتيه.
وقال أرْدشير: حَسْبُكم دَلالة على عَيْب الجهل أنَّ كل الناس تَنفر منه وتَغضب من أن تُنسب إليه.
وكان يُقال: لا تَغْرُرْك من الجاهل قَرابة ولا أُخوَة ولا إِلْف، فإنّ أحقَّ الناس بتَحريق النَّار أقربُهم منها.
وقيل: خَصْلتان تقَرِّبانك من الأحمق، كثرةُ الالتفات، وسرعة الجواب. وقيل: لا تَصْطحب الجاهِلَ، فإنّه يُريد أن يَنْفعك فيضُرّك.
ولبعضهم:
لكلِّ دَاءٍ دواءٌ يستطب به ... إلا الحماقةَ أَعْيَتْ مَن يُدَاويها
ولأبى العتاهية:
احْذَرِ الأحمقَ أن تَصْحَبَه ... إنما الأحمقُ كالثَّوب الخَلَقْ
كلَّما رَقَّعْتَه مِن جانبٍ ... زَعْزَعتْه الريحُ يوماَ فَانخرق
أو كصدع في زُجاج فاحشٍ ... هل تَرَى صَدْع زُجاجٍ يَلْتصق
فإذا عاتبتَه كي يَرْعَوِي ... زادَ شرًّا وتمادى في الحُمق
باب في التواضع
قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن تَوَاضَع للّه رَفعه الله.
قالت الحكَماء: كلّ نِعْمة يحسد عليها إلا التَواضع.
وقال عبدُ الملك بن مَرْوان، رَفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أفضَل الرجال مَن تَوَاضع عن رِفْعة، وزَهِد عن قُدْرة، وأنصف عن قوة.
وقال ابن السماك لعيسى بن موسى: تواضُعك في شَرَفك أكبرُ من شرَفك.
وأصبح النّجاشيّ يوماً جالساً على الأرض والتّاجُ عليه، فأعظمت بَطارقتُه ذلك، وسألُوه عن السَّبب الذي أوْجبه، فقال: إني وَجدت فيما أنزل الله على المَسِيح: إذا أنعَمْتُ عَلَى عَبْدِي نِعمةً فَتَواضَع أتمَمتُها عليه، وإنه وُلد لي هذه الليلةَ غلامٌ فتواضعتُ شكراً للّه.
خرج عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه، ويدُه على المُعلَّى بن الجارود العَبْديِّ، فَلقيَتْه امرأةٌ من قُرَيش، فقالت له: يا عُمر، فَوَقف لها؟ فقالت: كنَا نَعْرفك مُدةً عُميراً، ثم صِرْت من بعد عُمير عُمر، ثم صِرْت من بعد عُمر أميرَ المؤمنين، فاتق اللهّ يا بن الخطّاب وانظُر في أمور الناس، فإنه مَن خاف الوَعيد قَرُبَ عليه البَعيد، ومَن خاف الموتَ خَشيَ الفَوْت. فقال المُعلّى: إيهاً يا أمةَ الله، فقد أبكيتِ أميرَ المؤمنين. فقال له عُمر: اسكت، أتَدْري مَن هذه " ويحك " ؟ هذه خَوْلة بنت حَكيم التي سمع الله قولَها من سمائه، فعُمَر أحرى أن يَسمع قولَها ويَقْتدي به.
وقال أبو عَبّاد " الكاتب " : ما جَلس إليَّ رجل قَطَ إلا خيِّل إليَ أنّي سأجلس إليه.
وسُئل الحسنُ عن التواضع فقال: هو أن تخرج من بَيْتك فلا تلْقى أحداً إلا رأيتَ له الفضلَ عليك.

وقال رجل لبَكر بن عبد الله: عَلِّمني التواضع؛ فقال: إذا رأيتَ مَن هو أكبَرُ منك فقُل: سَبَقني إلى الِإسلام والعَمل الصالح، فهو خير مني، وإذا رأيت " من هو " أصغرُ منك فقُل: سبقتُه إلى الذُّنوب والعمل السيئ، فأنا شرٌّ منه.
وقال أبو العتاهية:
يا مَن تشرًّف بالدُّنيا وزينتها ... ليسَ التشرُّف رَفْعَ الطّين بالطيّن
إذا أردتَ شريفَ الناس كلِّهِمُ ... فانظُرْ إلى مَلِك في زِيِّ مِسْكينَ
" ذاك الذي عَظُمت في الناس هِمَّته ... وذاكَ يَصْلح للدُّنيا وللدِّين "

الرفق والأناة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن أًوتِيَ حظَّه من الرِّفق فقد أوتي حظَّه من خَيْر الدُنيا والآخرة.
وقالت الحُكماء: يُدْرَك بالرِّفق ما لا يُدْرَك بالعًنْف، ألاَ تَرى أنّ الماء على لِينه يَقْطع الْحَجَر على شِدَته؟ وقال أشجعُ " بن عمرو " السُّلَميّ لجعفر بنِ يحيى بنِ خالد:
ما كان يُدْرَك بالرجال ولا ... بالمال ما أدركتَ بالرِّفْق
وقال النابغة:
الرِّفْقُ يُمْن والأَناةُ سعادةٌ ... فاْسْتَأْنِ في رِفْق تُلاَق نَجَاحَا
وقالوا: العَجل بَرِيدُ الزَّلل.
أخذ القَطامىِ التَّغلبِيّ هذا المعنى فقال:
قد يُدْرِك المُتَأنِّي بعض حاجتِه ... وقد يكونُ معَ المُستَعْجل الزَّللُ
وقال عَدِيُّ بن زَيد:
قد يُدْرِكُ المُبْطِىءُ مِن حظّه ... والْحَين قد يَسْبقُ جُهْدَ الحَرِيصْ
استراحة الرجل بمكنون سره إلى صديقة
تقول العرب: أَفْضَيْتُ إليك بشُقوري. وأَطلَعْتُك على عًجَري وبُجَري. لوكان في جَسدي بَرص ما كَتَمتُه.
وقال اللهّ تبارك وتعالى: " لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرّ " .
وقالت الحكماء: لكلّ سِرّ مُستودع.
وقالوا: مكاتمة الأدْنين صرَيحُ العُقوق.
وقال الشاعر:
وأبثثتُ عَمراً بعضَ ما في جَوَانحي ... وجَرَّعتُه من مُرّ ما أتجرع
" ولا بدَّ من شَكْوى إلى ذي حَفِيظةٍ ... إِذَا جَعلتْ أسرارُ نفس تَطَلَّع "
وقال حبيب:
شكوت وما الشَّكْوَى لِمِثْليَ عادةٌ ... ولكنْ تَفِيضُ النفسُ عند امتلائها
وأنشد أبو الحسن محمد الَبَصَريَّ:
لَعِبَ الهَوَى بمَعالمي ورُسومي ... ودُفِنْتُ حيًّا تحت رَدْم هُمُومِي
وشكوتُ هَمِّي حين ضِقْتُ ومَن شكا ... هَمًّا يضِيقُ به فغير ملوم
وقال آخر:
إِذا لم أطِق صَبراً رَجعتُ إلى الشكوى ... وناديتُ تحت اللًيل يا سامع النَّجْوَى
وأَمطَرْت صَحْن الخَدِّ غيثاً من البُكا ... على كَبِد حَرَّى لِتَرْوَى فما تَرْوَى
الاستدلال باللحظ على الضمير
قالت الحكماء: العينُ باب القَلْب، فما كان في القلب ظهَر في العين.
أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس بن مُصْعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال: إني لأَعرف في العين إِذَا عَرفتْ، وأَعرِف فيها إذا أنكرتْ، وأعرف فيها إذا لم تَعرف ولم تُنكر، أما إذا عرفت فتخواصّ، وأما إذا أَنكرت فتَجْحظ، وأما إذا لم تَعرف ولم تُنْكر فتَسْجُو.
وقال صريعُ الغَواني:
جَلنا عَلامات اْلمَوَدَّة بَيْننا ... مَصايِدَ لَحْظٍ هنَ أَخفي من السِّحْرِ
فأعرفُ فيها الوَصْلَ في لِينِ طَرْفِها ... وأعرِف فيها الهَجْر في النَظر الشزْر
وقال محمودٌ الورّاق:
إنّ العُيون على القُلوب شَوِاهدٌ ... فبغيضُها لكَ بَينٌّ وحبِيبُها
وإذا تَلاحظت العُيون تَفاوضت ... وتحدثت عما تجن قلوبها
يَنْطِقْنَ والأفْواهُ صامِتةٌ فما ... يَخْفي عليك بَريئُهَا ومُريبها
وقال ابن أبي حازم:
خذْ مِن العَيْش ما كَفي ... ومِن الدَّهر ما صَفا
عين من لا يُحب وَصْلك تُبْدِي لكَ آلْجَفَا
ومن قولنا في هذا المعنى:
صاحب في الحب مَكْذُوبُ ... دَمْعة للشَّوق مَسْكوب
كلُّ ما تطوي جوَانحهُ ... فهو في العَيْنين مَكْتوب
وقال الحسنُ بن هانئ:

وإِنّي لِطَيْر العيَنْ بالعَينْ زاجِر ... فقد كِدْتُ لا يَخْفي عَلَيَّ ضَمِيرُ

الاستدلال بالضمير على الضمير
كتب حَكيمٌ إلى حَكيمٍ: إذا أردتَ معرفةً مالَك عنِدي فضَع يَدَك على صدْرك فكما تَجدُني كذلك أجدُك.
وقالوا: إيَّاكم ومَن تُبغضه قلوبُكم، فإنَ القُلوب تُجَازي القلوبَ.
وقال ذو الإصْبع:
لا أسألُ الناسَ عمّا في ضَمائرهم ... ما في ضمِيري لهم مِن ذاك يَكْفِينى
وقال محمود الورّاق:
لا تسألنَّ المَرْء عمًا عنِده ... واستَمْل ما في قَلبه من قَلْبكَا
إنْ كان بُغْضاً كان عندك مِثْلُه ... أو كان حُبَا فاز منك بحًبِّكا
الإصابة بالظن
قيل لعمرو بن العاص: ما العَقْل؟ قال الإصابة بالظَّن ومَعْرفة ما يكون بما قد كان.
أو قال عمر بن الخطاب: مَن لم يَنْفعه ظنُّه لم يَنْفعه يَقِينُه،.
وقال عليٌ بن أبي طالب رضي الله عنه: للهّ دَرُّ عباس، إن كان، لينظر إلى الغَيْب من سِترْ رَقيق.
وقال الشاعر:
وقَلّما يَفْجأ المَكْرُوهُ صاحبَه ... حتى يَرى لوجوه الشَّرّ أسْبَاباً
وإنّما رَكَّب الله العقلَ في الإنسان دون سائر الحَيوان ليستدلَ بالظاهر على الباطن، ويَفْهم الكثيرَ بالقليل.
ومن قوِلنا في هذا المعنى:
يا غافلا ما يَرى إلا مَحاسِنَه ... ولو دَرَى ما رأى إلا مَساويهِ
انظُر إلى باطنِ الدًّنيا، فظاهِرُها ... كلُّ البهائم يَجْري طَرْفُها فيه
تقديم القرابة وتفضيل المعارف
قال الشَّيباني: أَوَّل مَن آثر القَرابة والأولياء عثمانُ بن عفّان رضي الله عنه، وقال: كان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يمنع أقاربَه ابتغاءَ وجه اللهّ. فلا يُرَى أفضل من عمر.
وقال لما آوَى طريدَ النبي صلى الله عليه وسلم: ما نَقِم الناسُ عَلَيَّ أن وصلتُ رحماً وقَرَّبت عما.
وقيل لمُعَاوية بن أبي سُفيان: إنَّ آذِنَك يُقدِّم معارفَه وأصدقاءَه في الإذْن على أشرافِ الناس ووُجوههم؛ فقال: وَيْلكم! إنَّ المَعْرفة لتَنْفع في الكلْب العَقور، والجَمَل الصَّؤول، فكيف في رَجُل حَسيب ذي كرم ودين.
وقال رجلٌ لزِياد: أصلح اللهّ الأميرَ، إنَ هذا يُدِلّ بمَكانةٍ يَدَّعيها منك؛ قال: نعم، وأخبرك بما يَنْفعه من ذلك، إنْ كان الحق له عليك أخذتُكَ به أخذاً شديداً، وإن كان لك عليه قَضيته عنه.
وقال الشاعر:
أقولُ لجاريِ إنْ أتاني مُخاصماً ... يُدِلُ بحقِّ أو يُدِلُّ بباطل
إذا لم يَصِلْ خيْري وأنتَ مُجاورِي ... إليك فما شَرِّي إليك بواصِل
العُتْبيّ قال: وَلَي عبدً اللهّ بنُ خالد بن عبد الله القَسْرِي " قَضاء " البَصرة، فكان يُحابى أهل مودَّتِه؛ فقيلَ له: أيّ رجلٍ أنت لولا أنك تُحَابي! قال: وما خَيْر الصَّديق إذا لم يَقْطع لصديقه قِطْعة من دينه.
ووَلِي ابن شُبرمة قَضَاء البَصرة وهو كاره، فأحسن السِّيرة. فلما عُزِلَ اجتمع إليه أهلُ خاصَّته ومَودَّته، فقال لهم: والله لقد وَليتُ هذه الوِلاية وأنا كارهٌ، وعُزلت عنها وأنا كاره، وما بي من ذلك إلا مخافَة أن يلي هذه الوُجوهَ من لا يَعرف حقّها. ثم تمثَل بقول الشاعر:
فما السِّجنُ أبكاني ولا القَيْد شَفّني ... ولا أنني من خَشْية المَوْت أجْزَعُ
بَلَى إنَّ أقواماً أخافُ عليهمُ ... إذا مِتُّ أن يُعطوا الذي كنتُ أمنع
" وتقول العامَّة: مَحَبَّة السلطان أردّ عليك من شُهودك " وقال الشاعر:
إذا كان الأمير عليك خَصما ... فَلَيس بقابلٍ منك الشّهودَا
وقال زياد: أحب الولايةَ لثلاث، وأَكرهها لثلاث: أحبها لِنَفْع الأوْلياء، وضرَّ الأَعْداء، واسترخاص الأشياء؛ وأكرهها لِرَوْعة البريد، وقُرْب العزْل، وشَماتة العدوّ.
ويقول الحُكماء: أَحقُّ مَن شاركك في النِّعمة شرُكاؤك في المُصِيبة.
أَخذه الشاعر فقال:
وإنَ أوْلى الموالي أن تُوَاسِيه ... عند السُّرُور لمن آساك في الحزَن
إنّ الكِرام إذا ما أسْهلُوا ذَكَروا ... مَن كان يَألَفهم في المَنْزِل الخَشِن
وقال حَبِيب:

قَبَح الإلهُ عداوةً لا تُتّقى ... ومَودَّةً يُدْلَى بها لا تَنْفَعُ

فضل العشيرة
قال عليّ بنُ أبي طالب رضي اللهّ عنه: عشيرةُ الرجل خيرٌ للرجل من الرجل للعَشِيرة، إن كَفَّ عنهم يداً واحدة كَفُّوا عنه أيدياً كثيرة، مع مودَّتهم وحِفَاظهم ونُصْرتهم. إنِّ الرجل لَيَغْضَب للرجل لا يَعْرفه إلا بِنسَبه، وسأتْلُو عليكمِ في ذلك آياتٍ من كِتاب اللهّ " تعالى " ، قال اللهّ عزّ وجلّ فيما حكاه عن لُوط: " لَوْ أنَّ لِي بِكُم قُوّة أَوْ آوِى إلى رُكْن شَدِيد " ! يعني العشيرة، ولم يكن للوط عَشيرة: فوالذي نفسيِ بيده ما بعث الله نبيًّا من بعده إلا في ثَرْوَة من قومه، ومَنعة من عَشِيرته، ثم ذكر شُعيباَ إذ قال له قومُه: " إنَّا لَنَرَاكَ فِينا ضعِيفاً ولَوْلا رَهطك لَرَجَمْناكَ " ، وكان مَكْفوفاً، واللّه ما هابُوا " الله ولا هابوا " إلا عشيرتَه.
وقبل لِبُزُرْجمْهِر: ما تقول في ابن العم؟ قال: هو عدوُّك وعدوُّ عدوّك.
الدَّين
مِن حَدِيث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدَّيْنُ يَنْقُص ذا الحَسب.
وقال عمر " ألا إنّ " لأسَيْفع أُسَيْفِع جُهينة رَضي مِن دِينه وأمانته أن يُقال: سَبق الحاج ألا وإنه قد أدان مُعرِضاَ وأصبح قدرِين به، فمن كان له عِنْده شيء فلْيأْتنا بالغداة نَقْسم " له " ما " له " بين غُرمائه، وإياكم والدَّينَ فإنّ أوّله هَمَّ وآخره حُزْن.
وقال مولَى قُضاعة:
فلو كنتُ مولىَ قَيْس غَيْلانَ لم تَجد ... علي لإنْسان من الناس دِرْهَما
ولكنَّني مولَى قُضاعة كُلِّها ... فلستُ أبالي أن أدينَ وتَغرَما
وقال آخر:
إذا ما قضيْتَ الدَّينَ بالدَين لم يكُن ... قَضاءَ ولكِن كان غًرْماً على غُرْم
وقال سُفيان الثوريّ: الدَّين هَمٌ باللًيل وذُلٌ بالنهار، فإذا أراد الله أن يُذِلَ عَبداً جَعله قِلادة في عُنقه.
ورأى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً مُتقنِّعاً، فقال له: كان لقمان الحكيم يِقول: القِنَاع رِيبةٌ بالليل ذُلٌّ بالنهار؛ فقال الرجلُ: إنّ لُقمان الحكيم لم يكن عليه دين.
وقال المقنع الكِنْديّ:
يَعِيبونني بالدَين قَومي وإنما ... تَداينتُ في أشياء تُكْسِبهم حَمْدا
إذا أكلوا لَحْمي وَفَرتُ لحومهم ... وإن هدَمُوا مَجْدِي بنيتُ لهم مَجْدَا
مجانبة الخُلْف والكذب
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الكَذِب مُجانب الإيمان.
وقالت الحكماء: لَيس لكَذّاب مُرُوءة.
وقالوا: مَن عُرف بالكَذِب لم يَجُزْ صِدْقه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يجوز الكَذِب في جِدّ ولا هَزْل.
وقال: لا يكون المؤمن كَذّاباً.
وقال عبد الله بن عُمر: خُلْف الوَعْدِ ثُلُث النِّفاق.
وقال حبيب الطائيِّ في عَيّاش:
يا أكثر الناس وَعْداَ حَشْوُه خُلْفٌ ... وأكثر الناس قولاً حَشْوُه كَذِبُ
ومن قولنا في هذا المعنى:
صَحِيفةٌ أفنيتْ ليتٌ بها وعسى ... عُنْوانها راحةُ الرِّاجي إذا يَئسَا
وَعْدٌ له هاجسٌ في القَلْب قد بَرِمتْ ... أحشاءُ صَدْري به من طول ما آنحبسا
مواعدٌ غَرَّني منها وَمِيضُ سَنَى ... حتى مَددْتُ أيها الكًفّ مقْتَبِسا
فَصادفتْ حجَراً لو كنتَ تَضْرِبه ... مِن لُؤْمه بعَصَا مُوسى لما آنْبَجَسا
كأنما صِيغ من بُخل ومن كَذِب ... فكان ذاكَ له رُوحا وذا نَفَسا
التنزه عن استماع الخنا
والقول به
اعلم أنّ السامع شريك القائل في الشَر. قال الله " تعالى " : " سماعُونَ لِلْكَذِب " .
وقال العُتبي: حَدّثني أبي عن سَعد القصير قال: نَظر إليَّ عمرو بن عُتبة ورجل يَشْتُم رجلاً بين يديّ، فقال لي، ويلك - وما قال لي ويلك قبْلها - نَزَه سَمْعك عن استماع الخَنا كما تُنزِّه لِسانَك عن الكلام به، فإنّ السامعَ شريكُ القائل، وإنه عَمد إلى شرِّ ما في وعائه فأفرغه في وِعائك، ولو رُدَّت كلمة جاهل في فِيهِ لَسَعِدَ رادُّها كما شَقي قائُلها.
باب في الغلو في الدِّين

توّفِّي رجل في عَهد عمرَ بن ذَرّ ممن أسرَف على نفسه في الذنوب، وجاوَزَ في الطُّغيان، فتَحَامَى الناسُ عن جِنازته، فحضرَها عمرُ بن ذرّ وصلّى عليه، فلما أدْلٍيَ في قبره قال: يَرْحمك الله أبا فُلان، صَحِبْت عُمْرك بالتوحيد، وعَفَّرت وجهك لله بالسُّجود، فإن قالوا مُذْنِب وذو خَطايا، فمَن منَا غيرُ مُذنِب وذِي خطايا.
ومن حديث أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: " يأ يُّها الرُسل كُلُوا مِنَ الطًيبَاتِ واعْمَلوا صالِحاً إنّي بما تَعملون عَلِيم " وقال: " يأيها الذِينَ آمَنُوا كلوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَا كُمْ " ، ثم ذكر الرجلَ يرى أشعثَ أغبرَ يمُدُّ يديه إلى السماء يقول: يا رَبّ يا رَب، ومَطعَمه حَرَام ومشرَبه حَرام ومَلْبسه حَرام، فأنى يُستجاب له؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن اللهّ بَعثني بالْحَنِيفيَّة السَّمْحة ولم يبعثني بالرهبْانية المُبْتدعة، سُنَّتي الصلاة والنوم، والإفطار والصَّوم، فمن رَغِب عن سُنتي فليس مني.
وقال صلى الله عليه وسلم: إنّ هذا الدِّين مَتِين فأَوْغل فيه برِفق، فإنّ اْلمنبَتَ لا أرْضاً قَطع ولا ظَهْراً أَبقى.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: خَير هذه الأمَّة هذا النَّمط الأوْسط، يَرْجع إليهم الغالي ويَلحق بهم التّالي.
وقال مطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير لابنه، وكان قد تَعبَّد: يا بُنيّ، إن الحسنَة بين السيئتين - يعني أن الدين بين الإفْراط والتّقْصير - وخَير الأمور أَوْسطها، وشَرّ السّير الحَقْحقة.
وقال سلمان الفارِسيّ: القَصْدَ والدًوامَ فأنت الجَواد السابق.
وقالوا: " طالب العِلم و " عاملُ البِرِّ كآكِل الطَّعام، إن أكل منه قوتاً عصمه وإن أسْرَف منه أَبْشَمه.
وفي بعض الحديث: إن عيسى بنَ مريم عليه السلام لَقِيَ رجلاً فقال له: ما تَصْنع؟ قال: أَتعبَّد، قال: فمن يَعود عليك؟ قال: أخي؛ قال: هو أعْبَد منك.
ونظير هذا أن رفقة من الأشعريين كانوا في سَفر، فلما قَدِموا قالوا: ما رأينا يا رسول الله بعدَكَ أفضلَ من فلان، كان يَصُوم النهار، فإذا نزَلنا قام من الليل حتى نرْتحل؛ قال: فَمن كان يَمْهن له ويَكفُله؟ قالوا: كلّنا قال: كلّكم أفضلُ منه.
وقيل للزهري: ما الزّهد في الدنيا؟ قال " أمّا " إنه ما هو بتشعيث اللِّمة، ولا قَشَف الهيئة، ولكنَّه ظَلَف النَّفس عن الشَّهوة.
عليِّ بن عاصم عن أبي إسحاق الشَّيباني قال: رأيتُ محمد بن الحنفيَّة واقفاً بعَرَفات على بِرذَوْن وعليه مُطْرَف خز أصْفَر.
السدِّي عن ابن جُريج عن " عثمان بن أبي سليمان: أن " ابن عباس كان يَرْتدي رِدَاء بأَلْف.
إسماعيل بن عبد الله بن جعْفر عن أبيه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ثوبان مصبوغان بالزَّعفران: رداء وعمامة.
وقال مَعمر: رأيتُ قميص أيوب السِّخْتِياني يكاد يَمس الأرض، فسألتُه عن ذلك؟ فقال: إن الشُّهرة كانت فيما مضى في تذْييل القَمِيص، وإنهّا اليومَ في تَشميره.
أبو حاتم عن الأصمعي: أن ابن عَوْن اشترى بًرْنساً فمرَّ على معاذَة العَدَويَّة، فقالت: مِثلُك يَلْبس هذا؟ فذكرتُ ذلك لابن سيربن، قال: أفلا أخبرتها أن تَميما الدارمي اشترى حُلَّة بألف فصلّىِ فيها.
قدم حمَّاد بن سَلمة البَصرة فجاءه فرْقد السَّبَخي وعليه ثيابُ صُوف، فقال له حمَاد: ضَع عنك نَصرانيّتك هذه، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم " فيخرج إلينا " وعليه معَصفْرة، ونحن نرى أن المَيْتة قد حلَّتْ له أبو الحسن المدائنيّ قال: دخل محمد بن واسع على قُتيبة بن مُسلم وَالي خُراسان في مِدْرَعة صوف، فقال له: ما يدعوكَ إلى لِباس هذه؟ فسكت؟ فقال له قتيبة: أكلّمك ولا تُجيبني؟ قال: أَكرَه أن أقولَ زُهداً فأُزَكّي نفسي، أو أقولَ فَقْراً فأَشكو ربي، فما جوابُك إلا السُّكوت.
قال ابن السًماك لأصحاب الصُّوف: واللّه لئن كان لباسُكم وَفْقاً لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، وإن كان مخالفاً لها فقد هَلكتم.
وكان القاسمُ بن محمد يَلْبس الخزّ، وسالِم بن عبد الله يَلْبس الصُّوف، ويقعُدان في مجلس المدينة، فلا يُنكر هذا على هذا " شيئاَ " ولا ذا على هذا.

ودَخل رجلٌ على محمد بن المُنْكَدر فوجده قاعداً على حَشايا مُضاعَفة، وجاريةٌ تُغَلِّفه بالغالية، فقال: رَحمك اللّه، جئتُ أسألك عن شيء وجدتك فيه - يريد التزيّن - قال: على هذا أدركتُ الناس.
وصلّى الأعمشُ في مسجد قوم فأطال بهم الإمام، فلما فَرغ، قال له: يا هذا، لا تُطِلْ صلاتك، فإنه يكون خَلْفك ذو الحاجة والكبَير والضَّعيف؟ قال الإمام: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين؛ فقال له الأعمش: أنا رسولُ الخاشعين إليك، إنهم لا يَحتاجون إلى هذا منك.
العُتْبيّ قال: أصابت الربيعَ بن زِياد نُشَّابةٌ في جبينه، فكانت تنتقض عليه كل عام، فأتاه عليُّ بن أبي طالب عائداً، فقال له: كيف تَجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أجدُني لو كان لا يذهب ما بي إلا بذَهاب بَصري لتمنيّت ذهابَه، قال له: وما قيمة بَصرك عندك؟ قال: لو كانت لي الدُّنيا فديتُه بها؟ قال: لا جَرم، ليُعطينّك اللهّ على قَدْر الدُنيا، لو كانت لك لأنفقتها في سبيله، إِنّ الله يُعطي على قَدْر الألم والمُصيبة وعنده بعدُ تَضْعيفٌ كثير. قال له الرَّبيع: يا أميرَ المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصمَ بن زِياد؟ قال: وماله؟ قال: لَبِسَ العَباء، وتَرَك المُلاَء، وغم أهْلَه، وأحْزن وَلَده؛ قال: عليِّ عاصماً. فلما أتاه عَبس في وَجْهه، وقال: وَيْلكَ يا عاصم! أترى الله أباح لك اللذّاتِ وهو يكره " منك " أخْذَك منها، أنت أهونُ على الله من ذلك، أو ما سَمعْته يقول: " مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان بَيْنهما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان " حتى قال: " يَخْرُجُ مِنْهَما اللُؤْلُؤُ والمَرْجَان " . وتاللّه لابتذال نِعَم الله بالفِعال، أحب إِلي من ابتذالها بالمَقَال، وقد سمعته يقول: " وأمَّا بِنِعْمَةِ ربكَ فَحَدًث " وقوله: " قُلْ مَنْ حَرَمَ زِينَةَ الله الَتي أخْرَجَ لِعِبَادهِ والطيبَاتِ مِنَ الرزْقِ " . قال عاصم: فعلامَ اقتصرتَ أنت يا أميرَ المَؤمنين؟ على لِبْس الخَشِن وأكْل الحَشف؟ قال: إن الله افترض على أئمة العَدْل أن يُقَدِّروا أنفسَهم بالعوامّ لئلاّ يَشْنعَ بالفقير فَقرُه. فما بَرِح حتى لِبس المُلاء وترك العَباء.

محمد بن حاطب الْجُمَحيّ قال: حدّثني من سَمع عمرو بن شُعيب، وكنتُ سمعتُه أنا وأبي جميعاً، قال: حدّثني عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه عن " عبد الله بن مَسعود قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم أمّ " عبد الله بن عمرو " بن العاص " ، وكانت امرأة تَلْطُف برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّم، فقال: كيف أنتِ يا أمَ عبد الله؟ كيف أكونُ وعبد الله بن عمرو رجلٌ قد تخلّى من الدنيا، قال لها: كيف ذلك؟ قالت: حرّم النوم فلا ينام، ولا يُفطر، ولا يَطْعم اللحم، ولا يؤدِّي إلى أهله حقَّهم؟ قال: فأين هو؟ قالت: خرج ويُوشك أن يَرْجع الساعة، قال: فإذا رجع فاحبسيه عليَّ. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عبد الله وأوْشك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرَّجعة، فقال: يا عبد الله بن عَمرو، ما هذا الذي بلغني عنك، " قال: وما ذاك يا رسولَ الله؟ قال بَلَغني، أنك لا تنام " ولا تُفْطر " ؟ قال: أردتُ بذلك الأمْنَ من الفزع الأكبر قال: وبلَغني أنك لا تَطْعم اللَّحم، قال: أردتُ بذلك ما هو خيرٌ منه في الجنَّة؛ قال: وبلغني أنك لا تؤدي إلى أهلك حقَهم؛ قال: أردتُ بذلك نساءً هنَّ خير منهنّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّم يا عبد الله بن عمرو، إن لك في رسول الله أسوة حَسنة، فرسول الله يَصوم ويُفطر ويأكل اللَّحم، ويُؤدِّي إلى أهله حقوقَهم. يا عبد الله بن عمرو، إنَ لله عليك حقّا، وإنَ لبدنك عليك حقّا، وإن لأهلك عليك حقّا. فقال: يا رسول الله، ما تأمرني أن أصوم خمسة أيام وأفطر يوماً؟ قال: لا؛ قال: فأصوم أربعة وأفطر يوماً؟ قال: لا؛ قال: فأصوم ثلاثة وأفطر يوماً؟ قال: لا؛ قال: فيومين وأفطر يوماً؟ قال: لا، قال: فيوماً " وأفْطِر يوماً " ؟ قال: ذلك صيام أخي داود، يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بَقِيت في حُثالة من الناس قد مَرِجَتْ عهودُهم ومواثيقُهم فكانوا هكذا - وخالف بين أصابعه قال: فما تأمرني " به " يا رسول اللهّ؟ قال: تأخذ ما تَعرف، وتَدَع ما تُنكر، وتَعمل بخاصَّة نَفْسك، وتَدع الناس وعوامَّ أمرهم. قال: ثم أخذه بيده وجعل يمشي به حتى وضعَ يده في يد أبيه، وقال له. أطِع أباك. فلما كان يومُ صِفّين، قال له أبوه عمرو: يا عبد الله، اخرج فقاتل، فقال: يا أبتاه، أتأمُرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت وعَهِد إليَ " ما عهد " ؟ قال: أنشدك الله، ألم يكن آخر ما قال لك أن أخذ بيدك فوضعها في يدي، وقال لك: أطِع أباك؟ٍ قال: اللهم بلى؛ قال: فإني أعزم عليك أن تَخْرج فتقاتل. قال: فخرج فقاتل متقلَداً بسيفين.

القول في القدر
أتى قومٌ من أهل القَدر محمد بن المُنْكدر. فقالوا له: أنت الذي تقول: إن الله يُعذِّب الخلق على ما قدَّر عليهم؟ فصرف وجهه عنهم ولم يُجبهم. فقالوا له: أصلحك الله، إن كنت لا تُجيبنا فلا تُخْلِنا من بركة دعائك، فقال: اللهم لا تُرْدِنا بعُقوبتك، ولا تَمكر بنا حِيلتك، ولا تُؤاخذنا بتَقْصيرنا عن رِضاك، قليلَ أعمالنا تقَبّل، وعظيمَ خطايانا اغفر، أنت الله الذي لم يكن شيء قبلك، ولا يكونُ شيء بعدك، وليّ الأشياء، ترفع بالهُدى من تشاء؛ لا مَن أحسن استغنى عن عَونك، ولا مَن أساء غَلَبك، ولا استبدّ شيء عن حُكومتك وقُدرتك، " لا ملجأ إلا إليك " ، فكيف لنا بالمغفرة وليست إلا في يديك، وكيف لنا بالرحمة وليست إلا عندك، حفيظ لا ينسى، قديم لا يَبلى، حيّ لا يموت، بك عرفناك، وبك اهتدينا إليك، ولولا أنت لم نَدْرِ ما أنت، سُبحانك وتعاليت. فقال القوم: قد واللّه أخبر وما قَصرّ.
وقال: ذُكر القَدر في مجلس الحسن البصريّ، فقال: إن الله خلق الخلق للابتلاء، لم يُطيعوه بإكراه، ولم يَعْصوه بغَلبة، لم يُهْملهم من الملْك وهو القادر على ما أقدرهم عليه، والمالك لما ملّكهم إياه، فإن يأتمر العِباد بطاعة الله لم يكن اللهّ مُثَبِّطاً " لهم " بل يَزيدهم هُدىً إلى هُداهم، وتَقوَى إلى تَقْواهم، وإن يأتمروا بمعْصية اللّه، كان الله قادراً على صرفهم إن شاء، وإن خَلّى بينهم وبين المَعْصية، فمن بعد إعذار وإنذار.

مروان بن موسى قال: حدّثنا أبو ضَمْرة أنّ غَيْلان قَدِم بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة، فقال له: أنت الذي تزعم أنّ الله أحبَّ أن يُعْصىَ؟ فقال له رَبيعة: أنت الذي تزعم أن الله يُعصى كَرها؟ فكأَنما أَلقمه حجراً.
قيل لطاوس: هذا قَتادة يُحب أن يأتيك، فقال: إن جاء لأقُومنّ؟ قيل له: إنه فقيه؟ قال: إِبليس أفقه منه، قال: " رَبِّ بما أَغْوَيْتَني " .
وقيل للشعبّى: رأيتَ قتادة؟ قال: نعم، رأيت كُناسة بين حَشَّين، القَدَر هو العِلْم والكِتاب والكَلِمة والإذْن والمشيئة.
قال الأصمعي: سألتُ أعرابياً فقلت له: ما فَضلُ بَني فُلان على بَني فلان؟ قال: الكِتاب، يعني القَدَر.
وقال الله عزّ وجلّ: " إنَّا كُلّ شيءِ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر " . وقال: " كُلُّ في كِتَاب مُبِين " . وقال: " ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لعِبَادِنَا اْلمًرْسَلِين " يعني القَدَر. وقال: " وَلَوْلاً كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزَاما " .
قال الخُشني أبو عبد الله محمد بن السَّلام: شاعران من فُحُول الجاهلية لهما " بَيْتان " ذَهب " أحدهما في بيته " مَذْهب العَدْلية، والآخر ذَهب مَذْهب الجَبْرية، فالذي ذهب مَذْهب العَدْلية أعشى بَكْر حيثُ يقول:
آسْتأثر الله بالوَفَاء وبالعَدْل وَوَلًى اللامة الرَّجلاَ
والذي ذَهب مذْهب الجَبْرية لَبِيد بن رَبِيعة حيث يقول:
إنّ تَقْوَى ربِّنَا خَيْرُ نَفَل ... وبإذْن الله رَيثي وعَجَلْ
مَن هَداه سُبلَ الخْير اهتدى ... ناعِمَ البال ومَن شاءَ أَضَل
وقال إِياس بن مُعاوية: كلَّمتُ الفِرَق كلها ببعض عَقْلي، وكلًمتُ القَدَرِيّ بعَقْلي كلِّه، فقلت له: دُخولك فيما ليس لك ظُلْم منك؟ قال: نعم؟ قلت: فإنّ الأمر كله للّه.
ومن قوْل اللهّ عز وجل في القدر: " قُلْ فَلّلهِ الْحُجًةُ البَالِغةُ فَلَوْ شَاء لهَدَاكمْ أجْمَعين " . وقال: " يَمُنُّون عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَّلَيَ إِسْلامَكُمْ بَل الله يَمُنَّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ لِإيمَان إِنْ كنْتمْ صَادِقينَ " ابن شِهاب قال: أنزل الله على نبيه آية في القَدرِيَّة: " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين وقال: " قُلْ لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ " .
وقال محمد بنُ سِيرين: ما يُنْكر القَدَرية أن يكونَ الله " قد " عَلِم مِن خَلْقه عِلْماً فكَتبه عليهم.
وقال رجلٌ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما تَقول في القَدَر؟ قال: وَيْحك! أخبرني عن رحمة الله، أكانَتْ قبلَ طاعة العباد؟ قال نعم؟ قال علي: أسْلَم صاحبًكم وقد كان كافراً؟ فقال الرجلً له: أليس بالمَشيئة الأولى التي أنشأني بها " وقَوَّم خَلقي " ، أقوم وأقعد، وأقْبِضً وأبْسُط؟ قال له " علي " ، إنك بعدُ في المشيئة؛ أمَا إني أسألك عن ثلاث، فإن قلتَ في واحدة منهن لا، كفرت؛ وإن قلت نعم، فأنت أنت، فمدَ القومُ أعناقهم ليسمعوا ما يقول، فقال له عليّ: أخبرني عنك، أخلقك اللهّ كما شِئت أو كما شاء؟ قال: بل كما شاء؛ قال: فَخَلقَك الله لما شِئْت أو لما شاء؟ قال: بل لما شاء؟ قال: فيومَ القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء؟ قال: بل بما شاء؟ قال: قُمْ فلا مَشيئة لك.

قال هشام بن محمد بن السائب الكَلْبي: كان هِشام بن عبد الملك قد أنكر على غَيلان التكلم في القَدَر، وتقدَّم إليه في ذلك أشدَّ التقدّم، وقال له في بعض ما توعده به من الكلام: ما أحسبك تَنْتهي حتى تَنْزِل بك دعوةُ عمرَ بن عبد العزيز إِذا احتجَ عليك في المَشيئة بقول الله عزّ وجل: " وَمَا تشاءُونَ إلا أنْ يَشَاء الله " ، فزعمتَ أنك لم تُلْقِ الا بالاً، فقال عمر: اللهم ان كان كاذباً فاقطع يده وِرجله ولسانه واضرب عُنُقه، فانْتَهِ أولى لك، ودعَ عنك ما ضَرُه إليك أقربُ من نفْعه، فقال له غَيْلان، لِحَيْنه وشَقْوته: ابعث إليَّ يا أمير المؤمنين من يُكلّمني ويحتجّ عليّ، فإن أخذتْه حُجَّتي أمسكتَ عنّي فلا سبيلَ لك إليَّ، وإن أخذتنى حجتُه، فسألتك بالذي أكرمَك بالخِلافة إلاّ نفَذت فيّ ما دعا به عمرُ عليّ. فغاظ قوله هشاماً، فعبث إلى الأوْزاعيّ فحكى له ما قال لغَيلان، وما ردَّ غيلان: فالتفت إليه الأوزاعيّ، فقال له: اسألك عن خمس أو عن ثلاث؟ فقال غيلان: بل عن ثلاث؛ قال الأوزاعيّ: هل علمتَ أنّ الله أعان على ما حَرَّم؟ قال غيلان: ما علِمت، " وعَظُمت عنده " . قال: فهل علمتَ أن اللهّ قَضى على ما نهى؟ قال غيلان: هذه أعظمُ! ما لي بهذا من عِلْم؛ قال: فهل علمتَ أنّ الله حال دون ما أمر؟ قال غيلان - : حال دون ما أمر؟ ما علمتُ؛ قال الأوزاعي: هذا مرتاب من أهل الزَّيع. فأمر هشامُ بقَطع يده ورِجْله، ثم ألقي في الكُناسة. فاحْتَوشه الناسُ، يَعجبون من عظيم ما أنزل اللهّ به من نِقمته. ثم أقبل رجلٌ كان كثيراً ما يُنْكر عليه التكلّم في القَدَر، فتخلّل الناس حتى وَصل إليه، فقال يا غيلانُ، اذكُر دُعاء عمر رحمه اللهّ؟ فقال غيلان: أفلح إذاً هشام، إن كان الذي نَزَل بي بدعاء عمر أو بقضاء سابق فإنه لا حَرج على هشام فيما أمر به، فبلغت كلمته هشاما، فأمر بقَطْع لسانه وضَرب عُنقه لتمام دَعْوة عمر. ثم التفت هشام إلى الأوزاعيّ وقال له: قد قلتَ يا أبا عمرو فَفَسِّر؛ فقال: نعم، قَضى على ما نَهى عنه، نَهى آدم عن أكل الشجرة، وقضى عليه بأكلها؛ وحال دُون ما أَمر، أمر إبليس بالسُجود لآدم، وحال بينه وبين ذلك؛ وأعان على ما حرَّم، المَيْتة، وأعان المُضطر على أكلها.
الرَّياشي عن سعيد بن عامر بن جُوَيرية عن سَعيد بن أبي عَرُوبة، قال: لما سألتُ قتادةَ عن القَدَر، فقال: رأى العرب تريد فيه أم رأيَ العَجم؟ فقلت: بل رَأْيَ العرب: قال: فإنه لم يكن أحدٌ من العرب إلا وهو يُثبت " القدر " ، وأنشد:
ما كان قَطْعِي هَوْلَ كلِّ تَنْوفة ... إلا كتاباً قد خلا مَسْطُورَا
وقال أعرابيّ: الناظًر في قَدَر الله كالناظر في عَين الشمس، يعرف ضَوْءها ولا يَختم على حدودها.
وقال كعب بن زُهَير:
لو كنتُ أعجبُ من شيء لأعجَبني ... سَعْيُ الفَتَى وهو مخْبُوءٌ له القَدَرُ
يَسْعى الفتَى لأمور ليس يُدْرِكها ... فالنَّفْس واحدةٌ وآلهمّ منْتشِر
والمَرْءُ ما عاش مَمْدُودٌ له أمل ... لا تَنْتَهي العينُ حتى يَنْتهي الأثر
وقال آخر:
والجَدّ أنهض بالفتَى من عَقْله ... فانهضْ بجَدٍّ في الحَوادث أو ذَرِ
ما أقربَ الأشْياء حين يَسُوقها ... قَدَرٌ وأبعدَها إذا لم تُقْدَرِ
عبد الرحمن القَصِير قال: حدّثنا يونس بن بلال عن يَزيد بن أبي حَبيب، أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أيقدّر الله عليِّ الشرّ ثم يُعذَبني عليه؟ قال: نعم، وأنت أظْلم.
وحدّث أبو عبد الرحمن المُقْرىء، يَرْفعه إلى أبي هُريرة، عن عمر بن الخطاب رضي اللهّ عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تجَالسوا أهلَ القَدَر ولا تُفاتحوهم.
ومن حديث عبد الله بن مَسعود، قال: ما كان كُفْر بعد نُبوَّة قط، إلا كان مِفْتاحه التَّكْذيب بالقَدَر.

ثُمَامة بن أَشْرَس قال: دَخل أبو العَتاهية على المأمون لما قَدِم العراق، فأَمر له بمال، وجَعل يُحادثه، فقال له يومًا: ما في الناس أجهل من القَدرِيَّة، فقال له المأمون: أنت بصناعتك أَبصر، فلا تَتَخَطَّها إلى غيرها؟ قال له: يا أميرَ المؤمنين، اجمع بيني وبين من شئتَ منهم. فأَرْسَلَ إليِّ، فدخلتُ عليه، فقال لي: هذا يَزعم أنّك وأصحابَك لا حُجَّة عندكم. قلت: فلْيَسأَل عمّا بدا له. فحرَّك أبو العتاهية يدَه وقال: مَن حَرَّك هذه؟ قلتُ مَن ناك أُمّه؛ فقال: يا أميرَ المؤمنين، شتَمني؛ قلت له: نَقضت أصلَك يا ماصّ بَظْر أمّه؛ فَضَحك المأمونُ؛ فقلت له: يا جاهل، تحرك يدَك، ثم تقول: مَن حَرَّكها؟ " فإن كان اللهّ حَرَّكها " فلم أَشْتُمك، وإِن كنتَ أنت المُحَرّك لها، فهو قَوْلي؛ قال له المأمون: عندك زيادةٌ في المسألة.
قال الكندي في الفَنّ التاسع من التّوحيد: اعلم أن العالَم كله مَسوس بالقضاء والقَدَر - أعنى بالقضاء - ما قُسم لكل مَعْلول مما هو أَصلح وأَحْكم وأَتقن في بِنْية الكُل، لأنه - جل ثناؤه - خَلَق وأبدع مُضطرًّا ومُختارًا بتمام القُدْرة، فلما كان المختار غيرَ تامّ الحكمة، لأن تمام آلحِكمة لِمبدع الكل، كان لوِ أطلق واختيارَه لاختار كثيراً مما فيه فَسادُ الكل، فقَدّر - جلّ ثناؤه - بِنْيةً للكلّ تقديراَ محْكَمًا. فصيّر بعضه سوانحَ لبعض، يَختار بإرادته ومَشيئته غيرَ مقْهور مما هو أَصْلح وأحكم في بِنْية اكل، فتقدير هذه السَّوانح هو القَدَر، فبالقضاء والقَدَر ساسَ - جل ثناؤه - جميع ما أَبدع بهذه السِّياسة المُحكمة المُنظمة، التي لا يَدْخلها زَلَل ولا نَقْص، فاتْضَح أنّ كل مَعْلوِل فيما قسم له ربه من الأحْوال لا خارج عنها، وأنّ بعضَ ذلك باضطرار وبعضه باختيار، وأنّ المُختار عن سَوانح قَدَره " اختار " ، وبإرادته لا بالكَرْه " منه " فَعل.
سُئل أعرابيّ عن القَدَر فقال: ذاك عِلْم اختَصَمت فيه الظُّنون، وكثر فيه المُختلفون، والواجب علينا أن نَرد ما أتشكل من حُكْمه إلى ما سبق في عِلْمه.
واصطحب مَجوسي وقَدَري في سَفَر، فقال القدريّ للمجوسيّ: مالَك لا تُسلم؟ قال: إن أَذِن الله في ذلك كان؛ قال: إن الله قد أذن إلا أنَّ الشيطان لا يدَعك؛ قال: فأنا مع أَقْواهما.
وقال رجلٌ لهشام بن الحَكَم: أنت تَزعُم أن اللهّ في فضْله وكَرمه وعَدْله كَلَّفنا ما لا نُطِيقه، ثم يًعذِّبنا عليه؟ قال هشام: قد واللّه فَعل، ولكن لا نَسْتطيع أن نتكلَّم. اجتمع عمرو بن عُبيد مع الحارث بن مِسْكين بمنىَ، فقال له: إنّ مِثلى ومثلك لا يَجْتمعان في مثل هذا المَوْضع، فيَفترقان من غير فائدةَ، فإن شِئتَ فقُلْ، وإن شئتَ فأنا أقول؟ قال له: قل، قال: هل تَعلم أحداً أقبلَ للعُذر من الله عز وجل؟ قال: لا؛ قال: فهل تَعْلم عذراً أبينَ من عذر مَنْ قال لا أقدر، فيما تَعلم أنت أنه لا يَقدر عليه؟ قال: لا؛ قال: فلمَ لا يَقْبَلُ - مَن لا أَقبلِ للعُذر منه - عُذْرَ مَن لا أبينَ من عُذْره؟ فانقطع الحارث بن مِسْكين فلم يرُدّ شيئاَ.

رد المأمون على الملحدين
وأهل الأهواء
قال المأمون للثَّنوي الذي تكلّم عنده: أَسألك عن حَرْفين لا أَزيد عليهما، هل نَدِم مُسيء قط على إساءته؟ قال: بلى؟ قال: فالندَّم على الإساءة إساءةٌ أم إحسان؟ قال: بل إحسان؛ قال: فالذي نَدِم هو الذي أساء أم غَيْره؟ قال: بل هو الذي أساء، قال: فأرَى صاحبَ الخَيْر هو صاحبُ الشر؛ قال: فإني أقول: إن الذي نَدِم غير الذي أساء؟ قال: فنَدِم على شيء كان منه أم على شيء كان من غَيْره، فسكت. قال له أيضاً: أخبرني عن قولك باثنين، هل يَستطيع أحدُهما أن يَخلُق خلقاً لا يَستعين فيه بصاحبه؟ قال: نعم؛ قال: فما تَصنع باثنين؟ واحدٌ يَخلق كلَّ شيء خيرٌ لك وأصح.

وقال المأمون للمُرتد الخراسانيّ الذي أسلم على يَدَيه وحمله معه إلى العِراق فارتدَ عن الإسلام: أَخبرني ما الذي أَوْحَشك مما كنتَ به آنساً من دِيننا؟ فواللّه لأن أستحييك بحق، أحبّ إليَّ من أن أقتلُك بحق، وقد صِرْتَ مُسلماً بعد أن كنت كافراً، ثم عُدت كافراً بعد أن صِرْت مُسلماً، وإن وجدتَ عندنا دواءً لدائك تداويتَ به، وإن أخطأك الشفاء، وتَباعد عنك، كنتَ قد أبليتَ العُذْر في نَفْسك، ولم تُقَصرِّ في الاجتهاد لها، فإن قتلناك قَتَلْناك في الشَّريعة، وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليَقين، ولم تُفَرِّط في الدُّخول من باب الحزْم؛ قال المرتد: أوْحشني منكم ما رأيتُ من كثرة الاختلاف في دِينكم؛ قال المأمون: لنا اختلافان: أحدُهما كاختلافِنا في الآذان، وتكبير الجنائز، وصلاة العِيدين، والتشهّد، والتَّسليم من الصلاة، ووُجوه القراآت، واختلاف وُجوه الفُتيا، وما أشبه ذلك، وهذا ليس باختلاف، وإنما هو تخيير وتَوْسعة وتخفيف من السنَّة، فمن أذِّن مَثنى وأقام مَثْنى لم يَأثم، ومَن ربع لم يأثم. والاختلاف الآخر كنَحْو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله، وتأويل الحديث عن نبيّنا، مع اجتماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عَينْ الخبر، فإن كان إنما أوْحشك هذا، فينبغي أن يكون اللفظُ بجميع التوراة والإنجيل متفقاً على تأويله كما يكون متفقاً على تَنزيله، ولا يكون بين اليهود والنَّصارى اختلافٌ في شيء من التأويلات، ولو شاء الله أن يُنزِّل كًتبه مُفَسَرة، ويجعل كلامَ أنبيائه ورسله لا يُختلف في تأويله لفَعل، ولَكنَّا لم نجد شيئاً من أمور الدَين والدُنيا وقع إلينا على الكِفاية إلا معِ طُولِ البحث والتَحْصيل والنَّظر، ولو كان الأمر كذلك لسَقَطت البَلْوى والمِحن، وذهَب التفاضل والتبايُن، ولمَا عُرف الحازم من العاجز، ولا الجاهل مِن العالم، وليس على " هذا " بُنِيت الدنيا. قال المُرتد: أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأن المَسيح عبدُ اللّه، وأنَّ محمداً صادق، وأنك أمير المؤمنين " حقّا " .
وقال المأمون لعليّ بن موسى الرِّضا: بِمَ تَدَّعون هذَا الأمر؟ قال: بقرابة عليّ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وعلى آله وبقرابة فاطمة منه " ؟ فقال له المأمون: إنْ لم يكن ها هنا إلا القرابة، فقد خَلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أهل بَيته مَن كان أقربَ إليه من عليّ، أو مَن في مِثل قُعْدُده، وإن كان بقرابة فاطمة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين، وليس لعلي في هذا الأمر حق وهما حيان، فإذا كان الأمر كذلك، فإن عليًا قد ابتزَهما حقهما وهما صحيحان، واستولى على ما لا يَجب له. فما أجابه علي بن موسى بشيء.

كتب واصل بنُ عَطاء الغزّال إلى عمرو بن عُبيد: أما بعد، فإنّ استلاب نِعمة العبد وتَعْجيل المُعاقبة بيد اللّه، ومهما يكن ذلك فباستكمال الآثام، والمُجاوَرة للجِدال الذي يحُول بين المرء وقَلْبه، وقد عرفتَ ما كان يُطعن به عليك وُينسب إليك ونحن بين ظَهْراني الحسن بن أبي الحسن رحمه اللّه، لاسْتِبْشاع قُبْح مَذْهبك، نحن ومَن قد عرفتَه من جميع أصحابنا، وُلمَّة إخواننا، الحاملين الواعين عن الحسن، فللّه تلكم لمَّة وأوْعياء وحَفَظة، ما أدمثَ الطبائع، وأرزن المجالس، وأبينَ الزُّهد، وأصدقَ الألسنة، اقتدَوْا والله بمن مَضى شَبهًا بهم، وأخذوا بهَدْيهم. عَهدي واللهّ بالحسن وعَهدكم به أمس في مَسْجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرقيّ الأجنحة، وآخر حديث حدَّثنا إذ ذَكر الموت وهول المُطَّلع، فأسف على نفسه واعترف بذنبه، ثم التفت واللّه يَمنة ويسرة مُعتبرًا باكيًا، فكأني أنظر إليه يمسَح مُرْفَض العَرق عن جبينه، ثم قال: اللهم إني قد شَددْت وَضِين راحلتي، وأخذت في أَهبة سَفَري إلى محلّ القبر وفَرْش العَفْر، فلا تؤاخذني بما ينسبون إليَّ من بعدي، اللهم إني قد بلَّغْت ما بَلغني عن رسولك، وفسَّرت من مُحْكم تأويلك ما قد صَدًقه حديثُ نبيّك، ألا وإني خائفٌ عَمْرا، ألا وإني خائف عَمْرا، شكاية لك إلى ربِّه جَهراً، وأنت عن يمين أبي حُذيفة أقر بنا إليه؛ وفد يلغني كبير ما حمّلته نفسَك، وقَلّدته عنقك، من تَفسير التنزيل، وعبارة التأويل، ثم نظرتُ في كتبك، وما أدّته إلينا روايتك من تنقيص المعاني، وتفريق المَباني، فدلَت شكاية الحسن عليك بالتَّحقيق بظهور ما ابتَدَعت، وعظيم ما تحمَّلت، فلا يَغْرْرك " أي أخي " تَدْبيرُ مَن حولك، وتعظيمهم طولَك، وخَفضهم أعينهم عنك إجلالاً لك، غداً واللّه تمضي الخُيلاء والتفاخر، وتُجْزى كلّ نَفْس بما تَسعى، ولم يكُن كتابي إليك، وتَجليبي عليك، إلا لتَذْكيرك بحديث الحسن رحمه اللهّ، وهو آخر حَديث حدّثناه، فأَدِّ المَسموع، وانطق بالمفرُوض، ودَعْ تأويلك الأحاديث على غير وَجْهها، وكن من اللهّ وَجِلا " فكأن قد " .

باب من أخبار الخوارج
لما خرجت الخوارجُ عَلَى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا من أصحابه، وكان مِن أمر الحَكمين ما كان، واختِداع عمرو لأبي مُوسى " الأشعريّ " ؛ قالوا: لا حُكْم إلا للهّ. فلما سمع عليٌ رضي اللهّ عنه نِداءهم، قال: كلمة حق يراد بها باطل، وإنما مَذْهبهم أن لا يكون أمير، ولا بُدَ من أمير بَرًّا كان أو فاجرًا. وقالوا لعليّ: شككتَ في أمرك، وحكَّمت عدوّك في نَفْسك. وخرجوا إلى حَرُوراء، وخرج إليهم عليٌّ رضي الله عنه، فخَطَبهم متوكِّئاً على قوْسه، وقال: هذا مَقام مَن أفلح فيه أَفلح يومَ القيامة، أنْشُدكم اللهّ، هل عَلِمتم أنّ أحداً كان أكرَه للحكومة منِّي؟ قالوا: اللهم لا؛ " قال: أفعلتم أنكم أكرهتموني عليها حتِى قبِلْتُها؟ قالوا: اللهم نعم " ، قال: فعلامَ خالفتُموني ونابذتموني؟ قالوا: إنَّا أتينا ذنباَ عظيما فتُبْنا إلى اللهّ منه، فتُب إلى اللهّ منه، واْستغفره نُعدْ إليك. فقال عليٌ: إني أستغفر الله من كلّ ذنب، فرَجَعوا معه وهم في ستّة آلاف. فلما استقرُّوا بالكوفة أشاعُوا أن عليَاً رَجع عن التحكيم، وتاب منه، ورآه ضلالاً. فأتى الأشعثُ بن قيس عليَاً رضي اللهّ عنه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الناس قد تحدثوا أنك رأيتَ الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كُفْراً وتُبْت. فخطب عليٌ الناس فقال: مَن زَعم أني رجعتُ عن الحكومة فقد كذَب، ومَن رآها ضلالاً فهو أضلّ منها. فخرجت الخوارج من المسجد فحكّمت، فقيل لعليّ: إنهم خارجون " عليك " ؛ فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيَفعلون.

فوَجّه إليهمٍ عبدَ الله بن العبّاس، فلما سار إليهم رحَّبوا به وأكرموه، فرأى لهم جباهًا قَرِحة لطول السجود، وأيديًا كثَفِنات الإبل، وعليهم قمُص مُرْحَضة وهم مُشمِّرُون، فقالوا: ما جاء بك يا بن عبّاس؟ قال: جِئتكم من عند صِهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، وأَعْلمنا برّبه وسنة نبيّه، ومن عند المهاجرين والأنصار؟ فقالوا: إنا أتينا عظيماَ حين حَكّمنا الرجالَ في دين اللّه، فإن تاب كما تُبْنا ونهض لمًجَاهدة عدوّنا رَجعنا. فقال ابن عبّاس: نَشدتكم الله إلا ما صَدَقتم أنفسَكم، أمَا عَلمتم أنَّ الله أمر بتَحْكيم الرِّجال في أَرْنب تُساوي رُبع درْهم تًصَاد في الحَرَم، وفي شِقاق رجل وامرأته؟ فقالوا: اللهم نعم؛ قال: فأنشُدكم اللّه، هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْسك عن القِتال للهُدنة بينه وبين أهل الحُدَيبية؟ قالوا: نعم، ولكن عليًّا مَحا نفسَه من خِلافة المسلمين قال ابن عبّاس: ليس ذلك يُزِيلها عنه، وقد مَحا رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمه " من النبوَّة، وقال سُهَيل بن عمرو: لو عَلمتُ أنك رسول الله ما حاربتُك، فقال للكاتب: اكتُب: محمد بن عبد الله. وقد أخذ على الحَكَمين أن لا يَجُورا، " وإِن يَجُورا " ، فعليٌّ أوْلى من مُعاوية وغيره، قالوا: إنّ مُعاويةَ يدَّعي مثلَ دعوى عليّ؛ قال فأيُّهما رأيتُموه أوْلى فولُوه، قالوا: صدقتَ. قال ابن عباس: ومتى جار الحَكَمان فلا طاعة لهما ولا قَبُول لقولهما. فاتَّبعه منهم ألفان وبَقي أربعة آلاف.
فصلّى بهم صلاتَهُم ابن الكَوّاء، وقال: متى كانت حرب فرئيسُكم شَبَث بن رِبْعِيّ الرِّياحي. فلم يَزالوا على ذلك حتى أجْمعوا على البَيعة لعَبد الله بن وَهْب الرَّاسبيّ، فخرج بهم إلى النَّهروان، فأوْقع بهم عليّ، فقَتل منهم ألفين وثمانمائة، وكان عددُهم ستةَ آلاف، وكان منهم بالكوفة زُهاء ألفين ممن يُسِرّ أمره، فخرج منهم رجلٌ بعد أن قال عليٌّ رضي اللهّ عنه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتلَ عبد الله بن خَبّاب؟ قالوا: كلّنا قَتله وشرك في دَمه، وذلك أنهمٍ لما خرجوا إلى النَّهْروان لقُوا مُسْلمًا ونَصرانيا، فقتلوا المُسْلم وأوْصَو! بالنصرانيّ خَيرا، وقالوا: احفظًوا ذمّة نبيّكم. ولقُوا عبدَ الله بن خبّاب، وفي عُنقه المُصحف ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا: إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقَتلك؛ فقال لهم: أحْيوا ما أحْيا القُرآن، وأميتوا ما أمات القرآن، قالوا: حَدِّثنا عن أبيك؛ قال: حدَّثني أبي قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة يموت فيها قلبُ الرجل كما يموت بدنه، يمسى مؤمناً ويُصبح كافرًا، فكُن عبدَ اللهّ المقتول ولا تكن عبدَ اللهّ القاتلَ؛ قالوا: فما تَقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيراً؟ " قالوا: فما تقول في عليّ قبل التحكيم وفي عثمان؟ فأثنى خيراً " ؟ قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم؟ قال: أقول: إنَّ عليًّا أعلمُ بكتاب اللهّ منكم، وأشد تَوقِّيا على دينه وأبعد بصيرةً؛ قالوا: إنك لستَ تتَّيع الهدى بل الرجالَ على أسمائها، ثم قَرَّبوه إلى شاطئ البَحر فذَبحوه، فا مذَقَرَّ دمُه، أي جَرى مستقيماً على دقة وسامُوا رجلاً نَصْرانيا بنَخْلة، فقال: هي لكم هِبَة، قالوا: ما كُنَّا نأخذها إلا بثَمن؟ فقال: ما أَعجبَ هذا! أتقتلون مثلَ عبد الله بن خبّاب، ولا تَقبلون منا " جنَى " نخْلة إلا بثَمن! ثم افترقت الخوارج على أربعة أضرب: الإباضية، أصحاب عبد اللهّ بن إباض؟ والصُّفرية، واختلفوا في نَسبهم، فقال قوم: سُمُّوا بابن الصفار، وقال قوم: نهكتهم العبادة فاصفرّت وجوهُهم، ومنهم البَيْهسية، وهم أصحاب ابن بَيْهس؟ ومنهم الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكانوا قبلُ على رَأْيٍ واحد لا يختلفون إلا في الشيء الشاذّ.

فبلغهم خروج مُسلم بن عُقبة إلى المدينة، وقَتْلُهُ أَهلَ حَرَّة، وأنه مُقبل إلى مكة، فقالوا: يجب علينا أن نمنعَ حَرَم الله منهم، ونمْتَحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا تابعناه. فلما صاروا إلى ابن الزبير عرَّفوه أنفسهم، وما قَدِموا له، فأظهر لهم أنه على رأْيهم، حتى أتاهم مُسلم بن عُقبة وأهل الشام، فدافعوه إلى أن يأتي رأْيُ يزيدَ بنِ مُعاوية، ولم يُتابعوا ابن الزُّبير، ثم تناظَروا فيما بينهم، فقالوا: نَدخل إلى هذا الرجل فنْظر ما عنده، فإن قَدّم أبا بكر وعمر وبَرِىء من عُثمان وعليّ، وكَفر أباه وطَلْحة بايعناه، وإن تكُن الأخرى ظَهر لنا ما عنده، وتَشاغلنا بما يجديِ علينا. فدخلوا على ابن الزًّبير وهو مُتَبذل وأصحابه مُتفرقون عنه، فقالوا له: إنَا جِئناك لتُخْبرنا رأْيَكَ، فإن كنتَ على صواب بايعناك، وإن كنتَ على خلافة دَعَوْناك إلى الحق، ما تقولُ في الشَّيخين؟ قال: خيرًا؛ قالوا: فما تقول في عُثمان الذي حَمَى الحِمَى، وآوى الطَّريد، وأظهر لأهل مِصرْ شيئاً وكَتب بخلافه، وأوطأ آلَ بني مُعيط رِقابَ الناس، وآثرهم بَفيْء المُسلمين؛ وفي الذي بعده الذي حكّم " في دين اللّه " الرجالَ، وأقام على ذلك عيرَ تائب ولا نادم؛ وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا عليًّا، وهو إمام عادل مَرْضي لم يَظْهر منه كُفر، ثم نكَثَا بَيْعته، وأخرجا عائشة تُقاتل، وقد أمرها الله وصَواحبَها أن يَقرنْ في بُيوتهن، وكان لك في ذلك ما يَدْعوك إلى التَّوْبة، فإن أنتَ قبِلت كلّ ما نقول " لك " فلك الزُّلفي عند اللهّ، والنصر على أيدينا، إن شاء الله، ونَسألُ الله لك التوفيقَ وإن أبَيتَ خَذلك الله والنصر منك بأيدينا.
فقال ابن الزبير: إنّ الله أمر، وله العِزّة والقُدرة في مخاطبة أكْفر الكافرين، وأَعتَى العانين، بأَرقَّ من هذا القول، فقال لموسى وأخيه صلى الله عليهما: " اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إنِّهُ طَغَى، فقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعًلّهُ يَتذكَّر أَوْ يَخْشىَ " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تُؤذوا الأحياء بسَبّ المَوْتىَ " . فنهى عن سبّ أبي جَهل من أجل عِكْرمة ابنه، وأبو جهل عدوّ الله وعدوّ رسوله والمُقيم على الشِّرك، والجادّ في محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبل الهجرة، والمُحارب له بعدَها، وكفي بالشِّرك ذَنْبًا، وقد كان يُغْنيكم عن هذا القول الذي سمَّيتم فيه طلحة وأَبي أن تقُولُوا: أتَبرأ من الظالمين؟ فإن كانا منهم دخَلا في غُمَار الناس، وإن لم يكونا منهم لم تُحْفِظوني بسبّ أبي وصاحبه، وأنتم تَعلمون أنّ اللهّ جلّ وعزّ قال للمُؤْمن في أبويه: " وَإنْ جاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصاحِبْهُمَا في الدًّنْيَا مَعْرًوفاً " . وقال: " وَقُولُوا للَنَّاس حُسْنًا " . وهذا الذي دعوتُم إليه أمرٌ له ما بعده، وليس يُقْنعكم إلا التَّوقيف والتَّصْريح، ولَعَمْري إنّ ذلك أحرَى بِقَطْع الْحجج، وأَوْضَح لمنهاج الحقّ، وأوْلَى بأن يَعرف كلٌّ صاحبَه من عدوِّه، فَرُوحوا إليَّ من عَشِيَّتكم هذه أكْشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله تعالى.

فلمَّا كان العشي راحُوا إليه، فخَرج إليهم وقد لبِس سلاحه، فلما رأى ذلك نَجْدةُ، قال: هذا خُروج منا بذلكم، فجلس على رَفَع من الأرض، فحمد اللّه، وأثنى عليه، وصلىّ على نبيّه، ثم ذكراً أبا بكر وعُمر أحسنَ ذِكْر، ثم ذكر عُثمان في السِّنين الأوائل من خِلافته، ثم وصلهنّ بالسّنين التي أنكروا سِيرتَه فيها فجعلها كالماضية؛ وأخبر أنه آوى الحَكَم بن أبي العاصي بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذَكر الحِمَى ومما كان فيه من الصَّلاح، وأن القومَ آستعتبوه " من أمور " ما كان له أن يَفعلها؟ أوّلاً مصيِبِا، ثم أعتبهم بعد ذلك مُحسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمِن لهم العُتْبى، ثم كُتب ذلك الكتابُ بقَتْلهم، فدَفعوا الكتابَ إليه، فَحَلف باللّه أنه لم يكتبه ولم يأْمر به، وقد أَمر الله عزّ وجلّ بقبول اليمين ممَّن ليس له مثل سابقته، مع ما اجتَمع له من صِهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه " من " الإمامة، وأنّ بَيعة الرِّضوان تحت الشجرة إنما كانت بِسبَبه، وعثمان الرجل الذي لَزِمَتْه يمينٌ لو حَلَف عليها لَحَلَف على حقّ، فافتَدَاها بمائة ألف ولم يَحْلِف؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع: " مَن حَلَف باللّه فلْيَصدُق ومن حُلِف له باللّه فليقْبل " . وعُثمان أمير المؤمنين " كصاحبيه " وأنا وليّ وليّه، وعدوّ عدوّه، وأبي وصاحبه صاحبَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، " ورسول الله " يقول " عن اللّه " عزّ وجلّ يومَ أُحد لما قُطعت إصْبع طَلْحَة: " سَبَقته إلى الجنة " . وقال: " أوْجب طلحة " . وكان الصِّديق إذا ذُكر يومَ أُحد قال: ذلك يوم كلّه " أو جُلّه " لطلحة. والزُّبير حواريَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَفْوته، وقد ذكر أنه في الجنّة، وقال عزّ وجلّ: " لَقَدْ رَضيَ الله عَنِ المؤمنينَ إذْ يُبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة " . وما أخبرَنا بعدُ أنه سَخِط عليهم؟ وإن يكن ما صَنعوا حقًّا فأهل ذلك هم، وإن يكن زلّة ففي عَفو الله تَمحِيصُها، وفيما وَفَّقهم له من السابقة مع نبيّهم صلى الله عليه وسلم ومهما ذَكَرتموهما به، فقد بَدَأْتم بأًمِّكم عائشة، فإن أبَى آبٍ أن تكون له أمًّا، نَبَذ اسم الإيمان عنه، وقد قال جلّ ذِكْره: " النَّبِيُّ أَوْلَى باْلمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ " . فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه.
وكتب بعد ذلك نافعُ بن الأزرق إلى عبد الله بن الزُّبير يَدْعوه إلى أمره: أمّا بعد، فإني أحذِّرك من الله يومَ تَجد كلُّ نفس ما عَمِلَت من خَيْر مُحْضَرًا، وما عَمِلَت من سُوء توَدّ لو أنّ بينها وبَينه أَمدًا بعيداً، " ويُحَذِّركم الله نفسه " . فاتّق الله ربَّك ولا تَتَوَلّ الظالمين فإنّ الله يقول: " وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ " . وقال: لا يَتَّخِذ المُؤْمِنون الكافِرِينَ أوْليَاءَ مِنْ دونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْس مِنَ الله في شيَء " . وقد حضرتُ عثمانَ يومَ قُتِل، فَلَعمري لئن كان قُتل مظلومًا لقد كفر قاتلوه وخاذِلُوه، وإن كان قاتلوه مُهْتدين، وإنهم لمُهْتدون، لقد كفَر مَن تولاّه ونصرَه. ولقد علمتَ أنّ أباك وطَلْحة وعليّاً كانوا أشدَّ الناس عليه، وكانوا في أمره بين قاتل وخاذِل، وأنت تتولى أباك وطلحة وعثمان، فكيف ولاية قاتل مُتَعَمِّد ومَقتول في دين واحد، ولقد ملك علىّ بعده فَنَفي الشُّبهات، وأقام الحُدود، وأَجْرى الأحكام مجاريها، وأَعطى الأمور حقّها فيما عليه وله، فبايَعه أبوك وطَلْحة، ثم خَلعا بَيْعته ظالمين له، وإن القَول فيك وفيهما لكما قال ابنُ عباس رحمه الله: إن يكُن علِيّ في وقت مَعْصِيتكم ومُحاربتكم له كان مؤمنَاَ لقد كفَرتم بقتال المؤمنين وائمة العَدْل، وإن كان كافراً كما زَعمتم، وفي الحُكم جائراً، فقد بُؤْتم بغضب من الله لفراركم من الزَّحف. ولقد كنتَ له عدوًّا، ولسيرته عائباً، فكيف توليته بعد مَوته.

وكتب نجدةُ وكان من الصُّفرية القَعَديّة إلى نافع بن الأزرق، لما بلغه عنه استعراضُه للناس، وقَتْله الأطفال، واستحلاله الأمانة: بسم اللهّ الرحمن الرحيم صلى الله عليه وسلم، أمّا بعد، فإنّ عَهْدي بك وأنت لليتيم كالأب الرَّحيم، وللضعيف كالأخ البَرّ، لا تأخذك في الله لومةُ لائم، ولا ترى معونة ظالم، " كذلك كنتَ أنت وأصحابك، أما تذكر قولَكَ: لولا أني أعلمِ أنّ للإمام العاذل مِثلَ أجر جميع رعيّته ما تولّيت أمر رجلين من المسلمين " فلما شَرَيْتَ نفسك في طاعة ربّك ابتغاءَ رضوانه، وأصبتَ من الحق فصَّه، " وركبتَ مُرَّة " تَجَرّد لك الشيطانُ، فلم يكن أحدٌ أثقلَ وطأةً عليه منك ومن أصحابك، فاستمالك واستغواك، فعَوِيتَ وأكفرت الذين عَذرهم الله في كتابه من قَعَدة المسلمين وَضعفتهمِ، فقال جلَّ ثناؤه، وقوله الحق، ووعدُه الصِّدق: " لَيْسَ عَلَى الضعفاءِ وَلاَ على المَرْضى وَلا عَلَى الذينَ لا يَجدُونَ مَا يُنْفِقونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للّه وَرَسُوله " ثم سمَّاهم أحسنَ الأسماء فقال: " مَا عَلَى المحسِنِينَ مِنْ سَبِيل " . ثم استحللت قتلَ الأطفال، وقد نَهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلهم، وقال جلَّ ثناؤه: " وَلاَ تَزِرً وَازِرَةٌ وِزْرَ أًخْرَى " . وقال في القَعَد خيراً، وفَضّل الله من جاهد عليهم، ولا يدفع منزلةُ أكثر الناس عملاً منزلةَ مَن هو دُونه، إلا إذا اشتركا في أصلٍ، أو ما سمعتَ قوله تبارك وتعالى: " لا يَسْتَوِى القَاعِدُون مِن المؤمِنين غيرُ أولَي الضّرَرِ والمُجَاهِدُونَ في سَبِيل الله " فجعلهم الله من المؤمنين، وفَضّل عليهم المَجاهدين بأعمالهم، ورأيتَ من رأيك أن لا تؤَدِّي الأمانة إلى مَن يُخالفك، واللّه يأمرك أن تؤدي الأماناتِ إلى أهلها، فإتق الله وانظُرْ لنفسك، واتَّقَ يومًا لا يجزى والدٌ عن ولده ولا مَوْلود هو جازٍ عن والده شيئاً، فإن الله بالمِرْصاد، وحُكمه العدل، وقوله الفصل، والسلام.
فكتب إليه نافعُ بن الأزرق: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فقد أتاني كتابُك تَعِظُني فيه وتُذكِّرني، وتَنصحُ لي وتزجرُني، وتصِفُ ما كنتُ عليه من الحق، وما كنتُ أُوثرهُ من الصواب، وأنا أسألُ الله أن يجعلني من الذين يَسْتمعون القولَ فيتبعون أحسنه. وعِبْتَ على ما دِنْتُ به من إكفار القَعد، وقَتل الأطْفال، واستحلال الأمانة؛ وسأفسِّر لك " لِمَ " ذلك إن شاء اللّه: أما هؤلاء القَعد فليسوا كمن ذكرتَ ممن كان بِعَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا بمكة مَقْهورين مَحْصورين لا يجدون إلى الهرب سَبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمُسلمين طريقاً؛ وهؤلاء قد فَقُهوا في الدين، وقرءوا القرآن؛ والطريقُ لهم نَهَج واضح؛ وقد عرفتَ ما يقول الله فيمن كان مِثْلهم إذ قال: " إنَّ الّذَينَ تَوَفَّاهُمُ الملائِكةُ ظالمي أنْفُسِهِم قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ. قَالوا كنا مُسْتَضْعَفينَ فيِ الأرْض. قالوا أَلم تَكُنْ أرضُ الله وَاسعةَ فتُهاجرُوا فيها " . وقال: فَرحَ المُخَلَّفُون بمقعدهم خِلاف رسول الله وقال: " وَجَاء الْمُعَذِّرًونَ مِنَ الأعرابِ لِيُؤْذَن لَهُمْ. وَقَعَد الّذِين كَذَبُوا الله وَرَسُولَه " " فخبَّر بتَعْذِيرهم وأنهم كذبوا الله ورسولَه " . وقال: " سَيُصِيبُ الذينَ كَفَروا منهُمْ عَذابٌ أَليم " فانظر إلى أسمائهم وسِمَاتهم.
وأما أمر الأطفال فإنّ نبيّ الله نُوحًا كان أَعرفَ باللهّ يا نَجْدةُ منّي ومنك قال: " رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْض منَ الكافِرينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّارًا " ، فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يُولَدُوا، فكيف جاز ذلك في قوم نُوح ولا يجوز في قومنا؟ واللّه يقول: " أَكُفَّارُكم خَيْرٌ مِنْ أولَئِكُم أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ في الزُّبُر " . وهؤلاء كمشركي العرب لا تُقْبل منهم جِزْية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.

وأما استحلال الأمانات ممَّن خالفنا، فإن الله عز وجلَّ أحلَّ لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءَهم، فدماؤهم حَلال طِلْق، وأموالهُم فَيْء للمُسْلمين، فاتَّق اللهّ وراجِع نفسك، فإنه لا عُذْر لك إلا بالتوبة، ولا يَسَعك خِذْلانُنا، والقُعود دوننا، " وتَرْك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا " ، والسلام على مَن أَقرَّ بالحق وعمل به.
وكان مِرْداس أبو بلال من الخوارج وكان مُستتراَ، فلما رأى جِدَّ ابن زياد في قَتْل الخوارج وحَبْسهم، قال لأصحابه: إنه واللهّ لا يَسعنا المُقام بين هؤلاء الظالمين تَجْري علينا أحكامُهم! مُجانبين للعدل؛ مفارقين للعقل، والله إنّ الصبرَ على هذا لَعَظيم، وإنّ تَجريد السيف وإخافةَ السبيل لعظيم، ولكنّا لا نَبْتدئهم ولا نُجرِّد سيفاً ولا نُقاتل إلا مَن قاتلنا. فاجتمعِ عليه أصحابُه، وهم ثلاثون رجلاً، فأرادوا أن يُولّوا أمرَهم حُرَيث بن حَجْل، فأبى، فولّوا أمرَهم مِرداساً أبا بلال. فلما مضى بأصحابه لَقِيه عبدُ الله بن رَبَاح الأنْصاري، وكان له صديقاَ، فقال له: يا أخي، أين تُريد؟ قال: أريد أن أهْرُب بديني ودين أصحابي هؤلاء من أَحكام هؤلاء الجَوَرة والظَّلمَة؛ فقال له: أَعَلِم بكم أحد؟ قال: لا؟ قال: فارجع؛ قال أَوَ تخاف عليّ مكروهاً؟ قال: نعم، " وأن يُؤْتى بك " ؛ قال: فلا تَخَف، فإنّي لا أجرِّد سيفاً، ولا أخيف أحَداً، ولا أقاتل إلا مَن قاتلني. ثم مَضى حتى نزل آسَك، وهوِ مَوْضع دون خُراسان، فمرّ به مالٌ يُحمل إلى ابن زِيَاد، وقد بلغ أصحابُه أربعين رجلاَ، فحطَّ ذلك المالَ، وأخذ منه عطاءَه وأعْطيات أصحابه، وردّ الباقي على الرُّسل، فقال: قُولوا لصاحبكم إنّا قبضنا أعطياتِنا؛ فقال بعضُ أصحابه: فعلامَ نَدع الباقي؟ فقال: إنّهم يَقْسمون هذا الفَيْء، كما يُقيمون الصلاة، فلا نقاتلهم.
ولأبي بلال مِرْداس هذا أشعارٌ في الخُروجِ، منها قولُه:
أبعدَ ابن وَهْب ذي النزاهة والتُّقىِ ... ومن خاضَ في تلك الحُروب المَهالِكَا
أحِبّ بقاءً أو أُرَجِّي سَلامةً ... وقد قَتلوا زيدَ بن حِصْنٍ ومالكا
فيا رَبِّ سَلِّمْ نِيّتي وبَصيرتي ... وهَبْ لي التّقَى حتى ألاقِي أولئكا
وقالوا: إنََّ رجلا من أصحاب زياد، قال: خرجنا في جَيْش نُريد خُراسان، فمرَرْنا بآسَك، فإذا نحن بمرْداس وأصحابه، وهم أربعون رجلاً، فقال: أقاصدُون لقتالنا أنتم؟ قُلْنا: لا، إنما نريد خُراسان؛ قال: فأبْلِغوا مَن لَقِيتم أنَّا لم نَخْرج لنُفْسد في الأرض ولا لنُروِّع أحداً، ولكن هَرَبنا من الظُّلم، ولَسْنا نُقاتل إلا مَن قاتَلنا، ولا نأخذ من الفَيْء إلا أعطياتنا، ثم قال: أَنُدِب لنا أحد؟ فقُلْنا: نعم، أسْلَم بن زُرْعة الكلابيّ، قال: فمتى تَرَوْنه يَصلُ إلينا؟ قُلنا له: يومَ كذا وكذا؛ فقال أبو بلال: حَسْبنا الله ونعم الوكيل.
ونَدَب عُبيد الله بن زياد أسلم بن زُرعة الكِلاَبيّ ووجّهه إليهم فيِ ألفين، فلما صار إليهم صاح به أبو بلال: اتق الله يا أسلم، فإنا لا نُريد قتالا ولا نحْتجز مالا، فما الذي تُريد؟ قال: أريد أن أردَّكم إلى ابن زياد؟ قال: إذاً يقتلنا؛ قال: وإنْ قَتلكم؛ قال: أفَتَشْركه في دمائنا؟ قال: نعم، إنه مُحق وأنتم مُبْطلون؛ قال أبو بلال: وكيف هو مُحق وهو فاجر يُطيع الظَّلمة. ثم حَملوا عليه حملةَ رجل واحد، فانهزم هو وأصحابه. فلما وَرد على ابن زياد غَضَب عليه غَضباً شديداً، وقال: انهزمت وأنت في ألفين عن أَربعين رجلا! قال له أسلم: واللّه لأن تَذُمَّني حيّا أحبًّ إليَّ من أن تَحمَدني مَيِّتاً. وكان إذا خرج إلى السوق ومرَّ بالصبيان صاحُوا به: أبو بلال وراءك؟ حتى شكا إلى ابن زياد، فأمر الشّرط أن يكفّوا الناسَ عنه.

رد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على شوذب الخارجي

الهيثم بن عَدِيّ قال: أخبرنى عَوانة بن الحَكم عنِ محمد بن الزُّبير قال: بَعثني عمر بن عبد العزيز مع عَوْن بن عبد الله بن مَسْعود إلى شوْذَب الخارجيّ وأصحابه إذ خرجوا بالجزيرة، وكتب معنا كتاباً، فقَدِمنا عليهمِ ودَفعنا كتابَه إليهم، فبَعثوا معنا رجلاً من بني شَيْبان ورجلاً فيه حَبشيّة يقال له شوْذَب. فقدما معنا على عمرَ وهو بخِنَاصرة، فصَعِدْنا إليه، وكان في غُرْفة ومعه ابنه عبدُ الملك وحاجبُه مُزاحم، فأخبرناه بمكان الخارجيين؟ فقال عمر: فتِّشوهما لا يَكُن معهما حديد وأدخلوهما، فلما دخلا قالا: السلامُ عليكم، ثم جلسا؛ فقال لهما عمر: أخْبراني ما الذي أخْرجكم عن حُكْمي هذا وما نَقِمْتم علي؟ فتكلَّم الأسود منهما، فقال: إنَّا واللّه ما نَقِمْنا عليك في سِيرتك، وتَحَرِّيك العَدْل والإحسان إلى مَن وَليت، ولكنَّ بيننا وبينك أمراً إن أعطيتَناه فنحن منك وأنت منَّا، وإن مَنَعْتناه فلستَ منا ولسنا منك؟ قال عمر: ما هوِ؟ قالا: رأيناك خالفتَ أهلَ بيتك وسَمَّيتها مظالم وسلكت غيرَ طريقهم، فإن زعمتَ أنك على هُدى وهم على ضلال فالْعَنهم وابرأ منهم؛ فهذا الذي يَجمع بيننا وبينك أو يُفرِّق. فتكلم عمر، فَحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني قد علمتُ أو ظننتُ أنكم لم تَخْرجوا مخرجكم هذا لطلب الدنيا ومَتاعها، ولكنَّكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلَها، وإني سائُلكما عن أمر، فباللّه اصْدقاني فيه مَبلغ عِلْمكما؛ قالا: نعم؟ قال: أخبراني عن أبي بكر وعُمر، أليسا من أسلافكما، ومَن تتولَّيان وتَشْهدان لهما بالنجاة؟ قالا: اللهم نعم؛ قال: فهل عَلِمْتما أنّ أبا بكر حين قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم له فارتدّت العرب قاتلَهم فَسَفك الدِّماء وأخذ الأموال وسَبَى الذراري؟ قالا: نعم؛ قال: فهل عَلمتم أنّ عمر قام بعد أبي بكر فردّ تلك السَّبايا إلى عشائرها؟ قالا: نعم؟ قال: فهل بَرِىء عمر من أبي بكر أو تَبْرءون أنتم من أحد منهما؟ قالا: لا، قال: فأخبراني عن أهل النَّهروان، أَليْسوا من صالحي أسلافكم وممَّن تَشْهدون لهم بالنجاة؟ قالا: نعم؛ قال: فهلِ تَعلمون أنّ أهل الكوفة حين خرجوا كَفوا أيديَهم، فلم يَسْفكوا دماً، ولم يُخيفوا آمناَ، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: نعم؛ قال: فهل علمتم أن أهل البَصْرة حين خَرجوا مع مِسْعَر بن فُدَيك استعرضوا الناس، يَقْتلونهم، ولَفوا عبد الله بن خبّاب بن الأرَتّ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلوه وقتلوا جاريتَه، ثم قتلوا النّساء والأطفال، حتى جعلوا يُلْقونهم في قُدُور الأقْط وهي تفور؟ قالا: قد كان ذلك؛ قال: فهل بَرِىء أهلُ الكوفة من أهل البصرة؟ قالا: لا، قال: فهل تَبرءُون أنتم من إحدى الفِئتين؟ قالا: لا؛ قال: أَفرأَيتم الدِّين، إليس هو واحد، أَم الدِّين اثنان؟ قالا: بل واحدة قال: فهل يَسعكم منه شيء يُعْجِزني؟ قالا: لا؟ قال؛ فكيف وَسِعكم أن تولَّيتم أبا بكر وعُمرِ وتولَّى كلُّ واحد منهما صاحبَه، وتولَّيتم أهلَ الكوفة والبَصرة وتولَّى بعضُهم بعضاَ، وقد اختلفوا في أعْظم الأشياء: الدِّماء والفُروج والأموال؛ ولا يَسَعني إلا لَعْن أهل بَيْتي والتبرُؤ منهم؟ أو رأيتَ لَعْنَ أهل الذُّنوب فَريضةً لا بدّ منها؟ فإنْ كان ذلك فمتى عَهْدك بلَعْن فِرْعون، وقد قال: أَنَا ربًّكم الأعلى؟ قال: ما أذكُر أني لعنتُه؛ قال: ويحك! أيسَعك أن لا تَلْعن فِرْعون وهو أخبث الخَلْق، ولا يَسَعُني إلا أن ألعن أهلَ بَيْتي والبراءةُ منهم؟ ويحكم! إنكم قَوْم جُهَّال أردتم أمراً فأخطأتموه، فأنتم تَردّون على الناس ما قَبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بَعثه اللهّ إليهم وهم عَبَدَة أوثان، فدعاهم إلا أن يخلعوا الأوثان، وأن يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه، فمن قال ذلك حَقَن بذلك دَمَه، وأحْرز مالَه، ووَجبت حُرمَتُه، وأَمِن به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إِسوة المُسلمين، وكان حسابُه على اللّه، أفلستم تَلقَون مَن خَلع الأوْثان، ورَفَض الأديان، وشَهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله تَسْتحلون دَمَه ومالَه، وُيلْعن عندكم، ومَن تَرَك ذلك وأباه من اليهود والنَّصارى وأهلِ الأديان فَتُحَرِّمون دَمَه ومالَه " ويأمن عندكم " ؛ فقال الأسود: ما سمعتُ كاليوم أحداَ أبين

حُجّة، ولا أقرب مَأْخذاً، أمّا أنا فأشهد أنك على الحق وأني بَرِيءٌ ممن بَرِىء منك. فقال عمر لصاحبه: يا أخا بني شَيْبان، ما تقول أنت؟ قال: ما أَحسَنَ ما قُلْتَ ووصفتَ، غير أني لا أفتات على الناس بأمْر حتى أَلقاهم بما ذكرتَ وأنظر ما حُجّتهم؛ قال: أنت وذاك. فأقام الحَبشيّ مع عمر، وأمر له بالعَطاء فلم يَلْبث أن مات، ولَحِق الشَّيباني بأصحابه، فقُتل معهم بعد وفاة عُمر " رضي الله عنه " .حُجّة، ولا أقرب مَأْخذاً، أمّا أنا فأشهد أنك على الحق وأني بَرِيءٌ ممن بَرِىء منك. فقال عمر لصاحبه: يا أخا بني شَيْبان، ما تقول أنت؟ قال: ما أَحسَنَ ما قُلْتَ ووصفتَ، غير أني لا أفتات على الناس بأمْر حتى أَلقاهم بما ذكرتَ وأنظر ما حُجّتهم؛ قال: أنت وذاك. فأقام الحَبشيّ مع عمر، وأمر له بالعَطاء فلم يَلْبث أن مات، ولَحِق الشَّيباني بأصحابه، فقُتل معهم بعد وفاة عُمر " رضي الله عنه " .

القول في أصاب الأهواء
وذُكر رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، فَذَكروا فضلَه وشِدَة اجتهاده في العِبادة. فبينما هم في ذِكْره حتى طَلَع عليهم الرجلُ، فقالوا: يا رسولَ اللّه، هو هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني أرى بين عَيْنيه سَفْعة من الشَّيطان، فأقبل الرجلُ حتى وقف فسلّم عليهم، فقال: هل حَدَّثتك نفسُك إذ طلعتَ علينا أنه ليس في القوم أحسن منك؟ قال نعم، ثم ذهب إلى المسجد فصفّ بين قَدَميه يصلِّي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيكم يقومُ إليه فيقتله؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول اللهّ. فقام إليه فَوَجده يًصلَي فهابه فانصرف؛ فقال: ما صنعتَ؟ قال وجدتُه يصلِّي يا رسول الله فهِبتُه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيكم يَقُوم إليه فيقتله؟ قال عمر: أنا يا رسولَ اللّه. فقام إليه فوجده يصلِّي فهابه فانصرف، فقال: يا رسولَ اللّه، وجدتُه يصلِّي فهِبتُه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم يقوم إليه فيقْتُلَه؟ فقال عليٌّ: أنا يا رسول اللّه؟ قال: أنت له إن أدركته. فقام إليه فوجده قد انصرف. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا أول قَرْنٍ يَطلًعُ في أُمتي، لو قتلتموه ما اختلف بعده اثنان، إنّ بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقةً واحدة، وهي الجماعة.
الرافضة
إنما قيل لهم رافضة، لأنهم رفضوا أبا بكر وعمر ولم يَرْفُضهما أحد من أهل الأهواء غيرهم، والشيعة دونهم، وهم الذين يُفضِّلون عليًّا على عثمان، ويَتَوَلَّون أبا بكر وعمر. فأما الرافضة فلها غُلوّ شديد في عليّ، ذهب بعضُهم مَذهب النَّصارى في المسيح، وهم السَّبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، عليهم لعنةُ اللهّ، وفيهم يقول السَّيد الحميري:
قَوْمٌ غَلوْا في علّيِ لا أبالهمُ ... وأُجْشَمُوا أنفُساً في حُبِّه تَعَبَا
قالوا هو اللهّ، جَلِّ الله خالقُنا ... من أن يكون ابن شيء أو يكون أَبا
وقد أَحْرقهم عليّ رضي الله عنه بالنَّار.
ومن الروافض: المُغيرة بن سعد مولى بَجِيلة. قال الأعمش: دخلتُ على المُغيرة بن سعد، فسألته عن فَضائل عليّ؛ فقال: إنك لا تَحْتملها؛ قلتُ: بلى. فَذَكر آدم صلواتُ الله عليه، فقال: عليٌّ خير منه، ثم ذكر مَن دونه من الأنبياء، فقال عليٌّ خير منهم، حتى انتهى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: عليّ مثلُه، فقلت: كذبت، عليك لعنة الله؛ قال: قد أَعلمتُك أَنك لا تحتملها.
ومن الروافض: مَن يزعُم أنّ علياً رضي الله عنه في السَّحاب، فإذا أطلَّت عليهم سحابة قالوا: السلامُ عليك يا أبا الحَسن. وقد ذكرهم الشاعر فقال:
بَرِئتُ من الخوارجِ لستُ منهم ... مِن الغَزّال منهم وابن باب
ومِن قوم إذا ذكروا عليًّا ... يردون السلامَ على السَّحاَب
ولكنّي أُحِبُّ بكلّ قَلْبي ... وأعْلم أنَّ ذاك من الصواب
رسولَ الله والصِّدِّيقَ حَقًّا ... به أرجو غداً حُسن الثَّواب

وهؤلاء من الرافضة يقال لهم: المَنصورية. وهم أصحاب أبي منصور الكِسْف، وإنما سُمِّي الكِسْف لأنه كان يتأوَّل قي قول الله عزَّ وجلً: " وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ سَاقِطاً يَقُولوا سَحَابٌ مَرْكُوم " ، فالكِسْفُ عليٌّ وهو في السحاب.
وكان المُغيرة بن سعد من السَّبئية الذين أحْرقهم علي رضيِ الله تعالى عنه بالنار، وكان يقول: لو شاء عليّ لأحيا عاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراَ. " وقد " خرج " على " خالد بن عبد الله، فقتل خالد وصلبه بواسط عند قنطرة العاشر.
ومن الروافض كُثَيِّر عَزَّة الشاعر. ولما حضرته الوفاة، دعا ابنةَ أَخٍ له، فقال: يا بِنتَ أخي، إنَ عمَّك كان يُحب هذا الرَّجلَ فأَحبَيه - يعني عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه - فقالت: نَصِيحتك يا عمّ مردودة عليك، أحبًّه واللهّ خلافَ الحبِّ الذي أحْببتَه أنت؛ فقال لها: بَرِئت منك، وأنشد يقول:
بَرِئتُ إلى الإله من ابن أَرْوَى ... ومن قول الخوارج أجمعينَا
ومن عُمرٍ برئتُ ومن عَتيق ... غداةَ دُعي أميرَ المؤمنينا
ابن أروى: عثمان.
والروافض كلها تؤمن بالرَّجعة، وتقول: لا تقوم الساعةُ حتى يخرجِ المهديُّ، وهو محمد بن عليِّ، فيملؤُها عَدْلا كما مُلِئتْ جَوْراً، ويُحيى لهم موتاهم فيرْجعون إلى الدنيا، ويكون الناسُ أمةً واحدة. وفي ذلك يقول الشاعر:
أَلا إنَّ الأئمة من قُريش ... وُلاةَ العَدْل أربعةٌ سَواءُ
عليّ والثلاثةُ مِن بَنيه ... همُ الأسباط ليس بهمِ خَفاء
فَسِبْطٌ سِبطُ إيمانٍ وبِرٍّ ... وسِبْط غَيًبته كرْبلاء
أراد بالأسباط الثلاثة: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفيَّة، وهو المهديّ الذي يخرُج في آخر الزمان.
ومن الروافض: السيّد الحِمْيري، وكان يُلقَى له وسائد في مسجد الكوفة يَجلس عليها، وكان يؤمن بالرَّجعة، وفي ذلك يقول:
إذا ما المرْءُ شابَ له قَذال ... وعَلِّلهُ اْلمَواشِطُ بالْخِضابِ
فقد ذهبتْ بَشاشتهُ وأودَى ... فَقُم بأَبيك فابكِ على الشَباب
فليسَ بعائدٍ ما فاتَ منهُ ... إلى أحدٍ إلى يوم المآب
إلى يومٍ يؤوب الناسُ فيه ... إلى دُنياهُمِ قبل الحساب
أدين بأنّ ذاك كذاك حقا ... وما أنا في النشور بذي ارتياب
لأنَّ الله خَبَّر عن رِجالٍ ... حَيُوا من بعد دَسٍّ في التُّراب
وقال يرثيِ أخاه:
يابن أمِّي فدَتْكَ نفسي ومالي ... كنتَ رُكني ومَفْزعي وَجَمالي
ولَعَمْرِي لئن تركْتُك مَيْتاً ... رَهْنَ رَمْس ضَنْكٍ عليك مُهالَ
لوشيكاً ألقاك حياً صحيحاً ... سامِعاً مُبْصَراً على خير حال
قد بُعثتم من القُبور فَأبْتُم ... بعد ما رَفَت العِظامَ البَوالي
أو كَسَبْعين وافداً مع مُوسى ... عاينُوا هائلاً من الأهْوال
حين رامُوا من خُبثهم رُؤية الله ... وأنىَّ برُؤية المتعالي
فرَماهم بصَعْقة أحْرقتهم ... ثم أحياهُم شديدُ المحال
دخل رجل من الْحِسْبانيّة على المأمون، فقال: لثُمامة بن أشرس كلِّمه؟ فقال له: ما تقول وما مَذْهبك؟ فقال: أقول إنّ الأشياء كلّها على التوهُّم والْحِسْبان، وإنما يُدْرٍك منها الناسُ على قَدْر عقولهم، ولا حتَّى في الحقيقة. فقام إِليه ثُمامة، فَلَطَمه لطمةً سوَدت وَجْهه، فقال: يا أميرَ المؤمنين، يفعل بي مثلَ هذا في مجلسك! فقال له ثُمامة: وما فعلتُ بك؟ قال: لَطَمْتني، قال: ولعلَّ إنما دَهَنتُك بالبان، ثم أنشأ يقول:
ولَعلَّ آدمَ أمنا ... والأب حوّا في الْحِسابْ
ولعلَّ ما أبصرتَ من ... بِيض الطًّيور هو الغُراب
وعَساك حين قَعدتَ قم ... تَ وحين جئتَ هو الذّهاب
وعَسى البنفسج زِئْبقاً ... وعسى البَهار هو السَّذاب
وعَساك تأكل مِن خَرَا ... ك وأنتَ تَحْسبه الكَباب

ومن حديث ابن أبي شَيْبة أن عبد الله بن شدِّاد قال: قال لي عبد الله بن عبَّاس: لأخبرنَّك بأعجب شيء: قَرَع اليومَ علي البابَ رجلٌ لما وضعتُ ثيابي للظَّهيرة، فقلتُ: ما أتى به في مثل هذا الحين إلا أمرٌ مهمّ، أدخله. فلما دخل قال: متى يُبعث ذلك الرجل؟ قلت: أي رجل؟ قال: عليّ بن أبي طالب؟ قلتُ: لا يُبعث حتىِ يَبعث الله مَن في القبور، قال: وإنك لتقول بقول هذه الجَهلة! قلت: أَخْرِجُوه عني لعنه اللّه.
ومن الروافض الكَيْسانية، قلتُ: وهم أصحاب المُختار بن أبي عُبيد، ويقولون إنّ اسمه كَيْسان.
ومن الرافضة الحُسينية، وهم أصحاب إبراهيم بن الاشتر، وكانوا يطوفون بالليل في أزقة الكوفة وينادون: يا ثاراتِ الحًسين؛ فقيل لهم: الحُسينية.
ومن الرافضة الغُرابية: سمِّيت بذلك لقولهم: عليّ أشبه بالنبي من الغُراب بالغراب.
ومن الرافضة: الزَّيْدِية، وهم أصحاب زيد بن عليّ المقتول بخُراسان، وهم أقلُّ الرافضة غُلُوًّا، غيرَ أنّهم يَرَوْن الخُروج مع كل مَن خرج.
مالك بن مُعاوية قال: قال لي الشّعبيِ، وذَكَرْنا الرافضة: يا مالك، لو أردتُ أن يُعطوني رقابَهم عَبيداً وأن يَمْلئوا بيتي ذَهَباَ عليً على أن أكْذِبَ لهم على علّيِ كِذْبَةً واحدةً لَقَبِلوا، ولكني واللّه لا أَكْذِب عليه أبداً، يا مالك، إني دَرسْتُ الأهواءَ كلَّها فلم أَرَ قوماً أحمقَ من الرافضة، فلو كانوا من الدوابّ لكانوا حميراً، أو كانوا من الطير لكانوا رَخَماً. ثم قال: أحذِّرك الأهواءَ المُضلة شرُّها الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يُبغضون الإسلام، كما يُبغض اليهودُ النَّصرِانية، ولم يدْخلوا في الإسلام رغبةً ولا رَهْبة من الله، ولكن مَقْتاً لأهل الإسلام وبَغْياَ عليهم، وقد أحرَقهم عليًّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم إلى البُلْدان، منهم: عبد الله بن سبأ، نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن سباب، نفاه إلى الجازر، وأبو الكَرَوَّس، وذلك أن مِحْنة الرافضة محنة اليهود، قالت اليهود: لا يكون المُلك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا يكون المُلك إلا في آل عليّ بن أبي طالب، وقالت اليهود: لا يكون جِهاد في سبيل الله حتى يَخْرج المَسيح المُنتظر، ويُنادي منادٍ من السماء، وقالت الرافضة: لا جِهادَ في سبيل الله حتى يخرُج المَهديُّ، ويَنْزل سَبَب من السماء، واليَهود يُؤخِّرون صلاةَ المَغرِب حتى تَشتبك النّجوم، وكذلك الرافضة، واليَهود لا تَرى الطَّلاق الثلاثَ شيئاَ، وكذا الرَّافضة واليهود لا تَرى على النساء عدة وكذلك الرافضة، واليهود تستحل دم كل مسلم، وكذلك الرافضة، واليهود حرفوا التوراة وكذلك الرافضة حرفت القران، واليهود تُبْغض جبريلَ وتقول: هو عَدوُّنا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول: غَلط جبريلُ في الوَحْي إلى محمد بترك عليّ بن أبي طالب، واليهود لا تأكُل لَحم الجَزُور، وكذلك الرافضة. ولليهود والئصارى فَضِيلة على الرافضة في خَصْلتين، سُئِل اليهود مَن خَيْر أهل مِلّتكم؟ فقالوا: أصحابُ موسى، وسُئِلت النصارى، فقالوا: أصحابً عيسى، وسُئِلت الرِافضة: مَن شرّ أهل مِلّتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمّد، أمَرهم اللهّ بالاستغفار لهم فشَتَموهم، فالسيفُ مَسْلول عليهم إلى يوم القيامةِ، لا تَثبُت لهم قدم، ولا تَقومُ لهم راية، ولا تُجمع لهم كِلمة، دَعْوَتُهم مَدْحورة، وكَلِمتهم، مِختلفة، وجَمْعهم مُفرَّق، كلما أَوْقدُوا ناراً للحرب أطْفأها اللّه.
وذُكرت الرّافضةُ يوماً عند الشًعْبِيّ فقال: لقد بغَّضُوا إلينا حديثَ عليّ بن أبي طالب.
وقال الشّعبيّ: ما شَبَّهتُ تأويلَ الرِوافض في القرآن إلا بتأويل رَجل مَضْعوف من بني مَخْزوم من أهل مكّة وجدتُه قاعداَ بفِناء الكَعْبة، فقال يا شعبيّ: ما عِنْدك في تأويل هذا البَيْت؟ فإن بَني تَميم يَغْلطون فيه ويزعمون أنه إنما قيل في رجل منهم، وهو قولُ الشاعر:
بَيْتاً زُرَارةُ مًحْتَبِ بِفِنائه ... ومُجاشع وأَبو الفَوارس نَهْشلُ

فقلت له: وما عِندَك أنت فيه؟ قال: البيتُ هو هذا البيت، وأشار بيده إلى الكَعْبة، وزُرارةُ الحجر، زُرِّر حول البيت؟ فقلت له: فَمُجاشع؟ قال: زَمزم جَشِعت بالماء؟ قلت: فأَبُو الفوارس؟ قال: هو أبو قُبيس جَبل مكَّة؟ قلت: فَنَهْشل؟ ففكّر فيه طويلا ثم قال: أَصبتُه، هو مِصْباح الكعبة طويلٌ أَسود، وهو النَّهشل.

قولهم في الشيعة
قال أبو عُثمان عمرو بِن بَحر الجاحظ: أخبرني رجلٌ من رُؤساء التجّار قال: كان معنا في السَّفينة شيخٌ شرس الأخلاق، طويلُ الِإطْراق، وكان إذا ذُكِر له الشِّيعةُ غَضِب واربدّ وجهُه وزَوى من جاجبَيْه، فقلتُ له يوماً: يَرْحمك اللّه، ما الذي تَكْرهه من الشِّيعة فإني رأيتُك إذا ذُكِروا غَضِبْتَ وقُبضتَ؟ قال: ما أَكْره منهم إلا هذه الشِّين في أوّل اسمهم، فإني لم أجِدْها قطُّ إلا في كلَّ شرّ وشُؤْم وشَيْطان وشَغب وشَقَاء وشَنَار وشَرَر وشَين وشَوْك وشَكْوى وشَهْوة وشَتْم وشُح. قال أبو عثمان: فما ثَبت لِشيعيّ بعدها قائمة.
باب من كلام المتكلمين
دخل المُوبَذ على هشام بن الحكم، واْلمُوبَذ هو عالم الفُرس، فقال له: يا هشام: حولَ الدنيا شيء؟ قال: لا؛ قال: فإن اخرجتُ يدي فثَمِّ شيءٌ يَرُدُها؟ قال هشام: ليس ثَمَّ شيءٌ يرُدّها ولا شيء تُخْرِج يدك فيه؛ قال: فكيف أعلَم هذا؟ قال له يا مُوبَذُ، أنا وأنت على طَرَف الدنيا فقلت لك يا مُوبَذً. إني لا أرى شيئاً، فقلتَ لي: ولم لا ترِى؟ فقلت لك: ليس هاهنا ظلامٌ يمنعني، قلت لي أنتَ: يا هشام، إِني لا أرى شيئاَ، فقلت لك: ولم لا ترى؟ قلتَ: ليس ضياء أنظر به، فهل تكافأت المِلَّتان في التناقض؟ قال: نعم؛ قال: فإذا تكافأَتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شيء؟ فأشار الموبَذُ بيده أن أصبت " .
قال رجلٌ لبعض ولاة بني العباس: أنا أجعل هِشام بن الحَكم يقول في عليّ رضيِ الله عنه إنه ظالم " فقال: إن فعلت ذلك فلك كذا وكذا ثم أحْضر هشام " فقال له نشدتُك اللهّ أبا محمَد، أما تَعلم أن عليًّا نازع العباس عند أبي بكر؟ قال: نعم؛ قال: فمَن الظالم منهما؟ فكَرِه أن يقول: العبّاس، فَيُواقع سُخْط الخليفة، أو يقول: عليْ فيَنْقض أصلَه، قال: ما منهما ظالم؟ قال: فكيف يَتنازع اثنان في شيء لا يكون أحدُهما ظالماً؟ قال: قد تَنازع المَلَكان عند داود عليه السلام وما فيهما ظالم، ولكن ليُنبِّها داود على الخَطِيئة، وكذلك هذان أرادا تَنْبيه أبي بكر من خَطِيئته، فأُسْكت الرجل، وأمر الخليفةُ لهشام بِصِلة عظيمة.
" دخلَ إبراهيمُ النَّظَّام على أبي الهُذَيل العَلاف وقد أَسنَّ وَبَعًد عهدُه بالمُناظرة، وإبراهيمُ حَدَث السنّ، فقال: أخبرني عن قراركم: أن يكون جَوْهراً مخافة أن يكون حِسْما، فهل قَرَّرْتم أن لا يكون جوهراً مخافةَ أن يكون عرضاً، والعَرض أضعفُ من الجوهر. فَبَصَق أبو الهُذَيل في وجهه؟ فقال له إبراهيم: قبحك الله من شَيْخ! ما أضعف حُجِّتك وأسفه حِلْمك.
قال: لَقِي جَهْم رجلاً من اليونانيين فقال له: هل لك أن تُكلِّمني وأكلَمك عن مَعْبودك هذا، أرأيته قطَّ؟ قال: لا؟ قال: فلمستَه؟ قال: لا؛ قال: فذُقته؟ قال: لا؟ قال: فمن أين عَرفتَه وأنت لم تُدْركه بحسّ من حواسّك الخَمْس وإنما عقلك معبر عنها فلا يدرك إلا ما أوصلَتْ إليه من جميع المَعْلومات. قال: فَتلجلج جَهْم ساعةً ثم استدرك فعكس المسألة عليه فقال له: ما تًقِرّ أنّ لك رُوحا؟ قال: نعم؛ قال: فهل رأيتَه أو ذُقْتَه أو سَمِعْته أو شَممتَه أو لَمستَه؟ قال: لا؛ قال: فكيف علمتَ أنّ لك رُوحا؟ فأقَرّ له اليُونانيّ.
باب في الحياء
قال النبي صلى الله عليه وسلم الحَياء خَيْرٌ كلُّه. الحَياء شُعْبة من الإيمان.
وقال عليه السلام: إنّ اللهّ تَبارك وتعالى يحبّ الحيّ الحَليمَ المُتَعفِّف، ويَكره البَذِىء السأّل المُلْحُف.
وقال عَوْن بن عبد الله: الحياءُ والحِلْم والصَّمتُ من الإيمان.
وقال ابن عمر: الحياء والإيمان مَقْرونان جميعاً، فإِذا رُفِع أحدهما ارتفع الآخر معه.
وقال: مَكْتوب في التوراة: إذا لم تَسْتح فاصنع ما تَشاء. وقال: أحيُوا الحياء بمُجالسة من يُسْتحيا منه.

وذكر أعرابيٌ رجلاً حيا فقال: لا ترَاه الدهرَ إلا وكأنّه لا غِنى به عنك وإن كنتَ إليه أحوجَ، وإن أذْنبتَ غَفر وكأنّه المُذنب، وإن أسأت إليه أحسن وكأنه المُسيء.
لليلى الأخيلية:
فتًى هو أحْيا منِ فَتاة حَيِيَّة ... وأشجعً من لَيْثٍ بخِفَّان خادِر
ولابن قيس أيضاَ:
تخَالهم للحلم صُما عن الخَنَا ... وخُرْساً عن الفَحشَاءِ عند التَهاجُر
ومَرْضى إذا لوقُوا حَياءً وعَفّة ... وعند الحِفاظ كالليوث الخوادر
وقال الشعبي: تَعاشر الناس فيما بينهم زماناً بالدِّين والتَقوى، ثم رُفِع ذلك فتعاشروا بالحَياء والتذمُّم، ثم رُفع ذلك، فما يَتعاشر الناس إلا بالرغبة والرَّهبة، وسيجىء ما هو شرمن ذلك.
وقيل: الحياء يزيد في النُّبل.
ولبعضهم:
فلا وأبيكَ ما في العَيْش خيرٌ ... ولا الدُّنيا إذا ذَهب الحياءُ
وقال آخر:
إذا رُزِق الفتى وجهاً وَقاحاً ... تَقلَّب في الأمور كما يشاءُ
ولم يَكُ للدَّواء ولا لشيء ... تُعالجه به فيه غَناء
ورُث قَبيحةٍ ما حالَ بيني ... وبين رُكُوبها إلا الحَياء
وقال عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهَه: قُرنت الهيبةُ بالخَيْبة، والحياءُ بالحِرْمان. وقد قيل:
ارفع حياءَكَ فيما جئتَ طالبَه ... إنّ لحياءَ مع الحِرمان مَقرونُ
وفي المثل: كثرة الحياء من التخنث.
قال الحسن: من استتر بالحياء لبس الجهل سرباله، فقطّعوا سرابيل الحياء، فإنه مَن رَقّ وجهه رق عِلْمه.
وَصَف رجل الحياء عند الأحنف فقال: إن الحياء " لَيَتّتُم " لمقدار من المقادير، فما زاد على ذلك فسمِّه بما أحببت.
وقال بعضهم:
إن الحياء مع الحرمان مُقْترن ... كذاك قال أميرُ المؤمنين عَلي
واعلم بأن من التخنيث أكثره ... فارفعه في طلب الحاجات والأمَلَ
وللشماخ:
أجاملُ أقواماً حياءً وقد أرى ... صدورهم بادٍ عَلَيَّ مِراضُها
ولابن أبي حازم:
وإنّي ليَثْنيني عن الجهل والخنا ... وعن شَتْم ذِي القُربى خلائقُ أربعُ
حياءٌ وإسلام وتقْوى وأنَّني كريم ... ومِثْلي قد يَضرُ ويَنفع
وقال آخر:
إذا حُرم المرء الحياءَ فإنهُ ... بكلّ قبيح كان منه جديرُ
له قِحة في كل أمر وسِره ... مُباح وجدواه جفاً وغرور
يَرى الشَّتْم مَدْحاً والدناءة رِفْعة ... وللسَّمْع منه في العِظات نُفور
فرجِّ الفتى ما دام حيَّا فإنّهُ ... إلى خيِر حالات اْلمُنِيب يَصِير "

باب جامع الآداب
أدب الله لنبيه
صلى الله عليه وسلم

قال أبو عُمر أحمد ببن محمد: أوّل ما نَبدأ أدبُ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أَدبه صلى الله عليه وسلم لأمّته، ثم الحكماء والعُلماء، وقد أدّبَ الله نَبِيّه بأحسن الآداب كًلها، فقال له: " وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولةً إلى عُنُقِكَ وَلا بَبْسُطها كُلّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً " . فنهاه عن التَقتِير كما نهاه عن التَّبذير، وأمره بتوسّط الحاليْن، كما قال عزّ وجلّ: " وَالَّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لم يسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما " ، وقد جَمع الله " تبارك و " تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكَلِم في كتابه المُحْكَكم، ونَظِم له مَكارم الأخلاق كلّها في ثلاث كلمات منه، فقال: " خُذِ العفو وَأَمًرْ بالعرفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ " . ففي أَخذِه اللعفو صِلة مَن قَطَعه، والصَّفحُ عمَّن ظَلَمه؛ وفي الأمر بالمعروف تَقْوَى اللّه، وغَض الطِّرفِ عن المحارم، وصَوْن اللسان عن الكَذِب؛ وفي الإعراض عن الجاهِلين تنزيه النَّفْس عن مماراة السَّفيه، ومنازعة اللَجُوجِ. ثم أمره تبارك وتعالى فيماِ أدَّبه باللِّين في عَريكته والرِّفق بأًمّته فقال: " واخفضْ جَناحَك لمن اتَّبَعَكَ مِنَ المؤْمِنِين " . وقال: " ولَوْ كُنْتَ فَظّا غليظَ الْقَلْب لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ " . وقال تبارك وتعالى: " لا تَسْتَوي الحَسَنَةُ وَلا السِّيِّئَةُ اْدْفَعْ بالَّتي هِيَ أحْسَنُ فَإِذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّهُ وَليٌّ حَمِيم. وَمَا يُلَقَاهَا إلا الذِينَ صَبروا وَمَا يُلَقَاهَا إلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيم " . فلما وَعى عن الله عزَّ وجلَّ وكَمُلت فيه هذه الآداب، قال اللهّ تبارك وِتعالى: " لقَدْ جَاءَكمِ رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكم عَزِيزٌ عليكم ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عليكمُ بالمؤمِنين رَءُوفٌ رَحِيم. فإنْ توَلَّوْا فَقُلْ حَسْبيَ الله لا إِله إلاّ هوَ عليهِ تَوَكلْتُ عليه وَهُوَ رَبُّ العَرْش العَظِيم " .

باب أدب النبي لأمته
صلى الله عليه وسلم لأمته
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أدّب به أمته وحَضها عليه من مَكارم الأخْلاق وجَمِيل المعاشرة وإصلاح ذاتِ البَينْ وصِلَة الأرحام: أوْصاني ربيِّ بتِسْع " وأنا " أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر والعَلانية، والعَدْل في الرِّضا والغَضب، والقَصْد في الغِنَى والفَقْر، وأن أعْفُو عمن ظَلَمني، وأعْطي مَن حَرَمني، وأصِل مَن قَطعني، وأن يكون صَمتي فِكْراً، ونُطْقي ذِكْراً، ونَظَري عبَرا.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: نَهيتُكم عن قِيل وقال وإضاعةُ المال وكثرة السؤال.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تقْعدوا على ظُهور الطُّرق، فإن أَبَيْتم فغُضُوا الأبصار، وأفشُوا السلام، واهدوا الضالَّ، وأعينوا الضعِيف.
وقال صلى الله عليه وسلم: أَوْكُوا السِّقاء، واكْفَئُوإ الإناء، وأَغْلِقوا الأبواب، وأطفِئوا المِصْباح، فإن الشيطان لا يَفْتح غَلَقا، ولا يحل وِكاءً، ولا يَكْشف الإناء.
وقال صلى الله عليه وسلم: ألا أنَبئكم بشرّ الناس؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهّ؛ قال: من أكل وَحْدَه، ومَنَع رِفْده، وجَلَد عبدَه. ثم قال: ألا أُنبئكم بشِرّ من ذلك؟ قالوا. بلى يا رسول اللّه، قال: " من لا يُقيل عزة ولا يقبل مَعْذرة ثم قال؛ أَلاَ أنبئكم بشرّ من ذلك؟ قالوا بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال: مَن يُبغض الناسَ ويُبْغِضونه.
وقال: حَصِّنوا أموالَكم بالزّكاة، وداوُوا مَرْضاكم بالصدَقة، واستَقْبِلوا البَلاء بالدُّعاء وقال: ما قَلّ وكَفي خير مما كثر وألْهى.
وقال المسْلِمون تَتكافأ دِماؤُهم، ويَسْعَى بذمَّتهم أدْناهم، وهُمْ يَدٌ على مَن سواهم.
وقال: اليَدُ العُلْيا خيرٌ من اليد السُّفْلي.
" وقال " : وابْدَأ بمن تَعول.
وقال: لا تَجْن يَمينُك على شِمالك، ولا يًلدغ المُؤمن من جحر مرتين.
وقال: المَرْء كثِيرٌ بأخيه.
وقال: اْفصِلُوا بين حَدِيثكم بالاستغفار، واسْتَعينوا على قضاء حَوائجكم بالكِتمان.
وقال: أَفضل الأصحاب من إذا ذَكَرْت أعانك، وإذا نَسيت ذَكرَّك.
وقال: لا يُؤَم ذو سُلْطان في سُلْطانه، ولا يُجْلس على تَكْرِمته إلا بإِذنه.

وقال صلى الله عليه وسلم: يقول ابن آدم مالي مالي، وإنما له من ماله ما أَكل فأفْنى، أو لَبِسَ فأبلَى، أو وهب فأمْضى.
وقال: سَتَحْرصون على الإمارة، فنِعمت المُرْضعة وبئست الفاطمة.
وقال: لا يَحْكمِ الحاكم بين اثنين وهو غَضْبان.
وقال: لو تَكاشفتم ما تَدافَنْتم، وما هَلَك امرؤ عَرف قَدْره.
وقال: الناس كإبل مائةٍ لا تَكاد تَجد فيها راحلةً واحدة، والناس كلّهم سواء كأسنان المُشْط.
وقال: رَحِم الله عبداً قال خيراً فَغَنِم أو سَكَت فَسَلِم.
وقال: خَيْر المال سِكَة مَأْبورة، ومُهْرة مَأْمورة، وخير المال عَينٌ ساهرة لِعَين نائمة.
وقال في إناث الخيل: بُطونها كَنْز وظُهورها حِرْز.
وقال: ما أملق تاجرٌ صدُوق، وما أقفر بيتٌ فيه خَلّ.
وقال: قَيّدوا العِلم بالكتابة.
وقال: زُر غِبَاً تَزددْ حُبًّا.
وقال: عَلق سَوْطك حيثُ يراه أهلُك.

باب في آداب الحكماء والعلماء
فضيلة الأدب أوصى بعضُ الحكماء بنيه فقال: الأدب أكرم الجواهر طبيعةً، وأنْفسها قيمةً، يَرْفع الأحساب الوَضيعة، ويُفيد الرَّغائب الجليله، ويُعِز بلا عشيرة، ويُكثر الأنصار بغَيْر رزيَّة، فالبسوه حُلّة، وتَزَينُوه حِلْية، يُؤْنسكم في الوَحشة، ويجمع لكم القُلوب المختلفة.
ومن كلام علّي عليه السلام: فيما يُروى عنه أنه قال: مَن حَلم ساد، ومن ساد استفاد، ومن استَحيا حُرم، ومن هاب خاب، ومَن طلب الرّآسة صَبر على السياسة؛ ومَن أبصر عَيْب نفسه عَمِيَ عن عَيب غيره، ومَن سلَّ سيف البَغْي قُتل به، ومن احتقر لأخيه بئراً وقَع فيها، ومَن نَسى زَلَّته استعظم زلّة غيره، ومن هَتَك حِجاب غيره اْنهتكت عورات بَيته، ومن كابر في الأمور عَطِب، ومن اقتحم اللُّجج غَرِق، ومن أعجب برأْيه ضَلَّ، ومن استغنى بعَقله زلَ، ومن تَجَبَّر على الناس ذَلَّ، ومن تَعمَّق في العَمَل مَلَّ؛ ومَن صاحَب الأنذال حُقِّر، ومن جالس العلماء وُقَر؛ ومن دَخل مَداخل السًوء اتُّهم؛ ومَن حَسَنُ خُلقه، سَهُلَت له طُرُقه؛ ومن حَسَّنَ كلامَه، كانت الْهَيْبة أمامَه؛ ومَن خَشي الله فاز؛ ومَن استقاد الجَهْل، تَرك طَرِيق العَدْل؛ ومَن عرف أجَله، قَصًر أمله؛ ثم أنشأ يقول:
البَسْ أخاك على عُيوبه ... واسْتُر وغَطِّ على ذُنوبه
واصبر على بَهْتِ السَّفِيهِ ... وللزَّمان على خُطوبه
ودَع الجوابَ تفضلاً ... وكِل الظلومَ إلى حَسِيبه
وقال شَبِيب بن شَيبة: اطلُبوا الأدب فإنّه مادًة للعَقْل؛ ودليل على المُروءة، وصاحب في الغُربة، ومُؤنس في الوَحشة، وحِلْية في المَجْلِس، " ويجمع لكم القلوب المختلفة " .
وقال عبدُ الملك بن مَروان لبَنِيه: عليكم بطلب الأدب فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالاً، وإن اسْتَغنيتم عنه كان لكمٍ جمالاً.
وقال بعضُ الحكماء: اعلم أن جاهاً بالمال إنما يَصْحبك ما صَحِبَكَ المال، وجاهاً بالأدب غيرُ زائل عنك.
وقال ابن المقفَّع: إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو لسُلطانٍ فلا يُعْجِبك ذلك، فإنّ الكرامة تزُول بزوالهما، ولكن ليُعْجبك إذا أكرموك لدِين أو أدب.
وقال الأحْنَف بن قَيس: رأسُ الأدب المَنْطِق، ولا خَيْر في قوْل إلاِّ بِفِعْل، ولا في مال إلا بجُود، ولا في صَدِيق إلا بوَفاء، ولا في فِقْه إلا بوَرَع، ولا في صدق إلا بِنيّه.
وقال مَصقلة الزُّبيريّ: لا يَستغني الأديب عن ثلاثة واثنن؛ فأما الثلاثة: فالبلاغة والفصاحة وحُسن العِبارة، وأما الاثنان، فالعِلْم بالأثر والحِفْظ للخَبر.
وقالوا: الحَسَب مُحتاجِ إلى الأدب، والمعرفة محتاجة إلى التَّجربة.
وقال بُزُرْجَمْهِر: ما ورَّث الآباءُ الابناءُ شيئاً خيراً من الأدب، لأنّ بالأدب يَكْسِبون المال، وبالجهل يُتْلفونه وقال الفُضَيل بن عِياضِ: رأسُ الأدب مَعْرِفة الرجل قَدْره.
وقالوا: حُسْن الخُلق خيْر قَرِين، والأدب خير ميراث، والتَوفيق خير قَائد.
وقال سُفيان الثَّوريّ: مَن عَرَف نفسَه لم يَضِرْه ما قال الناس فيه.

وقال أنو شِرْوان للموبذ، وهو العالم " بالفارسيّة " : ما كان أفضلُ الأشياء؟ قال: الطبيعة النقيّة تَكْتفي من الأدب بالرائحة، ومن العِلْم بالإشارة، وكلما يَموت البَذْر في السِّباخ، كذلك تموت الحِكْمة بمَوْت الطبيعة، قال له: صدقت، ونحن لهذا قَلّدناك ما قلّدناك.
وقيل لارْدَشِير: الأدبُ أغلبُ أم الطَّبيعة؟ فقال: الأدب زِيادة في العَقل، ومَنْبهة للرأيٍ، ومِكْسبة للصواب، والطَّبيعة أملك، لأن بها الاعتقاد، ونَماء الغِراسة، وتَمام الغِذاء.
وقيل لبعض الحُكماء: أي أعون للعقل بعد الطٌبيعة المَولودة؟ قال: أدب مُكْتسب.
وقالوا: الأدب أدَبان: أدبُ الغَريزة وهو الأصل، وأدب الرِّواية وهو الفرع، ولا يتفرَّع شيء إلا عن أصله، ولا يَنْمى الأصل إلا باتصال المادة.
وقال الشاعر:
" ولم أرَ فَرْعًا طال إلا بأصْله ... ولم أرَ بَدْء العِلْم إلا تعلُّما
وقال حَبيب " :
وما السيفُ إلا زُبْرَةٌ لو تركتَه ... على الحالة الأولى لما كان يَقْطعُ
وقال آخر:
ما وَهب اللهّ لامرىء هِبةً ... أفضلَ من عَقْله ومن أَدبهْ
هُما حياةُ الفَتى فإن فًقِدَا ... فإنّ فَقْد الحَياة أحسنُ به
وقال ابن عبّاس: كَفَاك من عِلْم الدِّين أن تَعْرف مالا يَسعك جهلُه، وكفاكَ من عِلْم الأدب أن تَرْوي الشاهد والمثاللَ.
قال ابن قُتيبة: إِذا أردتَ أن تكون " عالماً فاطلب فَنّا واحداً؛ وإذ أردتَ أن " تكون أديباً فتفنَّن في العلوم.
وقالت الحُكماء: إذا كان الرجل طاهرَ الأثواب، كثيرَ الآداب، حسنَ المذْهب، تأدَّب بأدبه وصَلُح لصلاحه جميع أهله وولده. قال الشاعر:
رأيتُ صلاحَ الَمرْء يِصلح أهلَه ... ويُفسدهم ربُّ الفَساد إذا فَسَدْ
يُعظَّم في الدنيا لِفَضل صَلاحه ... وحْفَظ بعد الموت في الأهْل والوَلد
وسُئل ديُوجانِس: أي الخِصال أحمدُ عاقبة؟ قال: الإيمانُ بالله عزّ وجلّ، وبرّ الوالدين، ومحبّة العُلماء، وقبولُ الأدب.
رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَن لا أدب له لا عقل له.
وقالوا: الأدب يَزيدُ العاقلَ فضلاً ونَباهة، ويُفيده رقّة وظَرفاً.
في رقة الأدب قال أبو بكر بن أبي شَيْبة: قيل للعبّاس بن عبد المطّلب: أنت أكبرُ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو أكبر منّي وأنا أسنّ منه.
وقيل لأبي وائل: أيكما أكبر، أنتَ أم الرَّبيع بن خُثَيم؟ قال: أنا أكبر منه سنًا، وهو أكبر منّي عقلاً.
وقال أبان بنُ عثمان لطُويس المغنّى: أنا أكبر أم أنت؟ قال: جُعلتُ فداك، لقد شَهِدْتُ زفاف أمك المُباركة " على أبيك الطيّب. انظر إلى حِذْقه ورقّة أدبه كيف لم يَقُل أمك الطيبة إلى أبيك المبارك " .
وقيل لعُمر بن ذَرّ: كيف برّ ابنك بك؟ قال: ما مَشَيت نهاراً قطُّ إلا مشى خَلْفي، ولا ليلاً إلا مَشى أمامي، ولا رَقى عِلّية وأنا تحته.
ومن حديث عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبجل أحداً تبجيلَه لعمّه العباس.
وكان عمر وعثمان إذا لَقِيا العباس نَزلا إعظاماً له، إذا كانا راكبَين.
الرياشيّ عن الأصمعيّ قال: قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح: هذا منزلُك؟ وقد تقدم هذا الخبر في الخبر الذي فيه مخاطبة الملوك، وكذلك قول الحجَّاج للشعبيّ: كم عَطاؤك؟ ومن قولنا في رقة الأدب:
أَدبٌ كمثْل الماء لو أفرغتَه ... يوما لسال كما يَسيلُ الماءُ
أحمد بن بّي طاهر قال: قلتُ لعليّ بن يحيى، ما رأيتُ أكملَ أدبا منك؛ قال: كيف لو رأيتَ إسحاق بن إبراهيم؟ فقلتُ ذلك لإسحاق بن إبراهيم؛ قال: كيف لو رأيتَ إبراهيم بن المهديّ؟ فقلتُ ذلك لإبراهيم؛ فقال: كيف لو رأيت جعفر بن يحيى؟

وقال عبدُ العزيز بِن عُمر بن عبد العزيز: قال لي رَجاءُ بن حَيْوة: ما رأيتُ أكرمَ أدباً ولا أكرم عِشْرَةً من أبيك، سَمَرتُ عنده ليلة، فبينا نحن كذلك إذ عَشى المصباحُ ونام الغلام، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، قد عَشى المصباح ونام الغلام، فلو أذنتَ لي أصلحتُه، فقال: إنه ليس من مروءة الرجل أن يَسْتخدم ضيفَه، ثم حطّ رداءه عن مَنْكِبيه، وقام إلى الدَبَّة فصبَّ من الزيت في المصباح وأشْخص الفَتيلة، ثم رَجع " وأخذ رداءه وقال: قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر.
العتبي عن أبيه قال: صوَت رجل عند عمر بن الخطاب في المسجد، فلما كانت الصلاة قال عمر: عَزَمتُ على صاحب الصوت إلا قم فتوضّأ " ؟ فلم يَقُم أحدٌ. فقال جريرُ بن عبد اللهّ: يا أميرَ المؤمنين، اعزم علينا كلِّنا أن نَقوم فنتوضأ؟ قال: صدقتَ، ولا عَلِمتُك إلا سيّدا في الجاهليّة، فقيها في الإسلام، قُوموا فتوضئوا.
الرياشي عن الأصمعي قال: حدَّثني عُثمان الشحَّام، قال: قلتُ للحسن: يا أبا سعيد، قال: لَبَّيك؛ قلت: أتقول لي لَبّيك؟ قال: إني أقولها لخادمي.
وقال الشاعر:
يا حبذا حين تُمسى الريحُ باردةً ... وادي أًشيٍَ وفِتْيانٌ به هُضمُ
مُخدَمون كِرامٌ في مجالسهم ... وفي الرّحال إذا جَربتَهم خَدم
وما أصاحب من قوم فأذْكُرهم ... إلا يَزيدُهم حُبّا إليَ هُم
الأدب في الحديث والاستماع وقالت الحُكماء: رأسُ الأدب كلِّه حُسنُ الفَهم والتفهّم والإِصغاء للمتكلّم.
وذكر الشّعبي قوماً فقال: ما رأيتُ مثلَهم أسدَّ تَنَاوباَ في مَجلس، ولا أحسن فهما من مُحدِّث.
وقال الشعبي، فيما يَصِف به عبدَ الملك بن مروان: والله ما علمتُه إلا آخذاً بثلاث، تاركاً لثلاث آخذاً بحُسن الحدِيث إذا حدث، وبُحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا خُولف، تاركاً لمجاوبة اللئيم، ومماراة السَّفيه، ومُنازعة اللجُوج.
وقال بعض الحُكماء لابنه: يا بُني، تعلِّم حُسن الاستماع كما تتعلّم حُسن الحديث، وليعلم الناسُ أنك أحرصُ على أن تَسمع منك على أن تقول، فاحذرْ أن تُسرع في القَوْل فيما تُحِبّ عنه الرجوع بالفِعْل، حتى يعلم الناسُ أنك على فِعْل ما لم تَقُل منك إلى قَوْل ما لم تَفْعل.
وقالوا: من حُسن الأدب أن لا تُغالب أحداً على كلامه، وإذا سُئِل غيرُك فلا تُجب عنه، وإذا حَدًث بحديث فلا تُنازعه إياه، ولا تَقْتحم عليه فيه، ولا تُره أنك تعَلمه، وإذا كلّمت صاحبك فأخذتْه حُجّتك فحسِّن مخرج ذلك عليه، ولا تُظهر الظَّفر به، وتَعلَم حُسنَ الاستماع، كما تعلم حُسنَ الكلام.
وقال الحسنُ البَصريّ: حَدِّثوا الناسَ ما أقبلوا عليكم بوجُوههم.
وقال أبو عبًاد " الكاتب " : إذا أنكر المُتكلِّم عين السامع فَلْيسأله عن مَقاطع حديثه، والسبَب الذي أُجري ذلك له؛ فإن وَجده يقف على الحقّ أتم له الحديث، وإلاّ قطعه عنه وحَرمه مُؤانسته، وعَرّفه ما في سُوء الاستماع من الفُسُولة والحِرْمان للفائدة.
الأدب في المجالسة ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يَقم الرجلُ " للرجل " عن مجلسه ولكن ليُوسع له.
وكان عبد الله بن عمر إِذا قام له الرجلُ عن مجلسه لم يجلس فيه؛ وقال: لا يقم أحد لأحد عن مجلسه، ولكن افْسَحوا يَفسح الله لكم.
أبو أمامة قال: خرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فقمنا إليه؛ فقال: لا تقوموا كما يقوم العجم لعُظمائها. فما قام إليه أحد منّا بعد ذلك.
ومن حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن خرجتُ عليكم وأنتم جُلوس فلا يقومنَّ أحدٌ منكم في وجهي، وإن قمت فكما أنتم، وإن جلست فكما أنتم، فإنّ ذلك خلق من أخلاق المشركين.
وقال صلى الله عليه وسلم: الرّجل أحقُّ بصَدْر دابتَّه وصدْر مجلسه وصَدْر فراشه، ومن قام من مجلسه وَرَجع إليه فهو أحقّ به.
وقال صلى الله عليه وسلم: إذا جلس إليك أحدٌ فلا تَقم حتى تستأذنه وجَلس رجلٌ إلى الحسن بن عليّ عليهما الرِّضوانُ، فقال له: إنك جلستَ إلينا، ونحن نريد القيام؛ أفتأذَنُ؟ وقال سعيدُ بنُ العاص: ما مددتُ رجْلي قَطًّ بين يَدي جليسي، ولا قمتُ " عن مجلسي " حتى يقوم.

وقال إبراهيمُ النِّخَعيّ: إذا دخل أحدُكمِ بيتاً فَلْيَجْلس حيثُ أجلسه أهلُه.
وطَرح أبو قِلابة لِرَجُل جَلَس إليه وسادةً فرَدَّها؟ فقال: أَمَا سَمِعْتَ الحديثَ؛ لا تَردَّ على أخيك كرامَته؟ وقال عليّ بن أبي طالب رضوانُ الله عليه: لا يأبى الكرامةَ إلا حِمار.
وقال سَعِيد بن العاص: لجليسي عَلَيَّ ثلاثٌ: إذا دنَا رَحَّبْتُ به، وإذا جَلَس وَسَّعتُ له، وإذا حَدًث أقبلْت عليه. وقال: إني لأكره أن يمرّ الذُّباب بجليسي مخافةَ أن يُؤذِيه.
الهيثم بن عديّ " عن عامر الشَّعبي " قال: دَخل الأحنفُ بنُ قيس على مُعاوية فأشار إليه إلى وِسادةِ فلم يَجلس عليها، فقال له: ما مَنعك يا أَحْنف أن تَجلِس على الوسادة؟ فقال: يا أمير المُؤمنين، إنَّ فيما أَوصى به قَيسُ بن عاصم ولدَه أن قال: لا تَسْع للسُّلطان حتى يَمَلَّك، ولا تَقْطعه حتى يَنْساك، ولا تَجْلِس له على فراش ولا وِسادة، واجعل! بَينك وبينه مَجْلسَ رجل أو رجلين.
وقال الحسن: " مُجالسةُ الرجل من غير أن يُسأل عن اسمه واسم أبيه مُجالسة النوكى.
ولذلك قال شَبيب بن شَيْبة لأبي جعفر، ولَقِيه في الطّواف وهو لا يَعرفه، فأَعجبه حسن هَيْئته وسَمته: أصلحك الله، إنِّي أحب المعرفةَ، وأجلَّك عن المسألة؟ فقال: أنا فُلان بنُ فلان.
قال زياد: ما أتيت مجلساً قطّ إلا تركتُ منه ما لو جلستُ فيه لكان لي؛ وتَرْك ما لي أحبُ من أخذ ما ليس لي.
وقال: إيّاكَ وصدور المجالس وإن صَدَّرك صاحبُها، فإنها مجالس قُلَعة.
وقال " الشعبي " : لأن أدعي مِن بُعْد إلى قُرْب أحبُّ إليَّ من أقصى من قُرْب إلى بعد.
وذكروا أنه كان يوماً أبو السَّمراء عند عبد الله بن طاهر، وعنده إسحاقُ ابن إبراهيم، فاستدعى عبد الله إِسحاقَ فَناجاه بشيء، وطالت النَجوى بينهما. قال: فاعترَتْني حَيْرَةٌ فيما بين القُعود على ما هما عليه والقيام، حتى انقطع ما بينهما وتنَحّى إسحاق إلى مَوْقفه، ونظر عبد الله إلي، " يا أبا السمراء "
إذا النَجيان سرًا عنك أمرهَما ... فانزحْ بِسَمْعك تَجْهلْ ما يَقُولانِ
ولا تُحَملهما ثِقْلاً لخوفهما ... على تَناجِيهما بالمجلس الدَّاني
فما رأيتُ أكرَم منه، ولا أرفق أدباً، ترك مُطالبتي في هَفْوتي بحق الأمراء، وأدَبني أدبَ النُظراء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أحدُكم مرآة أخيه، فإذا رأى عليه أَذىَ فليمطه عنه، وإذا أخذ أحدُكم على أخيه شيئاً فليقل: لا بك السُّوء، وصَرَف اللهّ عنك السُّوء.
وقالوا: إذا اجتمعت حُرْمتان، أسقطت الكبرى الصُّغرى: وقال المُهلَب بن أبي صفرة: العيْش كلّه في الجَليس المُمْتع.
الأدب في المماشاة وَجه هِشامُ بن عبد الملك ابنه على الصَّائفة، ووجَّه معه ابن أخيه، وأوصى كلَّ واحد منهما بصاحبه؛ فلما قَدِما عليه، قال لابن أخيه: كيف رأيتَ ابن عمّك؟ فقال: إن شئت أجملت، وإن شئت فسّرْتُ؛ قال: بل أجمل؛ قال: عرضتْ بيننا جادة فتركها كلُّ واحد منَّا لصاحبه فما رَكِبناها حتى رَجعنا إليك.
وقال يحيى بن أكثم: ما شيتُ المأمون يوماً من الأيام في بُستان مُؤْنسة بنت المَهديّ، فكنت من الجانب الذي يَسترٌه من الشَمس، فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع، وأردتُ أن أدور إلى الجانب الذي يَسْترٌه من الشمس، فقال: لا تفعل، ولكن كُن بحالك حتى أسترك كما سَتَرْتني، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو قدرتُ أن أقيك حَرَّ النار لفعلتُ فكيف الشمسُ؟ فقال: ليس هذا من كرم الصُحبة، ومَشى ساتراً لي من الشّمس كما سترته.
وقيل لعُمَر بن ذرّ: كيف برُ ابنك بك؟ قال: ما مشيتُ نهاراً قط إلا مَشى خَلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رَقِي سَطحاً وأنا تحته.
وقيل لزياد: إنك تَستخلص حارثة بن بَدْر وهو يُواقع الشراب؛ فقال: وكيف لا أَسْتَخْلصه وما سألته عن شيء قط إلا وجدتُ عنده منه عِلْماً، ولا استودعتُه سِرّاً قطْ فضيّعته، ولا راكبني قطّ فمست رُكْبتي رُكْبته.
محمد بن يزيد بن عُمر بن عبد العزيز قال: خرجتُ مع موسى الهادي أمير المُؤمنين من جُرْجان؛ فقال لي: إمّا أن تَحملين، وإمّا أن أحْملك، فعلمتُ ما أراد، فأنْشدتُه أبياتَ ابن صِرْمة:

أوصيكم بالله أولَ وَهْلةٍ ... وأَحْسابِكِم والبرُّ باللّه أَوَّلُ
وإنْ قومُكم سادوا فلا تَحْسُدوهم ... وإن كُنتم أهلَ السِّيادة فاعْدِلوا
وإن أنتمُ أعْوَزْتُمُ فتَعفَفَّوا ... وإن كان فَضْلُ المال فيكم فأَفْضِلوا
وإنْ نزلتْ إحدى الدَواهي بقَوْمكم ... فأنْفُسَكم دون العَشيرة فاجعلوا
وإنّ طَلبوا عُرْفاً فلا تَحْرموهمُ ... وما حَمَّلوكم في المُلمّات فاحملوا
قال: فأمر لي بعشرين ألف دِرْهم.
وقيل: إن سعيد بن سَلْم راكب موسى الهادي، والحَربةُ بيد عبد الله بن مالك، وكانت الريح تَسْفي التراب، وعبد الله يَلْحظ موضع مَسير موسى، فيتكلَّف أن يسير على مُحاذاته، وإذا حاذاه ناله ذلك التراب، فلما طال ذلك عليه أقبلَ على سَعيد بن سَلْم، فقال: أما ترى ما نَلقى من هذا الخائن؟ قال: واللّه يا أميرَ المؤمنين ما قَصَّر في الاجتهاد، ولكن حُرِم التوفيق.
باب السلام والإذن قال النبي صلى الله عليه وسلم: أَطِيبوا الكلام، وأفشوا السلام، وأطعِموا الأيتام، وَصَلُّوا بالليل والناسُ نِيام.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن أبخل الناس الذي يَبخل بالسلام.
وأتى رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عليك السلامُ يا رسول الله؛ فقال: لا تقُل: عليك السلام، فإِنها تحيِّة الموتى، وقل: السلام عليك.
وقال صاحبُ حَرس عمر بن عبد العزيز: خرج علينا عمرُ في يوم عِيد وعليه قميصُ كَتَّان وعِمامة؛ على قلنسوة لاطئة، فقُمْنا إليه وسَلّمنا عليه؛ فقال: مَه، أنا واحدٌ وأنتم جماعة، السلامُ عليّ والردُّ عليكم. ثم سلّم ورَددنا عليه ومشى، فمشينا معه إلى المسجد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: يُسَلِّم الماشي على القاعد، والرَّاكب على الراجل، والصًغير على الكبير.
ودخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أبي يُقْرِئك السلام؛ فقال: عليك وعلى أبيك السلام.
إبراهيم عن الأسود قال قال " لي " عبد الله بن مسعود: إذا لقيتَ عُمرَ فاقرأ علية السلام قال: فلقيتُه فأَقْرأْته السلام؛ فقال: عليك وعليه السلام.
دخل مَيْمون بن مِهْران على سُليمان بن هِشام، وهو والي الجزيرة، فقال: السلام عليكم؛ فقال له سُليمان: ما مَنعك أن تُسَّلِّم بالأمرة؟ فقال: إنما يُسلَّم على الوالي بالإمرة إذا كان عنده الناس.
أبو بكر بن أبي شَيْبة قال: كان الحَسن وإبراهيم ومَيمون بن مِهران يَكْرهون أن يقول الرجلُ: حيَّاك الله حتى يقول السَّلام.
وسُئل عبد الله بن عُمر عن الرجل يَدْخل المَسجدَ أو البيتَ ليس فيه أحد؛ قال يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ومر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبَول، فسلّم عليه، فلم يرد عليه السلام.
وقال رجلٌ لعائشة " رضي الله عنها " : كيف أصبحت " يا أم المؤمنين " ؟ قالت: بنِعْمة من اللّه.
وقال رجل لشُرَيح: كيف أصبحتَ؟ " قال: بنعمة " ومدَ إصبعه السَّبابة إلى السماء.
وقيلِ لمحمد بن وكيع: كيف أصبحت؟ " قال: أصبحتُ طويلاً أملى، قصيراً أجلى، سيئاً عملي.
وقيل لسًفْيان الثَّوْري: كيف أصبحتَ؟ قال: أصبحتُ في دار حارتْ فيها الأدِلاء.
واستأذن رجلٌ من بني عامر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أَلِجُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخرُج إلى هذا فعَلِّمه الاستئذان، وقُل له يقول: السَّلام عليكم، أدْخُل؟ جابر بن عبد الله قال: استأذنتُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مَن أنت؟ فقلت: أنا؛ قال: أنا أنا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الاستئذان ثلاثة، فإن أُذن لك وإلاّ فارجع.
وقال عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه: الأولى إذْن، والثانية مؤامرة، والثالثة عزيمة، إمّا أن يأذنوا وإمّا أن يردّوا.

باب في تأديب الصغير
قالت الحُكماء: مَن أَدَّب ولدَه صغيراً سُرّ به كبيراً.
وقالوا: اطْبَعِ الطِّن ما كان رَطْباً، واغْمِز العُود ما كان لَدْناً.
وقالوا: مَن أدَّب ولدَه غَمّ حاسدَه.
وقال ابن عبّاس: مَن لم يَجْلِس في الصِّغر حيثُ يَكْره لم يَجْلِس في الكبر حيث يحب قال الشاعر:

إذا المَرءُ أَعْيَتْه المُروءةُ ناشِئاً ... فَمَطْلَبها كَهْلاً عليه شديدُ
وقالوا: ما أشدَّ فِطامَ الكبير وأعسرَ رياضةَ الهَرم.
قال الشاعر:
وتَرُوض عِرْسَك بعد ما هَرمت ... ومِن العَناء رياضةُ الهَرِم
وكتب شُرَيح إلى معلِّم ولده:
تَركَ الصلاةَ لأكْلُبٍ يَسعى بها ... يَبْغِي الهِرَاشَ مع الغُواة الرُّجَّس
" فَليَأتيِنَّك غُدوًة بصحيفة ... كُتِبت له كصحيفة المُتَلمِّس "
فإذا أتَاكَ فَعَضَّه بمَلامةٍ ... وعِظَتْه مَوْعِظة الأديب الكَبِّس
فإذا هَمَمْتَ بضربه فبدِرَّةٍ ... وإذا بلغتَ بها ثلاثاً فاحْبِس
واعْلم بأنّك ما أتيتَ فنفْسُه ... مع ما تُجَرِّعني اعزُّ الأنْفس
وقال صالح بن عبد القدّوس:
وإنَّ مَن أدَّبته في الصبا ... كالعُود يُسقَى الماءَ في غَرْسِه
حتى تَراه مُورِقاً ناضِراً ... بَعد الذي أبصرتَ من يُبْسِه
والشيخُ لا يَتْرك أخلاقَه ... حتى يُوارَى في ثَرى رَمْسه
إذا ارْعوى عادَ له جَهْلهُ ... كذي الضَّنَى عاد إلى نُكْسِه
ما يَبْلغ الأعداءُ من جاهل ... ما يَبْلغ الجاهلُ من نَفْسهِ
وقال عمرو بن عُتبة لمعلِّم ولده: ليكُن أوّلَ إصلاحك لولدي إصلاحُك لنفسك، فإنّ عُيونهم مَعْقودة بعَيْنك، فالحَسن عندهم ما صَنعتَ، والقبيح عندهم ما تَركت. علمَهم كتابَ اللهّ ولا تُكْرههم عليه فيَملّوه، ولا تَتركهم منه فيهجروه؛ رَوِّهم من الحديث أشرفَه، ومن الشعر أعفّه، ولا تَنْقُلهم من عِلم إلى علم حتى يُحْكِموه، فإنّ ازدحام الكلام في القَلْب مَشغلة للفهم، وعَلِّمهم سُنَن الحكماء، وجَنِّبهم محادثة النِّساء، ولا تَتّكَل على عُذْر منّي لك، فقد اتكلتُ على كِفاية منك.

باب في حب الولد
أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس، فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال: " يا أمير المؤمنين " ، ثمار قُلوبنا، وعماد ظهورنا؛ ونحن لهم أرضٌ ذَليلة، وسماء ظَلِيلة، فإن طلبوا فأعْطِهم، وإن غَضبوا فأَرْضهم؛ يمنحوك ودهم ويُحبوك جَهْدهم؛ ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملّوا حياتك، ويُحبُّوا وفاتك. فقال: للّه أنت يا أحنف، لقد دخلتَ عليّ وإني لمملوء غضباً على يزيدَ فسَلَلَته من قلبي. فلمّا خرج الأحنفُ من عنده، بعث مُعاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب، فبعث يزيدُ إلى الأحنف بمائة ألف دِرْهم ومائة ثوب، شاطره إياها.
وكان عبد الله بن عُمر يذهب بولده سالم كلَّ مَذْهب، حتى لامه الناسُ فيه، فقال:
يَلُومونني في سالمِ وأَلُومهم ... وجِلْدةُ بين العَينْ والأنف سالمً
وقال: إن ابني سالماَ ليُحِبّ حُبَّاً لو لم يَخَفْه لم يَعْصه.
وكان يحيى بن اليمان يَذْهب بولده داود كل مَذْهب، حتى قال يوماً: أئمة الحَدِيث أربعة، كان عبد الله، ثم كان عَلْقمة، ثم كان إبراهيم، ثم أنت يا داود. وقال تزوّجْتُ أمَ داود، فما كان عندنا شيءٌ أُلّفه فيه، حتى اشتريتُ له كُسوة بدانِق.
وقال زيدُ بن علي لْابنه: يا بُنيَّ، إن الله لم يَرْضك لي فأوصاك بي، ورَضيني لك فحذَرنيك، واعلم أنَ الآباء للأبناء مَن لم تَدْعه المَودَّةُ إلى التَفريط، وخَيْرَ الأبناء للآباء مَن لم يَدْعه التقصير إلى العُقوق.
وفي الحديث المَرْفوع: ريح الوَلد من ريح الجنَّة.
وفيه أيضاً: الأولاد منِ رَيحان اللّه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بُشر بفاطمة: رَيحانة أَشَمّها ورِزْقها على اللهّ.
ودخل عمرو بن العاص على مُعاوية وبين يديه بنته عائشة، فقال: مَن هذه يا " أمير المؤمنين " ؟ فقال: هذه تًفَّاحة القَلْب؛ فقال له: انبذُوها عنك " يا أمير المؤمنين " فواللّه إنَهن لَيَلدْنَ الأعداء، ويُقرِّبن البُعداء، ويُورِّثن الضّغائن. قال: لا تَقُل ذاك يا عمرو، فواللهّ ما مَرّضِ المَرْضى، ولا نَدَب الموْتى، ولا أعان على الأحزان مِثْلهن، ورُبَّ ابن أُخت قد نَفعَ خاله.
وقال المُعلّي الطائي:
لولا بُنيّات كزغْب القطَا ... حُطِطْن من بعْض إلى بَعْض

لكان لي مُضطَرَب واسعٌ ... في الأرض ذاتِ الطّول والعَرْض
وإنما أولادُنا بيننا ... أكبادُنا تمشي على الأرض
إن هَبَّت الريحُ على بَعْضهم ... لم تَشْبع العينُ من الغَمْض
وقال عبد الله بن أبي بَكْرة: مَوْت الوَلد صَدْع في الكَبِد: لا يَنجبر آخرَ الأبد.
ونظر عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى رجل يحمل طِفْلاً على عُنقه، فقال: ما هذا منك؟ قال: ابني يا أميرَ المؤمنين، قالت: أمَا إنه إن عاش فَتَنَك، وإن مات حَزَنك.
وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تُرَقص الحسين بن علي رضي اللهّ عنهما وتقول:
إنّ بُني شِبْه النبي ... ليس شَبيهاً بعَلي
وكان الزُّبير يُرَقص " ولده " عُرْوَة ويقول:
أَبْيَضُ من آل أبي عَتِيق ... مُبارَك مِن وَلد الصِّدِّيقِ
ألذَّه كما أَلذّ رِيقي
وقال أعرابي وهو يُرَقّص ولده:
أُحبُّه حُبَّ الشحيح مالَهْ ... قد كان ذاقَ الفقر تمَ نالَهْ
إذا يُريد بذلَه بدالة وقال آخر وهو يُرْقص ولده:
أعرِف منه قلَّة النُّعاس ... وخِفّةً في رَأسة من راسي
وكان رجلٌ من طيء يَقطع الطّريق، فمات وتَرك بُنياً رضيعاً، فجعلت أُمه تُرقصه وتْقول:
ياليتَه قد قطع الطّريقا ... ولم يًرِد في أمره رَفيقاً
وقد أخاف الفَجّ والمضيقا ... فقَلّ أن كان به شفيقاً
وقال عبدُ الملك بن مروان: أضرَ بنا فِي الوليد حُبُّنا له فلم نُؤدِّبه، وكأنّ الوليدَ أدبنا.
وقال هارون الرشيد لابنه المعتصم: ما فعل وصيفك " فلان " ؟ قال: مات فاستراح من الكُتَّاب؛ قال أو بلغ منك الكتّاب هذا المبلغ! واللهّ لا حضرته أبداً، ووجّهه إلى البادية، فتعلّم الفصاحة، وكان أُمِّيّاً، وهو المعروف بابن مارِدة.
وفي بعضِ الحديث أنّ إبراهيم خليل الرَّحمن صلوات الله عليه كان من أغير النَّاس، فلمّا حضرَتْه الوفاة، دخل عليه ملك الموت في صُورة رجل أنكره فقال له؛ مَن أدخلك داري؟ قال الذي أسكنك فيها منذُ كذا وكذا سنة؛ قال: ومَن أنت، قال: أنا ملك الموت، جئت لقَبض رُوحك؟ قال: أتاركي أنت حتى أودِّع ابني إسحاق؟ قال: نعم، فأرسل إلى إسحاق، فلمّا أتاه أخبره، فتعلّق إسحاق بأبيه إبراهيم وجعل يتقطّع عليه بُكاءً؛ فخرج عنهما ملك الموت، وقال: يا ربَّ ذبيحُك إسحاق متعلِّق بخليلك؛ فقال له اللّه: قل له إني قد أمهلتك، ففعل. وانحلّ إسحاق عن أبيه، ودخل إبراهيم بيتاً ينام فيه، فقبض ملك الموت روحَه وهو نائم.

باب الاعتضاد بالولد
قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن عَبْدِه زكريَّا ودُعائه إليه في الولد: " وَزَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْني فَرداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثين " . وقال: " وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانت امرأتي عاقراَ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَليَّاَ. يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آل يعقُوبَ واجعلهُ رَبِّ رَضِيَّاً " . والمَوَالِي ها هنا بنو العم.
وقال الشاعر:
مَن كان ذا عَضُد يُدْرِكْ ظُلامته ... إنِّ الذّليل الذي لَيْستْ له عَضدُ
تَنْبو يَدَاه إذا ما قَلَّ ناضرُه ... وَيَأنَفُ الضّيْم إنْ أثْرَى له عدد
العُتبى قال: لمّا أسنَّ أبو بَراء عامرُ بن مالك وضَعَّفه بنو أخيه وخَرَّفوه ولم يكن له ولد يَحْميه، أنشأ يقول:
دَفعتُكم عنَي وما دَفْع راحةٍ ... بشيء إذا لم تَسْتَعِن بالأنامل
يُضَعّفني حِلْمي وكثرةُ جَهلكم ... عليّ وأني لا أصُول بجاهل
وقال آخر:
تَعْدُو الذِّنائب عَلَى من لا كلابَ له ... وتَتَّقي سَوْرةَ المُستنفِر الحامِي
باب في التجارب والتأدّب بالزمان
قالت الحُكماء: كَفي بالتّجارب تأديباً، وبتقلّب الأيام عِظَة.
وقالوا: كَفي بالدَّهر مُؤَدِّباً، وبالعَقل مُرْشداً.
وقال حبيب:
أحاولتَ إرشادي فعَقْليَ مُرْشِدي ... أم استَمْت تَأديبي فدَهري مُؤدبي
وقال إبراهيم بن شَكلة:
من لم يؤدَبه والده ... أدَّبه الليلُ والنَّهارُ

كم قد أذلأَ كَريمَ قَوْم ... ليس له منهما انتصار
مَن ذا يَدُ الدهرِ لم تَنَله ... أو اطمأَنّت به الدَيار
كُلّ عن الحادِثات مُغْضٍ ... وعِنده للزّمان ثار
وقال آخر:
وما أبقت لك الأيامُ عُذْراً ... وبالأيَّام يَتَّعظ! اللًبِيب
وقالوا: كفي بالدهر مُخبرا بما مَضى عمّا بَقيِ.
وقالوا: كَفي مخبراً لذَوي الألباب ما جَرَبوا.
وقالوا لعيسى بن مَرْيم عليهما السلام: مَن أدَّبك؟ قال: ما أدَّبني أحد، رأيتُ الجَهل قبيحاً فاجتنبتُه.

باب في صحبة الأيام بالموادعة
قالت الحُكَمَاء: اصحب الأيام بالمُوادعة ولا تُسابق الدهرَ فتَكْبُو.
وقال الشاعر:
مَن سابَق الدهر كبا كَبْوةً ... لم يَسْتَقِلها من خطُا الدَّهرِ
فاخطُ مع الدَّهر إذ ما خَطا ... واجرِ مع الدهر كما يَجْرِي
وقال بشّار العُقَيلي:
أعاذِل إنّ العُسْر سَوف يُفيق ... وإنّ يَساراً من غدٍ لخلِيقُ
وما كنْتُ إلا كالزَّمان إذا صحا ... صحوتُ وإنْ ماقَ الزَّمان أَموق
وقال آخر:
تحامِق مَع الحَمْقىِ إذا ما لَقيتَهمِ ... ولاقِهمُ بالجهل فِعل ذوي الجَهْل
وَخَلِّط إذا لاقيْت يوماً مخَلَطاَ ... يُخَلِّط في قول صحيح وفي هَزْل
فإنّي رأيتُ المَرْءَ يَشْفي بعَقله ... كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعقل
وقال آخر:
إن المَقَادِيرَ إذا ساعَدَتْ ... ألحقت العاجِزَ بالحازِم
وقال الآخر:
والسبب المانعُ حظّ العاقل ... هو الذي سَبَّب حظّ الجاهِل
ومن أمثالهم في ذلك " قولُهم " : تطامن لها تَخْطُك.
ومن قولنا في هذا المعنى:
وتطَامنْ للزَّمان يَجْزُكَ عَفْواً ... وإن قالوا ذَليلٌ قُلْ ذليلُ
وقال حَبيب:
وكانت لَوْعَةً ثم اطمأنتْ ... كذاك لكلِّ سائلة قَرَارُ
وقال آخر:
ماذا يُريك الدَهْرُ من هَوانِهِ ... ازْفِن لِقرْد السَّوْء في زَمانِهِ
ولآخر:
الدهر لا يبقى على حالةٍ ... لا بُدَّ أن يُقبِلَ أو يدبرْ
فإنْ تَلقاك بِمْرُوهه ... فاصبِر فإنَّ الدَّهرَ لا يَصْبر
ولآخر:
اصبرْ لِدَهْرٍ نال من ... ك؛ فهكذا مضتْ الدُّهورُ
فَرَحاً وحُزْناً مرّةً ... لا الحُزن دام ولا السُّرورُ
ولآخر:
عَفَا الله عَمَّن صَيَّر الهمّ واحداً ... وأيقن أنَّ الدَّائرات تَدُررُ
تَرُوح لنا الدُّنيا بغير الذي غَدَت ... وتَحْدُث مِن بعد الأمور أمورُ
وتجْرِي الليالي باجتماع وفُرْقة ... وتَطْلُع فيها أنجمٌ وتَغور
وتَطْمع أن يَبقى السّرُور لأهله ... وهذا مُحال أن يَدُوم سُرُور
ولآخر:
سأنتظرُ الأيّامَ فيك لعلّها ... تَعود إلى الوَصل الذي هو أَجْمَلً
باب التحفظ من المقالة القبيحة
وإن كانت باطلا
ً
قالت الحكماء: إياك وما يُعتذر منه.
وقالوا: مَن عَّرَض نَفْسه للتُّهم فلا يأمَن مِن إساءة الظنّ.
وقالوا: حَسْبك من شرِّ سماعه.
وقالوا: كفي بالقَوْل عاراً وإن كان باطلاَ.
وقال الشاعر:
ومَن دعا الناسَ إلى ذَمِّه ... ذمُوه بالحقّ وبالباطل
مَقالة السّوء إلى أهلها ... أسرعُ من منْحدِرٍ سائل
وقال آخر:
قد قِيل ذلك إن حقَّاً وإن كَذِباً ... فما اعتذارُك من قَوْلٍ إذا قِيلاَ
وقال أَرِسْططاليس للإسكندر: إنّ الناس إذا قَدروا أن يقولُوا قدروا أن يفعلوا، فاحترس من أن يقولوا تَسْلم من أن يفعلوا.
وقال آمرؤُ القيس:
وجُرْع اللّسان كجُرح اْلْيَد
وقال الأخطل:
والقول يَنْفذ ما لا تَنفذ الإبرُ
وقال يَعقوب الحَمْدونيّ:
وقد يُرْجَى لجُرح السًيف بُرءٌ ... ولا بُرْءٌ لما جرح اللّسانُ
ولآخر:
قالوا ولَوْ صحَّ ما قالُوا لفُزْت به ... مَن لي بتَصْدِيق ما قالوا وتَكْذِيبي

باب الأدب في تشميت العاطس
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تًشَمِّت العاطس حتى يَحمد الله، فإن لم يَحمده فلا تُشَمَتوه.
وقال: اذا عطس أحدكم فحمد الله فشمِّتوه، وإن لم يحمد فلا تُشَمِّته.
وقال عليٌّ رضي اللهّ عنه: يُشَمَّت العاطس إلى ثلاث، فإن زاد فهو داء يَخْرج من رأسه.
عَطَس ابن عمر، فقالوا له: يرْحمك اللهّ؛ فقال: يَهديكم الله ويُصلح بالكم.
وعَطَس عليُّ بن أبي طالب فحمِد اللّه، فقيل له: يَرْحمك اللّه؟ فقال: يَغفر الله لنا و لكم.
وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه: إذا عَطَس أحدُكم فشَمِّتوه ثلاثاً؟ فإن زاد فقولوا: إنك مَضنوك.
وقال بعضُهم: التَّشْميت مرة واحدة.
باب الإذن في القبلة
عبدُ الرحمن بن أبي لَيلى عن عبد الله بن عُمر قال: كنَّا نُقَبِّل يدَ النبي صلى الله عليه وسلم.
وكيع عن سُفيان قال: قَبَّل أبو عُبيدة يدَ عمر بن الخطّاب.
ومن حديث الشعبيّ قال: لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم جعفرَ بن أبي طالب فالتزمه وقبل بين عينيه.
وقال إياسُ بن دَغْفل: رأيتُ أبا نَضْرة يُقَبِّل خدَّ الحسن.
الشَّيباني عن أبي الحسن عن مُصعب قال: رأيتُ رجلاً دخل عَلَى عليّ بن الحسين رضي الله عنهما في المسجد فقبَّل يدَه ووَضعها على عيْنَيه فلم يَنهه.
العُتبي قال: دخل رجلٌ على هِشام بن عبد الملك فقبّل يدَه، فقال: أُفٍّ! إنّ العرَب ما قبّلت الأيدي إلا هُلوعاً، ولا قبّلتها العجم إلاّ خُضوعاً.
واستأذن رجلٌ المأمون في تَقْبيل يده، فقال: إنّ القُبلة من المؤمن ذِلّة، ومن الذِّمي خديعة، ولا حاجةَ بك أن تَذِلّ، ولا حاجةَ بنا أن نُخْدَع.
واستأذن أبو دُلامة المهديَّ في تَقْبيل يده فمنَعَه، فقال: ما مَنَعْتَني شيئاً أيسر على عِيالي فَقْداً مِنْهُ.
الأصمعيُّ قال: دخل أبو بكر الهَجريّ على المنصور فقال: يا أميرَ المؤمنين، نَغَض فمي، وأنتم أهل بيت بركة، فلو أَذِنت لي فقبلت رأْسَك لعلَّ اللهّ كان يُمسك عليَّ ما بقي من أسناني؟ قال: اختَر بينها وبين الجائزة؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ أهوَن من ذهاب درهم من الجائزة أن لا يبقى في فمي حاكَّة. فضحك المنصور وأمر له بجائزة.
وقالوا: قُبلة الإمام في اليَد، وقُبلة الأب في الرأس، وقُبلة الأخ في الخدِّ، وقبلة الأخت في الصدر، وقبلة الزَّوجة في الفَم.
باب الأدب في العيادة
مَرِض أبو عمرو بن العَلاء، فدَخَل عليه رجلٌ من أصحابه، فقال له: أَريد أن أُساهرَك الليلةَ؛ قال له: أنت مُعافي وأنا مًبْتَلي، فالعافية لا تَدَعك أن تَسهر، والبلاءُ لا يَدَعني أن أنامِ، وأسأل الله أن يَهب لأهل العافية الشُّكر، ولأهل البلاء الصَّبر.
ودَخل كُثير عَزَّة على عبد العزيز بن مَرْوان وهو مريض، فقال: لو أنّ سُرورك لا يتمّ إلا بأن تَسْلم وأَسْقَم لدعوتُ ربَي أن يَصرف ما بك إليّ، ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية، ولي في كَنفك النِّعمة. فضحِك وأَمر له بجائزة، فخرج وهو يقول:
ونعودُ سيِّدَنا وسيِّد َغَيْرنا ... ليتَ التشكِّي كان بالعوادِ
لو كان يُقْبَل فِدْيةٌ لفَدَيْتُه ... بالمُصْطفي مِن طارِفي وتلاَدِي
وكتب رجلٌ من أهل الأدب إلى عَليل:
نُبِّئت أنّكَ مُعْتَلّ فقلتُ لهم ... نَفسي الفِداء لهُ من كلّ مَحْذورِ
يا ليتَ عِلّته بي ثَمَّ كان له ... أجرُ العَليل وأنِّي غيرُ مأجورِ
وكتب آخر إلى عليل:
وَقَيْنَاك لو نُعْطَى الهوى فيك والمُنَى ... لكان بنا الشَّكْوى وكان لك الأجْرُ
وكان شاعرٌ يختلف إلى يَحيى بن خالد بن بَرمك ويمتدحه، فغاب عنه أيّاماً لعلّة عرضت له، فلم يَفْتَقده يحيى ولم يَسأَل عنه، فلمّا أفاق الرجلُ من عِلّته كتب إليه:
أيهذا الأمير أكرمك الل ... ه وأبقاك لي بَقاءً طَوِيلاَ
أَجَميلاً تراه أصلحك الل ... ه لكَيما أراه أيضاً جَميلاً
أنَّنَي قد أقمتُ عَنْك قَلِيلاً ... لا تُرَى مُنْفذاً إليَّ رَسُولا
ألذنب فما عَلِمْتُ سوى الشّك ... ر لما قد أَوْليتنيه جَزِيلا

أم مَلالاً فما عَلِمْتًك للحا ... فظ مِثْلي على الزَمان مَلولا
قد أَتى الله بالصَّلاح فما أَن ... كرت مما عَهِدْتُ إلاّ قَليلا
وأَكلتُ الدًّرَّاج وهو غِذاء ... أفَلت عِلّتي عليه أُفولا
وكَأَنِّي قَدِمْتُ قُبْلك آتي ... ك غداً إن أَجِدْ إليك سَبيلا
فكتب إليه الوزير يعتذر:
دَفَعَ الله عنكَ نائبةَ الده ... رِ وحاشاك أن تكون عَلِيلاَ
أُشْهِدُ الله ما علمتُ وما ذَا ... كَ من العذر جائزاً مَقْبولا
ولَعَلِّي لو قد عَلِمْتُ لعاوَدْ ... تُكَ شَهراً وكان ذاك قَلِيلا
فاجعلنْ لي إلى التعلّق بالعُذْ ... ر سبيلاً إن لم أجدِ لي سَبِيلا
فقديماً ما جاء ذو الفَضْل بالفض ... لْ وما سامَح الخَلِيلُ خَلِيلاَ
وكتب المُعتصم إلى عبد الله بن طاهر:
أَعْزِرْ على بأن أراك عَليلا ... أو أن يكون بك السَّقامُ نزيلاَ
فَوَددْتُ أنَي مالكٌ لسَلامَتِي ... فأُعيرَها لك بُكرةً وأَصيلا
فتكونَ تَبقى سالماً بسلامتي ... وأكونَ مما قد عَرَاكَ بَدِيلا
هذا أخٌ لك يَشْتكي ما تشتكي ... وكذا الخليل إذا أَحَبَّ خَليلا
ومَرِض يحيى بن خالد فكان إسماعيل بن صُبيح الكاتب إذا دَخَل عليه يَعوده وقف عند رأسه ودَعا له، ثم يَخْرُج فيسأل الحاجبَ عن مَنامه وشرابه وطعامه، فلمّا أفاق، قال يحيى بنُ خالد: ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيلُ ابن صُبيح.
وقال الشاعر:
عِيادة المَرْء يومٌ بين يَوْمين ... وجَلسةٌ لك مِثْل اللَّحظ بالعين
لا تُبْرِمَنَّ مَريضاً في مُساءلة ... يكفيك من ذاكَ تَسْآل بحرفين
وقال بكر بنُ عبد الله لقوم عادوه في مرضه فأطالوا الجلوسَ عنده: المريض يُعاد والصحيح يُزار.
وقال سفُيان الثّوْريّ: حُمْق العُوّاد أشدُّ على المَرضى من أمراضهم، يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس.
ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يَعوده في مرضه، فسأله عن علّته، فلمّا أخبره قال: من هذه العلة مات فلان ومات فلان. فقال له عمر: إذا عُدت المَرْضى فلا تَنْعَ إليهم الموْتى، وإذا خرجتَ عَنَّا فلا تَعُد إلينا.
وقال ابن عبّاس: إذا دخلتم على الرَّجل وهو في الموت فبشرُوه ليلقى ربَّه وهو حَسن الظن، ولقّنُوه الشهادة ولا تُضْجروه.
ومَرِض الأعمش فأبرمه الناس بالسُّؤال عن حاله، فكَتب قصَّته في كِتاب وجعله عند رأسه، فإذا سأله أحدٌ، قال: عندك القِصَّة في الكتاب فاقرأها.
ولبعضهم:
مَرِض الحبيبُ فعُدْتُه ... فمَرِضتُ من حَذَري عليه
وأَتىَ إليَّ يَعُودني ... فبرِئْتُ من نظري إليه
ومَرِض محمدُ بن عبد الله بن طاهر، فكتبَ إلى أخيه عبيد اللهّ بن عبد الله:
إنِّي وجدتُ عَلَى جَفَا ... ئك من فِعالكَ شاهِدَا
إني اعتللت في فَقَدْ ... تُ سِوى رَسولك عائدا
ولو اعتللتَ فلم أَجِدْ ... سبباً إليك مُساعداً
لاستشعرتْ عيني الكَرَى ... حتى أَعُودَك راقداً
فأجابه:
كُحِلت مُقْلتي بشَوك القَتاد ... لم أذق مُذْ حُمِمْتَ طَعْم الرُّقادِ
يا أخي الباذل المودّة والنا ... زلَ من مقلتي مكانَ السواد
منَعَتْني عليك رِقَّةُ قلبي ... من دُخولي إليك في العُوّاد
لوْ بِأُذْني سمعتُ منك أنيناً ... لتَفَرَّى مع الأنين فؤادي
ولمحمد بن يزيد:
يا عَلِيلاً أفْدِيك من ألم العِل ... ة هل لي إلى اللقاء سبيلُ
إن يَحُل! دونك الحجابُ فما يح ... جَب عني بك الضَّنَى والعَويل
وأنشد محمدُ بنُ يزيد قال أنشدني أبو دُهْمان لنفسه وقد دَخل على بعض الأمراء يعوده:
بأَنْفُسنا لا بالطَوارِف والتُلْدِ ... نَقِيك الذي تُخْفِي من السُّقم أو تُبدِي

بنا مَعْشرَ العُوّاد ما بك من أذى ... فإن أَشفقوا مما أقول فَبِي وَحْدِي
وكتب أبو تمام الطائي إلى مالك بن طَوْق في شَكاة له:
كم لَوْعةٍ للنِّدَى وكم قَلق ... للمجد والمَكْرمات في قَلَقِكْ
أَلُبَسكَ اللهّ منهُ عافيةَ ... في نوْمك المُعْتري وفي أَرَقك
تُخْرج عن جِسْمِك السَّقام كما ... أخرج ذَمّ الفَعال من عُنقك
ودخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شَكاة له يعوده، فقال:
اللهّ يَدفعْ عن نَفْس الإمام لنا ... وكلّنا للمنايا دُونه غَرَض
فليتَ أَنّ الذي يَعروه من مرض ... العائدين جميعاً لا به المَرَض
فبالإمام لنا من غيرنا عِوَض ... وليس في غيره منه لنا عِوَض
فما أُبالي إذا ما نَفْسه سَلِمَتْ ... لو باد كلُّ عباد الله وانقرضوا
وقال آخر في بعض الأمراء:
واعتلّ فاعتلت الدنيا لعِلّته ... واعتلّ فاعتلَّ فيه البأسُ والكرمُ
لما استقَلَّ أنار المَجد وانقشعت ... عنه الضَّبابة والأحْزان والسَّقم
وبلغ قيساً مجنونَ بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة، فقال:
يقولون ليلى بالعِراق مريضةٌ ... فما لك تَجْفوها وأنت صديقُ
شَفي الله مرْضى بالعِراق فإنني ... على كلِّ شاكٍ بالعِراق شفِيق
ولمحمد بن عبد الله بن طاهر:
أَلْبسك اللَهُ منه عافيةً ... تُغْنيك عن دَعْوتي وعن جَلَدكْ
سُقْمك ذَا لا لعلّةٍ عرَضت ... بل سُقم عيْنيك رُدَّ في جَسدك
" فيا مريضَ الجُفون أَحييِ فَتًى ... قتلتَهُ بالجُفون لا بيَدك "
وقال غيره:
يا أملي كيف أنتَ من ألمِكْ ... وكيف ما تَشْتكيه من سَقَمكْ
هذان يومان لي أعدُّهما ... مُذ لم تَلًح لي بُرُوق مُبْتسمك
حسدتُ حُمّاك حين قِيل لنا ... بأنها قَبَّلَتك فوق فَمك
ولسُحَيم عَبد بني الحَسحاس:
تَجَمّعن شتى من ثلاث وأرْبع ... ووَاحدةٍ حتى كَمُلنَ ثمانيَا
وأقْبلن من أقصى الْخِيام يَعُدْنني ... ألا إِنما بعضُ العوائد دَائيا
وللعباس بن الأحف:
قالت مَرِضْت فعُدْتها فتبرَّمت ... وهي الصحيحة والمريضُ العائدُ
والله لو قَسَت القلوبُ كقَلبها ... ما رَقّ للوَلد الضعيف الوَالدُ
وقال الواثق:
لا بك السُقْم ولكنْ كان بي ... وبنَفْسي وبأُمِّي وأبيِ
قيل لي إنك صُدِّعتَ فما ... خالطت سمعيَ حتى دير بي
وأنشد محمدُ بن يزيد المُبرِّد لعًلية بنت المهدي:
تمَارضتِ كي أشجى وما بكِ عِلّة ... تُريدين قَتْلي قد ظَفِرْتِ بذلكِ
وقَوْلُكِ للعُوّاد كيف تَرَوْنه ... فقالوا قَتيلاً قلتِ أهونُ هالكِ
لئن سَاءَني أن نِلتِني بمَساءَةٍ ... لقد سَرَني أني خَطرت ببالكِ
ومن قولنا في هذا المعنى:
رُوح النَّدى بين أثواب العُلا وَصب ... يَعْتنُّ في جَسد للمجْد مَوْصوب
ما أنتَ وحدَك مكْسُوًّا شُحوبَ ضَنى ... بل كلنا بك من مُضنى ومشحوب
يا مَن عليه حِجَابٌ من جَلالته ... وإِن بدا لك يوماً غير محجوب
أَلْقَى عليك يداً للضرُّ كاشفةً ... كَشَّافُ ضرُّ نبيّ الله أيُوبِ
ومثله من قولنا:
لا غَرْو إن نال منك السُّقْمُ والضررُ ... قد تُكْسف الشمسُ لا بل يُخْسَف القمرُ
يا غُرّة القمر الذّاوي غَضارتُها ... فِداً لنُورك منِّي السمعُ والبَصر
إن يُمس جسمك موعوكا بصاليةٍ ... فهكذا يُوعَكُ الضًرغامة الهَصر
أنتَ الحُسام فإِن تُقْلَل مضاربُه ... فقبلَه ما يُفَلّ الصّارِم الذّكَر
رُوح من المَجْد في جُثمان مَكْرُمة ... كأنما الصُّبح من خَدَّيه يَنْفجر

لو غال مَجْلودَه شيءٌ سِوَى قَدَرٍ ... أكبرتُ ذاك ولكن غالَه القَدرُ
ومن قولنا في هذا المعنى:
لا غرو إن نال منك السقْمُ ما سأَلاَ ... قد يُكْسَفُ البدر أحياناً إذا كَمُلا
ما تَشْتَكي عِلّةً في الدهر واحدةً ... إلا اشتكي الجُود من وَجْدٍ بها عِلَلا

الأدب في الاعتناق
أبو بكر بن محمد قال: حدّثنا سعيد بن " إسحاق عن عليّ بن يونس المَدينيّ " قال: كنتُ جالساً عند مالك " بن أَنس " فإذا سُفيان بن عُيينة يَستأذن بالباب، فقال مالك: رجلٌ صالح صاحب سُنَة، أدخِلوه؛ فدخل فقال: السلامُ عليكم ورحمةُ اللهّ وبركاته، فردَ السلام، فقال: سلامٌ خاصّ وعامّ عليك يا أبا عبد الله ورحمةُ الله؛ فقال مالك: وعليك السلامُ يا أبا محمد ورحمةُ اللهّ، فصافَحه مالك، وقال: يا أبا محمد، لولا أنها بِدْعة لعانَقْناك؟ فقال سُفيان: قد عانق مَن هو خيرٌ منَّا، رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال مالك: جعفراً؟ قال: نعم؟ فقال مالك: ذاك حديثٌ خاصّ يا أبا محمد ليس بعامّ؛ فقال سفيان: ما عمَّ جعفراً يَعُمّنا وما خصَّه يخُصّنا إذا كنَّا صالحين، أفتأْذن لي أن أُحدَّث في مجلسك؟ قال: نعم يا أبا محمد؟ فقال: حدّثني عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس، أنه لما قَدِم جعفرٌ من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل بين عينيه، وقال: جعفر أشبه الناس بي خَلْقَاَ وخُلُقاً.
باب الأدب في إصلاح المعيشة
قالوا: مَن أشبع أرضَه عملاً أشبعت " بيته " خُبزاً.
وقالوا: يقول الثّوب لصاحبه: أكرمني داخَلاَ أُكْرِمْك خارجاً.
وقالت عائشة: المَغزَل بيد المرأة أحسنُ من الرُّمح بيد المُجَاهد في سبيل اللّه.
وقال عمرُ بن الخطاب: لا تَنْهَكوا وجهَ الأرض، فإِن شَحمها في وَجْهها.
وقال: فَرِّقوا بين المَنايا واجعلوا من الرأْس رَأْسين.
وقال: أملكوا العَجِين فإِنه أحد الرَّيعين.
وقال أبو بكر لغُلام له كان يتَّجر بالثياب: إذا كان الثوبُ سابغاً فانشرهُ وأنت قائم، وإذا كان قَصيراً فانشُره وأنت جالس، وإنما البيْع مِكَاس.
وقال عبد الملك بن مَرْوَان: مَن كان في يده شيءٌ فلْيُصْلحه، فإنه في زمان إن احتاج فيه فأوّل ما يَبْذُل دينهُ.
باب الأدب في المؤاكلة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أَكل أحدُكم فليأكل بيمينه ولْيَشْرَب بيمينه، فإنّ الشيطان يِأكل بشماله ويشرب بشماله.
محمد بن سلاّم الجُمحي قال: قال بلال بن أبي بُردة وهو أمير على البَصرة للجارود بن أبي سَترْة الهُذليّ: أتحضُر طعامَ هذا الشيخ؟ - يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر - قال: نعم؛ قال: فصِفه لي؛ قال: نأتيه فنجده مُنْبطحاً - يعني نائماً - فنجلس حتى يستيقظ، فيأْذن فنُساقطه الحديث، فإن حدَّثناه أحسنَ الاستماع، وإن حدَّثَنا أحسنَ الحديث، ثم يدعو بمائدته وقد تقدّم إلى جواريه وأُمهات أولاده أن لا تُلطفه واحدةٌ منهن " إلا " إذا وُضعت مائدته، ثم يُقبل خَبْازه فيمْثُل بين يديه قائماً، فيقول له: ما عِنْدك؟ فيقول: عِندي كذا وكذا، فيعدِّد ما عنده - يريد بذلك أن يَحْبس كلُّ رجل نفسَه وشهوتَه على ما يًريد من الطعام، وتُقْبِل الألوان من هاهنا ومن هاهنا، فتوضع على المائدة، ثم يُؤتى بثريدة شَهباءَ من الفُلفل، رَقْطَاء من الْحِمَّص، ذاتِ حِفافينْ من العُرَاق، فيأكل مُعذِراً، حتى إذا ظنّ أن القوم قد كادوا يمتلئون جثَا على رُكْبتيه، ثم استأنف الأكل معهم. قال ابن أبي بُردة: للّه ذرُّ عبد الأعلى، ما أربطَ جأشَه على وقع الأضراس.
حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك، فبَينا هو يأكل معه إذ تعلّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ. فقال له هشام: عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ؟ فقال: وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي، واللّه لا أكلت عندك أبداً. ثم خرج وهو يقول:
وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل ... يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ

محمد بن يزيد قال: أكل قائدٌ لأبي جعفر المنصور معه يوماً، وكان على المائدة محمدٌ المهديّ وصالحٌ ابناه، فبينا الرجلُ يأكل من ثَريدة بين أيديهم إذ سَقط بعضُ الطعام من فيه في الغَضَّارة، وكأن المهديّ وأخاه عافَا الأكل معه، فأخذ أبو جعفر الطّعام الذي سَقط من فم الرجل فأكله. فالتفتَ إليه الرجلُ، فقال: يا أميرَ المؤمنين أمّا الدُّنيا فهي أقلُّ وأيسر من أن أتركها لك، لكن واللّه لأتركن في مرضاتك الدُّنيا والآخرة.
وحدّث إبراهيمُ بن السِّنديّ قال: كان فتىً من بني هاشم يَدْخل على المنصور كثيراً، " يُسلم من بعيد ويَنْصرف " . فأتاه يوماً فأدناه، ثم دعاه إلى الغَداء، فقال: قد تغذيتُ. فأمهله الربيعُ حاجبُ المنصور حتى ظَنّ أنه لم يفهم الخطيئة، فلما انصرف وصار وراء السِّتر دَفع في قَفاه. فلما رأى من الحاجب دَفعه في قَفاه شَكا الفتى حالتَه وما ناله إلى عُمومته، فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر، وقالوا: إنَ الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا؛ فقال لهم أبو جعفر: إنَ الرّبيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حُجَّة، فإن شئتم أمْسكنا عن ذلك وأغضينا، وإن شِئتم سألتُه وأسمعتكم؛ قالوا: بل يسأله أميرُ المؤمنين ونسمع. فدعاه فسأله فقال: إنّ هذا الفتى كان يأتي فيُسلِّم ويَنصرف من بعيد، فلما كان أمس أَدناه أميرُ المؤمنين حتى سلَم من قُرْب، وتبذل بين يديه ودعاه إلى غدائه، فبلغ من جهله بحق المَرْتبة التي أحلّه فيها أن قال: قد تغدّيتُ، وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدًّ خَلّة الجوع، ومثل هذا لا يُقوِّمه القولُ دون الفعل. فسكت القومُ وانصرفوا.
وقال بكرُ بن عبيد الله: أحق الناس بلَطْمة مَن أني طعاماً لم يُدْعَ إليه؛ وأحقُّ الناس بلَطْمتين من يقول له صاحب البيت اجلس ها هنا، فيقول: لا، ها هنا؛ وأحقًّ الناس بثلاث لطمات من دُعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل: ادعُ رَبّةَ البيت تأكل معنا.
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: لا ينبغي للفتى أن يكون مُكْحلاً ولا مُقبِّباً ولا مُكوكباً ولا شُكامداً ولا حرامداً ولا نُقامداً، ثم فسّره فقال: أما اُلمكحل فالذي يتعرّق العظم حتى يَدَعه كأنه مُكْحُلة عاج والمًقَبِّب فالذيِ يُركِّب اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قُبّة. والمُكَوكب: الذي يَبْصق في الطِّست ويتَنخّم فيها حتى يصير بُصَاقه كأنه الكواكب في الطَّست. والحرَامد: الذي يأتي في وقت الغَداء والعَشاء فيقول: ما تأكلون؟ فيقولون من بُغْضه: سُمًّا، فيُدخل يده ويقول في حِرامّ العيش بعدكم. والشُّكامد: الذي يُتْبع اللقمة بأُخرى قبل أن يُسيغها فيَخْتنق كأنه ديك قد ابتلع فأرة. والنُّقامد: الذي يضع الطعامَ بين يديه ويأكل من بين يدي غيره.
ومن الأدب: أن يبدأ صاحبُ الطعام بغَسْل يده قبل الطعامِ، ثم يقول لجلسائه: من شاء منكم فليغسل، فإذا غُسلَ بعد الطعام فَلْيُقَدَمْهم ويتأخر.

أدب الملوك
وقال العلماء: لا يُؤم ذو سُلطان في لسُطانه، ولا يُجلس على تَكْرِمته إلا بإذنه. وقال زِياد: لا يُسَلَّمُ على قادمٍ بين يَدي أمير المؤمنين: ودخل عبد الله بن عبّاس على مُعاوية وعنده زَياد، فرحَّب به مُعاوية، ووسَّع له إلى جَنْبه، وأقبل عليه يُسائله ويُحادثه، وزِياد ساكِت، فقال له ابن عبّاس: كيف حالُك أبا المُغيرة، كأنك أردت أن تُحْدث بيننا وبينك هِجْرة؟ فقال: لا، ولكنه لا يُسلَّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. قال ابن عبّاس: ما أَْدركْت الناس إِلا وهم يُسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم. فقال له مُعاوية: كُفَّ عنه يابن عبّاس، فإنك لا تَشاء أن تَغْلِبَ إلا غُلبت.
الشّيبانيّ قال: بَصق ابن مَرْوان فقَصر في بَصْقته، فوقعت في طَرف البِساط، فقام رجلٌ من المجلس فمسَحه بكُمّه. فقال عبدُ الملك بن مَرْوان: أَرْبعة لا يُسْتحي من خِدْمتهم: الإمام والعاِلم والوالد والضيف.
وقال يحيى بن خالد: مُساءَلة المُلوكِ عن حالها من تَحيَّة النَّوْكَى، فإذا أردتَ أن تقول: كيف أصبح الأمير، فقُل: صَبَّح الله الأميرَ بالنِّعمة والكرامة؛ وإن كان عليلاً فأردتَ أن تَسأله عن حاله، فقُل: أنزل الله علِى الأمير الشِّفاء والرِّحمة.

وقالوا: إذا زادك المَلِك إكراماً فزِدْه إعظاماَ، ماذا جَعلك عَبْداَ فاجعله ربًّا، ولا تُدِيمن النظر إليه، ولا تُكثر من الدُّعاء له في كلِّ كلمةٍ. ولا تتغير له إذا سَخِط، ولا تَغتر به إذا رَضيَ، ولا تُلْحِف في مسألته.
وقالوا: الملوك لا تُسْال ولا تُشمَّت ولا تُكَيف. وقال الشاعر:
إِنَّ المُلوكَ لا يُخَاطَبُونَا ... ولا إذَا مَلُوا يُعَاتَبُونَا
وفي المَقَال لا يُنَازَعُونَا ... وفي العطاس لا يُشَمًتونَا
وفي الخطاب لا يُكَيَّفُونَا ... يُثنى عليهم ويُبَجًلونَا
فافْهَم وَصاتي لا تكُن مَجْنُونا
وقالوا: من تمام خِدْمة الملوك أن يُقَرِّب الخادمَ إليه نَعْلَيْه، ولا يَدَعه يَمشي إليهما، ويَجعل النعلَ اليُمنى قُبالة الرِّجل اليمنى، واليُسرى قُبالة الرجل اليُسرى، وإذا رأى مُتَّكأ يَحتاج إلى إصلاح أصْلَحَه، ولا يَنْتظر فيه أمرَه، ويَتفقد الدَواة قبلَ أن يَأمره، ويَنْفُضِ عنها الغبار إِذا قَربها إليه، وإن رأى بين يديه قِرْطاساً قد تباعد عنه قَرّبه إليه وَوَضعه بي يديه على كِسْره.
وقال أصحابُ معاوية لمُعاوية: إنّا ربما جَلَسنا عندك فوقَ مِقْدار شَهْوتك، فأنتْ تَكْره أن تَسْتَخِفَّنا فتأمر بالقيام، ونحن نكرْه أن نُثْقِل عليك في الجُلوس، فلو جعلتَ لنا علامةً نَعْرِف بها ذلك؟ فقال: علامةُ ذلك أن أقولَ: إذا شِئتم.
وقيل مثلُ ذلك ليزيدَ بنِ مُعاوية. فقال: إذا قلتُ على بَرَكة اللّه.
وقيل مثلُ ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال. إذا وضعتُ الخَيْزُرانة.
وما سمعتُ بألطف مَعنى، ولا أكملَ أَدَباً، ولا أحسنَ مَذْهباً في مُساءلة الملوك من شَبِيب بن شَيْبة، وقوله لأبي جَعْفَر: أَصْلَحَكَ الله إني أُحِبُ المعرفة، وأُجِلّك عن السُّؤال. فقال له: فلان بن فُلان.

باب الكناية والتعريض
ومن أَحْسن الكِناية اللَطيفة عن المعنى الذي يَقْبحُ ظاهرهُ: قيل لعُمَر بن عبد العزيز وقد نَبتَ له حبنٌ تحت أُنْثَيَيْه: أين نبَتَ بك هذا الحِبْن؟ قال بين الرانفة والصَّفْن.
وقال آخر ونَبتَ به حِبْن في إبطه: أين نبت بك هذا الحِبْن؟ قال: تحت مَنْكِبيّ.
وقد كَنَى اللهّ تعالى في كِتابة عن الجماع بالمُلامَسة، وعن الحَدَث بالغائط فقال: " أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمِ مِن الغَائِطِ " ، والغائطَ: الفَحْص، " وهو المُطْمئن من الأرض " ؛ وجَمْعه: غِيطان. " وقالُوا مَا لِهَذا الرّسُول يأكًلُ الطَّعامَ " . وإنما كنّى " به " عن الحَدث. وقال تعالى: " واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْر سًوءٍ " . فكنّى " بالسوء " عن البرص.
ودخل الرّبيع بن زياد على النُّعمان بن المُنذر وبه وَضح، فقال: ما هذا البَياض بك؟ فقال: سيف اللهّ جلاه.
ودخل حارثةُ بن بدر على زياد وفي وَجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر الذي في وَجْهِك؟ قال: رَكِبت فَرَسي الأشقر فجمح بي، فقال: أما إنك لو رَكِبْت الأشهب لما فعل ذلك. فكنّى حارثة بالأشقر عن النبيذ، وكنّى زياد بالأشهب عن اللبن.
وقال معاوية للأحنف بن قيْس: أَخْبرني عن قول الشاعرِ.
إذَا ما مات مَيْتٌ من تميم ... وسرك أن يَعيش فجِيءْ بزادِ
بخُبز أو بتَمْرِ أو بِسَمْنِ ... أو الشيءِ المُلَفَفِ في البِجَاد
تراه يَطُوف في الافاقْ حِرْصاَ ... ليأكل رأس لُقمان بن عاد
ما هذا الشيء الملفّف في البِجاد؟ قال الأحنف: السّخينة يا أميرَ المؤمنين. قال معاوية: واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم - والسّخينة طعام كانت تعمله قريش من دقيق، وهو الخَريزة، فكانت تُسَب به، وفيه يقول حسَّان بن ثابت:
زَعمْت سَخينة أن ستَغْلِب رَبّها ... وليُغْلِبنّ مُغالِب الغلابِ
وقال آخر:
تَعشوا من خَزيرتهم فناموا

ولمّا عَزل عثمانُ بن عفان عمرو بن العاص عن مِصر وولاها ابن أَبي سَرْح، دخل عمرو على عُثمان وعليه جُبّة محشوّة، فقال له عُثمان: ما حَشْو جُبّتك يا عمرو؟ قال: أنا؛ قال: قد علمتُ أنك فيها. ثم قال له يا عمرو: أشعرتَ أن اللِّقاح درّت بعدك ألبانُها؟ فقال: لأنكم أعجفتم أولادَها. فكنّى عثمان عن خَراج مصر باللّقاح، وكنّى عمرو عن جَوْر الوالي بعده، وأنه حَرم الرزق أهلَ العطاء ووفَّره على السلطان.
وكان في المَدِينة رجلٌ يُسَّمى جَعْدة يُرجِّل شعره ويتعرَّض للنساء المِعْزَبات، فكتب رجلٌ من الأنصار كان في الغَزْو إلى عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه:
أَلاَ أَبلغ أبا حَفْص رسولاً ... فدًى لك من أَخي ثِقَةٍ إزَارِي
قَلائِصُنا هدَاكَ اللهّ إنّا ... شُغِلنا عنكُم زمنَ الحصارِ
يُعَقِّلُهن جَعْد شيظمي ... وبِئْسَ مُعَقّلُ الذًوْد الظُّؤار
فكنَى بالقلائص عن النّساء. وعَرض برجل يقال له جَعْدَة. فسأل عنه عمرُ، فَدُل عليه، فجزّ شَعره، ونَفَاه عن المدينة.
وسمعِ عمرُ بن الخطاب امرأة في الطّواف تقول:
فَمِنْهُنَّ من تُسْقَى بعَذْب مُبرد ... نًقاخ فتِلْكم عند ذلك قرَتِ
ومنهنّ مَن تُسْقَى بأخضرَآجن ... أُجاجٌ ولولا خشيةُ الله فَرَّت
ففهم شكواها، فبَعث إلى زَوْجها، فوجده متغيِّر الفم. فخيَّره بين خمسمائة من الدراهم وطلاقِها. فاختار الدَّراهم، فأعطاه وطَلّقها.
ودخل على زياد رجلٌ من أشراف البصرة فقال له زياد: أين مَسكنك من البَصرة؟ قال: في وَسطها، قال له: كم لك من الولد؟ قال: تِسْعة، فلما خرج من عنده قيل له: إنه ليس كذلك في كل ما سألته، وليس له من الوَلد إلاّ واحدٌ، وهو ساكن في طَرف البَصرْة. فلمّا عاد إليه سأله زياد عن ذلك، فقال له: ما كذبتُك، لي تسعة من الولد قَدَمْت منهم ثمانية فهم لي، وبقي معي واحد، فلا أدري إليَ يكون أم عليَّ، ومنزلي بين المدينة والجَبانة، فأنا بين الأحياء والأموات، فمنزِلَي في وَسط البَصرة؛ قال: صدقت.

الكناية يورى بها عن الكذب والكفر
لما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم، كتب إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف، فمَن أقرَّ منهم بالكفر خلِّى سبيلَه، ومَن أبَى يَقْتله، فأُتي منهم بعامر الشًعبي ومطرِّف ابن عبد الله بن الشّخّير وسعيد بن جُبَير؟ فأمّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية ولم يُصرِّحا بالكفر، فَقبِل كلامهما وعفا عنهما؟ وأمّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك فقتل.
وكان مما عرَّض به الشعبي، فقال؛ أَصلح الله الأمير، نَبا المنزل، وأَحْزَن بنا الجَناب، واستَحلَسْنا الخوفَ، واكتَحلنا السهرَ، وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء، ولا فَجَرة أقوياء. قال؛ صدقَ والله، ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا، خَلّيا عنه ثم قُدِّم " إليه " مُطرِّف بن عبد الله، فقال له الحجّاج: أَتُقِرّ على نفسِك بالكفر؟ قال: إنّ مَن شق العصا، وسَفَك الدماء، ونكث البَيْعة، وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر؟ قال: خليا عنه. ثمّ قُدّم إليه سعيد بن جُبير، فقال له: أتقِر على نفسك بالكُفر؟ قال: ما كفرتُ باللّه مذ آمنت به؟ قال: آضربوا عُنقه.
ولما وَلي الواثقُ وأَقعد للناس أحمدَ بن أبي دُوَاد للمحنة في القُرآن ودعا إليه الفُقهاء، أُتي فيهم بالحارث بن مِسْكين، فقيل له: أتَشهد أنّ القرآن مخلوق؟ قال: أشهدُ أنّ التوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن، هذه الأربعة مخلوقة، ومَدّ أصابعه الأربع، فعرض بها وكنَى عن خلق القرآن وخلِّص مُهْجَته من القَتل: وعَجز أحمدُ بن نَصر فقيهُ بغداد عن الكِناية فأباها، فقُتِل وَصلِب.
ودَخل بعضُ النسّاك على بعض الخُلفاء فدعاه إلى طَعامه، فقال له: الصائم لا يأكل يا أميرَ المؤمنين، وما أذكِّي نفسي بل الله يُزَكِّي مَن يشاء؛ وإنما كره طعامه.
الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر قال؛ بينما ابن عِرْباض يَمشي مُقْدِماً لِطيَّتِه، إذ استقبلته الخوارج يَجزُّون الناسَ بسيوفهم، فقال لهم: هل خَرج إليكم في اليهود شيء؟ قالوا: لا؟ قال: فامضُوا راشِدين، فمضَوْا وتركوه.

ولقي شيطانُ الطاق رجلاً من الخوارج وبيده سيفٌ، فقال له الخارجي: واللهّ لأقتلنَّك أو تبرأَ من عليّ؛ فقال له: أنا من عليّ، ومن عثمان بريء " يريد أنه من عليّ، وبريء من عثمان " 0 أبو بكر بن أبي شَيْبة قال: قال الوليد " بن عُقْبة " على المِنْبر بالكوفة: أًقسمُ على مَن سمّاني أَشعرَ بَرْكاً إلا قام " فخرج عنّي " ، فقام إليه رجل من أهل الكوفة، فقال له: ومَن هذا الذي يقوم بين يديك فيقول: أنا الذىِ سمّيتك أشعر بركاً؟ " قال " : وكان هو الذي سمّاه " بذاك " .
" وقال معاويةُ لصعْصعة بن صوحان: اصْعَد المنبر فالْعَن عليَّا " ، فامتنع من ذلك وقال: أو تُعْفيني؟ قال: لا. فَصَعد المنبر فَحَمِد اللهّ وأثنى عليه ثم قال: معاشر الناس، إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليَّاً، فالعَنُوه لعنه الله " .

الكناية عن الكذب في طريق المدح
المدائنيّ قال: أتي العُرْيان بن الهَيْثم بغلام سكران، فقال له: مَن أنت؟ فقال:
أنا ابن الذي لا يَنْزلُ الدَّهرِ قدرُه ... وإن نزلت يوماً فسوف تَعودُ
ترى الناسَ أفواجاَ إلى ضوْء ناره ... فمنهم قِيامٌ حولها وقُعود
فظنّه ولداً لبعض الأشراف، فأمر بتخليته. فلمّا كُشف عنه، قيل له: إنّه ابن باقلاني.
ودخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شُبْرمة " القاضي " ، فقال له: أتعرف هذا الرجل؟ - وكان رُمي عنده بريبة - فقال " نعم " ، إن له بيتاَ وقَدماً وشرَفاً، فخلّى سبيلَه. فلمّا انصرف ابن شبرمة قال له " أصحابُه " : أكنت تعرف هذا الرجل؟ قال: لا، ولكني عرفُ أنّ له بيتاً يأوي إليه، وقدماَ يمشي عليها، وشرفُه أُذناه ومَنْكباه.
وخطب رجل لرجل إلى قوم، فسألوه: ما حِرْفته؟ فقال: هو نخَّاس الدوَاب، فزوّجوه، فلمّا كُشف عنه وجدوه يبيع السَّنانير، فلمّا عنِّفوه في ذلك قال: أوَ ما السنانير دواب؟ ما كذبتكم في شيء.
ودخل مُعلَى الطائي على ابن السَّرِيّ يعوده في مرضه، فأنشده شعراً يقول فيه:
فأُقسم إن منَّ الإله بصحَة ... ونَال السَّرِيُ بنُ السرِيِّ شفَاءَ
لأرتَحِلِّن العِيسَ شهراً بحِجة ... وأُعتق شُكرإً سالماً وصَفَاء
فلمّا خرج من عنده قال له أصحابُه: واللّه ما نعلم عبدَك سالماً ولا عبدك صَفاء، فمَن أردت أن تُعتق؟ قال؟ هما هرّتان عندي، والحجّ فريضة واجبة، فما عَلَيِّ في قولي شيءإن شاء الله تعالى.
باب في الكناية والتعريض في طريق الدعابة
سُئل ابن سيرين عن رجل، فقال: تُوفّي البارحة. فلما رأى جَزَع السائل، قال: " الله يَتوفَئ الأنفسَ حين مَوْتها والتي لم تمُتْ في مَنامها " وإنما أردتُ بالوَفاة النوم.
ومَرِض زيادٌ فدخَل عليه شُريح القاضي يَعوده. فلمِّا خَرج بعث إليه مَسْرُوقُ بنِ الأجْدَع يسأله: كيف تركتَ الأمير؟ قال: تركتُه يأمر وينهى؛ فقال مَسروق: إن شُرَيحاَ صاحبُ تَعرِيض " عَوِيص " فاسألوه، فسألوه فقال: تركتُه يَأمر بالوصيّة ويَنْهى عن البُكاء.
وكان سِنان بن مُكمِّل النُميريّ يُساير عُمر بن هبيرة الفَزاريّ يوماً على بَغلة، فقال له ابن هُبيرة: غُضَّ من عِنان بَغلتك؛ فقال: إنها مكتوبة، أصلح الله الأمير. أراد ابن هُبيرة قول جرير:
فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمير ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كلابَا
وأراد سِنَان قولَ الشاعر:
لا تَأمننَ فَزاريَّاً خَلوتَ به ... على قَلُوصك واكتُبْها بأسْيارِ
ومرّ رجلٌ من بني تَميم برجل من بني نُمير على يده بازي، فقال التَّميميُ للنّميريّ: هذا البازي لك؟ فقال له النُّميري: نعم، وهو أهدَى من القَطا.
أراد التميميُّ قولَ جرير:
أنا البازي المُطِلّ على نُمَيْر ... أُتِحْتُ لها من الجوِّ انصبابَا
وأراد النميري قول الطِّرِمْاح:
تَميم بطُرْق اللُّؤم أهدَى من القَطَا ... ولو سَلكت سُبْل المكارم ضَلَّتِ

ودخل رجلٌ من مُحارب على عبد الله بن يَزيد الهلاليّ، وهو والي أَرْمِينية وقَريبٌ منه غَدير فيه ضفادع، فقال عبد الله بن يزيد: ما تركتنا شيوخ مُحارب نَنام الليلة؛ فقال له المُحاربيّ: أصلح الله الأمير، أَو تدْري لمَ ذلك؟ قال: ولم؟ قال: لأنها أضفَت بُرْقُعاً لها؛ قال: قَبّحك اللهّ وقَبَّحَ ما جئتَ به. أراد ابن يزيد الهِلاليّ قولَ الأخطل:
تَنِقّ بلا شيء شُيوخُ مُحَاربِ ... وما خِلتُها كانت تَريش ولا تَبْرى
ضَفادع في ظَلماءِ ليلٍ تَجاوبتْ ... فدلَّ عليها صوتُها حَيَّةَ البَحَر
وأراد المُحاربيُّ قولَ الشاعر:
لكلّ هِلاليّ من الًّلؤم بُرْقُع ... ولابن يزيد بُرقعٌ وقميص ُ
وقال مُعاوية لعبد الرحمن بن الحَكم: استعْرِض لي هذين الفَرسين؛ فقال: أحدُهما أجَشُّ والآخر هَزِيم، يعني قولَ النَّجاشيّ:
ونَجَّى ابن هِنْد سابحٌ ذو عُلالةِ ... أجشُّ هَزيم والرِّماح دواني
فقال مُعاوية: أما إنَ صاحبَهما على ما فيه " لا " ، يُشئب بكَنائنه.
وكان عبدُ الرحمن يُرْمى بكنَّتِه.
وشاور زيادٌ رجلا من ثِقاته في آمرأة يتزوَّجها، فقال: لا خير لك فيها، إني رأيتُ رجلاً يُقبِّلها، فتركها؛ وخالَفه الرجل إليها وتزوَّجها. فلما بلغ زياداً خبرهُ أرسل إليه وقال له: أما قلتَ لي إنك رأيتَ رجلاً يُقبِّلها؟ قال: نعم، رأيتُ أباها يُقبِّلها.
وقال أعرابيُ لعمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه: يا أميرَ المؤمنين، احمِلْني وسُحَيما على جمل؟ فقال: نَشدتك الله يا أعرابيّ، أسُحيم هذازِق؟ قال: نعم؟ ثم قال: مَن لم يَنْفعه ظنه لم يَنْفعه يَقينُه.
وودَّع رجلٌ رجلاً كان يُبْغِضُه، فقال: امض في سّرٍ مِن حِفْظ الله، وحِجاب من كلاءته. فَفطِن له الرجل، فقال: رَفع الله مكانك، وشَدِّ ظهرك، وجَعلك مَنظوراً إليك.
والشَّيباني قال: كان ابن أبي عَتيق صاحبَ هَزْل ولهو، واسمُه عبد الله بن محمد بن أبي بَكر " الصدِّيق رضي الله عنهم " ، وكانت له آمرأة من أشراف قَريش، وكان لها فتياتٌ يُغنين في الأعراس والمآتم، فأمرت جاريةً منهن أن تغنِّي بشعر لها قالتْه في زَوْجها، فتغنّت الجاريةُ وهو يسمع:
ذَهب الإله بما تَعيش به ... وقمرتَ لُبك أيما قَمْرِ
أنفقت مالك غير مُحْتشم ... في كلِّ زانية وفي الخمر
فقال للجارية: لمن هذا الشًعر؟ قالت: لموْلاتي. فأخذ قرْطاساً فكتبه وخرج به، فإذا هو بعبد الله بن عُمر بن الخطاب، فقال: يا أبا عبد الرحمن، قف قليلا أُكلمك، فوقف عبد الله بن عمر؛ فقال: ما تَرى فيمن هجاني بهذا الشعر؟ وأنشد البيتن؟ قال: أرى أن تَعفو وتَصفح؛ قال: أما وإللهّ لئن لقيتُه لأنيكنَه، فأخذ ابن عُمر ينَكُله ويَزْجره، وقال: قبّحك اللهّ. ثم لَقيه بعد ذلك بأيام، فلما أبصره ابن عُمر أعرض عنه بوَجْهه، فاستقبله ابن أبي عَتيق؟ فقال له: سألتُك بالقبر ومَن فيه إلا سمعتَ مني حرفين؟ فولاه قفاه وأنصت له، قال: علمتَ أبا عبد الرحمن أني لقيتُ قائل ذلك الشعر ونِكْته؟ فصعِق عبد الله ولُبِط به؟ فلما رأى ما نَزَل به دنا من أُذنه، وقال: أصلحك اللّه، إنها امرأتي " فلانة " . فقام ابن عمر، وقَبل ما بي عَيْنيه " وتبسَّم ضاحكاً " .

باب في الصمت
كان لُقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى اله عليه وسلم " مُقْتَبسا " ، وكان عبداً أسود، فوجده وهو يَعمل دِرْعاً من حديد؛ فعجب منه ولم يَرَ درْعاً قبل ذلك، فلم يسأله لُقمان عما يَعمل ولم يُخبره داود، حتى تمَّت الدِّرع بعد سنة، فقاسها داودُ على نفسه، وقال: زِرْد طافا ليوم قِرَافا. تفسيره: درع حَصينة ليوم قِتال. فقال لُقمان: الصمت حُكم وقَليل فاعله.
وقال أبو عبيد الله كاتبُ المهدىِّ: كُن على التماس الحظ بالسكوتِ أحرصَ منك على التماسه بالكلام، إِنّ البلاء موَكَلٌ بالمنطق.
وقال أبو الدَّرداء: أنْصف أُذنيك مِن فيك، فإنما جُعل لك أُذنان اثنان وفَم واحد لِتسمع أكثر مما تقوله ابن عَوْف عن الحسن، قال: جلسوا عند مُعاوية فتكلّموا وسكت الأحنف فقال مُعاوية: مالك لا تتكلّم أبا بَحْر؟ قال: أخافُك إن صدقتُ، وأخاف الله إن كذبت.

وقال المُهلَّب بن أًبي صُفْرة: لأن أرى لعقل الرجل فضلاً على لسانه أحبُّ إليَّ من أن أرى للسانه فضلا على عقله.
وقال سالم بنُ عبد الملك: فضلُ العَقل عَلَى اللسان مُرُوءة، وفضل اللسان عَلَى العقل هُجْنة.
وقالوا: مَن ضاق صدرُه اتسع لسانُه، ومَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه، ومَن ساء خُلقه قلَّ صديقُه.
وقال هَرم ابن حيّان: صاحبُ الكلام بين إحدى مَنْزلتين، إن قصَّرَ فيه خصم، وإن أَغْرق فيه أَثِم.
وقال شَبيب بن شَيبة: مَن سمع الكلمة يَكرهها فسكتَ عنها انقطع ضرُّها عنه.
وقال أكثمُ بن صَيْفيّ: مَقْتل الرجل بين فَكًيه.
وقال جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنهم:
يَموت الفتَى من عَثْرة بلِسانِه ... وليس يموتُ المرءُ من عَثْرة الرِّجْل
فعثرته مِن فِيه تَرْمِي برأْسه ... وعثرتُه بالرِّجْل تَبرا على مَهْل
وقال الشاعر:
الْحِلم زَيْنٌ والسكُوتُ سلامةٌ ... فإذا نَطقتَ فلا تَكُنْ مكثَارَا
ما إن نَدِمْتُ على سُكُوتي مَرّةً ... لكن نَدِمْتُ على الكلام مِرَارا
وقال لحسن بن هانيء:
خَلّ ِجنبيك لِرَامِي ... واْمض عنه بسَلاَم
مُتْ بداء الصمت خيرٌ ... لك من داء الكلامَ
ربَّ لفظ ساق آجا ... ل فِئَام وفئام
إنما الساِلمُ من أَلْ ... جَم فاهُ بِلِجَام
وقال بعض الحكماء: حَظّي من الصّمت لي ونَفْعُه مَقْصور عَلَيَّ، وحظّي من الكلام لغيري وَوَباله راجع عَليَّ.
وقالوا: إذا أعجبك الكلامُ فاصمُت.
وقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيتَ أن تَصْمُت؟ قال: فمتى أصمُتَ؟ قال: إذا اشتهيتَ أن تتكلّم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أعْطيَ العبدُ شرّا مِن طَلاقة اللّسان.
وسَمِع عبد الله بن الأهتم رجلا يتكلم فيُخْطىء، فقال: بكلامك رُزِق الصمتُ المحبة.

باب في المنطق
قال الذين فَضلوا المنطقَ: إنما بُعثَت الأنبياء بالكلام ولم يُبْعثوا بالسُّكوت. وبالكلام وُصِف فَضْل الصَّمت، ولم يُوصف القولُ بالصمت، وبالكلام يُؤْمر بالمعروف وينْهى عن المُنْكر ويُعظَّم اللهّ ويُسبَّحِ بحمده " ، والبيان من الكلام هو الذي مَنَّ الله به على عِباده، فقال: " خَلَقَ الإنْسَان عَلَّمَهُ البَيَان " . والعِلْم كلُّه لا يُؤدِّيه إلى أَوْعية القُلوب إلا اللسان، فنَفْع المنطق عام لقائله وسامعه " ومن بلّغه " ، ونَفْع الصمتِ خاص بفاعله.
وأَعْدلُ شيء قِيل في الصمت والمَنْطق قولهم: الكلامُ في الخير كلِّه أفضلُ من الصمت، والصمت في الشرِّ كلّه أفضلُ من الكلام.
وقال عبد الله المُبارك صاحبُ الرقائق يَرْثي مالكَ بن أَنس المَدَنيّ:
صَمُوتٌ إذا ما الصمتُ زَيَّنَ أَهلَه ... وفَتِّاق أبكار الكلام المُخَتَّم
وَعَى ما وَعَى القرآنُ من كلِّ حِكْمَة ... وسِيطَت له الآدابُ باللحم والدَّم
وقال عمرُ بن الخطّاب: ترْك الحركة غَفْلة.
وقال بكرُ بن عبد الله المُزنيّ: طُول الصمت حبُسْة.
وقالوا: الصمتُ نَوْم، والكلام يَقَظة.
وقالوا: ما شيء ثًني إلا قَصرُ، إلا الكلام فإنه كلما ثُني طال. " وقال الشاعر:
الصمت ُشيمته فإنْ ... أبْدَى مَقاَلاً كان فَصْلاَ
أَبدَى السكوتَ فإن تك ... لم لم يَدَعْ في القول فَضْلا "
باب في الفصاحة
محمدُ بن سِيرين قال: ما رأيتُ عَلَى آمرأة أجملَ من شَحم، ولا رأيتُ عَلَى رَجُل أجمل من فصاحة.
وقال اللهّ تبارك وٍ تعالى فيما حكاه عنِ نبيّه موسى صلى الله عليه وسلم وآستيحاشه بعدم الفصاحة: " وَأخي هرُون هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناَ فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءَا يُصَدِّقُني " .
آفات المنطق
تكلّمَ ابن السماك يوماً وجارية له تسمع كلامه، فلما دخل قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تردده؛ قال: أردّده ليفهمه من لم يفهمه؛ قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يملّه من فَهِمَه.

" الأصمعي قال " : قال مُعاوية يوماً لجلسائه: أيّ الناس أفصح؟ فقال رجلٌ من السِّماط: يا أميرَ المؤمنين، قوم قد ارتفعوا عن رُتَّة العراق، وتياسَرُوا عن كَشْكشة بكر، وتيامَنُوا عن: شَنْشَنة تَغْلب، ليس فيهم غَمْغمة قُضاعة، ولا طمطمانيّة حِمْير.
قال: مَن هم؟ قال: قومُك يا أميرَ المؤمنين قُريش؛ قال: صدقتَ، فمن أنت؟ قال: مِن جَرْم قال الأصمعيّ: جَرْم فُصْحَى الناس.
وهذا الحديث قد وقَع في فضائل قُريش، وهذا مَوْضعه أيضاً فأعدناه.
قال أبو العباس محمد بن يزيد النَحويّ. التَمتمة في المنطق: التردُّد في التاء، والعُقْلة: هي التواء اللسان عند إرادة الكلام؟ والحُبْسة: تعذُر الكلام عند إرادته؛ واللفف: إدخالُ حَرْف في حَرْف؟ والرُّتة: كالرتَج تمنُع أول الكلام، فإِذا جاء منه شيء اتصل به " . والغَمْغمة: أن تسمع الصوت ولا يَبِين لك تقطيعُ الحروف. وأما الرَتة: فإنها تكون غريزية، وقال الراجز:
يأيُها المُخلّط الأرَتّ
ويقال إنها تكثر في الأشراف. وأما الغَمْغمة: فإنها قد تكون من الكلام وغيره.
لأنها صَوتُ من لا يُفهم تقطيع حرُوفه.
قال عنترة:
" وصاحبِ ناديته فغَمْغما ... يُريدُ لَبيك وما تكلَّما
قد صار من خوف الكلام أَعْجما "
والطمْطمة: أن يكون الكلام مُشْبِهاً لكلام العجم؟ والُّلكنة: أن تَعْترض في الكلام اللغةُ الأعجمية - وسنفسِّر هذا حرفاً حرفاً، وما قيل فيه إن شاء اللّه - واللَّثغة: أن يُعدَل بحَرْف إلى حَرْف؛ والغُنّة: أن يُشرب الحرفُ صوتَ الخَيْشوم؛ والخُنَة: أشد منها؟ والزخيم: حَذْف الكلام؛ والفأفأة: التردد في الفاء: يقال: رجل فأفاء، تقديره فاعال، ونظيره من الكلام ساباط وخاتام، قال الراجز:
يامَيُّ ذات الجَوْرب المنشَقّ ... أخذتِ خاتامِي بغَير حَقِّ
وقال آخر:
ليس بفأفاء ولا تَمتّام ... ولا مُحبٍّ سَقَطَ الكلام
وأما كشْكشة تميم: فإن بني عمرو بن تميم إذا ذَكرتْ كاف المؤنّث فوقفتْ عليها أبدلت منها شينا، لقُرب الشين من الكاف في المخرج، وقال راجزُهم:
هل لكِ أن تَنْتفعي وأنفعش ... فتُدْخلين الَلذْ معي في الَّلذْ مَعَش
وأما كسكسة بكر. فقوم منهم يُبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميون في الشين. وأما طمطمانية حِمْير: ففيها يقول عَنترة:
تَأوي له قُلُص النَّعام كما أوَتْ ... حِزَقٌ يمانِيَةٌ لأعجمَ طِمْطِم
وكان صُهيب أبو يحيى رحمه الله يَرْتضخ لُكْنة روميّة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صُهيب سابق الروم.
وكان عبيد الله بن زياد يرتضخُ لكنة فارسية مِن قِبل زوج أُمه شيرويه الأسواريّ.
وكان زياد الأعجم، وهو رجل من بني عبد القيس. يَرْتضخ لكنة أعجمية، وأنشد المُهلّبَ في مَدْحه إياه:
فتى زاده السُّلتان في الحمد رغبةً ... إذا غيَّر السُّلْتان كلَّ خَليل
بريد السلطان - وذلك أن بين التاء والطاء نسباً، لأن التاء من مخرج الطاء.
وأما الغُنة فتُستحسن من الجارية الحديثة السن. قال ابن الرّقاع " في الظبية " :
تُزْجِي أَغَنّ كأن إبرةَ رَوْقه ... قلمٌ أصابَ من الدَّواة مِدَادها
وقال ابن المُقَفّع: إذا كثر تَقْلِيب الِّلسان رقّت حواشيه ولانت عَذَبته.
وقال العتّابي: إذا حُبس اللسانُ عن الاستعمال اشتدَّت عليه مخارج الحروف.
وقال الراجز:
كأن فيه لفَفَا إذا نطق ... من طُول تَحْبِيس وهمّ وأرَقْ

باب في الإعراب واللحن
أبو عُبَيدة قال: مَرً الشِّعبيُّ بقَوْم من المَوالي يَتذاكرون النحوَ، فقال لهم: لئن أَصْلحتموه إنكم لأوَّل من أفسده.
قال أبو عُبيدة: ليته سَمِع لحنَ صَفْوان وخالد بن صَفْوان وخاقان والفتح بن خاقان والوليدِ بن عبد الملك.
وقال عبد الملك بن مروان: اللحنُ في الكلام أقبح من التَّفتيق في الثوب والجُدَريّ في الوجه.
وقيل له: لقد عَجِل عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين، قال: شَيَّبنى ارتقاءُ المنابر وتوقع اللحن.
وقال الحجَّاج لابن يَعْمَر: أتَسمعني ألحن؟ قال: لا، إلاّ أنه ربما سَبَقكَ لسانُك ببعضه في آن وآن؛ قال: فإذا كان ذلك فعَرِّفني.

وقال المأمون لأبي عليّ المعروف بأبي يَعْلى المِنْقريّ: بلغني أنك أُمِّيّ، وأنك لا تقيم الشِّعر، وأنك تَلحن في كلامك؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أمّا الَّلحن فربما سَبَقني لساني بالشيء منه، وأما الأمِّيَّة وكَسْر الشعر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أًمّياً وكان لا يُنشد الشعر؟ قال المأمون: سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك فزدْتني عَيباً رابعاً، وهو الجهل، ياجاهل، إنّ ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة، وفيك وفي أمثالك نَقيصة، وإنما مُنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لنَفْي الظِّنَّة عنه، لا لِعَيب في الشِّعر والكتاب، وقد قال تبارك وتعالى: " وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لارْتَابَ اْلمُبْطِلُونَ " .
وقال عبدُ الملك بن مروانً: الإعراب جمالٌ للوَضِيع، واللحن هُجْنة على الشَّرِيف.
وقال: تَعلَّموا النحوَ كما تتعلّمون السًّنن والفرائض.
وقال رجلٌ للحسن: إنَّ لنا إماماً يلحن؟ قال: أمِيطوه " عنكم، فإن الإعراب حِلْية الكلام " .
وقال الشاعر:
النَّحوُ يَبْسُط من لسان الأَلْكن ... والمرءُ تُكْرمه إذا لم يَلْحَنِ
فإذا طلبتَ من العُلوم أَجلَّها ... فأَجلُّها منها مُقِيم الألسن
وقال آخر:
النَّحو صَعْب وطويل سُلًمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يَعْلمُهْ
زَلَّتْ به إلى الحَضِيض قَدَمُه ... يُريدُ أن يُعْربه فَيُعْجِمه
وقال رجل للحسن: يا أبو سَعِيد؟ فقال: أحْسَبُ أنّ الدَّوانِق شَغَلتْك عن أن تقول: يا أبا سعيد.
وكان عمرُ بنُ عبد العزيز جالساً عند الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد لَحَّاناً، فقال: ياغلام، ادعُ لي صالح؛ فقال الغلام: ياصالحا؛ قال له الوليد: انُقص ألفاً؛ فقال عمر: وأنت يا أميرَ المؤمنين فزِدْ ألفاً.
ودخل على الوليد بن عبد الملك رجلٌ من أشراف قُريش، فقال له الوليد: من خَتَنَك؟ قال له: فلانٌ اليهودي؛ فقال: ما تقول؟ ويحك! قال: لعلّك إنما تَسْأل عن خَتَني يا أمير المؤمنين، هو فلان بن فلان.
وقال عبدُ الملك بن مروان: أضرّ بنا في الوليد حُبُّنا له، فلم نُلْزمه البادية. وقد يَستثقل الإعرابُ في بعض المواضع كما يستخفّ اللحنُ في بعضها.
وقال مالك بن أسماء بن خارجة الفَزاريّ:
منطقٌ بارعٌ وتَلحنُ أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحنا
وذلك أنه من حَكى نادرةً مُضحكة، وأراد أن يُوفِّي حروفها حظَّها من الإعرِاب، طَمس حُسنها، وأَخرجها عن مِقدارها، ألا ترى أن مُزَبِّدا المَدِينيّ أكل طَعاماَ فكظَّه، فقيل له: أَلا تَقِي؟ قال: وما أَقي؟ خبز نقي ولحم طَرِي؟ مَرَتي طالق، لو وَجدت هذا فيئاً لأكلته.
قال: وكذلك يُستقبح الإعراب في غير موضعه كما استُقبح من عيسى بن عمر إذ قال وابن هُبيرة يَضربه بالسِّياط: واللهّ إن كانت إلا أُثَيَّابا في أُسَيْفاط قَبضها عَشَّاروك.
وحُكي عن بعض المغربين في الَّلحن أن جارية له غنّته:
إذا ما سَمعتُ اللومَ فيها رفضته ... فَيَدْخل من أُذْنٍ ويَخرج مِن أُخرَى
فقال لها: مِن أُخرِى يا فاعلة، أما علّمتِكٍ أن " من " تَخفض؟.
وقال رجل لشُرَيح: ما تقول في رجل توفي وترك أباه وأخيه؟ فقال له: أباه وأخاه؛ فقال: كم لأباه وأخاه؟ قال لأبيه وأخيه؛ قال: أنت علّمتني فما أصْنَع؟ وقال بعضُ الشعراء، وأَدرك عليه رجل من المُتفصّحين يقال له حَفْص لحناً في شِعْره، وكان حَفْص به اختلاف في عَينيه وتَشويه في وجهه، فقال فيه:
لقد كان في عَينيك يا حَفْصً شاغلٌ ... وأنفٌ كمِثْل الطَّود عما تَتَبَّع
تَتَبّع لحناً من كلامٍ مُرَقَّش ... وخَلقْك مبْنيّ من اللَّحْن أَجمع
فعينك إقواء وأنفك مكفأ ... ووجهك إبطاء فما فيك مرقع

باب في اللحن والتصحيف
وكان أبو حَنيفة لَحَّاناً، على أنه كان في الفُتيا ولُطف النَظر واحدَ زمانه. وسأله رجل يوماً فقال له: ما تقول في رجل تناول صَخْرة فضرب بها رأسَ رجل فقَتله، أتُقيده به؟ قال: لا، ولو ضربه بأبا قُبيس.

وكان بِشْر المَرِيسيّ يقول لجلسائه: قَضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجُوه وأهنؤها، فسمع قاسم التَّمّار قوماً يَضْحكون، فقال: هذا كما قال الشاعر:
إنّ سليمى واللّهُ يَكْلؤها ... ضنَّت بشيء ما كان يَرْزَؤها
وبِشر المَرِيسيّ رأْس في الرأْي، وقاسم التَّمّار مُتقدم في أصحاب الكلام، واحتجاجُه لبِشر أعجبُ من لَحْن بِشر.
ودخل شَبِيب بن شَيبة على إسحاق بن عيسى يُعزِّيه عن طِفْل أُصِيب به، فقال في بعض كلامه: أَصْلح الله الأمير، إنّ الطفل لا يزال مُحْبنظيا على باب الجنة يقول: لا أدْخل حتى يَدخل أبواي، قال إسحاق بن عيسى: سبحان اللّه! ماذا جئتَ به؟ إنما هو مُحْبنطى، أما سمعتَ قول الراجز:
إني إذا أنشدتُ لا أَحبنطي ... ولا أُحِبُّ كثرةَ التمطِّي
قال شَبيب: ألي يقال مثل هذا وما بين لا بتَيها أعلم مني بها؟ فقال له إسحاق: وهذه أيضاً، أللبصرةَ لابتان يالُكع؟ فأبان بتَقريعه عَوَاره، فأخجله فسكت.
قوله المُحبنطي: المُمتنع امتناع طلب لا امتناع إباء، وهو بالطاء غير معجمة، ورواه شبيب بالظاء المعجمة. وقوله ما بين لا بتَيْها، خطأ، إذ ليس للبصرة لابتان، وإنما اللابة للمدينة والكوفة. واللابة: الحرّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود.

نوادر من الكلام
يقال: ماء نُقاخ، للماء العذب؟ وماء فُرات، وهو أعذب العذب؛ وماء قُعَاع، وهو شديد المُلوحة؛ وماء حُراق، وهو الذي يَحرق من مُلوحته، وماء شرُوب، وهو دون العَذب قليلاً؛ وماء مَسُوس، وهو دون الشَرُوب، وماء شَريب، وهو العذب.
اجتمع المُفضَّل الضّبي وعبدُ الملك بن قرَيب الأصمعي، فأنشد المُفضل:
تُصْمت بالملك تَوْلباً جَذَعا
فقال له الأسمعي: تولباً جَدِعاً، والجَدِع: السيء الغذاء. فضَجَّ المفَضّل وأَكثر؛ فقال له الأصمعي: لو نَفخت في الشَّبُّور ما نفعك، تكلّم بكلام الئمل وأَصِب.
وقال مروان بن أبي حَفْصة في قوم من رُواة الشعر لا يعَلمون ما هو على كثرة استكثارهم من روايته:
زَوامل للأشعار لا عِلْم عندهم ... بجيِّدها إلاِّ كعِلْم الأباعرِ
لَعمرك ما يَدْري البَعير إذا غدا ... بأوْساقه أو راح ما في الغرائر
باب نوادر من النحو
قال الخليلِ بن أحمد: أنشدني أعرابيّ:
وإنَّ كِلاباً هذه عَشْر أَبطُنٍ ... وأنت بَرِىء من قَبائلها العَشْرِ
قال: فجعلتُ أعجب من قوله عَشْرَ أَبطُن " حيث أنث، لأنه عَنَى القبيلة " فلما رأَى عَجبي، قال: أليس هكذا قولُ الآخر:
وكان مِجَنّي دون من كنتُ أَتَّقي ... ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصرُ
وقال أبو زيد قلتُ للخليل: لم قالوا في تَصْغير واصل: أو يصل، ولم يقولوا وُوَيصل؟ قال: كرهوا أن يُشبه كلامُهم بنبح الكلاب.
وقال أبو الأسود الدُّؤَلي: من العرب من يقول: لولاى لكان كذا وكذا. وقال الشاعر:
وكم مَوطنٍ لولاي طِحْتَ كما هَوي ... بأَجْرامه من قنّة النِّيق مُنْهوِي
وكذلكَ لولا أنتم ولولاكم، ابتداءٌ وخبره محذوف.
وقال أبو زيد: وراء وقُدَّام لا يصرفان لأنهما مؤنثان، وتَصغير قدَّام قُدَّيْدمة وتصغير وراء وُرَيِّئة، وقدَّام خمسة أحرف، لأن الدال مشدَّدة: فأسقطوا الألف لأنها زائدة، ولئلا يُصغر اسم على خمسة أحرف.
أبو حاتم قال: يقال أمٌّ بيِّنة الأمومة: وعمٌّ بين العُمومة. ويقال: مَأموم، إِذ شُج أم رأسه. ورجل مَمُوم: إذأ أصابه المُوم.
وقال المازنيّ. يقال في حَسب الرجل أُرْفة ووَصمة وابنة، وكذلك يقال للعصا إذا كان فيها عيب. ويقال: قذِيَت عينهُ، إذا أصاجها الرَّمد. وقد يقال في التقديم والتأخير مثلُ قول الشاعر:
شَرَّ يوميها وأغواه لها ... رَكِبتْ عَنْز بحِدْج حَملاَ
يريد: ركبت عَنْز " بحِدْج جملا في شرِّ يوميها: نصب لأنه ظرف.
وقد يُسمى الشيء باسم الشيء إذا جاوره. قال الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قَمراها والنجومُ الطَّوالعُ
قوله: لنا قَمراها: يريد الشمس والقمر.
وكذلك قولُ الناس في العُمرين: أبي بكر وعمر.
الرِّياشي: يقال أخذ قِضِّتها وكُعْبتها، إذا أخذ عُذرتها.

قال أبو عُبيدة: المَعيون الذي ليس له منظر ولا مخبر، والمَعين - الذي قد أصيب بالعين. والمعين: الماء الظاهر.
أبو عُبيدة قال: سمعت رُؤبة يقول: أباريق، يريد على الريق.
الأصمعي قال: لقي أبو عمرو بن العلاء عيسى بن عمر. فقال له: كيف رَحْلك؟ قال: ما تزداد إلا مثَالة؛ قال: فما هذه المَعيوراء التي تَرْكض، يريد ما هذه الحمير التي تَركب.
يقال: مَعيوراء ومَشْيوخاء ومَعْبوداء.
قال الأصمعي: إنما يُقال: اقرأ عليه السلام. وأنشد:
اقرأ على عَصْر الشَّباب تحية ... وإذا لقيتَ دداً فَقطْنى من دَدِ
وقال الفرزدق:
وما سبق القيسيُّ من ضَعف عَقله ... ولكن طَفَت عَلْماء قُلْفة خالدِ
" أراد: على الماء، فحذف " . وهذا آخر كتاب سيبويه. وقال بعض الورَّاقين:
رأيتُ يا حمَّاد في الصَّيد ... أرانباً تؤخذ بالأيْدِي
إن ذَوي النَّحو لهم أنفسٌ ... مَعروفة بالمَكْر والكيد
يَضرب عبد الله زيداً وما ... يُريد عبد الله من زيد؟
وأنشد أبو زيد الأنصاري:
يا قرطَ قُرْطَ حُيَيّ لا أبالكمُ ... ياقُرطُ إنّي عليكم خائفٌ حَذرُ
قُلتُمٍ له اهجُ تَميماً لا أبا لكم ... في فَم قائِل هذا التُّرابُ والحَجَر
فإن بيتَ تميم ذو سمعتَ به ... بيتٌ به رَأست في عِزِّها مُضر
ذو هنا في مكان الذي، لا يتغيّر عن حاله في جميع الإعراب. وهذه لغة طيء تجعل ذو في مكان الذي.
وقال الحسن بن هانئ:
حُبًّ المُدَامة ذو سمعتَ به ... لم يُبق فيّ لغيرها فَضلاَ
وبعضُ العرب يقول: لا أباك في مكان لا أبا لك، " ولأن أبا لك " مضاف. لذلك بقيت الألف، ولو كانت غير مُعربة لقلت: لا أبَ لك، بغير ألف: وليس في الإضافة شيء يُشبه هذا لأنه حالَ بين المُضاف والمضاف إليه وقال الشاعر:
أبالموت الذي لا بدُ أني ... مًلاقٍ لا أباكِ تُخَوِّفينِي
وقال آخر:
وقد مات شَمَّاح ومات مُزَرِّد ... وأَيّ كريم لا أباكِ يُخلَّدُ
وأنشد الفرَّاء لابن مالك العُقيليّ:
إذا أنا لم أُومَن عليك ولم يَكُن ... لقاؤُك إلا من وراءُ وراءُ
هذا مثل قولهم: بين بين.
وقال محمود الوراق:
مزَج للصدودُ وصالهنّ فكان أمراً بَيْنَ بَيْنَ
وقال الفرزدق:
وإذا الرّجال رأوا يزيدَ رأيتهم ... خُضُعَ الرِّقاب نواكسَ الأبصارِ
قال أبو العبّاس محمد بن يزيد النَّحويّ: في هذا البيت شيء مُسْتطرف عند أهل النَّحو. وذلك أنه جمع فاعل على فواعل، وإذا كان هكَذا لم يكن بين المُذكر والمُؤنث فَرْق، لأنك تقول: ضاربة وضوارب، ولا يقال في المذكر فواعل إلا في موضعين، وذلك قولهم: فوارس وهوالك، ولكنّه اضطر في الشّعر فأخرجه عن الأصل ولولا الضرورة ما جاز له.
وقال أبو غَسَّان " رَفيع بن سَلَمة " تلميِذ أبي عُبيدة " المعروف بدَمَاذ، يخاطب أبا عثمان النحويَّ المازنيّ " :
تَفكَّرْتُ في النَّحو حتى مَلِل ... تُ وأَتعبتُ نفسي له والبَدنْ
وأتعبْت بَكْراً وأصحابَه ... بكلّ المَسائل في كلّ فَن
سِوَى أنَّ باباً عليه العَفا ... ءُ لِلْفاء ياليتَهُ لم يَكُن
فكنتُ بظاهره عالماً ... وكنتُ بباطِنه ذا فَطَن
وللواو بابٌ إلى جَنْبه ... من المَقْت أحسبُهُ قد لُعن
إذا قلتُ هاتُوا لما يُقا ... ل لستُ بآتيك أو تَأتين
" أَجِيبُوا لما قِيلَ هذا كذا ... على النَّصب قالُوا لإضمارِ أن
وما إنْ رأيتُ لها مَوْضعاً ... فأَعْرفَ ما قِيلَ إلاّ بفن
فقد خِفْتُ يا بكرُ من طُولِ ما ... أُفكِّر في أَمْر " أَن " أو أُجَن "

باب في الغريب والتقعيب

دخل أبو عَلْقمة على أَعْينَ الطبيب، فقال: أصلحك الله، أَكلتُ من لحوم هذه الجَوازل وطَسِئْت طَسْأَة فأصابني وَجَعٌ بين الوابلة ودأية العُنق، فلم يزل يَنْمو ويَرْبُو حتى خالَطَ الخِلْب والشَّراسيف، فهل عندك دواء؟ قال: نعم، خذ خَرْبَقاً وسلفقاً وشِبْرقاً فزَهْزِقه " وزَقْزقه " و اغسله بماء ذَوْب واشربه؛ فقال له أبو عَلقمة: لم أفهمكَ، فقال: ما أفهمتُك إلاَّ كما أَفهمتني.
وقال له مرّة أُخرى: إني أجد مَعْمعة وقَرْقرة؛ فقال: أمّا معمعة فلا أعرفها، وأما القرقرة: فضُراط لم يَنْضَج.
وقال أبو الأسوَد الدّؤلي لأبي عَلْقمة: ما حال ابنك؟ قال: أخذته الحمَّى فطَبَختْه طبخاً، ورَضَخته رَضْخاً، " وفَتَخته فَتْخاً " فتركته فَرْخاً؛ قال: فما فعلت زوجتُه التي كانت تُشارّه وتُهارّه وُتمارّه وتزارّه؟ قال: طَلَّقها. فتزوَّجت بعده فَحَظِيت وبظَيت؟ فقال له: قد عَرفنا " حَظِيت " فما " بظَيت " ؟ قال: حرف من الغريب لم يَبْلغك؛ فقال: يابن أخي، كل حَرْف لا يعرفه عمُّك فاستره كما تَستر السِّنور خُرْأها.
ودعا أبو عَلْقمة بحَجَّام يَحْجِمهُ فقال له: أنْقِ غَسْلَ المحاجم، واشدُد قصب المَلازم، وأرْهف ظُبات المشَارِط، وأسْرع الوضْع، وَعجِّل النَّزع، ولْيكُن شَرْطُكم وَخْزا، ومَصَّك نَهْزا، ولا تَرُدَّن آتياَ، ولا تُكْرِهن آبياً. فوضع الحجّام مَحاجمه في جُونته ومضى عنه.
وسَمِع أعرابيّ أبا المَكْنون النَّحوي " في حَلْقته " وهو يقول في دعاء الاستسقاء: اللهم ربنا وإلهنا ومولانا فصلِّ على محمد نبيّنا، " اللهم " ومن أراد بنا سُوءا فأحِطْ ذلك السوء به كإِحاطة القلائد بأعناق الولائد، ثم أَرْسخه على هامَتِه، كرسُوخ السِّجِّيل على هام أصحاب الفيل، اللهم اسقنا غَيْثاً مُغيثا " مَرِيئا " مَرِيعا مُجلْجلا مُسْحَنفرا " هَزِجا " سَحَّا سفُوحا طَبَقا غَدقا مُثْعَنْجرا، ناقعا لعامَّتنا، وغيرَ ضار لخاصَّتنا. فقال الأعرابيّ: يا خليفة نوح هذا الطًّوفان وربِّ الكعبة، دعني حتى آوي إلى جَبَل يَعْصمني من الماء.
وسَمعه مرة أخرى يقول في يوم برد: إن هذا يوم بلّة عَصبْصب بارد هِلَّوْف، فارتعد الأعرابي وقال: واللّه هذا مما يَزيدني بردا.
وخطب أبو بكر المَنْكور فأغرب في خُطبته وتقَعَّر في كلامه، وعند أصل المِنبر رجلٌ من أهل الكوفة يقال له حَنش، فقال لرجل إلى جَنبه: إني لأبغض الخطيب يكون فَصيحاً بليغاً مًتَقعِّراً. وسمعه أبو بكر المنكور الخطيبُ،. فقال له: ما أحوجك يا حنش إلى مُدَحْرج مَفْتول لي الجلاز لَدْن المَهزّة عظيم الثّمرة، تُؤخذ به من مَغْرِز العنق إلى عَجْب الذًنب " فتُعلَى به " فتَكْثُر له رقصاتُك من غير جَذل.
وقال حبيب الطائي:
فما لك بالغريب يدٌ ولكن ... تَعاطيكَ الغَرِيبَ من الغَرِيبِ
أمَا لو أن جهلك عاد عِلْما ... إذاً لرسختَ في عِلْم الغُيوب
ومن قولنا نَمدح رجلا باستسهال اللفظ وحُسن الكلام:
قَولٌ كأن فَرِيدَه ... لسِحْر على ذهن الَّلبيب
لا يَشمئز على اللّسا ... نِ ولا يَشِذّ عن القُلوب
لم يَغْلُ في شَنِع الًّلغا ... تِ ولا توَحّش بالغريب
سَيف تَقَلّد مثْلَهُ ... عَطْفَ القَضيب على القَضيب
هذا تُجَذّ بهِ الرِّقَا ... بُ وَذا تُجَذّ به الخُطُوب

باب في تكليف الرجل ما ليس من طبعه
قالوا: ليس الفِقْه بالتفقُه، ولا الفَصاحة بالتفصُّح، لأنه لا يَزيد مُتَزيّد في كلامه إلا لنَقْص يَجده في نَفْسه. ومما اتفقت عليه العربُ والعجمُ قولهم: الطَّبع أمْلك. وقال حَفْص بنُ النُّعمان: المَرْء يَصْنع نَفْسه فمتى ما تَبْلًهُ يَنْزع إلى العِرْق.
وقال العَرْجيّ:
يأيها المُتحلَي غيرَ شيمته ... ومِن شَمَائله التَّبديلُ والمَلَقُ
ارْجع إلى خِيمك المَعروف دَيْدَنُة ... إنَّ التخلّق يأتي دُونه الخُلُق
وقال آخر:
وَمَن يَبتدع ما ليس مِن خِيم نَفْسه ... يَدَعْه ويَغْلِبه على النَّفس خِيمُها
وقال آخر:
كلُّ امرىءٍ راجِعٌ يوماً لِشِيمَته ... وإنْ تَخَلًقَ أخلاقاً إلى حِين

وقال الخرَيمي:
يُلاَم أبو الفَضل في جُوده ... وهَلْ يَمْلِك البَحرُ أَلاّ يَفِيضَا
وقال أبو الأسود الدُّؤلي:
ولائمةٍ لامَتكَ يا فَيْضُ في النَّدَى ... فقُلْتُ لها هل يَقْدَح اللَّوْمُ في البَحْرِ
أَرَادَتْ لتَثْني الفَيْضَ عن عادة النَّدَى ... ومَن ذا الذي يَثْنى السحابَ عن القَطْرِ
وقالَ حَبيب:
تَعَوَّد بَسْط الكفِّ حتى لَوَ انه ... ثَناها لِقَبْضٍ لم تُجبْه أَنامِلُه
وقال آخر:
وقَفَّعَ أطرافَهم قَبْضُها ... فإنْ طَلبُوا بَسطها تَنْكَسِرْ
وقالوا: إن مَلِكاً من ملوك فارس كان له وزير حازم مُجرِّب، فكان يُصْدِر عن رأيه، ويَتعرف اليُمْن في مَشُورته، ثم إنّه هَلَكَ ذلك الملكُ، وقام بعده ولدٌ له مُعجَب بنفسه مًستبدٌّ برأيه، " فلم يُنزل ذلك الوزيرَ منزلته ولا آهْتَبل رأيَه " ومَشورته، فَقيل له: إن أباك كان لا يَقِطع أمراً دونه، فقال: كان يَغْلَط فيه وسأمتحنه بنَفْسي. فأرسل إليه، فقال له: أيّهما أغْلبُ على الرجل: الأدبُ أو الطبيعة؟ فقال له الوزير: الطبيعةً أغلبُ، لأنها أصلٌ والأدب فَرْعٌ، وكلّ فَرْع يَرْجع إلى أصله. فدعا " الملكُ " بسُفرته، فلما وُضعت أقبلت سَنانيرُ بأَيديها الشَّمعُ، فوقفت حول السُّفرة، فقال للوزير: اعتبر خَطَأَكَ وضَعْفَ مَذْهبك، متى كان أبو هذه السنانير شَمَّاعاً. فسكت عنه الوزير، وقال: أَمْهلني في الجواب إلى الليلة المُقبلة؛ فقال: ذلك لك. فخَرج الوزيرُ، فدعا بغُلام له، فقال: التمسْ لي فأْراً واربطه في خَيط وجئْني به؛ فأتاه به الغلامُ، فعقده في سَبَنِيَّة وطرحه في كُمّه، ثم راح من الغد إلى الملك، فلما حضرت سُفرته أقبلت السنانير بالشَّمع حتى حَفّت بها، فحلّ الوزيرُ الفأرَ من سَبنيَّته، ثم ألقاه إليها، فاستبقت السنانيرُ إليه ورَمت الشمعَ حتى كاد البيتُ يضطرم عليهم ناراً. فقال الوزيرُ: كيف رأيتَ غَلَبة الطَّبيعة على الأدب، ورُجوعَ الفَرْع إلى أصله؟ قال: صدقت، ورجع إلى ما كان أبوه عليه معه، فإنما مَدار كل شيء على طبعه، والتكلُّف مَذْموم من كل وجه. قال الله " تبارك وتعالى " لنبيّه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: " ومَا أَنَا مِنَ المُتَكلِّفين " . وقالوا: من تَطبّعِ بغير طبعه نَزَعَتْه العادةُ حتى تردَّه إلى طَبْعه، كما أنّ الماءَ إذا أَسْخَنته ثم تركته " ساعة " عاد إلى طَبعه من البرودة، والشجرةَ المُرّة لو طليتها بالعسل لا تُثمر إلا مُرًّا.

باب في ترك المشاراة والمماراة
دخل السّائبِ بن صَيْفيّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أَتعرفني يا رسول اللهّ؟ قال: وكيف لا أعرف شريكي في الجاهليَّة الذي كان لا يُشارى ولا يُمارى. وقال ابن المُقفَّع: المُشاراة والمُماراة يُفْسدان الصَّداقة القديمة، ويَحُلان العقدة الوثيقة، وأيسر ما فيها أنهما ذَرِيعة إلى المُنافسة والمُغالبة. وقال عبدُ الرحمن بنُ أبي ليْلى: لا تُمارِ أخاك فإمّا أن تُغْضِبه وإما أن تَكْذِبه. وقال الشاعر:
فإيَّاك إيَّاك المِرَاءَ فإنه ... إلى السَّبّ دَعّاءٌ وللصَّرْم جالبُ
وقال عبد الله بن عَبّاس: لا تُمار فقيهاً ولا سَفيهاً، فإنّ الفقيهَ يَغلبك والسفيه يُؤذيك. وقال صلى الله عليه وسلم: سِبَاب المُؤمن فُسوق وقِتاله كُفْر.
باب في سوء الأدب

دخل عُرْوة بن مَسعود الثَقفيّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يُحدَثه ويُشير بيده إليه حتى تَمسّ لحيته، والمُغيرة بن شُعبة واقفٌ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده السيفُ، فقال له: اقبض يدك عن لِحْيَة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك. فَقبض عُروة يده. وعُروة هذا " هو " عظيم القريتين الذي قالت " فيه " قريش: لَولا نُزِّل هذا القرآنُ على رجُل من القَرْيتين عظيم. ويقال إنه الوليد بن المغيرة المخزوميّ. ولما قَدِم وفدُ تميم على النبي صلى الله عليه وسلم ناداه رجل " منهم " من وراء الجدار: يا محمد، اخرج إلينا. فأنزل الله تعالى: " إنّ الذينَ يُنَادُونَكَ مِن ورَاء الحُجُراتِ أكثرُهم لا يَعْقِلُون " . وفي قراءة ابن مسعود: " بنو تميمٍ أكثرُهم لا يَعْقلون " . وأنزل الله في ذلك: " لا تَجْعَلوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَينَكم كدُعاء بَعْضكم بَعْضاً " .
ونظر أبو بكر " الصدِّيق رضي الله عنه إلى " رجل يَبيع ثَوْباً، فقال له: أتبيع الثوبَ؟ قال: لا عافاك اللهّ، قال: لقد علمتم لو تتعلّمون! قل: لا وعافاك اللّه.
وخطب الحسن في دَم. فأجابه صاحب الدم، فقال: قد وضعتُ ذلك الدم للّه ولوُجوهكم. قال له الحسن: ألا قلت: قد وضعتُ ذلك للّه خالصاً؟ وذكر إعرابيّ رجلاً بسوء الأدب فقال: إن حدّثتَه سابقَك إلى ذلك الحديث، وإن تركتَه أخذ في الترَّهات. ودخل بعضُ الرُّوَاة على المَهديّ، فقال له. أنشدني قولَ زُهير:
لمن الدِّيار بقُنَة الحِجْرِ
فأنشدها حتى أتى على آخرها. فقال له المهديُّ: ذَهب واللّه مَن كان يقول هذا؛ فقال له: كما ذَهب واللّه من يُقال فيه. فاستجهله واستَحمقَه. ولما رَفع قُطْرُبٌ النحوي كتابه في القران إلى المأمون، أمرَ له بجائزة، وأذن له. فلما دخل عليه قال: قد كانت عِدَةُ أمير المؤمنين أرفع من جائزته. فغَضب المأمون وهَمَّ به. فقال له سهل بن هارون: يا أمير المؤمنين: إنه لم يَقُل بذات نَفْسه، وإنما غَلب عليه الحَصرَ. ألا تراه كيف يَرْشَح جبينُه ويكْسِر أصابعه، فَسَكَن غضبُ المأمون واستجهله واستحمقه وكان الحسنُ اللؤلئيّ ليلةً عند المؤمون بالرقَّة وهو يُسامره، إذ نَعَس المأمونً والحسن يُحَدِّثه، فقال له: نَعَست يا أمير المؤمنين. فانتبه فقال: سُوقيٌ وربِّ الكعبة، يا غلام خُذ بيده. ودخل أبو النًجْم على هشام بن عبد الملك بأرْجوزته التي أوّلها:
الحمد للّه الوَهُوب المُجْزِل
وهي من أجود شِعْره. " فاستحسنها هشام وأصغى إليها " فلما أتى على قوله:
والشمسُ في الجوِّ كعَيْن الأحْول
غَضب هشام وكان أحولَ، فأَمر بصفْع قَفاه وإخراجه.
ودخل كُثَيِّر عَزّة على يَزيد بن عبد الملك، فبينا هو يُحدِّثه إذ قال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قول الشَّمَّاخ:
إذا الأرْطَى تَوَسَّد أبرديْه ... خُدُودُ جوازيء بالرمْل عِينِ
فقال له يزيد: وماذا على أمير المؤمنين ألا يعرفَ ما قال هذا الإعرابيّ الجِلْف مثلُك، واستحمقه وأمر بإخْراجه. ودخل كُثَيِّر عَزّة على عبد العزيز بن مَرْوَان فأنشده مِدحَته التي يقول فيها:
وأنتَ فلا تُفْقَدْ ولا زال مِنْكًم ... إمامٌ يُحيَّا في حِجَاب مُسَدَّنِ
أشَمُّ منَ الغادين في كُلِّ حُلَّة ... يَميسون في صَبْغ من العَصب مُتْقن
لهم أُزُرٌ حُمْرُ الحَواشي يَطَوْنَها ... بأقدامِهم في الحَضرميّ المُلَسَّن
فاستَحْسنَها وقال له: سَلْ حاجَتك؟ فقال: تُولَيني مكانَ ابن رُمَّانة كاتبك؛ فقال له: ويلك! ذا كاتبٌ وأنت شاعر، فكيف تَقوم مَقامه وتَسُد مَسدَّه؟ فلما خرج من عنده ندم وقال:
عَجِبتُ لأخذِي خَطَة العَجْز بعدما ... تَبَينَّ من عبد العزيز قَبُولُها
لئن عاد عبدُ العزيز بمثْلها ... وأَمْكنني منها إذاً لا أقولها

ووقف الأحنف بنُ قيس ومحمدٌ بن الأشعث بباب معاوية، فأذِن للأحنف ثم لمحمد بن الأشعث، فأسرع محمدٌ في مشْيته حتى دَخل قبل الأحنف. فلما رآه مُعاوية قال له: والله إنِّي ما أذنتُ له قبلَك وأنا أريد أن تَدْخل قبلَه، وإنّا كما نَلى أمورَكم كذلك نلى أدبكم، ولا يزيد مُتَزَيِّد في أمره إلا لنقْص يجده في نَفْسِه. وقال عبدُ الملك بن مروان: ثلاثة لا يَنبغي للعاقل أن يَستخِفَّ بهم: العُلماء والسُّلطان والإخْوان. فمن اْستخفَّ بالعُلماء أفْسد دينَه، ومَن استخفَّ بالسُّلطان أفسد دُنياه، ومن استخفَّ بالإخوان أفسد مرُوءته.
وقال أبو الزِّناد: كنتُ كاتباً لعُمر بن عبد العزيز، فكان يكتب إلى عبد الحميد عامله على المدينة في المَظالم فيُراجعه فيها، فكتَب " إليه " : إنه يُخيَّل إلي أَنِّي لو كتبتُ إليك أن تُعطِي رجلاً شاةٍ، لكتبتَ إليّ: أضأنا أم مَعزاً؟ ولو كتبتُ إليك بأحدهما لكتبتَ إليَّ: أذكراً أم أنثى؟ ولو كتبتُ إليك بأحدهما لكتبت: أصغيراً أم كبيراً؟ فإذا كتبتُ إليك في مَظْلمة " فنَفِّذ أمري " ولا تراجعني فيها. وكتب أبو جعفر إلى سَلْم بن قُتيبة، يأمره بهَدْم دور مَن خَرج مع إبراهيم " بن عبد الله " ، وعَقْر نخلهم، فكتب إليه: بأيّ ذلك تَبدأ، بالدُّور أو بالنّخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: إنِّي لو أمرتك بإفساد تَمرهم، لكتبتَ: بأيّ ذلك نبدأ؟ بالصَّيْحاني أم بالبَرْنِيّ؟ وعَزله وولّى محمد بن سليمان. " ولمحمود الورّاق:
كم قد رأيتَ مَساءةً ... من حيثُ تَطْمع أن تُسَرّا
ولربما طَلب الفَتى ... لأخيه مَنْفعة فَضَرا "
ودخل عَدِيّ بن أرْطأة على شرَيح القاضي، فقال له: أين أنت أصلحك اللّه؟ قال: بينك وبين الحائط، قال: اسمع منِّي؛ قال: قُلْ نَسمع؛ قال: إني رَجل من أهل الشام، قال: مكان سَحيق، قال: وتزوّجتُ عندكم، قال: بالرِّفاء والبَنين؛ قال: وأردتُ أن أرحِّلها؟ قال: الرَّجلُ أحقُّ بأهله؟ قال: وشرَطتُ لها دارها؛ قال: الشَرْط أَمْلك؛ قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلتُ، قال: فعلى مَن حكمتَ؟ قال: على ابن أمّك، قال: بشهادة من؟ قال بشهادة ابن أخت خالتك - أراد شُريح إقرارَه على نفسه بالشَّرْطِ - وكان شِريح صاحب تعريض عويص. ودخل شريك بنُ عبد الله على إسماعيل وهو يتَبخَر بعود، فقال للخادم: جئنا بعود لأبي عبد الله. فجاء بِبَربط، فقال له إسماعيل: اكْسِرْه، " ويلك " ! وقال لشَريك: أخَذُوا البارحةَ في الحرس رجلاً ومعه هذا البَرْبط. وقال بعض الشعراء في عيّ الخادم:
وَمَتَى أدْعها بكأْسٍ من الما ... ء أتَتْني بصَحْفَة وزبِيبِ
وقال حَبيبٌ في بني تَغْلِب من أهل الجَزِيرة يَصفُهم بالجفاء وقِلَةِ الأدب مع كرم النُّفوس:
لا رِقَّةُ الحَضَرِ اللَّطيف غَذَتْهمُ ... وتَباعدُوا عن فِطْنة الأعْراب
فإذا كشفتَهمُ وجدتَ لديهمُ ... كَرَم النُّفوس وقِلَّة الآدابَ
وكان فَتًى يُجالسُ الشَّعْبيّ، وكان كثيرَ الصَّمت، فالتفت إلى الشَّعبيّ، فقال له: إني لأجد في قَفاي حِكِّة أفتأمُرني بالحِجامة؟ فقال الشَعبِيُّ: الحمدُ لله الذي حوَلنا من الفِقْه إلى الحِجامة. " قال: وأتى أحمدَ بن الخَصيب بعضُ المتظلّمين يوماً، فأخرج رِجْلَه من الرِّكاب فَركله بها. فقال فيه الشاعر:
قلْ للخليفَةِ يابن عَمِّ محمدٍ ... اشْكُل وزيرَك إنَّه رَكَّالُ "
وبعثَ رجلٌ من التّجار وكيلاً له إلى رَجل من الأشراف يَقْتضيه مالاً عليه، فَرَجَع إليه مَضروباَ فقال له: ويلك! مالك؟ قال: سَبك فسببته، فضَرَبَني. قال: وما قال لك؟ قال قال: أدخَل الله هَنَ الحِمار في حِرِ أمَ مَن أرسلك؛ قال: دَعْني مِن افترائه عليّ وسَبّه لي، وأخبرني كيف جعلتَ أنتَ لأيْرِ الحِمار من الحُرْمة ما لمِ تجعله لِحِر أمّ مَن أرسلك؟ هلا قلتَ: أيْر الحِمار في هَنِ أم مَن أرْسلك؟

باب في تحنك الفتى
قِيلَ لعُمَر بن الخطَّاب: إِن فُلاناً لا يَعْرِف الشَر. قال: ذلك أحْرَى أن يَقَع فيه. وقال سُفْيان الثَورِيّ: مَن لم يُحْسن أن يَتفتَى لم يُحسن أن يَتَقَرَّى. وقال عمرو بن العاص: ليس العاقلُ الذي يعرف الخيرَ من الشر، إنما العاقلُ الذي يَعرف خيَر الشرَّين. ومثل ذلك قول الشاعر:

رَضِيتُ ببعض الذل خوفَ جَمِيعه ... كذلك بعضُ الشَر أهونُ من بعض
وسُئِل المُغيرة بن شُعبة عن عُمَر بن الخَطّاب " رضي الله عنه " فقال: كان واللّه له فَضْلٌ يمنعه من أن يَخدع، وعَقل يَمنعه من أن يَنخدع. قال إياس: لستُ بِخَبّ والخب لا يَخْدعني. وتَجادَل إياس والحَسنُ - وكان الحَسنُ يَرى كلَّ مُسْلم جائزَ الشهادة حتى تَظْهر عليه سَقْطةٌ أو يُجَرِّحه المشهود عليه، وكان إِياسٌ لا يَرى ذلك - فأقبلَ رجلٌ إلى الحَسن، فقال: إنّ إياساَ رَدّ شهادتي. فقام معه الحسنُ إليه، فقال: أبا وائلة، لمَ رددت شهادة هذا المُسلم؟ فقد قال صلى الله عليه وسلم: من صلى إلى قبلتتا فهو المُسلم، له مالنا وعليه ما علينا؛ فقال له إياسٌ: يا أبا سَعيد، يقولُ الله تعالى: " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداء " وهذا ممن لا نَرْضاه.
وكان عامرُ بنُ عبد الله بن الزًبَير في غاية الفَضْل والدِّين، وكان لا يَعْرف الشرًّ،فبينا هو جالسٌ في المَسْجِد، إذ أتي بعَطائه، فقام إلى مَنْزله فَنَسيه. فلما صار في بَيْته ذَكَره، فقال لخادمه: اذهبْ إلى المَسْجد فائْتني بعَطائي؛ فقال له: وأين نجِده؟ قال سُبحان اللّه! أو بَقي أحدٌ يَأخذ ما ليس له؟ وقال أيُّوب: مِن أصحابي مَن ارتجى بركةَ دُعائِه ولا أقْبل شهادَته. وذًكِرت فاطمةُ بنتُ الحُسين عليهما السلامُ عند عُمَر بن عبد العَزيز وكان لها مُعظِّماً، فقيل إنها لا تَعْرِف الشَّرَّ، فقال عُمر: عَدمُ مَعْرِفتها بالشرِّ جَنَبها الشَّرً.
وكانوا يَسْتَحْسِنُون الحُنْكة للفَتى والصَّبْوة للحَدَث، ويَكرهون الشَّيب قبل أوانه، وُيشَبِّهون ذلك بيُبوسِ الثَّمرة قبل نُضْجها، وأنِّ ذلك لا يَكُون إلا مِن ضرَر فيها. فأنفع الإخوانِ مجلساَ، وأكرمُهم عِشْرةً، وأشدُهم حِذقاً، وأنبَهُهم نَفْساَ، مَن لم يكن بالشاطِر المُتَفَتِّك، ولا الزًاهِد المتنَسِّك، ولا الماجن المتَظَرِّف، ولا العابد المتقَشِّف، ولكن كما قال الشاعر:
يا هِنْدً هَلْ لك في شَيْخٍ فَتًى أبداً ... وقد يكونُ شبابٌ غير فِتْيانِ
وقال آخر:
وفتًى وهْوَ قد أَنافَ عَلى الْخم ... سِينَ يَلْقالك في ثيابِ غلام
وقال آخر:
فَلِلنُّسْكِ مني جانبٌ لا أًضِيعُه ... وللَهْو مني والبَطالة جانبُ
وقال حَبيب:
كهْلُ الأناةِ فَتى الشَّذاة إذا عَدا ... للرَّوْع كان القَشْعَمَ الغِطْرِيفَا
ومن قولنا " في هذا المعنى " :
إذا جالسَ الفِتْيانَ ألفيتَه فتًى ... وجالسَ كَهْلَ الناس ألفيتَه كهْلاَ
ونظيرُه قول ابن حِطّان:
يوماً يَمانٍ إذا لاقيتَ ذا يَمن ... وإن لَهقيت مَعديا فَعَدْناني
وقولُ عمران بن حِطّان هذا هذا يَحتمل غيرَ هذا المعنى، إلا أنّ هذا أقربُ إليه وأشبهُ به، لأنّه أراد أنه مع اليَمانيّ يمانيّ، ومَع العَدناني عدناني، فيُحتمل أنّ ذلك لخوف منه أو مُساعدة، وكل ذلك داخلٌ في باب الحُنْكة والحِذْق والتَجْربة.
وقالوا: اصحبْ البَرَّ لتتأسَى به، والفاجرَ لتتحنَك به. وقالوا: مَن لم يَصْحب البر والفاجرَ " ولم " يؤدّبه الرَّخاءُ والشِّدة مَرة، ولم يَخْرج منِ الظّل إلى الشَمس مَرة فلا تَرْجُه. ومن هذا قولهم: حَلب فلانٌ الدهرَ أشْطُره، وشرِبَ أفاويقَه، إذ فَهِمَ خيرَه وشرَّه، فإذا نَزَلَ به الغِنى عَرَفه " ولم يُبْطره " ، وإذا نَزَل به البَلاء " صَبر له و " لم يُنكرِه.
وقال هُدْبة العُذْريّ:
ولستُ بِمفراحَ إذا الدهرُ سرًّني ... ولا جازع و مِنْ صرفه المُتَقَلِّبِ
ولا أتمنى الشرَّ والشرُّ تاركي ... ولكني متى أحْمَلْ على الشرّ ِأَرْكَب
وقال عبدُ العزيز بن زرارةَ في هذا المعنىِ.
قَد عِشْتُ في الدَّهر أطواراً على طُرُقٍ ... شتَى فصادفتُ منه اللِّينَ والفَظَعَا
كُلا بَلوتُ فلا النَّعماءُ تُبْطِرني ... ولا تَخشَعتُ مِن لأوائِه جَزَعا
لا يملأ الأمر صَدْرِي قبل وَقعته ... ولا أَضِيقُ به ذَرْعاً إذا وَقَعا
وقال آخر:
فإِن تَهْدِمُوا بالغَدْرِ داري فإنّها ... تُراثُ كَرِيمٍ لا يخافُ العَوَاقِبَا

إذا هَمَّ ألقَى بين عَيْنيه عَزْمه ... وأضرب عن ذِكْر العَواقب جانِبا
ولم يَسْتشرِ في أَمره غيرَ نَفْسه ... ولم يرْضَ إلا قائمَ السَّيف صاحِبا
سأغسِلُ عنَي العارَ بالسيف جالباً ... عليّ قضاءُ الله ما كان جالباً
وسئِلت هِنْدُ عن مُعاوية، فقالت: والله لو جُمعت قريشٌ من أقطارها ثم رُمِي به فِي وسَطها لخرَج من أي أَعْراضها شاء. وهذا نظَير " قول الشاعر " :
برِئت إلى الرَّحمن من كلِّ صاحبٍ ... أصاحبهُ إلا عِراكَ بن نائل
وعِلْمي به بين السِّماطين أنَهَ ... سَيَنْجو بحقٍّ أوسينْجو بباطل
وقال آخر:
لئنْ كنتُ محتاجاً إلى الحلم إنّني ... إلى الجَهْل في بَعْض الأحايين أَحْوجُ
وما كنتُ أرضىَ الجهلَ خِدْناً وصاحباَ ... ولكنني أرضى به حين أحرج
فإن قال قومٌ إنّ فيه سماجةً ... فقد صَدَقوا والذُّلِّ بالحُرِّ أَسْمج
وِلى فَرَسٌ للِحلْم بالحم مُلْجَمٌ ... ولي فَرس للجَهْل بالجهْل مُسْرج
فمنْ شاء تقويمي فإني مُقوَّمٌ ... ومَن شاء تَعْويجي فإني مُعَوَّج
وقال مُعاوية في سُفيان بن عَوف الغامديّ: هذا الذي لا يكَفكف من عَجَلة، ولا يُدْفع في ظَهْره من بُطْء، ولا يُضرب على الأمور ضرْب الجَمل الثَّفَال.
وقال الحسنُ بن هانئ:
مَن لِلجذَاع إذا المَيدانُ ماطَلَها ... بشَأو مُطلع الغايات قد قَرَحَا
من لا يُغَضغض منه البُؤسُ أنملةً ... ولا يُصعِّد أطرافَ الربىَ فَرَحَا
وقال جرير:
وابنُ اللَبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَن ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيس

باب في الرجل النفاع الضرار
يقال إنه لخرَّاج وَلاّج، وإنه لحًوَّل قُلّب، إذا كان مُتصرِّفاً في أُموره، نَفّاعاً لأوليائه، ضرَّاراً لأعدائه. وإذِا كان على غير ذلك، قيل: ما يُحْلِي ولا يُمرِّ، ولا يُعدّ في العِير ولا في النَّفير، وما فيه خير يُرْجَى ولا شرّ يُتَّقى. وقال بعضُهم: لاَ يرضى العاقلُ أن يكون إلا إماماً فيِ الخير والشرّ. وقال الشاعر:
إذا أنت لم تَنْفع فضرّ فإنما ... يُرَجَّى الفَتى كيما يُضرَّ وَيَنْفَعا
وقال حبيب:
ولم أرَ نَفْعاً عِند من ليس ضائراً ... ولم أَرَ ضرًّا عند مَن ليس يَنفعُ
وسمع إعرابيٌّ رجلاً يقول: ما أتى فلانٌ بيوم خيرٍ قطُّ؛ فقال: إن لا يكُن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم شر. وقال الشاعر:
وما فعلت بنو ذُبيانَ خيراً ... ولا فعلتْ بنو ذُبيان شرَّا
وقال آخر:
قَبَح الإلهُ عداوةَ لا تُتَّقى ... وقَرابةً يُدْلَى بها لا تَنفَعُ
وفخر رجال فقال: أبي الذي قَتل الملوك، وغَصَب المنابر، وفعل وفعل. فقال له رجل: لكنه أسِر وقتل وصُلب. فقال: دَعْني من أسره وقَتْله وصَلْبه، أبوك " هل " حدّث نفسَه بشيء من هذا قطُّ. وقال رجل " من العرِب " يذُمّ قومه وأغارت بنو شَيبان على إبله فاستنجدهم، فلم يُنجدوه، وكان فيهم ضعف، فقال فيهم:
لو كنتُ من مارنٍ لم تَسْتَبح إبلي ... بنو اللّقيطة من ذهل بن شَيْباناً
إذاً لقام بنَصْري مَعْشَرٌ خشُنٌ ... عند الحَفيظة إن ذو لوثة لانا
قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيه لهم ... طارُوا إليه زَرافات وَوُحْدانا
لا يَسألون أخاهم حين يَنْدُبهم ... في النَائبات على ما قال بُرْهانا
لكنَّ قَوْمي وإن كانوا ذَوي عدَدٍ ... ليسُوا من الشر في شيء وإن هانا
" يَجْزُون من ظُلْم أهل الظُّلم مَغْفِرَةَ ... ومِن إسَاءَةِ أهْل السُّوءِ إحْساناً "
كأنّ رَبَّك لم يَخْلُقْ لخشيته ... سواهُم من جميع الناس إنسانا
" فليت لي بهمُ قوماً إذا رَكِبوا ... شَنُّوا الإغارَة فُرْساناً ورُكْبانا "

ولم يُرد بهذا أنه وَصَفهم بالحِلْم ولا بالخَشْية لله، وإنما أراد به الذلَ والعَجز، كما قال النَجاشي في رَهْط تَميم بن مُقْبِل:
قَبيلَتُه لا يَخْفِرون بِذِمَّة ... ولا يَظلمون الناسَ حبةَ خَرْدَل
ولا يَرِدون الماءَ إلا عَشيةً ... إذا صَدَرَ الوُرَّادُ عن كلِّ مَنْهَل
وكل من نَفع في شيء فقد ضَرّ في شيء. وكذلك قول أشْجِع بن عمرو:
يَصْطاد أعناقاً بِمنصله ... وَيفكّ أعْناقا من الرقِّ
وقال الحسنُ بن هانئ:
يَرْجو ويَخْشىَ حالَتَيْك الوَرَى ... كأنَكَ الجنَّة والنَارُ
ومن قولنا في هذا المعنى:
من يَرْتجي غيرَك أو يَتَّقي ... وفي يَدَيْكَ الجودُ والباسُ
ما عِشتَ عاشَ الناسُ في نِعْمة ... وإن تَمُتْ ماتَ بك النَاس
وقال آخر:
وليس فَتَى الفِتْيانِ مَن راحَ واغْتَدَى ... لشُرْبِ صَبُوح أو لِشرْب غَبُوقِ
ولَكِنْ فَتَى الفِتْيانِ مَن راح واغتَدَى ... لضرًّ عدوٍّ أو لِنَفْع صدِيق

باب في طلب الرغائب واحتمال المغارم
في كتاب للهِنْد: مَن لمِ يَرْكَب الأهوالَ لَم يَنَل الرًغائبَ، ومَن ترك الأمرَ الذي لعلّه أن يَنال منه حاجَتَه مخافة ما لعَلّه يُوِقَّاه فليسَ ببالغٍ جَسيماً، وإنّ الرَّجل ذا المروءة ليكُون خاملَ الذِّكْر خافض المَنْزلة، فَتَأْبى مُروءتهُ إلا أن يَسْتَعْلَى ويَرْتَفع، كالشُعلة من النار التي يَصُونها صاحبُها وتأبيَ إلا اْرتفاعاً. وذو الفَضْل لا يَخفي فَضله، وإن أخفاه، كالمِسْك الذي يُخْتم عليه ثم لا يمْنَع ذلك رِيحَه من التَذكّي والظُّهور. ومن قَوْلنا في هذا المعنى:
خُتمت فأرةُ مِسْك ... فأَبتْ إلا التَّذكِّي
ليسَ يَخفي فَضْلُ ذي الفض ... ل بزُورٍ وبإفْك
والذي بَرز في الفَض ... ل غني عن مُزَكِّي
رُبما غُمِّ هِلالُ ال ... فِطْرفي لَيْلة شَكْ
ثم جَلِّى وجهَه النُّو ... رُ فَجَلِّى كلَّ حَلْك
إنَّ ظهر اليمِّ لاتَرْ ... كَبه من غير فُلْك
ونظامَ الدُرّ لا تع ... قِده مِن غير سِلْك
ليسَ يصفو الذهب الإبْ ... ريزُ إلا بعد سَبْك
هَذه جُمْلَة أَمْثا ... لٍ فمن شاء فَيَحْكى
أبطلتْ كلِّ يَمانيًّ ... وشاميٍّ ومَكّي
ليس ذا من صوْغ عَيْنيِّ ... ولا مِن نَسْج عَكِّي
وقالوا: لا يَنبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدَى منزلتين: إما في الغاية من طَلب الدنيا؟ وإما في الغاية من تَرْكها. ولا ينْبغي له أن يُرى إلا في مكانين: إمَّا مع المًلوك مكَرماً، وإمَّا مع العُبَّاد مُتبتَلا. ولا يُعَد الغُرْم غُرْماً إذا ما ساق غنْماً، ولا الغُنْمُ غُنْما إذا ما ساق غُرْما. ونظر معاويةُ إلى عسكر عليّ رضي الله عنه يوم صِفِّين، فقال: مَن طَلب عظيماً خاطَرَ بعَظِيمته، وأشار إلى رأسه.
وقال حبيبٌ الطائيّ:
أَعاذِلَتي ما أخشنَ اللَّيْلَ مَرْكباً ... وأَخشن منه في المُلِمَّات راكِبُه
ذَرِيني وأهوال الزَّمان أقاسِها ... فأهوالُه العُظْمى تَليها رغائبُه
وقال كَعْبُ بنُ زًهير:
ولَيْسَ لمن لم يَرْكب الهوْلَ بُغْيةٌ ... وليس لِرَحْل حَطًه الله حامِلُ
إذا أنتَ لم تُعْرِضْ عنِ الجهل والخَنَا ... أصبتَ حَليماً أو أصَابَكَ جاهل
وقال الشًماخ:
فتٍى ليس بالراضي بأَدنىَ مَعِيشةٍ ... ولا في بُيوت الحَيِّ بالمُتَولِّج
فَتى يملأ الشِّيزَى ويُرْوِي سِنَانَه ... ويَضْرِبُ في رأس الكَميِّ المدَجَّج
وقال امروء القَيْس:
فَلو أن ما أَسْعَى لأدنىَ مَعيشةٍ ... كَفَاني ولم أطلبْ قليلٌ منَ المال
ولكنَّما أسعَى لمَجْدٍ مُؤَثَّل ... وقد يُدْرِك المجدَ المُؤَثَّل أمثالي
وقال آخر:

لولا شَماتةُ أعداء ذوي حَسَدٍ ... أو أن أنالَ بِنَفْعي مَن يُرَجِّينِي
لما خَطبتُ من الدُّنْيا مَطالبَها ... ولا بذلتُ لها عِرْضي ولا دِيني
لكنْ مُنافسةُ الأكفاء تَحْمِلني ... على أمورٍ أَراها سوف تُرْديني
وكيفَ لا كيفَ أنْ أرضىَ بمنزلة ... لا دِينَ عندي ولا دُنْيا تُواتيني
وقال الحُطَيئة في هجائه الزِّبْرِ قان بن بَدْر:
دعَ المَكارِمَ لا تَرْحل لبُغْيتها ... واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطَاعمُ الكاسي
فاستعدَى عليه عمرَ بنَ الخطاب وأَسمعه الشعرَ؛ فقال: ما أَرى مما قال بأساً؛ قال: واللّه يا أميرَ المُؤمنين ما هُجِيت ببيت قطًّ أَشدً! " عليَّ " منه. فأرسل إلى حَسَّان فسأله: هل هجاه؟ فقال: ما هجاه، ولكنه سَلَح عليه. وقد أخذ هذا المعنى من الحُطيئة بعضُ المُحْدَثين فقال:
إنِّي وجدتُ مِن المكارم حَسْبُكمٍ ... أنْ تَلْبسوا خَر الثِّياب وتشْبَعوا
فإذا تُذوكرت المكارمُ مَرَّة ... في مَجلِس أنتم به فَتَقنّعوا
وقالوا: مَن لم يَرْكب الأهوال لم يٍنل الرَّغائبَ، ومَن طلب العظائمَ خاطرَ بعَظيمته. وقال يزيدُ بن عبد الملك لما أتي برأس يزيدَ بنِ المُهلّب فنال منه بعضُ جلسائه، فقال: إنّ يزيدَ ركِبَ عَظيماً، وطَلب جَسيماً، ومات كريماً. وقال بعض الشعراء:
لا تَقْنعن ومَطْلَب لك مُمْكن ... فإذا تضايقت المطالبُ فاقْنع
ومما جُبِلِ عليه الحُر الكريم، أن لا يَقنع من شرف الدنيا والآخر بشيءٍ مما انبسط له، أملاً فيما هو أسنىِ منه درجةً وأرفعُ منزلةً؛ ولذلك قال عمرُ بن عبد العزيز لدًكين الرِاجز: إنّ لي نفساَ تَوَّاقة، فإذا بلغك أنِّي صِرْتُ إلى أشرف مِن منزلتي " هذه " ، فبعَينٍ ما أَرَينَّك - قال له ذلك وهو عامل " المدينة " لسليمان بن عبد الملك - فلما صارت إليَه الخلافةُ قَدِم عليه دُكَين، فقال له: أنا كما أعلمتُك أنّ لي نَفْساً تَوَاقة، وأنّ نَفْسي تاقت إلى أشرف منازل الدُّنيا، فلما بلغتها وجدتُها تَتوق إلى أشرف منازل الآخرة. ومن الشاهد لهذا المعنى، أنَّ موسى صلوات الله عليه - لما كلمه الله " عزَّ وجل " تكليماً - سأله النظرَ إليه، إذ كان ذلك لو وصل إليه أشرفَ من المنزلة التي نالها، فانبسط أملُه إلى ما لا سبيلَ إليه، ليُستدلّ بذلك على أنّ الحرّ الكريم لا يَقْنع بمنزلةٍ إذا رأى ما هو أشرفُ منها. ومن قولنا في هذا المعنى:
والحرُّ لا يَكْتفي من نَيْل مكْرُمةٍ ... حتى يَرومَ التي من دُونها العَطَبُ
يَسْعَى به أملٌ من دونه أجلٌ ... إنْ كفَّه رَهَب يَسْتَدْعِه رَغَب
لذاك ما سالَ مُوسى ربّه أرِني ... أنظُرْ إليكَ وفي تسأله عَجَب
يَبْغى التزيّدَ فيما نال من كرم ... وَهْو النَّجِيُّ لديه الوَحْيُ والكُتُبُ
وقال تأبّط شرًّا في ابن عمّ له يَصفه برُكوب الأهوال وبَذْل الأموال:
وإني لمُهْدٍ. مِن ثَنائي فقاصدٌ ... به لابن عم الصَدْقِ شُمْس بنِ مالكِ
أهُزُّ به في نَدْوَة الحيّ عِطْفَهُ ... كما هَزِّ عطفي بالهِجان الأوارك
قَليلُ التَّشكِّي للْمًهِمِّ يُصيبُه ... كثيرُ النَوى شَتَى الهَوَى والمسالك
يَظَلُّ بمَوْماة ويسمى بغيرها ... وَحيداً ويعْرورِي ظُهورَ المهالك
ويسبق وَفْدَ الرِّيحِ من حيثُ يَنْتحى ... بمُنْخَرِق من شَده المُتَدَارك
إذا خاط عينَيْه كرَى النَّوْم لم يزل ... لَه كاليءٌ من قلب شَيْحانَ فاتِك
" ويَجعل عينَيْه رَبيئة قلبه ... إلى سَلَّةٍ من جَفْن أخلَقَ باتك "
إذا هَزَّه في عَظْم قِرْنٍ تَهلَّلت ... نَواجذُ أفواه المَنايا الضّواحك
وقال غيرُه من الشعراء " بل هي له " :
إذا المرءُ لم يَحْتل وقد جَدَّ جِدُّه ... أضاعَ وقاسىَ أمرَه وهو مُدْبِرُ
ولكنْ أخو الحَزْم الذي ليس نازِلاً ... به الخطبُ إلا وللقَصْد مبْصِر

فذاك قَريعُ الدّهر ما عاش حُوّل ... إذا سُدّ منه مِنْخر جاش مِنْخر

باب في الحركة والسكون
قال وَهْب بن منبِّه: مكتوب في التوراة: ابن آدم، خلقتك من الحركة " للحركة " فتحرّك وأنا معك. وفي بعض الكتب: ابن آدم: أمدُد يدك إلى بابٍ من العمل أفتح لك باباً من الرِّزْق. وشاور عُتْبة بن رَبيعة أخاه شَيْبةَ بن ربيعَة في النُّجْعة، وقال: إني قد أجدبتُ، ومن أجدب انتجع. فذهبت مثلاً. قال له شَيبة: ليس من العِزِّ أن تَتَعَرَّض للذلّ. فذهبت مثلاً. " فقال عُتبة: لن يَفرِسَ الليثُ الطًّلا وهو رابض، فذهبت مثلاً " ، أخذه حبيب فقال:
أراد بأن يَحْوِي الغِنَى وهو وادعٌ ... ولن يَفْرِس اللَّيثُ الطًّلا وهو رابضُ
وقيل لأعشى بكر: إلى كم هذه النّجعة والاغتراب، ما تَرضى بالخَفْض والدَّعة؟ فقال: لو دامت الشمسُ عليكم لَمَلِلْتُمُوها. أخَذه حبيبٌ فقال:
وطُول مُقام المَرْءِ في الحَيِّ مُخْلِقٌ ... لديباجَتَيه فاغتَرِبْ تَتَجَدَّدِ
فإني رأيتً الشمسَ زِيدتْ مَحَبةً ... إلى الناس إِذ ليستْ عليهم بِسَرْمدِ
قال أبو سَعيد أحمدُ بن عبد الله المَكيّ: سمعتُ الشَافِعيَّ يقول: قلت بيتين من الشِّعر، وأنشدنا:
إني أرى نَفْسي تَتُوق إلى مِصر ... ومِن دونها خَوْض المَهامه والقَفْرِ
فواللّه ما المحرِي أللْخَفْض وَالغِنَى ... أقاد إليها أم أقاد إلى قَبْري
فدخل مصر فمات. وقال مُوسى بن عِمْران عليه السلام: لا تذُّمُوا السفرَ، فإني أدركتُ فيه ما لم يُدْرك أحدٌ. يريد أنّ الله عزَّ وجلّ كلَّمه فيه تكليماً.
وقال المأمون: لا شيء ألذُ من سفر في كِفاية، لأنّك في يوم تَحل مَحلة لم تَحُلَّها، وتُعاشر قوماً لم تُعاشرهم. وقال الشاعر:
لا يَمنعنَّك خَفْضُ العيش في دَعة ... من أن تُبدِّل أوطاناً بأوطانِ
تَلْقى بكل بلادٍ إن حَللْتَ بها ... أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان
مع أن المُقام بالمقام الواحد يُورث المَلالة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: زُرْغِبًّا تَزْدَدْ حُبا. وقالت الحكماء: لا تُنَال الرّاحةُ إلا بالتَعب، ولا تُدْرك الدَعة إلا بالنَصب. وقال حبيب:
بَصُرْتَ بالراحة الكُبرى فلم تَرها ... تُنال إلا على جِسر من التَعَب
وقال أيضاَ:
على أَنَّني لم أَحْوِ وَفْرًا مُجَمَّعا ... قَرٍرْتُ به إلا بشَمْل مُبَددِ
ولم تًعْطِني الأيامُ نَوْماً مُسكِّناً ... ألذّ به إلا بنَوْم مشرِّد
وقال أيضَاَ:
وَرَكْب كأطْراف الأسِنَّةِ عرّسُوا ... على مثلها والليلُ تَسْطُر غَياهبُه
لأمرٍ عليهم أن تَتمّ صدُورُه ... وليس عليهم أن تتمّ عواقبُه
وبعدُ؛ فهل يجوز في وَهْم، أو يتمثَّل في عقل، أو يصحُّ في قياس، أن يُحصد زَرْع بغير بَذْر، أو تُجْنى ثمرة بغير غَرْس، أو يُورَى زَنْدٌ بغير قدْح، أو يُثمِر مال بغير طَلَب. ولهذا قال الخليلُ بنُ أحمد: لا تصل إلى ما تحتاجُ إليه إلا بالوُقوف على ما لا تحتاجُ إليه؛ فقال له أبو شَمِر المتكلِّم: فقد احتجتَ إذاً إلى مالا تحتاج إليه، إذ كنت لا تصل إلى ما تحتاجِ إليه إلا به؛ قال " له " الخليلُ وَيْحك! وهل يَقْطَع السَّيفُ الحُسامُ إلا بالضرب، أو يجْرِي الجَوَادُ إلا بالرّكْض، أو هل تُنال نهايةٌ أو تُدْرَك غايةٌ إِلا بالسعي إِليها، والإيضاع نحوَها، وقد يكون الإكْداء مع الكدّ، والخيْبة مع الهيْبة.
وقال الشاعر:
وما زِلْتُ أَقطع عَرْضَ البِلادِ ... من المشرقين إلى المغْرِبينِ
وأِدَّرِع الخَوف تحت الدُّجَى ... وَأسْتَصحب الجًدْيَ والفَرْقَدَيْنِ
وَأطْوِي وَأنْشُرُ ثوْبَ الهُموم ... إلى أَنْ رجعتُ بخُفَّيْ حُنَين
إلى كم أكون على حالةٍ ... مقِلاً من المال صِفْرَ اليَدَين
فَقِيرَ الصَّديق غنيّ العدوّ ... قليلَ الجَداء عنٍ الوالدين

ومثْلُ هذا قليل في كثير، وإنما يُحكم بالأعمّ والأغلب، والنجْح مع الطّلب، والْحِرمان لِلعَجْز أصْحب. وقد شرح حبيبٌ هذا المعنى، فقال:
هِمَم الفَتَى في الأرض أغْصانُ الغِنى ... غُرِست وليست كلّ حينِ تُورِقُ
وقال إسماعيلُ بن إبراهيم الحَمْدُونيّ في المطالب:
لكِ ألحاظٌ مِرَاضٌ ودَلُّ ... غيرَ أنّ الطَّرْفَ عنهِا أكل
وأَرَى خَدَّيْكِ وَرْداً نضيراً ... جادَه من دمعِ عَيْنيّ طَل
عَذْبة الألفاظ لم لم يَشِنْها ... كَرُّ تَفْنِيدٍ بِسمْعي يُضِلّ
أنّ عَزَّى التي أنِفَتْ بي ... عَنْ سواها كُثْرُها ليَ قُلّ
ظَلْتُ في أفياء ظِلِّك حتى ... ظلّ فوقي للمَتالف ظِلّ
ِأنّ أَوْلَى منكِ بي لَمَرامٌ ... لا يحُلّ الهَوَانُ حيثُ يَحُلّ
ما مقامي، وحُسامىِ قاطعٌ ... وسِناني صارمٌ مَا يُفَلُّ
سَنائي مِثْلُ رَوْضةِ حَزْنٍ ... أَضْحَكَتْهَا ديمَةٌ تَسْتَهِلّ
دليلى بين فَكَّيَّ يَعْلو ... كلَّ صَعْبِ رَيِّضٍ فَيذِلّ
َثمِلاً من خَمْرة العَجْز أُسْقى ... نَهَلاً من بعده ليَ عَليّ
إنْ يَكُنْ قُرْبك عِندي جليلا ... فأقلُّ الحَزْم منهَ أَجَلّ
َأقعِيداً للقعيدة إلفاً ... كلُّ إلفٍ بي لعُدْمي مخِلّ
ويكِ ليس اللّيثُ لليث يُضْحِي ... مخرِجاً من غِيله وهو كَلّ
فاتْرُكي عَتْباً ولَوْماً ودَعى ... وعلى الإقتار عَتْبُك كُلّ
هو سَيفٌ غِمْدُه بُردتاه ... ينتضيه الْحَزْمُ حين يُسَلّ
لا يَشُك السِّمْع حين يراه ... أنّه بالبِيد سِمْع أزَلّ
بين ثَوْبَيْهِ أخو عزمات ... يَتَقيها الحادثُ المصمئلِّ
ليس تَنبُوِ بي رحالٌ وَبِيدٌ ... إن نَبَا بي مَنْزِلٌ وَمَحلّ
فأقلِّي بعض عَذل مُقِلٍّ ... لا يَرَى صَرْفَ الزَّمان يَقِلّ
نّ وَخْدَ العِيس إثْمَار رِزْق ... يَجْتنيها المُسْهَب المُشمعل
لا تفلي حد عزمي بِلَوْمِ ... إنني لِلْعَزْم والَدَّهر خِلّ
فالفَتى مَن ليس يَرعَى حِماه ... طَمعاً يوماَ له مُسْتَذِلّ
مَن إذا خَطْبٌ أطلَّ عليه ... فله صبرٌ عليه مُطِلّ
يَصْحب الليلَ الوليدَ إلى أنْ ... يَهْرَمَ الليلُ وما إنْ يمَلّ
ويرى السَّير " قد " يًلَجْلج منه ... مُضغةً لكنّها لاتَصِلّ
شمَرت أثوابُه تحت لَيْلٍ ... ثَوْبُه ضافٍ عليه رِفَلّ
سأُضِيع النومَ كيما تَرَيْني ... ومضيعي مُعْظِمٌ لي مُجلّ
فابتناءُ العزِّ هَدْم المَهارِي ... وانحلالُ العُدْم سَيْرٌ وَحِل

باب التماس الرزق
وما يعود على الأهل والولد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: العائد على أهْله ووَلده كالمُجاهد المُرابط في سَبِيل اللّه. وقال صلى الله عليه وسلم: اليد العُلْيَا خَيْرٌ من اليد السُّفلى، وابدأ " بنَفْسك ثم " بمَنْ تَعُول. وقال عمرُ بن الخَطّاب: لا يَقْعُدْ أحدُكمِ عن طَلب الرِّزق ويقول: اللهم ارزُقْني، وقد عَلِم أن السَّماءَ لا تُمْطِرُ ذَهَباً ولا فِضة؛ وإنّ الله تعالى إنما يَرْزق الناسَ بعضهم من بعض، وتلا قولَ الله جلّ وعلا: " فإذا قُضيت الصَلاةُ فانتشروا في الأرْض وأبْتَغُوا مِنْ فَضْل الله واذْكُرُوا الله كثيراً لَعَلَّكُم تُفلحُون " . وقال محمدُ بن إدريس الشَافعي: احرصْ على ما يَنفعك ودَعْ كلامَ الناس، فإنّه لا سَبيل إلى السَّلامة من ألْسنة العامّة. ومثلُه قولُ مالك بن دِينار: مَن عَرف نَفْسَه لم يَضِرْه ما قال الناسُ فيه. وقال كطاهر بن عبد العزيز: أَخبرنا علي بن عبد العزيز، قال: أَنشدنا أبو عُبيد القاسم بن سَلام:

لا يَنْقص الكاملَ مِن كماله ... ما ساقَ مِن خير إلى عِيالِه
وقال عمرُ بن الخطّاب " رضى الله عنه " : يا معشرَ القُرَّاء، التًمسوا الرِّزْق، ولا تَكُونوا عالةً على الناس. وقال أكثمُ بن صَيْفيّ: مَن ضَيَّع زاده اتَكل على زادِ غيره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خَيْركم مَن لم يَدَع آخرتَه لدُنْياه ولا دُنياه لآخرته. وقال عمرو بن العاص: اعمل لدُنياكَ عَمل من يَعيش أبداً، واعمل لآخرتك عمل من يموت غداً.
وذُكر رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهادِ في العِبادة والقُوَّة على العمل، وقالوا: صَحِبْناه في سَفر فما رأينا بعدك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعبَدَ منه، كان لا يَنْفتل من صلاة، ولا يُفْطر من صيام. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن كان يَمُونه ويَقُوم به؟ قالوا: كلّنا؛ قال: كلُّكم أعبدُ منه. ومَرّ المسيحُ برجل من بني إسرائيل يتعبّد، فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبد؛ قال: ومَن يقوم بك؟ قال: أخي؟ قال: أخوك أعبدُ منك.
وقد جعل الله طَلَب الرِّزق مَفْروضا على الخَلْقِ كلّه، من الإنس والجنّ والطير والهوام، منهم بتَعْليم، ومنهم بإلهام وأهلُ التَّحصيل والنَظر " من الناس " يَطْلبونه بأحسن وُجوهه من التصرف والتَحرز، وأهلُ العَجْز والكسل يَطْلبونه بأقْبح وجوهه من السؤال والاتكال والخِلابة والاحتيال.

باب في فضل المال
قال الله تعالى " المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا والْبَاقِيَاتً الصالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيرٌ أَمَلاً " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمُجاشِعيّ: إن كان لك مال فلك حسَب، وإن كان لك خُلًق فلك مُروءة، وإن كان لك دِين فلك كَرم. وقال عمرُ بن الخطّاب: حَسَب الرجل مالُه، وكرَمه دِينه، ومُروءته خُلُقُه.
وفي كتاب الأدب للجاحظ: اعلم أنّ تَثْمير المال آلةٌ للمكارم، وعَوْنٌ على الدِّين، وتأليف للإخوان؛ وأنّ مَن فَقد المالَ قَلَت الرَّغبةُ إليه والرَّهبة منه، ومَن لم يكن بمَوْضع رَغْبة ولا رَهْبة استهان الناسُ به؛ فاجْهَد جَهْدك كلًه في أَنْ تكُون القلوبُ مُعَلَّقة منك برَغْبة أو رَهْبة في دِبن أو دُنيا. وقال حكيم لابنه: يا بُنيّ، عليك بطَلَب المال، فلو لم يكن فيه إلاّ أنّه عِزٌّ في قَلْبك وذُلٌ في قلب عدوّك لكفي.
وقال عبدُ الله بن عبّاس: الدُّنيا العافية، والشَّباب الصِّحة، والمُروءة الصبر، والكرِم التَّقْوى، والحَسَب المال. وكان سعدُ بن عُبادة يقول: اللهم ارزقني جِدّاً ومَجداَ، فإنه لا مَجد إلا بفعَال، ولا فَعال إلا بمال. وقالت الحُكماء: لا خيرَ فيمن لا يَجْمع المالَ يَصون به عرْضه، ويَحْمي به مُروءته، ويَصِل به رَحِمه. وقال عبد الرحمن بن عَوْف: يا حَبذا المالُ أصونُ به عِرْضي، وأتقربُ به إلى ربِّي وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ: المالُ سِلاح المُؤمن في هذا الزمان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نِعْمَ العَوْنُ على طاعة الله الغِنى، ونعَم السُّلَّم إلى طاعة الله الغنى، وتَلا " وَلَوْ أنَهم أقامُوا التَّوْراةَ وَالإنجِيلَ وَما أنْزِلَ إِليهم مِن ربِّهم لأكًلُوا مِنْ فَوْقهم وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهم " ، وقولَه: " واستغفروا رَبَّكم إنه كان غَفّارًا، يُرْسل السماءَ عليكم مِدْراراً، وُيمدِدْكم بأمْوالٍ وَبَنين " .
وقال خالدُ بن صفْوان لابنه: يا بُنَيَّ، أوصيك باثنتين، لن تزال بخَيْر ما تمسَّكت بهما: درْهمك لمعاشك، ودِينك لمعادك. وقال عُروة بن الوَرد:
ذَرِيني للغِنَى أسعى فإنِّي ... رأيتُ النَّاسَ شَرّهُم الفقيرُ
وأحقَرُهم وأهونُهم عليهم ... وإنْ أمسى له حَسب وخِير
يُباعده القريبُ وتَزْدرِيه ... حَلِيلتُه ويَنْهره الصَّغير
وتُلْفِي ذا الغنى وله جَلالٌ ... يكاد فؤادُ صاحبه يَطير
قلِيل ذَنْبُه وَالذنْبُ جم ... ولكنْ لِلْغَني رَبٌّ غَفور
قَلِيلٌ ذَنْبُه وَالذَّنْبُ جم ... ولكنْ لِلْغَنِي رَبُّ غَفور
وقال آخر:
سأكسبُ مالاً أو أموتَ ببَلدة ... يَقِلُ بها قَطْرُ الدًّموع على قَبْرِي
وقال آخر:

سأعْمل نَصَّ العِيس حتى يَكُفَّني ... غِنَى المال يوماً أو غِنَى الْحَدَثانِ
فَللْموتُ خيرٌ من حياة يُرى بهاَ ... على المَرْء بالإقلال وَسْمُ هَوَانِ
إذا قال لم يُسْمع لِحُسْن مَقاله ... وإن لم يَقُل قالوا عَدِيمُ بَيَانِ
كأنّ الغِنَى عن أهْله بُورك الغِنَىبغَيْرِ لِسانٍ ناطقٌ بلسانِ
الرِّياشيّ قال: أنشدنا أبو بكر بن عَيَّاش:
حيْران يَعلم أنّ المالَ ساقَ له ... ما لم يَسُقْهُ له دِينٌ ولا خُلقُ
لولا ثلاثون ألفاً سُقْتها بِدَراً ... إلى ثلاثين ألفاً ضاقت الطُرق
فمن يَكُن عن كرام الناس يَسْألني ... فأكْرم الناس مَن كانت له وَرِق
وقال آخر:
أجلّكَ قوم حين صِرْتَ إلى الغِنَى ... وكلُّ غَني في العُيون جَلِيلُ
ولو كنتَ ذا عقل ولم تُؤْتَ ثروَةً ... ذَلَلْت لدًيهم والفقيرُ ذليل
وقال محمود الورَّاق:
أرى كلِّ فِي مالٍ يُبَرُّ لماله ... وإنْ كان لا أَصْلٌ هناك ولا فَضلُ
فشرًّف ذَوِي الأموال حيثُ لَقِيتَهم ... فقَوْلهُمُ قَوْلٌ وَفِعْلُهم فِعْلُ
وأنشد أبو مُحَلَم لرجل من وَلد " طَلِبَة بن " قَيسى بن عاصم:
وكنتُ إذا خاصمتُ خَصماً كبَبْتُه ... على الوَجْه حتى خاصَمَتْني الدَّرَاهمُ
فلمّا تنازعنا الخُصومة غُلِّبت ... عليّ وقالوا قُمْ فإنّك ظالم
وأنشد الرِّياشي:
لم يَبْقَ مِن طَلب الغِنَى ... إلا التَّعَرضُ للحُتُوف
فَلأَقْذِفَنَّ بمًهْجَتي ... بين الأسِنَّة والسيوف
ولأطْلُبَنَّ ولو رَأيتُ ... الموتَ يلمعُ في الصُّفوف
وكان لأحَيْحَة بن الجُلاَح بالزَّوْراء ثلثمائة ناضح، فَدَخَل بستاناً له، فمرَّ بتَمْرة فَلَقطها فعُوتب في ذلك، فقال: تمْرَة إلى تَمرة تَمرات، وجَمل إلى جَمل ذَوْد. ثم أنشأ يقول:
إني مُقيم على الزَّوْراء أعمرُها ... إنّ الحبيب إلى الإخوان ذو المال
فلا يَغُرَّنك ذو قُرْبى وذو نَسب ... من ابن عمّ ومن عمٍ ومن خال
كلّ النداء إذا ناديتُ يَخْذًلني ... إلا نِدَائي إذا ناديتُ يا مالي
ومن قولنا في هذا المعنى.
دَعْني أَصُنْ حُرَّ وَجْهي عن إذالته ... وإن تَغرَّبتُ عن أهلي وعن وِلدي
قالوا نأيتَ عن الإخوان قلتُ لهم ... مالِي أخٌ غَير ما تًطْوَى عليه يَدِي
" كان الرُّمَاحِس بن حَفْصة بن قَيْس وابن عمِّ له يُدْعى رَبيعة بن الوَرْد يَسْكًنان الارْدُن، وكان رَبيعة بن الوَرْد مُوسِراً، والرُّمَاحسُ مُعْسِراً كثيراً ما يَشْكو إليه الحاجة ويَعْطف عليه ربيعةُ بعضَ العَطْف، فلما أكثر عليه كَتب إليه:
إِذَا المَرْء لم يَطْلُب مَعاشاً لنَفْسه ... شكاَ الفَقْرَ أوْ لامَ الصَّدَيقَ فأكْثرا
وصار عَلَى الأدنين كَلاًّ وأوشَكت ... صِلاتُ ذَوي القرْبىَ له أن تَنَكَرا
فَسِرْ في بِلاد الله والتَمس الغنَى ... تَعِشْ ذا يَسَارٍ أو تموتَ فَتُعْذَرا
فما طالبُ الحاجات مِنْ حيثُ تبتغى ... من المال إلا مَنْ أََجدَّ وشَمَّرا
ولا تَرْضَ مِنْ عَيْش بدُونٍ ولا تَنمَ ... وكيف يَنام الليلَ من كان مُعْسرا
وقال بعضُ الُحَكَماء: المالُ يُوَقَر الدنئ والفَقْر يُذِل السَنيّ. وأنشد:
أرَى ذا الغِنَى في النَّاس يَسْعَون حولِه ... فإِنْ قال قولا تَابَعُوه وصدَقُوا
فذلك دَأْبُ النَّاس ما كان ذا غِنَى ... فإنْ زال عنه المال يومًا تَفَرقوا
وأنشد:
ما النَّاس إلا مع الدُّنيا وصاحبها ... فحيثُما انقلبتْ يوماً به انقلَبُوا
ُيعَظمون أخا الدُّنيا فإن وَثَبتْ ... يوما عليه بما لا يَشْتَهي وَثَبوا "

صنوف المال

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16