كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

قال عبدُ العزيز: بُويع وهو ابنُ تسع وثلاثين سنة، ومات ولم يبلغ الأربعين، وعلى شُرطته بُكَير بن الشماخ اللَّخْمي. وكاتب الرسائل ابنُ سليمان ابن سعد. وعلى الخراج والجُنْد والخاتَم الصغير والحَرس النَصرُ بن عَمرو، من أهل اليمن. وعلى خاتَم الخلافة عبدُ الرحمن بن حًميد الكلْبيّ، ويقاد قَطن، مولاه. وكتب يزيدُ بنُ الوليد إلى مَروان بن محمد بالجزيرة، وبَلغه عنه تلكّأ في بَيعته: أما بعد. فإني أراك تُقدّم رجلاً وتُؤخِّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئتَ، والسلام. ثم قَطع إليه البُعوث، وأمر لهم بالغطاء. فلم يَنْقُص! عطاؤهم حتى مات يزيد. ولما بلغ مروانَ أنّ يزيد قَطع البعوث إليه كتب ببيعته، وبَعث وفداً عليهم سليمانُ بن عُلاثة العُقيلي. فخرج، فلما قَطعوا الفُرات لقيهم بريد بموت يزيد، فانصرفوا إلى مَروان بن محمد، والله أعلم.

ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع
العلاء بن يزيد بن سِنان قال: حدثني أبي قال: حضرت يزيدَ بن الوليد حين حضرتْهُ الوفاةُ فأتاه قَطن، فقال: أنا رسوِلُ مَن وراءَ بابك، يسألونك بحق الله لو ولًيتَ أمرهم أخاك إبراهيمَ بن الوليد. فغضِب وضرب بيده على جَبهته وقال: أنا أوَلّي إبراهيم! ثم قال لي: يا أبا العلاء، إلى مَن ترى أن أعهد؟ قلت: أمر نهيتُك عن الدخول قي أوله، فلا أشير عليك بالدُّخول في آخره. قال: فأصابتْه إغماءةٌ حتى ظننتُ أنه قد مات، ففعَل ذلك غير مرة، ثم خرجتُ من عنده. فقعَد قَطن وافتعل عهداً على لسان يزيدَ بن الوليد لإبراهيم بن الوليد، ودعا ناساً فأشهدهم عليه. قال: والله ما عَهد إليه يزيدُ شيئاً ولا إلى أحد من الناس. وقال يزيدُ في مرَضه: لو كان سعيدُ بن عبد الملك قريباً مني لرأيتُ فيه رأيي. وفي رواية أبي الحسن المَدائنيّ، قال: لما مَرض يزيدُ قيل له: لو بايعتَ لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج بعدَه؟ فقال له قيسُ بن هانيء العبسي: اتق اللّه يا أمير المؤمنين، وانظُر لنفسك، وأرْض الله في عباده، فاجعل وليّ عهدك عبد الملك بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. فقال يزيد: لا يَسألني الله عن فلك، ولو كان سعيدُ بن عبد الملك منّي قريباً لرأيتُ فيه رأي. وكان يزيدُ يرى رأي القَدَرية ويقول بقَوْل غيلان. فألحت القدريةُ عليه قالوا: لا يَحل لك إهمالُ أمر الأمة، فبايعْ لأخيك إبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده. فلم يزالوا به حتى بايع لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده.
ومات يزيدُ لعشرٍ بَقين من ذي الحجة سنة ستّ وعشرين ومائة. وكان ولايتهُ خمسة أشهر وأثنى عشر يوماً.
فلما قَدم مروان. نبش يزيدَ من قَبره وصَلبه. وكان يُقرأ في الكتب: يا مُبذّر الكُنوز، يا سجّاداً بالأسحار، كانت ولايتُك لهم رحمة، وعليهم حجة. نَبشوك فَصَلبوك.
وبويع إبراهيم بن الوليد، وأمه بَرْبَرية، فلم يَتم له الأمر، وكان يدخل عليه قومٌ فيسلِّمون بالخلافة، وقوم يسلّمون بالإمرة، وقوم لا يُسلمون بخلافة ولا بإمرة، وجماعة تُبايع، وجماعة يَأبون أن يبايعوا. فمكث أربعة أشهر، حتى قدم مروانُ بن محمد فخَلع إبراهيم وقَتل عبد العزيز بن الحجَّاج، ووَلِي الأمر بنفسه.

وفي رواية خَليفة بن خَياط قال: لما أتى مروانَ بن محمد وفاةُ يزيدَ بن الوليد دعا قيساً وربيعة، ففرَض لستَّة وعشرين ألفاً من قيس، وسَبعة آلاف من ربيعة وأعطاهم أعطياتهم وولى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي وعلى ربيعة المساور بن عقبة، ثم خرج يريد الشام، واستخلف على الجزيرة أخاه عبدَ العزيز بن محمد بن مَروان، فتلقّاه وُجوه قيس: الوثيق بن الهُذَيل بن زُفَر، ويزيدُ بن عمر بن هُبيرة الفَزاري، وأبو الوَرْد بن الهُذَيل بن زفر، وعاصم بن عبد اللّه بن يزيد الهلاليّ، في خمسة آلاف من قَيس. فساروا معه حتى قَدِم حلب، وبها بِشر ومَسرور، ابنا الوليد بن عبد الملك، أرسلهما إبراهيم بن الوليد حين بلغه مسيرُ مروان بن محمد، فالتقوا، فانهزم بِشْر ومَسرور من ابن محمد من غير قتال، فأخذهما مَروان فحبسهما عنده. ثم سار مَروان حتى أتى حِمْص، فدعاهم للمسَير معه والبيعة لوليي العهد: الحكم وعثمان، ابني الوليد بن يزيد، وهما مَحبوسان عند إبراهيم بن الوليد بدمشق، فبايعوه، وخرجوا معه حتى أتى عسكر سًليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتال شديد. وبلغ عبد العزيز ابن الحجاج بن عبد الملك ما لقي سُليمان وهو مُعسكر في ناحية عَيْن الجَرّ، فأقبل إلى دمشق، وخرج إبراهيمُ بن الوليد من دمشق، ونزل بباب الجابية وتهيأ للقتال، ومعه الأموال على العجل، ودعا الناس فخَذلوه. وأقبل عبدُ العزيز بن الحجاج وسُليمان بن الوليد فدَخلا مدينة دمشق يُريدان قتل الحكم وعثمان ابني الوليد وهما في السجن. وجاء يزيد بن خالد بن عبد الله القَسري فدخل السجن فقَتل يوسف بن عمر، والحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وهما الحَمَلان، وأتاهم رسولُ إبراهيمُ، فتوجّه عبد العزيز بن الحجاج إلى داره ليُخرج عياله، فثار به أهل دمشق فقَتلوه واحتزّوا رأسه، فأتوا به أبا محمد بن عبد اللّه بن يزيد ابن معاوية، وكان محبوساً مع يوسف بن عمر وأصحابه، فأخرجوه ووضعوه على المنبر في قُيوده، ورأسُ عبد العزيز بين يديه، وحلّوا قُيوده. فخطبهم وبايع لمروان وشَتمٍ يزيد وإبراهيم ابني الوليد، وأمر بجُثة عبد العزيز فصُلبت على باب الجابية منكوسا، وبعث برأسه إلى مروان بن محمد. واستأمن أبو محمد لأهل دمشق، فأمنهم مروان ورضي عنهم. وبلغ إبراهيمَ فخرج هارباً حتى أتى مروان فبايعه وخلع نفسه، فقَبِل منه وأمنه، فسار إبراهيمُ فنزل الرّقة على شاطىء الفرات، ثم أتاه كتابُ سليمان بن هشام يَستأمنه، فأمّنه، فأتاه فبايعه. واستقامت لمروان بن محمد. وكانت ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع أشهراً. قال أبو الحسن: شَهرين ونصفاً.

ولاية مروان بن محمد بن مروان
ثم بويع مَروان بن محمد بن مروان بن الحكم. أمه بنت إبراهيم بن الأشتر. قال بعضهم: بل كانت أمه لخباز لمصعب بن الزبير أو لابن الأشتر. واسم الخَبّاز رُزبا، وقال بعضهم: كان رُزبا عبداً لمسلم بن عمرو الباهلي. وقال أبو العباس الهلالي حين دخل على أبي العباس السفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحِمار الجزيرة وابن أمة النخع ابنَ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنَ عبد المطلب. وكان مروان بن محمد أحزَم بني مروان وأنجدهم وأبلغهم، ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر عنهم. ودُفع إلى مروان أبيات قالها الحكم بن الوليد وهو محبوس، وهي:
ألا فِتْيَانَ من مُضرٍ فَيحْمُوا ... أسارى في الحديد مُكَبلينا
أتذهبُ عامر بدمي ومُلْكي ... فلا غَثا أصبتُ ولا سَمينا
فإن أهلك أنا ووليّ عَهدي ... فمروانٌ أميرُ المؤمنينا
فأرِّثْ لا عدمتُك حربَ قيس ... فتُخرجَ منهمُ الداءَ الدًفينا
ألا من مُبلغ مروانَ عني ... وعمي الغَمْرَ طال بدا حَنينا
بأني قد ظُلمت وطال حَبْسي ... لدى البَخْراء في لِحِفِ مَهينا

وقُتل مروانُ ببُوصير من أرض مصر في ذي الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. الوليد بن هشام عن أبيه، وعبد الله بن المُغيرة عن أبيه، وأبو اليَقْظان قالوا: وُلد مَروان بالجزيرة سنة اثنتين وسبعين، وقُتل بقَرية من قُرى مِصر يقال لها بوصير، يومَ الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكانت ولايتهُ خمسَ سنين وستة أشهر وعشرة أيام، وأم مَروان أمة لمُصعب ابن الزبير. وقُتل وهو ابنُ ستين سنة.
ولد مروان عبدُ الملك، ومحمد، وعبد العزيز، وعُبيد اللّه، وعبد الله، وأبان، ويزيد، ومحمد الأصغر، وأبو عثمان. وكاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعيد، مولى بني عامر بن لُؤي، وكان معلَماً وكان على القضاء سُليمان بن عبد الله بن عًلاثة، وعلى شُرطته الكوثر بن عُتبة وأبو الأسود الغَنوي. وكان للحرس نُوب، في كل ثلاثة أيام نوبة، يلي ذلك صاحبُ النَوبة. وعلى حِجابته صقلا ومقْلاص. وعلى الخام الصغير عبدُ الأعلى ابن ميمون بن مِهران، وعلى ديوان الجُند عمْران بن صالح، مولى بني هذيل.
مقتل مروان بن محمد بن مروان

قالوا: والتقى مروانُ وعامرُ بن إسماعيل ببوِصِيرَ من أرض مِصر، فقاتلوهم ليلاً، وعبدُ الله وعبيدُ اللّه، ابنا مروان، واقفان ناحيةَ في جَمع من أهل الشام، فحمل عليهم أهل خُراسان فأزالوهم عن مَراكزهم، ثم كروا عليهم فهزموهم حتى ردُوهم إلى عَسْكرهم ورَجعوا إلى موِقفهم. ثم إنّ أهلَ الشام بدَأوهم فحملوا على أهل خراسان، فكُشفوا كَشْفاً قَبيحاَ، ثم رجعوا إلى أماكنهم، وقد مَضى عبيدُ اللّه وعبدُ الله، فلم يروا أحداً من أصحابهم، فمَضوا على وجوههم وذلك في السحر. وقُتل مروان وانهزم الناسُ، وأخذوا عسكر مَروان وما كان فيه، وأصبحوا فاتّبعوا الفَلّ وتفرق الناس، فجلعوا يَقتلون من قَدروا عليه، ورجع أهلُ خراسان عنهم. فلما كان الغدً لَحِق الناسُ بعبد الله وعُبيد اللّه ابني مروان وجعلوا يأتونهما مُتقطّعين العشرةَ والعشرين وأكثرَ وأقلَّ، فيقولان: كيف أميرُ المؤمنين؟ فيقول بعضُهم: تركناه يُقاتلهم، ويقول بعضهم: انحاز وثاب إليه قومٌ، ولا ينْعونه، حتى أتوا الحَرونَ، فقال: كنت معه أنا ومولىً له فصُرع فجرَرتُ برجله، فقالت: أوجعتَني. فقاتلت أنا ومولاه عنه، وعلموا أنه مروان، فألحّوا عليه، فتركتُه ولحقتُ بكم. فبكى عبدُ اللّه. فقال له أخوه عبيدُ اللّه: يا ألأمَ الناس! فررتَ عنه وتبكي عليه! ومَضوا. فقال بعضهم: كانوا أربعة آلاف! وقال بعضُهم؟ كانوا ألفين. فأتوا بلادَ النوبَة، فأجرى عليهم ملكُ النوبة ما يُصلحهم، ومعهم أمُّ خالد بنت يزيد وأمُّ الحكم بنت عًبيد الله - صبية جاء بها رجل من عسكر مَرْوان حين انهزموا فدَفعها إلى أبيها - ثم أجمع ابنا مَروان على أن يَأتيا اليمن وقالا: نأتيها قبل أن يأتيها المسوِّدة، فنتحصن في حُصونها ونَدْعو الناس. فقال لهم صاحب النُّوبة: لا تفعلوا، إنكم في بلاد السًودان وهم في عدد كَثير، ولا آمن عليكم، فأقيموا، فأبَوْا. قال: فاكتُبوا إلي كتاباً، فكتبوِا له: إنا قَدِمنا بلادَك فأحسنتَ مَثْوانا وأشرت علينا أن لا نَخرج من بلادك فأبينا وخرجنا من عندك وافرَيْن راضيَيْن شاكرَيْن لك بطيبِ أنْفُسنا. وخرجوا، فأخذوا في بلاد العدوّ. فكانوا ربما عَرضوا لهم ولا يأخذون منهم إلا السلاحَ، وأكثرَ من، ذلك لا يعرضون له. حتى أتوا بعضَ بلادهم، فتلقّاهم عظيمُهم فاحتبسهم، فطلبوا الماء، فمَنعهم ولم يُقاتلهم ولم يُخلّهم وعطًشهم، وكان يبيعهم القِرْبة بخمسين درهماً، حتى أخذ منهم مالا عظيماً. ثم خَرجوا فساروا حتى عَرض لهم جبلٌ عظيم بين طريقين، فسلك عبدُ الله أحدَهما في طائفة، وسلك عبيدُ اللّه الآخر في طائفة أخرى، وظنُوا أن للجبل غايةً يَقطعونها ثم يَجْتمعون عند آخرها، فلم يلتقوا. وعَرض قومٌ من العدوّ لعُبيد الله وأصحابه فقاتلوهم، فقُتل عبيد الله، وأخذت أم الحكم بنته، وهي صبية، وقُتل رجلٌ من أصحابه، وكَفُوا عن الباقين وأخذوا سلاحَهم. وتقطع الجيشُ، فجعلوا يتنكّبون العُمران فيأتون الماء فيُقيمون عليه الأيامَ، فتَمْضي طائفة وتُقيم الأخرى، حتى بلغ العطشُ منهم، فكانوا يَنْحرون الدابّة فيَقْطعون أكراشها فيشربونه، حتى وَصلوا إلى البحر بحيال المندب، ووافاهم عبدُ اللّه وعليه مِقْرمة قد جاء بها. فكانوا جميعاً خمسين أو أربعين رجلاً، فيهم الحجاجُ بن قُتيبة بن مسلم الحَرون، وعفْان، مولِى بني هاشم، فعبّر التجار السُّفن، فعبروا بهم إلى المندب، فأقاموا بها شهراً فلم تحملهم، فخرجوا إلى مكة. وقال بعضهم: أعْلِم بهم العاملُ فخرجوا مع الحُجاج عليهم ثيابٌ غِلاظ وجِباب الأكرياء، حتى وافَوْا جَدّة وقد تقطعت أرجلهم من المشي. فمروا بقوم، فرقُّوا لهم فحملوهم. وفارق الحُجاج عبد َالله بجدة. ثم حجّوا وخرجوا من مكة إلى تَبَالة. وكان على عبد اللهّ فصّ أحمر كان قد غيّبه حين عَبَر إلى المَندب، فلما أمِن استخرجه، وكانت قيمتُه ألفَ دينار، وكان يقول وهو يمشي: ليتَ به دابّة. حتى صار في مِقْرَمة تكون عليه بالنهار وَبلْبسها بالليل. فقالوا: ما رأينا مثلَ عبد اللهّ، قاتلوا فكان أشدَّ الناس، ومَشَوا فكان أقواهم، وجاعُوا فكان أصبرهم، وعَرُوا فكان أحسنهم عُرياً. وَبعَث، وهو بالمندب، إلى العدو الذين أخذوا أمَّ الحكم بنتَ أخيه عُبيد اللّه ففداها وردّها إليه، فكانت معه. ثم أخذ عبدُ اللّه فقُدم به على المهديّ، فجاءت امرأتُه

بنت يزيد بن محمد بن مَروان بن الحكم، فكلّمت العباسَ بن يعقوب، كاتِب عيسى بن عليّ، وأعطتْه لُؤلؤاً ليكلِّم فيه عيسى: فكلَّمه وأعلمه بما أعطته فلم يُكلّم فيه عيسى بنً عليّ المهديَ، وأراد المهديُّ أن يقتله، فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بَيعة، وقد أعطى كاتبي قيمةَ ثلاثين ألف درهم، فحَبسه المهديُ. وكان عبد اللهّ بن مروان تزوّج أمّ يزيد بنت يزيد بن محمد بن مروان، وكانت في الحبس، فلما أخرجهم العبّاس خرجت إلى مكة، فأقامت بها، وقدم عبدُ اللّه بن مروان سًّراً فتزوّجها. وقال مولى مروان: كنتُ مع مَروان وهو هارب، فقال لي يوماً: أين عزبت عنا حلومُنا في نِسائنا! ألا زوّجناهم من أكفائهن من قُريش فكُفينا مُؤْنتهن اليومَ. وقال: بعض آل مروان، ما كان شيء أنفعَ لنا في هَربنا من الجوهر الخفيف الثّمن الذي يُساوي خمسة دنانير فما دون، كان يُخرجه الصبيّ والخادم فيَبيعه، وكنا لا نستطيع أن نُظهر الجوهرَ الثّمين الذي له وقيمة كثيرة. وقال مصعب بن الرَّبيع الخَثْعَميّ كاتبُ مروان بن محمد: لما انهزم مروانُ وظَهرَ عبد اللهّ بن عليّ على أهل الشام طلبتُ الإذنَ، فأنا عنده يوماً جالس وهو مُتَكىء، إذ ذَكر مروانَ وانهزامه، فقال: شهدتَ القتالَ؟ قلت: نعم، أصلح اللهّ الأمير، وقال لي مروان: احزُر القوم، فقلت: إنما أنا صاحبُ فلم ولستُ بصاحب حَرْب، فأخذ يَمنة ويسَرة ثم نظر فقال لي: هم اثنا عشرَ ألف رجل. وقال مصب: قيل لمروان: قد انتُهب بيت المال الصغير، فانصرفَ يُريد بيتَ المال. فقيل له: قد انتُهب بيتُ المال الأكبر، انتهبه أهلُ الشام.ت يزيد بن محمد بن مَروان بن الحكم، فكلّمت العباسَ بن يعقوب، كاتِب عيسى بن عليّ، وأعطتْه لُؤلؤاً ليكلِّم فيه عيسى: فكلَّمه وأعلمه بما أعطته فلم يُكلّم فيه عيسى بنً عليّ المهديَ، وأراد المهديُّ أن يقتله، فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بَيعة، وقد أعطى كاتبي قيمةَ ثلاثين ألف درهم، فحَبسه المهديُ. وكان عبد اللهّ بن مروان تزوّج أمّ يزيد بنت يزيد بن محمد بن مروان، وكانت في الحبس، فلما أخرجهم العبّاس خرجت إلى مكة، فأقامت بها، وقدم عبدُ اللّه بن مروان سًّراً فتزوّجها. وقال مولى مروان: كنتُ مع مَروان وهو هارب، فقال لي يوماً: أين عزبت عنا حلومُنا في نِسائنا! ألا زوّجناهم من أكفائهن من قُريش فكُفينا مُؤْنتهن اليومَ. وقال: بعض آل مروان، ما كان شيء أنفعَ لنا في هَربنا من الجوهر الخفيف الثّمن الذي يُساوي خمسة دنانير فما دون، كان يُخرجه الصبيّ والخادم فيَبيعه، وكنا لا نستطيع أن نُظهر الجوهرَ الثّمين الذي له وقيمة كثيرة. وقال مصعب بن الرَّبيع الخَثْعَميّ كاتبُ مروان بن محمد: لما انهزم مروانُ وظَهرَ عبد اللهّ بن عليّ على أهل الشام طلبتُ الإذنَ، فأنا عنده يوماً جالس وهو مُتَكىء، إذ ذَكر مروانَ وانهزامه، فقال: شهدتَ القتالَ؟ قلت: نعم، أصلح اللهّ الأمير، وقال لي مروان: احزُر القوم، فقلت: إنما أنا صاحبُ فلم ولستُ بصاحب حَرْب، فأخذ يَمنة ويسَرة ثم نظر فقال لي: هم اثنا عشرَ ألف رجل. وقال مصب: قيل لمروان: قد انتُهب بيت المال الصغير، فانصرفَ يُريد بيتَ المال. فقيل له: قد انتُهب بيتُ المال الأكبر، انتهبه أهلُ الشام.
وقال أبو الجارود السُّلميّ: حدثني رجل من أهل خراسان قال: لقِينا مروانَ على الزاب، فحمَل علينا أهلُ الشام كأنّهم جبالُ حديد، فجَثونا على الرّكَب وأشْرعنا الرماح، فزالوا عنّا كأنهم سَحابةٌ، ومَنَحنا اللّه أكتافَهم، وانقطع الجسْر مما يليهم حين عَبروا، فبقي عليه رجلٌ من أهل الشام، فخرج إليه رجلٌ منّا، فَقتَله الشاميُّ. ثمِ خرج إليه آخر فقَتله، حتى والَى بين ثلاثة. فقال رجل منَّا: اطلُبوا إليَّ سيفاً قاطعاً وتُرساً صلبا، فأعطيناه، ومشى إِليه فضَر به بالشافي، فأتقاه بالتُّرس، وضَرب رجلَه فقَطعها وقَتله ورجع، فحملناه وكَبَّرنا، فإِذا هو عُبيد اللّه الكابُلي.

سَمَر المنصورُ ذاتَ ليلة فذَكر خُلفاء بني أمية وسيرَهم. وأنهم لم يَزالوا على استقامة حتى أفضى أمرُهم إلى أبنائهم المُترفين، وكانت هِمتهم، مع عِظم شأن المُلك وجَلالة قَدْره، قَصْدَ الشهوات وإِيثارَ اللذات والدخولَ في معاصي اللّه ومساخطه، جهلاً باستدراج اللهّ وأمْنا لمَكْره، فسَلبهم الله العزَ، ونَقل عنهم النِّعمة. فقال له صالح بن عليّ: يا أمير المؤمنين، إن عبد اللّه بن مَروان لما دخل النّوبة هارباً فيمن تَبعه، سأل ملكُ النوبة عنهم، فأخبر، فركب إلى عبد اللّه، فكلّمه بكلام عَجيب في هذا النَّحو لا أحفظه، وأزعجه عن بلده، فإِن رأى أمير المؤمنين أن يَدْعو به من الحَبس بحَضرتنا في هذه الليلة وشماله عن ذلك؟ فأمر المنصورً بإحضاره وسأله عن القصة. فقال: يا أمير المؤمنين، قَدمنا أرض النوبة وقد خُبِّر المَلِك بأمرنا، فدخل عليّ رجلٌ أقنى الأنف طُوالٌ حسنُ الوجه، فقَعد على الأرض ولم يَقْرُب الثياب. فقلت: ما يَمنعك أن تَقعد على ثيابنا؟ قال: لأنّي ملك ويحقّ على الملك أن يتواضع لعَظمة اللّه إذ رَفعه الله. ثم قال: لأي شيء تَشْربون الخمر وهي مُحرمة عليكم؟ قلتُ: اجترأ على ذلك عبيدُنا وغِلْماننا وأتباعنا لأنّ المُلك قد زال عنا. قال: فلم تطئون الزروع بدوابكم والفسادُ مُحرّم عليكم في كتابكم؟ قلت: يَفعل ذلك عبيدُنا وأتباعُنا بجَهلهم. قال: فلِم تَلبَسُون الدِّيباج والحَرير وتَسْتعملون الذهبَ والفِضة، وذلك مُحَرم عليكم؟ قلت: ذهب الملكُ عنّا وقَل أنصارُنا، فانتصرنا بقوم منِ العَجم دخلوا في دِيننا، فلبَسوا ذلك على الكُرْه منَا. قال: فأطرَق مليا وجَعلً يقلَب يدَه ويَنْكُث الأرض ويقول: عبيدُنا وأتباعنا وقومٌ دخلوا في دِيننا وزال المُلك عنا! يردّد مراراً. ثم قال: ليس ذلك كذلك، رب أشتم قومٌ قد استحلَلْتم ما حَرم الله، ورَكِبتم ما نهاكم عنه، وظَلمتم من مَلَكْتم، فَسَلَبكم اللّه العز، وألبسكم الذّل بذُنوبكم، وللّه فيكم نِقْمة لم تَبْلغ غايتَها، وأخاف أن يَحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيُصيبني معكم، وإنما الضيافةُ ثلاثة أيام، فتزوّدوا ما احَتجتم وارْتحلوا عن بلدي.

أخبار الدولة العباسية
الهيثم بن عديّ قال: حدّثني ابن عيّاش قال: حدثني بُكير أبو هاشم، مولى مَسْلمة قال: لم يزل لبني هاشم بيعةُ سرّ ودَعْوَة باطنة منذ قتل الْحُسين بن عليِّ بن أبي طالب، ولم نزل نَسمع بخروج الرايات السُّود من خُراسان وزوال مُلك بني أمية حتى صار ذلك.
وقيل لبعض بني أمية: ما كان سببُ زوال مُلْككم؟ قال: اختلافنا فيما بيننا، واجتماع المختلفين علينا. الهيثم بن عدىّ قال: حدثني غيرُ واحد ممن أدركت من المَشايخ أنّ علي بن أبي طالب أصار الأمر إلى الحَسن، فأصاره إلى مُعاوية، وكَره ذلك الحسينُ ومحمد بن الحنفية. فلما قُتل الحسينُ بن عليّ صار أمرُ الشَيعة إلى محمد بن الحنفيّة - وقال بعضُهم: إلى عليّ بن الحسين - ثم إلى محمد بن عليّ، ثم إلى جعفر بن محمد. والذي عليه الأكثر أنّ محمدَ بن الحنفية أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبدِ اللهّ بن محمد بن الحنفيّة.
فلم يزل قائماً بأمر الشِّيعة يأتونه ويقوم بأمرهم ويُؤدُّون إليه الخِراج، حتى استُخلف سليمانُ بن عبد الملك، فأتاه وافداً ومعه عِدّة من الشيعة، فلما كلمه سليمان، قال: ما كلمتُ قط قرشيّاً يُشبه هذا، وما نَظن الذي كنا نُحدَّث عنه إلا حقاً، فأجازه، وقَضى حوائجه وحوائجَ مَن معه. ثم شخص وهو يريد فِلسطين، فلما كان ببلاد لخم وجُذام ضربوا له أبنية في الطريق ومعهم اللَبن المَسموم، فكلَما مرّ بقوم قالوا: هَلْ لكمِ في الشراب؟ قال: جُزيتم خيراً، ثم بآخرين، فعَرضوا عليه، فقال: هاتوا، فلما شرب واستقر بجوفه، قال لأصحابه: إني ميّت فانظُروا مَن القوم؟ فنظروا فإِذا هم قَوًضوا أبنيَتهم وذَهبوا.
فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي، وما أحسبني أدركه. فأسرعوا السير، حتى أتوا الحُمَيْمَة من أرض الشَراة، وبها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فنزل به، فقال: يا بنَ عمَي، إني ميّت، وقد صرتُ إِليك وأنت صاحبُ هذا الأمر، وولدُك القائم بِه، ثم أخوه مِن بعده، واللّه ليتمّن الله هذا الأمرَ حتى تَخرج الراياتُ السود من قَعْر خُراسان، ثم ليَغْلِبُنّ على ما

بين حَضرموت وأقصى إِفريقية، وما بين الهِنْد وأقصى فَرْغانة. فعليك بهؤلاء الشيعة واستَوْص بهم خيراً، فهم دعاتُك وأنصارُك. ولتكن دَعوتُك خُراسان ولا تَعْدها، لا سيما مَرْو؛ واستَبْطن هذا الحيً من اليمن، فإِن كل مُلْك لا يقوم به فمصيره إِلى انتقاض، وانظُر هذا الحيَّ من رَبيعة فألحقهم بهم، فإِنهم معهم في كل أمر؛ وانظُرْ هذا الحي من قَيس وتميم فأقْصهم، إلا مَن عصم الله منهم، وذلك قليل؛ ثم مرُهم أن يَرْجعوا فَلْيجعلوا اثني عشرَ نقيباً، وبعدهم سبعين نقيباً، فإن اللّه لم يُصلح أمرَ بني إِسرائيل إلا بهم، وقد فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا مضت سنة الحِمَار فوجِّه رُسلك في خُراسان، منهم من يُقتل ومنهم مَن ينجو، حتى يُظهر اللّه دعوتكم. قال محمد بن علي: يا أبا هاشم، وما سَنة الحِمَار؟ قال: إِنه لم تمض مائةُ سنة من نُبَوّةِ قط إِلا انتَقَض أمرها، لقول اللّه عز وجل: " أوْ كالذي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوية عَلَى عُروشها. قال أنىَّ يُحْي هذه اللّه بَعد مَوْتها. فأماته اللهّ مائة عام ثم بَعثه " إلى قوله: " وانظُر إلى حِمَارك ولنَجْعَلَكَ آيةً للنَّاس " . واعلم أنّ صاحب هذا الأمر مِن ولدك عبدُ اللّه بن الحارثية، ثم عبدُ الله أخوه. ولم يكن لمحمد بن علي في ذلك الحين ولدٌ يسمى عبد الله، فوُلد من الحارثيّة ولدان سَمّىِ كل واحد منهما عبدَ الله، وكنى الأكبر أبا العباس، والأصغر أبا جعفر، فوَليا جميعاَ الخلافة. ثم مات أبو هشام وقام محمدُ بن علي بالأمر بَعده، فاختلفت الشيعةُ إِليه. فلما وُلد أبو العباس أخرجه إليهم في خِرقة، وقال لهم: هذا صاحبُكم، فجعلوا يَلْحسون أطرافَه، ووُلد أبو العبّاس في أيام عمرَ بن عبد العزيز. ثم قدم الشيعةُ على محمد بن عليً فأخبروه أنهم حًبسوا بخُراسان في السجن، وكان يَخْدُمهم فيه غلام من السًراجين ما رأوا قطُّ مثلَ عقله وظَرْفه ومحبّته في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له: أبو مسلم. قال: أحر أم عبد؟ قال: أمّا عيسى فيزعم أنه عَبد، وأما هو فيزعم أنه حُر. قال: فاشتَرُوه واعتقوه واجعلوه بينكم إِذ رَضيتموه. وأعْطَوْا محمد بن علي مائتي ألف كانت معهم.
فلما انقضت المائةُ السنة بعثَ محمدً بن علي رُسلَه إِلى خراسان فغرسوا بها غَرْساً، وأبو المُقدًم عليهم، وثارت الفِتنة في خراسان بين المُضرية واليمانية، فتمكًن أبو مُسلم وفَرّق رُسله في كُوَرِ خُراسان يدعو الناس إلى آل الرسول، فأجابوه. ونَصْر بنُ سيار عاملُ خًراسان لهشام بن عبد الملك، فكان يَكتب لهشام بخَبرهم، وتمضي كتبه إِلى ابن هُبيرة صاحب العراق ليُنفذها إلى أمير المؤمنين، فكان يَحْبسها ولا يُنْفذها لئلا يقوم لنَصر بن سيّار قائمة عند الخليفة. وكان في ابن هُبيرة حسد شديد. فلما طال بنَصر بن سيّار ذلك ولم يأته جوابٌ من عند هشام كتب كتاباً وأمضاه إلى هشام على غير طريق ابن هُبيرة، وفي جَوف الكتاب هذه الأبياتُ مُدْرَجة، يقول فيها:
أرَى خَلَل الرماد وميضَ جَمْرٍ ... فيُوشِكُ أنْ يكون لها ضِرَام
فإنّ النارَ بالعُودين تُذْكَى ... وإن الحربَ أولًها الكلام
فإِنْ لم تُطْفئوها تَجْن حَربا ... مُشَمِّرة يَشيب لها الغُلام
فقلتُ من التعجّب ليتَ شِعرِي ... أأيقاظُ أمَيّة أم نِيام
فإن كانوا لحينهمُ نياماً ... فقُل قوموا فقد حان القِيام
فِفِري عن رِحالك ثم قُولي ... على الإسلام والعَرب السلام
فكتب إِليه هشام: أنِ احسم ذلك الثؤلول الذي نجم عندكم. قال نصر: وكيف لنا بحَسمه! وقال نَصْر بن سيّار يُخاطب المضرية واليمانية، ويُحذِّرهم هذا العدو الداخل عليهم بقوله:
أبْلغ ربيعةَ في مَرْوٍ وإخْوَتهم ... فلَيْغضبوا قبل أن لا يَنْفع الغَضَبُ
وَلْينصبوا الحربَ إن القومَ قد نَصَبوا ... حرباً يُحرَّق في حافاتها الحَطب
ما بالُكم تَلقَحون الحربَ بَينكم ... كأنّ أهل الحِجا عن فِعْلكم غَيَب
وتَتْركون عدوًّا أظلِّكم ... مما تَأشب لا دِينٌ ولا حَسَب

قِدْماً يدينون ديناً ما سمعتُ به ... عن الرَّسول ولم تَنزل به الكُتب
فمن يَكن سائلاً عن أصْل دِينهم ... فإنّ دينَهم أنْ تُقْتل العرب
ومات محمد بن عليّ في أيام الوليد بن يزيد، وأوصى إلى ولده إبراهيم بن محمد، فقام بأمر الشِّيعة. وقَدَّم عليهم أبا مسلمِ السرَّاج وسُليمان بن كَثير، وقال لأبي مُسلم: إن استطعت أن لا تَدع بخُراسان لساناً عربياً فافعل، ومَن شَكَكت في أمره فاقتُلْه. فلما استَعْلى أمرُ أبي مُسلم بخُراسان وأجابته الكُور كلها، كتب نصرُ بن سيّار إلى مروان بن محمد بخبر أبي مسلم وكَثرة مَن تَبعه، وانّه قد خاف أن يَسْتولي على خُراسان وأن يَدْعو إِلى إِبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس. فأتى الكتابُ مَروان، وقد أتاه رسول لأبي مُسلم بجوابِ إِبراهيم إلى أبي مُسلم. فكتب مروانُ إلى الوليد بن مُعاوية بن عبد الملك بن مروان، وهو عامله على دمشق: أن أكتُب إلى عاملك بالبَلقاء ليسير إلى الْحُميمة فيأخذ إبراهيم بن محمد فيشدّه وَثاقاً ثم يَبْعث به إِليك، ثم وجهْه إليّ. فحمُل إِلى مَروان، وتبعه من أهله عبدُ الله بن علي وعيسى بن موسى، فأدخل على مروان، فأمر به إلى الحبس.
وقال الهيثم: حدثني أبو عُبيدة، قال: كنتُ آتيه في السجن ومعه فيه سعيدُ بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فواللهّ إني ذاتَ ليلة في سَقيفة السجن بين النائم واليقظان، إذ بمَوْلى لمَروان قد استفتح البابَ ومعه عشرون رجلاً من موالي مروان الأعاجم، ومعهم صاحب السجن، فأصبحنا وسعيدٌ وعبدُ الله وإِبراهيم قد ماتوا.
قال الهيثم: حدثني أبو عُبيدة قال: حدثني وصيفُ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الذي كان يخدمُه في الحَبس: إِنه غَمّ عبدَ اللّه مولاه بِمرْفقه. وإِبراهيمَ بن محمد بجراب نُورة، وسعيدُ بن عبد الملك أخرجه صاحبُ السجن، فلقيه بعضُ حَرس مروان في ظُلمة الليل، فوَطئته الخيلُ وهم لا يعرفون من هو، فمات.
ثم استولى أبو مُسلم على خُراسان كُلها، فأرسل إلى نصر بن سيّار، فهَرَب هو وولده وكاتبه داود حتى انتهوا إلى الرَّيْ، فمات نصرُ بن سيّار بساوَة، وتفرّق أصحابه، ولَحِق داود بالكُوفة وولدُه جميعاً. واستعمل أبو مُسلم عُمّاله على خُراسان ومَرْو وسَمَرقند وأحوازها، ثم أخرج الراياتِ السود، وقَطع البعوث، وجَهَّز الخيل والرجال عليهم قحطبةُ بن شَبيب، وعامر بن إسماعيل، ومُحرز بن إِبراهيم في عِدّة من القُوّاد، فَلَقُوا مَن بطُوس، فانهزموا، ومَن مات في الزِّحام أكثرُ ممن قُتل، فبلغ القتلَى بضعةَ عشرَ ألفاً. ثم مَضى قَحْطبة إلى العِراق، فبدأ بجُرجان، وعليها نُباتة بن حَنْظلة الكِلابيّ. وكان قَحْطبة يقول لأصحابه: والله ليُقْتلن عامرُ بن ضُبارة ويَنْهزمنّ ابنُ هُبيرة، ولكني أخافُ أن أموتَ قبل أن أبلغ ثأري، وأخاف أن أكون الذي يَغْرق في الفرات، فإِن الإمام محمدَ بن عليّ قال لي ذلك.
قال الهيْثمُ: فقَدِم قحطبةُ جُرجانَ فقَتل ابنَ نُباتة، ودخل جُرجان فانتهبها، وقسّم ما أصاب بين أصحابه، ثم سار إلى عامر بن ضُبارة بأصْبهان، فلقيه، فقُتل ابنُ ضُبارة وقتل أصحابه، ولم يَنجُ منهم إِلا الشّرَيد، ولَحق فَلُهم بابن هُبيرة.
وقال قَحْطبة لما قُتل ابن ضُبَارة: ما شيءٌ رأيتُه ولا عدوٌ قتلتُه إلّا وقد حَدّثني به الإمام صلواتُ الله عليه، إلا أنه حدّثني أني لا أعْبُر الفُرات.
وسار قَحطبةُ حتى نزل بحلوان، ووجّه أبا عون في نحو ثلاثين ألفاً إلى مَروان بن محمد، فأخذ على شهر زور حتى أن الزَّاب، وذلك برَأي أبي مُسلم. فحدّث أبو عون عبدُ الملك بن يزيد قال قال لي أبو هشام بُكَير بن ماهان: أنت والله الذي تسير إلى مرْوان، ولتَبْعثنّ إليه غُلاماً مِن مَذْحِج يقال له عامر فلَيقتلنّه. فأمْضيت واللّه عامرَ بن إسماعيل على مُقدَمتي، فلقي مروان فقتله.
ثم سار قَحطبة من حُلوان إلى ابن هُبيرة بالعراق، فالتقوا بالفرات فاقتتلوا حتى اختلط الظلامُ، وقُتل قَحطبة في المَعركة وهو لا يُعرف. فقال بعضُهم: غَرِق في الفُرات.

ثم انهزم ابنً هُبيرة حتى لحق بواسط، وأصبح المُسوِّدة وقد فَقدوا أميرَهم، فقدَموا الحسنَ بن قَحطبة. ولما بلِغ مروانَ قتلُ قَحطبة وهَزيمةُ ابن هُبيرة قال: هذا واللّه الإدبار، وإلا فمتى رأيتُم ميِّتاً هَزم حَيًّاً! وأقام ابن هُبيرة بواسط، وغلبت المُسوَدة على العراق، وبايعوا لأبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عبَّاس لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ووجهَ عَمَّة عَبدَ اللهّ بن علي لقتال مَروان وأهل الشام، وقدّمه على أبي عَون وأصحابه. ووجه أخاه أبا جَعفر إلى واسط لقتال ابن هُبيرة. وأقام أبو العباس بالكُوفة حتى جاءته هَزيمةُ مَرْوان بالزاب، وأمضى عبد اللّه بن علي أبا عون في طَلبه، وأقام على دِمَشق ومدائن الشام يأخذ بَيعتها لأبي العباس.
وكان أبو سَلمة الخلّال، واسمه حَفْص بن سليمان، يدعى وزيرَ آل محمد، وكان أبو مُسلم يدعى أمينَ آل محمد. فقَتل أبو العباس أبا سَلمة الخلاّل واتهمه بحُب بني فاطمة، وأنه كان يَحْطِب في حِبالهم. وقتل أبو جعفر أبا مسلم، وكان أبو مُسلم يقول لقواده إذا أخرجهم: لا تُكلموا الناسَ إِلا رَمْزا، ولا تَلحظوهم إلا شزرا، لتمتلىء صدورُهم من هَيبتكم.

مقتل زيد بن علي
أيام هشام بن عبد الملك
كَتب يوسف بن عُمر إلى هشام بن عبد الملك: إنّ خالدَ بن عبد اللّه أوْدع زيدَ بن عليّ بن حُسين بن عليّ بن أبي طالب مالاً كثيراً. فبعث هشامٌ إلى زَيد، فقَدِم عليه، فسأله عن ذلك، فأنكر، فاستحلفه، فحلف له، فخلّى سبيله، وأقام عند هشام بعد ذلك سنة. ثم دخل عليه في بعض الأيام، فقال له هشام: بَلغني أنك تحدِّث نفسَك بالْخِلافة، ولا تَصْلح لها لأنك ابنُ أمة. قال: أمّا قولكُ إني ابن أمة، فهذا إسماعيل صلى الله عليه وسلم ابنُ أمة، أخرج الله من صُلبه خيرَ البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، وإِسحاقُ ابن حُرة، أخرج اللّه من صُلبه القِردَة والخنازير وعَبدة الطاغوت. وخرج زيد مُغضباً. فقال زيد: ما أَحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذل قال له الحاجب: لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد. وخرج زيدٌ حتى قَدم الكوفة فقال:
شرَده الخوْفُ وأزْرَى به ... كذاك مَن يَكره حَرّ الجلادْ
مُحتفي الرَّجلين يَشْكو الوجَى ... تَنْكُبه أطرافُ مَرْوٍ حِدَاد
قد كان في المَوْت ... له راحة والموتُ حَتْم في رِقاب العِبادْ
ثم خَرج بخُراسان، فوجّه يوسف بنُ عمر إِليه الخيلَ، وخرج في إثرها حتى لقيه، فقاتَله، فرُمي زيدٌ في آخر النهار بنشّابة في نَحْره فمات، فدَفنه أصحابهُ في حمأة كانت قريبةً منهم. وتتبع يوسف أصحابَ زيد، فانهزم من انهزم، وقُتل من قُتل. ثم أتي يوسفَ فقيل له: إن زيداً دُفن في حَمأة. فاستخرجه وبَعث برأسه إلى هشام، ثم صَلبه في سُوق الكُنَاسة. فقال في ذلك أعورُ كلب، وكان مع يوسف في جَيش أهل الشام:
نَصبنا لكم زيداً على جِذْع نخلةٍ ... وما كان مَهْدي على الجذْع يُنصبُ
الشَيباني قال: لما نزل عبدُ الله بن علي نهر أبي فُطرس، حضر الناسُ بابَه للإذن، وحَضر اثنان وثمانون رجلاً من بني أمية، فخَرج الآذن، فقال: يا أهل خراسان، قُوموا. فقاموا سِماطين في مجلسه، ثم أذن لبني أمية، فأخذت سيوفُهم ودخلوا عليه. قال أبو محمد العَبْدي الشاعر: وخَرج الحاجبُ فأدخلني، فسلمتُ عليه، فردّ عليّ السلام، ثم قال أنشدني قولك: وَقَف المُتَيّم في رُسوم دِيار فأنشدتُه حتى انتهيت إلى قولي:
أما الدعاةُ إلى الجنان فهاشمٌ ... وبنو أمية من دُعاة النارِ
مَن كان يَفْخر بالمكارم والعُلا ... فلَها يَتمُّ المجد غيرَ فَخَارِ
والغَمْرُ بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على المُصَلى، وبنو أمية على الكَراسي، فألقى إليّ صُرة حرير خَضراء فيها خَمسُمائة دينار، فقال: لك عندنا عَشرة آلاف درهم وجارية وبرْذون وغلامٌ وتخت ثياب. قال: فوفّى واللهّ بذلك كُلّهُ. ثم انشأ عبدُ اللهّ بن علي يقول:
حسِبتْ أمية أنْ سَيرضى هاشم ... عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها

كلا وربِّ محمدٍ وإِلهِه ... حتى تُباح سهولُها وحُزونها
ثم أخذ قَلنسوته من رأسه فضَرب بها الأرض، فأقبل أولئك الجند على بني أمية فخَبطوهم بالسّيوف والعَمد. وقال الكلْبي الذي كان بينهم، وكان من أتباعهم: أيها الأمير، إني والله ما أنا منهم. فقال عبدُ الله بن علي:
ومُدْخلٍ رأسَه لم يَدْعُه أحد ... بين العرينَيْن حتى لَزَه القَرَنُ
اضربوا عُنقه، ثم أقبل على الغَمْر فقال: ما أحسبُ لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا. فقال: أجل. قال: يا غلام، اضرب عُنقه فأقيم مِن المُصلى فضرُب عنقه. ثم أمر ببساط فطُرح عليهم، ودعا بالطعام فجعل يأكل وانين بعضهم تحت البِساط.
وفي رواية أخرى قال: لما قَدم الغَمْر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلاً من بني أمية، فوُضعت لهم الكراسي ووُضعت لهم نمارق وأجْلسوا عليها، وأجلس الغمرَ مع نَفْسه في المُصلى، ثم أذن لشِيعته فدخلوا، ودخل فيهم سُديف بن مَيمون، وكان مُتوشِّحاً سيفاً متنكّباً قوساً، وكان طويَلاً آدم، فقام خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيزعُم الضُلال بما حَبِطت أعمالُهم أنّ غَير آل محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالخلافة، فلِم وبم؟ أيها الناس، ألكم الفَضل بالصَحابة دون ذوي القرابة، والشُرِكاء في النسب، الأكفاء في الحسب، الخاصَّة في الحياة، الوُفاة عند الوفاة، مع ضربهم على الأمر جاهلكم، وإطعامهم في الَّلأواء جائعكم؛ فلكم قَصم الله بهم من جبّار باغ، وفاسِقٍ ظالم. لم يسمع بمثل العباس، لم تَخضع له الأمة بواجب حق الحُرمة، أبو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجِلْده ما بينَ عيْنيه، أمنيةُ ليلة العقبة، ورسولُه إلى أهل مكة، وحاميه يوم حُنين، لا يَردّ له رأياً، ولا يُخالف له قَسَمِا. إنكم واللّه معاشرَ قُريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث اختار اللّه لكم، تيميّ مرةَ وعدويّ مرة، وكُنتم بين ظَهْراني قوم قد اثروا العاجلَ على الآجل، والفاني على الباقي، وجَعلوا الصدقاتِ في الشهوات، والفَيءَ في اللّذات، والمغانم في المحارم، إذا ذُكِّروا باللّه لم يذكروا، وإذا قُدِّمُوا بالحق أدبروا، فذلك كان زمانُهم، وبذلك كان يَعمل سلطانهم.
فلما كان الغد أذن لهم فدَخلوا ودخل فيهم شبِل، فلما جلسوا قام شِبْل فاستأذن في الإنشاد، فأذِن له فأنشد:
أصبح الملكُ ثابتَ الأساس ... بالبهاليل من بَني العبًاس
طَلبوا وِتْر هاشمٍ فَلَقُوها ... بعد مَيْل من الزَمان وباس
لا تُقِيلن عبدَ شمس عِثاراً ... اقطعُوا كل نخلة وغِراس
ولقد غاظَني وغاظَ سَوائِي ... قُرْبُهم من مَنابر وكَراسي
واذكُروا مَصْرع الحُسين وزيداً ... وقَتيلاً بجانب المهرَاس
وقتيلاً بجَوْف حَرَّان أضحَى ... تَحْجُل الطيرُ حوله في الكِناس
نِعم شبْل الهراش مولاك شِبْل ... لو نجا من حَبائل الإفلاس
ثم قام وقاموا. ثم أذن لهم بعد، فدخلوا ودخل الشَيعة. فلما جلسوا قام سُديف بن ميمون، فأنشد:
قد أتتك الوُفود من عبد شَمْس ... مستعدين يُوجعون المِطيا
عَنوِة أيها الخليفة لا عَن ... طاعةٍ بل تَخوَفوا المَشرفيّا
لا يَغرَنْك ما. ترى من رجالٍ ... إن تحتَ الضلوع داءً دَوِيّا
فضَع السيفَ وارفع السَّوط حتى ... لا ترى فوقَ ظَهْرها أمويا
ثم قام خَلَف بن خَليفة الأقطع فأنشد:
إن تُجاوز فقد قَدرتَ عليهم ... أو تُعاقب فلم تُعاقِب بريّا
أو تُعاتبهم على رقة الدِّين فقد كان دينهم سامرياً
فالتفت أبو العباس إلى الغَمر، فقال: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: والله إن هذا لشاعر، ولقد قال شاعرنا ما هو أشعر من هذا. قال: وما قال؟ فأنشده:
شَمس العَداوة حتى يستقادَ لهم ... وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قَدَروا

فشرَق وجهُ أبي العباس بالدم وقال: كذبتَ يا بن اللَخناء، إني لا أرى الخُيلاء في رأسك بعد، ثم قاموا. وأمر بهم فدُفعوا إلى الشَيعة، فاقتَسموهم فضربوا أعناقَهم، ثم جَزوا بأرجلهم حتى ألقوها في الصحراء بالأنبار، وعليهم سراويلاتُ الوَشيْ، فوقف عليهم سُديف مع الشِّيعة وقال:
طَمِعتْ أمية أنْ سيرضى هاشمٌ ... عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها
كلا ورب محمد وإلهه ... حتى يباد كَفُورها وخَؤُونها
وكان أشدَ الناس على بني أمية عبدُ اللّه بن علي، وأحنهم عليهم سليمان بن علي. وهو الذي كان يسميه أبو مُسلم كَنف الأمان، وكان يُجير كل من استجار به، وكتب أبي العباس: يا أمير المؤمنين، إنَا لم نُحارب بني أمية على أرْحامهمِ وإنما حار بناهم على عُقوقهم، وقد دافت إلي منهم دافّة لم يَشْهروا سلاحاً، ولم يُكَثروا جَمْعا، فأحبّ أن تكتب لهم منشورَ أمان. فكتب لهم منشورَ أمان وأنفذه إليهم. فمات سليمانُ بن علي وعنده بِضْع وثمانون حُرمة لبني أمية.

خلفاء بني أمية بالأندلس
عبد الرحمن بن معاوية بن هشام
أول خلفاء الأندلس من بني أمية عبدُ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. وَلي الملكُ يوم الجمعة لعشر خَلَوْن من ذي الحجة سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة، وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة. وتوفي في عَشرة من جُمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة. فكان مُلْكه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر. وكان يقال له صَقْر قُريش، وذلك أن أبا جعفر المنصور قال لأصحابه: أخْبروني عن صَقْر قُريش. من هو؟ قالوا: أمير المؤمنين الذي راضَ المُلك، وسَكَّن الزَّلازل، وحَسم الأدواء، وأباد الأعداء. قال: ما صنعتم شيئاً. قالوا: فمعاوية. قال: ولا هذا. قالوا: فعبدُ الملك بن مروان. قال: ولا هذا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: عبدُ الرحمن بن معاوية، الذي عَبر البحر، وقَطع القَفز، ودَخل بلداً أعجمياً مُفْرداً، فمصر الأمصار، وجَنَّد الأجناد، ودَوّن الدَواوين، وأقام مُلكاً بعد انقطاعه، بحُسن تدبيره، وشِدة شَكيمته. إنَّ معاوية نَهض بمَرْكب حَمله عليه عمر وعثمان وذلّلا له صعبه، وعبدَ الملك ببَيعةٍ تقدَم له عَقْدُها، وأمير المؤمنين بطلب عشيرته، واجتماع شيعته، وعبدَ الرحمن منفرد بنفسه، مؤيَّد برأيه، مُسْتصحب لعَزْمه.
وقالوا: لما توطَّد مُلْك عبد الرحمن بن مُعاوية عَمِل هذه الأبيات وأخْرجها إلى وزرائه، فاستَغربتُ من قوله إذ صدَقها فعلُه، وهي:
ما حَق مَن قام ذا امتعاض ... بِمُنْتَضى الشَّفرتَين نَصلاَ
فبزّ مُلكاً وشاد عِزَا ... ومِنْبراً للخِطاب فَمصلا
فجاز قفراً وشَقَّ بَحْراً ... مُسامِياً لُجَّة ومَحْلَا
وجَنَّد الجُنْدَ حين أوْدَى ... ومَصَّر المِصْر حين أجْلى
ثم دَعا أهلَه جميعاً ... حيثُ انتأوا أن هَلمَ أهْلا
فجاء هذا طَريد َجُوع ... شريد َسَيْف أبيد قَتْلا
فَحلّ أمناً ونال شِبْعاً ... وحاز مالاً وضَمّ شَملا
ألم يَكُن حق ذا على ذا ... أوجبَ من مُنْعم. ومَوْلى
وكتب أميّة بن يزيد عنه كتاباً إلى بعض عُمَّاله يَسْتقصره فيما فَرّط فيه من عمله، فأكثر وأطال الكتاب، فلما لَحظه عبدُ الرحمن أمر بقَطْعه، وكتب: أما بعد، فإنْ يكن التَقصير منك مُقدَّما. فحَرِيّ أن يكون الاكتفاءُ عنك مُؤَخَراً، وقد علمتَ بما تقَدَمت، فاعتمد على أيّهما أحْببت.
وكان ثار عليه ثائرٌ بغربي بَلْدة، فغزاه فظَفِر به وأسره، فبينما هو مُنْصَرِف وقد حُمل الثائرُ على بغل مَكْبولاً، نظر إليه عبدُ الرحمن بني مُعاوية وتحته فرس له، فقنع رأسَه بالقناة، وقال: يا بغل، ماذا تحمل من الشَقاق والنًفاق؟ قال الثائر: يا فَرس، ماذا تحمل من العَفو والرحمة؟ فقال له عبدُ الرحمن: والله لا تذوق موتاً على يدي أبداً.
هشام بن عبد الرحمن

ثم وَلي هشامُ بن عبد الرَّحمن لسبع خَلَون من جُمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين ومائة، ومات في صَفَر سنة ثمانين ومائة. فكانت ولايتُه سبعَ سنين وعشرةَ أشهرِ. ومات وهو ابنُ إحدى وثلاثين سنة. وهو أحسنُ الناس وجهاً، وأشرفهم نفساً، الكامل المُروءة، الحاكم بالكتاب والسنة، الذي أخذ الزكاة على حِلِّها، ووَضعها في حَقها، لم يُعرف منه هفوة في حداثته، ولا زَلة في أيام صِباه.
ورآه يوماً أبوه وهو مُقبل مُمتلىء شباباً فأعجبه، فقال: يا ليتَ نساء بني هاشم أبصرنه حتى يَعُدن فواركَ. وكان هشامَ يصرِّر الصُّرر بالأموال في ليالي المَطر والظلْمة، ويَبعث بها إلى المساجد. فيُعطي مَن وُجد فيها. يريد بذلك عمارة المساجد، وأوصى رجلٌ في زمن هشام بمال في فكّ سَبَّيه من أرْض العدو، فطُلبت فلم توجد؛ احتراساً منه للثغر واستنقاذاً لأهل السَّبْي.

الحكم بن هشام
ثم وَلي الخلافة الحكمُ بنِ هشام في صَفر سنة ثمانين ومائة، وكانت ولايتُه ستا وعشرين سنة وأحد عشر شهراَ. ومات يومَ الخميس لثلاث بَقِين من ذي الحجّة سنة ست ومائتين. وهو ابنُ اثنتين وخمسين سنة. وكانت فيه بَطالهّ، إلا أنه كان شُجاعَ النفس، باسطَ الكَف، عظيم العَفْو، متخيراً لأهلٍ عمله ولأحكام رعيته أورعَ من يقدر عليهم وأفضلَهم، فيسلطهم. على نَفسه فضلاً عن ولده وسائر خاصّته. وكان له قاض قد كَفاه أمورَ رعيّته بفَضْله وعَدله ووَرعه وزُهده، فمرض مرضاً شديداً، واغتمَ له الحَكَم غمًّا شديداً. فذكر يزيدُ فتاه أنه أرِق ليلة وبَعُد عنه نومُه وجَعل يَتململ على فراشه، فقلت: اصلح اللّه الأمير، إني أراك متململاً وقد زال النومُ عنك فلم أدْرِ ما عَرض لك؟ قال: ويحك! إني سمعتُ نائحة هذه الليلة وقاضينا مريض، فما أراه إِلا قد قَضي نحبه، وأين لنا بمثله؟ ومَن يقوم للرعية مَقامه؟ ثم إن القاضي مات، واستقضى الحكمُ بعده سعيدَ ابن بَشير. فكان أقصدَ الناس إلى حق، أخذهم بعَدل، وأبعَدهم من هوى، وأنفذَهم لحُكم. رَفع إليه رجلٌ من أهل كُورة جَيَّان أنّ عاملاً للحَكم اغتصبه جاريةً وعَمِل في تَصْييرها إلى الحَكم، فوقعت من قَلبه كلَّ موقع، وأن الرجل أثبتَ أمرَه عند القاضي، وأتاه ببيّنة وشُهود يَشْهدون على مَعْرفة ما تظلم منه وعلى عَين الجارية ومَعْرفتهم بها. وأوجبت البيّنةُ أن تحضر الجارية، واستأذن القاضي على الحَكم، فأذِن له، فلما دخل عليه، قال: إنه لا يتم عَدْل في العامّة دون إِفاضته في الخاصَّة، وحَكى له أمرَ الجارية وخَيّره في إبرازها إليه. أو عَزْله عن القضاء. فقال له: ألا أدْعوك إلى خير من ذلك؟ تَبتاع الجارية من صاحبها بأنفس ثمن وأبلغ ما يسأله فيها. فقال: إنَّ الشَهودَ قد شَخصوا من كُورة جَيان يَطلبون الحق في مظانّه، فلما صاروا ببابِك تَصرْفهم دون إنفاذ الحقّ لأهله، ولعلّ قائلاً أن يقول: باعَ ما يملك بيعَ مُقتسَر على أمْره. فلما رأى عَزْمه أمَر بإخراج الجارية من قَصرِه، وشهِد الشَّهودُ على عَيْنها، وقَضى بها لصاحبها.
وكان سعيدُ بن بَشير القاضي إذا خَرج إلى المسجد، أو جَلس في مَجلس الحُكم، جلس في رِداء مُعَصفر وشعر مُفَرق إلى شَحْمة أذنيه، فإذا طُلب ما عنده وُجد أوْرعَ الناس وأفضلهم.
وكانت للحكم ألف فَرس مَرْبوطة بباب قَصره على جانب النَهر، عليها عَشرة عُرفاء، تحت يدِ كل عَريف منها مائةُ فرس لا تُندب ولا تَبْرح، فإذا بلغه عن ثائر في طَرفٍ من أطرافه عاجَله قبل استحكام أمره، فلا يَشعر حتى يحاط به. وأتاه الخبر: أن جابرَ بنَ لَبيد يُحاصر جيّان وهو يَلْعب بالصولجانِ في الجِسرِ. فدكا بعَريف من أولئك العُرفاء فأشار إليه أن يخرج مَن تحت يده إلى جابر بن لبيد، ثم فَعل مثلَ ذلك بأصحابه من العرفاء. فلم يَشْعر ابنُ لَبيد حتى تساقطوا عليه مُتساوين، فلما رأى ذلك عدوُّه سُقط في أيديهم وظَنّوا أن الدنيا قد حُشرت لديهم، فولّوا مُدبرين.
وقال الحَكم يوم الهيجاء بعد وقعةِ الرَّبض:
رأبت صُدوعَ الأرْض بالسَّيف راقعاً ... وقِدْماً رأبتُ الشَّعب مُذ كُنتُ يافعَا
فسائلْ ثُغوري هل بها اليوم ثُغْرةٌ ... أبادِرُها مُسْتنْضيَ الصيف دارِعا

وشافِه علىِ أرْض الفَضاء جَماجماً ... كأقحاف شِرْيان الهَبيد لَوَامِعا
تنبئْك أني لم أكن عن قراعهم ... بوانٍ وأني كنت بالسيف قارعا
ولما تَساقَينا سِجال حُروبنا ... سَقَيتُهم يسُمًا من المَوت ناقِعا
وهل زِدْت أنْ وَفَّيتُهم صاعَ قَرْضهم ... فوافَوْا مَنايا قُذَرت ومَصارعا
قال عثمانُ بن المُثنى المؤدَب: قَدم علينا عباس بن ناصح من الجَزيرة أيامَ الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فاستنشدني شِعْرَ الحَكم، فأنشدْتُه، فلما انتهيتُ إلى قوله:
هل زِدْت أن وَفيتهم صاعَ قَرْضهم
قال: لو جوثي الحكم في حُكومة لأهل الربض لقام بعُذره هذا البيت.

عبد الرحمن بن الحكم
ثم ولي بعده عبدُ الرحمن بن الحَكم، أندى الناس كَفَاً، وأكرمُهم عَطفاً، وأوسعُهم فَضْلاً، في ذي الحجَّة سنة لسِتٍّ ومائتين، فمَلك إحدى وثلاثين سنة وخمسةَ أشهر. ومات ليلةَ الخميس لثلاث خَلَون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وستِّين سنة، وكتب إليه بعضُ عُماله يسأله عملاً رفيعاً لم يكن مِن شاكلته، فَوقع في أسفل كتابه: مَن لم يُصِبْ وَجْهَ مَطلَبه، كان الحِرمان أولى به.
محمد بن عبد الرحمن
ثم ولي المُلكَ محمدُ بن عبد الرحمن، يومَ الخميس لثلاث من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملك أربعاً وثلاثين سنة، وتُوفي يومَ الجمعة مُستهلّ ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وهو ابنُ سبع وستين سنة. وكتب عبد الرحمن بن الشَّمر إلى الأمير محمد بن عبدِ الرحمن في حياة أبيه عبد الرحمن، وكان يتجنّب الوُقوف ببابه مخافةَ نصر الفَتى، فلما مات نصرٌ كتب ابنُ الشَمِر هذه الأبياتَ إلى محمد يقوله فيها:
لئن غابَ وَجْهي عنكَ إنَّ مَودَّتي ... لشاهدة في كلِّ يومٍ تُسَلّمُ
وما عاقني إلّا عدوٌّ مُسلَّطٌ ... يُذلُ ويُقصي مَن يشاء وًيرغم
ولم يَسْتطل إلّا بكم وبعزّكم ... ولا يَنبغي أن يُمْنح العِز َّمُجرم
فمكّنتموه فاستطال عليكُم ... وكادت بنا نيرانُه تتضرَّم
كذلك كَلْب السَّوء إنْ يشبع انبَرى ... لمُشْبعه مستشلياً يَترمرم
فجَمِّع إخواناً لُصوصاً أرذالاً ... ومَنَاهُم أنْ يَقْتُلونا ويَغْنموا
رأى بأمين اللّه سًقماً فَغَرَّه ... ولم يَك يَدْري أنه يتقدَّم
فَنَحْمد ربًّا سَرَّنا بهلاكه ... فما زال بالإحْسان والطَّول يُنْعم
أراد يكَيد اللّه نصْرٌ فكاده ... ولله كَيْد يَغلب الكَيْدَ مُبرَم
بَكى الكًفرُ والشيطانُ نصراً فأعوَلا ... كما ضحِكَت شوقاً إليه جَهنم
وكانت له في كُل شهرٍ جِبايةٌ ... جِباية آلافٍ تُعَد وتُختَم
فهل حائطُ الإسلام يَوماً يسومهم ... بما اجترموا يوماً عليه وأقدموا
وُينْهبنا أموالَهم وهو فاعل ... فإنّي أرى الدُنيا له تَتبسَّم
ألا أَيها الناسُ اسمعوا قولَ ناصحٍ ... حريص عليكم مُشفِق وتَفهَّموا
محمد ُنُورٌ يُستضاء بوَجهه ... وسَيْفٌ بكف الله ماضٍ مُصمّم
فكونُوا له مثلَ البَنين يَكنْ لكم ... أباً حدِباً في الرُحْم بل هو أرحم
فيا بن أمين اللّه لا زلتَ سالماً ... مُعافًى فإنا ما سلمتَ سنَسْلم
ألستَ المُرَجى من أميّة والذي ... له المَجْدُ منها الأتلدُ المُتَقدّم
وأنتَ لأهل الخَير رَوحٌ ورَحمة ... نَعَمْ ولأهلِ الشَرِّ صاب وعَلقَم

وحدَّث بَقّي بن محمد الفَقيه قال: ما كلمتُ أحداَ من المُلوك أكملَ عقلاً، ولا أبلغ لَفظاً، من الأمير محمد، دخلتُ عليه يوماً في مجلس خلافته فافتتح الكلامَ، فحَمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذَكر الخُلفاء خليفةً خليفَةَ، فحكى كلَّ واحد منهم بحِلْيته ونَعْته ووصفه، وذكر مآثرَه ومَناقبه، بأفْصح لسان، وأبْين بَيان، حتى انتهى إلى نَفسه فسَكت.
وخَرج الأميرُ محمد يوماً متنزهاً إلى الرُّصافة ومعه هاشمُ بن عبد العزيز، فكان بها صدَر نَهاره على لذَّته، فلما أمسى واختلط الظلامُ رجع مُنصرفاً إلى القَصر وبه اختلاط، فأخبَرني مَن سَمعه وهاشم يقول له: يا سيدي، يا بن الخلائف، ما أطيبَ الدُّنيا لولا. قال له: لولا ماذا؟ قال: لولا الموت. قال له: يا بن اللَّخناء، لَحنت في كلامك، وهل مَلكنا هذا المُلك الذي نحن فيه إلا بالموت، ولولا المَوت ما مَلَكناه أبداً.
وكان الأميرُ محمد غَزَّاءً لأهل الشِّرك والخلاف، وربما أوْغل في بلاد العدو السِّتة الأشهر أو أكثر، يَحرق ويَنْسف، وله في العدو وَقيعة وادي سَليط، وهي من أمهات الوقائع، لم يُعرف مثلُها في الأندلس قبلها، وفيها يقول عبّاس بنُ فرناس، وشعرُه يَكفينا من صِفتها:
ومُختلِف الأصْوات مُؤتلف الزحْف ... لَهُوم الفَلا عَبْل القنابل مُلتَفّ
إذا أومضت فيه الصَّوارمُ خِلتَها ... بُروقَاً تَراءَى في الجَهام وتَسْتَخْفي
كأنّ ذُرى الأعلام في سَيلانه ... قَراقير يَمٍّ قد عَجَزن عن القَذْف
وإن طَحنت أركانُه كان قُطبُها ... حِجَى مَلك نَجدٍ شمائلُه عَفِّ
سَمِى خِتام الأنبياءِ مُحمَّد ... إذا وُصف الأملاكُ جَل عن الوصْف
فمن أجْله يومَ الثُّلاثاء غُدوةً ... وقد نَقض الإصْباح عَقْد عُرى السَّجف
بَكى جبلاً وادي سَليط فأعولا ... على النَّفر العُبْدان والغصْبة الغُلف
دعاهم صريخ الحَيْن فاجتمعوا له ... كما اجتمع الجُعلان للبَعْر في قُفّ
فما كان إلا أنْ رماهم ببَعضها ... فولوا على أعْقابِ مهْزومة كًشف
كأنّ مساعيرَ المَوالي عليهُم ... شواهينُ جادت للغَرانيقٍ بالنَسْف
بنَفسي تنانير الوغَى حينَ صُفِّفت ... إلى الجَبَلِ المَشْحون صفّا على صَفِّ
يقول ابنُ يليوسِ لموسى وقد وَنى ... أرى المَوت قُدّامي وتَحْتي ومِن خَلْفي
قتَلناهُم ألفاً وألْفاً ومثلَها ... وألفاً وألفاً بعد ألفٍ إلى ألف
سِوى مَن طواه النهرُ في مُستلجّه ... فأغْرق فيه أو تدأدأ من جُرْف

المنذر بن محمد

ثم ولي المنذرُ بن محمد، يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ومات يومَ السبت في غَزاة له على بُبَشتر، لثلاثَ عشرةَ بقيت من صَفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وهو ابنُ ستٍّ وأربعين سنة. وكان أشدَّ الناس شَكيمة، وأمضاهم عزيمة. ولما ولي المُلك بَعث إِليه أهلُ طُليطلة بجبايتهمِ كاملةً فردّها عليهم، وقال: استعينوا بها في حَرْبكم فأنا سائر إِليكم إن شاء الله. ثم غزا إلى المارق المرتدّ عمر بن حَفْصون وهو بِحصْن قامره، فأحْدق به وبخَيله ورَجْله، فلم يجد الفاسقُ مَنفذاً ولا متنفساً، فأعمل الحيلة ولاذ بالمكر والخديعة، وأظهر الإتابة والإجابة، وأن يكون من مُستوطني قُرطبة بأهله وولده، وسأل إلحاق أولاده في الموالي. فأجابه الأمير إلى كل ما سأل، وكتب لهم الأمانات، وقُطعت لأولاده الثياب، وخُرزت لهم الخِفاف، ثم سأل مائةَ بغل يَحمل عليها ما لَه ومتاعه إلى قُرطبة، فأمر الأمير بها. وطُلبت البغال ومَضت إلى بُبَشْتَر، وعليها عشرة من العرفاء، وانحلّ العسكرُ عن الحِصن بعضَ الانحلال، وعكف القاضيِ وجماعة من الفقهاء على تمام الصُّلح فيما حَسبوا. فلما رأى الفاسق الفُرصةَ انتهزها ففسق ليلاً وخَرج، فلقي العُرفاء بالبغال فقَتلهم، وأخذَ البغال وعاد إلى سيرتِه الأولى. فعقد المُنذر على نفسه عقداً أن لا أعطاه صُلحاً ولا عهداً إلا أن يُلقي بيده ويَنزل على عهدِه وحُكمه، ثم غَزاه الغزاة التي تُوفي فيها، فأمر بالبُنيان والسّكنى عليه، وأن يُردَّ سوق قرطبة إِليه، فعاجله أجلُه عن ذلك.
عبد اللّه بن محمد
ثم تولّى عبدُ الله بن محمد، التقيّ النقيّ، العابد الزاهد، التالي لكتاب اللّه، والقائم بحدود الله، يومَ السبت لثلاثَ عشرةَ بقيَت مِن صفر سنة خمس وسبعين ومائتين. فبنى الساباط وخرج إلى الجامع، والتزم الصلاة إلى جانب المنبر، حتى أتاه أجلُه، رحمه اللّه، يومَ الثلاثاء لليلة بقيت من صَفر سنة ثلثمائة. وكانت له غزوات، منها غَزاة بَليّ التي أنست كُلّ غزاة تقدّمتها، في لك أن المُرتد ابن حَفْصون ألّب عليه كُور الأندلسَ حتى لم يبقى منها إلا قرطبة وحدها، ثم أقبل في ثلاثين ألفا من أهل الكور فنزل حِصْنَ بَليّ، وخرج إليه الأمير عبدُ اللّه بن محمد في أربعةَ عشرَ ألفاً من أهل قرطبة خاصة، وأربعة آلاف من حَشمه ومواليه، فبَرز إليه الفاسق، وقد كرْدس كراديسه في سَفْح الجبل، وناهضه الأميرُ عبد الله بجُمهور عسكره، فلم يكن له فيهم إلا صَدْمة صادقة، أزالهم بها عن معسكرهم، فلم يقدروا أن يتراجعوا إِليه. ونظر الفاسقُ إلِى مُعسكر عبد الله الأمير، فإذا بمَدَد مُقبل مثل اللَّيل، في انحدارِ السيل، لا ينقطع، فجَبُنت نفسه، وعَطف إلى الحصن يظهر إخراج مَن بقي فيه، فثَلم ثلمة وخَرج منها في خمسة معه، وقد طار بهم جَناحُ الفرار. فلما انتهى ذلك إلى أهل عَسكره وَلّوّا مُدبرين، لا يلوي أحد على أحد، فعملت الرماحُ في أكتافهم، والسيوفُ في طلا أعناقهم، حتى أفْنوهم أو كادوا. وكان منهم جماعةٌ قد افترقوا في عسكر الأمير عبد الله، فقعد الأمير في المَظلة، وأمر بالتقاطهم، وأن لا يَمُر أحدٌ على أحد منهم إلا قَتله. فقُتل منهم ألف رجل صبراً بين يدي الأمير.

عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين
ثم ولي الملكَ القمرُ الأزهر، الأسدُ الغضنفر، الميمونُ النقيبة، المحمودُ الضريبة، سيدُ الخلفاء، وأنجبُ النجباء، عبدُ الرحمن بن محمد أمير المؤمنين، صبيحةَ هلال ربيع الأول سنة ثلثمائة، فقلت فيه:
بدا الهلالُ جديداً ... والمُلك غَضُ جديدُ
يا نِعْمة اللّه زِيدي ... ما كان فيه مَزيد

وهي عدة أبيات، فتولّى المُلكَ، والأرض جَمْرة تحتدم، ونارٌ تَضْطرم، وشِقاق ونفاق، فأخمد نيرانَها، وسًكن زلازلها، وافتتحها عَوْداً كما افتتحها بدءًا سميًّه عبدُ الرحمن بن معاوية، رحمه الله. وقد قلتُ وقيل في غَزواته كُلّها أشعار، قد جالت في الأمصار، وشُرِّدت في البلدان، حتى أتهمت أنجدت وأعرقت، ولولا أنٌ الناس مُكْتفون بما في أيديهم منها لأعدنا ذِكرها أو ذِكر بعضها. ولكننا سنذكر ما سبق إلينا من مَناقبه التي لم يتقدَّمه إليها متقدم، ولا أخْت لها ولا نظير، فمن ذلك أوّل غَزاة غَزاها، وهي الغزاة المعروفة بغَزاة المنتلون، افتتح بها سبعين حِصْناً، كُلّ حصن منها قد نَكلت عنه الطوائف، وأعيا على الخلائف. وفيها أقول:
قد أوضحَ اللّه للإِسلام مِنهاجَا ... والناسُ قد دَخلوا في الدِّين أفواجَا
وقد تَزينت الدُّنيا لساكنها ... وكأنما ألْبست وَشْياً ودِيباجا
يا بنَ الخلائف إنّ المُزن لو عَلمت ... نَداك ما كان منها الماءُ ثجَاجا
والحربُ لو علمت بأساً تَصول به ... ما هًيجت من حُميّاك الذي اهتاجا
ماتَ النِّفَاق وأعطى الكُفْرُ ذِمّتَه ... وذلّت الخَيل إلجاماً وإسراجا
وأصبح النصرُ معقوداً بألْوية ... تَطْوي المراحلَ تَهْجِيراً وإِدْلاجا
أدخلتَ في قُبة الإسلام مارقةً ... أخرجتَهم من ديار الشِّرك إخراجا
بجَحْفل تَشْرَقُ الأرض الفضاءُ به ... كالبَحر يَقْذِف بالأمواج أمواجا
يقوده البدرُ يَسْرِي في كواكبه ... عَرمرماً كسواد اللّيل رجْراجا
تَرُوق فيه بُرِوق الموت لامعةً ... وتَسْمعون به للرَّعد أهْزَاجا
غادرتَ في عَقْوتي جَيَّان مَلْحمةً ... أبكيتَ منها بأرض الشرِّك أعلاجا
في نِصْف شهر تركتَ الأرضَ ساكنةً ... من بعدما كان فيها الجَوْرُ قدماجا
وُجِدتَ في الخبر المأثور مُنْصلتاً ... مِن الخلائف خَراجاً وولاجا
تُملأ بك الأرض عدلاً مثل ما مُلئت ... جَوْراً وتُوضِحُ للمَعروفِ مِنْهاجا
يا بَدْر َظُلمتها يا شَمْسَ صُبحتها ... يا ليْثَ حَوْمتها إنْ هائجٌ هاجا
إنّ الخلافةَ لن تَرْضىَ ولا رَضِيت ... حتى عَقدت لها في رَأسك التَّاجا
ولم يكن مثل هذه الغَزاة لملك من الملُوك في الجاهلية والإسلام. وله غَزاة مارشن، التي كانت أخت بَدر وحُنين، وقد ذكرناها على وجهها في الأرجوزة التي نظمتُها في مَغازيه كُلِّها من سنة إحدى وثلثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة، وأوقعناها في أسفل كتابنا لتكون جامعةً لمغازي أمير المؤمنين، وجعلتُها رجزاً لخفّة الرجز وسُهولة حفظه وروايته. ومن مَناقبه: أن الملوك لم تزل تَبني على أقدارها، وُيقضى عليها بآثارها، وأنّه بَنى في المُدة القليلة ما لم تَبن الخلفاءُ في المدة الطويلة. نعم، لم يبق في القَصر الذي فيه مصانع أجداده ومعالم أوليّته بِنْية إلا له فيها أثر مُحدث، إما تزْييد أو تَجْديد ومن مناقبه: أنّه أوّد من سُمِّي أميرَ المؤمنين من خلفاء بنى أمية بالأندلس. ومن مَناقبه التي لا أخت لها ولا نَظير، ما اعْجز فيه مَن بعده، وقات فيه مَن قبله، الجودُ الذي لم يُعرف لأحد من أجواد الجاهلية والإسلام إلا له. وقد ذكرتُ ذلك في شعري الذي أقول فيه:
يا بن الخلائف والعُلا للمُعْتلِى ... والجودُ يُعْرف فضلُه للمفضل
نوَهت بالخُلفاء ِبل أخْملتهم ... حتى كأن نَبيلهم لم يَنبُل
أذْكرتَ بل أنْسيت ما ذكر الألى ... من فِعلهم فكأنه لم يُفعَل
وأتيتَ آخرَهم وشَأوُك فائتٌ ... للآخِرين ومُدْرِكٌ للأوّل
الآن سمَيَتِ الخلافةُ باسمها ... كالبَدْر يُقرَن بالسماك الأعْزل
تأبَى فَعالُك أن تُقر لآخِر ... منهمْ وجُودُك أن يكون لِأول
وهذه الأرجوزة التي ذكرَت جميع مغازيه، وما فتح الله عليه فيها في كل غزاة

وهي:
سُبحان مَن لم تَحوه أقطارُ ... ولم تكنْ تُدركه الأبصارُ
ومَن عَنت لوجهه الوُجوهُ ... فما له نِذو لا شَبيهُ
سبحانَه مِن خالقِ قديرِ ... وعالمٍ بِخلْقه بَصير
وأوّلٌ ليس له ابتداءُ ... وآخِرٌ ليس له انتهاءُ
أوسَعنا إحسانُه وفضلُه ... وعَزَّ أن يكون شيء مثلُه
وجَلّ أن تُدْركَه العُيونُ ... أو يَحْوياه الوَهم والظُنونُ
لكنّه يُدرَك بالقَريحه ... والعَقل والأبنية الصَّحِيحه
وهذه مِن أثبتْ المَعارفْ ... في الأوْجه الغامضة اللَطائفْ
معرفة العَقْل من الِإنسانِ ... أثبتُ من مَعرفة العِيانِ
فالحمْدُ للّه على نَعْمائِه ... حمداًل جزيلاً وعلى آلائِه
وبعد حَمْد الله والتَّمجيدِ ... وبعد شُكر المُبدىء المُعيدِ
أقولُ في أيام خير الناسِ ... ومَن تحلَّى بالنَّدى وِالباس
ومَن أباد الكَفُرَ وَالنفاقَا ... وشرًّد الفِتْنة والشقاقَا
ونحنُ في حَنادسٍ كالليل ... وفتنة مثل غُثاء السيل
حتى تولّى عابدُ الرحمنِ ... ذاك الأغر من بني مروانِ
مُؤيدٌ حَكم في عُداته ... سيفاً يَسيل الموتُ من ظُباتِه
وصبح المُلك مع الهلال ... فأصبحَا يِديْن في الْجَمَال
واحتمل التَقوى على جَبِينِه ... والدين والدُّنيا على يمينِه
قد أشرقت بنُوره البلادُ ... وانقطع التشغيب والفسادُ
هذا على حينَ طغَى النفاقُ ... واستفحل النُكَّاثُ والمُرّاقُ
وضاقت الأرضُ على لسُكانها ... وأذْكت الحربُ لظَى نيرانِها
ونحنُ في عَشواء مُدلهمّهْ ... وظُلمة ما مثلُها من ظُلمهْ
تأخذُنا الصَّيحة كُل يوم ... فما تَلذُ مُقْلةٌ بنَوْم
وقد نُصلي العيدَ بالنواظِر ... مخافةً من العدوّ الثائِر
حتى أتانا الغوثُ من ضِياءِ ... طَبًق بين الأرْض والسماء
خليفة الله الذي اصطفاه ... على جَميع الخَلق واجْتباه
مِن مَعدن الوحي وبَيْت الحِكمه ... وخيْر مَنسوب إلى الأئمة
تَكِلُّ عن مَعروفه الجَنائبُ ... وتَسْتحى من جُوده السحائبُ
في وَجهه من نُوره برهانُ ... وكفُّه تَقبيلها قُرْبانُ
أحْيا الذي مات من المَكارِم ... من عَهد كَعْب وزَمان حاتِم
مكارم يَقصُرُ عنها الوَصْف ... وغرِّة يَحْسرًُ عنها الطَّرفُ
وشِيمة كالضابِ أو كالماء ... وَهِمَّة تَرِقَى إلى السماء
وانظر إلى الرفيع من بُنيانِه ... يُريك بِدْعاَ من عَظيم شَانِه
لو خايل البحرُ نَدَى يَديْهِ ... إذَا لَجَت عُفاتُه إلَيهِ
لغاض أو لكاد أن يَغِيضَا ... ولا استَحى من بعدُ أن يفِيضَا
مَن أسبغ النًّعمى وكانت مَحْقَا ... وفتْق الدنيا وكانت رَتقَا
هو الذي جَمّع شمْلَ الأمهْ ... وجاب عنها دامساتِ الظُلمَه
وجدَد المُلك الذي قد أخْلَقا ... حتى رَسَت أوتادُه واسْتَوسقَا
وجَمّع العُدّة والعَدِيدا ... وكَثَّفَ الأجْناد والحشودا
أول غزاة غزاها عبد الرحمن أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد
ثم انتحَى جَيّان في غَزاته ... بعَسكر يَسْعر من حُماتِه
فاستنزل الوحشَ من الهضاب ... كأنما حطت من السّحاب
فأذعنت مُرّاقُها سراعَاَ ... وأقبلت حُصونها تَداعَىَ

لمَا رماها بسيوف العَزْم ... مَشْحوذة على دُروع الحَزْم
كادت لها أنفُسهم تجودُ ... وكادت الأرضُ بهم تَميدُ
لولا الإله زُلزلت زِلزالَها ... وأخْرجت من رَهْبة أثقالَها
فأنزل الناسَ إلى البسط ... وقَطَع البَيْن من الخَليط
وافتَتح الحُصونَ حِصناً حِصناً ... وأوْسع الناسَ جميعاً أمْنَا
ولم يَزل حتى انتحى جيانَا ... فلم يَدَع بأرْضها شَيطانَا
فأصبح الناسُ جميعاً أمّه ... قد عَقد الإلّ لهم والذَمّه
ثم انتحى من فَوره إلْبيرَهْ ... وهي بِكل آفةٍ مَشهورهْ
فداسَها بِخَيله ورَجْله ... حتى توَطّا خَدَّها بنَعْله
ولم يَدَع من جِنّها مَرِيدَا ... بها ولا من إنسها عَنيدَا
إلا كَسَاه الذُّلَّ والصّغارَا ... وعمَه وأهلَه دَمارَا
فما رأيتُ مثلَ ذاك العام ... ومثلَ صُنع اللّه للإسلام
فانصرفَ الأميرُ من غَزاته ... وقد شَفاه اللّهُ من عُداته
وقبلها ما خضعت وأذعنتْ ... إسْتِجة وطالما قد صَنعتْ
وبعدها مدينة الشِّئيل ... ما أذعنت للصارم الصَقيل
لما غَزاها قائدُ الأمير ... باليُمن في لِوائهِ المنْصورِ
فأسلمتْ ولم تكن بالمُسلمة ... وزال عنها أحمدُ بن مَسْلمهْ
وبعدها في آخرِ الشُّهورِ ... من ذلك العام الزَّكيّ النُّورِ
أرْجفت القِلاعُ والْحُصونُ ... كأنما ساوَرَها المَنونُ
وأقبلتْ رجالها وُفودَا ... تبْغِي لدَى إمامها السعودَا
وليس مِن ذِي عزَة وشدَه ... إلا توافَوْا عند باب السدَّه
قُلوبهمْ باخعةٌ بالطّاعَهْ ... قد أجْمعوا الدُّخولَ في الجَماعهْ

سنة إحدى وثلثمائة
ثم غَزا في عُقب عام قابِل ... فجال في شَذُونة والسّاحل
ولم يَدَعْ رَيَّةَ والجزيرة ... حتى كَوى أكلبَها الهريرَه
حتى أناخ في ذُرى قَرْمونَه ... بكَلْكل كمَدْرة الطاحُونه
على الذي خالَف فيها وانتزَى ... يعْزى إلى سوادة إذا اعتزَى
فسال أنْ يُمهله شُهورَا ... ثم يكون عبدَه المأمُورَا
فأسعف الأميرُ منه ما سألْ ... وعاد بالفَضْل عليه وقَفلْ
سنة اثنتين وثلثمائة
كان بها القُفول عند الجَيّه ... من غَزْو إحدى وثَلثماية
فلم يَكن يُدرَك في باقيها ... غَزْو ولا بَعْث يكون فيها
سنة ثلاث وثلثمائة
ثُمت أغزى في الثلاث عَمَّهْ ... وقد كَساه عَزْمَه وحَزْمهْ
فسار في جَيْش شديدِ الباس ... وقائدُ الجيْش أبو العبَّاس
حتى تَرقّى بذُرى بُبَشْتَرْ ... وجالَ في ساحاتها بالعَسْكرْ
فلِم يَدَع زَرْعاً ولا ثِمارا ... لهم ولا عِلقَاَ ولا عُقَارَا
وقطع الكُروم منها والشَجَرْ ... ولم يُبايع عِلْجها ولا ظَهَرْ
ثم انثنى من بعد ذاك قافلا ... وقد أباد الزَرع والمآكِلاَ
فأيقن الخِنزيرُ عِند ذاكا ... أنْ لا بقَاء يُرتَجى هُناكا
فكاتَب الإمامَ بالإجابَه ... والسمْع والطّاعة والإنابه
فأخْمد اللّهُ شِهابَ الفِتْنه ... وأصْبح الناسُ معاً في هُدْنه
وارتعت الشاةُ معاً والدِّيبُ ... إذا وَضعت أوزارَها الحُرُوبُ
سنة أربع وثلثمائة
وبعدها كانت غَزاة أرْبع ... فأي صُنْع ربنا لم يَصْنَع
فيها ببَسْط المَلِك الأواهِ ... كِلْتا يَديهِ يا سَبيل اللّهِ

وذاك أنْ قَوَّد قائدَيْنِ ... بالنَّصر والتّأييد ظاهرَيْنِ
هذا إلى الثغر وما يَليهِ ... على عدوّ الشِّرك أو ذَويهِ
وذا إلى شُمِّ الرُّبا من مُرْسِيَه ... وما مَضى جرى إلى بَلَنْسيَه
فكان مَن وَجّهه للساحلْ ... القرشيًّ القائد القنابلْ
وابن أبي عَبْدة نحو الشِّرْكِ ... في خَيْر ما تَعْبيةٍ وشِكِّ
فأقبلا بكُل فَتْح شامل ... وكُلّ ثُكل للعدوّ ثاكلِ
وبعد هذي الغَزْوة الغَرّاءَ ... كان افتتاحُ لَبْلة الحَمْراءِ
أغزَى بجُند نحوَها مَولاهُ ... في عُقْب هذا العام لا سِواهُ
بَدرًا فضمّ جانبيها ضَمَّة ... وغَمها حتى أجابت حُكمه
وأسْلمت صاحبَهما مَقهورَا ... حتى أتى بدرٌ به مَأسُورَا

سنة خمس وثلثمائة
وبعدها كانت غَزاةُ خَمْس ... إلى السَّوَادِيّ عقيدِ النَّحْس
لما طَغى وجاوز الحُدودَا ... ونَقض الميثاقَ والعُهودَا
ونابذَ السُّلطانَ مِن شَقائِهِ ... ومِن تَعدِّيه وسُوء رائهِ
أغزى إليه القُرشيَّ القائدَا ... إذ صار عن قَصْد السبيل حائِدَا
ثُمَّت شدَّ أزرَه ببَدْرِ ... فكان كالشَّفع لهذا الوترِ
أحدَقها بالخيل والرجال ... مُشمِّراً وجدَّ في القتال
فنازل الحِصنَ العظيمَ الشانِ ... بالرّجْل والرُّماة والفُرسانِ
فلم يَزل بدرٌ بها محاصرَا ... كذا على قِتاله مُثابرَا
والكلبُ في تهوّرٍ قد انغمسْ ... وضُيِّق الحَلْق عليه والنَّفَسْ
فافترق الأصحابُ عن لوائِه ... وفَتحوا الأبوابَ دُون رائهِ
واقتحم العَسكرُ في المدينهْ ... وهُو بها كهَيْئة الظعينهُ
مستسلماً للذًّل والصّغار ... وملقياً يَديه للإسارِ
فنزَع الحاجبُ تاجَ مُلْكهِ ... وقادَه مُكَتَفا لهُلْكه
وكان في آخر هذا العام ... نَكْب أبي العبَّاس بالإسلام
غَزا وكان أنجدَ الأنجادِ ... وقائدا من أفحل القوادِ
فسار في غيْر رجال الحَرْبِ ... الضاربين عند وَقْت الضَّربِ
مُحارباً في غير ما مُحارب ... والحَشَمُ الجُمهور عند الحاجب
واجتمعت إليه أخلاطُ الكُوًرْ ... وغاب ذو التَّحصيل عنه والنَّظر
حتى إذا أوغل في العَدُو ... فكان بين البُعد والدُّنوَ
أسلمه أهلُ القُلوب القاسيهْ ... وأفْردوه للكِلاب العاوَيهْ
فاستشهد القائدُ في أبْرارِ ... قد وَهَبوا نُفوسَهم للبارِي
في غَير تَأخير ولا فِرارِ ... إلاّ شديد الضرب للكُفارِ
سنة ست وثلثمائة
ثم أقاد الله من أعْدائه ... وأحْكم النصرَ لأِوْليائِه
في مَبدأ العام الذي مِن قابل ... أزْهق فيه الحقُّ نَفْس الباطل
فكان مِن رأيِ الإمام الماجدِ ... خَيْرِ مَولودٍ وخَيْر والدِ
أنِ احتمَى بالواحِد القهَارِ ... وفاضَ من غَيظ على اَلكُفارِ
فجمَّع الأجنادَ والحُشودَا ... ونَفرّ السيد والمَسودَا
وحَشر الأطرافَ والثُّغورَا ... ورَفض اللّذاتِ والحُبورَا
حتى إذا ما وَفت الجُنودُ ... واجتَمع الحُشّادُ والحُشودُ
قوَد بدراً أمَر تلك الطائفهْ ... وكانت النفسُ عليه خائفَهْ
فسار في كَتائب كالسَّيل ... وعَسكَرٍ مِثل سَوادِ الليل
حتى إذا حَلّ على مُطْنيّه ... وكان فيها أخبثُ البريهْ

ناصبَهم حرباً لها شرار ... كأنما أضرمَ فيها النارُ
وجدّ من بينهمُ القتالُ ... وأحْدقت حولَهم الرجالُ
فحاربُوا يومَهمُ وباتُوا ... وقد نَفت نومَهم الرماة
فهم طَوالَ الليل كالطلائح ... جراحُهم تَنْغل في الجوارح
ثم مَضوْا في حَرْبهم أيامَا ... حتى بدا الموتُ لهم زُؤاما
لما رأوْا سحائبَ المَنيّه ... تُمطرهم صَواعِق البَليه
تَغَلْغَل العُجم بأرض العُجم ... وانحشَدوا مِن تحت كلِّ نَجم
فأقبَل العِلْجُ لهم مُغِيثَا ... يومَ الخَمُيس مُسْرعاً حَثِيثَا
بين يديِه الرَّجلُ والفَوارسُ ... وحوله الصُّلبان والنَّواقس
وكان يَرجو أن يُزيل العَسْكرَا ... عن جانب الحِصْنِ الذي قد دُمَرا
فاعتاقَه بدرٌ بمن لَدَيهِ ... مُستبصراً في زحفِه إليْهِ
حتى التقت ميمنة بمَيْسرة ... واعتنّت الأرْواحُ عند الْحَنْجره
ففاز حِزْبُ اللّهِ بالعِلْجان ... وانهزمت بطانةُ الشيطانِ
فقُتِّلوا قتلاً ذَرِيعاً فاشيَا ... وأدبَر العِلْجُ ذَمِيماً خازيا
وانصَرفَ الناسُ إلى القُليعه ... فصبّحوا العَدوّ يومَ الجُمعة
ثم التَقى العِلْجان في الطّريق ... البنلوني مع الجلقي
فاعقدا على انتهاب الْعَسكرِ ... وأن يَموتا قبل ذَاك اْلمحْضر
وأقْسما بالْجبْت والطّاغوتِ ... لا يُهْزما دون لِقاء المَوْتِ
فأقبلوا بأَعظم الطّغيانِ ... قد جَلّلوا الْجبالَ بالفُرسانِ
حيَ تدَاعى الناسُ يوم السبتِ ... فكان وقتاً يا له من وَقْتِ
فأشرعت بَينهم الرماح ... وقد علا التَكبير والصياحُ
وفارقت أغمادَها السيوف ... وفَغرت أفواهَها الحُتوفُ
والتقت الرجالُ بالرجال ... وانغمسوا في غَمْرة القتال
في مَوْقفٍ زاغتْ به الأبصارُ ... وقَصرُت في طُوله الأعمارُ
وهبّ أهلُ الصَبر والبَصائِر ... فأوعقوا على العدوّ الكافِر
حتى بدت هزيمةُ البُشكنس ... كأنَه متضب بالوَرْسِ
فانقضت العِقبان والسَّلالقَهْ ... زَعْقاً على مُقدَّم الجلالقَهْ
عُقبان مَوْتِ تَخطِف الأرواحَا ... وتُشبع السيوفَ والرِّماحَا
فانهزم الخنزيرُ عند ذاكَا ... وانكشفتْ عورته هُناكَ
فقُتَلوا في بَطن كلِّ وادِي ... وجاءت الرؤوس في الأعْوادِ
وقَدّم القائدُ ألفَ راس ... مِن الجَلاليق ذَوي العماس
فتمّ صُنع اللّه للإسلام ... وعمّنا سرورُ ذاك العام
وخيرُ ما فيه من السُّرورِ ... موت ابن حَفْصون به الخنزيرِ
فاصل الفتحُ بفتح ثاني ... والنصرُ بالنَصر من الرحمنِ
وهذه الغَزاة تُدعى القاضِيَة ... وقد أتتهم بعد ذاك الدَاهِيهْ

سنة سبع وثلثمائة
وبعدها كانت غَزاةُ بَلْده ... وهي التي أوْدَت بأهل الردَه
وبَدْؤُها أنَ الإمام المصطَفى ... أصدقَ أهل الأرض عدلاً ووَفَا
لما أتته مِيتةُ الْخِنْزِيرِ ... وأنه صار إلى السعيرِ
كاتَبه أولادُه بالطاعَهْ ... وبالدُخول مَدْخل الجَماعَهْ
وأن يُقِرَّهم على الولايَهْ ... على درور الخَرْج والجِبايَهْ
فاختارَ ذلك الإمامُ المُفْضِلُ ... ولم يزَل مِن رأيهِ التفضلُ
ثم لَوى الشيطانُ رأسَ جَعفرِ ... وصارَ منه نافخاً في المُنْخُر
فنقَضَ العُهودَ والميثاقَا ... واستعمل التشغيب والنَفاقَا

وضَم أهلَ النُكْث والخلافِ ... من غير ما كافٍ وغير وافي
فاعتاقَه الخليفة المَؤيّد ... وهو الذي يشقى به ويسعد
مَن عليه مِن عُيونِ اللّهِ ... حوافظٌ مِن كلَ أمرٍ داهِي
فجَنّد الجُنودَ والكَتائبَا ... وقَوَّد القُوّاد والمَقانِبَا
ثم غَزا في أكثر العديدِ ... مُسْتَصحَبَاً بالنَّصر والتأييدِ
حتى إذا مَر بحِصْن بَلْدهْ ... خَلَّف فيه قائداً في عِدَهْ
يَمنعهم مِن انتِشار خَيله ... وحارساً في يَومه ولَيلهمْ
ثم مَضى يستنزلُ الحُصونَا ... ويبعث الطلاّع والعُيونَا
حتى أتاه باشرٌ من بَلْدَهْ ... يعدو برأس رأسِها في صَعْدَهْ
فقدَم الخيْل إليها مُسرعَا ... واحتلّها مِن يومه تَسرُّعَا
فحفّها بالخيْل والرُّماةِ ... وجُملةِ الحُماة والكُماةِ
فاطّلع الرجْلُ على أنْقابها ... واقتحم الجُندُ على أبوابها
فأذعنتْ ولم تَكُن بمُذعِنهْ ... واستسلمت كافرةُ لمؤمِنَهْ
فقُدَمت كُفّارها للسّيفِ ... وقتَلوا بالحَق لا بالحَيفِ
وذاك مِن يُمن الإمام المُرْتَضىَ ... وخير مَن بَقِي وخير من مَضىَ
ثم انتحى من فوره بُبَشترَا ... فلم يدَعْ بها قضيبَاً أخضرَا
وحَطَّم النباتَ والزُروعَا ... وهَتك الرِّباع والربوعا
فإذا رأى الكلبُ الذي رآه ... مِن عَزْمه في قَطْع مُنْتَواهُ
ألَقى إليه باليَدين ضارِعَا ... وسال أنْ يُبْقَى عليه وادعا
وأنْ يكون عاملاً في طاعتِهْ ... على دُرورِ الخَرْج مِن جِبايتهْ
فوثق الإمامُ من رِهانهِ ... كَيلا يكونَ في عَمى من شانِه
وقبِل الإمامُ ذاك منهُ ... فضلاً وإحساناً وسار عنهُ

سنة ثمان وثلثمائة
ثمِ غزا الإمامُ دارَ الْحَرب ... فكان خطباً يا له من خَطب
فحُشدت إليه أعلامُ الكُورْ ... ومَن له في النَاس ذِكرٌ وخطر
إلى ذَوي الدَيوان والرياتِ ... وكُلِّ مَنسوب إلى الشَاماتِ
وكل مَن أخلص للرحمن ... بطاعةٍ فيً السر والإعلانِ
وكلَ مَن طاوع في الجهاد ... أو ضمه سَرْج على الجياد
فكان حشداً ياله من حشدِ ... من كُل حُرٍ عندنا وعَبدِ
فتحسبُ الناسَ جراداً مُنتشرْ ... كما يقول ربُّنا فيمن حُشر
ثم مَضى المُظَفَّر المنصورُ ... على جَبِينه الهُدى والنُورُ
أمامه جُند من الملائكهْ ... آخذة لربها وتاركهْ
حتى إذا فوَز في العَدوَ ... جَنبه الرحمنُ كُلَّ سَوَ
وأنزل الجزيةَ والدَواهِي ... على الذينِ أشركوا باللّهِ
فزُلزلت أقدامُهم بالرُّعب ... واستُنْفِروا من خوف نار الحَرْب
واقتحموا الشِّعابَ والمَكامنَاَ ... وأسْلموا الحُصونَ والمَدائنَاَ
فما بقِي من جَنَبات دُورِ ... مِن بَيعة لراهب أو دَيْرِ
إلا وقد صَيَرها هباءَ ... كالنَار إذ وافقت الأباءَ
وزَعزعت كتائبُ السلطانِ ... لكُل ما فيها من البنْيانِ
فكان مِن أول حِصْن زَعْزعُوا ... ومَن له منِ العدوَ أوْقعُوا
مَدينة معْرُوفة بوَخْشَمَهْ ... فغادروها فحمةً مُسخمهْ
ثم ارتقوا منها إلى حَواضر ... فغادروها مثلَ أمس الدابرِ
ثم مَضوْا والعلج يَحْتذيهمُ ... بجَيْشه يَخشى ويَقْتفيهمُ
حتى أتوا تواً لوادِي ديّ ... ففيه عفِّى الرُّشدُ سبُلَ الغيّ

لما الْتقوْا بمَجمع الجَوْزينِ ... واجتمعت كتائبُ العِلْجين
مِن أهل ألْيون وبَنبلونَهْ ... وأهل أرنيط وبَرْشلونَهْ
تضافر الكفُرُ مع الإلحادِ ... واجتمعوا مِن سائر البلادِ
فاضطربوا في سَفح طَوْد عالِي ... وصَففوا تعبيةَ القِتال
فبادرتْ إِليهمُ المُقدِّمهْ ... ساميةً في خَيلها المُسوَّمه
ورِدُها متصل برِدِّ ... يُمده بحر عظيمُ المَدِّ
فانهزم العِلجان في عِلاج ... ولَبسوا ثوباً من العَجاج
كلاهما يَنظُر حيناً خَلفَهُ ... فهو يَرى في كُلِّ وَجْهٍ حتْفهُ
والبِيض في إِثرِهم والسمْرُ ... والقَتْل ماضٍ فيهمُ والأسْرُ
فلم يكن للناس منْ بَراح ... وجاءت الرُّؤوس في الرِّماح
فأمر الأميرُ بالتَقْويض ... وأسرْع العَسكَرُ في النًّهوض
فصادفُوا الجُمهور لما هُزمُوا ... وعاينوا قُوّادَهم تُخرِّمُوا
فدخلوا حديقَةً للموتِ ... إذ طَمِعوا في حصْنها بالفَوْتِ
فيالَها حديقةً ويالَها ... وافتْ بها نفوسهم آجالَها
تحضنوا إذ عاينوا الأهْوالا ... لمَعقلٍ كان لهم عِقالا
وصَخرة كانت عليهم صَيْلمَا ... وانقلبوا منها إلى جَهنما
تساقطوا يستطعمون الماءَ ... فأخرجت أرواحُهم ظِماءَ
فكم لسيف الله من جَزُورِ ... في مَأدب الغِرْبان والنسورِ
وكم به قَتلى من القساوس ... تندب للصُّلبَان والنَّواقس
ثم ثَنى عنانَه الأميرُ ... وحولَه التهليلُ والتّكبيرُ
مُصمماً بحرْب دار الحرب ... قُدّامَه كتائبٌ من عُرْب
فداسَها وسامَها بالخَسْفِ ... والهتكِ والسفك لها والنَّسْفِ
فحرّقوا ومزقوا الحُصونا ... وأسْخنوا من أهلها العُيونَا
فانظُر عن اليمين واليسارِ ... فما تَرى إلا لهيبَ النارِ
وأصبحتْ ديارُهم بلاقعَا ... فما تَرى إلا دخاناً ساطعَا
ونُصر الإمامُ فيها المصطفى ... وقد شَفى من العدو واشتَفى

سنة تسع وثلثمائة
وبعدها كانت غَزاة طرشْ ... لسَما إليها جيشه لم يُنْهَشْ
وأحدقتْ بحِصْنها الأفَاعي ... وكُل صِل أسْود شُجاع
ثم بَنى حِصْناً عليهِا راتِبَا ... يَعتور القوّادُ فيهِ دائبَا
حتى أنابتْ عَنوةَ جِنانُها ... وغابَ عن يافوخها شَيطانُها
فأذعنتْ لسيد السادات ... وأكرم الأحياء والأمواتِ
خليفةِ الله على عِبادِه ... وخير مَنْ يَحكم في بلادِه
وكان موت بدرٍ بنِ أحمدِ ... بعد قُفول المَلكِ المُؤَيدِ
واستحجب الإمامُ خيْرَ حاجب ... وخيْرَ مَصحوب وخَير صاحبِ
مُوسى الأغَرّ من بني جُدَيرِ ... عَقيد كُل رأفةٍ وخَير
سنة عشر وثلثمائة
وبعدها غَزِاةُ عشرْ غَزْوَهْ ... بها افتتاحُ منتلون عَنوَهْ
غزا الإمامُ في ذوي السلطان ... يَؤُمّ أهلَ النُّكْث والطغيانِ
فاحتلّ حِصْن منتلوِن قاطعَا ... أسباب مَن أصبح فيه خالعَا
سارَ إليه وبَنى عليه ... حتى أتاهُ مُلْقِياً يَدَيْه
ثم انثنى عنه إلى شَذُونَهْ ... فعاصَها سهلاً من الْحُزونَهْ
وساقَها بالأهل والوِلدانِ ... إلى لُروم قُبّة الإيمانِ
ولم يَدَعْ صَعْبًا وَلا منيعاً ... إلا وقد أذلهَم جميعَا
ثم انثنَى بأطيبِ القفُول ... كما مَضىَ بأحسنِ الفضول
سنة إحدى عشرة وثلثمائة

وبعدها غزاة إحدَى عشَرَهْ ... كم نَبّهت من نائمٍ في سَكْرَهْ
غزا الإمامُ يَنتحي بُبَشْتَرا ... في عَسْكر أعظمْ بذاك عَسْكرا
فاحتلّ مِن بُبَشْتَر ذَراها ... وجال في شاطٍ وفي سواها
فخرّب العُمران من بُبَشْتَرِ ... وأذعنت شاطُ لربِّ العَسكرِ
فأدخل العدة والعديدَا ... فيها ولم يَتركْ بها عَنِيدَا
ثم انتَحى بعدُ حُصونَ العُجْم ... فداسها بالقَضْم بعد الخَضْم
ما كان في سواحل البُحورِ ... منها وفي الغاباتِ والوُعور
وأدخل الطاعةَ في مكانِ ... لم يدْر قط طاعةَ السلطانِ
ثم رَمى الثغرَ بخير قائدِ ... وذادهم عنه بخير ذائد
به قما اللّهُ ذوي الإشراكِ ... وأنقذ الثغرَ من الهلاكِ
وانتاش من مَهْواتها تُطِيلَهْ ... وقد جرت دماؤُها مَطلُولَهْ
وطَهر الثغرَ وما يَليهِ ... من شِيعةِ الكُفر ومن ذَويهِ
ثم انثنى بالفَتح والنجاح ... قد غيّر الفسادَ بالصلاح

سنة اثنتي عشرة وثلثمائة
وبعدها غَزاةُ ثِنْتَيْ عَشَرَهْ ... وكم بها من حَسْرَةٍ وعِبْرَهْ
غزا الإمامُ حولَه كتائبه ... كالبَدْر محفوفاً به كواكبُه
غزا وسيفُ النّصر في يَمينه ... وطالعُ السٌعدِ على جَبينه
وصاحبُ العَسكر والتدبير ... موسى الأغرُّ حاجب الأمير
فدمَّر الحُصونَ من تُدْمِير ... واستنزل الوحشَ من الصخورِ
فاجتمعتْ عليه كُلّ الأمهَ ... وبايعته أمراء الفتنة
حتى إذا أوعب من حصونها ... وجمَّل الحق على مُتونها
مَضى وسار في ظلال العَسكرِ ... تحت لواءِ الأسد الغَضَنْفَرِ
رجال تُدمير ومَن يليهمُ ... من كلّ صِنفٍ يعتزى إليهم
حتى إذا حَلَّ على تُطيله ... بكت على دمائها المَطلولَهْ
وعِظْم ما لاقت من العدو ... والحرب في الَّرواح والغدوِّ
فهمّ أن يديخ دار الحرب ... وأن تكَونَ رِدأهُ في الدَرْب
ثم استشار ذا النُّهى والحِجْرِ ... من صَحْبِه ومِن رجال الثغْر
فكُلهم أشار أن لا يُدْرِبا ... ولا يَجوز الجبل المُؤشبا
لأنه في عسكرٍ قد انخرمْ ... بندْبِ كلِّ العُرفاء والحشَمْ
وشَنعوا أنَ وراء الفَج ... خمسينَ ألفاَ من رجال العِلْج
فقال لا بُد من الدُخول ... وما إلى حاشاه مِن سبيل
وأن أديخ أرض بَنْبلونَهْ ... وساحة المدينة الملْعُونَهْ
وكان رأيا لم يكُن من صاحب ... ساعدَه عليه غيرُ الحاجبِ
فاستنصر الله وعبى ودَخلَ ... فكان فتحاً لم يكُن له مَثَلْ
لما مَضى وجاوز الدروبَا ... وادّرعٍ الهَيْجاء والحُروبَا
عبَّى له عِلْجٌ من الأعلاج ... كتائبا غَطت على الفِجاج
فاستنصرَ الإمامُ رب الناس ... ثم استعان بالندى والباس
وعاذ بالرَّغْبَةِ والدُّعاء ... واستنزل النصرَ مِن السماءِ
فقدَم القوَّادَ بالحُشود ... وأتْبع المُدود بالمدودِ
فانهزم العلجُ وكانت مَلْحَمَهْ ... جاوز فيها الساقةُ المُقدَمهْ
فقُتَلوا مَقتلة الفَناءِ ... فارتوت البِيضُ من الدَماءِ
ثم أمال نحوَ بَنْبلونهْ ... واقتحم العسكرُ في المَدينهْ
حتى إذا جاسوا خلالَ دُورها ... وأسرع الخرابُ في مَعْمورها
بكتْ على ما فاتَها النواظرُ ... إذ جَعلت تَدُقها الحَوافرُ
لفَقد من قَتّل من رجالها ... وذُلّ من أيْتم من أطفالها
فكم بها وحولها من أغلفِ ... تَهمى عليه الدمعِ عينُ الأسْقفِ

وكم بها حَقّر من كنائِس ... بدَّلت الآذان بالنواقِس
يَبكي لها الناقوس والصَّليبُ ... كلاهما فَرض له النحيبُ
وانصرَفَ الإمامُ بالنجاح ... والنصرِ والتأييدِ والفلاح
ثم ثَنى الراياتِ في طريقِه ... إلى بَني ذي النون من تَوفيقِه
فأصبحُوا من بَسْطهم في قَبْض ... قد ألصقت خدودُهم بالأرض
حتى بدَوْا إليه بالبرهانِ ... من أكبر الأباء والوِلْدانِ
فالحمدُ للّه على تأييدِه ... حمداً كثيراً وعلى تسديدِه

سنة ثلاث عشرة وثلثمائة
ثم غزا بيُمنه أشُونا ... وقد أشادُوا حولها حُصونَا
وحَفَها بالخيل والرجال ... وقاتلوهم أبلغَ القِتال
حتى إذا ما عاينُوا الهلاكَا ... تبادروا بالطَوْع حينذاكَا
وأسلمُوا حِصْنَهمُ المنِيعَا ... وسَمحوا بخَرْجهم خُضوعَا
وقبلَهم في هذه الغَزاةِ ... قد هُدَمت معاقل العُصاةِ
وأحكم الإمامُ في تدبيرهِ ... على بني هابلَ في مَسيره
ومَن سواهم من ذوي العشيرَهْ ... وأمراء الفتنةِ المُغيرَة
إذ حُبسوا مراقباً عليهمُ ... حتى أتوا بكل ما لديهمُ
من البنينَ والعيال والحشمْ ... وكلّ من لاذ بهم من الخَدَمْ
فهَبطُوا من أجمَع البُلدانِ ... وأسكنُوا مدينةَ السلطانِ
فكانَ في آخِر هذا العام ... بعد خُضوع الكُفرِ للإسلام
مشاهدٌ من أعظم المَشاهِد ... على يَدَي عبد الحميد القائدِ
لما غَزا إلى بنى ذي النون ... فكان فتحاً لم يَكُن بالدُّونِ
إذ جاوزوا في الظلْم والطُّغيانِ ... بقَتْلهم لعامِل السُلطانِ
وحاولُوا الدُخولَ في الأذيّة ... حتى غزاهمْ أنجد البرِيّة
فعاقَهم عنْ كلَ ما رَجَوْهُ ... بنَقضه كُلّ الذي بنوه
وضَبْطه الحِصْن العظيمَ الشانِ ... أشنين بالرَّجْل وبالفُرسانِ
ثم مَضى الليثُ إليهم زحفاً ... يَختطِفُ الأرواحَ منهم خَطْفَا
فانهزموا هزِيمةً لن تُرْفَدَا ... وأسْلموا صِنوهمُ مُحَمَدَا
وغيرُه من أوْجُه الفُرسانِ ... مغرب في مأتم الغِربانِ
مُقطع الأوصال بالسنابكِ ... من بعد ما مُزق بالنَيازكِ
ثم لجوا إلى طِلاب الأمنِ ... وبَذْلهم ودائعاً من رَهْنِ
فقبضت رِهانُهم وأمَنوا ... وأنْغَضوا رؤوسَهم وأذْعنوا
ثم مَضى القائدُ بالتأييدِ ... والنصر من ذي العَرْش والتسدِيد
حتى أتى حِصْن بني عِمَارَهْ ... والحرْبُ بالتّدْبير والإدارَهْ
فافتتح الحِصْنَ وخلى صاحبَهْ ... وأمَن الناسَ جميعاً جانبَهْ
سنة أربع عشرة وثلثمائة
لم يَغْزُ فيها وغَزَتْ قُوادُه ... واعتورت ببُشْترا أجنادُهُ
فكلهم أبلَى وأغنَى واكتفَى ... وكُلُهم شَفَى الصُدورَ واشتفَى
ثم تلاهم بعدُ لَيثُ الغِيل ... عبدُ الحميدِ من بني بسيل
هو الذي قامَ مقامَ الضَّيغَم ... وجا في غَزاتِه بالصَيلم
برأس جالوتِ النّفاق والحسَدْ ... من جُمَع الخِنزيرُ فيه والأسدْ
فهاكه مع صحبه في عِدَّة ... مُصلَبين عند باب السُّدَّة
قد امتطى مطيّة لا تبرحُ ... صائمةً قائمةً لا ترْمحُ
مطية إن يَعْرُها انكسارُ ... يطِبّها النجّارُ لا البَيطار
كأنه من فَوقها أسْوارُ ... عيناه في كلتيهما مِسْمارُ

مباشراً للشمس والرياح ... على جوادٍ غير ذي جِماح
يقول للخاطر ِبالطَريقِ ... قولَ مُحبٍّ ناصح شفِيقِ
هذا مقام خادِمٍ الشيطانِ ... ومَن عَصى خليفةًَ الرحمن
فما رأينا واعظًا لا يَنْطقُ ... أصدَق منه في الذي لا يَصدق
فقُل لمن غُرّ بسُوء رائِه ... يَمُت إذا شاء بمثل دائِه
كم مارقٍ مَضىَ وكم مُنافقِ ... قد ارتقى في مِثل ذاك الحالِقِ
وعاد وهْوَ في العصا مُصلْب ... ورأسهُ في جِذْعه مُركَب
فكيف لا يعتبر المخالفُ ... بحال مَن تطلبه الخلائفُ
أما تراه في هَوان يرتعُ ... معتَبراً لمن يَرَى ويسمَعُ

سنة خمس عشرة وثلثمائة
فيها غَزا معتزما ببُشْترا ... فجال في ساحتها ودمرَا
ثم غزا طَلْجيرةً إليها ... وهي الشجَى من بين أخدعَيْهَا
وامتدّها بابن السليم راتبَا ... مشمَراً عن ساقه مُحاربَا
حتى رأى حَفْصٌ سبيلَ رُشدِه ... بعد بُلوغ غايةٍ من جُهدِه
فدان للإمام قصداً خاضعَا ... وأسلمَ الحِصنَ إليه طائعَا
سنة ست عشرة وثلثمائة
لم يَغْزُو فيها وانتحَى بُبَشْترا ... فرمَّها بما رَأى ودَبرا
واحتلّها بالعزّ والتَمكينِ ... ومَحْو آثارِ بني حَفْصونِ
وعاضَها الإصلاحَ من فسادهمْ ... وطَهّر القبورَ من أجسادهمْ
حتى خَلا مَلْحودُ كل قَبْر ... من كل مُرتَدٍّ عظيم الكُفْرِ
عِصابةٌ من شيعةِ الشَيطانَ ... عدوّة لله والسلطانِ
فخُرّمت أجسادها تخرّما ... وأصليت أرواحهم جَهَنَمَا
ووجِّه الإمامُ في ذا العام ... عبدَ الحميد وهو كالضرغام
إلى ابن داودَ الذي تقلَّعا ... في جبلَيْ شَذُونة تمنعا
فحطّه منها إلى البسيط ... كطائر آذنَ بالسقوطِ
شم أتى به إلى الإمام ... إلى وفيِّ العهد والذَمام
سنة سبع عشرة وثلثمائة
وبعد سَبعَ عَشرةَ وفيها ... غزا بَطَلْيَوْس وما يليها
فلم يَزل يَسوِمها بالخَسْف ... ويَنْتحيها بسُيوِف الحَتْفِ
حتى إذا ما ضم جانبَيْهَا ... محاصراً ثم بنى عَلَيْها
خلى ابنَ إسحاق عليها راتبَا ... مُثابراً في حَرْبِه مُواظبَا
ومَر يَسْتقصي حصونَ الغَرْب ... وَيبتليها بوَبيل الحَرْبِ
حتى قضىَ منهنَ كلَّ حاجَهْ ... وافتُتحتْ أكْشونيَة وباجَهْ
وبعد فَتْح الغَرْب واستقصائِه ... وحَسْمِهِ الأدْواء من أعدائِهِ
لجّت بَطَلْيوسُ عَلى نِفاقِهَا ... وغرّها اللَّجاجُ من مُرٌاقِهَا
حتى إذا شافهت الحتوفَا ... وشامت الرماحَ والسُيوفا
دعا ابنُ مَروان إلى السلطان ... وجاءَه بالعَهْد والأمان
فصار في توْسعةِ الإمام ... وساكناً في قُبة الإسلام
سنة ثماني عشرة وثلثمائة
فيها غَزَا بعَزْمه طُلَيْطِله ... وامتنعوا بمَعْقل لا مِثلَ له
حتى بَنى جرنشكه بجَنبها ... حِصْناً منيعاً كافلاً بحَرْبها
وشدَها بابن سَليم قائدَا ... مجالداً لأهلها مُجاهدَا
فجاسَها في طُول ذاك العام ... بالخَسْف والنَّسف وضَرْب الهام
سنة تسع عشرة وثلثمائة
ثم أتى رِدْفاً له دُري ... في عسكرٍ قضاؤُه مقضي
فحاصروها عامَ تسعَ عَشرَهْ ... بكلٌ مَحبُوكٍ القُوى ذي مِره
ثم أتاهم بعد بالرجال ... فقاتلوهم أبلغَ القِتالِ
سنة عشرين وثلثمائة

حتى إذا ما سلفت شُهورُ ... من عام عِشْرين لها ثبورُ
ألقت يديها للإمام طائعَهْ ... واستسلمت قسراً إليه باخعه
فأذعنتْ وقبلها لم تُذْعن ... ولم تَقُد من نَفْسها وتُمْكنِ
ولم تَدِنْ لربِّها بدين ... سبعاً وسَبعين من السِّنين
ومُبتدى عشرين مات الحاجبْ ... مُوسى الذي كان الشهابَ الثاقبْ
وبَرز الإمامُ بالتأييد ... في عُدّة منه وفي عَديدِ
صَمْدا إلى المدينة اللعينه ... أتعسها الرحمنُ من مَدينه
مدينةُ الشِّقاق والنفاقِ ... وموئل الفساق والمُراقِ
حتى إذا ما كان منها بالأمم ... وقد ذَكا حَرّ الهَجير واحتدمْ
أتاه واليها وأشياخُ البَلدْ ... مستسلمين للإمام المعتمدْ
فوافقوا الرحبَ من الإمام ... وأنزِلوا في البِرِّ والإكرام
ووجّه الإمامُ في الظهيرةَ ... خيلاً لكي تدخل في الجَزِيرَه
جريدةٌ قائدُها دري ... يَلمع في متونها الماذيّ
فاقتحمُوا في وَعْرها وسَهلَها ... وذاك حينَ غفلةٍ من أهلهَا
ولم يكن للقوم من دفاع ... بَخيل دريّ ولا امتناعٍ
وقوّض الإمامُ عند ذلكا ... وقلبه صَبٌّ بما هنالكَا
حتى إذا ما حلَّ في المدينَهْ ... وأهلُها ذليلةٌ مَهينَهْ
أقمعها بالخيل والرجال ... من غير ما حرب ولا قِتال
وكان من أوّل شيء نظرَا ... فيه وما رَوى له ودبَّرَا
تهَدُّم لِبابها والسّورِ ... وكان ذاك أحسنَ التدبير
حتى إذا صيَّرها بَراحَا ... وعاينوا حريمها مُباحَاَ
أقَرّ بالتّشييدِ والتّأسيس ... في الجبل النَامي إلى عَمْروس
حتى استوى فيها بناء مُحكمُ ... فحَلّه عاملُه والحشمُ
فعند ذاك أسلمت واستسلمت ... مدينةُ الدّماء بعد ما عَتَبْ

سنة إحدى وعشرين وثلثمائة
فيها مَضى عبد الحميد مُلتئمْ ... في أهبة وعُدّة من الحَشَمْ
حتى أتى الحصنَ الذي تَقلَعَا ... يحيى بن ذي النون به وامتنعَا
فحطّه من هَضبات ولبِ ... من غير تعْنيت وغير حَرْبِ
إلا بترْغيب له في الطاعهْ ... وفي الدُخول مَدْخل الجماعَهْ
حتى أتى به الإمامَ راغبَا ... في الصفح عن ذُنوبه وتائبَا
فَصفح الإمامُ عن جنايتِهْ ... وقَبْل المبذولَ من إنابِتْه
وردِّه إلى الحُصون ثانيَا ... مُسجّلا له عليها وَاليَا
سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة
ثم غزا الإمامُ ذو المَجدينِ ... في مُبتدا عشرين واثنتين
في فَيلق مُجَمهر لُهام ... مُدَكْدِك الرُّؤوس والآكامَ
حافُ الرّبى لزَحْفَه تَجيشُ ... تجيشُ في حافاته الجيوشُ
كأنهم جِنُّ على سَعالي ... وكُلهم أمضىَ من الرِّئبال
فاقتحمُوا مُلوندة ورومَهْ ... ومِن حَواليها حصون حيمهْ
حتى أتاه المَارقُ التّجيبِي ... مُستجدياً كالتائِب المُنيبِ
تخَصَّه الإمامُ بالترحيبِ ... والصَفح والغُفران للذُّنوبِ
ثم حَباه وكَساه ووَصَلْ ... بشاحج وصاهلٍ لا يُمْتَثلْ
كلاهُما من مَركب الخلائفِ ... في حِلْية تعْجِزُ وصفَ الواصفِ
وقال كُن منّا وأوطَن قُرْطبَه ... نُدنيك فيها من أجلِّ مَرْتبة
تكن وزيراً أعظمَ الناس خَطَرْ ... وقائداً تَجْبي لنا هذا الثّغَرْ

فقال إني ناقةٌ من عِلَّتي ... وقد تَرى تغيري وصفرتيِ
فإِن رأيتَ سيدي إمْهالِى ... حتى أرمّ من صَلاح حالي
ثم أوافيك على استعجال ... بالأهل والأولادِ والعِيال
وأوثق الإمامَ بالعهودِ ... وجَعل اللّه من الشهودِ
فقَبل الإِمامُ من أيمانه ... وردّه عفواً إلى مكانِه
ثم أتته ربةُ البَشاقِص ... تُدْلِى إليه بالوِداد الخالص
وأنها مُرْسلة من عنده ... وجَدّها متصلٌ بجَدّه
واكتفلتْ بكُلِّ بنبلونى ... وأطلقت أسرى بني ذي النّونِ
فأوعدَ الإمامُ في تَأمينهَا ... وتكّبَ العسكرَ عن حُصونهَا
ثم مَضى بالعزِّ والتَمكين ... وناصراً لأهل هذا الدّينِ
في جُملة الراياتِ والعساكرِ ... وفي رِجال الصّبر والبَصائرِ
إلى عِدَى اللّه من الجلالقِ ... وعابدِي المَخلوقِ دون الخالقِ
فدمَّروا السُّهولَ والقِلاعَا ... وهَتكوا الربوع والرِّباعَا
وخَربوا الحُصونَ والمدائنَا ... وأنفروا من أهلها المَساكنَا
فليس في الدِّيار من ديارِ ... ولا بها من نافخٍ للنارِ
فغادروا عُمْرانَها خرابَا ... وبَدّلوا رُبوعها يَبابَا
وبالقِلاع أحْرقوا الحُصونَا ... وأسْخنوا من أهلها العُيونا
ثم ثَنى الإِمامُ من عِنانِه ... وقد شَفى الشَجيّ من أشجانِه
وأمّن القِفارَ من أنجاسها ... وطهَر البلادَ من أرجَاسِهَا
127 - /كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج

والطالبين والبرامكة
فرش كتاب أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة قال الفقيهَ أبو عمرَ أحمدُ بنُ محمد بنِ عبدِ ربّه رضي الله تعالى عنه: قد مضى قولُنا في أخبار الخُلفاء وتواريخهم وأيامهم وما تَصرّفت به دولهم، ونحن قائلون بعون الله في أخبار زياد والحجَّاج والطالبيين والبرامكة، وماسِحون على شيء من أخبار الدولة، إذ كان هؤلاء الذين جرّدنا لهم كتابَنا هذا قُطبَ المُلك الذي عليه مدار السياسة، ومعادنَ التَّدبير، ويَنابيعَ البلاغة، وجوامعَ البيان. هم راضوا الصِّعاب حتى لانت مقاردُها، وخَزموا الأنوف حتى سكنتْ شواردُها، ومارسوا الأمور، وجرّبوا اَلدُّهُور؟ فاحتملوا أعباءَها، واستفتحوا مغالقها، حتى استقرت قواعدُ الملك، وانتظمت قلائدُ الحكم، ونَفذت عزائم السلطان.
أخبار زياد
كانت سُميَّة أُمّ زياد قد وَهبها أبو الخَير بن عمرو الكِنْدي للحارث بن كَلَدة، وكان طبيباً يعالجه فولدت له على فِراشه نافعاً، ثم ولدتْ أبا بَكْرة، فأنكر لونَه. وقيل له: إن جاريتك بَغيّ. فَانْتِفِى من أبي بَكْرة ومن نافع، وَزَوْجهَا عُبيداً، عبداً لابنته. فولدتْ على فراشه زياداً. فلما كان يومُ الطائف نادَى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبدٍ نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله. فنزل أبو بكرة واسلم ولحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال الحارث بن كلَدة لنافع: أنت ابني، فلا تَفعل كما فَعل هذا، يريد أبا بكرة. فلَحِق به، فهو ينتسب إلى الحارث بن كلَدة.
وكانت البَغايا في الجاهليّة لهن راياتٌ يُعرفن بها، ويِنَتْحَيْهَا الفِتْيان. وكان أكثرُ الناس يُكْرهون إماءَهم على البِغاء والخُروج إلى تلك الرايات، يبتغون بذلك عَرضَ الحياة الدنيا. فَنَهَى الله تَعَالَى في كتابه عن ذلك بقوله جل وعز: " ولا تُكرِهُوا فَتَياتِكم على البِغَاء إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًاً لِتَبْتَغوا عَرِضَ الحَياة الدُّنيا. ومَنْ يُكْرِهْهن " يريد في الجاهلية " فإنّ الله مِن بَعْد إكراههنّ غفُورٌ رَحِيم " يريد في الإسلام. فيقال: إن أبا سفيان خَرج يوما، وهو ثَمِل، إلى تلك الرايات، فقال لصاحبة الراية: هل عندك من بَغِيّ؟ فقالت: ما عندي إلا سُمية. قال: هاتها على نَتن إبطيها، فوقع بها. فولدت له زياداً، على فراش عُبيد.

ووجه عاملٌ من عُمّال عمرَ بن الخطّاب زياداً إلى عمرَ بفَتح فَتحه الله على المسلمين. فأمره عمرُ أن يَخطب الناسَ به على المنبر. فاحسن في خطبته وجَوّد، وعند أصل المِنبر أبو سفيان بن حَرْب وعليّ بن أبي طالب. فقال أبو سفيان لعليِّ: أيُعجبك ما سمعتَ من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابنُ عمّك. قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا قذفتُه في رَحم أمه سُميَّة. قال: فما يَمنعك أن تدعِيهِ؟ قال: أخشى هذا القاعدَ على المِنبر - يعني عُمَر بن الخطاب - أن يُفسد عليّ إهابي. فبهذا الخبر استلحق معاويةً زياداً وشَهد له الشُّهود بذلك. وهذا خلافٌ حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: الولدُ للفراش وللعاهر الحَجَر.
اَلْعَتَبَي عن أبيه قال: لما شَهِد الشهود لزياد قام في أَعْقَابهمْ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: هذا أمرٌ لم أشهد أولَه ولا عِلْم لي بآخره، وقد قال أميرُ المؤمنين ما بَلغكم، وشهد الشهودُ بما سَمعتم. فالحمدَ للّه الذي رفع منا ما وضع الناس، وحَفظ منّا ما ضَيّعوا. وأما عُبيد فإنما هو والدٌ مَبْرور، أو رَبِيب مَشْكور. ثم جلس. وقال زياد: ما هُجيت ببيت قطّ أشدَّ عليَّ من قول الشاعر:
فكَّر ففي ذاك إن فَكَّرتَ مُعْتَبر ... هل نِلتَ مَكرُمةً إلا بِتَأْمِير
عاشتْ سُميَّة ما عاشت وما عَلِمتْ ... أنّ ابنَها من قريش في الجَماهير
سُبحان مَن مُلْك عباد بقُدرته ... لا يَدفع الناسُ أسبابَ المقادير
وكان زياد عاملاً لعليّ بن أبي طالب على فارس: فلما مات عليّ رضي الله عنه، وبايع الحسنُ معاويةَ عامَ الجماعة، بقي زيادٌ بفارس وقد مَلكها وضَبط قَلاعها، فاغتمّ به معاوية، فأرسل إلى المُغيرة بنُ شعبة. فلما دخل عليه قال: لكُل نبأ مُستقر، ولكُل سر مسَتودِع، وأنت موضعُ سري وغاية ثِقَتي. فقال: المغيرة: يا أمير المؤمنين، إنْ تستودعني سرك تستودعه نَاصِحاً شَفيقاً، ووَرِعا رفيقاً، فلا ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرتُ زياداً واعتصامَه بأرض فارس ومُقامه بها، وهو داهية العرَب، ومعه الأحوالُ، وقد تحصّن بأرض فارس وقِلاعها يُدبّر الأمور، فما يُؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو أعاد جَذَعه. قال له المُغيرة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه؟ قال: نعم. فخرَج إليه. فلما دخل عليه وجده وهو قاعد في بيت له مُستقبلٌ الشمسَ. فقام إليه زياد ورحِّب به سرُّ بقدومه، وكان له صديقاً - وذلك أنّ زياداً كان أحدَ الشُهود الأربعة الذين شَهدوا على المُغيرة، وهو الذي تَلجج في شهادته عند عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه، فنجا المغيرة وجُلد الثلاثةُ من الشهود، وفيهم أبو بكرة أخو زياد، فحلف أن لا يكلمٍ زياداً أبداً - فلَما تَفاوضا في الحديث قال له المغيرة: أعلمتَ أنّ معاوية استخف الوجل حتى بعثتي إليك، ولا نَعلم أحداً يَمد يَده إلى هذا الأمر غيرَ الحسن، وقد بايع معاويةَ فخُذ لنفسك قبل التَوطين فيَستغني عنك معاوية. قال: أشر عليّ وارم الغرضَ الأقصى، فإنّ المُستشار مُؤتَمن. قال: أرى أن تَصل حبلَك بحَبْله وتسيرَ إلَيه وتعير الناسَ أذناً صماء، وعَينْاً عمياء. قال يا بن شُعبة، لقد قلتَ قولاً لا يكون غَرْسُه في غير منبته، ولا مَدَرة تغذية، ولا ماء يَسْقيه، قال زهير:
وهل يُنْبت التخطيء إلا وشيجُه ... وتُغْرس إلا في مَنابتها النخلُ
ثمِ قال: أرى ويقضي اللّه. وذكر عمر بن عبد العزيز زِيَاداً فقال: سَعي لأهل العِراق سَعْيَ الأم البرّة وجَمع لهم جَمْعَ الذَّرة. وقال غيره: تَشبَّه زيادٌ بعمرَ فأفرط، وتشبه الحجّاج بزياد فأَهلك الناس. وقالوا: الدُّهاة أربعة: معاوية للرويّة، وعمرو بن اَلْعاصّ للبَديهة، والمُغيرة للمعضلات، وزياد لكُل صَغيرة وكبيرة.
ولما قَدم زيادٌ العراق قال: مَن على حَرَسكم؟ قالوا: بَلَج. قال: إنما يُحترس من مثل بَلَج، فكيف يكون حَارِساً! أخذه الشاعر فقال:
وحارس من مثله يُحْترس

العَتَبَيْ قال: كان في مجلس زياد مكتوب: الشِّدة في غير عُنف، واللّين في غير ضَعف. المُحسن يُجازَى بإحسانه، وَالْمُسِيء يعاقَب بإساءته. الأعطيات في أيامها. لا احتجابَ عن طارق لَيْل ولا صاحب ثغر. وبَعث زيادٌ إلى رجال من بني تَميم ورجال من بني بَكْر، وقال: دُلّوني على صُلَحاء كل ناحية ومن يُطاع فيها. فدلوه، فضمّنهم الطريق وحَدّ لكُل رجل منهم حَدا. فكان يقول: لو ضاع حَبل بيني وبين خُراسان عرفتُ من أخذ به وكان زياد يقول: من سَقَى صبياً خمراً حددناه، ومن نَقب بيتاً نَقبناً عن قلبه، ومن نَبش قبراً دفّناه حيّاً. وكان يقول: اثنان لا تُقاتِلوا فيهما: الشتاء وبُطون الأودية. وأول من جُمعت له العراق زياد، ثم ابنُه عبيد الله بن زياد، لم تجتمع لقرشيّ قط غيرَهما. وعُبيد الله بن زياد أول من جُمع له العراق وسجستان وخراسان والبحران وعُمان، وإنما كان البحران وعُمان إلى عُمال أهل الحجاز، وهو أول من عرف العُرفاء، ودعا النقباء، ونَكَبالمناكب، وحصل الدواوين، ومُشي بين يديه بالعَمد، ووَضع الكراسي، وعمل المَقصورة، ولَبس الزيادي، ورَبعَ الأرباع بالكوفة وخمسَ الأخماس بالبصرة، وأعطى في يوم واحد للمُقاتلة والذرية من أهل البصرة وأهل الكوفة وبلغ بالمُقاتلة من أهل الكوفة ستّين ألفاً، ومقاتلة البصرة ثمانين ألفاً، والذرية مائة ألف وعشرين ألفاً. وضَبط زياد وابنهُ عُبيد الله العراقَ بأهل العراق.
قال عبدُ الملك بن مروان لعبَّاد بنِ زياد: أين كانت سيرةُ زياد من سيرة الحجاج؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ زياداً قَدِم العراقَ وهي جَمْرة تشتعل، فسَلَّ أحقادَهم، وداوَى أدواءهم، وضَبط أهلَ العراق بأهل العراق. وقَدمها الحجاجُ فكسر الخراج، وأفسد قلوبَ الناس، ولم يَضْبطهم بأهل الشام فضلاً عن أهل العراق، ولو رام منهم ما رامَه زياد لم يَفْجأك إلا على قَعود يُوجف به.
وقال نافعٌ لزِياد: استعملتَ أولادَ بَكْرة وتركت أولادي؟ قال: إني رأيتُ أولادك كُزْماً قصاراً، ورأيت أولاد أبي بكرة نُجباء طوالاً. ودخل عبد الله بن عامر على مُعاوية، فقال له: حتى متى تذهب بخراج العراق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول هذا لمن هو أبعدُ منِّي رَحماً! ثم خرج. فدخل على يزيد فاخبره وشكا إليه. فقال له: لعلك أغضبتَ زياداً؟ قال: قد فعلتُ. قال: فإنه لا يَرضى حتى تُرضي زياداً عنك. فانطلق ابنُ عامر، فاستأذن على زياد، فأذن له وألطفه. فقال ابنُ عامر: إن شئْت فصُلح بعتاب، وإن شئتَ فصُلح بغير عتاب. " قال زياد: بل صُلْحٌ بغيرِ عِتاب " فإنه أسلم للصَّدر. ثم راح زيادٌ إلى مُعاوية فأخبره، وأصبح ابنُ عامر غادياً على مُعاوية. فلما دخل عليه، قال: مرحباً بأبي عبد الرحمن، ها هنا، وأجلسه إلى جَنْبه، فقال له: يا أبا عبد الرحمن:
لنا سياق ولكم سياق ... قد علمتْ ذلكمُ الرفاق
الحسن بنُ أبي الحسن قال: ثَقُل أبو بكرة فأرسل زياد إليه أنسَ بن مالك ليصالحَه ويُكلّمه، فانطلقتُ معه. فإذا هو مُول وجهَه إلى الجدار، فلما قَعد قال له: كيف تجدك أبا بكرة؟ فقال صالحا، كيف أنتَ أبا حَمْزة؟ فقال له أنس: اتق الله أبا بكرة في زياد أخيك، فإنّ الحياة يكون فيها ما يكون، فأمّا عند فراق الدُّنيا فلَيستغفر الله أحدُ كما لصاحبه، فوالله ما علمتُ إنه لوَصول للرَحم؟ هذا عبدُ الرحمن ابنُك على الأبلة، وهذا داود على مدينة الرِّزْق، وهذا عبدُ الله على فارس كلها. والله ما اعلمه إلا مُجتهداً: قال: أقعدوني. فأقعدوه، فقالت: أخبرني ما قلتَ في أخر كلامك، فأعاد عليه القولَ. فقال: يا أنس، وأهلُ حَروراء قد اجتهدوا فأصابوا أم أخطئوا؟ والله لا أكلمه أبداً ولا يصلي عليّ. فلما رجع أنس إلى زياد أخبره بما قال، وقال له: إنه قَبيحٌ أن يموت مثْل أبي بكرة بالبَصرة، فلا تُصلّي عليه ولا تقوم على قَبره، فاركب دوابّك والحق بالكوفة. قال: ففعل، ومات أبو بكرة بالغد عند صلاة الظهر، فصلّى عليه أنس بن مالك.

وقدم شريح على زياد من الكوفة فقضى بالبَصرة، وكان زياد يُجلسه إلى جَنبه ويقول له: إن حكمتُ بشيء ترى غيرَه أقربَ إلى الحق منه فأعْلمنيه. فكان زياد يَحكم فلا يَرُدّ شريحٌ عليه. فيقول زيادٌ لشريح: ما ترى؟ فيقول: هذا الحكم؟ حتى أتاه رجل من الأنصار، فقال: إ نّي قدمت البَصرة والخطط موجودة فأردت أن أختطّ لي، فقال لي بنو عَمي؟ وقد اختطّوا ونزلوا: أين تخرُج عنا؟ أقم مَعنا واختطّ عندنا، فوسّعوا لي، فاتخذت فيهم داراً وتزوّجت، ثمّ نزع الشيطان بيننا فقالوا لي: اخرُج عنا. فقال زياد: ليس ذلك لكم، مَنعتموه أن يَختط والخِطط موجودة، وفي أيديكم فضل فأعطيتموه، حتى إذا ضاقت الخُطط أخرجتموه وأردتم الإضرار به، لا تخرج من منزلك. فقال شريح: يا مُستعير القدر ارددها. قال زياد: يا مستعير القدر أحبسْها ولا تَرْددها. فقال محمد بن سيرين: القضاء بما قال شُريح، وقولُ زياد حَسن. وقال زياد: ما غَلبني أميرُ المُؤمنين مُعاوية إلا في واحدة، طلبتُ رجلاً فلجأ إليه وتحرم به، فكتبتُ إليه: إن هذا فساد لعَملي، إذا طلبتُ أحداً لجأ إليك فتحرّم بك. فكتب إلي: إنه لا ينبغي لنا أن نَسوس الناسَ بسياسة واحدة فيكونَ مَقامُنا مقامَ رجل واحد، ولكن تكون أنت للشدة والغِلْطة، وأكون أنا للرأفة والرحمة فيستريح الناس فيما بيننا.
ولما عَزل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه زياداً عن كتابة أبي موسى، قال له: أعن عجز أم خِيانة؟ قال له: أعن عجز أم خِيانة؟ لا عَن واحدة منهما، ولكنّى كرهتُ أن أحمل على العامّة فضلَ عقلك. وكتب الحسنُ بن علي رضي الله عنه إلى زياد في رجل من أهل شِيعته، عرض له زياد وحال بينه وبين جميع ما يَملكه، وكان عنوان كتابه: من الحَسن بن عليّ إلى زياد. فغضب زيادٌ إذ قَدّم نفسه عليه ولم يَنسبه إلى أبي سفيان، فكتب إِليه: من زياد بن أبي سُفيان إلى حسن: أما بعد، فإنكَ كتبتَ إليّ فاسق لا يأويه إلا الفُساق، وايم الله لأطلبنّه ولو بين جِلدك ولحمك، فإِن احبّ لحمٍ إلىّ أن آكلهُ لحمٌ أنتَ منه. فكتب الحسنُ إلى معاوية يشتكي زياداً، وادرج كتاب زياد في داخل كتابه. فلما قرأه معاوية أكثر التعجُّب من زياد، وكتب إِليه: أما بعد. فإنّ لك رأيين أحدهُما من أبي سفيان والآخر من سُمية، فأما الذي من أبى سفيان فحَزم وعَزم، وأما الذي من سمية فكما يكون رأيُ مثلها، وإنّ الحسن بن علي كتب إلىّ يذكر أنك عرضْت لرجل من أصحابه، وقد حجزناه عنك ونُظراءَه، فليس لك على واحد منهم سَبيل ولا عليه حكم. وعجبتُ منك حين كتبتَ إلى الحسن لا تَنْسُبه إلى أبيه، أفإلى أمه وكلْته لا أم لك؟ فهو ابنُ فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن حين اخترتَ له! وكتب زياد إلى معاوية: إنّ عبدَ الله بن عبَّاسُ يُفسد الناسَ عليّ، فإن أذنتَ لي أن أتوعّده فعلتُ. فكتب إليه: إن أبا الفضل وأبا سُفيان كانا في الجاهلية في مِسْلاخ واحد، وذلك حِلْف لا يَحلُّه سوءُ رأيك. واستأذن زيادٌ معاويةَ في الحجّ، فأذِن له. وبَلغ ذلك أبا بكرة، فأقبل حتى دخل على زياد، وقد أجلسِ له بَنيه، فسلم عليهم ولم يُسلّم على زياد. ثم قال: يا بني أخي، إن أباكم رَكب أمراً عظيماً في الإسلام بادعائه إلى أبي سفيان، فوالله ما علمتُ سُميةَ بغتْ قط، وقد استأذن أميرَ المؤمنين في الحجّ وهو مارٌّ بالمدينة لا محالة، وبها أم حَبيبة بنت أبي سفيان زَوجُ النبيّ صلى الله عليه و سلم، ولا بُدّ له من الاستئذان عليها، فإِن أذنت له فَقَعد منها مَقْعد الأخ من أخته فقد انتهك من رسول الله صلى الله عليه و سلم حرمة عظيمة، وإن لم تأذن له فهو عارُ الأبد، ثم خرج. فقال له زياد: جَزاك الله خيراً من أخ، فما تَدع النصيحةَ على حال. وكتب إلى معاوية يَستقيله، فأقاله. وكتب زيادٌ إلى مُعاوية: إني قد أخذتُ العِراق بيميني وبقيتْ شمالي فارغة، وهو يعرّض له بالحجاز. فبلغ ذلك عبدَ الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: اللهم أكفِنا شماله. فعرضت له قرحة في شماله، فقَتلته. ولما بلغ عبدَ الله ابن عمر موتُ زياد قال: اذهب إليك ابنَ سُمية، لا يداً رفعت من حرام، ولا دنيا تملّيت.

قال زياد لعَجلان حاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأنساب، ثم على. الآداب. قال: فمن تُؤخِّر؟ قال: من لا يَعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يَلبسون كُسوة الشتاء في الصيف!، وكسوة الصيف في الشتاء. وقال زياد لحاجبه: ولّيتك حِجابتي وعَزَلْتك عن أربع: هذا المُنادي إلى الله في الصلاح والفلاح، لا تَعُوجنّه عنّى ولا سُلطان لك عليه؟ وطارق الليل، لا تَحْجبه فشرُّ ما جاء به ولو كان خيراً ما جاء في تلك الساعة؟ ورسول صاحب الثغر، فإنه إن أبطأ ساعةً أفسد عملَ سنة؟ وصاحب الطعام، فإنّ الطعام إذا أعيد تَسْخينه فَسد.
وقال عَجلان حاجبُ زياد: صار لي في يوم واحد مائةُ ألف دينار وألف سيف.
قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أعطىِ زيادٌ ألفَ رجل مائتى ألف دينار وسيفاً، فأعطاني كل رجل منهم نصفَ عطائه وسيفه.

أخبار الحجاج
ِ
دخل المُغيرة بن شُعبة على زوجته فارعة، فوجدها تتخلِّل حين انفلتت من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنتِ تتخللين من طَعام البارحة فإنك لقذرة، وإن كان من طَعام اليوم إنك لنَهمة، كنتِ فبِنْت. قالت: والله ما فَرحنا إذ كنّا ولا أَسِفنا إذ بِنّا، وما هو بشيء مما ظننتَ، ولكنّى استكت فأردت أن أتخلّل للسواك. فندم المغيرة على ما بَدر منه، فخرج أسفاً، فلقي يوسف بن أبي عَقيل، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلتُ الساعةَ عن سيِّدة نساء ثَقيف، فتزوّجها فإنها تُنجب لك، فتزوّجها فولدتْ له الحجاج.
ومما رواه عبدُ الله بن مُسلم بن قُتيبة قال: إنّ الحجَّاج بن يوسف كان يُعلّم الصِّبيان بالطائف، واسمه كُليب، وأبوه يوسف معلّم أيضاً. وفي ذلك يقول مالك بن الرَّيب:
فماذا عسى الحجَّاجُ يَبلغ جُهده ... إذا نحن جاوزنا حفيرَ زيادٍ
فلولا بنو مَروان كان ابنُ يوسف ... كما كان عبداً من عَبيد إياد
زمانَ هو العَبد المُقرّ بذُلّة ... يروح صبيانَ القُرى ويُغادي
ثم لحق الحجاجُ بن يوسف برَوْح بن زِنباع، وزير عبد الملك بن مَروان، فكان في عديد شُرطته إلى أن شكا عبدُ الملك بن مروان ما رأى من انحلال عسكره، وأنّ الناسَ لا يَرحلون برَحيله ولا ينزلون بنزوله. فقال رَوْح بن زنْباع: يا أمير المؤمنين، إنّ في شُرطتي رجلاً لو قلّده أميرُ المؤمنين أمر عَسكره لأرحلهم برَحيله وأنزلهم بنزوله، يقال له الحجّاج بن يوسف. قال: فإِنّا قد قَلدناه ذلك. فكان لا يقدر أحدٌ أن يتخلّف عن الرّحيل والنزول إلا أعوانَ رَوْح بن زنباع. فوقف عليهم يوماً وقد رحل الناسُ وهم على طَعام يأكلون، فقال لهم: ما مَنعكم أن تَرْحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا بن اللّخناء، فكُلْ معنا. فقال: هيهات! ذهب ما هنالك. ثم أمر بهم فجُلدوا بالسّياط، وطوفهم في العسكر. وأمر بفَساطيط رَوْح بن زنباع فأحرقت بالنار. فدخل روحُ بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكياً. فقال له: مالك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الحجّاج بن يوسف الذي كان في عديد شُرطتي ضَرب عَبيدي وأحرق فَساطيطي. قال: عليّ به. فلما دخل عليه قال: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: ما أنا فعلتُه يا أمير المؤمنين قال: ومَن فعله ؟قال: أنت والله فعلته، إنما يدي يدُك وسَوطي سوطُك، وما على أمير المؤمنين أن يُخْلف على رَوْح بن زنباع للفُسطاط فُسطاطين، وللغُلام غلامين، ولا يَكْسرني فيما قَدّمني له. فأخْلف لرَوْح بن زنْباع ما ذَهب له، وتقدّم الحجاجُ في منزلته. وكان ذلك أولَ ما عرف من كفايته.
قال أبو الحسن المدائني: كانت أم الحجاج الفارعة بنت هبّار قال: وكان الحجّاج بن يوسف يَضع في كُل يوم ألف خِوان في رمضان، وفي سائر الأيام خَمسَمائة خوان، على كل خِوان عشرةَ أنفس وعشرة ألوان وسَمكة مَشويّة طريّة وأرزة بسكر، وكان يُحمل في مِحفّة ويُدار به على موائده يتفقّدها، فإِذا رأى أرزة ليس عليها سُكر وسعى الخباز ليجيء بسُكرها، فأبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سُكر، أمر به فضرُب مائتي سوط. فكانوا بعد ذلك لا يَمشون إلا متأبطي خرائط السكر. قال: وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يَضع خمسمائة خِوان، فكان طعام الحجّاج لأهل الشام خاصّة، وطعام يُوسف بن عمر لمن حضره، فكان عند الناس أحمد.

العُتبيّ قال: دخل على الحجّاج سُليك بن سُلَكة، فقال: أصلح الله الأمير، أعِرْني سمعك، واغضُض عنّي بصرك، واكفُف عني غَربك، فإِن سمعتَ خطأ أو زللا فدونَك والعُقوبة. فقال: قُل، فقال: عَصى عاصٍ من عُرض العَشيرة فحُلّق على اسمي، وهُدمت داري، وحُرمت عطائي. قال: هيهات! أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يَجني عليك وقد ... تَعدِي الصحاحَ مباركُ الجُربِ
ولربّ مأخوذٍ بذنبِ عشيرةٍ ... ونَجا المُقارف صاحبُ الذنب
قال: أصلح الله الأمير، فإِني سمعت الله قال غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال: " يأيّها العَزيزُ إنّ له أباً شيْخاً كَبيراً فخُذ أحَدنا مكانَه إِنَّا نَراك من المُحْسِنين. قال معاذ الله أن نأخُذ إلا مَنْ وجدْنا مَتاعَنا عِنده إنّا إذاً لظالمون " . فقال الحجاج: عليّ بزيد بن أبي مُسلم، فأتي به، فمثَل بين يديه، فقال: افكُك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابنِ له منزلَه، ومُر مُناديا ينادِ في الناس: صَدَق الله وكَذب الشاعر.
أُتي الحجاجُ بامرأة عبد الرحمن بن الأشعث بعد دَير الجماجم، فقال لَحرْسى: قُل لها: يا عدوة اللّه، أين مالُ الله الذي جَعلته تحت ذَيلك؟ فقال: يا عدوة اللّه، أين مالُ الله الذي جعلته تحت استك؟ فقال له: كذبتَ، ما هكذا قلتُ، أرسلها فخلى عنها. الأصمعي قال: ماتت رُفقة عَطَشاً بالشجِي - والشَّجِي: رَبو من الأرض في بطنَ فلج - فَشَجِيَ به الوادي فسُمِّى شج - فقال الحجاج: إني أراهم قد تضرَّعوا إذا نَزل بهم الموت، فاحفروا في مكانهم، فحفروا. فأمر الحجّاج رجلا، يقال له عضيدة يحفر البئر، فلما أنبطها حمل منها قِربتين إلى الحجاج بأواسط، فلما قدم بهما عليه. قال: يا عديدة، لقد تجاوزت مياهاً عذاباً، أخسف أم أشلت؟ لا واحدَ منهما، ولكنْ نَبَطا بين الماءين. قال: وكيف يكون قَدره؟ قال: مرّت بنا رًفقة فيها خمسة وعشرون جملاً فَرويت الإبل وأهلها. قال: أو لِلإبل حَفرتها؟ إنما حفرتَها للناس! إن الإبل ضُمْر خُسْف، ما جُشّمت تجشّمتْ.
بعث عبدُ الملك بن مَروان الحجَّاج بن يوسف والياً على العراق وأَمره أن يَحْشر الناسَ إلى المهلَّب في حَرب الأزارقة. فلما أتى الكُوفة صَعِد المِنبَر مُتلثّماً متنكِّبا قوسَه، فجلس واضعاً إِبهامه على فيه. فنظر محمدُ بن عُمير بن عُطارد التميمي، فقال: لَعن الله هذا ولَعن مَن أرسله إلينا! أرسل غلاماً لا يستطيع أن يَنطق عِيَّاً! وأخذ حصاةً بيده لِيَحْصبه بها. فقال له جليسُه: لا تَعجل حتى ننظر ما يَصنع فقام الحجاج فكشف لِثامَه عن وجهه وقال:
أنا ابنُ جلاَ وطَلاَّع الثَنايا ... متى أضع العِمامةَ تَعْرفوني
صليبُ العُود مِن سَلَفْي نِزار ... كنَصل السيفِ وضّاح الجَبَين
أخو خَمْسين مجتمعٌ أشدِّي ... ونَجَّذني مداورة الشؤون
أما والله إني لأحملُ الشرَّ بثِقْله، وأحذوه بنَعله، وأجزيه بمثله؟ أما والله إني لأرى رؤسا قد أَينعت وحان قِطافها، وكأني أرى الدماء تبق العمائم واللِّحى لترقرق
هذا أوانً الشدِّ فاشتدّي زيمْ ... قد لفّها الليلُ بسواق حُطَمْ
ليس براعي إبلٍ ولا غَنم ... ولا بجزَار على ظَهر وَصَمْ

ألا إنّ أميرَ المؤمنين عبدَ الملك بن مروان كَبَّ كنانته فعجَم عيدانَها، فوجدني أصلبهاعوداً، . فوجّهني إليكم، فإنكم طالما سَعيتم في الضَّلالة، وسَننتم سُنن البَغي. أما والله لألحونَّكم لحوَ العصا، ولأعصَبنّكم عصْب السِّلمة، ولأقرعنَّكم، قَرْع المَرْوة، ولأضربنَّكم ضَرْب غَرائب الإبل. والله ما أخْلُق إلا فَريت، ولا أعد إلا وفّيت. إني واللّه لا أغمز تَغمازَ التّين، ولا يُقعقع لي بالشِّنان. إياي وهذه الزرافات والجماعات، وقيل وقال وما يقول، وفيم أنتم ونحو هذا. من وجدتُه بعد ثالثة من بعث المُهلَّب ضربت عنقه. ثم قال: يا غلام، اقرأ عليهم كتابَ أمير المؤمنين، فقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان إلى مَن بالكوفة من المسلمين. سلامٌ عليكم. فلم يقُل أحد شيئاً. فقال الحجاج: اسكت يا غلام، هذا أدب ابن نِهّية، والله لأؤدّبنهم غير هذا الأدب أو ليستقيمُنّ. اقرأ يا غلام كتابَ أمير المؤمنين. فلما بلغ قولَه: سلام عليكم لم يبقَ أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام. ثم نزل، فأتاه عُمير بن ضابيء فقال: أيها الأمير، إنّي شيخ كبير عليل، وهذا ابني أقوَى على الغَزْو منّي. قال: أجيزُوا ابنَه عنه، فإن الحدَثَُ أحبُّ إلينا من الشيخِ. فلما وَلّى الرجلً، قال له عنبسةُ بن سَعيد. أيها الأمير، هذا الذي رَكض عثمان برجله وهو مَقتول. فقال: رُدُّوا الشيخ، فردُّوه، فقال: أضربوا عُنقه. فقال فيه الشاعر.
تجهَّزْ فإمّا أن تزور ابنَ ضابىء ... عُمَيراً وإمّا أن تَزور المهلَّبَا
هما خُطَّتا خَسْفٍ نجاؤك منهما ... ركوبُك حَوْليا من الثَّلْج أَشهبا
ثم قال: دُلّوني على رجل أوليه الشُّرطة. فقيل له: أيّ الرجال تريد؟ قال: أريده دائم العُبوس، طويلَ الجلوس؟ سمينَ الأمانة، أعجفَ الخِيانة، لا يَحْنق في الحق على حُرّ أو حُرة، يَهون عليه سؤال الأشراف في الشَفاعة. فقيل له: عليك بعبد الرحمن بن عُبيد التّميمي. فأرسل إليه فاستعمله: فقال له: لستُ أقبلها إلا أن تكفيَنِي عمالَك وولدَك وحاشيَتك. فقال الحجاج: يا غلام، نادِ: مَن طَلب إليه منهم حاجةَ فقد برئتْ الذمةُ منه. قال الشعبيُّ: فوالله ما رأيتُ قطُّ صاحب شرطة مثلَه، كان لا يَحبس إلا في دَيْن، وكان إذا أتي برجل نَقب على قوم وَضع مِنْقبته في بَطنه حتى تَخرج من ظهره، وكان إذا أُتي برِجل نَبّاش حَفر له قبراً ودَفنه فيه حيّاً، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شَهر سلاحاً قَطع يَده، فربما أقام أربعين يوماً لا يُؤتى إليه بأحد. فضمّ الحجاجُ إليه شرُطة البَصرة معِ شرُطة الكوفة.
ولما قَدِم عبد الملك بنُ مروان المدينة نزل دارَ مروان، فمرّ الحجّاجُ بخالد ابنِ يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجّاج سيف محلَّى، وهو يَخطِر مُتبختراً. في المسجد. فقال رجل من قُريش لخالد: من هذا التّختارة؟ فقال بخ بخ! هذا عمرُو بن العاص! فسمعه الحجاجُ فمال إليه، فقال: قلتَ: هذا عمرو بن العاص! والله ما سرّني أن العاص وَلدني ولا ولدتُه، ولكن إن شئتَ أخبرتُك من أنا: أنا ابنُ الأشياخ من ثَقيف، والعقائل من قُريش، والذي ضَرب مائة بسيفه هذا كلهم يَشهدون على أبيك بالكفر وشُرب الخمر حتى أقرُّوا أنه خليفة. ثم ولّى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص!

الأصمعي قال: بعث الحجاجُ إلى يحيى بن يَعْمرً، فقال له: أنت الذي تقول إنّ الحسنَ بن على ابنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتأتينّي بالمخرج أو لأضربنّ عُنقك. فقالت له: فإن أتيت بالمخرِج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال له: اقرأ: " وتلْك حُجتنا آتيناها إبراهيمَ على قَوْمه نرْفع درجاتٍ مَن نَشاء " إلى قوله " ومِن ذُرّيته داودَ وسُليمانَ وأيوبَ ويُوسفَ ومُوسى وهاَرون وكذلك نَجْزي المُحْسنين. وزَكريّا ويَحيى وعِيسى " فمن أقربُ: عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابنه بنته، أو الحسن إلى محمد؟ قال الحجاج: فوالله لكأني ما قرأتُ هذه الآية قط، وولاّه قضاءَ بلد. فلم يزل بها قاضياً حتىِ مات. قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كان عبدُ الملك بنُ مَروان سِنان قُريش وسيفَها رأياً وحزماً، وعابدَها قبل أن يُستخلفَ ورعاً وزُهداً، فجلس يوماً في خاصّته فقَبض على لِحيته فشمَّها مليا، ثم اجتر نَفسَه ونَفخ نفخةً أطالها، ثم نَظر وُجوه القوم فقال: ما أطول يومَ المسألة عن ابن أمِ الحجّاج وأدحضَ المحتجّ على العليم بما طَوته الحُجب. أما إنّ تَمليكي له قرَن بي لوعةً يَحشّها التّذكار. كيف وقد علمتُ فتعاميتُ، وسمعتُ فتصاممت، وحَمله الكرامُ الكاتبون. والله لكأني إلفُ ذي الضِّغن على نَفْسي، وقد نَعتِ الأيامُ بتصرّفها أنفساً حُق لها الوعيد بتصرّم الدُّول. وما أبقت الشًّبهة للباقي متعلَقاً، وما هو إلا الغِلّ الكامن من النَّفس بحَوْبائها، والغَيْظ المُندمل. اللهم أنت لي أوسع، غيرَ مُنتصر ولا مُعتذر. يا كاتب، هاتِ الدواةَ والقِرْطاس. فقعد كاتبُه بين يديه وأملى عليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مَروان إلى الحجَّاج بن يوسف: أما بعد. فقد أصبحتُ بأمرك بَرِماً، يُقعدني الإشفاقُ، ويُقيمني الرجاء وإذا عجزتُ في دار السعة وتوسًّط الملك وحين المَهل واجتماع الفكر، أن ألتمسالعُذرَ في أمرك، فأنا لعمرُ اللهّ، في دار الجَزاء، وعَدَم السلطان، واشتغال الحامّة، والرُّكون إلى الذِّلة من نفسي، والتوقّع لما طُويت عليْة الصحفُ، أعجز. وقد كنتُ أشركتُك فيما طوقني الله عزَ وجل حملَه، ولاثَ بحَقْويّ من أمانته في هذا الخلق المَرْعيّ، فدُللتُ منك على الحزم والجِدّ في إماتة بِدعَة وإنعاش سُنّة، فقعدتَ عن تلك ونهضتَ بما عاندَها، حتى صِرْت حُجة الغائب والشاهدِ القائم، وعُذّر اللاعنِ. فلعن الله أبا عَقيل وما نَجل، فالأم والد وأخبث نَسل. فَلعمري ما ظَلمكم الزِّمان ولا قَعدت بكم المراتب. لقد ألْبسْتكم مَلبسكم، وأقعدتكم على رَوابي خططكم، وأحلّتكم أعلى مَنَعتكم، فمن حافر وناقل وماتِح للقُلُب المُقْعَدة في الفيافي المتفيهقة، ما تقدَّم فيكم الإسلام ولقد تأخّرتم، وما الطائف منّا ببعيد يُجهل أهلهُ. ثم قمتَ بنفسك وطمحتَ بهمَتك. وسرّك انتضاءُ سَيفك، فاستخرجك أميرُ المؤمنين من أعوان رَوْح ابن زِنباع وشُرطته، وأنت على معاونته يومئذ مَحسود، فهفا أميرُ المؤمنين، والله يُصبح بالتوبة والغفران زلّته وكأني بك وكأنَ ما لو لم يكن لكان خيراً مما كان. كل ذلك مِن تجاسرك وتَحاملك على المُخالفة لرأي أمير المؤمنين. فصدعْتَ صفاتَنا، وهَتكت حُجبنا، وبَسطت يديك تحقِن بهما من كرائم ذوي الحقوق اللازمة، والأرحام الواشجة، في أوعية ثَقيف. فاستغفر الله لذَنْب ما له عُذر. فلئن استقال أميرُ المؤمنين فيك الرأيَ فقلد جالت البصيرةُ في ثَقيف بصالح النبيّ صلى الله عليه و سلم، إذ ائتمنه على الصدقات، وكان عبدَه فهرب بها عنه، وما هو إلا اختبار الثّقة والتلطًّف لمواضع الكفاية، فقعد به الرجاءُ كما قَعد بأمير المؤمنين فيما نصبك له. فكأنّ هذا أَلبس أميرَ المؤمنين ثوبَ العزاء، ونهض بعُذره إلى استنشاق نَسيم الرّوْح. فاعتزِلْ عمل أمير المُؤمنين، واظعن عنه باللَّعنة اللازمة، والعُقوبة الناهكة إن شاء اللّه، إذ استحكم لأمير المُؤمنين ما يُحاول من رَأيه والسلام.

ودعا عبدُ الملك مولى يقال له نُباتة، له لسان وفَضْل رأي، فناوله الكتابَ، ثم قال له: يا نُباتة، العَجلَ ثم العجلَ حتى تأتَي العراق، فضَع هذا الكتاب في يد الحجاج وترقّب ما يكون منه، فإن اجبَل عند قراءته واستيعاب ما فيه، فاقْلعه عن عمله وانقلع معه حتى تأتي به، وهَدِّن الناسَ حتى يأتيهم أمري، بما تَصفني به في حين انقلاعك، من حُبِّي لهم السلامة. وإن هَشَّ للجواب ولم تَكْتنفه أربة الحَيرة، فخُذ منه ما يُجيب به وأفْرِزه على عمله، ثم اعجَل عليّ بجوابه. قال نُباتة: فخرجتُ قاصداً إلى العراق، فضمّتني الصّحارى والفيافي، واحتواني القُرّ، وأخذ مِنّي السفرُ حتى وصلتُ. فلما وردتُه أدخلت عليه في يوم ما يَحْضُره فيه المَلأ، وعليّ شحوبُ مُضْنَى، وقد توسّط خدمَه من نواحي، وتدثّر بِمطْرَف خَزّ أدكن، ولاثَ به الناسُ من بني قائمٍ وقاعد. فلما نظر إليَّ، وكان لي عارفاً، قعد، ثم تبسّم تبسّم الوَجِل، ثم قال: أهلاً بك يا نُباتة، أهلا بمولى أمير المُؤمنين، لقد أثرّ فيك سفرُك، وأعرف أميرَ المؤمنين بك ضنيناً، فليتَ شعرِي، ما دَهِمَك أو دَهِمَني عنده. قال: فسلّمتُ وقعدتً. فسأل: ما حالُ أميرِ المُؤمنين وخوَله؟ فلما هَدأ أخرجت له الكتاب فناولتُه إياه. فأخذه منّي مُسرعاً ويدُه تُرْعَد، ثم نظر في وُجوه الناس فما شعرتُ إلا وأنا معه ليس معنا ثالث، وصار كُلُّ من يُطيف به من خَدمه تَلْقاه جانباً لا يسمعون منّا الصوت. ففكّ الكتابَ فقرأه، وجعلَ يتثاءب وُيردد تثاؤبه ويسير العرقُ على جَبينه وصُدْغيه على شدّة البرد من تحت قَلَنْسوته، من شدّة الفَرق، وعلى رأسه عِمامةُ خزّ خضراء، وجعل يَشخص إليّ ببصر ساعةً كالمتوهِّم، ثم يعود إلى قراءة الكتابَ، ويُلاحظني النظرِ كالمُتفهم، إلا أنه واجم، ثم يعاود الكتابَ، وإنّي لأقول: ما أراه يُثبت حروفه من شدّة اضطراب يده، حتى استقصى قراءته. ثم مالت يدُه حتى وقع الكتابُ على الفراش، ورَجع إليه ذهنُه، فمسح العرق عن جَبينه، ثم قال متمثّلا:
وإذا المنيَّةُ أنشبت أظفارَها ... ألفيتَ كُلّ تَميمةٍ لا تَنْفَعُ
ثم قال: قَبُح والله منّا الحسنُ يا نُباتة، وتَواكلتنا عند أمير المؤمنين الألسن.
وما هذا إلا سانح فكْرة نَمَّقها مُرصِد يَكْلَب بقِصَّتنا، مع حُسن رأي أمير المؤمنين فينا. يا غلام. فتبادر الغِلمان الصَّيحةَ، فملئ علينا منهم المجلس حتى دَفأتني منهم الأنفاس. قال: الدّواةَ والقرطاس، . فأتي بالدواة والقرطاس، فكتب بيده: وما رَفع القلم إلا مُستمدّاً حتى سَطَّر مثل خدِّ الفرس. فلما فَرغِ قال لي: يا نُباتة، هل علمتَ ما جئت به فنُسمعك ما كتبنا؟ فقلت: لا. قال: إذا حَسْبك منَّا مثلُه. ثم ناولني الجوابَ وأمر لي بجائزة فأجزل، وجَرد لي كِساء، ودَعا لي بطَعام فأكَلتُ، ثم قال نَكِلك إلى ما أمرت به من عَجلة أو تَوانٍ، وإنّي لأحب مُقارنتك والأنس برُؤيتك. فقلتُ: كان معي قُفْلٌ مفتاحُه عندك، وفمتاح قُفلك عندي، فأُحدثت لك العافية بأمرين: فأقفلتَ المَكروه وفتحت العافية، وما ساءني ذلك، وما أحب أن أزيدك بياناً، وحسبُك من استعجالي القيام. ثمٍ نهضتُ، وقام مُودِّعاً لي فالتزمني، وقال: بأبي أنت وأمي، رُبّ لَفظة مَسْموعة، ومحتقر نافعِ، فكُن كما أظُن. فخرجتُ مُستقبلاً وَجهي حتى وردتُ أميرَ المؤمنين، فوجدتُه مُنصرفاً من صلاة العصر، فلما رآني قال: ما احتواك المضجَع يا نُباتة! قفلتُ: مَن خاف من وجه الصَّباح أدْلج، فسلّمت وانتبذتُ عنه. فتركني حتى سَكن جأشي ثم قال: مَهْيم؟ فدفعتُ إليه الكتاب، فقرأه مُتبسّماً، فلمّا مَضى فيه ضَحك حتى بدت له سِنٌّ سوداء، ثم استقصاه فانصرف إليّ، فقال: كيف رأيتَ إشفاقَه؟ قال: فقصصتُ عليه ما رأيتُ منه فقال: صلواتُ الله على الصادق الأمين " إنّ من البيان لسحراً " ثم قَذف الكتاب إليّ، فقال: اقرأ، فقرأتُه فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، وخليفة ربِّ العالمين؟ المُؤيَّد بالولاية، المَعصوم من خَطل القول، وزَلل الفعل، بكفالة الله الواجبة لذَوي أَمره، من عَبدٍ اكتنفته الذِّلة، ومَدَّ به الصَّغار إلى وَخيم المَرْتع، ووَبيل المكْرع، من جليلٍ فادح، ومُعتدٍ قادحٍ. والسلام عليك ورحمةُ اللّه، التي اتسعت فَوسعت، وكان بها إلى أهل التَّقوى عائدا فإني أحمدُ إليك الله الذي لا إله إلا هو، راجياً لعَطفك بعَطفه، أما بعد. كان الله لك بالدَّعة في دار الزَوال، والأمن في دار الزِّلزال. فإنه من عُنيت به فكرتُك يا أمير المؤمنين مَخْصوصاً فما هو إلا سَعيد يُوثر أو شَقيٌّ يُوتر، وقد حَجَبني عن نواظر السعد لسانُ مرصِد، ونافسٌ حَقِد، انتهز به الشيطانُ حين الفكرة، فافتتح به أبوابَ الوَساوس بما تَحْنق به الصُّدور. فواغوثاه استعاذة بأمير المؤمنين من رَجيم إنما سلطانُه على الذين يتولّونه، واعتِصاماً بالتَّوكّل على من خَصَّه بماَ أجزل له من قَسْم الإيمان وصادق السنة. فقد أراد اللَعين أن يَفْتُق لأوليائه فَتْقاً نَبا عنه كيدُه، وكثر عليه تحسَّرْه، بَليِّة قَرع بها فكرَ أمير المؤمنين مُلبساً، وكادحاً ومُؤرشاً، ليُفل من عزمه الذي نَصبني له، ويُصيب ثأراً لم يَزل به موتوراً.
وذَكر قديمَ ما مُني به الأوائل وكيف لحقتُ بمثله منهم، وما كُنت أبلوه من خِسَّة أقدار ومُزاولة أعمال، إلى أن وصلتُ ذلك بالتشرُط لرَوح بن زِنباع.

وقد علم أمير المؤمنين، بفضل ما اختار الله له تبارك وتعالى من العلم المأثور الماضي، بأنّ الذي عُيِّر به القوم من مَصانعهم من أشدِّ ما كان يُزاوله أهلُ القُدْمة الذين اجتبى الله منهم، وقد اعتصموا وامتَعضوا من ذكر ما كان، وارْتفعوا بما يكون، وما جَهل أميرُ المؤمنين - وللبيان موقعُه غيرَ مُحتج ولا متعد - أنّ متابعةَ رَوح بن زِنباع طريقُ الوسيلة لمن أراد مَن فوقه، وأنّ رَوْحاً لم يُلْبسْني العزمَ الذي به رَفعني أميرُ المؤمنين عن خَوله، وقد ألصقتْني برَوْح بن زِنباع هِمَّةٌ لم تزل نواظرُها تَرْمي بي البعيدَ، وتُطالع الأعلام. وقد أخذتُ من أمير المؤمنين نصيباً اقْتسمه الإشفاقُ من سَخطته، والمُواظبة على مُوافقته، فما بقي لنا في مثله بعده إلا صُبابة إرث، به تَجول النفس، وتَطْرِف النواظر. ولقد سِرْتُ بعين أمير المؤمنين سيرَ المَثبِّط لمن يَتلوه المُتطاول لمن تقدّمه، غيرَ مبتٍّ مُوجِف، ولا مُتثاقل مُجْحِف، ففتُّ الطالبَ، ولحقت الهارب، حتى سادت السنة، وبادت البدعة، وخسئ الشيطان، وحُملت الأديان إلى الجادّة العُظمى. والطريقة المُثلى. فهأنذ يا أميرَ المؤمنين: نُصْبَ المسألة لمن رَامني، وقد عقدت الحَبْوة، وقَرنت الوَظِيفين لقائل مُحتَج، أو لائمٍ مُلْتجّ. وأميرُ المؤمنين وليُ المظلوم، ومَعْقل الخائف. وستُظهر له المِحنةً نبأ امرى، ولكُل نبأ مستقر. وما حَفَنت يا أميرَ المؤمنين في أوعية ثَقيف حتى رَوي الظمآن، وبَطِن الغَرثان، وغَصَت الأوعية، وانقدَت الأوكية في آل مَروان فأخذت فضلاً صار لها، لولاهم للقطتْه السابلة. ولقد كان ما أنكره أميرُ المؤمنين من تحاملي، وكان ما لو لم يكن لعظُم الخطبُ فوق ما كان، وإنَّ أميرَ المؤمنين لرابعُ أربعة، أحدُهم ابنة شُعيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ رَمت بالظن غرضَ اليقين تفرُّساً في النجيّ المُصطفى بالرسالة، فحقَّ لها في الرجاء، وزالت شُبهة الشكّ بالاختبار، وقبلَها العزيزُ في يوسف، ثم الصدِّيق في الفاروق، رحمةُ الله عليهما، وأميرُ المؤمنين في الحجَّاج. وما حَسد الشيطانُ يا أمير المؤمنين خاملاً، ولا شَرق بغير شَجى. فكم غيظة يا أمير المؤمنين. للرجيم أدبر منها وله عواء وقد قلّت حيلتُه. ووَهن كيْدُه يوم كيْت وكيت، ولا أظنّ اذكرَ لها من أمير المؤمنين. ولقد سمعتُ لأمير المؤمنين في صالحٍ، صلواتُ الله عليه، وفي ثَقيف مقالاً، هَجم بي الرجاءُ لعدله، عليه بالحُجَّة في ردّه بمُحكم التنزيل على لسان ابن عمه خاتَم النبيّين وسيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عن الله عز وجلّ، وحكاية عن الملأ من قُريش عند الاختيار والافتخار، وقد نَفخ الشيطان في مناخرهم، فلم يَدَعوا خلف ما قصدوا إليه مرمى. فقالوا: " لولا نزل هذا القُرآنُ على رجُل من القَرْيَتين عَظِيم " . فوقع اختيارهم، عند المُباهاة بنَفْخة الكُفر وكِثر الجاهلية، على الوليد بن المغيرة المخزومي وأبي مَسْعود الثَّقفي، فصارا فيا الإفْتخار بهما صِنْوين، ما أنكر اجتماعَهما من الأمة مُنكر في خبر القرآن، ومبلِّغ الوحي. وإن كان ليُقال للوليد في الأمة يومئذ رَيْحانة قُريش، وما ردّ ذلك العزيز تعالى إلا بالرَّحمة الشاملة في القَسم السابق، فقال عزّ وجلّ: " أهم يَقسمون رَحْمة ربك نحن قَسَمْنا بينهم مَعيشَتَهم في الحَياة الدُّنيا " . وما قدَّمتْني يا أميرَ المؤمنين ثقيفُ في الاحْتجاج لها، وإنّ لها مقالاً رحباً، ومُعاندة قديمة، إلا أنّ هذا من أيسر ما يَحتجّ به العبدُ المُشفق على سيِّده المُغضب، والأمر إلى أمير المؤمنين، عَزل أم أقرّ، وكلاهما عَدْل مُتَّبع. وصواب معتفد. والسلام عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمة اللّه.
قال نُباتة: فأتيتُ على الكتاب بمَحضر أمير المؤمنين عبد الملك، فلما استوعبتُه سارقتُه النظَر على الهيبَة منه، فصادف لَحظي لَحظه، فقال: اقطعه، ولا تُعلمنَّ بما كان أحداً فلما مات. عبدُ الملك فشا عنّي الخبر بعد موته.

محمد بن المُنتشر بن الأجدع الهَمداني قال: دَفع إليَّ الحجاج رجلاً ذِمِّيا وأَمرني بالتَّشديد عليه والإستخراج منه، فلمِا انطلقتُ به، قال لي: يا محمد، إنّ لك لشَرَفاً ودِيناً، وإن لا أعطي على القَسر شيئاً فاستَأْذِني وارفُق بي. فقال: ففعلتُ، فأدى إليّ في أسبوع خَمسمائة ألف. فبلغ ذلك الحجَّاجَ فأَغضبه، فانتزعه منِ يدي ودَفعه إلى الذي كان يتولّى له العذاب، فدقّ يديه ورجليه، ولم يُعطهم شيئاً، قال محمد بن المنتشر: فإني لسائرٌ يوماً في السوق، إذا صائح بي يا محمد، فالتفتُّ، فإذا أنا به مُعرّضاً على حمار مَدقوقَ اليدين والرِّجلين. فخفت الحجاجِ إن أتيتُه وتذمَّمتُ منه، فملتُ إليه، فقال لي: إنك وَليتَ منّي ما ولي هؤلاء، فرفقتَ بي وأحسنتَ إليَّ، وإنهم صنعوا ما ترى، ولم أعطهم شيئاً ولي خُمسمائة ألف عند فلان فخُذها مكافأة لما أحسنتَ إليّ. فقلت: ما كنْتُ لآخذ منك على معروفي أجراً، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً. قال: فأمّا إذا نبت فاسْمع منِّي حديثاً أحدِّثك به حدَّثنيه بعض أهل دينك عن نبيِّك صلى الله عله وسلم أنه قال: " إذا رضي الله عن قوم أَنزل عليهم المطر في وَقته، وجعل المالَ في سُمحائهم، واستْعمل عليهم خِيارهم وإذا سَخط على قوم أنزل عليهم المطر في غير وَقته، وجعل المال في بُخلائهم، واسْتعمل عليهم شرارهم " . فانصرفتُ، فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسولُ الحجَّاج. فسرتُ إليه، فألفيتُه جالساً على فراشه والسيفُ مُصَلت بيده. فقال لي: ادْنُ، فدنوْتُ شيئاً. ثم قال لي: ادن، فدنوتُ شيئاً. ثم قال لي الثالثة: ادْنُ، لا أبَالك! فقلتُ: ما بي إلى الدنوَ من حاجة، وفي يد الأمير ما أَرى. فضحك وأغمد سيفَه، وقال: اجْلس، ما كان من حديث الخبيث؟ فقلت له أيها الأمير، والله ما غششتُك منذ اسْتنْصحتَني، ولا كذبتُك منذ اسْتَخبرتني، ولا خُنتك منذ ائتمنتني، ثم حدَثته. فلما صرتُ إلى ذكر الرجل الذي المالُ عنده اعرض عنّي بوجهه، وأومأ إليَّ بيده، وقال: لا تُسَمِّه، ثم قال: إنَّ للخبيث نفساً وقد سمع الأحاديث.
ويقال: إن الحجَّاج كانَ إذا اسْتَغرب ضَحِكاً والَى بين الاسْتغفار، وكان إذا صَعد المِنبر تلفّع بمطْرَفه، ثم تكلَم رويداً فلا يكاد يسمع، ثم يتزيّد في الكلام، فيُخرج يَده من مطْرَفه، ثم يَزجر الزَّجرة فيَقْرع بها أقصى مَن في المسجد.
صعد خالدُ بن عبد الله القَسريّ المِنبر في يوْم جمعة وهو إذ ذاك على مكة، فذكر الحجَّاجَ، فحَمِد طاعته وأثنى عليه خَيْراً. فلما كان في الجمعة الثانية وَرد عليه كتابُ سليمان بن عبد الملك، يأمره فيه بشَتم الحجاج ونَشرْ عُيوبه وإظهار البراءة منه. فَصَعِد المِنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ إبليس كان مَلَكاً من الملائكة، وكان يظْهر منِ طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلاً، وكان الله قد عَلم من غِشّه وخُبثه ما خفِي على ملائكته، فلما أراد الله فضيحتَه أَمره بالسُّجود لآدم، فظهر لهم منه ما كان مُخفيه، فلعنوه. وإن الحجَّاج كان يُظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كُنَّا نرى له به فَضْلاً، وكأنَّ الله قد أطلعَ أميرَ المؤمنين من غِشه وخبثه على ما خفي عنَّا، فلما أراد الله فضيحتَه أجرى ذلك على يد أمير المؤمنين فلعنه، فالْعنوه لَعنه الله، ثم نزل.
ولما أُتي الحجاج بامرأة ابن الأشعث قال للحَرسيِّ: قل لها: يا عدوَّة اللّه، أين مال الله الذي جعلتِه تحت ذَيلك؟ فقال لها الحرسيُ: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلتِه تحت استك؟ قال الحجاج: كذبْت، ما هكذا قلت. أرْسِلْها. فخلي سبيلَها.

أبو عَوانة عن عاصم عن أبي وائل قال: أرسل الحجاج إلي، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: ما أرسل الأميرُ إليّ حتى عَرف اسمي! قال لي: متى هبطتَ هذه الأرض؟ قلت: حين ساكنتُ أهلها. قال: كم تقرأ من القرآن؟ قلتُ: أقرا منه ما إن اتّبعتُه كفاني قال: إني أريد أن أستعين بك على بعض عَملي. قلت: إن تستعن بي بكبيرِ أخرَق ضعيف يخاف أعوان السوء، وإن تَدَعْني فهو أحبُّ إليَّ، وإن تُقحمني أتقحم. قال: إن لم أجد غيرَك أقْحمتك، وإن وجدتُ غيرَك لم أقحمك. قلت: وأخرى أكرم الله الأمير، إني ما علمتُ الناس هابوا أميراً قط هيبَتهم لك، والله إني لأتعارّ من الليل فأَذكرك فما يَأتيني النومُ حتى أصبح، هذا ولستُ لك على عمل. فأعجبه ذلك، وقال: هيه، كيف قلتَ؟ فأعدتُ عليه الحديث. فقال: إنّي والله ما أعلم اليومَ رجلاً على وجه الأرض هو أجرأ على دمٍ منّي. قال: فقمتُ فعدلتُ عن الطريق عمداً كأنّي لا أبصر. فقال: اهدوا الشَيخ، أرشدوا الشيخ.
أبو بكر بن أبي شَيبة قالت: دخل عبدُ الرحمن بن أبي لَيلى على الحجَّاج، فقال لجلسائه: إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل يَسُب أميرَ المؤمنين عثمان فانْظروا إلى هذا. فقال عبدُ الرحمن: معاذَ الله أيها الأميرُ أن أكون أسب عثمان، إنه لَيحجِزُني عن ذلك آياتٌ في كتاب الله تعالى: " للفُقراء المُهاجرين الذين أخْرِجوا مِن دِيارهم وأموالهم يَبْتغون فَضلاً من الله ورِضْواناً ويَنْصرون الله ورسولَه أولئك هم الصادِقون " فكان عثمانُ منهم. ثم قال: " والَّذِينِ تَبوؤا الدارَ والإيمان مِن قَبْلهم يُحبُّون مَن هاجَرَ إليهم ولا يَجدُون في صُدُورهم حاجةَ مما أوتُوا ويُؤثِرون على أنفُسهم ولو كان بهم خَصَاصة " فكان أبي منهم. ثم قال: " والَّذِين جاءُوا مِن بَعْدِهمِ يَقولون ربنا اغْفِر لنا وَلإخْواننا الَّذين سَبَقُونا بالإيمان " فكنتُ أنا منهم. قال: صدقت.
أبو بكر بن أبي شَيبة عن أبي مُعاوية عن الأعمش قال: رأيتُ عبدَ الرحمن ابن أبي ليلى ضَربه الحجَّاج ووقفه على باب المسجد، فجعلوا يقولون له: ألعن الكاذبين: علي بن أبي طالب، وعبدَ الله بن الزبير، والمُختارَ بن أبي عُبيد. فقال: لعَنَ الله الكاذبين، ثم قال: فيُ علي بن أبي طالب، وعبدُ الله بن الزُّبير، والمُختار بن أبي عُبيد، بالرفع. فعرفتُ حين سَكت ثم ابتدأ فرفع أنه ليس يُريدهم.
قال الشَعبيُ: أتي بي الحجاجُ مُوثَقاً، فلما جئتُ باب القصر لَقِيني يزيدُ بن أبي مسلم كاتبُه، فقال: إنا للّه يا شَعبي لما بين دَفتيك مِن العلم، وليس اليومُ بيوم شفاعة. قلتُ له: فما المَخرج؟ قال: بُؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك وبالحَرَي أن تنجوَ. ثم لقيني محمدُ بن الحجّاج فقال لي مثلَ مَقالة يزيدَ. فلما دخلتُ على الحجاج قال لي: وأنعت يا شَعبيُ فيمن خَرج علينا وأكثر؟ قلتُ: أصلحَ الله الأمير، نَبا بنا

المنزل، وأجدب بنا الجَناب، واستحلَسَنا الخوفُ، واكتحلنا السَّهر، وضاق المسلك، وخَبَطتنا فتنةٌ لم نكنْ فيها بررة أتقياء، ولا فَجرة أقوياء. قال: صدق والله ما برُّوا بخروجهم علينا ولا قووا، أطلقوا عنه. فاحتاج إلي في فَريضة بعد ذلك فأرسل إليَّ، فقال: ما تقول في أم وأخت وجَدّ؟ فقلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بن مسعود، وعليّ، وعثمان، وزَيد، وابنُ عباسِ. قال: فما قال فيها ابنُ عباس، إن كان لِمَنْقَباً؟ قلت: جعل الجَد أباً ولم يُعط الأخت شيئاً، وأعطى الأم الثلث. قال: فما قال فيها ابنُ مسعود؟ قلت: جَعلها من ستَة، فأعطى الجدَّ ثلاثة، وأعطى الأم اثنين، وأعطى الأختَ سهماً. قال: فما قال زَيد؟ قلت: جعلها من تِسعة، فأعطى الأمَّ ثلاثة، وأعطى الجد أربعة، وأعطى الأختَ اثنين، فجعل الجَدّ معها أخاً. قال: فما قال فيها أميرُ المؤمنين عثمان؟ قلتُ: جعلها ثلاثاً. قال: فما قال فيها أبو تُراب؟ قلتُ: جعلها من ستة، فأعطى الأختَ ثلاثة، وأعطى الأمّ اثنين، وأعطى الجدّ سهماً. قال: مُر القاضي فلْيُمضها على ما أمضاها أميرُ المؤمنين. فبينما أنا عنده إذ جاءه الحاجبُ فقال له: إن بالباب رُسلاً. فقال: إيذن لهم. قال: فدخلوا وعمائمهم على أوساطهم، وسيوفُهم على عواتقهم، وكُتبهم بأيمانهم، وجاء رجل من بني سُليم يقال له شَبابة بن عاصم، فقال له: مِن أين؟ قال: من الشام. قال: كيف تركتَ أمير المؤمنين وكيف تركتَ حَشمه؟ فأخبره. قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم. أصابتني فيما بَيني وبين الأمير ثلاث سحائب. قال: فانعتْ لي كيف كان وَقْع المطر وتَباشيره؟ قال: أصابتني سحابةٌ بحوارين فَوقع قَطر صغار وقَطْر كبار، فكانت الصغار لحْمة للكبار، ووقع نشيطاَ ومُتداركاً، وهو السّيح الذي سمعتَ به، فوادٍ سائل، ووادٍ نازح، وأرض مُقبلة، وأرض مُدبرة. وأصابتني سحابةٌ بَسرا ء فلَبّدت الدِّماث، وأسالت العَزَاز، وأدحضت التِّلاع، وصَدَعت عن الكمأة أماكنها. وأصابتني سحابةٌ بالقَرْيتين فقاءت الأرضُ بعد الرّي. وامْتلأت الأخاديد، وأفعمت الأودية، وجِئْتك في مثل وِجار الضَبُع. ثم قال: إيذَن، فدخل رجل من بن أسد. فقال: هل وراءَك من غيث؟ قال: لا، كثُر الإعصار، وأغبرت البلاد، وأيقنّا أنه عام سَنة. قال: بئس المُخبر أنت. قال: أخبَرْتُك الذي كان ثم، قال: إيذَن. فَدَخَل رجل من أهل اليمامة. قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، سمعت الرُّوّاد يَدْعون إلى الماء وسمعتُ قائلاً يقول: هَلُمّ ظَعنَكم إلى محلّة تَطفأ فيها النيران، وتشكّى فيها النساء، وتنافسُ فيها المِعزى. وقال الشعبيّ: فلم يدر الحَجّاج ما قال. فقال له: تبا لك! إنما تُحدّث أهلَ الشام فأَفْهِمْهم. قال: أصلح الله الأمير، أخصب الناسُ، فكَثُر التمر والسمن والزُبد والّلبن، فلا تُوقَد نار يُختبر بها. وأما تشَكى النساء، فإن المرأة تظلّ ترُبِق بَهمْها، وتَمخَض لبنها، فتَبيت ولَها أنينٌ من عَضُدها. وأما تنافس المِعزى، فإنها ترى من أنواع التمر وأنواع الشجر ونَوْر النبات ما يُشبع بطونَها ولا يُشبع عيونها، فتبيتً وقد امتلأت أكراشُها، ولها من الكِظّة جِرة، فتبقى الجرّة حتى تَستنزل الدِّرّة. ثم قال: إيذن، فدخل رجلٌ من المَوالي كان من أشد الناس في ذلك الزمان. فقال له: هل وراءك من غيث؟ قال. نعم، ولكني لا احسن أن أقول ما يقول هؤلاء. قال: فما تُحسن؟ قال: أصابتني سحابة بحُلوان، فلم أزل أطأ في آثارها حتى دخلتُ عليك. فقال: لئن كنتَ أقصرَهم في المطر خُطبة، فإنك لأطولُهم بالسيف خُطوَة.

إبراهيم بن مَرزوق عن سعيد بن جُويرية قال: لما كان عامُ الجماعة كتب عبدُ الملك بن مروان إلى الحجّاج: انظر ابن عمر فاقْتد به وخُذ عنه، يعني في المناسك. قال: فلما كان عشيّة عرفة، سار الحَجّاج بين يدي عبد الله بن عُمر وسالمٍ ابنِه، فقال له سالم: إن أردتَ أن تُصيب السّنة اليوم فأوْجز الخُطبة وعَجِّل الصلاة. قال: فقَطَّب ونظر إلى عبد الله بن عُمر. فقال: صدق. فلما كان عند الزوال مَرَّ عبد الله بن عمر بسرادقه، وقال الرّواح: فما لَبث أنْ خَرج ورأسًه يَقْطُر كأنه قد اغتسل. فلما أفاض الناسُ، رأيتُ الدم يتحدّر من النَّجيبة التي عليها ابنُ عمر، فقال: أبا عبد الرحمن، عقرت النَّجيبة؟ قال: أنا عُقِرْت ليس النَّجيبة، وكان أصابه زُج رُمح بين إصبعين من قَدمه، فلما صرْنا بمكة دخل عليه الحجّاج عائداً؟ فقال: يا أبا عبد الرحمن، لو علمتُ مَن أصابك لفعلتُ وفعلت. قال له: أنت أصبتني. قال: غفر الله لك. لم تقول هذا؟ قال: حملتَ السلاحَ في يوم لا يُحمل فيه السلاح؟.
أبو الحسن المدائني قال: أخبرني من دَخل المسجد، والحجّاج على المِنبر، وقد ملأ صوتُه المسجد بأبيات سويد بن أبي كاهل اليَشْكري حيث يقول:
رُبّ من أنضجتُ غيظا صدره ... قد تمنَّى ليَ موتاً لم يطع
ساء ما ظَنُوا وقد أبليتُهم ... عند غايات المدَى كيف أقع
كيف يَرجون سِقاطي بعدما ... شَمِل الرأسَ مَشيبٌ وصَلع
كتب الوليدُ إلى الحجّاج: أن صِفْ لي سيرتَك. فكتب إليه: إني أيقظت رأي، وأنمتُ هواي، فأدنيت السيّد المطاع في قومه، ووليتُ الحَرْبَ الحازمَ في أمره، وقلّدت الخِراج المُوفِّر لأمانته، وصرَفتُ السيفَ إلى النَطف المُسيء، فخاف المُريبُ صولةَ العِقاب، وتمسّك المُحسن بحظّه من الثواب. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قرأ الحجاجُ: في سورة هود " قال يا نُوح إنّه لَيس من أهْلك إنّه عَمَل غير صالح " فلم يَدُر كيف يقرأ: عمل بالضم والتنوين، أو عمل بالفتح فبعث حَرسيّا فقال: إيتني بقارئ. فأتي به، وقد ارتفع الحجّاج عن مجلسه، فحبسه ونَسيه حتى عَرض الحجاجُ حبسه بعد ستة أشهر، فلما انتهى إليه قال له: فيم حُبست؟ قال: في ابن نُوح، أصلح الله الأمير، فأمر بإطلاقه.

إبراهيم بن مرزوق قال: حدثني سعيد بن جُويرية قال: خَرجتْ خارجةٌ على الحَجّاج بن يوسف، فأرسل إلى أنس بن مالك أن يَخرج معه، فأبى. فكتب إليه يَشْتمه. فكتب أنسُ بن مالك إلى عَبد الملك بن مروان يشكوه، وأدرج كتابَ الحجّاج في جوف كتابه. قال إسماعيل بن عبد الله بن أبي المُهاجر: بعث إليّ عبدُ الملك بن مروان في ساعة لم يكن يبعثُ إليّ في مثلها. فدخلتُ عليه وهو أشدُّ ما كان حَنقاً وغَيظاً، فقال: يا إسماعيل، ما أشدَّ عليّ أن تقول الرعيّة: ضعُف أمير المؤمنين وضاق ذَرعه في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل له حَسنة، ولا يتجاوز له عن سَيّئة! فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ يذكر أن لحجّاج قد أ ضَرّ به وأساء جواره، وقد كتبتُ في ذلك كتابين: كتاباً إلى أنس بن مالك، والآخَر إلى الحجّاج، فاقبضْهما ثم أخرج على البريد، فإذا وردتَ العِراق فأبدأ بأنس بن مالك فادفعْ إليه كتابي، وقل له: أشتدّ على أمير المؤمنين ما كان من الحجاج إليك، ولن يأتيَ أمرٌ تكرهه إن شاء اللّه. ثم إيت الحِجَاجَ فادفع إليه كتابه، وقُل له: قد اغتررتَ بأمير المؤمنين غِرّة لا أظنك يُخطئك شرُها، ثم أفهم ما يتكلمُ به وما يكون منه، حتى تُفْهمني إياه إذا قَدِمت عليّ إن شاء الله قال إسماعيل: فقبضتُ الكتابين وخرجتُ على البريد حتى قَدِمتُ العراق، فبدأتً بأنس بنِ مالك في منزله، فدفعتُ إليه كتاب أمير المؤمنين وأبلغتُه رسالتِه، فدعا له وجزاه خيراً. فلما فرغ من قِراءة الكتاب قلتُ له: أبا حمزة، إن الحجاج عاملٌ ولو وُضع لك في جامعةٍ لَقَدر أن يَضرك ويَنفعك، فأنا أريد أن تصالحه. قال: ذلك إليك لا أخرجُ عن رأيك. ثم أتيتُ الحجاجَ، فلما رآني رحَّب وقال: والله لقد كنتً أحب أن أراك في بلدي هذا. قلت: وأنا والله قد كنتُ أحب أن أراك وأَقْدَم عليك بغير الذي أرسلتُ به إليك. قال: وما ذاك؟ قلت: فارقتُ الخليفةَ وهو أغضبُ الناس عليك. قال: ولم؟ قال: فدفعتُ إليه الكتاب. فجعل يقرؤه وجبينه يَعرق. فيمسحه بيمينه، ثم قال: أركبْ بنا إلى أَنس بن مالك. قلت له: لا تَفعل، فإني سأتلطّف به حتى يكون هو الذي يأتيك؟ وذلك للذي شرتُ عليه من مُصالحته. قال: فألقى إلي، كتابَ أمير المؤمنين فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجَّاج بن يوسف. أما بعد. فإنك عبدٌ طَمَت بك الأمور فطغَيتَ وعَلوت فيها حتى جُزت قدرك، وعَدوت طَوْرك، ويم الله يابن المُسْتفرمة بعَجَم زبيب الطائف، لأغمزنّك كبعض غَمزات اللُّيوث للثّعالب، ولأرْكضْنك رَكضة تدخل منها في وَجْعاء أمك. أذكر مكاسبَ آبائك بالطائف، إذ كانوا يَنْقلون الحجارة على أكتافهم، ويحفرون الآبار والمَناهل بأيديهم، فقد نسيتَ ما كنتَ عليه أنت وآباؤك من الدَّناءة واللُّؤم والضراعة. وقد بلغ أميرَ المؤمنين استطالةٌ منك على أنس بن مالك خادِم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جُرْأةً منك على أمير المؤمنين وغِزة بمَعرفة غِيَره ونقَماته وسَطَواته على مَن خالف سبيلَه، وعَمد إلى غير مَحبّته، ونَزل عند سَخْطته. وأظنك أردتَ أن تُروزه بها لتعلم ما عنده من التَّغيير والتّنكير فيها. فإن سُوِّغتَها مضيتَ قُدُما، وإن بُغَضتَها ولّيت دُبراً، فعليك لعنةُ الله مِن عبد أخْفش العينين، أصكّ الرجلين، ممسوح الجاعرتين وايم الله لو أن أميرَ المؤمنين علم أنك اجترمت منه جُرماً، وانتهكت له عرْضاً فيما كتب به إلى أمير المؤمنين، لبعث إليك مَن يَسحبك ظهراً لِبطن حتى. يَنتهي بك إلى أنس بن مالك، فيحكمَ فيك ما احبّ. ولن يَخْفى على أمير المؤمنين نَبؤُك، ولكل نَبأ مُستقر ولسوف تعلمون.
قال إسماعيل: فانطلقتُ إلى أنس، فلم أزل به حتى انطلق معي إلى الحجاج.

فلما دخلنا عليه قال: يَغفر الله لك أبا حمزة، عَجِلْت باللائمة وأغضبتَ علينا أميرَ المؤمنين، ثم أخذ بيده فأَجلسه معه على السرير. فقال أنس: إنك كنتَ تزعم أنّا الأشرار، والله سمّانا الأنصار. وقلتَ: إنّا من أبخل الناس، ونحن الذين قال الله فيهم: " ويُؤْثِرون على أنْفًسهمِ ولو كانَ بهم خَصَاصة " . وزعمتَ أنا أهلُ نِفاق والله تعالى يقول فينا: " والّذين تبوَّءوا الدارَ والإيمان مِن قبلهم يُحبّون مَن هاجَر إليهم ولا يَجدُون في صُدورهمْ حاجةً مما أوتُوا " . فكان المَفْزع والمُشتكى في ذلك إلى الله وإلىَ أمير المؤمنين، فتولّى من ذلك ما ولاهّ الله، وعرف من حقِّنا ما جَهلتَ، وحَفظ منّا ما ضيعتَ، وسَيحكم في ذلك رب هو أرضى للمُرضي، وأسخطُ للمُسخط، وأقدرُ على المُغير، في يوم لا يشوب الحق عنده الباطلُ، ولا النورَ الظلمةُ، ولا الهدى الضلالةُ. والله لوِ أنّ اليهود أو النّصارى رأت مَن خدَم موسى بن عمران أو عيسى بن مريم يوماً واحداً لرأت له ما لم تَرَوا لي في خدمة رسول الله عَشرَ سنين. قال فاعتذر إليه الحجاحُ وترضاه حتى قَبل عُذره ورضي عنه، وكتب برضاه عنه وقبوله عُذرَه. ولم يزل الحجاحُ له مُعظماً هائباً له حتى أنسٌ رضي الله عنه. وكتب الحجاحُ إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد. أصلحَ الله أميرَ المؤمنين وأبقاه، وسهّل حظه وحاطه ولا أعدمنا إياه فإن إسماعيل بن أبي المُهاجر رسول أمير المؤمنين - أعزّ الله نَصره - قَدِم عليّ بكتاب أمير المُؤمنين - أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءَه - يذكر شتيمتي وتَوْبيخي بآبائي، وتَغييري بما كان قبلَ نزول النَعمة بي من عند أمير المؤمنين، أتم الله نعمَته عليه وإحسانه إليه. ويذكر أميرُ المؤمنين، جعلني الله فداه، استطالةً منّي علىِ أنس بن مالك خادِم رسول الله صلى الله عليه و سلم، جراءةً مني على أمير المؤمنين وغِرّة بمعرفةِ غِيره ونقَماته وسَطواته على مَن خالف سبيلَه، وعَمد إلى غير محبته، ونزل عند سَخْطته. وأميرُ المؤمنين، أصلحه الله، في قَرابته من محمد رسول الله - إمام الهدى وخاتَم الأنبياء أحق من أقال عَثْرتي وعَفا عن ذَنبي، فأمهلني ولم يُعجلني عند هَفوتي، للذي جُبل عليه من كريم طبائعه، وما قلّده الله من أمور عباده، فرِأيُ أمير المؤمنين، أصلحه الله في تَسْكِين رَوْعتي، وإفراج كربتي، فقد مُلئت رُعباً وفرقاً من سَطْوته وفُجاءةِ نقْمته وأميرُ المؤمنين - أقاله الله العثراتِ، وتجاوز له عن السيآت، وضاعفت له الحسنات، وأعلى له الدَّرجات. أحقّ من صَفح وعفا، وتَغَمّد وأبقى، ولم يُشمت بي عدوًّا مُكبّا، ولا حسودا مُضبّا، ولم يجرِّعني غُصصا. والذي وَصف أميرُ المؤمنين من صنيعه إليّ وتَنويهه بي بما أسند إليِّ من عمله وأوطأني من رِقاب رعيته، فصادقٌ فيه مجزيّ بالشكر عليه والتوسّلُ مني إليه بالولاية، والتقرّبُ له بالكفاية. وقد عاين إسماعيلُ بن أبي المُهاجر، رسولُ أمير المؤمنين وحاملُ كتابه، نزولي عند مسرّة أنس بن مالك، وخُضوعي لكتاب أمير المؤمنين، وإقلاقَه إياي، ودُخولَه علي بالمصيبة، على ما سيعلمه أميرُ المؤمنين ويُنهيه إليه. فإن رأى أميرُ المؤمنين - طوّقني الله شُكره وأعانني على تأدية حقّه وبَلَّغني إلى ما فيه مُوافقة مَرْضاته ومدَ لي في أجله - أمر لي بكتاب مِن رضاه وسلامة صَدْره، يُؤمِّنني به من سَفك دَمي ويَرُدّ ما شَرَد من نومي ويَطمئن به قلبي، فقد وَرد عليّ أمرٌ جَليل خَطْبُه، عظيم أمرُه، شديد عليّ كربُه. أسأل الله أن لا يُسخط أميرَ المُؤمنين عَلَيّ، وأن يَبْتلِيَه في حَزمه وعَزمه، وسياسته وفِراسته ومواليه وحَشمه، وعُماله وصنائعه، بما يُحمَد به حُسنُ رأيه، وبُعْدُ هِمَّته؟ إنه وليّ أمير المؤمنين، والذابّ عن سلطانه، والصانع له في أمره، والسلام.
فحدّث إسماعيلُ أنه لما قرأ أميرُ المؤمنين الكتابَ قال: يا كاتب، أفرخ رُوع أبي محمد. فكتب إليه بالرضا عنه.

كان سليمانُ بن عبد الملك يكتب إلى الحجّاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كُتباً فلا يَنظر له فيها. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من سليمان بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف: سلامٌ على أهل الطاعة من عباد الله. . أما بعد. فإنك امرؤ مَهْتوك عنه حجابُ الحقّ، مولَع بما عليك لا لك، مُنصرف عن مَنافعك، تاركٌ لحظّك، مُستخفّ بحق الله وحق أوليائه. لا ما سلف إليك من خير يَعطفك، ولا ما عليك لا لك يصرِفك. في مُبهمة من أمرك مَغْمور مَنكوس مُعصوصر عن الحق اعصيصاراً، ولا تتَنكَّب عن قَبيح، ولا تَرعوي عن إساءة، ولا ترجو الله وقاراً، حتى دُعيت فاحشاً سبَّاباً. فقِسْ شِبرك بفَترك، واحذُ زمام نَعلك بحذو مثله. فايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنّك دَوْسة تلين منها فرائصك، ولأجعلنّك شر يداً في الجبال، تلوذ بأطراف الشمال، ولأعَلقنّ الرًّومية الحمراء بثَدْييها. علم الله ذلك منّي وقضىَ لي به عليّ، فقِدْماً غرّتك العافية، وانْتحيتَ أعراضَ الرّجال، فإنك قَدَرْتَ فَبَذخْتَ، وظَفِرت فتعدَّيت. فرويدكَ حتى تنظر كيف يكون مصيرُك إن كانت بي وبك مُدة أتعلّق بها، وإن تكن الأخرى فأرجو أن تَؤول إلى مَذلة ذَليل، وخِزْية طويلة، ويُجعل مصيرُك في الآخرة شرَّ مَصير. والسلام.

فكتب إليه الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحجاج بن يوسف إلى سُليمان بن عبد الملك. سلامٌ على من اتّبع الهدى. أما بعد. فإنك كتبتَ إليّ تَذْكر أنّي امرؤ مَهْتوك عنّي حِجابُ الحق، مُولَع بما عليّ لا لي، مُنصرف عن منافعي، تاركٌ لحظّي، مُستخف بحقّ الله وحقّ وليّ الحق. وتذكر أنك ذو مُصاولة ولَعمري إنك لصبيٌّ حديث السنّ تُعذَر بقلّة عَقلك وحَداثة سنّك ويُرقَب فيك غيرُك، فأما كتابُك إليّ فلَعمري لقد ضَعُف فيك عقلك، واسْتُخِفّ به حلمُك، فلِله أبوك. أفلا انتصرت بقضاء الله دون قَضاءك، ورجاءِ الله دون رجائك، وأمتَّ غيظك، وأمنت عدوِّك، وسترت عنه تدبيرك، ولم تُنَبّهه فيَلتمسَ من مُكايدتك ما تلتمس منِ مُكايدته، ولكنّك لم تَسْتشِفّ الأمور علماً، ولم تُرزق من أمرك حَزْماً. جمعتَ أموراً دلاك فيها الشيطانُ على أسوأ أمرك، فكان الجفاءُ مِن خليقتك، والْحُمق مِن طَبيعتك، وأقبل الشيطانُ بك وأدبر، وحدّثك أنك لن تكون كاملاً حتى تَتعاطى ما يَعيبك. فتَحذلقت حنجرتُك لقوله، واتّسعت جوانبُها لكذبه. وأما قولُك لو مَلّكك الله لعلّقت زينبَ بنت يوسف بثَدْييها، فأرجو أن يكرمها الله بهَوانك، وأن لا يُوَفَق ذلك لك إن كان ذلك مِن رأيك، مع أنّي أعرف أنك كتبتَ إليَ والشيطانُ بين كَتفَيك، فشرُّ مُمْل على شرِّ كاتب راض بالخَسف، بالحُمق أن لا يدلّك على هُدى، ولا يردّك إلا إلى رَدى. وتحلَّب فُوك للخلافة، فأنت شامخ البَصر، طامح النَّظر، تظنُّ أنك حين تَمْلكها لا تَنْقطِع عنك مُدتها. إنها للُقطة الله التي أسأل أن يُلهمك فيها الشكر، مع أني أرجو أن ترغب فيما رغب فيه أبوك وأخوك فأكون لك مثلي لهما. وإن نَفخ الشيطان في مُنخريك فهو أمر أراد الله نَزعه عنك وإخراجه إلى مَن هو أكمل به منك. ولعمري إنها لنصيحة، فإنْ تَقبلها فمثلُها قُبل، وإن تردّها عليّ اقتطعتُها دونك؟ وأنا الحجاج. قدم الحجاجُ على الوليد بن عبد الملك فدخل عليه، وعليه دِرْع وعمامة سوداء، وقوس عربيَّة وكِنانة، فبعثتْ إليه أمُّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان: مَن هذا الأعرابيّ المُستلئم في السلاح عندك وأنت في غِلالة. فبعث إليها: هذا الحجاج بن يوسف. فأعادت الرسولَ إليه تقول: والله لأن يَخلو بك مَلَكُ الموتِ أحبُّ إليّ من أن يخلو بك الحجاج. فأخبره الوليدُ بذلك وهو يمازحه. فقال: يا أمير المؤمنين، دع عنك مُفاكهة النساء بزُخرف القول، فإنما المرأة رَيحانة، ولست بقَهْرمانة، فلا تطْلعها على سرِّك، ومُكايدة عدوّك. فلما دخل الوليدُ عليها أخبرها بمقَالة الحجاج. فقالت: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غداً يأتيني مُستلئما، ففعل ذلك. وأتى الحجاج فَحجبته، فلم يزل قائماً، ثم قالت له: إيه يا حجاج، أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقَتْلك عبد الله بن الزًّبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله علم أنك من شرِار خَلقه ما ابتلاك برَمْي الكَعبة، وقَتْل ابن ذاتِ النِّطاقين، وأوَّل مولود وُلد في الإسلام. وأما نَهْيك أمير المؤمنين عن مُفاكهة النساء وبُلوغ أوطاره منهن، فإنْ كُنّ يَنْفرجن عن مِثلك، فما أحقه بالأخذ عنك، وإن كن يَنْفرجن عن مِثله فغيرُ قابل لقولك. أما والله لقد نَقَص. نساء أمير المؤمنين الطيّبَ عن غدائرهن فبِعنه في أَعطية أهل الشام حين كنتَ في أَضيق من القَرَن قد أَظلّتك رماحُهم، وأثخنك كِفاحهم، وحين كان أمير المؤمنين أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، فما نَجّاك الله من عد أمير المؤمنين إلا بحبّهم إياه. وللّه دَرّ القائل إذ نظر إليك، وسنان غَزالة بين كَتفيك:
أسَدٌ عليّ وفي الحُروب نعامةٌ ... رَبداءُ تَجْفِل من صفير الصافر
هلاّ برزتَ إلى غزالةَ في الوَغى ... بل كان قَلبُك في مخالبِ طائر
صَدعت غزالةُ جمعَه بعساكر ... ترِكتْ كتائبَه كأمس الدابر
ثم قالت: اخرُج. فخرج مَذْموماً مدحوراً.

كان عُروة بن الزبير عاملاً على اليمن لعبد الملك بن مروان، فاتصَل به أن الحجاجَ مُجْمعِ على مُطالبته بالأموال التي بيده وعَزْله عن عَمله، ففرّ إلى عبد الملك وعاد به تخوّفا من الحجاج، واستدفاعاً لضرَره وشرّه. فلما بلغ ذلك الحجاحَ كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد. فإنّ لواذ المُعترضين بك، وحُلول الجانحين إلى المُكث بساحتك، واستلانَتهم دَمِث أخلاقك، وسَعة عَفْوك، كالعارض المُبرق لا يَعْدم له شائماً، رجاء أن ينالَه مطرهُ وإذا أدنى الناس بالصّفح عن الجرائم كان ذلك تَمْرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل وال. والناس عبيد العصا، هم على الشدّة أشد اسْتباقاً منهم على اللِّين. ولنا قِبَل عُروة بن الزُّبير مال من مال الله، وفي استخراجه منه قَطْعٌ لطمع غيره، فَلْيبعث به أميرُ المؤمنين، إن رأى ذلك. والسلام.
فلما قرأ الكتابَ بعثَ إلى عُروة، ثم قال له: إنّ كتاب الحَجّاج قد وَرد فيك، وقد أبى إلا إشخاصَك إليه. ثم قال لرسول الحجَّاج: شأنَك به. فالْتفت إليه عروةُ مقبَلاً عليه، وقال: أما والله ما ذلَّ وخَزِي مَن ملكتموه، والله لئن كان الملك بجَواز الأمر، ونَفاذ النَهي، إن الحجاج لسُلطانٌ عليك يُنفّذ أموره دون أمورك، إنك لتُريد الأمرَ يَزِينك عاجله، ويَبقى لك أكرومةً آجلُه، فَيَجذِبُك عنه ويَلقاه دونك، ليتولّى من ذلك الحُكم فيه، فيحظَى بشرف عَفْو إن كان، أو بجُرم عقوبة إن كانت. وما حاربَك مَن حاربَك إلا على أمرٍ هذا بعضُه.
قال: فنظر في كتاب الحجاج مرّة، ورَفع بصرَه إلى عُروة تارة، ثم دعا بدواةٍ وقرطاس فكتب إليه: أما بعد. فإن أميرَ المؤمنين، رآك مع ثِقته بنَصيحتك خابطاً في السياسة خَبْط عَشْواء الليل. فإِن رأيك الذي يُسَوِّل لك أنَّ الناس عبيدُ العصا هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوُثوب عليك، وإذ أخرجت العامة بعُنف السياسة كانوا أوشك وثوباً عليك عند الفُرصة، ثم لا يلتفتون إلى ضلال الدّاعي ولا هُداه، إذا رَجَوْا بذلك إدراك الثأر منك. وقد وَليَ العراق قَبلك ساسةٌ، وهم يومئذ أحمى أنوفا وأقربُ من عَمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلحَ منك عليهم، وللشدَّة واللين أهلون، والإفراطُ في العفو أفضلُ من الإفراط في العقوبة. والسلام.
زكريا بن عيسى عن ابن شهاب قال: خرجنا مع الحَجّاج حُجاجاً، فلما انتهينا إلى البيداء وافينَا ليلةَ الهلال، هلال ذي الحجة، فقال لنا الحجاج: تَبصرّوا الهلال، فأما أنا ففي بَصري عاهة. فقال له نَوفل بن مُساحق: وَتدري لم ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: لا أدري. قال: لكثرة نَظرك في الدفاتر.
الأصمعي قال: عُرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثةً وثلاثين ألفاً لم يجب على واحد منهم قَتل ولا صَلْب، ووُجد فيهم أعرابيٌ أخذ يَبول في أصل مدينة واسط، فكان فيمن أطلق. فأنشأ الأعرابيّ يقوِل:
إذا نحن جاوزنا مدينةَ واسط ... خرِينا وبُلْنا لا نَخاف عِقابَا
أبو داود المُصحفيّ، عن النَضر بن شُميل، قال: سمعتُ هشاماً يقول: احصُوا مَن قتل الحجاجُ صَبْراً. فوجدوهم مائةَ ألف وعشرين ألفًا.
وخطب الحجاجُ أهلَ العراق، فقال: يأهل العراق. بلغني أنكم تَروُون عن نبيِّكم أنه قال: مَن ملك عشرة رقاب من المسلمين جيء به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عُنقه، حتى يفكّه العَدل أو يُوبقه الجَوْر. وايم اللهّ، إني لأحبُّ إليَّ أن احشر مع أبي بكر وعمر مغلولاً من أن احشر معكم مُطلقاً.
ومرض الحجاجُ ففرح أهلُ العراق، وقالوا: مات الحجاجُ! مات الحجاج! فلما أفاق صَعد المِنبر وخَطب الناس، فقال يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، مرضتُ فقلتم: مات الحجاج. أما والله إني لأحبُّ إليَّ أن أموت من ألاّ أموت، وهل أرجو الخيرَ كلٌه إلا بعد الموت، وما رأيتُ الله رَضي بالخُلود في الدنيا إلا لأبغض خَلقه إليه وأهونهم عليه: إبليس. ولقد رأيتُ العبدَ الصالح سأل ربَّه، فقال: " رب هب لِي مُلكاً لا يَنْبَغي لأحَدِ مِن بَعْدِي " . ففعل، ثم اضمَحل ذلك فكأنه لم يكن.

وأراد الحجاجُ أن يَحج. فاسْتخلف محمداً ولده على أهل العراق، ثم خَطب فقال: يأهل العراق، إني أرد تُ الحجَّ وقد اسْتخلفتُ عليكم محمداً ولدي، وأوصيتُه فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى فيهم أن يُقبل من مُحسنهم، ويُتجاوز عن مُسيئهم. وإني أوصيتُه ألا يقبل من مُحسنكم، وألا يتجاوزَ عن مُسيئكم. ألا وإنكمِ قائلون بعدي مقالةً لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي: لا أحسن الله له الصحابة. وأنا أعجل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة. ثم نزل.
فلما كان غداةَ الجمعة مات محمدُ بن الحجاج، فلما كان بالعشيّ أتاه بريدٌ من اليمن بوفاه محمد أخيه. ففرح أهلُ العراق، وقالوا: انقطع ظهرُ الحجاج وهِيض جناحُه فخرج فصعد المنبرَ ثم خطب الناس، فقال: أيها الناس، محمدان في يوم واحد! أما والله ما كنتُ أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة. وايم الله، ليُوشكنّ الباقي مني ومنكم أن يَفنى، والجديدُ أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تُدال الأرض منّا كما أدلنا منها، فتأكل من لُحومنا وتشرب من دمائنا، كما قال الله تعالى: " ونُفِخ في الصور فإذا هُم من الأجْدَاثِ إلى رَبِّهم يَنْسِلون " . ثم تمثل بهذين البيتين:
عَزائي نبيُّ الله مِن كل مَيت ... وحَسبي ثوابُ الله من كل هالك
إذا ما لقيتُ الله عنِّي راضيا ... فإنَّ سُرورَ النًفس فيما هُنالك
ثم نزل وأَذن للناس فدخلوا عليه يُعزونه، ودخل فيهم الفرزدقُ فلما نظر إليه قال: يا فرزدق، أما رثيتَ محمداً ومحمداً؟ قال: نعم أيها الأمير وأنشد:
لئن جَزع الحجّاجُ ما من مُصيبة ... تكون لمَحزون أمضَّ وأَوْجعَا
مِن المصطفى والمُنتقى من ثِقاته ... جناحاه لما فارقاه وودّعا
جناحا عَتيق فارقاه كلاهُما ... ولو نزعا من غيره لتَضعضعَا
ولو أنَّ يومَيْ جُمعتيه تتابعا ... على شامخٍ صَعَب الذري لتصدَّعا
سَميّا رسول الله سمّاهما به ... أب لم يكن عند الحوادث أخضعا
قال: أَحسنت. وأمر له بصلة. فخرج وهو يقول: والله لو كلَّفنيِ الحجاجُ بيتاً سادسا لضَرب عنقي قبل أن آتيه به، وذلك أنه دخل ولم يهيئ شيئاً.

قولهم في الحجاج
الرِّياشيّ عن العتبي عن أبيه، قال: ما رأيت مثلَ الحجاج، كان زِيَّه زِي شاطراً. وكلامه كلامَ خارجيّ، وصولتُه صولةَ جبار. فسألته عن زيّه فقال: كان يُرجِّل شعرَه ويَخْضِب أطرافه. كثيرُ بن هشام عن جعفر بن بُرْقان: قال: سألتُ ميمون بن مهران فقلت: كيف ترى في الصلاة خلف رجل يَذكر أنه خارجيّ؟ فقال: إنك لا تصلّي له إنما تصلّي لله، قد كُنا نصلّي خلف الحجَّاج وهو حَروري أزرقيّ. قال: فنظرِت إليه، فقال: أتدري ما الحرويُّ الأزرقي؟ هو الذي إن خالفت رأيه سمَّاك كافراً واستحلَّ دمك، وكان الحجاج كذلك.
أبو أمية عن أبي مُسهر قال: حدَّثنا هشامُ بن يحيى عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أُمة بمُنافقيها وجئْنا بالحجاج لفضلناهم.
وحلف رجل بطلاق امرأته إن الحجَّاج في النار. فأتى امرأتَه، فمنعْته نفسَها.
فسأل الحسنَ بن أبي الحسن البصري. فقال: لا عليك يابن أخي، فإنه إن لم يكن الحجاج في النار، فما يَضُرّك أن تكون مع امرأتك على زنى.
أبو أمية عن إسحاق بن هشام عن عثمان بن عبد الرحمن الجُمحيّ عن عليّ بن زَيد، قال: لما مات الحجاجُ أتيتُ الحسنَ فأخبرتُه. فخرّ ساجداً. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق عن جرير بن مَنصور، قال: قلتُ لإبراهيم: ما ترى في لَعْن الحجاجِ؟ قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: " ألا لَعْنةُ الله على الظالمين " ، فأَشهدُ أنَّ الحجاج كان منهم.

وكيعٌ عن سُفيان عن محمد بن المُنكدر عن جابر بن عبدِ اللّه، قال: دخلت على الحجاج فما سلّمت عليه. وَكيع عن سُفيان قال: قال يزيد الرِّقاشيُّ عند الحسن: إني لأرجو للحجاج. قال الحسن: إني لأرجو أن يخلف الله رجاءك، ميمون بن مِهران قال: كان أنس وابن سِيرين لا يَبيعان ولا يَشتريان بهذه الدراهم الحجِّاجيّة. وقال عبدُ الملك بن مروان للحجَّاج: ليس من أحد إلا وهو يَعرف عيبَ نفسه، فصِف لي عيوبَك. قال: أعفني يا أميرَ المؤمنين. قال: لا بدَّ أن تقول. قال: أنا لَجوج حَسود حَقود. قال: ما في إبليس شرَّ من هذا، أبو بكر بن أبي شَيبة، قال: قيل لعبد الله بن عُمر: هذا الحجّاج قد وَلي الحرمَين. قال: إنْ كان خيراً شَكرنا، وإن كان شرًّا صَبرنا. ابن أبي شَيبة قال: قيلَ للحسن: ما تقول في قتال الحجاج؟ قال: إنَ الحجاج عُقوبة من الله فلا تَسْتقبلوا عُقوبة الله بالسيف. ابنُ فضيل قال: حدّثنا أبو نُعيم قال: أمر الحجاجُ بماهان أن يُصلب على بابه. فرأيتُه حين رُفعت خشبته يُسبَح ويهَلّل ويدبِّر ويَعقد بيده، حتى بلغ تسعاً وتسعين، وطعنه رجلٌ على تلك الحال، فلقد رأيتها بعد شهر في يده. قال: وكُنّا نرى عند خَشبته بالليل شَبيها بالسَراج. أبو داود المُصحفيّ عن النَّضر بن شَميل، قال: سمعتُ هشاماً يقول: احصُوا من قتل الحجاج صبراً. فوجدوهم مائة وعشرين ألفاً.

من زعم أن الحجاج كان كافرا
ً
ميمون بن مِهران عن الأجلح، قال: قلتُ للشعبيّ: يزعم الناسُ أنّ الحجاجَ مُؤمن. قال: مؤمن بالجبّت والطاغوت كافر بالله. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن يحيى عن الأعمش، قالَ: اختلفوا في الحجاج فقالوا: بمن تَرْضون؟ قالوا: بمجاهد. فأتوه، فقالوا: إنّا قد اختلفنا في الحجاج. فقال: أجئتُم تسألوني عن الشيخ الكافر؟ محمد بن كَثير عن الأوزاعيّ، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان الحجاجِ بن يوسف يَنْقض عُرى الإسلام عروةً عروة. عطاءُ بن السائب، قال: كنتُ جالساً مع أبي البَخْتَريّ والحجاج يَخْطب، فقال: في خُطبته: إنَّ مَثَل عثمان عند الله كمثَل عيسى بن مريم، قال الله فيه: " إنِّي مُتوفِّيك ورَافعُك إليَّ ومطَهِّرك مِن الذين كَفروا وجاعِلُ الذين أتبَعوك فوقَ الذين كَفَروا إلى يوم القِيامة " . فقال أبو البَخْتَريّ: كفر وربَّ الكعبة.

ومما كفرت به العلماءُ الحجّاج قولُه، ورَأى الناسَ يطوفون بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِنبره: إنما يطوفون بأعواد ورِمَّة. الشيبانيُّ عن الهيثم عن ابن عيّاش قال: كُنا عند عبد الملك بن مروان، إذ أتاه كتابٌ من الحجاج يُعظِّم فيه أمرَ الخلافة ويزعم أن السموات والأرض ما قامتا إلا بها، وأن الخليفة عند الله أفضلُ من الملائكة المُقرَّبين والأنبياء المُرسلين. وذلك أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته وأسكنه جَنّته، ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رُسلاً إليه. فأعجب عبدُ الملك بذلك، وقال: لوددتُ أن عندي بعض الخوارج فأخاصمَه بهذا الكتاب، فانصرف عبدُ الله بن يزيد إلى منزله، فجلس مع ضِيفانه وحدَثهم الحديث، فقال له حُوار بن زيد الضّبي، وكان هارباً من الحجاج: توثَّق لي منه، ثم أعلمني به. فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان. فقال: هو آمنٌ على كل ما يخاف. فانصرف عبد الله إلى حُوار فاخبره بذلك. فقال: بالغداة إن شاء اللّه. فلما أصبح اغتسل ولبس ثَوْبين ثم تحنّط وحَضر باب عبد الملك فدخل عبدُ الله فقال: هذا الرجل بالباب: فقال: أَدْخله يا غلام. فدخل رجلٌ عليه ثيابٌ بيضٌ يُوجد عليه ريح الحَنوط، فقال: السلام عليكم، ثم جلس. فقال عبدُ الملك: إيت بكتاب أبي محمد يا غلام. فأتاه به: فقال اقرأ، فقرأ حتى أتى على آخره. فقال حُوار: أراه قد جَعلك في موضعٍ مَلكاً وفي موضع نبيّاً وفي موضع خليفة، فإن كنت مَلَكاً فمن أنزلك؟ وإن كنت نبيّاً فمن بعثك؟ وإن كنت خليفة فمن استخلفك؟ أعن مَشورة من المسلمين أم ابتززتَ الناس أمورَهم بالسيف؟ فقال عبد الملك قد أمّناك ولا سبيلَ إليك، والله لا تُجاورني في بلد أبداً. فارحل حيثُ شئت. قال: فإني قد اخترتُ مصر، فلم يزل بها حتى مات عبدُ الملك. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن إسماعيل الطالَقاني، قال: حدّثنا جريرُ عن مغيرة عن الربيع قال: قال الحجّاج في كلام له: ويحكم! أخليفة أحدِكم في أهله أكرمُ عليه أم رسولُه إليهم؟ قال: ففهمت ما أراد، فقلت له: للّه عليَّ ألا أصلَي خلفك صلاة أبداً، ولئن وجدتُ قوماً يقاتلونك لقاتلتُك معهم. فقاتل في الجماجم حتى قُتل.
قيل للحجّاج: كيف وجدتَ منزلك بالعراق؟ قال خيرُ منزل لو أدركتُ بها أربعة فتقرّبتُ إلى الله بدمائهم. قيل: ومَن هم؟ قال: مُقاتل بن مِسمع، ولي سِجِستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قَدِم البصرة بَسط الناسُ له أرديتَهم، فقال: لمثل هذا فَلْيعمل العاملون. وعُبيد الله بن ظَبيان، قام فخطب خُطبة أوجز فيها، فنادى الناسُ من أعراض المسجد: أكثر الله فينا من أمثالك. قال: لقد سألتم الله شَططا. ومَعْبَد بن زُرارة، كان ذات يوم جالساً على الطريق فمرَّت به امرأة، فقالت: يا عبد الله، أين الطرِيق إلى مكان كذا؟ فغَضب، وقال: ألمثلي يقال يا عَبد اللّه! وأبو سِماك الحنفيّ أَضلَ ناقتَه، فقال: لئن لم يَرُدها الله عليَّ لا صلّيت أبداً، فلما وجدها، قال: عَلِم الله أنَ يميني كانت بَرة. قال ناقل الحديث. ونسيِ الحجاجُ نفسه وهو خامس الأربعة، بل هو أفسقهم وأطغاهم وأعظمهم إلحاداً وأكفرُهم في كتابه إلى عبد الملك بن مروان: " إن خليفة الله في أرضه أكرمُ عليه من رسوله إليهم وكتابه إليه " ، وبلغه أنه عَطس يوماً فحمد الله وشَمَّته أصحابُه فردّ عليهم ودعا لهم، فكتب إليه: " بلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين، ومِن تَشْميت أصحابه له وردِّه عليهم، فياليتَني كنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظيماً " .

وكان عبدُ الملك بن مروان كتب إلى الحجاج في أسرىَ الجَمَاجم أن يَعْرضهم على السيف، فمن أَقرّ منهم بالكَفر بخُروجه علينا فخلِّ سبيله، ومَن زعم أنه مُؤمن فاضرب عُنقه. ففعل. فلما عَرضهم أُتى بشيخ وشابّ، فقال للشاب: أمؤمن أنت أم كافر قال: بل كافر. فقال الحجاج: لكن الشيخ لا يرضى بالكُفر. فقال له الشيخ: أعن نَفسي تُخادعني يا حجاج، والله لو كان شيء أعظَم من الكُفْر لرضيتُ به. فضحك الحجاج وخلّى سبيلهما. ثم قُدِّم إليه رجل، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دِين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين. فقال: اضربُوا عُنقه. ثم قُدم آخر، فقال له: علىِ دِين من أنت؟ قال: على دين أَبيك الشيخ يوسف. فقال: أما والله لقد كان صوّاماً قوّاماً. خلِّ عنه يا غلام. فلما خلّى عنه انصر فَ إليه، فقال له: يا حجاج، سألتَ صاحبي: على دين مَن أنت؟ فقال: على دين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين، فأمرتَ به فقُتل؟ وسألَتني: على دين مَنِ أنت؟ فقلتُ: على دين أبيك الشيخ يوسف، فقلتَ: أمَا والله لقد كان صوّاماً قواماً، فأمرتَ بتَخْلية سبيلي، والله لو لم يكن لأبيكَ من السيئات إلا أنّه وَلد مثلَك لكَفاه: فأمر به فقتل: ثم أتى بعِمْران بن عِصام العَنزي، فقال: عمران؟ قال: نعم. قال: ألم أُوفدك على أمير المؤمنين ولا يُوفد مثلك؟ قال: بلى. قال: ألم أزوِّجك مارية بنت مِسمع سيدة قومها ولم تكن أهلاً لها؟ قال: بلى. قال: فما حَمَلك على الخروج علينا؟ قال: أخْرجني باذان. قال: فأين كنتَ من حُجة أهلك؟ قال: أَخرجنيِ باذان. فأمر رجلاً فكَشف العمامة عن رأسه، فإذا هو مَحلوق. قال: ومحلوق أيضاً! لا أقالني الله إن لم أَقتُلك. فأمر به فضُرب عنقه. قال: فسأل عبدُ الملك بعد ذلك عن عمران بن عصام فقيل له: قَتله الحجَّاج. فقال: ولم؟ قال: بخُروجه مع ابن الأشعث. قال: ما كان يَنبغي له أن يَقْتله بعد قوله:
وبَعثتَ من ولد الأغرّ مُعتَّب ... صَقْراً يلوذ حمامُه بالعَوْسج
فإذا طبختَ بناره أنضجتَها ... وإذا طبختَ بغيرها لم تُنضج
وهو الهِزبر إذا أراد فريسةً ... لم يُنْجِها منه صريخُ الهَجْهج
ثم أتى بعامر الشَّعبيّ ومطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وسَعيد بن جُبير. وكان الشَّعبيُّ ومُطَرِّف يَريان التَّورية، وكان سعيدُ بن جُبير لا يرى ذلك فما قُدِّم له الشعبيّ. قال: أكافرٌ أنت أم مُؤمن؟ قال: أَصلح الله الأمير، نَبا بنا المنزل، وأجْدب بنا الْجَناب، واستحلَسَنا الخوفُ، واكْتَحلنا السهر، وخَبَطتْنا فِتنة لم نكن فيها بَرَرَةً أتقياء، ولا فَجَرة أقوياء. قال الحجاج: صَدق واللهّ، ما برُّوا بخُروجهم علينا ولا قَوُوا، خَلِّيا عنه. ثم قُدِّم إليه مُطَرِّف ابن عبد اللّه، فقال له: أكافرٌ أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، إنّ مَن شقَّ العصا، ونَكَث البَيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المُسلمين، لجدير بالكُفر. فقال: صدق، خلِّيا عنه. ثم أتى بسَعيد بن جُبير، فقال له: أنت سَعيد بن جُبير؟ قال: نعم. قال: لا، بل شقيُّ بن كُسَير. قال: أمي كانت أعلم باسمي منك. قال: شقيتَ وشقيتْ أمك قال: الشقاء لأهل النار. قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: ما كفرت بالله منذ آمنتُ به. قال: اضربوا عنقه.

موت الحجاج
مات الحجَّاج بن يوسف في آخر أيام الوليد بن عبد الملك، فتفجع عليه الوليد وولى مكانَه يزيدَ بن أبي مُسلم كاتب الحجاج، فكفَى وجاوز. فقال الوليد: مات الحجَّاج ووليتُ مكانَه يزيد بن أبي مُسلم، فكنت كمن سَقط منه درهم وأصاب ديناراً. وكان الوليدُ يقول: كان عبد الملك يقول: الحجاج جِلْدة ما بين عينيّ وأنفي. وأنا أقول: إنه جلدةً وَجهي كُلّه.
قال: ولما بلغ عمرَ بن عبد العزيز موتُ الحجاج خرج ساجداً. وكان يدعو الله أن يكون موتُه على فراشه ليكَونَ أشدَ لعذابه في الآخرة.
أبو بكر بن عيّاش قال: سُمع صياحُ الحجاج في قَبره، فأتوا إلى يزيدَ بن أبي مُسلم فأخبروه، فركب في أهل الشام فوَقف على قَبره فتسمّع، فقال: يرحمك الله يا أبا محمد، فما تَدع القراءةَ حتى مَيِّتاً.

الرياشيّ عن الأصمعيّ، قال: أقبل رجلٌ إلى يزيدَ بن أبي مسلم، فقال له: إ نّي كنت أرى الحجاج في المنام فكنت أقول له: أخبرني ما فعل الله بك؟ قال: قَتلني بكل قتيل قتلتُه قتلةً، وأنا مُنتظر ما ينتظره الموحِّدون. ثم قال: رأيتُه بعد الحول فقلت له: ما صَنع الله بك؟ فقال: يا عاضّ بَظر أمه، سألتني عن هذا عامَ أول فأخبرتك؟ فقال يزيدُ بن أبي مسلم: أشهدُ أنك رأيت أبا محمد حقاً. وقال الفرزدق يرثي الحجاجَ ليُرضي بذلك الوليدَ بن عبد الملك:
لِيَبْكِ على الحجّاج مَن كان باكياً ... على الدِّين مِن مستوحِش الليل خائف
وأرمَلةٌ لما أتاها نَعِيُّه ... فجادت له بالواكفات الذَوارف
وقالت لِعبْدَيها أنيخا فعجل ... فقد مات راعي ذَوْدنا بالتَنائف
فليت الأكُفَّ الدافناتِ ابنَ يوسف ... يُقَطَّعنَ إذ يَحْثِين فوق السفائف
فما ذَرفت عينان بعد محمد ... على مِثله إلا نُفوسَ الخلائف
قال ابن عَيّاش: فلقيتُ الفرزدق في الكوفة، فقلت له: أخبرني عن قولك: " فليتَ الأكفَّ الدافنات ابن يوسف يقطعن " ما معناك في ذلك؟ فقال: وددتُ والله أنّ أرْجُلهم تُقطع مع أيديهم.
قال ابنُ عَيْاش: فلما هلك الوليد واستُخلف سليمانُ استعملَ يزيدَ بن المُهلَّب على العراق وأمره بقتل آل أبي عَقيل، فقتلهم فأنشأ الفرزدق يقول:
لئن نَفَّر الحجاجَ آلُ مُعتِّب ... لَقُوا دَوْلة كان العدوُّ يُدالُها
لقدْ أصبح الأحياءُ منهم أذًلة ... وموتاهُمُ في النار كُلْحاً سِبالُها
وكانوا يرون الدائراتِ بغيْرهم ... فصارَ عليهم بالغداة انتقالُها
وكُنّا إذا قُلنا اتق الله شمَّرت ... به عزّة لا يُستطاع جِذالُها
أْلكني مَن كان بالصِّين أورمتْ ... به الهندَ ألواح عليها جلالُها
هَلُمَّ إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقد مات عن أرض العراق خَبالُها
ألا تَشكُرون الله إذ فَكِّ عنكُم ... أَداهمَ بالمَهديّ صُمًّا قِفالُها
وشِيمتْ به عنكم سيوفٌ عليكًم ... صباحَ مَساء بالعذاب استلالُها
وإذ أنتُم مَن لم يَقُل أنا كافر ... تردّى نهاراً عَثرةً لا يُقالُها
قال ابن عَيَّاش: فقلت للفرزدق. ما أدري بأي قَوليك نَأخذ، أبمَدحك في الحجاج حياته، أم هَجْوِك له بعد موته؟ قال: إنما نكون مع أحدهم ما كان الله معه، فإذا تخلّى عنه تخلّينا عنه.
ولما مات الحجاجُ دخل الناسُ على الوليد يعزونه ويُثْنون على الحجاج خيراً، وعنده عمرُ بن عبد العزيز، فالتفت إليه ليقول فيه ما يقول الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، وهل كان الحجاجُ إلا رجلاً منا؟ فرضيها منه.

أخبار البرامكة
قال أبو عثمان عمرو بن بَحر الجاحظ: حدّثني سهلُ بن هارون، قال: والله إن كانوا سَجّعوا الطُب، وقرضوا القريض لعيالٌ على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى. ولو كان كلامٌ يُتصوَّر دُرا، أو يُحيله المنطق السريّ جوهراً، لكان كلامَهما والمُنتقى من لَفظهما. ولقد كان مع هذا عند كلام الرشيد في بديهته وتوقيعاته في كُتبه فدمين عَيِيين، وجاهليين أًميين، ولقد عمرتُ معهم، وأدركتُ طبقة المُتكلمين في أيامهم، وهم يَرون أنَّ البلاغة لم تُسْتكمل إلا فيهم، ولم تكُن مقصورةً إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم، وأنهم مَحْض الأنام، ولُباب الكرام، ومِلح الأيام، عِتْقَ مَنظر، وجَوْدَة مَخبر، وجَزالة مَنطق، وسُهولة لفظ، ونَزاهة نفس، وأكتمال خِصال، حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خِصالهم، كثيرَ أيام سواهم، مِن لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصُّور، وانبعاث أهل القبور، حاشى أنبياءِ الله المُكرّمين، وأهل وَحيه المُرسلين، لما باهتْ إلا بهم، ولا عَوّلت إلا عليهم. ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعْرَاقهم، وسَعة آفاقهم، ورَوْنق سِياقهم، ومَعْسول مَذاقهم، وبَهاء إشراقهم، ونَقاوة أعْراضِهم، وتَهذيب أغْراضهم، واكتمال الخير فيهم، في جَنب محاسن الرشيد كالنُّقطة في البحر، والخَرْدلة في المَهْمة القفر.

قال سهل بن هارون: إنّي لأحصِّل أرزاقَ العامة بين يدي يحيى بن خالد في في بناء خلابه داخل سُرادقه، وهو مع الرَّشيد بالرقة، وهو يَعقدها جُملاً بكفه، إذ غشيتْه سآمة، وأخذته سِنة فغلبته عيناه، فقال: ويْحَك يا سهل! طرق النومُ شَفْريّ، وحَلَّت السِّنة جَفْنيّ، فما ذاك؟ قلت ضيفٌ كريم، إنْ قَرَّبته رَوَّحك، وإن مَنعته عَنّتك. وإن طردته طَلبك، وإن أقصيته أَدركك، وإن غالبتَه غَلبك. قال: فنام أقلّ من فُواق بكيه أو نَزْع من رَكية، ثم انتبه مذعوراً فقال: يا سهل، لأمرٍ ما كان والله قد ذَهب مُلْكنا، ووَلّى عِزًّنا، وانقضت أيامُ دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: كأن مُنشداً أنشدني:
كأن لم يَكُن بين الْحَجونِ إلى الصفا ... أنيس ولم يَسْمُر بمكة سامر
فأجبتُه من غير رويَّة ولا إجالة فِكْرة:
بلى نحنُ كُنا أهلَها فأَبادنا ... صروفُ اللَّيالي والجدودُ العواثرُ
قال: فوالله ما زلتُ أعرفها منه وأراها ظاهرةً فيه إلى الثالث من يومه ذلك فإني لفي مَقعدي بين يديه أكتبُ توقيعات في أسافل كُتبه لطلاِّب الحاجات إليه، قد كلّفني إكمالَ معانيها وإقامة الوَزن فيها، إذ وجدتُ رجلاً سعى إليه حتى ارتمى مُكباً عليه، فرفع رأسَه، فقال: مهلاً، ويحك! ما اكتتم خير ولا استَتر شرِّ. قال: قَتل أميرُ المؤمنين جعفراً الساعة. قال: أوقد فعل !قال فما زاد على أن رَمى بالقلم من يده، وقال: هكذا تقومُ الساعة بغتة.
قال سهل بن هارون: فلو انكفأت السماءُ على الأرض ما زاد. فتبرأ مِنهم الحميم، واستبعد عن نسبهم القريب، وجَحد ولاءَهم المولى. ولقد اعتبرت لفقدهم الدُّنيا، فلا لسان يخطِر بذِكْرهم، ولا طَرْف ناظِر يُشير إليهم.
وضَم يحيى بن خالد وقته ذلك الفضلَ ومحمداً وخالداً، بنيه، وعبد الملك ويحيى وخالداً، أبناء جعفر بن يحيى، والعاصي ومزيداً وخالداً ومعمراً، بني الفضل ابن يحيى؟ ويحيى وجعفراً وزيداً، بني محمد بن يحيى، وإبراهيم ومالكا وجعفراً وعمر ومعمراً، بني خالد بن يحيى، ومن لَفّ لفهم أوهَجس بصَدره أمل فيهم.
وبعث إليّ الرشيدُ. فوالله لقد أعجلتُ عن النظر، فلبست ثياب أحزاني وأعظمُ رَغْبتي إلى الله الإراحة بالسيف و ألا يُعبثَ بي عبث جعفر. فلما دخلتُ عليه، ومثلت بين يديه، عَرف الذُّعر في تجرّض رِيقي وشُخوصي إلى السيف المَشهور ببَصري. فقال: إيه يا سهل، مَن غمط نعمتي، وتعدّى وصيتي، وأنب مُوافقتي، أعجلْته عُقوبتي. قال: فوالله ما وجدتُ جوابَها حتى قال لي: لِيُفْرِخ رَوْعُك، ويَسْكن جأشك، وتَطبْ نفسك، وتطمئنّ حواسك، فإن الحاجة إليك قَرّبت منك، وأبقت عليك، بما يَبْسط مُنقبضك، ويُطلق مَعْقولك، فما اقتُصر على الإشارة دون اللِّسان، فإنه الحاكم الفاصل، والحُسام الباتر. وأشار إلى مَصرع جعفر، فقال: " مَنْ لم يؤدبه الجميلُ ففي عُقوبته صَلاحُه "

قال سهل: فوالله ما أعلمني أنّي عَييتُ بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ، فما عَولت في الشُّكر إلا على تَقبيل باطن يديه ورِجْليه. ثم قال: اذهب، فقد أحللتُك محلَّ يحيى، ووهبُتك، ما ضَمنته أفنيته وما حواه سُرادقه، فأقبض الدواوين واحْص حِباءه وحِباء جعفر لنأمرك بقَبضه إن شاء اللّه. قال سهل: فكنتُ كمن نُشر عن كفن واخرج من حَبس. وأحصيت حِباءهما فوجدتُه عشرين ألف دينار، ثم قَفل راجعاً إلى بغداد، وفرق البُرُد إلى الأمصار. بقَبض أموالهم وغَلاتهم. وأمر بِجيفة جعفر وجئتُه، ففُصلت على ثلاثة جُذوع، رأسُه في جِذع على رأس الجسر مُستقبِلَ الصرَّاة، وبعض جسده على جذع بالجزيرة، وسائره في جِذع على آخر الجسر الثاني ما يلي باب بغداد. فلما دنونا من بغداد، طلع الجِسرُ الذي فيه وجهُ جعفر، واستقبلنا وجههُ واستقبلته الشمس، فوالله لخِلتها تطلع من بين حاجبيه. فأنا عن يمينه وعبد الملك بن الفضل الحاجب عن يَساره، فلما نظر إليه الرشيد، وكأنما قنى شعره، وطل بنُورة بَشره، اربدّ وجهه وأغضى بصره. فقال عبد الملك بن الفضل: لقد عَظُم ذنب لم يَسعه عفوُ أمير المؤمنين. وقال الرشيد: مَن بَرِد غيرَ مائه يَصْدر بمثل دائه، ومن أراد فَهْم ذنبه يُوشك أن يقوم على مثل راحلته. عليّ بالنّضاحات، فنَضح عليه حتى احترق عن آخره وهو يقول: لئن ذهب أثرُك، لقد بقي خبرُك، ولئن حُط قدرك، لقد علا ذكرك.
قال سهل بن هارون: وأمر بضَمّ أموالهم، فوُجد من العشرين ألفَ ألفِ التي كانت مبلغ جِبايتهم اثنا عشرَ ألفَ ألفِ مكتوبٌ على بِدرها صُكوك مختومة بتفسيرها وفيما حَبوا بها، فما كان منها حباء على غَريبة أو استطراف مُلحة تصدّق بها يحيى أثبت ذلك في دِيوانها على تواريخ أيامها. فكان ديوانَ إنفاق واكتساب فائدة. وقَبض من سائر أموالهم ثلاثين ألفَ ألفٍ وسِتَّمائة ألفٍ وستةً وسبعين ألفاً، إلى سائر ضياعهم وغَلاتهم ودُورهم ورياشهم، والدَقيق والجليل من مواعينهم، فإنه لا يصف أقلّه، ولا يَعرف أيسره، إلا مَن أحصى الأعمال وعَرف مُنتهى الآجال. وأبرزت حُرمه إلى دار الباتوقة بنت المهديّ، فوالله ما علمتُه عاش ولا عِشْنَ إلا من صدقات مَن لم يزل متصدِّقاً عليه، وما رأوا مثلَ موجدة الرشيد فيما يُعلم من ملك قبلَه على أحد مَلكه.

وكانت أمُ جعفر بن يحيى، وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قَحطبة، أرضعت الرشيدَ مع جعفر، لأنه كان رُبي في حجرها، وغُذي برَسْلها، لأنّ أمه ماتت عن مَهده. فكان الرشيدُ يُشاورها مُظهراً لإكرامها والتبرك برأيها، وكان آلَى وهي في كَفالتها ألاّ يَحْجبها ولا استشفعَتْه لأحد إلا شَفَعها، وآلت عليه أمُ جعفر ألاّ دخلت عليه إلا مَأذوناً لها، ولا شَفعت لأحد لغَرض دُنيا. قال سهل: فكم أسير فكَّت، ومُبْهم عنده فَتحت، ومُستغلق منه فَرَّجت. واحتجب الرشيدُ بعد قدومه. فطلبت الإذن عليه من دار الباتوقة ومَتَّت بوسائلها إليه، فلم يأْذن لها ولا أَمر بشيء فيها. فلما طال ذلك بها خَرجت كاشفةً وجهها واضعةً لثامها مُحْتفيةً في مَشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد. فدخل عبدُ الملك بن الفضل الحاجب، فقال: ظِئْر أمير المؤمنين بالباب في حالة تَقْلب شماتةَ الحاسد إلى شَفقة أمَّ الواحدِ. فقال الرشيدُ: ويحك يا عبدَ الملك أوَ ساعية؟ قال: يا أمير المؤمنين حافية. قال: أدخلها يا عَبد الملك، فرُب كَبد غَذتها، وكُربة فَرَّجتها، وعَوْرة سترتها. قال سهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلبتها وإسعافها بحاجتها. فدخلت، فلما نظر الرشيدُ إليها داخلةً مُحتفية قام مُحتفياً حتى تلقاها بين عَمد المجلس، وأكبَّ على تَقبيل رأسها ومواضعِ ثَدْييها، . ثم أجلسها معه. فقالت: يا أمير المؤمنين، أَيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوْفاً لك الأعوان، ويَحردك عنا البهتان؟ وقد ربيّتك في حِجري، وأخذت برَضاعك الأمان من عدوي ودَهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل: فآيسنى من رأفته بتَركة كُنيتهْا أخر ما كان أطمعني من برّه بها أولاً. قالت: ظِئْرك يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عَرفه به أميرُ المؤمنين من نَصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرضه للحَتف في شأن مُوسى أخيه. قال لها: يا أم الرشيد، أمر سبق، وقَضاء حُم، وغَضب من الله نَفذ. قالت: يا أمير المؤمنين، يَمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب. قال: صدقتِ، فهذا مما لم يَمْحه اللّه. فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ قال سهل ابن هارون: فأَطرق الرشيد ملياً، ثم قال:
وإذا المَنيّة أنشبت أظفارَها ... ألفيتَ كل تميمة لا تَنفعُ
فقالت بغير روّية: ما أنا ليحيى بتَميمة يا أميرَ المؤمنين، وقد قال الأول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تَجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول عزّ وجلّ: " والكاظمين الغَيْظ والعافينَ عن النّاس والله يُحبُّ المُحسنين " فأَطرق هارون مليّاً، ثم قال: يا أم الرشيد، أقول:
إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تَكَد ... إليه بوَجْهٍ آخرَ الدَّهر تُقْبلُ
فقالت: يا أمير المؤمنين وأقول:
ستَقطع في الدّنيا إذا ما قَطعتَني ... يَمينك، فانْظر أي كف تبدَّلُ؟

قال هارون: رضيتُ. قالت: فهَبْه لي يا أمير المؤمنين، فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. من ترك شيئاً للّه لم يُوجده الله فَقْدَه. فأكبّ هارون ملياً، ثم رَفع رأسه يقول: للّه الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ. قالت: يا أمير المؤمنين، " ويومئِذ يَفْرح المُؤمنون بنصر الله يَنْصُرِ مَن يَشاء وهو العَزيزُ الرَّحيم " . وأذكُر يا أمير المؤمنين، أليّتك: ما استشفعتُ إلا شفَعتني. قال: واذكري يا أم الرشيد أليَّتَك أن لا شَفعت لمُقترف ذنباً. قال سهل بن هارون: فلما رأتْه صَرَّح بمَنعها ولاذ عن مَطلبها أخرجت حُقًّا من زَبَرْجدة خَضراء فوضعتْه بين يديه فقال الرشيد: ما هذا؟ ففَتحت عنه قفلاً من ذهب فأخرجت منه قَميصه وذؤابته وثَناياه، قد غَمست جميع ذلك في المسك، فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك وأَستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جَسدك وطَيَّب جوارحك ليحيى عبدِك. فأخذ هارون ذلك فلَثمه، ثم أستعبرَ وبكى بُكاء شديداً وبكى أهْل المجلس. ومرّ البشيرُ إلى يحيى وهو لا يَظن إلا أ نّ البكاء رحمةَ له ورجوعٌ عنه، فلما أفاقَ رَمى جميع ذلك في الحق. وقال لها: لحسناً ما حفظتِ الوديعة. فقالت: وأهل للمكافأة أنتَ يا أمير المؤمنين. فسكتَ وقَفل الحق ودَفعه إليها وقال: " إ نّ الله يأمركم أن تْؤدّوا الأماناتِ إلى أهلها " . قالت: والله يقول: " وإذا حَكمتم بين الناس أن تَحْكُموا بالعَدْل " . ويقول: " وأَوفُوا بعَهد الله إذا عاهدتُم " . قال: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قالت: ما أقسمتَ لي به أن لا تَحجبني ولا تَجبهني. قال: أ حب يا أم الرشيد أن تشتريه محكّمة فيه. قالت: أنصفتَ يا أمير المؤمنين. وقد فعلتُ غيرَ مُستقيلة لك ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمَّن لم يُسخطك. قال: يا أم الرشيد، أما لي عليك من الحق مثلُ الذي لهم؟ قالت: بلى يا أمير المؤمنين، أعزُّ عليّ وهم أحبُّ إليّ. قال: فتحكّمي في ثمنه بغيرهم؟ قالت: بلى، قد وَهبتكه، وجعلتُك في حِلّ منه، وقامت عنه. وبَقي مبهوتاً ما يُحير لفظة. قال سهل: وخرجتْ فلم تَعُد، ولا والله ما رأيتُ ها عَبرة ولا سمعتُ لها أنه.
قال سهل: وكان الأمين محمدُ بن زبيدة رضيعَ يحيى بن جعفر، فمتَّ إليه يحيى بنُ خالد بذلك، فوعد استيهاب أمه إياهم وتكلّمها لهم، ثم شَغله اللهوُ عنهم. فكتب إليه يحيى، ويقال إنها لسليمان الأعمى أخي مُسلم بن الوليد، وكان مُنقطعاً إلى البرامكة، يقول:
يا مَلاذي وعِصْمتي وَعِمَادي ... ومُجيري من الخُطوب الشدادِ
بكَ قام الرجاءُ في كلَّ قلب ... زاه فيه البلاءُ كل مَزاد
إنما أنت نِعمة أعْقبتها ... نِعَم نفعُها لكلِّ العِباد
وَعْدَ مولاك أتممنه فأبهى ال ... در ما زين حسنه بانعقاد
ما أظلت سحائب اليأس إلا ... كان في كَشْفها عليك اعتمادي
إن تراختْ يداك عنّي فُوَاقاً ... أكَلَتني الأيامُ أكلَ الجَراد
وبعث بها إلى الأمين محمد، فبعث بها الأمينُ إلى أمه زُبيدة، فأعطتها هارون وهو في موضع لَذَته، وعندَ إقبال أريحيته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وعبّأت جواريها ومُغنياتها وأمرتهنَ بالقيام معها إذا قامت. فلما فَرغ الرشيدُ من قراءتها لم يَنقض حَبوته حتى وقَّع في أسفلها: عِظَم ذَنبك أمات خواطرَ العفو عنك، ورَمى بها إلى زُبيدة. فلما رأت توقيعَه علمت أنه لا يرجع عنه.

وقال بعض الهاشميِّين: أخبرني إسحاق بن عليّ بن عبد الله بن العباس، قال: كنتُ أساير الرشيدَ يوماً والأمينُ عن يمينه والمأمون عن شماله، فأستْداني وقدَّمهما أمامه، فسايرتُه، فجعل يُحدَثني، ثم بدأ يُشاورني في أمر البرامكة، وأخبرني بما أَضمر عليه لهم، وأنهم اْستوحشوه من أنفسهم، وأنني عنده بالوضع الذي لا يَكْتمني شيئاً من أمرهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تَنْقلني من السعة إلى الضيق. فقال الرشيد: إلا أن تقول، فإني لا أتهمك في نَصيحة ولا أِّخافُك على رأي ولا مَشورة. فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إني أرى نفاسَتك عليهم بما صاروا إليه من النَعمة والسِّعة، ولك أن تأمر وتَنهى، وهم عبيدٌ لك بإنباتك إياهم، فهل يَصنعون ذلك كُلَه إلا بك؟ قال - وكنتُ أحطِب في حبال البرامكة - فقال لي: فضياعُهم ليس لولدِي مثلُها وتَطيب نفسي بذلك لهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الملك لا يَحسد ولا يَحْقد، ولا يُنعم نِعمة ثم يُفسد نِعمته. قال: فرأيته قد كره قولي وزوى وجهه عني قال إسحاق فعلمت أنه سيوقع بهم ثم انصرفتُ فكتمت الخبرَ، فلم يسمع به أحدٌ. وتجنّبت لقاءَ يحيى والبرامكة خوفاً أن يُظن أنّي أُفضي إليهم بسرّه، حتى قتلهم، وكان أشدَّ ما كان إكراماً لهم. وكان قتلُهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم.
وكان يحيى بن خالد بن برمك قد اعْتلّ قبل النازلة التي نزلت بهم، فبعث إلى منكة الهِندي. فقال له؟ ماذا ترى في هذه العِلة؟ فقال منكة: داءٌ كبير، دواؤه يسير، والصبر أيسر. وكان مُتفنّناً. فقال له يحيى: ربما ثَقُل على السّمْع خَطْرة الحق به. وإذا كان ذلك كذلك كان الهجرُ له ألزمَ من المُفاوضة فيه. قال منكة: لكنني أَرى في الطالع أثراً والأمرُ فيه قريب، وأنت قسيم في المَعرفة، وربما كانت صورة النجم عقيمةً لا نتاج لها، ولكنّ الأخذَ بالحزم أوفى لحظّ الطالبين. قال يحيى: الأمور مُنصرفة إلى العواقب، وما حُتم فلا بدّ أن يَقع، والمَنعة بمُسالمة الأيام نُهزة، فاقْصِد لما دعوتُك له من هذا الأمر المَوجود بالمِزاج. قال منكة: هي الصفواءُ مازجتْها مائيةُ البلغم، فحدَث لذلك ما يَحدث من اللهب عند مُماسّة رطوبة الماء من الأشْتغال. فخُذ ماء الرمان فدُف فيه إهْلِيلَجة سوداء تُنهضك مجلساً أو مجلسين، ويَسْكن ذلكَ التوقدّ إن شاء الله.
فلما كان من أمرهم ما كان تلطّف منكَة حتى دخل الحبس فوجد يحيى قاعداً على لبْد، والفضلُ بين يديه يَخْدمه، فاسْتعبر منكة باكياً، وقال: كنتُ ناديتُ لو أسرعتَ الإجابة. قال له يحيى: تراك كنتَ قد علمتَ من ذلك شيئاً جهلته؟ قال: كلا، ولكن كان الرجاء للسلامة بالبراءةَ من الذنب أغلبَ من الشّفق، وكان مُزايلة القَدْر الخَطير عنَّا أقلَّ ما تُنقَض به التُّهمَة، فقد كانت نِقْمة أرجو أن يكون أولها صَبراً وأخرها أجراً. قال: فما تقول في هذا الداء؟ قال منكة: ما أرى له دواء أنفعَ من الصبر، ولو كان يُفدى بملْك أو بمُفارقة عضو كان ذلك مما يَجب لك. قال يحيى: قد شكرتُ لك ما ذكرت فَإِن أمكنك تَعاهُدَنا فافْعل. قال منكة: لو أمكنني تخليفُ الرُّوح عندك ما بَخِلْتُ به، إذ كانت الأيام تَحْسن بسلامتك.

وكتب يحيى بن خالد في الحبس إلى هارون الرشيد: لأمير المؤمنين، وخليفة المهديين، وإمام المُسلمين، وخليفة ربّ العالمين. من عبْد أسلمتْه ذنوبُه، وأوْبقته عيوبه، وخَذله شقيقُه، ورَفضه صديقهُ، وما به الزمان، ونَزل به الحِدْثان، فعالج البُؤس بعد الدَّعة، وأفترش السُّخط بعد الرضا، وأكتحل بالسًّهاد بعد الهُجود؟ ساعته شهر، وليلته دهر؟ قد عاين الموتَ، وشارف الفَوْت، جزعاً لموجدتك يا أمير المؤمنين، وأسفاً على ما فات من قُربك لا على شيء من المَواهب، لأن الأهل والمالَ إنما كانا لك وبك، وكان في يديَّ عارية، والعارية مردودة. وأما ما أصبت به من ولدي فبذَنبه، ولا أَخشى عليك الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجازت به فوق خدِّه. تفكر في أمري جعلني الله فداك ولْيَمل هواك بالعفو عن ذَنب إن كان فمِن مثِلي الزَّلل، ومِن مثلك الإقالة، وإنما اعتذر إليك بإقراري بما يجب به الإقرار حتى تَرضى، فإذا رضيت رجوتُ إن شاء الله أن يتبينّ لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعدَه ذنبٌ أن تَفْغره. مدَّ الله في عمرك، وجعل يومي قبل يومك. وكتب إليه بهذه الأبيات:
قل للخَليفة ذي الصَّني ... عة والعَطايا الفاشِيَة
وابنِ الخلائِف من قُري ... ش والمُلوك العالية
إنّ البَرامكة الّذي ... ن رمُوا لدَيْك بداهية
صفر الوجوه عليهم ... خلع المَذلة بادية
فكأنهم ممّا بهم ... أعجاز ُنَخْل خاوية
عَمَّتهم لك سَخطة ... لم تبق منهم باقية
بعد الإمارة والوزا ... رة والأُمور الساميه
ومنازل كانت لهم ... فوق المَنازل عالِيه
أضحَوْا وجُلَّ مُناهم ... منك الرِّضا والعافيه
يا من يودُّ لي الرَّدى ... يَكْفيك منيَ ما بيه
يكفيك ما أبصرتَ من ... ذلِّي وذُل مَكانِيه
وبُكاء فاطمةَ الكئي ... بة والمَدامع جاريه
ومَقالها بتوجّعٍ ... يا سَوْأتي وشَقائيه
مَن لي وقد غَضب الزما ... نُ على جَميع رِجاليه
يا لهفَ نفسي لهفها ... ما للزّمانِ وماليه؟
يا عطفة المَلك الرِّضا ... عُودي علينا ثانيه
فلم يكن له جواب من الرشيد.
واعتلَّ يحيى في الحَبس، فلما أَشفى دعا برُقعة فكتب في عُنوانها: يُنفذ أمير المؤمنين عهد مولاه يحيى بن خالد. وفيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. قد تقدّم الخضمُ إلى مَوقف الفَصل، وأنت على الأثر، والله حَكم عَدْل، وستقدم فتعلِم. فلما ثَقُلَ قال للسجان: هذا عهدي توصله إلى أمير المؤمنين، فإنه وليّ نعمتي، وأحقُّ من نفّذ وصيّتي. فلما مات يحيى، أوصل السجانُ عهدَه إلى الرشيد. قال سهل بن هارون: وأنا عند الرشيد إذ وصلتْ الرقعةُ إليه. فلما قرأها جعل يكتب في أسفلها ولا أَدري لمن الرُّقعة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أَكْفيك؟ قال: كلا، إني أخافُ عادةَ الرّاحة أن تُقوِّي سلطان العجز، فيحكم بالغَفلة، ويقضي بالبلادة، ووقّع فيها: الحَكم الذي رضيتَ به في الآخرة لك هو أعدى الخُصوم عليك، وهو مَن لا يُنقض حُكمه، ولا يُردّ قضاؤه. قال: ثم رَمى بالصكّ إليّ، فلما رأيتُه علمت أنه ليحي، وأنّ الرشيدَ أراد أن يُؤثر الجوابَ عنه.
وقال دِعبل يَرثي بنيِ برمك:
ولما رأيتُ السيفَ جَلَل جعفرا ... ونادَى مُنادٍ للخليفة في يَحيى
بكيتُ على الدُّنيا وأيقنت ... أنما قُصارى الفتى يوماً مُفارقةُ الدنيا
وقال سليمان الأعمى يرثي بني برمك:
هَدَا الخالُون عن شَجوِي ونامُوا ... وعَيْنيَ لا يُلائمها المنامُ
وما سَهري بأنّي مستهام ... إذا سهر المُحِب المُستهام
ولكن الحوادثَ أرقتنيِ ... فبي أرقٌ إذا هَجع النِّيام
أصبت بسادةٍ كانوا عُيوناً ... بهم نُسقى إذا انقطع الغَمام
فقلتُ وفي الفؤاد ضرامُ نار ... وللعَبرات من عَينيِ انسجام

على المَعروف والدُّنيا جميعاً ... ودَوْلةِ آل بَرمك السلام
جَزعتُ عليك يا فضل بنَ يحيى ... ومَن يجزع عليك فلا يُلام
هَوَت بك أنجُم المَعروف فينا ... وعَزّ بفَقدك القومُ اللئام
وما ظَلم الإله أخاك لكنْ ... قضاء كان سبّبه اجترام
عِقابُ خليفة الرَّحمن فَخْر ... لمن بالسيف صَبّحه الحِمام
عَجبتُ لما دها فضلَ بنَ يحيى ... وما عَجَبِي وقد غَضِب الإمام
جَرى في اللّيل طائرُهم بنَحْس ... وصَبَّح جعفراً منه اصطلام
ولم أرَ قبل قَتلك يابن يَحيى ... حُساماً قَدّه السيفُ الحُسام
بُرين الحادثات له سِهامًا ... فغالتْه الحوادثُ والسِّهام
لِيَهْن الحاسدين بأنّ يحيى ... أسيرٌ لا يَضيم ويستضام
وأنّ الفضل بعد رِداء عزٍّ ... غَدا ورداؤُه ذالٌ ولام
فقُل للشامتين بهم جميعاً ... لكم أمثالُها عامٌ فَعام
أمينَ الله في الفَضل بن يحيى ... رَضيعِك والرَّضيعُ له ذِمام
أبا العبَّاس إنّ لكُل هَمًّ ... وإنْ طال انقراض وانصرام
أرى سَبب الرضا وله قَبول ... على الله الزيادةُ والتَّمام
وقد آليتُ فيه بصَوم شهر ... فإن تَمّ الرِّضا وَجب الصيام
وقد آليتُ مُعتزما بنَذْرٍ ... ولى فيما نذرتُ به اعتزامُ
بأنْ لا ذُقتُ بعدكُم مُداما ... ومَوتي أن يُفارقني المُدام
أألهو بعدكم واقرّ عَيناً ... عليَ اللَهوُ بعدكم حَرام
وكيف يَطيب لي عيش وفَضل ... أسيرٌ دونه البَلد الشآم
وجَعفرُ ثاوياً بالجسر أبلت ... محاسنَه السمائمُ والقَتام
أمُرُّ به فيَغْلبني بكائي ... ولكنّ البُكاء له اكتتام
أقول وقُمت مُنتصباً لديه ... إلى أن كاد يَفْضَحني القِيام
أمَا والله لولا خوفُ واشٍ ... وعينِ للخليفة لا تنام
لَثَمْنا رُكن جِذْعك واستَلمنا ... كما لَلناس بالحَجَر استلام
وقال بعض الشعراء يُغري هارون ببني برمك.
قل للخليفة في اكتفائه ... دُون الأنام بحُسن رائه
إمّا بدأتَ بجَعفرٍ ... فاسق البَرامك مِن إنائه
ما برْمكيٌّ بعده ... تَقِف الظُّنون على وَفائه
أنى وقَصْر البرمك ... يّ إلى انتكاثِ من شَقائه
فلقد رفعتَ لجعفرٍ ... ذِكْرين قَلاَ في جَزائه
فارفع ليَحيى مثلَه ... ما العُود إلا مِن لِحائه
وأخضِب بصَدْر مُهنَّد ... عُثنون يَحيىِ مِن دِمائه

إبراهيم بن المهديّ قال: قال لي جعفرُ بن يحي يوماً إنني استأذنتُ أميرَ المؤمنين في الحِجامة وأردتُ أن أخلو بنفسي وأفِرَّ من أشغال الناس وأتوحَّد، فهل أنت مُساعدي؟ قلتُ: جعلني الله فِداك، أنا أسعد بمُساعدتك وأنسُ بمُخالاتك: فقال: بَكِّر إلى بكور الغُراب. قال: فأتيتُ عند الفَجر الثاني: فوجد تُ الشَّمعة بين يديه وهو قاعدٌ ينتظرني للمِيعاد. قال: فصلّينا ثم أفضنا في الحديث، حتى أتى وقت الحِجامة، فأتى الحجَّام، فَحجمنا في ساعة واحدة. ثم قُدِّم إلينا الطعام، فَطعِمنا. فلما غَسلنا أيدينا خُلع علينا ثياب المنادمة وضمِّخنا بالخَلوق، وظَلِلنا بأسرَ يوم مَرّ بنا. ثم إنه تذكَّر حاجة فدعا الحاجب. فقال له: إذا جاء عبدُ الملك القَهْرمان فَأذن له، فنسي الحاجب، وجاء عبدُ الملك ابن صالح الهاشمي على جَلالته وسنّه وقدره وأدبه، فأذِن له الحاجب. فما راعنا إلا طَلعة عبدُ الملك بن صالح، فتغيّر لذلك وجهُ جعفر بن يحيى، وتَنغّصِ عليه ما كان فيه. فلما نَظر إليه عبدُ الملك على تلك الحالة دعا غلامَه، فدَفع إليه سيفه وسَواده وعِمامته، ثم جاء فوَقف على باب المجلس، فقال: اصنعوا بنا ما صَنعتم بأنفسكم. قال: فجاء الغلامُ فطَرح عليه ثيابَ المُنادمة، ودعا بطَعام فطَعم، ثم دعا بالشَّراب فشرب ثلاثاً، ثم قال: ليخفِّف عنّي فإنه شيء ما شربتُه قطُّ. فتهلَّل وجهُ جعفر فرحاً. وقد كان الرشيد حاور عبدَ الملك على المُنادمة فأَبى ذلك وتنزه عنه. ثم قال له جعفر بن يحيى: جَعلني الله فداك، قد تفضَّلت وتطوّلت وأسعدتَ، فهل من حاجة تَبْلغها مقدرتي، وتُحِيط بها نعمتي فأقضِيَها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إنَّ قلبَ أمير المؤمنين عاتب عليّ، فتسأله الرِّضا عنّي. قال: قد رَضي عنك أميرُ المؤمنين. ثم قال: وعليّ أربعةُ آلاف دينار. قال: هي حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين أحبُّ إليَ من مالي. قال: وابني إبراهيم أحبُّ أن أ شُد ظهره بمصاهرة أمير المؤمنين. قال: قد زَوَّجه أميرُ المؤمنين ابنَتَه عائشة الغالِية. قال: وأحبُ أن تَخْفِق الألويةُ على رأسه بولاية. قال: قد ولاَه أميرُ المؤمنين مِصر. قال: فانصرَف عبدُ الملك ونحن نَعجب من إقدام جعفر على الرَّشيد من غير اسْتئذان. فلما كان الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودَخل جعفر، فلم يَلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي ومحمد ابن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد له النِّكاح وحُملت البِدَر إلى عبد الملك وكُتب سِجلّ إبراهيم على مِصر. وخرج جعفر فأشار إلينا، فلما صار إلى منزله ونحن خلفَه، نَزل ونزلنا بنزوله. فالتّفت إلينا، فقال: تعلَّقت قلوبُكم بأوَّل أمر عبد الملك فأحببتُم أن تعرفوا آخره، وإني لما دخلتُ على أمير المُؤْمنين ومَثلت بين يديه سألني عن أمْسي، فابتدأتُ أحدثه بالقِصَّة من أولها إلى آخرها، فجعل يقول: أحسنَ واللّه! أحسن والله ثم قال: فما أجبتُه، فجَعلت أخبره وهو يقول في كل شيء: أحسنت. وخرج إبراهيم والياً على مصر.

من أخبار الطالبيين
حدّث عبدُ العزيز بن عبد الله البَصريّ عن عثمان بن سَعيد بن سَعد المدَنيّ قال: لما وَلى الخلافةَ أبو العبَّاس السفّاح قَدِم عليه بنو الحَسن بن عليّ ابن أبي طالب، فأعطاهم الأموال وقَطع لهم القطائع، ثم قال لعبد الله بن الحَسن: احتكمْ عليّ، قال: يا أميرَ المؤمنين، بألف ألف دِرْهم، فإني لم أرها قَطُّ. فاْستَقْرضها أبو العبَّاس من ابن مُقَرِّن الصَّيرفيّ وأَمر له بها - قال عبدُ العزيز: لم يكن يومئذ بيتُ مال - ثم إ نّ أبا العباس أتى بجَوهر مَروان، فجعل يُقلِّبه وعبد الله بن الحَسن عنده، فَبَكى عبدُ الله. فقال له: ما يُبكيك يا أبا محمد؟ قال: هذا عند بنات مَروان وما رأت بناتُ عمك مثلَه قطّ. قال: فحبَاه به. ثم أمر بنَ مُقرِّن الصّيرفيّ أن يَصل إليه ويَبتاعه منه. فاشْتراه منه بثمانين ألف دينار. ثم حَضر خروجُ بني حسن فأرسل معهم رجلاً من ثِقاته، وقال له: قُم بإنزالهم ولا تَأن في إلطافهم. وكلما خلوتَ معهم فأَظْهر الميل إليهم والتحاملَ علينا وعلى ناحيتنا، وأنهم أحقُّ بالأمر منّا، وأحْص لي ما يقولون وما يكون منهم في مَسيرهم ومَقْدَمهم.

ومما كان خَشَّن قلب أبي العبّاس حتى أساء بهم الظن، أنه لما بَنى مدينةَ الأنبار دخلَها مع أبي جعفر أخيه وعبد الله بن الحسن، وهو يسير بينهما ويُريهما بُنيانه وِما أقام فيها من المَصانع والقُصور، فظهرت من عبد الله بن الحسن فَلْتة، فجَعل يتمثَل بهذه الأبيات:
ألم ترجَوْ شناً قد صار يَبْني ... قصوراً نَفْعُها لبني نُفَيْلَهْ
يُؤَمِّل أن يُعِمِّر عُمْر َنُوح ... وأَمرُ الله يَحْدث كلّ لَيله
قال: فتغيَر وجهُ أبي العبَّاس. فقال له أبو جعفر: أتراهما ابنيك أبا محمد والأمر إليهما صائر لا محالة؟ قال: لا والله ما ذهبتُ هذا المذهب ولا أردتُه، ولا كانت إلا كلمة جرتْ على لساني، لم ألقِ لها بالاً. فأوحشتْ تلك الكلمة أبا العباس. فلما قَدِم المدينةَ عبد الله بن حسَن اجتمع إليه الفاطميون، فجعل يُفرَق فيهم الأموالَ التي بَعث بها أبو العباس، فعظُم بها سرورُهم. فقال لهم عبد الله بن الحسن: أفرحتم؟ قالوا: وما لنا لا نَفرح بما كان مَحجوباً عنَا بأيدي بني مَروان حتى أتى الله بقَرابتنا وبني عَمِّنا، فأصاروه إلينا. قال لهم: أفَرَضيتُم أن تنالوا هذا من تحت أيدي قومٍ آخرين؟ فخرج الرجلُ الذي كان وكَّله أبو العباس بأخبارهم، فأخبره بما سمع من قولهم وقولِه؟ فأخبر أبو العبّاس أبا جعفر بذلك، فزادت الأمور شرّاً.
ثم مات أبو العباس وقام أبو جعفر بالأمر بعده، فبعث بعطاء أهل المدينة، وكتب إلى عامله: أن أعط الناسَ في أيديهم ولا تَبعث إلى أحدٍ بعطائه، وتَفقّد بني هاشم ومَن تخلَف منهم ممّن حضر، وتحفّظ بمحمد وإبراهيم، ابني عبد الله بن الحسن. ففعل وكتب: إنه لم يتخلف أحدٌ عن العطاء إلا محمد وإبراهيم، ابنا عبد الله بن الحسن، فإنهما لم يَحضرُا. فكتب أبو جعفر إلى عبد الله بن الحسن، وذلك مبتدأ سنة تِسْع وثلاثين ومائة، يسأله عنهما ويأمره بإظهارهما ويُخبره أنه غير عاذره. فكتب إليه عبدُ اللهّ: إنه لا يَدري أين هما ولا أين توَجها، وإن غيبَتهما غيرُ معروفة. فلم يلبث أبو جعفر، وكان قد أذكى العُيون ووَضع الأرصاد، حتى جاءه كتابٌ من بعض ثقاته يُخبره أنّ رسولاً لعبد الله ومحمد وإبراهيم خرج بكتب إلى رجال بخُراسان يَسْتدعيهم إليهم. فأمر أبو جعفر برِسولهم، فأتي به وبكُتبه، فردها إلى عبد الله بن الحسن بطَوابعها، لم يَفتح منها كتاباً، وردّ إليه رسولَه، وكتب إليه: إني أتيت برسولك والكُتب التي معه، فرددتُها إليك بطوابعها كراهيةَ أن أطلع منها على ما يُغَيِّر لك قلبي، فلا تَدْعُ إلى التقاطع بعد التواصل، ولا إلى الفُرقة بعد الاجتماع، وأظْهِر لي ابنيك فإنهما سيصيران بحيثُ تحب من الولاية والقرابة وتَعظيم الشرف. فكتب إليه عبد الله بن الحسن يعتذر إليه ويتنصَّل في كتابه، ويُعلمه أن ذلك من عدوّ أراد تشتيت ما بينهم بعد الْتئامه. ثم جاءه كتابُ ثقة من ثقاته يذكر أنَ الرسول بعينه خَرج بالكُتب بأعيانها على طريق البصرة، وأنه نازل على فلان المُهلبي، فإن أراده أميرُ المؤمنين فَلْيضع عليه رَصَده. فوضع عليه أبو جعفر رَصده. فأتي به إليه ومعه الكُتب، فحَبس الرسولَ وأمضى الكُتبَ إلى خُراسان مع رسول من عنده من أهل ثقاته. فقدمتْ عليه الجواباتُ بما كره، واسْتبان له الأمرُ. فكتب إلى عبد الله بن الحسن يقول:
أريد حياتَه ويُريد قتلي ... عذيرَك مِن خليلك من مُرادِ
أما بعد، فقد قرأتُ كُتبك وكُتب ابْنيك وأنفذتُها إلى خُراسان، وجاءتني جواباتُها بتَصديقها، وقد استقرّ عندي أنك مُغَيبٌ لابنيك تعرف مكانَهما، فاظْهِرهما إليّ، فإن لك في أن أعظم صِلتهما وجوائزهما وأضعهما بحيث وضعتْهما قرابتُهما، فتدارك الأمورَ قبل تفاقُمها.
فكتب إليه عبد الله بن الحسن:
وكيف أريد ذاك وأنت منى ... وزَنْدُك حين تُقْدح من زِنادِي
وكيف أريد ذاك وأنت منِّي ... بمَنزلة النياط من الفُؤاد

وكتب إليه: إنه لا يدري أين توجها من بلاد اللّه، ولا يَدري أين صارا، وإنَّه لا يعرف الكُتب ولا يشك أنها مُفتعلة. فلما اخْتَلفت الأمور على أبي جعفر بَعث سَلْم بن. قُتيبة الباهليّ وبَعث معه بماله، وأمره بأمره، وقال له: إنّي إنما أدخلك بين جلدي وعظمي، فلا توطئني عَشْواء ولا تُخْف عني أمراً تَعلمه. فخرج سَلْم بن قُتيبة حتى قَدِم المدينةَ، وكان عبد الله يُبسط له في رُخام المنبر في الروضة، وكان مَجلسه فيه. فجَلس إليه وأظهر له المَحبة والمَيل إلى ناحيته، ثمِ قال له حين أنس إليه: إنَ نفراً من أهل خُراسان وهم فلان وفلان - وسمّى له رجالاً يعرفهم ممن كان يُكاتب ممن استقرّ عند أبي جعفر أمرُهم - قد بَعثوا إليك معي مالاً، وكتبوا إليك كتاباً. فقَبل الكتاب والمال، وكان المالُ عشرةَ آلاف دينار، ثم أقام معه ما شاء الله حتى أزداد به أنساً وإليه استنامة، ثم قال له: إني قد بُعِثتُ بكتابين إلى أمير المؤمنين محمد وإلى ولي عهده إبراهيم، وأمرتُ أن لا أوصل ذلك إلا في أيديهما، فإن أوصلتَني إليهما وأدخلتَني عليهما أوصلتُ إليهما الكتابين والمال، ورحلتُ إلى القوم بما يُثلج صدورَهم، وتَقبله قلوبهم، فأنا عندهم بموضع الصدق والأمانة، وإنْ كان أمرهما مظلماً، ولِم تكن تعرف مكانهما، لم نخاطر بدينهم وأموالهم ومُهجهم. فلما رأى عبد الله أنّ الأمور تَفْسد عليه من حيث يرجو صلاحها إلا بإِيصاله إليهما وأظهارهما له أوْصله، فدفعَ الكتابين مع أربعين ألف درهم، ثم قال: هذا محمد وهذا إبراهيم. فقال لهم: إنَ من ورائي لم يَبعثوني ولهم ورائي غاية، وليس مثلي ينصرَف إلى قوم إلا بجُملة ما يحتاجون إليه، ومحمد إنما صار إلى هذه الخُطة ووجبت له هذه الدَّعوة لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هنا من هو أقربُ من رسول الله رَحماً وأوجبُ حقّاً منه. قال: ومن هو؟ قال: أنت إلا أن يكون عندك ابنك محمد أثرٌ ليس عندك في نفسك. قال: فكذلك الأمرُ عندي. قال له: فإنَّ القومَ يَقتدون بك في جميع أمورهم ولا يُريدون أن يبذلوا دينَهم وأموالهم وأنفسهم إلا بحُجة يرجون بها لمن قَتل منهم الشهادة، فإن أنت خلعتَ أبا جعفر وبايعتَ محمداً اقتَدَوْا بك، وإنْ أبيْتَ اقتَدَوا بك أيضاً في تَركك ذلك ثقةً بك لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَوْضعك الذي وَضعك الله فيه. قال: فإنّي أفعل. فبايَعَ محمداً وخلع أبا جعفر. وبايعه سَلْم من بعده، وأخذ كُتبَه وكتبَ إبراهيم ومحمد وخرج. فقدم على أبي جعفر وقد حضر الموسمُ، فأخبره حقيقة الأمر ويقينه. فلما دخل أبو جعفر المدينةَ أرسل إلى بني الحسن فجَمَعهم، وقال لسَلْم: إذا رأيتَ عبد الله عندي فقُم على رأسي وأشِرْ إليَ بالسلاح، ففعل. فلما رآه عبد الله سُقط في يده وتغيَّر وجهه. فقال له أبو جعفر: مالك أبا محمد، أتعرفه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فاقِلْني وصلْتك رحم. فقال له أبو جعفر: هل علمتَ أنك تعرف موضع وَلَديك وأنه لا عُذر لك وقد باح السرُّ، فأظهرهما لي، ولك أن أصلَ رحمك ورَحمهما، وأن أعظم ولايتهما وأعطيَ كلّ واحد منهما ألف ألفِ درهم. فتراجعٍ عبد الله حتى انكفأ على ظهره، وبنو حسن اثنا عشر رجلاً، فأمر بِحبسهم جميعاً. وخرج أبو جعفر فعسكر من ليلته على ثلاثة أميال من المدينة، وعَبّأ على القتال، ولم يَشك أنَّ أهل المدينة سيُقاتلونه في بني حَسن، فعبّأ ميمنة وميسرة وقَلْباً وتهيأَ للحرب، وأجلس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عشرين مُعطياً يُعطون العطايا. فلم يتحرك عليه منهم أحد، ثم مَضى بهم إلى مكَة.

فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق، خرج محمدُ بن عبد الله بالمدينة، فكتب إليه أبو جعفر: مِن عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله " إِنما جَزاءُ الذينَ يحاربُون الله ورسولَه ويَسْعَوْن في الأرض فَساداً أن يُقَتلوا أوْ يُصلّبُوا أو تُقطَّع أيدِيهم وأرْجُلُهم من خِلاف أو يُنْفَوا من الأرض ذلك لهم خِزْى في الدُّنيا ولهم في الآخرة عذاب عَظيم. إلا الذين تَابُوا مِن قبْل أنْ تَقْدِروا عليهم فاعلموا أنّ الله غَفُورٌ رَحيم " . ولك عليّ عهدُ الله وميثاقه وذمَّة الله وذمة نبيّه، إن أنتُما أتيتُما وتُبتما ورَجعتما من قبل أن أقدرَ عليكما وأن يقع بيني وبينكما سَفك الدماء، أن أؤمنكما وجميعَ ولدكما. ومن شايعكما وتَابَعكما على دِمائكم وأموالكم، وأوسعكم ما أصبتم من دم أو مال، وأعطيكما ألفَ ألفِ درهم لكلِّ واحد منكما، وما سألتما من الحوائج، وأبوئكما من البلاد حيث شئتُما، وأطْلِق من الحبس جميعَ ولد أبيكما، ثم لا أتعقب واحداً منكما بذَنب سَلف منه أبداً. فلا تُشمت بنَا وبك عدوّنا من قريش، فإن أحببْتَ أن تتوثق من نفسك بما - عرضتُ عليك، فوَجَّه إليَّ مَن أحببْتَ ليأخذ لك من الأمان والعهود والمواثيق ما تأمن وتطمئن إليه إن شاء الله والسلام.
فأجابه محمدُ بن عبد اللهّ: من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد " طَسِم. تلك آياتُ الكِتَاب المُبِين. نَتْلو عليكَ مِن نبأ مُوسى وفِرْعوْن بالحقِّ لقوم يُؤْمنون " إلى قوله " وما كانَوا يَحْذَرون " . وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضتَه، فإنَّ الحقَّ معنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخَرجتم إليه بشِيعتنا، وحَظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليا رحمه الله كان الإمام فكيف ورثتم ولايةَ ولده وقد علِمتُم أنه لم يطلب هذا الأمر أحدٌ بمثل نَسَبنا ولا شرفنا، وأنا لسنا من أبناء الظِّئار، ولا من أبناء الطُّلقاء، وأنه ليس يَمُتُّ أحدٌ بمثل ما نَمُتّ به من القرابة والسابقة والفضل وأنا بنو أم أبي رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو فاطمة ابنته في الإسلام دونكم، وأنّ الله اختارنا واخْتار لنا، فولدنا من النبيّين أفضلُهم، ومن الألف أوّلهم إسلاماً علي بن أبي طالب، ومن النّساء أفضلُهن خديجة بنت خُويلد، وأول مَن صلّى إلى القبلة منهن، ومن البنات فاطمة سيِّدة نساء أهل الجنة، ولدت الحَسن والحُسين سيدَي شباب أهل الجنة صلواتُ الله عليهما، وأنَ هاشماً وَلد عليا مرتين، وأنَّ عبد المطلب وَلد حسناً مرتين، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين، وأني من أوسط بني هاشم نَسباً وأشرفهم أباً وأمّاً لم تُعْرِق فيّ العجم ولم تُنازع فيّ أمهاتُ الأولاد. فما زال الله بمنّه وفضله يختار لي الأمهات في الجاهليّة والإسلام، حتى أختار لي في النار، فأَنا ابنُ أرفع الناس درجةً في الجنّة، وأهونهم عذاباً في النار، وأبي خيرُ أهل الجنة، وأبي خيرُ أهل النار، فأنا ابن خير الأخيار، وأبن خير الأشرار، فلك اللّهُ، إن دَخلتَ في طاعتي وأوجبتَ دَعْوتي، أن أؤمِّنك على نَفسك ومالك ودَمك وكلِّ أمرٍ أحدثتَه، إلا حداً من حُدود اللّه، أو حقَّ امرئ مُسلم أو مُعاهد، فقد علمتَ ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعَهد؟ لأنك لا تُعطي من العهد أكثرَ مما أعطيتَ رجالاً قبلي. فأيَ الأمانات تُعطيني: أمانَ ابن هبيرة، أو أمانَ عمك عبد الله بن عليّ، أو أمانَ أبي مُسلم. والسلام.

فكتب إليه أبو جعفر المنصور: من عبد الله أمير المُؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حَسن، أما بعد. فقد بلغني كتابُك، وفهمتُ كلامَك، فإذا جُل فخرك بقَرابة النِّساء، لتضل به الغوغاء. ولم يَجعل الله النساءَ كالعُمومة والآباء، ولا كالعَصبة الأولياء؟ لأن الله جعل العمَّ أباً وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى. ولو كان اختيارُ الله لهنّ علىِ قدر قَرابتهن لكانت آمنة أقربَهن رَحِماً، وأعظمَهن حقًا، وأولَ مَن يدخل الجنة غداً، ولكنّ اختيارَ الله لخَلقه على قدر عِلْمه الماضيِ لهم. فأما ما ذكرتَ من فاطمة جدَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وولادتها لك، فإنَ الله لم يَرزق أحداً من وَلدها دينَ الإسلام ولو أنَّ أحداً من ولدها رُزق الإسلام بالقرابة لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكُل خَيْر في الدُّنيا والآخر، ولكنّ الأمرَ لله يَختار لدِينه مَن يشاء. وقد قال جل ثناؤه: " إنكَ لا تَهْدِيِ مَن أحْبَبْتَ ولكنَّ الله يَهْدِي مَن يَشاء وهُو أعلمُ بالمُهتَدِين " . وقد بعثَ الله محمد صلى الله عليه وسلم وله عُمومة أربعة، فأنزل الله عليه: " وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقرَبين " . فَدعاهم فأنذرهم، فأجابه اثنان أحدُهما أبِي، وأبي عليه اثنان أحدُهما أبوك، فقطع الله ولايتَهما منه، ولم يَجعل بينهما إلا ولا ذمَة ولا مِيراثاً. وقد زعمتَ أنك ابنُ أخفِّ أهل النار عذاباً وابنُ خير الأشرار، وليس في الشرِّ خِيارٌ، ولا فَخرَ في النار، وسترد فتَعلم " وسَيعلم الذيِ ظَلمُوا أيَّ مُنقَلَب يَنْقَلبون " . وأما ما فَخرتَ به من فاطمةَ أمّ عليّ، وأنّ هاشماً ولد عليَّا مرتين، وأنِّ عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وَلدك مرَّتين، فَخيرُ الأولين الآخِرين رسوِلُ الله صلى الله عليه وسلم، لم يَدله هاشمٌ إلا مرَّة واحدة، ولا عبدُ المطلب إلاَ مرة واحدة. وزعمت أنّك أوسطُ بني هاشم نَسَباً وأكرمُهم أباً وأمّاً، وأنك لم تَلِدْك العَجم، ولمِ تُعْرِق فيك أمَّهاتُ الأولاد، فقد رأيتُك فَخرتَ على بني هاشم طُرًّا، فانظُر أين أنت ويحك من الله غداً! فإنك قد تعدّيت طَوْرك، وفَخرت على مَن هو خيرٌ منك نفساً وأبا وأوّلاً وآخِراً: فَخرتَ على إبراهيم ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم وهل خيار ولدِ أبيك خاصة وأهلُ الفَضل منهم إلا بنو أمهات أولاد؟ وما وُلد منكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ من عليّ بن الحُسين، وهو لأم ولد، وهو خَيرٌ من جَدِّك حَسن بن حسن. وما كان فيكم بعدَه مثلُ ابنه محمد بن عليّ، وجدته أم ولد، وهو خيرٌ من أبيك، ولا مثلُ ابنه جَعفر، وهو خيرٌ منك، وجدّته أم ولد. وأما قولُك: إنا بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يقول: " ما كانَ محمداً أبَا أحَدِ مِن رِجالِكم ولكنْ رسولُ الله وخاتَم النبيّين " ولكنكم بنو ابنتِه وهي امرأة لا تُحرز ميراثَاً، ولا تَرث الوَلاء، ولا يَحل لها أن تَؤُم، فكيف توَرت بها إمامة، ولقد ظَلمها أبوك بكُل وجه، فأَخرجها نهاراً مرَّضها سِرّاً، ودَفنها ليلاً. فأبي الناس إلا تقديم الشيخين وتفضيلَهما.
ولقد كانت السُّنة التي لا اختلاف فيها أن الجدَّ أبا الأم والخال والخالةَ لا يرثون.

وأما ما فَخرتَ به من عليِّ وسابقته. فقد حضرتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الوفاةُ، فأمر غيرَه بالصلاة. ثم أخذ الناسُ رجلاً بعد رجل فما أخذه، وكان في الستّة من أصحاب الشُّورى، فتركوه كُلهم: رفضه عبدُ الرحمن بن عوف، وقاتله طَلحة والزبير، وأبى سعدٌ بيعتَه وأغلق بابَه دونه، وبايع معاويةَ بعده. ثم طلبها بكلِّ وجه فقاتل عليها، ثم حَكّم الحَكَمين ورضي بهما وأعطاهما عهدَ الله وميثاقَه، فاجْتمعا على خَلْعه واخْتلفا في مُعاوية. ثم قال جدُّكَ الحسن فباعها بِخرَق ودراهم، ولحق بالحجاز، وأسلم شيعتَه بيد مُعاوية، ودَفع الأموالَ إلى غير أهلها، وأخذَ مالاً من غير ولائه. فإن كان لكم فيها حقّ فقد بِعْتموه وأَخذتُم ثمنَه. ثم خرج عمُّك الحُسيَن على ابن مَرْجانة، فكان الناس معه عليه حتى قَتلوه وأتوا برأْسِه إليه. ثم خرجتُم على بني أُمية فقتّلوكم وصَلّبكم على جُذوع النخل وأحرقوكم بالنِّيرانِ ونَفوكم من البُلدان، حتى قُتل يحيى بن زيد بأرض خُراسان، وقَتلوا رجالَكم وأسروا الصِّبْية والنِّساء وحَملوهم كالسَّبي المجلوب إلى الشام. حتى خرجنا عليهم فَطلبنا بثأرِكم، وأدْركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضَهم وديارَهم وأَموالَهم، وأردنا إشراككم في مُلكنا، فأبيتم إلا الخروجَ علينا. وظننتَ ما رأيتَ من ذكرنا أباكَ وتَفصيلنا إياه أنّا نُقدمه على العبَّاس وحمزة وجَعفر، وليس كما ظننْتَ ولكنّ هؤلاء سالمون مُسلّم منهم، مُجتمع بالفضل عليهم.
وابتُلى بالحرب أبوكَ، فكانت بنو أمية تَلعنه على المنابر كما تَلعن أهلَ الكفر في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له وذكرنا فَضلة وعنَّفناهم وظَلِّمناهم فيما نالوا منه.
وقد علمت أنَّ المكْرمة في الجاهلية سقايةُ الحاج الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعبَّاس من بين إخوته، وقد نازعَنا فيها أبوك فقضى لنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم نَزل نَليها في الجاهليّة والإسلام. فقد علمتَ أنه لم يَبْق أحد مِن بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من بني عبد المطلب غيرَ العبَّاس وحدَه، فكان وارثَه من بين إخوته. ثم طلب هذا الأمرَ غيرُ واحد من بني هاشم فلم يَنله إلا ولدُه، فالسقاية سقايتُنا، وميراث النبيِّ صلى الله عليه وسلم ميراثُنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبق فَضل ولا شَرف في الجاهليَّة والإسلام إلاَ والعبَّاس وارثه ومُورِّثه، والسلام.
فلما خرج محمدُ بن عبد الله بن الحَسن بالمدينة بايعه أهلُ المدينة وأهل مكّة.
وخرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة في شهر رمضان، فاجتمع الناسُ إليه، فنَهض إلى دار الإمارة وبها سفيان بن محمد بن المهلّب، فسلّم إليه البَصرة بغير قتال. وأَرسل إبراهيمُ بن عبد الله بن الحسن إلى الأهواز جيْشاً، فأخذها بعد قتال شديد، وأرسلِ جيشاً إلى واسط فأَخذها. ثم إن أبا جَعفر المَنصور جَهَّز إليهم عيسى بنَ موسى، فَخرج إلى المدينة، فلقيه محمدُ بن عبد الله، فانهزم بأَصحابه وقُتل. ثم مضى عيسى بنُ موسى إلى البصرة فلقى إبراهيمَ بن الحسن، فقتله وبَعث برأْسه إلى أبي جعفر.
وقال رجل من أَهل مكّة: كُنَّا جلوساً مع عمرو بن عُبيد بالمَسجد، فأتناه رجلٌ بكتاب المَنصور على لسان مُحمد بن عبد الله بن الحَسن يَدعوه إلى بيعته، فقرَأه ثم وَضعه. فقال له الرسول: الجواب. فقال: ليس له جواب، قُل لصاحبك يَدعْنا نَجلس في الظلِّ ونَشرب من هذا الماء البارد حتى تأتيَنا آجالُنا.
مروان بن شجاع، مولى بني أميَّة، قال: كنتُ مع إسماعيل بن عليّ بفارس أؤدب ولَده، فلما لَقِيته المُبيِّضة وظفر بهم أتى منهم بأربعمائة أسير، فقال له أخوه عبدُ الصمد، وكان على شُرطته: أضرب أعناقهم. فقال ما تقول يا مروان؟ قلت: أصلح الله الأمير، إنه أوَل مَن سَنِّ قِتال أهل القِبْلة عليُ بن أبي طالب، فَرأى أن لا يُقتل أسير، ولا يُجهز على جريح، ولا يُتبع مولى. قال: خُذ بيعتَهم وخلّ سبيلَهم.
قيل لمحمد بن علي بن الحسين: ما أقَل ولدَ أبيك؟ قال: إني لأعجبُ كيف وُلدُت له! قيل له وكيف ذلك؟ قال: إنه كان يُصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يَتفرَّغ للنساء؟

ولما وَجَّه المَنصورُ عيسى بنَ موسى في مُحاربة بني عبد الله بن الحسن، قال: يا أبا موسى إذا صرتَ إلى المدينة فادْع محمدَ بن عبد الله بن الحسن إلى الطاعة والدُخول في الجماعة، فإن أجابك فاقْبل منه، وإن هَرب منك فلا تَتبعه، وإن أبي إلا الحربَ فناجزْه واسْتعن بالله عليه، فإذا ظفرتَ به فلا تُخيفنَّ أهلَ المدينة وعُمَهم بالعفو، فإنهم الأصلُ والعشيرة وذُرَية المهاجرين والأنصار، وجيران قَبر النبي صلى الله عليه وسلم فهذه وصيَّتي إياكَ، لا كما أوصىَ به يزيدُ بن فعاوية مُسلمَ بن أبي عُقبة حين وجه إلى المدينة وأمرَه أن يَقتل مَن ظَهر له إلى ثنية الوَداع، وأن يُبيحها ثلاثة أيام، ففَعل. فلما بلغ يزيدَ ما فعله تمثّل بقول ابن الزَبَعْري في يوم أحد حيث قال:
ليت أشياخِي ببَدرِ شَهِدُوا ... جَزَع الخَزْرج مِن وَقْع الأسَلْ
ثم اكتُب إلى أهل مكة بالعَفو عنهم والصفح، فإنهم آلُ الله وجيرانُه، وسُكّان حَرمه وأمْنه، ومَنبت القوم والعشيرة، وعظّم البيتَ والحَرم، لا تُلحِد فيه بظُلم، فإنه حَرم الله الذي بَعث منه نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم، وشرّف به آباءنا لتَشريف الله إيانا. فهذه وصيتي لا كما أوصى به الذي وجه الحجاجَ إلى مكّة فأمره أن يَضع المَجانيق على الكَعبة وأن يُلحد في الحرم بظُلم، ففعل ذلك. فلما بلغه الخبرُ تمثّل بقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يَجْهلنْ أحدٌ علينا ... فنجهَلَ فوِقَ جَهلاً لجاهلينا
لنا الدُّنيا ومن أضحى عليها ... ونَبْطِش حين نَبْطش قادِرينا
الرياشي قال: قال عيسى بنُ موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة حَرْب بني عبد الله بن الحسن، جعل يُوصيني ويكثر. فقلتُ: يا أمير المؤمنين، إلى كم توصيني؟
إنِّي أنا السيفُ الحُسام الهِنْدي ... أكلتُ جَفني وفَريت غِمْدي
فكُل ما تطلب منيعندي
وقال مُعاوية يومًا لجُلسائه: مَن أكرم الناس أباً وأمًا وجداً وجَدةً وعماً وعمَةً وخالاً وخالة؟ فقالوا: أميرُ المؤمنين أعلم. فأخذ بيد الحسن بن عليّ وقال: هذا، أبوه علي بن أبي طالب، وأمُّه فاطمة بنت محمد، وجدّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، و جدَته خديجة، وعمّه جعفر، وعمَّته هالة بنت أبي طالب، وخاله القاسم بن محمد، وخالته زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم الرَّياشيّ عن الأصمعي قال: لما خرج محمدُ بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، فبايعه أهلُ المدينة وأهلُ مكّة، وخرج إبراهيمُ أخوه بالبصرة فتغلب على البصرة والأهواز وواسط، قال سُديف بن مَيمون في ذلك:
إنَ الحَمامة يوم الشَعب من حَضَن ... هاجت فؤادَ مُحبّ دائِم الحَزَنِ
إنا لنأمُل أن ترتد ألفتنا ... بعد التباعد والشَّحْناء والإحَن
وتَنْقضي دولةٌ أحكامُ قادتها ... فيها كأحكام قَوْم عابدِي وَثَنِ
فانهَض ببَيعتكم نَنهض بطاعتنا ... إنَّ الخلافةَ فيكم يا بَنىِ حَسن
لا عَزّركنُ نِزارٍ عند نائبة ... إنْ أسلموك ولا رُكنٌ لذي يَمنِ
ألست أكرمَهم يوماً إذا انتسبوا ... عُوداً وأنقاهم ثوباً من الدَرِن
وأعظمَ الناس عند الله منزلةً ... وأبعدَ الناس من عَجز ومن أفن
فلما سمع أبو جعفر هذه الأبيات استُطير بها. فكتب إلى عبد الصمد بن علي أن يأخذ سُديفاً فيدفنَه حياً، ففعل.
قال الرياشي: فذكر هذه الأبيات لأبي جعفر، شيخ من أهل بغداد. قال: هذا باطل، الأبيات لعبد الله بن مصعب، وإنما كان سببُ قتل سُديف أنه قال أبياتَاً مُبهمة، وكتب بها إلى أبي جعفر، وهي هذه:
أسرفت في قَتل الرعيّة ظالماً ... فاكفف يدَيك أضلَّها مَهديُها
فلتأتينّ رايةٌ حسنيه ... جرارة يقتادها حسنيها

فالتفت أبو جعفر، فقال لخازم بن خزيمة: تهيأ بهيئة السفر متنكِّراً، حتى إذا لم يبق إلا أن تَضع رجلَك في الغَرز اثتني، ففعل. فقال له: إذا أتيت المدينة فادخل مسجدَ النبي صلى الله عليه وسلم فدَع سارية وثانية، فإنك تنظر عند الثالثة إلى شيخ آدَم يُكثر التلفت، طويل كبير، فاجلس معه فتوجع لآل أبي طالب، واذكر شدّة الزمان عليهم ثلاثة أيام، ثم قُل له في الرابع: مَن يقول هذه الأبيات:
أسرفتَ في قتل الرعية ظالما
قال: ففعل. فقال له الشيخ: إن شئت نبّأتك مَن أَنت؟ أنت خازم ابن خُزيمة، بعثك إليَّ أميرُ المؤمنين لتعرف مَن قائل هذا الشعر، فقُل له: جُعلت فداك، والله ما قلتُه ولا قاله إلا سُديف بن ميمون، فإني أنا القائل وقد دَعوني إلى الخروج مع محمد بن عبد اللّه:
دعَوني وقد شالت لإبليس راية ... وأوقد للغاوين نارُ الحُباحب
أبا للّيث تغترُّون يَحْمي عرينَه ... وتَلْقون جهلاً أًسدَه بالثعاَلب
فلا نَفعتْني السنُّ إن لم يَؤُزّكم ... ولا أَحكَمْتني صادقاتُ التجارب
قال: وإذا الشيج إبراهيمُ بن هَرْمة. قال: فقدمتُ على المنصور فأَخبرته الخبر. فكتب إلى عبد الصمد بن عليّ، وكان سُديف في حَبسه، فأَخذه فدَفنه حياً.
قال الرياشيّ سمعتُ محمد بن عبد الحميد يقول: قلت لابنِ أبي حفصة: ما أغراك ببني عليّ؟ قال: ما أحدٌ أحبَّ إليّ منهم، ولكني لم أجد شيئاً أنفَع عند القوم منه. ولما دخل زيدُ بن عليّ على هشام بن عبد الملك قال له: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها، لأنك ابن أمة. قال له: أمّا قولك إني أحدث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيبَ إلا اللّه، وأما قولك إني ابن أمة. فهذا إسماعيل ابنُ أمة، أخرج الله من صُلبه محمداً صلى الله عليه وسلم، وإسحاقُ ابن حُرّة، أخرج الله من صُلبه القِردة والخنازير وعَبدة الطاغوت، وخَرج من عنده، فقال: ما أحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذلّ، فقال له الحاجب: لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد. وقال زيد بن عليّ عند خُروجه من عند هشام بن عبد الملك:
شرَده الخوفُ وأزْرى به ... كذاك مَن يَكْره حَرّ الجلادْ
مُحْتفَى الرِّجلين يَشكو الوَجَى ... تَقرعه أطرافُ مَرْو حِدَاد
قد كان في الموت له راحةٌ ... والموتُ حَتْم في رِقاب العِباد
ثم خَرج بِخُراسان، فقُتل وصُلب. فيه يقول سُديف لأبي العبَّاس يُغريه ببني أمية حيث يقول:
واذكُروا مصرعَ الحُسين وزيداً ... وقتيلاً بجانب المِهراس
يريد إبراهيم الإمام، أخا أبي العبّاس.

باب من فضائل
علي بن أبي طالب رضي الله عنه
عوانةُ بن الحَكم قال: حجّ محمدُ بن هشام، ونزلتْ رفقة، فإذا فيها شيخ كبير قد احتوشه الناس، وهو يأمر وينهى، فقال محمدُ بن هشام لمن حولَه: تجدون الشيخَ عراقياً فاسقاً. فقال له بعضُ أصحابه: نَعم، وكُوفيا مُنافقاً. فقال محمد: عليّ به، فأتي بالشيخ. فقال له: أعراقيّ أنت؟ فقال له: نعم، عراقيّ. قال: وكوفيّ؟ قال: وكُوفي. قال، وتُرابيّ؟ قال: وترابيّ، من التراب خُلقت وإليه أصير. قال: أنت ممن يهوي أبا تُراب؟ قال: وَمن أبو تراب؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قال: أتعني ابنَ عمّ رسوله الله صلى الله عليه وسلم و زَوج فاطمةَ ابنتِه، وأبا الحسن والحُسين؟ قال: نعم. قال: فما قولك فيه؟ قال: قد رأيتُ من يقول خيراً ويَحمد، ورأيت من يقول شرّاً ويذُم. قال: فأيهما أفضلُ عندك، أهو أم عثمان؟ قال: وما أنا وذاك؟ والله لو أن علياً جاء بوزن الجبال حسنات ما نَفعني، ولو أنه جاء بوزنها سيّئات ما ضرّني، وعثمان مثلُ ذلك. قال: فاشتم أبا تراب. قال: أو ما تَرضى مني بما رَضي به مَن هو خير منك ممن هو خيرُ منّي هو شرّ من عليّ؟ قال: وما ذاك؟ قال رضي اللهّ، وهو خير منك، مِن عيسى، وهو خير منّىِ، في النصارى، وهم شرّ من عليّ إذ قال: " إن تُعذَبهم فإنهم عبادُك وإن تَغْفر لهم فإنك أنتَ العزيزُ الحكيم " .

الرّياشيّ قال: أنتقص ابنٌ لحمزة بن عبد الله بن الزبير علياً فقال له أبوه: يا بُني: إنه والله ما بَنت الدنيا شيئاً إلا هَدمه الدِّين، وما بَنى الدينُ شيئاً فهَدمته الدنيا. أما ترى عليا وما يُظهر بعضُ الناس من بُغضه ولَعنه على المنابر، فكأنما والله يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وما ترى بني مروان وما يَندبون به موتاهم من المَدح بين الناس، فكأنما يكشفون عن الجيَف.
قدم الوليدُ مكةَ، فجعل يطوفَ البيتَ، والفضلُ بن العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب يستقي من زَمزم وهو يقول:
يأيها السائلُ عن علي ... تسأل عن بَدرٍ لنا بَدْرِيّ
مُردَدٍ في المجد أبطحي ... سائلةٍ غُرّته مَضيّ
فلم يُنكر عليه أحد.
العُتبي قال: قيل يوماً لمَسلمة بن هلال العَبديّ: خَطب جعفر بن سليمان الهاشميّ خُطبة لم يُسمع مثلُها قط، وما دَرينا أوجُهه كان أحسنَ أن كلامُه! قال: أولئك قوم بنُور الخلافة يُشرقون، وبلسان النبوّة ينطقون.
وكتب عَوَّام، صاحب أبي نُواس، إلى بعض عُمّال ديار رَبيعة:
بحقّ النبي بحقِّ الوصيّ ... بحق الحُسين بحق الحَسَنْ
بحق التي ظلِمت حقَها ... ووالدُها خيرُ مَيّتٍ دُفِن
ترفَّق بأرزاقنا في الخِراج ... بتَرفيهها وبحَطّ المُؤن
قال: فاسقط عنه الخِراج طولَ ولايته.
احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي

إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل عن حماد بن زيد قال: بعث إليَّ يحيى بن أكثم وإلى عدّة من أصحابي، وهو يومئذ قاضيِ القضاة، فقال: إنّ أميرَ المؤمنين أمرني أن احضر معي غداً مع الفجر أربعين رجلاً كلهم فقيه يَفْقَه ما يُاقل له ويُحسن الجواب، فسمُّوا من تَظنّونه يَصلُح لما يطلبُ أمير المؤمنين. فسمَّينا له عِدة، وذكر هو عِدة، حتى تمَّ العددُ الذي أراد، وكتب تسمية القوم، وأمر بالبُكور في السَّحر، وبعث إلى من لم يحضرُ فأمره بذلك. فغدونا عليه قبلَ طلوع الفجر، فوجدناه قد لبس ثيابَه وهو جالس ينتظرنا، فركب وركبنا معه، حتى صرنا إلى الباب، فإذا بخادم واقف. فلما نَظر إلينا قال: يا أبا محمد، أمير المؤمنين يَنتظرك، فأدخلنا. فأُمرنا بالصلاة، فأخذنا فيها، فلم نستتمّها حتى خرج الرسول فقال: ادخلوا، فدَخلنا. فإذا أميرُ المؤمنين جالس على فراشه وعليه سَوادُه وطَيلسانه والطّويلة وعمامته. فوقفنا وسلّمنا، فردّ السلام، وأمرنا بالجلوس. فلما استقرّ بنا المجلسُ تحدّر عن فراشه ونَزع عمامته وطيلسانه ووضع قَلنسوته، ثم أقبل علينا فقال: إنما فعلتُ ما رأيتم لتفعلوا مثلَ ذلك، وأما الخُفّ فما مِن خَلْعه علة، من قد عرفها منكم فقد عَرفها، ومن لم يَعْرِفها فسأعرّفه بها، ومدّ رجلَه. ثم قال انزعوا قَلانسكم وخفافكم وطَيالسكم. قال: فأمسكنا. فقال لنا يحيى: انتهوا إلى ما أمركم به أميرُ المؤمنين. فتعجّبنا فنزعنا أخفافنا وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا. فلما استقرّ بنا المجلس قال: إنما بعثتُ إليكم معشَر القوم في المُناظرة، فمن كان به شيء من الأخْبثين لم ينتفع بنفسه، لم يَفقه ما يقول: فمن أراد منكم الخلاءَ فهناك، وأشار بيده، فدعونا له. ثم ألقى مسألة من الفقه، فقال: يا أبا محمد، قل ولْيقل القومُ من بعدك. فأجابه يحيى، ثم الذي يلي يحيى، ثم الذي يليه، حتى أجاب آخرُنا في العلَة وعلة العلة، وهو مُطرق لا يتكلم. حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد، أصبتَ الجواب وتركت الصواب في العِلّة. ثم لم يزل يَرد على كل واحد منّا مقالتَه ويخطئ بعضنا ويصوّب بعضنا حتى أتى على آخرنا. ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا، ولكنني أحببتُ أن أًنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مُناظرتكم في مَذهبه الذي هو عليه، ودينه الذي يَدين الله به. قلنا: فليَفعل أمير المؤمنين وفقّه اللّه. فقال: إن أمير المؤمنين يَدين الله على أن عليّ بن أبي طالب خيرُ خلق الله بعد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس بالخلافة. قال إسحاق: قلت: يا أمير المؤمنين إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمُناظرة. فقال: يا إسحاق، اختر إن شئت أن أسألك وإن شئت أن تسأل. قال إسحاق: فاغتنمتها منه، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين. قال: سَل. قلت: من أين قال أَميرُ المؤمنين إن عليَّ بن أبي طالب أفضلُ الناس بعد رسول الله وأحقُّهم بالخلافة بعده؟ قال: يا إسحاق، خبِّرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يُقال فلان أفضل من فلان؟ قلت: بالأعمال الصالحة. قال: صدقت. قال: فأخبرني عمَّن فضل صاحبَه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن المفضول عَمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول اللّه، أَيَلحق به؟ قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق، لا تقل نعم، فإنك إن قلتَ نعم أوجدتك في دهرنا هذا مَن هو أكثر منه جهاداً وحجاً وصياماً وصلاة وصَدقة. قلت: أجل يا أمير المؤمنين، لا يلحق المفضولُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاضلَ أبداً. قال: يا إسحاق: فانظر ما رواه لك أصحابُك ومَن أخذتَ عنهم دينك وجعلتَهم قُدوتك من فضائل عليّ ابن أبي طالب. فقِسْ عليها ما أَتوك به من فضائل أبي بكر، فإن رأيتَ فضائل أبي بكر تُشاكل فضائلَ عليّ فقل إنه أفضل منه، لا واللّه، ولكن فقِسْ إلى فضائله ما رُوي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعليّ وحدَه فقُل إنهما أفضلُ منه. لا واللّه، ولكن قِسْ إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، فإن وجدتَها مثل فضائل عليّ فقُل إنهم أفضل منه، لا واللّه، ولكن قِس إلى فضائله فضائلَ العشرة الذين شَهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فإِن وجدتها تُشاكل فضائلَه فقل إنهم أفضل منه. ثم قال: يا إسحاق، أي

الأعمال كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه؟ قلت: الإخلاص بالشهادة. كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه؟ قلت: الإخلاص بالشهادة.
قال: أليس السَّبقَّ إلى الإسلام؟ قلت: نعم. قال: أقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول: " والسَّابقون السَّابقون أُولئك المُقَرّبون " إنما عنىَ مَن سَبق إلى الإسلام، فهل علمتَ أحداً سَبق علياً إلى الإسلام؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن عليّا أسلم وهو حَديث السنّ لا يجوز عليه الحُكم، وأبو بكر أسلم وهو مُستكمل يجوز عليه الحكم. قال: أخبرني أيهما أسلم قبل؟ ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال. قلت: علي أسلم قبل أبي بكْر على هذه الشًريطة. فقال: نعم، فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام أو يكونَ إلهاماً من الله؟ قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق، لا تقل إلهاماً فتُقدّمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى. قلت: أجل، بل دعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام. قال: يا إسحاق، فهل يخلو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تَكلَّف ذلك من نفسه؟ قال: فأطرقت: فقال: يا إسحاق، لا تَنسب رسول الله إلى التكلُّف، فإنّ الله يقول: " وما أنا من المُتَكلفِّين " . قلت: أجل يا أمير المؤمنين، بل دعاه بأمر اللّه. قال: فهل من صِفة الجبار جل ذكره أن يُكلِّف رسله دُعاء مَن لا يجوز عليه حُكم؟ قلت أعوذ بالله! فقال: أفتُراه في قياس قولك يا إسحاق إنّ علياً أسلم صبيَاً لا يجوز عليه الحُكم، وقد كُلِّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دُعاء الصِّبيان إلى ما لا يُطيقونه، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة، فلا يجب عليهم في أرتدادهم شيء، ولا يجوز عليهم حُكم الرسول صلى الله عليه وسلم أتَرى هذا جائزاً عندك أن تنسْبه إلى الله عزّ وجلَّ؟ قلت أعوذ باللهّ. قال: يا إسحاق، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليّاً على هذا الخلق أبانَه بها منهم ليُعرف مكانه وفضله ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدُعاء الصبيان لدَعاهم كما دعا علياً؟ قلت: بلى. قال: فهل بلغك أنّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم دعا أحداً من الصبيان من أهله وقرابته، لئلاّ تقول إن علياً ابنُ عمه؟ قلت: لا أعلم، ولا أدري فَعل أو لم يفعل. قال يا إسحاق، رأيت ما لم تَدْره ولم تَعلمه هل تُسأل عنه؟ قلتُ: لا. قال: فدَع ما قد وضعه الله عنّا وعنك. ثم قال: أي الأعمال كانت أفضلَ بعد السَّبق إلى الإِسلام؟ قلت: الجهاد في سبيل اللهّ. قالت صدقت، فهل تجد لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجد لعليّ في الجهاد؟ قلت: في أي وقت؟ قال؟ في أي الأوقات شئتَ؟ قلت: بدر. قال: لا أريد غيرها، فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعليّ يوم بدر، أخبرني كم قَتْلى بدر؟ قلت: نيّف وستون رجلاً من المشركين. قال: فكم قَتل عليٌ وحدَه؟ قلت: لا أدري. قال: ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين، والأربعون لسائر الناس. قلت: يا أمير المؤمنين، كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عَريشه، قال: يَصنع ماذا؟ قلت: يدبِّر. قال: ويحك! يدبّر دون رسول الله أو معه شريِكاً أم افتقارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب إليك؟ قلت: أعوذ بالله أن يدبِّر أبو بكر دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون معه شريكاً، أو أن يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم افتقَار إلى رأيه. قال: فما الفضيلة بالعريش إذ كان الأمر كذلك؟ أليس من ضَرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضلَ ممن هو جالس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كل الجيش كان مجاهداً. قال صدقتَ، كل مجاهد، ولكنَ الضارب بالسيف المحاميَ عنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الجالس أفضلُ من الجالس، أما قرأتَ في كتاب الله: " لا يَسْتوي القاعِدون من المُؤمِنين غَيْرُ أولى الضَرَر والمجاهدُون في سبيل الله بأمْوالِهم وأنُفسِهم فَضّل الله المُجاهدين بأموالهم وبأنْفُسهم علىِ القاعِدين درجَةَ وكلاَّ وَعَدَ الله الحُسْنَى. وفضَل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " .

قلت: وكان أبو بكر وعمر مُجاهدين. قال: فهل كان لأبي بكر وعُمر فضلٌ على من لم يَشهد ذلك المشهد؟ قلت: نعم. قال: فكذلك سَبق الباذل نفسه فَضل أبي بكر وعمر. قلت: أجل. قال: يا إسحاق، هل تقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: أقرأ عليّ: " هَلْ أتىَ عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لم يَكُن شَيْئَاً مَذْكوراً " . فقرأت منها حتى بلغت: " يَشربون من كأسٍ كانَ مِزاجها كافوراً " إلى قوله: " ويُطْعِمون الطّعَام على حبه مِسْكيناً ويَتيماً وأسِيراً " . قال: على رِسْلك، فيمن أنزلت هذه الآيات؟ قلتُ: في علي. قال: فهل بلغك أن علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال: إنما نُطْعِمك لوجه اللّه؟ قلت: أجل. قال: وهل سمعتَ الله وصفَ في كتابه أحداً بمثل ما وصفَ به عليّاً؟ قلت: لا. قال: صدقت؟ لأن اللَه جلَّ ثناؤه عرف سيرته. يا إسحاق، ألستَ تَشهد أن العَشرة في الجنة؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين. قال: أرأيت لو أن رجلاً قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا؟ ولا أدري إن كان رسولُ الله قاله أم لم يقُله، أكان عندك كافراً؟ قلت: أعوذ باللهّ. قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السُّوِرة من كتاب الله أم لا، أكان كافراً؟ قلت: نعم. قال: يا إسحاق، أرى بينهما فرقاً. يا إسحاقَ، أتروي الحديث؟ قلت: نعمِ. قال؟ فهل تعرف حديث الطير؟ قلت: نعم. قال: فحدَثني به. قال: حدَثته الحديث. فقال: يا إسحاق، إني كنتُ أكلمك وأنا أظنّك غيرَ معاند للحقِّ، فأما الآن فقد بان لي عنادُك، إنك تُوفق أنَّ هذا الحديث صحيح؟ قلت: نعم، رواهِ من لا يُمكنني ردُه. قال: أفرأيتَ أنَ مَن أيقن أن هذا الحديث صحيح، ثم زعم أن أحداً أفضلُ من عليّ، لا يخلو من إحدى ثلاثة: مِن أن تكون دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنده مَردودة عليه؟ أو أن يقول: إن الله عز وجل عرف الفاضلَ من خَلقه وكان المَفضولُ أحب إليه، أو أن يقول: إن الله عزَّ وجلَّ لم يعرف الفاضلَ من المَفضول. فأي الثلاثة أحبُّ إليك أن تقول؟ فأطرقت. ثم قال: يا إسحاق، لا تقل منها شيئاً، فإنك إن قلتَ منها شيئاً استتبتُك، وإن كان للحديث عندك تأويل غيرُ هذه الثلاثة الأوجه فقُله. قلت لا أعلم، وإنَّ لأبي بكَر فضلاً. قال: أجل، لولا إنّ له فضلاً لما قيل إن علياً أفضلُ منه، فما فضلُه الذي قصدتَ إليه الساعة؟ قلت: قول الله عزِّ وجل: " ثاني اثنين إذْ هُما في الْغَار إذْ يقُولُ لصاحبِه لا تَحْزَن إنَّ الله معَنا " ، فنَسبه إلى صحبته. قال: يا إِسحاق، أمَا إني لا أحملك على الوَعر من طريقك، إني وجدتُ الله تعالى نَسب إلى صُحبة مَن رَضيه ورَضي عنه كافراً، وهو قوله: " فقال له صاحبُه وهو يُحاوِرُه أَكفَرْتَ بالّذي خَلَقَك مِن تًراب ثم من نُطْفة ثم سَوَّاك رَجُلاً. لكن هو الله رَبي ولا أشرْك برَبِّي أحَداً " . قلت: إن ذلك صاحب كان كافراً، وأبو بكر مؤمن. قال: فإذا جاز أن يَنسب إلى صُحبة نبيّه مُؤمناً، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث، قلت: يا أمير المؤمنين، إن قَدْر الآية عظيم، إن الله يقول: " ثاني اثنين إذ هُما في الغار إذ يقولُ لصاحبه لا تَحْزَن، إنَّ الله مَعَنا " . قال: يا إسحاق، تأبَى الآن إلا أن أُخرجَك إلى الاستقصاءِ عليك، أَخبرني عن حُزن أبي بكر، أكان رِضى أم سُخطاً؟ قلت: إن أبا بكر إنما حَزن من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً عليه، وغمًا أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه. قال: ليس هذا جَوابي، إنما كان جوابي أن تقول: رضىَ أم سُخط؟ قلت: بل رضىَ لله. قال: فكأن الله جلَّ ذكرُه بَعث إلينا رسولاً ينهى عن رضىَ الله عز وجل وعن طاعته. قلت: أعوذ باللّه. قال: أوَلَيس قد زعمتَ أن حزن أبي بكر رضى لله؟ قُلت: بلى. قال أوَلَم تَجد أنَّ القرآن يشهد أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له: " لا تحزن " نهياً له عن الحزن. قلت: أعوذ باللهّ. قال: يا إسحاق، إنَّ مذهبي الرفقُ بك لعلَّ الله يردّك إلى الحق ويَعْدِل بك عن الباطل لكَثرة ما تَستعيذ به. وحدِّثني عن قول اللّه: " فأَنزَلَ الله سكينتَه عليه " ومَن عنى بذلك: رسولَ الله أم أبا بكر؟ قلت: بل رسول اللّه. قال: صدقْت. قال: فحدِّثني عن قول الله عزِّ وجل: " ويَوم حُنَين إذ أَعجَبَتكم كَثرتُكم " إلى قوله: " ثم أنزلَ الله سَكِينَتَه على رسولِه وعلى المُؤمنين "

أتعلم مَن المُؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعةُ نفر من بني هاشم: عليّ يضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه، والعبَّاس أخذ بِلجام بغلة رسول اللّه، والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله لمن جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظفرَ، فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة، ثم من حَضره من بني هاشم.علم مَن المُؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعةُ نفر من بني هاشم: عليّ يضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه، والعبَّاس أخذ بِلجام بغلة رسول اللّه، والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله لمن جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظفرَ، فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة، ثم من حَضره من بني هاشم.
قال: فمن أفضلُ: من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، أم مَن انهزم عنه ولم يَره الله موضعاً لينزلَها عليه؟ قلت: بل من أنزلت عليه السكينةُ؟ قال: يا إسحاق، من أفضل: مَن كان معه في الغار أو من نام على فِراشه ووقاه بنفسه، حتىِ تمَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسولَه أن يأمر عليّاً بالنوم على فِراشه وأن يقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فأمره رسولُ للّه بذلك. فبكى عليّ رضي الله عنه. فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما يُبكيك يا عليّ أجَزَعاً من الموت؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفاً عليك، أَفتَسْلم يا رسول الله قال: نعم. قال: سمعاً وطاعة وطيِّبة نفسي بالفداء لك يا رسول اللّه. ثم أتى مضجَعه واضطجع، وتسجَّى بثَوبه. وجاء المشركون من قُريش فخفّوا به، لا يشكّون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمعوا أن يضربَه من كل بَطن من بُطون قريش رجلٌ ضربة بالسيف لئلا يَطلبَ الهاشميون من البطون بطناً بدمه، وعليّ يسمع ما القوم فيه مِن تَلَف نفسه، ولم يَدْعه ذلك إلى الجَزع، كما جَزع صاحبُه في الغار، ولم يَزل عليُّ صابراً مُحتسباً. فبعث الله ملائكتَه فمنعته من مُشركي قريش حتى أصبح فلما أصبحِ قام، فنظر القومُ إليه فقالوا: أين محمد؟ قال: وما عِلْمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا كُنت مُغررِّاً بنفسك منذ ليلتنا فلم يَزل عليّ أفضلُ ما بدأ به يزيدُ ولا يَنقص حتى قبضه الله إليه. يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: اروِه. ففعلتُ. قال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث، هل أوجب على أبي بكر وعمَر ما لم يُوجب لهما عليه؟ قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جَرى بينه وبين عليّ، وأنكر ولاء عليّ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: من كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال مَن ولاه، وعاد من عاداه. وفي أي موضع قال هذا؟ أليس بعد مُنصرفه من حِجِّة الوداع؟ قلت: أجل. قال: فإن قَتْل زيد بن حارثة قبل الغَدير كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني لو رأيتَ ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي أيها الناس، فاعلموا ذلك أكنتَ مُنكراً عليه تعريفَه الناس ما لا يُنكرون ولا يَجهلون؟

فقلتُ: اللهم نعم. قال: يا إسحاق، أفتنزّه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحْكم؟ لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم إن الله جَلّ ذكره قال في كتابه: " اتخَذوا أحبارَهم ورُهبانهم أرباباً من دُونِ الله " ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ولا زَعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرَهم. يا إسحاق، أتروي حديث: " أنت منّي بمَنزلة هارون من موسى " ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قد سمعتهُ وسمعتُ من صحَحه وجَحده. قال: فمن أوثق عندك: مَن سمعتَ منه فصحّحه، أو مَن جحده؟ قلت: مَن صحَحه. قال: فهل يمكن أن يكون الرسولُ صلى الله عليه وسلم مزح بهذا القول؟ قلت: أعوذ باللهّ. قال: فقال قولاً لا معنى له، فلا يُوقف عليه؟ قلت: أعوذ بالله. قال: أفما تعلم أنّ هارون كان أخَاً موسى لأبيه وأمه؟ قلت: بلى. قال: فعلي أخو رسول الله لأبيه وأمه؟ قلت: لا. قال: أوليس هارون كان نبياً وعليٌّ غير نبيّ؟ قلت: بلى. قال: فهذان الحالان مَعدومان في عليّ وقد كانا في هارون، فما معنى قوله: " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى " ؟ قلت له: إنما أراد أن يُطيِّب بذلك نفسَ عليّ لمّا قال المنافقون إنه خلّفه استثقالاً له. قال: فأراد أن يُطيب نفسه بقول لا معنى له؟ قال: فأطرقتُ. قال: يا إسحاق، له معنى في كتاب اللّه بينّ. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قولُه عزَ وجلّ حكايةً عن موسى إنه قال لأخيه هارون: " اخلُفْني في قَوْمي وأصلِح ولا تَتَبع سَبيلَ المُفْسدين " . قلت: يا أمير المؤمنين، إِن موسى خَلّفَ هارون في قومه وهو حيّ، ومَضى إلى ربه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلَّف علياً كذلك حين خرج إِلى غَزاته. قال: كلا ليس كما قلت. اخبِرْني عن موسى حين خَلف هارون، هل كان معه حين ذَهب إلى ربه أحدٌ من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت: لا. قال: أو ليس استخلفه على جماعتهم؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إِلى غزاته، هل خلّف إِلا الضُعفاء والنساءَ والصبيان؟ فأنى يكون مثلَ ذلك؟ وله عندي تأويلِ آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه لا يَقدر أحدٌ أن يحتج فيه، ولا أعلم أحداً أحتج به، وأرجو أن يكون توفيقاً من الله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قولُه عز وجل حين حَكى عن موسى قوله: " واجْعَلِ لي وزيراً منِ أهلي هارون أخي أشدُد به أزرِي وأشركه في أمري كي نُسبّحك كثيراً ونَذْكُرك كثيراً إنك كنتَ بنا بصيراً " : فأنت مني يا عليّ بمنزلة هارون من موسى، وزيري منِ أهلي، وأخي أشد به أزري، وأشركه في أمري، كي نَسبح الله كثيراً، ونذكره كثيراً، فهل يقدر أحد أن يُدخل في هذا شيئاً غير هذا؟ ولم يكن ليبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لا معنى له. قال: فطال المجلسُ وارتفع النهار. فقال يحيى ابن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين، قد أوضحتَ الحقّ لمن أراد الله به بالخير، وأثبتَّ ما لا يَقدر أحدٌ أن يَدفعه. قال إسحاق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزَّه اللّه. فقال: و الله لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقبلوا القول من الناس " ما كنت لأقبل منكم القول. اللهم قد نصحت لهم القول، اللهم إني قد أخرجْت الأمر من عُنقِي، اللهم إني أدينك بالتقرّب إليك بحب عليّ وولايته.
وكتب المأمون إلى عبد الجبّار بن سعد المُساحقيّ عامله على المدينة: أن أخطُب الناس وأدعهم إلى بيعة الرِّضا علي بن موسى. فقام خطيباً فقال: يأيها الناس، هذا الأمر الذي كُنتم فيه تَرغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم تَرجون، هذا عليٌّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب:
ستةُ آباءِ همُ ما هُم ... مِن خَير مَن يشرب صَوْبَ الغَمام

وقال المأمون لعليّ بن موسى: علام تدعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له المأمون: إن لم تكن إلا القرابة فقد خَلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته مَن هو أقربُ إليه من عليّ، أو من هو في قُعْدُده؟ وإن ذَهبتَ إِلى قرابة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأمر بعدها للحسن والحُسين، وقد ابتزهما عليٌ حَقهما وهما حيّان صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه. فلم يجد عليَّ بن موسى له جواباً.

باب من أخبار الدولة العباسية
رُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظّهر، فقال لأصحابه: ما بال أبي العبّاس لم يحضُر؟ قالوا: ولد له مولود. فلما صلى عليّ الظهر، قال: انقلبوا بنا إليه. فأتاه فهنّأه، فقال له: شكرتَ الواهب وبُورك لك في الموهوب، فما سمّيتَه؟ قال: لا يجوز لي أن أُسميه حتى تُسميه أنت. فأمر به فأًخرج إليه فأخذه، فحنّكه ودَعا له وردَّه، وقال: خُذه إليك أبا الأملاك، وقد سميّتُه علياً وكَنّيته أبا الحسن. قال: فلما قدم معاويةُ قال لابن عباس: لك اسمُه وقد كنّيته أبا محمد. فجرت عليه.
وكان علي سيِّداً شريفاً عابداً زاهداً، وكان يصلّي في كُل يوم ألف ركعة، وضرُب مرَّتين، كلتاهما، ضَربه الوليد، فإحداهما، في تزوجيه لُبابة بنت عبد الله بن جعفر، وكانت عند عبد الملك بن مروان فعضَّ تُفاحة ورَمى بها إليها، وكان أبخر، فدعت بسكّين. فقال: ما تصنعين به؟ قالت: أميط عنها الأذى، فطلَّقها، فتزوَّجها عليّ بن عبد الله بن عبّاس، فضَربه الوليد، وقال: إنما تتزوج أمهاتِ أولاد الخُلفاء لتضع منهم. لأنّ مروان بن الحَكم إنما تزوَّج أُم خالد بن يزيد ليَضع منه. فقال عليّ بنُ عبد الله بن عباس: إنما أرادتْ الخُروج من هذه البلدة وأنا ابنُ عمها، فتزوجتُها لأكون لها مَحرماً. وأما ضربهُ إياه في المرة الثانية، فإن محمد بن يزيد قال: حدَّثني مَن رآه مَضروباً يُطاف به على بَعير ووجهُه مما يلي ذنَب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا عليّ بن عبد الله الكذّاب. قال: فأتيتُه فقلتُ: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكَذِب؟ قال: بلغهم أني أقول إن هذا الأمرَ سيكون في ولدي، والله ليكوننَّ فيهم حتى تملكَهم عبيدُهم الصغار العُيون، العِراض الوجوه، الذين كأنّ وجوههم المجانّ المُطرقة. وفي حديث آخر: إن عليّ بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه: أبو العباس وأبو جعفر، فشكا إليه ديناً لزمه، فقال له: كم دَينُك؟ قال: ثلاثون ألفاً، فأمر له بقضائه، فشكره عليه، وقال: وصلتَ رحماً، وأنا أريد أن تستوصي بابنيَّ هذين خيراً. قال: نعم. فلما تولّى، قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخَ قد أهْتَر وأَسنّ وخُولط، فصار يقول: إن هذا الأمر سينقل إلى ولده. فسمعه عليّ بن عبد الله بن العباس، فقال: والله ليكوننِّ ذلك وليملكنّ ابناي هذان ما تملكه.
قال محمد بن يَزيد: وحدِّثني جعفرُ بنُ عيسى بن جعفر الهاشميّ قال: حضَر عليُّ بن عبد الله مجلسَ عبد الملك بن مروان، وكان مُكرماً له، وقد أهديت له من خُراسان جارية وفَصّ خاتمَ وسيف. فقال: يا أبا محمد، إنّ حاضر الهدية شريكٌ فيها، فاختر من الثلاثة واحداً. فاختار الجارية، وكانت تسمَّى سُعدى. وهي من سَبي الصغْد من رهط عُجيف بن عَنْبسة، فأولدها سليمان بنَ عليّ، وصالح بن عليّ. وذكر جعفرُ بن عيسى أنه لما أولدها سليمان، أجتنبت فراشه، فمرض سليمانُ من جُدريّ خَرج عليه. فانصرف عليّ من مُصلاَّه فإذا بها على فراشه، فقال: مرحباً بك يا أم سليمان. فوقع عليها فأولدها صالحاً. فاجتنبت فراشَه، فسألها عن ذلك. فقالت: خِفتُ أن يموت سليمان في مَرضه، فينقطع النسبُ بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن إذ ولد تُ صالحاً فالبحرّي إن ذهب أحدهما بقي الآخر، وليس مِثلي وطيئة الرجال.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16