كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

ويقال: رجل أمي، إذا كان من أم القُرى. قال الله تعالى: " لِتُنْذِر أمّ القُرَى ومَن حَوْلَها " وأما قوله تعالى: النبيّ الأمي فإنما أراد به الذي لا يقرأ ولا يكتب. والأمية في النبيّ صلى الله عليه وسلم فضيلة، لأنها أدلُّ على صِدْق ما جاء به أنه من عند اللّه لا من عنده، وكيف يكون مِن عنده وهو لا يَكْتب ولا يقرأ ولا يقول الشَعر ولا يُنشده. قال المأمون لأبي العلاء المِنْقري: بَلَغني أنك أمي، وأنك لا تُقيم الشَعر، وأنك تلحن في كلامك. فقال: يا أمير المؤمنين، أمّا اللّحن، فربما سَبقني لساني بالشيء منه؛ وأما الأمية وكَسْر الشعر، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أميّاً، وكان لا يُنشد الشعر. فقال المأمون: سألتُك عن ثلاثة عُيوب فيك فزِدتني رابعاً، وهو الجهل؛ أمَا علمتَ يا جاهل أن ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فَضيلة، وفيك وفي أمثالك نَقيصة!
شرف الكتّاب وفضلهم
فمن فضلهم قولُ الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: " علم بالقَلَم عَلم الإنسان ما لم يَعْلَم " وقوله تعالى: " كِرَاماً كاتبين " . وقولُه: " بأيْدي سَفرة. كِرَام بَرَزة " وللكُتاب أحكام بينة، كأحكام القُضاة، يُعرفون بها، ويُنسبون إليها، ويتقلدًون التدبير وسيارة المُلك بها، دون غيرهم، وبهم يُقام أوَد الدين، وأمور العالمين.
فمن أهل هذه الصناعة: عليّ بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وكان مع شرفه ونُبله وقَرابته من رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، يكتب الوحي، ثم أفضت إليه الخلافة بعد الكتابة؛ وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحي، فإن غابا، كتب ابن بن كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يَشهد واحد منهما، كَتب غيرُهما. وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حَوائجه، وكان المُغيرة بن شُعبة والحُصين بن نمير يكتبان ما بين الناس وكانا ينوبان عن خالد ومُعاوية إذا لم يحضرا، وكان عبد اللّه بن الأرقم ابن عبد يغوث والعلاء بن عُقبة يكتبان وبين القوم في قبائلهم ومِياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء، وكان ربما كتب عبدُ الله بن الأرقم إلى الملوك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وكان حُذيفة بن اليمان يكتب خَرْص ثمار الحجاز، وكان زيدُ بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي، وقيل: إنه تعلّم بالفارسية من رسول كِسْرى، وبالرومية من حاجب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبالحبشية من خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وبالقِبْطية من خادمه عليه الصلاة والسلام. ورُوي عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوماً، فقام لحاجة، فقال لي: ضَع القلم على أذنك فإنه أذكر للمُملي وأقضى للحاجة. وكان مُعَيْقيب بن أبي فاطمة يكتب مغانم النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكان حَنْظلة بن الربيع بن المُرقَّع بن صَيفيّ، ابن أخي أكثم بن صيْفيّ الأسيديّ، خليفة كُل كاتب من كُتَاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب، وكان يضع عنده خاتمه، وقال له: الزمني وأذكر في بكل شيء أنا فيه، وكان لا يأتي على مالك ولا طعام ثلاثة أيام إِلا أذكره، فلا يَبيت صلى الله عليه وسلم وعنده منه شيء. ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بامرأة مقتولة يوم فتْح مكة، فقال لحنظلة: الحق خالداً وقل له: لا تقتلن ذُرْية ولا عَسِيفا. ومات حَنظلة بمدينة الرها، فقالت فيه امرأته، وحُكي أنه من قول الجِن، وهذا محال:
يا عَجَبَ الدَّهْرِ لمَحْزونة ... تَبْكي على ذي شَيْبَةٍ شاحِبِ
إن تسألنّي اليومَ ما شَفّني ... أخبرْك قِيلا ليس بالكاذب
أن سَوادَ الرأس أوْدَى به ... وَجْدي على حَنْظلةَ الكاتب

ولما وَجّه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه سعداً إلى العراق وكتب إليه أن يسبع القبائل أسباعاً، ويَجعل على كل سُبع رجلاً، فَفعل سعد ذلك، وجعل السبع الثالثِ تميماً وأسداً وغطفان وهوازن، وأميرَهم حنظلَة بن الربيع الكاتب؛ وكان أحدَ من سُيَر إلى يَزْدجرد يدعوه إلى الإسلام. وكان الحْصين بن نُمير، من بني عبد مناة، شَهد بَيْعة الرِّضوان، ودعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكتب صُلْح الحّديبية، فأبى ذلك سهَيْل بن عمرو، وقال: لا يكْتب إلا رجل منّا، فكتب عليّ بن أبي طالب. ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: لما جاء سُهَيل بن عمرو ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالحُدَيبية حين صالَح قُريشاً، كان عبدُ اللّه بن سعد بن أبي سرح يكتب له، ثم ارتد ولَحِق بالمُشركين، وقال: إن محمداً يكتب بما شِئْتُ. فَسمع ذلك رجل من الأنصار، فَحَلف باللّه إن أمكنه الله منه ليضربنِّه ضَرْباً بالسَّيف، فلما كان يوم فَتح مكة، جاء به عثمانُ، وكان بينهما رَضاع، فقال: يا رسولَ اللهّ، هذا عبدُ الله قد أقبل تائباً، فأعْرضَ عنه، والأنصاريُّ مُطيفٌ به ومعه سَيفُه، فمدّ رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم جمعه يدَه وبايعه، وقال للأنصاري: لقد تَلَوَّمتُك أنْ تُوفِي بنَذرك. فقال: هلَّا أومضت إليّ. فقال صلى الله عليه وسلم: لا يَنْبغي لي أن أومض.

أيام أبي بكر
رضي اللهّ عنه
كان يكتب لأبي بكر عثمان بن عفان، وزيدُ بن ثابت. ورُوي أنّ عبدَ اللّه ابن الأرقم كتب له، وأن، حنظلة بن الربيع كتب له أيضاًً. ولما تقلَّد الخلافةَ دَعا زيد بن ثابت، وقال له: أنت شاب عاقل لا نَتَهمك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُنتَ تكتب الوَحْي، فتَتبّع القرآن فأجمعه، وفيه يقول حسان بنُ ثابت:
فَمن للقَوافي بعد حَسّانَ وابنه ... ومَن للمَثاني بعد زَيْد بنِ ثابت
أيام عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
كَتب لعمر بن الخطاب زيدُ بن ثابت، وعبدُ الله بن الأرقم، وعبدُ الله ابن خَلف الخزاعيّ، أبو طَلْحة الطلحات، على ديوان البَصْرة. وكَتب له على ديوان الكوفة أبو جَبِيرة بن الضحّاك، فلم يزل عليه إلى أن ولي عبيد اللّه بن زياد فعزله وولي مكانه حبيب بن سَعْد القَيْسيّ.
أيام عثمان بن عفان
رضي اللهّ عنه كان يكتب لعُثمان مروانُ بن الحَكَمَ. وكان عبد الملك بن مَرْوان يكتب له على ديوان المدينة، وأبو جَبِيرة على ديوان الكُوفة، وعبدُ اللّه بن الأرقم عل بيت المال، وأبو غَطفَان بن عوف بن سعد بن دينار، من بني دُهْمان، من قيس عَيْلان، يكتب له أيضاً، وكان يكتب له أهَيب، مولاه، وحُمْران، مولاه.
أيام علي بن أبي طالب
كرم اللّه وجهه كان يكتب له سعيد بن نِمْران الهَمْداني، ثم ولي قضاء الكُوفة لابن الزبير، وكان عبد الله بن جعفر يكتب له. ورُوي أن عبد الله بن حَسن كتب له، وكان عبد اللّه بن أبي رافع يكتب له، وسِمَاك بن حَرْب.
أيام بني أمية
وكان يكتب لمُعاوية. بن أبي سفيان. سعيدُ بن أنس الغَسّاني. وكاتبُ يزيد بن معاوية سَرْجون بن مَنْصور وكاتبُ مَرْوان بن الحكم حُميد بن عبد الرحمن بن عوف. وكاتبُ عبد الملك بن مروان سالمٌ مولاه، ثم كَتب له عبد الحميد بن يحيى، وهو عبد الحميد الأكبر. وكاتبُ الوليد بن عبد الملك جَنَاح مولاه. وكاتب سُليمان بن عبد الملك عبدُ الحميد الأصغر. وكاتبُ عمر بن عبد العزيز الليثُ بن أبي رُقَية، مولى أمّ الحكم، وكتب له رَجاء بنُ حَيْوة وخُص به، وإسماعيل بن أبي حَكِيمٍ مولى الزُبير، وسليمان بن سعد الخُشَنيّ على ديوان الخَراج، وكان عمرِ يكتب كثيرا بيده. وكاتبُ يزيد ابن عبد الملك عبدُ الحميد أيضاًً، ثم لم يَزل كاتباً لبني أمية إلى أيام مَروان بن محمد وانقضاء دولة بني أمية. وكان عبد الحميد أولَ من فَتق أكمام البلاغة، وسَهَّل طُرقها، وفَكّ رِقاب الشَعر.
أيام الدولة العباسية

فكان كاتبُ أبي العبّاس وأبي جَعفر أبا أيوب المورياني الأهوازيّ. وكاتبُ موسى الهادي بن محمد المهدي إبراهيمَ بنَ ذَكْوان الحَراني. وكاتب هارون الرشيد بن محمد المهدي يحيى بنَ خالد البَرمكي، ثم الفَصْلَ بن الرَّبيع، ثم إبراهيمَ بن صُبَيح. وكاتبُ محمد بن زُبيدة الأمين الفضلَ بن الرَّبيع، وكاتبُ عبد اللّه المأمون بن هارون الرشيد الفضلَ بنَ سَهل، ثم الحسنَ بن سَهل، ثم عمرو بنَ مسعدة، ثم أحمدَ بن يوسف. وكاتبُ أبي إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وهو المعروف بابن ماردة، الفضلَ بن مروان، ومحمدَ بن عبد الملك الزيات. وكاتبً الواثق هارون بن محمد المعتصم محمدَ بن عبد الملك الزيات أيضاًً. وكاتب المُتوكل جعفر بن محمد المعتصم إبراهيمَ بن العبّاس بن صُول، مولًى لبني العبّاس. وكاتبُ المُنتصر محمد، ويكنى أبا جعفر، بن المتوكل، أحمدَ بن الخَصيب، ثم كتب للمُستعين أحمد بن محمد المعتصم، فظهر من عجزه وعِيه ما أسخطه عليه، ثم جعل وزارته إلى أوتامش، وقام بخدمته شجاع بن القاسم كاتبه، ثم سخط عليهما فقتلهما، واستوزر أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، ثم صرفه وقَلِّد وزارته محمد بن الفَضل الجرجاني. ثم كانت الفتنة بين المستعين والمعتز، فقلد المُعْتزُ وزارتَه جَعفَر بن محمود الجرجاني، فلما استقام الأمر ردّ وزارته إلى أحمد ابن إسرائيل. وكاتبَ المهتدي محمد بن الواثق جعفر بن محمود الجُرجاني، ثم استوزر بعده أبا أيوب سليمان بن وهب. واستوزر المعتمد أحمدُ بن المتوكل عبيدَ اللّه بن يحيى بن خاقان، فلما توفي استوزر بعده الحسنَ بن مخلد، وكان سبب موته أنه صَدَمه غلامٌ له في الميدان يقال له رَشيق، فحًمل إلى منزله فمات بعد ثلاث ساعات. وتقفد الوزارة للمُعتضد أحمدُ بن طَلحة، وللمُوفق بن جعفر المتوكل عُبيدُ اللّه بن سليمان بن وهب، وتقلّد الوزارة للمُكتفي باللّه أبي محمد عليِّ بن المُعتضد باللّه عليً بن محمد بن الفُرات، ثم محمد بن عُبيد اللّه بن يحيى بن خاقان، ثم علي بن عيسى، ثم حامد بن العباس، ثم محمد بن علي بن مُقلة، الذي يوصف خطّه بالجَوْدة، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد، ثم عبيد اللّه بن محمد الكَلْوذانيّ. ثم الحسُين بن القاسم بن عُبيد اللّه بن سُليمان بن وَهْب، ولُقِّب بعميد الدولة، وكان يكتب على كُتبه: من عَميد الدولة أبي علي بن وليّ الدولة، وذُكر لقبه على الدنانير والدراهم، ثم الفَضْل بن جعفر بن محمد بن الفُرات. وتقلّد الوزارة للقاهر بالله أبي مَنْصور محمدِ بن المُعتضد محمدُ بن عليّ بن مُقلة، ثم محمد بن القاسم بن عُبيد اللّه، ثم القاسم بن عُبيد اللّه الحُصَيني. وتقلد الوزارة للراضي بالله أبي العباس محمد بن جعفر المقتدر محمدُ بن علي بن مُقلة، ثم عبدُ الرحمن بن عيسى، أخو الوزير علي بن عيسى، ثم محمد بن القاسم الكَرْخي، ثم الفضلُ بن جعفر بن محمد بن الفُرات، ثم محمد بن يحيى بن شيرزاد. وتقلّد الوزارة للمُتًقي باللهّ إبراهيم بن جعفر ابن المُقتدر كاتبهُ أحمد بن محمد بن الأفطس. ثم أبو إسحاق القَراريطي، ثم علي بن محمد بن مُقلة. وتقلّد الوزارة للمُستكفي بالله أي القاسم عبد اللّه بن عليّ المكتفي باللّه الحسين بن محمد بن أبي سُليمان، ثمِ محمد بن علي السامُري، المُكَنّى أبا الفَرج. ثم ولي المُطيع بالله الفضلُ بن المقتدر، فوَزر له الحسن بن هارون.

أسماء من كتب لغير الخليفة

كان المُغيرة بن شُعْبة كاتباً لأبي موسى الأشعريّ. وكان سَعِيد بن جُبير كاتباً لعَبد اللّه بن عُتبة بن مسعود، وكان قاضياً بعد ذلك. وكان الحسنُ بن أبي الحسن البَصريّ، مع نًبله وفِقهه ووَرعه وزُهده كاتباً للرَّبيعِ بن زياد الحارثيّ بخُراسان، ثم ولي قضاءُ البَصرَة لعُمر بن عبد العزيز، فقيل له: من وَلِّيت القضاءَ بالبَصْرة؟ فقال: وليتُ سيّد التابعين الحسنَ بن أبي الحسن البَصريّ. وكان محمد بن سِيرين، مع عِلْمه وَورعه كاتباً لأنس بن مالك بفارس. وكان زيادُ ابن أبيه، مع رأيه، ودَهائه، وما كان من معاوية في ادعائه، يكتب للمُغيرة ابن شُعبة، ثم لعبد اللهّ بن عامر بن كُرَيز، ثم لعبد اللّه بن عبّاس، ثم لأبي مُولى الأشعري. فوجّهه أبو موسى من البَصر ة لعمرَ بن الخطّاب ليرفع إليه حسابَه، فأمر له عمرُ بألف درهم، لما رأى منه من الذكاء، وقال: له لا تَرْجع لأبي موسى؟ فقال: يا أمير المؤمنين. أعَن خِيانة صَرَفْتَني أم عن تَقْصِير؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل فَضْل عقلك على الرعيَّة، ثم وَلي بعد الكِتابة العِراقَ. وكان عامرٌ الشَّعبي مع فِقْهه وعِلْمه ونُبله كاتباً لعبد اللّه بن مًطيع، ثم لعبد اللّه بن يَزيد، عامل عبد اللّه بن الزُّبير على الكوفة؛ ثم وَلي قضاء الكُوفة بعد الكِتابة. وكان قَبيصة بن ذُؤيب كاتباً لعبد الملك على ديوان الخَاتم. وكان عبدُ الرحمن كاتب نافع بن الحارث، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عبد اللّه بن خلف الخًزاعي، أبو طَلْحة الطلحات، كاتباً على ديوان البَصرة لعمر وعثمان، ثم قُتل يوم الجَمَل مع عائشة، رضي اللهّ عنها. وكان خارجةُ بن زيد بن ثابت على ديوان المَدينة، ثم طلب الخلافة فقتل دونها. وكان يزيد بن عبد الله بن زَمْعة بن الأسْود بن المًطلب بن أسد بن عبد العُزى كاتباً على ديوان المدينة زمن يزيدَ بن معاوية، وكان بعده حُميد بن عبد الرحمن بن عوف الزُّهري.

أشراف الكتاب
كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم
كتب له عشرة كتاب: عليّ بن أبي طالب، وعُمر بن الخطاب، وعُثمان بن عفّان، وخالد بن سعيد بن العاصي، وأبان بن سعيد بن العاصي، وأبو سَعيد بن العاصي، وعمرو بن العاصي، وَشرَحْبيل بن حَسَنة، وزيد بن ثابت، والعَلاء بن الحَضْرمي، ومّعاوية بن أبي سفيان، فلم يزل يكتب له حتى مات عليه الصلاةُ والسِّلام.
وكان عثمان بن عفان كاتباً لأبي بكر، ثم صار خليفةً. وكان مروان بن الحكم كاتباً لعثمان بن عفان ثم صار خليفة. وكان عمرو بن سعيد بن العاصيِ كاتباً على ديوان المدينة، ثم طَلب الخلافة فقُتل دونها وكان المُغيرة بن شُعبة كاتباً لأبي موسى الأشعري. وكان الحسنُ بن أبي الحسن البَصريّ كاتباً للربيع ابن زياد الحارثيّ بخُراسان. وكان سعيدُ بن جُبير كاتباً لعبد الله بن عُتبة بن مَسْعود؛ وكان فاضلاً. وكان زياد كاتباً للمُغيرة بن شعبة، ثم أبي مُوسى الأشعري، ثم لعبد الله بن عامر بن كُريز، ثم لعبد اللّه بن عبّاس. وكان عامرٌ الشَعبي كاتباً لعبد الله بنِ مُطيع، وهو والي الكوفة لعَبد اللّه بن الزِبير. وكان محمد بن سِيرين كاتباً لأنس بن مالك بفارس. وكان قَبيصة بن ذُؤيب كاتباً لعبد الملك، على ديوان الخاتَم. وكان عبدُ الرحمن بن أبْزَى كاتبَ نافع بن الحارث الخُزاعي، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عُبيد اللّه بن أوس الغسّاني، سيد أهل الشام، كاتبَ معاوية. وكان سعيد ابن نِمْران الهمداني، سيّد همدان، كاتبَ علي بن أبي طالب، ثم ولي بعد ذلك قضاء الكوفة لابن الزبير. وكان عبدُ اللّه بن خلف الخُزاعي، أبو طلحة الطلحات، كاتباً على ديوان البصرة لعمر وعثمان، وقُتل يوم الجَمَل مع عائشة. وكان خارجةُ بن زيد بن ثابت على ديوان المدينة من قِبَل عبد الملك. وكان يزيدُ بن عبد اللّه بن زَمْعة بن الأسْود بن الُمَطّلب بن أسَد بن عبد العُزّى على ديوان المدينة زمانَ يزيد بن مُعاوية. وكان بعده حًميد، ابنً عبد الرَّحمن بن عوف الزُّهْريّ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.
من نبل بالكتابة وكان قبل خاملا
ً

سَرْجون بن منصور الرومي، كاتبٌ لمعاوية ويزيدَ ابنه ومَرْوان بن الحَكم وعبد الملك بن مَرْوان، إلى أن أمره عبدُ الملك بأمرِ فتوانىَ فيه، ورأى منه عبدُ الملك، بعضَ التفريط، فقال لسُليمان بن سَعْد كاتِبه على الرًّسائل: إنَّ سرَجون يُدِلّ علينا بصناعته، وأظن أنه رأى ضَرورتنا إليه في حِسابه، فما عندك فيه حِيلة؟ فقال: بلى، لو شئت لحوَّلتُ الحِساب من الرُّومية إلى العربية. قال: أفعل. قال: أَنظرني أعانِ ذلك. قال: لكَ نَظِرة ما شئْت. فحَوَّل! الديوانَ، فولّاه عبدُ الملك جميعَ ذلك. وحسَّان النَّبَطيّ كاتِبُ الحجَّاج، وسالم مولى هِشام بن عبد الملك، وعبد الحميدُ الأكبر، وعبدُ الصَمد، وجَبلة بن عبد الرحمن، وقَحْذم، جَدّ الوليد بن هشام القَحْذمي، وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية. ومنهم: الفَرَّاء، كاتبُ خالد بن عبد اللّه القسْريّ. ومنهم: الربيع، والفَضل بن الربيِع، ويعقوب بن داود، ويحيى بن خالد وجَعفر بن يحيى، وأبو محمد، عبد اللّه بن المُقَفّع، والفَضْل ابن سَهل، والحَسن بن سَهل، وجَعفر بن محمد بن، الأشعث، وأحمد بن يوسف، وأبو عبد السلام الجُنْد يسابوريّ، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الزيَّات، والحسن بن وَهْب، وإبراهيم بن العبّاس الصُولي، ونَجاح بن سَلمة، وأحمد بن محمد بن، المًدبّر. فهؤلاء نَبُلوا بالكتابة واستحقوا اسمها.

من أدخل نفسه في الكتابة ولم يستحقها
صالح بن شيرزاد، وجعفر بن سابور، كاتب الأفشِين، والفَضْل بن مَرْوان، وداود بن الجَرَّاح، وأبو صالح عبد اللهّ بن محمد بن يَزْداد، وأحمد ابن الخصيب. فهؤلاء لَطّخوا أنفسهم بالكتابة وما دانوها.
وقال بعضَ الشعراء في صالح بن شِيرزاد:
حِمَار في الكِتابة يَدَّعيها ... كدَعْوى آل حَرْب في زِيادِ
فَدَع عنك الكِتابة لست منها ... ولو غَرَّقتَ ثوبك في المِداد
ومنهم: أبو أيّوب، ابن أخت أبي الزير، وهو القائل يَرْثي أمَّ سُليمان بن وَهْب الكاتب:
لأمّ سُليمانٍ علينا مُصِيبةٌ ... مُغَلْغلة مثلُ الحُسام البَواتِر
وكُنتِ سرِاجَ البيتِ يا أمَّ سالم ... فأضحى سراجُ البيت وَسْط المَقابر
فقال سُليمان بن وهب: ما نَزلً بأحدٍ من خَلْق اللّه ما نَزل به، ماتت أمي فرُثيت بمثل هذا الشعر، ونُقل اسمي من سُليمان إلى سالم.
صفة الكتاب
قال إبراهيم بن محمد الشَيباني: من صِفة الكاتب اعتدالُ القامة، وصِغَر الهامة، وخِفَّة اللَهازم، وكَثَافة اللِّحية، وصِدْق الحِسّ، ولُطْف المَذْهب، وحًلاوة الشمائل، وحُسْن الإشارة، ومَلَاحة الزِّي، حتى قال بعضُ المَهالبة لولده: تَزَيَّوا بزِيّ الكُتِّاب، فإن فيهم أدبَ الملوك وتواضعَ السُّوقة. وقال إبراهيم بن محمد الكاتب: من كمال آل الكِتابة أن يكون الكتاب: نَقِيّ المَلْبس، نَظيف المَجْلس، ظاهر المُروءة، عَطِر الرّائحة، دَقيق الذِّهب، صادق الحِسّ، حَسَن البيان، رَقيق حواشي اللسان، حُلْو الإشارة، مَليح الاستعارة، لطيفَ المسالك، مُسْتَقِرّ التّركيب؛ ولا يكون مع ذلك فَضفَاض الجثّة، مُتفاوت الأجزاء، طويل اللِّحية، عظيم الهامة؛ فإنهم زَعموا أنّ هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذَّكاءُ والفِطْنة. وأنشد سعيد بن حُميد في إبراهيم بن العباس:
رأيتُ لهازمَ الكُتّاب خَفَّت ... ولهزْمتاك شأنُهما الفَدَامة
وكُتّاب الملوك لهم بَيانٌ ... كمِثْل الدُّر قد رَصَفوا نِظَامَ،
وأنت إذا نطقتَ كأنّ عَيْراً ... يَلُوك بما يَفُوه به لِجامه
وقال آخر:
عليكَ بكَاتب لَبِقٍ رَشِيقٍ ... زَكِيِّ في شَمائله حرارَه
تُناجِيه بطَرْفًك مِن بَعيد ... فيفهمُ رَجْع لَحْظك بالإشارة
ونظر أحمد بن الخَصِيب إلى رجل من الكتاب: فَدْم المنظر، مُضْطرر الخَلْق، طويل العُثْنون، فقال: لأن يكون هذا فِنْطاسٌ مُرَكب أشبهَ من أن يكون كاتباً.
فإذا اجتمعت للكاتب هذه الخلال، وانتظمت فيه هذه الخِصال، فهو الكافِ البليغ، والأديب النِّحْرِير، وإن قَصَّرت به آلة من هذه الآلات، وقَعدت به أداةٌ كل هذه الأدوات، فهو مَنقوص الجمال مُنْكسف الحِس، مَبْخوس النَصيب.

ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه
قال إبراهيم الشِّيباني: أولَ ذلك حُسْن الخط الذي هو لِسان اليد، وبَهجة الضَّمير، وسِفير العقل، ووَحْي الفِكْرة، وسِلاح المَعْرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة ومحادثتهم على بُعد المسافة، ومُسْتودَع السرّ، وديوان الأمور. ولستُ أجد لحُسن الحظ حدًا أقف عليه أكثرَ من قول عليّ بن رَبَن، النصراني الكاتب، فإني سألته واستوصفتُه الخَطّ، فقال: أعلّمك الخطِّ في كلمة واحدة، فقلت له: تَفَضَل بذلك فقال: لا تكتبْ حَرْفاً حتى تَسْتَفرغَ مجهودَك في كتابة الحَرْف، وتَجْعَل في نفسك إنك تَكْتب غيرَه حتى تَعْجِزَ عنه، ثم تنتقل، إلى ما بعده. وإياك والنَقْط والشَّكْل في كتابك إلا أن تمر بالحَرْف المُعضِل الذي تعلم أنّ المكتوبَ إليه يَعْجِز عن استخراجه فإني سمعتُ سعيدَ بن حُميد بن عبد الحميد، الكاتب يقول: لأن يُشْكِل الحرفُ عن القارىء أحبُّ إليَ من أن يُعابَ الكتاب بالشَكل. وكان المأمونُ يقول: إيَّاكم والشُّونِيز في كُتبكم - يعني النَّقْط والإعجام. ومن ذلك أن يُصْلِحَ الكاتبُ آلتَه التي لا بُدَّ منها، وأداتَه التي لا تَتم صناعتُه إلا بها، مثلِ دَواته، فلْيُنْعِمْ ربَّها وإصلاحَها، ولْيتخيَّر من أنابيب القَصب أقلَّه عُقداً، وأكثرَه لَحْماً، وأصلَبه قِشْراً، وأعدلَه استواء، ويجعلَ لقِرْطاسه سِكِّينَاً حاداً لتكون عَوْناً له على بَرْي أقلامه، ويَبريها من ناحية نَبات القَصبة. وأعلم أنّ محلَّ القلَم من الكاتب كمحلِّ الرّمح من الَفارس.
قال العتّابيّ: سألني الأصمعي يوماً في دار الرّشيد: أيُّ الأنابيب للكتابة أصلَح وعليها أصْبر؛ فقلتُ له: ما نشِفَ بالهَجير ماؤه، وسَتره عن تلويحه غشاؤه، من التِّبْريّة القُشور، الدّرّية الظًّهور، الفِضَية الكُسور. قال: فأيّ نوع من البَرْي أصْوبُ وأكْتب؟ فقلت: البَرْية المُستوية القَطَّة، التي عن يمين سِنّها قُرْنة تأمن معها المَجَّة عند المَدة والمَطّة، للهواء في شَقّها فَتُيق، والرِّيح في جَوْفها خَريق، والمدادُ في خُرطُومها رقيق. قال العتّابي: فبقي الأصمعي شاخصاً إليّ ضاحكاً لا يُحير مسألةً ولا جواباً.
ولا يكون الكاتب كاتباً حتى لا يَسْتطيع أحدٌ تأخيرَ أوّل كتابه وتقديمَ آخره. وأفضل الكُتّاب ما كان في أوَّل كِتابته دليلٌ على حاجته، كما أنّ أفضلَ الأبيات ما دلَّ أولً البيت على قافيته. فلا تُطيلنّ صَدْرَ كِتابك إطالةً تُخرجه عن حدّه، ولا تُقَصِّر به دون حدِّه، فإنَّهم قد كَرِهوا في الجُمْلة أن تَزيدَ صًدور كُتب المُلوك على سَطْرين أو ثلاثة أو ما قارب ذلك.
وقيل للشَّعْبيّ: أيّ شيء تَعرف به عقلَ الرجُل؟ قال: إذا كَتب فأجاد. وقال الحسنُ بن وَهْب: الكاتبُ نفسٌ واحدة تجزّأت في أبدان مُتفرِّقة.
فأما الكاتب المُستحقّ اسم الكِتابة، والبليغُ المَحْكوم له بالبلاغة، مَن إذا حاول صِيغَة كتاب سالت عن قلمه عُيونُ الكلام من ينابيعها، وظَهرت من معادنها، وبدرت من مواطنهَاَ، من غير استكراه ولا اغتصاب.
بلغني أنّ صَديقاً لكُلثوم العتّابي أتاه يوماً فقال له: اصنع ليِ رسالةً، فاستعدّ مدّة ثم علّق القلم، فقال له صاحبه: ما أرى بلاغَتك إلا شاردةً عنك. فقال له العتِّابيّ: إني لما تناولتُ القلم تداعتْ عليّ المعاني من كل جهة، فأحببتُ أن أترك كل معنَى حتى يرجع إلى موضعه ثم أَجتني لك أحسنَها. قال أحمدُ بن محمد: كنتُ عند يزيد بن عبد اللّه أخي ذُبْيان، وهو يُمْلي على كاتب له، فأعجَل الكاتبَ ودَارَك في الإملاء عليه، فتَلجلج لسانُ قَلَم الكاتب عن تَقْييد إملائه، فقال له: اكتُب يا حمار. فقال له الكاتبُ: أَصْلَحَ اللهّ الأمير، إنه لما هَطلت شآبيبُ الكلام وتَدافعت سُيولُه على حَرْف القَلَم، كَلَّ القَلمُ عن إدراك ما وَجب عليه تقييدُه. فكان حُضور جواب الكاتب أبلغَ من بلاغة يزيد. وقال له يوماً وقد مَطَّ حرْفاً في غير مَوْضعه: ما هذا؟ قال: طُغْيان في القَلَم.
فإنْ كان لا بُدّ لك من طَلَب أدوات الكِتابَة فتَصفّح من رسائل المُتقدّمين ما

يُعتمد عليه، ومن رسائل المُتأخّرين ما يُرْجَع إليه، ومن نوادر الكلام ما تَستعين به، ومن الأشعار والأخبار والسِّير والأسمار ما يَتَّسع به مَنْطِقُك، ويطولُ به قَلَمك، وانظر في كتب المقامات والخُطب، ومُجاوبة العَرَب، ومعاني العجم، وحُدود المَنْطق، وأمْثال الفُرس ورسائلهم وعُهودهم وسَيرهم ووقائعهم ومَكايدهم في حُروبهم، والوَثائق والصُّور وكُتب السجلاّت والأمانات، وقَرْض الشِّعر الجَيِّد، وعِلْم العروض، بعد أن تكون مُتوسِّطاً في، علم النَّحو والغَريب، لتكون ماهراً تنتزعُ آيَ القًرآن في مواضعها، والأمثالَ في أماكنها، فإنّ تَضْمين المَثل السائر، والبَيْت الغابر البارع، مما يزين كتابك، ما لم تُخاطب خليفةً أو مَلِكاً جليلَ القَدْر، فإنّ اجتلاب الشِّعر في كتب الخلفاء عيبٌ، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشِّعر والصانع له، فإنّ ذلك يَزيد في أبّهته.

خبر حائك الكلام
أبو جعفر البغداديّ قال: حَدثنا عثمانُ بن سَعيد قال: لما رَجع المُعتصم من الثّغْر وصار بناحية الرَّقّة، قال لعمرو بن مَسْعدة: ما زلْتَ تسألني في الرُّخجيّ حتى وَلَّيتُه الأهواز، فَقَعَد في سرُة الدُّنيا يأكلها خَضما وقَضْما؛ ولم يُوجِّه إلينا بدِرهم واحد. اخرُج إليه من ساعتك. فقلتُ في نفسي: أبعدَ الوزارة أصيرُ مُحستَحَثا على عامل خراج! ولكنْ لم أجدْ بدًّا من طاعة أمير المؤمنين، فقلت: أَخرج إليه يا أمير المؤمنين. فقال: حلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوماً واحداً. فحلفتُ له، ثم انحدرت إلى بغداد، فأمرتُ ففُرِش لي زَوْرق بالطبريّ وغُشيِّ بالسِّلْخ، وطُرح عليه الكُرّ. ثم خرجتُ، فلما صرْتُ بين دَيْر هِزْقل ودَيْر العاقول إذا رجل يصيح: يا ملّاح، رجلٌ منقطع. فقلتُ للملاّح: قَرَّب إلى الشّطّ. فقال: يا سيدي، هذا شَحّاذ، فإنْ قَعد معك آذاك. فلم ألتفتْ إلى قوله، وأمرتُ الغِلمان فأدْخلوه، فَقَعد في كَوْثل الزَّوْرق. فلما حَضر وقتُ الغِداء عزمتُ أن أدعُوه إلى طَعامي، فدعوتُه، فجعل يأكل أكلَ جائع بنَهَامة إلاّ أنه نظيف الأكل. فلما رُفع الطعامُ أردتُ أن يَستعمل معي ما يَتسعمل العوامُّ مع الخواص: أن يقومَ فيغسل يدَه في ناحية، فلم يَفعل، فغَمزه الغِلْمان فلم يَقُم، فتشاغلتُ عنه ثم قلت؟ يا هذا، ما صناعتُك قال: حائك: فقلتُ في نفسي: هذه شر من الأولى. فقال لي: جُعِلت فِداك، قد سألتَني عن صِناعتي فأخبرتُك، فما صناعتُك أنت؟ قال: فقلت في نفسي: هذه أعظمُ من الأولى، وكرهتُ أن أذكر له الوزارة، فقلتُ: اقتصر له على الكتابة، فقلت: كاتب. قال: جُعلت فداك، الكُتّاب على خمسة أصناف: فكاتبُ رسائل يحتاج إلى أن يعرف الفَصل من الوصل، والصُّدور، والتَّهاني، و التَّعازي، والتَرغيب والتَّرهيب، والمقصور والمَمْدود، وجُملًا من العربيّة؛ وكاتب خرَاج يحتاج إلى أن يَعْرف الزَّرْع والمِساحة

والأشْوال والطسُوق، والتّقسيط، والحساب؟ وكاتب جُند يحتاج إلى أن يَعرف مع الحساب الأطماعَ، وشِيات الدواب، وحُلَى الناس؛ وكاتب قاضٍ يحتاج إلى أن يكون عالماً بالشّروط والأحكام والفُروع والناسخ والمَنسوخ والحلال والحرام والمواريث؛ وكاتب شُرطة يحتاج إلى أن يكون عالماً بالجُروح والقِصاص والعقول والدَيات. فأيهم أنت أعزّك اللهّ؟ قال: قلت: كاتب رسائل. قال: فأخبرني إذا كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه وجميع الأسباب، فتزوجتْ أمهُ، فكيف تكتب له، أتهنِّيه أم تُعزِّيه؟ قلت: والله ما أقفُ على ما تقول. قال: فلستَ بكاتب رسائل، فأيهمِ أنت؟ قلت: كاتب خراج. قال: فما تقول أصلحك اللهّ وقد ولاك السلطان عملاَ فَبَثَثْتَ عُمّالك فيه، فجاءك قوم يتظلّمون من بعض عُمّالك، فأردتَ أن تَنْظر في أمورهم، وتًنصفهم إذا كنت تُحبّ العدل والبِرّ، وتُؤثر حُسن الأحدوثة وطيب الذِّكر، وكان لأحدهم قَرَاح، كيف كنت تمسحه؟ قال: كنت أضرب العُطوف في العَمُود، وأنظر كم مقدار ذلك. قال: إذن تظلَم الرجل. قلتُ: فامسح العَمود على حِدَة. قال: إذا تظلَم السلطان. قلت: والله ما أدري. قال: فلستَ بكاتب خراج، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب جُنْد. قال: فما تقول في رجلين اسم كل واحد منهما أحمد، أحدهما مَقْطوع الشفة العليا والآخرً مقطوع الشَّفة السُّفلى، كيف كنت تكتب حِلّيتهما؟ قال: كنت أكتب، أحمدُ الأعلم وأحمد الأعلم. قال: كيف يكون هذا ورِزْقُ هذا مائتا درهم ورزق هذا ألفُ درهم، فيقبض هذا على دَعْوة هذا، فتظلِم صاحب الألف! قلت: واللهّ ما أدري. قال: فلستَ بكاتب جُند، فأيهم أنت؟ قلتُ: كاتب قاض. فمال: فما تقول أصلحك اللّه في رجل تُوفي وخَلَّف زوجة وسُرِّيّة، وكان للزوجة بنت وللسُرّيَّة ابن، فلما كان في تلك الليلة أخذت الحُرّة ابن السُرّية فادَّعَته، وجعلتْ ابنتها مكانه، فتنازعا فيه، فقالت هذه: هذا ابني، وقالت هذه: هذا ابني، كيف تحكم بينهما وأنت خليفةُ القاضي؟ قلت: واللّه لمست أدري. قال: فلستَ بكاتب قاض، فأيّهم أنت؟ قلت: كاتب شرطة. قال: فما تقول: أصلحك الله في رجل وَثب على رجل فشجَّه شَجة مُوضحة، فوثب عليه المَشجوج فشجه شجّة مَأْمُومة؛ قلتُ: ما أعلم. ثم قلت: أصلحك اللّه، قد سألتَ ففسِّر لي ما ذكرتَ. قال: أما الذي تزوّجت أمّه فتكتبُ إليه: أما بعد، فإن أحكامَ اللّه تَجْري بغير مَحابّ المَخْلوقين واللّه يختار للعباد، فخار اللّه لك في قَبْضها إليه، فإن القبرَ أكرمُ لها، والسلام؛ وأما القَراح، فتضرب واحداً في مساحة العُطوف، فمن ثَمَّ بابُه، وأما أحمد وأحمد، فتكتب حِلْية المَقْطوع الشّفة العُليا: أحمد الأعلم، والمَقْطوع الشفة السفلى، أحمد الأشرم، وأما المرأتان، فيُوزن لبن هذه ولبن هذه، فأيّهما كان أخف فهي صاحبة البنت؛ وأما الشّجّة، فإن في المُوضحة خمساً مني الإبل، وفي المأمومة ثلاثاً وِثلاثين وثُلثاً، فيَرُدّ صاحبُ المأمومة ثمانيةً وعشرين وثُلثاً. قلت: أصلحك اللهّ، فلا نزع بك إلى هنا؟ قال؛ ابنُ عمّ لي كان عاملاً على ناحية، فخرجتُ إليه فألفيتُه مَعْزولاً، فقُطع بي، فأنا خارج أضطرب في المعاش. قلتُ: ألستَ ذكرتَ أنك حائك؟ قاٍل: أنا أحُوك الكلام ولستُ بحائك الثياب. قال: فدعوتُ المُزَيِّن فأخذ من شَعَره، وأدْخِل الحمّام فطَرحْتُ عليه شيئاً من ثيابي. فلما صرتُ إلى الأهواز كلمت الرخّجيّ فأعطاه خمسةَ آلاف درهم ورَجع معي، فلما صرتُ إلى أمير المؤمنين، قال: ما كان من خَبرك في طريقك؟ فأخبرتُه خبري حتى حدَّثتُه حديث الرجل. فقال لي: هذا لا يُستغنى عنه، فلأيّ شيء يصلُح؛ قلت: هذا أعلم الناس بالمساحة والهندسة. قال: فولاه أميرُ المؤمنين البناء والمَرمَّة. فكنتُ واللّه ألقاه في المَوكب النبيل فينحطّ عن دابته، فأحلِف عليه، فيقول: سُبحان اللّه! إنما هذه نِعْمتك، وبك أفدتُها.

فضائل الكتابة
قالت أبو عثمان الجاحظ: ما رأيتُ قوماً أنفذ طريقةً في الأدب من هؤلاء الكتّاب، فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّراً وَحشيّا، ولا ساقطاً سُوقيا. وقال بعضُ المهالبة لبنيه: تزيّوا بزِيّ الكُتّاب فإنهم جَمعوا أدب الملوك وتواضُع السوقة. وعَتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكُتاب فأمر بحَبْسهم، فرفعوا إليه رُقعة ليس فيها إلا هذا البيت:

ونحنُ الكاتبون وقد أسأنا ... فَهَبْنا للكرام الكاتِبينَا
فعفا عنهم وأمر بتَخْلية سبيلهم.
وقال المؤيد: كُتّاب المُلوك عُيونهم الناظرة، وآذانهم الواعية، وألسنتُهم الناطقة. والكتابةُ أشرفُ مراتب الدُّنيا بعد المحلافة، وهي صناعةٌ جليلة تَحتاج إلى آلات كثيرة. وقال سهلُ بن هَارون: الكتابة، أولُ زِينة الدُنيا التي إليها يتناهَى الفضلُ، وعندها تَقِف الرَّغبة.

ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها
قال إبراهيم بن محمد الشَيباني: إذا احتجت إلى مُخاطبة المُلوك والوُزراء والعُلماء والكُتّاب والخُطباء والأدباء والشُّعراء وأوساط الناس وسُوقتهم، فخاطبْ كُلاً على قَدْر أبهته وجلالته، وعُلوَه وارتفاعه، وفِطْنته وانتباهه. واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام؛ منها: الطبقات العَلِية أربع، والطبقات الآخرً، وهي دونها، أربع؛ لكل طبقة منها درجة، ولكلّ قَسْمها، لا ينبغي للكاتب البليغ أن يقصّر بأهلها عنها ويَقْلب معناها إلى غيرها. فالحدّ الأوّل: الطبقات العُليا، وغايتها القُصوى الخِلافة، التي أجل اللّه قدرَها وأعلَى شأنها عن مُساواتها بأحد من أبناء الدُّنيا في التعظيم والتوقير؛ والطبقة الثانية لوزرائها وكتّابها الذين يُخاطبون الخلفاء بعقُولهم وألسنتهم، ويَرْتِقُون الفُتوق بآرائهم؛ والطبقة الثالثة أمراء ثُغورهم وقُوّاد جُنودهم، فإنه تجب مُخاطبة كل أحد مِنهم على قدره ومَوْضِعه، وحظّه وغَنائه وإجزائه، واضطلاعه بما حَمل من أعباء أمورهم وجلائل أعمالهم؛ والرابعة القضاة، فإنهم وإن كان لهم تواضع العُلماء، وحِلْية الفضلاء، فمعهم أبهة السَّلطنة وهَيْبة الأمراء. وأما الطبقات الأربع الآخرً فهم: الملوك الذين أوجبت نعمُهم تعظيمَهم في الكَتْب إليهم، وأفضالُهم تَفضيلَهم فيها؛ والثانية وزراؤهم وكتَّابهم وأتباعهم الذين بهم، تُقرع أبوابهم، وبعناياتهم تُستماح أموالهم؛ والثالثة هم العلماء الذين، يجب توقيرهم في الكَتب بشرف العِلم وعلوّ درجة أهله؛ والطبقة الرابعة لأهل القدر والجلالة، والحلاوة والطلاوة، والظرف والأدب، فإنهم يضطرونك بحدّة أذهانهم، وشدّة تمييزهم وانتقادهم، وأدبهم وتصفّحهم، إلى الاستقصاء على نفسك في مُكاتبتهم. واستغنينا عن الترتيب للسّوقة والعوامّ والتجّار باستغنائهم بمهناتهم عن هذه الآلات، واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات. ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إياهم في كتبك، فتزن كلامك في مُخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قَسمه، وتُوفّيه نصيبه؛ فإنك متىِ أهملت ذلك وأضعتَه لم آمن عليك أن تَعدل بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير َمسلكهم، ويَجرىَ شُعاع بلاغتك في غير مجراه، وتَنْظَمِ جوهر كلامك في غير سِلكه. فلا تعتدّ بالمعنى الجَزْل ما لم تُلْبسه لفظاً لاثقاً لمن كاتبته، ومُلتئماً بمن راسلته، فإنّ إلباسَك المَعنى، وإن صَحّ وشَرُف، لفظاً مُتخلّفاً عن قَدْر المكتوب إليه لم تَجْر به عاداتهم، تهجينٌ للمعنى، وإحلال بقَدْره، وظُلم بحق المَكتوب إليه، ونَقْص مما يجب له؛ كما أن في إتباع تعارفهم، وما انتشرت به عادتهم، وجَرت به سُنتهم، قطعاً لعُذرهم، وخُروجاً من حقوقهم، وبُلوغاً إلى غاية مُرادهم، وإسقاطاً لحُجة أدبهم. فمن الألفاظ المَرغوب عنها، والصُّدور المستوحش منها في كتب السادات والمُلوك والأمراء، على اْتفاق المعاني، مثل: أبقاك الله طويلًا، وعَمَّرك مَلِيّا. وإن كنّا نعلم أنه لا فرق بين قولهم: أطال اللّه بقاك، وبين قولهم: أبقاك اللّه طويلًا. ولكنهم جعلوا هذا أرجَح وَزْناً، وأنبه قدراً في المُخاطبة. كما أنّهم جعلوا: أكرمك اللّه، وأبقاك، أحسن منزلاً في كُتب الفُضلاء والأدباء، من: جُعلت فداك، على اشتراك معناه، واحتمال أن يكون فداءَه من الخير، كما يحتمل أن يكون فداءَه من الشر؛ ولولا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لسعد بنٍ أبي وقّاص: ارْم فداك أبي وأمي، لكرِهنا أن يَكْتب بها أحد. على أن كُتّاب العَسكر وعوامّهم قد وَلعوَا بهذه اللَفظة حتى استعملوها في جميع مُحاوراتهم، وعلوها هِجِّيراهم في مخاطبة الشريف والوَضيع، والكبير والصغير. وذلك قال محمود الورَّاق:

كُلّ مَنْ حَلّ سُرّ مَنْ نرى مِن الناس ... ومَن قد يُداخل الأملاكا
لو رأى الكَلْب ماثلاً بطريق ... قال للكَلْب يا جُعِلت فِدَاكا
وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل، أبقاك اللّه، وأمتع بك، إلا في الابن والخادم المنقطع إليك؛ وأما في كتب الإخوان، فغير جائز بل مَذموم مَرغوب عنه. ولذلك كتب عبدُ اللّه بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أحُلْتَ عما عَهدْتُ من أدبكْ ... أم نِلْتَ مُلْكاً فتِهْتَ في كُتبكْ
أم قد تَرى أنًّ في مُلاطفة الْ ... إخوان نَقْصاً عليك في أدبك
أكان حقّا كتابُ ذي مِقَة ... يكون في صَدْره: وأمْتَع بك
أتعبت كفَّيك في مُكاتبتي ... حسبُك ما قد لقيتَ في تَعبك
فكتب إليه محمد بن عبد الملك الزيات:
كيف أخون الإخاء يا أملي ... وكلّ شيء أنالُ من سببكْ
أنكرتَ شيئاً فلستُ فاعلَه ... ولن تُراه يُخَطِّ في كتبك
إنْ يك جهلٌ أتاك مِن قِبلي ... فعُد ْبفَضْلٍ عَليّ من حَسبك
فاعفُ فدَتْك النُّفوس عن رجلٍ ... يَعيش حتى المماتِ في أدبك
ولكلّ مَكْتوب إليه قدرٌ ووَزنْ، يَنبغي للكاتب ألاّ يَتجاوز به عنه، ولا يُقصّر به دونه. وقد رأيتهم عابُوا الأحوص حين خاطب المُلوك خطاب العوامّ في قوله:
وأراك تَفعل ما تقُول وبعضًهم ... مَذِق الحديث يقول ما لا يَفْعلُ
وهذا معنى صحيح في المدح، ولكنهم أجلّوا قدر الملوك أن يُمدحوا بما تُمدح به العوامّ؛ لأن صِدْق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان من المدح فهو واجب على العامّة، والمُلوكُ لا يُمدحون بالفرائض الواجبة، إنما يَحسن مدحُهم بالنّوافل، لأنّ المادح لو قال لبعض المُلوك: إنك لا تَزْني بحليلة جارك، وإنك لا تخون ما استودعْت، وإنك لتصدًق في وَعدك وتَفي بعهدك، فكأنه قد أثنى بما يجب، ولو قَصد بثنائه إلى مَقصده كان أشبهَ في الملوك.
ونحن نعلم أنَّ كل أمير يتولَّى من أمر المؤمنين شيئاً فهو أميرُ المؤمنين، غير أنهم لم يُطلقوا هذه اللفظة إلا على الخُلفاء خاصة. ونحنِ نعلم أن الكَيّس هو العاقل، لكن لو وصفتَ رجلاً فقلت: إنه لعاقل، كنت مدحته عند الناس، وإن قلت: إنه لكيّس، كنت قد قَصَّرْت به عن وَصْفه وصَغَّرت من قدره، إلا عند أهل العلم باللغة؛ لأنَّ العامَّة لا تلتفت إلى معنى الكلمة، ولكن إلى ما جرت به العادة من استعمالها في الظاهر، إذ كان استعمال العامَّة لهذه الكلمة مع الحَداثة والغِرّة وخَساسة القدر وصِغَر السن. وقد روينا عن عليّ كرم اللّه وجهه أنه تسمّى بالكيّس حين بَنى سِجن الكوفة، فقال في ذلك:
أما تُراني كَيِّساً مُكَيسَا ... بنيتُ بعد نافع مُخَيَّسَا
حِصْناً حصيناً ... وأميناً كيسا
وقال الشاعر:
ما يَصْنع الأحمقُ المرْزوق بالكَيْس
وكذلك نعلم أن الصلاة رحمة، غير أنهم كرهوا الصلاة إلا على الأنبياء، كذلك روينا عن ابن عباس. وسمع سعدُ بن أبي وقّاص ابن أخ له يلبّي ويقول في تَلْبيته: لَبَّيك يا ذا المعارج، فقال: نحن نعلم أنه ذو المعارج، ولكن ليس كذا كنَّا نلبّي على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إنما كنِّا نقول: لبَّيك اللهم لبيك. وكان أبو إبراهيم المُزني يقول في بعض ما خاطب به داود ابن خَلَف الأصبهاني: فإِن قال كذا فقد خرج عن الملّة، والحمد لله. فنقض ذلك عليه داودُ، وقال فيما ردّ عليه: تَحمد اللّه على أن تُخرج امرأ مُسلماً من الإسلام، وهذا موضع استرجاع، وللحمد مكان يَليق به! وإنما يقال في المُصيبة: إِنا للّه وإنا إليه راجعون.

فامتثِل هذه المذاهب، واجر على هذه القواعد، وتحفّظ في صُدور كُتبك وفًصولها وخواتمها، وضَع كل معنى في موضع يليق به، وتخير لكل لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فُصولك في موضع ذكر البَلْوى بمثل: نسأل اللّه دَفْعَ المَحْذور، وصَرف المكروه، وأشباه هذا؟ وفي موضعِ ذكر المُصيبة: إنا للّه وإنا إليه راجعون؟ وفي موضع ذكر النِّعمة: الحمد لله خالصاَ والشكر لله واجباً. فإن هذه المواضع يجب على الكاتب أن يتفقَدها ويتحفظ فيها؛ فإن الكاتب إنما يصير كاتباً بأن يَضع كل معنى في موضعه، ويعلق كل لفظة على طبقتها من المعنى. واعلم أنه لا يجوز في الرسائل استعمالُ ما أتت به أيُ القرآن من الاقتصار والحذف، ومخاطبة الخاصّ بالعام والعام بالخاصّ، لأنَّ الله جل ثناؤه خاطَب بالقرآن قوماً فُصحاء فَهِموا عنه جلّ ثناؤه أمرَه ونَهيه ومُراده، والرسائل إنما يُخاطب بها أقوامٌ دخلاء على اللغة، لا علم لهم بلسان العرب. وكذلك ينبغي للكاتب أن يَجتنب اللفظ المشترك والمعنى المًلْتبس، فإنه إذن ذهب يُكاتب على مثل معنى قول الله تعالى: " واسأل القَرْية التي كُنّا فيها والعِيَر التي أقبلنا فيها " وكقوله تعالى: " بل مَكْر الليل والنهار " ، أحتاج الكاتب أن يُبين معناه: بل مكرهم بالليل والنهار، ومثل هذا كثير لا يتسع الكتاب لذكره. وكذلك لا يجوز أيضاًً في الرسائل والبلاغات المشهورة ما يجوز في الأشعار المَوزونة، لأنّ الشاعر مُضطر، والشِّعرَ مَقْصور مقيَّد بالوزن والقوافي، فلذلك أجازوا لهم صَرْفَ ما لا ينصرف من الأسماء، وحذفَ ما لا يُحذف منها، واغتفروا فيه سوء النظم، وأجازوا فيه التَّقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار، وذلك كله غير مُستساغ في الرسائل ولا جائز في البلاغات. فمما أجيز في الشعر من الحذف مثل، قول الشاعر:
قواطناً مَكةَ من وُرْق الحَمَى يعني الحمام
وقول الآخر:
صِفر الوشاحين صَموت الخَلْخل يريد: الخلخال
وكقول الآخر:
دار لسَلْمَى إذ مِن هَواكا يريد: إذ هي
وكقول الحُطيئة:
فيها الرماحُ وفيها كلُّ سابغة ... جَدْلاء مَسْرودة من صُنع سلّاَم
يريد: سليمان. وكقول الآخرً:
من نَسْج داود أبي سلاَّم ... والشيخ عُثمان أبي عفّان
أراد: عثمان بن عفان. وكما قال الآخرً:
وسائلةٍ بثَعلبةَ بنِ سَير ... وقد عَلِقت بثَعلبةَ العَلوقُ
وأراد: ثَعلبة بن سيّار. وكما، قالً الآخرً:
ولستُ بآتيه ولا أسُتطيعه ... ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فَضْل
أراد: ولكن.
وكذلك لا ينبغي في الرسائل أن يُصغَّر الاسم في موضع التَّعظيم، وإن كان ذلك جائزاً، مثل قولهم: دُويهية، تصغير داهية. وجُذلِل، تصغير جِذْل. وعُذيق، تصغير عَذق. وقال الشاعر، هو لَبيد:
وكُل أناس سوف تَدْخل بينهم ... دُويهيةٌ تَصْفرّ منها الأناملُ
وقال الحُباب بن المُنذر، يومَ سَقيفة بني ساعدة: أنا عُذَيقها المُرجّب، وجُذيلها المُحكّك. وقد شرحه أبو عبيد.
ومما لا يجوز في الرّسائل وكَرهوه في الكلام أيضاً مثلُ قولهم: كلّمتُ إياك، وأعني إيّاك، وهو جائز في الشعر. وقال الّشاعر:
وأحْسِنْ وَأَجْمِلْ في أسيرك إنّه ... ضعيفٌ ولم يأسِر كإياك آسرُ
وقال الراجز:
إياك حتى بلَغت إياك
فتخَيَّر من الألفاظ أرجحَها لفظاً، وأجزَلها معنى، وأشرفَها جوهراً، وأكرِمَها حسباً، وأليقها في مكانها، وأشكلها في موضعها؛ فإن حاولت صَنعة رسالة فزِن اللَّفظة قبل أن تُخرجها بميزانِ التِّصريف إذا عَرضت، وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنَحت، فإنه ربما مَرّ بك موضعٌ يكون مخرج الكلام إذا كتبتَ: أنا فاعل، أحسنَ من أن تكتب: أنا أفعل، وموضع آخرً يكون فيه: استفعلت، أحلى من: فعلت. فأدِر الكلام على أماكنه، وقلِّبه على جميع وُجوهه، فأيّ لَفظة رأيتَها أخف في المكان

الذي ندبتها إليه، وأنزعَ إلى اٍلموضع الذي راودتًها عليه، فأوْقعها فيه، ولا تجعل اللَفظة قَلِقة في موضعها، نافرةً عن مكانها، فإنك متى فعلت هجّنت الموضع الذي حاولت تَحسينه، وأفسدتَ المكان الذيِ أردت إصلاحه؛ فإنَ وضع الألفاظ في غير أماكنها، وقَصْدَك بها إلى غير مًصابها، وإنما هو كتَرْقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، فخرج من حَدّ الجدّة، وتغيّر حُسْنه، كما قال الشاعر:
إنّ الجديدَ إذا ما زيد في خَلَقٍ ... تَبَن الناسُ أنّ الثوبَ مَرْقوعُ
وكذلك كلما احلولى الكلامُ وعَذُب وراق وسَهُلت مخارجه كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع، وأشدّ اتصالاً بالقُلوب، وأخفّ على الأفواه؛ لا سيّما إذا كان المعنى البديع مُترجَما بلفظ مِونِق شريف، ومُعايَراً بكلامٍ عَذْب لم يَسِمْه التكليف بميسمه، ولم يُفسده التّعقيد باستغلاقه.
وكتب عيسى بن لَهيعة إلى أخيه أبي الحسن وزَوَر كلامه وجاوز المِقدار في التنطّع، فوقع في أسفل كتابه:
أنيَّ يكون بليغاً ... من اسمه كان عِيْا
وثالثُ الحرف منه ... أذًى كفيت ميسًّا
قال: وبلغني أن بعض الكتَّاب عاد بعضَ الملوك فوجده يئن مَن علّة، فخرج عنه ومرّ بباب الطاق، فإذا بطيْر يدعى الشَفانين، فاشتراه وبعث به إليه، وكتب كتابَاً وتنطّع في بلاغته: وتذكرْ أنه يقال له شَفانين، أرجو أن يكون شفاءً من أنين. فرفع في أسفل الكتاب: والله لو عطستَ ضَبًّا ما كنت عندنا إلا نبطيا، فاقصر عن تنًطّعك، وسَهِّل كلامك.
قوله: لو عَطست ضبّا، يريد أن الضباب من طعام الأعراب وفي بلدهم؛ فقال: لو عَطستَ فنثرت ضباً من عُطاسك لم تُلحَق بالأعراب ولم تكن إلا نَبطيّاً. وقد جاء في بعض الحديث: إن القِطّ من نثرة عَطْسة الأسد، وإن الفأر من نثرة عَطسة الْخِنزير. فقال هذا: لو أن الضبّ من نَثرتك لم تكن إلا نبطياً. وفي هذا المعنى قال مخلد الموصليّ يهجو حَبيبا:
أنت عندي عربيّ ... ليس في ذاك كلامْ
شَعْر ساقيك وفَخْذي ... ك خُزامَى وثُمام
وقَذَى عَينك صِبْغ ... ونَواصيك ثَغام
وضُلوع الصدر من شل ... وكَ نَبْع وبَشَام
لو تحرّكت كذا ان ... جَفلت منك نَعَام
وظباءٌ راتعا ... ت وَيرابيع عِظام
وحَمام يتغنّى ... حبذا ذاك الْحَمام
أنا ما ذنبي لأنْ ... كذِّبني فيك الأنام
وفتًى يحلف ما إن ... عَرَّقتْ فيه الكرام
ثمِ قالوا جاسميّ ... من بني الأنباط حام
كَذبوا ما أنت ... إلا عربيّ والسّلام
وقد رأيتُهم شبّهوا المعنى الخفيّ بالروح الخفي، واللفظ الظاهر بالجًثمان الظاهر، وإذا لم ينهضِ بالمعنى الشريف الْجَزْل لفظٌ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة، ولا النظام مُتّسقاً، وتضاؤُل المعنى الحَسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الْحَسناء في الأطمار الرثة.
وإنما يدل على المعنِى أربعة أصناف: لفظ وإشارة وعَقد وخط. وقد ذكر له أرسطا طاليس صِنفاً خامساَ في كتاب المنطق، وهو الذي يسمى النَصيبة. والنَّصيبة: الحال الدالّة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة، وهي الناطقة بغير لفظ، ومُشير إليك بغير يد. وذلك ظاهر في خَلْق السموات والأرض وكل صامت وناطق. وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن أعيان المَعاني، وسافرة عن وُجوهها. وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف، صِنْفان، هما: القلم واللسان، وكلاهما للقلب تَرجمان. فأما اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الاستبهام إلى حدّ الِإنسانية بالكلام، ولذلك قال صاحب المنطق: حدُ الإنسان الحيّ الناطق. وقالت هشام بن عبد الملك: إن اللّه رفع درجة اللَّسان فانطقه بين الجوارح. وقال عليّ بن عبيده: إنما يُبين عن الإنسان اللسان، وعن المودّة العينان. وقال آخرً: الرجل مخبوء تحت لسانه. وقالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. وقال الشاعر:
وما المرء إلا الأصغران لسانُه ... ومَعْقولُه والجسمُ خَلْق مُصَوَّرُ

فإنْ طُرّة راقتْك يوماً فربما ... أمر مَذاقُ العُود والعُود أخضر
وللخط صورة معروفة، وحِلْية موصوفة، وفضيلة بارعة، ليست لهذه الأصناف؟ لأنه يقوم مَقامها الإيضاح عند المَشهد، ويَفْضُلها في المَغيب، لأن الكتب تُقرأ في الأماكن المُتباينة، والبُلدان المتفرّقة، وتُدرس في كل عصر وزمان، وبكل لسان، والّلسان وإن كان ذَلْقا فَصيحاً لا يعدو سامعَه، ولا يُجاوزه إلى غيره.

البلاغة
قال سهل بن هارون: سياسةُ البلاغة أشدُّ من البلاغة. وقيل لجعفر بن يحيى بن، خالد: ما البلاغة؟ قال: التقرُب من المَعنى البعيد، والدَلالة بالقليل على الكثير. وقيل لابن المُقفَّع: ما البلاغة؟ قال: قِلة الْحَصَر، والْجُرأة على البَشر؛ قيل له: فما العِي؟ قال: الإطْراق من غير فِكْرة، والتًنحنح من غير غلة. وقيل لآخرً: ما البلاغة؟ قال: تَطْوِيلُ القَصِير، وتَقْصير الطويل. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: حَذْف الفُضول، وتَقْريب البعيد. وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ فقال: حُسْن الاستعارة. قيل لجالينوس: ما البلاغة؟ فقال: إيضاح المُعْضِل، وفَك المُشكل. وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة؟ فقال: ما قَرُب طَرَفاه، وبعُدَ مُنتهاه. وقيل لخالد بن صَفْوان: ما البلاغة؟ قال: إِصابةُ المعنى، والقَصْد للحُجًة. وقيل لآخرً: ما البلاعة؟ قال: تَصْوير الحقّ في صُورة الباطل، والباطل في صورة الحق. وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ فقال: الجزالة والإصابة.
تضمين الأسرار في الكتب
وأما تَضْمين الأسرار في الكُتب حتى، لا يقرؤها غيرُ المكتوب إليه ففيه أدبٌ تجب معرفتُه. وقد تعلّقت العامّةُ بكتاب القُمّيّ والأصبهانيّ. وكان أبو حاتم سهل بن محمد قد وصف لي منهما أشياءَ جليلة من تبديل الحروف، وذلك مُمكن لكل إنسان. غير أنّ اللطيف من ذلك: أن تأخذ لَبَنا حليبا فتكتب به في القِرْطاس، فَيَذرّ المكتوبُ له عليه رَماداً سُخْنا من رَماد القراطيس، فيظهرُ ما كتبتَ به إن شاء الله. وإن شئتَ كتبتَ بماء الزَّاج الأبيض، فإذا وصل إلى المكتوب إليه أمر عليه شيئاً من غُبار الزَّاج، وإن أحببتَ أن لا يُقرأ الكتاب بالنهار وُيقرأ بالليل فاكتُبه بمرارة السُّلحفاة،
قولهم في الأقلام
قالوا: القلم أحدُ اللَسانين، وهو المخاطب للعًيون بسرائر القلوب، على لغات مختلفة، من معان مَعْقودة بحروف مَعْلومة مؤلفة؛ متباينات الصور، مختلفات الجهات؛ لقاحُها التفكير، ونتاجها التَّدبير؛ تَخْرس مُنفردات، وتَنْطق مُزْدوجات؛ بلا أصوات مسموعة، ولا ألْسن مَحدودة، ولا حركات ظاهرة؛ خلا قلمٍ حَرف باريه قطّته ليتعلّق المِداد به، وأرهف جانبيه ليُرَد ما انتشر عنه إليه، وشَقَّ رأسه ليحتبس المِدادُ عليه، فهنالك استمد القلم بشقّه، ونثر في القرطاس بخَطه، حروفاً أحكمها التفكّر، وجرى على أسلته الكلام، الذي سَدّاه العقل، وألحمه اللسان، ونَهسته اللهوات، وقطّعته الأسنان، ولفظته الشّفاه، ووعته الأسماع، عن أنحاء شتى من صفات وأسماء. وقالت الشاعر، وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي:
وأسمرَ طاوِي الكَشْح أخْرَسَ ناطقٍ ... له ذَمَلان في بُطون المَهارِقِ
إذا استعجلْته الكفُّ أمطرَ وبْلهَ ... بلا صوت إِرعاد ولا ضَوْء بارق
إذا ما حدَا غرَّ القوافي رأيتَها ... مُجلية تمضي أمام السوابق
كأن عليه من دجى الليل حلةً ... إذا ما استهلت مًزْنه بالصواعق
كأنَ اللآلي والزَبَرْجدُ نُطْقَهُ ... ونَوْرُ الخُزامى في عُيون الحدائق
وقال العلويُ في صِفة القلم:
وعُرْيانَ من خِلْعةٍ مُكْتَسٍ ... يميس من الوَشيْ في يَلْمَقِ
تَحدّرُ من رأسه ريقة ... تَسيل على ذِرْوة المَفْرِق
فكم من أسيرٍ له مُطْلَق ... وكم من طَليق له مُوثَق
يُقيم ويُوطن غربَ البلاد ... ويَنهي ويأمر بالمَشرْق
قليلٌ كثيرُ ضُروب الخُطوط ... وأخرس مُسْتَمع المَنْطق
يَسير بَركْبِ ثلاث عِجالٍ ... إذا ما حدا الفكرُ فِي مُهْرق
وقالت آخر في القلم:

لك القَلم المُطيعك غير أنَا ... وَجدنا رسْمه خيرَ المُطاع
له ذَوْقان من أريٍ هَنِيٍ ... ومن شَرْيٍ وَبّي ذي امتناع
أحذُ اللَفظ يُنْطق عن سِواه ... فيًسمع وهو ليسً بذي استماع
إذا استسقى بلاغتك استهلَت ... عليه سماءُ فِكْرك باندفاع
وبيتٍ بعَلْيَاء العَلاة بنيته ... بأسمرَ مَشقوق الخَياشيم يُرْعَفُ
كأنَّ عليه مَلْبساً جلدَ حيّة ... مُقيم فما يَمضي وما يتخلف
جليلُ شُؤون الخَطْب ما كان راكباً ... يسيرُ وإنْ أرجلتَه فمضعّف
وقال حبيبُ بن أوس، وهو من أحسن ما قيل فيه:
لك القلمُ الأعلى الذي بشَباته ... يُصاب من الأَمر الكُلَى والمفاصلُ
لُعاب الأفاعِي القاتلاتِ لُعابُه ... وأرْي الجَنَى اشتارتْه أيدٍ عواسِل
له ريقةٌ طَل ولكن وَقْعَها ... بآثاره في الشَرق والغَرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجمُ إن خاطبتَه وهو راجل
إذا ما امتطى الخَمسَ اللَطاف وأفرغت ... عليه شِعابُ الفِكْر وَهْيَ حَوافل
أطاعتْه أطرافُ القنَا وتَقوضت ... لنَجْوَاه تقويض الخِيام الجَحافل
إذا استغزر الذِّهنَ الجَليّ وأقْبلت ... أعاليه في القِرْطاس وَهْي أسافلُ
وقد رَفَدته الخِنْصران وسَدّدت ... ثلاِثَ نواحيه الثلاثُ الأنامل
رأيتَ جليلَاً شأنهُ وهو مُرْهَفٌ ... ضَنَىً وسَميناً خَطْبهُ وهو ناحل
ولما قال حبيب هذا الشعرَ حَسده الخَثْعميّ، فقال لابن الزيّات:
ما خُطبة القلم التي أنبيتُها ... وردت عليك لشاعر مَجدودِ
وأنشد البُحتريّ لنفسه يَصف قلم الحسن بن وهْب:
وإذا تألّق في النَديّ كلامُه الْ ... مصقول خِلْتَ لسانَه مِن عَضْبِه
وإذا دَجت أقلامُه ثم انتحت ... بَرَقت مَصابيح الدُّجى في كُتْبه
باللَفظ يَقْربُ فَهْمُه في بُعده ... منّا وَيبْعد نَيلُه في قُرْبِه
حِكَم فسائحُها خِلالَ بَنانه ... مَتدفّق وقَليبُها في قَلبه
وكأنها والسمعُ مَعْقُودٌ بها ... شَخْص الحبيب بدا لعين مُحبّه
وأنشد أحمد بن أبي طاهر في بَعض الكُتَاب ويصف القلم:
قَلم الكتابة في يَمينك آمِن ... ممّا يَعود عليه فيما يَكْتُبُ
قلم به ظُفْرُ العدوِ مُقلم ... وهو الأمانُ لما يُخاف وُيرْهَب
يُبدي السرائرَ وهو عنها مُحْجَب ... ولسانُ حُجّته بصَمْت يُعرِب
ومن قولنا في القلم:
بكفّه ساحرُ البيان إذا ... أداره في صَحيفة سَحَرَا
يَنْطِق في عُجمة بلَفْظته ... نُصَمُّ عنها وتسمع البَصرا
نوادرٌ يَقْرع القُلوبَ بها ... إنْ تَسْتَبنها وجدتَها صُورا
نظام دُرّ الكلام ضمنه ... سِلْكاً لخطّ الكِتاب مُسْتَطَرا
إذا امتطى الخِنْصرين أذكرَ مِن ... سَحْبان فيما أطال واختصرا
يُخاطب الغائب البعيد بما ... يُخاطب الشاهدَ الذي حَضرا
تَرى المَقادير تَستدفّ له ... وتُنْفِذ الحادثاتً ما أمرا
شَخْت ضئيلٌ لفِعْله خَطَر ... أعظِم به في مُلمة خَطرا
تَمُجّ فكّاه ريقةً صَغرت ... وخَطْبها في القُلوب قد كَبُرا
تُواقع النفسُ منه ما حَذِرت ... وربما جنبت به الحَذرا
مُهَفهف تَزْدهي به صُحف ... كأنما حُلًيت به دُررا
كأنما تَرتع العيونُ بها ... خلالٍَ رَوْض مُكلَّل زَهَرا
إن قُرِّبت مُرِّطت طوابعها ... ما فض طينٌ لها ولا كُسِرا

يكاد عنوانها لرَوْعته ... يُنبيك عن سِرها الذي استترا
ومن أحسن ما شُبهت به الأقلام وشُبه بها قولُ ذي الرمة:
كأن أنوف الطَّير في عَرَصاتها ... خراطيمُ أقلام تَخُط وتُعْجِمُ
ومثلُه قول عديّ بن الرِّقاع في ولد البقرة:
تُزْجى أغنَ كأن إبرة رَوْقه ... قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها
ومن قولنا:
يَخرُجْن من فُرجات النّقع داميةً ... كأنّ آذانها أطرافُ أقلام
ومنه قول المأمون:
كأنما قابلَ القرطاسُ إذ مُشقت ... منها ثلاثةَ أقلام على قلم
ومثله قولنا
إذا أدارت بنانُه قَلماً ... لم تَدْر للشِّبْه أيّها القلمُ
ومن قولنا في الأقلام:
ومَعشر تنطق أقلامُهم ... بحكمة تَلقنها الأعينُ
تَلفِظَها في الصكّ أفلامُهم ... كأنما أقلامهم ألسنُ
ومن قوِلنا في الأقلام:
يا كاتباً نقشت أناملُ كفّه ... سحرَ البيان بلا لسانٍ يَنْطِقُ
إلا صَقيلَ المَتن مَلمومَ القُوى ... حُدّت لها زمُه وشُقَّ اْلمَفرِق
فإذا تكلّم رغبةً أو رَهْبَةً ... في مَغرب أصغَى إليه المَشرْق
يَجرى بريقةِ أريه أو شَرْيه ... يَبكي ويَضحك من سُراه المُهرق
ولعبد اللهّ بن المعتز كلامٌ يصف فيه القلم: القلم يَخدُم الإرادةَ، ولا يملّ الأستزادة؛ يسكت واقفاً، وينطق ساكتاً؛ على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء. وقال سليمان بنُ وَهْب، وزير المهديّ: كل قلم تطيل جِلْفته فإن الخط يخرج به أوقص.
وكتب جعفر بن يحيى إلى محمد بن الليث يستوصفه الخط، فكتب إليه: أما بعد، فليكن قلمك بحْرياً، لا سمينا ولا رقيقاً، ما بين الرقّة والغِلَظ، ضيّق النًقْب. فابرِه بَرْيا مُستوِيا كمِنْقار الحمامة، اعطِف قطّته، ورقّق شَفْرته. وليكن مدادُك صافيا، خفيفاً إذا استمددت منه، فانقعه ليلة ثم صفه في الدواة. وليكن قِرْطاسك رقيقاً مستوي النَسج، تخرج السِّحاة مُستوية من أحد الطرفين إلى الآخر، فليست تستقيم السطور إلا فمِما كان كذلك. وليكن أكثر تَمْطيطك في طرف القرطاس الذي في يَسارك وأقلًّه في الوسط، ولا تمط في الطرف الآخر، ولا تمطّ كلمة ثلاثة أحرف ولا أربعة، ولا تترك الأخرى بغير مطّ؛ فإنك إذا فرّقت القليل كان قبيحاً، وإذا جمعتَ الكثير كان سَمِجا. ثم ابتدىء الألف برأس القلم كله وإخطُطه بعوضه واختمه بأسفله. وأكتب الباء والتاء والسين والشين؛ والمطًّة العليا من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين، ورأس كلِّ مُرسل، برأس القلم. واكتُب الجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء، والمطَّة السفلى من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين بالسنّ السّفلى من القلم، وامطُط بعرض القلم. والمطّ نِصف الخط، ولا يقوى عليه إلا العاقل، ولا أحسب العاقل يقوى عليه أيضاً إلا بالنَظر إلى اليد في استعمالها الحركة، والسلام.
وقال ابنُ طاهر لكاتبه: ألقِ دَوَاتك، وأطل سِنّ قلمك، وفَرج بين السطور، وقَرْمط بين الحروف. وقال إبراهيم بن جَبلة: مَرّ بي عبدُ الحميد، وأنا أخط خطا رديئاً، فقال لي: أتحب أن يجود خطّك؟ قلت: بلى. قالت: أطِل جِلْفة القلم وأسمِنها، وحَرف قَطًتك وأيمنها. ففعلت فجاد خطي: وقال العتِّابي: ببُكاء القلم تبتسم الكُتب. وقال بعض الحكماء: أمرُ الدّيِن والدنيا تحت شباة السيف والقلم. وقال حبيب الطائي:
لولا مُناشدةُ القربى لغادركم ... حَصائدَ المُرْهَفَين: السيفِ والقلم
وقال أرسطاطاليس: عقول الرجال تحت سنِّ أقلامهم وقال أبو حَكِيمة: كنتُ أكتب المصاحف، فمر بي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقال: أجلل قلمك. فقصمتُ من قلمي قُصمة. فقال: هكذا، نوًره كما نَوًره الله. وكان ابن سيرين يكره أن يُكتب القرآن مَشْقا، وقال: أجود الخط أبينه.

وقال سليمان بن وهب: زينوا خطوطكم بإسبال ذوائبها. وقال عمرو بن مسعدة: الخط صورة ضئيلة، لها معان جليلة، وربما ضاق على العيون، وقد ملأ أقطار الظنون. وذكر على بن عُبيدة القلم فقال: أصم يسمع النَّجوى، أعيا من باقل، وأبلغ من سَحبان وائل، يُجهل الشاهد، ويخبر الغائب، ويجعل الكتب بين الإخوان ألسُنا ناطقة، وأعيُنا لاحظة، وربما ضَمّنها من ودائع القلوب ما لا تَبوح به الألسن عند المشاهدة. وقال أحمد بن يوسف الكاتب: ما عبراتُ الغواني في خُدودهنّ بأحسن من عبرات الأقلام في خُدود الكتب. وقال العتّابي: الأقلام مطايا الفِطن. وتَخاير غلامان في بعض الدواوين فقاما إلى أستاذهما يَعْرضان عليه خُطوطهما، فكَره أن يُفضَل أحدهما على الآخرً، فقال لأحدهما: أما خطُّك أنت فَوَشي مَحوك. وقال للآخرً: وأما خطّك أنت فذَهب مَسْبوك، تكافيتُما في غاية، وتوافيتما في نهاية. وقال آخرً: دخلتُ الديوان فنظرت إلى غلام بيده قلم كأنه قضيبُ عِقْيان وعليه مكتوب:
وا بأبي، وا بأبي ... من كفّ من يكتب بِي
وقال أبو هِفّان يصف القلم:
وإذا أمرّ على المَهارق كفّه ... بأنامل يحملن شَخْتاً مُرْهفَا
ومقصِّراً ومُطولاً ومقطعاً ... ومُوصِّلا ومشتتا ومؤَلِّفا
كالحيّة الرقْشاء إلا أنه ... يَستنزل الأرْوَى إليه تلطُّفا
يهفو بها قلمٌ يمُجّ لُعابَه ... فيعود سيفاً صارماً ومُثففا
وقال آخر في وصف الدواة:
ومُسودّة الأرجاء قد خُضت حالَها ... وروَيت من قَعرٍ لها غير مُنْبَط
خميصَ الحشي يَرْوَى على كل شرب ... أميناً على سرّ الأمين المُسلَط
وقال بعض الكتّاب:
وما رَوض الربيع وقد زهاه ... ندَى الأسحار يَأرَج بالغَداةِ
بأضْوعَ أو بأسطعَ من نسيمٍ ... تؤديه الأفاوه من دواة
وقال آخرً في وصف محبرة:
ولُجّةِ بحرِ أجَم العبا ... ب بادٍ وأمواجُه تَزْخَرُ
إذا غاص فيَه أخو غَوْصة ... سريعُ السباحة ما يَفْتر
فأنفِس بذلك من غائص ... بديعُ الكلام له جَوهر
وأكْرم ببحرٍ له لجة ... جواهرُها حكَمٌ تُنثر
وقال ثُمامةُ بن أشرس: ما أثْرته الأقلام لم تَطمع في دَرْسه الأيام. ونظر المأمون إلى جارية من جواريه تخُطّ خطا حسناً، فقال فيها:
وزادت لدينا حُظوةً حين أطْرقت ... وفي إِصْبعيها أسمرُ اللَّون أهيفُ
أصمُ سميع ساكنٌ متحرّك ... ينال جَسيمات المُنى وهو أعْجَف
وقال بعض الكُتّاب:
إذا ما التقينا وانتضينا صَوارما ... يكاد يُصمّ السامعين صَريرُها
تساقطُ في القِرْطاس منها بدائع ... كمِثْل اللآلى نَظْمُها ونثيرُها
قال بِشْر بن المُعتمر: القلب مَعدن، والحِلْم جوهر، واللسان مُستنبط، والقلم صائغ، والخطّ صيغة. وقال سهل بن هارون: القلم لسان الضَمير، إذا رَعَف أعلن أسراره، وأبان آثاره. وقالوا: حُسن الخط يُناضل عن صاحبه، ويُوضح الحُجة، وُيمكن له دَرَك البُغية. وقال آخرً: الخطّ الردىء زَمانةُ الأديب. وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال، منها: جَوْدة بَرْي القلم، وإطالة جِلْفته، وتحريف قَطَّته، وحُسن التأتي لإمطاء الأنامل، وإرسالُ المَدّة بقدر اتساع الحروف، والتحرز عند فراغها من الكسوف، وتركُ الشكل على الخطأ، والإعجام على التًصحيف، واستواء الرسوم، وحلاوة المقاطع.
وقال سعيد بن حُميد: من أدب الكاتب أن يأخذ قلمَه في أحسن أجزائه وأبعد ما يتمكَّن المداد فيه، ويُعطيه من القرطاس حقًه. وقال عبد الله بن عباس: كل كتاب غير مختوم فهو غُفْل. وفي تفسير قول الله تعالى: " إنِّي ألْقِي إلي كتاب كريم " قال: مختوم. ورفع إلى عبد الله بن طاهر قصة قد أكثر صاحبُها إعجامَها، فقال: ما أحسنَ ما كتبت، إلا أنك أكثرت شُونيزَها.

وقال أبو عبيدة: لا يقال: كأس، إلا إذا كان فيها شراب، وإلا فهي زجاجة؛ ولا مائدة، إلا إذا كان عليها طعام، وإلا فهي خِوان؛ ولا قلم، إلا إذا بُريَ، وإلا فهو قصبة. وقاك آخرً: جلوس الأدباء عند الورّاقين، وجلوس المخمنين عند النخَّاسين، وجلوس الطُّفيليين عند الطبَّاخين.
وكتب علِىّ بن الأزهر إلى صديق له يسأله أقلاماً يبعث بها إليه: أما بعد، فإنِّا على طول المُمارسة لهذه الكتابة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوَسم، فحلَّت محل الأنساب، وجَرت مَجْرى الألقاب، وجدنا الأقلام الصُحرية أسرع في الكَواغد، وأمرَّ في الجلود، كما أنَّ البحرية منها أسلسَ في القراطيس، وألين في المعاطف، وأشدَّ لتصريف الخطّ فيها. ونحن في بلد قليل القَصب رديئه، وقد أحببتُ أن تتقدّم في اختيار أقلام بَحْريّة، وتتأنَّق في انتقائها قِبَلك، وتَطلبها في مظانّها ومنابتها من شُطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمم باختيارك منها الشديدة المُحْص، الصّلبة المَعضّ، النقيّة الخدود، القليلة الشُّحوم، المكتنزة اللحوم، الضيقة الأجواف، الرَّزينة المَحْمَل؛ فإنها أبقى على الكتابة، وأبعدُ من الحَفاء، وأن تقصد بانتقائك الرقاق القضبان، المقومات المعون، المُلس المعاقد، الصافية القُشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكُعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القَوام، المُستحكمة يُبساً، وهي قائمة على أصولها، لم تُعْجَل عن إبان يَنْعها، ولم تؤخر إلى الأوقات المَخوفة عليها من خَصَر الشتاء، وعَفن الأنداء، فإذا استجمعَتْ عندك أمرت بقَطعها ذراعا ذراعا، قَطعاً رقيقاً، ثم عبأت منها حزَما فيما يصونها من الأوعية، ووجهتَها مع مَن يؤدي الأمانة في حِراستها وحِفْظها وإيصالها، وكتبتَ معه رقعة بعدّتها وأصنافها، بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى.

قولهم في الحبر
قال بعض الكتاب: عطَروا دفاتر آدابكم بجيد الحِبْر، فإن الأدب غَواني، والحِبر غوالي. ونظر جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثرُ المداد وهو يستره، فقال له:
لا تجزعنّ من المِداد فإنه ... عِطْرُ الرِّجال وحِلْية الكُتابِ
وأَتى وكيعَ بن الجرّاح رجلٌ يمت إليه بحُرمة، فقال له: وما حُرمتك؟ وْقال له: كنتَ تكتب من مِحبرتي عند الأعمش، فوثب وكيع ودخل منزله، تم أخرج له بضعة دنانير، وقال له: أعذُر فما أملك غيرها.
الأقلام
أهدى ابنً الحَرون إلى رجل من إخوانه من الكُتّاب أقلاماً وكتب إليه: إنه لما كانت الكتابة، أبقاك اللّه، أعظمَ الأمور، وقِوامَ الخلافة، وعمودَ المملكة، خصصتُك من آلتها بما يَخف مَحْمله، وتَثْقل قيمته، ويَعْظُم نَفْعه، ويجل خَطَره، وهي أقلام من القَصب النابت في الصُحْر، الذي نَشِف في حَر الهجير ماؤه، وسَتره من تلويحه غشاؤه، فهي كاللالىء المَكْنونة في الصَدف، والأنوار المَحجوب في السُّدَف، تِبْريَّة القُشور، دُرّية الظّهور، فِضِّية الكًسور، قد كستها الطبيعة جواهرَ كالوَشيْ المُحبَر، وفِرِندِ الدّيباج المُنيَر.
قولهم في الصحف
نعم الأنيسُ إذا خلوتَ كتابُ ... تَلْهو به إنْ مَلّك الأحباب!
لا مُفْشِياً سرًّا إذا استودعتَه ... وتُفاد منه حِكْمَةٌ وصَواب
وقال آخر:
ولكُل صاحبِ لذةٍ متنزه ... أبداً ونُزْهة عالم في كُتْبِهِ
وقال حبيب
مدادٌ مثلُ خافيةِ الغراب ... وقِرطاس كرَقْراق السَّرابِ
وألفاط كألفاظ المَثاني ... وخط مثلُ وَشم يد الكَعاب
كتبتُ ولو قدرت هَوًى وشَوْقاً ... إليك لكنتُ سطراً في الكتاب
وقال في صحيفة جاءته من عند الحسن بن وَهْب:
لقد جَلى كتابك كلَّ بَثٍّ ... جَوٍ وأصاب شاكلَة الرًمِيِّ
فضضتُ ختامَه فتبلَّجتْ لي ... غرائبُه عن الخَبر الجَليّ
وكان أغضَّ في عيني وأندَى ... على كبدي من الزَّهر الجنَيّ
وأحسنَ موقعاً مِنّي وعندي ... من البُشرى أتت بعد النعيّ
وضمَن صدرُه ما لم تِضمَن ... صدورُ الغانيات من الحُليّ
فكائن فيه من مَعنَى خطير ... وكائن فيه من لَفْظ بهي

فيا ثَلَج الفًؤاد وكان رَضْفاً ... ويا شِبَعي بروْنقه وريِّي
فكم أفصحتَ عن برٍّ جليل ... به ووأيتَ من وَأْيٍ سَني
كتبتَ به بلا لَفْظ كريهٍ ... على أذن ولا خَط قَمِيّ
رسالةَ من تمتّع منذ حين ... ومَتعنا من الأدب الرَّضيّ
لئن غربتها في الأرض بِكراً ... لقد زُفت إلى قلب وفيّ
وإنْ يكُ من هَداياك الصَفايا ... فربّ هديةٍ لك كالهَديّ
وقال ابن أبي طاهر في ابن ثوابة:
في كل يَوم صدورُ الكُتْب صادرةُ ... من رأيه وندَى كَفَيه عن مثُل
عن خطّ أقلامه خَطٌ القَضاءُ على ال ... أعداء بالموت بين البِيض والأسَل
لُعابها عِلَلٌ في الصَّدر تَنفثه ... وِربما كان فيه النَفع للعِلَل
كأنّ أسطارَها في بَطْن مُهْرَقِها ... نوْر يُضاحك دمعَ الواكف الخَضِل
وقال البحتري في محمد بن عبد الملك الزيات:
قد تصرفتَ في الكتابة حتى ... عَطل الناسُ فنَ عبد الحَميدْ
في نظام من البلاغة ما شكّ ... امرؤ أنَه نظامٌ فريد
وبَديع كأنه الزًهَر الضا ... حك في رَوْنق الرَّبيع الجديد
ما أعيرت منه بُطون القراطي ... س وما حُمِّلت ظُهورُ البريد
حُجج تُخرِس الألدَّ بألفا ... ظٍ فُرادى كالْجَوْهر المَعْدود
حُزْنَ مُستعمل الكلام اختيارا ... وتَجنَّبن ظُلْمة التعقيد
كالعَذارى غَدَوْن في الحُلل البي ... ض إذا رُحْن في الخُطوط السُّود
وقال عليّ بن الجهم في رقعة جاءتْه بخطّ جيّد:
ما رُقعة جاءتك مَثْنيّةً ... كأنها خدًّ على خَدِّ
نَثْر سواد في بياضٍ كما ... ذرّ فتيت المِسْك في الوَرْد
ساهمةُ الأسْطُر مصروفة ... عن جهة الهَزْل إلى الجدّ
يا كاتباً أسلمني عَتْبُه ... إليكَ حَسْبي منك ما عندي
وقال محمد بن إبراهيم بن محمد الشيباني: رفع أبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى الفضل بن يحيى بن خالد رقعة بأبيات له يصف فيها قامته، وكَثافة لحيته، وحلاوة شمائله، وبراعة أدبه، وبلاغة قلمه، فقال:
أنا من بُغيةِ الأمير وكَنْزٌ ... من كُنوز الأمير ذو أرباح
كاتبٌ حاسبٌ أديبٌ لبيبٌ ... ناصحٌ زائد على النُّصاح
شاعرٌ مُفلق أخفّ من الري ... شة مما تكون تحت الجناح
ليَ في النَّحو فِطنةٌ ونَفاذ ... أنا فيه قِلادة بوِشَاح
لو رَمى بي الأميرُ أصلحه الله ... رِماحاً صدمتُ حدَّ الرماح
ثم أروَى من ابن سيرين في الفِق ... ه بقول مُنوّر الإفصاح
لستُ بالضَخم في رُوائي ولا الفَدْ ... م ولا بالمُجعد الدَّحْداح
لحية كَثّة وأنص طويل ... واتقاد كشعلة المصباح
وكثير الحديث من مُلح النا ... س بصير بخافياتٍ مِلاَح
كم وكم قد خبأتُ عندي حديثاً ... هو عند الأمير كالتّفاح
أيمنُ الناس طائراً يومَ صَيْدٍ ... في غُدوٍّ أو بُكرة أو رَواح
أعلم الناس بالْجَوارح والصي ... د وبالخُرّد الحِسانِ المِلاح
كلُ هذا جمعتُ والحمد لل ... ه على أنني ظريفُ المِزاح
لستُ بالناسكِ المُشمِّرِ ثوبَي ... ه ولا الفاتِك الخليع الوَقاح
لو دعاني الأميرُ عاين منّي ... شَمَّريًّا كالبلبل الصدّاح
قال: فدعاه. فلما دخل عليه أتاه كتاب من إرْمِينيَة فرمى به إليه وقال له: أجِبْ. فأجاب بما في غرضه وأحسن. فأمر له بألف ألف درهم، وكنا نراه أول داخل وآخر خارج، وكان إذا ركب فركابه مع ركابه. قال محمد بن يزيد: فبلغ هذا الشعر أبا نواس فقال:
أنت أولى بقِلّة الحظّ منّي ... يا مُسمَّى بالبُلبل الصدّاح

قِبُلوا منه حين عزَّ لديهم ... أخرسَ القَول غير ذي إفصاح
ثم بالريش شبه النَّفس في الخِف ... ه مما يكون تحت الجناح
إذا الشم من شماريخِ رَضْوى ... خِفّة عنده نوى المِسْباح
لم يكُن فيك غيرُ شيئين مما ... قلتَ في نَعت خَلْقك الدَّحْداح
ِلحْية جَعْدة وأنفٌ طويلٌ ... وسِوَى ذاك ذاهبٌ في الرِّياح
فيك ما يحمل الملوك على السخ ... فِ ويُزْرِي بالماجد الجَحْجاح
بارِد الطرف مُظلم اللُب تيا ... ه مُعيد الحديث سَمْج المِزاح
قال: فبعث إليه أبان بأن لا تُذيعها وخُذ الألفَ ألفِ دِرهم. فبعث إليه أبو نُواس: لو أعطيتَني مائةَ ألفِ ألفِ دِرْهم لم أجد بدُّا من إذاعتها. فيقال: إنً الفضل بن يحيى لما سمع شعرَ أبي نُواس قال: لا حاجةَ لي في أبان، لقد رُمي بخَمس في بيتٍ لا يقبل على واحدة منهن إلا جاهل، فقيل له: كذب عليه. فقال: قد قبل ذلك، فأقصاه. وإنما أغرى أبا نُواس بهذا الكاتب أبانِ بن عبد الحميد اللاحقي أن الفضل بن يحيى أعطاه مالًا يُفرقه في الشعراء ويُعطى كل واحدٍ على قَدْره، فبعث إلى أبي نواس بدِرْهم زائف ناقص، وقال: إني أعطيتُ كل شاعر على مقدار شعره، وكان هذا أوفرَ نصيبك عندي. فهجاه لذلك.

توقيعات الخلفاء
عمر بن الخطاب
رضي اللّه عنه
كتب إليه سعدُ بن أبي وقّاص في بُنيان يَبنيه، فوقَع في أسفل كتابه: ابن ما يُكِنَّك من الهواجر وأَذى المَطر. ووقَع إلى عمرو بن العاص: كُن لرعيَّتك كما تُحب أن يكونَ لك أميرُك.
عثمان بن عفان
رضي اللّه عنه
وقع في قِصَّة قوم تظلّموا من مَروان بنِ الحَكَم وذكروا أنَه أمر بوَجْءِ أعناقهم: فإنْ عَصوْك فقُل إنّي بريء مما تَعملون. ووقع في قصَّة رجل شكا عَيْلةً: قد أَمرنا لك بما يُقيمك، وليس من مال اللّه فَضْل للمُسرف.
علي بن أبي طالب
كرم اللّه وجهه
وقَّع إلى طلحة بن عُبيد اللّه: في بيته يُؤتىَ الحَكَم. ووقِّع في كتاب جاءه من الحسن بن عليّ رضي اللهّ عنهما: رأْيُ الشَّيخ خير من مَشهد الغلام. ووقَّع في كتاب لسَلْمان الفارسيّ، وكان سأله كيف يُحاسَب الناسُ يوم القيامة: يًحاسَبون كما يُرْزَقون. ووقَّع في كتاب الحُصين بن المُنذر إله يذكر أنّ السيف قد أكثر في ربيعة: بقيّة السِّيف أنمى عددا. وفي كتاب جاءه من الأشتر النَّخَعي فيه بعضً ما يَكره: مَن لك بأخيك كله؟ وفي كتاب صَعصعة ابن صَوْحان يسأله في شيء: قيمةُ كلّ امرىء ما يُحسن.
معاوية بن أبي سفيان
كتب إليه عبدُ اللّه بن عامر في أمر عاتَبه فيه، فوقَع في أسفل كتابه: بَيتُ أميَّة في الجاهليّة أشرف من بيت حَبيب. فأما في الإسلام، فأنت تراه. وفي كتاب عبد اللّه بن عامر يسأله أنْ يُقطعه مالاً بالطائف: عِشْ رَجَباً تَرى عجبا: وفي كتاب زياد يُخبره بطَعن عبد اللّه بن عبَّاس في خلافته: إنّ أبا سفيان وأبا الفضل كانا في الجاهليَّة في مِسْلاخ واحد، وذلك حِلْف لا يَحُلّه سُوءُ أدبك. وكتب إليه ربيعةُ بن عِسْل اليَربوعيّ يسأله أن يُعينه في بناء داره بالبَصرة باثنى عشر ألف جِذع: أدارُك في البَصرة أم البَصرةُ في دارك؟
يزيد بن معاوية
وقَّع في كتاب عبد اللّه بن جعفر إليه يستميحه لرجال من خاصَّته: احكُم لهم بآمالهم إلى منتهى آجالهم. فحَكم بتسعمائة ألف، فأجازها. وكتب إليه مُسلم ابن عُقبة المُرِّي بالذي صَنع أهلُ الحرة، فوقع في أسفل كتابه: فلا تَأْس على القوم الفاسقين. وفي كتاب مُسلم بن زياد عامله على خُراسان وقد استبطأه في الخراج: قليلُ العِتاب يُحْكم مَرائر الأسباب، وكثيرُه يَقطع أواخي الإنتساب. ووقَّع إلى عبد الرحمن بن زياد، وهو عامله على خُراسان: القرابة واشجة، والأفعال مُتباينة، فخُذ لرَحمك مِن فِعلك. وإلى عُبيد اللّه بن زياد: أنت أحدُ أعضاء ابن عمّك فأحرص أن تكون كُلَّها.
عبد الملك بن مروان
وقَّع في كتاب أتاه من الحجّاج: جَنَبني دماء بني عبد المُطلب، فليس فيها شفاء

من الطَّلب. وكتب إليه الحجاج يخبره بسوء طاعة أهل العراق وما يُقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم، فوقّع له: إنّ من يُمن السائس أنْ يتألّف به المختلفون، ومن شُؤمه أن يَختلف به المُؤتلفون. وفي كتاب الحجاج يُخبره بقوّة ابن الأشعث: بضَعْفك قَوي، وبخُرقك طَلع. ووقَّع في كتاب ابن الأشعث:
فما بالُ مَن أسعى لأجْبُرَ عَظْمه ... حِفاظاً ويَنْوي مِن سفاهته كَسْرِي؟
ووقع أيضاً في كتاب:
كيف يرْجون سِقاطي بعدما ... شَمل الرأْسَ مَشيبٌ وصَلَعْ؟

الوليد بن عبد الملك
كتب إليه الحجاج لا بلغه أنه خَرق فيما خَلّف له عبد الملك، يُنكر ذلك عليه ويُعرِّفه أنه على، غير صواب، فوقَّع في كتابه: لأجمعن المال جَمْع مَن يعيش أبداً، ولا فرقنَّه تفريق مَن يموت غدا. ووقع إلى عمر بن عبد العزيز: قد رَأب الله بك الداء، وأوْذم بك السقاء.
سليمان بن عبد الملك
كتب قتيبة بن مُسلم إلى سليمان يتهدده بالخَلع، فوقَع في كتابه:
زَعم الفرزدقُ أنْ سيَقْتل مَرْبَعِا ... أبشِرْ بطُول سلامةٍ يا مَرْبَعُ
ووقّع في كتابه أيضاً: العاقبةُ للمتقين. وإلى قُتيبة أيضاً جوابَ وَعيده: وإنْ تَصْبروا وتتّقوا لا يَضُرُّكم كيدُهم شيئاً.
عمر بن عبد العزيز
كتب بعض العُمال إليه يستأذنه في مرمّة مَدينته، فوقَّع أسفلَ كتابه: ابنها بالعَدْل، ونَقِّ طُرقها من الظلم. وإلى بعض عُمَّاله في مِثل ذلك: حَصَنها ونَفْسك بتَقْوى اللهّ. وإلى رجل ولّاه الصَّدقات، وكان دميما، فعدل وأحسن: ولا أقولُ للذين تَزْدَري أعيُنكم لن يُؤْتِيَهم اللهّ خيراً. وكتب إليه صاحبُ العراق يُخبره عن سُوء طاعة أهلها، فوقَّع له: ارْضَ لهم ما تَرْضى لنفسك، وخُذهم بجرائمهمٍ بعد ذلك. وإلى عديّ بن أرطاة في أمر عاتَبه عليه: إنّ آخر آية أنزلت: " وأتَّقُوا يَوْما تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله " . وإلى عامله على الكوفة، وكتب إليه أنَّه فَعل في أمر كما فعل عمر بن الخطَّاب: أولئك الذينِ هَدَى اللّه فبهداهم اقتدِ. وإلى الوليد بن عبد الملك، وعمر عامله على المدينة، فوقع في كتابه: اللّه أعلم أنك لستَ، أوّل خليفة تموت. وأتاه كتاب عديّ يُخبره بسوء طاعة أهل الكُوفة، فوقع في كتابه: لا تَطلب طاعة مَن خَذل عليّا، وكان إمامًا مَرْضيّا. وإلى عامله بالمدينة، وسأله أن يُعطيه موضعاً يَبْنيه، فوقَّع: كُنْ من الموت على حذر وفي قصه متظلم: العدل إمامك:وفي رقعه محبوس: تب تطلق، وفي رقعت رجل قتل: كتاب الله بيني وبينك،وفي رقعه متنصح: لو ذكرت الموت شغلك عن نصيحتك وفي رقعته رجل شكا أهل بيته: أنتما في الحق سيان. وفي رقعه امرأة حبس زوجها: الحق َحبسه. وفي رُقعة رجل تظلّم من ابنه: إن لم أنصفك منه فأنا ظلمتك
يزيد بن عبد الملك
وقَع إلى صاحب خراسان: لا يَغرنّك حُسن رأي فإنما تفسده عثرة وإلى صاحب المدينة عثر فاستقل وفي قصة متظلم شكا بعض أهل بيته: ما كان عليك لو صفحت عنه واستوصلتني
هشام بن عبد الملك
في قصه متظلم: أتاك الغوث إن كنت صادقاً وحل بك النكال إن كنت كاذباً فتقدم أو تأخرً. في قصه قوم متظلم شكوا أميرهم: إن صح ما أدعيتم عليه عزلناه وعاقبناه. وإلى صاحب خراسان حين أمره بمحاربة الترك: أحذر ليالي البيات. وإلى صاحب المدينة وكتب يخبره بوثوب أبناء الأنصار: احفظ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَبْهم له ووقَّع في رُقعة محبوس لَزِمه الحد: نزل بحدك الكتاب. ووقع في قصة رجل شكا إليه الحاجةَ وكَثرة العِيال وذَكر أنَ له حُرمة: لعِيالك في بيت مال المسلمين سهم، ولك بحرمتك مِنَّا مثلاه، وإلى عامله على العراق في أمر الخوارج: ضَع سَيفك في كلاب النّار، وتقرب إلى اللّه بقَتل الكفار. وإلى جماعة يشكون تعدي عاملهم عليهم لنفوّضكم دونكم. وفي كتاب عامله يُخوه قيه بقلة الأمطار في بلده: مرهم بالاستغفار وإلى لسَهل ابن سَيَار: خَف اللهَ وإمامك فإنه يأخذه عند أول زلهّ
يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
وقَع إلى مروان: أراك تقدّم وِجْلاً وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت. وإلى صاحب خُراسان في المُسودة: نَجم أمرٌ أنت عنه نائم، وما أراك منه أو مني سالم.

مروان بن محمد
كتب إلى نَصر بن سيّار في أمر أبي مسلم: تحوّل الظاهر يدلّ على ضعف الباطن، واللّه المُستعان. ووقّع إلى ابن هُبيرة أمير خُراسان: الأمر مُضطَرب، وأنت نائم وأنا ساهر. وإلى حوثرة بن سُهيل حين وجَّهه إلى قَحْطبة: كُن من بَيات المارقة على حَذر. ووقَّع حين أتاه غرق قَحْطبة وانهزام ابن هُبيرة: هذا والله الإدبار، وإلا فمن رأى مَيْتا هَزم حيّا. وفي جواب أبيات نصر بن سيّار إذ كتب إليه:
أرى خَلَلَ الرَّماد وَمِيضَ جَمْرٍ ... ويُوشك أن يكونَ له ضِرَامُ
الحاضر يَرى ما لا يَرى الغائب، فاحسم الثّؤْلول. فكتب نصر: الثُّؤْلول قد اْمتدت أغصانه، وعظُمت نِكايته. فوقَع إليه: يداك أوكَتَا وفُوكَ نَفَخ.
توقيعات بني العباس
السفاح كتب إليه جماعه من أهل الأنبار يذكرون أنّ منازلهم أخذت منهم وأدخلت في البناء الذي أمر به ولم يُعطوا أثمانها، فوقع: هذا بناء أسس على غير تَقْوى، ثم أَمر بدَفع قيم منازلهم إليهم. ووقّع في كتاب أبي جَعفر وهو يحارب ابن هبيرة بعد أن أرجعه فيه غير مرة: لست منك ولستَ منَي إن لم تقتله. وجاءه كتاب من أبي مُسلم يستأذنه في الحجّ وفي زيارته، فوقّع إليه: لا أَحول بينك وبين زيارة بيت اللّه الحرام أو خَليفته، وإذنك لك. ووقّع في كتاب جماعة من بطانته يشكون احتّباس أرزاقهم: مَن صَبَر في الشدّة شارك في النّعمة؛ ثم أَمر بأرزاقهم. وإلى عامل تُظلّم منه: وما كنتُ متّخذَ المضلّين عَضُداً. وفي قومٍ شَكَوا غرق ضياعهم في ناحية الكوفة: وقيل بُعْداً للقَوم الظالمين.
أبو جعفر وقِّع في كتابه إلى عبد الله بن عليّ عمَه: لا تَجعل للأيام وفي وفيك نصيباً من حوادثها. ووقّع إليه أيضاً: ادْفَع بالّتي هي أَحسن إلى قوله: وما يلقاه إلا ذُو حَظ عظيم. فاجعل الحظّ لي دونك يكن لك كله. ووقّع إلى عبد الحميد صاحب خُراسان: شكوتَ فأشْكيناك، وعتبتَ فأعْتبناك؛ ثم خرجتَ عن العامة، فتأهّب لفراق السلامة. وإلى أهل الكوفة، وشَكَوْا عاملَهم: كما تكونون يُؤمر عليكم. وإلى قوم تظلّموا من عاملهم: لا ينال عهدي الظالمين. وفي قصَّة رجل شكا عَيْلة: سَل اللّه مِن رِزْقه. وفي قصَة رجل سأله أن يَبني بقربه مسجداً فإنّ مُصلّاه على بُعد: ذلك أعظم لثوابك. وفي قصَّة رجل قُطعت عنه أرزاقهُ: " ما يَفتَح اللّه للنّاس مِن رَحْمة فلا ممْسِك لها " الآية. وفي قصّة رجل شكا الدين: إن كان دَيْنك في مَرضاة اللّه قَضاه. وإلى صارورةٍ سأله أنْ يَحًج: " للّه عَلَى النَّاس حِجُّ البَيْتِ مَن استطاع إليه سَبيلاً " . وإلى صاحب مصر حين كتب يذكر نُقصان النِّيل: طَهِّر عسكرك من الفساد يُعْطك النِّيلُ القِياد. وإلى عامله على حِمْص، وجاءه منه كتابٌ فيه خطأ: استبدل بكاتبك وإلا استُبدل بك. وإلى صاحب أرمينية: إنّ لي في قَفاك عيناً، وبين عَيْنيك عينا، ولهما أربع آذان. وإلى رجل استوصله: لا مانعَ لما أعطاه الله. وفي كتاب أتاه من صاحب الهِند يُخبره أنّ جُنْداً شَغِبوا عليه وكَسروا أقفال بيت المال فأخذوا أرزاقهم منه: لو عدلتَ لم يَشْغبوا، ولو وفيت لم يَنهبوا.
المهدي وقّع في قصّة متظلّمين شكَوْا بعض عُمّاله: لو كان عيسى عاملَكم قُدناه إلى الحق كما يُقاد الجمل المَخشوش - يريد عيسى ولدَه. ووقّع إلى صاحب إرمينية، وكتب إليه يشكو سًوء طاعة رعاياه: خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرْفِ وأعْرض عن الجاهلين. وإلى صاحب خُراسان في أمر جاءه: أنا ساهر وأنت نائم. وفي قصة قوم أصابهم قَحْط: يُقدّر لهم قُوت سنةَ القَحط والسَّنة التي تليها. وإلى شاعر، أظنه مروان بن أبي حفصة: أسرفتَ في مديحك فقَصرنا في حِبائك. وفي قصة رجل من الغارمين: خُذ من بيت مال المسلمين ما تَقْضي به دينَك، وتُقرُّ به عَينَك. وفي قصّة رجل شكا الحاجة: أتاك الغوثً. وإلى رجل مِن بطانته استوصله: ليت إسراعَنا إليك يقوم بإبطائنا عنك. وفي قصة قوم تظلَموا من عاملهم وسألوه إشخاصه إلى بابه: قد أنصف القارةَ مَن راماها. وفي قصّة رجل حُبس في دم: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب. وإلى صاحب خُراسان، وكتب إليه يخبِره بغلاء الأسعار: خُذْهم بالعدل في المِكيال والميزان. وإلى يوسف البَرَم حين خرج بخراسان: لك أماني ومُؤكَّد أيمانِي.

موسى الهادي كتب إلى الحسن بن قَحطبة في أَمر راجعه فيه: قد أنكرناك منذُ لزمتَ أبا حنيفة، كفاناه اللّه. وإلى صاحب إفريقية في أمر فَرط منه: يا بن اللًخناء، أنيَّ تَتمرَّس.
هارون الرشيد وقَّع إلى صاحب خراسان: داوِ جرْحك لا يَتّسع. وإلى عامله على مصر: احذر أنْ تُخرِّب خِزانتي وخِزانة أخي يوسف، فيأتيَك منّي ما لا قِبَل لك به، ومن اللّه أكثر منه. وقيع في قصة رجل من، البرامكة: أنبتَتْه الطاعةُ وحَصدته المعصية وإلى عامله على فارس: كن منّي على مِثل ليلة البَيات. والى عامل خراسان: إنّ المُلوك يُؤْثَر عنهم الحَزْم. وإلى خزيمة بن خازم، إذ كتب إليه أنه وضع فيهم، السيفَ حين دخل أرض أرمينية: لا أم لك! تقتل بالذَنب مَن لا ذَنب له. وفي قصَّة محبوس: مَن لجأ إلى اللّه نجا. وفي قصة متظلم: لا يُجاوَز بك العدل، لا يُقصرَّ بك دون الإنصاف. وإلى صاحب السِّند، إذ ظهرت العصبية؛ كل من دعا إلى الجاهلية، تَعجلَيَ إلى المنية. وإلى عامله على خراسان: كُل من رفعِ رأسه فأنزله عن بدنه وفي رُقعة متظلّم من عامله على الأهواز، وكان بالمتظلم عارفاً؛ قد وليناك موضعه فتنكَّب سيرته. وفي كتاب بكّار الزًّبيريّ وفي كتاب بكّر الزبيري إليه يخبره بسّر من أسرار الطالبين: جزى اللهّ الفضلَ خيرَ الجزاء فاختياره إياك، وقد أثابك أمير المؤمنين مائة ألف بحسن نيِّتك. وإلى محفوظ صاحب خراج مِصر: يا محفوظ، اجعل خَرج مصر خرجاً وأحداً وأنت أنت. وإلى صاحب المدينة. ضع رجليك على رقاب أهل هذا البَطن، فإنهمِ قد أطالوا ليلي بالسُّهاد، ونَفوا عن عيني لذيذَ الرقاد. ووقِّع إلى السِّنْديِّ بن شاهك: خفِ اللّه وإمامَك فهما نجاتُك. وإلى سُليمان بن أبي جعفر في كتاب وَرد عليه منه يذكر فيه وُثوب أهل دِمشق. استحييتُ لشيخٍ وَلده المَنصور أن يَهْرُب عمّن وَلَدته كِنَدة وطيء، فهلا قابلتهِم بوجهك، وأبديتَ لهم صَفحتك، وكنتَ كمروان ابن عمك إذ خرج مُصلتاً سيفه متمثلًا ببيت الجحّاف بن حُكيم:
مُتقلِّدين صَفائحاً هِنْديةً ... يَتْركن مَن ضربوا كمن لم يولد
فجلَد به حتى قُتل، للّه أم ولدته، وأبٌ انهضه! وكتب متملكُ الروم إلى هارون الرشيد: إني متوجّه نحوك بكل صليب في مملكتي، وكُل بَطل في جندي فوقع في كتابه: سيَعلم الكافر لمن عُقْبى الدَّار. وكتب إليه يحيى بن خالد من الحبس حين أحسَّ بالموت: قد تقدَّم الخَصم! إلى موقف الفَصل، وأنت بالأثر؛ واللهّ الحكم العادل، وستُقدَم فَتعلم، فوقّع فيه الرشيد: الحَكَم الذي رَضيتَه في الآخرًة لك هو الذي أعدى الخَصم في الدنيا عليك، وهو مَن لا يُرد حُكمه، ولا يُصرف قضاؤه.
المأمون وقّع إلى علي بن هشام في أَمر تظلَّم فيه منه: مِن علامة الشَّريف أن يَظلم مَن فوقه ويَظلمه مَن دونه، فأيّ الرجلين أنت؟ وإلى هشام: لا أدْنيك ولك ببابي خَصم. وإلى الرُّستمي في قصة من تظلّم منه: ليس من المروءة أن تكون آنيتُك من ذهب وفضّة، وغريمُك خاوٍ، وجارك طاو. وفي قَصّة متظلم من عمرو بن مسعدة: يا عمرو، اعمر نِعْمَتك بالعدل، فإنّ الجَور يَهْدمها. وفي قصة متظلِّم من أبي عيّاد: يا ثابت، ليس بين الحق والباطل قرابة. وفي قصة متظلم من أبي عيسى أخيه: فإذا نُفخ في الصُور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون. وفي قصة متظلّم من حُميد الطوسيّ: يا أبا غانم، لا تَغترَّ بموضعك من إمامك، فإنك وأخسُّ عَبيده في الحق سيِّان. وإلى طاهر صاحب خراسان: أحمد اللهّ أبا الطيّب إذا أحلّك من خليفته محل نفسه، فما لك مَوضع تسمو إليه نفسُك إلا وأنت فوقه عنده. وفي كتاب بِشْر بن داود: هذا أمان عاقدتُ اللّه عليه، في مُناجاتي إياه. وفي كتاب إبراهيم بن جعفر في فَدَك حين أمره بردّها: قد أرضيتَ خليفة الله في فَدك كما أرضى اللهّ رسولَه فيها. وفي قصة متظلّم من محمد بن الفَضل الطُّوسي: قد احتملنا بَذاءك وشَكاسة خُلقك، فأمَّا ظُلمك للرعيّة فإنا لا نَحتمله. ووقّع إلى بعض عمّاله: طالعْ كل ناحية من نواحيك، وقاصية من أقاصيك، بما فيه استصلاحُها. وكتب إليه إبراهيم بن المهديّ في كلام له: إن غَفرت فبفَضلك، وإن أخذت فبحقّك. فوقع

في كتابه: القُدرة تُذهب الحَفيظة، والنَّدم جُزء من التوبة، وبينهما عفوُ الله. ووقع في رُقعة مولى طلب كُسوة: لو أردت الكُسوة للزمتَ الخدمة، ولكنك آثرت الرُّقاد فحظك الرًّؤيا. ووقع في يوم عاشوراء لبعض أصحابه، وقد وافته الأموال: يُؤمر له بخمسمائة ألف لطول هِمّته. ولثُمامة بن أشرس بثلثمائة ألف لتركة ما لا يَعنيه. ولأبي محمد اليَزيدي: يُؤمر له بخمسمائة ألف لكِبَره. وللمعلَّى بخمسمائة ألف لصحيح نيّته. ولإسحاق بن إبراهيم بخمسمائة ألفٍ لِصدْق لَهجته. وللعبّاس بخمسمائة ألف لفصاحة مَنطقه. ولأحمد بن أبي خالد بأَلف ألف لمُخالفة شهوته. ولإبراهيم بن بُويه كذلك لسرعة دَمعته. وللمريسي بثلثمائة ألف لإسباغ وَضوئه. ولعبد اللهّ بن بِشْر بمثلها لحُسن وجهه.

توقيعات الأمراء والكبراء
زياد وقّع إلى بعض عمّاله
قد كنتَ على الدُّعّار، وأخالك داعراً. وكتبتْ إليه عائشةُ في وَصاة برجلِ، فوقَّع في كتابها: هو بَينْ أبويه. وإلى صاحب خُراسان في أمرِ خالفه فيه: اشتَر بعض دينك ببعض وإلّا ذهب كله. وإلى عامله بالكوفة: أمط الحُدَود عن ذوي المُروآت. وفي قصة متظلّم: أنا معك. وفي قصة قوم رفعوا على عامل رفيعةً، مَن أماله الباطل قَوَّمه الحق. وفي قصة مُستمنح: لك المُواساة. وإلى عامله في خوارج خرجوا بالبصرة: النِّساء تُحاربهم دونك. وفي قصة سارق: القَطْع جزاؤك. وفي قصة امرأة حُبس زوجُها: حُكْمه إلى اللّه. وفي قصة قوم نَقبوا: تُنْقب ظُهورهِمِ. وفي قصة نبّاش: يُدفن حيًّا في قبره. وفي قصة متظلّم. الحق يَسعك. وفي قصة مًتنصِّح: مهلاً فقد أبلغتَ إسماعي وفي قصة متظلّم: كُفِيت. وفي قصة رجل شكا إليه عُقوق ابنه: ربما كان عُقوق الولد من سُوء تأديب الوالد. وقي قصة رجل شكا الحاجة: لك في مال اللّه نَصيب أنت آخذه. وفي قصة رجل جارح: الُجْروح قصاص. وفي قصّة محبوس: التائب من الذَّنب كمن لا ذنبَ له. وفي قصة قوم شكوا غَرق ضِياعهم: لا نَعوض فيما تفرد اللهّ به. وفي قصة قوم اشتكوا اجتياح الجراد لزروعهم: لا حُكم فيما استأثر اللّه به.
الحجاج بن يوسف
وقَّع في كتاب أتاه من قُتيبة بن مُسلم يشكو كَثرة الجراد وذَهاب الغَلات وما حل بالناس من القَحط: إذا أزف خراجُك فانظر لرعيّتك في مصالحها، فبيتُ المال أشدّ اضطلاعاً بذلك من الأرْمَلة واليتيم وذي العَيْلة. وفي كتاب قُتيبة إليه أنه على عُبور النَّهر ومُحاربة الترك: لا تُخاطر بالمُسلمين حتى تعرفَ موضعَ قدمك، ومَرمى سهامك. وفي كتاب صاحب الكوفة يُخبره بسوء طاعتهم وما يقاسي من مُداراتهم: ما ظَنَّك بقوم قَتلوا مَن كانوا يَعْبدونه. وفي قصة مَحبوس ذكروا أنه تاب: ما على المُحسنين من سبيل. وإلى قُتيبة: خُذ عسكرك بتلاوة القرآن، فإنه أمنع من حُصونك. وفي كتابه إلى بعض عُماله: إيّاك والملاهيَ حتى تستنظف خراجَك. وفي كتابه إلى ابن أخيه: ما رَكِب يهوديٌّ قبلكَ مِنْبراً. وفي كتابه إلى يزيد بن أبي مُسلم: أنت أبو عبيدة هذا القَرْن.
أبو مسلم
وقّع يا كتاب سليمان بن كَثير الخُزاعيّ: لِكل نَبأ مُسْتقر وسَوْف تَعْلَمون. وإلى أبي العبّاس في يزيد بن عمر بن هُبيرة: قَلّ طريق سَهل تُلقى فيه الحجارة إلا عاد وَعْراً، واللّه لا يَصْلًح طريقٌ فيه ابن هبيرة أبداً. وإلى ابن قحطبة: لا تَنْسَ نَصيبك من الدنيا. وإليه: ادع إلى سبيل ربّك بالحِكمة والمَوعظة الحسنة. وإليه: لا تَركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار. وإلى محمد بن صُول، وكتب إليه بسلامة أطرافه: وأمّا بنعمة ربّك فحدِّث. وكتب إليه قَحطبة: إِن بعض قُوّاده خَرج إلى عسكر ابن ضُبارة راغباً، فوقّع في كتابه: " ألم تَر إلى الذين بَدّلوا نِعْمة اللّه كفرا " الآية. وإلى عامله ببَلْخ: لا تُؤخّر عمل اليوم لغد. وإلى أبي سَلَمة الْخَلّال حين أنكر نيّته: وإذا لَقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلَوْا إلى شياطِينِهم قالوا إنِّا معكم.
جعفر بن يحيى

وقّع في قصّة محبوس: لكلّ أجل كتاب. وفي مِثْله: العَدْل يُوبقه، والتوبة تطلقه. وفي قصه متنصح: بعض الصدق قَبيح. وإلى بعض عُمَّاله: قد كثر شاكوك، وقَل شاكروك، فإما عدلت وإما اعتزلت. وفي قصة رجل شكا بعضَ خَدمه: خُذ بأذنه ورأسه فهو مالك وإلى عامل فارس في رجل كتب إليه بالوَصاة: كُن له كأبيه لو كان مكانك وإلى عامل مصر رجل من بطانته يُوصيه. إنه رغب إلى شعبك. فاْرغب في اصطناعه. وفي قصه متظلَم من بعض عماله: أني ظلمتك دونه وفي قصة عبوس: الجناية حسبه، والتوبة تطلقه، وإلى قوم، عين الخليفة تكلؤكم وفي رقعه صارورة استأذنه في الحج: من سافر إلى الله أنجح وفي قصه رجل شكا عزوبه: الصوم لك وجاء وفي رقعه رجل سأل ولاية: لا أولى بعض الظالمين بعضاً وفي قصه رجل سأله أن يقفل ابنه فقد طالت غَيبته عنه: غَيبة يوسف صلى الله عليه وسلم كانت أطول رجل تظلّم من بعض عُماله: أنا لمثله حتى بنصفك، وفي قصة قوم شكوا سوء جوار بعض قرابته: يرحل عنكم وفي قصه مستمنح قد كان وصله مراراً: دع الضرع يدر لغيرك كما در لك. وإلى الفضل بن الربيع، وجاءه منه كتاب غمه وأكربه: كثرة ملاحاة الرجال ربما أراقت الدماء. وإلى منصور بن زياد في أمر عاتبه فيه: لم نزرعك لنحصدك. وإلى بعض عماله اجعل وسيلتك إلينا ما يزيدك عندنا وإلى بعض ندمائه: لا تبعد عمن ضمك ووقع إلى منتصل من ذنب: حكم الفلتات خلاف حكم الإصرار.

الفضل بن سهيل
كتب إلى أخيه الحسن: أحمد اللّه يا أخي، فما يَبيتُ خليفة اللّه إلا على ذِكْرك. وإلى طاهر: لِخَيْرِ ما اتّضَعت. وإليه: لشرّ ما سموتَ. وإلى هرثمة وأشار عليه برأي: لا يُحَل مَا عَقدت. وفي قصة متظالم: كَفى بالله للمَظلوم ناصراً. ويا قصة رجل نَقب بيت المال: يدرأ عنه الحد إن كان له فيه سهم. ووقع إلى حاجبه: تَمهَّل وتَسهل. وإلى صاحب الشرطة: تَرفَّق توفق. وإلى رجل شكا غَلبة الدين. قد أَمرنا لك بثلاثين ألفاً وسنَشفعهما بمثلها ليرغب المستمنحون وفي قصه متظلم: طب نفساً فإن الله مع المظلوم وإلى رجل شكا إليه الدين: الدين سوء يَهيض الأعناق، وقد أمرنا بقضائه. وفي قصة قوم قَطعوا الطريق إنما جَزاءُ الذين يحاربون اللّه ورسوله ويَسْعون في الأرض فساداً الآية. وفي امرىء قاتل شهد عليه العدول فشفع فيه: كتاب الله أحق أن يتبع. وفي قصه رجل شهد عليه أنه شتم أبا بكر وعمر: يضرب دون الحد ويشهر ضربه.
الحسن بن سهل ذو الرياستين
وقع في قصة متظلم: ينظر فيما رفع: فإن الحق منيع، وإلا فشفاء السقيم دواء السقيم. وفي قصة قوم تظلموا من واليهم: الحق أولى بنا، والعدل بغيتنا، وإن صح ما أدعيتم عليه صرفناه وعاقبناه. وفي قصة امرأة حبس زوجها: الحق يحبسه والإنصاف يطلقه. وفي رقعة رائد قد أمرنا لك بشيء وهو دون قدرك في الأستحقاق، وفوق الكفاية مع الاقتصاد. وكتب إليه رجل من الشعراء يقول له:
رأيت في النوم إني راكب فرساً ... ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم فهم ومعرفة ... رأيت خيراً وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غداً عند الأمير تجد ... في الحلم خيراً وفي النوم التباشير
فوقع في أسفل كتابه: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وأطلق له ما التمسه. ودخل بعض الشعراء على عبد الملك بن بشر بن مروان فأنشده:
أغفيت عند الصبح نوم مسهد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت إنك رعتني بوليدةٍ ... رعبوبةٍ حسن علي قيامها
وببدرة حملت إلي وبغلة ... دهماء مُشرفة يصل لجامها
فدعوت ربي أن يثيبك جنة ... عوضاً يصيبك بردها وسلامها
ليت المنابر يا بن مروان الندى ... أضحت وأنت خطيبها وإمامها
فقال له عبد الملك بن بشر: في كُل شيء أصبتَ إلا البغلة، فإني لا أملك إلا شَهباء. فقال له: امرأتي طالق أن كنت رأيتُها إلا شهباء، إلا أنّي غَلِطت.
طاهر بن الحسين

وقَّع في كتاب رجل تظلم من أصحاب نَصْر بن شَبِيب: طلبتَ الحق في دار الباطل. وفي قصة رجل طلب قَبالة بعض أعماله: القَبالة مفتاح الفساد، ولو كانت صلاحاً ما كنتَ لها موضعاً. وإلى السندي بن شاهك، وجاءه منه كتاب يستعطفه وفيه: عِشْ ما لم أرك. وإلى خُزيمة بن خازم: الأعمال بخواتيمها، والصَّنيعة باستدامتها، وإلى الغاية ما جرى الجواد، فحُمد السابق، وذُمَ الساقط. وإلى العباس بن موسى الهادي واْستبطأه قي خراج ناحيته:
وليس أخو الحاجات مَن بات نائماً ... ولكنْ أخوها مَن يبيت على رَحْل
وفي رُقعة مُتنصّح: سننظر أصدقتَ أم كُنت من الكاذبين. وفي قصة محبوس: يُطلق وُيعتق. وفي رقعة مُستوصل: يُقام أوَده. وكتب أبو جعفر إلى عمرو بن عُبيد: أبا عثمان، أعِنّي بأصحابك، فإنهم أهلُ العدل، وأصحابُ الصادق، والمُؤثرون له فوقَّع في كتابه: ارفع علمَ الحق يَتْبعك أهله.

توقيعات العجم
وقّع أرْدشير في أَزْمة عمّت المملكة: مِن العدل أن لا يفرح الملك ورعيتُه مَحزونون. ثم أَمر ففرَّق في الكُور جميعَ ما في بُيوت الأموال. وِرَفع رجل إلى كِسرى بن قُباذ رُقعة يُخبره فيها أنّ جماعة مِن بطانته قد فسدت نياتهم وخبُثت ضمائرهم، منهم فلان وفلان. فوقَّع في أسفل كتابه: إنما أملك ظاهرَ الأجسام لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. ووقع كسرى في رقعة مَدْح: طُوبى للممدوح إذا كان للمَور مُستحقّا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلاً. وكتب إليه مُتنصِّح: إن قوماً من بطانته اجتمعوا للمُنادمة، فعابوه وثَلموه. فوقّع: لئن كانوا نَطقوا بألسنة شتَّى لقد اجتمعت مساويهم على لسانك، فجُرْحك أرغب، وِلسانك أَكذب. ورفع إليه جماعةٌ من بطانته رُقعةً يَشكون فيها، سًوء حالهم. فوقع: ما أنصفكم من إلى الشَّكيَّة أحوَجكم؛ ثم فَرّق بينهم ما وسعهم وأغناهم. ووقع أنوشروان إلى صاحب خراجه: ما استُغزر الخراج بمثل العَدْل، ولا استُنزر بمثل الجَوْر. ووقّع في قصة رجل تَظلّم منه: لا يَنبغي للملك الظلم، ومِن عنده يُلتمس العَدل، ولا البُخلُ، ومن عنده يُتوقَع الجُود؛ ثم أمر بإحضار الرّجل وقَعد منه بين يدي المُوبَذ. ووقّع في قصّة محبوسِ: مَن ركب ما نُهي عنه حيل بينه وبين ما يَشتهي. ورَفع إليه بعضُ خَدمه رقعةَ يُخبره فيها بكثرة عِياله، وسُوء حاله، فَعرف كذبه، فوقَّع: إنّ اللهّ خَفّف ظَهرك فثقّلته، وأحسن إليك فكَفرته، فتُب إلى الله يَتُبْ عليك. ووقع في قصّة رجل سَعى إليه بباطل: باللسان احفَظ رأسَك. ووقّع في قصة رجل ذَكر أنّ بعض قرابة المَلك ظَلَمه وأخذ مالَه: لا تَصلح العامّة إلا ببَعض الحَيْف على الخاصة، فإن كنتَ صادقاً أبحتُك جميع ما يَملكه. فلم يتظلّم بعدها أحدُ من قرابته.
فصول في المودة
كتب عبدُ الرحمن بن أحمد الحَراني إلى محمد بن سهل: أعزّك الله، إنّ كل مجازاة قاصرةٌ عن حقّ السابق إلى اْفتتاح الوُدّ، وقد علمتَ أني استقبلتك من الإقبال عليك بما لم تَسْتدعه، واعتمدتُك من الرَّغبة فيك بما لم تُوله.
وفصل لأبي عليّ البَصير: قد أكّد اللّه بيننا من الودّ، ما نأمن الدهرَ على حل عَقده، ونَقض مرائره، وما يَستوي فيه ثقتنا بأنفسنا لك، وثقتنا بما عندك. وفصل له: الحالُ فيما بيننا تَحتمل الدالّة، وتُوجب الأنس والثِّقة، وبَسْطَ اللسان بالاستزادة، وأنا أمت إليك بالحُرمة المتقدِّمة، والأسباب المؤكّدة، التي تُحلّ صاحبها محلَّ خاصة الأهل والقرابة.
وفصل. لإبراهيم بن العباس: المودّة يَجمعنا حَبلها، والصناعةُ تُؤلّفنا أسبابها، وما بين ذلك من تراخٍ في لِقاء، أو تخلّف قي مُكاتبة، موضوع بيننا يجب العُذر فيه. وفصل لسعيد بن عبد الملك: أنا صَبّ إليك، سامي الطَّرف نحوك، وذِكْرك مُلْصق بلساني، واسمُك حُلْو على لَهواتي، وشخصُك ماثلٌ بين عيني، وأنت أقربُ الناس من قلبي، أخذهم بمجامع هواي.
وفصل له: لنحنُ أحقّ بابتدائك بما ابتدأتنا به من الصّلة، إلا أنك أحقًّ بالفَضل الذي سبقت إليه.
وفصل لسعيد بن حميد: إنِّي أهديت مودتي إليك رغبةً، ورَضِيتُ بالقبول منك مثوبةً، فصِرتَ بقَبولها قاضياً لحق، ومالكاً لرقّ، وصرتُ بالتسرّع إلى الهديّة، والتَّنظًّر للمَثوبة، مُرتهن اللّسان بالجزاء، واليدين بالوفاء.

وفصل له: إني صادفت منك جوهرَ نفسي، فأنا غيرُ محمود على الانقياد لك بغير زمام، لأنّ النفس يقود بعضُها بعضاً. ولمحال أبو العتاهية:
وللقَلْب على القَلْبِ ... دَليلٌ حين يَلْقاهُ
وللنّاس مِنَ النّاس ... مَقاييس وأشباه
وفصل ل: لساني رَطْب بذكرك، وقَلبي مَعْمور بمحبتك، حضرتَ أو غِبْتَ، سِرتَ أو قمتَ، كقول مَعْقل أخي أبي دُلف:
لَعمري لئن قَرت بقُرْبك أعينٌ ... لقد سَخِنت بالبَيْن منك عُيونُ
فسِرْ أو أقِمْ وَقْفٌ عليك مودّتي ... مكانُك من قلبي عليك مَصون
وفصل لإبراهيم بن المهدي: كتابي إليك كتاب مُخبر وسائل؛ فأمّا الإخبار، فعن تصرُف الخطوب بما يُوجب العُذر عنه صديقي العزي عَلَيَّ في إبطائي بالتعهّد له، وأما السؤال، فعن إمساك هذا الأخ الوَدود المَودود عن مثل ذلك؛ وإن العُذر كاشفٌ ما سَلف، مُصلح لما استؤنف.

فصول في الزيارة
كتب الحسين بن الحسن بن سَهل إلى صديق له: نحن في مأدُبة لنا تشرف على روضة تضاحك الشمسَ حُسناً، قد باتت السماء تَطلُّها، فهي شَرقة بمائها، حاليةٌ بنُوّارها، فبادر إلينا لنكون على سواء من، استمتاع بعضنا ببعض. فكتب إليه: هذه صفة لو كانت في أقاصي الأطراف لوجب انتجاعُها، وحثُّ المطيّ في ابتغائها، فكيف في موضع أنت تَسْكنه، وتَجمع إلى أنيق مَنْظره، حُسْنَ وجهِك، وطَيّب شمائلك، وأنا الجواب.
وفصل: كتب حكيم إلى حكيم: يا أخي، إن أيام العمر أقلُّ من أن تحتمل الهَجر، والسلام وفصل: كتب إسحاق بين إبراهيم الموصلي إلى أحمد بن يوسف في المَصير إليه، وعند أحمد بن يوسف إبراهيمُ بن المهدي فكتب إليه: عندي من أنا عنده، وحُجّتنا عليك إعلامُنا إياك.
وفصل: إنه مَن ظمىء شوقُه من رؤيتك، استوجب الري من زيارتك. ثم كتب تحت هذا:
سِرْ إلينا تَفْديك تَفْسي من السو ... ء فقد طال عهدنا بالتَلاقِي
واجعلنْ ذاك إن رأيتَ جوابي ... فلقد خِفْتُ سَطْوة الإشتياق
وفصل: إلى الله أشكو شِدَة الوَحشة لغَيْبتك، وفَرْط الحُزن من فِراقك، وظُلْم الأيام بَعدك، وأقول كما قال بعضُ المُحدثين.
غَضارة دنيا أظلم العيشُ بعدَها ... وعند غُروب الشمس يًعرف فَقْدُها
وفصل: الشوقُ إليك وإلى عهد أيًامنا التي حَسُنت بك، حتى كأنها أعياد، وقَصرُت بك حتى كأنها ساعات، يفوت الصفات؛ ومما يجدَده ويُكثر دواعيه تَصاقُب الدَيار، وقُرب الجوار، تَمَم الله لنا النَعمة المجددة فيك بالنّظر إلى الغُرة المُباركة، التي لا وَحشة معها ولا أنس بعدها.
وفصل: مَثُلنا - أعزك الله - في قُرب تجاورنا، وبُعد تزاورنا، ما قِيل في أهل القُبور:
هُمُ جيرة الأحياء أما مزارهم ... فدانٍ، وأما المُلتقى فَبعيد
وكل عِلّة معك مُحتملة، وكل جَفْوة مغفورة؛ للشّغف بك، والثقة بحَسن نيِّتك، وسنأخذ بقول أبي قَيس بن الأسْلت:
وُيكْرِمها جاراتُها فيزُرْنَها ... وتَغفل عن إتيانهنّ فَتُعْذَرُ
وفصل: كتب حكيم إلى حكيم: يا أخي، إن أيام القمر أقل من أن تحتمل الهجر، والسلام وفصل: كتب أحمدُ بن يوسف: لا تجوز قَطيعة الصديق، لأنها لا تَخْلو من أحد وَجْهن: إمّا ضَعف في نفس الاختيار، وإمّا مَلل. وكلاهما لا حُجة فيه.
وفصلِ: طال العهدُ بالاجتماع حتى كِدْنا نَتناكر عند الالتقاء، وقد جعلك الله للسُّرور نِظاماَ، ولأنس تَمامًا، وجَعل المَشاهد مُوحِشة إذا خَلت منك. وكتب الحسنُ بن وَهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أوجبَ العُذرَ في تراخي اللِّقاءِ ... ما توالَى مِن هذه الأنواءِ
فسلامُ الإِله أهديهِ منَي ... كلّ يوم لسيدِ الوُزراء
لستُ أدْري ماذا أقول وأشْكو ... مِن سماء تَعوقُني عن سَماء
غير أني أدعو على تِلك بالثّكُ ... ل وأدعو لهذه بالبَقاء
وقال آخر:
أزور محمداً فإذا التقينا ... تكلّمت الضمائرُ في الصّدورِ
فأرجع لم ألمه ولم يَلُمني ... وقد رضيَ الضَّمير عن الضمير
فصول في وصاة

كتب الحسنُ بن وَهب إلى مالك بن طَوْق في ابن، أبي الشَيص: كتابي إليك خططتًه بيميني، وفرّغت له ذهني، فما ظنّك بحاجة هذا موقعُها مني؟ أتراني أقبل العُذر فيها، أو أقصّر في الشكر عليها؟ وابن أبي الشّيص قد عرفته وعرفت، نسبه وصفاته، ولو كانت أيدينا تَنبسط ببره ما عدانا إلى غيرنا، فاكتفِ بهذا منا.
وفصل: كتابي إليك كتاب مَعْني بمن كُتب له، واثق بمن كُتب إليه، ولَن يَضيع بين الثقة والعناية حاملُه.
وفصل: كتب العتابي فكاد أن يُخل بالمعنى من شدة الاختصار، فكتب: حاملُ كتاب إليك أنا، فكن له أنا، والسلام.
وفصل للحسن بن سهل: فلان قد استغنى باصطناعك إياه عن تَحْريكي إياك في أمره، فإن الصنيعة حُرمة للمَصنوع إليه، ووسيلةٌ إلى مُصطنِعه، فبسَط الله يدَك بالخيرات، وجعلك من أهلها، ووَصل بك أسبابَها.
وفصل له: مُوصِّك كتابي إليك أنا، فكُن له أنا، وتأمّله بعين مُشاهدتي وخُلتي، فلسانُه أشكرُ ما آتيتَ إليه، وأذمُّ ما قصرتَ فيه.

فصول في عتاب
كتب أحمد بن يوسف: لولا حُسن الظن بك - أعزك الله - لكان في إغضائك عنّي ما يَقبضني عن الطَّلبة إليك، ولكنْ أمسك بَرمق من الرَّجاء عِلْمي برأيك في رعاية الحق، وبَسطُ يدك إلى الذي لو قبضتَها عنه لم يكن له إلا كَرمُك مُذكراً، وسُؤددك شافعا.
فصل: ما أبعد البُرءَ من مريض داؤُه في دوائه، وعلَته في حِمْيته، وأنا منك كالغاصّ بالماء لا مَساغ له. وكما قال الشاعر:
كنتُ من كُرْبتي أفر إليهم ... وهمُ كُربتي، فأين الفِرارُ؟
فصل: أنا مُنتظرٌ واحدة من اثنتين: عُتَبى تكون منك، أو عُتبِى تُغني عنك.
فصل: أما بعد فقد كنتَ لنا كلُك، فاجعل لنا بعضَك، ولا نرضى إلا بالكًل لك منا فصل: أنا ابقي على وُدك من عارض يغيره، أو عتاب يقدح فيه، وآمُلُ عائداً من حُسن رأيك يغني عن اقتضائك.
فصل: ألهمك الله من الرُشد بحَسب ما مَنحك من الفَضل. ولو أنَ كل مَن نَزع إلى الصرم قَلّدناه عِنان الهَجر لكُنا أولى بالذَنب منه، ولَكِنّا نرد عليك من نفسك، ونأخذ لها منك.
فصل: لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين: أما بعد، فقد عاقَني الشكّ في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأني بلُطف عن غير خِبرة، وأعقبتَه جفاء من غير ذنب، فاطْمَعني أولك في إخائك، وآيسني أخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء لكَشف من أمرك عن عَزيمة الرأي فيك، فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف.
وفصل: إذا جعلتَ الظنً شاهداً تُعدل شهادته، بعد أن جعلتَه حَكما يَحيف في حكومته، فأين المَوئل من جَوْرك، ولستُ أسلك طريقا من العَتب عليك، إلا سده ما أنطوى عليه من مودتك. ولا سبيل إلى شِكايتك إلا إليك، ولا استعانة إلا بك، وما أحق مَن جعلك على أمره عَوناً أن تكون له إلى النجاح سَببا. وقال الشاعر:
عجبتُ لقلبكَ كيف انقلبْ ... ومن طول ودّك، أنَّى ذهبْ؟
وأعجب من ذا وذا أنِّني ... أراك بعين الرِّضا من الغَضب
وفصل: إن مسألتي إليك حوائجي مع عَتبك عليّ لمن اللؤم، خالط إمساكي عنها في حالة ضرورة إليها مع عِلْمي بكرامك في السخط والرضا لعَجز؛ غيرَ أني أعلم أقرَب الوسائل في طلب رضاك مُساءلتك ما سَنح من الحاجة، إذ كنتَ لا تجعل عَتبك سبباً لمنع مَعْروفك.
وفصل: لو كانت الشَكوك تحتلجني في صِحّة مودًّتك، وكريم إخائك، ودَوام عهدك، لطال عَتْبي عليك في تواتر كتبي واحتباس جَواباتها عني؛ ولكنّ الثقةَ بما تقْدِّم عندي تعذرك، وتحسّن ما يُقبِّحه جفاؤك، والله يديم نعمته لك ولنا بك.
وفصل لابن المدبر: وَصل كتابُك المُفتتْح بالعِتاب الجميل، والتَّقريع اللطيف: فلولا ما غَلب عليّ من السرور بسلامتك، لتقطّعتُ غما بعتابك الذي لَطُف حتى كاد يَخفى عن أهل الرِّقة والفِطنة، وغَلُظ حتى كاد يَفهمه أهلُ الجهل والبَلَه. فلا أعْدمني الله رضاك مُجازياً على ما استحقّه عَتبك، وأتً ظالم فيه، فهو وليُّ المخرج منه. وقالت أبو الدرداء: عتابُ الأخ خير من فَقْده وقال الشاعر:
إذا ذَهب العتابُ فليس وُد ... وَيبقى الوُدُّ ما بَقِي العِتابُ
وقال آخر في هذا المعنى:
إذا كنت تَغضب من غير ذَنبٍ ... وتَعْتِبُ في كل يَوم عَليَّا

طلبتُ رِضاك فإنْ عَزَني ... عَددتُك مَيْتاً وإنْ كنتَ حيّا
فلا تَعجبنّ بما في يَديْك ... فأكثرُ منه الذي في يَديا
وفصل في عتاب: العِتابُ قبل العِقاب، فليكن إيقاعُك بعد وَعيدك، ووعيدُك بعد وَعدك.
وفصل: قَد حميتُ جانبَ الأمل فيك، وقطعتُ أسباب الرجاء منك، وقد أسلمني اليأسُ منك إلى العزاء عنك، فإن تَرْغب من الآن فصَفْح لا تثريب معه، وإن تماديتَ فهجرٌ لا وَصل بعده.

فصول في التنصل
كتب ابن مكرم: لا وعظيم أملى فيك، ما أتيت فيما بيني وبينك ذنْباً مُخطئاً ولا متعمَدًا، ولعلّ فَلتة لم ألْقِ لها بالاً فأوطىء لها اعتذارًا، وإن تكن فَنَفثُة حاسد زَخرفها على لسان واش َنبذها إليك في بعض غِرّاتك أصابت مني مَقْتلاً، وشَفت منه غليلاً.
وفصل: ليس يُزِيلني عن حُسن الظن بك فِعلٌ حَملك الأعداء عليه، ولا يَقطعني عن رجائك عَتْبُ حَدث منك عليّ، بل أرجو أن يَتقاضى كَرَمُك إنجاز وَعْدك؛ إذ كان أبلغَ الشُفعاء إليك، وأوجبَ الوَسائل لَديك.
وفصل: أنت - أعزك الله - أعلم بالعَفو والعُقوبة من أن تُجازيني بالسُّوء على ذَنب لم أجنه بيد ولا لسان، بك جَناه عليّ لسان واش. فأما قولُك إنك لا تُسَفَك سبيل العُذر، فأنت أعلم بالكَرم، وأرعى لحُقوقه، وأعرف بالشّرَف، وأحفظُ لذِماماته منِ أن تَرُدَّ يدَ مُؤمِّلك صِفْراً من عَفْوك إذا التمسه، ومن عُذرك إذا جعل فضلكَ شافعاً فيه، وذَريعة له.
وفصل لإبراهيم بن العباس: الكريم أوسع ما تكون مَغفرته، إذا ضاقت بالمُذنب معذرته.
وفصل: يا أخي،، أشكو إلى اللّه وإليك تحامل الأيام عليّ، وسُوء أثر الدهر عندي، وأنّي مُعلَّق في حبائِل من لا يعرف موضعي، ولا يَحلو عنده موقعي، أطلبُ منه الخلاص فيزيدني كُلفاً، وأرْتجي منه الحقّ فيزداد به ضَنًا، فالثَّواءُ ثواء مقيم، والنيّة نيّة ظاعن، والزَماع زَماع مُرتحل. ما أذهب إلى ناحية من الحِيلة إلا وجدتُ من دونها مانعًا من العوائق، فأحمل الذنبَ على الدهر، وارجع إلى الله بالشَّكوى وأسأله جميلَ العُقبى، وحُسن الصبر.
فصول في حسن التواصل
للمُفضل أن يَخُص بفضله مَن شاء، وله الحمد فيما أعطى. ولا حًجة عليه فيما مَنع و، كنْ كيف شئت، فإني قد أوليتك خالصةَ سريرتي، أرى ببقائك بقاءَ سرُوري، وبدوام النِّعمة عندك، دوامَها عندي.
وفصل: قد أغنى اللّه بكرمك عن الذَّريعة إليك، والاستعانة عليك، لأنّ حُسن الظن فيك، وتأميلَ نُجح الرَّغبة إليك، فوق الشفعاء عندك.
وفصل: قد أفردتُك برجَائي بعد اللّه، وتعجّلت راحة اليأس ممن يجود بالوَعد، ويَضن بالإنجاز، ويُحسِّن الفضل ويَزهد في أن يتفضل، ويَعيب الكَذب ولا يَصدق. وفصل: ضَعْني - أكرمك اللّه - من نَفسك حيثُ وضعتُ نفسي من رجائك، أصاب اللّه بمعروفك مواضعَه، وبسط بكلّ خير يدَك.
وفصل: لا أزال - أبقاك الله - أسألً الكتابَ إليك. فمرّة أتوقف توقّف المُخفّف عنك من المؤونة، ومَرِّة أكتب كتاب الراجع منك إلى الثقة، والمُعتمد منك على المِقة. لا أعدمنا اللّه دوام عزك، ولا سَلب الدنيا بهجتها بك، ولا أخلانا من الصُّنع لك، فإنا لا نعرف إلا نِعمتك، ولا نجد للحياة طَعْماً إلا في ظِلك، ولئن كانت الرغبة إلى نَفر من الناس خَساسة وذلاً، لقد جعل الله الرَّغبة إليك كرامة وعزًّا، لأنك لا تعرف حُرًّا قعد به دهرُه إلا سَبقْتَ مسألته بالعطيِّة، وصُنت وجهه عن الطلب والذّلة.
وفصل: لي عليك حقُّ التَأميل في الزيادة بما ابتدأتَ منِ المعروف، ولك عليًّ حقُ الاصطناع والفضل، والتَّنويه بالاسم والشكر، وليس يمنعني عِلْمي بزيادة حقك على ما أبلغه من شُكرك من مُساءلتك المَزيد، إذ كنت قد انتهيتُ إلى ما بلغه المجهود، وخرجتُ من منزله الإضاعة والتًقصير؛ وإذ كنتَ تسمح بالحق عليك، وتَطيب نفسًا عن حقك، وتُنكر اليَسير، ولا تكفَف أحداً شُكرَك على الكثير.
وفصل: لك - أصلحًكَ الله - عندي أيادٍ تَشفع لي إلى محبَتك، ومَعروف يُوجب عليك الرًبَّ والإتمام.
وفصل: أنا أسأل الله أن يُنجز لي ما لم تَزل الفِراسة تَعِدُنيه فيك.
وفصل: قد أجلّ الله قَدْرك عن الاعتذار، وأغناك في القول عن الاعتلال، وأوجب علينا أن نَقنع بما فعلتَ، ونرضى بما أتيت، وصلتَ أو قطعت.

فصول في الشكر
كتب محمدُ بن عبد الملك الزيات كتاباً عن المُعتصم إلى عبد اللهّ بن طاهر الخراسانيّ، فكان في فصل منه: لو لم يكن من فَضل الشُّكر إلا أنك لا تراه إلا بين نِعمة مقصورة عليك، أو زيادة مُنتظرة لها الكَفَى. ثم قال لمحمد بن إبراهم بن زياد: كيف ترى؟ قال: كأنهما قُرطان بينهما وَجْه حَسن.
وفصل للحسن بن وهب: فَي شَكرك على درجة رفعتَه إليها، أو ثَرْوة أفدتَه إياها، فإنِّ شكري لك على مُهجة أحْييتَها، وحُشاشة أبقيتَها، ورَمَق أمسكتَ به، وقُمتَ بين التَلف وبينه. فلكلّ نعمة من نِعم الدُّنيا حدٌ تنتهي إليه، ومَدًى يُوقف عنده، وغاية من الشُّكر يَسمو إليها الطَرف، خلا هذه النَعمة التي قد فاقت الوَصْفَ، وطالت الشُكر، وتجاوزت كل قَدْر، وأتت مِن وراء كل غاية؛ ردتْ عنا كيدَ العدو، وأرغمت أنف الحسود، فنحن نلجأ منها إلى ظل ظليل، وكَنف كريم. فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جَهد المجتهد؟ وقال إبراهيم بن المهديّ يشكر المأمون:
رددتَ مالي ولم تَمنُن عليّ به ... وقَبل رَدٌك مالِي قد حَقَنْتَ دَمِي
فأبتُ منكَ وقد جَعلتني نِعَماً ... هي الحياتان من مَوِتٍ ومن عَدم
فلو بذلتُ دمِي أبْغي رِضاك به ... والمالَ حتى أسُل النَعل من قَدمي
ما كان ذاك سِوَى عارية رَجعت ... إليك لو لم تعِرْها كنتَ لم تُلَم
البِرُّ بي مِنك وَطي العُذر عندك لي ... فيما أتيتُ فلم تَعتب ولم تَلُم
وقام عِلمًك بي يَحتَجُّ عندك لَي ... مقامَ شاهدِ عَدْلٍ غير مُتَّهم
فصول في البلاغة
كتب الحسن بن وهب إلى إبراهيم بن العبّاس: وَصَل كِتابُك فما رأيتُ كِتاباً أسهلَ فُنوناً، ولا أملسَ مُتوناً، ولا أكثر عيوناً، ولا أحسن مقاطع ومطالعِ، منه؛ أنجزتَ فيه عِدَة الرأي، وبشرى الفِراسة، وعاد الظن يقيناً، والأمل مَبْلوغاً، والحمدُ للّه الذي بنِعْمتِه تتمّ الصالحات.
فصل: الكلامُ كثيرةٌ فُنونه، قليلةٌ عُيونه؛ فمنه ما يُفكِّه الأسماعَ، ويؤْنس القُلوب، ومنه ما يُحمِّل الآذانَ ثِقْلاً، ويملأ الأذهان وحشة.
فصول في المدح
وكتب ابن مكرم إلى أحمد بن المُدبر: إن جميع أكفائك ونُظرائك يَتنازعونَ الفضل، فإذا انتَهْوا إليك أقرُّوا لك، ويَتنافسون في، المنازل، فإذا بلغوك وقفوا دونك فزادَك اللّه وزادنا بك وفيك، وجَعلنا ممن يَقبله رأيُك، وُيقدمُه اختيارك، ويقَع من الأمور بموقع مُوافقتك، ويجري فيها على سبيل طاعتك.
وفصل له: إنّ من النَعمة على المثنى عليك أنه لا يخاف الإفراط ولا يأمن التقصير، ويأمن أنْ تَلحقه نَقيصةُ الكذب، ولا يَنتهي به المدحُ إلى غاية إلا وجد فضلَك تجاوزها. ومن سعادة جدِّك أن الدّاعي لا يعدم كثرة المشايعين له، والمُؤمّنين منه وفصل: أَن مما يُطمعني في بقاء النعمة عندك، ويَزيدني بصيرة في العلم بدوامها لديك، أنك أخذتَها بحقّها، واستوجبتها بما فيك من أسبابها؛ ومن شْأن الأجناس أنْ تتألف، وشأن الأشكال أنْ تتقارب، وكل شيء يَتقلقل إلى مَعدنه، ويَحن إلى عُنصره، فإذا صادف منيتَه، ونزل في مَغْرسه، ضَرب بعِرْقه، وسفق بفَرْعه، وتمكن تمكن الإقامة، وتبنك تبنك الطبيعة.
وفصل: إني فيما أتعاطى من مَدْحك كالمُخبر عن ضوء النهار الزاهر، والقمر الباهر، الذي لا يَخفى على كل ناظر. وأيقنتُ أني حيث انتهى بي القولُ مَنْسوب إلى العَجْز مقصر عن الغاية، فانصرفتُ من الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكَلْتُ الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
وفصل: لمحمد بن الجَهْم: إنك لزِمتَ من الوفاء طريقةً محمودة، وعرفتَ مناقبها، وشُهرت بمحاسنها، فتنافس الإخوان فيك يَبتدرون وُدَّك، ويَتمسّكون بحَبلك، فمن أَثبت اللّه له عندك وُدًّا فقد وُضعت خُلّته موضعَ حِرْزها.
وفصل لابن مكرم: السيفُ العَتيق إذا أصابه الصّدا استغنى بالقليل من الجلاء حتى تعود جدّته ويظهر فِرنده، لِلِين طبيعته، وكَرَم جَوْهره، ولم أَصِف نفسي لك عُجباً بل شُكراً.
وفصل له: زاد مَعْرُوفك عِندي عِظَماً، أنه عِندك مَسْتورٌ حَقِير، وعِند الناس مَشهور كبير. أخذه الشاعر فقال:

زاد مَعْرُوفَك عِندي عِظَماً ... أنّه عِندك مَستور حَقِير
تَتَناساه كأنْ لم تَأْتِه ... وهو عند النَّاس مَشهور كَبير
وفصل العتَّابي: أنت أيها الأمير وارثُ سَلفك، وبقيًة أَعلام أهل بَيْتك، المَسدود به ثَلْمهم، المُجدَّد به قديم شرفهم، والمُحْيَا به أيام سَعْيهم. وإنه لم يَخْمل من كنتَ وارثه، ولا دَرست آثار من كنت سالكَ سبيله، ولا انمحت أعلام مَن خَلَفْتَه في رُتبته.

فصول في الذم
كتب أحمد بن يوسف: أما بعد، فإني لا أعرف للمعروف طريقاً أوعرَ من طريقه إليك، فالمَعروف لديك ضائع، والشُّكر عندك مَهْجور؛ وإنما غايتُك في المعروف أن تَحْقِره، وفي وليّه أن تَكْفره.
وكتب أبو العتاهية إلى الفَضْل بن مَعْن بنِ زائدة: أما بعد، فإنّي توسّلت في طلب نائلك بأسباب الأمل، وذرائع الحَمد فِراراً من الفَقر، ورجاءَ للغنَى، فازددتُ بهما بُعْداً مما فيه تقرّبت، وقُرِبا مما فيه تبعَّدت. وقد قَسمتً اللائمة بيني وبينك؛ لأني أخطأتُ في سُؤالك وأخطأت في مَنْعي، أمرتُ باليأس من أهل البخل فسألتُهم، ونُهيتَ عن مَنع أهل الرغبة فمنعتَهم. وفي ذلك أقول:
فررتُ من الفَقر الذي هو مُدْركي ... إلى بُخل مَحْظور النَوال مَنُوع
فأعقبني الحِرْمانَ غِبًّ مَطامعي ... كذلك مَن تَلْقاه غير قنوع
وغيرُ بديعِ مَنْع ذي البُخل مالَه ... كما بَذْلُ أهل الفَضل غيرُ بديع
إذا أنت كَشفت الرجالَ وجدتَهم ... لأعْراضهم منِ حافظٍ ومُضيع
وفصل لإبراهيم بن المهدي: أما بعد، فإنك لو عرفت فضل الحَسنِ لتجنبت شَيْن القبيح، ورأيتك آثَرُ القول عندك ما يضرُّك، فكنتُ فيما كان منك ومنَا، كما قال زهير بن أبي سُلْمى:
وذي خَطَلٍ في القَوْل يَحْسب أنّه ... مُصِيبٌ فما يُلْمِم به فهْو قائلُهْ
عبأتَ له حِلْماً وأكرمتَ غيرَه ... وأعرضتَ عنه وهو بادٍ مَقاتلُه
فصل: إنَ مودة الأشرار متصلةٌ بالذلّة والصَّغار، تَميل معهما، وتَتصرّف في آثارهما. وقد كنتُ أحل مودتك بالمحل النَفيس، وأنزلها بالمَنزل الرفيع، حتى رأيتُ ذلتك عند الضِّعة، وضرَعك عند الحاجة، وتغيّرك عند الاستغناء، واطراحك لإخوان الصّفاء، فكان ذلك أقوى أسباب عُذْري في قطِيعتك عند مَن يتصفّح أمري وأمرك بعين عَدْل، لا يَميل إلى هوى ولا يَرى القَبيح حَسنا.
فصل للعتَّابي: تأتيِّنا إفاقتك من سَكْرتك، وترقًبنا انتباهك من وَقْدتك، وصَبْرنا على تجرّع الغيظ فيك. فها أنا قد عرفتُك حق معرفتك في تَعدَيك لطَوْرك، وأطراحك حقّ من غَلِط في اختيارك.
فصول في الأدب
كتب سعيدُ بن حُميد: إنَ مِن أمارات الْحَزْم وصحة الرأي في الرجل تركَه التماس ما لا سبيلَ إليه؛ إذ كان ذلك داعيةً لعناء لا ثمرة له، وشقاء لا دَرَك فيه، وقد سمحت في أمرٍ تُخبرك أوائلُه عن أواخره، وُينبيك بَدْؤُه عن عواقبه، لو كان لهذا الخبر الصادق مُستمِع حازم. ورأيتُ رائدَ الهوى مال بك إلى هذا الأمر ميلًا أيأس من رَغب فيك، ودل عدوّك على مَعايبك، وكشف له عن مَقاتلك. ولولا عِلْمي بأنّ غِلْظة الناصح تؤدي إلى نَفْع في اعتقاد صواب الرأي، لكان غير هذا القول أولى بك. والله يوفَقك لما يحب، وُيوفق لك ما تحب وفصل: أنت رجل لسانُك فوق عقلك، وذكاؤك فوق عَزْمك، فقدم على نَفْسك مَن قدمك على نفسه.
وفصل: من أخطأ في ظاهر دُنياه وفيما يُؤخذ بالعين كان أحرى أن يُخطىء في أمر دينه وفيما يُؤخذ بالعَقْل.
وفصل: قد حَسدك مَن لا ينام دون الشِّفاء، وطَلبك من لا ينام دون الظَّفر، فاشدُد حيازيمَك وكُن على حَذر.
وفصل: قد آن أن تدعَ ما تَسمع بما تعلم، ولا يكن غيرُك فيما يُبلِّغه أوثقَ من نفسك فيما تَعرفه.
وفصل: لستَ بحال يرضىَ بها حُرّ، ولا يُقيم عليها كريم، وليس يَرْضى لك بهذا إلا مَن يَبتغي لك أن ترْضى به.
وفصل: أنت طالب مُقيم، وأنا دافع مُغرم، فإن كنتَ شاكراً فيما مضى، فاعذُر فيما بقى.
وفصل: للعتابي، أما بعد، فإن قريبك من قَرُب منك خيرُه، وابن عمّك من عَمّك نفعُه، وعشيرَك مَن أحسن عِشرتك، وأهدى الناس إلى مَودَتك من أهدى برَّه إليك.

فصول إلى عليل
ليست حالي - أكرمَك الله - في الاغتمام بعلتك حالَ المُشارِك فيها بأن ينالني نصيب منها وأسلمُ مِن أكثرها، بل اجتمع علي منها أني مخصوص بها دونك، مُؤلَم منها بما يُؤلمك، فأنا عليل مَصْروف العِناية إلى عليل، كأني سليم يسهر على سليم؛ فأنا أسأل اللّه الذي جَعل عافِيتي في عافيتك أن يخصني بها فيك، فإنها شاملةٌ لي ولك. وفصل: إن الذي يعلم حاجتي إلى بقائك، قادر على المُدافعة عن حَوْبائك. فلو قلتُ إن الحق قد سَقط عني في عِيادتك لأني عَليل بعلتك، لقام لي بذلك شاهدٌ عَدْل في ضميرك، وأثر بادٍ في حالي لِعينك. وأصدق الخَبر ما حقَقه الأثر، وأفضلُ القول ما كان عليه دليل مِن العقل.
وفصل: لئن تخلَفتُ عنِ عيادتك بالعُذر الواضح مِن العفة لمَا أغْفَلَ قلبي ذِكْرَك، ولا لساني فَحْصاً عن خبرك، فَحْص من تقسم جوارحَه وصبُك، وزاد في ألمها ألمُك، ومن تَتّصل به أحوالُك في السّراء والضّراء. ولما بَلغتْني إفاقتًك كتبتُ مُهنِّئاً بالعافية، مُعفِيًا من الجواب، إلا بخَبرِ السلامة إن شاء اللهّ.
ولأحمد بن يوسف: قد أذهب اللّه وَصَب العلَة ونصبها، ووَفّر أَجْرها وثوابَها، وجعل فيها من إرغام العدوّ بعُقباها، أضعافَ ما كان عنده من السُرور بقبح أولاها.
فصول إلى خليفة وأمير
منها: كتب الحجَّاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، إنَّ كُلّ من عنَّيت به فِكْرتَك فما هو إلا سعيد يُوثْر، أو شقيُّ يُوتر.
كتب الحسنُ بن لسَهْل يَصف عقل المأمون: وقد أصبح أميرُ المُؤمنين عمودَ السِّيرة، عفيفَ الطُّعْمة، كريمَ الشِّيمة، مُبارك الضَّريبة، محمودَ النَّقيبة، مُوفِّيا بما أخذ اللّه عليه، مُضطلعاً بما حَمَّله منه، مُؤدِّيا إِلى اللّه حقَّه، مُقرًّا له بنِعْمته، شاكراً لآلائه، لا يأمُر إلا عَدْلا، ولا ينطِق إلا فَصْلا، راعيا لدينه وأَمانته، كافًّا ليده ولسانه. وكتب محمدُ بن عبد الملك الزيّات: إن حقّ الأولياء على السلطان تنفيذُ أمورهم، وتقويمُ أَودهم، ورياضةُ أخلاقهم، وأن يَميزَ بينهم، فيقدِّم مُحسنهم، ويؤخَر مُسيئهم، ليزدادَ هؤلاء في إحسانهم، ويزدجر هؤلاء عن إساءتهم.
وفصل له: إنّ أعظمَ الحقّ حقًّ الدِّين، وأَوْجبَ الْحُرمة حُرمة المُسلمين. فحَقِيق لمن راعَى ذلك الحق وحَفِظ تلك الحُرمة أن يُراعَى له حَسب ما رعاه اللّه به، ويُحْفظ له حَسب ما حَفظ اللّه على يدَيه.
وفصل له: إنّ اللّه أَوْجب لخُلفائه على عباده حقَّ الطاعة والنَّصيحة، ولعَبيده على خُلفائه بَسط العَدْل والرَّأفة، وإحياءَ السُّنن الصالحة. فإذا أدى كلٌّ إلى كلّ حقَّه. كان سببا لتمام المَعونة، واتصال الزِّيادة، واتساق الكلمة، ودوام الألفة.
وفصل: ليس من نِعمة يُجدِّدها اللّهُ لأمير المُؤمنين في نفسه خاصَّة إلا اتصلت برعيته عامَّة، وشَملت المُسلمين كافّة، وعظُم بلاء اللهّ عندهم فيها، ووجب عليهم شكرُه عليها؛ لأنّ الله جعل بنعمته تمام نعْمتهم، وبتَدبيره وذَبّه عن دِينه حِفْظَ حَريمهم، وبحياطته حَقْنَ دمائهم وأمْن سبيلهم. فأطال اللّه بقاء أمير المُؤمنين، مُؤيَّداً بالنَّصر، معزّزاً بالتمكين، مَوْصول البقاء بالنَّعيم المُقيم.
فصل: الحمد للّه الذي جَعل أميرَ المُؤمنين معقودَ النِّية بطاعته، مُنطوي القَلْب على مُناصحته، مشحوذ السَّيف على عدوّه؛ ثم وَهب له الظفرِ، ودوخ له البلاد، وشرّد به العَدوّ، وخصَّه بشَرف الفُتوح شرقاً وغربا، وبرًّاً وبحراً.
وفصل: أفعال الأمير عندنا مَعْسولة كالأماني، مُتَّصلة كالأيَّام، ونحن نُواتر الشُكر لكريم فِعْله، ونُواصل الدُّعاء له مُواصلةَ برّه؛ إنه الناهض بكَلِّنا، والحامل لأعبائنا، والقائم بما ناب من حُقوقنا.

وفصل: أما بعد، فقد انتهى إلى أمير المؤمنين كذا فأنكره، ولا يخلو من إحدى منزلتين ليس في واحدة منهما عُذر يوجب حُجَّة، ويُزيل لائمة: إمَّا تَقصيرٌ في عمل دعاك للإخلال بالحَزْم والتَّفريط في الواجب، وإمَا مُظاهرة لأهل الفساد ومُداهنة لَأهلِ الرِّيب. وأيّة هاتين كانت منك لمُحِلّة النُّكْر بك، ومُوجبة العُقوبة عليك، لولا ما يلقاك به أميرُ المؤمنين من الأناة والنَّظِرة، والأخْذ بالْحُجة، والتقدّم في الإعذار والإنذار. وعلى حَسب ما أقِلْتَ من عَظيم العَثْرة يجب اجتهادُك في تلافي التَّقصير والإضاعة، والسلام.
وكتب طاهرُ بن الحُسين، حين أَخذ بغداد، إلى إبراهيم بن المهديّ: أما بعد، فإنه عزيز عليّ أن أكتب إلى أحد من بَيت الخِلافة بغير كلام الإمرة وسَلامها، غيرَ أنه بلغني عنك أنك مائلُ الهوى والرأي للناكث المَخلوع، فإن كان كما بَلغني فكثيرُ ما كتبت به قليلٌ لك، وإن يكن غيرَ ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمةُ اللّه وبركاته. وقد كتبتً في أسفل كتابي أبياتاً فتدبَّرها:
رُكوبُك الهَوْلَ ما لم تُلْفِ فُرْصته ... جَهل رَمى بك بالإقحام تَغريرُ
أهْوِنْ بدُنيا يُصيب المخطئون بها ... حظ المصيبين والمَغرورُ مَغرور
فازرع صوابا وخُذ بالحَزْم حَيْطته ... فلن يُذَمّ لأهل الْحَزم تَدبير
فإنْ ظَفرِت مُصيباً أو هَلكتَ به ... فأنتَ عند ذوي الألباب مَعذور
وإن ظَفِرت على جَهلً فَفُزتَ به ... قالوا جَهولٌ أعانتْه المَقادير
فصل: للحسن بن وهب: أما بعد، فالحمدُ للّه مًتمِّم النَعم برحمته، الهادي إلى شُكره بفَضله، وصلّى اللّه على سيدنا محمد عبدِه ورسوله، الذي جَمع له من الفضائل ما فَرّقه في الرُّسل قبلَه، وجَعل تُراثَه راجعاً إلى من خَصّه بخلافته، وسلّم تسليما.

فصول لعمرو بن بحر الجاحظ
منها فصول في عتاب: أما بعد، فإنّ المُكافأة بالإحسان فَريضة، والتفضّلَ على غير، ذوي الإحسان نافلة.
أما بعد، فليكن السكوتُ على لسانك، إن كانت العافيةُ من شأنك.
أما بعد، فلا تَزهد فيمن رَغب إليك فتكون لحظّك مُعاندا، وللنعمة جاحدا.
أما بعد، فإنَّ العقل والهوى ضدان، فقَرينُ العقل التوفيق، وقَرينُ الهوى الخِذْلان، والنفسُ طالبة، فبأيهما ظَفِرتْ كانت في حِزْبه.
أما بعد، فإنً الأشخاصَ كالأشجار، والحركاتِ كالأغصان، والألفاظَ كالثمار.
أما بعد، فإن القلوب أوعية، والعقولَ معادن، فما في الوعاء يَنفد إذا لم يُمدّه المعدن.
أما بعد، فكَفى بالتجارب تأديباً، وبتقلب الأيام عِظة، وبأخلاق مَن عاشرت مَعرفة، وبذِكرك الموت زاجرا.
أما بعد، فإن احتمال الصبر على لَذع الغَضب أهونُ من إطفائه بالشَّتم والقَذع.
أما بعد، فإن أهل النَظر في العواقب أولو الاستعداد للنوائب، وما عَظمت نِعْمة امرىء إلا استغرقت الدنيا همتُه، ومَن فَرغ لطلب الآخرة شُغله جعلَ الأيام مطايا عمله، والآخرة مَقيل مُرتحله.
أما بعد، فإن الاهتمام بالدنيا غيرُ زائد في الرزق والأجل، والاستغناءَ غير ناقص للمقادير.
أما بعد، فإنه ليس كل مَن حَلُم أمسك، وقد يُستجهل الحليم حين يستخفه الهُجر.
أما بعد: فإن أحببتَ أن تَتم لك المِقةُ في قلوب إخوانك، فاستقلّ كثيراً مما توليهم.
أما بعد، فإن أنظر الناس في العاقبة مَن لَطُف حتى كف حربَ عدوه بالصَّفح والتجاوز، واستلّ حقدَه بالرفق والتحبب.
وكتب إلى أبي حاتم السِّجِسْتاني، وبلغه عنه أنه نال منه: أما بعد، فلو كففتَ عنّا من غَرْبك لكنا أهلاً لذلك منك، والسلام. فلم يَعُد أبو حاتم إلى ذكره بقبيح: وله فصول في وصاة: أما بعد، فإن أحق فَي أسعفتَه في حاجته، وأجبته إلى طَلِبته، مَن توسّل إليك بالأمل، ونَزع نحوك بالرجاء.
أما بعد، فما أقبحَ الأحدوثة من مُستمنح حَرمْتَه، وطالبِ حاجة رددتَه، ومًثابر حَجبتَ، ومُنبسط إليك قبضتَه، ومُقبل إليك بعًنانه لويتَ عنه. فتثبَّت في ذلك، ولا تُطِع كل حلاَّف مهين، هماز مشاء بنميم.

أما بعد، فإن فلاناً أسبابه متَصلة بنا، يُلزمنا ذِمامُه عندنا بُلوغَ موافقته من أياديك، وأنت لنا مَوضع الثقة من مًكافأته. فأولنا فيه ما نَعرف به موقعَنا من حُسن رأيك، ويكون مُكافأةً لحقِّه علينا.
أما بعد، فقد أتانا كتابُك في فلان، وله لدينا من الذًمام ما يُلزمنا مكافأته ورعايةَ حقه، ونحن من العناية بأمره على ما يُكافى حُرمته، ويؤدي شكره.
وله فصول في استنجاز وعد: أما بعد، فقد رَسفنا في قُيود مواعيدك، وِطال مقامنا في سُجون مَطْلك، فأطلِقنا - أبقاك الله - من ضِيقها وشديد غمَها، بنعَمْ منك مُثمرة أو لا، مُريحة.
أما بعد، فإن شجرة مواعيدك قد أورقت، فليكن ثمرُها سالماً من جَوائِح المَطْل.
أما بعد، فإنَ سحابَ وَعْدك قد بَرقت، فليكن وَبْلها سالماً من صواعق المَطل والاعتلال.
وله فصِول في الاعتذار: أما بعد، فنِعْمَ البديلُ من الزلة الاعتذار، وبئس العِوَضُ من التَوبة الإصرار.
أما بعد، فإنّ أحقَّ منِ عَطفت عليه بحِلمك مَن لم يَتشفَّع إليك بغيرك.
أما بعد، فإنه لا عوض من إخائك، ولا خَلف من حُسن رأيك، وقد انتقمتَ مني في زلَّتي بجفائك، فأطلق أسيرَ تشوّقي إلى لقائك.
أما بعد، فإنني بمَعرفتي بمبلغ حِلْمك، وغاية عَفوك، ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك.
أما بعد، فإنَّ مَن جَحد إحسانَك بسوء مَقالَته فيك مًكذِّب نفسه بما يبدو للناس أما بعد، فقد مَسَّني من الألم بقطيعتك ما لا يشفيه غيرُ مُواصلتك، مع حَبْسك الاعتذار من هَفوتك؛ لكن ذَنبك تغتفره مودّتك، فان علينا بصلَتك تكن بدلًا مِن مَساءتك، وعِوَضاً من هَفْوتك.
أما بعد، فلا خيرَ فيمن استغرقت موجدتُه عليك قَدْرَ ليُ عنده، ولم يتّسع لِهنات الإخْوان صدرُه.
أما بعد، فإن أوْلى الناس عندي بالصَفح مَن أسلمه إلى مِلكك التماس رضاك من غير مَقدرة منك عليه.
أما بعد، فإن كنت ذمَمتَني على الإساءة فلمَ رَضيت لنفسك المكافأة.
وله فصول فيِ التعازي: أما بعد، فإنَّ الماضيَ قَبْلك الباقيَ لك، والباقيَ بعدك المأجورُ فيك، وإنما يُوفِّى الصابرون أجرَهم بغير حِساب.
أما بعد، فإنَّ في اللّه العَزاء من كل هالك، والخَلف من كل مصاب، وإن من لم يتعزّ بعزَاء اللّه تَنقطع نفسه على الدنيا حَسْرة.
أما بعد، فإنَّ الصبر يعقبه الأجر، والجَزع يَعقبه الهلعً فتمسَّك بحظّك من الصبر تَنل به الذي تطلب؛ وتُدرك به الذي تَأمل.
أما بعد، فقد كفى بكتاب الله واعظاً، ولذَوي الألباب زاجراً، فعليك بالتلاوة تَنْج مما أوعد الله به أهلَ المعصية.
صدور إلى خليفة: وَفق الله أميرَ المؤمنين بالظفر فيما قلّد وأيّده، وأصلح به وعلى يديه - أكرم اللهّ أميرَ المؤمنين بالظَّفر، وأيده بالنَّصر قي دوام نعْمته، وحاط الرعيًة بطول مدته.
صدور إلى ولي عهد: مَتَّع اللهّ أميرَ المؤمنين بطُول مدًّة الأمير، وأجرى على يديه فِعْل الجميل، وانسَ بولايته المؤمنين - مدَّ اللّه للأمير النِّعمة، وأسعد بطُول عمره الأمة، وجعله غياثاً ورَحمة - أكمل اللهّ له الكرامة، وحاطه بالنِّعمة والسلامة، ومتَع به الخاصّة والعامَّةَ - متَّع اللهّ بسَلامتِك أهلَ الحرْمة، وجَمع لك شَمْل الأمة. واستَعْمَلك بالرَأفَةِ والرحمة.
صدور إلى ولي شرطة: أنصف اللهّ بك المظلوم، وأغاث بك الملهوف، وأيَّدك بالتثبّت، ووفّقك للصواب - أرشدك اللّه بالتوفيق، وأنطقك بالصواب، وجعلك عِصمة للدِّين، وحصناً للمسلمين - أعانك اللهّ على ما قلّدك، وحَفظ لك ما استعملك بما يًرضي من فعلك - سدَّدك اللّه وأرشدك، وأدام لك فضل ما عَوّدك - زادك اللهّ شرفاً في المنزلة، قدراً في قلوب الأمة، وزُلفة عِند الخليفة - نصر اللهّ بعدلك المظلوم، وكشف بك كربة الملهوف، وأعانك على أداء الحقَوق.
صدور إلى قاضي: ألهمك اللّه الحُجة، وأيدك بالتثبّت، وردّ بك الحقوق. - ألهمك اللّه الاعتصام بحَبله بالعلم، والتثبّت في الحُكم - ألهمك اللهّ الحِكْمة وفَصل الخطاب، وجلك إماماً لذوي الألباب - زيَّن اللّه بفَضلك الزِّمان، وأنطق بشُكرك اللسان، وبَسط يدك في اصطناع المعروف، وأدام اللّه لك الإفضال، وحقّق فيك الآمال.

صدور إلى عالم: جَعل اللهّ لك العِلْم نوراً في الطاعة، وسبباً إلى النجاة، وزُلفة عند اللهّ - نفع اللهّ بعلمك المستفيدين، وقضى بك حوائج المُتحرّمين، وأوضح بك سُنن الدّين، وشرِائع المُسلمين - أدام اللّه لك التطوّل بإسعاف الراغب، وأنجح بك حاجة الطالب، وأمِّنك مكروه العواقب.
صدور إلى أخوان: مَتًّع الله أبصارنا برُؤيتك، وقلوبنا بدوام الفتك، ولا أَخْلانا من جَميل عِشْرتك، ووَهب لك من كريم نَفسك بحسب ما تنطوي عليه مودّتك، وأبهج اللّه إخوانك بقُربك، وجمع ألفتهم بالأنس بك، وصَرف اللّه عن ألفتنا عواقبَ القدَر، وأعاذ صَفْو إخائنا من الكَدر، وجعلنا ممن أنعم اللهّ عليه فشَكر - مَنَّ اللّه علينا بطول مُدتك، وآنس أيامنا بمواصلتك، وهنأنا النِّعمة بسلامتك - قَرّب اللّه منّا ما كُنا نأمل منك، وجَمع شِمل السُّرور بك - نَزَّه اللهّ بقُربك القلوب، وبرُؤيتك الأبصار، وبحديثك الأسماع - أقبل اللّه بك على أودَّائك، ولا ابتلاهم بطُول جفائك - أدال اللهّ حِرْصَنا من فُتورك عنّا، ورَغبتنا فيك من تَقصيرك في أمورنا - حَفظ اللّه لنا منك ما أَوْحشنا فقدُه، وردّ إلينا ما كُنا نَألفه ونَعهده - رحم الله فاقةَ الحَنين إليك، وما بي من تَباريح الحُزن عليك، وجَعل حُرمتنا منك، الشًفيعَ لديك - يَسَر الله لنا من صَفحك ما يَسع تقصيرنا، ومن حلمك ما يرد سخطك عنّا زَين الله ألفتنا بمُعاودة صِلتك، واجتماعنا بزيارتك - أعادَ اللهّ علينا من إخائك وجميل رأيك ما يكون معهوداً منك، ومألُوفاً لك.
صدور في عتاب: أنصف الله شوقنا إليك من جَفائك لنا، وأخذ لبرنا بك من تَقصيرك عنّا.
وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص، وبلغه عنه أمر: وفّقك اللهّ لرًشدك.
بلغني كلامُك فإذا أوّله بَطر، وآخره خَوَر، ومن أبطره الغِنى أذلّه الفقر، وهما ضدَّان مُخادعان للمرء عن عَقله، وأولى الناس بمَعرفة الدَّواء من يَبين له الداء، والسلام. فأجابه: طاولتْك النِّعمِ وطاولت بك. عُلو إنصافك يُؤمَن سطوة جَورِك، ذكرتَ أني نطقتُ بما تكره، وأنا مخدوع، وقد علمتُ أني مِلْت إلى محبتك ولم أخدع، ومثلُك من شَكر سعي مُعتذر، وعفا زَلّة مُعترف.

كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء
وتواريخهم وأيامهم
قال الفقيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه رحمه الله: قد مَضى لنا قولُنا في التوقيعات والفصول والصدور والكتابة، وهذا كتاب ألفناه في أخبار الخلفاء وتواريخهم وأيامهم، وأسماء كُتّابهم وحجابهم.
أخبار الخلفاء
نسب المصطفى
صلى الله عليه وسلم
رَوى أبو الحسن عليّ بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن أشياخه: هو محمدٌ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المُطلب بن هاشم ابن عبد مَناف بن قُصيّ بن كِلاَب بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدْرِكة بن اليأس بن مُضر بن نزار بن مَعد بن عَدْنان. وأمه آمنةُ بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كِلَاب بن مُرة بن كَعب.
مولد النبي
صلى الله عليه وسلم - قالوا: وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرةَ ليلةً خلت
من ربيع الأول. وقال بعضُهم: لليلتين خَلَتا منه. وقال بعضُهم: بعد الفِيل بثلاثين يومًا. فهذا جَمع ما اختلفوا فيه عن مولده. وأوحى الله إليه وهو ابن أربعين عاماً. وأقام بمكة عشرًا، وبالمدينة عشرا. وقال ابن عبّاس: أقام بمكة خمسَ عشرَة وبالمدينة عشرا. والمُجمع عليه أنه أقام بمكة ثلاثَ عشرةَ وبالمدينة عشرا.
اليوم والشهر الذي هاجر فيه صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة يومَ الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول. ومات يومَ الاثنين لثلاثَ عشرةَ خلت من ربيع الأول، اليوم والشهر الذي هاجر فيه صلى الله عليه وسلم.
جعلنا اللّه ممن يرد حوضَه، وينال مُرافقته في أعلى عِليين من درجات الفِرْدوس، وأسأل اللّهَ الذي جعلنا من أمته ولم نَره أن يتوفّانا على مِلّته، ولا يَحْرمنا رُؤْيته في الدُّنيا والآخرة.

صفة النبي صلى الله عليه وسلم - رَبيعة بن أبي، عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، قال: كان رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم أبيضَ، مُشرباً حُمرة، ضَخم الرأس، أزجَّ الحاجبين، عظيمَ العينين، أدعجَ أهدبَ، شثْن الكّفين والقدمين. إذا مشى تكفّأ كأنما ينحطّ من صَبَب، ويَمْشي في صُعد كأنما يتقلّع من صَخر. إذا التفت التفت جميعا. ليس بالجَعْد القَطَط ولا السَّبْط. ذا وَفْرة إلى شحمة أُذنيه. ليس بالطَّويل البائن، ولا بالقصير المُتطامن. عَرْفه أطيبُ من المسك الَأذْفر. لم تَلد النساءُ قبله ولا بعده مثلَه. بين كَتفيهَ خاتَمُ النبوّة كبَيضة الحمَامة. لا يَضْحك إلا تَبسُّماً. في عَنْفقته شعرات بيض لا تكاد تبين. وقال أنس بن مالك: لم يبلغ الشيبُ الذي كان برسول اللهّ صلى الله عليه وسلم عشرين شِعرة. وقيل له: يا رسول اللّه، عجّل عليك الشيّب. قال: شَيَّبتني هودٌ وأخواتُها.

هيئة النبي وقعدته
صلى الله عليه وسلم - كان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويجلس على
الأرض،
ويمشي في الأسواق، ويلبس العَبَاءة، ويُجالس المساكين، ويَقْعد القُرفصاء، ويتوسّد يدَه، ويلْعق أصابعَه، ولا يأكل مُتَّكئا، ولم يُرقطُّ ضاحكاً مِلْء فيه. وكان يقول: إنما أنا عبد آكلُ كما يأكل العبد، وأشربُ كما يشرب العبد، ولو دُعيت إلى ذِراع لَأجبت، ولو أهدى إليّ كراع لَقبلت.
شرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم - قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا سيّد البَشر ولا فَخْر، وأنا أفصحُ العرب، وأنا أوّل مَن يَقرع بابَ الحنة، وأنا أول من يَنشقّ عنه التراب. دعا لي إبراهيم، وبشرّ بي عيسى، ورأت أمي حين وَضعتني نُورًا أضاء لها ما بين المَشرق والمغرب. وقال صلى الله عليه وسلم: إنّ اللّه خَلق الخَلْق فجعلني في خير خَلْقه، وجعلهم فِرَقاً فجعلني في خَيرهم فِرْقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بُيوتا فجعلني في خَير بيت، فأنا خيرُكم بيتاً وخيرُكم نَسبا. وقال صلى الله عليه وسلم. أنا ابن الفواطم والعَواتك من سُليم، واستُرضعتُ في بني سعد بن بكر. وقال: نَزل القرآن بأعرب اللّغات، فلكل العرب فيه لغة، ولبني سَعد بن بكر سبعُ لغات. وبنو سعد ابن بكر بن هوازن أفصحُ العرب، فهم من الأعجاز، وهي قبائلُ من مُضر متفرقة، وكانت ظِئْرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم التي أرضعتْه حليمةُ بنت أبي ذُؤيب، من بني ناصرة بن قصيّة بن نصر، بن سَعد بن بكر بن هوازن. وإخوته في الرّضاعة: عبد اللهّ بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وخِذامة بنت الحارث، وهي التي أتى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم في أَسْرى حُنين، فَبسط لها رداءه ووهب لها أَسرى قومها. والعواتك من سُليم ثلاث: عاتكة بنت مُرّة ابن هلال، ولدت هاشماَ وعبدَ شمس ونوفلاً، وعاتكة بنت الأوقص بن هلال، ولدت وَهْب بن عبد مناف بن زهرة؟ وعاتكة بنت هِلٍال بن، فالج. وقال عليّ للأَشعث إذ خَطب إليه: أَغرّك ابن أبي قُحافة إذ زَوَّجك أمّ فَروَة، وإنها لم تكن من الفواطم من قُريش، ولا العواتك من سُلَيم.
أبو النبي
صلى الله عليه وسلم - عبدُ اللّه بن عبد المُطّلب، ولم يكن له ولدُ غيرًه، صلى الله عليه وسلم، وتُوفي وهو في بَطن أمه. فلما وُلد كَفله جدُّه عبدُ المًطلب إلى أن توفِّي، فكَفله عمُّه أبو طالب، وكان أخا عبد اللهّ لأمه وأبيه، فمن ذلك كان أشفقَ أعمام النبيّ صلى الله عليه وسلم وأَوْلاهم به. وأمّا أعمام النبيّ صلى الله عليه وسلم وعَمّاته، فإنّ عبد المطلب بن هاشم كان له من الولد لصُلبه عشرة من الذُّكور وستّة من الإناث. وأسماء بنيه: عبدُ اللهّ، والد النبيّ عليه الصلاة والسلام، والزبير، وأبو طالب، واسمه عبدُ مَناف، والعبّاس، وضِرار، وحَمزة، والمُقوِّم، وأبو لهَب، واسمه عبد العُزّى، والحارث، والغَيداق، واسمه حجل، وقال نَوفل. وأسماء بناته، عمّات النبيّ صلى الله عليه وسلم: عاتكة، والبَيضاء، وهي أم حكيم، و بَرة، وأميمة، وأروى، وصَفيّة.
ولد النبي
صلى الله عليه وسلم - وُلد له من خَديجة: القاسمُ والطيب وفاطمةُ وزَينب ورُقَية وأم كلثوم. وولد له من مارية القِبْطية: إبراهيم. فجميعُ ولده من خديجة غيرَ إبراهيم.
أزواجه

صلى الله عليه وسلم - أولهن خديجةُ بنت خُويلد بن أسد بن عَبْد العُزى، ولم يتزوج عليها حتى ماتت. ثم تزوِّج سَوْدة بنت زَمْعة، وكانت تحت السكران بن عمرو، وهو من مهاجرة الحَبشة، فمات ولم يُعقب، فتزوجها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعده. ثم تزوّج عائشةَ بنت أبي بكر بِكراً، ولم يتزوّج بِكرًا غيرها، وهي ابنة ستّ، وابتنى عليها ابنة تسع، وتُوفي عنها وهي ابنة ثمانِ عشرةَ سنة، وعاشت بعده إلى أيام معاوية، وماتت سنة ثمان وخمسين وقد قاربت السبعين، ودُفنت ليلاً بالبقيع، وأوصت إلى عبد اللّه بن الزًبير. وتزوَّج حفصةَ بنت عمرَ بن الخطاب، وكانت تحت خُنيس بن حُذافة السَّهمي، وكان رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كِسرى، ولا عَقِب له. ثم تزوج زينَبَ بنت خُزيمة، من بني عامر بن صعصعة، وكانت تحت عُبيدة بن الحارث ابن عبد المطلب، أول شهيد كان ببدر. ثم تزوّج زينب بنت جَحش الأسدية، وهي بنت عمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي أوّل مَن مات من أزواجه في خلافة عُمر. ثم تزوّج أم حَبيبة؛ واسمعها رَمْلة بنت أبي سُفيان، وهي أختُ معاوية، وكانت تحت عُبيد الله بن جَحش الأسدي، فتنصر ومات بأرض الحبشة. وتزوّج أم سَلمة بنت أبي أمية بن المُغيرة المخزوميّ، وكانت تحت أبي سَلمة، فتُوفي عنها وله منها أولاد، وبقيت إلى سن تسع وخمسين. وتزوَّج ميمونة بنت الحارث، من بني عامر بن صَعصعة، وكانت تحت أبي رُهم العامرِيّ. وتزوّج صفية بنت حُييِّ بن أخطب النًضرية، وكانت تحت رجل من يهود خيبر، يقال له كِنانة، فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُنقه وسَبى أهله. وتزوّج جُويرية بنت الحارث، وكانت من سَبي بني المُصطلق. وتزوْج خَولة بنت حَكيم، وهي التي وَهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وتزوّج امرأة يقال لها عمْرة، فطلقها ولم يَبْن بها، وِذلك أن أباها قال له: وأزيدك أنّها لم تمرض قطْ. فقال: ما لهذه عند اللّه من خير، فطلقها. وتزوّج امرأة يقال لها: أميمة بنت النعمان، فطلقها قبل أن يَطأها. وخَطب امرأة من بني مُرة بن عَوْف، فردّه أبوها، وقال: إنّ بها بَرَصا. فلما رجع إليها وجدها بَرْصاء.

كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم وخدامه - كُتّاب الوحي لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: زيْد بن ثابت، ومُعاوية بن أبي سُفيان، وحَنْظلة بن الربيع الأسديّ، وعبدُ اللّه بن سعد بن أبي سرح، ارتد ولحق بمكة مُشركا. وحاجبُه: أبو أنسة، مولاه، وخادمه: أنس بن مالك الأنصاريّ، ويكنى أبا حَمزة. وخازنُه على خاتَمه: مُعيقيب بن أبي فاطمة. ومؤذّناه: بلال وابن أم مَكتوم. وحُرّاسه: سعدُ بن زَيد الأنصاري، والزُّبير بن العوام، وسَعد بن أبي وقّاص. وخاتَمه فِضّة، وفصّه حبشيّ مكتوب عليه: محمد رسول اللّه، في ثلاثة أسطر: محمد، سطر، ورسول، سطر، واللهّ، سطر. وفي حديث أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم: وبه تَختّم أبو بكر وعُمر، وتَختّم به عثمانُ ستةَ أشهر، ثم سقط منه في بئر ذي أرّوَان، فطُلب فلم يوجد.
وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم - توفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثلاثَ عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول، وحُفر له تحت فِراشه في بيت عائشة. وصلى عليه المسلمون جميعاً بلا إمام، الرجالُ ثم النساء ثم الصِّبيان، ودُفن ليلةَ الأربعاء في جوف الليل، ودَخل القبرَ عليٌ، والفَضل وقُثَم، ابنا العبّاس، وشُقْران مولاه، ويقال: أسامة بن زيد، وهم تولّوا غسلَه وتَكفينه وأمره كلَّه، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية، ليس فيها قميصٌ ولا عِمامة. واختلف في سِنَه. فقال عبد اللهّ ابن عبَّاس وعائشةُ وجريرُ بن عبد اللهّ ومعاوية: توفي وهو ابن ستين سنة. وقال عُروة بن الزُبير وقَتادة: اثنتين وستين سنة.
نسب أبي بكر الصديق وصفته
رضي اللّه عنه
هو عبد اللّه بن أبي قُحافة، واسم أبي قحافة عثمان بن عمرو بن كَعب بن سَعد بن تَيم بن مُرة، وأمه أمُّ الخَير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سَعد بن تيم بن مُرة.
وكاتبُه: عثمان بن عفَّان. وحاجبُه: رشيدٌ، مولاه. وقيل: كتب له زيدُ بن ثابت أيضاً. وعلى أمره كلّه وعلى القضاء عمرُ بن الخطّاب، وعلى بيت المال أبو عُبيدة بن الجَرّاح، ثم وجّهه إلى الشام. ومُؤذّنه: سعدُ القَرَظ، مولى عمار بن ياسر.

قيل لعائشة: صِفي لنا أباك. قالت: كان أبيَض، نحيفَ الجسم، خفيفَ العارضين، أحنى لا يستمسك إزاره، مَعروق الوجه، غائر العينين، ناتىء الجبهة، عاري الأشاجع، أقرع. وكان عمر بن الخطاب أصلع. وكان أبو بكر يَخْضب بالحنّاء والكَتَم. وقال أبو جعفر الأنصاريّ: رأيتُ أبا بكر كأنّ لِحْيته ورأسَه جَمر الغَضىَ. وقال أنس بن مالك قَدِم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وليس في أصحابه أَشمطُ غَيْر أبي بكر. فغّلفها بالحِنّاء والكَتَم.
وتوفيَ مساء ليلة الثلاثاء، لثمانِ ليالٍ بَقين من جُمادى الآخرة، سنةَ ثلاثَ عشرةَ من التاريخ. فكانت خلافتُه سنتين وثلاثة أشهر وعشرَ ليالٍ. وكان نَقش خاتَم أبي بكر: نعم القادر اللّه.
خلافة أبي بكر رضي الله عنه - شُعبة عن سَعد بن إبراهيم عن عُروة عن عائشة: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في مَرضه: مُروا أبا بكر فَلْيصلِّ بالناس. فقلتُ: يا رسولَ اللّه، إنَّ أبا بكر إذا قام في مَقامك لم يُسمِع الناسَ من البُكاء، فَمُر عُمرَ فليصلِّ بالناس. قال: مُروا أبا بكر فَلْيصلِّ بالناس: قالت عائشة: فقلتُ لِحَفصة: قُولي له: إنَ أبا بكر إذا قام في مَقامك لم يُسمِع الناس من البكاء، فمُر عُمر، ففعلت حفصة. فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: مه! إنكن صواحبُ يوسف، مُروا أبا بكر فَلْيصل بالناس.
أبو جَعدة عن الزُّبير قال: قالت حفصة: يا رسولَ اللّه، إنك مَرِضتَ فقدَّمت أبا بكر. قال: لستُ الذي قدمتُه، ولكنّ اللّه قَدّمه.
أبو سَلمة عن إسماعيل بن مُسلم عن أنس قال. صلَّى أبو بكر بالنّاس ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مريض ستةَ أيام.
النضرُ بن إسحاق عن الحَسن قال: قيل لعليّ: علامَ بايعتَ أبا بكر؟ فقال: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يَمُت فَجْأة، كان يَأْتيه بلالُ في كل يوم في مَرضه يُؤذّنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلِّي بالناس، وقد تَركني وهو يَرى مكاني، فلما قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رَضي المسلمون لدنياهم مَن رَضيه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لدينهم، فبايعوه وبايعتُه.
ومن حديث الشَّعبيّ قال: أَوَّل مَن قَدِم مكةَ، بوفاة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، عبدُ ربّه بن قيس بن السائب المَخزوميّ، فقال له أبو قُحافة: مَن ولي الأمر بعده؟ قال: أبو بكر ابنك. قال: فرضي بذلك بنو عبد مَناف؟ قال: نعم. قال: لا مانعَ لما أَعطى الله ولا مُعطيَ لما مَنع اللّه.
جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: تُوفي رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان غائب في مَسعاة أخرجه فيها رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف لقي رجلاً في بعض طر مُقبلاً من المدينة، فقال له مات محمد؟ قال: نعم. قال: فمن قام مَقامه؟ قال: بكر. قال أبو سفيان: فما فعل المُستضعفان عليّ والعبّاس؟ قال: جالسين. قال: أما واللهّ لئن بقِيت لهما لأرفعنّ من أعقابهما، ثم قال: إني أرى غَيرةً لا يُطفئها إلا دم. فلما قدم المدينةَ جعل يطوف في أزقّتها ويقول:
بني هاشم لا تَطمع الناسُ فيكم ... ولا سيما تَيمُ بن مُرة أو عَدِي
فما الأمرُ إلا فيكمُ وإليكمُ ... وليس لها إلا أبو حَسن عَلى
فقال عمر لأبي بكر: إنّ هذا قد قَدم وهو فاعل شرًّا، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستألفه على الإسلام، فدَع له ما بيده من الصَّدقة، فَفَعل. فرضي أبو سفيان وبايعه.

سقيفة بني ساعدة
أحمد بن الحارث عن أبي الحَسن عن أبي مَعشر عن المَقْبريّ: أن المهاجرين بينما هم في حُجرة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وقد قَبضه اللهّ إليه، إذ جاء مَعْن بن عديّ وعُويم ساعدة، فقالا لأبي بكر: بابً فِتْنة إن يُغلقه اللهّ بك، هذا سعدُ بن عُبادة والأنصار يُريدون أن يُبايعوه. فَمضى أبو بكر وعمر وأبو عُبيدة حتى جاءوا سَقيفة بني ساعدة وسَعد على طِنّفس مُتكئاً على وِسادة، وبه الحًمّى، فقال له أبو بكر: ماذا ترى أبا ثابت؟ قال: أنا رجلٌ منكم. فقال حُباب بن المُنذر: منّا أمير ومنكم أمير، فإنّ عمل المُهاجريّ في الأنصاري شيئاً ردّ عليه، وإن عمل الأنصاريُّ في المهاجري شيئاً رد عليه، وإن لم تَفعلوا فأنا جذيلها المُحكّك وعُذَيقها المُرجّب، لَنُعيدنَّها جَذَعة.

قال عمر: فأردتُ أن أتكلم، وكنتُ زَوّرت كلاماً في نفسي. فقال أبو بكر: على رِسْلك يا عمر، فما ترَك كلمةً كنتُ زوَّرتها في نَفسي إلا تكلّم بها، وقال: نحن المهاجرون، أول الناس إسلاماً، وأكرمُهم أحساباً، وأوسَطُهم داراً، وأحسنُهم وُجوهاً، وأمسُّهم برسول اللّه صلى الله عليه وسلم رَحِماً، وأنتم إخوانُنا في الإسلام، وشُركاؤنا في الدَين، نَصرتم وواسيتم، فجزاكم اللهّ خيراً، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تَدين العربُ إلا لهذا الحيّ من قُريش، فلا تَنْفَسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضّلهم اللّه به، فقد قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قُريش. وقد رضيت لكم أحدَ هذين الرجلين - يعنى عمرَ ابن الخطاب وأبا عُبيدة بن الجَراح - فقال عمر: يكون هذا وِأنتَ حيّ! ما كان أحد لِيُؤخّرك عن مَقامك الذي أقامك فيه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، ثُم ضرب على يده فبايعه، وبايعه الناس وازدحموا على أبي بكر. فقالت الأنصار: قتلتم سعداً. فقال عمر: اقتُلوه قَتله الله، فإنه صاحبُ فتنة. فبايع الناسُ أبا بكر، وأتوا به المسجدَ يُبايعونه، فسمع العبّاسُ وعليٌّ التَكبيرَ في المسجد، ولم يَفرُغوا من غَسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليّ: ما هذا؟ قال العّباس: ما رُئِي مثلُ هذا قطّ، أما قلتُ لك! ومن حديث النًعمان بن بَشير الأنصاري: لما ثَقل رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم تكلّم الناس مَن يقوم بالأمر بعده، فقال قوم: أبو بكر، وقال قومٌ: أبي بن كعب. قال النُّعمان بن بَشير: فأتيتُا أبيّا فقلت: يا أبيّ، إن الناسَ قد ذكروا أنَ رسول صلى الله عليه وسلم يستخلف أبا بكر أو إياك، فانطلق حتى نَنظر في هذا الأمر. فقال: إنَّ عندي في هذا الأمر من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئاً ما أنا بذاكره حتى يَقبِضه اللّه إليه، ثم انطلق. وخرجت معه حتى دخلنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الصُّبح، وهو يَحسو حَسْوا في قَصعة مَشْعوبة. فلما فرغ أقبل على أبيّ فقال: هذا ما قلتُ لك. قال: فأوص بنا. فخرج يخطّ برجليه حتى صار على المِنبر، ثم قال: يا معشر المهاجرين، إنكم أصبحتم تَزيدون، وأصبحت الأنصارُ كما هي لا تزيد،ألا وإن الناس يَكْثرون وتَقِلّ الأنصار حتى يكونوا كالمِلْح في الطعام، فمن وَلى من أمرهم شيئاً فَلْيَقبَل من مُحسنهم، ولْيعفُ عن مُسيئهم، ثم دخل. فلما توفي قيل لي: هاتيك الأنصارُ مع سعد بن عُبادة يقولون: نحن الأولى بالأمر، والمهاجرون يقولون: لنا الأمر دونكم. فأتيت أبيّا فقرعتُ بابه، فخرج إليّ مُلتحفا، فقلت: ألا أراك إلا قاعداً ببيتك مُغلقاً عليك بابَك وهؤلاء قومُك من بني ساعدة يُنازعون المُهاجرين، فأخرج إلى قومك. فخَرج، فقال: إنكم واللّه ما أنتم من هذا الأمر في شيء، إنه لهم دونكم، يليها من المُهاجرين رجلان، ثم يُقتل الثالث، ويُنزع الأمرُ فيكون هاهنا، وأشار إلى الشام، وإن هذا الكلام لمبلول بريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أغلق بابَه ودخل. ومن حديث حذيفة قال: كنَا جلوساً عند رسول اللهّ عظيم، فقال: إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدُوا بالذين من بَعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر، واهتدُوا بهَدْي عمار، وما حَدّثكم ابن مسعود فصدقوه. الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر - في والعباس والزبير وسعد بن عُبادة. فأما عليّ والعباس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمة حتى بَعث إليهم أبو بكر عمرَ ابن الخطاب ليُخرِجهم من بيت فاطمة، وقال له: إِن أبوا فقاتِلْهم. فأقبل بقَبس من نار على أن يُضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمةُ، فقالت: يا بن الخطاب، أجئت لتُحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلتْ فيه الأمة. فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر: أكرهتَ إمارتي؟ فقال: لا، ولكني آليتُ أن لا أرتدي بعد موت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى أحفظَ القرآن، فعليه حَبست نفسي.

ومن حديث الزُّهري عن عُروة عن عائشة قالت: لم يُبايع عليٌ أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وذلك لستة أشهر من موت أبيها صلى الله عليه وسلم. فأرسل علي إلى أبي بكر، فأتاه في منزله فبايعه، وقال: واللهّ ما نَفسنا عليك ما ساق الله إليك من فَضل وخَير، ولكنّا كُنَا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئاً فاستبددْتَ به دوننا، وما نُنكر فضلك. وأما سعدُ بن عبادة فإنه رحل إلى الشام. أبو المنذر هشام بن محمد الكلبيّ قال: بث عمرُ رجلاً إلى الشام، فقال: ادْعه إلى البَيعة واحمل له بكل ما قَدرت عليه، فإن أيَ فاستعن اللّهَ عليه. فقَدم الرجل الشام، فلقيه بحُوران في حائطٍ، فدَعاه إلى البيعة، فقال: لا أبايع قُرشياً أبداً. قال: فإني أقاتلك. قال: وإن قاتلتَني! قال: أفخارج أنت مما دخلتْ فيه الأمة؟ قال: أمّا من البَيعة فأنا خارج. فرَماه بسَهم، فقتله. ميمون بن مِهران عن أبيه قال: رُمي سعد بنُ عبادة في حمّام بالشام، فقُتل. سعيد بن أبي عَروبة عن ابن سيرين قال: رُمي سعد بن عُبادة بسهم فوُجد دفينا في جسده. فمات، فبكته الجنّ، فقالت:
وقَتلنا سيّد الخَزْ ... رج سعدَ بن عُبادة
ورَميناه بسهمي ... نِ فلم نُخْطِىء فُؤاده

فضائل أبي بكر رضي اللّه عنه - محمد بن المَنكدر قال: نازع عمرَ أبا بكر، فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: هل أنتم تاركوِني وصاحبي؟ إنّ اللّه بَعثني بالهُدى ودين الحق إلى الناس كافّة، فقالوا جميعاً: كذبت، وقال أبو بكر: صدقتَ. وهو صاحبُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وجليسه في الغار، وأوّل من صلّى معه أمن به واتّبعه. وقال عمر بن الخطّاب: أبو بكر سيّدنا، وأعتق سيّدَنا. يريد بلالاً. وكان بلال عبداً لأميّة بن خَلف، فاشتراه أبو بكر وأَعتقه، وكان من مُولَّدي مكّة، أبوه رَباح، وأمه حَمامة. وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: مَن أول من قام معك في هذا الأمر؟ قال: حُرّ وعَبد. يريد بالحُر أبا بكر، وبالعَبد بلالاً. وقال بعضُهم: عليّ وخبّاب. أبو الحسن المدائني قال: دخل هارون الرشيدً مسجدَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى مالك بن أنس، فقيه المدينة، فأتاه وهو واقف بين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واْلمِنبر، فلما قام بين يديه وسلّم عليه بالخلافة، قال: يا مالك، صف لي مكان أبي بكر وعُمر من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا. فقال: مكانُهما منه يا أمير المؤمنين كمكان قَبريهما من قبره. فقال: شَفيتَني يا مالك: الشَّعبي عن أبي سَلمة: إنّ عليا سُئل عن أبي بكر وعمرِ، فقال: على الخَبير سقطتَ، كانا واللّه إمامَين صالحين مُصلحين، خَرجا من الدنيا خميصِين. وقال عليّ بن أبي طالب: سَبق رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم، وثَنّى أبو بكر، وثَلّث عمر، ثم خَبطتنا فتنةٌ عَمياء كما شاء اللّه. وقالت عائشة: تُوفّي رسولُ اللّه عظيم بين سَحْري ونَحري، فلو نَزل بالْجبال الراسيات ما نَزل بأبي لهدّها، اشرأبّ النِّفاق، وارتدت العرب، فواللّه ما اختلفوَا في لفظة إلا طار أبي بحظّها وغنائها في الإسلام. عمرو بن عثمان عن أبيه عن عائشة، أنه بلغها أن أُناساً يتناولون من أبيها، فأرسلت إليهم، فلما حضروا قالت: إنّ أبي واللّه لا تعطوه الأيدي، طَوَد مًنيف، وظل ممدود، أنجح إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم سَبْقَ الجواد إذا استولى على الأمد. فتى قريش ناشئاً، وكَهفها كهلا. يَفك عانيها، ويَريش مُملقها، ويرأب صَدْعها، ويَلُمّ شَعثها. فما برحت شكيمتُه في ذات اللهّ تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيى فيه ما أمات المُبطلون. وكان وقيد الجوامح، عزير الدَّمعة، شجّي النشيج. وأصفقت إليه نسوان مكة وولدانها يَسخرون منه ويستهزئون به، واللّهُ يستهزىء بهم وَيمُدّهم في طُغيانهم يَعمهوِن، وأكبرت ذلك رجالات قريش، فما فَلّوا له صفاة، ولا قصفوا قناة، حتى ضرب الحقُّ بجِرانه، وألقىِ بَرْكه، ورست أوتادُه. فلما قَبض اللّه نبيَّه ضَرب الشيطانُ رُواقَه، ومدّ طنبه، ونصب حبائلَه، وأجلب بخيله ورَجْله، فقام الصدِّيق حاسراً مشمِّراً. فردّ نَشر، الإسلام على غره، وأقام أَوَده بثِقافه، فابذعرّ النِّفاق بوطئه، وانتاش الناسَ بعَدْله، حتى أراح الحق على أهله، وحَقن الدماءَ في أهبها. ثم أتته منيّته، فسدّ ثُلمتَه نظيرُه في المَرحمة، وشقيقُه في المَعدلة، ذلك ابن الخطّاب. للّه دَرّ أم حَفلت له ودَرّت عليه. ففتح الفًتوح، وشرد الشِّرْك، وبَعَج الأرض، فقاءت أُكًلَها، ولفظت جَناها؟ ترأمه ويأباها، وتريده ويَصْدِف عنها، ثم تَركها كما صَحبها. فأَرُوني ما ترتابون؛ وأيَّ يومي أبي تَنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظَعنه إِذ نَظر لكم؟ أقول قولي، هذا واستغفر الله لي ولكم.

وفاة أبي بكر الصديق
رضي اللّه عنه
الليثُ بن سَعد عن الزُّهري قال: أهدي لأبي بكر طعام وعنده الحارث ابن كَلَدة فأكلا منه، فقال الحارث: أكلنا سّم سَنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحًوِل

فماتا جميعاً في يوم واحد عند انقضاء السنة. وإنما سمته يهود كما سمّت النبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر في ذِراع الشاة. فلما حضرت النبيّ صلى الله عليه وسلم الوفاةُ قال: ما زالت أكلُه خَيبر تُعاودني حتى قَطعت أبْهري. وهذا مثلُ ما قال الله تعالى " ثم لَقَطَعنا منه الوَتين " . والأبهر والوتين: عرقانِ في الصُلب إِذا انقطع أحدُهما مات صاحبه. الزُهري عن عُروة عن عائشة قالت: اغتسل أبو بكر يوم الاثنين لسبع خَلون من جُمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً، فحُم خمسةَ عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر يصلَي بالناس. وتُوفي ليلةَ الثلاثاء لثمانٍ بقين من جُمادى الآخرةِ سنة ثلاثَ عشرةَ من التاريخ. وغسلته امرأته أسماءُ بنت عُميسٍ. وصلٌى عليه عمرُ بن الخطاب بين القبر والمِنبر، وكبّر أربعا. الزُّهري عن سعيد بن المُسيّب قال: لما تُوفى أبو بكر أقامت عليه عائشة النَوح، فبلغ ذلك عمرَ فنهاهنَ، فأبين. فقال لهشام بنِ الوليد: أخرج إلي بنت أبي قُحافة، فأخرج إليه أم فَروة، فعلاها بالدرّة ضرباً، فتفرَقت النوائح. وقالت عائشة وأبوها يَغمِض، رضي الله عنه:
وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوَجهه ... ربيع اليتامى عِصْمة للأرامِل
قالت عائشة: فنظر إلي وقال: ذاك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم أغمي عليه. فقالت:
لعمرُك ما يُغنى الثرَّاءُ عن الفَتى ... إذا حَشْرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ
فنظر إلي كالغَضبان وقال: قولي: " وجاءتْ سَكْرةُ الموِت بالحقّ ذلك ما كُنت منه تَحِيد " ثم قال: انظروا مُلاءتين خَلَقين فاغسلوهما وكفَنوني فيهما، فإن الحيَّ أحوجُ إلى الجديد من الميت.
عُروة بن الزبير والقاسم بن محمد قالا: أوصى أبو بكر عائشةَ أن يدفن إلى جنب رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم. فلما تُوفى حُفر له وجعل رأسُه بين كَتِفي رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، ورأسُ عمرَ عند حَقْوي أبي بكر. وبقي في البيت موضع قبر. فلما حضرت الوفاةُ الحسنَ بن عليّ أوصى بأن يُدفن مع جدّه في ذلك الموضع. فلما أراد بنو هاشم أن يَحفِروا له مَنعهم مروانُ، وهو والي المدينة في أيام معاوية. فقال أبو هُريرة: علام تمنعه أن يُدفن مع جدّه؟ فأشهدُ لقد سمعتُ رسول الله عليه يقول: الحسن والْحُسين سيّدا شباب أهل الجنة. قال له مروان: لقد ضَيّع الله حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يَرْوه غيرُك. قال: أنا والله لقد قلتُ ذلك، لقد صحبتُه حتى عرفتُ مَن أحبُ ومن أبغض، ومن نَفى ومن أقرّ، ومن دعا له ومن دعا عليه. قال: وسُطح قبرُ أبي بكر كما سُطح قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ورُش بالماء.

هشام بن عُروة عن أبيه: إن أبا بكر صُلّي عليه ليلا ودُفن ليلا. ومات وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة، ولها مات النبي صلى الله عليه وسلم. وعاش أبو قحافة بعد أبي بكر أشهراً وأياماً، ووهب نصيبَه في ميراثه لولد أبي بكر. وكان نَقش خاتم أبي بكر: نعم القادر اللّه. ولما قُبض أبو بكر سُجّى بثوب، فارتجت المدينة من البكاء، ودَهشِ القوم كيوم قُبض فيه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم. وجاء عليّ بن أبي طالب باكياً مُسرعاً مسترجعاً حتى وقف بالباب وهو يقول. رَحِمك اللهّ أبا بكر، كنتَ واللهّ أولَ القوم إسلاماً، وأصدَقهم إيماناً، وأشدَّهم يقينا، وأعظَمهم غَناء، واحفظهم على رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وأحدبَهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبَهم برسول الله خُلقا وفضلا وهَديا وسَمْتا؛ فجزاك اللّه عن الإسلام وعن رسول اللهّ وعن المسلمين خيرا. صدقت رسول الله حين كذّبه الناس، وواسيتَه حين بخلوا، وقمتَ معه حين قعدوا، وسمّاك اللهّ في كتابه صدَيقاً، فقال: " والذي جاء بالصِّدق وصَدّق به " يريد محمداً ويريدك. كنت والله للإسلام حِصناً، وللكافرين ناكباً، لم تضلل حجّتك، ولم تَضعف بصيرتك، ولم تَجبن نفسُك. كنت كالجبلِ لا تحركه العواصف، ولا تُزيله القواصف. كنت كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ضعيفاً في بدنك، قوياً في دينك، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند اللّه، جليلاً في الأرض، كبيراً عند المؤمنين. لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى، فالضعيفُ عندك قويّ، والقويّ عندك ضعيف، حتى تأخذ الحق من القوي وتأخذه للضعيف، فلا حَرمك اللّه أجرك، ولا أضلّنا بعدك. القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي تُوفي فيه فقالت: يا أبت، اعهد إلى خاصّتك، وأنفذ رأيك في عامّتك، وانقل من دار جهازك إلى دار مُقامك، إنك مَحضور ومتّصل بي لوعتُك، وأرى تخاذلَ أطرافك وانتقاع لونك، فإلى اللهّ تَعْزيتي عنك، ولديه ثوابُ حُزني عليك. أرقأ فلا أرْقأ، وأشكو فلا أُشكى. قال: فَرفع رأسه، وقال: يا أمّه، هذا يوم يُخلَّى لي فيه عن غطائي، وأشاهد جَزائي؛ إن فرحاً فدائم، وان ترحاً فمُقيم. إني اضطلعتُ بإمامة هؤلاء القوم حين كان النُّكوص إضاعة، والخَزَل تفريطا؛ فشهيدي اللّه، ما كان بقلبي إلا إياه، فتبلّغت بصَحفتهم، وتعلّلت بدرّة لِقْحتهم، فأقمت صلايَ معهم، لامختالًا أشِراً، ولا مُكاثراً بَطِراً. لم أعْدُ سدّ الجَوعة، وتَوْرية العَوْرة، وإقامة القِوام، من طوى مُمعض، تهفو منه الأحشاء، وتجفّ له الأمعاء، فاضطررت إلى ذلك اضطرار الجَرِض إلى الماء، المَعيفِ الآجن. فإذا أنا مِتّ فردّي إليهم صَحْفتهم وعبدهم ولقحتهم ورَحاهم ودثارةً ما فوقي اتقيت بها البرد، ووِثارةً ما تحتي اتقيتُ بها أذى الأرض، كان حشوها قِطَع السعف. قال: ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول اللهّ، لقد كلفت القوم بعدك تعباً، وولّيتهم نصباً، فهيهات من شَقَّ غُبارك! فكيف اللحاقُ بك!.

استخلاف أبي بكر لعمر

عبد اللّه بن محمد التّيمي عن محمد بن عبد العزيز: إن أبا بكر الصديق حين حضرته الوفاةُ كتب عَهده وبَعث به مع عثمان بن عفان ورجلٍ من الأنصار ليقرآه على الناس، فلما اجتمع الناسُ قاما فقالا: هذا عهدُ أبي بكر، فإن تُقِرُّوا به نقرأْه، وإن تُنكروه نرجعه. فقال: بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا عهد أبي بكر بن أبي قُحافة عند آخر عهده بالدُّنيا خارجا منها، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيثُ يُؤمِن الكافر، ويتقي الفاجر، ويَصدق الكاذب. إني أَمّرت عليكم عمرَ بن الخطّاب، فإن عَدل واتقى فذاك ظنِّي به ورجائي فيه، وإن بدّل وغيّر فالخيرَ أردت، لا يعلم الغيب إلا الله قال أبو صالح: أخبرنا محمد بن وضاح، قال: حدّثني محمد بن رُمْح بن المهاجر التُّجيبي قال: حدّثني الليثُ بن سعد عن عُلوان عن صالح بن كَيسان عن حميد ابن. عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه في مَرضه الذي تُوفي فيه فأصابه مُفيقا، فقال: أصبحت بحمد اللهّ بارئاً. قال أبو بكرِ: أتراه؟ قال: نعم. قال: أما إني على ذلك لشديدُ الِوَجع، ولما لقيتُ منكم يا معشر المُهاجرين أشدُّ عليَّ من وَجعي. إني وَليت أمَركم خيركم في نفسي فكلّكم وَرِم من ذلك أنفه، يريد أن يكون له الأمر من دونه، ورأيتم الدنيا مُقبلة، ولن تقبل - وهي مُقبلة - حتى تتخذوا سُتور الحرير ونضائد الدِّيباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأَذربيّ كما يألم أحدُكم الاضطجاع على شَوك السّعدان. والله لأن يُقدّم أحدكم فتُضرب عُنقه في غير حدّ خير له من أن يَخوض في غَمْرة الدنيا. ألا وإنكم أول ضالّ بالناس غدا فتصدّوهم عن الطريق يميناً وشمالاً. يا هاديَ الطريق إنما هو الفَجر أو البَحْر. قال: فقلتُ له: خَفِّض عليك يَرحمك اللّه، فإن هذا يَهيضك على ما بك، إنما الناس في أَمرك بين رجلين، إما رجل رأى ما رأيتَ فهو معك، وإما رجل خالفَك فهو يُشير عليك برأيه، وصاحبَك كما تُحب، ولا نَعلمك أردتَ إلا الخير، ولم تزل صالحا مُصلحا، مع أنك لا تأسي على شيء من الدنيا. فقال: أجل، إني لا آسىَ على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وودتُ أني تركتهن، وثلاثٍ تركتهن ووددتُ أني فعلتهن، وثلاثٍ وددتُ أني سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنهن. فأما الثلاث التي فعلتهن ووددتُ أني تركتُهن: فوددتُ أني لم أكشف بيتَ فاطمة عن شيء، وإن كانوا أغلقوه على الحرب؛ ووددتُ أني لم أكن حَرقت الفَجَاءة السلمي، وأني قتلته سريحاً أو خلَيته نجيحا؛ ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قد رميتُ الأمر في عُنق أحد الرجلين، فكان أحدُهما أميراً وكنتُ له وزيراً - يعني بالرجلين عمرَ بن الخطاب وأبي عُبيدة بن الجراح - وأما الثلاث التي تركتُهن ووددتُ أني فعلتُهن: فوددتُ أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربتُ عنقه؛ فإنه يُخيل إلي أنه لا يرى شرُّا إلا أعان عليه؛ ووددتُ أني سيرت خالدَ بن الوليد إلى أهل الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظَفروا وإن انهزموا كنتُ بصدد لقاء أو مَدد؛ ووددت أني وجهت خالد بن الوليد إلى الشام ووجهتُ عمر ابن الخطاب إلى العِراق، فأكون قد بسطت يدَي كلتيهما في سبيل اللّه. وأما الثلاث التي وددتُ أني أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنهن: فإني وددتُ أني سألته: لمن هذا الأمر من بعده فلا يُنازعه أحد، وأني سألته هل للأنصار يا هذا الأمر نصيب فلا يُظلموا نصيبَ منه، ووددتُ أني سألته عن بنت الأخ والعَمة، فإنَ في نفسي منهما شيئاً.

نسب عمر بن الخطاب وصفته

أبو الحسن عليّ بن محمد قال: هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزى بن رِياح بن عبد اللّه بن قُرط بن رَزاح بن عَدِيّ بن كعب بن لُؤي بن غالب ابن فِهْر بن مالك. وأُمه حَنْتمة بنت هاشم بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرِ بن مَخزوم. وهاشم هو ذو الرُمحين. قال أبو الحسن: كان عمر رجلاً آدمَ مُشْرَباً حُمرة طويلاً أصلِع له حِفَافان، حسنَ الخدّين والأنف والعينين، غليظَ القدمين والكفين، مَجُدول الفحم، حسن الخَلق، ضخم الكراديس، أعسَر يَسَر، إذا مَشى كأنه راكب. وَلى الخلافةَ يوم الثلاثاء لثمانٍ بقين من جُمادى الآخرة سنة ثلاثَ عشرةَ من التاريخ. وطعن لثلاث بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين من التاريخ. فعاش ثلاثةَ أيام. ويقال سبعة أيام. مَعْدان بن أبي حَفصة، قال: قُتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة، في رواية الشعبيّ. ولها مات أبو بكر، ولها مات النبي صلى الله عليه وسلم.

فضائل عمر بن الخطاب

أبو الأشهب عز الحسن، قال: عاتب عُيينةُ عثمانَ، فقال له: كان عمر خيراً لنا منك، أعطانا فأغنانا، وأخشانا فأتْقانا. وقيل لعثمان: ما لك لا تكون مثلَ عمر؟ قال: لا أستطيع أن أكون مثلَ لُقمان الحَكيم. القاسم بن عمر قال: كان إسلام عمر فَتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمة. وقيل: إن عمر خَطب امرأة من ثقيف وخطبها المُغيرة؛ فزوَجوها المُغيرة. فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: ألا زوجتم عمر؛ فإنه خير قريش أولها وآخرها، إلا ما جعل اللهّ لرسوله. الحسن بن دينار عن الحسن، قال: ما فَضل عمرُ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أطولَهم صلاة، وأكثرَهم صياماً؛ ولكنه كان أزهدهم في الدنيا، وأشدهم في أمر الله. وتظلّم رجل من بعض عًمال عمر، وادًعى أنه ضَربه وتعدَى عليه، فقال: اللهم إِني لا أحلُّ لهم أشعارَهم ولا أبشارهم. كلُ من ظَلمه أميرُه فلا أميرَ عليه دوني، ثم أقاده منه. عَوَانُة عن الشًعبي قال: كان عمر يطوف في الأسواق، ويقرأ القرآن، ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم. وقال المُغيرة بن شُعبة، وذكر عُمَر، فقال: كان والله له فضلٌ يمنعه من أن يَخدع، وعقل يَمنعه من، أن يَنخدع. فقال عمر: لست بِخَب ولا الَخب يَخدعني. عِكرمة عن ابن عباس، قال قال: بينما أنا أمشي مع عُمرَ بن الخطاب في خلافته وهو عامد لحاجة له وفي يده الذَرة، فأنا أمشي خلفه وهو يُحدّث نفسَه ويَضرب وحشي قَدميه بدِرَّته، إذ التفت إليّ، فقال: يا بن عبّاس، أتدري ما حَملني على مَقالتي التي قلتُ يوم تُوفّي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قال: الذي حَملني على ذلك أنِّي كنتُ أقرأ هذه الآية: " وكذلك جَعلناكم أُمةً وَسَطاً لتكونوا شًهداءَ على النَّاس ويكونَ الرَّسولُ عليكم شَهيداً " فواللّه إني كنت لأظنّ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يَشهد علينا بأخفّ أعمالنا، فهو الذي دَعاني إلى ما قلت. ابن دأب قال: قال ابن عبّاس: خرجت أريد عمر في خلافته، فألفيتُه راكباً على حمار قد أَرْسنه بحَبل أسود، وفي رجليه نَعلان مخصوفتان، وعليه إزار قصير وقميص قصير، قد انكشفت منه ساقاه، فمشيتُ إلى جَنبه وجعلتُ أجبِذُ الإزار عليه، فجعل يَضحك ويقول: إنه لا يطيعك. حتى أتى العالية، فَصنع له قومٌ طعاماً من خُبز ولحم، فدَعه إليه، وكان عمر صائماً، فجعل يَنبُذ إليّ الطعام ويقول: كُلْ لي ولك. ومن حديث ابن وَهْب عن اللَّيث بن سعد: أن أبا بكر لم يكن يأخذ من بيت المال شيئاً ولا يُجري عليه من الفيء درهما، إلا أنه استلف منه مالاً، فلما حَضرته الوفاةُ أمر عائشةَ بردّه. وأما عمرُ بن الخطاب فكان يُجرى على نفسه دِرْهمين كلَّ يوم. فلما وَلى عمرُ بن عبد العزيز قيل له: لو أخذتَ ما كان يأخذ عمرُ بن الخطّاب؟ قال: كان عمرُ لا مالَ له، وأنا مال يُغنيني بم فلم يأخذ منه شيئاً. أبو حاتم عن الأصمعي، قال: قال عمر وقام على الرَّدم: أين حقك يا أبا سفيان مما هنا؟ قال: ممّا تحت قَدميك إليّ. قال: طالما كنتَ قديمَ الظّلم، ليس لأحد فيما وراء قدميّ حق، إنما هي منازل الحاج. قال الأصمعي: وكان رجلٌ من قريش قد تقدَّم صدرٌ من داره عن قدمَي عمر فهدمه. وأراد أن يُغوِّر البئر، فقيل له: في البئر للناس مَنفعة، فتركها. قال الأصمعي: إذا ودَّع الحاجًّ ثم بات خلفَ قدمي عمرَ لم أرَ عليه أن يرجع. يقول: قد خرج من مكة.

مقتل عمر

أبو الحسن: كان للمُغيرة بن شُعبة غلام نَصراني يقال له: فَيْروز أبو لؤلؤة، وكان نجَّاراً لطيفاً، وكان خِراجُه ثقيلاً، فشكا إلى عمر ثِقل الخراج، وسأله أن يكلِّم مولاه أن يُخفِّف عنه من خراجه، فقال له: وكم خِراجك؟ قال ثلاثة دراهم في كل شهر. قال وما صناعتُك؟ قال: نجَّار. قالت: ما أرى هذا ثقيلاً في مثل صناعتك. فخرج مُغضَباً، فاستلّ خِنْجراً محدودَ الطَّرفين. وكان عمر قد رأى في المَنام ديكاً أحمر ينقره ثلاث نَقرات، فتأوله رجلاً من العجم يَطعنه ثلاثَ طَعنات. فطعنه أبو لُؤِلؤة بخِنْجره ذلك في صلاة الصُّبح ثلاثَ طَعنات، إحداها بين سرُّته وعانته، فخرقت الصِّفاق، وهي التي قتلته. وطُعن في المسجد معه ثلاثةَ عشرَ رجلاً، مات منهم سَبعة. فأقبل رجلٌ من بني تميم، يقال له حِطَّان، فألقى كِساءه عليه ثم احتضنه. فلما علم العِلج أنه مأخوذ طَعن نفسه وقدَّم عُمر صُهيباً يصلِّي بالناس، فقرأ بهم في صلاة الصُّبح: " قل هو اللّه أَحد " في الرَّكعة الأولى، و " قُل يأيّها الكافرون " في الرّكعة الثانية. واحتُمل عمر إلى بيته، فعاش ثلاثةَ أيام ثم مات. وقد كان استأذن عائشةَ أن يُدفن في بيتها مع صاحبيه، فأجابته وقالت: واللّه لقد كنتُ أردتُ ذلك المَضجع لنفسي ولأوثرنّه اليوم على نفسي. فكانت ولايةُ عمر عشرَ سنين. صلّى عليه صُهيب بين القَبر والمِنْبر، ودُفن عند غروب الشمس. كاتبُه: زيدُ بن ثابت، وكتب له مًعَيقب أيضاً. وحاجبُه: يرْفأ، مولاه. وخازِنُه: يسار. وعلى بيت ماله: عبدُ اللّه ابن الأرقم. وقال الليثُ بن سعد: كان عمرُ أول من جَنّد الأجناد، ودَوَّن الدَّواوين، وجعل الخلافة شُورى بين ستّة من المسلمين، وهم: عليّ وعُثمان وطِلْحة والزًّبير وسَعد بن أبي وقَّاص وعبدُ الرحمن بن عوف، ليختاروا منهم رجلاً يولّونه أمرَ المسلمين. وأوصى أن يَحضُر عبدُ اللهّ بن عُمر معهم، وليس له من أمر الشُّورى شيء.

أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان

صالح بن كيسان قال: قال ابن عباس: دخلت على عُمر في أيام طَعْنته، وهو مُضطجع على وسادة من أدم، وعنده جماعةٌ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال له رجل: ليس عليك بأس. قال: لئن لم - يكن علِيّ اليوم ليكونّ بعد اليوم، وإنّ للحياة لنصِيباً من القلب، وإن للموت لكُربة، وقد كنتُ أحب أن أُنجيَ نفسي وأنجوَ منكمِ، وما كنتُ من أمركم إلا كالغَريق يرى الحياة فيرجوها، ويخشى أن يموت دونها، فهو يرْكض بيديه ورجليه؛ وأشدُ من الغريق الذي يرى الجنَة والنار وهو مشغول. ولقد تركتُ زَهرتكم كما هي، ما لبستُها فأخلقتُها، وثمرتَكم يانعة في أكمامها ما أكلتُها، وما جَنيت ما جنيت إلا لكم، وما تركتُ ورائي دِرْهما ما عدا ثلاثين أو أربعين درهما، ثم بكى وبكى الناسُ معه. فقلت: يا أمير المؤمنين، أبشر، فواللّه لقد مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ومات أبو بكر وهو عنك راضٍ، وإن المسلمين راضون عنك. قال: المَغْرور واللّهَ من غَررتموه، أما واللّه لو أن لي ما بين المشرق والمغرب لافتديتُ به من هَوْل الُمَطّلَع. داود بن أبي هِند عن قَتادة قال: لما ثقُل عمر قال لولده عبد اللّه: ضَع خَدّي على الأرض. فَكَره أن يفعل ذلك. فوضع عمرُ خذَه على الأرض وقال: ويل لعمر ولام عمر إن لم يَعْفُ اللّه عنه. أبو أمية بن يَعلى عن نافع قال: قيل لعبد اللّه بن عُمر: تُغسل الشهداء؟ قال: كان عمر أفضلَ الشُّهداء، فغُسّل وكُفن وصلُيَ عليه. يونس عن الحسن، وهشامُ بن عُروة عن أبيه، قالا: لما طُعن عمرُ بن الخطّاب قيل له: يا أمير المُؤمنين، لو استخلفتَ؟ قال: إن تركتُكم فقد تَرككم مَن هو خيرٌ منّي، وإِن استخلفتُ فقد استخلف عليكم من هو خير مني، ولو كان أبو عُبيدة بن الجَراح حيًّا لاستخلفتُه، فإن سألني ربَي قلت: سمعتُ نبيك يقول: إنه أمينُ هذه الأمة؛ ولو كان سالمٌ مولًى أبي حُذيفة حيا لاستخلفتُه، فإن سألني ربِّي قلت: سمعتُ نبيَّك يقول: إنّ سالماً ليُحب اللّه حُبَا لو لم يَخفه ما عصاه. قيل له: فلو أنك عهدتَ إلى عبد اللّه فإنه له أهلٌ في دينه وفَضله وقديم إسلامه. قال: بِحَسْب آل الخطَّاب أن يُحاسَب منهم رجلٌ واحد عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولوددتُ أني نجوتُ من هذا الأمر كَفافاً لا لي ولا علي. ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدتَ؟ فقال: قد كنتُ أجمعتُ بعد مقالتي لكم أن أولّي رجلاً أمركم أرجو أن يَحملكم على الحق - وأشار إلى عليّ - ثم رأيتُ أن لا أتحملها حيّا وميتاً، فعليكم بهؤلاء الرًهط الذين قال فيهم النبيٌ صلى الله عليه وسلم.

إنهم من أهل الجنة، منهم سَعيد بن زيد ابن عمرو بن نُفيل، ولستُ مُدخِلَه فيهم، ولكن الستَة: علي وعثمان، ابنا عبد مناف، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، خال رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، والزبير، حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، وطَلحة الخير، فليختاروا منهم رجلاً، فإذا ولَوكم والياً فأحسِنوا مُؤازرته. فقال العباس لعلي: لا تَدخل معهم. قال: أكره الخلاف. قال: إذن ترى ما تكره. فلما أصبح عُمرُ دعا عليا وعثمان وسعداً والزُّبير وعبد الرحمن، ثم قال: إني نظرت فوجدتُكم رؤساءَ الناس وقادَتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وإني لا أخاف الناسَ عليكم، ولكني أخافكم على الناس، وقد قُبض رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، فاجتمعوا إلى حُجرة عائشة بإذنها، فتشاوروا واختاروا منكم رجلاً، ولْيُصل بالناس صُهيب ثلاثة أيام، ولا يأتي اليومُ الرابع إلا وعليكم أميرٌ منكم، ويحضركم عبدُ الله مُشيراً، ولا شيءَ له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قَدِم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مَضت الأيام الثلاثة قبل قدُومه فأمضُوا أمركم. ومن لي بطَلحة؛ فقال سعد: أنا لك به إن شاء الله. قال لأبي طَلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إنَ الله قد أعزّ بكم الإسلام، فاختر خَمسين رجلاً من الأنصار وكُونوا مع هؤلاء الرهط حتى يَختاروا رجلاً منهم. وقال للمِقْداد بن الأسود الكِنديّ: إذا وضعتُموني في حُفرتي فاجمع هؤلاء الرَّهط حتى يختاروا رجلاً منهم. وقال لصُهيب: صل بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليًّا وعثمان والزُّبير وسعداً وعبد الرحمن وطَلحة، إن حَضر، بيت عائشة وأحْضِر عبدَ الله بن عمر، وليس له في الأمر شيء، وقُم على رُؤوسهم، فإن اجتمع خمسةٌ على رأي واحد وأبى واحدٌ فاشدَخ رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعةٌ فرضُوا وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً فحكِّموا عبدَ الله بن عمر، فإن لم يرضَوا بعبد الله فكُونوا مع الذين فيهم عبدُ الرحمن بن عوف واقتُلوا الباقين، إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس وخرجوا. فقال علي لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومُكم فلن يومروكم أبداً. وتلقاه العبَّاس فقال له: عَدلتْ عنا. قال له: وما أعلمك؟ قال: قَرن بي عثمان، ثم قال: إن رضي ثلاثةٌ رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبدُ الرحمن بن عوف، فسَعد لا يخالف ابن عَمه عبد الرحمن، وعبدُ الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون، فلو كان الآخران معي ما نَفعاني، فقال العبّاس: لم أدفعك في شيء إلا رجعتَ إليّ مستأخرا بما أكره، أشرتُ عليك عند وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تسأله فيمن، هذا الأمر فأبيت، وأشرتُ عليك بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرتُ عليك حين سمَّاك عمر في الشُّورى أن لا تدخل معهم فأبيت، فاحفظ عنّي واحدة: كل ما عرَض عليك القوم فأمسك إلى أن يولّوك، واحذر هذا الرهطَ فإنهم لا يَبْرَحون يدفعوننا عن هذا الَأمر حتى يقوم لنا به غيرُنا. فلما مات عمر وأخرجت جِنازته تصدَّى عليّ وعثمان أيهما يصلّي عليه. فقال عبدُ الرحمن: كلا كما يحب الأمر، لستما مِن هذا في شيء، هذا صُهيب، استخلفه عمرُ يصلّي بالناس ثلاثاً حتى يجتمع الناس على إمام. فصلّى عليه صُهيب. فلما دُفن عمر جمع المِقدادُ بن الَأسود أهل الشُّورى في بيت عائشة بإذنها وهم خمسة، معهم ابن عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة، فَحجبهم. وجاء عمرو بن العاص والمُغيرة بن شُعبة فجلسا بالباب، فَحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تُريدان أن تقولا: حضرنا وكُنَّا في أهل، الشُّورى! فتنافس القومُ في الأمر، وكثُر بينهم الكلام، كلٌّ يرى أنه أحقُّ بالأمر. فقال أبو طلحة: أنا كنتُ لأن تدفعوها أخوفَ مني لأن تنافسوها، لا والذي ذَهب بنفس محمد لا أَزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر بها عمر أو أَجلس في بيتي. فقال عبدُ الرحمن: أيكم يُخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن يُولّيها أفضَلكم؛ فلم يُجبه أحد. قال: فأنا أنخلع منها. قال عثمان: أنا أولُ مَن رضي، فإني سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: عبدُ الرحمن أمين في السماء أمين في الأرض. فقال القوم: رضينا، وعليّ ساكت. فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: إن أعطيتَني مَوْثقا لتُؤْثرنّ الحق، ولا تَتبع الهوى، ولا تَخُص ذا

رَحم، ولا تألو الأمة نُصحاً. قال: أعطوني مواثيقَكم على أن تكونوا معي على مَن نَكل، وأنْ ترضوا بما أخذتُ لكم. فتوثّق بعضُهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن.رَحم، ولا تألو الأمة نُصحاً. قال: أعطوني مواثيقَكم على أن تكونوا معي على مَن نَكل، وأنْ ترضوا بما أخذتُ لكم. فتوثّق بعضُهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن.
فخَلا بعليّ، فقال: إنك أحق بالأمر لقَرابتك وسابقتك وحُسن أثرك، ولم تَبْعد، فمن أحقُّ بها بعدك مِن هؤلاء؟ قال: عثمان. ثم خلا بعثمان فسأل عن مثل ذلك. فقال: علي ثم خلا بسعد. فقال عثمان ثم خلا بالزبير. فقال: عثمان. أبو الحسن قال: لما خاف عليُّ بن أبي طالب عبدَ الرحمن بن عوف والزُّبير وسعدا أن يكونوا مع عثمان لقي سعدا ومعه الحسنُ والحُسين، فقال له: " اتقُوا اللّهَ الَّذي تَساءلون به والأرحام إنَ اللّه كان عليكم رَقِيباً " . أسألك برَحم ابنيّ هذيِنِ من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وبرَحم عمِّي حمزة منك أن لا تكون مع عبد الرحمن ظهيراً عليّ لعُثمان، فإنّي أدلي إليك بما لا يُدلي به عثمان. ثم دار عبدُ الرحمن لياليَه تلك على مشايخ قُريش يُشاورهم، فكلّهم يُشير بعثمان، حتى إذا كان في الليلة آلتي استكمل فيم صَبيحتها الأجل أتى منزلَ المِسْورِ ابن مخْرمة بعد هَجْعة من الليل فأيقظه، فقال: ألا أراك إلا، نائما ولم أذق في هذه الليالي نوما، فانطلِقْ فادعُ لي الزًّبير وسعداً، فدعا بهما. فبدأ بالزُّبير في مُؤخَّر المسجد، فقال له: خَلِّ بني عبد مناف لهذا الأمر. فقال: نَصيبي لعلّي. فقال لسعد: أنا وأنت كالآلة فاجعل نصيبَك لي فأختار. قال: أما إن اخترت نفسك فنَعم، وأما إن اخترت عثمان فعليٌّ أحب إليَّ منه. قال: يا أبا إسحاق، إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار، ولو لم أفعل وجُعل إليَّ الخيارُ ما أردتُها، إني رأيت كأني في رَوْضة خضراء كثيرةِ العُشب، فدخل فَحْل لم أر مثلَه فحلاً أكرمَ منه، فمرّ كأنه سَهم لا يلتفت إلى شيء مما في الرَّوضة حتى قَطعها، ودَخل بعير يتلوه فأتبع أثرَه حتى خرج إليه من الرّوضة، ثم دخل فحلٌ عَبقريّ يَجر خُطامه يلتفت يميناً وشمالًا وَيمضي قَصْد الأولَيْن، ثم خرج من الرَّوضة، ثم دخل بعير رابع فرَتع في الروضة، ولا واللّه لا أكون البعيرَ الرابع، ولا يقوم بعد أبي بكر وعُمَر أحدٌ فيرضى الناسُ عنه. ثم أرسل المِسْورَ إلى عليّ، وهو لا يَشك أنه صاحب الأمر. ثم أرسل المِسْورَ إلى عثمان فناجاه طويلاً حتى فرَّق بينهما آذان الصُّبح. فلما صَلوا الصبحَ جَمع إليه الرهطَ وبعث إلى مَن حَضره من المُهاجرين والأنصار، وإلى أمراء الأجناد، حتى ارتج المسجد بأهله فقال: أيها الناس، إنِّ الناس قد احبُّوا أن تلحق أهلُ الأمصار بأمصارهم وقد عَلموا مَن أميرُهم. فقال عمَّار بن ياسر: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا. فقال المِقداد بن الأسود: صدق عمَّار، إن بايعتَ عليّا قلنا: سَمِعنا وأطعنا. قال ابن أبي سَرْحٍِ: إنْ أردتَ أن لا تختلف قريش فبايع عُثمان، إن بايعتَ عثمان سمعنا وأطَعْنا. فشتم عمار ابن أبي سَرْح، وقال: متي كنتَ تَنصح المسلمين! فتكلم بنو هاشم وبنو أمية. فقال عمار: أيها الناس، إن اللّه أكرمنا بنبيّنا وأعزّنا بدينه، فأنى تَصْرفون هذا الأمرَ عن بيت نبيّكم! فقال له رجلَ من بني مخزوم: لقد عدوتَ طَوْرك يا بن سُمية، وما أنت وتأميرُ قريش لأنفسها. فقال سعدُ بن أبي وقَاص: يا عبد الرحمن، افرُغ قبل أن يفتتن الناسُ. فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلُن أيها الرهطُ على أنفسكم سبيلا.

ودعا عليّاً فقال: عليك عهدُ الله وميثاقُه لتعملنّ بكتاب الله وسُنة نبيه وسيرة الخَليفتين من بعده؟ قال: أعمل بمبلغ علمي وطاقتي. ثم دعا عثمان، فقال: عليك عهدُ اللّه وميثاقُه لتعملنَّ بكتاب اللّه وسُنة نبيّه وسرة الخليفتين من بعده؟ فقال: نعم، فبايعه. فقال عليّ: حبوتَه محاباةً، ليس ذا بأول يوم تَظاهرتم فيه علينا، أمَا والله ما ولّيتَ عثمانَ إلا ليردّ الأمر إليك، والله كل يومٍ هو في شأن. فقال عبدُ الرحمن: يا علي، لا تَجعل على نفسك سبيلا، فإِنّي قد نظرتُ وشاورتُ الناسَ فإذا هم لا يَعْدلون بعثمانَ أحدا. فخرج عليّ وهو يقول: سيَبلغ الكتابُ أجلَه. فقال المقدادُ: يا عبد الرحمن، أمَا والله لقد تركتَه من الذين يَقْضون بالحقّ وبه يَعْدلون. فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدتُ للمُسلمين. قال: لئن كنتَ أردتَ بذلك الله فأثابك الله ثوابَ المحسنين. ثم قال: ما رأيتُ مثلَ ما أوتي أهلُ هذا البيت بعد نبيِّهم، إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول إن أحداً أعلم منه، ولا أقضيَ بالعَدْل، ولا أعرفَ بالحق، أما واللّه لو أجد أعوانا! قال له عبدُ الرحمن: يا مقداد، اتق الله فإني أخشى عليك الفِتْنة. قال: وقدم طلحة في اليوم الذي بُويع فيه عثمان، فقيلِ له: إنَ الناسَ قد بايعوا عثمان. فقال: أكُلّ قُريش رضُوا به؟ قالوا: نعم. وأتى عثمان، فقال له عثمانُ: أنت على رأس أمرك. قال طلحة: فإنْ أبيتُ أتردُها؟ قال: نعم. قال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم. قال: قد رضيتُ، لا أرغب عما اجتمعت الناسُ عليه، وبايعه. وقال المغيرة بن شُعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قد أصبتَ إذ بايعتَ عثمان ولو بايعت غيرَه ما رضيناه. قال: كذبتَ يا أعور، لو بايعتُ غيره لبايعتَه وقلت هذه المقالة. وقال عبدُ الله بن عباس: ماشيتُ عمرَ بن الخطاب يوماً فقال لي: يا ابن عبّاس، ما يمنع قومَكم منكم وأنتم أهلَ البيت خاص؟ قلت: لا أدري. قال: لكني أدري، إنكم فَضلتموهم بالنّبوة، فقالوا: إن فَضلوا بالخلافة مع النبوّة لم يُبقوا لنا شيئاً، وإن أفضل النَّصيبين بأيديكم، بل ما إخالها إلا مُجتمعة لكم وإن نزلت على رغم أنف قريش. فلما أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلّة من أصحاب محمد، قيل لعبد الرَّحمن: هذا عملُك، قال: ما ظننتُ هذا، ثمَ مَضى ودَخل عليه وعاتَبه، وقال: إنما قَدَّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، فخالفتَهما وحابيتَ أهل بيتك وأوطأتَهم رِقاب المُسلمين. فقال: إنَ عمر كان يَقطع قرابته في الله وأنا اصِل قَرابتي في الله. قال عبدُ الرحمنِ: للّه عليّ أن لا أكلمك أبدا، فلم يُكلَمه أبداً حتى مات، ودخل عليه عثمان عائداً له في مرَضه، فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يُكلِّمه. ذكروا أنَ زياداً أوفد ابن حُصين على معاوية، فأقام عنده ما أقام، ثم إنَ معاويةَ بعث إليه ليلا، فخلا به، فقال له: يا بن حُصين، قد بلغني أنَّ عندك ذِهناً وعَقلا، فأَخبرني عن شيء أسألُك عنه. قال: سَلْني عما بدا لك. قال: أخبرني ما الذي شتَت أمرَ المسلمين وفَرق أهواءهم وخالف بينهم؟ قال: نعم، قَتْل الناسِ عثمانَ. قال: ما صنعتَ شيئاً. قال: فمسيرُ عليّ إليك وقِتالًه إياك. قال: ما صنعت شيئاً. قال: ما عندي غيرُ هذا يا أمير المؤمنين. قال: فأنا أخبرك، إنه لم يُشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشُّورى التي جعلها عمرُ إلى ستّة نفر، وذلك أنَّ اللّه بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كَره المُشركون، فَعَمل بما أمره اللّه به ثم قَبضه الله إليه، وقدَم أبِا بكر للصلاة، فرضُوه لأمر دُنياهم إذ رَضِيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأمر دينهم، فَعمل بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار بسَيْره، حتى قبضه اللّه، واستخلف عمرَ، فعمل بمثل سِيرته، ثم جعلها شورى بي ستة نفر، فلم يكن رجلٌ منهم إلا رجاها لنفسه ورجاها له قومُه، وتطلعت إلى ذلك نفسُه. ولو أنَّ عمرَ استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف. وقال المُغيرة بن شُعبة: إني لعند عمرَ بن الخطاب، وليس عنده أحد غيري، إذا أتَاه آتٍ فقال: هل لك يا أميرَ المؤمنين في نَفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزعمون أنَ الذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك لم يكن له، وأنه

كان بغير مَشورة ولا مُؤامرة، وقالوا: تعالوا نتعاهد أن لا نعود إلى مثلها. قال عمر: وأين هم؟ قال: ي دار طَلْحة. فخرج نحوهم وخرجتُ معه، وما أعلمه يُبصرني من شدّة الغضب، فلما رأواه كَرهوه وظنوا الذي جاء له. فوقف عليهم، وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله لن تتحابوا حتى يتحابّ الأربعة: الإنسان والشيطان يُغويه وهو يَلعنه، والنار والماء يطفئها وهي تُحرقه، ولم يأنِ لكم بعدُ، وقد آن ميعادُكم ميعاد المسيخ متى هو خارج. قال: فتفرّقوا فسلك كلُّ واحد منهم طريقا. قال المُغيرة: ثم قال لي: أدرك ابن أبي طالب فاحْبِسه عليّ. فقلت: لا يفعل أميرُ المؤمنين وهو مُغِدّ. فقال: أدرِكه وإلا قلتُ لك يا بن الدباغة. قال: فأدركتُه، فقلت له: قِف مكانَك لإمامك واحلُم فإنه سُلطان وسيَندم وتَندم. قال: فأقبل عمر، فقال: والله ما خَرج هذا الأمر إلا من تحت يدك.ان بغير مَشورة ولا مُؤامرة، وقالوا: تعالوا نتعاهد أن لا نعود إلى مثلها. قال عمر: وأين هم؟ قال: ي دار طَلْحة. فخرج نحوهم وخرجتُ معه، وما أعلمه يُبصرني من شدّة الغضب، فلما رأواه كَرهوه وظنوا الذي جاء له. فوقف عليهم، وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله لن تتحابوا حتى يتحابّ الأربعة: الإنسان والشيطان يُغويه وهو يَلعنه، والنار والماء يطفئها وهي تُحرقه، ولم يأنِ لكم بعدُ، وقد آن ميعادُكم ميعاد المسيخ متى هو خارج. قال: فتفرّقوا فسلك كلُّ واحد منهم طريقا. قال المُغيرة: ثم قال لي: أدرك ابن أبي طالب فاحْبِسه عليّ. فقلت: لا يفعل أميرُ المؤمنين وهو مُغِدّ. فقال: أدرِكه وإلا قلتُ لك يا بن الدباغة. قال: فأدركتُه، فقلت له: قِف مكانَك لإمامك واحلُم فإنه سُلطان وسيَندم وتَندم. قال: فأقبل عمر، فقال: والله ما خَرج هذا الأمر إلا من تحت يدك.
قال عليّ: اتق أن لا تكون الذي نُطيعك فَنَفْتِنك. قال: وتُحب أن تكون هو؟ قال: لا، ولكنَّنا نُذكّرك الذي نَسيتَ. فالتفت إليّ عمر فقال: انصرف، فقد سمعتَ منَا عند الغضب ما كفاك فتنجّيتُ قريباً، وما وقفتُ إلا خشيةَ أن يكون بينهما شيء فأكونَ قريباً، فتكلَما كلاماً غير غَضْبانين ولا راضيَين، ثم رأيتُهما يَضحكان وتفرقا. وجاءني عمر، فمشيتُ معه وقلت: يَغفر الله لك، أغضبتَ؟ قال: فأشار إلى علي وقال: أما واللهّ لولا دُعابهٌ فيه ما شككتُ في ولايته، وإن نزلتْ على رَغم أنف قريش.

العُتبي عن أبيه: إن عُتبة بن أبي سُفيان قال: كنتُ مع معاوية في دار كِنْدة، إذ أقبل الحسنُ والحُسين ومحمد، وبنو علي بن أبي طالب، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ لهؤلاء القوم أشعاراً وأبشاراً، وليس مثلهم كَذب، وهم يزعمون أنّ أباهم كان يعلم. فقال: إليك من صَوْتك، فقد قَرُب القوم، فإذا قاموا فذكِّرني بالحديث، فلما قاموا قلت يا أميرَ المؤمنين، ما سألتُك عنه من الحديث؟ قال: كل القوم كان يَعلم وكان أبوهم مِن أعلمهم. ثم قال. قدمتُ على عمرَ بن الخطاب، فإني عنده إذ جاءه عليِّ وعثمان وطلحةُ والزبير وسعدٌ وعبد الرحمن بن عوف، فاستأذنوا، فأذِن لهم، فدخلوا وهم يتدافعون ويَضْحكون، فلما رآهم عمرُ نَكس، فعلموا أنه عِلى حاجة، فقاموا كما دخلوا. فلما قاموا أتبعهم بصرَه، فقال: فِتْنة، أعُوذ بالله من شرهم، وقد كَفاني الله شرَهم. قال: ولم يكن عمر بالرجل يُسأل عما لا يُفسَّر. فلماِ خرجت جعلت طريقي على عثمان فحدَثته الحديثَ وسألته الستر. قال: نعم، على شريطة. قلت: هي لك. قال: تَسمع ما أخبرك به وتَسكت إذا سكتُ. قلت: نعم. قال: ستة يُقدح بهم زِناد الفِتنة يجري الدمُ منهم على أربعة. قال: ثم سكت. وخرجتُ إلى الشام، فلما قدمتُ علىِ عمر فَحدث من أمره ما حَدث، فلما مضت الشُورى، ذكرتُ الحديث، فأتيت بيت عثمان وهو جالس وبيده قَضيب، فقلت: يا أبا عبد اللّه، تذكر الحديثَ الذي حدَثتَني؟ قال: فأزَمَ على القضيب عَضًا، ثم أقلع عنه وقد أثر فيه، فقال: ويحك يا معاوية، أيَ شيء ذَكَرتني! لولا أن يقول الناسُ خاف أن يُؤخذ عليه لخرجتُ إلى. الناس منها. قال: فأبى قضاءُ الله إلا ما ترى. ومما نَقم الناسُ على عثمان أنه آوى طريدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكَم بن أبي العاص، ولم يُؤْوه أبو بكر ولا عُمر، وأعطاه مائةَ ألف، وسَير أبا ذَرّ إلى الربذة، وسير عامرَ بن عبد قيس من البَصرة إلى الشام، وطَلب منه عُبيد الله بنُ خالد بن أسِيد صلةً فأعطاه أربعمائة ألف، وتصدّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمهزور - موضِع سوق المدينة - على المُسلمين، فأقطعها الحارثَ بن الحَكم، أخا مَرْوان، وأقطع فدك مروانَ، وهي صدقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وافتتح إفريقية، وأخذ خُمسه فوهبه لمَروان. فقال عبد الرحمن بن حَنْبل الْجُمحي:
فأحْلِفُ بالله رَبّ الأنا ... م ما كتب اللّه شيئا سُدَى
ولكنْ خلِقت لنا فِتْنةً ... لكَي نُبتَلى بك أو تبتلى
فإن الأمينَينْ قد بَينا ... مَناراً لحق عليه الهُدى
فما أخذا دِرْهما غِيلةً ... وما تَركا دِرْهما في هَوى
وأعطيتَ مَرْوان خمس العبا ... د هيهات شأوك ممن شَأى

نسب عثمان وصفته
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. أمه أروى بنت كُريز بن رَبيعة بن حَبيب بن عبد شمس. وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، عم النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكان عثمان أبيضَ مُشرباً صُفرة، كأنها فضة وذهب، حَسنَ القامة، حَسن الساعدين، سَبط الشعر، أصلع الرأس، أجمل الناس إذا اعتمَّ، مُشرف الأنف، عَظيم الأرْنبة، كثير شَعر السّاقين والذّراعين، ضَخْم الكَراديس، بعيدَ ما بين المَنْكبين. ولما أسنَ شدّ أسنانه بالذَهب، وسَلِس بَوْلُه، فكان يتوضَّأ لكل - صلاة، وَلِي الخلافةَ مُنْسلخَ ذي الحِجّة سنة ثلاث وعشرين، وقُتل يوم الجمعة صَبيح عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين. وفي ذلك يقول حسان:
ضَحوا بأشمطَ عُنوان السُّجود به ... يُقطِّع الليلَ تسبيحاً وقُرآنا
لنسمعنّ وشيكاً في دِيارهمُ ... اللّه أكبرُ يا ثاراتِ عُثمانا
فكانت ولايتُه اثنتي عشرةَ سنة وستةَ عشر يوما. وهو ابن أربع وثمانين سنة. وكان على شرُطته - وهو أوّل من - اتخذ صاحبَ شرطة - عبيدُ اللّه ابن قُنفذ. وعلى بيت المال، عبدُ اللّه بن أرقم، ثم استعفاه. وكاتبه: مروان. وحاجبه: حُمران، مولاه.
فضائل عثمان

سالمُ بن عبد اللّه بن عُمر، قال: أصاب الناسَ مجاعة في غَزوة تبوك، فاشترى عثمان طعاماً على ما يُصلح العسكر، وجَهز به عِيراً. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سواد مُقبل، فقال: هذا جمل أشقر قد - جاءكم بميرة. فأنيخت الركائب، فرَفع رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال: اللهم إني قد رضيتُ عن عثمان فارضَ عنه. وكان عثمان حليما سخيًا مُحببا إلى قريش، حتى كان يقال: " أحبك والرحمن، حب قُريش عثمان " . وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم رُقية ابنته، فاتت عنده، فزوّجه أم كلثوم ابنته أيضاً.
الزهري عن سعيد بنُ المُسيب، قال: لما ماتت رُقية جَزع عثمانُ عليها، وقال: يا رسول الله، انقطع صِهْري منك. قال: إن صهرك مني لا ينقطع، وقْد أمرني جبريلُ أن أزوجك أختَها بأمر الله. عبد اللّه بن عباس قال: سمعتُ عثمان بن عفان يقول: دخل عليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، فراني ضجيعا لأم كلثوم، فاستعبر، فقلت: والذي بَعَثك بالحق ما اضطجعتْ عليه أنثى بعدها. فقال: ليس لهذا استعبرتُ، فإن الثياب للحيّ وللميت الحَجر، ولو كُن يا عثمان عشراً لزوجتُكهن واحدةً بعد واحدة. وعرض عمرُ بن الخطاب ابنته حَفصة على عُثمان فأبى منها، فشكاه عمرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سيزوج اللّه ابنتك خيراً من عثمان، ويزوج عثمان خيراً من ابنتك. فتزوج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَفصة، وزوج ابنته من عثمان بن عفان. " ومن حديث الشَّعبي أن النبي عليه إسلام، دخل عليه عثمان، فسوّى ثوبه عليه وقال: كيف لا أستحي ممن تَستحي منه الملائكة!

مقتل عثمان بن عفان
الرياشي عن الأصمعي قال: كان القواد الذين ساروا إلى المدينة في أمر عثمان أرِبعة: عبدُ الرحمن بن عُديس التَنوخيّ، وحَكيم بن جَبلة العَبْديّ، والأشتر النَخَعي، وعبدُ الله بن فُديك الخُزاعي. فقدمُوا المدينةَ فحاصروه، وحاصره معهم قومٌ من المهاجرين والأنصار، حتى دخلوا عليه فقتلوه والمصحف بين يديه. ثم تقدّموا إليه وهو يقرأ يومَ الجمعة صَبيحة النَّحر، وأرادوا أن يقطعوا رأسه ويَذهبواِ به، فرمَت نفسها عليه امرأتُه نائلةُ بنت الفُرافصة، وابنة شَيبة بن ربيعة، فتركوه وخرجوا. فلما كان ليلةَ السبت انْتَدب لدفنه رجال، منهم: خبير ابن مُطعم، وحَكيم بن حِزام، وأبو الجَهم بن حُذيفة، وعبدُ الله بن الزُبير، فوضعوه على باب صَغير، وخرجوا به إلى البَقيع، ومعهم نائلةُ بنتُ الفُرافصة بيدها السَراج. فلما بلغوا به البَقيع مَنعهم من دَفْنه فيه رجالٌ من بني ساعدة، فردّوه إلى حُش كَوكب، فدفنوه فيه، وصلّى عليه خبير بن مُطعِم، ويقال: حَكيم بن حِزام. ودَخلت القبرَ نائلةُ بنت الفُرافصة، وأمُ البنين بنت عُيينة، زوجتاه، وهما دلّتاه في القبر. والحُش: البستان. وكان حُشَّ كوكب، اشتراه عثمان، فجعله أولادُه مقبرة للمُسلمين.

يعقوب بن عبد الرحمن: عن محمد بن عِيسى الدِّمشقي عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذِئب عن محمد بن شهاب الزُّهري قال: قلتُ لسعيد بن المُسيّب: هل أنت مُخبري كيف قتل عثمان؟ وما كان شأن الناسِ وشأنه؟ ولم خَذله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: قُتل عثمان مَظلوماً، ومَن قتله كان ظالماً، ومَن خذله كان مَعذوراً. قلت: وكيف ذاك؟ قال: إنّ عثمان لما وَلي كَره ولايتَه نفرٌ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لأنّ عثمان كان يُحب قومه، فوَلي الناسَ اثنتي عشرة سنةً، وكان كثيراً ما يُولّي بني أمية، ممن لم يكن له من لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صُحبة، وكان يَجيء من أمرائِه ما يُنكره أصحابُ محمد، فكان يُستعتب فيهم فلا يَعزلهم. فلما كان في الحِجج الآخرة استأثر ببني عمه فولّاهم وأمرهم بتقوى اللّه، فخرجوا. وولّى عبدَ اللّه بن أبي صح مصرَ، فمكث عليها سِنين، فجاء أهلُ مصر يشكونه ويتظلّمون منه. ومن قبل ذلك كانت من عثمان هَناةٌ إلى عبد اللّه بن مسعود وأبي ذَرّ وعمّار بن ياسر. فكانت هُذيل وبنو زُهرة في قلوبهم ما فيها لابن مَسعود. وكانت بنو غِفار وأحلافها ومن غَضب لأبي ذرّ في قلوبهم ما فيها وكانت بنو مخَزوم قد حَنِقت على عثمان بما نال عمّارَ بن ياسر. وجاء أهلُ مصر يشكون من ابن أبي سرَح، فكتب إليه عثمانُ كتاباً يتهدّده، فأبى ابن أبي سرح أن يَقبل ما نهاه عثمانُ عنه، وضَرب رجلاً ممن أتى عثمانَ، فقتله. فخرج من أهل مصر سبعُمائة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجدَ، وشكوا إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صَنع ابن أبي سَرْح. فقام طلحةُ بن عُبيد اللّه فكلَّم عثمانَ بكلام شديد. وأرسلت إليه عائشةُ: قد تقدَّم إليك أصحابُ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وسألوك عَزل هذا الرجل فأبيتَ أن تعزلَه، فهذا قد قَتل منهم رجلاً، فأنْصِفهم من عاملك. ودخل عليه عليٌّ، وكان متكلّمَ القوم، فقال: إنما سألوك رجلاً مكَان رجل، وقد ادعوا قِبله دماً، فاعزله عنهم، واقض بينهم، وإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم: اختاروا رجلاً أولِّه عليكم مكانَه. فأشار الناسُ عليهم بمحمد ابن أبي بكر. فقالوا: استعمل علينا محمدَ بن أبي بكر. فكَتب عهدَه وولاّهَ، وأخرج معهم عِدَّة من المُهاجرين والأنصار يَنظرون فيما بين أهل مِصر وابن أبي سَرْح. فخرج محمد ومَن معه، فلما كان على مَسيرة ثلاثة أيام من المدينة إذا هم بغُلام أسود على بعير يَخبط الأرض خَبْطا، كأنه رجل يَطلب أو يُطلب. فقال له أصحابُ محمد: ما قصتك؟ وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب. فقال: أنا غلامُ أمير المؤمنين وجّهني إلى عامل مصر. فقالوا: هذا عامل مصر معنا. قال: ليس هذا أريد. وأخبر بأمره محمدُ بن أبي بكر، فبعث في طلبه، فأتي به، فقال له: غلامُ من أنت؟ قال: فأقبل مرة يقول: غلام أمير المؤمنين، ومرة: غلامُ. مَروان، حتى عَرفه رجل منهم أنَّه لعثمان. فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال. إلى عامل مصر. قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: معك كتاب؟ قال: لا. ففتّشوه فلم يُوجد معه شيء إلا إداوة قد يَبِست فيها شيء يَتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يَخْرج، فشقُوا الإداوة، فإِذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرَح. فجمع محمدٌ مَن كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فُكّ الكتاب بِمَحضر منهم، فإذا فيه: إذا جاءك محمد وفلان وفلان فاحتل لقَتْلهم، وأبْطل كتابَهم، وقَرَّ على عملك حتى يأتيَك رأي، واحتبس مَن جاء يتظلّم منك ليأتيك في ذلك رأي إن شاء اللّه. فلما قرأوا الكتاب فَزعوا وعَزموا على الرُّجوع إلى المدينة، وخَتم محمد الكتاب بخواتم القوم الذين أرسلوا معه، ودَفعوا الكتاب إلى رجل منهم، وقَدِموا المدينة فجمعوا عليًّا وطلحةَ والزُّبير وسعداً ومَن كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ فكّوا الكتاب بمَحضر منهم وأخبروهم بقصّة الغلام، وأقرأوهم الكتابَ فلم يبق أحدٌ في المدينة إلا حَنِق على عثمان، وازداد مَن كان منهم غاضباً لابن مسعود وأبي ذر وعمّار بن ياسر غَضباً وحَنقا، وقام أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم فلحقوا منازلَهم، ما منهم أحد إلا وهو مُغتم بما قرأوا في الكتاب. وحاصرَ الناسُ عثمان، وأجلب عليه محمدُ بن أبي بكر بنِي تَيم وغيرهم، وأعانه طلحةُ بن عبيد اللهّ

على ذلك. وكانت عائشة تُقرّضه كثيراً. فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحةَ والزُبير وسَعد وعَمَّار ونفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلّهم بَدْري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتابُ والغلام والبعير، وقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. والبعيرُ بعيرك؟ قال: نعم. والخاتَم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبتَ الكِتاب؟ قال: لا، وحَلف بالله: ما كتبتُ الكتاب ولا أمرتُ به ولا وجّهت الغلامَ إلى مصر قط. وأما الخط فعرفوا أنه خط مَرْوان، وشكّوا في أمر عثمان وسألوه أن يَدفع إليهم مَروان، فأبى. وكان مَروان عنده في الدار. فخرج أصحابُ محمد من عنده غِضاباً، وشكّوا في أمر عثمان، وعَلِموا أنه لا يَحْلف باطلاً، إلا أن قوماً قالوا: لا نُبرىء عثمان إلا أن يدفع إلينا مَروان، حتى نَمتَحنه ونَعْرف أمرَ هذا الكتاب، وكيف يأمر بقَتل رجال من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بغير حق! فإن يك عثمانُ كَتبه عَزلناه، وإن يك مروان كَتبه على لسانه نَظرنا في أمره، ولزموا بيوتَهم. وأبى عثمانُ أن يُخرج إليهم مروانَ، وخَشي عليه القتل. وحاصرَ الناسُ عثمانَ ومَنعوه الماء، فأشرف عليهم، فقال: أفيكم عليّ؟ قالوا: لا. قال: أفيكم سَعد؟ قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحدٌ يبلغ عليّا فَيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه ثلاث قِرَب مملوءة ماء، فما كادت تصلُ إليه، وجُرح بسببها عِدَّة من موالي بني هاشم وبني أمية، حتى وصل إليه الماء. فبلغ عليًّا أن عثمان يراد قَتله، فقال: إنما أردنا منه مَروان، فأما قَتلِ عثمان فلا. وقالت للحسن والحُسين: اذهبا بسَيْفيكما حتى تَقوماً على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه بمكروه. وبعث الزُّبيرُ ولدَه، وبعث طَلحة ولدَه على كُره منه، وبعث عِدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءَهم ليمنعوا الناسَ أن يَدخلوا على عثمان، وسألوه إخراج مَرْوان. ورَمى الناس عثمان بالسِّهام حتى خضب الحسن بن عليّ الدِّماء على بابه، وِأصاب مَروانَ سهْمٌ في الدار، وخُضب محمد بن طلحة، وشجّ قُنبر، مولى عليّ. وخشي محمد بن أبي بكر أن تَغضب بنو هاشم لحال الحَسن والحُسين فيُثيرونها، فأخذ بيدي رجلين فمال لهما: إذا جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحَسن والحُسين كُشف الناس عن عثمان وبَطل ما نُريد، ولكن مُرّوا بنا حتى نتسوّرَ عليه الدار فنقتلِه من غير أن يعلم أحد. فتسوَّر محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار. ويقال من دار محمد بن حَزْم الأنصاري. ومما يدل على ذلك قولُ الأحوص: ذلك. وكانت عائشة تُقرّضه كثيراً. فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحةَ والزُبير وسَعد وعَمَّار ونفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلّهم بَدْري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتابُ والغلام والبعير، وقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. والبعيرُ بعيرك؟ قال: نعم. والخاتَم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبتَ الكِتاب؟ قال: لا، وحَلف بالله: ما كتبتُ الكتاب ولا أمرتُ به ولا وجّهت الغلامَ إلى مصر قط. وأما الخط فعرفوا أنه خط مَرْوان، وشكّوا في أمر عثمان وسألوه أن يَدفع إليهم مَروان، فأبى. وكان مَروان عنده في الدار. فخرج أصحابُ محمد من عنده غِضاباً، وشكّوا في أمر عثمان، وعَلِموا أنه لا يَحْلف باطلاً، إلا أن قوماً قالوا: لا نُبرىء عثمان إلا أن يدفع إلينا مَروان، حتى نَمتَحنه ونَعْرف أمرَ هذا الكتاب، وكيف يأمر بقَتل رجال من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بغير حق! فإن يك عثمانُ كَتبه عَزلناه، وإن يك مروان كَتبه على لسانه نَظرنا في أمره، ولزموا بيوتَهم. وأبى عثمانُ أن يُخرج إليهم مروانَ، وخَشي عليه القتل. وحاصرَ الناسُ عثمانَ ومَنعوه الماء، فأشرف عليهم، فقال: أفيكم عليّ؟ قالوا: لا. قال: أفيكم سَعد؟ قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحدٌ يبلغ عليّا فَيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه ثلاث قِرَب مملوءة ماء، فما كادت تصلُ إليه، وجُرح بسببها عِدَّة من موالي بني هاشم وبني أمية، حتى وصل إليه الماء. فبلغ عليًّا أن عثمان يراد قَتله، فقال: إنما أردنا منه مَروان، فأما قَتلِ عثمان فلا. وقالت للحسن والحُسين: اذهبا بسَيْفيكما حتى تَقوماً على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه بمكروه. وبعث الزُّبيرُ ولدَه، وبعث طَلحة ولدَه على كُره منه، وبعث عِدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءَهم ليمنعوا الناسَ أن يَدخلوا على عثمان، وسألوه إخراج مَرْوان. ورَمى الناس عثمان بالسِّهام حتى خضب الحسن بن عليّ الدِّماء على بابه، وِأصاب مَروانَ سهْمٌ في الدار، وخُضب محمد بن طلحة، وشجّ قُنبر، مولى عليّ. وخشي محمد بن أبي بكر أن تَغضب بنو هاشم لحال الحَسن والحُسين فيُثيرونها، فأخذ بيدي رجلين فمال لهما: إذا جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحَسن والحُسين كُشف الناس عن عثمان وبَطل ما نُريد، ولكن مُرّوا بنا حتى نتسوّرَ عليه الدار فنقتلِه من غير أن يعلم أحد. فتسوَّر محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار. ويقال من دار محمد بن حَزْم الأنصاري. ومما يدل على ذلك قولُ الأحوص:

لا تَرْثينّ لَحزميٍّ ظَفِرتَ به ... طُرًّا ولو طُرح الحَزْميُّ في النارِ
الناخِسين بمروان بذي خُشب ... والمُدْخِلين على عُثمان في الدار
فدخلوا عليه وليس معه إلا امرأته نائلة بنت الفُرافصة، والمُصحف في حجره، ولا يعلم أحد فّي كان معه، لأنهم كانوا على البيوت. فتقدم إليه محمد وأخذ بلحيته، فقال له عثمان: أرسل لِحْيتي يا بن أخي فلو رآك أبوك لساءه مكانُك. فتراخت يدُه من لِحْيته، وغَمز الرجلين فوجاه بمشَاقص معهما حتى قتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا. وخرجت امرأتُه فقالت: إنّ أمير المؤمنين قد قُتل. فدخل الحسن والحْسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مَذْبوحاً، فأكبّوا عليه يَبكون. وبلغ الخبرُ عليًّا وطَلحة والزُبير وسعداً ومن كان بالمدينة، فخَرجوا وقد ذهبت عقولُهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا، فاسترجعوا. وقال عليّ لابنيْه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورَفع يدَه فلَطم الحُسين، وضرب صدر الحَسن، وشتم محمدَ بن طلحة، ولَعن عبدَ اللّه بن الزُبير. ثم خرج علي وهو غضبان يرى أن طلحة أعان عليه. فلقيه طلحةُ فقال: ما لك يا أبا الحسن ضربت الحَسن والْحُسين؟ فقال: عليك وعليهما لعنةُ الله، يُقتل أمير المؤمنين ورجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بَدْريّ، ولم تقم بيّنة ولا حُجة! فقال طلحة: لو دَفع مروانَ لم يُقتل. فقال: لو دفع مروانَ قُتل قبل أن تَثبت عليه حُجة. وخرج علي فأتى منزلَه. وجاءه القوم كُلهم يُهرعون إليه، أصحافُ محمد وغيرهم، يقولون: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فقال: ليس ذلك إلا لأهل بدر فمن رَضي به أهلُ بدر فهو خليفة، فلم يبق أحدٌ من أهل بدر إلا أتى عليًّا، فقالوا: ما نرى أحداً أولى بها منك، فمُد يدَك نُبايعك. فقال: أين طلحة والزُبير وسَعْد؟ فكان أول من بايعه طلحةُ بلسانه، وسعدٌ بيده. فلما رأى ذلك علي خرج إلى المسجد، فَصعد المنبر، فكان أولا مَن صعد طلحةُ فبايعه بيده، وكانت إصبعه شلاّء، فتطيّر منها عليّ، وقال: ما أخلَقه أن يَنْكث. ثم بايعه الزّبير وسعدٌ وأصحاب النبيّ جميعاً. ثمِ نزل، ودعا الناسِ، وطلبَ مروان فهرب منه. خرجت عائشة باكيةَ تقول: قُتل عثمان مظلوماً! فقال لها عمار: أنتِ بالأمس تُحرضين عليه، واليومَ تَبْكِين عليه! وجاء عليٌّ إلى امرأة عثمان، فقال لها: من قَتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل رجلان لا أعرفهما إلا أن أرى وجُوههما، وكان معهما محمدُ بن أبي بكر، وأخبرتْه بما صَنع محمد بن أبي بكر. فدعا علي بمحمد، فسأله عما ذكرت امرأةُ عثمان. فقال محمد: لم تكذب، وقد والله دخلتُ عليه وأنا أريد قتله، فذكر لي أبي، فقمتُ وأنا تائب، والله ما قتلتُه ولا أسكته. فقالت امرأة عثمان: صَدق، ولكنه أدخلهما. لمُعتمر عن أبيه عن الحسن: إن محمد بن أبي بكر أخذ بلِحية عثمان، فقال له: ابن أخي، لقد قعدتَ منّي مقعداً ما كان أبوك ليقعده. وفي حديث آخر: إنه قال: يا بن أخي، لو رآك أبوك لساءه مكانُك. فاسترخت يدُه، وخرج محمد. فدخل عليه رجل والمصحف في حجره، فقال له: بيني وبينك كتابُ اللّه، فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده، فقطعها. فقال: أما إنها أول يد خَطّت المُفَصَّل.

القواد الذين أقبلوا إلى عثمان

الأصمعي عن أبي عَوانة قال: كان القواد الذين أقبلوا إلى عثمان: عَلقمة ابن عثمان، وكِنانة بن بِشْر، وحَكيم بن جَبلة، والأشتر النَّخعيّ، وعبدُ اللّه بن بُديل. وقال أبو الحسن: لما قدم القواد قالوا لعليّ: قُم معنا إلى هذا الرجل. قال: لا واللهّ لا أقوم معكم. قالوا: فلم كتبتَ إلينا؟ قال: والله ما كتبتُ إليكم كتاباً قط. قال: فنظر القوم بعضُهم إلى بعض، وخرج عليّ من المدينة. الأعمش عن عُيينة عن مَسروق قال: قالت عائشة: مُصْتموه مَوْص الإناء حتى تركتموه كالثَّوب الرَّحيض نقيًّا من الدنس، ثم عَدوتم فقتلتموه! فقال مَرْوان: فقلت لها: هذا عَملك، كتبتِ إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه. فقالت: والذي آمن به المُؤمنون وكَفر به الكافرون ما كَتبتُ إليهم بسواد في بَياض، حتى جلستُ في مجلسي هذا. فكانوا يَرَون أنه كُتب على لسان عليّ وعلى لسانها، كما كُتب أيضاً على لسان عثمان مع الأسود إلى عامل مصر. فكان اختلاف هذه الكتب كلها سبباً للفتنة. وقال أبو الحسن: أقبل أهلُ مصر عليهم عبدُ الرحمن بن عُديس البَلويّ، وأهلُ البصرة عليهم حَكيم بن جَبلة العَبدي، وأهل الكوفة عليهم الأشتر - واسمه مالك بن الحارث النّخعي - في أمر عُثمان حتى قَدِموا المدينة. قال أبو الحسن: لما قدم وفدُ أهل مصر دخلوا على عُثمان فقالوا: كتبتَ فينا كذا وكذا؟ قال: إنما هما اثنتان، أن تُقيموا رجلين من المسلمين، أو يَميني باللّه الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ ولا أمْليت ولا عَلِمت، وقد يُكتب الكتاب على لسان الرجل، ويُنقش الخاتَم على الخاتم. قالوا: قد أحلّ اللّه دمَك، وحَصروه في الدار. فأرسل عثمان إلى الأشتر، فقال له: ما يريد الناسُ مني؟ قال: واحدة من ثلاث ليس عنها بُدّ. قال: ما هي؟ قال: يُخيّرونك بين أن تَخلع لهم أمرَهم فتقول: هذا أمركم فقفَدوه من شئتم؟ وإما أن تقتصّ من نفسك؟ فإن أبيتَ فالقوِم قاتلوك. قال: أما أن أخلع لهم أمرَهم، فما كنتُ لأخلع سربالاً سربلنيه اللّه فتكون سُنةً مِن بعدي، كلما كَره القوم إمامهم خَلعوه، وأما أن أقتص من نفسي، فواللّه لقد علمتُ أن صاحبيّ بين يدي قد كانا يُعاقبان، وما يقوى بدَني على القِصاص؛ وأما أن تقتلوني، فلئن قتلتموني لا تتحابّون بعدي أبداً ولا تُصلّون بعدي جميعاً أبداً. قال أبو الحسن: فواللّه لن يزالوا على النَّوى جميعاً، وإن قلوبهم مختلفة. وقال أبو الحسن: أشرف عليهم عثمان وقال: إنه لا يحِل سفك دم امرىء مُسلم إلا في إحدى ثلاث: كُفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قَتل نَفس بغير نَفس، فهل أنا في واحدة منهن؟ فما وَجد القوم له جوابا. ثم قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حِراء ومعه تِسعة من أصحابه أنا أحدهم، فتزلزل الجبلُ حتى همَّت أحجارُه أن تتساقط، فقال: اسكُن حِراء، فما عليك إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد؟ قالوا: اللهم نعم. قال: شهدوا لي وربِّ الكعبة. قال أبو الحسن: أشرف عليهم عثمان فقال: السلامُ عليكم، فيا ردّ أحدٌ عليه السلام. فقال: أيها الناس، إن وجدتم في الحق أن تَضعوا رجلي في القَبر فضعُوها. فما وجد القومُ له جوابا. ثم قال: أستغفر اللّه إن كنت ظَلمتُ، وقد غفرتُ إن كنت ظُلمت.
يحيى بن سعيد عن عبد اللّه بن عامر بنِ ربيعة قال: كنتُ مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل مَن رأى أنّ لي عليه سمعاً وطاعة أن يكُف يدَه ويُلقى سلاحه. فألقى القومُ أسلحتَهم. ابن أبي عَروبة عن قتادة: إن زَيد بن ثابت دخل على عُثمان يومَ الدار، فقالت: إن هذه الأنصار بالباب وتقول: إن شئتَ كُنَا أنصارَ اللّه مرّتين. قال: لا حاجة لي في ذلك، كُفّوا. ابن أبي عَروبة عن يَعلى بن حَكيم عن نافع: إن عبد اللّه بن عمر لَبس دِرْعه وتقلّد سيفه يوم الدار، فَعزم عليه عثمانُ أن يخرج ويَضع سلاحَه ويكفّ يده، ففعل. محمد بن سيرين قال قال سَلِيط: نهانا عثمان عنهم، ولو أذِن لنا عثمان فيم لضَربناهم حتى نُخرجهم من أقطارنا.

ما قالوا في قتلة عثمان

العُتبيّ قال: قال رجل من ليث: لقيتُ الزبيرَ قادماً، فقلت: أبا عبد الله، ما بالُك؟ قال: مَطلوب مَغلوب، يَغلبني ابني، ويطلبني ذَنبي. قال: فقدمتُ المدينة فلقيتُ سعدَ بن أبي وقّاص، فقلت: أبا إسحاق، من قتل عثمان؟ قال: قتله سيفٌ سلته عائشة، وشَحذه طلحة، وسمّه عليّ. قلت: فما حال الزُبير؟ قال: أشار بيده وصَمت بلسانه. وقالت عائشة: قَتل اللّه مذمماً بسعيه على عثمان، تريد محمداً أخاها، وأهرق دمَ ابن بُديل على ضَلالته، وساق إلى أعينَ بني تميم هواناً في بيته، ورمى الأشتر بسهم من سهامه لا يُشوِي. قال: فما منهم أحد إلا أدركته دعوةُ عائشة. سفيان الثوري قال: لقي الأشترُ مَسروقاً فقال له: أبا عائشة، ما لي أراك غَضبان على ربّك من يوم قُتل عثمان بن عفان؟ لو رأيتَنا يوم الدار ونحن كأصحاب عِجل بني إسرائيل! وقال سعدُ بن أبي وقاص لعمار بن ياسر: لقد كنتَ عندنا من أفاضل أصحاب محمد حتى إذا لم يَبق من عمرك إلا ظِمء الحمار فعلتَ وفعلتَ، يُعرّض له بقتل عثمان. قال عمار: أي شيء أحبُّ إليك؟ مودةٌ عَلَى دَخَل أو هَجْر جميل؟ قال: هَجْر جميل. قال: فللّه عليٌ ألاّ أكلمك أبدا. دخل المُغيرة بن شُعبة على عائشة فقالت: يا أبا عبد الله، لو رأيتني يومَ الجمل وقد نفذتْ النِّصالُ هَوْدجي حتى وصل بعضُها إلى جِلْدي. قال لها المغيرة: وددتُ والله أن بَعضها كان قتلك. قالت: يرحمك الله، ولم تقول هذا؟ قال: لعلَها تكون كَفّارة في سَعْيك على عُثمان. قالت: أما والله لئن قلتَ ذلك لما عَلم الله أني أردتُ قتله، ولكن علم اللّه أني أردتُ أن يُقاتَل فقوتلتُ، وأردتً أن يُرمى فرُميت، وأردت أن يعصى فعُصيت، ولو علم مني أني أردتُ قتلَه لقُتلت. وقال حسان بن ثابت لعليّ: إنك تقول: ما قتلتُ عثمان ولكن خذلتُه، ولم آمُر به ولكن لم أنه عنه، فالخاذل شريك القاتل، والساكتُ شريك القاتل. أخذ هذه المعنى كعبُ بن جُعيل التَّغلبي، وكان مع معاوية يوم صِفّين، فقال في عليّ بن أبي طالب:
وما في علّي لمستحدِث ... مقالٌ سوى عَصْمه المُحْدِثينَا
وإيثارِه لأهالي الذُنوب ... ورَفْع القَصاص عن القاتلينا
إذا سِيل عنه زوى وجهه ... وعمى الجواب على السائلينا
فليس براضٍ ولا ساخطٍ ... ولا في النُهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساهُ ولا سرَّه ... ولا آمن بعضَ ذا أن يكونا
وقال رجل من أهل الشام في قَتل عثمان رضي اللّه تعالى عنه:
خذلْته الأنصارُ إذ حَضر المو ... تُ وكانت ثِقاتِه الأنصارُ
ضَربوا بالبلاء فيه مع النَّا ... س وفي ذاك للبريّة عار
حُرْم بالبلاد من حُرم الل ... ه ووالٍ من الوُلاة وجار
أين أهلُ الحَياء إذ مُنع الما ... ءَ فَدته الأسماعُ والأبصار
مَن عَذيرى مِن الزُّبير ومِن طَ ... لحة هاجا أمراً له إعصار
تَركوا النّاس دونهم عبرةُ العِجْ ... ل فشبّت وسطَ المدينة نار
هكذا زاغت اليَهود عن الح ... ق بما زَخْرفت لها الأحبار
ثم وافى محمدُ بن أبي بك ... رجهاراً وخَلْفه عَمّار
وعليّ في بيته يسأل النا ... سَ ابتداء وعنده الأخبار
باسطاً للتي يُريد يديه ... وعليه لسَكينة ووَقار
يَرقُب الأمر أن يُزفّ إليه ... بالذي سببت له الأقدار
قد أرى كثرةَ الكلام قبيحاً ... كُل قول يشينه إكثار
وقال حسان يرثيِ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه:
مَن سرِّه الموتُ صِرْفاً لا مِزَاج له ... فَلْيأتِ مَأْسَدة في دارِ عُثمانا
صَبراً فِدًى لكُم أمي وما وَلدت ... قد يَنفع الصَبرُ في المَكْروه أحيانَا
لعلّكم أن تَرَوْا يوماً بمَغْيظه ... خليفة اللّه فيكم كالذي كانا
إنّي لمنْهم وإن غابوا وإن شَهدوا ... ما دمت حيا وما سُيمَّت حَّسانا
يا لي شِعْري ولي الطَّير تُخبرني ... ما كان شأنُ عليّ وابن عَفّانا

لتسمعينّ وشيكا في ديارهمُ ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
ضحوا، بأشمطَ عُنوانُ السُّجود به ... يًقطَع الليلَ تَسبيحاً وقرآنا

مقتل عثمان بن عفان
أبو الحسن عن مَسْلمة عن ابن عون: كان ممن نصر عُثمانَ سبعُمائة، فيهم الحسنُ بن عليِّ، وعبدُ اللهّ بن الزُبير. ولو تَركهم عثمانُ لضربوهم حتى أخرجوهم من أقطارها.
أبو الحسن عن جُبير بن سِيرين قال: دخل ابن بُدَيل على عثمان وبيده سيف، وكانت! بينهما شَحناء، فضربه بالسيف، فاتقاه بيده فقَطعها، فقال: أما إِنها أول كف خَطّت المُفَضَل.
أبو الحسن قالت: يوم قُتل عثمان يقال له: يوم الدار. وأغلق على ثلاثة من القَتلى: غلام أسود كان لعثمان، وكنانة بن بِشر، وعُثمان.
أبو الحسن قال: قال سلامة بن رَوْح الخُزاعي لعمرو بن العاص: كان بينكم وبين الفتنة فكسرتموه فما حَملكم على ذلك؟ قال: أردنا أن نُخرج الحق من حَفيرة الباطل وأن يكون الناس في الحق سواء. عن الشّعبي قال: كتب عثمان إلى مُعاوية: أن أمدّني. فأمدّه بأربعة آلاف مع يزيد بن أسَد بن كرز البَجَليّ. فتلقاه الناس بقتل عثمان فانصرف، فقال: لو دخلتُ المدينة وعثمان حيّ ما تركت بها مُختلفا إلا قتلتُه، لأن الخاذل والقاتل سواء. قيس بن رافع قال قال زيدُ بن ثابت: رأيتُ عليّا مُضطجعاً في المسجد، فقلت: أبا الحسن، إن الناس يَرَوْن أنك لو شئت رددتَ الناس عن عثمان. فجلس، ثم قال: واللّه ما أمرتُهم بشيء ولا دخلتُ في شيء من شأنهم. قال: فأتيتُ عثمان فأخبرتُه، فقال:
وحَرّق قيس عليّ البلا ... دَ حتى إذا اضطرمت أجذما
الفضلُ عن كَثير عن سَعيد المَقبريٌ قال: لما حَضروا عثمان ومَنعوه الماء، قال الزُّبير: وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون، كما فُعل بأشياعهم من قَبل. ومن حديث الزُّهري قال: لما قَتل مُسلمُ بن عُقبة أهلَ المدينة يوم الحَرّة، قال عبد الله بن عمر: بفعلهم في عُثمان ورب الكعبة. ابن سيرين عن ابن عباس قال: لو أمطرت السماء دماً لقَتْل عثمان لكان قليلاً له

أبو سعيد مولى أبي حُذيفة قال: بَعث عثمانُ إلى أهل الكوفة: مَن كان يُطالبني بدينار أو دِرْهم أو لطمة فليأت يأخذ حقَه، أو يتصدًق فإن اللّه يجزي المتصدقين. قال: فبكى بعضُ القوم، وقالوا: تصدَقنا. ابن عون عن ابن سيرين قال: لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشدَ على عثمان من طَلحة. أبو الحسن قال: كان عبدُ الله بن عباس يقوِل: ليغلبنّ معاويةُ وأصحابُه عليَّا وأصحابَه، لأن اللّه تعالى يقول: " ومَن قُتِلَ مَظْلُوماَ فقد جَعلنا لوليّه سُلطاناً " . أبو الحسن قال: كان ثُمامة الأنصاري عاملًا لعثمان، فلما أتاه قَتْلُه بكى، وقال: اليومَ انتُزعت خلافةُ النبوة من أمة محمد وصار المُلك بالسيف، فَمن غَلب على شيء أكله. أبو الحسن عن أبي مخْنف عن نُمير بن وَعْلة عن الشعبي: أنَّ نائلةَ بنت الفُرافصة امرأة عثمان بن عفّان كَتبت إلى معاوية كتاباً مع النعمان بن بَشير، وبَعثت إليه بقميص عثمان محضوباً بالدماء. وكان في كتابها: مِن نائلة بنت الفُرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: فإني أدعوكم إلى الله الذي أنعم عليكم، وعلّمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم في الكُفر، ونَصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمَه ظاهرةً وباطنة، وأنشُدكم الله وأذكِّركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعَزم اللهّ عليكم، فإنه قال: " وإنْ طائفتان من المُؤمنين اقتَتلوا فأصْلِحوا بينهما فإن بَغَتْ إحداهما على الأخرى فقاتِلوا التي تَبْغي حتى تَفِيء إلى أمْرِ اللّه " . فإن أمير المؤمنين بُغي عليه، ولو لم يكن لعُثمان عليكم إلا حقَّ الولاية لحقَّ على كل مُسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قِدَمه في الإسلام، وحُسن بلائه، وأنه أجاب اللّه، وصَدّق كتابه، وأتبع رسولَه، والله أعلم به إذ انتخبه، فأعطاه شرفَ الدنيا وشرفَ الآخرة. وإني أقُص عليكم خَبره، إني شاهدةٌ أمرَه كُلَّه: إنّ أهل المدينة حَصروه في داره وحَرسوه ليلَهم ونهارَهم، قياماً على أبوابه بالسِّلاحِ، يَمنعونه من كل شيء قَدروا عليه، حتى مَنعوه الماء، فمكث هو ومَن معه خمسين ليلةً؛ وأهلُ مصر قد أسندوا أمرَهم إلى عليّ ومحمد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر وطلحة والزُبير، فأمروهم بقتله، وكان معهم من القبائل خُزاعة وسَعد بن بكر وهُذيل وطوائف من جُهينة ومُزينة وأنباط يثرب، فهؤلاء كانوا أشدَّ الناس عليه. ثم إنه حُصر فَرُشق بالنَّبل والحجارة، فجُرح ممن كان في الدار ثلاثةُ نفر معه، فأتاه الناس يصرْخون إليه ليأذن لهم في القتال، فنهاهم وأمرهم أن يردّوا إليهم نبلَهم، فردُّوها عليهم؛ فما زادهم ذلك في القتل إلا جُرٍأة، وفي الأمر إلا إغراقاً، فَحرقوا باب الدار. ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا: إن ناساً يريدون أن يأخذوا بين الناس بالعَدل فاخُرج إلى المسجد يأتوك. فانطلقَ فجلس فيه ساعةً وأسلحة القوم مُطلّة عليه من كل ناحية، فقال: ما أرى اليوم أحداً يَعْدِل، فدخل الدارَ. وكان معه نفرٌ ليس على عامّتهم لسِلاح، فلبس دِرْعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لَبست اليوم دِرْعي. فوثب عليه القوم، فكلَمهم ابن الزبير، وأخذ عليهم ميثاقاً في صحيفة بعث بها إلى عثمان: عليكم عهدُ اللّه وميثاقه أن لا تَقربوه بسوء حتى تكلّموه وتَخْرجوا، فوضع السلاح، ولم يكن إلا وضعه. ودخل عليه القومُ يَقْدُمهم محمدُ بن أبي بكر، فأخذ بلحيته، ودَعَوْه باللقب. فقال: أنا عبدُ الله وخليفتُه عثمان. فضربوه على رأسه ثلاثَ ضرَبات، وطَعنوه في صَدْره ثلاث طعنات، وضَربوه على مَقْدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العَظْم، فسقطتُ عليه وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يُريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به، فأتتني ابنةُ شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي، فوُطِئنا وَطْئا شديداً، وعُرِّينا من حَلْينا. وحُرمةُ أمير المؤمنين أعظم، فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهوراً على فِراشه. وقد أرسلتُ إليكم بثوبه عليه دمُه، فإنه واللّه إِن كان أثم مَن قَتله فما سَلِم مَن خذله، فانظُروا أينِ أنتم مِن اللهّ. وأنا أشتكي كل مَا مَسنا إلى الله عز وجل، وأستصرخ بصالِحي عبادِه. فرحم الله عثمانَ ولَعن قتلَته وصَرعهم في الدُنيا مَصارع الخزْي والمَذلًة، وشَفى منهم الصدور. فحلف رجال من أهل الشام أن لا يمسوا غُسلاً حتى يقتلوا عليا أو تَفْنَى أرواحُهم. وقال

الفرزذق في قتل عثمان: في قتل عثمان:
إن الخلافةَ لما أظعَنت ظَعنت ... عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا
صارتْ إلى أهلِها منهم ووارثِها ... لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا
السافِكي دمِه ظُلْماً ومَعْصِيَة ... أي دمٍ لا هدوا من غَّيهم سفكوا
وقال حسان:
إِن تُمس دارُ بني عثمانَ خاويةً ... بابٌ صريعٌ وبيتٌ مُحرَق خَرِبُ
فقد يُصادف باغِي الخَير حاجتَه ... فيها ويَأوي إليها المجدُ والحسَب
يا معشَر الناس أبْدُوا ذات أنفسكم ... لا يَستوي الحق عند الله والكَذِب

تبرؤ علي من دم عثمان
قال عليّ بن أبي طالب على المنبر: واللهّ لئن لم يَدْخل الجنة إلا مَن قتل عثمان لا دخلتُها أبدَاً، ولئن لم يَدخل النارَ إلا مَن قتل عثمان لا دخلتُها أبداً. وأشرف علي من قَصرْ له بالكُوفة، فنظر إلى سَفينة في دِجْلة فقال: والذي أرسلها في بَحره مُسخَّرة بأمره ما بدأتُ في أمر عثمان بشيء، ولئن شاءت بنو أمية لأباهلنهم عند الكعبة خمسين يميناً ما بدأتُ في حق عثمان بشيء. فبلغ هذا الحديثُ عبدَ الملك بن مروان فقال: إني لا أحسبه صادقاً. قال معبدٌ الخُزاعي: لقيتُ عليّا بعد الجمل، فقلت له: إني سائلُك عن مسألة كانت منك ومن عثمان، فإن نجوتَ اليوم نجوتَ غداً إن شاء اللّه. قال: سَل عما بدا لك. قلتُ: أخبرني أي منزلة وسعتْك إذ قُتل عثمان ولم تنصره؟ قال: إن عثمان كان إماماً وإنه نهى عن القِتال، وقال: مَن سَل سيفَه فليس مني، فلو قاتلنا دونه عَصَينا. قال: فأي منزلة وسعت عثمان إذ استسلم حتى قُتل؟ قال: المنزلةُ التي وسعت ابن آدم، إذ قال لأخيه: " لئن بَسطت إلي يَدك لتَقتلَني ما أنا بِباسطٍ يَدِيَ إليك لأقتُلَك إني أخافُ اللّهَ ربَّ العالمين " . قلت: فهلاّ وَسِعَتْك هذه المنزلةُ يومَ الجمل؟ قال: إنا قاتلنا يومَ الجمل مَن ظَلَمنا، قال الله: " ولمن أنتَصر بعد ظُلْمه فأولئك ما عليهم مِن سَبيل. إنما السبيلُ على الّذين يَظْلمون الناسَ ويَبْغون في الأرض بغير الْحَقِّ أولئك لهم عذاب أليم. ولمن صبَر وغَفر إن ذلك لمن عَزْم الأمور " . فقاتلنا نحن مَن ظَلَمنا وصَبر عثمان، وذلك من عَزْم الأمور. ومن حديث بكر بن حماد: إن عبد الله ابن الكَّواء سأل عليِّ بن أبي طالب يوم صِفين، فقال له: أخْبِرْني عن مَخْرجك هذا، تَضرب الناسَ بعضهم ببعض، أعهدٌ إليك عهدَه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم أم رَأْي ارتأيته؟ قال عليّ: اللهم إني كنتُ أولَ من آمن به فلا أكون أولَ مَن كذب عليه، لم يكن عندي فيه عَهْد مِن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولو كان عندي فيه عَهد مِن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما تركتُ أخا تَيم وعدي على منابرها؛ ولكنّ نبّينا صلى الله عليه وسلم كان نبيّ رحمة، مَرِض أياماً وليالي، فقدَم أبا بكر على الصلاة، وهو يراني ويَرى مكاني. فلما تُوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، رَضيناه لأمر دُنيانا إذ رَضِيه رسولُ اللهّ لأمرِ ديننا. فسلّمتُ له وبايعتُ وسمعتُ وأطعتُ، فكنتُ

آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحُدود بين يديه. ثم أتته مَنيّتُه، فرأى أنَّ عمرَ أطوقُ لهذا الأمر مِن غيره، وواللّه ما أراد به المُحاباة، ولو أرادها لجعلها في أحد ولدَيْه. فسلّمتُ له وبايعتُ وأطعتُ وسمعت، فكنتُ أخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدودَ بين يديه. ثم أتته منيّتُه، فرأى أنه من استخلف رجلاً فعمل بغير طاعة اللّه عَذّبه الله به في قَبره، فجعلها شُورى بين ستَة نفر من أصحاب رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم. وكنتُ أحدَهم، فأخذ عبدُ الرحمن مَواثيقنا وعُهودنا على أن يَخْلع نفسه ويَنظر لعامة المُسلمين، فبَسط يدَه إلى عثمان فبايعه. اللهم إن قلتُ إني لم أجد في نفسيِ فقد كذبت، ولكنني نظرتُ في أمري فوجدتُ طاعتي قد تقدمت مَعْصيتي، ووجدت الأمر الذي كان بيدي قد صار بيد غير لم. فسلّمت وبايعتُ وأطعت وسمعتُ، فكنت أخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه. ثم نَقم الناس عليه أموراً فقَتلوه ثم بقيتُ اليومَ أنا ومُعاوية، فأرى نفسي أحق بها من معاوية؛ لأني مُهاجريّ وهو أعرابيّ، وأنا ابن عم رسول اللّه وصِهره، وهو طليق ابن طليق. قال له عبدُ اللّه بن الكَوّاء: صدقتَ، ولكن طلحةَ والزُبير، أما كان لهما في هذا الأمر مثلُ الذي لك؟ قال: إن طلحة والزُبير بايعاني في المدينة ونَكثا بَيعَتي بالعراق، فقاتلتُهما على نَكْثهما، ولو نَكثا بيعة أبي بكر وعمر لقاتلاهما على نَكثهما كما قاتلتُهما على نَكْثهما، قال: صدقت، ورجع إليه. واستعمل عبدُ الملك بن مَرْوان نافعَ بن عَلْقمة بن صَفْوان على مكة، فخطب ذات يوم، وأبان بن عثمان قاعدٌ عند أصلى المِنْبر، فنال مِن طلحة والزُبير، فلما نزل قال لأبان: أرضيتُك من المًدهنين في أمر أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنّك سُؤتني، حَسبي أن يكونا بريئين من أمره. وعلى هذا المعنى قال إسحاق بن عيسى: أعيذ عليًّا بالله أن يكون قَتل عثمان، وأعيذ عثمان أن يكون قَتله عليّ. وهذا الكلامُ على مذهب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أشد الناس عذاباً يومَ القيامة رجل قتل نبيا أو قَتله نبيّ. سعيد بن جُبير عن أبي الصّهباء: إن رجالاً ذكروا عُثمان فقال رجلٌ من القوم: إني أعرفُ لكم رأيَ عليّ فيه. فدخل الرجلُ على علي، فنال من عثمان، فقال عليّ: دَع عنك عُثمان، فواللّه ما كان بأشرِّنا، ولكنه وَلي فاستأثر فحرمَنا فأساء الحرمان. وقال عثمان بن حُنَيف: إني شهدتُ مَشهداً اجتمع فيه علي وعمّار ومالك الأشتر وصَعْصعة، فذكروا عثمان، فوقَع فيه عمّار، ثم أخذ مالكٌ فحذا حَذْوه، ووجهُ عليّ يَتَمَعَّر، ثم تكلّم صعصعة، فقال: ما على رجل يقول: كان والله أولَ مَن وَلي فاستأثر، وأوّل مَن تفرقت عنه هذه الأمة! فقال علي: إلي أبا اليَقظان، لقد سَبقت لعثمان سوابقُ لا يُعذِّبه اللّه بها أبداً. محمدُ بن حاطب قال: قال لي علي يومَ الجمل: انطلقْ إلى قومك فأبلغهم كُتبي وقَوْلي. فقلت: إن قَومي إذا أتيتُهم يقولون: ما قوْلُ صاحبك في عُثمان؟ فقال: أخبرهم أن قولي في عثمان أحسنُ القول، إن عثمان كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ، ثم اتقَوْا وآمنوا واحسنوا واللّه يحب المُحسنين. جرير بن حازم عن محمد بن سِيرين قال: ما علمتُ أن عليا اتُّهم في دم عُثمان حتى بُويع، فلما بويع اتهمه الناس. محمد بن الحنفيّة: إنّي عن يمين في يومَ الجمل وابن عبّاس عن يساره، إذ سمع صوتاً فقالت: ما هذا؟ قالوا: عائشةُ تلعن قَتلة عثمان. فقال عليّ: لعن اللهّ قتلةَ عثمان في السهل والجَبل والبَحر والبَر.

ما نقم الناس على عثمان

ابن دأب قال: لما أنكر الناس على عُثمان ما أنكروا مِن تأمير الأحداث من أهل بَيْته على الجلّة الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا لعبد الرحمن بن عوف: هذا عملُك واختَيارك لأمة محمد. قال: لم أظنَّ هذا به. ودخل على عثمان فقال له: إني إنما قدمتك على أن تَسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، وقد خالفتَهما. فقال: عمر كان يقطع قرابته في اللّه وأنا أصل قرابتي في اللهّ. فقال له: لله عليّ أن لا أكلمك أبداً. فمات عبدُ الرحمن وهو لا يُكلّم عثمان. ولما ردّ عثمان الحكم بن أبي العاصي، طريدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم طريد أبي بكر وعمر إلى المدينة، تكلِّم الناسُ في ذلك، فقال عثمان: ما ينقَم الناسُ مني! إني وصلتُ رحما وقربت قرابة. حُصين بن زَيد بن وَهْب قال: مَررنا بأبي ذَرّ بالربذة فسألناه عن منزله. فقال: كنتُ بالشام فقرأت هذه الآية: " والذين يَكْنِزُون الذَهَب والفضة ولا يُنْفِقُونها في سَبيل الله فبَشِّرهم بعذابِ أليم " . فقال معاويةُ: إنما هي في أهل الكتاب. فقلت: إنها لَفينا وفيهم. فكتَب إليّ عثمانُ: أقبل. فلما قدمتُ رَكبتني الناسُ كأنهم لم يَرَوْني قط، فشكوتُ ذلك إلى عثمان. فقال: لو اعتزلتَ فكنت قريباً. فنزلتُ هذا المنزل، فلا أدع قَوْلي، ولو أمروا عليّ عبداً حبشيا لأطعتُ. الحسنُ بن أبي الحسن عن الزُبير بن العوام في هذه الآية: " واتقُوا فتنةً لا تُصيبنّ الذين ظَلَموا منكم خاصَّة " . قال: لقد نزلتْ وما ندري من يختلف لها. فقال بعضهم: يا أبا عبد الله، فلم جئتَ إلى البصرة؟ قال: ويحك، إننا نَنظر ولا نُبصر. أبو نضرة عن أبي سَعيد الخُدريّ قال: إنّ ناساً كانوا عند فُسطاط عائشة وأنا معهم بمكة، فمرّ بنا عثمان فما بقي أحدٌ من القوم إلا لعنه غيري، فكان فيهم رجلٌ من أهل الكوفة فكان عثمان على الكُوفيّ أجرأ منه على غيره، فقال: يا كُوفي، أتشتُمني؟ فلما قدم المدينةَ كان يتهدّده. قال: فقيل له: عليك بطَلحة. قال: فانطلق معه حتى دَخل على عثمان. فقال عُثمان: واللّه لأجلدنَه مائة سَوط. قال طلحة: والله لا تَجلدنه مائةَ إلاّ أن يكون زانياً. قال: والله لأحرمنه عَطاءه. قال: اللّهُ يرزقه. ومن حديث ابن أبي قُتيبة عن الأعمش عن عبد الله بن سِنان قال: خرج علينا ابن مَسعود ونحن في المَسجد، وكان على بيت مال الكُوفة، وأميرُ الكوفة الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط، فقال: يا أهل الكوفة، فُقِدت من بيت مالكم الليلةَ مائةُ آلف لم يأتني بها كتابٌ من أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة. قال: فكتب الوليدُ بن عُقبة إلى عثمان في ذلك، فنَزعه عن بيت المال. ومن حديث الأعمش يَرويه أبو بكر بن أبي شيبة قال: كَتب أصحابُ عُثمان عَيْبه وما يَنْقم الناسُ عليه في صحيفة، ثم قالوا: مَن يذهب بها إليه؟ قال عمٌار: أنا. فذهب بها إليه. فلما قرأها قال: أرغمِ اللّهُ أنفك. قال: وأنف أبي بكر وعمر. قال: فقام إليه فوَطئه حتى غُشى عليه. ثم ندم عثمان وبعث إليه طلحة والزُّبير يقولان له: اختر إحدى ثلاث: إما أن تَعْفو، هاما أن تأخذ الأرْش، وإما أن تَقْتَص. فقال: واللّه لا قبلتُ واحدة منها حتى ألقى الله. قال أبو بكر: فذكرتُ هذا الحديث للحَسن بن صالح، فقال: ما كان على عُثمان أكثرُ مما صنع.
ومن حديث اللّيث بن سعد قال: مَر عبدُ اللهّ بن عُمر بحُذيفة فقال: لقد اختلف الناسُ بعد نبيّهم، فما منهم أحدٌ إلا أعطى من دينه ما عدا هذا الرجلَ. وسُئل سعدُ بن أبي وقاص عن عثمان فقال: أما والله لقد كان أحسنَنا وُضوءاً، وأطولَنا صلاة، وأتلانا لكتاب اللّه، وأعظمَنا نَفقةً في سبيل اللّه. ثم وَلي فأنكروا عليه شيئاً، فأتَوْا إله أعظَمَ مما أنكروا.

وكتب عثمان إلى أهل الكوِفة حين ولاّهمِ سعيدَ بن العاص: أما بعد. فإني كنت ولَّيتكم الوليدَ بن عُقبة غلاماً حين ذَهَب شرْخه، وثاب حِلْمه، وأوصيتُه بكم ولم أوصكم به، فلما أعْيتكم علانيته طَعَنتم في سرَيرته. وقد ولَيتكم سعيدَ بن العاص، وهو خيرُ عَشيرته، وأوصيكم به خيراً فاستوصوا به خيراً. وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه، وكان عاملَه على الكوفة، فصلَّى بهم الصبحَ ثلاث ركعات وهو سَكران، ثم التَفت إليهم فقال: وإن شئتُم زِدْتُكم. فقامت عليه البيّنة بذلك عند عثمان، فقال لطلحة: قُم فاجلده. قال: لم أكن من الجالدين. فقام إليه عليّ فَجلده.
وفيه يقول الحُطيئة:
شَهد الحطيئةُ يَوم يَلْقى رَبَّه ... أنَّ الوليدَ أحقُّ بالعُذْرِ
لِيزِيدَهم خيراً ولو قَبلوا ... لجمعتَ بين الشَّفع والوِتْر
مَسكوا عنانَك إذ جَريت ولو ... تَركوا عِنانَك لم تَزل تَجْرِي
ابن دأب قال: لما أنكر الناسُ على عثمان ما أنكروا واجتمعوا إلى علي وسَألوه أن يَلقى لهم عُثمانَ. فأقبلَ حتى دَخل عليه فقال: إنَ الناسَ ورائي قد كلَّموني أنْ أكلمك، واللهّ ما أدرى ما أقولُ لك، ما أعرف شيئاً تًنكره، ولا أعلمك شيئاً تَجهله، وما ابن الخطّاب أولى بشيء من الخير منك، وما نُبصرك من عَمى، وما نَعْلمك مَن جهل، وإن الطريق لبيِن واضح. تَعلم يا عثمان أن أفضل الناس عند اللهّ إمامٌ عَدْل، هُدِي وهَدى، فأحيا سُنة مَعلومة، وأمات بدعة مَجهولة؛ وأن شر الناس عند الله إمامُ ضَلالة، ضَل وأضل، فأحيا بدْعة مجهولة، وأمات سنة معلومة. وإني سمعت رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: يُؤتى بالإمام الجائر يومَ القيامة ليس معه ناصرٌ ولا له عاذر فيُلْقى في جَهنم فيَدُور دَوْرَ الرحى يَرْتطم بجَمْرة النار إلى آخر الأبد. وأنا أحذَرك أن تكون إمامَ هذه الأمة المقتول، يُفتح به بابُ القَتل والقتال إلى يوم القيامة، يَمْرَج به أمرُهم وَيمرَجون. فخرج عثمان، ثم خطب خُطبته التي أظهر فيها التوبة. وكان عليّ كلما اشتكى الناسُ إليه أمرَ عثمان أرسل ابنه الحسن إليه، فلما أكثر عليه قال له: إن أباك يرى أن أحداً لا يَعلم ما يَعلم، ونحن أعلم بما نَفعل، فكُفّ عنَا. فلم يَبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك. وذكروا أنّ عثمان صَلى العصر ثم خَرج إلى علي يعوده في مرضه، ومَروان معه، فرآه ثقيلا. فقالت: أما والله لولا ما أرى منك ما كنتُ أتكلَم بما أريد أن أتكلَم به، والله ما أدري أيّ يومَيك أحبُّ إليَّ أو أبغض، أيومُ حياتك أو يومُ موتك؟ أما واللهّ لئن بقيتَ لا أعدم شامتاً يَعُدّك كَنفاً، ويَتخذْك عَضدا، ولئن مَتّ لأفجعنِ بك. فحظِّى منك حظّ الوالد المُشفق من الولد العاق، إنْ عاش عقه، وإن مات فجعه. فليتك جعلت لنا من أمرك عَلَماً نَقف عليه ونعرفه، إما صديقٌ مسالم وإما عَدو مُعاند، ولم تَجعلني كالمُختنق بين السماء والأرض، لا يَرْقى بيد، ولا يَهبط برجل. أما والله لئن قتلتك لا أصيب منك خَلَفا، ولئن قتلتني لا تصيب مني خلفا، وما أحب أن أبقى بعدَك. قال مروان: أيْ والله وأخرى، إنه لا يُنال ما وراء ظُهورنا حتى تُكسر رماحُنا وتُقطع سيوفنا، فما خيرُ العيش بعد هذا. فضَرب عثمان في صَدره وقال: ما يُدْخلك في كلامنا؟ فقال على: إني والله في شُغل عن جوابكما، ولكني أقول كما قال أبو يوسف: فَصَبر جميل واللهّ المُستعان على ما تَصِفون. وقال عبدُ الله بن العباس: أرسل إليً عُثمان فقال لي: اكْفِني ابن عمك. فقلت: إنَ ابن عمي ليس بالرجل يُرى له ولكنَه يَرى لنفسه، فأرسِلني إليه بما أحببتَ. قال: قُل له فَليَخرج إلى مالِه باليَنبُع فلا أغتمّ به ولا يَغتم بي. فأتيتُ عليًّا فأخبرتُه. فقال: ما اتخذني عثمانُ إلا ناصحاً، ثم أنشد يقول:
فكيف به أنّي أداوِي جراحَه ... فيَدْوَى فلا مُلّ الدواءً ولا الداءُ
أما واللّه إنه ليختبر القوم. فأتيتُ عثمانَ، فحدّثته الحديثَ كله إلا البيت الذي أنشده. وقوله: إنه ليختبر القوم. فأنشد عثمان:
فكيف به أنّي أداوِي جراحَه ... فيَدْوَى فلا مُلَّ الدواء ولا الداءُ
وجعل يقول: يا رحيم، انصرُني، يا رحيم، انصرني، يا رحيم، انصرني.

قال: فخرج عليّ إلى يَنْبع، فكتب إليه عثمان حين اشتدّ الأمر: أما بعد. فقد بلغ السيل الزُّبى، وجاوز الحِزام الطُّبْيين، وطَمِع فيّ مَن كان يَضْعُف عن نفسه:
فإنك لم يفخر عليك كفاخرٍ ... ضعيف ولم يَغْلِبْك مثلُ مُغلَّبِ
فأقبِل إليَّ على أيّ أمريك أحبَبتَ، وكُن لي أم علي، صديقاً كنتَ أم عدوًّا:
فإنْ كنتُ مأكولاً فكُن خيرَ آكلٍ ... وإلّا فأدركني ولما أمزَّق

خلافة علي بن أبي طالب
رضي اللّه عنه
قال: لما قُتل عثمان بن عفان، أقبل الناس يُهْرعون إلى علي بن أبي طالب فتراكمت عليه الجماعةُ في البَيعة، فقال: ليس ذلك إليكم، إنما ذلك لأهل بَدْر ليُبايعوا. فقال: أين طلحة والزبير وسعد؟ فأقبلوِا فبايعوا، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، ثم بايعه الناسُ. وذلك يومَ الجمعة لثلاث عشرةَ خلتْ من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكان أولَ مَن بايع طلحةُ، فكانت إصبعه شلاّء، فتطيِّر منها عليّ، وقال. ما أخلقه أن يَنْكث. فكان كما قال عليّ رضي اللّه عنه.
نسب علي بن أبي طالب وصفته
هو عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وصفته، كان أصلعَ بطيناً حَمْش الساقين. صاحبُ شرُطته مَعْقل بن قيس الرِّياحي، وما لك بن حَبيب اليَرْبوعي، وكاتبُه سعيد ابن نِمران، وحاجبُه قُنْبر، مولاه. وقُتل يوم الجمعة بالكوفة، وهو خارج إلى المسجد لصلاة الصِبح، لسبع بَقين من شهر رمضان، فكانت خلافته أربعَ سنين وتسعةَ أشهر، صلى عليه ولدُه الحسن، ودُفن برَحْبة الكوفة، ويقال في لِحف الحِيرة، وعُمِّي قبره. واختُلف في سنه، فقال الشعبي: قُتل علي رحمه الله وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ووُلد علي بمكة في شِعب بني هاشم.
فضائل علي بن أبي طالب
كرم اللّه وجهه
أبو الحسن قال: أسلم علي وهو ابن خمسَ عشرةَ سنة، وهو أول من شَهد أن لا إله إلا اللهّ وأن محمداً رسولُ الله.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام مَن كنتُ مولاه فعلي مولاه. اللهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما تَرضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غيرَ أنه لا نبيّ بعدي؟ وبهذا الحديث سَمَّت الشيعةُ علي بن أبي طالب الوصيِّ، وأولوا فيه أنه استخلفه على أمته إذ جعله منه بمنزلة هارون من موسى؛ لأنّ هارون كان خليفة موسى على قومه إذا غاب عنهم. وقال السيد الْحِمْيري رحمه اللّه تعالى:
إني أدينُ بما دانَ الوَصَّي به ... وشاركتْ كفّه كَفَيّ بصفَينا
وجمع النبي صلى الله عليه وسلم فاطمةَ وعليا والحسَنَ والْحُسين فألقى عليهم كساءَه وضمهم إلى نفسه ثم تلا هذه الآية: إنما يُريد اللّهُ ليُذهبَ عنكمِ الرجسَ أهلَ البَيت ويُطهَركم تَطْهيرا. فتأولت الشيعةُ الرجس هاهنا بالخَوض في غمرة الدُّنيا وكُدورتها. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يومَ خَيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يُحب الله ورسولَه، ويُحبه الله ورسولُه، لا يُمسي حتى يَفتح الله له. فدعا عليًّا، وكان أرمدَ، فَتفَل في عينيه، وقال: اللهم. قِه داءَ الحر والبرد. فكان يلبس كُسوة الصيف في الشتاء وكُسوة الشتاء في الصيف ولا يضره. أبو الحسن قال: ذُكر عليّ عند عائشة فقالت: ما رأيت رجلاً أحبَّ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منه، ولا رأيتُ امرأة كانت أحبَّ إليه من امرأته. وقال عليُّ بن أبي طالب: أنا أخو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وابن عمه، لا يقولها بعدي إلا كذّاب. الشَّعبي قال: كان عليّ بن أبي طالب في هذه الأمة مثل المسيح بن مريم في بني إسرائيل، أحبّه قومٌ فكفروا في حُبه، وأبغضه قوم فكفروا في بُغضه. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: الحسنُ والْحُسين سيِّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خيرٌ منهما. أبو الحسن قال: كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه يُقَسم بيت المال في كل جمعة حتى لا يبقي منه شيئاً، ثم يُفرش له ويَقيل فيه. ويتمثَل بهذا البيت:
هذا جَنايَ وخِيَاره فيه ... إذ كُلّ جانٍ يدُه إلى فيه
كان علي بن أبي طالب إذا دَخل بيتَ المال ونَظر إلى ما فيه من الذَّهب والفضة قال:
ابيَضيِّ واصفري وغري غيري ... إنّي من اللّه بكُل خَيْر

ودخل رجل على الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد، إَنهم يَزعمون أنك تُبغض عليّا. قال: فبكى الحسنُ حتى اخضلَّت لِحْيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهماً صائباً من مَرامي الله على عدوّه، ورباني هذه الأمة، وذا فَضْلها وسابقتها، وذا قرابة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن بالنومَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا المَلولة في ذات الله، ولا السَّروفة لمال اللّه. أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مُونقة وأعلام بَينة، ذلك علي بن أبي طالب يا لُكع.

يوم الجمل
أبو اليَقظان قال: قَدِم طلحةُ بن عُبيد الله والزبير بن العوام وعائشة أم المؤمنين البَصرة. فتلقاهم الناس بأعلى المِرْبد، حتى لو رَمَوا بحَجر ما وقع إلا على رأس إنسان، فتكلَّم طلحة وتكلمت عائشة، وكثر اللغط، فجعل طلحةُ يقول: أيها الناس، أنصتوا. وجعلوا يركبونه ولا يُنصتون. فقال: أف أف! فَراش نار، وذُباب طمع. وكان عثمان بن حُنيف الأنصاري عاملَ عليّ بن أبي طالب على البَصرة، فخرج إليهم في رِحاله ومن مَعه، فتواقفوا حتى زالت الشمس، ثم اصطلحوا، وكَتبوا بينهم كتاباً أن يكفّوا عن القتال حتى يَقْدَم علي بن أبي طالب، ولعثمان بن حُنيف دارُ الإمارة والمَسجد الجامع وبيتُ المال، فكفّوا. ووجّه عليُّ بن أبي طالب الحسن ابنه وعمّار بن ياسر إلى أهل الكوفة يَستنفر انهم، فنَفر معهما سبعةُ آلاف من أهل الكوفة. فقال لهم عمار. أما والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لتتْبِعوه أو تَتبعوها. وخَرج عليٌ في أربعة آلاف من أهل المدينة، فيهم ثمانمائة من الأنصار، وأربعمائة ممن شَهد بيعه الرضوان مع النبي صلى الله عليه وسلم. ورايةُ علي مع ابنه محمد ابن الحنفيّة، وعلى مَيمنته الحسنُ، وعل ميسرته الحُسين، وعلى الخَيل عمّار بن ياسر، وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر، وعلى المُقدَمة عبدُ الله بن عبّاس. ولواء طَلحة والزُبير مع عبد اللهّ بن حَكيم بن حِزام، وعلى الخيل طلحةُ بن عبيد اللهّ، وعلى الرجِّالة عبدُ الله بن الزبير. فالتقوا بموضع قصر عُبيد الله بن زياد في النّصف من جُمادى الآخرة يومَ الخميس. وكانت الوقعة يوم الجمعة.
وقالوا: لما قَدِم علي بن أبي طالب البصرَة قال لابن عباس: ائت الزُّبير ولا تأت طلحة، فإن الزُبير ألينُ، وأنت تجد طلحةَ كالثور عاقصاً بقَرنه يركب الصُعوبة، ويقول: هي أسهل، فأقْرِئه السلام، وقُل له: يقول لك ابن خالك: عرفتَني بالحجاز، وأنكرتني بالعِراق، فما عدا ما بدا؟ قال ابن عباس: فأتيته فأبلغتُه. فقال: قل له: بيننا وبينك عهدُ خليفة، ودمُ خليفة، واجتماع ثلاثة، وانفراد واحد، وأم مَبرورة، ومشاورة العشيرة، ونَشْر المصاحف، نُحِل ما أحلت، ونُحرَم ما حَرمت. وقال عليّ بن أبي طالب: ما زال الزُبير رجلاً منا أهلَ البيت حتى أدركه ابنه عبد الله فلفَته عنا. وقال طلحةُ لأهل البصرة وسألوه عن بَيعة علي فقال: أدخَلوني في حُش ثم وَضعوا الفُج على قَفي فقالوا: بايع وإلا قَتلناك. قوله: اللج، يريد السيف، وقوله: قفي، لغة طىء، وكانت أمه طائية.

وخطبت عائشةُ أهلَ البصرة يوم الجمل فقالت: أيها الناس، صَه صه، كأنما قُطعت الألسن في الأفواه. ثم قالت: إن لي عليكم حُرمَة الأمومة، وحق الموعظة، لا يتّهمني إلا من عَصى ربَّه. مات رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري، وأنا إحدى نسائه في الجَنة، له ادخرني ربِّي وسلّمني من كل بضُع، وبي مَيّز بين مُنافقكم ومؤمنكم، وبي أرخص لكم في صَعِيد الأبواء. ثم أبي ثالثُ ثلاثةٍ من المُؤمنين وثاني اثنين في الغار، وأول من سُمَي صديقاً. مَضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلما راضياً عنه، وطَوَّقه طَوق الإمامة. ثم اضطرب حبلُ الدين فمسَك أبي بطَرَفيه، ورتق لكم أثناءه فوَقم النفاق، وأغاض نبعَ الردة، وأطفأ مَا حَشت يهود، وأنتم يومئذ جُحظ العيون، تنظرون العَدوة، وتسمعون الصيحة، فَرأب الثأي، وأوذم العَطِلة، وانتاش من الهًوة، واجتحى دفين الداء، حتى أعطن الوارد، وأورد الصادر، وعَلّ الناهل، فقَبضه الله واطئاً على هامات النفاق، مذكِياً نارَ الحرب للمشركين. وانتظمت طاعتُكم بحَبله. ثم ولي أمرَكم رجلاً مَرْعياً إذا رُكن إليه، بَعيداً ما بين اللابتين إذا ضُل، عَرُوكة للأذاة بجَنْبه، يَقْظان الليل في نُصرة الإسلام، فسلك مسلك السابقين، ففرق شمل الفِتنة، وجَمَّع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصْب المسألة عنِ مسيري هذا. لم ألتمس إثماً، ولم أورِّث فتنة أوطئكموها. أقول قولي هذا صِدْقاً وعدلاً، وإعذاراً وإنذاراً، وأسأل اللّه أن يصلي على محمد وأن يَخلفه فيكم بأفضل خلافة المُرسلين. وكتبت أم سَلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين إذ عزمت على الخروج يوم الجمل: من أم سَلَمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد، إنك سُدّة بين رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وبين أمته، حجاب مضروب على حُرمته. قد جَمّع القرآنُ ذيلك فلا تَنْدحيه، وسَكَّر خَفارتك فلا تَبْتذليها. فاللهّ مِن وراء هذه الأمة. لو علم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ النساء يَحتملن الجهاد عهِد إليك. أما علمتِ أنه قد نَهاك عن الفَراطة في البلاد، فإن عمود الدين لا يَثبت بالنساء إن مال، ولا يُرأب بهن إن انصدع؟ جهاد النساء غَضُّ الأطراف، وضَمًّ الذُّيول، وقَصر المُوادة. ما كنتِ قائلةً لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصَّةً قَعودا، من مَنهل إلى مَنهل؟ وغداً تردين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقسم لو قيل لي: يا أم سلمة، ادخُلي الجنة، لاستحييتُ أن ألقى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم هاتكةً حجابا ضرَبه عليّ. فاجعليه سِتْرك، وقاعةَ البيت حِصْنك؛ فإنك أنصح ما تكونين لهذه الأمة ما قعدتِ عن نُصرتهم. ولو أني حدثتُك بحديث سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنَهشتِني نهش الحيةِ الرقشاء المُطرقة. والسلام.

فأجابتها عائشة: من عائشة أم المؤمنين إلى أم سَلمة، سلام عليك، فإني أحمدُ الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد. فما أقبلني لوَعْظك، وأعرفني لحق نَصيحتك، وما أنا بمُعتمرة بعد تَعْريج، ولنِعم المَطلع مَطلع فَرَقتُ فيه بين فئتين مُتشاجرتين من المُسلمين، فإن أقعد فعن غير حَرج، وإن أمض فإلى ما لا غِنى بي عن الازدياد منه. والسلام. وكتبت عائشة إلى زيد بن صُوحان إذ قدمت البصرة: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها الخالص زيد بن صُوحان، سلام عليك. أما بعد، فإنّ أباك كان رأساً في الجاهلية وسيداً في الإسلام، وإنك من أبيك بمنزلة المُصلّى من السابق، يقال كاد أو لَحق، وقد بلغك الذي كان في الإسلام من مُصاب عثمان بن عفان، ونحن قادمون عليك، والعِيان أشفى لك من الخَبر. فإذا أتاك كتابي هذا فثبّط الناسَ عن في بن أبي طالب، وكُن مكانَك حتى يأتيك أمري، والسلام. فكتب إليها: مِن زيد بن صُوحان إلى عائشة أم المؤمنين. سلامٌ عليك، أما بعد، فإِنك أمرتِ بأمر وأمرنا بغيره، أمرتِ أن تَقرّي في بَيتك، وأمرنا أن نُقاتل الناس حتى لا تكون فتنة. فتركتِ ما أمرت به وكتبتِ تَنْهينا عما أمرنا به، والسلام وخطب علي رضي اللّه عنه بأهل الكوفة يوم الجمل إذ أقبلوا إليه مع الحسن بن علي فقام فيهم خطيباً، فقال: الحمد للهّ رب العالمين، وصلّى الله علي سيدنا محمد خاتم النبيين وآخر المُرسلين، أما بعد. فإن الله بعث مُحمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثَقَلين كافة، والناسُ في اختلاف، والعربُ بِشر المنازل، مُستضعَفون لما بهم، فرأب اللهّ به الثّأي، ولأم به الصّدع، ورَتق به الفَتق، وأمَّن به السبيل، وحَقَن به الدماء، وقَطَع به العداوة المُوغِرة للقلوب، والضَّفائنِ المُشحنة للصدور، ثم قَبضه اللّه تعالى مشكوراً سعيُه، مَرْضيا عمله، مَغْفوراً ذنبه، كريماً عند اللّه نزله. فيالها من مُصيبة عمِّت المسلمين، وخَصَت الأقربين. وَوَليَ أبو بكر فسار فينا بسيرة رِضا، رَضي بها المسلمون. ثم وَلي عمر فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما. ثم ولي عُثمان فنال منكم ونلتم منه. ثم كان من أمره ما كان، أتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتموني فقُلتم: لو بايعتنا؟ فقلتُ: لا أفعل، وقبضتُ يدي فبسَطتموها، ونازعتُكم كفًي فجذبتُموها، وقلتم: لا نَرضى إلا بك، ولا نَجتمع إلا عليك، وتراكمتم علي تراكم الإبل الهِيم على حِياضها يومَ وُرودها، حتى ظننتُ أنكم قاتلي وأن بعضَكم قاتلٌ بعضاً، فبايَعتُموني، وبايعني طلحةُ والزبير، ثم ما لَبثا أنْ استأذناني إلى العُمرة. فسارا إلى البَصرة فقاتَلا بها المسلمين، وفَعلا بها الأفاعيل، وهما يَعلمان واللهّ أني لستُ بدون من مَضى، ولو أشاء أن أقول لقلت: اللهم إنهما قَطعا قَرابتي، ونَكثا بَيْعتي، وألّبا عليّ عدوّي. اللهمّ فلا تُحكم لهما ما أبرما، وأرهما المَساءة فيما عَملا. وأملى عليّ بن محمد عن مسلمة بن مُحارب عن داود عن أبي هِند عن أبي حَرْب عن أبي الأسود عن أبيه قال: خرجتُ مع عِمران بن حُصين وعثمانَ بن حُنيف إلى عائشة فقلنا: يا أمَّ المؤمنين، أَخبرينا عن مَسيرك هذا. عهدٌ عَهدَه إليك رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم؟ أم رأي رأيتيه؟ قالت: بل رأي رأيتُه حين قُتل عثمان بن عفَّان، إنا نَقمنا عليه ضربه بالسَّوط، ومَوقع المِسحاة المُحماة، وإمرة سَعيد والوليد، فعدوتُم عليه فاستحللتم منه الثلاثَ الحُرم: حُرمة البلد وحُرمة الخلافة وحُرمة الشهر الحرام، بعد أن مُصْتموه كما يُماص الإناء. فغَضِبنا لكم من سَوط عثمان، ولا نَغضب لعثمان من سَيْفكم؟ قلنا: ما أنتِ وسيفُنا وسوطُ عثمان، وأنتِ حَبيس رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم! أمرك أنْ تَقَرِّي في بيتك فجئتِ تَضربين الناس بعضَهم ببعض! قالت: وهل أحذ يقاتلني أو يقوله غير هذا؟ قُلنا: نعم. قالت: ومَن يفعل ذلك؟ هل أنت مُبلغ عني يا عِمران؟ قال: لستُ مُبلغاً عنك حَرفاً واحداً. قلت: لكنّني مُبلغ عنك، فهاتِ ما شئت. قالت: اللهم اقتُل مًذمَّما قِصاصاً بعثمان، وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يُشْوِى، وأدرك عمّاراً بخَفَره بعُثمان أبو بكر بن أبي شَيبة قال: حدَّثنا عبد الله بن إدريس عن حُصين عن الأحنف بن قيس قال: قَدمنا المدينة ونحن نُريد الحج، فانطلقت فأتيتُ طلحة والزبير، فقلت: إِني لا أرى هذا إلا مَقتولا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16