كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

قال مُعاوية لصَعْصعة بن صُوحان: إنما أنت هاتِف بلسانك لا تَنْظُر في أود الكلام ولا في استقامته، فإن كنتَ تَنْظُر في ذلك فأخْبرني عن أفضل المال. فقال: والله يا أمير المؤمنين إني لأدع الكلامَ حتى يَخْتمر في صَدْرِي، فما أرْهِف به ولا أتَلَهَق فيه، حتى أقيم أوده، وأحَرِّر مَتْنه. وإنّ أفضلَ المال لبرة سَمْراء في تُرْبة غَبْراء، أو نَعْجَة صَفْراء في رَوْضة خضراء، أو عَينْ خَرَّارة في أرض خَوَّارة. قال معاوية: للّه أنتَ! فأين الذِّهب والفِضِّة؟ قال: حَجَران يَصْطَكان، إن أقبلتَ عليِهما نَفدا، وإن تركتَهما لم يزيدا. وقيل لأعرابيَّة: ما تَقُولين في مائة من المَعز؟ قالتِ: قني؛ قيل لها: فمائة من الضّأن؟ قالت: غِنَى؟ قيل لها: فمائة من الإبل؟ قالت: مُنَى. وقال عبدُ الله بن الحسن: غَلّةُ الدُور مسألة، وغَلّة النَّخل كَفاف، وغَلة الحَبّ مِلْك. وفي الحديث: أفْضل أموالكم فَرَسٌ في بَطْنها فرس يَتْبعها فرس، وعَينْ ساهرة لعَيْن نائمة. وأنشد فَرج بن سلام لبعض العِراقيّين:
ولقد أقولُ لحاجب نُصْحاً له ... خَلِّ العُروض وبِعْ لنا أرْضا
إني رأيتُ الأرض يَبقى نَفْعُها ... والمال يأكل بعضه بعضا
واحذَرْ أناساً يظْهرون محبَّة ... وعُيونُهم وقُلوبُهم مَرْضىَ
حتى إذا أمكنتَهم من فرْصة ... تَرَكوا الْخِداع وأظهروا البغْضا

تدبير المال
قالوا: " لا مالَ " لأخرَق ولا عَيْلة على مُصلح، وخيرُ المال ما أطعمك لا ما أطعمتَه. وقال صاحبُ كليلة ودِمْنة: لِيُنْفِق ذو المال مالَه في ثلاثة مواضع: في الصَّدقة إن أراد الآخرةَ، وفي مُصانعة السُّلطان إن أراد الذِّكْر، وفي النِّساء إن أراد " نَعيم " ، العيش. وقال: إنّ صاحبَ الدنيا يَطْلب ثلاثة ولا يُدْركها إلاّ بأربعة؛ فأما الثلاثة التي تُطلب: فالسَّعة في المعيشة، والمنزلة في النَّاس، والزاد إلى الآخرة. وأما الأربعة التي تُدرك بها هذه الثلاثة: فاكتساب المال من أحسن وُجوهه، وحُسْن القيام عليه، ثم التَّثْمير له، ثمّ إنْفاقه فيما يُصْلِح المَعِيشةَ ويُرْضى الأهلَ والإخوان ويَعًود في الآخرة نَفْعه، فإن أضاع شيئاً من هذه الأربعة لم يُدْرك شيئاً من هذه الثلاثة؛ إن لم يَكْتسب لم يكنْ له مالٌ يِعيش به، وإنْ كان ذا مال واكتسابِ ولم يُحسن القيامَ عليه يُوشِك أن يَفْنى ويَبْقى بلا مال، وإن هو أَنْفقَه ولم يُثَمِّره لم تمنعَه قِلّةُ الإنفاق من سُرْعة النَّفاد، كالكُحْل الذي إنما يُؤخذ منه على المِيل مثلُ الغبار، ثم هو مع ذلك سرَيعٌ نفادُه؛ وإن هو اكتَسب وأَصْلح وثَمِّر ولمِ يُنفق الأموالَ في أبوابها كان بمنزلة الفقير الذي لا مالَ له، ثم لا يَمنع ذلك مالَه من أن يُفارقَه ويَذهب حيثُ لا مَنْفعة فيه، كحابس الماء في المَوْضع الذي تَنْصَبّ فيه المياه، إن لم يَخْرج منه بقَدْر ما يَدْخل فيه مَصَل وسال من نواحيه، فيَذْهب الماء ضَياعا. وهذا نظير قول الله تعالى: " والذينَ إِذَا أَنْفَقُوا لمْ يُسْرِفوا ولَم يَقْتُرُوا وَكانَ بَين ذلِكَ قَوَاماً " و وقولِه عز وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم: " وَلا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كلً البسطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً " .
ونظر عبد اللهّ بن عباس إلى دِرْهم بيد رَجُل، فقال له: إنه ليس لك حتى يَخْرُج من يدك. يريد أنه لا ينتفعُ به حتى يُنْفِقَه ويَسْتفيد غيرَه مكانَه.
وقال الحُطَيئة:
مفيد ومِتْلاف إذا ما سألتَه ... تَهلَّل وأهتزّ اهتزازَ المُهَنّدَ
وقال مُسْلِم بن الوَليد:
لا يَعْرِف المالَ إلا رَيْثَ يُنْفِقه ... أو يومَ يَجْمعه للنَّهب والبَدَدِ
وقال آخر:
مُهْلِكُ مالٍ ومُفِيدُ مال
وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ: مَن كان في يده شيءٌ فَلْيُصْلِحْه، فإنّه في زمان إن احتاجَ فيه، كان أولَ ما يَبْذُله دينُه. وقال المُتلَمِّس:
وحَبْسُ المال أَيْسَرُ من بُغَاهُ ... وضَرْب في البِلادِ بغَيْر زاد
وأصْلاح القليل يزيدُ فيه ... ولا يَبْقًى الكثير مع الفساد

سَعْد القَصِير قال: وَلاّني عُتْبة أموالَه بالحِجاز، فلما ودّعته، قال لي: يا سَعْد، تعاهدْ صغير مالي " فَيَكْثُرَ " ولا تُضيِّع كثيرَه فَيَصْغُر، فإنه ليس يَشْغلني كثير مالي عن إصلاح قَليله، ولا يَمْنعني قليلُ ما في يدي عن الصبر على كثير مما يَنُوبني. قال: فقَدمْت المدينةَ فحدّثت بها رجالاتِ قُريش، ففرَّقوا بها الكُتب على الوُكلاء.

الإقلال
قال أَرِسْططاليس: الغِنَى في الغُرْبة وَطَن، والمقلّ في أهله غريب.
أخذه الشاعرُ فقال:
لَعَمْرُك ما الغريبُ بذي التنائي ... ولكنّ المُقِلَّ هو الغريبُ
إذا ما المرء أَعْوزَ ضاقَ ذَرْعاَ ... بحاجته وأَبعدَه القريب
وقال إبراهيمُ الشَّيباني: رأيتُ في جدار من جُدًر بيت المقدس " بيتين مكتوبين بالذَّهب:
وكُلّ مُقلٍّ حين يَغْدو لحاجةٍ ... إلى كُل مَن يَلْقى من النَّاس مُذْنِبُ
وكان بَنُو عَمِّي يقولون مَرْحباً ... فلمّا رأوْني مُقْتِراً مات مَرْحب
ومِن قَوْلنا في هذا المعنى:
اعاذِلَ قد المْتِ وَيكِ فلُومي ... وما بَلَغ الإشْرَاكُ ذَنْبَ عَدِيم
اقد أسْقطتْ حقّي عليك صَبابتي ... كما أسْقط الإفْلاسُ حقَّ غَرِيم
وأعذَرُ ما أدمى الجُفُونَ من البُكا ... كريمٌ رأى الدًّنيا بكفِّ لَئِيم
أرى كلّ فَدْمٍ قد تَبَحْبَح في الغِنَى ... وذو الظَّرف لا تَلْقاه غيرَ عَديم
قال الحسن بن هانئ:
الحمدُ للّه لَيس لي نَشَبٌ ... فَخَفَّ ظَهْري ومَلَّني وَلدِي
مَن نَظَرتْ عَيْنُه إليّ فَقَد ... أحاطَ عِلْماً بما حَوَته يَدِي
وكان أبو الشَمَقْمق الشاعر أديباً ظريفاً محارفاً صُعْلوكاً مُتبرَماً، قد لَزم بيتَه في أطْمار مَسْحوقة، وكان إذا استَفْتح عليه أحدٌ بابَه خرج فَنَظر من فُرَج الباب، فإن أعجبه الواقفُ فَتح له، وإلا سَكَت عنه. فأقبل إليه بعضُ إخوانه فدخل عليه، فلما رأى سُوء حاله، قال له: أبْشر أبا الشَّمَقْمق، فإنّا رَوَينا في بَعض الحديث أنّ العارين في الدنيا هم الكاسُون يومَ القيامة. قال: إن كان والله ما تقول حقًّا لأكونَنَّ بَزَازاً يوم القيامة، ثم أنشأ يقول:
أنا في حالٍ تعالى الل ... ه ربِّي أيّ حالِ
ولقد أهزلت حتى ... محت الشَّمسُ خَيالي
مَن رَأى شَيْئاً مُحالاَ ... فأنَا عَين المحال
لَيس لي شيءٌ إذا قي ... ل لِمَنْ ذا قلتُ ذا لي
ولقد أفلستُ حتّى ... حَلَّ أكلي لِعيَالَي
في حِرام النَّاس طُرًّا ... مِن نِسَاء ورجال
لو أرَى في النَّاس حُرًّا ... لَم أكنْ في ذا المِثَال
وقال أيضاً:
أتُراني أرَى من الدَّهر يوماً ... ليَ فيه مَطِيَّة غيرُ رِجْلي
ًكلّما كُنتُ في جَميع فقالوِا ... قًرِّبُوا للرَّحيل قَرًبتُ نَعْلِى
حيثُما كنت لا أخَلِّف رَحْلا ... مَن رآني فقد رآني ورَحْلي
وقال أيضاً:
لو قد رأيتَ سَرِيري كنتَ تَرْحمني ... الله يَعلم ما لي فيه تَلْبيسُ
واللّه يَعلم ما لي فيه شابكةٌ ... إلا الحَصيرة والأطْمار والدِّيسُ
وقال أيضاً:
بَرَزت من المَنازل والقِباب ... فلم يَعْسُر على أحدٍ حِجَابي
فمنزليَ الفضاءُ وَسقفُ بَيْتي ... سماءُ الله أو قِطَع السَّحاب
فأنتَ إذا أردتَ دَخَلتَ بَيتي ... عليّ مُسَلماً من غَيْر باب
لأنِّي لم أجد مِصراعَ باب ... يكونُ من السَّحاب إلى التُّراب
ولا انشَقَّ الثرى عن عُود تَخْتٍ ... أؤمِّل أنْ أشُدّ به ثِيابي
ولا خِفتُ الإبَاقَ على عَبِيدي ... ولا خِفْتُ الهلاك على دَوَابي
ولا حاسَبْتُ يوماً قَهْرماناً ... مُحاسبةً فأَغْلَظ في حِسابي
وفي ذا راحةٌ وفَراغُ بالٍ ... فَدابُ الدَّهرِ ذا أبداً ودَابي

وفي كتاب للهِنْد: ما التَّبَع والإخْوان والأهلُ والأصدقاء والأعوان والحَشم إلا مع المال، وما أرى المُروءة يُظهرها إلا المال، ولا الرّأيَ والقُوّة إلا بالمال، ووجدتُ مَن لا مَالَ له إذا أراد أن يتناول أمراً قَعد به العُدْم، فيبقى مقَصرأً عما أراد، كالماء الذي يَبْقى في الأوْدية من مَطر الصَّيف فلا يَجْري إلى بحر ولا نهر، بل يَبْقى مكانَه حتى تَنشَفَه الأرضُ، ووجدتُ مَن لا إخوانَ له لا أهلَ له، ومَن لا وَلد له لا ذِكر له، ومَن لا عَقْل له لا دُنيا له ولا آخرةَ له، ومَن لا مال له لا شيءَ له؛ لأن الرجل إذا افتقر رَفَضَه إخوانُه وقَطعه ذوو رَحمه، وربما اضطرتْه الحاجة لِنفْسه وعياله إلى التماس الرِّزق بما يُغَرِّر فيه بدينه ودُنياه، فإذا هو قد خَسِر الدُّنيا والآخرةَ، فلا شيء أشدُّ من الفقر. والشَّجَرةُ النابتة على الطريق المأْكولة من كلِّ جانب أمثلُ حالاً من الفقير المُحتاج إلى ما في أيْدي الناس، والفَقرُ داعٍ صاحِبَه إلى مقْت الناس، ومُتْلِف للعَقْل والمُروءة، ومُذْهب لِلعلْم والأدب، ومَعْدن للتُّهمة، ومَجْمَع للبَلايا. ووجدتُ الرجلَ إذا افتقر أساء به الظنَّ مَن كان له مُؤْتمناً، وليس مِن خَصلة هي للغنيِّ مَدْح وزَيْن إلا وهي للفَقِير ذَمٌ وشَيْن، فإن كان شُجاعاً قيل أهْوج، وإن كان جَواداَ قيل مُفْسد، وإن كان حَليماً قيل ضَعيف؛ وإن كان وَقُوراً قيل بليد، وإن كان صَمُوتاً قيل عَي، وإن كان بليغاً قيل مِهْذار. فالموت أهونُ من الفقر الذي يَضْطر صاحبَه إلى المسألة، ولا سيَّما مسألة اللئام؛ فإنَّ الكريم " لو كُلِّفَ " أن يدخل يده في فَم تنِّين ويْخرجَ منه سُمًّا فيَبْتَلِعَه، كان أخفَّ عليه من مسألة " البَخيل اللئيم.

السؤال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأنْ يأخذ أحدُكم أحْبُلَه فَيَحْتطب بها على ظَهره أهونُ عليه من أن يَأتيَ رجلاً أعطاهُ اللهّ من فَضْله فيسأله، أعْطاه أو منعه. وقال: مَن فَتح علٍى نفسه باباً من السًّؤال فَح الله عليه سَبْعين باباً من الفَقر. وقال أكثم بن صَيْفِيّ: كلّ سُؤال وإن قَلَّ أكثرُ منِ كلّ نَوَال وإن جَلَّ. ورَأى عليُّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهَه رجلا يَسأل بعَرفات فقَنَّعَه بالسَّوط، وقال: وَيلك! أفي مِثل هذا اليوم تَسأل أحداً غيرَ اللّه؟ وقال عبدُ الله بن عباس: المساكينُ لا يَعُودون مَريضاً، ولا يَشْهَدُون جِنازةً، ولا يَحْضُرُون جُمعة، وإذا اجتمع الناسُ في أعيادهم ومَساجدهم يَسألون الله منِ فَضْلِه، اجتمعُوا يسألون الناسَ ما في أيديهم. وقال النّعمان بن النُذر: مَن سأل فوْق حَقِّه استحقَّ الحِرْمان، ومَن أَلْحَف في مَسْألته استحقَّ المَطْل، والرِّفق يُمْن، والخُرْق شُؤْم، وخَير السَّخاء ما وافق الحاجة، وخَير العَفْو مع المَقْدِرة. وقال شُرَيح: مَن سأل حاجةً فقد عَرض نفْسَه على الرِّق، فإن قَضَاها المسئولُ استعبده بها، وإن رَدًه عنها رجعَ كلاهما ذليلاً: هذا بذُلِّ البُخْل، وذاك بذُلِّ الرَّد. وقال حَبيب:
كُلّ السُّؤال شَجىً في الحَلْقِ مُعْترض ... من دونه شَرَقٌ من تحته جَرض
ما ماءُ كفِّك إن جادتْ وإن بَخِلَتْ ... من ماء وجهيَ إن أفنيْتُه عِوَض
الخُشَنى قال: قال أبو غَسان: أخبرني أبو زيد قال: سأل سائلٌ بمسجد الكوفة وقتَ الظهر فلم يُعْطَ شيئاً، فقال: اللهم إنّك بحاجتي عالم لا تُعَلَّم، أنت الذي لا يُعْوِزك نائل، ولا يُحفيك سائل، ولا يَبْلغ مَدْحَك قائل، أسألك صبراً جميلا، وَفَرَجاً قريباً، وبصَراً بالهُدى، وقُوَّة فيما تُحب وتَرْضى. فتبادَروا إليه يُعْطونه، فقال: وإلله لا رَزأتكم الليلةَ شيئاً، " وقد رفعتُ حاجتِي إلى الله " ، ثم أنشأ يقول:
ما نالَ باذلُ وَجْهه بِسُؤاله ... عِوَضاَ ولو نال الغِنى بِسُؤال
إذا النًوَال مع السُّؤَال وَزَنْتَه ... رجَح السؤال وشالَ كلُّ نَوال
وقال مسْلم بن الوليد:
ِسل الناسَ إني سائِلُ الله وَحده ... وصائنُ عِرْضي عن فُلانٍ وعن فُل
وقال عَبيد بن الأبرص:
َمنْ يَسْأَل الناس يَحْرِموه ... وسائلُ الله لا يَخِيبُ
وقال ابن أبي حازم:

َلطَيُّ يومٍ ولَيْلتين ... ولُبْس ثَوْبين بالبَين
أَهْوَنُ من مِنَةٍ لقَوْم ... أغضُّ منها جفُونَ عَيْني
إني وإن كنتُ ذا عيَالٍ ... قَلِيلَ مالٍ كثِيرَ دَيْن
لأحْمَدُ اللهّ حين صارتْ ... حوائجي بَيْنه وبَيْني
ومن قولنا في هذا المعنى:
سُؤَالُ الناس مِفْتَاح عَتِيدٌ ... لِبَاب الفَقْرِ فألطف في السًّؤَال
" وَرَوَى أشعبُ الطَّمَّاع عن عبد الله بن عُمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يَحْشرٌ اللهّ عز وجل يوم القيامة قوماً عاريةً وجوههم قد أذهب حياءَها كثرةُ السؤال " .

سؤال السائل من السائل
مدح أبو الشَّمَقْمق مروانَ بن أبي حَفصة، فقال له: أبا الشَّمقمق، أنت شاعرٌ وأنا شاعر، وغايتنا كلَّنا السؤال. وذَكر أعرابيٌ رجلاً بالسُّؤال، فقال: إنّه أسألُ من ذي عَصَوَين. وقال حبيب:
لم يَخْلُق الرحمنُ أحمقَ لِحْيةً ... من سائلٍ يَرْجو الغِنى من سائل
الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر النّحويّ قال: قَدِمْتُ من سَفر، فدخل عليّ ذو الرُمة الشاعر، فعَرضتُ أن أعطيه شيئاً، فقال: " كل " أنا وأنتَ نأخذ ولا نُعْطى.
الشيب
قال قيسُ بن عاصم: الشيبُ خِطَامُ المَنيّة. وقال غيرُه: الشيبُ نذيرُ الموت.
وقال النُّميريّ: الثيبُ عُنوان الكِبَر. وقال المُعْتَمر بن سُليمان: الشيبُ مَوت الشّعَر، ومَوت الشّعَر عِلّة لمَوْت البَشر. وقال أعرابيّ: كنتُ أنكِر البَيْضاء فصِرْتُ أنكِر السَّوداء، فيا خيرَ مَبْدول ويا شَرَّ بَدَل.
وقيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: عَجِل عليك الشّيبُ يا رسولَ اللّه! قال: شَيَّبَتْني هُود وأخواتُها. وقيل لعبد الملك بن مَرْوَان: عَجِل عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين! قال: شَيَّبَني اْرتقاء المَنابر وتَوَقُّع اللّحن. وقيل لرجل من الشًّعراء: عَجِل عليك الشّيبُ! فقال: وكيف لا يَعْجَل وأنا أَعْصرُ قَلْبي في عمل لا يُرْجَى ثَوابُه، ولا يُؤْمَن عِقابُه.
وقال حبيبٌ الطائي:
غَدَا الشّيْبُ مختَطًّا بِفَودِيَ خُطّةً ... طريقُ الرّدىَ منها إلى النَّفْس مَهْيَعُ
هُو الزَوْرُ يُجْفي والمُعاشر يُحْتوى ... وذو الإلْف يُقْلَى والجديدُ يُرِقّعُ
له مَنْظر في العَينْ أبيضُ ناصعٌ ... ولكنه في القلْب أسْود أسْفع
وقال محمود الورَّاق:
بَكيتُ لقُرْبِ الأجلْ ... وبُعْدِ قَوات الأملْ
ووَافِدِ شيْب طَرَا ... بعِقْبِ شبابٍ رَحَل
شَباب كأنًْ لم يَكُن ... وشيبٌ كأنً لم يزَل
طَواك بَشِيرُ البَقا ... وجاء بشير الأجل "
وقال أيضاً:
لا تَطْلُبَنْ أثراً بعَينْ ... فالشَيْب إحدَى الميتَتَين
أبْدَى مَقابحَ كلِّ شَين ... ومَحَا مَحاسِنَ كل زَيْن
فإذا رَأتكَ الغانيا ... تُ رَأينَ منك غُرابَ بَين
ولرُيما نافَسْنَ في ... ك وكُنَّ طَوْعاً لليَدَين
أيامِ عممك الشَّبا ... بُ وأنا سَهل العارِضيَنْ
حتى إذا نزل المَشي ... بُ وَصِرْتَ بين عِمَامتين
سَوْدَاءَ حالكةٍ وبَي ... ضاءِ المَناشرِ كاللُجَين
َمزَج الصُّدُودُ وِصاله ... ن كُنَّ أمراً بَين بَين
وصَبرن ما صَبر السَّوا ... د على مُصانَعة ومَينْ
حتِى إذا شَمِلَ المَشي ... بُ فَجاز قُطْر الجانبَين
قَفين شرّ َقَفِيَّة ... وأخذْن منك الأطيَبَينْ
فاقْنَ الحَياءَ وَسَلِّ نف ... سك أو فَنادِ الفَرْقَدَين
ولَئِنْ أصابتْك الخُطو ... بُ بكل مكروه وشَين
فلقد أَمِنْتَ بأن يُصِب ... بك ناظرٌ أبداً بعين
وقال حبيب الطائيّ:
نظرتْ إليّ بعين مَن لم يَعْدِل ... لمّا تَمَكّن حبُّها من مَقْتَلي
لمِّا رأتْ وَضَح المَشِيب بلِمَّتي ... صَدَّت صُدودَ مُجانِب مُتحمِّلَ

فجعلتُ أطلب وصلها بتلطفٍ ... والشَّيْبُ يَغْمِزُها بأنً لا تَفْعلي
وقال آخر:
صَدَّت أمامةُ لمَّا جِئتُ زائرَها ... عنِّي بمَطْروفةٍ إنسانُها غَرقُ
وراعها الشيبُ في رأسي فقلتُ لها ... كذاكَ يَصفرُّ بعد الخُضْرة الوَرَق
وقال محمد بن أميّة:
رأتني الغواني الشّيبُ لاح بعارضي ... فأَعرضنَ عنِّي بالخُدود النّواضِرِ
وكُن إذا أَبْصرنني أو سَمِعْن بي ... دَنَوْن فرقَعن الكُوَى بالمحاجر
وقال العَلويِّ:
عَيرتني بشيب رأسي نَوار ... يا ابنةَ العمِّ ليس في الشّيب عارُ
إنَّما العارُ في الفِرار من الزّح ... ف إذا قِيل أينَ أينَ الفِرار
ومن قولنا في الشّيب:
بِدا وَضَحُ المَشيبِ على عِذَارِي ... وهَل ليلٌ يكونُ بلا نَهارِ
وأِلبسني النُّهى ثوباً جديداً ... وجَرَّدني من الثَوْب المُعار
شرَيت سوادَ ذا ببياض هذا ... فَبدَّلتُ العِمامةَ بالخِمَار
وما بِعْتُ الهوَى بَيْعا بشَرْط ... ولا استثنيت فيه بالخِيَار
ومن قولنا فيه:
قالوا شَبابُك قد وَلَّى فقلتُ لهمٍ ... هل من جديدٍ على كَرِّ الجَديدَيْنِ
صِلْ من هَوِيتَ وإن أبدى مُعاتبة ... فأطيبُ العَيْش وصلٌ بين إلْفَين
وَاقطَعْ حَبَائلَ خِدْنٍ لا تُلاَئمهُ ... فرَّبمَا ضاقَتِ الدُّنيا على اثنين
ومن قولنا فيه:
جارَ المَشيبُ على رَأسي فَغَيَّره ... لمّا رَأَى عندنا الحُكَّامَ قد جارُوا
كأنَما جُنَّ ليلٌ في مَفارقه ... فاعتاقَه من بَيَاض الصُّبْح إسفار
ومن قولنا فيه:
َسوادُ المَرْءِ تُنْفِدُه اللَّيَالِي ... وإِنْ كانت تَصير إلى نَفَادِ
فأَسوده يَعود إلى بَياض ... وأبيضه يَعود إلى سَواد
ومن قولنا أيضاً:
أطلالُ َلهْوك قد أَقوَتْ مَغانيها ... لم يَبْقَ من عَهدها إلا أَثافيها
هذِي المَفَارق قد قامت شواهدُها ... على فَنائِك والدُّنيا تُزَكِّيها
الشَّيبُ سُفْتَجة فيها مُعَنْونة ... لم يَبْقَ إلاّ أن يسحيها
ومن قولنا أيضاً:
ُنجوم في المَفارق ما تَغُور ... ولا يَجْرِي بها فلكٌ يَدُورُ
كأنّ سواد لِمَّته ظلاً ... أغارَ من المَشيبِ عليه نُور
ألا إنَّ القَتِيرَ وَعِيدُ صِدْق ... لنا لو كان يَزْجُرنا القَتير
نذيرُ الموت أرسلَه إلينا ... فكذَّبْنا بما جاء النَّذير
وقُلنا للنُّفوس لعلِّ عُمْراً ... يطول بنا وأطولُه قَصير
متى كُذبتْ مواعدُها وخانت ... فأوَّلُها وآخرُها غُرور
لقد كاد السلوُّ يُميت شَوْقي ... ولكِنْ قَلّما فطم الكبير
كأني لم أَرُق بل لم تَرُقْني ... شموسٌ في الأكِلَّة أو بدُور
ولم ألقَ المُنَى في ظلِّ لَهْوٍ ... بأقمارٍ سحائبُها السُّتور
" ولآخر:
والشّيبُ تَنْغيصُ الصِّبا ... فاقض اللبابةَ في الشَّبابْ
وقال ابن عبّاس: الدنيا الصحّة والشباب. ولبعضهم:
في كل يوم أرى بَيضاء قد طَلَعتَ ... كأنَّما طَلعت في ناظِر البَصرِ
لَئن قصَصْتُكِ بِالمِقْرَاض عن نَظري ... لَمَا قَصصتًكِ عن هَمِّي ولا فِكَري
ولابن المُعتزّ:
جاء المَشيب فما تَعِسْتُ به ... ومَضى الشَّباب فما بُكايَ عليْه
وقال أيضَاَ:
ماذا تُريدين من جَهْلي وقد غَبَرت ... سِنُو شَبابي وهذا الشًيبُ قد وَخَطَا
أرفِّع الشَّعرة البَيْضاء مُلْتقطاً ... فيُصْبِح الشَيبُ للسوداء مُلتقِطا
وسَوفَ لا شَكّ يُعْييِني فأتْركهفطالما أعْمِل المِقْراضَ والمُشُطا "

الشباب والصحة

قال أبو عمرو بن العَلاء: ما بَكت العربُ شيثاً ما بَكَت الشباب، وما بلغت به ما يستحقّه. وقال الأصمعيّ: أحسن أنماط الشِّعر المَرائي والبُكاء على الشَباب. وقيل لكُثَيِّر عَزًة: ما " لك لا " تقول الشعر؟ قال: ذهب الشبابُ فما أطرب، ومات عبدُ العزيز فما - أرغب. وقال عبد الله بن عبّاس: الدُّنيا العافية، والشّباب الصحة.
وقال محمود الورّاق:
أليسَ عَجِيباً بأن الفَتَى ... يُصاب ببَعضٍ الذي في يَدَيْهِ
فمن بين باكٍ له مُوجَع ... وبين مُغذّ مُعَزٍّ إليه
ويَسْلًبه الشيبُ شَرْخَ الشبا ... بِ فليس يُعزِّيه خَلْقٌ عليه
قال ابن أبي حازم:
َولَّى الشَّبابُ فخَلِّ الدَّمعَ ينْهملُ ... فَقْدُ الشِّبابِ بِفَقْدِ الروح مُتَّصلُ
لا تُكْذَبنَّ فما الدُّنيا بأجمعها ... مِنَ الشَّباب بيومٍ واحدٍ بَدَل
وقال جرير:
وَلَّى الشبابُ حَمِيدةً أيامُه ... لو كان ذلك يُشْترى أو يُرْجَعُ
وقال صريعُ الغواني:
واهاً لأيّام الصِّبا وزمانِه ... لو كان أسْعفَ بالمُقام قليلاَ
سَلْ عيش دهرِ قد مَضتْ أيامُه ... هل يَسْتطيع إلى الرُّجوع سَبيلا
وقال الحسنُ " بن هانئ " :
وأراني إذ ذاك في طاعة الجه ... ل وَفَوْقي من الصِّبا أمراءُ
تِرْب عَبْث لرَبْطتي فَصْلُ ذَيْل ... ولرأْسي ذًؤَابةٌ فَرْعاءُ
بقِناع من الشَباب جديدٍ ... لم ترَقَعه بالخِضاب النَساءُ
قبل أنْ يَلْبَس المَشيبَ عِذارى ... وتبلى عمامتي السوداء
وقال أعرابي:
للهّ أيامَ الشباب وعَصره ... لو يُستعار جديدُه فيُعارُ
ما كان أقصرَ ليلَه ونَهَارَه ... وكذاك أيامُ السُّرور قِصارُ
ومن قولنا في الشباب:
وَلّى الشبابُ وكنتَ تَسكن ظِلّه ... فانظُر لنفسك أَيَّ ظلٍّ تَسكنُ
ونَهى المَشيبُ عن الصبا لو أنّه ... يُدْلى بحُجَّته إلى مَنْ يَلْقن
ومن قولنا فيه:
قالوا شبابُك قد مضتْ أيامُه ... بالعَيْش قلتُ وقد مَضت أيّامِي
للّه! أيّة نِعمةٍ كان الصّبا ... لو أنها وُصلت بطول دوام
حَسَر المَشيبُ قِناعَه عن رأسه ... وصَحَا العواذلُ بعد طول مَلام
فكأنَّ ذاك العيشَ ظل غمامةٍ ... وكأنّ ذاك اللهوَ طيفُ منام
" ومن قولنا فيه:
ولو شِئتُ راهنتُ الصَبابةَ والهوَى ... وأَجْريتُ في اللّذات من مائتين
وأسبلتُ من ثَوْب الشّباب وللصّبا ... عليّ رداءٌ مُعْلَم الطَرَفَينْ "
وقال آخر:
إِنّ شَرْخَ الشّبابِ والشّعرِ الأس ... ود ما لم يُعاصَ كان جُنونَا
وقال آخر:
قالتْ عَهِدْتُكَ مجنوناً فقلتُ لها ... إنّ الشّبابَ جُنونٌ بُرؤُه الكِبَرُ
ومن قولنا في الشباب:
كنتُ إلْفَ الصِّبا فَوَدَّعني ... وَداعَ مَن بانَ غيرَ مُنْصَرفِ
أيامُ لهوِي كظِلِّ إسْحَلة ... وذا شَبابي كروضة أنًف
ومن قولنا فيه:
شبابي كيف صِرْتَ إلى نَفَاد ... وبُدِّلتَ البياضَ منَ السَّوادِ
وما أَبْقى الحوادثُ منك إلا ... كما أبْقت من القَمر الدَّآدِي
فِراقُك عَرًف الأحزان قَلبي ... وفَرَّق بين جَفْني والرُّقاد
فيا لنعيم عَيْشِ قد تَولى ... ويا لغليل حُزْنٍ مستفاد
كأني مِنْك لم أرْبَع برَبْع ... ولم أَرْتَدَّ به أحْلَى مَراد
سَقى ذاك الثَّرَى وَبْلُ الثَرَيَّا ... وغادىَ نَبْته صوْبُ الغوادِي
فكم لي من غَلِيلٍ فيه خافٍ ... وكم لي مِن عَويلٍ فيه بادِي
زمانٌ كان فيه الرُّشد غَيّا ... وكان الغَيُّ فيه من الرًشاد
يُقبِّلني بدلٍّ من قَبُول ... ويُسْعدني بوٍصْل من سُعاد
وأجنُبه فيُعطِيني قياداً ... ويَجْنُبني فأعْطيه قِيَادي

الخضاب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: غَيِّروا هذا الشّيبَ " وجَنِّبوه السوادَ " . وكان أبو بكر يَخْضب بالحِنَّاء والكَتَم. وقال مالك بنُ أسماء بن خارجة لجاريته: " قُومي " اخضبِي رأسي ولِحيتىِ، فقالت: دَعْني، قد عَييت بما أُرقِّعك. فقال مالك بنُ أسماء:
عَيَّرْتِني خَلَقاً أَبليتُ جِدَّته ... وهل رأيت جَديداً لم يَعُدْ خَلَقَا
ودخلِ أبو الأسود الدُؤليّ على معاوية وقد خَضَب، فقال: لقد أصبحتَ يا أبا الأسود جميلاَ، فلو عَلَّقت تميمة. فأنشأ أبو الأسود يقول:
أَفْنى الشّبابَ الذي فارقتُ بهجَته ... مَرُّ الجديدَيْن من آتٍ ومُنْطلقِ
لم يُبْقِيا ليَ في طُول اختلافهما ... شيئاً يُخاف عليه لَذْعةُ الحَدَق
وذُكر عن الأصمعيّ قال: بَلغني عن بعض العَرب فصاحةٌ، فأتيتُه فوجدتُه يَخْضب، فقال: يا بن أخي، ما الذيَ أَقصدَك إليِّ؟ قلتُ: الاستئناسُ بك والاستماع من حديثك؛ قال: يا بن أخي، قَصدْتَني وأنا أخْضِب، والخضاب من مُقدِّمات الضّعف، ولطالما فَزّعت الوُحوش، وقُدْت الجيوش؛ وَرَوَّيْت السّيف، وقَرَيت الضَّيف؛ وحَميت الجارَ، وأبيت العار؛ وشَرِبْتُ الرَّاح، وجالستُ المِلاَح، وعاديت القُروم، وعَلوت الخُصوم؟ واليوم يا بن أخي الكِبَرُ وضعف البصر، تركا من بعد الصَّفو الكَدَر، وأنشأ يقول:
شَيْبٌ نُعَلِّله كيما نُسرّ به ... كهيئة الثَّوب مطويا على خِرَقِ
فكنتُ كالغُصْ يَرْتاح الفؤادُ به ... فصرْتُ عُوداً بلا ماءٍ ولا وَرَق
صَبْراً على الدَّهر إنِّ الدّهر ذو غِيَرٍ ... وأهْلُه منه بين الصفو والرَّنَق "
ودخل مُعاويةُ على ابن جعفر يعوده، فوجده مُفيقاً وعنده جاريةٌ في حِجْرها عودٌ، فقال: ما هذا يا بن جعفر؟ فقال: هذه جارية أروَيها رقيقَ الشعر فَتَزِيده حُسناً بحُسْن نَغْمتها. قال: فَلْتقل. فحرَّكت عُودَها وغنَّت، وكان معاوية قد خَضب:
أليس عندك شُكْرٌ للَّتي جَعلتْ ... ما ابيضَ من قادمات الرِّيش كالحُمَم
جَدَّت منك ما قد كان أخْلَقه ... رَيْبُ الزمان وصَرْفُ الدهر والقِدَم
فحرَّك معاويةُ رجلَه، فقال له ابن جعفر: لم حركت رجلَك يا أميرَ المؤمنين؟ قال: كلُّ كريم طَروب. وقال محمود الورّاق في الخِضاب:
للضيف أَنْ يُقرَى ويُعْرفَ حقُّه ... والشَّيبُ ضيفُك فاْقْرِه بِخِضَابِ
وافي بأكْذَب شاهِد ولربَّما ... وافي المَشيبُ بشاهِدٍ كذّابِ
فافسَخ شهادتَه عليك بخَضبِه ... تَنْفي الظُّنون به عن المُرْتاب
فإذا دنا وَقْتُ المَشيب فخلِّه ... والشَّيبَ يذهبُ فيه كلِّ ذَهاب
وقال آخر:
وقائلةٍ تقولُ وقد رَأتنْي ... أًرَقِّع عارضَيّ من القَتِيرِ
عليك الخِطْرَ أن تُدَنى ... إلى بِيضٍ ترائبُهنّ حُور
فقلتُ لها المشيبُ نَذِيرُ عُمْري ... ولستُ مُسَوِّداً وجهَ النَّذير
وقال غيره:
إنّ شَيباً صَلاحُه بخِضَاب ... لَعَذَابٌ مُوَكَّلٌ بِعَذَاب
فوَحَقِّ الشَّباب لولا هَوَى الْبِي ... ض وأَنْ تَشْمَئِزّ نفسُ الكَعَاَب
لأرَحْتُ الخَدًّين مِن وَضر الْخِط ... ر وآذنتُ بانقضاء الشَّباب
وقال غيره:
َبكَرت تحسِّن لي سوادَ خِضابي ... لكأنّ ذاك يُعيدني لِشَبابي
وإذا أدِيمُ الوَجْه أَخْلَقَه البِلَى ... لم يُنتَفَع فيه بحُسْن خِضاب
ماذا تُرَى يجْدِي عليكِ سوادهُ ... وخلافُ ما يُرْضيك تحت ثِيابي
ما الشَيبُ عندي والخضاب لواصِفٍ ... إلا كَشَمس جلَلَت بسَحاب
تَخْفي قليلاً ثم تَقْشَعه الصَبا ... فيصيرُ ما سُتِرَت به لِذَهاب
ومن قولنا هذا المعني:
أصمَّم في الغَواية أم أَنابا ... وشَيبُ الرَّأس قد خَلَس الشَّبَابا
إذا نَصل الخِضاب بَكى عليه ... وَيَضحَك كلما وَصَل الخضابا

كأن حمامةً بيضاءَ ظَلَّت ... تُقاتل في مَفارقه غُرابا

فضيلة الشيب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن شَاب شَيْبة في الإسلام كانت له نُوراً يومَ القيامة. وقال ابن أبي شَيبة: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن نَتْف الشَّيب، وقال: هو نُور المُؤمن. وقالوا: أوَّل مَن رأى الشيب إبراهيمُ خليل الرحمن فقال: يا ربِّ، ما هذا؟ قال له: هذا الوَقار؟ قال: ربِّ زِدني وقارًا.
وقال أبو نُواس:
يَقُولون في الشّيب الوقارُ لأهْلِه ... وشَيبي بحمد الله غير وقارِ
وقال غيرُه:
يقُولون هلْ بعد الثلاثين مَلْعب ... فقلتُ وهل قبلَ الثلاثين مَلْعبُ
لقد جَلَّ قَدْرُ الشَيب إن كان كُلّما ... بَدت شَيْبةٌ يَعْرَى من اللَّهو مَركب
دخل أبو دُلَف على المأمون وعنده جارية، وقد ترك أبو دُلف الخِضَابَ، فغمز المأمونُ الجاريَةَ فقالت " له " : شِبْت أبا دُلف، إنا لله وإنا إليه راجعون، " لا " عليك! فسكت أبو دُلف. فقال له المأمون: أجِبْها أبا دُلف: فأطرق ساعةً، ثم رَفع رأسه، فقال:
تَهزأت أن رأت شيْبي فقلتُ لها ... لا تَهْزَئِي مَن يطل عُمرٌ به يَشبِ
شَيْبُ الرِّجال لهم زينٌ وَمَكْرُمة ... وَشَيْبُكًن لَكُنّ الوَيْلُ فاكتئبي
فِينا لَكُنّ، وإنَّ شيْبٌ بدا، أرَبٌ ... وليس فيكنّ بعد الشَيب مِن أرب
وقال محمود الوراق:
وعائب عابني بشيبٍ ... لم يَعْدُ لمّا ألم وَقْتَه
فقلتُ للعائبي بشيبي ... ياعائبَ الشَيب لا بَلغتَه
" أنشدني أبو عبد الله الإسْكَنْدراني " معلَم الإخْوة:
وممّا زادَ في طول اكتئابي ... طلائعُ شيبتين ألمتا بي
فأمِّا شَيْبَةٌ فَفَزِعْتُ فيها ... إلى المِقراض من حُبِّ التَّصابيِ
وأمّا شَيْبةٌ فَعَفَوت عنها ... لتَشْهد بالبَرَاء من الخِضاب "
وقال محمد بن مُناذِر:
لا سَلامٌ على الشَّباب ولا حَي ... يا الإلهُ الشبابَ من مَعْهودِ
قد لَبِسْت الجديدَ من كلّ شيء ... فوجدتُ الشَّباب شرَّ جَديد
صاحبٌ ما يزال يَدْعو إلى الغي ... ي وما مِن دُعاً له برَشِيد
ولَنِعْم المَشيبُ والوازعُ الشَّي ... ب ونِعم المًفادُ لِلْمستفيد
كبر السن
قيل لأعرابيّ قد أَخذته كَبْرة السِّن: كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحتُ تقيِّدني الشَّعرةُ، وأَعثُر بالبَعْرة، قد أقام الدهرُ صَعَرِي، بعد أن أقمتُ صَعَره. وقال: " آخر " : لقد كنت أنْكِر البيضاءَ، فصرْت أُنْكِر السوداءَ، فيا خير مَبْدول ويا شرَّ بَدَل. ودخل المُسْتَوْغِرِ بنُ ربيعة على معاويةَ بن أبي سُفيان وهو ابن ثلثمائة سنة، فقال: كيف تَجدك يا مُسْتوغر؟ فقال: أَجِدني يا أميرَ المؤمنين، قد لان مِنِّي ما كنتُ أحبّ أن يشتدّ، واشتدّ مني ما كنتُ أحبُّ أن يَلين، وابيضّ مني ما كنتُ أحبُ أن يسودّ، واسودّ مني ما كنتُ أحبّ أن يَبْيضَ، ثم أَنشأ يقول:
سَلْني أنَبِّئك بآياتِ الكِبَرْ ... نوم العِشاءِ وسُعال بالسَّحَرْ
" وقِلَّةَ النَّوْم إذا الليل آعْتَكر " ... وقِلّة الطُّعْم إذا الزَّاد حَضَر
" وسُرْعة الطَّرَف وتَحْمِيج النظر " ... وتَرْكُك الحَسناءَ في قُبْل الطُّهُر
والناسُ يَبْلَوْن كما يَبْلى الشًجَر
وقال أعرابي:
أشْكو إليك وَجَعاً برُكْبتي ... وَهَدجاناً لم يَكًن في مِشْيتي
كهَدَجان الرَّأل خَلْف الهَيْقَتِ
وقال آخر:
وللكبير رَثَياتٌ أرْبع ... الرُّكَبتان والنّسا والأخْدع
وقال جرير:
تَحِنّ العِظام الرّاجفاتُ من البِلَى ... ولَيْس لداء الركْبتين طبيبُ
وقال أعرابيّ في امرأة " عَجُوز " :
يا بِكْرَ حَوَّاءَ من الأوْلاد ... وأقدمَ العالم في المِيلادِ
عُمْركِ ممدودٌ إلى التَّنادِي ... فحدًثينا بحَدِيث عادِ

ومُبْتدا فِرعون ذي الأوْتاد ... وكيف حالُ السَّيل بالأطْوادِ
وقال آخر:
إذا عاش سَبْعين عاماً ... فقد ذَهب المَسرةُ والفَتَاءُ
كان في غَطفان نَصْر بنُ دُهْمان، قادَ غَطفان وسادَها حتى خرِف وعُمِّر تسعين ومائة سنةٍ حتى اسودَّ شَعرُه ونَبتت أضراسُه وعاد شاباً، فلا تُعرف في العرب أعجوبة مثله. وقال محمد بن مناذر في رجل من المُعمَّرين:
إنَّ مُعاذَ بنَ مُسْلم رَجلٌ ... قد ضَجّ من طُول عُمره الأبدُ
قد شابَ رأسُ الزَّمان واكتهل الدَّه ... ر وأثوابُ عُمْره جدُد
يا نَسْرَ لُقمان كم تعيشُ وكم ... تَسْحَبُ ذَيْلَ الحياةِ يا لُبَد
قد أصبحتْ دارُ آدم خَرِبَتْ ... وأنت فيها كأنك الوَتِد
تَسأالُ غِرْبانها إذا حجَلت ... كيفَ يكون الصّدَاع والرَّمد
ودخل الشّعبيّ على عبد الملك بن مَرْوَان، فوَجده قد كبا مُهْتَمًّا، فقالت: ما بالُ أمير المؤمنين؟ قال: يا شعبيِّ، ذكرتُ قولَ زُهير:
كأني وقد جاوزت سَبْعين حِجًةً ... خَلعتُ بها عنِّي عِذَارَ لجامي
رَمَتني بناتُ الدهر من حيث لا أَرى ... فكيف بمن يُرْمى وليس بِرَامي
فلو أنني أرْمَى بِنبْلٍ رأيتها ... ولكنًني أرْمَى بغير سِهام
عَلَى الرَّاحَتَيْن تارةً وعلى العصا ... أُنُوءُ ثلاثاً بعدهنَّ قِيامي
قال له الشًعبيُّ: ليس كذلك يا أميرَ المؤمنين، ولكن كما قال لَبِيدُ ابن ربيعة، وقد بلغ سبعين سنة؛
كأني وقد جاوزتُ سَبْعينَ حِجَّةً ... خلعتُ بها عن مَنْكِبَّيَّ رِدَائيَا
فلما بلغ سبعاً وسبعين قال:
باتت تَشكّى إلى النفسُ مُجهِشةً ... وقد حملتُكِ سبعاً بعد سَبْعيناً
فإن تُزَادي ثلاثاً تَبْلُغي أملاً ... وفي الثلاثِ وفاءٌ للثّمانينَا
فلما بلغ مائة سنة قال:
ولقد سئمت من الحياة وطُولها ... وسُؤَال هذا الخَلْق كيف لَبِيدُ
فلما بلغ مائة سنةٍ وعشراً قال:
أليسَ في مائةٍ قد عاشها رجُلٌ ... وفي تَكامُل عَشْرٍ بعدها عُمُرُ
فلما بلغ ثلاثينَ ومائةً وقد حضرَتْه الوفاة قال:
تَمَنَئ ابنتاي أن يَعيشَ أبوهما ... وهل أنا إلا منِ رَبيعةَ أو مُضرْ
فقُوما وقُولا بالذي تَعْلمانه ... ولاتَخْمِشَا وجها ولا تَحْلِقَا شَعَر
وقولا هو المرءُ الذي لا صَدِيقَه ... أضاع ولا خانَ الخليلَ ولا غَدر
إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلام عليكما ... ومَن يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَر
قال الشّعبيّ: فلقد رأيت السرورَ في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها.
وقال لبيد أيضاً:
أليسَ ورائِي إن تراختْ مَنِيَّتي ... لُزُومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ
أخَبر أخبارَ القُرون التي مَضت ... أدِبُّ كأنّي كلما قمتُ راكِع
فأصبحتُ مثل السيفِ أَخْلق جَفْنَه ... تَقادمُ عهدِ القَيْن والنَصْلُ قاطِع
وقالوا: مكتوبٌ في الزّبور: مَن بَلغ السبعين أشتكي من غير علّة. وقال محمد ابن حسّان النِّبطي: لا تَسأل نفسك العامَ ما أعطتك في العام الماضي. وقال مُعاويةُ لما أَسنَّ: ما مَرَّ شيءٌ كنتُ أستلذّه وأنا شابّ فأجِده اليومَ كما أجده إلا اللبن والحديث الحَسَن. عاش ضِرَارُ بن عمرو حتى وُلد له ثلاثةَ عشرَ ذكراً، فقال: مَن سَرَّه بنوه ساءته نفسُه. وقال ابن أبي فَننِ:
مَن عاشَ أَخْلقتِ الأيام جدَته ... وخانَه ثِقَتاه السَّمعُ والبَصرُ
قالت عَهِدْتًك مَجنوناً فقلتُ لها ... إنّ الشبَابَ جُنونٌ بُرْؤُه الكِبر
قال أبو عُبيدة: قيل لشَيْخ: ما بَقَى منك؟ قال يَسْبقني مَن بي يَديّ ويُدْركني مَن خَلْفي، وأذكر القديمَ، وأنْسى الحديثَ، وأنْعسِ في الملا، وأسْهرُ في الخَلا، وإذا قمتُ قَرُبَتِ الأرض مِنِّي، وإذا قَعدْتُ تباعدت عَنّي.
وقال حُمَيد بن ثَوْر الهِلاليّ:

أرى بَصرِي قد رابني بعد صِحَّةٍ ... وحَسْبُك داءً أن تَصِحَّ وتَسْلَمَا
وِقال آخر:
كانت قَنَاتي لا تَلِينُ لغامزٍ ... فألانَهَا الإصباحُ والِإمْساءُ
وَدَعَوْتُ رَبِّي بالسلاَمة جاهِداُ ... لِيُصِحًني فإذا السلامةُ داء
وقال أبو العتاهية " ويروى للقُطاميّ " :
أسْرَع في نَقْص آمرىء تمامُه
وقالت الحكماء: ما زاد شيءٌ إلا نَقَص، ولا قام إلا شَخَص. وقال بعض المُحْدَثين:
" أَلستَ تَرَى أنّ الزَّمانَ طواني ... وبدَّل عقلي كلّه وبَرَاني "
تَحَيَّفَني عُضْواً فَعُضْواً فلم يَدَع ... سوى اسمي صحيحاً وحدَه ولِساني
ولو كانت الأسماء يَدْخُلها البِلَىِ ... إذاً بَليَ اسمي لامتدادِ زَمانِي
وما ليَ أَبْلَى لِسَبْعِينَ حجَّةَ ... وَسبع أَتَتْ مِن بعدها سَنَتان
إذا عَنًّ لي شيءٌ تَخيَّل دونه ... شَبيهُ ضَباب أو شَبيهُ دُخان
وقال الغَزال:
أصبحتُ واللهّ مَحْسودأً على أَمدٍ ... مِنَ الحياة قَصيرِ غير مُمتَدِّ
حتى بقيتُ بحمد الله في خَلَفٍ ... كأنّني بينهم من وَحْشًةٍ وَحْدي
وما أُفارق يوماً مَن أفارقه ... إلا حَسِبْت فِراقِي آخرَ العَهد
وقال آخر:
يا مَن لشيخٍ قد تَخَدَّد لحمُه ... أَفنَى ثلاثَ عمائمٍ أَلوانا
سوداءَ حالكةً وسَحْقَ مُفوَف ... وأجدَّ لوناً بعد ذاك هِجَانَا
قَصَرَ اللّيالي خَطْوَه فَتَدَاني ... وحَنَينْ قائم صُلبه فتحانىَ
والموتُ يأتي بعد ذلك كلِّه ... وكأنما يُعْنى بذاك سِوَانا
" وقال سُفيان الثّوريّ في مَدْح كِبَره:
إنِّي وإن كان مَسنَّى كِبر ... على ما قد تَرَيْنَ من كِبَرِى
أَعرفُ من قبل أن تُفَارِقَني ... موقعَ سَهْمِي والسهمُ في الوتَر "

من صحب من ليس من نظرائه
لخصال فيه
كان حارثةُ بن بَدر الغُدَانيِّ فارسَ بني تميم، وكان شاعراً أديبَا ظريفاً، وكان يُعاقرا الشَّرابَ ويَصْحب زياداَ، فقيل لزياد: إنك تَصْحب هذا الرجلَ وليس من شاكِلَتك، إنهُ يُعاقر الشراب؛ فقال: كيف لا أَصحبه، ولم أَسْأله عن شيء قطّ إلا وجدتُ عنده منه عِلماً، ولا مَشىَ أمامي فاضطرَّني أن أناديه، ولا مَشى خَلْفي فاضطرَّني أن أَلتفتَ إليه، ولا راكَبني فمسَّتْ رُكْبتي رُكْبَتَه. فلما هلك زيادٌ قال حارثةُ بنُ بَدْر يَرْثيه:
أَبا المُغِيرَةِ والدُنيا مُغَرِّرَةٌ ... وإِنّ مَن غَرَّت الدُّنيا لَمَغْرورُ
قد كان عِنْدك للمَعْروف مَعْرِفَةٌ ... وكان عندك للتَّنْكير تَنْكِير
لو خلدَ الخيرُ والإسلامُ ذا قِدَمٍ ... إذاً لخلّدَك الإسلامُ والخِير

وتمامُ هذه الأبياتِ قد وقعتْ في الكتاب الذي أَفْرَدناه للمَرَاثي. وكان زياد لا يُدَاعب " أحداً " في مجلسه ولا يَضْحَك، فاختصم إليه بنو راسِب وبنو الطُّفَاوَة في غُلام أثْبته هؤلاء وهؤلاء، فَتَحَيَّر زيادٌ في الحًكم. فقال له حارثةُ ابن بدر: عِنْدي أكرمَ اللهّ الأميرَ في هذا الغلام أمرٌ، إن أذِن الأميرُ تكلّمت به فيه؟ قال: وما عندك فيه؟ قال: أرى أن يُلْقَى في دِجْلة فإن رَسَب فهو لِبَني راسِب، وإن طفا فهو لبني الطُّفَاوَة، فتبسَّم زياد وأَخَذَ نَعْليه ودخل، ثم خَرج، فقال لحارثة: ما حَمَلك على الدُّعابة في مَجلسي؟ قال: طَيِّبَةٌ حَضرَتْني أبقى الله الأمير خِفْت أن تَفُوتنِى؛ قال: لا تَعُدْ إلى مثلها. ولما وَليَ عُبيد اللهّ بن زياد بعد موت أبيه اطرحَ حارثةَ بنَ بدر وجفاه. فقال له حارثةُ: مالك لا تُنْزلني المنزلةَ التي كان يُنزِلني أبوك؟ أتدَّعي أنّكَ أفضلُ منه أو أعقل؟ قال له: إنّ أبي كان بَرَع في الفضل بُرُوعاَ لا تَضرّه صُحْبَة مثلك، وأنا حَدَث أخشى أن تَحْرِقني بنارك، فإنْ شِئْتَ فاتْرُك الشراب وتكونَ أوَلَ داخل وآخِرَ خارج؟ قال: واللّه ما تركتُه للّه فكيف أتركه لك؟ قال: فتخَيَّرْ بلداً أوَلِّيكه. فاختار سُرَّق من أرض العِراق، فولاّه إياها. فكتب إليه أبو الأسود الدُؤلي، وكان صديقاً له:
أحارَ بنَ بَدْرٍ قَدْ وَليتَ وِلايةً ... فكُنْ جًرَذاً فيها تَخُون وتَسْرِقُ
وباهِ تَمِيَماَ بالغِنى إنّ للغنى ... لِساناً به المرْء الهيوبة يَنطق
وما الناس إلا اثنان إما مُكَذِّبٌ ... يقول بما يهْوَى وإمَّا مُصدِّق
يقُولون أقوالاً ولا يحْكِمُونها ... فإنْ قيل يوماً حققوا لم يُحَقَقُوا
فدع عنك ما قالوا ولا تَكْترث بهم ... فحظك من مال العِرَاقين سُرّق
فوقَّع في أسفل كتابه: لا بَعُد عنك الرَّشَد.
وكان ابن الوليد البَجليّ، وهو ابن أخت خالد بن عبد الله القَسْرِيّ، ولي أصبهان، وكان رجلاً مُتَسَمِّتاً مُتَصَلحاً، فَقدِمَ عليه حمزةُ بن بيض بن عَوْف " راغباً " في صُحْبته، فقيل له: إنّ مثل حمزة لا يَصْحب مثلَك، لأنه صاحبُ كِلاب ولهو، فبعث إليه ثلاثةَ آلاف درْهم وأمره بالانصراف. فقال فيه:
يابن الوليد المُرْتَجَى سَيْبهُ ... ومن يُجَلي الحدث الحالِكَا
سَبِيلُ مَعْروفك مني عَلَى ... بالٍ فما بالِي عَلَى بالِكا
حَشْوُ قميصي شاعرٌ مُفْلِقٌ ... والجودُ أمْسى حشو سربالِكا
يلومك النَّاسُ على صُحْبتٍي ... والمِسْكُ قد يستصحبِ الرّامِكا
إنْ كُنتَ لا تَصحَب إلا فَتى ... مِثْلك لن تُؤْتىَ بأمْثَالِكا
إنيّ آمرُؤ جئتُ أريد الهُدَى ... فَعُد على جَهلي بإسْلامِكا
قال له: صدقتَ، وقَرَّبه وحَسُنت منزلته " عنده " .
وكان عبدُ الرحمن بن الحَكم الأمير قد عَتَب على نُدمائه! فأَمرَ نَصْراً الفتى بإسقاطهم من ديوان عَطائه، ولم يَسْتبدل بهم. فلما كان بعد أيام أستوحش لهم، فقال لِنصر: قد استوحشنا لأصحابنا أولئك؟ فقال له نصر: قد نالهم من سخْط الأمير ما فيه أدبٌ لهم، فإن رأى أن يُرْسل فيهم أرْسلت؟ قال: أرْسِلْ. فأقبل القومُ وعليهم كآبة، فأخذُوا مجالسهم، ولم يَنشرحوا ولا خاضُوا فيما كانوا يَخُوضون فيه، فقال الأميرُ لِنصر: ما يَمنع هؤلاء من الانشراح؟ قال: عليهم أَبقى الله الأمير وَجْمَةُ السُخط الذي نالهم؟ قال: قُلْ لهم: قد عَفَوْنا فليَنْشرحوا. قال فقام عبد الرحمن بن الشَمر الشاعرِ المُتنجِّم، فجثا بين يديه، ثم أنشد شَعراً له أقذع فيه على بعض أصْحابه إلا أنه خَتمه ببيتين بديعين وهما:
فيا رَحْمَةَ الله في خَلْقه ... ومَن جُوده أبداً يَسْكُبُ
لئن عِفْتَ صُحْبة أهل الذُّنوب ... لقلَّ مِن الناس من يُصْحَب
وأَحسنُ ما قيل في هذا المعنى قولُ النابغة:
ولمسْتَ بِمُسْتَبْق أخا لا تَلُمّه ... على شَعَثٍ أيُّ الرِّجال المُهَذَّبُ

قولهم في القرآن

كتب المَرِيسيّ إلى أبي يحيى مَنصور بن محمد: اكتب إليَّ: القرآنُ خالق أو مَخْلوق؟ فكتب إليه: عافانا الله وإياك من كلِّ فِتْنة، وجَعَلنا وإِيَّاك من أهل السُّنة، وممن لا يَرْغب بنفْسه عن الجماعة، فإنه إن تَفْعل فأعْظِم بها مِنَّة، وإن لا تَفْعل فهي الهَلَكة، ونحن نقول: إنّ الكلامَ في القرآن بِدعة، يتكلّف المُجيبُ ما ليس عليه، ويتعاطى السائل ما ليس له، وما نعلم خالقاً إلا اللّه، وما سِوى الله فمخلوق، والقرآنُ كلام اللّه، فانْتَه بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها فتكونَ من الضالين، جَعلنا الله وإياك من الذين يَخْشَوْن رَبَّهم بالغيب، وهم من الساعة مُشْفِقون.

كتاب الجوهرة في الأمثال
" قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه " : قدْ مَضى قولُنا في العِلْم والأدب وما يتولّد منهما، ويُنْسب إليهما من الحِكَم النادرة، والفِطَن البارعة، ونحن قائلون بعَوْن الله وتوفيقه في الأمثال التي هي وَشيُ الكلام، وجوهر اللفظ، وحَلْى المعاني، والتي تخيَّرتْها العربُ، وقَدَّمتها العجم، ونُطِق بها " في " كل زمان، وعلى كلِّ لسان، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يَسِرْ شيءٌ مَسِيرَها، ولا عَمَّ عُمومَها، حتى قيل: أسير من مثل. " وقال الشاعر " :
ما أنتَ إلا مَثَلٌ سائرُ ... يَعْرفه الجاهلُ والخابرُ
وقد ضرب الله عزَّ وجلَّ الأمثالَ في كتابه، وضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه، قال اللهّ عز وجل: " يَا أَيُّهَا الناسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَه " . وقال: " وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَينْ " . ومِثْلُ هذا كثير في آي القرآن. فأوّلُ ما نبدأ به أمثالُ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، ثم أمثالُ العلماء. ثم أمثالُ أكْثَم بن صَيْفِيّ وبُزُرْجِمهر الفارسيّ، وهي التي كان يَسْتَعملها عفرُ بن يحيى في كلامه، ثم أمثالًُالعرب التي رواها أبو عُبيد وما أشبهها من أمثال العامة، ثم الأمثالُ التي استعملها الشعراءُ في أشعارهم في الجاهلية والإسلام.
أمثال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ضرب الله مثلاً صِراطاً مُستقيماً وعلى جَنْبي الصراط أبوابٌ مُفَتَحة، وعلى الأبواب سُتور مَرْخِيَّة، وعلى رأس الصراط داعٍ يقول: ادخُلوا الصراطَ ولا تَعْوَجُّوا. فالصراطُ الإسلامِ، والستورُ حدودُ اللّه، والأبواب محارمُ اللّه، والداعي القرِان. وقال " النبي " صلى الله عليه وسلم: مَثلُ المُؤْمن كالخامة من الزرع، يُقَلِّبها الريِحُ مرَّة كذا ومرَة كذا؟ ومَثلُ الكافر مثل الأرزَة المُجْذِيَة على الأرض " حتى " يكون انجعافُها بِمَرّة. وسأله حُذَيفة: أبعدَ هذا الخير شرّ يا رسول اللّه؟ فقال: جماعة " على " أقْذَاء وهُدْنَة على دَخَن. وقولُه حين ذَكر الدنيا وزينتَها فقال: إنَّ مما يُنْبت الرّبيعُ ما يَقْتُل حَبَطاً أو يُلِمّ. وقال لأبي سُفْيان: أنت أبا سفيان كما قالوا: كلُّ الصيد في جَوْف الفَرَا: وقال حين ذكر الغُلوّ في العِبَادة: إنّ المنبَتّ لا أرضاً قَطع ولا ظَهْراً أبْقى. وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم وخَضرَاءَ الدِّمن. قالوا: وما خَضراء الدِّمن؟ قال: المرأةُ الحَسْناء في المَنْبت السّوء. وذكر الرِّبا في آخر الزمان، وافْتِنَانَ الناس به، فقال: مَن لم يَأكلْه أصابه غُبارُه. وقال: الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْك. وقال صلى الله عليه وسلم: الولدُ لِلْفراش وللعاهر الحَجَر. وقال في فرس: وجدتُه بَحْراً. وقال: إنّ من البيان لَسِحراً. وقال: لا ترْفع عصاك عن أهلك. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يُلْدغ المؤمن من جُحر مرَّتين. وقال: الحَرْب خدَعة. وله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أمثالٌ كثيرة غيرُ هذه، ولكنَّا لم نذهب في كل باب إلى استقصائه، وإنما ذهبنا إلى أن نِكْتَفيَ بالبعض ونَسْتدلّ بالقليل على الكثير، ليكونَ أسهلَ مَأخذاً للحفظ، وأبرأ من المَلالة والهرب.

وتفسيرها: أمِا المثل الأول، فقد فَسَّره النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: المؤمن كالخامة والكافر كالأرْزة، فإنَه شَبه المُؤْمن في تصرّف الأيام به وما يناله من بلائها بالخامة من الزَرْع تُقلَبها الريحُ مرة كذا ومرة كذا. والخامة " في قول أبي عُبيد " : الغَضّة الرَّطبة من الزَرع. والارْزة: واحدة الأرز، وهو شجر له ثمر، يقال له الصَّنَوْبر. والمُجْذِية: الثابتة، وفيها لغتان: جَذَي يجذو، وأجْذَى يجذِي. والانجعاف: الانقلاع، يقال: جَعفت الرجل، إذا قلعتَه وصرعتَه وضربت به الأرض. وقوله لحُذيفة: هُدْنة على دَخَن وجَمَاعة على أقذاء؛ أراد ما تَنطوي عليه القُلوب من الضًغائن والأحقاد، فشبّه ذلك بإغضاء الجفون على الأقذاء. والدَّخن: مأخوذ من الدُّخان، جعله مثلا لما في الصُّدور من الغِلّ. وقوله: إنَ مما يُنبت الرّبيع ما يَقْتُل حَبَطاً أو يُلمّ، فالحَبط، كما ذكر أبو عُبيد عن الأصمعيّ: أن تأكل الدابة حتى تَنْتفخ بطنُها وَتمْرَض منه؛ يقال: حَبِطَتِ الدَّابةُ تَحْبِط حَبَطاً. وقوله: أو يُلم، معناه: أو يَقْرُب من ذلك؛ ومنه قوله إذ ذكر أهل الجنة فقال: إنّ أحدَهم إذا نَظر إلى ما أعدَّ الله له في الجنَّة، فلولا أنه شيء قَضَاه الله له لألمّ أن يَذهب بَصرُه، " يَعْنى " لما يَرى فيها، يقول: لَقَرُب أن يَذهب بصرُه. وقوله لأبي سُفيان: كلُّ الصَّيد في جَوْف الفَرا، فمعناه أنّك في الرجال كالفَرا في الصيد، وهو الحمار الوَحْشيّ، وقال له ذلك يتألّفه على الإسلام. وقولُه حين ذكر الغلوَّ في العبادة: إن المنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. يقول: إن المُغِذَّ في السير إذا أَفرط في الإغذاذ عطبت راحلتُه من قبل أن يَبْلُغ حاجَته أو يَقْضيَ سَفَرَه، فشبّه بذلك مَن أَفْرَطَ في العِبادة حتى يَبْقى حَسِيراً. وقوله في الرِّبا: من لم يأكله أصابه غُباره؛ إنما هو مَثل لما ينال الناسَ من حُرْمته، وليس هناك " تُراب ولا " غُبار. وقولُه: الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْك، أي مَنع منه، كأنه قَيْدٌ له. وفي حديث آخر: لا يَفْتك مؤمن. وقوله في فرس: وجدتُه بَحْراً، وإنّ من البيان لَسِحْراً؛ إنما هو على التمثيل لا على التحقيق. وكذلك قوله: الولد لِلفِراش وللعاهر الحَجَر. معناه: أنه لا حق له في نَسب الوِلد. وقوله صلى الله عليه وسلم: لا ترفَعْ عَصاك عن أهلك؛ إنما هو الأدب بالقَول، ولم يُرد ألا تَرْفع عنهم العصا. وقوله: لا يُلْدغ المُؤمن من جُحر مرّتين؛ معناه أنّ لَدْغَ مرة يَحْفظ من أخرى. وقولُه: الحرب خَدعة؛ يريد أنها بالمكر والخديعة..

أمثال روتها العلماء
خَطب النعمانُ بن بَشِير على مِنْبر الكوفة فقال: يا أهلَ الكوفة، إني وجدتُ مَثَلي ومَثَلَكم كالضّبُع والثَعلب، أتيا الضَب في جُحْره، فقالا: أبا حِسْل: قال: أجِبْتما " لمَ جِئْتُما " ؟ قالا: جِئناك نَخْتصم؟ قال: في بَيْته يؤتىَ الحَكم، قالت الضَبع: فتحتُ عَيْبتي؟ قال: فِعْلَ النساء فعلتِ، قالت: فلقطتُ تمرة، قال: حُلْوًا جنيتِ؟ قالت فاختطفها ثُعالة؛ قال: نفسه بَغَى - ثُعالة: اسم الثعلب، الذكر والأنثى - قالت. فلطمتُه لطمةً؛ قال حقًا قضيتِ، قالت: فلَطَمني أخرى، قال: كان حُرّا فانتصر؛ قالت: فاحكم الآن بيننا؛ قال: حَدِّث حديثين امرأة وإن لم تَفْهم فأَرْبعة.
وقال عبد الله بنً الزُّبير لأهل العِراق: وَدِدْتُ واللّه أنّ لي بكم من أهل الشام صَرْفَ الدِّينار بالدِّرهم. قال له رجلٌ منهم: أتدري يا أَميرَ المؤمنينَ ما مَثلنا ومَثلك ومَثل أهل الشام؟ قال: وما ذاك؟ قال: ما قاله أعشى بكر حيث يقول:
عُلِّقْتُها عَرَضاً وعُلِّقت رجلاً ... غيري وعُلِّق أخرى ذلك الرجلُ
أَحببناك نحن، وأحببتَ أنتَ أهلَ الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك " بن مروان " .
مثل في الرياء

يحيى بنُ عبد العزيز قال: حدَّثني نعَيم عن إسماعيل " عن " رجلٍ من ولد أبي بكر الصدِّيق رضوانُ اللّه عليه عن وَهْب بن مُنَبِّه قال: نَصب رجلٌ من بني إسرائيل فَخّا فجاءت عُصفورة فنزلت عليه، فقالت: مالي أراك مُنْحَنياً؟ قال: لكثرة صلاتي انحنيت؟ قالت: فمالي أراك باديةً عِظامُك؟ قال: لكثرة صيامي بدت عظامي؛ قالت: فمالي أرى هذا الصُّوفَ عليك؟ قال: لزُهْدي في الدُّنيا لبستُ الصُوف؛ قالت: فما هذا العِصا عندك؟ قال: أتوكأ عليها وأقضي " بها " حَوائجي؛ قالت: فما هذه الحبّة في يَدك؟ قال: قُرْبان إِن مرّ بي مِسْكين ناولتُه إياها؛ قالت: فإنِّي مِسكينة؛ قال: فخَذيها. فَدَنت فَقَبضت على الحبّة فإذا الفخُّ في عُنقها. فجعلت تقول قَعِي قَعِي، تفسيره: لا غرّني ناسكٌ مُرَاءٍ بعدك أبداً.
داودُ بنُ أي هِنْد عن الشّعْبِيّ: أنّ رجلاً من بني إسرائيل صاد قُبَّرة، فقالت: ما تُريد أن تَصنع بي؟ قال: أذبحك فآكلُك؟ قالت: واللّهِ ما أشْفي من قَرَم ولا أغْنى من جُوع، ولكنِّي أعلِّمك ثلاثَ خِصال هي خَيْر لك من أَكْلي: أما الواحدة فأعلِّمك إياها وأنا في يدك، والثانيةُ إذا صرتُ على هذه الشجرة، والثالثة إذا صِرْت على هذا الجَبل. فقال: هاتِ " الأولى " . قالت: لا تَتَلَهَّفنَّ علٍى ما فاتك، فخلَّى عنها. فلما صارتْ فوْقَ الشجرة، قال: هاتِ الثانيةَ؟ قالت: لا تصِدِّقن بما لا يكون أنه يكون، ثم طارت فصارت على الجبل؛ فقالت: يا شَقيّ، لو ذَبحتني لأخْرجت من حَوْصلتي درَّة وَزْنها عشرون مثقالا. قال: فَعَضّ علىٍ شَفَتَيْه وتلهّف، ثم قال: هاتِ الثالثة؛ قالت له: أنت قد نَسِيت الاثنتين، فكَيف أعلّمك الثالثة؟ ألم أقل لك: لا تتلهفنَّ على ما فاتك؟ فقد تلهفت عَلَيّ إذ فُتُّك، وقلت لك: لا تُصَدِّقن بما لا يكون أنه يكون، فصدّقت، أنا وعَظْمِي وريشي لا أَزن عشرين مثقالا، فكيف يكون في حوْصلتي ما يزنها! وفي كتاب للهند: مثلُ الدُّنيا وآفاتها ومَخاوفها والموت والمعاد الذي إليه مَصير الإنسان. قال الحكيمُ: وجدت مثل الدنيا والمَغرُور بالدنيا المَملوءة آفات مثلَ رجل ألجأ خوْفٌ إلى بِئر تدلى فيها وتعلَّق بغُصْنين نابتين على شَفير البئر ووقعتْ رجلاه على شيء فمدَهما، فنظر فإذا بحيّات أَرْبع قد أَطْلعن رؤوسهن من جُحورهن، ونظر إلى أسفل البئر فإذا بثُعبان فاغر فاهُ نحوَه، فرفع بصره إلى الغُصْن الذي يتعلق به، فإذا في أصله جُرَذان أبيضُ وأسود يَقْرضان الغُصن دائبيَنْ لا يَفْتُرَان، فبينما هو مُغْتمّ بنفسه وابتغاء الحيلة في نجاته، إذ نظر فإذا بجانب منه جُحْرُ نَحْل قد صَنَعْن شيئاً من عَسل، فَتَطاعم منه فَوَجَدَ حلاوتَه، فَشغلته عن الًفِكْر في أمره واْلتماس النَّجاة لنفسه، ولم يَذْكُر أنّ رِجْلَيْه فوق أربع حيَّات لا يدْري متى تُسَاوره إحداهن، وأنّ الجُرَذَيْنِ دائبان في قَرْض الغُصْن الذي يتعلَق به، وأنهما إذا قطعاه وقع في لَهْوة التِّنّين، ولم يزل لاهياً غافلاً حتى هَلَك. قال الحكيم: فشبَّهت الدنيا المملوءة آفاتٍ وشروراً ومخاوفَ بالبئر، وشبَّهت الأخلاط التي بُني جَسَدُ الإنسان عليها من المِرَّتين والبَلغم والدَّم بالحيّات الأربع، وشَبهت الحياة بالغُصنين اللذين تعلَّق بهما، وشَبَّهت الليل والنهار ودورانهما في إفْناء الأيام والأجيال! بالجُرَذَين الأبيض والأسود اللذين يَقْرِضان الغُصْنَ دائبَينْ لا يَفْترَان، وشبّهتُ الموت الذي لا بد منه بالتِّنين الفاغر فاه؛ وشبَّهْتُ الذي يرى الإنسانُ ويَسمع " ويَطعم " ويَلْمس فَيُلْهيه ذلك عن عاقبة أمره وما إليه مَصِيرة بالعُسَيلة التي تطاعمها.

من ضرب به المثل من الناس
قالت العربُ: أَسْخَى من حاتم، وأَشجع من رَبيعةَ بن مُكَدَّم، وأَدْهَى من قَيْس بن زُهير، وأعزُّ من كُلَيب وائل، وأَوْفي من السّمَوأَل، وأَذْكى من إياس بن معاوية، وأَسْود من قَيْس بن عاصم، وأَمْنع من الحارث بن طالم، وأبلغ من سَحْبان وائل، وأَحْلم من الأحْنف بن قيس، وأَصْدق من أبي ذرّ الغفاريّ، وأكذب من مُسَيلمة الحَنَفيّ، وأعيا من باقل، وأَمْضى من سُليك المَقَانب، وأنْعم من خُرَيم النَّاعم، وأحمق من هَبنَّقة، وأفْتك من البراض.
من يضرب به المثل من النساء

يقال: أشْأم من البَسُوس، وأمنع من أم قِرْفة، وأحمق من دُغة، وأَقْوَد من ظُلْمِة، وأبصرَ من زَرْقاء اليمامة - البَسوس: جارة جساس بن مُرَّة بن ذهل بن شيْبان، ولها كانت الناقة التي قُتل من أجلها كُلَيب بن وائل، وبها ثارت بين بَكر بن وائل وتَغْلب " الحرب " التي يُقال لها حَرْب البَسوس. وأم قِرْفة: امرأة مالك بن حُذَيفة بن بَدْر الفَزاريّ، وكان يُعَلَق في بيتها خمسون سيفاً كلُّ سيف منها لذي مَحْرَم لها. ودُغَة: امرأة من عِجْل بن لُجَيم، تزوَجت في بني العَنْبر بن عمرو بن تميم. وزَرقاء بني نُمير: امرأة كانت باليمامة تُبصر الشَعَرةَ البيضاء " في اللبن، وتَنْظُر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تُنذر قومها الجُيوش إِذا غَزَتهم، فلا يَأتيهم جَيْشٌ إلا وقد استعدُّوا له، حتى احتال لها بعضُ مَن غزاهم، فأمر أصحابَه فقطعوا شجراً وأمْسكوه أمامهم بأيديهم، ونظرت الزَرقاء، فقالت: إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم؛ قالوا لها: قد خَرِفْت ورَقّ عقلُك وذَهَب بصرُك، فكذَّبوها، وَصبِّحتهم الخيلُ، وأغارت عليهم، وقُتلت الزَّرقاء. قال: فَقوَّرُوا عَينيها فوجدوا عُروق عينيها قد غرِقت في الإثمد من كثرة ما كانت تَكْتحل به. وظُلمة: امرأة من هُذيل زَنت أربعين عاماً " وقادت أربعين عاماً، فلما عَجزت عن الزِّنا والقَوْد اتَّخَذت تَيْساَ وعَنْزاً، فكانت تُنْزِى التَيْس على العنز، فقِيل لها: لم تَفْعلين ذلك؟ قالت: حتى أسمع أنْفاس الْجِماع.

ما تمثلوا به من البهائم
قالوا: أَشجع من أسد، وأَجْبن من الصَّافر، وأمْضى من لَيْث عِفَرِّين، وأحْذَر من غُراب، وأبصر منِ عُقاب " مَلاَع " ، وأَزْهَى من غُرَاب، وِأَذلُّ من قراد " بمَنْسِم " ، وأَسْمَع من فرَس، وأنوَم من فَهْد، وأعقُّ من ضب، وأجبن من صِفْرِد، " وأحقد من جَمَل " ، وأضرع من سِنَّوْر، وأسرَق من زَبابة، وأصبر من عَوْد وأَظْلم من حَيّة، وأَحنُّ من ناب، وأكذبُ من فاخِتة، وأعزُّ من بيْض الأنُوق، وأَجْوَع من كلْبة حَوْمل، وأعزُّ من الأبلق العقوق 0 الصَافر: ذو الصَّفير من الطّير، والعَوْد: المُسِن من الجمال. والزَّبابة: الفأرة تَسرِق دود الحرير. والأنُوق: طَيْر يقال إنه: يبيض في الهواء. وفاخِتة: طير يَطير بالرًّطب في غير أيامه.
ما ضرب به المثل من غير الحيوان
قالوا: أَهْدَى من النجم، وأجود من الدِّيم، وأصْبح من الصّبح؛ وأَسْمَح من البَحر، وأنْوَر مِن النَهار، وأقْوَدُ من ليل، وأمْضى من السيل، وأحمق من رِجْلة، وأحْسن من دُمية، وأَنْزَه منْ روْضة، وأَوسع من الدَهناء، وآنسُ من جَدْول، وأضيق من قَرَار حافِر، وأوْحش من مَفازة، وأثقل من جَبل، وأبقى من الوَحْي في صُمِّ الصِّلاب، وأخفُّ من ريش الحَواصِل.
مما ضربوا به المثل
قولهم: قَوْس حاجِب، وقرْط مارِيَة، وحَجَّام سَابَاط، وشَقَائِق النعمان، وندَامة الكسَعِيِّ، وحَدِيث خرافة، وكَنْزُ النّطِف، وخُفَّا حُنَيْن، وعِطْر مَنْشِم. أمّا قوسُ حاجب، فقد فَسرَّنا خبرَه في كتاب الوفود، وأما قُرْط مارية، فإِنها مارية بنتُ ظالم بن وَهْب بن الحارث بن مُعاوية الكِنْدِي، وأختها هِنْد الهُنود، امرأة حُجْر آكل المُرار، وابنها الحارث الأعرج الذي ذَكره النابغة بقوله:
والحارثُ الأعْرج خَيْرُ الأنام
وإياها يَعْنى حسانُ بن ثابت بقوله:
أولادُ جَفْنةَ حَوْلَ قَبْر أبيهمُ ... قبر ابن ماريةَ الكريم المُفضِل

وأما حَجام ساباط، فإنه كان يَحْجُم الجيوشَ بِنَسِيئةٍ إلى انصرافهم، من شدّة كَساده، وكان فارسيّا، وساباط هو ساباط كِسْرى. ونُسبت شَقائق النُّعمان إليه، لأنّ النُعمان بنَ المُنذر أمرَ بأن تُحْمَى وتُضْر قَبته فيها استحساناً لها، فنُسبت إليه، والعربُ تُسَمِّيها الشَقِر. وأما خُرافة، فإن أنس بنَ مالك يَرْوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: إن من أصدق الأحاديث حديث خُرافة. وكان رجلاً من بني عُذْرة سَبتَهْ الجِنّ، وكان معهم، فإذا استرقوا السمعَ أخبروه، فيًخُبِرُ به أهلَ الأرض، فَيَجدُونه كما قال. وأما كَنْز النَّطِف، فهو رجلٌ من بني يَرْبوع، كان فقيراً يَحْمل الماء على ظَهْره فَيَنْطُف، أي يَقْطُر، وكان أغار علىِ مالٍ بَعث به باذانُ من اليمن إلى كِسْرى، فأَعْطِى منه يوماً حتى غَرُبت الشمس، فَضربت به العربُ المَثل " في كثْرة المال " . وأما خُفَا حُنَين، فإنه كان إِسكافاً من أهل الحيرة ساوَمَه أعرابي بخُفَّين، فاختلفا حتى أَغْضبه، فأَراد أن يَغِيظ الأعرابيّ، فلما ارتحل أخذ أحدَ الخُفين فألقاه في طريق الأعرابيّ، ثم أَلقى الآخر بموضع آخر على طَرِيقه، فلما مَرَّ الأعرابيّ بالخُف الأول، قال: ما أشبه هذا بِخُفِّ حُنين، لو كان معه صاحبُه لأخذتُه، فلمِا مَرَّ بِالآخر نَدِم على تَرْك الأوّل، فأناخ راحلتَه، وانصرف إلى الأوّل، وقد كَمن له حُنين، فوَثب على راحلته وذَهب بها، وأقبل الأعرابيّ ليس معه غير خفَّي حُنَين، فَذَهبت مَثَلاً. وأما عِطْر مَنْشِم، فإِنها كانت امرأة تَبيع الحُنوط في الجاهليّة، فقِيل للقوم إذا تَحاربوا: دَقّوا عِطْر مَنْشِم، يُراد بذلك طِيب المَوْتى. وأما نَدامة الكُسَعيّ، فإنه رجل رَمى فأصاب وظَنّ أنه أخطأ فكَسر قوسَه، فلما علم نَدِم على كَسر قوسه فضرِب به المثل.
أمثال أكثم بن صَيْفِيّ وبُزُرْجمِهْر الفارسي

العَقْلُ بالتَّجارب. الصَّاحبُ مُنَاسب. الصديقُ مَن صَدَّق عَيْنينه. الغريبُ مَن لم يَكن له حَبيب. رًبَّ بَعيدٍ أقربُ من قَريب. القريبُ مَن قَرُب نَفْعُه. لو تكاشَفْتم ما تَدافَنْتم. خيرُ أهلِك مَن كَفاك. خَيْرُ سِلاَحك ما وَقاك. خيرُ إخوانك مَن لم تَخْبره. رُبّ غَريب ناصحُ الجَيْب، وابن أب مُتَّهم الغَيب. أخوك مَن صَدَقك " النَّصيحةَ " . الأخُ مِرآةُ أخيه. إذا عزّ أخوك فهُن. مُكْرَه أخوك لا بَطل، تَباعدُوا في الدِّيار وتَقَاربوا في المحبَّة. أيُّ الرِّجال المُهذَّب. من لك بأخيك كله. إنّك إن فَرَّجت لاقٍ فَرَجا. أحسِن يُحْسَن إليك. ارحم ترْحم. كما تَدين تدان. مَن برّ يوماً بُرَّ به، والدهرُ لا يُغْترّ به، عَيْنٌ " عَرفتْ فَذَ " رَفَتْ. في كلِّ خِبْرَةٍ عِبرة. مِن مَأْمنه يُؤتىَ الحَذِر، لا يَعْدُو المرءُ رِزْقَه وإن حَرَص. إذا نَزَل القَدَرُ عَمِي البَصر. إذا نَزَل الحَينْ نَزل بين الأذنِ والعَينْ. الخَمْرُ مِفْتاح كل شرّ. الغِنَا رُقْية الزنا. القَناعة مال لا يَنْفد. خيرُ الغِنى غِنى النَّفس. مُنْساقٌ إلى ما أنت لاقٍ. خُذ من العافية ما أعطيت. ما الإنسان إلا القَلْب واللِّسان. إنّما لك ما أَمْضَيت. لا تَتكلَّف ما كُفيت " ولا تضيِّع ما وَليت " ، القَلَم أَحَدُ اللِّسانيَن. قِلّة العِيَال أَحَد اليَسَارَيْن. رُبما ضاقت الدُّنيا باثنين. لن تَعْدَم الحسناءُ ذاماً. لن يَعْدَم الغاوِي لائما. لا تَكُ في أَهْلك كالجنازة لا تَسْخر من شيء فَيَحُورَبك. أخِّر الشرَّ فإذا شِئتَ تَعَجَّلته. صَغير الشرَّ يُوشِك يوماً أن يَكْبُر. يُبْصِر القلبُ ما يَعْمَى عنه البَصر. الحُرّ حُرٌّ وإنْ مَسّه الضُّر. العَبْد عَبْد وإن ساعدَه جَدّ. مَن عرف قدرَه استبان أمره. مَن سَرّه بَنُوه ساءته نَفْسه. من تَعظَّم على الزمان أهانَه. مَن تعرَّض للسلطان أرداه ومن تَطامن له تخطّاه مِن خَطا يَخطو. كلّ مَبْذول مَمْلول. كل ممنوع مَرْغوب فيه. كل عزيز تحت القُدْرة ذليل. لكل مَقام مَقال. لكل زمان رجال. لكل أجل كتاب. لكل عَمَل ثَواب. لكل نبأ مُسْتقر. لكل سرّ مُسْتَودع. قيمةُ كلِّ إنسان ما يُحْسن. أطلُب لكلِّ غَلِق مِفْتاحا. أكثر في الباطل يكُن حقّا. عند القَنَط يأتي الفَرَج. عند الصَّباح يُحْمد السُّرَى. الصّدق مَنْجاة والكَذب مَهْواة. الاعترافُ يَهْدم الاقتراف. رُبّ قول أنفذُ من صَوْل. رُبّ ساعة ليس بها طاعة. رب عَجلةِ تُعْقِب رَيْثاً. ربّ كلام أقطعُ من حُسام. بعضُ الجَهْل أبلغ من الحِلم. رَبيعُ القَلْب ما اشتهى. الهوى شديدُ العَمَى. الهوَى الإله المَعْبود. الرأي نائمٌ والهوى يَقْظان. غَلَب عليك مَن دَعا إليك. لا راحةَ لحَسُود ولا وَفاء " لمَلُول " . لا سرور كطيب النَّفس 0 العُمْر أقصرُ من أن يَحْتَمِل الهَجْر. أحقُّ الناس بالعَفْو أَقدرُهم على العُقوبة. خيِرُ العِلم ما نَفع. خيرُ القَوْل ما اتُّبع. البطْنة تُذْهِب الفِطْنة. شَرُّ العَمَى عَمى القَلْب أوْثقُ العُرَى كلمة التَّقوى. النِّساء حَبَائل الشّيطان 0 الشَّباب شُعْبة من الجنون. الشَّقيّ شَقيٌّ في بطن أمه. السَّعِيدُ مَنٍ وعظ بغَيْره لكل امرئ في بَدَنه شُغل. مَن يَعْرِف البلاءَ يْصبر عليه المَقادير تريك مالا يَخْطرُ ببالك. أفضلُ الزاد ما تزوّد " ته " للمعاد. الفحل أحمى للشَّول. صاحب الحُظْوة غدا مَن بَلَغ المَدَى. عواقبُ الصّبر مَحْمودة. لا تُبْلغ الغاياتُ بالأماني. الصَّريمةُ على قَدْر العَزيمة. الضَّيفُ يثني أو يَذُم. مَن تَفكَّر اعتَبر. كم شاهد لك لا يَنْطِق. ليس منك من غَشَّك. ما نَظر لامرىء مثلُ نفسه. ما سدَّ فقرك إلا مِلْك يمينك. ما على عاقل ضيْعة. الغِنَى في الغُرْبة وَطن والمُقِلُّ في أهله غَريب. أوَّل المَعرفة الاختبار. يَدك منك وإن كانت شَلاَّءَ أنفُك منك وإن كان أجْدع. من عُرف بالكَذِب لم يُجُز صِدْقُه ومن عُرف بالصِّدْق جاز كَذِبه. الصّحة داعية السَّقم. الشباب داعيةُ الهرَم. كثرة الصِّياح من الفَشَل. إذا قَدُمت المُصيبة تُركت التَّعزية. إذا قَدُم الإخاء سمُجِ الثَناء. العادةُ أملكُ من الأدب. الرِّفْق يمن والخُرْق شُؤْم. المرأة رَيحانة وليست بقهْرمَانة. الدالُّ على الخيْر كفاعله. المُحَاجزة قبل الُمناجزة. قبل

الرّماية تُملأ الكَنائن. لكلّ ساقِطَة لاقِطَة. مَقْتل الرّجل بين فكّيه. تَرْك الحَرَكة غَفْلة. طُول الصَّمت حُبْسة. من خَيْر خَبَر أن تَسْمَع بمطر. كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا لِلخَونة. قَيِّدوا النِّعم بالشكر. مَن يَزْرع المعروفَ يَحْصُد الشكر. لا تَغْترّ بمودّة الأمير إذا غَشّك الوزير. أعْظمُ من المُصيبة سُوء الخَلَف منها. مَن أراد البقاء فَلْيوطِّن نفسه على المصائب. لقاء الأحبة مَسْلاة للهمّ. قَطيعة الجاهل كَصِلة العاقل. مَن رَضي عن نفسه كثر الساخط عليه. قَتلَت أرضٌ جاهلَها، وقَتل أرضاً عارفُها. أدْوأ الدواء الخُلق الدَّني واللسان البذِيّ. إذا جعلك السلطانُ أخا فاجعلْه ربّا. احْذَر الأمين ولا تأمن الخائن. عند الغاية يُعْرف السابق. عند الرّهانِ يْحْمَد المضمار 0 السُّؤال وإن قَلَّ أكثر من النَّوال وإن جَلّ. كافيء المعروفَ بمثله أو انشره. لا خَلَّة مع عَيْلة. ولا مُرُوة مع ضُرّ، ولا صبر مع شَكْوَى. ليس من العَدْل سُرْعة العَذْل. عبدُ غيرك حُرٌّ مِثْلك. لا يَعْدم الخيارَ مَن استشار. الوضيعُ من وَضَع نفسه. المَهين من نَزَل وَحْده. من أكثر أهْجر. كفى بالمرء كَذبا أن يُحَدِّث بكلّ ما سَمِع. " كلّ إناء يَنْضح بما فيه. العادة طَبْعٌ ثان " . تُملأ الكَنائن. لكلّ ساقِطَة لاقِطَة. مَقْتل الرّجل بين فكّيه. تَرْك الحَرَكة غَفْلة. طُول الصَّمت حُبْسة. من خَيْر خَبَر أن تَسْمَع بمطر. كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا لِلخَونة. قَيِّدوا النِّعم بالشكر. مَن يَزْرع المعروفَ يَحْصُد الشكر. لا تَغْترّ بمودّة الأمير إذا غَشّك الوزير. أعْظمُ من المُصيبة سُوء الخَلَف منها. مَن أراد البقاء فَلْيوطِّن نفسه على المصائب. لقاء الأحبة مَسْلاة للهمّ. قَطيعة الجاهل كَصِلة العاقل. مَن رَضي عن نفسه كثر الساخط عليه. قَتلَت أرضٌ جاهلَها، وقَتل أرضاً عارفُها. أدْوأ الدواء الخُلق الدَّني واللسان البذِيّ. إذا جعلك السلطانُ أخا فاجعلْه ربّا. احْذَر الأمين ولا تأمن الخائن. عند الغاية يُعْرف السابق. عند الرّهانِ يْحْمَد المضمار 0 السُّؤال وإن قَلَّ أكثر من النَّوال وإن جَلّ. كافيء المعروفَ بمثله أو انشره. لا خَلَّة مع عَيْلة. ولا مُرُوة مع ضُرّ، ولا صبر مع شَكْوَى. ليس من العَدْل سُرْعة العَذْل. عبدُ غيرك حُرٌّ مِثْلك. لا يَعْدم الخيارَ مَن استشار. الوضيعُ من وَضَع نفسه. المَهين من نَزَل وَحْده. من أكثر أهْجر. كفى بالمرء كَذبا أن يُحَدِّث بكلّ ما سَمِع. " كلّ إناء يَنْضح بما فيه. العادة طَبْعٌ ثان " .

من أمثال العرب مما روى أبو عبيد
جَرّدناها من الآداب التي أدخلها فيها أبو عُبيد، إذ كنا قد أفردنا للأدب والمواعظ كُتًباً غَير هذا، وضَمَمْنا إلى أمْثِلة العرب القديمة ما جَرَى على ألْسنة العامة من الأمثال المُسْتعملة، وفَسَّرنا من ذلك ما احتاج إلى التفسير، فمن ذلك قولُهم: في حفظ اللسان: لِعُمَر بن عبد العزيز: التقيُّ مُلْجَم لأبي بكر الصِّديق: " إنّ " البَلاءَ مُوكّل بالمنطق. لابن مَسْعود: ما شيَءٌ أوْلى بطُول سِجْن من لِسَان. لأنس بن مالك: لا يكون المؤمن مُؤمناً حتى يَحْتَرِزَ مِن لِسانه ولسان غيره. آحذَر لسانَك لا يَضرب عُنُقك. جُرْح اللّسان كجُرْح اليد. ربَّ كلامٍ أقطعُ من حُسام. القوْلُ يَنْفُذ ما لا تَنْفُذ الأبرَ. قال الشاعر:
وقد يُرْجَى لجُرْح السيف بُرْءٌ ... ولا بُرْءٌ لما جرح اللِّسانُ
اجتلبنا هذا البيِت لأنه قد صار مَثلاَ سائراَ للعامة، وجعلنا لأمثال الشعراء في آخر كتابنا هذا باباً.
وقال أكثم بن صَيْفي: مَقْتل الرَّجل بين فكَّيه. وقال: ربما أَعْلَم فأَذَرُ. يريد أنه يَدع ذِكرَ الشيء وهو به عالم لما يَحْذر من عاقبته.
اكثار الكلام وما يتقى منه - قالوا: مَن ضاق صَدْرُه اتَّسع لسانُه. ومن أكثَر أَهْجَر: أي خَرَج إلى الهُجْر، وهو القَبيح من القَول. وقالوا: المِكثار كحاطب ليل. وحاطِبُ اللَّيل ربما نَهَشته الحيَّة أو لسعتْه العَقْرب في احتطابه ليلا. وقالوا: أوَل العيّ الاختلاط، وأسوء القًول الإفراط.

في الصمت - قالوا: الصمتُ حُكم وقليلٌ فاعله. وقالوا: عَيّ صامِت خَيْرٌ من عَيٍّ ناطق. والصمتُ يُكْسِب أهلَه المحبّة. وقالوا: استَكْثَر من الهَيْبة الصَّموتُ. والندم على السُّكوت خَيْر من النَّدم على الكلام. وقالوا: السُّكوت سَلاَمة.
القصد في المدح - منه قولُهم: من حَفَّنا أورَفنَّا فَلْيَقْتصد. يقول: مَن مدحنا فلا يَغْلونّ في ذلك. وقولهم: لا تَهْرِف بما لا تَعْرف. والهَرْف: الإطْناب في المَدْح والثناء. ومنه قولُهم: شاكِهْ أبا يَسار من دون ذا يَنْفُق الحِمَار. أخبرنا أبو محمد الأعرابيِ عن رجل من بني عامر بن صَعْصعة قال: لقي أبو يسار رجلاً بالمِرْبَد يَبِيع حِماراَ ورجلاً يُساومه، فجعل أبو يسار يُطْرِي الحِمَار، فقال المُشتري: أعَرَفْت الحمار؟ قال: نعم؛ قال؛ كيف سَيْرُه؟ قال: يُصْطاد به النعامُ مَعقولاً؛ قال له البائع: شاكِه أبا يسار، مِن دُون ذا يَنْفق الحمار. والمُشاكهة: المُقاربة والقصد.
صدق الحديث - منه قولهم: من صدق الله نَجا. ومنه قولُهم: سُبَّني واصْدُق.
وقالوا: الكذب داء والصدق شِفَاء. وقولهم: لا يَكْذب الرائدُ أهلَه. معناه أن الذي يَرْتاد لأهله منزلاً لا يكْذبهم فيه. وقولهم: صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ. أصلُه أنّ رجلاً ابتاع من رجل بعيراً فسأله عن سنه، فقال له: إنه بازل؛ فقال له: أنِخْه، فلما أناخه، قال: هِدَعْ هِدَعْ - وهذه لفظة تُسكّن بها الصِّغار من الإبل - فلما سمِع المُشْتري هذه الكلمةَ. قال: صدَقني سِنَّ بَكْره. ومنه قوُلهم: القَوْلُ ما قالت حَذَام. وهي امرأة لُجَيمْ بن صعْب والد حَنِيفة وعِجْل، ابني لجيم، وفيها قال:
إذا قالت حَذام فَصَدِّقوها ... فإنّ القولَ ما قالتْ حَذَام
من أصاب مرة وأخطأ مرة - منه قولهم: شُخب في الإناة وشُخب في الأرض " شُبه بالحالب الجاهل الذي يَحْلًب شُخْباً في الإناء وشخباً في الأرض " وقولهم: يَشُجّ مرة ويأسو أُخرى. وقولهم: سَهْم لك وسهم عليك. وقولهم: اْطرِقي ومِيشي. " والطّرْق: ضرْبُ الصوف بالمِطْرقة " . والميَشْ أن يُخلطَ الشّعرَ بالصُّوف، والمِطْرقة: العُود الذي يُضْرَب به بين ما خُلِط.
سوء المسألة وسوء الإجابة - قالوا: أساء سَمْعاً فأساء جابة. وهكذا تُحكى هذه الكلمة جابة بغير ألف، وذلك أنه اسم موضوع. يقال أجابني فلان جابةً حسنة، فإذا أرادوا المصدر قالوا: إجابة، بالألف. وقالوا: حدِّث امرأة حَدِيثين فإن لم تَفْهم فأربعة. كذا في الأصل، والذي أحفظ فأرْبَعْ، أي أمسِك. وقولهم: إليك يُساق الحَدِيث.
من صمت ثم نطق بالفهاهة - قالوا: سكت ألفاً ونَطق خَلْفاً 0 الخلْف من كل شيء: الرَديء.
المعروف بالكذب يصدق مرة - قولهم: مَع الخواطىء سَهْمٌ صائب. ورُبَّ رَمْية من غير رام. وقولهم: قد يَصدُق الكَذُوب.
المعروف بالصدق يكذب مرة - قالوا: لكل جواد كَبْوة، ولكلّ صارم نَبْوة، ولكل عام هَفْوة. وقد يَعْثر الجواد. ومَن لك بأخيك كُلِّه. وأيّ الرجال المًهذّب.
كتمان السر - قالوا: صَدْرك أوْسع لسرّك. وقالوا: لا تُفْش سرِّك إلى أَمَة، ولا تَبُلْ على أكمةٍ. يقول: لا تُفْش سرِّك إلى امرأة فَتُبديَه، ولا تَبُلْ على مكان مُرتفع فَتبْدوَ عوْرتك. ويقولون إذا أسرُّوا إلى الرجل: اجعل هذا في وعاء غير سَرِب. وقولهم: سِرُّك من دَمك. وقيل لأعرابي: كيف كِتْمانك السرُ؟ فقال: ما صَدْرِي إلا القبر.
اٍنكشاف الأمر بعد اكتتامه - قولهم: حَصْحَص الحقُّ: وقولهم: أبْدَى الصَرِيخ عن الرّغْوَة. وفي الرّغوة ثلاث لغات: فتح الراء وضمّها وكسرها. وقولم: صَرَّح المَحْض عن الزُبْد. وقالوا: أفْرَخ القومُ بَيْضتَهم، أي أخرجوا فَرْختها، يريدون أظهروا سِرَّهم. وقولهم: بَرِح الخَفاء، وكُشِف الغِطَاء.
ابداء السر - قالوا: أفضيتُ إليك بشُقُوري، أي أخبرتُك بأمْري، وأطلعتُك على سرِّي. وقولهم: أخبرتُك بعُجَري وبُجَرى، أي أطلعتُك على مَعايبي. والعُجَر: العرُوق المنعقدة؛ وأما البجُر فَهي في البَطن خاصّة. وتقول العامة: لو كان في جَسَدي بَرَصَ ما كَتَمْتُكه.

الحديث يتذكر به غيره - قالوا: الحديث ذو شُجُون - وهذا المثل لضَبَّة ابن أُدّ وكان له ابنان: سَعْد وسَعِيد. فخرجا في طلب إبل لهما، فرجع سَعْد ولم يَرْجع سعيد، فكان ضَبّة كلما رأى رجلاً مُقْبلا، قال: أسَعْد أم سَعيد؟ فذهبت مثلاً. ثم إن ضبّة بينما هو يَسير يوماً ومعه الحارث بن كَعْب في الشَّهر الحَرام إذ أتى على مكان، فقال له الحارث: أتَرى هذا اْلمَوضع؟ فإني لقيتُ فتىً هيئتُه كذا وكذا فقتلتُه وأخذت منه هذا السيفَ، فإذا بصفة سعيد، فقال له ضَبَّة: أرني السيفَ أنْظُر إليه، فناولَه فَعَرفه، فقال له: إن الحديث ذو شجون، ثم ضرَبه به حتى قَتله؛ فلامَه الناسُ في ذلك وقالوا: أقتلتَ في الشهر الحرام! قال: سَبق السيفُ العَذَل، فذهبتَ مَثلا. ومنه: ذَكّرْتَني الطًعنَ وكنتُ ناسياً. وأصل هذا أنّ رجلا حَمَل ليقتل رجلاً، وكان بيد المَحْمول عليه رُمْح، فأَنْساه الدًهشُ والجَزَع ما في يده، فقال له الحامل: أَلْقِ الرُّمح؟ قال الآخر: فإنّ رُمْحي لَمَعي! ذَكِّرتني الطعن وكنتُ ناسياً، ثم كًرّ على صاحبه فَهَزمه أو قَتَله. ويقال: إنّ الحاملَ صَخْر أو مُعاوية السُّلَمي أخو الخَنساء، والمَحْمول عليه يَزيد بن الصَّعِقْ.
العذر يكون للرجل ولا يمكن أن يبديه - منه قولهم: رُبَّ سامع بخبري لم يَسْمَع عًذْري. ورُبَّ مَلُوم لا ذَنْب له. ولعَلَّ له عُذْراً وأنت تَلوم. وقولهُم: المرْء أَعْلم بشأنه.
الاعتذار في غير موضعه - منه قولهم: تَرْكً الذًنب أيسرُ من التماس العُذْر.
وتَرْك الذَّنب أيسرُ من طَلَب التَّوبة.
التعريض بالكناية - منه قولُهم: أَعَن صَبُوحٍ تُرَقِّق؟ ومنه قولهم: إيّاكِ أَعْني واسمعي يا جارة.
المن بالعروف - قالوا: شَوى أخوك فلما انضج رمَد. وقولهم: فَضْلُ القَوْل على الفِعْل دنَاءة، وفَضْل الفِعْل على القَوْل مَكْرُمة.
الحمد قبل الاختبار - لا تَحْمدنّ أمةً عام آشترائها، ولا حُرَّة عام بِنَائها. وقولهم: لا تَهْرِف قبلَ أن تَعْرِف. يقول: لا تَمْدح قبل أن تَخْتبر. وقولهم: أَدلًّ المعرفة الاختبار.
إنجاز الوعد - قالوا: أنْجز حُرُّ ما وَعد. وقولهم: العِدَة عطيّة. وقولهم: من أَخَّر حاجةً فقد ضَمِنها. وقالوا: وَعْدُ الحرِّ فِعْل ووَعْد اللًئيم تَسْويف. وقالت العامّة: الوَعد من العَهد.
التحفظ من المقالة القبيحة وان كانت باطلاَ - حَسْبُك من شَرِ سَماعَهُ وما اْعتذارُك من شيء إذا قِيل؟ الدعاء بالخير - منه قولهم للقادم من سفره: خَيْرُ ما رُدَّ في أهلٍ ومال. أي جعلك الله كذلك. وقولُهم: بَلَغ اللَهُ بك أكلأ العُمر، أي أقصاه. وقولهم: نِعم عَوْفُك، أي نَعِم بالك 0 وقولهم في النِّكاح: على يَدِ الخَير واليُمْن. وقولهم: بالرِّفاء والبَنِين يريد بالرِّفاء: الكثرة؟ يقال منه: رفأته، إذا دعوت لَه بالكثرة. وقولهمِ: هُنِّئْتَ ولا تُنْكَه، أي أصابك خَيْر ولا أصابك ضُرّ. وقولهم: هَوَت أمّه. وهبِلته أمُّه. يدعون عليه، وهم يريدون الحمدَ له. ونحوُه: قاتَله اللّه، وأَخْزاه اللّه، إذا أحسن. ومنه قولُ امرِىء القَيْس:
ما له عُدَّ من نَفَرِه
تعيير الانسان صاحبه بعيبه - قالوا: رَمَتْنِي بدائها وانسلَّت. وقولهم: عَيَّر بُجَيْر بُجَرَه نَسيَ بُجَيْر خَبَرَه. وقولهم: مُحْترَس من مِثْله وهو حارِس وقولهم: تُبْصِر القَذى في عَيْن أخيك ولا تُبْصرِ الْجذع في عَيْنك.
الدعاء على الإنسان - منه قولهم: فاهَا لِفِيك، يريد الأرضَ لِفِيك. وقولهم: بِفِيك الحَجَر، وبفيك الأثْلَب. وقولهم: لِلْيَدين وللفم. ولما أتي عمر بن الخطاب رضي اللهّ عنه بسكران في رمضان، قال له: لليدين وللفم، أولدانُنا صِيَامٌ وأنت مُفْطِر؟ وضربه مائَةَ سَوْط. ومنه قولهم: بجَنْبه فلْتكن الوَجْبَة. يريد الصرعة. ومنه قولهم: مِن كِلا، جانِبَيك لا لبَّيك، أي لا كانت لك تَلْبية ولا سَلامة من كلا جانِبَيك. والتَّلبية: الإقامة بالمكان وقولهم: به لا بِظبْي. وقال الفرزدق:
أقولُ له لما أتاني نَعِيُّه ... به لا بِظبْي بالصَّريمة أعفرَا
ومنه قولهم: جَدَع الله مَسامِعَهُ. وقولهم: عَقْراً حَلْقاً. يريد عَقَره الله وحلَقه. ومنه قولهم: لا لَعاً له، أي لا أقامه اللّه. قال الأخطل:
ولا لعاً لبَني ذَكْوانَ إذا عَثروا

ولحبيب:
صَفْراء صُفْرةَ صِحَّة قد رَكبَّت ... جُثمانه في ثَوْب سُقْمٍ أصْفَرِ
قَتلتْه سرٍّاً ثم قالتْ جَهْرةً ... قولَ الفَرزدق لا بِظَبْيٍ أعفَر
رمى الرجل غيره بالمعضلات - منه قولهم: رماه بأقحافِ رأسِه. ورَماه بثالثة الأثافي، يريد قطعةً من الجَبل يُجعل إلى جَنْبها أثفيّتان، وتكون هي الثالثة. ومنه: يا للعَضِيهة والأَفِيكة، إذا رماه بالبهتان. وقولهم: كأنما أفرغ عليه ذَنُوباً، إذا كلَّمه كلمة يسْكِته بها.
المكر والخلابة - منه قولهم: فَتَل في ذِرْوَته. أي خادَعه حتى أَزاله عن رأيه.
قال أبو عُبيد: ويُروي عن الزُبير أنه حين سأل عائشةَ الخُروجِ إلى البَصرِة فأَبَتْ عليه؟ فما زالَ يفْتِل في الذِّرْوة والغارِب حتى أجابت. وقولهم: ضرَب أخماساَ لأسْداس، يريدون المُماكرة. وقال آخر:
إذا أراد امرؤ مَكراً جَنَى عِلَلاً ... وظَلَّ يَضرب أخماساً لأسْداس
ومنه قولهم: الذئب يأدو للغَزَال، أي يَخْتِله ليُوقعه.
اللهو والباطل - منه قولهم: جاء فلان بالتُرّه، وجرى فلان السُّمَّة، وهذا من أسماء الباطل. وقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا من ددٍ ولا دَدٌ مني. وفيه ثلاث لغات: دَدٌ، وددا، مثل قفا، وددَن، مثل حَزَن.
خلف الوعد - منه قولهم: ما وَعْدُه إلا بَرْق خُلَّب، وهو الذي لا مَطَر معه.
ومنه: ما وَعْده إلا وَعْد عُرْقوب، وهو رجل من العَماليق أتاه أخوه يسأله، فقال: إذا أطلعت هذه النخلةَ فلك طلعها، فأتاه لِلِعدَة، فقال: دَعْها حتى تصيرَ بَلَحا، فلما أبلحت، قال: دَعْها حتى تَصِير رًطَبا، فلما أرْبطت، قال: دَعْها حتى تَصِير تمراً، فلما أتمرت، عَمَد إليها عُرقوبُ فجزَّها، ولم يُعْطِ أخاه شيئاً، فصارت مثلاً سائراً في الخُلف. قال الأعشى:
وَعَدْتَ وكان الخُلْفُ منك سجيّةً ... مواعيدَ عُرْقوِب أخاه بيثْرب
اليمن الغموس - منه قولهم: جَذَّها جَذَّ العَيْر الصِّلْيانةَ، وذلك أن الَعَيْرَ ربما اقتلع الصِّلْيانة إذا ارتعاها. ومنه الحديثُ المرفوع: اليمين الغَمًوس تَدَع الدَيار بلاقع. قال أبو عُبيد: اليمن الغَمُوس، هي المَصْبورة التي يُوقف عليها الرجل فَيَحْلف بها، وسمِّيت غَمُوساً لغَمْسها حالِفها في المآثم. ومنه قولهم: اليمين حِنْث أو مَنْدمة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان حالفاً فَلْيَحْلف بالله.

أمثال الرجال واختلاف نعوتهم
في الرجل المبرز في الفضل - قولهم: ما يُشَقّ غُبَارُه. وأصله السابقُ من الخَيْل. وقولهم: جَرْيَ المُذَكّى حَسَرَتْ عنه الحُمُر. أي كما يَسْبق الفرسُ القارِح الحُضرَ وقولهم: جَرْيُ المُذَكَيَات غِلاَء أو غِلاَب. وقولهم: لَيست له هِمَّة دون الغَاية القُصْوى.
الرجل النبه الذكر - قولهم: ما يُحْجَر فلانٌ في العِكْم. العِكْم. العِكْم: الجُوالق، يريد أنه لا يخفي مكانه. وقولهم: ما يومُ حَلِيمة بِسرّ. وكانت فيه وقعة مشهورة قُتل فيها المنذر بن ماء السماء، فضربت مثلا لِكلّ أمر مشهور. وقولهم: أشْهر من الفَرَس الأبلق. وقولهم: وهل يَخْفي على النَاس النَّهار. ومثلُه: وهل يَخْفي على الناصر الصُّبح. وقولهم: وهل يجهل فلاناً إلا من يجهل القمر.
الرجل العزيز يعذبه الذليل - منه قولهم: إن البغاث بأرضنا تستنسر. البغاث صغار الطير. تستنسر: تصير نسوراً. وقولهم: لا حرَّ بوادي عوف. يريدون عوف بن محلِّم الشيباني، وكان منيعاً. وقولهم: تمرَّد مارد وعزَّ الأبلق. ما رد: حصن بدومة الجندل. والأبلق: حصن " السمؤال " . ومن عزَّ بزَّ، ومن قلّ ذلّ، ومن أمر فلّ. أمر: كثر.
الرجل الصعب - منه قولهم: فلان ألوى بعيد المستمرّ. وقولهم: ما بللت منه بأفوق ناصل. وأصله السهم المكسور والفوق الساقط النّصل. يقول: فهذا ليس كذلك " ولكنه كالسّهم القويّ " . وقولهم: ما يقعقع لي بالشِّنان. وقولهم: ما يصطلى بناره. وقولهم: ما تقرن به صعبة.
النجد يلقى قرنه - منه قولهم: إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً والحديد بالحديد يفلح. والفلح: الشق. " ومنه: فلاحة الأرض، وهو شقها بالحرث " . ولا يفلّ الحديد إلا الحديد. والنَّبع يقرع بعضه بعضاً ورمي فلان بحجره، أي قرنٌ بمثله.

الأريب الداهي - هو هتر أهتار. وصلُّ أصلال. الصِّلُّ: من الحيَّات، شبه الرجل بها. ومثله: حيَّة ذكر، وحيَّة وادٍ. وقولهم: هو عضلة من العضل. وهو باقعة من البواقع. وحوَّل قلَّب. ومؤدم مبشر؛ يقول: فيه لين الأدمة وخشونة البشرة. وفلان يعلم من حيث تؤكل الكتف.
النبيه بلا منظر ولا سابقة - قال أبو عبيد: هو الذي تسمِّيه العرب الخارجيَّ، يريدون خرج من غير أوليَّة كانت له. قال الشاعر:
أبا مروان لست بخارجيٍّ ... وليس قديم مجدك بانتحال
وقولهم: تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه، وهو تصغير رجل منسوب إلى معدّ. وقالوا:
نفس عصامٍ سوَّدت عصاما
الرجل العالم النحرير - قالوا: إنه لنقّاب؛ وهو الفطن الذكيّ. وقالوا: إنه لعضُّ، وهو العالم النحرير. وقولهم: أنا جذيلها المحكّك، وعذيقها المرجَّب. قال الأصمعي: الجذيل: تصغير الجذل، وهو عود ينصب للإبل الجرباء، لتحتكّ به من الجرب، فأراد أنه يشفى برأيه. والعذيق: تصغير عذق، والعذق " بالفتح " : النخلة نفسها، فإذا مالت النخلة الكريمة بنوا من جانبها المائل بناء مرتفعاً يدعِّمها لكيلا تسقط، فذلك التّرجيب، وصغّرهما للمدح. ومثله قولهم: إنه لجذل حكاك: ومنه قولهم: عَنِيَّته تَشْفِي الجرب. والعَنية: شيء تُعالج به الإبل إذا جَربت. وقولهم:
لذي الْحِلم قبل اليوم ما تُقْرَع العصا
وأوَّل من قُرعت له العصا سَعد بن مالك الكِنانيّ ثم قُرعت لعامر بن الظّرب العدْواني، وكان حَكَم العرب في الجاهلية فكَبِر حتى أنكر عَقْله، فقال لبنيه: إذا أنا زِغْت فقوِّموني، وكان إذا زاغ قُرعت له العصا، فيَنْزع عن ذلك. ومنه قولُهم: إنه الأْلمعيّ، وهو الذي يُصيب بالظنّ. وقولُهم: ما حَكَكْت قَرْحة إلا أدميتها. وقولهُم الأمور تَشابه مُقبلةً وتَظهر مُدْبرة ولا يَعرفها مُقبلة إلا العالم النِّحرير، فإذا أدبرتْ عرفها الجاهلُ والعاِلمُ.
الرجل المجرب - منه قولُهم: إنه لشراب بِأنْقُع، أي مُعاود للخَير والشرّ. وقولُهم: إنه لَخرَّاج وَلاج. وقولُهم: حَلَب الدَّهر أشْطُره، وشرِبَ أفاويقه، أي اختبر من الدَهر خيره وشرَه. فالشّطر: هو شَطر الحَلبة، والفِيقة: ما بين الحَلْبتين. وقولُهم: رجل مُنَجَّدٌ، وهو المًجَرِّب، وأصله من النَواجذ؟ يقال: قد عضَ على ناجذيه، إذا استحكم: وقولهم: أول الغَزْو أخرق. وقولهم: لا تَغْزُ إلا بغلام قد غزا. وقولُهم: زاحِم بعَوْد أودَع. " معناه: لا تَستعن إلا بمُسنّ مُحْكم، أودَع " . وقولهم: العَوان لا تُعلِّم الخِمْرة. وقالت العامة: الشارف لا يُصفّر له.
الذب عن الحرم - قالوا: الفَحْل يحمي شَوْله. والخيل تَجْري على مَساويها.
يقول: إن الخيل وإن كانت لها عُيوب فإنّ كرمها يحملها على الجري. وقولهم: النَساء لَحم على وَضم إلا ما ذًبَّ عنه. وقولهمِ: النِّساء حبائلُ الشَّيطان. وقولهم: كل ذات صِدَار خالَة؛ يريد أنه يَحميها كما يحمي خالَته.
الصلة وِالقطيعة - منه قولهم: لا خَير لك فيمن لا يَرى لك ما يَرى لِنفسه: وقولُهم: إنما يُضن بالضَنين. وقولُهم خلِّ سبيلَ من وَهَى سِقاؤُه. وقولُهم: ألْقِ حبلَه على غارِبه. وقولُهم: لو كَرِهْتني يدي قَطَعْتُها.
الرجل يأخذ حقه قسرا - منه قولُهم: يَرْكب الصَّعبَ من لا ذَلُول له. وقولُهم: مُجَاهرةً إذا لم أَجِد مَختلا. يقول: آخذ حقِّي قسراً وعلانيَةَ إذا لم أصِل إليه بالسَّتر والعافية. وقولًهم: حَلبتها بالساعد الأشدِّ؛ يقول: أخذتُها بالقوّة والشدةً إِذ لم أقْدِر عليها بالرِّفق. وقولُهم: التجلّد خيرٌ من التبلّد. والمنيَّة خيرٌ من الدنيّة. ومن عَزّ بَزّ.
الإطراق حتى تصاب الفرصة - منه قولُهم: مخرِنْبق لينباع. مخْرَنبْق: مُطْرِق. لِينباع: لينبعث. يقول: سكت حتى يُصيب فرصته فيَثب عليها. وقولُهم: تَحْسَبها حمقاء وهي باخِس. وقولُهم: خبره في صَدْره. وقولًهم: أحمق بَلغ. يقول: مع حُمْقه يُدْرك حاجته.
الرجل الجلد المصحِح - أطِرِّي فإِنّك ناعِلة. أصله أنّ رجلاً قال لراعية له كانت تَرْعى في السّهولة وتتْرك الحزُونة، فقال لها: أَطِرِّي، أي خُذي طُرَر الوادي، وهي نواحيه، فإنك ناعلة، يريد فإن عليك نَعْلين. وقولُهم: به داءُ ظبي، معناه أنه ليس به " داء كما ليس " بالظبي داء، وقالوا: الشًّجاع مُوَقَّى.

الذل بعد العز - منه قُوِلهم: كان جملاً فاستَنْوق، أي صار ناقةً. وقولُهم: كان حماراً فاستَأتن، أي صار أتاناَ. وقولُهم: الحَوْر بعد الكَوْر وقولُهم: ذُلٌ لو أجد ناصراً. أصله أن الحارث بن " أبي، شَمِر الغَسَّاني سأل أنس ابن أبي الحُجَيْر عن بعض الأمر فأخبره فلطَمه الحارث، فقال أنس: ذُلّ لو أجد ناصراً، فلطمه ثانية، فقال: لو نِهيتَ الأولى لم تَلْطم الثانية، فذهبتا مثلين " وقولًهم: الحُمَّى أَضْرَعَتْني إليك " .
الانتقال من ذل إلى عز - منه قولُهمٍ: كنتَ كُراعاً فصِرْتَ ذِراعاً. وقولهم: كنتَ عَنْزا فاستَتْيَست. وقولهم: كنت بُغاثا فاستَنْسَرت، أي صِرْتَ نَسرا.
تأديب الكبير - قالوا: ما أشدَّ فِطام الكَبِير! وقولهم: عَود يُقَلَّح، أي جَمل مُسِن تُنَقى أسنانُه. وقالوا: من العَناء رِياضة الهَرِم. قال الشاعر:
وتَرُوض عِرسَكَ بعد ما هَرِمتْ ... ومن العَناءِ رياضةُ الهَرِم
وقولهم: أعَييتني بأُشُر فكيف بَدُرْدُر. يقول أَعيَيْتنِي وأنت شابّة فكيف إذا بدت دَرادِرًك، وهي مغارز الأسنان.
الذليل المستضعف - منه قِولهم: فلان لا يَعْوى ولا يَنْبح من ضعفه، يقول: لا يتكلّم بخير ولا شر. وقولهم: أهْون مَظْلوم سِقاءٌ مُرَوَّب، وهو السقاء الذي يُلَفُّ حتى يبلغ أوان المَخْض. وقالوا: أهون مَظْلوم عجوز مَعقومة. وقولهم:
لقد ذلّ من بالت عليه الثَّعالب.
الذليل يستعين بأذل منه - قالوا: عَبْدٌ صَريخه أمة. وقولهم: مُثْقَل استعان بذَقَنه؛ وأصله البعيرُ يُحْمل عليه الحِمْل الثقيل فلا يَقْدر على النهوض به فيعتمد على الأرض بذَقنه. وقولهم: العَبْد من لا عَبْد له.
الأحمق المائق - قالوا: عدو الرجل حُمْقه، وصديقه عَقْله. وقولهم: خَرقاء عَيَّابة، وهو الأحمق الذي يَعيب الناس. قالوا: في الرَّجل إذا اشتدّ حمقه جدَّا: ثَأطة مُدّت بماء. الثأطة: الحمأة، فإذا أصابها الماء ازدادت فَساداً ورُطوبة.
الذي تعرض له الكرامة فيختار الهوان - منه قولهم: تَجَنّبَ رَوْضَة وأحال يَعْدُو. يقول: ترك الخير واختار الشقاء. وقولهم: لا يَخْلو مَسْك السَّوء عَن عَرْف السَّوء. يقول: لا يكون جلد رديء إلا والرِّيح المُنتنة موجودة فيه. ومنه قول العامة: قيل للشقيّ: هَلُمّ إلى السعادة؛ قال: حَسْبي ما أنا فيه. ومنه قول العامة:
أنّ الشقيّ بكل حَبْل يَخْتنِق
وقولهم: لا يَعدَم الشقيُّ مُهَيرْا، أي لا يَعْدَم الشقي رياضة مُهر.
الرجل تريد اصلاحه وقد أعياك أبوه قبل - منه قولهم: لا تَقْتن من كلْب سَوء جِرْوا. وقال الشاعر:
تَرجو الوَليدَ وقد أَعياك والدُه ... وما رجاؤك بعد الوالدِ الولَدَا
الواهن العزم الضعيف الرأي - منه قولهم: ما له أكْل ولا صَيَّور، أي ليسِ له قُوّة ولا رَأي. قال الأصمعيّ: طلب أعرابي ثوباً من تاجر، فقال: أعطنىِ ثوباَ له أكْل، يعني قوة وحَصافة. ومنه قولهم: هو إمَعة، وهو أمَّرة.
قال أبو عُبيد: هو الرجل الذي لا رأي له ولا عَزم. فهو يتابع كلَّ أحد على رأيه، ولا يثبت على شيء، وكذلك الإمرَّة، الذي يتابع كل أحد على أمره. ومنه قولهم: هو بِنْتُ الجَبل، ومعناه الصَدى يُجيبك من، الجَبل، أي هو مع كل متكلِّم يُجيبِه بمثل كلامه.
الذي يكون ضاراً لا نفع عنده - من قولهم: المِعْزَى تبْهِي ولا تُبْنِي. " معناه أن المِعْزى لا تكون منها الأبنية " وهي بيوت الأعراب، وإنما تكون من وَبر الإبل وصُوف الضأن، ولا تكون من الشّعر، وربما صَعدت اْلمِعْزى إلى الخِباء فَحَرقته، فذلك قولهم تُبْهِي، يقال: أبهيْتُ البيت، إذا خرقته، فإذا انخرق، قيل: بيت باهٍ.
الرجل يكون ذا منظر ولا خير فيه - منه قولهم: ترى الفِتْيان كالنَّخل، وما يُدْرِيك ما الدَّخْل. وقال الحجاج لعبد الرحمن بن الأشعث: إنك لمَنظرانيّ، قال: نعم، ومخْبرانيّ.
أمثال الجماعات وحالاتهمِ من اجتماع الناس وافتراقهم - قال الأصمعي: ويقال: لن يَزال الناسُ بخير ما تباينوا، فإذا تساوَوْا هَلَكوا. قال أبو عبيد: معناه أن الغالب على الناس الشرُّ، والخير في القليل من الناس، فإذا كان التّساوي فإنما هو في الشر. ومن أشدّ الهجاء قولُ القائل: سواسية كأسنان الحِمار. ومنه قولُهم: الناس سواء كأَسنان المُشْط. وقولهم:

الناس شباه وشتَّى في الشِّيم " وكلهم يَجْمعه بيتُ الأدَم " .
وقوِلهم: الناسُ أخْياف، أي مُفترقون في أخلاقهم. والأخْيف من الخيل: الذي إحدى عَينيه زرقاء، والأخرى كَحْلاء. ومنه قولُهم: بيت الإسكاف، لأن فيه من كل جلد رُقعة.
المتساويان في الخير والشر - هما كفَرَسي رِهَان. وكرُكبتي بعَير. وهما زَنْدان في وِعاء. هذا في الخير، وأما في الشر، فيقال: هما كَحِماري العِباديّ " حين قيل له: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا " .
الفاضلان وأحدهما أفضل - منه قولهم: مَرْعى ولا كالسَّعْدان. وقولهم: ماء ولا كَصَدّاء. وصداء: ركيةٌ ذات ماء عَذْب. وقولهم: فَتىً ولا كمالك. وقولُهم: في كل الشًجر نار. واستَمجدا المَرْخ والعَفَار، وهما أكثر الشّجر ناراً.
الرجل يرى لنفسه فضلاً على غيره - منه قولهم: كُلّ مُجْرٍ بالخَلاء يُسَرّ. وأصله الذي يُجْرِي فرَسَه في المكان الخالي فهو يُسرّ بما يَرى منه.
المكافأة - منه قولُهم: هذه بتلك، وقولهم: أضئ لي أَقْدح لك، أي كُن لي أَكن لك. وقولهم: اسْقِ رَقَاش إنها سَقَاية. يقول: أحسِنوا إليها إنها مُحْسنة.

الأمثال في القربى
التعاطف من ذوي الأرحام - قال ابن الكلبي: منه قولهم: يا بَعْضي دَعْ بَعْضاً. وأصل هذا أن زُرَارة بنِ عُدَسِ زَوَّج ابنتَه من سُوَيد ابن ربيعة، فكان له منها تِسْعَةُ بنين، وأنّ سُويداً قَتل أخاَ صغيراَ لعمرو بن هِنْد الملك وهَرب ولم يَقْدِر عليه ابن هند، فأرسل إلى زُرارة: إنِ ائتني بوَلده من ابنتك، فجاء بهم، فأمر عمرو بقَتْلهم، فتعلًقوا بجدّهم زُرارة. فقال: يا بَعْضي دَعْ بَعْضاً، فذهبت مثلاً.
ومن أمثالهمِ في التحنن على الأقارب - قولهم: لكنْ على بَلْدَحِ قَوْمٌ عَجْفَي. وقولهم: لكِن بالأثلاث لحمٌ لا يُظَلًل. وأصل هذا أنّ بَيْهساً الذي يُلقَب بنَعامة، كان بين أهل بيْته وبين قوِمِ حَرب. فقتلوا سَبْعة إخْوة لِبَيهس وأسروا بَيْهساً، فلم يقتلوه لِصِغرِه وارتحلوا به، فنزلوا منزلاً في سَفرهم ونَحَروا جَزُوراً " في يوم شديد الحرّ " ، فقال بعضهم: ظَلِّلوا لحْم جَزُوركم " لئلا يَفسد " ؛ فقال بَيْهس: لكن بالأثَلاث لحمٌ لا يُظَلَّل - يعني لحمَ إخوته القَتْلى - ثم ذكروا كثرة ما غَنِموا؛ فقال بَيْهس: لكَنِ على بَلدَح قَوْمٌ عَجْفي. ثم إنه أفلت أو خَلّوِا سبيلَه، فرجع إلى أمه، فقالت؛ أنجوت من بينهم؟ وكانت لا تًحبّه، فقال لها: لو خُيرت لاخترتِ. فلما لم يكن لها ولدٌ غيره رَقّت له وتَعطّفت عليه. فقال بَيْهس: الثَكلٍ أَرْأَمها، فَذَهبت كلماتُه هذه الأربع كلها أمثالاً. ومنه قولهم: لا يَعْدَم الحُوَار من أمه حَنّة. وقولهم: لا يَضُر الحُوَار ما وَطِئَتْه أمه. وقولهم: بأبي أَوْجُه اليتامى.
حماية القريب وإن كان مبغضاً - من ذلك قولهم: آكل لَحْمي ولا أَدَعُه يُؤكل.
ومنه لا تَعدَم من ابن عمك نصراً. وقولهم الحَفائظُ تُحلِّل الأحقاد. وقولهم في ابن العم: عدوُك وعدوّ عدوّك. وقولهم: كَفُّك منك وإن كانت شلاّء. وقولهم: انصرُ أخاك ظالماً أو مَظلوماً.
إعجاب الرجل بأهله - منه قولهم: كل فتاة بأبيها مُعْجَبة. وقولهم: القَرَنْبَى في عين أُمها حَسَنة. وقولهم: زُيِّن يا عَين والدٍ وَلدُه. وقولهم: حَسَنٌ في كلِّ عين ما تَوَدّ. وقولهم: مَن يَمْدح العَرُوسَ إلاّ أهلُها؟ تشبيه الرجل بأبيه - منه قولهم: من أشبه أباه فما ظَلم. وقولهم: العُصيّة من العَصا. وقولهم: ما أشبه حَجَل الجبْال بألوان صُخُورها! وقولهم: ما أشبه الحَوَل بالقَبَل! وما أَشْبه الليلَة بالبارحة! وقولهم: شنِشنة أَعْرفها من أَخْزم يقال هذا في الولد إذا كانت فيه طبيعة من أبيه. قال زُهير:
وهَلْ يُنْبِت الخَطّيَّ إلا وَشيجُه ... وتُغْرس إلاّ في مَنابتها النَّخلُ
ومنه قولُ العامة: لا تَلدِ الذِّئبة إلاّ ذِئْباً. وقولهم: حَذْوَ النَعل بالنَّعل. وحَذْوَ القذة بالقُذَّة. والقذة: الريشة من ريش السهم تُحْذَى على صاحبتها.

تحاسد الأقارب - من ذلك قولهم: الأقارب هم العقارب. وقال عُمر: تَزاورُوا ولا تَجَاورُوا. وقال أكثم: تَباعدوا في الدِّيار وتَقاربوا في المَحَبة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هُريرة: زُرْ غِبَّاً تَزْدَد حباً. ومنه قولهم: فَرِّق بين مَعد تَحاب. يريد أن ذوي القَربى إذا تدانَوْا تحاسدُوا وتباغضوا.
قولهم في الأولاد - قالوا: مَن سَرَّه بنوه ساءتْه نفسُه، أي من يَرى فيهم ما يسرُه يرى في نفسه ما يَسُوءه. وقولهم:
إنّ بَنيّ صِبْيَةٌ صَيْفِيّون ... أَفْلح مَن كان له رِبْعيُون
الولد الصيَّفي: الذي يُولد للرجال وقد أَسنّ. والربعي: الذي يُولد له في عُنْفوان شبابه، أُخذ من ولد البَقرة الصَّيفي والرِّبعي. ويقال للمرأة إذا تَبنَّت غير ولدها: ابنك مَن دَمَّى عَقِبيك.
الرجل يؤتى من حيث أمن - قالوا: من مَأمنه يُؤْتىَ الحَذِر. وقال عَدِيّ بن زيد العِباديّ:
لو بِغير الماء حَلقى شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغضَانِ بالماء آعْتِصارِي
قال الأصمعيَّ: هذا من أشرف أمثال للعَرب. يقول: إنّ كلَّ من شرَق " بشيء يستغيث بالماء، ومَن شرق " بالماء لا مُستغاث له. وقال الآخر:
كنتُ من كُرْبتي أَفِرُّ إليهم ... فهمُ كُرْبتي فأَينَ الفِرَارُ
ومثله قول العبّاس بنٍ الأحنف:
قَلْبي إلى ما ضرَّني داعِي ... يُكثر أَحْزَاني وأَوْجاعي
كيف احتراسي من عَدوِّي إذا ... كان عدوّي بَين أَضْلاعِي
" وقال آخر:
مَن غَصَّ داوَى بُشرب الماء غُصته ... فكيف يَصنع مَن قد غَص بالماءِ "

الأمثال في مكارم الأخلاق
الحلم
قال أبو عُبيد: من أمثالهم في الحِلْم: إذا نَزل " بك " الشرُّ فاقُعد، أي فاحلم ولا تسارع إليه. ومنه قولُ الآخر: الحَليم مَطيَّة الجُهول. وقولهم: لا يَنْتَصف حَليمٌ من جاهل. وقولهم: أخر الشرّ فإن شِئْتَ تعجّلته. وقولهم في الحَليم: إنه لواقع الطَير، ولساكن الرِّيح. وقولهم: في الحُلَماء: كأنما على رؤوسهم الطَّير. ومنه قولهم: رُبّما أًسْمع فأَذَر. وقولهم: حِلْمي أصمُّ وأُذني غَيْر صَمّاء.
العفو عند المقدرة
منه قولهم: مَلَكْت فأَسْجِح. وقد قالته عائشة رضوان اللهّ عليها لعليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يوم الجَمَل حين ظَهر على الناس فَدَنا من هَوْدجها وكَلّمها فأجابْته: مَلَكت فأسْجح، " أي ظَفِرت فأحْسن. فجهزها بأحسن الجهاز وبعث معها أربعين امرأة - وقال بعضهم: سبعين - حتى قَدِمت المدينة " . ومنه قولهم: " إنّ " المَقْدِرة تُذْهب الحَفِيظة. وقولهم:
إذا ارجحنَّ شاصِياً فارْفَعْ يَدا
يقول: إذا رأيْته قد خَضَع واستكان فاكفُف عنه. والشاصي: " هو " الرَّافع رجلَه.
المساعدة وترك الخلاف
من ذلك قولهم: إذا عَزَّ أخوك فَهُن. وقوِلهم: لولا الوِئام هَلك اللِّئام. الوئام: المباهاة: يقول لولا المُباهاة لم يفعل الناسُ خيراَ.
مداراة الناس
قالوا: إذا لم تَغْلِب فاخْلِب. يقول: إذا لم تغلب فاخدَع ودار والطف. وقولهم: إلا حِظية فلا أليّة. معناه: إن لم يكن حُظْوة فلا تَقْصير. " إلية: من " ألا يألو. ويَأتلي، أي يقصر. " ومنه قول الله عزّ وجلّ: " ولا يَأْتل أولو الفَضْل منكم والسَّعَة " ،. وقولهم: سوء الاستمساك خَيرٌ من حُسن الصرَّعة. ومنه قولُ أبي الدَّرداء: إنّا لَنَبشّ في وُجوه قوم وإنّ قُلوبَنا لَتَلْعنُهم. ومنه قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: شِرار الناس من دَارَاه الناسُ لشرِّه. ومنه قولُ شَبيب بن شَيْبة في خالد بن صَفْوان: ليس له صديقٌ في السرِّ ولا عدوٌ في العَلاَنية. يريد أنّ الناس يُدارونه لشرّه وقلوبُ الناس تُبْغِضه.
مفاكهة الرجل أهله
منه قولهم: كل آمرئ في بَيْته صَبيّ. يريد حُسن الخُلق والمُفاكهة؛ ومنه قولُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنا إذا خَلَوْنا قَلْلنا. ومنه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: خِيَارُكم خَيركم لأهله. ومنه قولُ مُعاوية: إنهنّ يَغْلبن الكِرام ويَغْلِبهنّ اللِّئام.

اكتساب الحمد واجتناب الذم - قالوا: الحمد مَغْنَم والذمُّ مَغْرَم. وقولهم: " إنّ " قليلَ الذّم غيرُ قَليل. وقولهم: إنّ خيراً من الخير فاعلُه وإنّ شرَّاً من الشرّ فاعلًه. وقولهم:
الخَيْر يَبْقى وإنْ طال الزمانُ به ... والشرُّ أَخبثُ ما أَوْعيتَ مِن زادِ
الصبر على المصائب - من ذلك قولهم:
هَوِّن عَليك ولا تُولَعِ بإشْفاقِ
وقولهم: من أَراد طولَ البَقاء فَلْيوَطَن نفسه على المصائب. وقولهم: المُصيبة للصابِر واحدةٌ وللجازع اْثنتان. وقال أَكْتم بن صَيْفيّ: حِيلُة من لا حِيلة له الصبر. وذكروا عن بعض الحُكماء أنه أُصيب بابن له فَبكى حَوْلا ثم سَلا، فقيل له: مالك لا تَبْكي؟ قال كان جُرحا فَبَرِئ. قال أبو خِرَاش الهُذَلي:
بَلَى إنها تَعْفو الكلُوم وإنما ... نُوكّل بالأدنىَ وإن جَلَّ مَا يَمْضي
ومنه قولهم: لا تلهف على ما فاتك.

الحض على الكرم
منه قولهم: اصطناع المَعروف يَقي مَصارع السُّوء. وقولهم: الجُود محبَّة والبُخْل مَبْغضة. وقول الحُطَيئة:
مَن يَفْعل الخيرَ لا يَعْدَم جَوازِيَه ... لا يَذْهبُ العُرْفُ بين الله والناس
الكريم لا يجد
منه قولهم: بَيْتي يَبْخَل لا أنا. وقولُهم: بالسّاعد تَبْطِشُ الكَفُّ. وِقولُهم:
ما كلف الله نَفْساً فوقَ طَاقتها ... ولا تَجُود يدٌ إلاّ بما تَجِدُ
وقال آخر:
يَرى المرءُ أحياناً إذا قَلَّ مالُه ... مِن الْخَير تاراتٍ ولا يستَطيعُها
مَتى ما يرمها قصَّر الفقرُ كَفّه ... فَيَضعُف عنها والغنيُّ يُضِيعها
القناعة والدعة - منه قولُهم:
وَحَسْبك من غِنى شِبَع ورِيّ
وقولهم: يَكْفِيك ما يبلّغك المَحل. وقال الشاعر:
مَن شاء أنْ يُكْثِر أو يُقِلأَ ... يكْفِيه ما بلَغه المَحَلاَّ
الصبر على المكاره يحمد العواقب - قالوا: عواقب المَكاره مَحْمودة. وقالوا: عِند الصَّباح يحمد القومُ السًّرى. وقولهم: لا تُدرك الراحةُ إلا بالتَعب. أخذه حَبيب فقال:
على أَنَّني لم أَحْوِ مالاً مُجَمَّعاً ... فَفُزْتُ به إلاّ بشمل مُبَدَّدِ
ولم تُعطِني الأيامُ نوماً مسكناً ... أَلذُّ به إلاّ بنَوْم مُشَرَّد
وأحسن منه قوله أيضاَ:
بَصُرْتَ بالرَّاحة العُليا فلم تَرَها ... تُنال إلاّ على جِسْرٍ مِن التَّعب
الانتفاع بالمال - قالوا: خيرُ مالِك ما نَفَعك. ولم يَضِع من مالك ما وَعَظَك.
ونظر ابن عبِّاس إلى دِرْهم بيد رجل، فقال: إنه ليس لك حتى يَخْرُج من يدك. وقولهم: تَقْتِير المَرْء على نفسه تَوْفِير منه على غَيْره. قال الشاعر:
أنتَ للمال إذا أَمْسكتَه ... فإذا أنفقته فالمالُ لَك
المتصافيان - منه قولهم: هما كَنَدَمانَي جَذِيمة الأبرش الملك. ونديماه رجلان من بَلْقَين يقال لهما: مالك وعَقيل. " بَلْقين: يريد من بني القيَنْ " . وقولهم: " هما أَطْول صُحْبة من الفَرقدين. قال الشاعر " :
وكُلُّ أخٍ مُفارقُه أخوه ... لَعَمْر أَبيكَ إلاّ الفَرْقَدان
ومنه قولهم: " هما أطولُ صحبة من " ابني شمام، وهما جَبلان.
خاصة الرجل - منه قولُهم: عَيْبة الرجل. يريدون خاصَّته وموضعَ سرِّه. ومنه الحديث في خُزاعة: كانوا عَيْبة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، مؤمنُهم وكافرُهم.
مَن يكسب له غيره - منه قولهم: ليس عليك غَزْلُه فاسحبْ وجُرَّ. وقولُهم: ورُبَّ ساعٍ لقاعد. وقولهم: خَيْر المال عينٌ ساهرة لعين نائمة.
المروءة مع الحاجة - منه قولهم: تَجُوع الحرةَ؛ ولا تَأكل بِثَدْييها. وقولهم: شَر الفقر الخُضوع، وخَير الغِنى القناعة. ومنه الحديث المرفوع: أَجْملوا في الطلب. قال الشاعر:
فإذا افتقرتَ فلا تَكًن ... مُتجَشِّعاً وتَجَمَّل
ومنه قولُ هُدْبة العُذْرِيّ:
ولستُ بمفْراحٍ إذا الدهرُ سًرّني ... ولا جازع من صَرْفه المُتقلِّب
ولا أَتمنىَ، الشرِّ والشرُ تاركي ... ولكنّ مَتى أحْمَل على الشر أَرْكَبَ

المال عند مَن لا يستحقه - منه قولهم: خَرْقاءُ وجَدت صُوفا. وَعَبْدٌ مَلَك عَبْدا " فأَوْلاه تَبَّاً " . وقولهم: مَن يَطُل ذيلُه يَنتَطق به. ومَرْعى ولا أَكًولة. وعًشب ولا بَعِير. ومالٌ ولا مُنفِق.
الحض على الكسب - منه قولهم: اطلب تَظْفر. وقولُهم: من عَجَز عن زاده اتّكل على زاد غيره. وقولُهم: من العَجْز نُتِجت الفاقُة. وقولُهم: لا يَفْترس الليثُ الظَّبْي وهو رابض. وقول العامة: كَلب طَوَّاف خيرٌ من أسد رابض. وقولهم:
أوْرَدها سَعْدٌ وسَعْد مُشْتَمل ... ما هكذا تُورد يا سَعْد الإبِلْ
الخبير بالأمر البصير به - منه قولهم: على الخَبير سَقَطْتَ. وقولهم: كفي قوماً بصاحبهم خَبيراً. وقولهم: لكل أناس في جمالهم خُبْر. وقولهم: على يَدِي دارَ الحديث. وقولهم: تُعلِّمني بضبّ أنا حَرَشْتُه. يقول: أتُخْبرني بامرِ أنا وَليته؟ وَلِّ القوسَ بارِيها. وقولُهم: الخيلًُ أعلم بفُرْسانها. وقولُهم: كل قوم أَعلم بِصناعتهم. وقولُهم: قَتَل أرضاً عاِلمُها. وقتلت أرضٌ جاهلَها.
الاستخبار عن علم الشيء وتيقنه - من ذلك قولُهم: ما وراءك يا عصام؟ أول من تكلم به النابغةَ الذَّبياني لعِصام صاحب النّعمانِ، وكان النعمانُ مريضاً فكان إذا لَقِيه النابغة، قال له: ما وراءك يا عِصام؟ وقولُهم: سيأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد. وإليك يُساق الحديث.
انتحال العلم بغير آلته - منه قولُهم:
لكالحادِي وليسِ له بَعِير
وقال الحُطيئة:
لكا لماشي وليس له حِذاء.
وقولهم: إنباض بغير توتير. وكقَابضٍ عَلَى الماء. أخذه الشاعر فقال:
ومَن يَأمنِ الدُّنيا يكن مثلَ قابضٍ ... على الماءِ خانَتْهُ فُرُوجُ الأصابع
وخرْقاء ذات نِيقة. يضرب للرَّجل الجاهل بأمر يدّعي معرفته.
من يوصي غيره وينسي نفسه - يا طَبِيبُ طِبَّ لنفسك. ومنه: لا تعظيني وتَعَظْعَظى، أي لا توصيني وأوْصي نفسَك.
الأخذ في الأمور بالاحتياط - منه قولُهم: أنْ تَرِد الماء بماء أَكْيسُ. وقول العامة.
لا تَصُبَّ ماءً حتى تجدَ ماء. وقولهم: عَشِّ ولا تَغتر. يقول: عَشِّ إبلك، ولا تغتر بما تُقْدم عليه. ويُروى عن ابن عبّاس وابن عمر وابن الزّبير أن رجلاَ أتاهم، فقال: كل لا يَنْفع مع الشرِّك عملٌ، كذلك لا يَضُر مع الإيمان تَقْصير، فكلُّهم قال: عَش ولا تَغتر. وقولهم: ليس بأَوَّلِ مَن غَره السراب. وقولهم: اشْتَر لنَفْسك وللسُّوق. ومنه الحديثُ المرفوع عن الرجل الذي قال أأرْسِلُ ناقتي وأتوَكّل؟ قال: " بل " اعقلها وتوكل.
الاستعداد للأمر قبل نزوله - منه قولُهم: قبلَ الرَّمْي يُراش السَّهم. وقولهم: قبل الرِّماءِ تُملأ الكنَائن. وقولهم: خُذ الأمر بقَوابله، أي باستقباله قبل أن يُدْبر. وقولهم: شرُّ الرأي الدَّبَريّ. وقولهم: المُحاجزة قبل المناجزة. وقولهم: التقدُّم قبل التندم. وقولهم: يا عاقدُ اذكر حَلا. وقولهم: خيرُ الأمور أحمدُها مَغَبَّة. وقولهم: ليس للأمر بصاحب مَن لم يَنْظُر في العواقب.
طلب العافية بمسالمة الناَس - قولُهم: مَنْ سَلَك الجَددَ أمِن العِثَار. وأحذرْ تَسْلم. ومنه قولهم: جًرُّوا له الخَطِيرَ ما انْجَرّ لكم. الخطير: ذِمامُ الناقة. ومنه قولهم: لا تَكُن أدنىَ العَيْرين إلى السَّهم. يقول: لا تكُنِ أدنى أصحابك إلى مَوْضع التَّلف وكن ناحيةً أو وَسطاً. قال كعب: إنّ لكلّ قوم كَلْباَ فلا تَكُن كلبَ أصحابك. وتقول العامّة: لا تَكُن لسانَ قَوْم.
توسط الأمور - من ذلك قولُهم: لا تَكُن حُلْواً فتُسْترَط، ولا مُرّاً فتُعْقى، أي تُلْفظ؟ يقال: أعقى الشيءُ، إذا اشتدّت مرارتُه. " قال الشاعر:
ولا تَكُ آنِياً حُلْواً فَتُحْسىَ ... ولا مُرّا فتنشب في الحِلاق "
وتقول العامّة: لا تَكُن حُلْواً فتؤكل ولا مُرّاً فتُلْفظ. وتَوَسًّط الأمور أدنى السلامة. ومنه قول مُطَرِّف بن " عبد الله بن " الشِّخِّير: الحَسنة بي السَّيِّئتين وخيرُ الأمور أوسطها. وشرّ السَّير الحَقْحقة. قوله: بين السيئتين، يريد بين المُجاوزة والتقصير. ومنه قولهم: بين المُمِخة والعَجْفاء. " يريد " بين السمين والمهزول. ومنه قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: خيرُ الناس هذا النَّمط الأوْسَط يَلْحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي.

الإتابة بعد الاجرام - منه قولُهم: أقصرَ لمَّا أبْصرَ. ومنه أتْبِعْ السيئةَ الحسنةَ " تمحها " . والتائبُ من الذنبُ كمن لا ذنبَ له. والندمُ تَوْبة. والاعترافُ يَهْدِم الاقْتراف.
مدافعة الرجل عن نفسه - جاحَش فلان عن خَيْط رَقَبته. وخيط الرقبة: النخاع؛ يقوِل: دافع عن دمه ومُهجته. وقالت العامّة:
وأيّة نَفْس بعد نَفْسك تَنْفع
" ومنه " : أَدفع عن نَفسي إذا لم يكن عنها دافِع.
قولهم في الانفراد - الذئبُ خالياً أسد. يقول: إذا وجدك خالياً اجترأ عليك. ومنه الحديث المأثور: الوَحِيد شيطان. وفي الحديث الآخر: عليكم بالجماعة فإنَّ الذِّئب إنما يُصيب من الغَنم الشَّاردة.
من ابتلى بشيء مرة فخافهُ أخرى - منه الحديثَ المرفوع: لا يُلْسَع المؤمن من جُحْر مَرَّتين. يريد أنه إذا لُسع مرّة " منه " تَحفظ من أخرى. وقولُهم: مَن لَدغته الحيَّة يَفْرَق من الرَّسَن. وقولهم:
مَن يَشتري سَيْفي وهذا أَثرُه
يُضرب هذا المثل للذي قد اختُبر وجُرِّب وقولهم: كل الحِذَاءِ يَحتذي الحافِي الوَقِعْ
الوَقِع: الذي يمشي في الوَقَع، وهي الحجارة. قال أعرابي:
يا ليت لي نَعْلين من جِلْد الضَّبع ... وشُرُكا من آستها لا تنقطعْ
كلَّ الحِذاء يحتذي الحافي الوَقِعْ
اتباع الهوى - قال ابن عبَّاس: ما ذَكَر الله الهَوى في شيء إلا ذَمه. قال الشعبيّ: قيل له هَوًى، لأنه يهْوَى به. ومن أمثالهم فيه: حُبًّك الشيءَ يُعْمى ويُصِمّ. وقالوا: الهَوَى إله مَعْبود.
الحذر من العطب - قالوا:
إنَّ السلامَة منها ترك ما فيها
وقولُهم: أعورُ، عينَك والحَجَر. وقولُهم: الليلَ وأهضامَ الوادي. وأصله أن يسير الرجلُ ليلاً في بُطون الأودية، حذّره ذلك. وقولُهم: دَع خيرَها لشرِّها. وقولهم: لا تُراهن على الصَّعْبة. وقولُهم أَعْذَر مَن أَنْذَر.
حسن التدبير والنهي عن الخرق - الرِّفْق يُمْن والخُرْق شُؤْم. ورُبَّ أكلة تَمْنع أكلات. وقولهم: قَلَب الأمر ظَهْراً لِبَطن. وقولُهم: " اضْرب " وَجْهَ الأمرِ وعَيْنَيه، وأجْر الأمور على أَذْلالها، أي على وُجوهها. وقولُهم: وجِّه الحَجَر وِجْهةً ما " له " . وقولُهم: وَلِى حارَها مَن وَلي قارَها.
المشورة - قالوا: أوّلَ الحَزْم المَشورة. ومنه: لا يهلك امرؤ عن مَشورة. قال ابن المُسيِّب: ما اْستشرتُ في أمر واْستخرتُ وأبالي على أيَ جنبيّ سقطْتُ.
الجد في طلب الحاجة - أَبْل عُذْراً وخَلاك ذَمّ. " يقول: إنما عليك أن تَجتهد في الطلب وتُعْذِر، لكيلا تُذَمّ فيها وإن لم تكن تقْضىَ الحاجة " . ومنه:
هذا أوَانُ الشدِّ فاشتدِّي زيم وقولُهم: اضرب عليه جرْوَتك، أي وَطِّن عليه نَفْسك. ومنه: اجمعْ عليه جَرَاميزَك، واشددَ له حيازيمك. وقولًهم: شَمِّر ذَيلا واْدَّرع ليلاً. ومنه: اْئت به " من " حِسِّك وبَسِّك. ومنه قول العامّة: جئ به من حيث أيسَ وليس. الأيس: الموجود. والليس: المعدوم.
التأني في الأمرِ - من ذلك قولُهم: رب عجلة تُعْقب رَيْثاً. وقولُهم إنَ المنبَتّ لا أرضاً قَطَع ولا ظَهراَ أبقى. وقال القطاميّ:
قد يُدْرك المتأَنِّي بعضَ حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزَّللُ
ومنه: ضَحِّ رًوَيْداً، أي لا تَعجل. والرَّشْفُ أنقع، أي أَرْوَى؛ يقال: شَرب حتى نَقَع. ومنه:
لا يُرْسل الساقَ إلا مُمْسكاً ساقاً.
سوء الجوار - منه قولهم: لا يَنْفعُك من جار سَوءٍ تَوَقٍّ. والجارُ السُّوء قِطعة من نار. ومنه: هذا أحقُ منزل بتَرْك. " ومنه قولهم: الجارَ قبل الدار. الرفيقَ قبل الطريق. ومنه قولهم: بعتُ جاري ولم أبع داري. يقول: كنتُ راغبا في الدار إلا أني بعتُها بسبب الجار السوء " .
سوء المرافقة - أنت تَئِقٌ وأنا مَئِق فمتى نَتَّفِق. التَئِق: السريع الشرّ. والمَئِق: السريع البُكاء؛ ويقال: الممتلىء من الغضب، والتّئِق والمَئِق مهموزان. وقولهم: ما يجمع بين الأرْوَى والنعام؟ يريد أن مَسْكن الأروى الجبلُ ومَسكنَ النعام الرَّمل - الأرِوى: جمع أرْوّية - ومنه: لا يَجْتمع السِّيْفان في غِمد. ومنه: لا يَلتاط هذا بصَفري، أي لا يَلْصق بقَلْبي.

العادة - قالوا: العادةُ أملكُ منِ الأدب. وقالوا: عادةُ السَّوء شرٌ من المَغْرَم. وقالوا: أَعْطِ العبدَ ذِراعاً يَطْلُبْ باعاَ.
ترك العادة والرجوع إليها - منه قولهم: عادَ فلان في حافرته، أي في طريقته.
ومنه قوله تعالى: " أئِنَّا لَمَرْدودُونَ فِي الْحافِرَة " . ومنه: رجع فلان على قَرْوَائه. ومنه الحديث: لا تَرْجع هذه الأمة عن قَرْوَائها.
اشتغال الرجل بما يعنيه - منه: كلُّ امرئ في شأنه ساع. وقولهم: هَمُّك ما أهَمَّك. همك ما أدْأبك. وقولهم: ولي حارَها من تَوَلّى قارَّها.
قلة الاكثراثٍ - منه قولهم: ما أبالِيه بالة. وسئل ابن عبّاس عن الوضوء من اللبن، فقال: ما أبالِيه بالة. وقولهم: اسمَحْ يُسْمَح لك. وقولُهم: الكلابَ على البقر. يقول: خلِّ الكلابَ وبقرَ الوِحْش.
قلة اهتمام الرجل بصاحبه - هان على الأَمْلس ما لاقَى الدَبِر. ما يلقى الشجي منِ الْخَليّ. قال أبو زيد: الشجي، مخفف، والخلىّ، مشدد: ومنه قول العامّة: هان علىَ الصحيح أن يَقول لِلْمَريض: لا بأس عليك.
الجشع والطمعِ - منه قولهم
تُقَطِّع أعناقَ الرِّجال المطامعُ
ومنه قولهم: غَثُّك خيرٌ لك من سمِين غيرك. وقولهم: المَسئلة خُموش في وجه صاحبها. وقال أبو الأسْوَد في رجل دنيء: إذا سُئِل أَرَز وإذا دُعى انتهز. ومنه قولُ عَوْن بن عبد الله: إذا سأل أَلْحَف وإذا سُئِل سَوَّف.
الشره المطعام - منه قولهم: وَحْمَى ولا حَبَل، أي لا يذكر له شيء إلا اشتهاه، كشَهْوَة الحُبْلى، وهي الوَحْمَى. ومنه: المرء تَوَّاق إلى ما لمِ يَنَل. وقولهم: يَبْعَث الكلابَ عن مَرَابضها، أي يَطْرُدها طَمَعاً أن يَجدَ شيئاً يأكله من تَحْتها. ومنه قولهم: أَراد أن يأكل بيَدَيْن. ومنه الحديثُ المرفوع: الرَّغْبة شُؤْم.
الغلط في القياس - منه قولُهم: ليس قَطاً مثلَ قُطَيّ. وقال ابن الأسْلت:
ليس قطاً مثل قُطَيّ ولا ال ... مَرْعِيُّ في الأقوام كالرَّاعي
ومنه قولهم: مُذَكِّيةٌ تقاس بالْجذَاَع. يُضرب لمن يَقيس الكَبِير بالصغير. والمُذَكِّية، هي المُسِنَّة من الخيل.
وضع الشيء في غير موضعه - منه: كمُسْتَبْضع التَّمر إلى هَجَر. وهجر: معدن التمر. قال الشاعر:
فإنّا وَمَنْ يَهْدِي القَصائدَ نَحْوَنا ... كمُسْتَبْضع تمراً إلى أَهْل خَيْبرَا
ومنه قولهم: كمُعَلِّمة أُمّها الرضاع. ومنه الحديث المرفوع: رُب حامِل فِقْهٍ إلى مَن هو أفقه منه. وفيمن وَضع الشيء في غير موضعه " قولهم " : ظَلَمَ مَن اسْترعى الذئبَ الغَنَم. وقال ابن هَرْمة:
كتاركةٍ بيضها بالعَرَاء ... ومًلحِفة بيضَ أُخرى جَناحَا
يصف النعامة التي تحصُن بيضَ غيرها وتُضيع بيضَها.
كفران النعمة - منه: سَمِّنْ كلبَك يأكُلك. أحشّك وتَرُوثني! قاله في مخاطبة فرسه، أي أعْلفك الحشيشَ وتروث عليّ؟ ومنه قولُ الآخر:
أُعلَمه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ ... فلمَّا اشتدَ ساعدُه رَمَاني
التدبر - منه قولهم: لا ماءكِ أَبقَيْتِ ولا دَرَنك أنْقيت. وقولهم: لا أبوك نُشرِ ولا التراب نَفِد. أصل هذا المثل لرجل قال: ليتني أعرف قبرَ أبي حتى آخذ من تُرابه على رأسي.
التهمة - منه قولهم: عسى الغوَير أَبْؤُساً. والأبؤس: جمع بأس. قال ابن الكَلْبي: الغوَير: ماء معروف لكَلْب. وهذا مثل تكلَّمت به الزباء، وذلك أنها وجَّهت قَصِيراَ اللَخْميّ بالعِير ليَجْلِب لها من بَزّ العراق، وكان يَطلبها بدم جَذيمة الأبرش، فجعل الأحمال صناديق، وجعل في كل صُندوق رجلاً معه السلاح، ثم تنكّب بهم الطريقَ وأخذ على الغُوَير، فسألْت عن خَبره فأُخبرَت بذلك، فقالت: عسى الغُوَير أَبْؤُساً. تقول: عسى أن يأتي الغُوَير بشرّ، واستنكرت أخذَه على غير الطريق. ومنه: سَقَطت به النصيحةُ على الظِّنَّة، أي نصحتَه فاتهمك. ومنه: لا تَنْقُش الشوكةَ بمثلها " فإنّ ضَلْعها معها " . يقول: لا تَستَعِن في حاجتك بمَن هو ومنه:
إذا غاب منها كَوْكبٌ لاحَ كَوكب
وقولهم: رأسٌ برأسٍ وزيادةِ خَسمائة. قالها الفرزدق في رجل كان في جيش، فقال " صاحبُ الجيش " : مَن جاء برأس فله للمطلوب منه الحاجة أَنْصح " منه لك " .

تأخير الشيء وقت الحاجة إليه - منه: لا عطْر بعد عَروس. وأصل هذا أَنّ عَروساً أُهديت فوجدها الرجلُ تَفِلة، فقال لها: أين الطَّيب؟ قالت: ادَخَرتُه؛ قال: لا عطر بعد عَروس. وقولهم: لا بَقاء للحمِيَّة بعد الحُرْمة. يقول: إنّما يَحْمى الإنسانُ حريمه فإذا ذهبت فلا حَميَّة له.
الإساءة قبل الإحسان - منه: يسبق دِرَّتَه غِرارُه. الغرار: قلة اللبن. والدِّرَّة: كثرته. ويسبق سيلَه مَطرُه.
البخل - ما عنده خَيْر ولا مَيْر سواء هو والعَدَم. والعَدَم والعُدْم لغتان. ما بضّ حجره. والبَضّ: أقلِّ السيلان. ما تَبُلّ إحدى يديه الأخرى.
الجبن -
إنّ الجبان حَتْفه من فَوْقه.
" ومثله " في القرآن: " يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ " . ومنه: كلُّ أَزَب نَفُور. وَقَفّ شَعَره، واقشعرَّت ذُؤَابته. معناه: قام شعرُه من الفَزع. وشَرِقَ برِيقه.
الجبان يتواعد بما لا يفعل - الصَدْق يُنبي عنك لا الوَعيد. يُنْبي " عنك " : يَدفع عنك، مَن يَنْبو. ومنه: أَوْسعتُهم شَتْماً وأَوْدَوْا بالإبل.
وقيل لأعرابيّ خاصم امرأته إلى السلطان " فقيل له: ما صنعت معها؟ " قال: كَبَّها الله لوَجْهِهَا ولو أُمِرَ بي إلى السِّجن.
الاستغناء بالحاضر عن الغائب - قولهم: إن ذَهب عَيْرٌ فعَيْرٌ في الرِّباط. خَمسمائة " درهم. فبرز رجل وقتل رجلاً من العدوَ، فأعطاه خمسمائة درهمِ " ، ثم برز ثانية، فقُتل، فبَكى عليه أهلُه، فقال لهم الفرزدق: أمَا تَرْضون رأساَ برأس وزيادة خمسمائة؟ المقادير - منه قولُهم: المقاديرُ تُريك ما لا يَخْطُر ببالك. وقولُهم: إذا نزل القَدر غَشىَّ البَصر. وإذا نزل الحَينْ غَطَى العين. ولا يُغْنى حَذَر من قدَر. ومن مَأمنه يُؤتى الحَذر. وقولُهم: وكيف تَوَقّى ظَهْر ما أنت راكبُه.
الرجل يأتي إلى حتفه - منه قولًهم: أتتكَ بحائنٍ رجلاه. لا تَكنُ كالباحُث عن المدية. وقولُهم: حَتْفَها تحمِل ضأن بأَظْلافها.
ما يقال للجاني على نفسه - يداكَ أَوْكَتا وفُوِكَ نَفخ. وأصلُه أَنّ رجلاً نَفَخ زِقَّاً ورَكِبه في النهر، فانحلّ الوِكاء وخَرجت الريح وغرِق الرجل، فاستغاث بأعرابيّ على ضفّة النهر فقال: يداك أوْكتا وفُوك نَفخ.
جالب الحين إلى أهله - منه قولُهم: دلَت على أهلها رَقاش، ورقاش، كلبة لحيّ من العَرب مرَّ بهم جيش ليلاً ولم يَنْتبهوا لهم، فنَبحت رقاش فدلَّت عليهم. وقالوا: كانت عليهم كراغية البَكْر. يَعْنون ناقةَ ثمود. وقال الأخطل:
ضفَادع في ظَلْماء ليل تَجاوَبَتْ ... فدلّ عليها صوتها حيةَ البَحْرِ
تصرف الدهر - منه قولُهم: مرَّةً عيش ومرة جيش. ومنه: اليوم خَمر وغداً أمر قاله امرؤ القيس أو مهلهل أخو كليب لمّا أتاه موتُ أخيه وهو يَشرب. وقالوا: عِش رجباً ترى عَجباً. وقالوا: أتى الأبد على لُبد. وقال الشاعر:
فيَومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويوماً نُساء ويوماً نسَرّ
وقولُهم: مَن يَجتمعِ تَتَقَعقَع عُمُدُه. وأنشد:
أجارتَنا مَن يجتَمع يَتَفَرَّق ... ومَن يك رهناً للحوادث يَغْلَقِ
الأمر الشديد المعضل - منه قولًهم: أَظْلم عليه يومُه. وأين يَضَع المَخنوقُ يدَه؟ ومنه " قولهم " : لو كان ذا حيلة لتَحوَّل. ومنه قولُهم: رأى الكوكب ظُهْراً. قال طَرَفة: وتُرِيه النجمَ يَجْرِي بالظُّهرُ هلاك القوم - منه قولهم: طارت بهم العَنْقاء. وطارت بهم عُقاب مَلاَع.
يُقال ذلك في الواحد والجمع، وأحسبها مَعْدولة عن مَيْلع. والمَنايا على الحَوايا. قال أبو عُبيد: يقال: إن الحَوَايا في هذا الموضع مَرْكب من مَرَاكب النساء، واحدتها حويّة، وأحسب أصلها أن قوماً قُتلوا فحُمِلوا على الحَوَايا، " فظنَّ الراؤون أن فيها نساء، فلما كشفوا عنها أبصروا القَتْلى فقالوا ذلك " ، فصارت مثلاً. ومنه: أتتهم الدُّهَيم تَرْمِي بالرًضْف. معناه: الداهية العظيمة. وهذا أمر لا يُنادى وَليده، معناه أنّ الأمر اشتدّ حتى ذَهِلت المرأةً أن تدعو وَليدَها. ومنه: التقت حَلقتا البطان، وبَلَغ السيل الزُّبى، وجاوَز الْحِزامُ الطُّبيين. وتقول العامَّة: بلغ السِّكينُ العظمَ.
إصلاح ما لا صلاح له - منه قولهم: كدابغةٍ وقد حَلِم الأديم حَلِم: فسد. وكتب الوليد بن عُقبة إلى معاوية بهذا البيت:

فإنّك والكتابَ إلى عليّ ... كدابغةٍ وقد حَلِم الأديمُ
في شعر له.
صفة العدو - يقال في العدوّ: هو أَزْرَق العين، وإن لم يكن أَزْرَق، وهو أَسْود الكَبِد، وأَصْهب السِّبال.
البخيل يعتل بالعسر - منه قولهم: قَبْل البُكاء كان وجهُك عابساً. ومنه: قبل النِّفاس كنت مُصْفَرَّة.
اغتنام ما يعطى البخيل وإن قل - منه: خذ من الرِّضْفة ما عليها. وخُذ من جَذَع ما أعطاك. قال ابن الكلبي: وأصل هذا المثل أن غسّان كانت تُؤدِّي إلى ملوك سَلِيح دينارين كلَّ سنة عن كل رجل، وكان الذي بَلى ذلك سَبَطة بن المُنذر السَّليحي، فجاء سَبَطة إلى جَذَع بن عمرو الغسّاني يَسأله الدِّينارين، فَدَخَل جَذَع منزلَه، واشتمل على سيفه، ثم خرج فضرب به سَبَطة حتى سَكت، ثم قال له خُذ من جَذع ما أعطاك، فامتنعت غسّان من الدينارين بعد ذلك، وصار الملْك لها حتى أتى الإسلام.
البخيل يمنع غيره ويجود على نفسه - منه قولهم: سَمْنُكم " هُرِيق " في أديمكم. ومنه؛ يا مُهْدِيَ المال كُلْ ما أهديت. ومنه قول العامة: الحمار جَلَبه والحمار أكله.
موت البخيل وماله وافر - منه مات فلان عريضَ البِطان. ومات بِبِطنته لم يَتَغَضْغَض منها شيء. والتَّغضغض: النقصان.
البخيل يعطي مرة - منه قولهم: ما كانت عطيَّته إلا بَيْضة العُقْر، وهي بَيْضة الديك. قال الزُّبيرِي: الدِّيك ربَّما باضٍ بيضة، وأنشد لبشّار:
قد زًرْتِني زَوْرَةَ في الدَّهر واحدة ... ثَنِّي ولا تَجْعليها بيضةَ الدِّيكِ
ومنه قولُ الشاعر:
لا تَعجبنّ لخير زلّ من يَدِه ... فالكوكبُ النَّحس يَسْقِي الأرضَ أحياناً
ومنه قولُهم: من الخَواطئ سهمٌ صائب. والليلُ طويل وأنت مُقمِر. وأصل هذا " أن " سُليك بن سُلكَة كان نائماً مُشْتملاً، فجَثَم رجل على صدره، وقال له: استأسرْ؛ فقال له: الليل طويل وأنت مُقْمِر؛ " ثمّ قال له: استأسر " يا خَبيث؛ فضَمَّه ضَمَّة ضَرِط منها، فقال له: أَضَرِطاً وأنت الأعلى، فذهبت أيضاً.
طلب الحاجة المتعذرة - منه قولُهم: تَسألني بَرامَتين سَلْجماً. وأصله أنّ امرأة تَشهَّت على زوجها سَلْجماً، وهو ببلد قَفْر، فقال هذه المقالة. والسَّلجم: اللِّفت.
ومنه؛ شرُّ ما رام امرؤ ما لم يَنَلْ. ومنه: السائلُ فوق حقِّه مُسْتَحِق الحِرْمان. ومنه قولُهمّ:
إنك إنْ كلفتني ما لم أُطِق ... ساءَك ما سَرَّك منِّي من خُلُق
الرضا بالبعض دون الكل - منه: قد يَرْكبُ الصَّعب من لا ذَلول له. وقولُهم: خُذ من جَذَع ما أعطاك. وقولهم: خُذ ما طَفَّ لك، أي ارض بما أمكنك. ومنه قولُهم: زَوْجٌ من عُود خيرٌ من قُعود. وقولُهم: ليس الرِّيّ " عن " التّشاف، أي ليس يَرْوَى الشاربُ بشرب الشِّفافة كلّها، وهي بقية الماء في الإناء. ولكنه يَرْوى قبل بلوغ ذلك. وقولهم: لم يُحْرَمٍ من فُصِد له. ومعناه: أنهم كانوا إذا لم يَقْدروا على قِرَى الضَّيف فَصَدوا له بعيراً وعالجوا دَمه بشيء حتى يمكن أن يأكله. ومنه قول العامة: إذا لم يكن شَحْم فَنَفس. أصل هذا أن امرأة لَبِسَت ثياباً، ثم مَشت وأظهرت البُهْر في مِشْيتها بارتفاع نَفَسها، فلَقِيها رجلٍ، فقال لها: إني أَعرفك مَهزولة، فمَن أين هذا النفس؟ قالت: إن لم يكن شَحْم فنفس. وقال ابن هانئ:
قال لي تَرْضىَ بوَعْدٍ كاذب ... قلتُ إن لم يَكُ شَحْم فَنَفس!
التنوق في الحاجة - منه قولهم: فعلتَ فيها فعلَ من طَبَّ لمَن أحَبَّ. ومنه قولهم: جاء تَضِبُّ لِثَاته على الحاجة، معناه لشدة حِرْصه عليها. وقال بِشْر بن أبي خازم: خيلا تَضِبّ لِثَاتُها للمَغْنم استتمامِ الحاجة - أَتْبع الفرس لجامها؛ يريد أنك قد جُدْت بالفَرس، واللِّجام أَيْسر خَطْباً فأتمَّ الحاجة. ومنه: تَمام الرَّبيع الصَّيف، وأصله في المطر، فالرَّبيع أوّله والصَّيف آخره.
المصانعة في الحاجة - مَن يَطْلب الحَسْناء يُعْطِ مَهْرَها. وقولهم: المُصانعة تُيَسِّر الحاجة. ومَن اشترى فقد اشتوَى. يقول: مَن اشترى لحماً فقد أَكل شِواء.
تعجيل الحاجة - قولهم: السَّرَاح من النجاح. النفسُ مُولعةٌ بحبِّ العاجل.
الحاجة تمكن من وجهين - منه قولهم: كلا جانبي هَرْشى لهُنّ طريق. هَرْشى: عقبة. ومنه: هو على حَبْل ذِراعك، أي لا يخالفك.

مَن منع حاجة فطلب أخرى - منه قولهم: إلاده فلاَدهِ. قال ابن الكلبي: معناه أن كاهناً تَقَاضى إليه رجلان من العرب: فقالا: أَخْبرنا في أي شيء جِئناك؟ قال: في كذا وكذا؛ قالا: إلادَه، أي انظر غير هذا النظرِ. قال: إلادَه فَلاَده، " ثم أخبرهما بها " . قال الأصمعي: معناه إن لم يكن هذا الآن فلا يكون بعد الآن.
الحاجة يحول دونها حائل - منه قولهم: قد عَلِقت دَلْوَك دلوٌ أخرى. وقولهم: الأمرُ يَحْدُث دونه الأمر. وقولهم: أخْلَف رُوَيْعياً مَظِنُّه. وأصله أن راعياً اعتاد مكاناَ فجاءه يرعاه، فوجده قد تغيِّر وحال عن عهده. ومنه قولهم سَدَّ ابن بَيْض الطريقَ سدًّا. وابن بيض: رجل عقر ناقة في رأس ثَنيَّة فسدَ بها الطريق.
اليأس والخيبة - منه قولهم: جاء بخُفي حُنين. وقد فسرناه في الكتاب الذي قبل هذا. ومنه: أطالَ الغيبة وجاء بالخَيْبة. ونظير هذا قولهم: سَكت ألفاً ونَطَق خَلْفاً، أي أطال السكوت وتكلم بالقبيح، وهذا المثل يقع في باب العيّ، وله ها هنا وجه أيضاً. وقال الشاعر:
ومازِلْتُ اقطعُ عَرْضَ البِلادِ ... مِن المَشْرِقين إلى المَغْرِبَين
وَأدَّرعُ الخوفَ تحتَ الدُجى ... وَأسْتَصْحِبُ الْجَدْى وَالفَرْقَدَيْن
وَأطوِى وَأنْشُرُ ثوبَ الهُموم ... إلى أن رَجَعتُ بخُفي حُنَيْنِ
طلب الحاجة في غير موضعها - قالوا: لم أجد لشفْرَتي مَحَزّا. وقولهم: كَدَمْتَ غير مَكدَم. وقولهم: نَفختَ لو تنفخ في فَحَم. وقالت العامة: يَضرب في حديدٍ بارد.
طلب الحاجة بعد فواتها - منه قولهم: لا تطلب أثراً بعد عَين. وقولهم: " في " الصيَّف ضَيّعتِ اللبن. معناه أنّ الرجل إذا لم يُطرق ماشيَته في الصيَّف كان مُضَيِّعاً " لألبانها عند الحاجة " .
الرضا من الحاجة بتركها - منه قولهم: نجا برأسه فقد رَبح. وقولهم: رَضِيتُ من الغَنيمة بالإياب وقول العامة: الهزيمة مع السلامة غنِيمة.
وقال امرؤ القيس:
وقد طوَفْتُ في الآفاقِ حتَّى ... رَضِيتُ من الغنيمة بالإيابِ
وقال آخر:
الليلُ داج والكِباشُ تَنْتَطِحْ ... فَمن نَجَا برأسه فقد رَبِحْ
من طلب الزيِادة فانتقص - منه: كطالب القَرْن جُدِعت أُذُنه. وقولهم: كطالب الصَّيد في عريسة الأسد. وقولهم: سَقَط العَشاء بها على سِرْحان. يريد دابة خَرجت تطلب العَشاء فصادفت ذِئباً. ونظير هذا من قولنا:
طلبْتُ بك التكثير فازددتُ قِلَّةً ... وقد يَخْسر الإنسان في طلب الرِّبْح
الرجل يخلو بحاجته - منه قولهم: خلا لكِ الجوُّ فبِيضى واصْفِرى ومنه: " رًمِي " برَسنك على غاربك. وهذا المثلُ قالته عائشة لابن أخت مَيْمونة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم: ذهبت والله ميمونة ورُمي برَسَنك على غاربك.
ارسالك في الحاجة من تثق به - أرْسِل حكيماً ولا توصِه. وقولهم: الحريص يَصِيد لك لا الجواد. يقول: إنّ الذي له هوىً وحِرْص على حاجتك هو الذي يقُوم بها لا القويّ عليها ولا هَوَى له فيها. ومنه قولهم: لا يُرَحِّلنّ رحلَك مَن ليس معك. ومنه في " هذا " المعنى: الحاجة يجعلها نُصْبَ عينيه، ويَحْملها بين أذنه وعاتقه، ولم يجعلها بظَهْر.
قضاء الحاجة قبل السؤال - لا تسأل الصارخ وانظر ماله. يريد لم يأتك مُستصرخاً إلا منِ ذُعر. أصابه فأغِثه قبل أن يسألك. ومنه كَفي برُغائها منادياً. ومنه: يُخْبِر عن مجهوله " مَعْلومُه " . وقولهم: في عَيْنه فَرَارُه. يَعْنون في نظرك إلى الفَرس ما يُغْنيك عن فَراره.
الانصراف بحاجة تامة مقضية - جاء فلان ثانياً من عِنانه. فإن جاء بغير قضاء حاجته، قالوا: جاء يضرْب أصْدَرَيْه، أي عِطْفيه. وجاء وقد لَفَظ لِجَامه. وجاء سَبَهْلَلاً. فإن جاء بعد شدّة قيل: جاء بعد الُّلتيا والَتي. وجاء بعد الهِيَاط والمِيَاط.
تجديد الحزن بعد أن يبلى - منه قولهم: حَرك لها حُوارها تَحِنَّ. وهذا المثل يُروى عن عمرو بن العاص أنه قال لمِعاوية حين أراد أن يَسْتَنصر أهلَ الشام: أخْرِج إليهم قميصَ عثمان رضوان الله عليه الذي قُتل فيه. ففعل ذلك مُعاوية، فأقبلوا يَبْكون، فعندها قال عمرو: حَرِّك لها حُوَارَها تَحِنّ.

جامع أمثال الظلم - منه قولُهم: الظُّلم مَرْتعه وَخيم. وفي الحديث: الظلم ظُلمات يوم القيامة. ومنه: فإنك لا تَجْنى من الشَّوْك العِنَب. وقولهم: الحَرْبُ غَشوم.
الظلم من نوعين - منه: أحَشَفاً وسوءَ كِيلة. ومنه: أغُدَّةٌ كغُدَّة البَعير وَموْتٌ في بيت سَلُوليّة. وهذا المثل لعامر بن الطُّفيل حين أصابه الطاعوِن في انصرافه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلجأ إلى امرأة من سَلُول فهلك عندها. ومنه: أَغَيْرَةَ وَجُبْناً. قالته امرأةٌ من العرب لزوجها تُعيِّره حين تخلَف عن عدوّه في منزله، ورآها تَنظُر إلى قِتال الناس فَضرَبها. فقالت: أغيرة وجُبْناً. وقولهم: أكسْفاً وإمساكاً. أصله الِرجل يلقاك بعُبوس وكُلوح مع بُخل ومَنْع. وقولهم: ياعَبْرَى مُقْبلة، يا سَهْرَى مُدْبِرَةَ. يُضرب للأمر الذي يًكره من وجهين. ومنه قول العامة: كالمُستغيث من الرَّمْضاء بالنار وقولهم: للموت نَزَع والموت بَدَر. وقولهم: كالأشقَر إِنْ تقدَّم نحِر، وإن تأخّر عُقِر. وقولهم: كالأرقم إن يُقْتَلْ يَنْقِم، وإن يُترْك يَلْقم. يقول: إن قتلته كان له من ينتقِم منك، وإن تركته قتَلك. ومنه: هو بين حاذفٍ وقاذفٍ. الحاذف: الضارب بالعصا. والقاذف: الرامي بالحَجَر.
من يزداد غماً على غم - منه قولهم: ضِغْثٌ على إبّالة. الضِّغث: الحُزمة الصغيرة من الحطب. والإبّالة: الكبيرة. " ومنه قولهم: كِفْتٌ إلى وَئيّة. الكِفْت: القِدْر الصغيرة. والوئية: القِدر الكبيرة. يُضرب للرجل يحمل البليّة الكبيرة ثم يزيد إليها أخرى صغيرة " ومنه قولهم: وَقَعوا في أم جُنْدب. إذا ظُلِمُوا.
المغبون في تجارته - منه قولهم: صَفْقة لم يَشْهدها حاطب. وأصله أنّ بعض أهل حاطب باع بَيْعَة غُبن فيها. ومنه قولهم: أعطاه الَّلفَاءَ غير الوفاء.
سرعة الملامة - منه: ليس من العَدْل سرعة العَذْل. ومنه رُبَّ مَلُوم لا ذنبَ له. وقولهم: الشَعيرُ يُؤكل ويُذمّ. وقولُ العامة: أكلاً وذمًّا. وقولُ الحجاج: قُبِّح والله منا الحسن الكريم يهتضمه اللئيم - لو ذاتُ سِوَار لَطَمَتْني. ومنه: ذًلّ لو أَجِد ناصراً.
الانتصار من الظالم - هذه بتلك والبادي أَظْلم. ومنه: مَنْ لم يَذُد عن حوضه يهدَّم.
الظلم ترجع عاقبته على صاحبه - قالوا: مَن حفر مُغوّاة وَقع فيها. والمغوّاة: البئر تُحْفَر للذِّئاب، ويُجعل فيها جَدْيٌ فيسقط الذئبُ فيها لِيَصِيدَه فَيُصاد. ومنه: يَعْدو على كل آمرىء ما يَأْتمر. ومنه: عاد الرَّمْي على النَزَعَة. وهم الرّماة يَرْجع عليهم رَمْيهُم. وتقول العامة: كالباحِث عن مُدْية. ومنه قولهم: رُمي بحَجَره، وقُتِلَ بسلاحه.
المضطر إلى القتال - مُكْرَه أخوك لا بطل.
قد يَحْمِلُ العير من ذعر على الأسد المأخوذ بذنب غيره - جانِيكَ مَن يَجْني عليك. ومنه: " : كَذِي العُرّ يُكْوي غَيرُه وهو راتِع ومنه: كالثوْر يُضْرب لما عَافَت البَقَر يعني عافت الماء. وقال أنَس بن مُدْرك:
إني وقَتْلي سًلَيْكاً ثم أَعْقِلَهُ ... كالثوْر يُضْرَب لمَّا عافت البَقَرُ
يعني ثَور الماء، وهو الطحلُبُ؟ يقال: ثار الطّحلب ثَوْراً وثَوَرانا.
ومنه قولهم: كلُّ شاةٍ بِرِجْلها تُناط. يُريد: لا يُؤْخذ رجلٌ بغير ذَنْبه.
المتبرىء من الشيء - ما هو من ليلي ولا سَمَرِه. ما هو من بَزِّي ولا مِن عِطْري. مالي فيه ناقة ولا جَمَل. ومنه قولهمَ: بَرِئْت منه إلى اللّه. ومنة: لستُ منكَ ولستَ منّي. وما أنا من دَدٍ ولا دَدٌ مني.
سوء معاشرة الناس - قالوا: الناس شَجرة بَغْى. لا سَبِيل إلى السّلامة من أَلْسنة العامة. وقولهم: رِضىَ الناس غايةٌ لا تدرك. ومنه الحديثُ المرفوع: النّاس كإِبلٍ مائةٍ لا تكاد تَجد فيها راحِلة " واحدة " . ومنه قولهم: الناس يُعيِّرون ولا يَغْفرون واللّه يغَفر ولا يُعيِّر.
وقال مالكُ بن دينار: مَن عرف نفسَه لمِ يَضِرْه قولُ الناس فيه. وقول أبي الدَّرداء: إنْ قارضْتَ الناسَ قارضُوك، إنْ تركتهم لم يَزكوك.
الجبان وما يذم من أخلاقه - منه قولهم: إنّ الجبانَ حَتْفه من فَوْقه. وهو من قول عمرو بن أمامة:
لقد وَجدتُ الموتَ قبلَ ذَوْقه ... إنّ الجَبان حَتْفه من فَوْقه

قال أبو عُبيد: أحسبه أراد " أن " حَذَره وتَوقَيه ليس بدافع عنه المَنيّة. " قال أبو عمرِ " : وهذا غَلط من أبي عُبيد عندي، والمَعنى فيه أنه وَصف نفسَه بالجُبن، وأنه وَجد الموت قبل أن يَذُوقه، وهذا من الْجُبن، ثم قال: إنّ الجبان حتفُه من فوقه، يريد أنه نظر إلى منيّته كأنما تحوم على رأسه، كما قال الله تبارك وتعالى في المنافقين " إذ وصفهم بالجبن " : " يَحْسَبون كل صَيْحَةٍ عليهم همُ العَدُوّ " . وكما قال جرير للأخطل يُعيّره " إيقاعِ قَيْس بهم " :
حَملتْ عليك رجالُ قَيْسٍ خَيْلَهَا ... شعْثاً عوابسَ تَحْمِلُ الأبطالا
مازِلْتَ تَحْسِب كل شيء بعدَهم ... خيلاً تكر عليكمُ ورجالا
ولو كان الأمر كما ذهب إليه أبو عُبيد ما كان معناه يَدخل في هذا الباب، لأنه باب الجبان وما يُذَم من أخلاقه، وليس أخذ الحَذَر من الجبن في شيء، لأن أخْذ الحَذَر محمود، وقد أمر الله تعالى به فقال: " خُذوا حِذْرَكم " ، والجبن مَذْموم من كل وجه. ومنه الشعر تمثل به سعد بن مُعاذ يوم الخنْدق:
لَبِّث قليلا يُدْرِك الهيْجا حَمَل ... ما أحسنَ الموتَ إذا حان الأجَلْ
ومنه قولُهم: كلّ أزَبّ نَفور، وإنما يقال في الأزبّ من الإبل لكثرة شره، ويكون ذلك في عَيْنيه، فكلّما رآه ظن أنه شَخْص " يطلبه " فَيَنْفِر من أجله. ومنه قولُهم: بَصْبَصْنَ إذ حُدِين بالأذْناب . ومنه قولُهم: دَرْدَب لما عَضّه الثقاف وقولُهم: حال الجَريض دونَ القَرِيض. وهذا المثل لعَبِيد بن الأبرص قاله للنعمان بن المنذر بن ماء السماء حين أراد قتْلَه، فقال له: أنْشِدني شِعْرَك: أقفر من أهْله مَلْحُوب فقال عَبِيد: حال الْجَرِيضُ دون القَرِيض. ومنه: قَفّ شَعَره، واقشعرت ذُؤابتُه. " معناه: قام شعره " من الفَزَع.
إفلات الجبان بعد اشفائه - منه قولُهم: أفلت وانْحص الذَّنَب، ومنه: أفْلَت وله حُصَاص. وُيروى في الحديث: إن الشّيطان إذا سَمع الأذَان أدْبر وله حُصَاص. ومنه: أفلتنى جُرَيعَة الذَّقن، إذا كان منه قرِيباً كقُرب الجَرْعة من الذَقن، ثم أفلته. ومنه قول العامة: إن يُفلت العَيْرُ فقد ذرَق. وقولُهم: أفلتني وقد بَلَ النيْفق، الذي تُسَمِّيه العامة النِّيفَق الجبان يتهدد غيره - منه قولُهم: جاء فلان يَنفَض مِذرَوَيه، أي يتوعّد ويتهدّد. والمِذْرَوَان: فَرْعا الأليَتين. ولا يكاد يُقال هذا إلا لمن يتهدّد بلا حقيقة. ومنه: أبْرق لمن لا يَعْرفك. واقْصِد بذَرْعك. ولا تبْق إلا على نفسك.
تصرف الدهر - منه: مَن يَجْتمع تَتقَعْقَع عُمُدُه: أي إن الاجتماع داعية الافتراق. ومنه: كل ذات بَعْل ستَئِيم. ومنه البيت السائر:
وكل أخٍ مُفارقُه أخوه ... لَعَمْر أبيك إلا الفَرْقَدَانِ
ومنه: لم يَفُتْ مَن لم يَمُت.
الاستدلال بالنظر على الضمير - منه قولُهم: شاهد البُغْض اللَّحْظ. وجَلًى محبٌّ نَظَرَه. قال زُهَير:
فإنْ تَكُ في صَديقٍ أو عدوّ ... تخبِّرْك العيونُ عن القًلوب
وقال ابن أبي حازم:
خذ من العَيش ما كَفي ... ومِنَ الدهرِ ما صَفَا
عَين من لا يُحبّ وَصَ ... لَك تُبْدِي لك الجَفا
نفي المال عن الرجل - منه قولهم: ما له سَعْنَة ولا مَعْنة. معناه: لا شيء له.
ومنه: ما له هِلِّع ولا هِلَّعة، وهما الجَدْي والعَنَاق. ومنه: ما له هارب ولا قارب. معناه: ليس أحد يَهرُب منه، ولا أحدٌ يقرب إليه، فليس له شيء. وقولهم: ما له عافِطة ولا نافِطة، وهما الضَّائنة والمَاعِزة. وما به نَبَض ولا حَبَض. قال الأصمعيّ: النَبَض: التحرّك، ولا أعرف الحَبَض. وقال غيرُه: النبَض والحَبَض في الوتر، فالنَّبَض: تحرُّك الوَتر، والحَبَض: صوته. وقال: والنيْلُ يَهْوِي نَبَضاً وحَبَضاً ومنه قولهم: ما له سَبَد ولا لَبَد، هما الشعر والصوف. ولم يَعْرف الأصمعي السَّعْنة والمَعْنة.

إذا لم يكن في الدار أحد - منه قولهم: ما بالدار شَفْر، ولا بها دُعْوِيٌّ، ولا بها دًبّي. معناه: ما بها من يدعو من يَدِب. وما بها من عَريب، ولا بها دُورِيّ ولا طُوِريّ، وما بها وابِر، وما بها صافِر، وما بها ديار، وما بها نافخ ضَرَمة، وما بها أرم. معنى هذا كله: ما بها أَحد. ولا يقال منها شيء في الإثبات والإيجاب، وإنما يَقولونها في النَّفي والجَحْد.
اللقاء وأوقاته - منه: لَقِيت فلاناً أولَ عَين، يعني أولَ شيء. وقال أبو زيد: لقيتُه أولَ عائنة، ولقيتُه أوّلَ وَهْلة، ولقيته أولَ ذات يَدَيْنِ، ولقيته أولَ صَوْك وأولَ بَوْك. فإن لقيته فجأة من غير أن تُريده قلتَ: لَقِيته نِقَاباَ، ولَقِيتُه التقاطاً، إذا لَقِيتَه من غير طَلَب. وقال الراجز: ومَنْهل وردته التقاطاً وإن لقيته مُواجهة قلت: لَقيتُه صِفاحاً، ولقيتُه كِفاحاً، ولقيتُه كَفَةَ كَفةَ.
قال أبو زَيد: فإنْ عَرض لك من غير أن تذكُرَهُ قلت: رُفعِ لي رفعاً، وأشِبّ لي إشباباً. فإن لقيتَه وليس بينك وبينه أحدٌ قلتَ: لقيتُه صَحْرة بَحْرَة، وهي غيرُ مُجْراة. فإن لقيتَه في مكان قَفْر لا أنيسَ به قلتَ: لقيته بوحش إصْمتَ، غير مُجْرى أيضاً، ولقيته بين سَمع الأرْض وبصرَها. فإنْ لقيتَه قبل الفجر قلتَ: لقيتُه قبل " كل " صيْحٍ وَنَفْر. النفر: التفرق. وإن لقيتَه بالهاجرة قلت: لقيته صَكًةَ عُمَىّ " وصَكَة أعْمى " . قال: رؤبة يصف الفلاة إذ لمعت بالسراب في الهاجرة:
شبيه يَمٍّ بين عِبْرَيْن معاً ... صًكة أعمى زاخرٍ قد أتْرِعَا
فإن لقيتَه في اليومين والثلاثة قلت: لقيتُه في الفَرَط، ولا يكون الفَرَط في أكثر من خمس عشرة ليلة. فإن لقيتَه بعد شهر ونحوه، قلت: لقيته من عُفْر. فإن لقيتَه بعد الحول ونحوه قلت: لقيته عن هَجْر. فإن لقيتَه بعد أعوام قلت: لقيته ذات العُريم. فإن لقيته في الزمان قلت: لقيته ذات الزُمين. والغِبّ في الزيارة: هو الإبطاء فيها. والاعتمار في الزيارة: هو التردد فيها.
في ترك الزيارة - منه قولُهم: لا آتيك ما حنَّت النِّيبُ، وما أطَّت الإبل، وما اختلفت الدّرَة والجِرّة، وما اختلف المَلَوَان، وما اختلف الجديدان. ولا آتيك الشمس والقمرَ، وأبدَ الأبد؛ ويقال: أبد الآبدين، ودهْر الداهرين، وحتى يرجع السهمُ إلى فُوقه، وحتى يَرْجع اللبنُ في الضّرع. ولا آتيك سِنّ الحِسْل. تفسيره: النَيب. جمع ناب، وهي المُسنّة من الإبل. والدَرة: الحَلْبة من اللبن. والجرّة: من اجترار البعير. والملوان والجديدان: الليل والنهار. والحِسْل: هو ولد الضبّ. يقول: حتى تَسْقط أسنانه، ولا تسقط أبداً حتى يموت.
استجهال الرجل ونفي العلمِ " عنه " - منه قولهم: ما يعرف الحوَّ من اللوِّ. وما يعرف الحيّ من الليّ، ولا هَرِيراً من غرير، ولا قَبيلاَ من دَبير. وما يعرف أيَّ طَرَفَيْه أطرل وأكبر. وما " يعرف هِرّاً من بِرّ. أي ما " يعرف من يَهِرُّه ممن يَبَرّه. والقَبيل: ما أقبلتَ به من فَتل الحَبْل. والدَّبير: ما أدبرت " به " منه. وأيّ طرفيه أطول: أنسَبُ أبيه أم نسب أمّه.
أمثال مستعملة في الشعر - قال الأصمعي: لم أجد في شعر شاعر بيتاً أوّله مَثلٌ وآخرُه مَثل إلا ثلاثة أبيات، منها بَيْتٌ للحطيئة:
مَن يفعل الخيرَ لا يَعْدَم جَوَازِيَه ... لا يذهبُ العُرْف بين الله والناس
وبيتان لأمرئ القيس:
وأفلتهنَّ عَلبَاءٌ جَريضاً ... ولو أدْرَكْنَهُ صَفِرَ الوِطَابُ
وقاهم جَدُّهم ببني أبيهم ... وبالأَشْقَين ما كان العِقَابُ
ومثلُ هذا كثير في القديم والحديث، ولا أدري كيف أغفل القديمَ منه الأصمعيُّ. فمنه قولُ طرفة:
ستُبْدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ... وَيأتيكَ بالأخبار من لم تُزَوِّدِ
وفي هذا مثلان من أشرف الأمثال. ويقال إنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَمع هذا البيت فقال: إنَّ معناه من كلام النبوَة ومن ذلك قولُ الآخر:
ما كلفَ الله نفساً فوق طاقتها ... ولا تجود يدٌ إلا بما تَجِدُ
" ففي الصَّدْر مَثَل وفي العجز مَثَل " . ومن ذلك قولُ الحَسن بن هانئ:
أيها المُنتاب عن عُقُره ... لستَ من لَيْلي ولا سَمَرِه

لا أذودُ الطير عن شَجَر ... قد بلوتُ المُرّ من ثَمَره
إِنَّ العربَ تقول: انتاب فلان عن عقُره، أي تباعد عن أصله. لستَ من ليلي ولا سمره، مثلٌ ثانٍ. وليس في البيت الثاني إلا مثلٌ واحد. ومن قولنا في بيتٍ أوله مثلٌ وآخره مثل:
وقد صَرَح الأعداء بالبَينْ ... وأشرَقَ الصُّبْحُ لذي العَيْن
وبعده أبيات في كل بيتٍ منها مَثلَ، وذلك:
وعادَ مَنْ أهوَاه بعد القِلاَ ... شَقيقَ رُوحٍ بين جِسْمَيْن
وأصبَحَ الدَّاخل في بَيْننا ... كساقِطٍ بين فِرَاشين
قد ألبِسَ البِغْضَة ذا وذا ... لا يَصْلُحُ الغِمْدُ لسَيْفَينْ
ما بالُ من ليست له حاجةٌ ... يكون أنفْاً بذهن عَينين
ومن قولنا الذي هو أمثالٌ سائرة:
قالوا شبابك قد ولٌى فقلتُ لهمٍ ... هل من جديدٍ على كر الجديديْنِ
صِلْ من هوية وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصلٌ بين إلفين
واقطع حبائل خل لا تلائمه ... فربِّما ضاقت الدنيا على اثنينَ
وقلت بعد هذا في المدح:
فكّرْتُ فيك أَبَحْرٌ أنت أم قَمَرٌ ... فقد تَحَيَّر فِكْرِي بين هذَيْنِ
إنْ قلتُ بحراً وجدتُ البحرَ مُنْحَسراً ... وبحرَ جودك ممتَدَّ العُبَابيَنْ
أو قلتُ بدراً رأيتُ البدرَ مُنْتَقَصاً ... فقلت شتّان ما بين البُدَيْرَيْن
ومن الأمثال التي لم تأت إلاّ في الشعر أو في قليل من الكلام: من ذلك قول الشاعر:
تَرجو النجاةَ ولم تَسْلُك مَسالكهَا ... إنَّ السفينةَ لا تَجْري عَلَى اليَبَس
" وقال آخر:
متى تَنْقَضي حاجاتُ من ليس صابراً ... على حاجةٍ حتى تكون له أخرَى
قيل ولما بلغَ حاتماً قول المُتَلَمِّس:
وأَعلمُ عِلمَ صدقٍ غير َظنٍّ ... لَتَقْوَى الله مِنْ خيْر العَتَادِ
وحِفْظ المال أَيْسرُ من بُغَاه ... وسَيْر في البلاد بغير زاد
وإصلاح القَليل يَزيدُ فيه ... ولا يَبْقَى الكثير مع الفساد
قال: قَطَعَ الله لسانَه! يحمِل الناس على البُخْل؟ ألا قال:
لا الجودُ يًفْني المالَ قبلَ فَنَائه ... ولا البًخْلُ في مال الشَحِيح يزيدُ
فلا تَلْتَمِسْ مالاً بعيْش مُقَتِّرٍ ... لكلِّ غَدٍ رزقٌ يعود جديد
وقال غيرُه:
إذا كنتُ لا أعفُو عن الذَّنب من أخٍ ... وقلتُ: أُكافيه فأينَ التَّفاضُلُ
فإنْ أقطٍع الإخوَانَ في كلِّ عُسْرَةٍ ... بَقيتُ وحيداً ليس لي مَن أوَاصل
ولكنني أغْضي الجُفون على القَذَى ... وأصفَحُ عما رابني وأجَامِل
متى ما يَر ِبْني مِفْصَل فقَطَعْتُه ... بَقيتُ ومالي للنُهُوض مفاصِل
ولكنْ أداويه فإن صَحَّ سرني ... وإنْ هو أعياَ كان فيه التًّحاملُ
وقال:
يُديفُون لي سًمّاً وأسْقِيهمُ الحَيَا ... ويَقْرُونَني شَرّاً وشَري مُؤَخَّرُ
كأنِّي سَلبْتُ القومَ نُورَ عُيونهم ... فلا العُذرُ مقبول ولا الذَّنب يُغْفَر
وقد كان إحساني لهم غيرَ مَرّة ... ولكنّ إحسان البَغِيض مُكَفَّر
ولغيره:
لم يبق من طلب الغنى ... إلا التعرض للحتوف
فلاقبلن وإن رأي ... ت الموت يلمع في الصفوف
إني امرؤٌ لم أوت من ... أدب ولا حظٍ سخيف
لكنه قدرٌ يزو ... ل من القوي إلى الضعيف

كتاب الزمردة في المواعظ والزهد

قال أحمدُ بن محمّد بن عبد ربه: قد مضى قولُنا في الأمثال، وما تَفَنَنَّوا فيه على كلِّ لسان، ومع كلِّ زمان، ونحن نبدأ بعوْن اللهّ وتوفيقه، بالقَوْل في الزُهد ورجاله المشهورين به، ونذكر المُنْتَحَلَ من كلامهم، والمواعظَ التي وَعظت بها الأنبياء، واْسْتَخْلصها الآباءُ للأبناء، وجَرَت بين الحكماءِ والأدباء، ومَقاماتِ العُبَّاد بين أيدي الخلفاء. فأبلغ المواعظ كلِّها كلام الله تعالى الأعزّ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْه ولا من خَلْفه تنزيلٌ من حكيم حَميد. قال اللهّ تبارك وتعالى: " ادْعُ إلى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَة الْحَسَنَة " إلى آخر السورة. وقال جلّ ثناؤه: " كيْفَ تَكْفُرًونَ بالله وَكُنْتُم أَمْواتَاَ فَأَحْيَاكُمْ ثَم يُميتُكُمْ ثَمَّ يُحْيِيكُمْ ثَمّ إلَيْه تُرْجَعُون " وقال " أَوَلَمْ يَرَ الِإنْسَان أَنّا خَلقْنَاهُ مِنْ نُطْفةٍ فَإذَا هُوَ خصِيمٌ مبِين " إلى قوله: " عَلِيم " . فهذه أبلغُ الحُجَج وَأَحْكم المواعظ.
ثم مواعظُ الأنبياء صلواتُ الله عليهم، ثم مواعظُ الآباء للأبناء، ثمّ مواعظُ الحُكماء والأدباء، ثم مَقامات العُبّاد بي أيدي الخُلفاء. ثم قولهم في الزُّهد ورجاله المعروفين، ثم المَشْهورين من المنتَسِبين إليه. والموعظةُ ثقيلةٌ على السمع، مُحَرِّجة على النفس، بعيدة من القَبول، لاعتراضها الشًهوة، ومُضَادَّتها الهوى، الذي هو ربيع القَلْب، ومَرَاد الرُّوح، ومَرْبَع اللًهو، ومَسْرَح الأماني، إلا مَنْ وَعظه عِلْمُه، وأَرْشده قَلْبُه، وأَحْكَمَتْه تجْربته. قال الشاعر:
لَنْ تَرْجِعَ الأنْفًسُ عن غَيها ... حتى يُرى منها لها واعظ
وقالت الحكماء: السًعِيد مَن وعِظ بغيره، لاَ يَعْنُون مَن وَعظه غيرُه، ولكنْ مَن رأى العِبر في غيره فاتِّعظ بها في نفسه. ولذلك كان يقول الحَسَن: آقْدَعُوا هذه النفوس فإنها طُلَعة وحادثوها بالذِّكر، فإنها سريعة الدُثور، واعْصُوها فإنها إن أُطِيعت نَزَعَتْ إلى شَرَّ غاية. وكان يقول عند انقضاء مجلسه وختْم مَوْعظته: يا لها من موْعظة لو صادفت من القلوب حياةً. وكان ابن السماك يقول إذا فَرَغ من كلامه: أَلْسُنٌ تَصف، وقلوب تعرف، وأعمال تُخالَف. وقال يونُس بن عُبَيد: لو أُمِرْنا بالجزَع لَصَبرنا. يريد ثِقَل الموعظة على السْمع، وجُنوحَ النفس إلى مُخالفتها. ومنه قولهم: أَحَبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَا وقولهم: والشيءُ يُرْغَبُ فيه حين يَمْتِنعُ والموعظةُ مانعةٌ لك مما تَشْتهي، حاملٌة لك على ما تَكْرَه، إلا أن تلْقَاها بِسَمْع قد فَتقَتْه العِبْرة، وقلبٍ قدَحَتْ فيهِ الفِكْرَة، ونفس لها من عِلْمها زاجر، ومن عقلها رادع، فيُفْتَح لك بابُ التوبة، ويُوَضَحُ لك سبيلُ الإنابة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: حُفَّت الجنّة بالمكاره، وخُفَت النار بالشَهوات. يريد أنَ الطريقَ إلى الجنة احتمالُ المكاره في الدنيا، والطريقَ إلى النار ركوب الشَّهوات.
وخيرُ الموعظة ما كانت من قائل مخلص إلى سامعِ مُنْصِف. وقال بعضهم: الكلِمة إذا خَرَجَتْ من القلب وقعَتْ في القلب، وإذا خرَجَتْ من اللِّسَان لم تُجَاوز الآذان. وقالوا: ما أَحْسَن التاجَ! وهو على رأس المَلِك أَحْسَنُ، وما أَحسن الدُّرَّ! وهو على نَحر الفتاة أحسن، وما أحسنَ الموعظةَ! وهي من الفاضل التَّقِيّ أحسنُ وقال زياد: أيها الناسُ، لا يَمْنَعكم سوء ما تعلمون منّا أن تَنتَفعوا بأحْسَن ما تسمعون منّا قال الشاعر:
اعْمَل بقوْلي وَإنْ قَصَّرْتُ في عَمَلي ... يَنْفَعْكَ قَوْلِي ولا يضْرًرْكَ تَقْصِيري
وقال عبدُ الله بن عبّاس. ما انتفعَتُ بكلام أحدٍ بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتفعتُ بكلامٍ كتبَه إليّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه. كَتب إليّ: أمّا بعد، فإن المرءَ يَسره إدراكًُ ما لم يَكُن ليَفوتَه، ويسوءُه فَوْتُ ما لم يكن لِيُدْرِكه، فَلْيَكن سرورُك بما نِلْتَ من أمر آخرِتك، ولْيَكن أسفُك على ما فاتَك منها. وما نِلْتَ من أمرِ دُنياك فلا تكن به فَرِحاً، وما فاتك منها فلا تَأْسَ عليه جَزَعا، وليكن هَمُّك ما بعد الموت. ووقَفَ حكيم بباب بعض المُلوك، فَحُجب فتلطّف برُقْعة أَوْصَلَها إليه. وكتب فيها هذا البيت:

أَلم تَرَ أَنَّ الفَقْرَ يُرجى له الغِنَى ... وأَنَ الغِني يُخشى عليه من الفقرِ
فلمّا قرأ البيتَ لم يلبث أن انتعل وجَعل لاطئةً على رأسه وخرج في ثوْب فِضَال: فقال له: واللهّ ما اتّعظتُ بشيء بعد القرآن اتعاظي ببَيْتك هذا، ثمّ قضى حوائجه.

مواعظ الأنبياء
عليهم السلام
قال أبو بكر أبي شْبَة، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكفي أحدَكم من الدنيا قدرُ زادِ الرَّاكب. وقال صلى الله عليه وسلم: ابن آدم، اغْتنم خَمْساً قبل خمس: شبابَك قبل هَرمك، وصِحَّتك قبل سَقَمك، وغِناك قبل فَقْرك، وفَراغك قبل شُغْلك، وحياتَك قبل مَوْتك. عبد الله بن سلاًم قال: لما قَدِم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتيتُه، فلمّا رأيتُ وجهه عَلمْتُ أنّه ليس بوجِه كذّاب، فسمعتُه يقول: أيها الناسُ، أطعِموا الطعامَ وأَفْشوا السلامَ، وصلُوا والناسُ نيام.
وقال عيسى بنُ مرْيِمِ عليه السلام: أَلا أُخْبِركم بخيركم مُجالسةً؟ قالوا: بلى يا رُوح الله؛ قال: مَن تُذكركم باللهّ رؤيتُه، ويَزيد في عَمَلكم مِنْطِقُه، ويَشُوقكم إلى الجنة عملُه. وقال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: ويلكم يا عَبيد الدُّنيا! كيف تُخالف فروعُكم أصولَكم، وأهواؤكم عقولَكم، قولُكم شِفاءٌ يبرئ الداء وَفِعْلكُم داء لا يقبلُ الدواء، لستُم كالكَرْمَة التي حَسُنَ وَرَقها، وطابَ ثَمَرُها، وَسَهُل مُرْتَقاها، ولكنكم كالسَّمُرهَ التي قَلّ وَرَقُها، وكثر شَوْكها، وصَعُب مُرْتقاها. ويلكم يا عَبيدَ الدنيا! جعلتم العملَ تحت أقدامكم، من شاءَ أخذَه، وجعلتم الدنيا فوق رؤوسكم، لا يمكن تناوًلها، فلا أنتم عبيدٌ نُصحاء، ولا أحرارٌ كِرام. ويلكم يا أُجَرَاءَ السَّوْء! الأجْر تأخذون، والعملَ تفْسِدون، سوف تَلْقَوْن ما تحذَرون، إذا نظر ربُّ العمل في عَمَلِه الذيٍ أفسدتُم، وأجرِه الذي أخذتُم. وقال عليه السلام للحواريين: اتخذوا المساجِدَ بُيُوتاً، والبيوتَ منازلَ، وكُلُوا بَقْل البرّيّة، واشربوا الماءَ القَرَاح، وانجُوا من الدنيا سالمين. وقال عليه السلام للحواريّيِن: لا تنظُروا في أعمال الناس كأنكم أَرْباب، وَانظروا في أعمالكم كأنكم عَبيد، فإنما الناسُ رجلان: مُبْتَلًى ومُعافي، فارحموا أهلَ البلاء، واحمدَوا الله عَلَى العافية. وقال عليه السلامُ لهم أيضاً: عجَباً لكم تَعْملُون لِلدُّنيا، وأنتم تُرزقون فيها بلا عَمل، ولا تَعملون للآخرة وأنتم لا تُرْزَقون فيها إلا بعمل.
وقال يحيى بن زكريا عليه السلام للمُكَذِّبين من بني إسرائيل: يا نَسْلَ الأفاعي، من دلَكم على الدخول في مَساخط الله المُوبقة لكم، ويلكم! تَقرًبوا بِعَمَل صالح، ولا تَغُرَّنَّكم قرابتكم من إبراهيم " عليه السلام " ، فإن الله قادر على أن يَسْتخرج من هذه الجنادِل نَسْلاً لإبراهيم. إن الفأس قد وُضِعَتْ في أصول الشجر، فأَخْلِق بكلِّ شَجَرَة مُرَّة الطَّعم أن تًقْطع وتُلقى في النار.
وقال شَعْيَاء لبنىِ إسرائيل إذ أنطق الله لسانه بالوَحي: إن الدابّة تَزْداد على كثرة الرِّياضة لِيناً، وقُلوبَكم لا تَزداد على كثرة المَوْعظة إلاّ قَسْوة، إنّ الجَسد إذا صلَح كفاه القليلُ من الطَّعام، وإنِّ القَلْب إذا صَحَّ كَفاه القليلُ من الحِكْمة. كم من سِرَاج قد أَطْفَأَتْه الرِّيح، وكم من عابدٍ قد أفسده العُجْب. يا بني إسرائيل، اسمعوا قولي، فإنّ قائلَ الحِكمة وسامعَها شريكان، وأَوْلاهما بها مَن حقَّقها بعمله.
وقال المسيحُ عليه السلام: إنَ أَوْليَاء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحْزنون، الذين نَظَروا إلى باطن الدُّنيا إذ نَظر الناسُ إلى ظاهرها، وإلى اجلها إذ نَظروا إلى عاجلها، فأماتُوا منها ما خَشُوا أن يُمِيتهم، وتركوا ما علموا أن سَيَترْكهم، هم أعداء لما سالم الناسُ، وسَلْم لما عادى الناسُ، لهم خبرٌ، وعندهم الخبر العجيب، بهم نَطَق الكِتابُ وبه نَطقوا، وبهم عُلِم الهُدى وبه عُلِمُوا، لا يَرَوْنَ أماناً دون ما يَرْجون، ولا خَوْفاً دون ما يَحْذَرُون.

وَهْب بن مُنَبِّه: قال " قال " داودُ عليه السلام: يا رب، ابن آدم ليس منه شَعَرة إلا وتحتها لك نِعْمة وفوقها لك نِعْمة، فمَن أيْن يُكافئُك بما أعطيتَه؟ فأوْحى الله إليه: يا داود، إني أًعطي الكثير، وأَرْضى من عبادي بالقليل، وأَرْضى من شُكْر نِعْمتي بأن يعلم العبدُ أن ما به من نِعْمة فمن عندي لا من عِنْد نفسه.
ولمّا أمر الله عزً وجلَّ إبراهيم عليه السلامُ أن يَذبح ولده ويجعلَه قُرْباناً، أَسرَّ بذلك إلى خليل لهُ يقال له العازر، وكان له صديقاً، فقال له الصديق: إن الله لا يَبْتلى بمثل هذا مِثْلَك، ولكنه يريد أن يختَبِرك أو يَخْتبر بك، وقد علمتَ أنه لا يبتليك بمثل هذا لِيَفْتنك، ولا ليُضلك ولا ليُعْنتك، ولا ليَنْقُصَ به بصيرَتك وإيمانَك ويَقينك، فلا يَرُوعَنّك هذا، ولا يَسُوأَنَ بالله ظنك، وإنما رَفع الله اسمك في البلاء عنده على جميع أهل البلايا، حتى كنت أعظمَهم مِحْنة في نفسك ووَلدك، لِيَرْفعك بقَدر ذلك في المنازل والدرجات والفَضَائل، فليس لأهل الصبر في فضيلة الصَبر إلا فضلُ صبْرك، وليس لأهل الثواب في فضيلة الثواب إلا فضلُ ثوابك، وليس هذا من وُجوه البلاء الذي يَبْتلي الله به أولياءه، لأنّ الله أكرمُ في نفسه وأعدل في حكمه وأَرْحم بعباده من أن يجعل ذبح الولد الطيب بيد الوالد النبي المُصْطفي، وأنا أعوذ باللّه أن يكون هذا منّي حتْماً على الله أو ردَّاً لأمره أو سُخطاً لِحُكمه، ولكنْ هذا الرَّجاء فيه والظنُّ به، فإن عَزَم ربُّك على ذلك فكُنْ عند أَحْسَن علمه بك، فإني أعلمُ أٍنه لم يُعرِّضك لهذا البلاء الجَسيم والخَطْب العظيم إلا لحُسْن عِلْمه بك وصِدْقك وتَصَبرك، ليجعلك إماماً، ولا حَوْل ولا قوّة إلاّ باللهّ العليّ العظيم.

من وحي الله تعالى إلى أنبيائه
أَوْحى الله عزّ وجلّ إلى نبيّ من أنبيائه: إنّي أنا اللهّ مالكُ المُلوك، قلوبُ المُلوك بيديِ، فمَن أطاعني جعلتُ الملوكَ عليهم رحمةً، ومَن عَصاني جعلتُ الملوك عليهم نِقْمةَ. ومما أنزل اللَهُ على المسيح " عليه السلام " في الإنجيل: شَوَقناكم فلم تشتاقوا، ونُحْنا لكم فلم تبكوا. يا صاحبَ الخمسين، ما قدَمْتَ وما أَخّرْت؟ ويا صاحبَ السِّتين، قد دنا حَصادُك؛ ويا صاحبَ السَبْعين، هلمّ إلى الحِساب. وفي بعض الكُتب القديمة المنزّلة: يقول الله عزّ وجل يومَ القيامة: يا عِبادي، طالما ظَمِئتم؛ وتقلَّصت في الدنيا شِفاهُكم، وغارت أعينكم عطَشاً وجُوعاً، فكُلُوا واشربوا هَنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. وأوحْى الله تعالى إلى نبيّ من أنبيائه: هَبْ لي من قلْبك الخُشوع، ومن نَفْسك الخضوع، ومن عَينيْك الدموع، وسَلْني فأنا القريب المجيب. وفي بعض الكتب: عَبْدي، كم أتحبّب إليك بالنِّعم وتَتبغَّض إلي بالمَعاصي! خَيْري إليك نازل، وشرُّك إليّ صاعد. وأوْحى الله إلى نَبيّ من أنبيائه: إن أردتَ أن تَسكن غداً حظيرةَ القُدْس فكُنْ في الدنيا فريداً وحيداً، طريداً مهموماً حزيناً، كالطير الوُحْدانيّ يَظَلّ بأرض الفَلاة ويَرِدُ ماء العيون، ويأكل من أطراف الشجر، فإذا جَنَّ عليه الليلُ أَوَى وحدَه استيحاشاَ من الطير، واستئناساً بربه.
ومما أوحى الله إلى موسى في التوراة: يا موسى بن عمران يا صاحبَ جبل لُبْنان، أنت عَبْدي وأنا الملك الديّان، لا تستذلَّ الفقيرَ، ولا تَغْبِط الغَنيّ " بشيء يسير " ، وكُن عند ذكْرى خاشعاً، وعند تلاوة وَحْيي طائعاً، أسْمِعني لذاذةَ التوراة بصوت حزين. وقال وَهْبُ بن مُنَبِّه: أوحي اللهّ إلى موسى عند الشجرة: لا تُعْجبك زينةُ فِرْعون، ولا ما مًتِّع به، ولا تَمُدَّنْ إلى ذلك عينَك؛ فإنها زهرة الحياة الدنيا، وزينةُ المترَفين؛ ولو شئتُ أن أُوتيك زينة يَعْلِم فرْعون حين ينظر إليها أنّ مقْدِرَتَه تعجِزُ عنها فعلتُ، ولكني أرغبتُك عن ذلك، وأَزْوَيْته عنك؛ فكذلك أفعل بأوليائي، إني لأذودهم عن نعيمها ولذاذتها كما يذًود الراعي الشفيقُ غَنَمه عن مراتع الهَلَكة، وإني لأحمِيهم عيشَها وسَلْوَتها، كما يَحْمِي الراعي ذَوْده عن مَبَارك العُرّ.

وذُكر عن وَهْب بن مُنَبّه: أنّ يوسف لما لَبِثَ في السجن بِضْع سنين أرسل اللهّ جبريلِ إليه بالبِشارة بخروجه، فقال: أما تَعْرِفُني أيها الصدِّيق؟ قال يوسف: أرى صورةَ طاهرة ورُوحاً طيِّباً لا يُشبِه أرواح الخاطئين؛ قال جِبْريلُ: أنا الرُّوح الأمين، رسولُ ربّ العالمين؛ قال يوسف: فما أَدْخلك مَداخل المُذْنبين، وأنت سيِّد المُرسلين، ورأسُ المُقَرَّبين؟ قال: ألم تَعلم أيها الصِّدَيق أن الله يُطَهَر البيوت بطُهْر النبيين، وأن البُقعة التي تكون فيها هي أطهرُ الأرَضين، وأَنّ الله قد طهَر بك السجن وما حوله يا بن الطّاهرين؟ قال يوسف: كيف تُشَبهني بالصالحين، وتسميني بأسماء الصادقين، وتَعُدُني مع آبائي المُخلصين، وأنا أسير بين هؤلاء المجرمين؟ قال جبريل: لم يَكْلَم قلبك الجَزْع ولم يغير خلقك البَلاء، ولم يَتعاظَمْكَ السجن، ولم تَطَأْ فراشَ سيّدك، ولم يُنْسك بلاء الدُّنيا الاخرة، ولم يُنْسك بلاء نفسك أباك، ولا أبوك ربك، وهذا الزَّمان الذي يَفُك الله فيه عُنُقك، وَبعتِق فيه رَقَبتك، ويبين للناس فيه حِكْمَتَك، ويُصَدِّق رؤياك، ويُنْصفك ممن ظَلمك، ويجمع لك أَحِبَّتك، ويهَب لك مُلْك مصر، تملك ملوكها، وتُعَبِّد جبابرتها، وتُصَغر عظماءها، وُيذِلُّ لك أَعِزَتها، ويُخْدِمُك سُوقَها، ويُخَوَلك خَوَلَها، ويرحم بك مساكينَها ويُلْقي لك المودّة والهيْبة في قلوبهم، ويجعل لك اليد العُليا عليهِم، والأثَر الصالح فيهم، ويُرى فرعونَ حُلْماً يفزَعُ منه حتى يسهرَ ليلَه، ويُذْهبَ نوْمَه، ويُعَمَي عليه تفسيرَه وعلى السَّحَرة والكهنة، ويُعَلِّمك تأويلَه.

مواعظ الحكماء
قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وَجْهَه: أُوصيكمِ بخَمس لو ضرَبتم عليها آباط الإبل لكان قليلاً: لا يَرْجًوَن أحدكم إلا ربّه، ولا يخافنَ إلا ذنبه، ولا يستحي إذا سُئل عما لا يَعلم أن يقول: لا أعلم. وإذا لم يعلم الشيء أن يتعلّمه واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قُطع الرأس ذهب الجسد. وقال أيضاً: من أراد الغِنَى بغير مال، والكثرةَ بلا عَشية، فليتحوَّل من ذُلِّ المَعصية إلى عزِّ الطاعة " أبى الله إلا أن يُذِلّ مَن عصاه. وقال الحسنُ: مَن خاف اللهّ أخاف اللهّ منه كل شيء، ومن خاف الناسَ أخافه الله من كل شيء.
وقال بعضُهم: من عَمِلَ لأخرته كَفَاه الله أمرَ دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح اللهّ ما بينه وبين الناس، ومَن أخلص سريرتَه أخلص الله علانيَته. قال العُتْبيّ: اجتمعت العربُ والعجم على أربع كلمات: قالوا: لا تَحْملنّ على قلبك مالا يُطِيق، ولا تعملنَّ عملاَ ليس لك فيه مَنْفعة، ولا تَثِقْ بامرأة، ولا تغتر بمال وإن كثُر.
وقال أبو بكر الصدِّيق لعُمَر بن الخطّاب رضي الله عنهما عند مَوته حين استخلْفه: أُوصيك بتقوى الله، إن للّه عملاً بالليل لا يَقْبَلُه بالنهار، وعملا بالنهار لا يَقْبَله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تُؤَدَّى الفرائض، وإنما ثَقُلَتْ موِازين مَن ثقُلت موازينهم يومَ القيامة باتباعهم الحقّ وثقَلِه عليهم، وحُقّ لميزانٍ لا يُوضعِ فيه إلا الحقُّ أن يكون ثقيلا، وإنما خَفّت موازينُ من خَفّت موازينهم يومَ القيامة باْتباعهم الباطل في الدُّنيا وخِفّته عليهمِ، وحُقِّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً، وإن الله ذَكَر أهلَ الجنَّة فَذكَرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوَزَ عن سيئاتهم؛ فإذا سمعتَ بهم قُلْت: إني أخاف أن لا أكون من هؤلاء؛ وذكرَ أهل النار بأقبح أعمالهم، وأمسك عن حَسَناتهم، فإذا سمعتَ بهم قلتَ: أنا خيرٌ من هؤلاء، وذكر آية الرّحمة مع آية العذاب ليكونَ العبدُ راغباً راهباً لا يتمنى على الله غيرَ الحق. فإذا حفظت وصيَّتي فلا يكون غائبٌ أحبَّ إليك من الموت، وهو آتيك؟ وإن ضيّعْت وصيَّتي فلا يكون غائبٌ أكرَه إليك من الموت، ولن تُعْجزه.

ودخل الحسن بن أبي الحسن على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه، فرآه يُصَوِّب بصره في صُندوق في بيته وُيصَعِّده، ثم قال: أبا سَعِيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أُؤَدِّ منها زكاةً، ولم أصِل منها رَحِماً؟ قال: ثَكِلَتْكَ أُمك، ولمن كنتَ تَجْمعها؟ قال: لرَوْعة الزِمان، وجَفْوة السلطان، ومُكاثرة العَشيرة. قال: ثم مات، فشَهده الحسنُ، فلما فَرَغ من دَفْنِه، قال: انظروا إلى هذا المِسكين، أتاه شيطانُه فحذّره رَوْعة زَمانه، وجفوة سُلطانه، ومُكاثرة عشيرته، عما رزقه اللهّ إياه وغَمره فيه، انظروا كيف خرج منها مَسْلوباً محروباً. ثم التفتَ إلى الوارث فقال: أيها الوارث، لا تُخْدَعَنّ كما خُدِعَ صوَيْحبك بالأمس، أَتاك هذا المال حلالاً، فلا يكونن عليك وبالا، أتاك عفواً صفواً، ممن كان له جمُوعا مَنُوعا، من باطل جَمَعه، ومن حقً مَنَعه، قطع فيه لُجَجَ البِحار، ومفاوِزَ القِفار، لم تَكْدح فيه بِيَمين، ولم يَعْرَق لك فيه جَبين. إِنّ يوم القيامة يوم ذو حَسَرَات، وإن من أعظم الحسرات غداً أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيالها عَثَرة لا تُقال، وتوبة لا تُنال.
ووعظَ حكيم قوماً فقال: يا قوم، استَبْدِلوا العَوَارِيَ بالهِبات تَحْمَدوا العُقْبَى، واستقْبِلوا المصائب بالصَبْر تستحِقُّوا النُّعْمَى، واستَدِيموا الكَرَامة بالشُّكر تَسْتَوْجبوا الزِّيادة، واعرفوا فَضْل البَقاء في النِّعمة، والغِنَى في السلامة، قبل الفِتْنَة الفاحِشةِ، والمَثُلة البينة، وانتقال العَمَل، وحُلول الأجَل، فإنما أنتم في الدُّنيا أَغراض المَنايا، وأَوطان البلايا، ولن تنالوا نِعْمَة إلا بِفِراق أُخرى، ولا يَسْتقبل مُعَمَّر مِنكم يوماً من عُمره إلا بانتقاص آخرَ من أجله، ولا يَحيا له أَثر إلا مات له أَثر. فأنتم أعوان الحُتُوف على أنفسكم، وفي معايشكم أسبابُ مَنَاياكم، لا يَمنعكم شيء منها، ولا يَشْغَلكم شيء عنها. فأنتم الأخْلاف بعد الأسلاف، وستكونون أَسلافاً بعد الأخلاف. بكل سبيل منكمِ صَرِيعٌٍ مُنْعَفر، وقائم يَنْتظر، فمن أيّ وجه تَطْلُبون البَقَاء وهذان الليلُ والنهِارُ، لم يرْفعا شيئا قَطّ إلا أسرَعا الكرَّة في هَدْمه، ولا عقدا أَمراً قطُّ إلاَّ رَجَعا في نقضه.
وقال أبو الدَّرْداء: يا أَهل دمَشق، مالكم تَبْنون مالا تسكنون، وتأمُلون ما لا تُدرِكون، وتَجمعون ما لا تأكلون، هذه عادٌ وثمود قد مَلَئُوا ما بين بُصْرَى وعَدَن أموالاً وأولاداً، فمن يَشْتري مني ما تركوا بدرهمين؟ وقال ابن شُبْرُمَة: إذا كان البَدَن سقيماً لم يَنجع فيه الطعام ولا الشراب، وإذا كان القلب مُغْرَماً بِحُبّ الدنيا لم تَنْجِع فيه الموعظة. وقال الرًبيع بن خُثَيم: أَقْلِل الِكلام إلا من تِسع: تكبيرِ وتهليل وتسْبيح وتَحْمِيد وسؤالِكَ الخير وتَعَوّذِك من الشرّ وأمرِكَ بالمعروف ونهْيِكَ عن المُنْكر وقراءتك القرآن.
قال رجل لبعض الحًكماء: عِظْني. قال: لا يَراك اللهّ بحيث نَهَاك، ولا يَفْقِدك من حيثُ أمرَك. وقيل لحكيم: عِظْني. قال: جميعُ المواعظ كلّها مُنتظمة في حرف واحد؟ قال: وما هو؟ قال: تُجْمِع على طاعة اللّه، فإذا أنت قد حَوَيت المواعظ كُلَّها. وقال أبو جعفر لسُفْيان عِظْني. قال: وما عَمِلتَ فيما عَلِمْتَ فأعِظَك فيما جهلتَ؟. قال هارون لابن السمّاك: عِظني. قال: كفي بالقرآن واعظاً؛ يقول الله تبارك وتعالى: " ألمْ تر كيفَ فَعَلَ رَبكَ بِعَاد. إرَمَ ذَاتِ العِماد التي لمْ يُخْلَق مثلُها في البِلاد " . إلى قوله " فصَّبّ عليهم ربك سَوْط عَذَاب. إنَّ ربك لبَالمِرْصاد " .

مكاتبة جرت بين الحكماء
عَتَبَ حَكيمٌ على حكيم، فَكَتَبَ المَعْتُوبُ عليه إلى العاتب: يا أخي، إنّ أيام العُمْر أقصرُ من أن تحتمل الهَجْر. فَرَجع إليه.
وكتب الحسنُ إلى عُمَر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكُن، وبالآخرة لم تَزَل. والسلام. وكتب إليه عُمر: أما بعد، فكأنّ آخر من كُتِبَ عليه الموت قد مات، والسلام.

ابن المُبارك قال: كتب سَلْمان الفارسيّ إلى أبي الدّرداء: أما بعد، فإنك لن تنال ما تُريد إلا بترْكِ ما تشتهي، ولن تنال ما تأمُل إلا بالصَّبر على ما تَكْره. فَلْيكُن كلامُك ذِكْراً، وصَمْتك فِكْرا، ونظرك عِبَرا، فإنّ الدُّنيا تتقلب، وبهجتها تتغيَّر، فلا تغترّ بها، وليكن بيتُك المسجدَ، والسلام. فأجابه أبو الدَّرداء: سلامٌ عليك، أما بعد، فإنِّي أُوصيك بتَقْوَى اللّه، وأن تأخذ من صِحَّتِك لِسَقَمِك، ومن شبابك لهِرَمك، ومن فراغك لِشُغلك، ومن حياتك لمَوْتك، ومن جَفائك لمودَّتك، واذكر حياةً لا موتَ فيها في إحدى المنزلتين: إما في الجنة، وإما في النار، فإنك لا تَدْري إلى أيهما تَصير.
وكتب أبو موسى الأشعريّ إلى عامر بن عبد القَيْس: أما بعد، فإني عاهدتُكَ على أمر وبَلغني أنك تغيَّرت، فإن كنتَ على ما عَهِدْتُك فاتق الله ودُمْ، وإن كنتَ على ما بلغني فاتّقِ الله وعُدْ.
وكتب محمد بن النَّضر إلى أخِ له: أما بعدُ، فإنك على مَنْهج، وأمامك منزلان لا بدلك من نُزول أحدهما، ولم يَأتِك أمانٌ فتَطْمَئنَّ، ولا براءة فتتَّكل.
وكتب حكيم إلى آخر: اعلم حَفِظك اللّه، أنّ النفوس جُبِلت على أخذ ما أُعْطِيتْ وَمَنْع ما سُئِلتْ، فاحْمِلها على مَطيّة لا تُبطىءُ إذا رُكبت، ولا تُسْبَق إذا قُدِّمَتْ، فإنما تحفظا لنفوسُ على قدْر الخوف، وتَطْلُب على قَدْرِ الطمع، وتطْمَع على قدر السبب. فإذا استطعت أن يكون معك خَوْف المُشْفِق وقناعة الرّاضي فافعل.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجاء بن حَيْوة: أما بعد، فإنه مَن أكثر من ذِكْر الموت اكتفى باليَسِير: ومن عَلِمَ أن الكلامَ عملٌ قلَّ كلامهُ إلا فيما يَنْفَعه. وكتب عمر بن الخطّاب إلى عُتبة بن غزوان عامِله على البَصْرة: أما بعد، فقد أصبحتَ أميراً تقول فيُسمع لك، وتأمر فينفّذ أمرُك، فيالها نعمةً إن لم تَرْفعك فوق قَدْرك، وتُطْغِك على مَن دونك، فاحترَس من النِّعمة أشدّ من احتراسك من المُصيبة، وإياك أن تَسْقُطَ سَقْطَة لا لعاً لها - أي لا إقالة لها - وتَعْز عَثْرة لا تُقالها، والسلام.
وكتب الحسن إلى عمَر: إن فيما أمرك الله به شُغلا عما نهاك عنه، والسلام.
وكتب عمرُ بن عبد العزيز إلى الحسن: اجمع لي أَمْر الدنيا وصِفْ لي أَمرَ الآخرة. فكتب إليه: إنما الدُّنيا حُلْم والآخرة يَقَظَة والموت متوسِّط؛ ونحن في أضغاث أحْلام، من حاسَبَ نَفْسَه ربح، ومن غَفلَ عنها خَسِر، ومن نَظر في العواقِب نَجَا، ومن أطاعَ هواه ضَلَّ، ومن حَلُم غَنِم، ومن خافَ سَلِمَ، ومن اعتبر أَبْصَرَ، ومن أبصرَ فَهِمَ، ومن فَهِمَ عَلِمَ، ومن عَلِم عَمِلَ، فإذا زَلَلْتَ فارْجعِ، وإذا نَدِمْتَ فأَقْلِع، وإذا جَهِلْت فاسأل، وإذا غَضِبْتَ فأمْسِك، واْعلم أن أفضل الأعمال ما أُكْرِهَت النفوس عليه.

مواعظ الآباء للأبناء
قال لُقمانُ لابنه: إذا أتيت مجلسَ قومٍ فاْرمهِمْ بسَهْم السلام ثم اجلس، فإن أفاضوا في ذِكر اللهّ فأَجِلْ سَهمْك مع سِهامهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فَتَخَلَّ عنهم وانهض. وقال: يا بني، استَعِذ باللّه من شِرَار الناس وكُنْ من خِيارهم على حَذَر. ومثلُ هذا قولُ أكثَم بن صَيْفي: احذر الأمين ولا تأتمن الخائن، فإنّ القُلوب بيد غيرك. وقال لُقمان لابنه: لا تركنْ إلى الدنيا، ولا تَشْغَل قلبك بها، فإِنك لم تُخْلَق لها، وما خَلَق الله خَلْقاً أهون عليه منها، فإنه لم يجعل نعيمَها ثواباً للمُطيعين، ولا بلاءَها عُقوبة للعاصين. يا بني، لا تضحك من غير عجب، ولا تَمْش في غير أرب، ولا تسأل عما لا يَعْنيك. يا بني، لا تُضَيِّع مالَك وتُصلِحْ مالَ غيرك، فإنّ مالَك ما قدَّمت، ومالَ غيرك ما تركت. يا بني، إنه من يَرْحم يُرْحَم، ومن يَصْمُت يَسْلم، ومن يَقُل الخير يَغْنَم، ومَنْ يقُل الباطل يأثَم، ومن لا يملك لِسانَه ينْدم. يا بني، زاحم العلماء برُكْبتَيْك، وأنصت إليهم بأًذنَيك، فإِنّ القلب يَحيا بنُور العُلماء كما تحيا الأرض المَيتة بمطر السماء.

وقال خالدُ بن صَفْوان لابنه: كُن أحسنَ ما تكون في الظاهر حالاً، أقلّ ما تكون في الباطن، مآلاً، ودَعْ من أعمال السرِّ مالا يَصْلُح لك في العلاَنِيَة. وقال أعرابي لابنه: يا بني، إنه قد أَسْمَعك الدَّاعي، وأعذر إليك الطالب، وانتهى الأمرُ فيك إلى حَدّه، ولا أعرِفُ أعظمَ رزيّة ممن ضَيَّعَ اليقين وأَخْطأه الأمَلً. وقال عليًّ بن الحسين لابنه، وكان من أفضل بني هاشم: يا بني، اصبر على النّوِائب، ولا تَعرّض للحُتوف، ولا تًجبْ أخاك من الأمر إلى ما مَضرّتُه عليك أكثر من مَنْفعَته لك. وقال حكيم لبنيه: يا بني، إياكم أن تكونوا بالأحداث مُغْتَرين، ولها آمنين، فإني واللّه ما سَخِرْت من شيء إلا نزل بي مثله، فاحذَروها وتوقَّعوِها، فإنما الإنسان في الدُّنيا غرَضٌ تَتَعاوره السِّهام، فمُجَاوزٌ له ومُقصِّر عنه وواقعٍ عن يمينه وشماله، حتى يُصيبه بعضها؛ واعلموا أن لكل شيء جرَاءَ ولكل عمل ثواباً. وقد قالوا: كما تَدِين تُدَان، ومن بَرِّ يوماً بُرَّ به. وقال الشاعر:
إذا ما الدَّهر جرَّ على أُناس ... حوادثَه أناخَ بآخَرِينَا
فقُلْ للشّامتين بنا أَفيقوا ... سَيَلقى الشامِتون كما لقِينا
وقال حكيم لابنه: يا بني، إني مُوصيك بوصيّة، فإن لم تحفظ وصيتي عنّي لم تَحْفَظها عنِ غيري: اتّق الله ما استطعتَ، وإن قَدَرْت أن تكون اليومَ خيراً منك أمس وغداً خيراَ منك اليومَ فافعل، وإياك والطمعَ فإنه فَقْرٌ حاضِر، وعليك باليأسِ فإنك لن تيأسِ من شيء قطُّ إلا أغناك اللهّ عنه، وإياك وما يُعْتَذر منه فإنك لن تَعْتذر من خير أبداَ، وإذا عَثر عاثر فاحمد اللهّ أن لا تكون هو. يا بني، خذِ الخيرَ من أهله، ودع الشرً لأهله، وإذا قُمتَ إلى صَلاتك فَصلِّ صلاة مُوَدع، وأنت ترَى أن لا تُصَلِّي بعدها " أ بداَ " .
وقال عليًّ بن الحُسن عليهما السلام لابنه: يا بني، إن الله لم يَرْضَك لي فأَوْصاك بي، ورَضيَنى لك فَحَذّرَني منك، واعلم أَنّ خيرَ الآباء للأبناء مَن لم تَدْعًه المودة إلى التفريط فيه، وخيرَ الأبناء للآباء منِ لم يَدْعُه التقصيرُ إلى العُقوق له. وقال حكيم لابنه: يا بني، إن أشدَّ الناس حسرةً يومَ القيامة رجلٌ كَسَب مالاً من غير حِلّه فأدخله النارَ، وأوْرَثه مَنْ عَمِل فيه بطاعة الله فأدخله الجنة.
عَمْرو بن عُتْبَة قال: لما بلغتُ خمسَ عشرةَ سنة قال لي أبي: يا بني، قد تَقَطعَتْ عنك شرائع الصِّبَا فالزَم الحياء تكن منِ أهله، ولا تُزَايِلْه فَتَبِين منه، ولا يَغُرَّنك من اغترَّ بالله فيك فمَدحك بما تعلم خلافه من نفسك، فإنه من قال فيك من الخير ما لم يعْلَم إذا رَضي، قال فيك من الشرّ مثلَه إذا سَخِط. فاستأنس بالوُحْدَة من جُلساء السَّوء ِتَسْلَم من غِبّ عواقبهم.
وقال عبد الملك بنُ مَرْوَان لبَنيه: كُفّوا الأذى، وابذُلوا المعرِوف، واعْفوا إذا قَدَرْتم!، ولا تَبْخَلوا إذا سئلتم، ولا تُلْحِفوا إذا سألتم، فإنه من ضيّق ضُيِّق عليه، ومن أعطى أخْلَفَ اللهّ عليه. وقال الأشعثُ بن قيس لبنيه: " يا بني " ، " لا " تَذِلُّوا في أعراضكم، وانخدعوا في أموالكم، ولتَخِفَّ بُطونُكم من أموال الناس، وظًهوركم من دمائهم، فإنّ لكلِّ امرىء تَبِعة؛ وإياكم وما يُعتَذر " منه " أو يُستحى، فإنما يُعتذر من ذنب، ويستحى من عَيب؛ وأصْلِحوا المالَ لجفوة السُّلطان وتَغيُّر الزمان، وكُفُّوا عند الحاجة عن المسألَة، فإنه كَفي بالردّ مَنْعا، وأجملُوا في الطلب حتى يوافق الرِّزْق قدَرا، وامنعوا النساءَ من غير الأكفاء، فإنكم أهلُ بَيْت يتأسىّ بكم الكريمُ، ويتشرَف بكم اللئيم؛ وكونوا في عوامّ الناس ما لم يَضْطرب الحبْلُ فإذا اضطرب الحبلُ، فالحقوا بعشائركم.
وكتب عمرُ بن الخطّاب إلى ابنه عبد الله في غَيْبة غابها: أمَّا بعد، فإنّ مَنِ اتقى اللّه وَقاه، ومن اتْكل عليه كفاه، ومن شكَرَ له زاده، ومن أقْرَضه جَزاه؛ فاجعل التًقوى عِمارة قلبك وجَلاءَ بَصرك، فإنه لا عمَل لمن لا نِيَّة له، ولا خيرَ لمن لا خَشْيَة له، ولا جديد لمن لا خلق له.

وكتب عليُّ بن أبي طالب إلى وَلده الحَسن عليهما السلام: من عليّ أمير المؤمنين الوالدِ الفان، المقرّ للزَّمان، المًستَسْلم للحَدَثان: المُدْبر العُمر، المُؤمّل ما لا يُدْرك، السالك سبيلَ مَن قد هَلَك، غرَض الأسقام، ورهينة الأيّام، وعبْد الدنيا، وتاجر الغُرور، وأسير المنَايَا، وقرين الرَّزايا، وصريع الشهوات، ونُصْب الآفات، وخليفة الأموات، أما بعد، يا بني، فإن فيما تَفكرَّت فيه من إدبار الدُّنيا عني، وإقبال الآخرة إليّ، وجُموح الدهر علىّ، ما يُرَغِّبنى عن ذكر سوايِ، والاهتمام بما ورائي، غيرَ أنه حين تفرّد بي همّ نفسي دون همّ الناس، فَصدَقني رأي " وصرَفني عن هواي " ، وصرزَح بي مَحْضُ أمري، فأَفْضىَ بي إلى جِدٍّ لا يُزْري به لَعِب، وصِدْق لا يَشو به كَذِب، وَوَجَدْتُك يا بُنيّ بَغضي، بل وجدتُك كُلِّي، حتى كأنّ شيئاً لو أصابك لأصابني، وحتى كأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعند ذلك عَنَاني من أمرك ما عَنَاني من أمر نَفْسي. كتبتُ إليك كتابي هذا يا بُني " مُستظهراً به " إن " أنا " بَقِيت " لك " أو فَنِيت، فإني مُوصيك بتقوى الله وعِمَارة قلبك بذكره، والاعتصام بحَبْله، فإنَّ الله تعالى يقول: " وَاْعْتَصِمُوا بِحَبْل الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَأذْ كُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءَ فألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً " وأيُّ سبب يا بُني أوْثق من سبب بينك وبين الله تعالى " إن أنت أخذت به " . أحْي قلبك بالموْعظة، ونَوَره بالحكمة، وأَمِّنه بالزًّهْد، وذَلِّلهُ بالموت، وقَوِّهِ بالغِنَى عن الناس، وحَذِّرْه صولةَ الدَّهر، وتقلُّبَ الأيام والليالي. واعرض عليه أخبارَ الصين، وسِرْ في ديارهم وآثارهم فانظرُ ما فعلوه وأين حلُّوا، فإنك تَجِدهم قد اْنتقلوا عن دار الأحبّة ونزلوا دارَ الغُرْبة، وكأنك عن قليل يا بنيّ قد صرت كأحدهم، فبعْ دنياكَ بآخرتك، ولا تبعْ آخرتك بدُنياك؛ ودَع القولَ فيما لا تَعْرِف، والأمرَ فيما لا تكلًف، وأْمُر بالمعروف بيَدِك ولسانك، وَانْهَ عن المنكر بيدك ولسانك، وبايِنْ مَن فعَلَه؛ وخُض الغَمَرَاتِ للحق، ولا تأخُذْك في الله لوِمةُ لائم، واحفظ وَصيَّتي ولا تَذْهَب عنك صَفْحاً، فلا خير في عِلْم لا ينفع. واعلم " أنَّ أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة " ، وأنه لا غِنى لك فيه عن حُسْن الارتياد، مَع بلاغك منِ الزَّاد. فإن أصَبتَ من أهلِ الفاقة مَنْ يحمل عنك زادك فيُواِفيك به في مَعارك فاغْتنِمه، فإن أَمامك عَقَبَةً كَؤُداَ لا يُجاوزها إلا أخفُّ الناس حْملاَ، فأَجْمل في الطلب، وأحسِن المكتسب، فرُب طَلَب قد جرَّ إلى حَرَب، وإنما المحْرُوب من حُرِبَ دِينُه، والمسلوبُ من سُلِب يقينه. واعلم أنه لا غِنى يَعْدِل الجنَّة، ولا فقْرَ يَعْدِل النار. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب إلى ابنه محمد بن الحنفية: أنْ تَفَقّه في الدّين، وعَوِّد نفسَك الصبر على المَكْروه، وكِلْ نَفْسَك في أمورك كلِّها إلى الله عزَّ وجلَّ، فإنك تَكِلًها إلى كهف.

وأخْلِص المسألة لربِّك فإنّ بيده العَطاء والحِرمان. وأكثر الْاسْتخارة له، واعلم أنَّ من كانت مَطيّته الليلَ والنهار " فإنه " يُسار به وإن كان لا يَسير، فإنَّ الله تعالى قد أبى إلا خرابَ الدنيا وعمارة الآخرة. فإن قَدرتَ أن تَزْهد فيها زُهْدَك كلّه فافعل ذلك، وإن كنتَ غير قابل نَصِيحتي إيّاك فاعلَم عِلْماً يَقِيناً أنك لن تَبْلُغ أملك، ولن تَعْدو أجلك، وأنك في سَبيل مَن كان قَبْلك، فأكْرم نفسَك عن كل دَنِيَّة، وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تَعتاض بما تَبْذُلُ من نفسك " عوضاً " . وإيّاك أن تُوجِف بك مَطايا للطمع وتقول: متى ما أخِّرت نزعتُ، فإنَّ هذا أهْلَك مَن هَلك قَبْلك. وأمسِك عَليك لسانك، فإنَ تَلافِيكَ ما فرط من صَمْتك أيْسر عليك من إدراك ما فات من مَنْطقك، واحفَظْ ما في الوِعاء بشدّ الوكاء، فحُسْن التَّدبير مع الاقتصاد أبْقى لك من الكثير مع الفَساد، والحُرْفة مع العِفّة خير من الغِنَى مع الفجور والمَرْء أحفظُ لسِرّه، ولربما سَعى فيما يَضرُه. إياك والاتّكالَ على الأماني، فإنها بضائع النَّوكي وتًثبط عن الآخرة والأولى. ومن خير حظّ الدنيا القَرين الصالح، فقارنْ أهلَ الخَير تَكُن منهم، وباين أهلَ الشر تَبِنْ عنهم، ولا يَغْلبنَ عليك سوء الظنّ، فإنه لن يَدعَ بينك وبين خليل صُلْحاً. أذك قلبك بالأدب كما تذكى النار الحطب واعلم أنّ كُفْر النِّعمة لُؤْم، وصُحْبة الأحمق شُؤم، ومن الِكَرَم مَنْع الحُرَمٍ، ومَن حَلُم ساد، ومَن تَفَهّم ازداد. آمْحَض أخاك النصيحةَ، حسنةًَ كانت أو قبيحةً. لا تَصرْم أخاك على ارتياب، ولا تَقْطعه دون استعتاب، وليس جزاء من سرّك أن تَسُوءه. الرزق رِزْقان: رِزْق تَطْلبه ورِزْق يَطلبك، فإن لم تأته أتاك. واعلم يا بُني أن مالَك من دُنياك إلا ما أصلحت به من مَثْواك، فأنْفق من خَيْرك، ولا تَكن خازناً لِغَيرك، وإن جَزعْت على ما يُفلت من يديك فاجزع على ما لم يَصِل إليك. ربما أخطأ البصيرُ قَصْدَه، وأبصر الأَعمى رُشْدَه، ولم يَهْلك أمرؤ اقتصد، ولم يَفْتقر من زَهد. مَن ائتمن الزمانَ خانه، ومن تَعظّم عليه أهانه. رأسُ الدين اليقين، وتمام الإخلاص اجتناب المَعاصي، وخيرُ المَقال ما صَدّقَته الفِعَال. سَلْ عن الرَّفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدّار، واحمل لِصَديقك عليك، واقْبل عًذْر مَن اعتذر إليك، وأخر الشرَّ ما استطعت، فإنك إذا شِئْت تَعجّلته. لا يكن أخوك على قَطِيعتك أقوَى منك على صِلَته، وعلى الإساءة أقوى منك على الإحسان. لا تُمَلّكن المرأة من الأمر ما يًجاوز نفسها، فإنَّ المرأة رَيْحانة، وليست بِقَهْرمانة، فإنَّ ذلك أدومُ لحالها، وأرخَى لبالها. واغضُض بصرَها بِستْرك، واكفُفْها بحجابك، وأكرم الذين بهم تَصُول، وإذا تطاولتَ بهم تَطُول. اسأل الله أن يُلْهمك الشكر والرَّشد، ويُقَوِّيك على العمل بكل خَيْر، ويَصرف عنك كل مَحْذور برحمته، والسلامُ عليك ورحمة الله وبركاته.

مقامات العباد عند الخلفاء
مقام صالح بن عبد الجليل
قام صالح بن عبد الجَليل بين يدي المهديّ فقال له: إنه لما سَهُل علينا ما توعّر على غيرنا منِ الوصول إليك قُمْنا مَقام الأدَاء عنهم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإظْهار ما في أعناقنا من فريضة الأمرِ والنهْي عند انقطاع عُذْر الكِتْمان، ولا سيّما حين اتّسمتَ بميسم التَواضع، ووعدت الله وحَملة كتابه إيثارَ الحق على ما سواه، فَجَمعنا وإياك مشهدٌ من مشاهد التَّمحيص. وقد جاء في الأثر: مَن حَجَب الله عنه العِلْم عَذَبه على الجَهل، وأشدُّ منه عذاباً من أقبل إِليه العلمُ فأدبر عنه، فاْقبل يا أمير المُؤمنين ما أهْدي إليك من أَلْسنتنا قَبولَ تحقيق وعمل، لا قَبول سُمعةٍ ورياء، فإنما هو تَنْبيه من غَفْلة، وتذْكير من سَهْو، وقد وَطَّن الله " عزَ وجلَّ " نَبيّه " عليه السلام " على نُزولها، فقال تعالى: " وإمّا يَنْزغَنْك مِن الشَّيطان نزْغ فاْسَتعذ باللّه إنه هو السَّمِيع العَليم " .
مقام رجل من العباد عند المنصور

بينما المنصورُ في الطَراف بالبَيْت ليلاً إذ سَمِع قائلا يقول؛ اللّهم إني أشكُو إليك ظُهور البغي والفَساد في الأرض، وما يحولُ بين الحقّ وأهله من الطّمع. فخرج المنصورُ، فَجَلس ناحية من المَسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلّى رَكْعتين واستَلم الركن وأَقبل مع الرسول فسلّم عليه بالخلافة، فقال المنصورُ: ما الذي سمعتًك تذكُر من ظُهور الفَساد والبغي في الأرض؟ وما الذي يحَول بين الحقّ وأهله من الطّمع؟ فواللِّه لقد حَشَوْتَ مسامعي ما أرْمَضني. فقال: إنْ أمَنتني يا أميرَ المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها، وإلاّ احتجرتُ منك واقتصرتُ على نفسي فلي فيها شاغِل. قال: فأنتَ آمنٌ على نفسك فقُل. فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الذي دخله الطمعُ وحال بينه وبين ما ظَهر في الأرض من الفساد والبغي لأنت؛ فقال: فكيف ذلك وَيْحك! يَدْخلُني الطمع والصفراء والبَيضاء في قَبْضتي والحًلْو والحامض عندي؟ قال: وهل دَخل أحدٌ من الطمع ما دَخلك، إنَّ الله استرْعاك أمرَ عِباده وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجَمْع أموالهم، وجعلتَ بينك وبينهم حجاباً من الجَصّ والآجُرّ، وأبواباً من الحديد، وحًرّاساً معهم السّلاح، ثم سجنتَ نفسك عنهم فيها، وبَعثتَ عُمَّالك في جباياتِ الأموال وجَمْعها، " وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكُراع " ، وأَمرت أن لا يدخل عليك أحدٌ من الرجال إلا فلانٌ وفلانٌ نفراً سميتهم، ولم تَأْمر بإيصال المَظلوم ولا الملْهوف ولا الجائع العارِي " ولا الضَّعيف الفقير " إليك، ولا أحدٌ إلا وله في هذا المال حقّ، فلما رآك هؤلاء النفرُ الذين استَخْلصتهم لنفسك، وآثرتَهم على رعيّتك، وأمرِتَ أن لا يُحجبوا دونك، تَجْبي الأموالَ وتَجمعها، قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه، فإئتمروا أنْ لا يصلَ إليك من عِلْم أخبار الناس شْيءٌ إلا ما أرادوا، ولا يَخْرُجَ لك عاملٌ " فيُخالفَ أمرهم " إلا خَوّنوه عندك ونفَوْه، حتى تسقطَ منزلتُه، فلما انتشر ذلك عنك وعَنهم أَعْظَمهم الناسُ وهابوهم وصانَعُوهم، فكان أولَ من صانَعهم عُمّالُك بالهدايا والأموال، لِيَقْووا بها على ظُلم رعيّتك، ثم فعل ذلك ذوو المقْدرة والثروة من رعيّتك، لينالوا ظُلْم مَن دونهم، فامتلأت بلادُ الله بالطّمع ظُلْماً وبَغْياً وفساداً، وصار هؤلاء القومُ شركاءك في سُلْطانك وأنت غافل، فإن جاء مُتظلِّم حِيل بينك وبينه. فإنْ أراد رَفْع قِصّته إليك عند ظُهورك، وَجدك قد نَهَيْت عن ذلك، ووقفت للناس رجلاً يَنْظر في مَظالمهم، فإن جاء ذلك المتظلِّم فبَلغ بطانتَك خبرُه، سألوِا صاحبَ المظالم أن لا يَرْفع مَظلَمتَه إليك " فإن المتظلَّم منه له بهم حُرْمة، فأجابهم خوفاَ منهم " ، فلا يَزال المظلوِمُ يَختلف إليه ويَلُوذ به، ويَشْكو ويَسْتغيث وهو يَدْفعه، فإذا أجْهد وأحْرج ثم ظَهرْت صَرخ بين يديك، فيُضرب ضرباً مُبرِّحاً يكون نَكالاً لغيره، وأنت تَنظر فما تُنْكِر، فما بَقاء الإسلام " على هذا " ؟ وقد كنتُ يا أمير المؤمنين أًسافر إلى الصِّين، فقدِمتها مرَّةً وقد أُصيب ملكُها بسَمْعه، فَبكى بًكاءَ شديداً، فحّثه جُلساؤه على الصَبر، فقال أما إني لستُ أَبكي للبليّة النازٍلة بي، ولكني أبْكي لمظلوم يصرُخ بالباب فلا أَسمع صوتَه. ثم قال: أمَا إذ قد ذهب سَمْعي فإنّ بَصري لم يَذْهب، نادُوا في النّاس أن لا يَلْبس ثوباً أحمرَ إلا مُتظلِّم. ثم كان يركب الفيلَ طَرَفي النهار وينظُر هل يَرى مظلوماً. فهذا يا أمير المؤمنين مُشرك باللّه، بلغتْ رأفته بالمُشركين هذا المبلغ وأنت مُؤمن باللّه من أهل بيت نبيّه لا تَغْلبك رأفتك بالمُسلمين على شُحّ نفسك، فإن كنتَ إنما تَجمع المال لولدك، فقد أراك الله عِبَراً في الطِّفل يَسقط من بَطن أمه مالَه على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يدٌ شَحيحة تَحْويه، فما يَزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى تعْظُم رغبة الناس إليه، ولستَ الذي تُعطي، بل الله الذي يعطيِ من يشاء ما يشاء، فإن قلتَ إنما تَجْمَع المال لتَشُدَّ به السلطان، فقد أراك الله عِبراَ في بني أمَيّة، ما أغنى عنهم جمعُهم من الذًهب، وما أعدُّوا من الرِّجال والسلاح والكُرَاع حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت إنما تجمع المالَ لطلب غايةٍ هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فواللّه ما فَوق ما أنت فيه إلا

منزلةٌ لا تُدْرك إلا بخلاف ما أنتَ عليه. يا أميرَ المؤمنين، هل تُعاقب مَن عَصَاك بأشدّ من القتل؟ فقال المنصور: لا؛ فقال: فكيف تَصنع بالمَلِك الذي خَوَّلك مُلْك الدنيا وهو لا يُعاقب مَن عَصاه بالقتل، ولكن بالخُلود في العذاب الأليم؟ قد رأى ما عُقد عليه قلبك، وعَملته جوارحك، ونَظَر إليه بَصرك، واجترَحَتْه يداك، ومَشَت إليه رِجْلاك، هل يُغْني عنك ما شَحِحْتَ عليه من مُلْك الدُّنيا إذا انتزَعَه من يدك ودعاكَ إلى الحِساب؟ قال: فَبكى المنصورُ، ثم قال: ليتَنِي لم أخْلق. ويحك! فكيف أحتال لِنَفْسي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ للناس أعلاماَ يَفْزَعون إليهم في دينهم، ويَرْضَوْن بهم في دُنياهم، فاجعلهم بِطانَتك يُرْشدوك، وشاوِرْهم في أمْرِكَ يُسَدِّدوك؛ قال: قد بعثتُ إليهم فهربوا منِّي؛ قال: خافُوك أن تَحملهم على طريقَتِك، ولكن افْتَح بابَكَ، وسهِّل حِجَابك، وانصُر المظلوم، واقمع الظالم، وخُذِ الفَيْءَ والصدقات من حِلَها، واقسمها بالحقّ والعدْلِ على أهلها، وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة. وجاءَ المؤذِّنون فسلَّموا عليه، فصلّى وعاد إلى مَجْلسه، وطُلِب الرجُل فلم يوجد.منزلةٌ لا تُدْرك إلا بخلاف ما أنتَ عليه. يا أميرَ المؤمنين، هل تُعاقب مَن عَصَاك بأشدّ من القتل؟ فقال المنصور: لا؛ فقال: فكيف تَصنع بالمَلِك الذي خَوَّلك مُلْك الدنيا وهو لا يُعاقب مَن عَصاه بالقتل، ولكن بالخُلود في العذاب الأليم؟ قد رأى ما عُقد عليه قلبك، وعَملته جوارحك، ونَظَر إليه بَصرك، واجترَحَتْه يداك، ومَشَت إليه رِجْلاك، هل يُغْني عنك ما شَحِحْتَ عليه من مُلْك الدُّنيا إذا انتزَعَه من يدك ودعاكَ إلى الحِساب؟ قال: فَبكى المنصورُ، ثم قال: ليتَنِي لم أخْلق. ويحك! فكيف أحتال لِنَفْسي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ للناس أعلاماَ يَفْزَعون إليهم في دينهم، ويَرْضَوْن بهم في دُنياهم، فاجعلهم بِطانَتك يُرْشدوك، وشاوِرْهم في أمْرِكَ يُسَدِّدوك؛ قال: قد بعثتُ إليهم فهربوا منِّي؛ قال: خافُوك أن تَحملهم على طريقَتِك، ولكن افْتَح بابَكَ، وسهِّل حِجَابك، وانصُر المظلوم، واقمع الظالم، وخُذِ الفَيْءَ والصدقات من حِلَها، واقسمها بالحقّ والعدْلِ على أهلها، وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة. وجاءَ المؤذِّنون فسلَّموا عليه، فصلّى وعاد إلى مَجْلسه، وطُلِب الرجُل فلم يوجد.

مقام الأوزاعي بين يدي المنصور

قال الأوزاعيّ: دخلتُ عليه فقال لي: ما الذي بَطّأَ بك عني؟ قلتُ: وما تُريد منّي يا أمير المؤمنين؟ قال: الاقتباس منك؛ قلتُ: يا أمير المؤمنين، انْظُر ما تقول، فإنّ مَكحولا حدَّثَني عن عطيَّة بن بُسْر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ بَلغتْه عن اللّه نصيحةٌ في دِينه فهي رحمةٌ من الله سِيقت إليه، فإنِّ قَبِلها من الله بشكرو إلا فهي حُجَّة من الله عليه، ليَزداد إثماً ويزدادَ الله عليه غَضباً؛ " وإِن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سَخِطَ فله السّخْط، ومَن كرهه فقد كره الله عزَّ وجلَّ، لأنَّ الله هو الحق المبين " . ثم قلتُ: يا أميرَ المُؤْمنين، إنك تحمّلت أمانة هذه الأمة، وقد عُرضت على السَّمواتِ والأرض فأَبَين أَنْ يَحْمِلْنَها وَأشْفَقْنَ مِنْهَا. وقد جاء عن جدِّكَ عبد الله بن عبّاس في تفسير قول الله عزّ وجلّ: " لا يُغَادرُ صَغِيرَةً وَلا كَبيرَةً إلا أَحْصَاهَا " . قال: الصِّغيرة: التبسّم. والكبيرة: الضحك. فما ظنك بالقول والعمل؟ فأًعيذك باللّه يا أَميرَ المُؤْمنين أن تَرى أنّ قَرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنْفعك مع المُخالفة لأمره، فقد قال للّه: يا صفِيّة عمة محمّد، ويا فاطمة بنت محمّد، استَوْهِبا أنفسكما من الله فإنّي لا أُغْنِي عنكما من الله شيئاً. وكذلك جدًك العبَّاس سأل إمارةً من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أيْ عمّ، نفسٌ تُحييها، خيرٌ لك من إمارة لا تُحْصِيها. نظراً لعمه وشفقةً عليه من أن يَليَ فيحيد عن سُنّتِه جَنَاح بعوضة، فلا يستطيع له نَفْعاً، ولا عنه دَفْعاً. وقال صلى الله عليه وسلم: ما منَ راع يَبِيتُ غاشاً لرعيّتِه إلا حَرّمَ الله عليه رائحةَ الجنَّة. وحقِيق على الوالي أن يكونَ لرعيًّته ناظرِاً، ولما استطاع من عَوْرَاتِهم ساتراً، وبالحق فيهم قائماً، فلا يتخوّف مُحْسنهم منه رَهَقاَ، ولا مُسِيئهم عًدْوَاناً؟ فقد كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جَريدةٌ يَستاك بها، ويَرْدَعُ المنافقين عنه، فأتاه جبريلُ، فقال: يا محمد، ما هذه الجريدة التي معك؟ اتْرُكها لا تَمْلأْ قلوبهم رُعْباً. فما ظنُّك بمن سَفك دِمَاءَهم، وقطّع أستارَهم، ونهب أموالهمِ؟ يا أمير المؤمنين، إن المغفور له ما تقدّمَ من ذنبه وما تأخّر، دعا إلى القِصاص من نفْسه بِخَدْش خَدَشه أَعرابيّاً لم يتعمَّده، فقال جبريلُ: يا محمد، إنّ الله لِم يَبْعثك جبّاراً تَكْسِر قًرون أُمّتك. واعلم يا أمير المؤمنين أن كلَّ ما في يدك لا يعَدِلُ شرْبةً من شَرَاب الجنَّة، ولا ثمرَةً من ثِمارها، ولو أن ثوباً من ثِياب أهل النار عُلِّق بين السماء والأرض لأهْلك الناسَ رائحتُه، فكيف بمن تَقَمّصه! ولو أن ذَنوباً من " صَديد أهل " النار صُبّ على ماء الدُّنيا لأَحَمَّه، فكيف بمن تجرّعه! ولو أنَ حَلْقة من سَلاسل جهنَّم وُضعت على جبَل لأذابتْه، فكف بمن يُسْلَك فيها، وَيُرَدّ فَضْلُها على عاتقه!

كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك
حجّ سُليمان بن عبد الملك، فلما قَدِمَ المدينةَ للزيارة بَعث إلى أبي حازم الأعرج، وعنده ابن شِهاب، فلما دخل قال: تكلّم يا أبا حازم. قال: فيم أتكلّم يا أمير المُؤمنين؟ قال: في المَخْرج من هذا الأمر؛ قال: يَسِيرٌ إن أنت فعلتَه؛ قال: وما ذاك؟ قال: لا تأخذ الأشياء إلاّ من حِلِّها، ولا تَضَعْها إلا في أهلها؛ قال: ومن يَقوى على ذلك؟ قال: مَن قلَّدَه الله من أَمر الرعيّة ما قلَّدك. قال: عِظْني يا أبا حازم؟ قال: اعلم أنَّ هذا الأمر لم يَصِرْ إليك إلا بمَوْت من كان قَبْلَك، وهو خارجٌ من يديك بمثل ما صار إليك. قال: يا أبا حازم، أَشِر عليَّ؛ قال: إنما أنت سُوق فما نفق عندك حُمِل إليك من خير أو شرّ، فاشتر أيَّهما شِئتَ. قال: مالك لا تأتينا؟ قال: وما أَصنع بإتيانِك يا أمير المؤمنين؟ إنً أَدْنَيْتَني فتنْتَني، وإن أقصَيتني أَخْزَيْتني، وليس عندك ما أرجوك له، ولا عِنْدي ما أَخافُك عليه. قال: فارفع إلينا حاجتَك؛ قال: قد رفعتُها إلى ما مَن هو أقدرُ منك عليها، فما أَعطاني منها قَبِلْتُ، وما مَنَعَني منها رَضِيتُ.
مقام ابن السمَّاك عند الرشيد

دَخل عليه، فلما وَقف بين يديه قال له: عِظْني يابن السمَّاك وأوجز. قال: كفي بالقُرآن واعظاً يا أميرَ المؤمنين، قال الله تعالى: " بِسْم الله الرحْمن الرحيم. وَيلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الّذين إذا اكتالوا على النَّاس يَسْتَوْفُون: " إلى قوله " لِرَبِّ العَالمين " . هذا يا أمير المؤمنين وَعيدٌ لمن طَفّفَ في الكَيْل فما ظَنُّك بمن أخذه كُلّه؟ وقال له مرة: عِظْني وأتي بماء ليشرَبه، فقال: يا أَمير المؤمنين، لو حُبِسَتْ عنك هذه الشرْبةُ أكنتَ تَفدِيهاَ بمُلْكك؟ قال: نعم؛ قال: فلو حُبِس عنك خُروجُها أكنت تَفديها بمُلْكك؟ قال: نعم؛ " قال " : فما خيرٌ في مُلْك لا يُسَاوي شرْبة ولا بَولَة. قال: يابن السماك، ما أَحْسن ما بَلَغنِي عنك! قال: يا أمير المؤمنين، إنَ لي عيوباَ لو اطّلع الناسُ منها على عيب واحد ما ثبتتْ لي في قَلب أحد موِدّة، وإني لخائفٌ في الكلام الفِتْنة، وفي السرّ الغِرّةً، وإني لخائفٌ على نَفْسي من قِلّة خوْفي عليها.

كلام عمرو بن عبيد عند المنصور
دخل عمرو بن عُبيد على المَنصور وعنده ابنه المهديّ، فقال له أبو جعفر: هذا ابن أمير المؤمنين، ووليُّ عهد المسلمين، ورَجائي أن تًدْعو له؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أراك قد رَضيتَ له أموراً يصير إليها وأنت عنه مَشْغول. فاستَعْبر أبو جعفر، وقال له: عِظْني أبا عثمان؛ قال: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله أعطاك الدّنيا بأسرها، فاشتر نفسَك منه بِبعْضها، هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يدِ مَن كان قبلك لم يَصِل إليك. قال: أبا عثمان، أعِنِّي بأصحابك؛ قال: ارفع عَلَم الحق يَتبْعك أهلُه، ثم خرج، فأتْبعَه أبو جعفر بصرُّة، فلم يَقبلها وجعل يقول:
كُلّكم يَمْشي رُوَيد كُلّكم خاتِلُ ... صَيد غير َعمرو بنِ عُبيد
خبر سفيان الثوري مع أبي جعفر
لَقي أبو جعفر سُفْيان الثَّوريَّ في الطواف، وسُفيان لا يَعْرفه، فَضرب بيده على عاتِقه وقال: أتَعْرفني؟ قال: لا، ولكنّك قَبضت عليّ قَبْضة جبّار. قال: عِظْني أبا عبد الله؛ قال: وما عملتَ فيما عَلِمتَ فأَعِظَك فيما جَهِلْت؟ قال: فما يَمْنعك أن تَأتَينا؟ قال إنَّ الله نهى عَنْكم، فقال تعالى: " وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِين ظَلَمُوا فَتَمًسّكم النَّار " . فمسح أبو جعفر يدَه به ثم التفت إلى أصحابه، فقال: ألْقَينا الحَبَّ إلى العُلماء فَلَقطوا إلا ما كان من سُفيان فإنه أعْيانا فِراراً.
كلام شبيب بن شيبة للمهدي
قال العُتْبي: سألتُ بعضَ آل شَبيب بن شَيْبة أتَحْفظون شيئاً من كلامه؟ قالوا: نعم، قال للمهديّ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الله إذ قَسَّم الأقسام في الدًنيا جعل لك أسناها وأَعلاها، فلا تَرْض لنفسك في الآخرة إلا مثلَ ما رَضي لك به من الدنيا، فأًوصيك بتَقْوى اللّه، فَعَليكم نَزَلت، ومِنكم أخذت، وإِليكم تُرَدّ.
من كره الموعظة
لبعض ما يكون فيها من الغلظ أو الخرق
قال رجل للرَّشيد: يا أمير المؤمنين، إنّي أريد أن أعِظك بِعظةٍ فيها بعض الغِلْظة فاحتَمِلها؛ قال: كلاّ، إنَّ الله أمر مَن هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌّ منِي، قال لنبيّه موسى " عليه السلام " إذ أرسله إلى فرعون: " فقُولا له قَوْلاً ليِّناً لَعلّه يَتَذكر أو يَخْشى " .
دخل أعرابيٌّ على سُليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إني مُكلِّمك بكلام فاحتَمِلْه إن كرهتَه، فإن وراءه ما تُحب إن قبلتَه؟ قال: هات يا أعرابيّ؟ قال: إني سأطلق لساني بما خَرستْ عنه الألْسُن من عِظتك تأديةً لحق الله تعالى وحقِّ إمامتك، إنه قد اكتَنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دُنياك بدينهم، ورِضاك بسُخْط ربهم، خافُوك في الله ولم يَخافوا الله فيك، فهم حَرْب للآخرة، سِلْمِ للدنيا، فلا تَأمنهم علِى ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لا يألونك خبالاً، والأمانة تَضييعاً، والأُمةَ عَسْفاَ وخَسْفاً، وأنت مَسْؤول عما آجترحوا، وليسوا مَسْؤولين عما اجترحتَ، فلا تُصْلح دُنياهم بفَساد آخرتك، فإنَّ أَخْسَر الناس صَفْقةً يوم القيامة وأَعظمَهم غبْناً مَن باع آخرتَه بدُنيا غيره. قال سليمان: أما أنت يا أَعرابيّ فقد سَلَلْتَ لسانك وهو أحدّ سيفَيْك. قال: أجلْ يا أمير المؤمنين، لك لا عليك.

ووعظ رجل المأمون فأَصغَى إليه مُنْصَتاً، فلما فَرغ قال: قد سمعتُ موعظتك، فاسأل الله أن ينفعنا بها وبما عَلِمنا، غيرَ أنّا أحوجُ إلى المُعاونة بالفِعال مِنّا إلى المُعاونة بالمَقال، فقد كَثُر القائلون، وقَلّ الفاعلون.
العُتْبِيُّ قال: دَخل رجلٌ من عَبد القَيْس على أبي فَوَعِظه، فلما فَرغ قال أبي له: لو اتّعظنا بما عَلِمنا لا نْتَفعْنا بما عَمِلْنا، ولكنّا عَلِمنا عِلماَ لزمتنا فيه الحُجَّة، وغَفَلنا غَفْلةَ مَن وَجبت عليه النِّقمة، فَوُعظنا في أنفسنا بالتَّنقل من حال إلى حال، ومن صِغَرِ إلى كِبر، ومن صِحَّة إلى سَقم، فأبينا إلا المُقام على الغَفْلة، وإيثاراً لعاجل لا بقاءَ لأهله، وإعراضاً عن آجل إليه المصير.
سعد القَصِير قال: دَخل أناسٌ من القُرّاء على عُتْبة بنِ أبي سًفيان فقالوا: إنّك سَلَّطت السيفَ على الحقّ ولم تسلِّط الحقَّ على السَّيف، وجئت بها عَشوة خَفِيّة. قال كَذَبْتُم: بل سلّطت الحقّ وبه سُلِّطتَ، فاعرفوا الحقَّ تَعْرفوا السيفَ فإنكم الحاملون له حيثُ وَضعه أفضل، والواضعون له حيثُ حَمْله أعدل، ونحِن في أول زمان لم يأتِ آخرُه، وآخرِ دَهْر قد فات أولُه، فصار المَعْروف عندكم مُنْكراَ، والمُنكر معروفاً، وإني أقول لكم مَهْلاً قبلَ أن أقول لنفسي هلا؟ قالوا: فَنَخْرج آمِنين؟ قال: غيرَ راشدين ولا مَهْدِيِّين.
حاد قوم سَفْر عن الطريق فَدَفعوا إلى راهب مُنْفرد في صَوْمعته، فنادَوْه، فأشرف عليهم، فسألوه عن الطريق، فقال: ها هنا، وأومأ بيده إلى السماء، فَعلِموا ما أراد؛ فقالوا: إنا سائلوك، قال: سَلُوا ولا تُكْثِرُوا، فإن النهار لا يرجع، والعُمْر لا يعود، والطالبَ حثيث؟ قالوا: علام الناسُ يومَ القيامة؟ قال: على نيَّاتهم وأعمالهم؟ قالوا: إلى أين المَوْئل؟ قال: إلى ما قَدَّمتم؟ قالوا: أوصِنا؟ قال: تزَوَّدُوا على قَدْر سَفركم، فَخَيْر الزاد ما بَلَّغ المحلّ، ثم أرشدهم الجادَّة واْنقمع.
وقال بعضهم: أتيت الشامَ فمررتُ بدَيْر حَرْملة فإذا فيه راهبٌ كأنّ عينيه مَزادتان، فقلت له: ما يُبْكيك؟ قال: يا مُسلم، أبْكي على ما فَرّطت فيه من عُمري، وعلى يوم يَمْضي من أجلي لم يَحْسُن فيه عملي. قال: ثم مررتُ بعد ذلك فسألتُ عنه، فقيل لي: إنه قد أسلم وغزا الرومَ وَقُتل.
قال أبو زَيْد الحيريّ: قلت لثوبانَ الراهب: ما مَعنى لُبْس الرهبان هذا السواد؟ قال: هو أشبهُ بلباس أهل المصائب؟ قلت: وكلَّكم معشرَ الرُّهبان قد أصيب بمُصيبة؟ قال: يَرْحمك اللّه، وهل مُصيبة أعظمُ من مَصائب الذنوب على أهلها؛ قال أبو زيد: فما أذكُر قوله إلا أبكاني.
حبيبٌ العَدَويّ عن موسى الأسْوَارِيّ قال: قال: لما وقعتْ الفِتْنه أردتُ أن أحْرِزَ ديني فخرجتُ إلى الأهْواز، فبلغ آزادمَرْد قُدومي، فبعثَ إليّ مَتاعاً، فلما أردتُ الانصراف بلغني أنه ثَقِيل، فدخلتُ عليه فإذا هو كالخًفاش لم يَبق منه إلا رأسه، فقلت: ما حالُك؟ قال: وما حالُ مَنْ يُريد سفراً بعيداً بغير زاد ويَدْخل قبراً موحِشاً بلا مُؤنس، وَينْطلق إلى مَلك عَدْل بلا حُجَّة؟ ثم خرجتْ نفسُه.
العُتبيُّ قال: مررتُ براهب باكٍ فقلتُ: ما يُبكيك؟ قال: أمْرٌ عَرفتُه وقَصرُت عن طلبه، ويومٌ مَضى من عُمري نقص له أجلي ولم يَنْقُص له أملي.

باب كلام الزهاد وأخبار العباد
قيل لقوم من العُبَّاد: ما أقامكم في الشَّمس؟ قالوا: طلَب الظِّل.
قال علقمةُ لأسودَ بنِ يزيد: كم تُعذِّب هذا الجسدَ الضَّعيف؟ قال: لا تنال الراحة إلا بالتَّعب. وقيل لآخر: لو رفقتَ بنفسك؟ قال: الخيرُ كلُّه فيما أُكْرِهت النفوسُ عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: حُفّت الجنَّة بالمكاره.
وقيل لمَسروق بن الأجْدع: لقد أضررتَ ببدنك؟ قال: كرامتَه أُريد. وقالت له امرأته فَيْروز لما رأتْه لا يُفْطِر من صيام ولا يَفْترً عن صلاة: ويلك يا مسروق! أما يعْبد الله غيرُك؟ أما خُلقت النارُ إلا لك؟ قال لها: وَيحْك يا فيروز! إن طالب الجنة لا يَسأَم، وهاربَ النار لا ينام. وشَكت أم الدَرداء إلى أبي الدَّرداء الحاجة، فقال لها: تصبَّري فإنّ أمامَنا عَقَبةً كئُوداً لا يجاوزها إلا أخفُّ الناس حِمْلاً.

ومر أبو حازم بسُوق الفاكهة، فقال: مَوْعدك الجنّة. ومرَّ بالجزًارين، فقالوا له: يا أبا حازم، هذا لحم سمين فاشتَر؛ قال: ليس عندي ثَمَنُه؛ قالوا: نُؤخرك؛ قال: أنا أُؤخر نفسي. وكان رجل من العُبَّاد يأكل الرُّمان بِقشرْه، فقيل له: لم تَفْعل هذا؟ فقال: إنما هو عدوّ فأثْخن فيه ما أمكنك.
وكان عليّ بن الحُسين عليهما السلام إذا قام للصلاة أخذتْه رِعْدةٌ، فسُئِل عن ذلك، فقال: وَيحْكم! أَتَدْرُون إلى من أَقُوم ومَن أُرِيد أن أُناجي؟ وقال رجل ليونس بن عُبيد: هل تَعلم أَحداً يَعمل بِعَمل الحسن؟ قال: لا واللهّ، ولا أحداً يقول بقَوْله. وقيل لمحمد بن عليّ بن الحُسين، أو لعليّ بن الحُسين عليهم السلام: ما أقلَّ وَلَدَ أبيك؟ قال: العجبُ كيف وُلدْتُ له! وكان يصلّي في اليوم والليلة ألفَ ركعة، فمتى كان يَتَفَرع للنساء؟ وحَجَّ خمسة وعشرين حِجَّة راجلا.
ولما ضُرِب سعيدُ بن المُسَيِّب وأُقيم للناس قالت له امرأة: " يا شيخ " ، لقد أُقمت مُقام خزْية؛ فقال: من مُقام الخزية فررتُ. وشكا الناسُ إلى مالك ابن دينار القحطَ، فقال: أنتم تستبطئون المَطر وأنا أستبطئ الحِجارة. وشكا أهل الكوفة إلى الفُضيل بن عِيَاض القحطَ؟ فقال: أمُدَ بِّراً غيرَ الله تريدون؟.
وذكر أبو حنيفة أيوبَ السِّخْتيانيّ، فقال: رحمه الله تعالى، ثلاثاً، لقد قَدمَ المدينة مرة وأنا بها، فقلت: لأقعدنّ إليه لعلي أتعلَّق منه بسقْطة، فقام بين يدي القبر مَقاماً ما ذكرتُه إلا اقشعرَّ له جِلْدِي. وقيل لأهل مكة: كيف كان عَطاءُ بن أبي رَبَاح فيكم؟ قالوا: كان مثلَ العافية التي لا يُعرف فضلُها حتى تُفْقد. وكان عطاء أفْطَس أشَلّ أعرج ثم عَمِي، وأمه سَوداء تسمَّى بَرَكة. وكان الأوقص المَخْزُوميّ قاضياً بمكة فما رًئى مثلُه في عَفافه وزُهْده، فقال يوماً لِجُلسائه: قالت لي أُمي: يا بني، إنك خُلقت خِلْقة لا تصلح معها لمَجَامع الفِتْيان عند القيان، " إنك لا تكون مع أحدِ إلا تَخَطتْك إليه العيون " ، فعليك بالدِّينِ فإنَّ الله يَرْفَع به الخَسِيسة، وُيتمُّ به النَّقيصة. فنفعني اللهّ تعالى بكلامها، وأطعتها فوليتُ القضاء.
الفُضَيل بن عِياض قال: اجتمع محمد بن واسع ومالكُ بن دينار في مجلس بالبصرة، فقال مالكُ بن دينار: ما هو إلا طاعة اللهّ أو النار. فقال محمد بن واسع: ما هو كما تقول، ليس إلا عَفْو الله أو النار. قال مالك: صدقتَ. ثم قال مالك: إنه يُعجبني أن يكون للرجل مَعِيشة على قدر ما يَقوته. قال محمد بن واسع: ولا هو كما تقول، ولكن يُعْجبني أن يُصبح الرجل، وليس له غَدَاء، وُيمسى وليس له عَشَاء، وهو مع ذلك راضٍ عن اللّه. قال مالك: ما أحْوَجني إلى أن يُعَلّمني مثلك.
جعفر بن سُليمان قال: سمعتُ عبد الرحمن بن مهَديّ يقول: ما رأيتُ أحداً أقْشَف من شعبَة، ولا أعبدَ من سُفيان الثوري، ولا أحفظَ من ابن المُبارك، وما أُحِبُّ أن ألْقَى الله بصحيفة أحد إلا بصحيفة بِشر بنِ مَنصور، مات ولم يَدَع قليلاً ولا كثيراً. عبد الأعلى بن حمَّاد قال: دخلت على بِشر بن مَنصور وهو في الموت، فإذا به من السرور في أمر عظيم، فقلت له: ما هذا السّرور؟ قال: سُبحان اللهّ! أخرجُ من بين الظالمين والباغين والحاسدين والمُغْتابين وأَقْدَم على أرحم الراحمين ولا أُسرَّ؟.
حَجَّ هارون الرَّشيد، فَبلغه عن عابدٍ بمكة مُجاب الدَّعوة مُعْتزل في جِبَال تِهامة، فاتاه هارون الرشيدُ فسأله عن حاله، ثم قال له: أوْصِني ومُرْني بَما شِئتَ، فواللّه لا عَصَيتك. فَسكت عنه ولم يَرُدَّ عليه جواباً. فخرج عنه هارون، فقال له أصحابُه: ما مَنعك إذ سألك أن تَأْمرَه بما شِئْتَ - وقد حَلَف أن لا يَعْصيك - أن تأمرَه بتقوِى الله والإحسان إلى رعيّته؟ فَخَطَّ لهم في الرَّمل: إنيّ أعظمتُ الله أن يكونَ يَأمره فيَعْصِيه وآمرُه أنا فيطيعني.

عليّ بن حمزة ابن " أُخت " سُفيان الثوري قال: لما مَرِض سُفيان مَرَضه الذي مات فيه ذهبتُ ببَوْله إلى دَيْرانيّ، فأرَيتُه إياه فقال: ما هذا ببول حَنِيفيّ؟ قلت: بلى واللّه، من خِيارهم. قال: فأنا أذهب معك إليه. قال: فدخل عليه وجَسَّ عِرْقه، فقال: هذا رجُلٌ قطَع الحُزن كَبِده. مُؤرِّق العِجْليّ قال: ما رأيتُ أحداً أفقه في وَرعه ولا أورَعَ لا فِقْهِه من محمد بن سيرين، ولقد قال يوماً: ما غَشِيتُ امرأةً قط في نوم ولا يقظة، إلا امرأتي أم عبد الله، فإني أرى المرأة في النوم، فاعلم أنها لا تَحِلّ لي، فأصْرف بَصري عنها.
الأصمعي عن ابن عَوْن قال: رأيت ثلاثة لم أَرَ مثلَهم: محمدَ بن سيرين بالعراق، والقاسمَ بن محمد بالحجاز، ورجاءَ بن حَيْوة بالشام. العُتْبيّ قال: سمعت أشياخنا يقولون: انتهى الزُّهْد إلى ثمانية من التابعين: عامر بن عبد القيس، والحسن بن أبي الحسنٍ البَصْرِيّ، وهَرِم بن حيّان، وأبي مُسْلِم الخَوْلاني، وأُوَيس القُرَنيّ، والربيع بن خثيمْ، ومَسْرُوق بن الأجْدَع، والأسْوَد بن يزيد.

كيف يكون الزهد
العُتْبيّ يرفعه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الزًّهد في الدنيا؟ قال: أما إنه ما هو بتَحْريم الحَلال، ولا إضاعة المال، ولكنّ الزهدَ في الدنيا أن تكون بما في يد اللهّ أغنى منك عما في يدك. وقيل للزُّهريّ: ما الزُّهْد؟ قال: أما إنه ليس تَشْعِيثَ الِّلمَّة، ولا قَشْفَ الهيْئَة، ولكنّه صرْف النفس عن الشَّهْوَة. وقيل لآخر: ما الزُّهْد في الدنيا؟ قال: أَن لا يَغْلب الحرامُ صَبْرَك، ولا الحلالُ شكرَك وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللّه، مَنْ أزهدُ الناس في الدنيا؟ قال مَن لم يَنْس المَقابر والبِلَى، وآثرَ ما يَبْقى على ما يَفْنى، وعَدّ نَفْسه مع الموتى. وقبل لمحمد بن واسع: مَنْ أزهَدُ الناس في الدُّنيا؟ قال: مَنْ لا يبالي بِيدَ مَن كانت الدنيا. وقيل للخليل بن أحمد: مَن أزهدُ الناس في الدُّنيا؟ قال: من لم يَطلب المَفْقود حتى يَفْقد المَوْجود.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الزهد في الدُّنيا مِفْتاح الرَّغبة في الآخرة، " والرغبة في الدُّنيا مِفْتاح الزُهد في الآخرة " . وقالوا: مَثَلُ الدنيا والآخرة كمثَل رجل له امرأتان ضرَّتان، إن أرْضى إحداهما أسْخط الأخرى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن جعل الدنيا أكبرَ همِّه نزَع الله خوفَ الآخرة من قلبه، وجعلَ الفَقْر بين عَيْنَيه، وشَغله فيما عليه لا له.
وقال ابن السّماك: الزاهد الذي إن أصاب الدنيا لم يَفرح، وإن أصابتْه الدنيا لم يحزن، يضحك في المَلا، ويَبْكي في الخَلا. وقال الفُضيل: أصلُ الزهد في الدنيا الرِّضا عن الله تعالى.
صفة الدنيا
قال رجُل لعلي بن أبي طالب كرم الله وَجْهَه: يا أميرَ المؤمنين، صِفْ لنا الدّنيا.

قال: ما أصِف مِن دارٍ أولها عَناء، وآخرُها فَناء، حَلالُها حساب، وحَرامها عِقاب؟ مَن اْستغنى فيها فُتِن، ومن افتقر فيها حَزِن. قيل لأرسطاطاليس: صِف لنا الدنيا. فقال: ما أصِف من دار أولها فَوْت، وآخرها مَوْت. وقيل لحكيم: صف لنا الدنيا. قال: أمَل بين يديك، وأجَل مُطِل عليك، وشَيْطان فتّان، وأمانِيُّ جرّارة العِنَا؛ تدعوك فَتستجيب، وترجُوها فتَخيب. وقيل لعامر بن عبد القيس: صف لنا الدنيا. قال: الدنيا والدةٌ للموت، ناقضة للمُبْرَم، مُرْتجعة للعطية، وكلُّ مَن فيها يجري إلى ما لا يدري. وقيل لبَكر بن عبد الله المُزنيّ: صِف لنا الدنيا. فقال: ما مَضى منها فَحُلم، وما بَقي فأمانيّ، وقيل لعبد الله بن ثَعْلبة: صِف لنا الدنيا قال: أمسُكَ مَذْموم منك، ويومُك غير محمود لك، وغَدك غير مأمون عليك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الدنيا سِجْن المُؤمن وجنَّة الكافر. وقال: الدنيا عرَضٌ حاضرِ، يأْكُل منه البرّ والفاجر، والآخرة وَعْد صِدْق يحكم فيها ملك قادر، يفصل الحقّ من الباطل. وقال: الدنيا خَضرِة حًلْوَة، فمن أَخذها بحقّها بُورك له فيها، ومَن أخذها بغير حقّها كان كالآكِل الذي لا يَشْبع. وقال ابن مَسعود: ليس من الناس أَحدٌ إلا وهو ضَيْف على الدنيا ومالُه عارية، فالضَّيْف مُرْتحِل، والعارية مردودة. وقال المسيح عليه السلام: الدنيا لإبليس مزْرَعة وأهْلُها حُرَّاث. وقال إبليسُ: ما أُبالي إذا أحَب الناس الدنيا أن لا يَعْبُدوا صَنما ولا وَثَنا، الدنيا أفتنُ لهم من ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمِّي الدنيا أمّ ذَفَر. والذفر: النتن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للضحَّاك بن سُفيان: ما طعامُك؟ قال: اللحم واللبن؛ قال: ثم إلى ماذا يَصير؟ قال: يصير إلى ما قد علمت؛ قال: فإنّ الله عزّ وجلّ ضَرَب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا. وقال المسيحُ عليه السلام لأصحابه: اتخذوا الدنيا قَنطرة فاعبرُوها ولا تَعْمُروها. وفي بعض الكتب: أوحى اللهّ إلى الدنيا: من خَدمني فاخدُميه، ومَن خدمك فاستخدميه. وقيل لنُوح عليه السلام: يا أبا البَشر ويا طويل العُمر، كيف وجدتَ الدنيا؟ قال: كَبَيْتٍ له بابان، دخلتُ من أحدهما وخرجتُ من الآخر. وقال لُقمان لابنه: إنّ الدنيا بَحْرٌ عريض، قد هلك فيه الأوَلون والآخِرون، فإن استطعت فاجعل سَفِينتك تقوى اللّه، وعدَتك التوكُّل على اللّه، وزادك العملَ الصالح، فإن نجوتَ فبرحمة اللّه، وإن هلكت فبذنوبك. وقال محمد بن الحنفيّة: من كرُمت عليه نفسُه هانت عليه الدنيا. وقال: إنّ المُلوك خَلَّوْا لكم الحِكمة فَخلُوا لهم الدنيا. وقيل لمحمد بن واسع: إنك لترضى بالدُّون؛ قال: إنما رَضي بالدُون من رضي بالدنيا. وقال المسيحُ عليه الصلاة والسلام للحواريين: أنا الذي كفأتُ الدنيا علىِ وَجهها، فليس لي زوجةٌ تموت ولا بَيْت يَخْرَب. شكا رجل إلى يُونس بن عُبيد وَجَعاَ يَجده؛ فقال له: يا عبد الله، هذه دار لا توافقك، فالتمس لك داراً تُوافقك. لقي رجلٌ راَهِباً، فقال: يا راهب، صِف لنا الدنيا؛ فقال: الدنيا تُخْلِق الأبدان، وتُجَدِّد الآمال، وِتباعد الأمْنِيّة، وتُقَرِّب المنيَّة، قال: فما حالُ أهلها؟ قال مَنْ ظَفِرَ بها تَعِب، ومن فاتْته نصِب؟ قال: فما الغِنى عنها؟ قال: قَطْعُ الرَّجاءِ منها، قالت: فأين المَخْرَج؟ قال: في سُلوك المَنْهَج؟ قال: وما ذاك؟ قال بَذْل المجهود، والرِّضا بالمَوْجود. قال الشاعر:
ما الناسُ إلا مع الدنيا وصاحبها ... فحيثما انقلبت يوماً به انقلبوا
يُعظِّمون أخا الدنيا وإن وَثَبت ... يوماً عليه بما لا يَشْتَهي وَثبوا
وقال آخر:
يا خاطبَ الدنيا إلى نفسه ... تَنَحَ عن خطبتهْا تَسْلَم
إنً التيَ تَخْطُبُ غَزَارَةٌ ... قريبةُ العُرْس من المَأْتَم
داود بن المُحَبَّر قال: أخبرنا عبدُ الواحد بن الخطاب قالت: أقبلنا قافلين من بلاد الروم حتى إذا كُنَّا بين الرُّصافة وحِمْص، سمعنا صوتاً من تلك الجبال، تَسمعه آذاننا ولا تُبصره أبصارنا، يقول: يا مَسْتُوريا مَحْفوظ، انظر في سترْ مَن " وحِفْظ مَن " أنت، إنما الدنيا شَوْك، فانظر أين تَضَع قدمَيْك منها. وقال أبو العتاهية:

رَضيت بذي الدنيا كَكُل مُكاثر ... مُلِحّ على الدنيا وكلِّ مُفاخِر
أَلم تَرَهَا تَسْقِيه حتى إذا صَبا ... فَرَت حَلْقَه منها بِشَفْرة جازر
" ولا تَعْدلُ الدنيا جَناح بَعُوضة ... لدى الله أو مقدارَ نَغْبْةِ طائر "
فلم يَرْضَ بالدنيا ثواباً لمُؤْمن ... ولم يَرْضَ بالدنيا عِقاباً لكافر
وقال أيضاً:
هي الدنيا إذا كَمُلتْ ... وتَمَّ سرُورُها خَذَلتْ
وتَفعل في الذين بَقوا ... كما فيمن مَضى فَعلتَ
وقال بعضُ الشعراء يصف الدنيا:
لقد غرت الدنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلةٍ ما بعدها متحوَّلُ
فساخِطُ أَمْر لا يًبَدَّلُ غيرَه ... ورَاضٍ بأمر غيرَه سيبدلُ
وبالغُ أمر كان يأمًل دونه ... ومخْتَرَم من دون ما كان يأمُل
وقال هارون الرشيد: لو قيل للدنيا صِفي لنا نفسك، وكانت ممّن يَنْطق، ما وَصفت نفسها بأكثر من قول أبي نُواس:
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكَشَّفت ... له عن عدوٍّ في ثِياب صديقِ
وما الناسُ إلا هالكٌ وابن هالكٍ ... وذو نسَبٍ في الهالكين عَريق
وقال آخر في صفة الدنيا:
فَرُحْنا وراح الشَامِتون عَشِيَّةً ... كأَنَّ عَلَى أكتافنا فِلَق الصًخْرِ
لحا الله دُنيا يَدْخل النارَ أَهْلُها ... وتَهْتك ما بين الأقارب من سِتر
ولأبي العتاهية:
كُلَّنَا يُكثر الملامةَ للدن ... يا وكل بِحُبِّها مَفْتُون
والمقاديرُ لا تناوَلُها الأوْ ... هام لُطْفاَ ولا تراها العُيون
ولركب الفَناء في كلِّ يومٍ ... حَرَكات كَأنَّهنَّ سُكون
ومن قولنا في وصف الدنيا:
ألا إنما الدُّنيا نضارة أَيْكةٍ ... إذا اخضرَّ منها جانبٌ جَفَّ جانبُ
هِيَ الدَّار ما الآمالُ إلا فَجَائع ... عليها ولا اللَذًاتُ إلا مصائب
فكم سَخُنت بالأمس عين قَرِيرة ... وقَرَّت عُيُون دمعُها اليوم ساكِبُ
فلا تَكْتَحلْ عَيْناك فيها بِعَبْرَة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب
وقال أبو العتاهية:
أَصْبَحَتْ الدنيا لنا فتنةً ... والحمد للّه على ذلِكَا
قد أَجْمَعَ الناسُ على ذَمِّهَا ... ولا أرى منهمْ لها تارِكا
وِّقال إبراهيم بن أدهم:
نُرَقع دُنْيانا بِتَمْزيقِ دِيننا ... فلا دينُنا يَبقى ولا ما نُرَقِّع
وما سمعتُ في صفة الدُنيا والسبب الذي يُحبها الناسُ لأجله بأبلغ من قول القائل:
نراع بِذْكر المَوت في حين ذِكْره ... وتَعْترض الدنيا فَنَلْهُو ونَلْعَبُ
ونحن بنُو الدُّنيا خُلِقْنا لغَيرها ... وما كنتَ منه فهو شيء مُحبب
فذكر أن الناس بنو الدنيا وما كان الإنسان منه فهو محبّب إليه.
واعلم أنّ الإنسانَ لا يُحبّ شيئاً إلاّ أن يُجانَسه في بعض طبائعه، وأنّ الدنيا جانَسَت الإنسان في طبائعه كلها فأحبَّها بكل أطرافه.
وقال بعض ولد ابن شُبْرمة: كنتُ مع أبي جالساً قبل أن يلي القضاء فمر به طارقُ بن أبي زياد في مَوْكب نبيل، فلما رآه أبي تَنفَس الصُّعَدَاء وقال:
أراها وإنْ كانت تُحَبُّ كأنَّها ... سحابةُ صَيْفٍ عن قلِيل تقشعُ
ثم قال: اللّهم لي دِيني ولهم دُنياهم. فلما ابتلى بالقْضاء، قلتُ: يا أبتِ، أتذكر يومَ طارق؟ فقال: يا بُنِى، إنهم يَجدون خَلَفاً من أبيك وإنّ أباك لا يَجد خَلَفاً منهم، إنّ أباك خَطَب في أهوائهم، وأكل من حَلْوائهم.
وقال الشَّعبي: ما رأيتُ مَثَلَنا ومثِلَ الدنيا إلا كما قالت كُثَيِّر عَزَّة:
أسِيئي بنا أَوْ أَحْسني لاَ مَلومةَ ... لَدَينا ولا مَقْلِيةً إن تَقَلَّتِ
وأحكُم بيتٍ قيل في تَمْثِيل الدنيا قولُ الشاعر:
ومَن يأمَن الدنيا يكن مثلَ قابض ... على الماء خانَتْه فُروجُ الأصابع
وحَدّث العبّاس بن الفَرج الرِّيَاشي قال: رأيت الأصمعيّ يُنْشد هذا البيتَ ويستحسنه في صفة الدنيا:

ما عذر مُرْضِعَةٍ بكا ... س الموت تَفْطِم مَنْ غَذَتْ
ولقَطَهريّ بن الفُجاءة في وَصف الدُّنيا خُطْبَةٌ مجرَّدة تَقَع في جملة الخُطَب في كتاب الواسطة.

قولهم في الخوف
سُئل ابن عباس عن الخائفين للّه، فقال: هم الذي صَدَقُوا الله في مَخَافَة وعيده، فقلوبهم بالخَوْف قَرِيحة، وأعينُهم على أنفسهم باكِية، ودُموعهم على خدودهم جارية، يقولون: كيف نَفْرح والموتُ من ورائنا، والقُبورُ من أمامنا، والقيامة مَوْعدنا، وعلى جهنَّم طريقُنا، وبين يدي ربنا مَوْقفنا.
وقال عليّ كَرم الله وجهَه: ألا إنّ للّه عباداً مُخْلصين، كمَن رأى أهلَ الجنَّة في الجنَّة فاكهين، وأَهْل النار في النار مُعذَّبين، شرُورُهم مأمونة، وقُلوبهم مَحزونة، وأنفسُهم عفيفة، وحوائجهم خَفيفة، صَبَرُوا أيًاماَ قليلة، لِعُقْبى راحة طويلة؛ أمّا بالليل فَصَفُوا أقدامَهم في صَلاتهم، تَجْري دُموعُهم على خُدُودهم، يَجْأَرون إلى ربِّهم: ربَّنا ربنا، يَطلبون فَكاك قُلوبهم: وأمَّا بالنهار فُعلماء حُلماء، بَررة أَتْقياء، كأنهم القِداح - القِداح: السهام، يريد في ضُمرتها - يَنْظر إليهم الناظرُ فيقول: مَرْضىَ، وما بالقوم من مَرض، ويقول: خُولطوا، ولقد خالط القومَ أمرٌ عظيم.
وقال منصور بن عَمَّار في مجلس الزهد: إن للهّ عباداً جعلوا ما كُتب عليهم من الموتِ مثالاً بين أعينهم، وقطعوا الأَسباب المُتَّصلة بقلُوبهم من عَلائق الدنيا، فهم أنضاءُ عبادته، حُلفاء طاعته قد نَضَحوا خُدودهم بوابل دُموعهم، وافترشوا جِبِاهَهم في مَحاريبهم، يناجون ذا الكِبْرياء والعَظمة في فكاك رِقابهم.
ودَخل قوم على عُمر بن عبد العزيز يَعودونه في مَرضه، وفيهم شابٌّ ذابل ناحِل. فقال له عُمر: يا فتى، ما بَلغ بك ما أَرى؟ قال: يا أميرَ المؤمنين، أمراضُ وأسقام. قال له عمر: لَتَصْدُقَنِّي. قال: بلى يا أمير المؤمنين، ذُقت يوماً حلاوةَ الدنيا فوجدتُها مُرَّةً عواقُبها، فاستوى عندي حَجَرُها وذَهَبُها، وكأَنِّي أنظر إلى عَرْش ربِّنا بارزاً، وإلى الناس يُسَاقون إلى الجنة والنار، فأظمأْتُ نَهاري، وأسْهَرْتُ ليلي، وقليلٌ كلُّ ما أنا فيه في جنْب ثواب الله وخوف عقابه.
وقال ابن أبي اَلحَواريّ: قلت لسُفيان: بلغني في قول الله تبارك وتعالى: " إلاَ مَنْ أتىَ الله بِقَلْب سَلِيم " الذي يَلْقى ربَّه وليس فيه أَحَدٌ غَيْره. فبكى وقال: ما سمعتُ منذ ثلاثين سنةً أحسَنَ من هذا التفسير. وقال الحسنُ: إنّ خوفك حتى تلقى الأمنَ خيرٌ من أمنك حتى تَلقى الخوف. وقال: ينبغي أن يكوِن الخوفُ أغلبَ على الرجاء، فإنّ الرجاء إذا غَلَب الخوفَ فَسَد القلبُ. وقال: عجباَ لمَن خافَ العِقَابَ ولم يَكُف، ولمَن رَجا الثوابَ ولم يَعْمل.
وقال علي بن أبي طالب كرَّمَ الله وجَهه لرجل: ما تَصْنع؟ فقال: أرجو وأخاف، قال: مَن رجا شيئاً طلبه، ومَن خاف شيئاً هرب منه. وقال الفضَيْل بن عياض: إني لأسْتَحِي من الله أن أقول: تَوَكلت على اللّه، ولو توكلت عليه حقَّ التوكل ما خِفْتُ ولا رَجَوْتُ غيره. وقال: مَن خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومَن لم يَخف الله أخافَه الله من كل شيء. وقال: وعْد من اللهّ لمَن خافَهُ أن يُدْخِله اللَهُ الجنةَ، وتلا قولَه عزَّ وجَلّ: " وَلمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَان " .
وقال عمر بن ذَرّ: عبادَ اللّه، لا تَغترُّوا بطول حِلْم الله، واحذروا أَسَفَه، فإنه قال عزِّ وجلّ: " فلمَّا آسُفونا آنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فأغْرَقْناهم أَجْمَعين. فجعلناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخِرين " . وقال محمد بن سَلاّم: سمعت يونس بن حَبيب يقول: لا تأمن مَن قَطع في خمسة دراهم أشرَفَ عُضو فيك أن تكون عُقُوبته في الآخرة أضعافَ ذلك. وقال الربيعُ بن خُثَيم: لو أَنَّ لي نَفْسَين إذا غَلِقَتْ إحداهما سَعَت الأخرى في فَكاكِها، ولكنها نفس واحدة، فإن أنا أوثقتُها مَنْ يَفْكّها؟ وفي الحديث: مَن كانت الدنيا هَمَّه طال في الآخرة غَمُّه، ومَن أُخْلِف الوعيدَ لها عما يُريد، ومَن خاف ما بين يَدَيه ضاق ذَرْعاً بما في يديه.
وقال محموِد الورٍّاق:
يا غافلاَ تَرْنو بِعَيْنَي راقد ... ومُشَاهِداً للأمر غيرَ مُشَاهِدِ

تَصِلُ الذُّنوب إلى الذُّنوب وَتَرْتَجيِ ... عَرَكَ الجنَان بها وفَوْزَ العَابِد
ونسيتَ أَنّ الله أَخْرَجَ آدمَاَ ... منها إلى الدُنيا بِذَنبِ واحد
وقال نابغة بني شَيْبَان:
إنّ مَنْ يَرْكَبُ الفواحشَ سِرَّاً ... حين يَخلو بسرِّه غيرُ خالي
كيف يَخْلو وعنده كاتبَاه ... شاهدَاه وربُّه ذو الجَلال

قولهم في الرجاء
قال العلماء: لا تشهد على أحد من أهل القِبْلة بجنة ولا بنار، يُرْجَى للمُحْسن ويُخاف عليه، ويخاف عليه المُسيء ويُرْجَى له. وفي الحديث المرفوع: إنّ الله يَغْفر ولا يُعيِّر، والناسُ يعيَرون ولا يَغْفرون. وفي حديث آخر: لا تُكَفِّروا أهلِ الذنوب.
وتُوفِّي رجلٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مُسرفاً على نفسه، فرَفع برأسه وهو يجود بِنَفْسِه، فإذَا أبواه يَبْكِيَان عند رأسه، فقال: ما يًبْكِيكما؟ قالا: نَبْكي لإسرافك على نفسك؛ قال: لا تَبْكيا، فواللّه ما يَسُرُّني أن الذي بيد الله منٍ أمريٍ بأيديكما، ثم مات. فأتى جبريلُ عليه الصلاة والسلام النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن فتى تُوُفَي اليومَ فأَشهَده بأنه من أهل الجنة. فسأل رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم أبويه عن عَمله، فقالا: ما عَلِمنا عنده شيئاً من خَيْر إلا أنه قال لنا عند الموت كذا وكذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مِنِ ها هنا أُوتي، إنّ حُسن الظنّ باللّه من أفضل العَمل عنده. وتُوفِّي رجل بجوِار ابن ذرّ وكان مُسرفاً على نفسه، فتحامَى الناسُ من جنازته، وبلغ ذلك عُمَرَ بن ذرّ، فأوصى أهلَه: إذا جهَزتموه فآذِنُوني، ففعلوا، فَشَهِدَه والناسُ معه، فلما أُدْلِيَ وَقَف على قبره فقال: رَحمك الله أبا فُلان، فلقد صَحِبْتَ عُمْرَك بالتَّوحيد، وعَفَّرْت وَجهك للهّ بالسجود، فإنْ قالوا مُذْنِب وذو خَطايا، فمن مِنَّا غيرُ مُذْنب و " غير " ذي خطايا؟ " وتمثّلَ معاوية عند الموت بهذا البيت:
هُو الموتُ لا مَنْجَى من الموت والذي ... نُحاذِر بعد الموت أَنْكَى وأَفْظَعُ
ثمّ قال: اللّهمّ فأقِل العَثرة، واعفُ عن الزّلّة، وعُدْ بِحلمِك على جهل من لم يَرْجُ غيرَك، ولم يَثِق إلا بك، فإنك واسع المَغفِرة. يا رب، أين لذي الخطأ مَهْرب إلا إليك. قال داود بن أبي هِنْد: فبلغنيِ أنّ سعيد بن المُسَيِّب قال حين بلغه ذلك: لقد رغب إلى مَن لا مَرغب إلا إليه كَرْهاَ، وإني أرجو من الله له الرحمة " .
الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يقول في دُعائه واْبتهاله: إلهي، ما توهمتُ سَعة رحمتك، إلا وكانت نَغْمة عَفْوك تَقْرَع مسامعي: أن قد غَفَرتُ لك. فصَدِّق ظني بك، وحَقِّق رجائي فيك يا إلهي. ومن أحسن ما قيل في الرجاء هذا البيتُ:
وإنّي لأرجو الله حتى كأنَّني ... أرَى بِجَميل الظنّ ما اللَهُ صانِعُ
قولهم في التوبة
مرَّ المسيح " بن مَريْم " عليه السلام بقَوْم من بني إسرائيل يَبكون، فقال لهم:ما يُبكيكم؟ قالوا: نَبْكيِ لذنوبنا؟ قال: اترُكوها تُغْفَر لكم. وقال عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه: عجباَ لمَن يَهْلك ومعه النجاةُ! قيل له: وما هي؟ قال: التوبة والاستغفار.
وقالوا: كان شابّ من بني إسرائيل قد عَبد الله عشرين حِجَّة ثم عصاه عشرين حجة، فبينما هو في بَيْته يتراءَى في مرآته نَظَرَ إلى الشَّيْب في لِحْيته فساءَهُ ذلك فقال: إِلهي، أطعتُك عشرين سنةً، وعَصيتك عشرين سنة، فإن رجعتُ إليك تَقْبَلني؟ فسَمع صوتاً من زاوية البيت ولم ير شَخْصأ: أحْبَبْتنا فأحْبَبْناك، وتَرَكْتنَا فتركناك، وعَصَيتنا فأمْهَلْنَاك، وإن رَجَعت إِلينا قَبلناك.

عبد الله بن العَلاء قال: خرَجنا حُجّاجاً من المدينة. فلمّا كُنّا بالحُلَيفة نَزَلنا، فَوَقف علينا رجلٌ عليه أثوابٌ رثّة له منظر وهَيئة، فقال: مَنْ يَبغي خادماً؟ مَن يَبْغي ساقياً؟ مَن يملأ قِرْبة أو إدَاوَة؟ فَقُلنا: دونك هذه القِرَبُ فآملأها. فأخذها وانطلق، فلم يلبث إلا يسيراً حتى أقبل، وقد امتلأت أثوابُه طيناً، فَوَضعها وهو كالمسرور الضاحك ثم قال: لكم غيرُ هذا؟ قلنا: لا، وأَطْعَمْناه قارِصاً حازِراً، فأخَذه، وحَمِد اللهّ وشَكَرَه، ثم اعتزل وقعد يأكل أكلَ جائع، فأَدْرَكتْني عليه الرّقة، فقمتُ إليه بطَعام طيِّب كثير، وقلتُ: قد علمتُ أنه لم يَقَعْ منك القارص موقعاً فدُونك هذا الطعامَ فكُلْه. فَنَظر في وَجْهِي وتَبَسَّم وقال: يا عبد الله، إنّما هي فَوْرَةُ هذه النار قد أطفأتُها، وضرَب بيده على بطنه. فرجعتُ وقد انكسف بالي لما رأيتُ من هيبته. فقال لي رجلٌ كان إلى جانبي: أتعرفه؟ قلت: ما أعرفه؟ قال: هذا رجل من بني هاشم من وَلد العبّاس بن عبد المُطّلب، كان يَسْكُنً البَصرةَ، فتَاب وخَرَجَ منها فَفُقِدَ وما يُعرف له أثر. فأَعْجبني قولُه، ثم لحقتُ به وناشدتُه اللهّ، وقلتُ له: هل لك أن تعادلني، فإن معي فَضْلاً من راحلتي وأنا رجل من بعض أَخْوَالك؟ فجزاني خيراً، وقال: لو أردتُ شيئاً من هذا لكان لي مُعدّاً؟ ثمّ أَنِسَ إليّ وَجَعَل يُحدّثني، وقال: أنا رجلٌ من ولد العبّاس كنت أَسكُنُ البَصرة وكنت ذا كِبْر شدِيد وجَبَرُوت وبَذَخ، وإني أمرْتُ خادماً أن تَحْشُو لي فِراشاً ومِخَدةً من حرير بوَرْدٍ نَثير، ففعلَتْ، فإني لنائم إذ أَيْقَظتني قِمَع وَرْدة أغفلَته الخادمُ، فقمتُ إليها فأوْجعتها ضَرْباً. ثم عُدْت إلى مَضْجعي بعد أن خَرج ذلك القِمَع من المِخَدِّة، فأتاني آتٍ في منامي في صُورة فَظِيعةٍ فنَهَرَني وَزَبَرَني، وقال: أَفِقْ من غَشْيَتِك وأَبْصر من حَيْرَتك، ثم أنشأ يقول:
يا خَدُ إنّك إنْ تُوَسَّدْ لَينَاَ ... وسَدْتَ بعد المَوتِ صُمَّ الْجَنْدَلِ
فامْهَدْ لِنَفسِكَ صَالحاً تَنْجُو به ... فَلَتَنْدَمَنَ غداً إذا لم تَفْعَل
فانتبهتُ فَزِعاً وخرجتُ من ساعتي هارباً بِدِيني إلى ربَي.
وقالوا: علامةُ التوبة الخروج من الجهل، والندمُ على الذنب، والتجافي عن الشَهْوَة، وتَرْك الكذب، والانتهاء عن خُلق السَّوء. وقالوا: التائب من الذنب كمن لا ذنبَ له، وأولُ التوبة الندم. ومن قولنا في هذا المعنى:
يا ويلَنا من مَوْقِفٍ ما به ... أخوفُ من أَنْ يَعدِلَ الحاكمُ
أُبارز الله بعصيانه ... وليس لي من دُونه راحم
يارَبّ غُفْرَانك عن مُذْنِب ... أَسرَف إلا أنّه نادم
وقال بعض أهل التفسير: في قول الله تبارك وتعالى: " يا أَيًّها الذين آمنُوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً " : إنّ التوبةَ النَّصوح أن يتوب العبدُ عن الذنب ولا يَنْوي أن يعود إليه. وقال ابن عبّاس في قول الله عزَّ وجلّ " إنّما التَّوْبةُ علىِ اللًهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثم يَتُوبُون من قِريب " : إنّ الرجل لا يَرْكَبُ ذَنْباَ ولا يأتي فاحشةً إلا وهو جاهل. وقوله: " ثمّ يَتُوبون من قِريب " قال: كلُّ ما كان دون المُعاينة فهو قريب، والمُعاينة أن يؤخَذ بِكَظْم الإنسان، فذلك قوله: " إذا حَضَرَ أحدَهم المَوْتُ قال إنِّي تُبْتُ الآن " . قال أهل التفسير: هو إذا أُخِذ بكَظْمة. وقال ابن شُبْرُمة: إنِّي لأعجب ممن يَحْتَمى مخافةَ الضرر ولا يدعُ الذنوبَ مخافة النار.

المبادرة بالعمل الصالح

قال الله عزّ وجلّ: " وَسَارِعُوا إلى مَغفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم وجَنة " وقال تعالى: " والسَّابِقُونَ السَّابِقونَ أُولئك المُقرًبًون " . وقال الحسن: بادروا بالعمل الصالح قبل حُلول الأجل، فإنّ لكم ما أَمضيتم لا ما أَبْقَيتم. وقالوا: ثلاثة لا أناة فيهن: المُبادرة بالعمل الصالح، ودفْن الميّت، وإنكاح الكُفء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابن آدم، اْغتنم خمَساً قبل خَمْس: شبابك قبل هَرَمك، وصِحَّتك قبل سَقَمك، وفَراغك قبل شُغلك، وحياتَك قبل مَوْتِك، وغِناك قبل فَقْرِك. وقال الحسن: " ابن آدم " ، صُمْ قبل أن لا تَقْدر على يومٍ تَصُومه، كأنك إذا ظَمِئْت لمَ تَكُن رَوِيت، وكأنك إذا رَوِيتْ لم تكن ظَمِئت. وكان يزيد الرَّقاشيّ يقول: يا يزيدُ، مَن يَصُوم عنك أو يُصَلِّي لك أو يَتَرَضىَّ لك ربك إذا مِتّ؟ وكان خالدُ بن مَعْدان يقول:
إذا أنتَ لم تَزْرَع وأَبصرْتَ حاصداً ... نَدِمْتَ عَلَى التَّفْريط في زَمن البَذْرِ
وقال ابن المُبارك: رَكِبْتُ مع محمد بن النَّضْر في سفينة، فقلتُ: بأي شيء أَسْتَخْرِج منه الكلامَ؟ فقلتُ له: ما تقول في الصَّوم في السفر؟ فقال: إنما هي المبادرة يا بن أخي. فجاءني والله بفُتْيا غير فُتْيا إبراهيم والشعبي.
ومن قولنا في هذا المعنى:
بادرْ إلى التَّوْبِة الخَلْصَاء مُجْتهداً ... والموتُ وَيْحك لم يَمْدًد إليك يَدَا
وأرقبْ من الله وَعْداً لَيْسَ يُخْلِفُه ... لا بُدَّ لله من إنجاز ما وَعَدَا
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: فيم أنتم؟ قالوا: نَرْجُو ونَخاف؟ قال: مَن رجا شيئاً طَلَبَه، ومن خافَ شيئاً هَرَب منه.
وقال الشاعر:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلم تَسْلُك مَسَالكها ... إنّ السَّفِينَةَ لا تَجْرِي عَلَى اليَبس
وقال آخر:
اعمل وأنتَ من الدُنيا على حَذَر ... وآعلم بأنكَ بعد المَوْت مَبْعُوثُ
واعلم بأنك ما قَدَمْت من عَمَل ... يُحْصىَ عَليك وما خَلَّفْتَ مَوْرُوث
وقَدَّمَت عائشةُ رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم صَحْفَة فيها خُبز شَعِير وقطعة من كَرش، وقالت: يا رسولَ الله، ذَبَحْنا اليوم شاةً فما أَمسكنا منها غيرَ هذا؟ فقال: بل كلًّها أمسكتم غير هذا.

العجز عن العمل
قال رجلٌ لمُؤرِّق العِجْلي: أشكُو إليك نفسي، إنها لا تُريد الصلاة ولا تَسْتَطيع الصبرَ على الصّيام؛ قال: بئس الثناء أثنيت به على نفسك، فإذا ضعًفَت عن الخير فاضْعُف عن الشرّ، فإنّ الشاعر قال:
احْزَنْ عَلى أَنكَ لا تَحْزَنُ ... ولا تُسئ إن كُنْتَ لا تُحْسِنُ
واضعُفْ عن الشر كما تدَعى ... ضَعْفاً عن الخير وقد يُمْكِنُ
وقال بكرُ بن عبد الله: اجتهدوا في العملِ، فإن قَصرًّ بكمِ ضْعْفٌ فأمسكوا عن المعاصي. وقال الحسنُ رحمه الله: من كان قوياً فَلْيعتمد على قُوته في طاعة الله، ومَن كان ضعيفاً فلْيَكُفّ عن معاصي الله. وقال عليُ " بن أبي طالب عليه السلام " : لا تَكُنْ كمن يَعْجِزُ عن شُكر ما أُوِتي، ويَبْتَغي الزيادة فيما بَقى، وينْهَى الناسَ ولا ينتهي.
وكان الحسنُ إذا وَعظ يقول: يا لها موعظةً لو صادفت من القلوب حياةً، أَسْمَع حَسِيساً ولا أَرَى أنيساً، ما لهم تَفاقدوا عقولَهم، فَرَاش نار وذُباب طَمَع. وكان ابن السمّاك إذا فَرَغ من مَوْعظته يقول: أَلْسِنَة تَصِف، وقلوب تَعْرف، وأعمال تخالِف. وقال: الحسنة نورٌ في القَلْب وقُوَّة في العمل، والسيِّئة ظُلْمة في القلب وضَعْف في العمل.
وقال بعض الحُكماءِ: يا أيُّها المشيَخَة الذين لم يَتْرًكوا الذنوب حتى تَرَكتْهُم الذُّنوب، ثمّ ظَنُّوا أنّ تَرْكها لهم توبة، وليتهم إذ ذهبتْ عنهم لم يَتَمَنَوا عَوْدَها إليهم. وكان مالكُ بن دينار يقول: ما أشدَّ فِطَامَ الكبير ويُنشد:
وتَرُوض عِرْسَك بعدما هَرِمَت ... ومن العَناء رياضة الهَرِم
ومن حديث محمد بن وَضّاح قال: إذا بلغَ الرجلُ أربعين سنة ولم يَتُب مَسح إبليسُ بيده على وجهه وقال: بِأَبي وَجْهٌ لا أفْلَح أبداً. قال الشاعر:
فإذا رأى إبليسُ غُرَّةَ وَجْهِه ... حَيا وقال فَديتُ من لا يُفْلِحُ

وقال رجل للحسن: أبا سعيد، أردتُ أن أُصَلِّي فلم أستطع؛ قال: قَيَّدَتْكَ ذنوبك.

قولهم في الموت
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطّاب رضوانُ الله عليه: ما عندك من ذِكر الموت أبا حَفْص؟ قال: أُمْسي فما أرى أنّي أُصْبح، وأُصبحِ فما أَرَى أني أُمْسي؟ قال: الأمر أَوْشك من ذلك أبا حَفْص، أما إنّه يَخرُج عنّي نفسي فما أَرَى أنه يعود إليّ.
وقال عبد بن شَدَّاد: أرى داعي الموت لا يُقْلِع، و " أرى " مَن مَضى لا يَرْجع، ومن بَقي فإليه يَنْزع. وقال الحسن: ابن آدم، إنما أنت عَدَد، فإذَا مضى يومُك فقد مَضى بعضُك. وقال أبو العتاهية:
الناس في غَفَلاتهمِ ... ورَحى المَنية تَطْحَنُ
وقال عمر بن عبد العزيز: مَن أكثر من ذِكر الموت اكتفي باليسير، ومَنْ عَلِم أَنّ الكلام عمل قلِّ كلامُه إلاّ فيما يَنفع. وكان أبو الدَّرداء إذا رأى جِنَازة، قال: اغدي فإنا رائحون، أو روحي فإنا غادون. وقال رجل للحسن: مات فلانٌ فجأة، فقال: لو لم يَمُتْ فجأةً لَمَرِض فجأة ثم مات. وقال يعقوب صلواتُ الله عليه للبَشِير الذي أتاه بقمِيص يوسف: ما أَدْرِي ما أُثيبك به، ولكن هوَن الله عليك سكراتِ الموت.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد جَلستُ إلى جَرِير وهو يُملي على كاتبه: وَدِّعْ أُمَامَةَ حَان منك رَحِيلُ ثم طلعت جِنَازَةٌ فَأمْسك وقال: شَيَّبَتْني هذه الجنائز؟ قلت: فَلِم تَسُبّ الناسَ؟ قال: يَبْدَءوني ثم لا أعفو، وأَعْتدي ولا أَبْتَدي. ثم أنشد يقول:
تُرَوِّعنا الجنائزُ مُقْبِلات ... فَنَلْهُو حين تذْهبُ مُدْبراتِ
كَرَوْعَة هَجْمَةٍ لمُغار سَبْعِ ... فلما غابَ عادتْ راتعات
وقالوا: مَن جعل الموتَ بين عَيْنيه لَهَا عما في يَدَيه. وقالوا: اتخذ نوحٌ بيتاً من خُصّ؟ فقيل له: لو بَنيتَ ما هو أحسن من هذا؟ قال: هذا كثيرٌ لمَن يموت.
وأحكم بيتٍ قالْته العربُ في وَصْف الموت بيتُ أُمية بن أبي الصَّلت، حيث يقول:
يُوشِك مَنْ فَر مِنْ مِنيَّته ... في بَعْض غِراته يُوَافِقُهَا
مَنْ لم يمُتْ غَبْطَةً يَمُت هَرَماً ... للموت كأسٌ والمرء ذائقها
وقال إصْبَغ بن الفَرَج: كان بنَجْران عابد يَصِيح في كلِّ يوم صَيحتين بهذه الأبيات:
قَطَعَ البقاء مَطالعُ الشمسِ ... وغُدوًّها من حيث لا تُمْسي
وطلوعُها حمراءَ قانيةَ ... وغُرِوبُها صفراءَ كالوَرْس
اليومُ يُخبر ما يجيء به ... ومَضى بفَضْل قَضَائه أمس
قال آخر:
زينت بيتك جاهلاً وعَمَرْتَه ... ولعلّ غيرَك صاحبُ البيتِ
مَنْ كانت الأيامُ سائرةً به ... فكأنه قد حلّ بالموت
والمرءُ مُرْتهنٍ بسوْفَ ولَيْتني ... وهلاكُه في السَّوف واللَّيْت
للهّ دَرُّ فتى تَدَبّرَ أمرَه ... فَغَدَا وراح مُبَادِرَ الفَوْتِ
وقال صريع الغواني:
كم رأينا من أناس هَلَكوا ... قد بَكَوْا أحْبَابَهُم ثم بُكًوا
تَرَكُوا الدًّنيا لمَن بعدهُم ... وُدًّهم لو قَدّمُوا ما تَركوا
كم رأينا من مُلوكٍ سُوقة ... ورأينا سُوقةً قد مَلَكوا
وقال الصَّلَتان العَبْدِيّ:
أَشابَ الصغِيرَ وأَفْنى الكبي ... رَ كرُّ الغَداة ومَرُّ العَشي
إِذا ليلة أَهْرَمت يومَها ... أتى بعدَ ذلك يومِ فَتِي
نرُوح ونَغدو لحاجاتِنا ... وحاجةً مَن عاشِ لا تنقضي
تَموت مع المرء حاجاتُه ... وتَبْقَى له حاجةَ ما بقي
وكان سُفيان بن عُيينة يَسْتحسن قولَ عَدِيّ بن زَيْد:
أينَ أهلُ الدِّيارِ مِنْ قَوْم نُوح ... ثم عادٌ من بعدها وثَمود
بينما هُمْ على الأسرة والآن ... ماطِ أَفضت إلى التُّراب الخُدود
وصحيحٌ أَمْسى يعُودُ مريضاً ... وهو أَدنى للموت ممَّن يَعود
ثم لم ينقض الحديثُ ولكنْ ... بعد ذا كلِّه وذاك الوَعِيد
وقال أبو العتاهية في وَصْف الموت:

كأن الأرْض قد طُوِيت عَليَّا ... وقَد أُخْرِجْتُ ممّا في يَديّا
كأن قد صِرْتُ مُنْفَرِداً وحيداً ... ومُرْتَهناً هناك بما لَديّا
كأنّ الباكياتِ عليّ يوماً ... ولا يُغنى البًكاء عليّ شَيَّا
ذكرت مَنِيَّتِي فنعمتُ نفسي ... ألا أَسْعِدْ أُخَيك يا أُخَيّا
وقال:
سَتَخلق جِدًةٌ وَتَجُود حالُ ... وعِنْد الحق تختبر الرجالُ
وللدُنيا ودائعُ في قُلوب ... بها جَرَت القَطِيعة والوِصَال
تَخَوَّفُ ما لَعَلَّكَ لا تَراًه ... وترْجُو ما لعلك لا تنال
وقد طلع الهِلالُ لهَدْم عُمْري ... وأَفْرَحُ كًلَّما طَلع الهِلال
وله أيضاً:
مَنْ يَعِيشْ يَكْبُرْ ومَنْ يَكْبُر يَمُتْ ... والمَنَايا لا تُبالي من أتَتْ
نحن في دار بَلاءٍ وأذىً ... وشَقَاءٍ وعَناءٍ وعَنَت
مَنزلٌ ما يَثْبُتُ المرءُ به ... سالماً إلا قليلاً إن ثَبَت
أيها المَغْرور ما هذا الصِّبا ... لو نَهَيْتَ النفسَ عنه لانْتهت
رَحِمَ الله آمرأً أنصَف مِنْ ... نَفْسِه إذْ قال خَيْراً أو سَكت
ومن قولنا فيٍ ذكر الموت:
مَنْ لي إذا جُدْت بين الأهل والوَلَد ... وكان منِّيَ نحو المَوت قَيْد يَدِ
والدَّمْعُ يَهْمُلُ والأنفاسُ صاعِدةٌ ... فالدًمْعُ في صَبَب والنفس في صُعُد
ذاكَ القضاءُ الذي لا شيءَ يَصرِفه ... حتى يُفرِّقَ بينً الرُّوح والجَسَد
ومن قولنا فيه:
أتْلهو بين باطِيَةٍ وزيرِ ... وأَنت من الهلاك على شَفِير
فيا مَن غَرّهُ أملٌ طَوِيلٌ ... يُؤَدِّيه إلى أجل قَصِير
أتَفْرَحُ والمَنِيِّة كلَ يوم ... تريك مكان قبرك في القبور
هي الدّنيا فإنْ سَرتكَ يوماً ... فإنَّ الحُزْنَ عاقبةً السُرُور
سَتسْلَبُ كلَّ ما جَمعْت منها ... كَعَارِيةٍ ترَدُّ إلى المُعِير
وتَعْتَاضُ اليَقيِن من التَّظَنِّي ... وَدَارَ الحق من دار الغًرور
ولأبي العتاهية:
وَليس مِن مَنزلٍ يَأْوِيه ذو نَفَس ... إلا وَللمَوْتِ سَيْفٌ فيه مَسْلُولُ
وله أيضاً:
ما أقْرَبَ الموتَ منَّا ... تَجَاوَز الله عنا
كأنه قد سَقَانا ... بِكأسِهِ حيثً كُنّا
وله أيضاً:
أُؤمِّل أَنْ أخَلَّدَ والمَنايَا ... يَثِبْنَ عَليّ من كلِّ النًوَاحِي
وما أدْرِي إِذا أمسيت حَيّاً ... لعَلِّي لا أعِيشُ إلى الصَّبَاح
وقال الغَزّال:
أصبَحْتُ واللّه مَجْهُوداً على أمَلٍ ... مِنَ الحيَاة قَصِير غير مُمْتَدِّ
وما أفارقً يوماً مَنْ أُفَارِقُه ... إِلا حَسِبْتُ فِرَاقي آخرَ اَلعَهْد
انظرُ إليّ إذا أدرِجْتُ في كَفَنِي ... وانْظُرِ إليّ إذَا أدْرِجْت في اللِّحْد
وأقعدْ قليلاً وعاينْ مَنْ يُقِيم معي ... ممن يُشيَعُ نَعْشي من ذَوِي وُدِّي
هَيهات كلُّهُمُ في شَأْنِهِ لَعِبٌ ... يَرْمي الترابَ ويَحْثُوهُ على خَدِّي
وقال أبو العتاهية:
نَعى لك ظلَّ الشًبَاب المَشِيبُ ... ونادتْكَ باسمٍ سِوَاكَ الخُطُوبُ
فكُن مستَعِدّاَ لرَيْب المَنُون ... فإنَّ الذي هو آتٍ قريب
وقَبْلَك داوى الطبيب المَرِيض ... فعاش المَرِيضُ ومات الطَّبِيب
يَخاف على نَفْسه من يَتوب ... فكَيْف ترى حالَ من لا يَتوب
وله أيضاً:
أخَيَّ ادخرْ مهما أستطع ... تَ ليَوم بَؤْسِكَ وافتقارِكْ
فَلْتَنزلنّ بمَنْزِلٍ ... تَحْتاجُ فيه إلى ادّخارِك
وقال أبو الأسود الدُّؤليّ:
أيُّها الأملُ ما ليسَ لَه ... ربما غَر ّسفيهاً أَمَلهْ

رُبَّ من بات يُمَنَي نفسَه ... حالَ مِن دون مُنَاه أَجَلُه
والفَتَى المُحتَال فيما نابَه ... ربما ضَاقَتْ عليه حِيَلُه
قُلْ لمن مَثَّلَ في أشعَاره ... يَهْلِكُ المرء ويَبْقَى مَثَلُه
نافِس المُحْسنَ في إحْسانهِ ... فَسَيَكْفيِك سَناء عَمَله
وقال عدِيّ بن زيد العِبَاديّ:
أين كِسْرَى كِسرَى المُلوك أنوشر ... وَانَ أَمْ أيْن قبْلَه سابُورُ
وبَنُو الأصفَر الكِرَام مُلُوك الرُّ ... وم لٍم يَبْق منهمُ مَذْكوُر
وأخُو الحَصْرَ إذ بَناه وإذ دِجْ ... لةُ تجْبَي إليه والخَابُور
شادَهُ مَرْمَراً وجَلَّلَه كلس ... ساً فللطيْر في ذَرَآه وُكُورُ
لم يَهَبْهُ رَيْبُ المَنًونِ فَبَانَ ال ... مُلْكُ عَنْه فَبَابهُ مَهْجور
وتَبينَّ رَبّ الخَوَرْنق إذ أش ... رف يوماً وللهُدَى تفْكِير
سَرًهُ مالُهُ وكثْرةُ ما يم ... لكُ والبحرُ مُعْرضاً والسَّدِير
فارْعوَي قلبُه وقال فما غِب ... طة حَيٍّ إلى المَمَات يَصِير؟
ثم بعد الفَلاح والمُلك والنِّع ... مة وارتهُمُ هُنَاكَ القًبُور
ثم صارُوا كأنهُم وَرَقٌ ... جَفَّ فأَلوَت به الصَّبَا والدَّبور
وقال حُرَيث بن جَبلة العُذْري:
يا قلبُ إنّكَ في الأحْيَاء مَغرُورُ ... فاذكُر وهَل يَنْفَعَنَكَ اليومَ تَذْكِير
حتى متَىِ أنتَ فيها مُدْنَفٌ وَلهٌ ... لا يَسْتفِزًنْكَ منها البُدَن الحُور
قد بُحت بالجَهْل لا تُخْفيهِ عن أحَدٍ ... حتى جرَتْ بك أَطلاقاً محاضير
ترِيد أمراً فما تَدْري أعاجِلُه ... خيرٌ لِنَفْسِك أم ما فيه تأخِير
فاستَقْدِرْ الله خَيْراً وارضين به ... فبينما العُسْرُ إذ دارتْ مَيَاسير
وبينما المرءُ في الأحْيَاء مُغْتَبطٌ ... إذ صار في الرمس تَعْفُوهُ الأعاصِير
حتى كأنْ لم يَكُنْ إلاّ توهّمه ... والدَّهر في كل حالَيْه دَهَارِير
يَبْكي الغريب عليه ليس يَعْرِفًه ... وذو قرِابته في الحيِّ مَسْرُور
فذاك آخِرُ عَهْدٍ من أخِيك إذا ... ما ضَمَّنتْ شِلْوَهُ اللَحْدَ المحافير
؟

قولهم في الطاعون
قال أبو عُبيدة بن الجرّاح لعمر بن الخطّاب رضوانُ الله عليه، لمّا بلغه أنَّ الطاعونَ وَقَع في الشام فانصرف بالناس: أفرَاراً من قَدَرِ الله يا أميرَ المؤمنين؟ قال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عُبيدة، نعم نَفِرُّ من قدرِ الله إلى قدَر اللّه، أرأَيت لو أنَّ لك إبلاً هَبَطْتَ بها وادياً له جِهتان إحداهما خَصِيبة والأخرى جَدِيبة، أليسَ لو رعيتَ الخصيبة رعيتَها بقَدَر اللّه، ولو رعيتَ الجديبة رعيتَها بقدَر اللّه؟ وكان عبدُ الرحمن بن عَوْف غائباً فأَقبل، فقال: عِنْدي في هذا عِلْمٌ سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إذا سمعتم به في أرض فلا تَقْدَموا عليها، وإذا وَقع في أرض وأَنتم بها فلا تَخْرُجوا فِرَاراً منه. فَحَمِد الله عُمر ثم انصرَف بالناس.
وقيل للوليد بن عبد الملك حين فرَّ من الطاعون: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الله تعالى يقول: " قل لَنْ يَنْفَعَكم الفِرَارُ إن فَرَرْتُم مِنَ المَوْتِ أَو القَتْل وإذَا لا تُمَتَّعُونَ إِلاّ قليلا " . قال: ذلك القليلَ نَطْلُب.
العُتْبيّ قال: وَقع الطاعونُ بالكُوفة، فخرج صدِيق لِشُرَيح إلى النَّجَف، فكتب إليه شُرَيح: أما بعد، فإنَ المَوْضع الذي هرَبْتَ منه لم يَسُق إلى أجلك تَمامَه، ولم يَسْلُبْه أيّامَه؛ وإنّ الموضع الذي صرت إليه لَبِعين مَنْ لا يُعجزه طَلَب ولا يَفُوتُه هرَب؛ وأنا وإيّاك على بِسَاط مَلِك، وإنّ النَّجَف من ذي قُدْرَةِ لقريب.

لما وَقع الطاعون الجارفُ أطاف الناسُ بالحُسين، فقال: ما أحسنَ ما صنع بكم ربُّكم، أَقْلَع مُذْنِبٌ وأَنْفَقَ مًمْسك. وخرج أعرابيّ هارباً من الطاعون فَلَدغَتْه أفْعى في طريقه فمات، فقال أَخُوه يَرْثيه:
طافَ يَبْغِي نَجْوَةً ... من هَلاكٍ فَهلَكْ
لَيْت شِعْري ضَلّةَ ... أيًّ شيءٍ قَتَلك
أَجُحَاف سائلٌ ... من جِبالٍ حَمَلك
والمَنَايا راصِدَات ... للفتى حيثُ سَلَك
كلُّ شيءٍ قاتِل ... حين تَلْقى أجَلك
حُكِيَ أن ماء المطر اتصل في وقت من الأوقات، فَقَطع الحسنَ بن وَهْب عن لقاء محمد بن عبد الملك الزيّات، فكتب إليه الحسن:
يُوضِّح العذْرَ في تَراخي الِّلقَاءِ ... ما توالى مِن هذه الأنْوَاءِ
فَسَلامُ الإله أهْدِيه منِّي ... كُل يوم لسيِّد الوزراءِ
لستُ ادري ماذا أَذُمُ وأَشْكو ... من سَماءٍ تعُوقني عن سَماءِ
غَيْرَ أَنِّي أدْعُو لهاتِيك بالثُّك ... ل وأدْعُو لهِذِه بالبَقاءِ
اتصل بأحمد بن أبي دُوَاد أن محمد بن عبد الملك هَجاه بقصيدة فيها تسعون بيتاً، فقال:
أحْسَنُ مِنْ تِسْعِينَ بَيْتاً سُدىً ... جٍمْعُكَ معناهنَّ في بَيْتِ
ما أحْوَجَ الناسَ إلى مَطْرَةٍ ... تزيلُ عنهم وَضَرَ الزّيتِ
فبلغ قولُه محمداً فقال:
يا أيُّها المأْفُون رَأْياً لقَدْ ... عرِّضْت لي نَفْسَك للْمَوْتِ
قَيًرْتُم المُلْكَ فلم نُنْقِهِ ... حتى قلَعْنا القارَ بالزَّيت
الزيت لا يزري بأَحْسَابنا ... أَحْسَابنا مَعْروفة البَيْت
وقيل لابن أبي دواد: لم لا تسأَل حوائجك الخليفةَ بحَضْرة محمد بن عبد الملك؟ فقال: لا أُحب أن أُعْلِمَه شأْني. وقد حدّث أبو القاسم جَعْفَر أن محمداً الحَسَنيّ قال: أخبرنا محمد بن زكريا الغَلاَبيّ، قال: حدثنا محمد بن نجيع النُّوبَخْتي، قال: حدثنا يحيى أن سُليمان قال: حدثني أبي، وكان ممن لَحِقَ الصحابة، قال: دخلت الكوفة فإذا أنا برجل يُحدِّث الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: بَكْر بن الطِّرِمّاح، فسمعتُه يقول: سمعتُ زَيد بن حُسَينْ يقول: لما قُتِل أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبى طالب عليه السلام، أتى بنَعْيه إلى المدينة كُلْثوم بن عَمْرو، فكانت تلك الساعة التي أتيَ فيها بنَعْيه أشْبَه بالساعة التي قُبضَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من باكٍ وباكِية، وصارخ وصاَرخَةٍ، حتى إذا هَدأت عَبْرَة البُكاء عن الناس، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالوا حتى نَذْهبَ إلى عائشة زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم، فَنَنْظًرَ حُزْنَها على ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام الناسُ جميعاً حتى أتَوْا منزلَ عائشة رضي اللهّ عنها، فاستأذنوا عليها فوَجَدوا الخبرَ قد سبق إليها، وإذا هي في غَمْرَة الأحْزَان وعَبْرَة الأشجان، ما تفتر عن البكاء والنَّحيب منذ وَقْتِ سَمِعَتْ بخَبره. فلما نَظَرَ الناسُ إلى ذلك منها انصرفوا. فلما كان من غدٍ قيل إنها غَدَتْ إلى قبْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يَبْق في المَسْجد أحدٌ من المهاجرين إلا استَقْبلها يُسلّم عليها، وهي لا تُسَلِم ولا تَرُدّ ولا تُطِيق الكلامَ من غَزَارة الدَّمعة، وغَمْرَة العَبرَة، تَتخنق بعَبْرَتها، وتتعَثر في أثوابها، والناسُ من خَلْفها، حتى أتت إلى الحُجْرةِ، فأخذت بِعضَادة الباب ثم قالت: السلامُ عليك يا نبيّ الهُدَى، السلامُ عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا رسول الله وعلى صاحبَيْك. يا رسول اللّه، أنا ناعيةٌ إليك أحظَى أحْبَابك، ذاكرةٌ لك أكرمَ أودّائك عليك. قُتل والله حبيبُك المُجْتَبَى، وصَفِيك المُرْتَضى. قُتِل والله مَن زوَجته خيرَ النِّساء. قُتِل واللّه من آمَن ووَفى، وإني لنادِبة ثَكْلَى، وعليه باكيةٌ حرى. فلو كُشِف عنك الثرى لقلتَ: إنّه قُتل أكرمهم عليك وأحظاهم لديك. ولو قُدِّر أن نَتَجَنَّب العِدَاء ما كان، تعرَّضت له منذ اليوم، واللّه يجري الُأمور على السَّداد.

قال المبرّد: عزّى أحمد بن يوسف الكاتب ولدَ الرَّبيع، فقال: عُظِّمَ أجركم ورحم الله فقيدكم، وجعل لكم من وَراء مُصيبتكم حالاً تجمع شَمْلكم، وتَلُمّ شَعَثَكم، ولا تُفَرِّق مَلأكم. وقيل لأعرابية مات لها بَنُون عِدّة: ما فعل بنوك؟ قالت: أكلَهم دهْرٌ لا يَشْبع. وعزَى رجل الرشيدَ فقال: يا أمير المؤمنين، كان لك الأجر لا بك، وكان العزاء لك لاعَنك.
ومما رُوى أن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما نُعيت إليه ابنتُه وهو في السفَر، فاسترْجع، ثم قال: عَوْرَةٌ سترَها اللهّ، ومَؤونة كَفاها الله، وأَجْرٌ ساقَه الله. وقالَ أُسَامة بن زَيد رضي الله عنهما: لمّا عُزِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بابنته رُقيَّة، قال: الحمد لله، دَفْن البنات من المَكْرُمات. وفي رواية: من المكرُمات دفن البنات. وقال الغَزَّال: ماتت ابنة لبعض مُلوك كِنْدة، فَوَضَعَ بين يديه بَدْرَةً من الذهب وقال: مَنْ أبلغ في التَّعزية فهي له. فدخل عليه أَعرابيّ، فقال: أعظم الله أجرَ الملك، كُفِيتَ المؤونة، وَسُتِرتَ العَورة، ونعمَ الصِّهْر القَبر. فقال له الملك: أبلغْتَ وأوْجَزْت، وَأَعْطَاهُ البَدْرَة.
؟

من أحب الموت ومن كرهه
في بعض الأحاديث: لا يَتمَنَّى أحدُكم الموتَ، فعسى أن يكون مُحْسناً فيزداد في إحسانه، أو يكون مُسِيئاً فينْزع عن إساءَته. وقد جاء في الحديث: يقول الله تَبارك وتعالى: إذا أَحَبَّ عَبْدي لِقائي أحْبَبْتُ لِقاءه، وإذا كَرِه لِقائي كَرِهْت لقاءه. وليس معنى هذا الحديث حُبَّ المَوْتِ وَكَرَاهِيَتَه، ولكن مَعناه: من أحبَّ اللهّ أحبَّه اللّه، ومن كَرِه اللهّ كَرِهَه اللّه.
وقال أبو هُرَيرة: كَرِه الناسُ ثلاثاً وأَحْبَبتُهنّ: كَرهوا المرَض وأحببتهُ، وكَرهوا الفقرَ وأحببتهُ، وكَرِهوا الموتَ وأحببتهُ. عبد الأعلى بن حمّاد قال: دَخَلْنا على بِشر بن مَنْصور، وهو في المَوْت، وإذا هو من السُّرور في أمرٍ عَظِيم. فقلنا له: ما هذا السُّرور؟ قال: سُبْحان الله! أخرُج من بين الظَّالمين والحاسدين والمَغْتابين والباغِين، وأَقْدَمُ عَلَى أرْحَم الرَّاحمين ولا أُسَرّ! ودخل الوليدُ بن عبد الملك المسجدَ، فَخَرَج كلًّ من كان فيه إلاّ شيخاً قد حَنَاه الكِبَر، فأرادًوا أن يُخْرِجُوه، فأشار إليهم أن دَعُوا الشيخ؟ ثم مضىَ حتى وَقف عليه، فقال له: يا شيخُ، تًحِبُّ المَوْت؟ قال: لا يا أميرَ المؤمنين، ذَهَبَ الشَّبَاب وشَرُّه، وَأتى الكِبر وخيْرُه، فإذا قمتُ حَمِدْتُ اللّه، وإذا قعدتُ ذكرتُه، فأنا أُحِب أن تَدُوم لي هاتان الخَلَّتان. قال عبد الله بن عمر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه، مالي لا أُحِبًّ الموت؟ قال: هل لك مال؟ قال: نعم، قال: فقدِّمه بين يديك؛ قال: لا أطِيق ذلك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن المَرْء مع مالِه، إن قدّمه أحبَّ أن يَلْحَقَه، وَإِنْ أَخَرَّه أحبَّ أن يتخلّفَ معه.
وقالٍ الشاعر في كراهية الموت:
قامت تشَجِّعني هِنْدٌ فقُلتُ لها ... إنّ الشَّجَاعَةَ مَقْرُونٌ بها العَطبُ
لا والَّذِي مَنَعَ الأبصَارَ رُؤْيَتَه ... ما يَشْتَهِي الموتَ عِنْدِي من له أدَبُ
وقالت الحكماء: الموت كريهٌ. وقالوا: أشدُّ من الموت ما إذا نزلَ بك أحببتَ له الموتَ، وأطيبُ من العَيش ما إذا فارقتَه أبغضتَ له العِيش.
التهجد
المغِيرة بن شُعْبة قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى وَرِمت قَدَماه. وقيل للحَسَن: ما بال المتهجِّدِين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: إنَّهم خَلَوْا بالرَّحمن فأسفر نورُهمِ من نُورِه. وكان بعضهم يصلِّي الليلَ حتَى إذا نظرَ إلى الفَجْر قال: عند الصباح يحْمَدُ القومُ السُرَى. وقالوا: الشِّتَاءُ ربيعُ المؤمنين، يطولُ ليلُهم لِلقِيام، ويَقْصُر نهارُهم للصيام.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطْعِموا الطَّعام وأفْشوِا السلامَ وصَلُّو! بالليل والناسُ نِيَام. وقال الله تبارك وتعالى: " وبالأسْحَارِ هُمْ يَسْتغْفِرُون " . وهذا يُوَافق الحديثَ الذي رَوَاه أبو هُرَيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى يَنْزِل إلى سماءِ الدُّنيا في الثُّلث الأخير من اللَّيل فيقول: هل من سائلٍ فأعْطِيَه؟ هل من دَاعٍ فأسْتَجيبَ له؟ هل من مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ له؟ هل من مُسْتَغيث فأغِيثه؟ أبو عَوَانة عن المغيرة قال: قلتُ لإبراهيم النَّخَعيّ: ما تقولُ في الرَّجل يرَى الضَّوءَ باللًيل؟ قال: هو من الشَيطان، لو كان خيراً لأرِيَه أهلَ بَدْر.

البكاء من خشية الله عز وجل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: حَرَّم اللهّ عَلَى النار كلَّ عَين تَبْكي من خَشْيَة اللهّ، وكلَّ عَيْنِ غُصَّت عن محارم اللّه. وكان يزيد الرَّقاشي قد بكىَ حتى سقطت أشفارُ عينيه. وقيلَ لغالب بن عبد اللّه: أمَا تخاف على عَيْنَيْك من العَمَى من طُول البُكاء؟ فقال: شِفَاءَها أرِيد. وقيل ليزيدَ بن مَزْيد: ما بالُ عَيْنك لا تَجفّ؟ قال: أيْ أخي، إن الله أوعدني إنْ عَصَيْتُه أن يَحْبِسَني في النار، ولو أوْعدني أنَ يَحْبسني في الحمَّام لكنتُ حَرِيًّا أن لا تَجِفّ عيني.
وقال: عمر بن ذَرّ لأبيه: مالَك إذا تكلَّمتَ أَبْكَيْتَ النّاسَ، فإذا تكلَّم غيرُك لم يُبْكِهم؟ قال: يا بني، ليست النائحة الثَّكْلَى مثلَ النائحة المُسْتَأْجَرَة. وقال اللهّ لنبيّ من أنبيائه: هَبْ لي من قلْبِك الخًشوع، ومن عَيْنَيك الدُّموع، ثم ادعني أسْتَجِبَ لك. ومن قولنا في البكاء " من خشية الله تعالى " :
مَدَامِعٌ قد خَدَّدَتْ في الخُدُود ... وأعينٌ مَكْحولة بالهُجُودِ
وَمَعْشرٌ أوْعدهم رَبُّهم ... فَبَادَروا خَشْيَة ذاك الوعيد
فَهُم عُكًوفٌ في مَحاريبهم ... يَبْكون من خَوْفِ عِقاب المَجِيدِ
قد كاد َيُعْشِب من دمْعهم ... ما قابلتْ أعْيُنهم في السُّجود
وقال قيسُ بن الأصم في هذا المعنى:
صلَّى الإله عَلَى قَوْمٍ شَهِدْتُهُمُ ... كانوا إذا ذَكَرُوا أو ذُكِّرُوا شَهقُوا
كانوا إِذا ذَكَرُوا نارَ الجحيم بَكوْا ... وَإِنْ تَلاَ بعضُهم تَخْوِيفها صعقوا
من غير هَمْزٍ من الشّيطان يأخذهم ... عِند التِّلاوة إلا الخَوْف والشَفَق
صَرْعى من الحُزن قد سَجّوا ثِيابَهم ... بقيَّة الرُّوح في أوداجهم رَمَقُ
حتى تَخَالهم لو كنت شاهِدَهم ... من شِدَّة الخَوْفِ والإشْفَاقِ قد زَهِقُوا
النهي عن كثرة الضحك
في الحديث المَرْفوع: كثرةُ الضَّحك تُميت القلب وتُذْهِب بَهاء المُؤمن. وفيه: لو علمتُمْ لَبَكَيْتُمْ كثيراً وضَحِكْتُمْ قَلِيلاً. وفيه: إِنّ الله يكره لكم العَبثَ في الصلاة والرَّفَث في الصِّيام والضَّحِك في الجنائز.
ومرَّ الحسنُ بقومٍ يَضْحكون في شَهْر رَمضان، فقال: يا قوم، إنّ الله جعل رمضان مِضْماراً لِخَلْقِه يَتسَابقون فيه إلى رَحْمتِه، فَسَبَق أقوامٌ ففازُوا، وتخلَّف أقوامٌ فَخَابوا، فالعَجب من الضاحِكِ اللاّهي في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المتخلِّفون؟ أما واللّهِ لو كُشِف الغِطاء لَشَغَلَ مُحْسِناً إحسانُه ومُسِيئاً إساءتُه. ونظر عبد الله إلى رجل يضحك مُسْتَغْرِقاً، فقال له: أتضحك ولعلّ أكفانَك قد أخِذَت من " عند " القَصَّار. وقال الشاعر:
وكم مِنْ فتًى يُمْسي ويًصْبِحُ آمِناً ... وقد نُسِجَتْ أكْفَانُه وهو لا يَدْرِي
النهي عن خدمة السلطان وإتيان الملوك

" لقى أبو جعفر سفيانَ الثوريّ في الطواف، فقال: ما الذي يمنعك أبا عبد الله أن تأتينا؟ قال: إن الله نهانا عنكم فقال: " وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الذين ظَلَمُوا فَتَمَسَّكم النار " . وقدِمَ هِشامُ بن عبد الملك المدينة لزيارة القَبر، فدخل عليه أبو حازم الأعرج، فقال: ما يمنعك أبا حازم أن تأتينا؟ فقال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين، إن أدْنيتني فَتَنْتَني، وإن أقصيتني أخزَيْتني، وليس عندي ما أخافك عليه، ولا عندك ما أرجوك له " .
قال عمرُ بنُ الخطّاب رضي الله عنه: مَن دخل على المُلوك خَرج وهو ساخِطٌ على اللّه. أرسل أبو جعفر إلى سُفْيانَ، فلما دَخل عليه قال: سَلني حاجتك أبا عبد الله؟ قال: وتَقْضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: فإنّ حاجتي إليك أن لا تُرْسِل إليَّ حتى آتيك؛ ولا تُعْطِيني شيئاً حتى أسألك، ثم خرج. فقال أبو جعفر: أَلْقَيْنا الحَبَّ إلى العُلماء فلَقَطوا إلا ما كان من سُفيان الثَّوْرِي، فإنه أعيانا فِراراً. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الدُّخولُ على الأغنياء فِتْنَةٌ للفقراء.
وقال زِيادٌ لأصحابه: مَنْ أغبطُ الناس عيشاً؟ قالوا: الأميُر وأصحابه؟ قال: كلاّ، إِنّ لأعْواد المنْبَر لَهَيْبةً، ولقَرْع لِجَام البريد لَفَزْعة، ولكنَّ أَغبطَ الناس عيشاً رجلٌ له دار يَسْكُنُها، وزَوْجَة صالحة يأوي إليها، في كَفَاف من عَيْش، لا يَعْرفنا ولا نَعْرفه، فإن عَرَفنا وعرفْناه أَفْسَدْنا " عليه " آخرته ودُنياه وقال الشاعر:
إِنَّ الملوك بلاءٌ حيثُما حَلُّوا ... فلا يَكُنْ لك في أكنافِهم ظِلُّ
ماذا تُريد بقَوْمٍ إِنْ هُمُ غَضبُوا ... جارُوا عليك وإن أَرْضَيْتهم مَلُّوا
فاسْتَغْنِ باللّهِ عنَ إتْيَانهم أبداً ... إنّ الوُقوف على أبوابهم ذلُّ
وقال آخر:
لا تصحبنَّ ذَوي السُّلطان في عَملٍِ ... تُصْبِح عَلَى وَجَلٍ تمسْي عَلَى وَجَل
كُل الترابَ ولا تَعْملِ لهم عملاً ... فالشرُّ أَجْمَعُه في ذلك العَمَل
وفي كتاب كليلة ودِمْنة: صاحبُ السلطان مثلُ راكب الأسد لا يَدْرِي متى يَهيجُ به فَيَقْتُله. دخل مالكُ بنُ دِينار على رَجُل في السِّجن يَزوره، فنظر إلى رجل جُنْديّ قد اتّكأ، في رِجلَيه كُبُول قد قَرَنت بين سَاقَيْه، وقد أتِي بسُفْرة كثيرة الألوان، فدعا مالكَ بنَ دِينار إلى طَعامه؟ فقال له: أخشى إن أكلتُ من طَعامك هذا أن يُطْرَح في رجليّ مثلُ كُبولك هذه.
وفي كتاب الهِنْد: السلطانُ مثلُ النار، إن تباعدتَ عنها احتجتَ إليها، وإن دنوتَ منها أحْرقَتك. أيوب السِّخْتياني قال: طُلب أبو قِلابة لِقَضاء البَصْرة فهَرب منها إلى الشام، فأقامَ حيناً ثم رَجع. قال: أيوب. فقلتُ له: لو وَليتَ القَضاء وعَدلْت كان لك أجران؟ فقال يا أيّوب، إذا وقعِ السابحُ في البحر كَم عسى أَنْ يَسْبح؟ وقِال بَقيّة: قال لي إبراهيم: يا بَقِيّة، كن ذَنبا ولا تَكن رَأْسا، فإنّ الرأسَ يهلك والذَّنب ينجو.
ومن قولنا في خِدْمة السلطان وصُحبته:
تجَنَّب لِباس الخَزّ ِإنْ كنْت عاقلاً ... وَلا تَخْتَتِمْ يوماً بفَصِّ زَبَرْجَدِ
ولا تتطيَّب بالغَوالي تَعَطُّرًا ... وَتَسْحَبَ أذْيَالَ المُلاَءِ المعضَّد
وَلاَ تَتَخَيَّر صَيِّتَ النًعْل زَاهِيًا ... ولا تَتَصَّدر في الفِرَاش المُمَهَّد
وكُنْ هَمَلاً في الناس أغْبَرَ شاعثاً ... تَرُوحُ وَتَغْدُو في إزارٍ وَبُرْجُد
يَرَى جِلْد كَبْشٍ، تحتَهُ كلما استوَى ... عليْه، سِريراً فَوْقَ صَرْحٍ ممَرَّد
ولا تَطْمَح العينَان منك إلى امرىءٍ ... له سَطَوَاتٌ باللِّسان وباليَد
تراءَتْ له الدُّنيا بزِبْرج عَيْشِهِا ... وقادَتْ له الأطماع من غيره مقوَد
فأسْمَنَ كَشَحَيْهِ وأهْزَلَ دِينه ... وَلم يَرتَقِب في اليوم عاقبةَ الغد
فيوماً تراهُ تحت سَوْطٍ مُجَرَّداً ... وَيوماً تَرَاه فوق سرجِ مُنَضَّد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16