كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

ما لِمَا قَرّت به العي ... نان من هذا ثمين
مخبون
قلبه عند الثريّا ... بائنٌ من جسده
أبيات السريع
قد يُدرك المُبطئ من حَظه ... والخيرُ قد يسبق جُهد الحَرِيص

العروض المكفوف
المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف اللازم الثاني
أَزْمانَ سَلْمى لا يَرى مثلَها ال ... راءون في شامٍ ولا في عِراقْ
مخبول
قالها وهو بها عارف ... ويحك أمثالُ طَريفٍ قلِيل
مخبون
أردْ مِن الأمور ما يَنبغي ... وما تُطيقه وما يَسْتقيم
الضرب المكسوف اللازم الثاني
لا تَكسع الشَّولَ بأغبارها ... إنك لا تَدري من النَّاتجُ
هاج الهوى رسم بذات الغَضى ... مُخلولق مُسْتعجم مُحْوِل
الضرب الأصلم السالم
قالت ولم تَقْصِد لِقيل الخَنَى ... مهلاً فقد أبْلغت أَسماعِي
الضرب المخبون المكسوف
النَّشر مسكٌ والوجوه دنا ... نير وأطرافُ الأكفّ عَنَمْ
يأيها الزاري على عَمرو ... قد قُلتَ فيه غير ما تَعلم
العروض المشطور الموقوف الممنوع من الطي
يا صاح ما هاجك من رَبْع خَال ... يَنْضحن في حافاته بالأبْوال
مخبون
لا بد منه فاح ... ذرن وإن فتن
مشطور
يا صاحبي رحلي ... أقلاّ عذلي
مخبون الضرب المشطور المكسوف الممنوع من الطي
يا رب إن أخطأتُ أو نَسيت
وبلدةٍ بعي ... دة النياط
أبيات المنسرح العروض الممنوع من الخبل الضرب المطوى
إنّ ابن زَيد ما زال مستعملا ... للخير يُهدي في مِصرْ العرْفا
من لم يَمُت عَبْطَةَ يَمت هَرماً ... الموت كأس والمَرء ذائقها
ومثله
إنَ سُمَيراً أَرى عَشيرَته ... قد حَدبوا دونه وقد أنِفوا
المطوى
منازلَ عفاهنّ بذي الأراك ... كُلّ وابل مسبل هَطِل
مخبون
في بَلَدٍ معروفة سمته ... قَطَّعه عابر على جَمل
مخبول
صبراً بني عبد الدار
العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي
ضربه مثله
ويل أم سعد سعدا
أبيات الخفيف
العروض التام
الضرب التام الجائِز فيه التشعيث
حَل أهلي بَطن الغُميس فبادُوا ... لَي وحلّت عُلوية بالسخال
ليس من مات فاستراح بمَيْت ... إنما الميتُ ميّت الأحياءِ
مخبون صدر
وفؤادي كعهده بسُليمى ... بهوى لم يَزل ولم يتغيَّر
مكفوف عجز
وأقلّ ما يظهر مِن هَواكا ... ونَحن نَسْتكثر حين يَبْدو
مشكول عجز
إنَّ قومي جَحاجحة كرم ... مُتقادم مَجْدهم أخيارُ
مشكول طرفان
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن
إنْ قَدرنا يوماً على عامر ... نمْتَثل منه أو نَدعه لكم
مخبون
رُب خَرْق من دونها قذَف ... ما به غيرُ الجِنّ من أَحَد
العروض المجزوء
الضرب المجزوء
ليت شِعريَ ماذا تَرى ... أم عمرو في أمرنا
مثله
اسْلمي أُمّ خالد ... رُبّ ساعٍ لقاعد
الضرب المقصور المخبون كُل خطب إن لم تكونوا غَضبتمْ يسيرُ أبيات المضارع
العروض المجزوء الممنوع من القبض
وإن تدن منه شبراً ... يُقرِّبْك منه باعَا
مقبوض
دعاني إلى سُعادٍ ... دَواعي هَوى سعاد
أخرب
وقد رأيت مثل الرّجال ... فما أرى مثل زَيْد
أشتر
قلنا لهم وقالوا ... كُلٌّ له مَقال
أبيات المقتضب
العروض المجزوء المنطوي
الضرب المجزوء المنطوي
هل علي وَيحكما ... إنْ لهوتُ من حرج
مخبون
أعرضتْ فلاح لها ... عارضان كالبرد
أبيات المجثث
العروض المجزوء
البطن منها خَميصٌ ... والوجه مثل الهلال
الضرب المجزوء
ولو علقت بسلمى ... علمت أن ستموت

أولئك خير قومي ... إذ ذكر الخيار
أنت الذي ولدتك أس ... ماء بنت الحباب
أبيات المتقارب العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر الضرب التام
فأمّا تميم تميم بن مُرّ ... فألقاهُم القومُ روبى نِيامَا
ومثله
فلا تُعجلنّي هداك المليكُ ... فإنّ لكُل مَقام مَقالا
مقبوص
أفاد فجاد وساد وزاد ... وذاد وعاد وقاد وأَفْضل
أثلم
رَمينا قِصاصاً وكان التَّقاصّ ... حقّاً وعدلاً على المسلِمينا
أثرم
قلت سداداً لمن جاءني ... فأحسنتُ قولاً وأحسنتُ رأيا
مثل الأول
ولولا خِداش أخذت دوا ... ب سعد ولم أعطه ما عليها
الضرب المقصور
ويأوى إلى نسوة بائسات ... وشعتٍ مَراضيع مِثْل السَّعالِي
مثله
على رسم دارٍ قفار وقفتُ ... ومِنْ ذِكْر عَهْد الحَبيب بكيت
مثله مقصور الضرب المحذوف المعتمد
وأبني مِن الشِّعر شعراً عَوِيصاً ... يُنسيِّ الرواة الذي قد رَوَوْا
سبَتْني بخَدِّ وجِيد ونحر ... غَداةَ رمتْني بأسهمها

الضرب الأبتر
غير معتمد الاعتماد في المتقارب بإثبات النون في فعولن التي قبل القافية
خليليّ عُوجاً على رسم دار ... خَلَت من سُليمى ومن مَيّه
مثله
صفيّة قُومي ولا تَعجزي ... وبكّي النِّسَاءَ على حَمزِة
الضرب المحذوف
أمن دِمنة أقفرتْ ... لسليمى بذات الغَضَا
المجزوء المعتمد
ورُوحك النَّادِي وتعلم ما في غدا
علل القوافي
القافية حرف الرويّ الذي يُبني عليه الشعر، ولا بد من تكريره فيكون في كل بيت والحروف التي تلزم حرف الروي أربعة: التأسيس، والردف، والوصل، والخروج: فأما التأسيس، فألف يكون بينها وبين حرف الروي حرف متحرك بأيّ الحركات كان، وبعض العرب يسميه الدَّخيل، وذلك نحو قول الشاعر:
كِلِيني لهم يا أميمة ناصب
فالألف من ناصب تأسيس. والصاد، دخيل. والباء، روي. والياء المتولدة من كَسرة الباء، وصل. أما الردف، فإنه أحد حروف المد والّلين، وهي الياء والواو والألف. يدخل قبل حرف الرويّ. وحركة ما قبل الرِّدف بالفتح إذا كان الردف ألفا، وبالضم إذا كان واوا، وبالكسر إذا كان ياء. والأرداف ثلاثة: فردف يكون ألفا مفتوحا ما قبلها. وردف يكون واوا مضموماً ما قبلها، وردف يكون ياء مكسوراً ما قبلها.
وقد تجتمع الياء والواو في شعر واحد، لأن الضمة والكسرة أختان، كما قال الشاعر:
أجارةَ بيتنا أبوك غَيورُ ... ومَيْسور ما يُرجَى لديك عَسيرُ
فجاء بغيور مع عسير ولا يجوز مع الألف غيرها، كما قال الشاعر:
بان الخليطُ ولو طُووِعَت ما بانا
وجِنس ثالث من الرِّدف، وهو أن يكون الحرفُ مَفتوحاً، ويكون الرِّدف ياء أو واو، نحو قول الشاعر:
كُنت إذا ما جئته من غَيب ... يَشَم رأسي ويشَممّ جيبي
وأما الوصل. فهو إعراب القافية وإطلاقها. ولا تكون القافية مطلقةً، إلا بأربعة أحرف: ألف ساكنة مَفتوح ما قبلها من الرويّ، وياء ساكنة مكسور ما قبلها من الرويّ، وهاء متحركة أو ساكنة مكنيّة.
ولا يكون شيء من حُروف المُعجم وصلاً غير هذه الأحرف الأربعة: الألف والواو والياء والهاء المكنّية. وإنما جاز لهذه أن تكون وصلاً ولمَ يَجُز لغيرها من حروف المُعجم، لأنّ الألف والياء والواو حُروف إعراب ليست أصليّات، وإنما تتولّد مع الإعراب، وتشبّهت الهاء بهن لأنها زائدة مثلهن. ووجدوها تكون خَلفا منهن في قولهم: أَرقت الماء، وهرقت الماء، وأيا زيد، وهيازيد. ونحو قول الشاعر:
قد جمعت من مكن وأَمْكنه ... من هاهنا وهاهنا ومن هُنه
وهو يريد هنا، فجعل الهاء خلفا من الألف.
وأما الخروج فإنّ هاء الوصل إذا كانت متحرّكة بالفتح تبتْها ألف ساكنة وإذا كانت متحركة بالكسر تبعتها ياء ساكنة، وإذا كانت متحركة بالضم تبعتها واو ساكنة. فهذه الألف والياء والواو يقال لها الخروج. وإذا كانت هاء الوصل ساكنةً لم يكن لها خروج، نحو قول الشاعر:
ثارَ عَجَاج مستطيل قَسْطلُه

وأمّا الحَركات الَلوازم للقوافي فخمس، وهي: الرس والحَذْو والتَّوجيه والمجرى والنَّفاذ. فأما الرَّس، ففتحة الحرف الثاني قبل التأسيس.
وأما الحَذو، ففتحة الحرف الذي قبل الرِّدف أو ضَمته أو كسرته. وأما التَّوجيه، فهو ما وجه الشاعرُ عليه قافيتَه، من الفتح والضم والكسر، يكون مع الرويّ المُطلق أو المُقيّد، إذا لم يكن في القافية رِدف ولا تأسيس.
وأما المجرى: ففتحِ حَرف الرويّ المُطلق أو ضَمته أو كسرته.
وأما النفاذ، فإنه فتحة هاء الوصل أو كَسرتها أو ضَمتها. ولا تجوز الفتحة مع الكسرة، ولا الكسرة مع الضمة، ولكن تنفرد كل حركة منها على حالها وقد يَجتمع في القافية الواحدة الرَّس، والتأسيس، والدَخيل، والرويّ، والمَجرى، والوَصل، والنفاذ، والخُروج، كما قال الشاعر:
يُوشك من فَرّ من مَنيته ... في بَعض غراته يوافقها
فحركة الواو الرس، والألف تأسيس، والفاء دخيل، والقاف رَويِّ، وحركته المجرى، والهاء هاء الوصل، وحركتها النفاذ، والألف الخروج. ونحو قول الشاعر:
عَفَت الديارُ مَحلّها فمقامُها
فحركة القاف الحذو، والألف الردف، والميم الرويّ، وحركتها المجرى، والهاء وصل، وحرَكتها النفاذ، والألف الخروج. وكل هذه الحروف والحركات لازمة للقافية.
ما يجوز أن يكون تأسيساً وما لا يجوز أن يكون
إذا كانت ألف التأسيس في كلمة وكان حَرف الرويّ في كلمة أخرى منفصلةٍ عنها فليس بحرف تأسيس، لانفصاله من حرف الرويّ وتباعده منه، لأنّ بين حرف الرويّ والتأسيس حرفاً متحركاً. وليس كذلك الرِّدف، لأنّ الردف قريب من الرويّ ليس بينهما شيء، فهو يجوز أن يكون في كلمة ويكون الروي في كلمة أخرى منفصلة عنها، نحو قول الشاعر:
أتته الخلافةُ مُنقادةً ... إليه تُجرّر أذياَلها
فلم تكُ تصلحُ إلا لَه ... ولم يكُ يَصُلحُ إلاّ لها
فألف: إلا رِدف. واللام، حرف الروي، وهي في كلمة منفصلة من الردف، فجاز ذلك لقرب ما بين الردف والرويّ، ولم يَجز في التأسيس، لتباعده من الروي، نحو قول الشاعر:
فهن يعكفن به إذا حَجَا ... عَكْفَ النَّبيط يَلعبون الفَنْزَجَا
فلم يجعلها تأسيساً لتباعدها عن الروي، وانفصالها منه. ومثله قول الراجز:
وطالمَا وطالمَا وطالمَا ... غلبتُ عاداً وغلبتُ الأَعجما
فلم يجعل الألف تأسيساً. وقد يجوز أن تكون تأسيساً إذا كان حرف الرويّ مضمراً، كما قال زُهير:
ألا ليتَ شِعري هل يَرى الناسُ ما أَرى ... مِن الأمر أو يَبدو لهم ما بدَاليَا
فجعل ألف بداليا تأسيساً، وهي كملة منفصلة من القافية لما كانت القافية في مُضمر. وكذلك قولُ الشاعر:
وقد يَنْبُت المَرعَى على دِمَن الثَّرى ... وتَبقى حَزازات النُّفوس كما هِيَا
وأما غلامك وسلامك في قافية فلا تكون الألف إلا تأسيساً، لأن الكاف التي هي حرف الرويّ لا تَنفصل من الغلام.

ما يجوز أن يكون حرف روي وما لا يجوز أن يكون
اعلم أن حروف الوصل كُلَّها لا يجوز أن تكون رويّا، لأنها دخلت على القوافي بعد تمامها، فهي زوائد عليها، ولأنها تَسقط في بعض الكلام. فإذا كان ما قبل حرف الوصل ساكناً فهو حرف الرويّ، لأنه لا يكون ما قبل حرف الرويّ ساكناً، نحو قول الشاعر:
أصبحتِ الدُّنيا لأربابها ... مَلْهَى وأَصبحتُ لها مَلْهَى
كأنّني أُحرَم منها على ... قَدْر الذي نال أبي مِنْها
وإذا حُرّكت ياء الوصل أو واو الوصل جاز لها أن تكون رويّا، كَما قال زُهير:
ألا ليتَ شِعْري هل يَرى الناسُ ما أرَى ... مِن الأمر أو يَبدُو لهمْ ما بدَاليَا
وقال عبد الله بنُ قيس الرقيات:
إنّ الحوادثَ بالمَدينة قد ... شيبتني وقَرْعَن مَرْوتيهْ
وكذلك الهاء من طلحة وحمزة وما أشبههما لا تكون رويا أو وصلا لما قبلها. وجعلها أبو النَجم رويا فقال:
أقول إذ جِئْن مُدبجاتِ ... ما أقربَ الموتَ من الحَياةِ

وكذلك التاء نحو اقشعرت واستهلت، والكاف نحو: مالكا وفعالكا فقد يجوز أن تكون رويّا وقد يجوز أن تكون وصلا. وإنما جاز أن دون رويّا لأنها أقوى من حرف الوصل، وجاز أن تكون وصلاً لأنها دخلت على القوافي بعد تمامها. وقد جعلت الخَنساء التاء وصلاً ولزمت ما قبلها، فقالت:
أعينيّ هلاّ تبكيان أخاكما ... إذا الخَيلُ منِ طُول الوَجيف اقشعرتِ
فلزمت الراء في الشعر كله وجعلت التاء صلةَ. وقال آخر فجعل، التاء رويا
الحمدُ للّه الذي استقلّتِ ... بإذنه السماءُ واطمأنّتِ
وقال حَسان فجعل الكاف رويّا:
دعُوا فَلجات الشام قد حِيل بينها ... بطَعن كأفواه المَخاض الأواركِ
بأيدي رجالٍ هاجروا نحو ربّهم ... بأَسيافِهم حقّاً وأيدي المَلائك
ثم قال:
إذا سلكت بالرمل منَ بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريقُ هُنالِك
وهنالك كافها زائدة، تقول للرجل: هنالك، وللمرأة: هنالك. ، وقال غيره:
أبا خالدٍ يا خيرَ أهل زمانِكَا ... لقَد شَغلِ الأفواهَ حسنُ فَعالكَا
فجعل الكاف رويّا. وقد يجوز أن تكون وصلاَ ويُلزم ما قبلهَا.
وكذلك فعالكم وسلامكم الميم الآخرة حرف الرويّ، كما قال الشاعر:
بنو أُمية قومٌ من عَجيبهم ... أنّ المَنون عليهم والمَنون هُمُ
الميم، حرف الرويّ. وقد جعلها بعضُ الشعراء وصلاً مع الهاء والكاف التي قبلها، لأنهما حرفا إضمار كالهاء والكاف، ولحقت الاسم بعد تمامه كما لحقت الهاء والكاف، في نحو قوله:
زرْ والدَيْك وقِفْ على قَبريْهما ... فكأنني بكَ قد نُقلتَ إليهما
ومثلُه لأميّة بن أبي الصَلت:
لَبّيكُما لَبَّيكماها ... ها أنذا لَدَيْكما
وأما النّسبة مثلِ ياء قُرشيّ وثَقفيّ وما أشبه ذلك، إذا كانت خفيفةً فأنت فيها بالخيار، إن شئت جعلتها رويّا وإن شئتَ وصلاً، نحو قول الشاعر:
إنّي لمن أنكرني ابنُ اليَثربِي ... قتلتُ عِلبْاء وهِنْد الجملي
فجعل الياء الخفيفة روّيا، وإذا كانت النسبة مثقلة مثل قرشيّ وثَقفي لم تكن إلا رويّا. وإذا قال شعراً على حصاها ورماها لم تكن الهاء إلا حرف الرويّ.
ومن بني شعرا على اهتدى فجعل الدال روّيا جاز له أن يجعل مع ذلك أحمدا. وإن جعل الألف من اهتدى حرف الرويّ لم يجز معها أحمدا وجاز له معها بشرى وحُبلى وعَصا وأفعى، ومن ذلك قولُ الشاعر:
داينتُ أَروي والدُّيونُ تُقضىَ ... فمطلَتْ بَعَضاً وأدت بَعْضَا
فلزم الضاد من تقضى وجعل الياء وصلاً، فشبّهها بحرف المدّ الذي في القافية.
ومثله:
ولأنت تَفْري ما خَلقت وبع ... ض القوم يَخلُق ثم لا يَفْرِي
ومثله:
هجرتْك بعد تَواصل دَعْدُ ... وَبدا لدَعْد بَعض ما يَبْدُو
ويرمي، مع يقضي جائز إذا كانت الياء حرف الرويّ، لأنها من أصل الكلمة.
ومما لا يجوز أن يكون رويّا الحروف المضمرة كلها، لدخولها على القوافي بعد تمامها، مثل اضربا، واضربوا، واضربي، لأن ألف اضربا لحقت اضرب وواو اضرِبوا لحقت اضرب، وياء اضربي لحقت اضرب بعد تمامها: فلذلك كانت وصلاَ، لأنها زائدة مع هذا الفعل، في نحو قول الشاعر:
لا يُبعد الله جيراناً تركتهُم ... لم أدرِ بعد غداةِ البَيْن ما صنعوا
ومثله:
يا دار عَبلة بالجواء تكلّمي ... وعمِي صباحا دار عبلة واسلمي
فجعل الياء وصلا، وبعضهم جعلها روّياً على قُبح.
وأما ياء غلامي فهي أضعف من ياء اسلمي لأنها قد تُحذف في بعض المواضع تقول: هذا غلام، تريد غلامي. وقالوا. يا غلام أقبل: في النداء وواغلاماه، فحذفوا الياء، وبعضهم يجعلها روِّياً على ضعفها، كما قال:
إني امرؤ أحمِي ذمار إخْوتي ... إذا رأوا كريهةً يرمون بِي
ومثله:
إذا تغدّيت وطابتْ نَفْسي ... فليس في الحَيّ غلاَم مِثْلي
قال الأَخفش: وقد كان الخَليل يُجيز إخواني مع أصحابي. ويأبي عليه العلماءُ، ويحتجّ بقول الشاعر:
بازل عامَين حديثُ سنّى ... لمثل هذا ولدتْني أمِّي

وحرف الإضمار إذا كان ساكناً كان ضعيفاً. فإذا تحرَّك قَوِي وجاز أن يكون رويّاً، كقول زُهير:
ألا ليت شِعري هل يَرى الناسُ ما أَرى ... مِن الأَمر أو يَبْدو لهم ما بدَاليَا
وإنما جاز الكاف أن تكون رويّاً ولم يجز ذلك للهاء، وكلاهما حرف إضمار، لأن الكاف أقوى عندهم من الهاء وأثبت في الكلام. وإذا خاطبت المذكر والمؤنث لا تبدل صورتها كما تُبدل الهاء، في: غلامه وغلامها. وإذا قلت: مررت بغلامك، ورأيت غلامك، فالكاف في حال واحدة، والهاء مضطربة في قولك. رأيت غلامه، ومررت بغلامه. وإنما جاز فيها أن تكون وصلاً أيضاً كما تكون الهاء، لأنها تشبهت بالهاء إن كانت حرف إضمار كالهاء، ودخلت على الاسم كدخول الهاء، وكانت اسماً للحرف كما تكون الهاء، وإنما خالفتها بالشيء اليسير. وأما قولك: ارمه، واغزه، فلا تكون الهاء ها هنا روياً، لأنها لحقت الاسم بعد تمامه، ولأنها زوائد فيه، وإنما دخلت لتبيّن الحركة من اغزه والميم من ارمه. وقد تدخل للوقف أيضاً. وإذا كانت الهاء أصلية لم تكن إلاّ روّياً: مثل قول الشاعر:
قالت أبيلَىِ لي ولم أسَبَّهِ ... ما السنّ إلا غَفلة المُدلَّه
ومن بَنى شعراَ على حيّ جاز له فيه طيّ وميّ ، لأن الياء الأولى من حي ليست بردف، لأنها من حرف مثقل قد ذهب مجده ولينه.
قال سيبويه: إذا قال الشاعر: تعالى أو تعالوا، لم تكن الياء والواو إلا رويِّاً، لأنَّ ما قبلها انفتح. فلما صارت الحركة التي قبلها غيّر حركتهما ذهبت قوتهما في المدّ وأكثر لينهما.
وكذلك: اخشي واخشوا. وكل ياء أو واو انفتح ما قبلها. وكذلك قوله: رأيت قاضياً ورامياً، وأريد أن يغزو وتدعو، في قافيتين منِ قصيدة.
وأما الميم من غلامهم وسلامهم فقد تكون رويّاً وقد تكون وصلا، ويلزم ما قبلها، كما قال الشاعر:
يا قاتَل الله عُصبةً شَهِدوا ... خَيف مِنى لي ما كان أسرعهم
إنْ نزلوا لم يكُن لهم لَبثٌ ... أو رَحلوا أعجلوا مُودَعهم
لا غَفر الله للحجيج إذا ... كان حَبيبي إذا نأوْا معهم
فالعين، هنا حرف الرويّ، والهاء والميم صلة لحروف الإضمار كلها التي تقدّم ذكرها. ولا يَحسن أن يكون رويّاً إلا ما كان منها مُحرّكاً، لأنّ المتحرك أقوى من الساكن، وذلك مثل ياء الإضافة التي ذكرنا، أو ما كان منها حرفاً قويّاً مثل الكاف والميم والنون، فإنها تكون روّياً، ساكنةً كانت أو متحركة، وذلك مثل قول الشاعر:
قِفي لا يكُن هذا تعلّةَ وَصْلِنا ... لبَيْنٍ ولا ذا حَظَّنا من نَوالكِ
ثم قال:
أبرّ وأوفى ذمّةً بعُهدوه ... إذا وُوزنت شُمّ الذُّرى بالحَوارِكِ
وقال آخر:
قُل لمنِ يَملك الملو ... ك وإن كان قد مُلِك
قد شرَيناك مرّةً ... وبعَثْنا إليك بِك
وقال آخر في الميم:
رقَوْني وقالوا يا خُويلد لا ترعَ ... فقلت وأنكرتُ الوُجوه همُ همُ
ولآخر:
نَمت في الكِرام بني عامرٍ ... فُروعي وأصلي قُريش العَجَمْ
فهُمْ لي فَخر إذا عُدّدوا ... كما أنا في النّاس فَخْر لهم
وقال آخَر في النونِ:
طَرحتم من التَرحال أمراً فَعمَنا ... فلو قد رحلتُم صَبّح الموتُ بَعضَنا
وقال آخر:
فهل يَمنعنّي ارتيادِي البِلاَ ... د من حَذَر الموت أن يأتينْ
أليس أخو المَوت مُستوثقَاً ... عليّ وإنْ قلت قد أنسأن
وأما الهاء. فقد أجمعوا ألا تكون رويّاً لضعفها، إلا أن يكون ما قبلها ساكناً، كما قد ذكرنا. ومَن بَنى شعراً على اخشَوا جاز له معها: طغوا، وبغوا، وعصوا، فتكون الواو رويّاً لانفتاح ما قبلها وظهورها مع القبح، لأنها مع الضمة صلة، ولا تكون هذه إلا رويّاً.

عيوب القوافي
السناد، والإيطاء، والإقواء، والإكفاء، والإجازة، والتضمين، والإصراف.
السناد على ثلاثة أوجه: فالوجه الأول منها اختلاف الحرف الذي قبل الرِّدف بالفتح والكسر، نحو قول الشاعر:
ألمِ تَر أَنّ تَغْلب أهلُ عِزٍّ ... جِبالُ مَعاقِل ما يُرتَقينَا
شربنا من دِماء بني تَميم ... بأطراف القَنا حتى رَوِينَا

والوجه الثاني اختلافُ التوجيه في الروي المُقيّد، وهو اجتماع الفَتحة التي قبل الرويّ مع الكسرة والضمة، كهيئتها في الحَذْو، وذلك كقوله:
وقاتم الأعماق خاوي المُخترقْ
ثم قال:
ألَّف شتَى ليس بالراعي الحَمِقْ
ومثله:
تَميم بن مُرّ وأشياعُها ... وكِنْدة حَولي جميعاً صبُر
إذا رَكبوا الخيلَ واستلأموا ... تحرَّفت الأرضُ واليوم قُرّ
والوجه الثالث من السناد أن يُدخل حرف الرِّدف ثم يدعه، نحو قول الشاعر:
وبالطَّوف نالا خيرَ ما أصبحا به ... وما المرء إلاّ بالتقلّب والطَّوْفِ
فِراق حَبيب وانتهاء عن الهَوى ... فلا تَعذُليني قد بدا لك ما أخفِي
وأما القافية المُطلقة فليس اختلاف التوجيه فيه سناداً.
وأما الإقواء والإكفاء فهما عند بعض العلماء شيء واحد، وبعضهم يجعل الإقواء في العروض خاصة دون الضرب، ويجعلون الإكفاء والإيطاء في الضرب دون العروض.
فالإقواء عندهم أن تنقص قوة العروض، فيكون: مفعولن في الكامل، ويكون في الضرب متفاعلن فيزيد العجز على الصدر زيادة قبيحة. فيقال: أقوى في العروض، أي أذهب قوته، نحو قول الشاعر:
لما رأت ماء السلى مَشروبَا ... والفَرث يُعْصَر في الإناء أرَنت
ومثله:
أفبعد مَقتل مالك بن زُهير ... ترجو النساء عواقبَ الأطهارِ
والخليل يُسمى هذا المُقعَر. وزعم يونس أن الإكفاء عند العرب هو الإقواء. وبعضُهم يجعله تبديل القوافي، مثل أن يأتي بالعين مع الغين لشبههما في الهجاء، وبالدال مع الطاء، لتقارب مخرجيهما، ويحتج بقول الشاعر:
جارية من ضَبة بن أدّ ... كأنها في دِرْعها المنعط
والخليل يُسمى هذا الإجازة. وأبو عمرو يقول: الإقواء: اختلاف إعراب القوافي بالكسر، والضم، والفتح. وكذلك هو عند يونس وسيبويه.
والإجازة عند بعضهم اجتماع الفتح مع الضم أو الكسر في القافية. ولا تجوز الإجازة إلا فيما كان فيه لوصل هاء ساكنة، نحو قول الشاعر:
الحمدُ للّه الذي ... يَعْفو ويشتد انتقامُه
في كرْههم ورِضَاهمُ ... لا يستطيعون اهتضامه
ومثله:
فديت من أنصفني في الهَوى ... حتى إذا أحكمه ملَّه
أينما كنتُ ومَن ذا الذي ... قبلي صَفا العيشُ له كُلَه
والإكفاء: اختلاف القوافي بالكسر والضم، عند جميع العلماء بالشعر، إلا ما ذكر يونس. وأما المُضمن، فهو أن لا تكون القافية مُستغنيةً عن البيت الذي يليها، نحو قول الشاعر:
وهم وَردوا الجفار على تَميم ... وهم أصحابُ يوم عُكاظ إني
شهدتُ لهم مَواطن صالحاتٍ ... تُنبِّئهم بودّ الصَّدر مِني
وهذا قبيح، لأنَ البيت الأول متعلق بالبيت الثاني لا يستغني عنه، وهو كثير في الشعر. وأما الإيطاء، وهو أحسن ما يُعاب به الشعر، فهو تكرير القوافي. وكلما تباعد الإيطاء كان أحسن، وليس في المعرفة مع النكرة إيطاء.
وكان الخليل يزعم أن كل ما اتفق لفظُه من الأسماء والأفعال، وإن اختلف معناه فهو إيطاء، لأنّ الإيطاء عنده إنما هو تَرديد اللفظتين المُتفقتين من الجنس الواحد، إذا قلت للرجل تخاطبه: أنت تضرب، وفي الحكاية عن المرأة: هي تضرب، فهو إيطاء. وكذلك في قافية: أمر جلل، وأنت تريد تعظيمه، وهو في قافية أخرى جلل وأنت تريد تهوينه، فهو إيطاء. حتى إذا كان اسم مع فعل، اسم، وإن اتفقا في الظاهر فليس بإيطاء، مثل يزيد، وهو ويزيد، وهو فعل،

ما يجوز في القافية من حروف اللين
اعلم أنَّ القوافي التي تدخلها حروف المد، وهي حروف اللين، فهي كل قافية حُذف منها حرف ساكن وحركة، فتقوم المدة مقام ما حذف.
وهو من الطويل فعولن المحذوف، ومن المديد فاعلان المقصور، وفعلن الأبتر. ومن البسيط فعلن المقطوع، ومفعولن المقطوع.
فأما مستفعلان المذال، فاختلف فيه، فأجازه قوم بغير حرف مد، لأنه قد تم وزيد عليه حرف بعد تمامه. وألزمه قوم المد لالتقاء الساكنين، وقالوا: المدة بين الساكنين تقوم مقام الحركة. وإجازته بغير حرف مد أحسن لتمامه.
وأما الوافر فلا يلزم شيء منه حرف مد.

وأما الكامل فيدخل فيه حرف اللين في فعلاتن المقطوع، وفي متفاعلان المذال.
وأما الهزج فلا يلزمه حرف مد.
وأما الرجز فيلزم مفعولن منه المقطوع حرف المد.
وأما الرمل فيلزم فاعلان وحدها لالتقاء الساكنين.
وأما السريع فيلزم فاعلان الموقوف لالتقاء الساكنين. وكذلك مفعولان. وأما المنسرح فيلزم مفعولات، كما يلزم السريع.
وأما الخفيف فإنه يلزم فعولن المقصور، وإن كان قد نقص منه حرفان، ليس في المدة خلف من حرفين. ولكن لما نقص من الجزء حرف، وهو سين مستفعلن قام ما تخلف بالمدة مقام ما نقص من آخر الجزء، لأنه بعد المَدة.
وأما المضارع والمقتضب والمجتث فليس فيها حرف مد لتمام أواخرها.
وأما المتقارب فألزموا فعول المقصور حرف المد لالتقاء الساكنين.
قال سيبويه: وكل هذه القوافي قد يجوز أن تكون بغير حرف المد، لأنَ رويها تامّ صحيح على مثل حاله بحرف المَد، وقد جاء مثلُ ذلك لا أشعارهم، ولكنه شاذّ قليل، وأن يكون بحرف المد أحسن لكثرته ولزوم الشعراء إياه. ومما قيل بغير حرف مَدّ.
ولقد رحلتُ العِيس ثم زَجرتُها ... قُدُماً وقلتُ عليك خيرَ مَعدّ
وقال آخر:
إن تمنع النومَ النَساء يُمنعنْ
مقطّعات على تأليف حروف الهجاء
وضروب العَروض

الضرب الأول من
الطويل
السالم
وأزهرَ كالعَيّوق يَسعى بزَهراء ... لنا منهما داءٌ وبُرء مِنَ الدَّاءِ
ألا بأبي صُدْعٌ حكَى العين عِطْفهُ ... وشاربُ مِسْك قد حَكى عِطفة الراء
فما السحر ما يُعزَي إلى أرض بابلِ ... ولكن قثور اللَّحظ من طرف حَوّراء
وكَفِّ أدارتْ فذْهب اللَون أصفراَ ... بمُذْهبة في راحة الكَف صَفراء
الضرب الثاني من الطويل
مقبوض
معذِّبتي رِفقاً بقَلْبٍ مُعذًب ... وان كان يُرضيك العَذابُ فعذَبي
لَعمري لقد باعدْتِ غيرَ مُباعَدٍ ... كما أنني قَربتُ غير مُقرَّب
بنَفْسيَ بدر أخْمل البدرَ نُورُه ... وشمس متى تَطلع إلى الشمس تَغرب
لو أن امرأ القيس بن حُجْر بدتْ له ... لما قال: مُرا بي على أم جُندب
الضرب الثالث من الطويل
المحذوف المعتمد
محب طوى كَشْحاً على الزَّفراتِ ... وإنسانُ عَين خاضَ في غَمراتِ
فيا مَن بِعَيْنَيه سَقامي وصِحَّتيِ ... وفَيِ في عيديه مِيتتِي وحَياتي
بحُبك عاشرتُ الهُموم صَبابةَ ... كأني لها تِربٌ وهُن لِدَاتي
فخدي أرضٌ. للدُمُوع ومُقْلتي ... سماءٌ لها تَنهْلّ بالعَبَرات
الضرب الأول من
المديد
السالم
طلق اللهوَ فؤادي ثلاثاً ... لا ارتجاع لي بعد الثلاثِ
وبياضٌ في سَواد عِذاري ... بَدَل التشبيبَ لي بالمَراثي
غير أنّي لا أطيق اصطباراً ... وأُراني صابراً لا نتكائي
بإناث في صِفات ذُكور ... وذُكور في صفات إناث
الضرب الثاني من المديد
المقصور اللازم الثاني
صدعتْ قلبيَ صَدْع الزُجاج ... ماله من حِيلة أو عِلاجْ
مزجتْ رُوحيَ ألحاظُها ... بالهَوى فهو لروحي مِزاج
يا قَضيباً فوق دِعْص نَقاً ... وكثيباً تَحت تِمثال عاج
أنت نُوري في ظلام الدُجى ... وسِراجي عند فَقْد السَراج
الضرب الثالث من المديد
المحذوف اللازم الثاني
مستهام دَمعه سابحُ ... بين جنبيه هَوىً فادح
كُلما أم سَبيل الهُدى ... عافه السانِح والبَارح
حَل فيما بين أعدائه ... وهُو عَن أحبابه نازح
أيها القادِح نارَ الهَوى ... أصْلِها يأيها القادح
الضرب الرابع من المديد
المقطوع المحذوف
عادَ منها كُل مطْبوخ ... غير داذِيّ ومَفْضوخ
واعتقد مِن ود أهل الحِمى ... كُلَّ وُد غير مَشْدوخ

وانتشقْ رياك من مُلتقى ... ضارب بالمِسْكِ مَلطوخ
إنّ في العلم وآثاره ... ناسخاً من بعد مَنْسوخ

الضرب الخامس من المديد
المحذوف المخبون
يا مُجيل الرُّوح في جَسدي ... والذي يَفترّ عن بَرَدِ
وَفريد الحُسن واحدَه ... منتهاه منتهى العَدَد
خُذ بكَفِّي إنني غَرِق ... في بِحار جَمّة المَدد
ورياحُ الهَجْر قد هَدَمَت ... ما أقام الوَصْل من أوَدي
الضرب السادس من المديد
الأبتر
ذكرت من طِيزَناباذِ ... فَقُرى الكَرْخ ببغداد
قَهوة ليست بباذقة ... لا ولا بِتْع ولا داذي
مرة يهذي الحَليمُ بها ... بِأبي ذلك مِن هاذي
فهي أستاذُ الشّراب بنا ... والمَعاني دأب أستاذي
الضرب الأول من
البسيط
المخبون
نُور تولّد من شَمس ومن قَمرِ ... في طرفه قَدر أمضىَ من القَدرِ
أصْلَى فُؤادي بلا ذَنب جَوى حُرق ... لم يُبْق من مُهجتي شَيئاً ولم يَذَر
لا والرحيق المُصفَّى من مَراشفه ... وما بخدَّيه من وَرْد ومن طُرر
ما أنصفَ الحُبُّ قَلبي في حكومته ... ولا عَفا الشَوقُ عنّىِ عَفْوَ مُقتدر
الضرب الثاني من البسيط
المقطوع
خرجتُ أجتاز قفراً غير مُجتاز ... فصادني أشهل العَينين كالبَازِي
صَقرٌ على كفّه صَقْرٌ يؤلّفه ... ذا فوق بَغْلٍ وهذا فوق قُفّاز
كم موعِدٍ ليَ مِن ألحاظ مُقْلته ... لو انه مَوْعد يقْضىَ بإنجاز
أبْكي ويَضحك منّي طرفُه هُزواً ... نَفسي الفِداء لذاك الضاحك الهازي
الضرب الثالث من البسيط
المجزوء المذال
يا غُصنا مائساً بين الرِّياطْ ... مالي بعدك بالعيش اغتباط
يا مَن إذا ما بدا لي ماشياً ... وَددتُ أنّ له خدّي بِساط
تَترك عيناه مَن أبصره ... مُختلطاً عقله كُلّ اختلاط
قلتُ متى نَلتقي يا سيدي ... قال غداً نَلتقي عند الصراط
الضرب الرابع من البسيط
المجزوء السالم
يا ساحراً طرفُه إذ يَلحظ ... وفاتناً لفظُه إذ يَلفِظُ
يا غصنا يَنثني من لِينه ... وجهُك مِن كُل عين يحفظ
أيقظ طَرْفي إذ بدا مِن نعسة ... من طَرفه ناعسٌ مستيقظ
ظَبْي له وَجْنة من رِقّة ... تجرحها مُقلتي إذ تَلْحظ
الضرب الخامس من البسيط
المقطوع
يا من دَمِي دونه مسفوك ... وكل حُرٍّ له مَملوكُ
كأنه فِضِّة مَسْبوكة ... أو ذَهبٌ خالص مَسْبوك
ما أطيبَ العَيشَ إلا أنه ... عن عاجل كُلّه مَتْروك
والخَير مَسدودة أبوابُه ... ولا طَريق له مَسْلوك
العروض المجزوء المقطوع
ضربه مثله
إليك يا غُرة الهِلال ... وبِدعة الحسن والجَمال
مَددتُ كفِّاً بها انقباض ... فأين كَفِّي من الهلال
شكوتُ ما بي إليك وجداً ... فلم تَرِقّ ولم تُبال
أعاضك الله عن قَريب ... حالاً من السُّقم مثل حالي
العروض الأول من
الوافر
ضربه مثله
بنفسي مَن مَراشفه مُدام ... وِمَنْ لحَظات مُقلته سِهامُ
ومَن هو إن بدا والبدرُ تِمٌ ... خفِي من حسُنه البدر التمّام
أقُول له وقد أَبدى صُدودا ... فلا لفظٌ إليّ ولا ابتسام
تَكلَّم ليس يُوجعك الكَلام ... ولا يَمْحو محاسنُك السّلام
العروض الثاني من الوافر
مجزوء سالم ضربه مثله
سلبتَ الرُّوح من بَدني ... ورُعت القلبَ بالحَزَنِ
فلي بَدَن بلا رُوح ... وليِ رُوح بلا بَدن

قرنتَ مع الرَّدَى نَفسي ... فنفسي وهو في قَرن
فليتَ السِّحرَ من عَيْني ... ك لم أرَه ولم يَرَني

العروض الثالث من الوافر
المجزوء المعصوب
غزالٌ من بني العاص ... أحسَّ بصَوت قَنَّاص
فأتلع جيبه ذعرا ... وأشخص أيَّ إشخاص
أيا مَن أَخلصتْ نَفسي ... هواه كُل إخلاص
أطَاعك مِن صَميم القل ... ب عَفْواً كل مُعتاص
العروض الأول من
الكامل التام
ضربه مثله
في الكِلّة الصّفراء ريمٌ أبيضُ ... يَسْبي القلوبَ بمُقلتيه ويمرضُ
لمَا غدا بين الحمُول مُقوّضاً ... كاد الفؤاد عن الحَياة يُقوّض
صَد الكَرى عن جَفن عينك مُعرضاً ... لما رآه يَصد عنك ويُعْرِض
أدّيتُ من حُبِّي إليك فريضةً ... إن كان حُب الخَلْق مما يُفرض
الضرب الثاني
المقطوعِ
أومتْ إليك جُفونُها بودَاع ... خوْد بَدت لك مِنِ وراء قِنَاع
بَيضاء أنماها النَّعيم بصُفرة ... فكأَنها شَمس بغير شُعاع
أمّا الشباب فودّعت أيامه ... ووداعهنّ موكَل بوَداعِي
لله أيام الصَّبا لو أنها ... كَرَّت عليَّ بلذّة وسَماع
الضرب الثالث
الأحذ المضمر
أصغَى إليك بكأسه مُصغي ... صَلْت الجَبين مُعَقرب الصُّدغ
كأس تؤلّف بالمَحبة بَيننَا ... طَوْراً وتَنْزغ أيْما نَزغ
في رَوضة دَرجت بزهرتها الصبا ... والشمس في دَرج من الفَرغ
فاشرَب بكفّ أغنّ عَقرب صدغه ... للقَلب منك مُميتة الَّلدغ
الضرب الرابع
الأحذ الممنوع من الإضمار العروض الثاني
يا دمية نُصبت لمُعتكفِ ... بل ظَبية أوفت على شَرف
بل دُرَّة زَهراء ما سَكَنت ... بَحراً ولا اكتنفت ذَرَا صَدف
أسرفتِ في قَتْلي بلا ترةٍ ... وسَمعتِ قولَ الله في السرف
إنّي أتوبُ إليك مُعتَرفاً ... إن كنت تَقبل تَوْبَ مُعترف
الضرب الخامس
الأحذ المضمر
يا فِتْنة بُعثت على الخَلقِ ... ما بينها والموتِ من فَرْقِ
شَمسٌ بدتْ لك من مَغاربها ... يفترّه مبسمها عن البرْق
ما كنتُ أحسب قبل رُؤيتها ... للشَّمس مُطَّلعا سوى الشَرق
يا مَن يَضَنّ بفَضل نائله ... لوفي يَديْهِ مَفاتح الرزْق
الضرب السادس
المجزوء المرفل العروض الثالث - له أربعة ضروب
طَلعتْ له والليلُ دَامِس ... شَمْسٌ تجلّت في حَنادِسْ
تَختال في لِين المَجا ... سِد بين حارسة وحَارس
يا مَن ببَهجة وَجهه ... يستأسِر البطلُ المُمارس
لم يَبْق من قَبلي سِوى ... رَسْم تغيّر فهو دارس
الضرب السابع
المجزوء المذيل
دَعْ قَول واشية وواشي ... واجعلْهما كَلبَي هِراش
واشرب مُعتَّقة تَسل ... سل في العِظام وفي المشاش
الضرب الثامن
المجزوء الصحيح
ألْحاظ عيني تلتهي ... في رَوْض وَرْد يزدهي
رتعت بها وتنزّهَت ... فيها ألذّ تنزه
يا أيها الخَنِث الجُفو ... ن بنَخْوة وتكره
والمكتسي غنجا أما ... ترثي لأشعث أمره
الضرب التاسع
المجزوء المقطوع إلا من سلامة الثاني
أطفت شرَارةَ لَهوي ... ولوتْ بشدّة عَدْوِي
شعل علون مَفارقي ... ومضت ببهَجة سَرْوِي
لما سلكت عَروضَها ... ذهب الزحاف بحذوي
يا أيها الشادي صه ... ليست بساعة شدو
الهزج
له عروض واحد وضربان
ألا ياويح قلبي للش ... باب الغَضّ إذْ وَلى
جعلت الغَيّ سِرْبالي ... وكان الرُّشد بي أولى

بنَفْسي جائرٌ في الحُك ... م يُلْفَى جَوره عَدلا
وليس الشهد في فِيه ... بأحلَى عنده مِن لا

الضرب الثاني
المحذوف
هُنا تفنى قَوافي الشّع ... ر في هذا الروي
قوافٍ أُلبست حَلْياً ... من الحُسن البدي
تعالتْ عن جَرير بل ... زُهير بل عَدِيّ
/كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان
واختلاف الناس فيه
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في أعاريض الشعر، وعلل القوافي، وفسرنا جميع ذلك بالمنظوم والمنثور، ونحن قائلون بعون الله وإذنه في علم الغناء واختلاف الناس فيه، ومن كرهه ولأي وجه كرهه، ومن استحسنه ولأي وجه استحسن.
وكرهنا أن يكون كتابنا هذا بعد اشتماله على فنون الآداب والحكم والنوادر والأمثال، عطلا من هذه الصناعة التي هي مراد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب؛ لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس.
قال أبو سعيد بن مسلم: قلت لابن دأب: قد أخذت من كل شيء بطرف غير شيء واحد، فلا أدري ما صنعت فيه؟ فقال: لعلك تريد الغناء؟ قلت: أجل. قال: أما إنك لو شهدتني وأنا أترنم بشعر كثير عزة حيث يقول:
وما مر من يوم علي كيومها ... وإن عظمت أيام أخرى وجلت
لاسترخت تكتك. قال: قلت: أتقول لي هذا؟ قال: إي والله، وللمهدي أمير المؤمنين كنت أقوله.
فضل الصوت الحسن
قال بعض أهل التفسير في قول الله تبارك وتعالى: " يزيد في الخلق ما يشاء " : هو الصوت الحسن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري، لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود.
وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتهش له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات. ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب.
وقالت ليلى الأخيلية للحجاج حين سألها عن ولدها، وأعجبه ما رأى من شبابه: إني والله ما حملته سهوا، ولا وضعته يتناً، ولا أرضعته غيلا ولا أنمته مئقاً. يعني لم أنومه مستوحشا باكياً. ما حملته سهوا. تعني في بقايا الحيض. ويقال: حملت المرأة وضعا وتضعا، إذا حملت في استقبال الحيض. وقولها ولا وضعته يتنا تعني منكسا. وقولها: ولا أرضعته غيلا تعني لبناً فاسداً.
وزعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس، وحن إليه الروح. ولذلك قال أفلاطون: لا ينبغي أن تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا. ألا ترى أن أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان فاستراحت لها أنفسهم. وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه. ولو لم يكن من فضل الصوت إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل أو ملبس أو مشرب أو نكاح أو صيد، إلا وفيها معاناة على البدن وتعب على الجوارح، ما خلا السماع؛ فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة. فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم اصطناع المعروف، وصلة الأرحام، والذب عن الأعراض، والتجاوز عن الذنوب. وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويرقق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويمثله في ضميره.
وكان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاءً؛ كأنه يتذكر به نعيم الآخرة.
وقال أحمد بن أبي داود: إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم فيقع علي البكاء. حتى إن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله.
وقال العتابي وذكر رجلا فقال: والله إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء، والنحل على الغناء.
وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء، وأن أفراخها لا تستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن. قال الراجز:
والطير قد يسوقه للموت ... إصغاؤه إلى حنين الصوت

وبعد: فهل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب، وأشد اختلاساً للعقول من الصوت الحسن، لا سيما إذا كان من وجه حسن، كما قال الشاعر:
رب سماع حسن ... سمعته من حسن
مقرب من فرح ... مبعد من حزن
لا فارقاني أبداً ... في صحة من بدني
وهل على الأرض رعديد مستطار الفؤاد يغني بقول جرير بن الخطفي:
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي
إلا ثاب إليه روحه، وقوي قلبه. أم هل على الأرض بخيل قد تقفعت أطرافه لؤماً؟ ثم غني بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه؟ أم هل على الأرض غريب نازح الدار بعيد المحل يغني بشعر علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وغربته ... عدل من الله كل ما صنعا
إلا انقطعت كبده حنيناً إلى وطنه، وتشوقاً إلى سكنه.

اختلاف الناس في الغناء
اختلاف الناس في الغناء، فأجازه عامة أهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق. فمن حجة من أجازه أن أصله الشعر الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وحض عليه، وندب أصحابه إليه، وتجند به على المشركين. فقال لحسان: شن الغارة على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام.
وهو ديوان العرب، ومقيد أحكامهم، والشاهد على مكارمها. وأكثر شعر حسان بن ثابت يغنى به.
قال فرج بن سلام: حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: شهد حسان بن ثابت مأدبة لرجل من الأنصار، وقد كف بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكلما قدم شيء من الطعام قال حسان لابنه: أطعام يد أم طعام يدين؟ فيقول له: طعام يد. حتى قدم الشواء. فقال له: هذا طعام يدين. فقبض الشيخ يده. فلما رفع الطعام اندفعت قينةٌ لهم تغني بشعر حسان:
انظر خليلي بباب جلق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد
جمال شعثاء قد هبطن من ال ... محبس بين الكثبان فالسند
قال: فجعل حسان يبكي، وجعل عبد الرحمن يومئ إلى القينة أن تردده. قال الأصمعي: فلا أدري ما الذي أعجب عبد الرحمن من بكاء أبيه.
وقالت عائشة، رضي الله عنها: علموا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم.
وأردف النبي صلى الله عليه وسلم الشريد، فايتنشده من شعر أمية، فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه، استحساناً لها.
فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه، قالوا: الشعر حسن ولا نرى أن يؤخذ بلحن حسن. وأجازوا ذلك في القرآن وفي الأذان. فإن كانت الألحان مكروهة، فالقرآن والأذان أحق بالتنزيه عنه. وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر. وما الفرق بين أن ينشد الرجل:
أتعرف رسما كاطراد المذانب
مترسلاً، أم يرفع بها صوته مرتجلاً. وإنما جعلت العرب الشعر موزوناً لمد الصوت فيه والدنانة. ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.
واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم. قال: ويعثتم معها من يغني؟ قالت: لا، قال: أو ما علمتم أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ... نحييكم نحييكم
ولولا الحبة السمرا ... ء لم نحلل بواديكم
واحتجوا بحديث عبد الله بن أويس، ابن عم مالك، وكان من أفضل رجال الزهري قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بجارية في ظل فارع وهي تغني:
هل علي ويحكم ... إن لهوت من حرج
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حرج إن شاء الله. والذي لا ينكره أكثر الناس غناء النصب، وهو غناء الركبان.
حدث عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن أبيه، قال: مر بنا عمر بن الخطاب وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا علي. فأعدنا عليه. فقال: أنتما كحماري العبادي، وقيل له: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا.

وسمع أنس بن مالك أخاه البراء بن مالك يغني، فقال: ما هذا؟ قال: أبيات عربية أنصبها نصبا.
ومن حديث الحماني عن حماد بن زيد بن يسار قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في منزل بين مكة والمدينة قد ألقى له مصلي، فاستلقى عليه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يتغنى. فقلت: سبحان الله أبا إسحاق، أتفعل مثل هذا وأنت محرم؟ فقال: يا بن أخي، وهل تسمعني أقول هجرا؟ ومن حديث المفضل عن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى، قال: قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك. فأسمعه كلمة له. قال: وإنك لقائلها؟ قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب.
عاصم عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحداء. قال: وما بأس ذلك يا ابن أخي؟ قال: وحدث عبيد بن عمير الليثي أن داود النبي عليه السلام كانت له معزفة يضرب بها إذا قرأ الزبور، لتجتمع عليه الجن والإنس والطير، فيبكي ويبكي من حوله. وأهل الكتاب يجدون هذا في كتبهم.
ومن حجة من كره الغناء أن قال: إنه ينفر القلوب، ويستفز العقول، ويستخف الحليم، ويبعث على اللهو، ويحض على الطرب، وهو باطل في أصله. وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا " . وأخطأوا في التأويل. إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السمر والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن، ويقولون إنها أفضل منه. وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا. وأعدل الوجوه في هذا أن يكون سبيله سبيل الشعر، فحسنه حسن وقبيحه قبيح.
وقد حدث إبراهيم بن المنذر الحزامي أن ابن جامع السهمي قدم مكة بمال كثير، ففرقه في ضعفاء أهلها، فقال سفيان بن عيينة: بلغني أن هذا السهمي قدم بمال كثير. قالوا: نعم. قال: فعلام يعطى؟ قالوا: يغني الملوك فيعطونه. قال: وبأي شيء يغنيهم؟ قالوا: بالشعر. قال: فكيف يقول؟ فقال له فتى من تلاميذه: يقول:
أطوف بالبيت مع من يطوف ... وأرفع من مئزري المسبل
قال: بارك الله عليه، ما أحسن ما قال! قال: ثم ماذا؟ قال:
وأسجد بالليل حتى الصباح ... وأتلو من المحكم المنزل
قال: وأحسن أيضاً، أحسن الله إليه؛ ثم ماذا؟ قال:
عسى فارج الهم عن يوسف ... يسخر لي ربة المحمل
قال: أمسك أمسك. أفسد آخراً ما أصلح أولاً.
ألا ترى سفيان بن عيينة رحمه الله حسن الحسن من قوله وقبح القبيح.
وكره الغناء قوم على طريق الزهد في الدنيا ولذاتها، كما كره بعضهم الملاذ ولبس العباء، وكره الحوارى وأكل الكشكار، وترك البر وأكل الشعير، لا على طريق التحريم، فإن ذلك وجه حسن ومذهب جميل. فإنما الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله. يقول الله تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " .
وقد يكون الرجل أيضاً جاهلا بالغناء أو متجاهلاً به، فلا يأمر به ولا ينكره. قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟ قال: نعم العون على طاعة الله! يصل الرجل به رحمه، ويواسي به صديقه. قال الرجل: ليس عن هذا أسألك. قال: وعم سألتني؟ قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني؟ فجعل الرجل يلوي شدقيه وينفخ منخريه. قال الحسن: والله يا بن أخي، ما ظننت أن عاقلا يفعل هذا بنفسه أبداً.
وإنما أنكر عليه الحسن تشويه وتعويج فمه، وإن كان أنكر الغناء فإنما هو من طريق أهل العراق، وقد ذكرنا أنهم يكرهونه.
قال إسحاق بن عمارة: حدثني أبو المغلس عن أبي الحارث، قال: اختلف في الغناء عند محمد بن إبراهيم والي مكة، فأرسل إلى ابن جريج وإلى عمرو ابن عبيد فأتياه فسألهما، فقال ابن جريج: لا بأس به، شهدت عطاء بن أبي رباح في ختان ولده، وعنده ابن سريج المغني، فكان إذا غنى لم يقل له: اسكت، وإذا سكت لم يقل له: غن، وإذا لحن رد عليه. وقال عمرو بن عبيد: أليس الله يقول: " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " . فأيهما يكتب الغناء؟ الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال؟ فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما، لأنه لغو كحديث الناس فيما بينهم، من أخبار جاهليتهم وتناشد أشعارهم.

وقال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري، قال: قال لي أبو يوسف القاضي: ما أعجب أمركم يأهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم من شريف ولا دنيء يتحاشى عنها. قال: فغضبت وقلت: قاتلكم الله يأهل العراق! ما أوضح جهلكم وأبعد من السداد رأيكم! متى رأيت أحدا سمع الغناء فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر، فيترك أحدهم صلاته، ويطلق امرأته، ويقذف المحصنة من جاراته، ويكفر بربه، فأين هذا من هذا؟ من اختار شعراً جيداً ثم اختار له جرماً حسناً فردده عليه، فأطربه وأبهجه، فعفا عن الجرائم، وأعطى الرغائب. فقال أبو يوسف: قطعتني، ولم يحر جواباً.
قال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء؟ قال: قلت: من أتبعه الله خزيته. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرم ويحلل! والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى:
سليمى أزمعت بينا ... فأين تظنها أينا
ولو سمعت مالكا يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. قال فتبسم الرشيد.
وعن أبي شعيب الحراني عن جعفر بن صالح بن كيسان عن أبيه، قال: كان عبد الله بن عمر يحب عبد الله بن جعفر حبا شديدا. فدخل عليه يوماً وبين يديه جارية في حجرها عود، فقال: ما هذا يا أبا جعفر؟. قال: وما تظن به يا أبا عبد الرحمن؟ فإن أصاب ظنك فلك الجارية. قال: ما أراني إلا قد أخذتها، هذا ميزان رومي. فضحك ابن جعفر، وقال: صدقت. هذا ميزان يوزن به الكلام، والجارية لك. ثم قال: هاتي. فغنت:
أيا شوقا إلى البلد الأمين ... وحي بين زمزم والجحون
ثم قال: هل ترى بأساً؟ قال: لا. قال: فما أرى بهذا بأساً.
وسمع عبد الله بن عمر ابن محرز يغني:
لو بدلت أعلى منازلها ... سفلاً وأصبح سفلها يعلو
لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل
فقال عبد الله بن عمر: قل: إن شاء الله. قال: يفسد المعنى. قال: لا خير في كل معنى يفسده إن شاء الله.
حدث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة، قال: حدثني الشرقي عن الأصمعي، قال. سمع عمر بن عبد العزيز راكباً يغني في سفره:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضا في الطخية المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف المدد
فقال عمر بن عبد العزيز: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي: لولا أن أنفر في السرية، وأقسم بالسوية، وأعدل في القضية.
قال جرير المدني: مررت بالأسلمي العابد، وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي، فسلمت عليه، فأوما إلى وأشار بالجلوس، فجلست. فلما سلم أخذ بيدي، وأشار إلى حلقي، وقال: كيف هو؟ قلت: أحسن ما كان قط. قال: أما والله لوددت أنه خلا لي وجهك وأنك أسمعتني:
يا لقومي لحبلك المصروم ... يوم شطوا وأنت غير ملوم
أصبح الربع من أمامة قفراً ... غير مغنى معارف ورسوم
قلت: إذا شئت. قال: في غير هذا الوقت إن شاء الله.
وحدث أبو عبد الله المروزي، بمكة في المسجد الحرام، قال: حدثنا حبان بن موسى وسويد، صاحبا ابن المبارك، قالا: لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطا خرجنا معه، فلما نظر القوم إلى ما فيه من النفير والغزو والسرايا في كل يوم التفت إلينا، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر، وتركنا هاهنا أبواب الجنة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي ونحن معه في أرقة المصيصة إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني:
أذلني الهوى فأنا الذليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
فأخرج رزنامجا من كمه، فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران؟ قال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة؟

قال: وولي الأوقص المخزومي قضاء مكة، فما رئي مثله في العفاف والنبل. فبينما هو نائم ذات ليلة في علية له، إذ مر به سكران يتغنى ويلحن في غنائه. فأشرف المخزومي عليه، فقال: يا هذا، شربت حراماً، وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ، خذه عني، فأصلحه عليه.
قال: الأوقص المخزومي: قالت لي أمي: أي بني، إنك خلقت في صورة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان، فعليك بالدين فإن الله يرفع به الخسيسة ويتم به النقيصة. فنفعني الله بقولها.
وحدث عباس بن المفضل قاضي المدينة، قال: حدثني الزبير بن بكار: قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله، قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان، وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان، وعنده جارية في حجرها عود. فلما دخل الشعبي أمرها فوضعت العود. فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده. قال: صدقتم. ثم قال للجارية: هاتي ما عندك، فأخذت العود وغنت:
ومما شجاني أنها يوم ودعت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إلي التفاتاً أسلمته المحاجر
فقال الشعبي: الصغير أكيسهما، يريد الزير. ثم قال: يا هذه، أرخي من بمك، وشدي من زيرك. فقال له بشر بن مروان: وما علمك؟ قال: أظن العمل فيهما. قال: صدقت، ومن لم ينفعه يقينه.
وحدث عن أبي عبد الله البصري قال: غنى رجل في المسجد الحرام، وهو مستلق على قفاه صوتا، ورجل من قريش يصلي في جواره، فسمعه خدام المسجد، فقالوا: يا عدو الله، أتغني في المسجد الحرام! ورفعوه إلى صاحب الشرطة. فتجوز القرشي في صلاته، ثم سلم وأتبعه، فقال لصاحب الشرطة: كذبوا عليه أصلحك الله، إنما كان يقرأ. فقال: يا فساق، أتأتوني برجل قرأ القرآن تزعمون أنه غنى! خلوا سبيله. فلما خلوه، قال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت وأجدت ما شهدت لك، اذهب راشدا.
وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب. وكان أبو حنيفة يحيي الليل بالقيام ويحييه جاره الكيال بالشراب ويغني على شرابه:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فأخذه العسس ليلة فوقع في الحبس، وفقد أبو حنيفة صوته، واستوحش له. فقال لأهله: ما فعل جارنا الكيال؟ قالوا: أخذه العسس فهو الحبس. فلما أصبح أبو حنيفة وضع الطويلة على رأسه وخرج حتى أتى باب عيسى بن موسى، فاستأذن عليه. فأسرع في إذنه. وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي الملوك. فأقبل عليه عيسى بوجهه، وقال: أمر ما جاء بك يا أبا حنيفة؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير، جارٌ لي من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا، فوقع في حبسك. فأمر عيسى بإطلاق كل من أخذ في تلك الليلة إكراماً لأبي حنيفة. فأقبل الكيال على أبي حنيفة متشكراً له. فلما رآه أبو حنيفة، قال: أضعناك يا فتى؟ يعرض له بقصيدته. قال: لا والله، ولكنك بررت وحفظت.
الأصمعي قال: قدم عراقي بعدل من خمر العراق إلى المدينة فباعها كلها إلا السود. فشكا ذلك إلى الدارمي، وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد. فقال: ما تجعل لي على أن احتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك؟ قال: ما شئت، قال: فعمد الدارمي إلى ثياب نسكه، فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الأول، وقال: شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنين فغنى به، وكان الشعر:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتى خطرت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحق دين محمد
فشاع هذا الغناء في المدينة وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبه الخمار الأسود. فلم تبق مليحة بالمدينة إلا اشترت خماراً أسود، وباع التاجر جميع ما كان معه. فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: ماذا صنعت؟ فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه.
وحدث عبد الله بن مسلمة بن قتيبة ببغداد قال: حدثني سهل عن الأصمعي قال: كان عروة بن أذينة يعد ثقةً ثبتاً في الحديث، روى عنه مالك ابن أنس، وكان شاعراً لبقاً في شعره غزلاً، وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين، فمن ذلك قوله، وغنى به الحجازيون:

يا ديار الحي بالأجمه ... لم يبين رسمها كلمه
وهو موضع صوته. ومنه قوله:
قالت وأبثثتها وجدي وبحت به ... قد كنت عندي تحت الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
قال: فوقفت عليه امرأة وحوله التلامذة، فقالت: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح؟ وأنت القائل:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
لا والله، ما قال هذا رجل صالح قط.
قال: وكان عبد الرحمن بن عبد الله الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة، وأنه مر يوماً بسلامة وهي تغني، فقام يستمع غناءها. فرآه مولاه فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى. فلم يزل به حتى دخل. فقال له: أوقفك في موضع بحيث تراها ولا تراك، فغنته فأعجبته، فقال له مولاها: هل لك في أن أحولها إليك؟ فأبى ذلك عليه، فلم يزل به حتى أجابه. فلم يزل يسمعها ويلاحظها النظر حتى شغف بها. ولما شعرت للحظه إياها غنته:
رب رسولين لنا بلغا ... رسالة من قبل أن يبرحا
لم يعملا خفاً ولا حافراً ... ولا لساناً بالهوى مفصحا
حتى استقلا بجوابيهما ... بالطائر الميمون قد أنجحا
الطرف والطرف بعثناهما ... فقضيا حاجاً وما صرحا
قال: فأغمي عليه وكاد أن يهلك. فقالت له يوماً: إني والله أحبك. قال لها: وأنا والله أحبك. قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله. قالت فما يمنعك من ذلك؟ قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك عداوةً يوم القيامة، أما سمعت الله تعالى يقول: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " . ثم نهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها، وأنشأ يقول:
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضلالة والهدى أقسام
وله فيها:
إن سلامة التي ... أفقدتني تجلدي
لو تراها وعودها ... حين يبدو وتبتدي
لجرير وللغري ... ض وللقرم معبد
خلتهم بين عودها ... والدساتين واليد

أخبار عبد الله بن جعفر
حدث سعيد بن محمد العجلي بعمان، قال: حدثني نصر بن علي عن الأصمعي، قال: كان معاوية يعيب على عبد الله بن جعفر سماع الغناء. فأقبل معاوية عاماً من ذلك حاجاً، فنزل المدينة، فمر ليلةً بدار عبد الله بن جعفر، فسمع عنده غناءً على أوتار، فوقف ساعة يستمع ثم مضى وهو يقول: أستغفر الله، أستغفر الله. فلما انصرف من آخر الليل مر بداره أيضاً، فإذا عبد الله قائم يصلي، فوقف ليستمع قراءته، فقال: الحمد لله، ثم نهض وهو يقول: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم " فلما بلغ ابن جعفر ذلك أعد له طعاماً، ودعاه إلى منزله، وأحضر ابن صياد المغني، ثم تقدم إليه يقول: إذا رأيت معاوية واضعا يده في الطعام فحرك أوتارك وغن. فلما وضع معاوية يده في الطعام حرك ابن صياد أوتاره وغنى بشعر عدي ابن زيد، وكان معاوية يعجب به:
يا لبينى أوقدي النارا ... إن من تهوين قد حارا
رب نار بت أرمقها ... تقضم الهندي والغارا
ولها ظبي يؤججها ... عاقد في الخصر زنارا
قال: فأعجب معاوية غناؤه حتى قبض يده عن الطعام، وجعل يضرب برجله الأرض طرباً. فقال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما هو مختار الشعر يركب عليه مختار الألحان، فهل ترى به بأساً؟ قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان.

قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام، فأنزله في دار عياله، وأظهر من إكرامه وبره ما كان يستحقه. فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة، زوجة معاوية، فسمعت ذات ليلة غناءً عند عبد الله بن جعفر، فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك، وأنزلته في دار محرمك. فجاء معاوية فسمع شيئاً حركه وأطربه، وقال: والله إني لأسمع شيئاً تكاد الجبال تخر له، وما أظنه إلا من تلقين الجن، ثم انصرف. فما كان من آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله وهو قائم يصلي. فأنبه فاختةً، وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني، هؤلاء قومي، ملوك بالنهار رهبان بالليل.
ثم إن معاوية أرق ذات ليلة فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله، وأخبره بخروجي إليه فذهب فأخبره. فأقام كل من كان عنده، ثم جاء معاوية، فلم ير في المجلس غير عبد الله فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال معاوية: مره يرجع إلى مجلسه ثم قال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال: مره يرجع إلى مجلسه، حتى لم يبق إلا مجلس رجل. فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس رجل يداوي الآذان، يا أمير المؤمنين. قال له معاوية: فإن أذني عليلة، فمره فليرجع إلى موضعه، وكان موضع بديح المغني. فأمره ابن جعفر، فرجع إلى موضعه. فقال له معاوية: داو أذني من علتها. فتناول العود ثم غنى:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدارج فالمتثلم
فحرك عبد الله بن جعفر رأسه. فقال معاوية: لم حركت رأسك يا بن جعفر؟ قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين، لو لقيت عندها لأبليت، ولئت سئلت عندها لأعطيت وكان معاوية قد خضب فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا، وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده، كانت متولية خضابه. فغناه بديح:
أليس عندك شكر للتي جعلت ... ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم
وجددت منك ما كان أخلقه ... صرف الزمان وطول الدهر والقدم
فطرب معاوية طرباً شديداً، وجعل يحرك رجله. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، سألتني عن تحريك رأسي، فأخبرتك، وأنا أسألك عن تحريك رجلك. فقال معاوية: كل كريم طروب. ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني. فبعث إلى جعفر بعشرة آلاف دينار، ومائة ثوب من خاص ثيابه، وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب.
وعن ابن الكلبي والهيثم بن عدي، قالا: بينا عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة إذ سمع غناء، فأصغى إليه، فإذا بصوت شجي رقيق لقينة تغني:
قل للكرام ببابنا يلجوا ... ما في التصابي على الفتى حرج
فنزل عبد الله عن دابته ودخل على القوم بلا إذن. فلما رأوه قاموا إليه إجلالاً له ورفعوا مجلسه. ثم أقبل عليه صاحب المنزل، فقال: يا بن عم رسول الله، دخلت منزلنا بلا إذن وما كنت لهذا بخليق. فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن. قال: ومن أذن لك: قال: قينتك هذه سمعتها تقول:
قل للكرام ببابنا يلجوا
فولجنا، فإن كنا كراماً فقد أذن لنا، وإن كنا لئاماً خرجنا مذمومين. فضحك صاحب المنزل، وقال: صدقت جعلت فداك، ما أنت إلا من أكرم الأكرمين. ثم بعث عبد الله إلى جارية من جواريه فجاءت، فقال لها: غني. فغنت. فطرب القوم وطرب عبد الله. فدعا بثياب وطيب، فكسا القوم وصاحب المنزل وطيبهم، ووهب له الجارية، وقال له: هذه أحذق بالغناء من جاريتك.

أخبار ابن أبي عتيق
ذكر رجل من أهل المدينة أن ابن أبي تيق - وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - دخل على عائشة أم المؤمنين، وهي عمته، فوضع رأسه في حجرها أو على ركبتها، ثم رفع عقيرته يتغنى:
ومقيد حجل جررت برجله ... بعد الهدوء له قوائم أربع
فاطرب زمان اللهو من زمن الصبا ... وانزع إذا قالوا أبي لك منزع
فليأتين عليك يوما مرة ... يبكى عليك مقنعاً لا تسمع
قالت له عائشة: يا بني، فتق ذلك اليوم.

حدث أبو عبد الله محمد بن عرفة بواسط قال؛ حدثني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عباس السعدي عن السائب رواية كثير، قال: قال لي كثير يوماً: قم بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده. قال: فجئناه، فوجدنا عنده ابن معاذ المغني، فلما رأى كثيراً قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك بشعر كثير؟ فاندفع يغني بشعره حيث يقول:
أبائنة سعدى نعم ستبين ... كما انبت من حبل القرين قرين
أإن ذم أجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البين أنت حزين
فأخلفن ميعادي وخن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين
فالتفت ابن أبي عتيق إلى كثير فقال: وللدين صحبتهن يا بن أبي جمعة؟ ذاك والله أشبه بهن، وأدعى للقلوب إليهن؛ وإنما يوصفن بالبخل والامتناع، وليس بالأمانة والوفاء. وابن قيس الرقيات أشعر منك حيث يقول:
حبذا الإدلال والغنج ... والتي في طرفها دعج
والتي إن حدثت كذبت ... والتي في ثغرها فلج
خبروني هل على رجل ... عاشق في قبلة حرج
فقال كثير: قم بنا من عند هذا، ثم نهض.
وقال عبد الله بن جعفر لابن أبي عتيق: لو غنتك فلانة جاريتي صوتاً ما أدركتك ذكاتك. قال ابن أبي عتيق: قل لها تفعل وليس عليك إن مت ضمان. فأخذه بيده عبد الله بن جعفر وأدخله منزله، ثم أمر الجارية فخرجت، وقال لها: هات، فغنت:
بهواك صيرني العذول نكالا ... وجد السبيل إلى المقال فقالا
ونهيت نومي عن جفوني فانتهى ... وأمرت ليلي أن يطول فطالا
قال: فرمى بنفسه ابن أبي عتيق إلى الأرض وقال: فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمغتر.
أبو القاسم جعفر بن محمد قال: لما وصف عبد الله بن جعفر لعبد الملك بن مروان ابن أبي عتيق وحدثه عن إقلاله وكثرة عياله، أمره عبد الملك بن مروان أن يبعث به إليه. فأعلمه ابن جعفر بما دار بينه وبين عبد الملك وبعثه إليه. فدخل ابن أبي عتيق على عبد الملك فوجده جالساً بين جاريتين قائمتين عليه يميسان كغصني بانٍ، بيد كل جارية مروحة تروح بها عليه، مكتوب بالذهب على المروحة الأولى:
إنني أجلب الريا ... ح وبي يلعب الخجل
وحجاب إذا الحب ... يب ثنى الرأس للقبل
وغياث إذا الندي ... م تغنى أو ارتجل
وفي المروحة الأخرى:
أنا في الكف لطيفة ... مسكني قصر الخليفة
أنا لا أصلح إلا ... لظريف أو ظريفه
أو وصيف حسن القد ... شبيه بالوصيفه
قال ابن أبي عتيق: فلما نظرت إلى الجاريتين هونتا الدنيا علي، وأنستاني سوء حالي، وقلت: إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم. فكلما كررت بصري فيهما تذكرت الجنة، فإذا تذكرت امرأتي، وكنت لها محبا، تذكرت النار. قال: فبدأ عبد الملك يتوجع إلي بما حكى له ابن جعفر عني ويخبرني بما لي عنده من جميل الرأي. فأكذبت له كل ما حكاه له ابن جعفر عني، ووصفت له نفسي بغاية الملاء والجدة. فامتلأ عبد الملك سروراً بما ذكرت له، وغما بتكذيب ابن جعفر. فلما عاد إليه ابن جعفر عاتبه عبد الملك على ما حكاه عني وأخبره بما حليت به نفسي. فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين، وإنه أحوج أهل الحجاز إلى قليل فضلك، فضلاً عن كثيره. ثم خرج عبد الله فلقيني فقال: ما حملك أن كذبتني عند أمير المؤمنين؟ قلت: أفكنت تراني تجلسني بين شمس وقمر، ثم أتفاقر عنده! لا والله ما رأيت ذلك لنفسي وإن رأيته لي. فلما أعلم بذلك عبد الله بن جعفر عبد الملك بن مروان، قال: فالجاريتان له. قال: فلما صارتا إلي زرت عبد الله بن جعفر فوجدته قد امتلأ فرحاً، وهو يشرب وبين يديه عس فيه عسل ممزوج بمسك وكافور. فقال: مهيم. قلت: قد والله قبضت الجاريتين. قال: فاشرب. فتناولت العس فجرعت منه جرعة. فقال لي: زد. فأبيت عليه. فقال لجارية له عنده تغنيه: إن هذا قد حاز اليوم غزالتين من عند أمير المؤمنين، فخذي في نعتهما، فإنهما كما فلكت صدورهما. فحركت الجارية العود ثم غنت.
عهدي بها في الحي قد جردت ... زهراء مثل القمر الضامر
قد حجم الثدي على نحرها ... في مشرف ذي بهجة ناضر

لو أسند ميتاً إلى صدرها ... قام ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشر
قال: فلما سمعت الأبيات طربت، ثم تناولت العس فشربت عللاً بعد نهل، ورفعت عقيرتي أغني:
سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت
قال: وخرج أبو السائب وابن أبي عتيق يوماً يتنزهان في بعض نواحي مكة، فنزل أبو السائب ليبول وعليه طويلته، فانصرف دونها. فقال له ابن أبي عتيق: ما فعلت طويلتك؟ قال: ذكرت قول كثير:
أرى الإزار على لبنى فأحسده ... إن الإزار على ما ضم محسود
فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لسانه. فأخذ ابن أبي عتيق طويلته فرمى بها وقال: أتسبقني أنت إلى بر الشيطان؟ سمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره فقال: اطلبوه. فجاؤوا به. فقال: أعد علي ما تغنيت به. فغنى واحتفل. وكان سليمان أغير الناس، فقال لأصحابه: وكأنها والله جرجرة الفحل في الشول. وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت. وأمر به فخصي.
وقالوا: إن الفرزدق قدم المدينة على الأحول بن محمد بن عبد الله ابن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حمت لحمه الدبر، فقال الأحوص: ألا أسمعك غناء؟ قال: تغن. فغناه:
أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بعود بشامة سقي البشام
بنفسي من تجنبه عزيز ... علي ومن زيارته لمام
ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
فقال الفرزدق: لمن هذا الشعر؟ قال: لجرير. ثم غناه:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معيناً
غيض من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال: لمن هذا الشعر؟ فقال؟ لجرير ثم غناه:
أسرى لخالدة الخيال ولا أرى ... شيئاً ألذ من الخيال الطارق
إن البلية من يمل حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الومق
فقال: لمن هذا الشعر؟ فقال: لجرير. فقال: ما أحوجه مع عفافه إلى خنوثة شعري، وما أحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره.
وقال جرير: والله لولا ما شغلت به من هذه الكلاب لشببت تشبيباً تحن منه العجوز إلى أيام شبابها، حنين الجمل إلى عطنه.
وقال: الأحوص يوماً لمعبد: امض بنا إلى عقيلة حتى نتحدث إليها ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا فألفيا على بابها معاذاً الأنصاري، وابن صياد. فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم إلا الأحوص، فإنها قالت: نحن على الأحوص غضاب. فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها، وقال:
شنت عقيلة عنك اليوم بالزاد ... وآثرت حاجة الساري على الغادي
قولا لمنزلها حييت من طلل ... وللعقيق ألا حييت من وادي
إذاً وهبت نصيبي من مودتها ... لمعبد ومعاذ وابن صياد
وجعل رجل يترنم في مسجد المدينة ورجل من قريش يسمع، فأخذه بعض القومة، فقالوا: يا عدو الله، أتغني في المسجد الحرام! وذهبوا به إلى صاحب الحكم. وأتبعهم القرشي، فقال لصاحب الحكم: أصلحك الله، إنما كان يقرأ. فأطلق سبيله. فقال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت في غنائك، وأقمت دارات معبد لكنت عليك أشد من الأعوان.
والصوت المنسوب إلى دارات معبد قول أعشى بكر:
هريرة ودعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم
ويروى أن معبداً دخل على قتيبة بن مسلم والي خراسان، وقد فتح خمس مدائن، فجعل يفخر بها عند جلسائه. فقال له معبد: والله لقد صغت بعدك خمسة أصوات إنها لأكثر من خمس المدائن التي فتحت. والأصوات هي: الأول:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
والثاني:
هريرة ودعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم
والثالث:
ودع لبانة قبل أن ترتحلا ... واسبل فإن سبيله أن يسبلا
والرابع:
لعمري لئن شطت بعثمة دارها ... لقد كدت من وشك الفراق أليح
والخامس:
تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارها

أصل الغناء ومعدنه

قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج. فأما النصب فغناء الركبان والقينات. وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات. وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم. وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرا فاشياً، وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب.
وقيل إن أول من صنع العود لامك بن قابيل بن آدم، وبكى به على والده. ويقال: إن صانعه بطليموس صاحب كتاب الموسيقى، وهو كتاب اللحون الثمانية.
وكان أول من غنى في العرب قينتان لعاد، يقال لهما الجرادتان، ومن غنائهما:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يصبحنا غماما
وإنما غنتا بهذا حين حبس عنهما المطر. وكانت العرب تسمي القينة الكرينة، والعود الكران. والمزهر أيضا هو العود، وهو البربط، وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس، وهو علم ابن سريج، والدلال، ونومة الضحى، وكان يكنى أبا عبد النعيم، ومن غنائه وهو أول صوت غنى به في الإسلام:
قد براني الشوق حتى ... كدت من شوقي أذوب

أخبار المغنين
أولهم: طويس، وكان في أيام عثمان رضي الله عنه.
حدثنا جعفر بن محمد قال: لما ولي أبان بن عثمان بن عفان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان قعد في بهوٍ له عظيم، واصطف له الناس، فجاءه طويس المغني، وقد خضب يديه غمساً واشتمل على دف له، وعليه ملاءة مصقولة، فسلم، ثم قال: بأبي وأمي يا أبان، الحمد لله الذي أرانيك أميراً على المدينة، إني نذرت لله فيك نذراً إن رأيتك أن أخضب يدي غمسا وأشتمل على دفي وآتي مجلس إمارتك وأغنيك صوتاً. قال: فقال: يا طويس، ليس هذا موضع ذاك. قال: بأبي أنت وأمي يا بن الطيب، أبحني. قال: هات يا طويس. فحسر عن ذراعيه وألقى رداءه ومشى بين السماطين وغنى:
ما بال أهلك يا رباب ... خزراً كأنهم غضاب
قال: فصفق أبان بيديه ثم قام عن مجلسه، فاحتضنه وقبل بين عينيه، وقال: يلومونني على طويس! ثم قال له: من أسن، أنا وأنت؟ قال: وعيشك لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب. انظر إلى حذقه ورقة أدبه، كيف لم يقل: أمك الطيبة إلى أبيك المبارك.
وعن ابن الكلبي قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الحج، وهو والي المدينة، وخرج الناس معه، وكان فيمن خرج بكر بن إسماعيل الأنصاري وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، فلما انصرفا راجعين مرا بطويس المغني، فدعاهما إلى النزول عنده. فقال بكر بن إسماعيل: قد البعير إلى منزلك. فقال له سعيد بن عبد الرحمن: أتنزل على هذا المخنث؟ فقال: إنما هو منزل ساعة ثم نذهب. فاحتمل طويس الكلام على سعيد. فأتيا منزله، فإذا هو قد نظفه ونجده، فأتاهما بفاكهة الشام، فوضعها بين أيديهما، فقال له بكر بن إسماعيل: ما بقي منك يا طويس؟ قال: بقي كلي يا أبا عمرو. قال: أفلا تسمعنامن بقاياك؟ قال: نعم. ثم دخل خيمته فأخرج خريطة، وأخرج منها دف، ثم نقر وغنى:
يا خليلي نابني سهدي ... لم تنم عيني ولم تكد
كيف تلحوني على رجل ... مؤنس تلتذه كبدي
مثل ضوء البدر صورته ... ليس بالزميلة النكد
من بني آل المغيرة لا ... خامل نكس ولا جحد
نظرت عيني فلا نظرت ... بعده عيني إلى أحد
ثم ضرب بالدف الأرض والتفت إلى سعيد بن عبد الرحمن، فقال: يا أبا عثمان، أتدري من قائل هذا الشعر؟ قال: لا. قال: قالته خوله بنت ثابت عمتك في عمارة بن الوليد بن المغيرة، ونهض. فقال له بكر: لو لم تقل ما قلته لم يسمعك ما أسمعك. وبلغت القصة عمر بن عبد العزيز فأرسل إليهما فسألهما فأخبراه، فقال: واحدة بأخرى والبادي أظلم.
الأصمعي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان طويس يتغنى في عرس رجل من الأنصار، فدخل النعمان بن بشير العرس وطويس يتغنى:
أجد بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شاننا شانها
وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها
فقيل له: اسكت اسكت - لأن عمرة أم النعمان بن بشير - فقال النعمان: إنه لم يقل بأسا، إنما قال:

وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها
وكان مع طويس بالمدينة ابن سريج والدلال ونومة الضحى، ومنه تعلموا. ثم نجم بعد هؤلاء سلم الخاسر، وكان في صحبة عبد الله بن جعفر. وعنه أخذ معبد الغناء.
ثم كان ابن أبي السمح الطائي، وكان يتيماً في حجر عبد الله بن جعفر، وأخذ الغناء عن معبد، وكان لا يضرب بعود، إنما يغني مرتجلاً. فإذا غنى لمعبد صوتاً حققه، ويقول: قال الشاعر فلان، ومططه معبد وخففته أنا. ومن غنائه.
نام صحبي ولم أنم ... لخيال بنا ألم
إن نام في القصر غادة ... كحلت مقلتي بدم
وكان معبد والغريض بمكة. ولمعبد أكثر الصناعة الثقيلة. ولما قدمت سكينة بنت الحسين عليهما السلام مكة أتاها الغريض ومعبد فغنياها:
عوجي علينا ربة الهودج ... إنك إلا تفعلي تحرجي
قالت: والله ما لكما مثل إلا الجدي الحار والبارد، ولا يدرى أيهما أطيب.
قال إسحاق بن إبراهيم: شهد الغريض ختاناً لبعض أهله، فقال له بعض القوم: غن. فقال: هو ابن الزانية إن غنى. قال له مولاه: فأنت والله ابن الزانية، فغن. قال: أكذلك أبا عبدل؟ قال: نعم: قال: أنت أعلم. فغنى:
وما أنس م الأشياء لا أنس شادناً ... بمكة مكحولاً أسيلاً مدامعه
تشرب لون الرازقي بياضه ... وبالزعفران خالط المسك رادعه
فلوت الجن عنقه فمات. وقال غير إسحاق: بل غنى:
أمن مكتومة الطلل ... يلوح كأنه خلل
لقد نزلوا قريباً من ... ك لو نفعوك إذ نزلوا
تحاولني لتقتلني ... وليس بعينها حول
ثم نجم ابن طنبورة، وأصله من اليمن، وكان أهزج الناس وأخفهم غناء، ومن غنائه:
وفتيان على شرف جميعاً ... دلفت لهم بباطية تدور
كأني لم أصد فيهم بباز ... ولم أطعم بعرصتهم صقوري
فلا تشرب بلا لهوٍ فإني ... رأيت الخيل تشرب بالصفير
ويقال إنه حضر مجلساً لرجل من الأشراف إلى أن دخل عليهم صاحب المدينة. فقيل له: غن، فغنى:
ويلي من الحية ويل ليه ... قد عشش الحية في بيتيه
فضحك صاحب المدينة ووصله.
ومنهم: حكم الوادي، وكان في صحبة الوليد بن يزيد ويغني بشعره، ومن غنائه:
خف من دار جيرتي ... باين داود أنسها
قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم يقض لبسها
فمتى تخرج العرو ... س لقد طال حبسها
خرجت بين نسوةٍ ... أكرم الجنس جنسها
وكان بالشام أيام الوليد بن يزيد مغن، يقال له الغزيل، ويكنى أبا كامل، وفيه يقول الوليد بن يزيد:
من مبلغ عني أبا كامل ... أني إذا ما غاب كالهامل
ومن غنائه:
أمدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوماً قتلونا بالعطش
إنما الكأس ربيع باكر ... فإذا ما لم نذقها لم نعش
وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين، منهم إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، ومخارق، وطبقة أخرى دونهم؛ منهم: زلزل، وعمرو الغزال، وعلوية. وكان له زامر يقال له برصوما. وكان إبراهيم أشدهم تصرفاً في الغناء. وابن جامع أحلاهم نغمة. فقال الرشيد يوماً لبرصوما: ما تقول في ابن جامع؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وما أقول في العسل الذي حيثما ذقته فهو طيب؟ قال: فإبراهيم الموصلي؟ قال: هو بستان فيه جميع الثمار والرياحين. قال: فعمرو الغزال؟ قال: هو حسن الوجه يا أمير المؤمنين.
قال إسحاق: قلت ليوسف: من أحسن الناس غناء؟ قال: ابن محرز. قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن شئت أجملت وإن شئت فصلت. قلت: أجمل قال: كان يغني كل إنسان بما يشتهي، كأنه خلق من قلب كل إنسان.
وكان إبراهيم أول من وقع بالقضيب.
وحديث يحيى بن محمد قال: بينا نحن على باب الرشيد ننتظر الإذن إذ خرج الآذن، فقال لنا: أمير المؤمنين يقرئكم السلام. قال: فانصرفنا. فقال لنا إبراهيم: تصيرون إلى منزلي؟ قال: فانصرفنا معه. قال: فدخلت دارا لم أر أشرف منها ولا أوسع، وإذا أنا بأفرشة خز مظهرة بالسنجاب. قال: فقعدنا، ثم دعا بقدح كبير فيه نبيذ، وقال:

اسقني بالكبير إني كبير ... إنما يشرب الصغير صغير
ثم قال:
اسقني قهوة بكوب كبير ... ودع الماء كله للحمير
ثم شرب به، وأمر به فملئ، وقال لنا: إن الخيل لا تشرب إلا بالصفير. ثم أمر بجوارٍ، فأحطن بالدار. فما شبهت أصواتهن إلا بأصوات طير من أجمة يتجاوبن.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لما أفضت الخلافة إلى المأمون أقام عشرين شهراً لم يسمع حرفاً من الغناء، ثم كان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى. ثم واظب على السماع وسأل عني، فجرحني عنده بعض من حسدني، فقال: ذلك رجل يتيه على الخلافة. فقال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئاً، وأمسك عن ذكري. وجفاني كل من كان يصلني، لما ظهر من سوء رأيه. فأضر ذلك بي، حتى جاءني يوماً علوية فقال لي: أتأذن لي اليوم في ذكرك؟ فإني اليوم عنده. فقلت: لا، ولكن غنه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك: من أين هذا؟ فينفتح لك ما تريد، ويكون الجواب أسهل عليك من الابتداء. فمضى علوية. فلما استقر به المجلس غناه الشعر الذي أمرته به، وهو:
يا مشرع الماء قد سدت مسالكه ... أما إليك سبيلٌ غير مسدود
لحائمٍ حار حتى لا حياة به ... مشرد عن طريق الماء مطرود
فلما سمعه المأمون قال: ويلك! لمن هذا؟ قال: يا سيدي، لعبد من عبيدك جفوته واطرحته؟ قال: إسحاق؟ قلت: نعم. قال: ليحضر الساعة. قال إسحاق: فجاءني الرسول، فسرت إليه. فلما دخلت، قال: ادن، فدنوت. فرفع يديه مادهما، فاتكأت عليه، فاحتضنني بيديه، وأظهر من إكرامي وبري ما لو أظهره صديقٌ لي مواس لسرني.
قال: وحدثني يوسف بن عمر المدني قال: حدثني الحارث بن عبيد الله قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: حضرت مسامرة الرشيد ليلةً عبثراً المغنى، وكان فصيحاً متأدباً، وكان مع ذلك يغني الشعر بصوت حسن. فتذاكروا رقة شعر المدنيين، فأنشد بعض جلسائه أبياتاً لابن الدمينة حيث يقول:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا
وليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
فأعجب الرشيد برقة الأبيات. فقال له عبثر: يا أمير المؤمنين، إن هذا الشعر مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، حتى رق وصفا، فصار أصفى من الهوا؛ ولكن إن شاء أمير المؤمنين أنشدته ما هو أرق من هذا وأحلى، وأصلب وأقوى، لرجل من أهل البادية. قال: فإني أشاء. قال: وأترنم به يا أمير المؤمنين؟ قال: وذلك لك. فغنى لجرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهم وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
روحوا العشية روحة ًمذكورة ... إن حرن حرنا أو هدينا هدينا
فرموا بهن سواهماً عرض الفلا ... إن متن متنا أو حيين حيينا
قال: صدقت يا عبثر، وخلع عليه وأجازه.
وكان لإبراهيم الموصلي عبدٌ أسود يقال له زرياب، وكان مطبوعا على الغناء، علمه إبراهيم، فدخل على زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، فغناه بأبيات عنترة الفوارس، حيث يقول:
فإن تك أمي غرابيةً ... من أبناء حامٍ بها عبتني
فإني لطيفٌ ببيض الظبا ... وسمر العوالي إذا جئتني
ولولا فرارك يوم الوغى ... لقدتك في الحرب أو قدتني
فغضب زيادة الله، فأمر بصفع قفاه وإخراجه، وقال له: إن وجدتك في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك. فجاز البحر إلى الأندلس، فكان عند الأمير عبد الرحمن بن الحكم.
وكان في المدينة في الصدر الأول مغن يقال له: قند، وهو مولى سعد بن أبي وقاص. وكانت أم المؤمنين رضي الله عنها تستظرفه، فضربه سعد، فحلفت عائشة لا تكلمه حتى يرضى عنه قند فدخل عليه سعد وهو وجع من ضربه، فاسترضاه، فرضي عنه، وكلمته عائشة.
وكان معاوية يعقب بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص على المدينة يستعمل هذا سنةً وهذا سنة، وكانت في مروان شدة وغلظة، وفي سعد لين عريكة وحلم وصفح. فلقي مروان بن الحكم قنداً المغنى، وهو معزول عن المدينة وبيده عكازة، فلما رآه قال:

قل لقند يشيع الأظعانا ... ربما سر عيننا وكفانا
قال له قند: لا إله إلا الله، ما أسمجك والياً ومعزولاً.
وروى ابن الكلي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه وأضيقهم خلقاً، إذا قيل له عن يقول: أو لمثلي يقال هذا؟ علي عتق رقبة إت غنيت يومي هذا. فإن غنى وقيل له: أحسنت. قال: لمثلي يقال أحسنت؟ علي عتق رقبة إن غنيت سائر يومي هذا. فلما كان في بعض الأيان سال وادي العقيق، فجاء بالعجب، فلم يبق بالمدينة مخبأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره، وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني، وهو معتجر بفضل ردائه، فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان فيمن خرج إلى العقيق، وبين يديه أسودان كأنهما ساريتان، يمشيان بين يديه أمام دابته، فقال لهما: أنتما حران لوجه الله. إن تفعلا ما آمركما به، وإلا أقطعكما إربا إرباً، اذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه، فخذا بضبعيه، فإن فعل ما آمره به، وإلا فاقذفا به في العقيق. قال: فمضيا والحسن يقفوهما. فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بضبعيه. فقال: من هذا؟ فقال له الحسن: أنا هذا يا بن عائشة. قال: لبيك وسعديك، وبأبي أنت وأمي. قال: اسمع مني ما أقول، واعلم أنك مأسور في أيديهما، هما حران أن لم تغن مائة صوت أن يطرحاك في العقيق، ولئن لم يفعلا ذلك لأقطعن أيديهما. فصاح ابن عائشة: يا ويلاه! واعظيم مصيبتاه! قال: دع من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي، وأقبل يغني. فترك الناس العقيق وأقبلوا عليه. فلما تمت أصواته مائة كبر الناس بلسان واحد تكبيرة واحدة ارتجت لها أقطار المدينة، وقالوا للحسن: صلى الله على روحك حيا وميتاً، فما اجتمع لأهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت. فقال له الحسن: إنما فعلت هذا بك يا بن عائشة لأخلاقك الشكسة. قال له ابن عائشة: والله ما مرت علي مصيبة أعظم منها. لقد بلغت أطراف أعضائي. فكان بعد ذلك إذا قيل له: ما أشد ما مر بك؟ قال: يوم العقيق.
وكان إبراهيم بن المهدي؛ وهو الذي يقال به ابن شكلة، داهياً عاقلاً عالماً بأيام الناس، شاعراً مفلقاً، وكان يصوغ فيجيد.
ويروى عن إبراهيم أنه قد كان خالف على المأمون ودعا إلى نفسه، فظفر به المأمون فعفا عنه، وقال لما ظفر به المأمون:
ذهبت من الدنيا كما ذهبت مني ... هوى الدهر بي عنها وأهوى بها عني
فإن أبك نفسي أبك نفساً عزيزةً ... وإن أحتسبها أحتسبها على ضن
فلما فتحت له أبواب الرضا من المأمون غنى بهما بين يديه. فقال له المأمون: أحسنت والله يا أمير المؤمنين. فقام إبراهيم رهبةً من ذلك، وقال: قتلتني والله يا أمير المؤمنين، لا والله لا أجلس حتى تسميني باسمي. قال: اجلس بإبراهيم. فكان بعد ذلك آثر الناس عند المأمون، ينادمه ويسامره ويغنيه فحدثه يوما فقال: بينا أنا مع أبيك يوماً يا أمير المؤمنين بطريق مكة إذ تخلفت عن الرفقة وانفردت وحدي وعطشت، وجعلت أطلب الرفقة، فأتيت إلى بئر فإذا حبشي نائم عندها، فقلت له: يا نائم، قم فاسقني. فقال: إن كنت عطشان فانزل واستق لنفسك. فخطر صوتٌ ببالي، فترنمت به وهو:
كفناني إن مت في درع أروى ... واسقياني من بئر عروة مائي
فلما سمعني قام نشيطاً مسروراً وقال: والله هذه بئر عروة، وهذا قبره. فعجبت يا أمير المؤمنين لما خطر ببالي في ذلك الموضع. ثم قال: أسقيك على أن تغنيني؟ قلت: نعم. فلم أزل أغنيه وهو يجبذ الحبل، حتى سقاني وأروى دابتي، ثم قال: أدلك على موضع العسكر على أن تغنيني؟ قلت: نم. فلم يزل يعدو بين يدي وأنا أغنيه حتى أشرفنا على العسكر فانصرف. وأتيت الرشيد فحدثته بذلك فضحك. ثم رجعنا من حجنا، فإذا هو قد تلقاني وأنا عديل الرشيد، فلما رآني قال: مغن والله! قيل له: أتقول هذا لأخي أمير المؤمنين؟ قال: إي لعمر الله، لقد غناني، وأهدى إلي أقطاً وتمراً. فأمرت له بصلة وكسوة، وأمر له الرشيد بكسوة أيضاً. فضحك المأمون، وقال: غنني الصوت، فغنيته، فافتتن به. فكان لا يقترح علي غيره.

وكان مخارق وعلوية قد حرفا القديم كله، وصيرا فيه نغماً فارسية، فإذا أتاهما الحجازي بالغناء الأول الثقيل قالا: يحتاج غناؤك إلى قصار. واسم علوية علي بن عبد الله بن سيف بن يوسف، مولى لبني أمية.
وكان زلزل أضرب الناس بوتر، لم يكن قبله ولا بعده مثله. ولم يكن يغني، وإنما كان يضرب على إبراهيم وابن جامع وبرصوما.
ومن غنائه في المأمون:
ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مميزة بين الضلالة والرشد
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه والله أعلم بالعبد
حدث سعيد بن محمد العجلي عن الأصمعي قال: كان أبو الطمحان القيني، حنظلة بن الشرقي شاعراً مجيداً، وكان مع ذلك فاسقاً، وكان قد انتجع يزيد بن عبد الملك، فطلب الإذن عليه أياماً، فلم يصل، فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من شعري تغني بهما أمير المؤمنين؟ فإن سألك من قائلهما فأخبره أني بالباب، وما رزقني الله منه فهو بيني وبينك. قال: هات. فأعطاه هذين البيتين:
يكاد الغمام الغر يرعد إن رأى ... محيا ابن مروان وينهل بارقه
يظل فتيت المسك في رونق الضحى ... تسيل به أصداغه ومفارقه
قال: فغني بهما في وقت أريحية، فطرب لهما طرباً شديداً، وقال: لله در قائلهما، من هو؟ قال: أبو الطمحان القيني، وهو بالباب يا أمير المؤمنين. قال: ماأعرفه فقال له بعض جلسائه: هو صاحب الدير يا أمير المؤمنين. قال: وما قصة الدير؟ قال: قيل لأبي الطمحان: ما أيسر ذنوبك؟ قال: ليلة الدير. قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت ذات ليلة بدير نصرانية فأكلت عندها طفيشلاً بلحم خنزير. وشربت من خمره، وزنيت بها، وسرقت كساءها ومضيت. فضحك يزيد وأمر له بألفي درهم، وقال: لا يدخل علينا. فأخذها أبو الطمحان وانسل بها وخيب المغني.
أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغا عن أبي عكرمة قال: خرجت يوماً إلى المسجد الجامع ومعي قرطاسا لأكتب فيه بعض ما أستفيده من العلماء. فممرت بباب أبي عيسى بن المتوكل، فإذا ببابه المسدود، وكان من أحذق الناس بالغناء، فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت: إلى المسجد الجامع لعلي أستفيد في حكمة أكتبها. فقال: ادخل بنا على أبي عيسى. قال: فقلت: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بغير إذن! قال: فقال للحاجب: أعلم الأمير بمكان أبي عكرمة. قال: فما لبث إلا ساعةً حتى خرج الغلمان فحملوني حملاً. فدخلت إلى دارٍ لا والله ما رأيت أحسن منها بناء، ولا أطرف فرشاً، ولا صباحة وجوه. فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى. فلما أبصرني قال لي: يا بغيض، متى تحتشم؟ اجلس، فجلست. فقال: ما هذا القرطاس بيدك؟ قلت: يا سيدي حملته لأستفيد فيه شيئاً وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس فمكثنا حيناً، ثم أتينا بطعام ما رأيت أكثر منه ولا أحسن فأكلنا. وحانت مني التفاتة، فإذا أنا بزنين ودبيس، وهما من أحذق الناس بالغناء، قال: فقلت: هذا مجلس قد جمع الله فيه كل شيء مليح. قال: ورفع الطعام وجيء بالشراب، وقامت جارية تسقينا شراباً ما رأيت أحسن منه، في كأس لا أقدر على وصفها. فقلت: أعزك الله. ما أشبه هذا بقول إبرهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر:
حمراء صافية في جوف صافية ... يسعى بها نحونا خود من الحور
حسناء تحمل حسناوين في يدها ... صاف من الراح في صافي القوارير
وقد جلس المسدود وزنين ودبيس. ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء، فابتدأ المسدود فغنى:
لما استقل بأرداف تجاذبه ... وأخضر فوق نظام الدر شاربه
وتم في الحسن والتأمت محاسنه ... ومازجت بدعا فيها غرائبه
وأشرق الورد في نسرين وجنته ... واهتز أعلاه وارتجت حقائبه
كلمته بجفون غير ناطقة ... فكان من رده ما قال حاجبه
ثم سكت فغنى زنين:
الحب حلو أمرته عواقبه ... وصاحب الحب صب القلب ذائبه
استودع الله من بالطرف ودعني ... يوم الفراق ودمع العين ساكبه
ثم انصرف وداعي الشوق يهتف بي ... ارفق بقلبك قد عزت مطالبه
ثم سكت وغنى دبيس:

وعاتبته دهراً فلما رأيته ... إذا ازداد ذلاً جانبي عز جانبه
عقدت له في الصدر مني مودةً ... وخليت عنه منهما لا أعاتبه
ثم سكت فغنى زنين:
بدر في الإنس حفته كواكبه ... قد لاح عارضه واخضر شاربه
إن يعد الوعد يوماً فهو مخلفه ... أو ينطق القول يوماً فهو كاذبه
عاطيته كدم الأوداج صافية ... فقام يشدو وقد مالت جوانبه
قال أبو عكرمة: فعجبت أنهم غنوا بلحن واحد وقافية واحدة. قال أبو عيسى: يعجبك من هذا شيء يا أبا عكرمة؟ فقلت: يا سيدي، المنى دون هذا. ثم إن القوم غنوا على هذا إلى انقضاء المجلس، إذا ابتدأ المسدود بشيء تبعه الرجلان بمثل ما غنى. فكان مما غنى المسدود:
يا دير حنة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإني لست بالصاحي
يعتاده كل محفو مفارقه ... من الدهان عليها سحق أمساح
ما يدلفون إلى ماء بآنيةٍ ... إلا اغترافاً من الغدران بالراح
ثم سكت فغنى زنين:
دع البساتين من آسٍ وتفاح ... واعدل هديت إلى ذات الأكيراح
واعدل إلى فتية ذابت لحومهم ... من العبادة إلا نضو أشباح
وخمرة عتقت في دنها حقباً ... كأنها دمعة من جفن سياح
ثم سكت فغنى دبيس:
لا تحفلن بقول اللائم اللاحي ... واشرب على الورد من مشمولة الراح
كأساً إذا انحدرت في حلق شاربها ... أغناك لألالؤها عن كل مصباح
ما زلت أسقي نديمي ثم ألثمه ... والليل ملتحفٌ في ثوب سياح
فقام يشدو وقد مالت سوالفه ... يا دير حنة من ذات الأكيراح
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
باحورار العين والدعج ... وابيضاض الثغر والفلج
وبتفاح الخدود وما ... ضم من مسك ومن أرج
كن رقيق القلب إنك من ... قتل من يهواك في حرج
ثم سكت وغنى زنين:
كسروي التيه معتدل ... هاشمي الدل والغنج
وله صدغان قد عطفا ... ببياض الخد كالسبج
وإذا ما افتر مبتسما ... أطلق الأسرى من المهج
ما لما بي منك من فرج ... لا ابتلاني الله بالفرج
ثم سكت وغنى دبيس:
يعمل الأجفان بالدعج ... عمل الصهباء بالمهج
بأبي ظبي كلفت به ... واضح الخدين والفلج
مر بي في زي خنث ... بين ذات الضال من أمج
قلت قلبي قد فتكت به ... قال ما في الدين من حرج
ثم سكت وغنى المسدود:
ما يبالي اليوم من صنعا ... من بقلبي يبدع البدعا
كنت ذا نسك وذا ورع ... فتركت النسك والورعا
كم زجرت القلب عنك فلم ... يصغ لي يوماً ولا نزعا
لا تدعني للهوى غرضاً ... إن ورد الموت قد شرعا
ثم سكت وغنى دبيس:
اسقني كأساً مصردة ... إن نجم الليل قد طلعا
قد شربت الحب شرب فتىً ... لم يدع في كأسه جرعا
ثم ابتدأ أيضاً دبيس فغنى:
يقولون في البستان للعين لذةٌ ... وفي الخمر والماء الذي غير آسن
إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن
فغضب المسدود لما قطع عليه دبيس وقال: عن على غير هذه القافية واللحن، ثم نرجع إلى حالنا الأولى. فقال أبو عكرمة: قد أصبت.
فابتدأ المسدود فغنى:
أدعوك من قلبي إذا لم أرك ... يا غاية الطرف إذا أبصرك
قضى لك الله فسبحان من ... أحلك القلب ومن قدرك
لست بناسيك على حالةٍ ... يا ليت ما تذكرني أذكرك
صيرني الله على ما أرى ... منك من الهجر كما صيرك
قال: فقال زنين: وأنا فلا بد أن أسلك سبيلكما. قال أبو عكرمة: ثم التفت إلي، فقال: ما ترى؟ فقلت: أحسنت والله. فابتدأ يغني:
يا هائم القلب عاص من عذلك ... ما نلت ممن هويته أملك

دعاك داعي الهوى بخدعته ... حتى إذا ما أجبته خذلك
فاحتل لداء الهوى وسطوته ... إنك إن لم تداوه قتلك
ثم ابتدأ المسدود يغني:
شققت جيبي عليك شقاً ... وما لجيبي أردت شقا
أردت قلبي فصادفته ... يداي بالجيب قد توقى
مالك رقى أبيت عتقي ... لولاك ما كنت مسترقا
ثم سكت وغنى زنين:
قد ذبت شوقاً ومت عشقاً ... يا زفرات المحب رفقا
ثكلت نفسي وزرت رمسي ... إن كنت للهجر مستحقا
ثم سكت وغنى دبيس:
ظمئت شوقاً وبحر عشقي ... يفيض عذاباً ولست أسقى
أنا الذي صرت من غرامي ... على فراش السقام ملقى
فمن زفير ومن شهيق ... ومن دموع تجود سبقا
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
ماذا على نجل العيون لو أنهم ... أوموا إليك فسلموا أو عرجوا
أمنوا مقاساة الهموم وأيقنوا ... أن المحب إلى الأحبة يدلج
ثم سكت وغنى دبيس:
هيا فقد بدأ الصباح الأبلج ... قد ضم مشبهة الغزال الهودج
بانوا ولم أقض اللبانة منهم ... وكذا الكريم إذا تصابى يلهج
ثم سكت وغنى زنين:
السحر والغنج في عينيك والدعج ... والشمس والبدر في خديك والضرج
الدر ثغرك لولا أن ذا برد ... والحبر صدغك لولا أن ذا سبج
أنضجت قلبي ولو أن الورى لقيت ... قلوبهم منك ما لاقيت ما لهجوا
ثم سكت وابتدأ المسدود فغنى:
يا صاحب المقل المراضٍ ... انظر إلي بعين راض
إن تجفني متعمداً ... لتذيقني جرع الحياض
فلطالما أمكنتني ... منك المراشف عن تراض
ثم سكت وغنى زنين:
هائم مدنف من الإعراض ... لا سبيل له إلى الإغماض
موثق النوم مطلق الدمع ما يع ... رف ملجاً من الحتوف القواضي
ما برى جسمه سوى لحظاتٍ ... أمرضته من العيون المراض
ثم سكت وغنى دبيس:
كن ساخطاً واظهر بأنك راضي ... لا تبدين تكره الإعراض
وانظر إلي بمقلة غضبانةٍ ... إن كنت لم تنظر بمقلة راض
وارحم جفوناً ما تجف من البكا ... في ليلةٍ مسلوبة الإغماض
واحكم فديتك بين جسمي والهوى ... فالحكم منك على الجوارح ماض
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
يا ذا الذي حال عن العهد ... ومن براني منه بالصد
بسمرة الخال وما قد حوى ... من حمرةٍ في سالف الخد
ألا تعطف على عاشقٍ ... منفرد بالبث والوجد
ثم سكت وغنى زنين:
أظل بكتمان الهوى وكأنما ... ألاقي الذي لاقاه غيري من الوجد
فلا الدمع أطفى حرقة البين والبكا ... ولا أنا بالشكوى أنفس من جهدي
ثم سكت وغنى دبيس:
تهزأت بي لما خلوت من الوجد ... ولم ترث لي لا كان عندك ما عندي
وعبت علي الشوق والوجد والبكا ... وأنت الذي أجريت دمعي على خدي
صددت بلا جرم إليك أتيته ... أكان عجيباً لو صددت عن الصد
ألا إنني عبدٌ لطرفك خاضع ... وطرفك مولىً لا يرق على عبد
ثم غنى المسدود:
أقمت ببلدةٍ ورحلت عنها ... كلانا عند صاحبه غريب
أقل الناس في الدنيا نصيبا ... محب قد نأى عنه الحبيب
ثم سكت وغنى زنين:
خليلي ما للعاشقين قلوب ... ولا للعيون الناظرات ذنوب
فيا معشر العشاق ما أوجع الهوى ... إذا كان لا يلقى المحب حبيب
ثم سكت وغنى دبيس:
ذلت لوجهك أعين وقلوب ... بين المخافة والرجاء تذوب
يا واحد الحسن الذي لحظاته ... تدعو النفوس إلى الهوى فتجيب
من وجهه القمر المنير وقده ... غصن نضيرٌ مشرق وكثيب
ألناظريك على العيون رقيب ... أم هل لطرفك في القلوب نصيب

ثم ابتدأ المسدود فغنى:
قلق لم يزل وصبر يزول ... ورضى لم يطل وسخط يطول
لم تسل دمعتي علي من الرح ... مة حتى رأيت نفسي تسيل
جال في جسمي السقام فجسمي ... مدنف ليس فيه روح تجول
ينقضي للقتيل حول فينسى ... وأنا فيك كل يوم قتيل
ثم سكت وغنى زنين:
ويقنعني ممن أحب كتابه ... ويمنعنيه إنه لبخيل
كفى حزناً ألا أطيق وداعكم ... وقد حان مني يا ظلوم رحيل
ثم سكت وغنى دبيس:
ليس إلى تركك من حيلة ... ولا إلى الصبر لقلبي سبيل
فكيفما شئت فكن سيدي ... فإن وجدي بك وجدٌ طويل
إن كنت أزمعت على هجرنا ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
قال أبو عكرمة: فأقبل أبو عيسى على المسدود، فقال له: عن صوتاً. فغنى:
ما حيلتي وفؤادي هائمٌ أبداً ... بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع
لا والذي تلفت نفسي بفرقته ... فالقلب من حرق الهجران مصدوع
ما أرق العين إلا حب مبتدع ... ثوب الجمال على خديه مخلوع
قال أبو عكرمة: فوالله الذي لا إله إلا هو لقد حضرت من المجالس ما لا أحصي، ما رأيت مثل ذلك اليوم. ثم إن أبا عيسى أمر لكل واحد بجائزة وانصرفنا ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا.
من سمع صوتاً فوافقه معناه واستخفه الطرب
حكى إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه، قال: دخلت على هارون الرشيد، فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهن على الرجال، غنيته بأبياته التي يقول فيها:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني
فارتاح وطرب وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
وغنى إبراهيم الموصلي محمد بن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانئ فيه:
رشأ لولا محاسنه ... خلت الدنيا من الفتن
كل يوم يسترق له ... حسنه عبداً بلا ثمن
يا أمين الله عش أبداً ... دم على الأيام والزمن
أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن
سن للناس القرى فقروا ... فكأن البخل لم يكن
قال: فاستخفه الطرب حتى قام من مجلسه، وأكب على إبراهيم يقبل رأسه. فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه، وما وطئتا من البساط. فأمر له بثلاثة آلاف درهم. فقال إبراهيم: يا سيدي، قد أجزيتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم. فقال الأمين: وهل ذلك إلا خراج بعض الكور؟! الرياشي عن الأصمعي، قال: قدم جرير المدينة فأتاه الشعراء وغيرهم، وأتاه أشعب فيهم. فسلموا عليه وحادثوه ساعةً وخرجوا، وبقي أشعب. فقال له جرير: أراك قبيحاً وأراك لئيم الحسب، ففيم قعودك وقد خرج الناس؟ فقال له: أصلحك الله، إنه لم يدخل عليك اليوم أحدٌ أنفع لك مني، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني آخذ رقيق شعرك فأزينه بحسن صوتي. فقال له جرير: فقل. فاندفع يغنيه:
يا أخت ناجية السلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
قال: فاستخف جريراً الطرب لغنائه بشعره حتى زحف إليه واعتنقه وقبل بين عينيه، وسأله عن حوائجه فقضاها له.
الزبير بن بكار قال: كان المسور بن مخرمة ذا مال كثير، فأسرع فيه على إخوانه، فذهب. فسأل امرأته، وكانت موسرة، فمنعته وبخلت عليه. فخرج يريد بعض خلفاء بني أمية منتجعاً. فلما كان ببعض الطريق نزل ماءً يقال له بلاكث. فقال له غلامه: كيف يقال لهذا الماء؟ قال: يقال له بلاكث. فقال:
بينما نحن من بلاكث بالقا ... ع سراعاً والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيا
قلت لبيك إذ دعاني لك الشو ... ق وللحاديين كرا المطيا

فقال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. قال له: قد أشرفن على أمير المؤمنين. قال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. فانصرف ودخل المصلى ليلاً. فوجد رجال قريش حلقا يتحدثون، فقالوا له: زاد خير. فقال: زاد خير. حتى انتهى إلى داره. فقالت له امرأته: زاد خير. فأنشدها الأبيات. قالت: كل ما أملك في سبيل الله إن لم أشاطرك مالي. فشاطرته مالها.
وروى أبو العباس قال: حدثت أن عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في صمد من الأرض، فسمعت غناء من الهواء لم أسمع مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه. فإذا هو عبد أسود. فقلت له: أعد ما سمعت فقال: والله لو كان عندي قرى أقريكه ما فعلت، ولكن أجعله قراك. فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى. ثم ابتدأ فغنى:
وكنت متى ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها ... إذ ما انقضت أحدوثةٌ لو تعيدها
قال عمر: فحفظته منه. ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فإذا هو كما ذكره.
وتحدث الزبيريون عن خالد صامة بأنه كان من أحسن الناس ضرباً بعود، قال: قدمت على الوليد بن يزيد في مجلس ناهيك به مجلساً، فألفيته على سريره وبين يديه معبد ومالك بن أبي السمح وابن عائشة وأبو كامل غزيل الدمشقي، فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي. فغنيته:
سرى همي وهم المرء يسري ... وغاب النجم إلا قيد فتر
لهم ما أزال له قرينا ... كأن القلب أودع حر جمر
على بكر أخي فارقت بكراً ... وأي العيش يصلح بعد بكر
فقال: أعد يا صامة. ففعلت. فقال لي: من يقول هذا الشعر؟ قلت: يقوله عروة بن أذينة يرثي أخاه بكراً. قال الوليد: وأي عيش يصلح بعد بكر. والله لقد حجر واسعاً. هذا والله العيش الذي نحن فيه يصلح على رغم أنفه.
وقد قيل إن سكينة بنت الحسين غنيت بهذا الشعر فقالت: ومن بكر هذا؟ فوصف لها. فقالت: هو ذاك الأسيد الذي كان يأتينا، لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت.
وعن عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت إسحاق الموصلي يتحدث قال: حججت مع الرشيد، فلما نزلت المدينة آخيت بها رجلاً كانت له مروءة ومعرفة وأدب، وكان يغني. فإني ذات ليلة في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن علي، وظننت أمراً قد حدث ففزع فيه إلي. فأسرعت نحو الباب، فقلت: ما جاء بك؟ قال: دعاني صديق إلى طعام عتيد ومجلس شراب قد التقى طرفاه، وشواء رشراش، وحديث ممتع وغناء مشبع، فأجبته وأقمت معه إلى هذا الوقت، فأخذت مني حميا الكأس مأخذها، ثم غنيت بقول نصيب:
بزينب ألم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
فكدت أطير طرباً. ثم وجدت في الطرب تنغيصاً إذ لم يكن معي من يفهم هذا كما فهمته. ففزعت إليك لأصف لك هذه الحال، ثم أرجع إلى صاحبي. وضرب بغلته موليا. فقلت: قف أكلمك. فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجة.
وحدث أن معاوية بن أبي سفيان استمع على يزيد ذات ليلة فسمع عنده غناء أعجبه، فلما أصبح قال له: من كان ملهيك البارحة؟ قال: سائب خائر، قال: فأكثر له العطاء.

وكان ابن أبي عتيق من نبلاء قريش وظرفائهم. فمن ظريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملاً أحرى ولا أولى من تحريم الغناء والزنا. ففعل وأجلهم ثلاثاً. فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة وكان غائباً. فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. قالت: أو ما تدري ما حدث بعدك؟ وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه. فلقيه فأخبره أنه إنما أقدمه حب التسليم عليه، وقال له: إن أفضل ما عملت تحريم الغناء والزنا. فقال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. فقال: إنهم وفقوا ووفقت، ولكني رسول امرأة إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها. وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان: إذا أدعها فقال: إذا لا يدعك الناس، ولكن تدعو بها فتنظر إليها، فإن كان يجوز تركها تركتها. قال: فادع بها. فأمر بها ابن أبي عتيق. فتنقبت وأخذت سبحة في يدها وصارت إليه، فحدثته عن مآثر آبائه، ففكه بها. فقال ابن أبي عتيق: أريد أن أسمع الأمير قراءتها. ففعلت، فحركه حداؤها. ثم قال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها التي تركتها. فقال له: قل لها فلتغن. فغنت:
سددن خصاص البيت لما دخلنه ... بكل بنان واضح وجبين
فنزل عثمان عن سريره ثم جلس بين يديها، وقال: لا والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال ابن أبي عتيق: يقول الناس أذن لسلامة ومنع غيرها. فقال له: قد أذنت لهم جميعاً.
وذكر لابن أبي عتيق أن المخنثين خصوا. وأنه خصي فلان فيهم، لواحد منهم كان يعرفه. فقال ابن أبي عتيق: إنا لله! لئن خصي لقد كان يحسن:
لمن ربع بذات الجي ... ش أمسى دارساً خلقا
ثم استقبل ابن أبي عتيق القبلة، فلما كبر وسلم، ثم قال لأصحابه: أما إنه كان يحسن خفيفه، فأما ثقيله فلا والله، ثم كبر.
وكان سليمان بن عبد الملك مفرط الغيرة، فسمع مغنيا في عسكره، فقال: اطلبوه، فجاءوا به. فقال له: أعد ما تغنيت به. فأعاد واحتفل. فقال: لأصحابه: والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه. ثم أمر به فخصي.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: روي لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام، فأنشده إبراهيم قول الشاعر:
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذ أجر إليكم سادراً رسني
فقام الرجل فرمى بشق ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع إلى موضعه فجلس. فقال له إبراهيم: ما بالك؟ قال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته، فآليت ألا أسمعه إلا جررت ردائي كما جر هذا الرجل رسنه.
ووقف رجل من الشعراء من المغنين فأنشده:
إني أتيت إليك من أهلي ... في حاجة يسعى لها مثلي
لا أبتغي شيئاً لديك سوى ... حي الحمول بجانب الرمل
قال له: انزل فك ما طلبت مر دحمان المغني بقوم وعليه رداء عدني يثربي. فقالوا له: بكم أخذت الرداء؟ فقال:
ما ضر جيراننا إذا انتجعوا
وحدث أبو العباس أحمد بن بكر ببغداد قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان يقال قديماً: إذا قسا عليك قلب القرشي من تهامة فغنه بشعر عمر بن أبي ربيعة وغناء ابن سريج. وكذا فعل أشعب برجل من أهل مكة من بني هاشم، وكان أشعب قد انتجع أهل مكة من المدينة. قال أشعب: فلما دخلت عليه غنيته بغناء أهل المدينة وأهل العقيق. فلم ينجع ذلك فيه ولم يحرك من طيبه ولا أريحيته. فلما عيل صبري غنيته بغناء ابن سريج المكي وقول ابن أبي ربيعة القرشي:
نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم
فقلت أشمسٌ أم مصابيح راهب ... بدت لك تحت السجف أم أنت هائم
بعيدة مهوى القرط إما لنوفلً ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
قال: فحركت والله من طربه، وكان الذي أردت. ثم غنيته لابن أبي ربيعة القرشي أيضا:
ولولا أن تقول لنا قريش ... مقال الناصح الأدنى الشفيق
لقلت إذا التقينا قبليني ... وإن كنا بقارعة الطريق

فقال: أحسن والله. هكذا يطيب التلقي، لا بالخوف والتوقي. قال: فلما رأيته قد طرب للصوتين ولم يند لي بشيء. قلت: هو الثالث وإلا فعليه السلام. قال: فغنيته الثالث من غناء ابن سريج وقول عمر بن أبي ربيعة، ويقال إنها لجميل:
ما زلت أمتحن الدساكر دونها ... حتى ولجت على خفي المولج
فوضعت كفي عند مقطع خصرها ... فتنفست نفساً ولم تتلهج
قالت وحق أخي وحرمة والدي ... لأنبهن الحي إن لم تخرج
فخرجت خيفة قولها فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لن تحرج
فرشفت فاها آخذاً بقرونها ... رشف النزيف ببرد ماء الحشرج
فصاح الهاشمي: أواه! أحسبن والله وأحسنت! وأمر لي بألف درهم وثلاثين حلة وخلعة كانت عليه.
وغنى ابن سريج رجلاً من بني هاشم بقول جرير:
بعثن الهوى ثم آرتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق
وما ذقت طعم العيش منذ نأيتم ... وما ساغ لي بين الجوانح ريق
قال: فخطب من ثوبه ذراعاً، وقال: هذا والله العقيان في نحور القيان.
قال: وصحب شيخٌ من أهل المدينة شاباً في سفينة، ومعهم جارية تغني، فقال له: إن معنا جارية تغني ونحن نجلك، فإذا أذنت لنا فعلنا؟ قال: فأنا أعتزل وافعلوا ما شئتم. فتنحى وغنت الجارية:
حتى إذا الصبح بدا ضؤوه ... وغابت الجوزاء والمرزم
أقبلت والوطء خفي كما ... ينساب من مكمنه الأرقم
فرمى الناسك بنفسه في الفرات وجعل يخبط بيديه طربا ويقول: أنا الأرقم. فأخرجوه وقالوا: ما صنعت بنفسك؟ فقال: والله إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون.
وقال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبةً لرجل من الأشراف. فلما انقضى الطعام اندفعت جاريةً تغني:
إلى خالد حتى أنخنا بخالد ... فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل
فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب حتى أخذ نعليه فعلقهما في أذنيه، ثم جثى على ركبتيه، قال: اهدوني فإني بدنة.
كان رجل من الهاشميين يحب السماع، فبعث إلى رجل من المغنين فاقترح عليه صوتاً كان كلفاً به، فغناه إياه. فطرب الهاشمي وشق ثوبا كان عليه، ثم قال للمغني: افعل بنفسك مثل ما فعلت بنفسي: قال: أصلحك الله، إنك تجد خلفا من ثوبك، وإني لا أجد خلفاً من ثوبي. قال: أنا أخلف لك. قال: فافعل ونفعل. قال: أخرجتنا من حد الطيب إلى حد السوم.

من قرع قلبه صوت فمات منه أو أشرف
حدث أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله المأمون في طريق الحج من العراق إلى مكة قال: حدثني أبي، قال: كانت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجهاً وأكملهم عقلاً وأفضلهم أدباً، قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية، فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه، فقال لها ذات يوم: ويحك! أما لك فرابةٌ أو أحد يحسن أن أصطنعه أو أسدي إليه معروفاً؟ قالت: يا أمير المؤمنين، أما قرابة فلا، ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاتي، كنت أحب أن ينالهم شيء مما صرت إليه. فكتب إلى عامله بالمدينة في إشخاصهم وأن يعطى كل رجل منهم عشرة آلاف درهم، وأن يعجل بسراحهم إليه. ففعل عامل المدينة ذلك. فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم، فأذن لهم وأكرمهم وسألهم حوائجهم. فأما الإثنان فذكرا حوائجهما، فقضاها لهما. وأما الثالث فسأله عن حاجته، فقال: يا أمير المؤمنين، ولكن حاجتي لا أحسبك تقضيها. قال: ويحك؟ فسلني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها. قال: ولي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم وكرامة. قال: إن رأيت أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا لها أن تغنيني ثلاثة أصوات، أشرب عليها ثلاثة أرطال، فافعل. قال: فتغير وجه يزيد وقام من مجلسه، فدخل على الجارية فأعلمها. قالت: وما عليك يا أمير المؤمنين، افعل ذلك. فلما كان من الغد أمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فألقيت. فقعد يزيد على أحدها، وقعدت الجارية على الآخر وقعد الفتى على الثالث، ثم دعا بطعام فتغدوا جميعاً، ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت، ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت. ثم قال للفتى: قل ما بدا لك وسل حاجتك. قال: تأمرها تغني:
لا أستطيع سلوًا عن مودتها ... أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا

أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
فأمر فغنت. فشرب يزيد وشرب الفتى ثم شربت الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت، ثم قال للفتى: سل حاجتكن قال: تأمرها تغني:
تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند ولكن من يبلغه هندا
ألا عرجا بي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
قال: فغنت بهما وشرب يزيد ثم الفتى ثم الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت، ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، مرها تغني:
منا الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرق بيننا الدهر
والله ما أسلوكم أبداً ... ما لاح نجم أو بدا فجر
قال: فلم تأت على آخر الأبيات حتى خر الفتى مغشياً عليه. فقال: يزيد للجارية: انظري ما حاله. فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت. فقال لها: ابكيه. قال: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي. قال لها: ابكيه، فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك. فبكته، وأمر بالفتى فأحسن جهازه ودفنه.
قال: وحدث أبو يوسف بالمدينة قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي عن أبيه، أن عبد الله بن جعفر وفد على عبد الملك بن مروان، فأقام عنده حيناً، فبينا هو ذات ليلة في سمره إذ تذاكروا الغناء. فقال عبد الملك: قبح الله الغناء، ما أوضعه للمروءة، وأجرحه للعرض، وأهدمه للشرف، وأذهبه للبهاء. وعبد الله ساكت، وإنما عرض لعبد الله، وأعانه عليه من حضر من أصحابه. فقال عبد الملك: ما لك أبا جعفر لا تتكلم؟ قال: ما أقول ولحمي يتمزع وعرضي يتمزق. قال: أما إني نبئت أنك تغني؟ قال: أجل يا أمير المؤمنين. قال: أفٍ لك وتف. قال: لا أف ولا تف، فقد تأتي أنت بما هو أعظم من ذلك. قال: وما هو؟ قال: يأتيك الأعرابي الجافي الزور ويقذف المحصنات، فتأمر لها بألف دينار، وأشتري أنا الجارية الحسناء من مالي فأختار لها من الشعر أجوده، ومن الكلام أحسنه، ثم تردده علي بصوت حسن، فهل بذلك بأس؟ قال: لا بأس، ولكن أخبرني عن هذه الأغاني ما تصنع؟ قال: نعم، اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة، فكان بديح وطويس يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما، فعلقت منهما حتى غلبت عليهما، فوصفت ليزيد بن معاوية، فكتب إلي: إما أهديتها إلي وإما بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة فبذل لي فيها ما كنت أحسب أن نفسه لا تسخو به، فأبيت عليه. فبينا هي عندي على تلك الحال إذ ذكرت لي عجوز من عجائزنا أن فتى من أهل المدينة يسمع غناءها، فعلقها وشغف بها، وأنه يجيء في كل ليلة مستتراً يقف بالباب حتى يسمع غناءها ثم ينصرف. فراعيت مجيئه، فإذا الفتى قد أقبل مقنع الرأس، فأشرفت عليه وقد قعد مستخفيا. فلم أدع بها تلك الليلة وجعلت أتامل موضعه. فبات مكانه الذي هو فيه. فلما انشق الفجر اطلعت عليه فإذا هو في موضعه، فدعوت قيمة الجواري فقلت لها: انطلقي الساعة فزينين هذه الجارية واعجلي بها إلي فلما جاءت بها نزلت وفتحت الباب وحركته. فانتبه مذعوراً، فقلت له: لا بأس عليك، خذ هذه الجارية فهي لك، وإن هممت ببيعها فردها إلي. فدهش وأخذه الخبل ولبط به. فدنوت من أذنه فقلت: ويحك! قد أظفرك الله ببغيتك، فقم فانطلق بها إلى منزلك. فإذا الفتى قد فارق الدنيا. فلم أر شيئاً قط أعجب منه.
قال عبد الملك: وأنا ما سمعت شيئاً قط أعجب من هذا، ولولا أنك عاينته ما صدقت به، فما صنعت بالجارية؟ قال: تركتها عندي وكنت إذا ذكرت الفتى لم أجد لها مكاناً من قلبي، وكرهت أن أوجه بها إلى يزيد فيبلغه حالها فيحقد علي، فما زالت تلك حالها حتى ماتت.
ووقف رجل يقال له طريفة على أيوب المغني فقال:
إني قصدت إليك من أهلي ... في حاجة يسعى لها مثلي
لا أبتغي شيئاً لديك سوى ... حي الحمول بجانب الرمل
فقال له انزل فلك ما طلبت. فنزل. فأخرج عوده ثم غناه، بقول آمرىء القيس:
حي الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي
فلبط بطريفة، فإذا هو في الأرض منجدل. فلما أفاق قام يمسح التراب عن وجهه. فقيل له: ويحك! ما كانت قصتك؟ قال: ارتفع والله من رجلي شيء حار وهبط من رأسي شيء بارد فالتقيا وتصادما، فوقعت بينهما لا أدري ما كانت حالي.

أخبار عنان وغيرها من القيان

حدثت محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة: قال: حدثنا إبراهيم بن عمر قال: كان هارون الرشيد قد استعرض عنان جارية الناطفي ليشتريها، وقال لها: أنا والله أحبك. ثم أمسك عن شرائها. فجلس ليلةٍ معه سماره، فغناه بعض من حضر من المغنين بأبيات جرير حيث يقول:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال معينا
قال: فطرب الرشيد لها طرباً شديداً وأعجب بالأبيات، وقال لجلسائه: هل منكم أحد يحيز هذه الأبيات بمثلهن، وله هذه البدرة؟ وبين يديه بدرة من دنانير. فقالوا فلم يصنعوا شيئاً. فقال خادم على رأسه: أنا بها لك يا أمير المؤمنين. قال: شأنك. فاحتمل البدرة ثم أتى الناطفي، فقال له: استأذن لي على عنان. فأذنت له. فدخل وأخبرها الخبر. فقالت: ويحك! وما الأبيات؟ فأنشدها إياها. فقالت له: اكتب:
هيجت بالقول الذي قد قلته ... داء بقلبي ما يزال كميناً
قد أينعت ثمراته في حينها ... وسقين من ماء الهوى فروينا
كذب الذين تقولوا يا سيدي ... إن القلوب إذا هوين هوينا
فقالت له: دونك الأبيات، فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون. فقال له: ويحك! من قالها! قال: عنان، جارية الناطفي. فقال: خلعت الخلافة من عنقي إن باتت إلا عندي. قال: فبعث إلى مولاها فاشتراها منه بثلاثين ألفاً، وباتت بقية تلك الليلة عنده.
وقال الأصمعي: ما رأيت الرشيد متبذلا قط إلا مرةً، كتبت إليه عنان، جارية الناطفي رقعة فيها:
كنت في ظل نعمة بهواكا ... آمناً منك لا أخاف جفاكا
فسعى بيننا الوشاة فأقرر ... ت عيون الوشاة بي فهناكا
ولعمري لغير ذا كان أولى ... بك في الحق يا جعلت فداكا
قال: فأخذ الرقعة بيده، وعنده أبو حفص الشطرنجي، فقال: أيكم يشير إلى المعنى الذي في نفسي فيقول فيه شعراً، وله عشرة آلاف درهم؟ فظننت أنه وقع بقلبه أمر عنان، فبدر أبو حفص فقال:
مجلس ينسب السرور إليه ... لمحب ريحانه ذكراكا
فقال: يا غلام، بدرة.
فقال جرير:
كلما دارت الزجاجة والكا ... س أعارته صبوةً فبكاكا
فقال: يا غلام، بدرة. قال الأصمعي: فقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواكا
قال: أحسنت والله يا أصمعي، لها ولك بهذا البيت عشرون ألفاً.
وقال غير أني أشعركم حيث أقول:
قد تمنيت أن يغشيني الله نعاساً لعل عيني تراكا
قلنا له: صدقت والله يا أمير المؤمنين.
وقال بكر بن حماد الباهلي: لما انتهى إلي خبر عنان وأنها ذكرت لهارون، وقيل له إنها أشعر الناس، خرجت متعرضاً لها، فما راعني إلا الناطفي مولاها قد ضرب على عضدي، فقال لي: هل لك فيما سنح من طعام وشراب ومجالسة عنان؟ فقلت: ما بعد عنان مطلب. ومضينا حتى أتينا منزله، فعقل دابته ثم دخل، فقال: هذا بكر شاعر باهلة يريد مجالستك اليوم. فقالت: لا والله، إني كسلانة. فحمل عليها بالسوط، ثم قال لي: ادخل، فدخلت ودمعها يتحدر كالجمان في خدها، فطمعت بها فقلت:
هذي عنان أسبلت دمعها ... كالدر إذ ينسل من خيطه
ثم قلت لها: أجيزي. فقال:
فليت من يضربها ظالماً ... تجف يمناه على سوطه
فقلت لها: إن لي حاجة. فقالت: هاتها، فمن سببك أوذينا. قلت لها: بيت وجدته على ظهر كتابي لم أقرضه ولم أقدر على إجازته. قالت: قل. فأنشدتها.
فما زال يشكو الحب حتى حسبته ... تنفس في أحشائه أو تكلما
قال: فأطرقت ساعة ثم أنشدت:
ويبكي فأبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما
قلت لها: فما عندك في إجازة هذا البيت:
بديع حسن بديع صدٍ ... جعلت خدي له ملاذا
فأطرقت ساعة ثم قالت:
فعاتبوه فعنفوه ... فأوعدوه فكان ماذا
وجلس أبو نواس إلى عنان فقالت: كيف علمك بالعروض وتقطيع الشعر يا حسن؟ قال: جيد. قالت: قطع هذا البيت:
أكلت الخردل الشامي في قصعة خباز
فلما ذهب يقطعه ضحكت به وأضحكت. فأمسك عنها وأخذ في ضروب من الأحاديث، ثم عاد سائلاً لها، فقال: كيف علمك بالعروض؟ قالت: حسن يا حسن. فقال: قطعي هذا البيت:

حولوا عنا كنيستكم ... يا بني حمالة الحطب
فلما ذهبت تقطعه ضحك أبو نواس. فقالت له: قبحك الله! ما برحت حتى أخذت بثأرك.
حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان للمأمون جماعة من المغنين وفيهم مغن يسمى سوسناً، عليه وسم جمال. قال: فبينما هو عنده إذ تطلعت جارية من جواريه فنظرت إليه فعلقته. فكانت إذ حضر سوسن تسوى عودها وتغني:
ما مررنا بالسوسن الغض إلا ... كان دمعي لمقلتي نديما
حبذا أنت والمسمى به أن ... ت وإن كنت منه أذكى نسيما
فإذا غاب سوسن أمسكت عن هذا الصوت وأخذت في غيره. فلم تزل تفعل ذلك حتى فطن المأمون. فدعا بها ودعا بالسيف والنطع، ثم قال: اصدقيني أمرك قال: يا أمير المؤمنين، ينفعني عندك الصدق؟ قال لها: إن شاء الله. قالت: يا أمير المؤمنين، اطلعت من وراء الستارة فرأيته فعلقته. فأمسك المأمون عن عقوبتها، وأرسل إلى المغني فوهبها له، وقال: لا تقربنا.
قال أبو الحسن: كان الواثق إذا شرب وسكر رقد في موضعه الذي سكر فيه، ومن سكر من ندمائه ترك ولم يخرج. فشرب يوماً فسكر ورقد وانقلب أصحابه، إلا مغنياً أظهر التراقد، وبقيت معه مغنية للواثق. فلما خلا المجلس وقع المغني في سحاءة ودفعها إليها:
إني رأيتك في المنام كأنني ... مترشف من ريق فيك البارد
وكأن كفك في يدي وكأنما ... بتنا جميعاً في فراش واحد
ثم انتبهت ومنكباك كلاهما ... في راحتي وتحت خدك ساعدي
فأجابته:
خيراً رأيت وكل ما أبصرته ... ستناله مني برغم الحاسد
وتبيت بين خلاخلي ودمالجي ... وتحل بين مراشفي ومجاسدي
فنكون أنعم عاشقين تعاطيا ... ملح الحديث بلا مخافة راصد
فلما مدت يدها لترمي إليه بالسحاءة، رفع الواثق رأسه فأخذ السحاءة من يدها، وقال لهما: ما هذه؟ فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل هذا كلامٌ ولا كتاب ولا رسول غير اللحظ، إلا أن العشق قد خامرهما. فأعتقها وزوجها منه. فلما أشهد له وتم النكاح، أقامها الواثق بمحضر المغني إلى بيت من بعض البيوت، فوقع عليها ثم خرج إليه، فقال له: أردت أن تكشخني فيها وهي خادمي، فقد كشختك فيها وهي زوجتك.
قال: ولما كلف يزيد بحبابة واشتغل بها وأضاع الرعية، دخل عليه مسلمة أخوه، قال: يا أمير المؤمنين، تركت الظهور للعامة والشهود للجمعة وأضعت أمر المسلمين واحتجبت مع هذه الأمة. فارعوى قليلاً وظهر للناس. فأوحت حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتاً يهون فيها على يزيد ما قال مسلمة فقال، وغنت بها حبابة:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا ... فقد منع المحزون أن يتجلدا
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
فلما سمعها ضرب بخيزرانته الأرض وقال: صدقت! صدقت! على مسلمة لعنة الله. ثم عاد إلى سيرته الأولى.
وحدث ابن الغاز قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا الهيثم ابن أبي بكر قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا بحبابة كلفاً شديداً. فلما توفيت أكب عليها أياماً يترشفها ويتشممها حتى أنتنت، فقام عنها وأمر بجهازها، ثم خرج بين يدي نعشها، حتى إذا بلغ القبر نزل فيه، حتى إذا فرغ من دفنها وانصرف، لصق إليه مسلمة أخوه يعزيه ويؤنسه. فلما أكثر عليه قال له: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليل زارني فهو قائلٌ ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
قال: وطعن في جنازتها، فدفناه إلى سبعة عشر يوماً.
وذكر المعتصم جاريةً كانت غلبت عليه وهو بمصر، ولم يكن خرج بها معه، فدعا مغنيا له فقال له: ويحك! إني ذكرت جارية، فأقلقني الشوق إليها، فهات صوتاً يشبه ما ذكرت لك. فأطرق ملياً ثم غنى:
وددت من الشوق المبرح أنني ... أعار جناحي طائر فأطير
فما لنعيم لست فيه بشاشةٌ ... وما لسرور لست فيه سرور

وإن امرأ في بلدة نصف قلبه ... ونصف بأخرى غيرها لصبور
فقال: والله ما عدوت ما في نفسي، وأمر له بجائزة، ورحل من ساعته. فلما بلغ الفرما قال:
غريب في قرى مصر ... يقاسي الهم والسدما
لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما
وقال المأمون في قينة له:
لها في لحظها لحظات حتف ... تميت بها وتحيي من تريد
فإن غضبت رأيت الناس قتلى ... وإن ضحكت فأرواح تعود
وتسبي العالمين بمقلتيها ... كأن العالمين لها عبيد
وأنشد البحتري في قينة له:
أمازحها فتغضب ثم ترضى ... وجل فعالها حسن جميل
فإن تغضب فأحسن ذات دل ... وإن رضيت فليس لها عديل
وقال ابن المعتز في قينة له:
سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين للشعر والدجا ... وشمسين من كأس ووجه حبيب
وقال هارون الرشيد في قينة له:
تبدي صدودا وتخفي تحته مقةً ... فالنفس راضيةٌ والطرف غضبان
يا من وضعت له خدي فذلله ... وليس فوقي سوى الرحمن سلطان
وقال إبراهيم الشيباني: القينة لا تخلص محبة لأحد، ولا تؤتى إلا من باب الطمع. وقال علي بن الجهم: قلت لقينة:
هل تعلمين وراء الحب منزلةً ... تدني إليك فإن الحب أقصاني
فقالت: تأتي من باب الذهب، وأنشدت:
اجعل شفيعك منقوشاً تقدمه ... فلم يزل مدنياً من ليس بالداني
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة، فجلس عندها يوماً يطارحها الغناء، فلما أراد الخروج قال لها: ناوليني خاتمك أذكرك به. قالت: إنه ذهب، وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود فلعلك تعود. وناولته عوداً من الأرض.
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يكلف بها وينقطع إليها إذا نظر إليها. فطلبت منه أن يسلفها دراهم. فانقطع عنها وتجنب دارها، فعملت له دواء ولقيته به. فقال لها: ما هذا؟ قالت: دواء عملته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك. قال: اشربيه أنت للطمع، فإن انقطع طعمك انقطع فزعي، وأنشأ يقول:
أنا والله أهواك ... ولكن ليس لي نفقة
فإما كنت تهويني ... فقد حلت لي الصدقه
وقعد أبو الحارث جميز إلى قينة بالمدينة صدر نهاره، فجعلت تحدثه ولا تذكر الطعام. فلما طال ذلك به، قال: ما لي لا أسمع للطعام ذكراً؟ قالت: سبحان الله، أما تستحي، أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ فقال لها: جعلت فداك، لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعة واحدة لا يأكلان لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا.
وقال الشيباني: كانت بالعراق قينة وكان أبو النواس يختلف إليها، فتظهر له أنها لا تحب غيره، وكان كلما جاءها وجد عندها فتىً يجلس عندها ويتحدث إليها، فقال فيها:
ومظهرةٍ لخلق الله ودا ... وتلقي بالتحية والسلام
أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزحام
فيا من ليس يكفيها صديقٌ ... ولا خمسون ألفا كل عام
أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على الطعام
وقال الشيباني: حضر أبو النواس مجلساً فيه قيان، فقلن له: ليتنا بناتك. قال: نعم، ونحن على المجوسية.
وقال العتبي: حضرت قينة مجلساً فغنت فأجادت، فقام إليها شيخ من القوم فجلس بن يديها وقال: كل مملوك لي حر، وكل امرأة لي طالق، لو كانت الدنيا كلها صرارا في كمي لقطعتها لك، فأما إذ لم يكن، فجعل الله كل حسنة لي لك، وكل سيئة عليك علي. قالت: جزاك الله خيراً، فوالله ما يقوم الوالد لولده بما قمت به لنا. فقام شيخ آخر وقعد بين يديها وقال لها: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق، إن كان وهب لك شيئاً ولا حمل عنك ثقلاً، لأنه ما له حسنةٌ يهبها لك، ولا عليك سيئة يحملها عنك، فلأي شيء تحمدينه؟

حدث أحمد بن عمر المكي قال حدثني أبي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: كان بالمدينة رجل جعفري من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان يحب الغناء، وكان بالمدينة قينة يقال لها بصبص، وكان الجعفري يتعشقها فقال يوماً لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها فقد والله أيتمت ولدي وأرملت نسائي وأخرجت ضيعتي. فقاموا معه حتى إذا جاءوا إلى بابها دقه، فخرجت إليه فإذا هي أملح الناس دلا وشكلاً، فقال لها: يا جارية، أتغنين:
وكنت أحبكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السلام
فاستحيت وخجلت وبكت وقالت: يا جارية، هاتي عودي. والله ما أحسن هذا ولكن أحسن غيره، فغنت:
تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
قال: فاستحيا والله صاحبنا حتى تصبب عرقاً ثم قال لها: يا سيدتي أفتحسنين أن تغني:
وأخضع للعتبى إذا كنت ظالما ... وإن ظلموا كنت الذي أتفضل؟
قالت: والله ما أعرف هذا ولكن غيره، فغنت:
فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله ... وأنزلكم منا بأكرم منزل
قال: فدفع الباب ودخل وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه. وقال: لعن الله الأهل والولد والضيعة.

خبر الذلفاء
قال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك بن مروان، وهو جالس على دكان مبلط بالرخام الأحمر، مفروش باليباج الأخضر، في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع، وإذا بإزاء كل شق من البستان ميدان بنبت الربيع قد أزهر. وعلى رأسه وصائف، كل واحدة منهن أحسن من صاحبتها. وقد غابت الشمس فنضرت الخضرة، وأضعفت في حسنها الزهرة، وغنت الأطيار فتجاوبت، وسفت الرياح على الأشجار فتمايلت، بأنهار فيه قد شققت، ومياه قد تدفقت. فقلت: السلام عليك يا أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. وكان مطرقاً، فرفع رأسه وقال: أبا زيد، في مثل هذا الحين يصاب أحد حيا؟ قلت: أصلح الله الأمير، أو قد قامت القيامة بعد. قال: نعم، على أهل المحبة سراً والمراسلة بينهم خفية. ثم أطرق مليا، ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، ما يطيب في يومنا هذا؟ قلت: أعز الله الأمير، قهوة صفراء في زجاجة بيضاء، تناولها مقدودة هيفاء، مضمومة لفاء دعجاء. أشربها من كفها، وأمسح فمي بفمها. فأطرق سليمان ملياً لا يحير جواباً، تنحدر من عينه عبرات بلا شهيق. فلما رأى الوصائف ذلك تنحين عنه. ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، حللت في يوم فيه انقضاء أجلك، ومنتهى مدتك، وتصرم عمرك، والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك. قلت: نعم أصلح الله الأمير، كنت جالساً عند باب أخيك سعيد بن عبد الملك، فإذا أنا بجارية قد خرجت إلى باب القصر كالغزال انفلت من شبكة الصياد، عليها قميصٌ سكبٌ يتبين منه بياض بدنها، وتدوير سرتها، ونقش تكتها، وفي رجليها نعلان صراران، قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها، مضمومة بفرد ذؤابة تضرب إلى حقويها، وتسيل كالعثاكيل على منكبيها، وطرة قد أسبلت على متني جبينها، وصدغان قد زينا كأنهما نونان على وجنتيها، وحاجبان قد قوسا على محجري عينيها، وعينان مملوءتان سحراً، وأنف كأنه قصبة در، وفم كأنه جرح يقطر دما. وهي تقول: عباد الله، من لي بدواء ما لا يشتكى؟ وعلاج ما لا يسمى؟ طال الحجاب، وأبطأ الجواب، فالفؤاد؟ طائر، والقلب عازب، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس، رحمة الله على قوم عاشوا تجلداً، وماتوا تبلداً، ولو كان إلى الصبر حيلة، وإلى العزاء سبيل، لكان أمرا جميلاً، ثم أطرقت طويلاً، ثم رفعت رأسها. فقلت: أيتها الجارية، إنسية أنت أم جنية؟ سمائية أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك، وأذهلني حسن منطقك. فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني، ثم قالت: اعذر أيتها المتكلم الأريب، فما أوحش الساعة بلا مساعد، والمقاساة لصبٍ معاند، ثم انصرفت. فوالله، أصلح الله الأمير، ما أكلت طيباً إلا غصصت به لذكراها، ولا رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها. قال سليمان: أبا زيد، كاد الجهل أن يستفزني، والصبا أن يعاودني، والحلم أن يعزب عني؛ لحسن ما رأيت وشجو ما سمعت، تلك هي الذلفاء التي يقول فيها الشاعر:
إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان

شراؤها على أخير ألف ألف درهم. وهي عاشقة لمن باعها، والله إني من لا يموت إلا بحزنها، ولا يدخل القبر إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة، وفي توقع الموت نهية، قم أبا زيد فاكتم المفاوضة. يا غلام ثقله ببدرة. فأخذتها وانصرفت. قال أبو زيد: فلما أفضت الخلافة إلى سليمان صارت الذلفاء إليه، فأمر بفسطاط،، فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء، مونقة زهراء، ذات حدائق بهجة، تحتها أنواع الزهر الغض، من بين أصفر فاقع، واحمر ساطع، وأبيض ناصع، فهي كالثوب الحرمي. وحواشي البرد الأتحمي، يثير منها مر الرياح نسيما يربى على رائحة العنبر، وفتيت المسك الأذفر. وكان له مغن ونديم وسمير يقال له سنان، به يأنس وإليه يسكن. فأمر أن يضرب فسطاسه بالقرب منه. وقد كانت الذلفاء خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه، فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور، وأتم حبور، إلى أن انصرف مع الليل إلى فسطاسه. فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له: قرانا، أصلحك الله. قال: وما قراكم؟ قالوا: أكل وشرب وسماع. قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عنه، إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتاً واحداً أغنيكموه. قالوا. غننا صوت كذا. قال: فرفع عقيره يتغنى بهذه الأبيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل لما طلها السحر
تثنى على الخد منها من معصفرة ... والحلي بادٍ على لباتها خصر
في ليلةٍ لا يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر
لم يحجب الصوت أحراسٌ ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت منحدر
لو خليت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من لينها للمشي تنفطر
فسمعت الذلفاء صوت سنان فخرجت إلى وسط الفسطاط تستمع، فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلى الذي وافق المعنى، من وقت الليل واستماعها الصوت إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكناً في قلبها، فهملت عيناها وعلا نشيجها. فانتبه سليمان فلم يجدها معه، فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال، فقال لها: ما هذا يا ذلفاء؟ فقالت:
ألا رب صوت رائع من مشوه ... قبيح المحيا واضع الأب والجد
يروعك منه صوته ولعله ... إلى أمة يعزى معاً وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا، فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر. يا غلام، علي بسنان. فدعت الذلفاء خادما لها فقالت: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذره ولك عشر آلاف درهم، وأنت حر لوجه الله. فخرج الرسول. فسبق رسول سليمان. فلما أتي به قال: يا سنان، ألم أنهك عن مثل هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، حملني الثمل وأنا عبد أمير المؤمنين وغذي نعمته، فإن رأى أمير المؤمنين أن لا يضيع حظه من عبده فليفعل. قال: أما حظي منك فلن أضيعه، ولكن ويلك! أما علمت أن الرجل إذا تغنى أصغت المرأة إليه، وأن الحصان إذا صهل استودقت له الفرس، وأن الجمل إذا هدر ضبعت له الناقة، وأن التيس إذا نب استحرمت له الشاة؟ إياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك.

قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة، فإني لمنصرف من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة، وإذا هي في ناحية وحدها وعليها ثوبان خلقان، وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي، فالتفت فرأيتها. فوقفت فقالت: هل من حاجة؟ قلت: تزيدين في السماع، قالت: وأنت قائم؟ لو قعدت. فقعدت كالخجل. فقالت: علمك بالغناء؟ قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بغير نار، ما منعك من معرفته؟ فوالله أنه لسحوري وفطوري، قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي؟ قالت: يا هذا، وهل له موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة؟ فكل هؤلاء النسوة اللاتي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك؟ قالت: فيهن وفيهن، ولي بينهن قصة. قلت: وما هي؟ قالت: كنت أيامي شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي ترى من القبح والدمامة، وكنت أشتهي الجماع شهوة شديدة، وكان زوجي شاباً وضيئاً، وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره. فأضر ذلك بي، وكان قد علقته امرأة قصار تجاورني، فزاد ذلك في غمي. فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي. فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك؟ قلت: وابأبي أنت، إذاً تكونين أعظم الخلق منةً علي. قالت: اختلفي إلى مجمع مولى الزبير، فإنه حسن الغناء، فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة ثم غني بها زوجك، فإنه سيجامعك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع، فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة. فكنت إذا أقبل زوجي اضطجعت ورفعت عقيرتي ثم تغنيت. فإذا غنيت صوتاً بت على زب، وإن غنيت صوتين بت على زبين، وإن غنيت ثلاثة فثلاثة.
فكنا كندماني جذيمة حقبةً ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني، وقلت: يا هذه، ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة المشورة. قالت: حسبك بها منة وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك الشهوة شيء قالت: لذع في الفؤاد، وأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة فقد ذهب تسعة أعشارها. فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك؟ قالت: لا، أنا في فائت من العيش فلما نهضت لأقوم، قالت: على رسلك، لا تنصرف خائباً، ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها.
ولي كبدٌ مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
أبى الناس كل الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
أبو بكر بن جامع عن الحسين بن موسى قال: كتب علي بن الجهم إلى قينة كان يتعشقها:
خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده ... وتيمته دهراً كأن به سحرا
دعى الهجر لا أسمع به منك إنما ... سألتك أمراً ليس يعري لكم ظهرا
فكتبت إليه: صدقت، جعلت فداك. ليس يعرى لنا ظهراً، ولكنه يملأ لنا بطناً.
وكان أبو بكر الكاتب، مفتتناً بقينة محمد بن حماد، فاهدى إليها قميصاً، فقال فيه بعض الكتاب:
أهدى إليها قميصاً ... ينيكها فيه غيره
فللسعادة حرها ... وللشقاوة أيره
حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما رشأ وللأخرى جوذر، وكان يحب الغناء. وكان بالمدينة مضحك لا يكاد يغيب عن مجالس المتظرفين. فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به. فلما أتاه قال: ما الفائدة فيك وفي لذتك ولا لذة لي؟ قال له: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذاً، فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر. فلما شربه المضحك تحركت عليه بطنه، وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه. فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين، وأهل اليمن يسمون الكنف المراحيض. فقال لهما: يا حبيبتي، أين المرحاض؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت يقول غنياني:
رحضت فؤادي فخليتني ... أهيم من الحب في كل واد
فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني، أظنهما مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج. قال: يا حبيبتي، أين المخرج؟ قالت إحداهما للأخرى: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:

خرجت بها من بطن مكة بعدما ... أصات المنادي للصلاة فأعلما
فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: لم يفهما والله عني، أظنهما شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب. فقال لهما: يا حبيبتي، أين المذاهب؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قال: يقول غنياني:
ذهبت من الهجران في غير مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب
فغنتاه الصوت. فقال في نفسه: لم يفهما عني، وما أظنهما إلا مدنيتين، وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء، فقال لهما: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغني:
خلي علي جوى الأشواق إذ ظعنا ... من بطن مكة والتسهيد والحزنا
قال: فغنتاه. فقال: إنا لله وإن إليه راجعون، وما أحسب الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش، فقال لهما: أين الحش؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت يسأل أن نغنيه:
أوحش الحشان فالربع منها ... فمناها فالمنزل المعمور
فاندفعتا تغنيانه. فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف. قال: يا حبيبتي، أين الكنيف؟ قالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل! ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغني:
تكنفني الهوى طفلا ... فشيبني وما اكتهلا
قال: فغلبه بطنه وعلم أنهما تولعان به، والهاشمي يتقطع ضحكاً، فقال لهما: كذبتما يا زانيتان، ولكني أعلمكما ما هو، فرفع ثيابه فسلح عليهما، وانتبه الهاشمي: فقال له: سبحان لله! أتسلح على وطائي! قال: والذي خرج من بطني أعز علي من وطائك، إن هاتين الزانيتين إنما حسبتا أني أسأل عن الحش للضراط، فأعلمتهما ما هو.

قولهم في العود
قال يزيد بن عبد الملك يوماً وذكر عنده البربط فقال: ليت شعري ما هو؟ فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنا أخبرك ما هو، محدودب الظهر، أرسح البطن، له أربعة أوتار، إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حراك أعطافه وهز رأسه.
مر إسحاق بن إبراهيم الموصلي برجل ينحت عودا فقال له: لمن ترهف هذا السيف؟ وقال بعض الكتاب في العود:
وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم
يبدي ضمير سواه في الكلام كما ... يبدي ضمير سواه منطق القلم
ومن قولنا في هذا المعنى:
يا مجلساً أينعت منه أزاهره ... ينسيك أوله في الحسن آخره
لم يدر هل بات فيه ناعماً جذلا ... أو بات في جنة الفردوس سامره
والعود يخفق مثناه ومثلثه ... والصبح قد غردت فيه عصافره
وللحجارة أهزاج إذا نطقت ... أجابها من طيور البر ناقره
وحن من بينها الكثبان عن نغم ... تبدي عن الصب ما تخفي ضمائره
كأنما العود فيما بيننا ملك ... يمشي الهوينى وتتلوه عساكره
كأنه إذا تمطى وهي تتبعه ... كسرى بن هرمز تقفوه أساوره
ذاك المصون الذي لو كان مبتذلا ... ما كان يكسر بيت الشعر كاسره
صوت رشيق وضرب لو يراجعه ... سجع القريض إذا ضلت أساطره
لو كان زرياب حياً ثم أسمعه ... لمات من حسد إذ لا يناظره
وقال الحمدوني فيه:
وسجعت رجع عودٍ بين أربعة ... سر الضمائر فيما بينها علن
فولدت للندامى بين نغمتها ... وكفها فرحاً تفصيله حزن
فما تلعثم عنها لفظ مزهرها ... ولا تحير في ألحانها لحن
تهدي إلى كل جزء من طبائعها ... بنانها نغماً أثمارها فتن
وترتعي العين منها روض وجنتها ... طوراً وتسرح في ألفاظها الأذن
وقال عكاشة بن الحصين:
من كف جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرفت عنابا
وكأن يمناها إذا ضربت بها ... تلقي على يدها الشمال حسابا
ومن قولنا في العود:
يا رب صوتٍ يصوغه عصبٌ ... نيطت بساق من فوقها قدم
جوفاء مضمومة أصابعها ... في ساكنات تحريكها نغم
أربعة جزئت لأربعة ... أجزاؤها بالنفوس تلتحم

أصغرها في القلوب أكبرها ... يبعث منه الشفاء والسقم
إذا أرنت بغمز لافظها ... قلت حمام يجيبهن حم
لها لسان بكف ضاربها ... يعرب عنها وما لهن فم

قولهم في المبردين في الغناء
قال أبو نواس:
قل لزهير إذا شدا وحدا ... أقلل أو أكثر فأنت مهذار
سخنت من شد البرودة حتى ... صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثلج بارد حار
وقال أيضاً:
قد نضجنا ونحن في الجيش طرا ... أنضجتنا كواكب الجوزاء
فأصيبوا لنا حسينا ففيه ... عوض من جليد برد الشتاء
لو يغني وفوه ملآن خمراً ... لم يضره من برد ذاك الغناء
وله:
كأن أبا المغلس إذ يغني ... يحاكي عاطساً في عين شمس
يميل بشدقه طوراً وطوراً ... كأن بشدقه ضربان ضرس
وقال دعبل:
ومغن إن تغنى ... أورث الندمان هما
أحسن الأقوام حالاً ... فيه من كان أصما
وقال الحمدوني:
بينما نحن سالمون جميعاً ... إذ أتانا ابن سالم مختالا
فتغنى صوتاً فكان خطاء ... ثم ثنى أيضاً فكان محالا
سألنا خلعة على ما تغنى ... فخلعنا على قفاه النعالا
ولعباس الخياط:
رأيت يوماً سائباً يضرب ... فقمت من مجلسنا أهرب
لأنه ينبح من عوده ... عليك من أوتاره أكلب
كأنما تسمع في حلقه ... دجاجة يخنقها ثعلب
ما عجبني منه ولكنني ... من الذي يسمعه أعجب
وقال آخر:
ومغن يخرى على جلسائه ... ضرب الله شدقه بغنائه
وقال مؤمن في ربيع المغني وكان يتغنى وينقر في الدواة:
غناؤك يا ربيع أشد برداً ... إذا حمى الهجير من الصقيع
ونقرك في الدواة أشد منه ... فما يصبو إليه سوى رقيع
أغثنا في المصيف إذا تلظى ... ودعنا في الشتاء وفي الربيع
باب في الرقائق
قد جبل أكثر الناس على سوء الاختيار وقلة التحصيل والنظر، مع لؤم الغرائز وضعف الهمم، فقل من يختار من الصنائع أرفعها، ويطلب من العلوم أنفعها، ولذلك كان أثقل الأشياء عليهم وأبغضها إليهم، مؤنة التحفظ، وأخفها عندهم وأمهلها عليهم إسقاط المروءة.
وقيل لبعضهم: ما أحلى الأشياء كلها؟ قال: الارتكاس وقيل لعبد الله ابن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: هتك الحياء واتباع الهوى.
وقيل لعمرو بن العاص: ما أطيب العيش؟ قال: ليقم من هنا من الأحداث. قال: فلما قاموا. قال: العيش كله إسقاط المروءة، وأي شيء أثقل على النفس من مجاهدة الهوى ومكابدة الشهوة. ومن ذلك كان سوء الاختيار أغلب على طبائع الناس من حسن الاختيار.
ألا ترى أن محمد بن يزيد النحوي، على علمه باللغة ومعرفته باللسان، وضع كتاباً سماه بالروضة وقصد فيه إلى أخبار المحدثين، فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له، حتى انتهى إلى الحسن بن هانئ، وقلما يأتي له بيت ضعيف لرقة فطنته وسبوطة بنيته وعذوبة ألفاظه، فاستخرج له من البرد أبياتاً ما سمعناها ولا رويناها، ولا ندري من اين وقع عليها، وهي:
ألا لا تلمني في العقار جليسي ... ولا تلحني في شربها بعبوس
تعشقها قلبي فبغض عشقها ... إلي من الأشياء كل نفيس
وأين هذا الاختيار من اختيار عمرو بن بحر الجاحظ حين اجتلب ذكره في كتاب الموالي، فقال: ومن الموالي الحسن بن هانئ، وهو من أقدر الناس على الشعر، وأطبعهم فيه. ومن قوله:
فجاء بها صفراء بكراً يزفها ... إلي عروساً ذات دل معشق
فلما جلتها الكأس أبدت لناظري ... محاسن ليتٍ بالجمان مطوق
ومن قوله:
ساع بكاس إلى ناس على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب
قامت تريك وشمل الليل مجتمع ... صبحا تولد بين الماء والعنب
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء در على أرض من الذهب

وجل أشعاره الخمريات بديعة لا نظير لها، فخطر به اكلها وتخطاها إلى التي جانسته في برده، فما أحسبه لحقه هذا الاسم أعني المبرد، إلا لبرده. وقد تخير لأبي العتاهية أشعاراً تقتل من بردها، وشنفها وقرظها بكلامه، فقال: ومن شعر أبي العتاهية المستظرف عند الظرفاء المخير عند الخلفاء قوله:
يا قرة العين كيف أمسيت ... أعزز علينا بما تشكيت
وقوله:
آه من وجدي وكربي ... آه من لوعة حبي
ما أشد الحب يا سبحانك اللهم ربي
ونظير هذا من سوء الاختيار ما تخيره أهل الحذق بالغناء والصانعون للألحان من الشعر القديم والحديث، فإنهم تركوا منه الذي هو أرق من الماء، وأصفى من رقة الهواء، وكل مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، وغنوا بقول الشاعر:
فلا أنسى حياتي ما ... عبدت الله لي ربا
وقلت لها أنيليني ... فقالت أفرق الدبا
ولو تعلم ما بي لم ... تهب دبًا ولا كلبا
وأقل ما كان يجب في هذا الشعر أن يضرب قائله خمسمائة سوط، وصانعه أربعمائة، والغنى به ثلثمائة، والمصغي إليه مائتين. ومثله:
كأنما الشمس إذا ما بدت ... تلك التي قلبي لها يضرب
تلك سليمى إذا ما بدت ... وما أنا في ودها أرغب
كأن في النفس لها ساحراً ... ذاك الذي علمه المذهب
يعني بالمذهب الجني. ومثله:
يا خليلي أنتما عللاني ... بين كرم ومزهرٍ وجنان
خبراني أين حلت مناي ... يا عباد الله لا تكتماني
إنما حلت بواد خصيب ... ينبت الورس مع الزعفران
أحلف بالله لو وجداني ... غرقا في البحر ما أنقذاني
ومثله:
أبصرت سلمى من منى ... يوماً فراجعت الصبا
يا درة البحر متى ... تشهد سوقاً تشتري
ومثله:
يا معشر الناس هذا ... أمرٌ وربي شديد
لا تعنفى يا فلانه ... فإنى لا أريد
ومثله:
أرقت فأمسيت لا أرقد ... وقد شفنى البيض والخود
فصرت لظبي بني هاشم ... كأني مكتحل أرمد
أقلب أمري لدى فكرتي ... وأهبط طوراً فما أصعد
وأصعد طوراً ولا علم لي ... على أنني قبلكم أرشد
ومثله:
ما أرجى من حبيبٍ ... ضن عني بالمداد
لو بكفيه سحاب ... ما ارتوت منه بلادي
أنا في واد ويمسى ... هو لي في غير واد
ليته إذ لم يجد لي ... بالهوى رد فؤادي
ومثله:
ما لسلمى تجنبت ... ما لها اليوم مالها
إن تكن قد تغضبت ... أصلح الله حالها

باب من رقائق الغناء
قال الزبير بن بكار: سألت إسحاق هل تغني من شعر الراعي شيئاً؟ قال: وأين أنت من قوله:
فلم أر مظلوماً على حال عزة ... أقل انتصاراً باللسان وباليد
سوى ناظرٍ ساجٍ بعين مريضة ... جرت عبرة منها ففاضت بإثمد
ومن شعر ابن الدمينة وهو عبيد الله بن عبد الله، والدمينة أمه، وهو من أرق شعراء المدينة بعد كثير عزة، وقيس بن الخطيم:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... له بهتة حتى يقال مريب
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتي غروب
وما ذاك إلا أن تيقنت أنه ... يمر بوادٍ أنت منه قريب
يكون أجاجاً قبلكم فإذا انتهى ... إليكم تلقى طيبكم فيطيب
أيا ساكني شرقي دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
ومن قول يزيد بن الطثرية، وغنى به ابن صياد المغني وغيره:
بنفسي من لو مر برد بنابه ... على كبدي كانت شفاءً أنامله
ومن هابني في كل شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
ومما يغنى به قول جرير:
أتذكر إذ تودعنا سليمى ... بعود بشامة سقي البشام

بنفسي من تجنبه عزيزٌ ... علي ومن زيارته لمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام
ومما غني به نومة الضحى:
يا موقد النار قد أعيت قوادحه ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
وما أوحش الناس في عيني وأقبحهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس
ومما يغني به معبد ذي الرمة. وهو من أرق شعر يغنى به قوله:
لئن كانت الدنيا علي كما أرى ... تباريح من ذكراك فالموت أروح
وأكثر ما كان يغني معبد بشعر الأحوص، ومن جيد ما غنى به له قوله:
كأني من تذكر أم حفص ... وحبل وصالها خلق رمام
صريع مدامة غلبت عليه ... تموت لها المفاصل والعظام
سلام الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
فإن يكن النكاح أحل شيئاً ... فإن نكاحها مطراً حرام
ومن شعر المتوكل بن عبد الله بن نهشل وكان كوفيا في عصر معاوية، وهو القائل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
قفي قبل التفرق يا أماما ... وردي قبل بينكم السلاما
ترجيها وقد شطت نواها ... ومنتك المنى عاماً فعاما
فلا وأبيك لا أنساك حتى ... تجاوب هامتي في القبر هاما
ومما يغنى به من شعر عدي بن الرقاع:
تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلمٌ أصاب من الدواة مدادها
ولقد أصبت من المعيشة لذةً ... ولقيت من شظف الخطوب شدادها
وعلمت حتى ما أسائل عالماً ... عن حرف واحدة لكي أزدادها

كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن
كتاب المرجانة الثانية
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى في قولنا فيالغناء واختلاف الناس فيه، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في النساء وصفاتهن وما يحمد ويذم من عشرتهن، إذ كان العيش كله مقصوراً على الحليلة الصالحة والزوجة الموافقة، والبلاء كله موكلاً بالقرينة السوء التي لا تسكن النفس إلى كريم عشرتها، ولا تقر العين برؤيتها.
قال الأصمعي: حدثني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير قال: ما رفع أحد نفسه بعد الإيمان بالله بمثل منكح صدق، ولا وضع أحدٌ نفسه بعد الكفر بالله بمثل منكح سوء. ثم قال: لعن الله فلانة، ألفت بني فلان بيضا طوالاً فقلبتهم سوداً قصاراً.
وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: المرأة العاقلة تبني بيتها والسفيهة تهدمه.
وقال: الجمال كاذب والحسن مختلف، وإنما تستحق المدح المرأة الموافقة.
مكحول، عن عطية بن بشر، عن عكاف بن وداعة الهلالي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا عكاف، ألك امرأة؟ قال: لا. قال: فأنت إذاً من إخوان الشياطين، إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فانكح فإن من سنتنا النكاح.
وقالت عائشة: النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته.
وقال صلى الله عليه وسلم: " أوصيكم بالنساء فإنهن عندكم عوان " يعني أسيرات.
قولهم في المناكح
خطب صعصعة بن معاوية إلى عامر بن الظرب حكيم العرب ابنته عمرة، وهي أم عامر بن صعصعة فقال: يا صعصعة، إنك أتيتني تشتري مني كبدي، فارحم ولدي قبلتك أو رددتك. والحسيب كفء الحسيب، والزوج الصالح أب بعد أب. وقد أنكحتك خشية أن لا أجد مثلك أفر من السر إلى العلانية. يا معشر عدوان، خرجت من بين أظهركم كريمتكم من غير رغبة ولا رهبة، أقسم لولا قسم الحظوظ على الجدود ما ترك الأول للآخر ما يعيش به.

العباس بن خالد السهمي قال: خطب عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أم إياس، فقال: نعم، أزوجها على أن أسمي بنيها وأزوج بناتها. فقال عمرو بن حجر: أما بنونا فنسميهم بأسمائنا وأسماء آبائنا وعمومتنا، وأما بناتنا فينكحهن أكفاؤهن من الملوك، ولكني أصدقها عقاراً في كندة وأمنحها حاجات قومها، لا ترد لأحد منهم حاجة. فقبل ذلك منه أبوها، وأنكحه إياها. فلما كان بناؤه بها خلت بها أمها فقالت: أي بنية، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشك الذي فيه درجت، إلى رجل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبدا، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخرا. أما الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا الطيب ريح. وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعاليه، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرا ولا تفشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً، والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً. فولدت له الحارث بن عمرو، جد امرئ القيس الشاعر.
الشيباني قال: حدثنا بعض أصحابنا أن زرارة بن عدس نظر إلى ابنه لقيط فقال: ما لي أراك مختالاً كأنك جئتني بابنة ذي الجدين، أو مائة من هجائن النعمان؟ فقال: والله لا يمس رأسي دهن حتى آتيك بهما، أو ابلي عذراً. فانطلق حتى أتى ذا الجدين، وهو قيس بن مسعود الشيباني، فوجده جالساً في نادي قومه شيبان، فخطب إليه بنته علانية، فقال له: هلا ناجيتني؟ قال: علمتي أني إن ناجيتك لم أخدعك، وإن عالنتك لم أفضحك، قال: ومن أنت؟ قال: لقيط بن زرارة. قال: لا جرم، ولا تبيتن فينا عزبا ولا محروما. فزوجه وساق عنه المهر، وينى بها من ليلته تلك. ثم خرج إلى النعمان فجاء بمائتين من هجائنه، وأقبل إلى أبيه، وقد وفى نذره. فبعث إليه قيس بن مسعود بابنته مع ولده بسطام بن قيس، فخرج لقيط يتلقاها في الطريق ومعه ابن عم له، يقال له قراد، فقال لقيط:
هاجت عليك ديار الحي أشجانا ... واستقبلوا من نوى الجيران قربانا
تامت فؤادك لم تقض التي وعدت ... إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
فانظر قراد وهل في نظرة جزع ... عرض الشقائق هل بينت أظعانا
فيهن جارية نضح العبير بها ... تكسى ترائبها دراً ومرجانا
كيف اهتديت ولا نجم ولا علم ... وكنت عندي نؤوم الليل وسنانا
ولما رحل بها بسطام بن قيس قالت: مروا بي على أبي أودعه، فلما ودعته قال لها: يا بنية، كوني له أمةً يكن لك عبداً، وليكن أطيب طيبك الماء، ثم لا أذكرت ولا أيسرت، فإنك تلدين الأعداء وتقربين البعداء، إن زوجك فارس من فرسان مضر، فإذا كان ذلك فلا تخمشي وجهاً ولا تحلقي شعراً. فلما قتل لقيط تحملت إلى أهلها ثم مالت إلى مجلس عبد الله بن دارم، فقالت: نعم الأحماء كنتم يا بني دارم، وأنا أوصيكم بالقرائب خيراً، فلم أر مثل لقيط. ثم لحقت بقومها. فتزوجها ابن عم لها، فكانت لا تسلو عن ذكر لقيط فقال لها زوجها: أي يوم رأيت فيه لقيطاً أحسن في عينك؟ قالت: خرج يوماً يصطاد، فطرد البقر فصرع منها، ثم أتاني مختضباً بالدماء، فضمني ضمة، ولثمني لثمة، فليتني مت ثمة.فخرج زوجها ففعل مثل ذلك، ثم أتاها، فضمها ولثمها، ثم قال لها: من أحسن أنا أم لقيط عندك؟ قالت: مرعى ولا كالسعدان.

أبو الفضل: عن بعض رجاله قال: قدم قيس بن زهير بعدما قتل أهل الهباءة على النمر بن قاسط فقال: يا معشر النمر، نزعت إليكم غريباً حزيناً فانظروا لي امرأة أتزوجها، قد أذلها الفقر، وأدبها الغنى، لها حسب وجمال. فزوجوه على هيئة ما طلب.فقال: إني لا أقيم فيكم حتى أعلمكم أخلاقي: إني غيور فخور ضجور، ولكني لا أغار حتى أرى، ولا أفخر حتى أفعل، ولا آنف حتى أظلم. فأقام فيهم حتى ولد له غلام سماه خليفة، ثم بدا له أن يرتحل عنهم، فجمعهم ثم قال: يا معشر النمر، إن لكم علي حقاً، وأنا أريد أن أوصيكم فآمركم بخصال، وأنهاكما عن خصال: بالإبل، فإن بها تنال الفرصة، وسودوا من لا تعابون بسؤدده، وعليكم بالوفاء فإن به عيش الناس، وإعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع ما تريدون منعه قبل القسم، وإجارة الجائر على الدهر، وتنفيس المنازل. وأنهاكم عن الرهان، فإن بها ثكلت مالكا، وأنهاكم عن البغي فإنه صرع زهيراً، وعن السرف في الدماء فإن يوم الهباءة أورثني الذل، ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، ولا تردوا الأكفاء عن النساء فتحوجوهن إلى البلاء، فإن لم تجدوا الأكفاء فخير أزواجهن القبور. واعلموا أني أصبحت ظالماً مظلوماً، ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكاً، وظلمت بقتلي من لا ذنب له.
كان الفاكه بن المغيرة المخزومي أحد فتيان قريش، وكان قد تزوج هند بنت عتبة، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس فيه بلا إذن، فقام يوماً في ذلك البيت، وهند معه، ثم خرج عنها وتركها نائمة، فجاء بعض من كان يغشى البيت فلما وجد المرأة نائمة ًولى عنها. فاستقبله الفاكه بن المغيرة، فدخل على هند وأنبهها، وقال: من هذا الخارج من عندك؟ قالت: والله ما انتبهت حتى أنبهتني، وما رأيت أحداً قط. قال: الحقي بأبيك. وخاض الناس في أمرهم. فقال لها أبوها: يا بنية: أنبئيني شأنك، فإن كان الرجل صادقاً دسست عليه من يقتله فينقطع عنك العار، وإن كان كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن: قالت: والله يا أبت إنه لكاذب. فخرج عتبة، فقال: إنك رميت ابنتي بشيء عظيم، فإما أن تبين ما قلت، وإلا فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. قال: ذلك لك. فخرج الفاكه في جماعة من رجال قريش، ونسوة من بني مخزوم، وخرج عتبة في رجال ونسوة من بني عبد مناف، فلما شارفوا بلاد الكاهن تغير وجه هند، وكسف بالها. فقال لها أبوها: أي بنية، ألا كان هذا قبل أن يشتهر في الناس خروجنا؟ قالت: يا أبت، والله ما ذلك لمكروه قبلي، ولكنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب، ولعله أن يسمني بسمة تبقى على ألسنة العرب. فقال لها أبوها: صدقت، ولكني سأخبره لك. فصفر بفرسه، فلما أدلى، عمد إلى حبة بر فأدخلها في إحليله، ثم أوكى عليها وسار. فلما نزلوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم. فقال له عتبة: إنا أتيناك في أمر قد خبأنا لك خبية، فما هي؟ قال: ثمرة في كمرة. قال: أريد أبين من هذا. قال: حبة بر في إحليل مهر. قال: صدقت فانتظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يمسح رأس كل واحدة منهن، ويقول: قومي لشأنك، حتى إذا بلغ إلى هند مسح يده على رأسها، وقال: قومي غير رسحاء ولا زانية، وستلدين ملكاً سمى معاوية. فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها فنترت يده من يدها، وقالت: والله لأحرصن أن يكون ذلك الولد من غيرك. فتزوجها أبو سفيان فولدت معاوية.
وذكروا أن هند بنت عتبة بن ربيعة قالت لأبيها: يا أبت، إنك زوجتني من هذا الرجل ولم تؤامرني في نفسي، فعرض لي معه ما عرض فلا تزوجني من أحد حتى تعرض علي أمره، وتبين لي خصاله. فخطبها سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب، فدخل عليها أبوها وهو يقول:
أتاك سهيل وابن حرب وفيهما ... رضاً لك يا هند الهنود ومقنع
وما منهما إلا يعاش بفضله ... وما منهما إلا يضر وينفع
وما منهما إلا كريم مرزأ ... وما منهما إلا أغر سميدع
فدونك فاختاري فأنت بصيرةٌ ... ولا تخدعي إن المخادع يخدع

قالت: يا أبت، والله ما أصنع بهذا شيئاً، ولكن فسر لي أمرهما وبين لي خصالهما، حتى أختار لنفسي أشدهما موافقة لي. فبدأ يذكر سهيل بن عمرو، فقال: أما أحدهما ففي سطةٍ من العشيرة وثروة من العيش، إن تابعته تابعك، وإن ملت عنه حط عليك، تحكمين عليه في أهله وماله. وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه، في الحسب والحسيب، والرأي الأريب، مدره أرومته، وعز عشيرته، شديد الغيرة، كثير الطيرة، لا ينام على ضعة، ولا يرفع عصاه عن أهله. فقالت: يا أبت، الأول سيد مضياع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها، وتصنع تحت جناحه، إذا تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت، فساءت عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه لي. وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة، الحرة العفيفة، وإني للتي لا أريب له عشيرة فتغيره، ولا تصيبه بذعر فتضيره، وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوجنيه. فزوجها من أبي سفيان. فولدت له معاوية، وقبله يزيد،فقال في ذلك سهيل بن عمرو:
نبئت هنداً تبر الله سعيها ... تأبت وقالت وصف أهوج مائق
وما هوجي يا هند إلا سجية ... أجر لها ذيلي بحسن الخلائق
ولو شئت خادعت الفتى عن قلوصه ... ولا طمت بالبطحاء في كل شارق
ولكنني أكرمت نفسي تكرماً ... ورافعت عنها الذم عند الخلائق
وإني إذا ما حرة ساء خلقها ... صبرت عليها صبر آخر عاشق
فإن هي قالت خل عنها تركتها ... وأقلل بترك من حبيبٍ مفارق
فإن سامحوني قلت أمري إليكم ... وإن أبعدوني كنت في رأس حالق
فلم تنكحي يا هند مثلي وإنني ... لمن لم تمقني فاعلمي غير وامق
فبلغ أبا سفيان، فقال: والله لو أعلم شيئاً يرضي أبا زيد سوى طلاق هند لفعلته. وألح سهيل في تنقص أبي سفيان. فقال أبو سفيان:
رأيت سهيلاً قد تفاوت شأوه ... وفرط في العلياء كل عنان
وأصبح يسمو للمعالي وإنه ... لذو جفنةٍ مغشية وقيان
وشربٍ كرام من لؤي بن غالب ... عراض المساعي عرضة الحدثان
ولكنه يوماً إذا الحرب شمرت ... وأبرز فيها وجه كل حصان
تطأطأ فيها ما استطاع بنفسه ... وقنع فيها رأسه ودعاني
فأكفيه ما لا يستطاع دفاعه ... وألقيت فيها كلكلي وجراني
قال: وتزوج سهيل بن عمر امرأةً فولدت له ولداً، فبينا هو سائر معه إذ نظر إلى رجل يركب ناقة ويقود شاة، فقال لأبيه: يا أبت، هذه ابنة هذه؟ يريد الشاة ابنة الناقة، فقال أبوه: يرحم الله هندا، يعني ما كان من فراستها فيه.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، لو تزوجت أم هانئ بنت أبي طالب؟ فقد جعل الله لها قرابةً فتكون صهراً أيضاً. فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله لهو أحب إلي من سمعي وبصري، ولكن حقه عظيم وأنا موتمةٌ، فإن قمت بحقه خفت أن أضيع أيتامي، وإن قمت بأمرهم قصرت عن حقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناها على ولد في صغره، وأرعاها على بعل في ذات يده. لو علمت أن مريم بنت عمران ركبت جملا لاستثنيتها.
ولما توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان عرض عليه عمر ابنته حفصة، فسكت عنه عثمان. وقد كان بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يزوجه ابنته الأخرى. فشكا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سكوت عثمان عنه، فقال له: سيزوج الله ابنتك خيراً من عثمان ويزوج عثمان خيراً من ابنتك. فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وتزوج عثمان ابنته.
ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد بن عبد العزى ذكرت ذلك لورقة بن نوفل. وهو ابن عمها، فقال: هو الفحل لا يقدع أنفه، تزوجيه.

زخطب عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت أبي بكر، وهي صغيرة، فأرسل إلى عائشة، فقالت له: الأمر إليك. فلما ذكرت ذلك عائشة لأم كلثوم قالت: لا حاجة لي فيه. فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم. إنه خشن العيش شديد على النساء، فأرسلت عائشة إلى المغيرة بن شعبة، فأخبرته، فقال لها: أنا أكفيك. فأتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني عنك أمر أعيذك بالله منه. قال: ما هو؟ قال: بلغني أنك خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر. قال: نعم. أفرغبت بها عني، أم رغبت بي عنها؟ قال: لا واحدة منهما، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف خليفة رسول الله في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك على خلق من أخلاقك فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها، كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك؟ فقال: كيف لي بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها، وأدلك على خير لك منها، أم كلثوم بنت علي، من فاطمة بنت رسول الله، تتعلق منها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان علي قد عزل بناته لولد جعفر بن أبي طالب. فلقيه عمر فقال: يا أبا الحسن، أنكحني ابنتك أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قد حسبتها لابن جعفر. قال: إنه والله ما على الأرض أحد يرضيك من حسن صحبتها بما أرضيك به، فأنكحني يا أبا الحسن. قال: قد أنكحتكها يا أمير المؤمنين. فأقبل عمر، فجلس على الروضة بين القبر والمنبر واجتمع إليه المهاجرون والأنصار. فقال: زفوني. قالوا: بمن يا أمير المؤمنين؟ قال: بأم كلثوم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " وقد تقدمت لي صحبة فأحببت أن يكون لي معها سبب. فولدت له أم كلثوم زيد بن عمر، ورقية بنت عمر. وزيد بن عمر هو الذي لطم سمرة بن جندب عند معاوية إذا تنقص علياً فيما يقال.
وخطب سليمان الفارسي إلى عمر ابنته، فوعده بها فشق ذلك على عبد الله بن عمر فلقي عمرو بن العاص فشكا ذلك إليه. فقال له: سأكفيكه. فلقي سلمان، فقال له: هنيئاً لك يا أبا عبد الله، هذا أمير المؤمنين يتواضع لله عز وجل في تزويجك ابنته. فغضب سلمان، وقال: لا والله لا تزوجت إليه أبداً.
وخرج بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه إلى قوم من بني ليث، يخطب إليهم لنفسه ولأخيه، فقال: أنا بلال وهذا أخي، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فالمستعان الله. قالوا: نعم وكرامة. فزوجوهما.
قالت تماضر امرأة عبد الرحمن بن عوف لعثمان بن عفان: هل لك في ابنة عمٍ لي بكر، جميلة ممتلئة الخلق، أسيلة الخد، أصيلة الرأي، تتزوجها؟ قال: نعم. فذكرت له نائلة بنت الفرافصة الكلبية، فتزوجها وهي نصرانية فتحنفت وحملت إليه من بلاد كلب، فلما دخلت عليه قال لها: لعلك تكرهين ما ترين من شيبي؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين إني من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكهل. قال: إني قد جزت الكهول، وأنا شيخ، قالت: أذهبت شبابك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير ما ذهبت فيه الأعمار. قال: أتقومين إلينا أم نقوم إليك؟ قالت: ما قطعت إليك أرض السماوة وأريد أن أنثني إلى عرض البيت، وقامت إليه. فقال لها: انزعي ثيابك، فنزعتها. فقال: حلي مرطك. قالت: أنت وذاك.
قال أبو الحسن: فلم تزل نائلة عند عثمان حتى قتل، فلما دخل إليه وقته بيدها، فجذمت أناملها، فأرسل إليها معاوية بعد ذلك يخطبها، فأرسلت إليه: ما ترجو من امرأة جذماء. وقيل: إنها قالت لما قتل عثمان: إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب، وقد خشيت أن يبلى حزن عثمان من قلبي، فدعت بفهر فهتمت فاها، وقالت: والله لا قعد أحدٌ مني مقعد عثمان أبداً.

وكانت فاطمة بنت الحسين بن علي عند حسن بن حسن بن علي، فلما احتضر قال لبعض أهله: كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إذا سمع بموتي قد جاء يتهادى في إزار له مورد قد أسبله، فيقول: جئت أشهد ابن عمي، وليس يريد إلا النظر إلا فاطمة، فإذا جاء فلا يدخلن. قال: فوالله ما هو إلا أن غمضوه. فجاء عبد الله بن عمرو في تلك الصفة التي وصفها، فمنع ساعة، فقال بعض القوم: لا يدخل، وقال بعضهم: افتحوا له، فإن مثله لا يرد. ففتحوا له ودخل. فلما صرنا إلى القبر قامت عليه فاطمة تبكي، ثم اطلعت إلى القبر، فجعلت تصك وجهها بيديها حاسرة. قال: فدعا عبد الله بن عمرو وصيفاً له فقال: انطلق إلى هذه المرأة وقل لها: يقرئك ابن عمك السلام، ويقول لك: كفي عن وجهك، فإن لنا به حاجة. فلما بلغها الرسالة أرسلت يديها، فأدخلتهما في كميها حتى انصرف الناس. فتزوجها عبد الله بن عمرو بعد ذلك، فولدت له محمد بن عبد الله، وكان يسمى المذهب لجماله. وكانت ولدت من حسن بن حسن عبد الله بن حسن الذي حارب أبو جعفر ولديه إبراهيم ومحمداً، ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن، حتى قتلهما.
وعن مسلمة بن محارب قال: ما رأيت قرشيا قط كان أكمل ولا أجمل من محمد بن عبد الله بن عمرو الذي ولدته فاطمة بنت الحسين، وكانت له ابنة ولدها محمد، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، كانت أمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير، وأم عروة أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأم محمد فاطمة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم فاطمة بنت الحسين أم إسحاق بن طلحة بن عبد الله، وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان سودة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب.

وعن الهيثم بن عدي الطائي قال: حدثنا مجالد عن الشعبي قال: لقيني شريح فقال: يا شعبي، عليك بنساء بني تميم، فإني رأيت لهن عقولا. قال: وما رأيت من عقولهن؟ قال: أقبلت من جنازة ظهرا، فمررت بدورهم، فإذا أنا بعجوز على باب دار، وإلى جنبها جارية كأحسن ما رأيت من الجواري، فعدلت فاستسقيت، وما بي عطش. فقالت: أي الشراب أحب إليك؟ فقلت: ما تيسر، قال: ويحك، يا جارية إيتيه بلبن، فإني أظن الرجل غريباً، قلت: من هذه الجارية؟ قالت: هذه زينب بنت جرير إحدى نساء بني حنظلة، قلت: فارغة هي أم مشغولة؟ قالت: بل فارغة. قلت: زوجينيها. قالت: إن كنت لها كفواً، وهي لغة تميم. فمضيت إلى المنزل، فذهبت لأقيل. فامتنعت مني القائلة، فلما صليت الظهر أخذت بأيدي إخواني من القراء الأشراف: علقمة، والأسود، والمسيب، وموسى بن عرفطة، ومضيت أريد عمها. فاستقبل فقال: يا أبا أمية، حاجتك؟ قلت: زينب بنت أخيك، قال: ما بها رغبة عنك. فأنكحنيها. فلما صارت في حبالي ندمت، وقلت: أي شيء صنعت بنساء بني تميم؟ وذكرت غلظ قلوبهن، فقلت: أطلقها، ثم قلت: لا، ولكن أضمها إلي، فإن رأيت ما أحب وإلا كان ذلك. فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي، فقلت: إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين، فيسأل الله من خيرها ويعوذ به من شرها، فصليت وسلمت، فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي، فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها، فأخذن ثيابي وألبسنني ملحفة قد صبغت في عكر العصفر، فلما خلا البيت دنوت منها، فمددت يدي إلى ناصيتها فقالت: على رسلك أبا أمية كما أنت، ثم قالت: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله، إني امرأةٌ غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأزدجر عنه. وقالت: إنه قد كان لك في قومك منكح،. وفي قومي مثل ذلك، ولكني إذا قضى الله أمراً كان، وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به: " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك. قال: فأخرجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله، احمده وأستعينه، وأصلي على النبي وآله وسلم. وبعد، فإنك قد قلت كلاماً إن تثبتي عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجة عليك، أحب كذا وأكره كذا، ونحن جميع فلا تفرقي، وما رأيت من حسنة فانشريها وما رأيت من سيئة فاستريها؛ وقالت شيئاً لم أذكره: كيف محبتك لزيارة الأهل؟ قلت: ما أحب أن يملني أصهاري. قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك آذن له، ومن تكرهه أمنعه؟ قلت: بنو فلان قوم صالحون وبنو فلان قوم سوء. قال: فبت يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولاً لا أرى إلا ما أحب. فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء، فإذا بعجوز تأمر وتنهى في الدار. فقلت: من هذه؟ قالوا: فلانة ختنتك، فسري عني ما كنت أجد، فلما جلست أقبلت العجوز، فقالت: السلام عليك أبا أمية. قلت: وعليك السلام، من أنت؟ قالت: أنا فلانة ختنتك، قلت: قربك الله، قالت: كيف رأيت زوجتك؟ قلت: خير زوجة، فقالت لي: أبا أمية، إن المرأة لا تكون أسوأ حالاً منها في حالين، إذا ولدت غلاماً أو حظيت عند زوجها، فإن ربك ريبٌ فعليك بالسوط، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة. قلت: أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب، ورضت فأحسنت الرياضة. قالت: تحب أن يزورك أختامك؟ قلت: متى شاؤوا. قال: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية، فمكثت معي عشرين سنة لم أعتب عليها في شيء إلا مرة واحدة، وكنت لها ظالماً، أخذ المؤذن في الإقامة بعدما صليت ركعتي الفجر، وكنت إمام الحي، فإذا بعقرب تدب، فأخذت الإناء فأكفأته عليها، ثم قلت: يا زينب، لا تحركي الإناء حتى أتي. فلو شهدتني يا شعبي، وقد صليت ورجعت فإذا أنا بالعقرب قد ضربتها. فدعوت بالقسط والملح، فجعلت أمغث إصبعها و؟أقرأ عليها بالحمد والمعوذتين.
وكان لي جار من كندة يقرع امرأته ويضربها، فقلت في ذلك:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني حين أضرب زينبا
أأضربها في غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس مذنبا
فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم تبد منهن كوكبا

وقال أبو عبيدة: نكح الفرزدق أمةً له زنجية، فولدت له بنتاً فسماها مكية، وكان يكنى بها، ويقول: أنا أبو مكية. فكتبت النوار يوماً إلى الفرزدق تشكو مكية فكتب إليها:
كنتم زعمتم أنها ظلمتكم ... كذبتم وبيت الله بل تظلمونها
فإن لا تعدوا أمها من نسائكم ... فإن أباها والد لن يشينها
وإن لها أعمام صدق وإخوةً ... وشيخاً إذا شئتم تأيم دونها
قالت النوار فإنا لا نشاء.
وقال الفرزدق في أمته الزنجية:
يا رب خود من بنات الزنج ... تنقل تنورا شديد الوهج
أعسن مثل القدح الخلنج ... يزداد طيباً بعد طول الهرج
وعن الهيثم بن عدي: عن ابن عياش قال: حدثنا سلمى الهذلي قال: كنت بسجستان مع طلحة الطلحات، فلم أر أحدا كان أسخى منه ولا أشرف نفساً، فكتب إلي عمي من البصرة: إني قد كبرت ومالي كثير، وأكره أن أوكله غيرك، فأقدم أزوجك ابنتي، وأصنع بك ما أنت أهله. قال: فخرجت على بغلة لي تركية، فأتيت البصرة في ثلاثين يوماً، ووافيته في صلاة العصر، فوجدته قاعداً على دكانه فسلمت عليه، فقال لي: من أنت؟ قلت له: ابن أخيك سلمى. قال: وأين ثقلك؟ قلت: تعجلت إليك حين أتاني كتابك وطرت نحوكم. قال: يا ابن أخي، أتدري ما قالت العرب؟ قلت: لا. قال: قالت العرب: شر الفتيان المفلس الطروب. قال: فقمت إلى بغلتي فأعدت سرجي عليها، فما قال لي شيئاً. ثم قال لي: إلى أين؟ قلت: إلى سجستان. قال: في كنف الله. قال: فخرجت فبت في الجسر، ثم ذكرت أم طلحة، فانصرفت أسأل عنها، وكان طلحة أبر الناس بها. فقلت: رسول طلحة، فقالت: ويحك! كيف ابني؟ قلت: على أحسن حال. قالت: فلله الحمد. وإذا بعجوز قد تحدرت، قالت: فما جاء بك؟ قلت: كيت وكيت. قالت: يا جارية. إيتيني بأربعة آلاف درهم، ثم قالت: إيت عمك فابتن بابنته، ولك عندنا ما تحب. قلت: لا أعود إليه أبداً. قالت: يا جارية إيتيني ببغلة ورحالة، ثم قالت: رواح بين هذه وبغلتك حتى تأتي سجستان. قلت: اكتبي بالوصاة بي والحالة التي استقبلتها. فكتبت بوجعها التي كانت فيه وبعافية الله إياها وبالوصاة بي، فلم تدع شيئاً، ثم دفعت حتى أتيت سجستان، فأتيت باب طلحة، وقلت للحاجب: رسول صفية بنت الحارث، وأنا عابس باسر. فدخل فخرج طلحة متوشحاً وخلفه وصيف يسعى بكرسي، فقمت بين يديه، فقال: ويلك! وكيف أمي؟ قلت: بأحسن حال. قال: انظر كيف تقول؟ قلت: هذا كتابها، قال: فعرف الشواهد والعلامات، قلت: اقرأ كتاب وصيتها. قال: ويحك، ألم تأتني بسلامتها؟ حسبك. فأمر لي بخمسين ألف درهم، وقال لحاجبه: اكتبه في خاصة أهلي. قال: فوالله ما أتى علي الحول حتى أتم لي مائة ألف. قال ابن عياش: فقلت له: هل لقيت عمك بعد ذلك؟ قال: لا والله ولا ألقاه أبداً.

وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: أخبرني موسى السلاماني، مولى الحضرمي، وكان أيسر تاجر بالبصرة، قال: بينا أنا جالس إذ دخل علي غلام لي، فقال: هذا رجل من أهل أمك يستأذن عليك. وكانت أمه مولاةً لعبد الرحمن بن عوف. فقلت: إيذن له، فدخل شاب حلو الوجه، يعرف في هيئته أنه قرشي، في طمرين، فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: في الرحب والقرب، ثم قلت: يا غلام، بره وأكرمه وألطفه، وادخله الحمام، واكسه قميصاً رقيقاً، ومبطناً قرهيا، ورداء عمريا، وحذونا له نعلين حضرميين، فلما نظر الشاب في عطفيه وأعجبته نفسه. قال: يا هذا، ابغني أشرف أيم بالبصرة أو أشرف بكر بها. قلت: يا بن أخي، معك مال؟ قال: أنا مال كما أنا. قلت: يا بن أخي، كف هن هذا. قال: انظر ما أقول لك. قلت: فإن أشرف أيم بالبصرة هند بنت أبي صفرة. وأشرف بكر بالبصرة الملاءة بنت زرارة بن أوفى الحرشي، قاضي البصرة. قال: اخطبها علي. قلت: يا هذا إن أباها قاضي البصرة. قال: انطلق بنا إليه. فانطلقنا إلى المسجد، فتقدم فجلس إلى القاضي، فقال له: من أنت يا بن أخي؟ قال له: عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مرحباً، ما حاجتك؟ قال: جئت خاطباً. قال: ومن ذكرت؟ قال: الملاءة ابنتك. قال: يا بن أخي، ما بنا عنك رغبة، ولكنها امرأة لا يفتات عليها أمرها، فاخطبها إلى نفسها. فقام إلي. فقلت: ما صنعت؟ قال: كذا وكذا. قلت: ارجع بنا ولا تخطبها. قال: اذهب بنا إليها، فدخلنا دار زرارة، فإذا دار فيها مقاصير. فأستأذنا على أمها، فلقيتنا بمثل كلام الشيخ، ثم قالت: ها هي تلك في تلك الحجرة. قلت له: لا تأتيها. قال: أليست بكرا؟ قلت: بلى. قال: ادخل بنا إليها، فأستأذنا، فأذنت لنا، فوجدناها جالسة وعليها ثوبٌ قوهي رقيق معصفر، تحته سراويل يرى منه بياض جسدها، ومرط قد جمعته على فخذيها، ومصحف على كرسي بين يديها، فأشرجت المصحف ثم نحته، فسلمنا، فردت، ثم رحبت بنا، ثم قالت: من أنت؟ قال: أنا عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومد بها صوته، قالت: يا هذا، إنما يمد هذا الصوت للساسانيين. قال موسى: فدخل بعض في بعض. قالت: ما حاجتك؟ قال: جئت خاطبا. قالت: ومن ذكرت؟ قال: ذكرتك. قالت: مرحباً بك يا أخا أهل الحجاز، وما الذي بيدك؟ قال: لنا سهمان بخيبر أعطاناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومد بها صوته، وعين بمصر، وعين باليمامة، ومال باليمن قالت: يا هذا كل هذا عنا غائب، ولكن ما الذي يحصل بأيدينا منك. فإني أظنك تريد أن تجعلني كشاة عكرمة. أترري من عكرمة؟ قال لا، قالت: عكرمة بن ربعي، فإنه كان نشأ بالسواد ثم انتقل إلى البصرة، وقد تغدى باللبن، فقال لزوجته: اشتري لنا شاة نحلبها وتصنعين لنا من لبنها شراباً وكامخاً، ففعلت. وكانت عندهم الشاة إلى أن استحرمت. فقالت: يا جارية: خذي بأذن الشاة وانطلقي بها إلى التياس، فأنزي عليها، ففعلت، فقال التياس: آخذ منك على النزوة درهما. فانصرفت إلى سيدتها فأعلمتها، فقالت: إنما رأينا من يرحم ويعطي، وأما من يرحم ويأخذ فلم نره، ولكن يا أخا أهل المدينة. أردت أن تجعلني كشاة عكرمة. فلما خرجنا قلت له: ما كان أغناك عن هذا! قال: ما كنت أظن أن امرأة تجترئ على مثل هذا الكلام.
وعن الأصمعي قال: كان عقيل بن علفة المري غيوراً فخوراً، وكان يصهر إليه خلفاء بني أمية، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لبعض ولده، فقال: جنبني هجناء ولدك.
وكان إذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه، فخرج مرة فنزلوا ديراً من أديرة الشام يقال له دير سعد، فلما ارتحلوا قال عقيل:
قضت وطراً من دير سعد وربما ... غلا عرض ناطحنه بالجماجم
ثم قال لابنه: أجز يا عميس. فقال:
فأصبحن بالموماة يحلمن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم قال لابنته: يا جرباء، أجيزي. فقالت:
كأن الكرى أسقاهم صرخديةً ... عقارا تمشت في المطا والقوائم

فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؛ ثم سل السيف ونهض إليها، فاستغاثت بأخيها عملس، فانتزعه بسهم فأصاب فخذه فبرك، ومضوا وتركوه، حتى إذا بلغوا أدنى المياه منهم قالوا لهم: إنا أسقطنا جزوراً لنا فادركوه، وخذوا معكم الماء. ففعلوا، وإذا عقيل بارك وهو يقول:
إن بني زملوني بالدم ... من يلق أبطال الرجال يكلم
ومن يكن درء به يقوم ... شنشنة أعرفها من أخزم
الشنشنة: الطبيعة، وأخزم: فحل كريم، وهذا مثل للعرب.
الشيباني عن عوانة قال: خطب عبد الملك بن مروان بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فأبت أن تتزوجه. وقالت: والله لا تزوجني أبا الذبان. فتزوجها يحيى بن الحكم. فقال عبد الملك: والله لقد تزوجت أفوه أشوه. فقال يحيى. أما إنها أحبت مني ما كرهت منك، وكان عبد الملك رديء الفم يدمى، فيقع عليه الذباب، فسمي أبا الذبان.
وعن العتبي قال: خطب قريبة بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب، أربعة عشر رجلاً من أهل بدر فأبتهم، وتزوجت عقيل بن أبي طالب، وقالت: إن عقيلاً كان مع الأحبة يوم قتلوا، وإن هؤلاء كانوا عليهم. ولاحته يوما فقالت: يا عقيل، أين أخوالي؟ أين أعمامي؟ كأن أعناقهم أباريق الفضة، قال لها: إذا دخلت النار فخذي على يسارك.
وكتب زياد إلى سعيد بن العاص يخطب إليه ابنته، وبعث إليه بمال كثير وهدايا، فلما قرأ الكتاب أمر حاجبه بقبض المال والهدايا، وأن يقسمها بين جلسائه. فقال الحاجب: إنها أكبر من ظنك. قال سعيد: أنا اكبر منها، ثم وقع إلى زياد في أسفل كتابه: " كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى.
وقال رجل للحسن: إن لي بنية، فمن ترى أن أزوجها؟ قال: زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: قد زوجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة. فقال عمر: وصلك الله يا أمير المؤمنين، فقد كفيت المسألة، وأجزلت في العطية.
قيل للحسن: فلان خطب إلينا فلانة، قال: أهو موسر من عقل ودين؟ قالوا: نعم، قال: فزوجوه.
وقال رجل لحيوة بن شريح: إني أريد أن أتزوج، فماذا ترى؟ قال: كم المهر؟ قال مائة. قال: فلا تفعل. تزوج بعشرة وأبق تسعين. فإن وافقتك ربحت التسعين وإن لم توافقك تزوجت عشراً، فلا بد في عشرة نسوة من واحدة توافقك.
وقال رجل: أردت النكاح فقلت: لأستشيرن أول من يطلع علي، ثم أعمل برأيه، فكان أول من طلع هبنقة القيسي، وتحته قصبة، فقلت له: أريد النكاح فما تشير علي؟ قال البكر لك والثيب عليك، وذات الولد لا تقربها، واحذر جوادي لا ينفحك.
وعن الأصمعي قال: أخبرني رجل من بني العنبر عن رجل من أصحابه، وكان مقلا، فخطب إليه مكثر من مال، مقل من عقل، فشاور فيه رجلاً يقال له أبو يزيد. فقال: لا تفعل ولا تزوج إلا عاقلاً ديناً، فإنه إن لم يكرمها لم يظلمها. ثم شاور رجلاً آخر يقال له أبو العلاء، فقال له: زوجه فإن ماله لها وحمقه على نفسه. فزوجه فرأى منه ما يكره في نفسه وابنته، فقال:
ألهفي إذ عصيت أبا يزيد ... ولهفي إذ أطعت أبا العلاء
وكانت هفوةً من غير ريح ... وكانت زلفة من غير ماء
الفضل بن محمد الضبي قال: أخبرني مسعر بن كدم عن معبد بن خالد الجدلي قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد، وكان النساء يجلسن لخطابهن، قال: فجئت لأنظر إليها، وكان بيني وبينها رواق، فدعت بجفنة عظيمة من الثريد مكللة باللحم، فأتت على آخرها وألقت العظام نقية، ثم دعت بشنٍ عظيم مملوء لبنا، فشربته حتى أكفأته على وجهها، وقالت: يا جارية، ارفعي السجف، فإذا هي جالسة على جلد أسد وإذا امرأة جميلة، فقالت: يا عبد الله، أنا أسدة من بني أسد وعلي جلد أسد، وهذا طعامي وشرابي، فعلام ترى؟ فإن أحببت أن تتقدم فتقدم، وإن أحببت أن تتأخر فتأخر. فقلت: أستخير الله في أمري وانظر. قال: فخرجت ولم أعد.
قال: وحدثنا بعض أصحابنا أن جارية لأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد ذات ظرف وجمال مرت برجل من بني سعد، وكان شجاعاً فارساً، فلما رآها قال: طوبى لمن كانت له امرأة مثلك! ثم إنه أتبعها رسول يسألها: ألها زوج؟ ويذكره لها. فقالت للرسول: ما حرفته؟ فأبلغه الرسول قولها. فقال: ارجع إليها فقل لها:

وسائلة ما حرفتي قلت حرفتي ... مقارعة الأبطال في كل شارق
إذا عرضت لي الخيل يوماً رأيتني ... أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي
وأصبر نفسي حين لا حر صابرٌ ... على ألم البيض الرقاق البوارق
فأنشدها الرسول ما قال. فقالت له: ارجع إليه وقل له: أنت أسد فاطلب لنفسك لبؤة، فلست من نسائك، وأنشدت هذه الأبيات:
إلا إنما أبغي جواداً بماله ... كريماً محياه قليل الصدائق
فتى همه مذ كان خودٌ كريمة ... يعانقها بالليل فوق النمارق
ويشربها صرفاً كميتاً مدامة ... نداماه فيها كل خرق موافق
يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحكم عن الشافعي قال: تزوج رجل امرأة حديثة على امرأة له قديمة، فكانت جارية الحديثة تمر على باب القديمة فتقول:
وما تستوي الرجلان رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزان فشلت
ثم تعود فتقول:
وما يستوي الثوبان ثوبٌ به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديدٌ
فمرت جارية القديمة على الحديثة فأنشدت:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما القلب إلا للحبيب الأول
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل
وعن الشعبي قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: ما غلبني أحدٌ قط إلا غلام من بني الحارث بن كعب، وذلك أني خطبت امرأة من بني الحارث، وعندي شاب منهم، فأصغى إلي فقال: أيها الأمير، لا خير لك فيها. قلت. يا بن أخي، وما لها؟ قال: إني رأيت رجلاً يقبلها. قال: فبرئت منها. فبلغني أن الفتى تزوجها فأرسلت إليه فقلت: ألم تخبرني أنك رأيت رجلاً يقبلها؟ قال: نعم. رأيت أباها يقبلها.
أبو سعيد الشحام قال: صحبت ابن سيرين عشرين سنة، فقال لي يوماً: يا أبا سعيد، إن تزوجت فلا تتزوج امرأة تنظر في يدها ولكن تزوج امرأة تنظر في يدك.

صفات النساء وأخلاقهن
قال أبو عمرو بن العلاء: أعلم الناس بالنساء عبدة بن الطبيب حيث يقول:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... عليمٌ بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب
وهذه الأبيات لعلقمة بن عبدة المعروف بالفحل، وأول القصيدة:
طحا بك قلب في الحسان طروب
وعن رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وإني أخاف عليكم فتنة السراء، وهي النساء إذا تحلين بالذهب، ولبسن ريط الشام وعصب اليمن، فأتعبن الغني، وكلفن الفقير ما لا يطال.
وقال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتخذ جارية للمتعة فليتخذها بربرية، ومن أرادها للولد فليتخذها فارسية، ومن أرادها للخدمة فليتخذها رومية.
وعن أبي الحسن المدائني قال: قال يزيد بن عمر بن هبيرة: اشتروا لي جارية شقاء مقاء رسحاء، بعيدة ما بين المنكبين، ممسوحة الفخذين.
قوله: شقاء: يريد كأنها شقة جبل. مقاء: طويلة. رسحاء: صغيرة العجيزة؛ وإنما أراد للولد، ويقال: إن الأرسح أفرس من العظيم العجيزة.
وقال عمر بن هبيرة لرجل: ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح فتكون فارساً.
وقال الأصمعي، وذكر النساء: بنات العم أصبر، والغرائب أنجب، وما ضرب رؤوس الأبطال كابن الأعجمية.
أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس بن مصعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال: أتاني رجل من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجها، فقلت: يا بن أخي، أقصيرة النسب أم طويلته؟ فلم يفهم عني. فقلت: يا بن أخي، إني أعرف في العين إذا عرفت وأنكر فيها إذا أنكرت، وأعرف فيها إذا لم تعرف ولم تنكر. أما إذا عرفت فتتحاوص، أما إذا أنكرت فتجحظ، وأما إذا تعرف ولم تنكر فتسجو، وقد رأيت عينك ساجية، فالقصيرة النسب التي إذا ذكرت أباها اكتفت به، والطويلة النسب التي لا تعرف حتى تطيل في نسبتها، فإياك أن تقع في قوم قد أصابوا كثيرا من الدنيا مع دناءة فيهم فتضع نفسك بهم.

وعن العتبي قال: كان عند الوليد بن عبد الملك أربع عقائل: لبابة بنت عبد الله بن عباس، وفاطمة بنت يزيد بن معاوية، وزينب بنت سعيد بن العاص، وأم جحش بنت عبد الرحمن بن الحارث، فكن يجتمعن على مائدته ويفترقن فيفخرن. فاجتمعن يوماً، فقالت لبابة: أما والله إنك لتسويني بهن، وإنك تعرف فضلي عليهن. وقالت بنت سعيد: ما كنت أرى أن للفخر علي مجازا، وأنا ابنة ذي العمامة إذ لا عمامة غيرها. وقالت بنت عبد الرحمن بن الحارث: ما أحب بأبي بدلاً، ولو شئت لقلت فصدقت وصدقت. وكانت بنت يزيد بن معاوية جارية حديثة السن فلم تتكلم. فتكلم عنها الوليد، فقال: نطق من احتاج إلى نفسه وسكت من اكتفى بغيره. أما والله لو شاءت لقالت: أنا ابنة قادتكم في الجاهلية، وخلفائكم في الإسلام. فظهر الحديث حتى تحدث به في مجلس ابن عباس، فقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
الشيباني عن عوانة قال: ذكرت النساء عند الحجاج فقال: عندي أربع نسوة، هند بنت المهلب، وهند بنت أسماء بن خارجة، وأم الجلاس بنت عبد الرحمن بن أسيد، وأمة الله بنت عبد الرحمن بن جرير بن عبد الله البجلي. فأما ليلتي عند هند بنت المهلب فليلة فتى بين فتيان، يلعب ويلعبون. وأما ليلتي عند هند بنت أسماء، فليلة ملك بين الملوك، وأما ليلتي عند أم الجلاس فليلة أعرابي مع أعراب في حديثهم وأشعارهم. وأما ليلتي عند أمة الله بنت عبد الرحمن بن جرير، فليلة عالم بين العلماء والفقهاء.
وعن العتبي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان بالمدينة مخنث يدل على النساء يقال له أبو الحر، وكان منقطعاً إلي، فدلني على غير ما امرأة أتزوجها، فلم أرض عن واحدة منهن، فاستقصرته يوماً فقال: والله يا مولاي لأدلنك على امرأة لم تر مثلها قط، فإن لم ترها كما وصف فاحلق لحيتي. فدلني على امرأة، فتزوجها. فلما زفت إلي وجدتها أكثر مما وصف. فلما كان في السحر إذا إنسانا يدق الباب، فقلت: من هذا؟ قال: أبو الحر، وهذا الحجام معه. فقلت: قد وفر الله لحيتك أبا الحر، الأمر كما قلت.
ابن بكير بن مالك بن هشام بن عروة عن أبيه، أن مخنثا كان عند أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لعبد الله بن أبي أمية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: أبا عبد الله، إن فتح الله لكم الطائف غداً فأنا أدلك على بنت غيلان، إنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن عليكن هذا.
قوله: تقبل بأربع وتدبر بثمان، يريد: عكن البطن، فإنها إذا أقبلت أربع وإذا أدبرت ثمان.
وضرب البعث على رجل من أهل الكوفة فخرج إلى أذربيجان، فأفاد جارية وفرساً، وكان مملكا بابنة عمه، فكتب إليها ليغيرها:
ألا أبلغوا أم البنين بأننا ... غنينا وأغنتنا الغطارفة المرد
بعيد مناط المنكبين إذا جرى ... وبيضاء كالتمثال زينها العقد
فهذا لأيام العدو وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند
فلما ورد كتابه قرأته وقالت: يا غلام، هات الدواة. فكتبت إليه تجيبه:
ألا أقره منا السلام وقل له ... غنينا وأغنتنا غطارفة المرد
بحمد أمير المؤمنين أقرهم ... شباباً وأغزاكم خوالف في الجند
إذا شئت غناني غلامٌ مرجل ... ونازعته من ماء معتصر الورد
وإن شاء منهم ناشئٌ مد كفه ... إلى الكبد ملساء أو كفل نهد
فما كنتم تقضون من حاج أهلكم ... شهوداً قضيناها على النأي والبعد
فعجل علينا بالسراج فإنه ... منانا ولا ندعو لك الله بالرد
فلا قفل الجند الذي أنت فيهم ... وزادك رب الناس بعداً إلى بعد
فلما ورد كتابها لم يزد على أن ركب فرسه وأردف الجارية ولحق بها، فكان أول شيء بدأها به بعد السلام أن قال: بالله هل كنت فاعلة؟ قالت: الله أجل في قلبي وأعظم، وأنت في عيني أذل وأحقر من أن أعصى الله فيك، فكيف ذقت طعم الغيرة؟ فوهب لها الجارية وانصرف إلى بعثه.
وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: أي النساء أشهى إليك؟ قال: المواتية لك فيما تهوى. قال: فأيهن أبغض؟ قال: أبعدهن مما ترضى، قال: هذا النقد العاجل. فقال صعصعة: بالميزان العادل.

وقال صعصعة لمعاوية: يا أمير المؤمنين، كيف ننسبك إلى العقل وقد غلب عليك نصف إنسان. يريد غلبة امرأته فاخته بنت قرظة عليه؟ فقال معاوية: إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام.
وعن سفيان بن عيينة قال: شكا جرير بن عبد الله البجلي إلى عمر بن الخطاب ما يلقى من النساء، فقال: لا عليك، فإن التي عندي ربما خرجت من عندها فتقول: إنما تريد أن تتضع لفتيات بني عدي. فسمع كلامهما ابن مسعود، فقال: لا عليكما، فإن إبراهيم الخليل شكل إلى ربه رداءة في خلق سارة فأوحى الله إليه: أن ألبسها لباسها ما لم تر في دينها وصماً. فقال عمر: إن بين جوانحك لعلماً.
وكتب إلى الحجاج إلى أيوب بن القرية: أن اخطب على عبد الملك بن الحجاج امرأة، جميلة من بعيد، مليحة من قريب، شريفة في قومها، ذليلة في نفسها، مواتية لبعلها. فكتب إليه: قد أصبتها لولا عظم ثدييها. فكتب إليه: لا يكمل حسن المرأة حتى يعظم ثدياها، فتدفئ الضجيع، وتروي الرضيع.
وقال أبو العباس السفاح أمير المؤمنين لخالد بن صفوان: يا خالد، إن الناس قد أكثروا في النساء، فأيهن أعجب إليك؟ قال: أعجبهن يا أمير المؤمنين التي ليست بالضرع الصغيرة، ولا الفانية الكبيرة. وحسبك من جمالها أن تكون فخمةً من بعيد، مليحة من قريب، أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب، كانت في نعمة ثم أصابتها فاقة، فأترفها الغنى وأدبها الفقر.
ونظر خالد بن صفوان إلى جماعة في المسجد بالبصرة فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: على امرأة تدل على النساء فأتاها فقال لها: أبغني امرأة: قالت: صفها لي. قال: أريدها بكراً كثيب، أو ثيباً كبكر، حلوة من قريب، فخمة من بعيد. كانت في نعمة فأصابتها فاقة، فمعها أدب النعمة وذل الحاجة، فإذا اجتمعنا كنا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا أهل آخرة. قال: قد أصبتها لك قال: وأين هي؟ قال: في الرفيق الأعلى من الجنة فاعمل لها.
وسئل أعرابي عن النساء، وكان ذا تجربة وعلم بهن، فقال: أفضل النساء أطولهن إذا قامت، وأعظمهن إذا قعدت، وأصدقهن إذا قالت، التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت تبسمت، وإذا صنعت شيئاً جودت، التي تطيع زوجها، وتلزم بيتها، العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الودود الولود، وكل أمرها محمود.
وقال عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان: صف لي أحسن النساء، فقال، خذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمين، درماء الكعبين، مملوءة الساقين، جماء الركبتين، لفاء الفخذين، مقرمدة الرفغين، ناعمة الأليتين، منيفة المأكمتين بداء الوركين، مهضومة الخصرين، ملساء المتنين، مشرفة، فعمة العضدين، فخمة الذراعين، رخصة الكفين، ناهدة الثديين حمراء الخدين، كحلاء العينين، زجاء الحاجبين، لمياء الشفتين، بلجاء الجبين، شماء العرنين، شنباء الثغر، حالكة الشعر، غيداء العنق، عيناء العينين، مكسرة البطن، ناتئة الركب. فقال: ويحك! وأين توجد هذه؟ قال: تجدها في خالص العرب، أو في خالص الفرس.
وقال رجل لخاطب: أبغني امرأةً لا تؤنس جاراً، ولا توهن داراً، ولا تثقب ناراً. يريد لا تدخل على الجيران، ولا يدخل عليها الجيران، ولا تغري بينهم بالشر.
وفي نحو هذا يقول الشاعر:
من الأوانس مثل الشمس لم يرها ... في ساحة لا بعلٌ ولا جارٌ
وقال الأعشى:
لم تمش ميلاً ولم تركب على جمل ... ولا ترى الشمس إلا دونها الكلل
وقال آخر: أبغني امرأة بيضاء، مديدة فرعاء، جعدة، تقوم فلا يصيب قميصها منها إلا مشاشة منكبيها، وحلمتي ثدييها، ورانفتي أليتيها.
وقال الشاعر:
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وإن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبهن حاسدةً وهجن غيورا
ولآخر:
إذا انبطحت فوق الأثافي رفعنها ... بثديين في نحر عريض وكعثب
ونظر عمران بن حطان إلى امرأته. وكانت من أجمل النساء، وكان من أقبح الرجال، فقال: إني وإياك في الجنة إن شاء الله. قالت له: كيف ذاك؟ قال: إني أعطيت مثلك فشكرت، وأعطيت مثلي فصبرت.
ونظر أبو هريرة إلى عائشة بنت طلحة، فقال: سبحان الله! ما أحسن ما غذاك أهلك! والله ما رأيت وجهاً أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معاوية من أحسن الناس.

ونظر ابن أبي ذئب إلى عائشة بنت طلحة تطوف بالبيت، فقال لها: من أنت؟ فقالت:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبةً ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فقال لها: صان الله ذلك الوجه عن النار. فقيل له: أفتنتك يا عبد الله؟ قال: لا، ولكن الحسن مرحوم.
وقال يونس: أخبرني محمد بن إسحاق، قال: دخلت على عائشة بنت طلحة فوجدتها متكئة، ولو أن بختية نوخت خلفها ما ظهرت.
السري بن إسماعيل عن الشعبي، قال: إني لفي المسجد نصف النهار، إذ سمعت باب القصر يفتح، فإذا بمصعب بن الزبير ومعه جماعة. فقال: يا شعبي، اتبعني. فاتبعته. فأتى دار موسى بن طلحة، فدخل مقصورةً ثم دخل أخرى، ثم قال: يا شعبي، اتبعني، فاتبعته. فإذا امرأة جالسة، عليها من الحلى والجواهر ما لم أر مثله، وهي أحسن من الحلى الذي عليها. فقال: يا شعبي، هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر:
وما زلت في ليلى لدن طر شاربي ... إلى اليوم أخفي حبها وأداجن
وأحمل في ليلى لقوم ضغينةً ... وتحمل في ليلى علي الضغائن
هذه عائشة بنت طلحة. فقالت له: أما إذا جلوتني عليه فأحسن إليه. فقال: يا شعبي. رح العشية، فرحت. فقال: يا شعبي، ما ينبغي لمن جليت عليه عائشة بنت طلحة أن ينقص عن عشرة آلاف. فأمر لي بكسوة وقارورة غالية. فقيل للشعبي في ذلك اليوم: كيف الحال؟ قال: وكيف حال من صدر عن الأميرة ببدرة وكسوة، وقارورة غالية، ورؤية وجه عائشة بنت طلحة.
وكان عمرو بن حجر ملك كندة، وهو جد امرئ القيس، أراد أن يتزوج ابنة عوف من محلم الشيباني الذي يقال فيه: لا حر بوادي عوف؛ لإفراط عزه. وهي أم إياس، وكانت ذات جمال وكمال. فوجه إليها امرأة يقال لها عصام، - ذات عقل وبيان وأدب - لتنظر إليها، وتمتحن ما بلغه عنها. فدخلت على أمها أمامة بنت الحارث، فأعلمتها ما قدمت له. فأرسلت إلى ابنتها: أي بنية، هذه خالتك، أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك، فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك فيه. فدخلت عصام عليها، فنظرت إلى ما لم تر عينها مثله قط، بهجةً وحسناً وجمالاً. فإذا هي أكمل الناس عقلاً، وأفصحهم لساناً. فخرجت من عندها وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع. فذهبت مثلا. ثم أقبلت إلى الحارث، فقال لها: ما وراءك يا عصام؟ فأرسلها مثلاً. قالت: صرح المخض عن الزبدة. فذهبت مثلاً. قال: أخبريني، قالت: أخبرك صدقاً وحقاً، رأيت جبهةً كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك كأذناب الخيل المضفورة، إن أرسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاه الوابل، ومع ذلك حاجبان كأنهما خطا بقلم، أو سودا بحمم، قد تقوسا على مثل عين العبهرة التي لم يرعها قانص ولم يذعرها قسورة، بينهما أنف كحد السيف المصقول، لم يخنس به قصر، ولم يمعن به طول، حفت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان، شق فيه فم كالخاتم، لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غر، ذوات أشر، وأسنان تعد كالدر، وريق تنم إليك منه ريح الخمر، أم نشر الروض بالسحر، يتقلب فيه لسان ذو فصاحة وبيان، يقلبه عقل وافر، وجواب حاضر، يلتقي دونه شفتان حمراوان كالورد، يحلبان ريقاً كالشهد، تحت ذاك عنق كإبريق الفضة، ركب في صدر تمثال دمية، يتصل به عضدان ممتلئان لحماًًمكتنزان شحماً، وذراعان ليس فيهما عظم يحس، ولا عرق يحبس، ركبت فيهما كفان رقيق قصبهما لين عصبهما، تعقد إن شئت منها الأنامل، وتركب الفصوص في حفر المفاصل، وقد تربع في صدرها حقان كأنهما رمانتان. من تحت ذلك بطن طوي كطي القباطي المدمجة، كسي عكنا كالقراطيس المدرجة. تحيط تلك العكن بسرة كمدهن العاج المجلو، خلف ظهر كالجدول ينتهي إلى خصر لولا رحمة الله لانخزل، تحته كفل يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه دعص رمل، لبده سقوط الطل، يحمله فخذان لفاوان كأنهما نضيد الجمار، تحملهما ساقان خدلجتان كالبردى وشيا بشعر أسود، كأنه حلق الزرد، ويحمل ذلك قدمان كحد السنان تبارك الله في صغرهما كيف تطيقان حمل ما فوقهما، فأما سوى ذلك فتركت أن أصفه، غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر. قال: فأرسل إلى أبيها يخطبها. فكان من أمرهما ما تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب.

صفة المرأة السوء

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن " . يريد الجارية الحسناء في المنبت السوء.
وفي حكمة داود: المرأة السوء مثل شرك الصياد. لا ينجو منها إلا من رضي الله عنه.
الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قال عمر بن الخطاب النساء ثلاثة: هينة عفيفة مسلمة، تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاء للولد، وثالثة غل قمل يلقيه الله في عنق من يشاء من عباده.
وقيل لأعرابي عالم بالنساء: صف لنا شر النساء. قال: شرهن النحيفة الجسم، القليلة اللحم، الطويلة السقم، المحياض، الصفراء، المشؤومة العسراء، السليطة الذفراء، السريعة الوثبة، كأن لسانها حربة، تضحك من غير عجب، وتقول الكذب، وتدعو على زوجها بالحرب. أنف في السماء وآست في الماء.
وفي رواية محمد بن عبد السلام الخشني قال: إياك وكل امرأة مذكرة منكرة، حديدة العرقوب، بادية الظنبوب، منتفخة الوريد، كلاهما وعيد، وصوتها شديد؛ تدفن الحسنات، وتفشي السيئات؛ تعين الزمان على بعلها، ولا تعين بعلها على الزمان؛ ليس في قلبها له رأفة، ولا عليها منه مخافة إن دخل خرجت، وإن خرج دخلت، وإن ضحك بكت، وإن بكى ضحكت؛ وإن طلقها كان حريبته، وإن أمسكها كانت مصيبته، سعفاء ورهاء، كثيرة الدعاء، قليلة الإرعاء؛ تأكل لما، وتوسع ذما؛ صخوب غضوب، بذية دنية؛ ليس تطفأ نارها، ولا يهدأ إعصارها، ضيقة الباع، مهتوكة القناع؛ صبيها مهزول، وبيتها مزبول؛ إذا حدثت تشير بالأصابع، وتبكي في المجامع؛ باديةٌ من حجابها نباحة على بابها، تبكي وهي ظالمة، وتشهد وهي غائبة؛ قد ذل لسانها بالزور، وسال دمعها بالفجور.
نافرت امرأة فضالة زوجها إلى سلم بن قتيبة، وهو والي خراسان، فقالت: أبضغه والله لخلال فيه. قال: وما هي؟ قالت: هو والله قليل الغيرة، سريع الطيرة؛ شديد العتاب، كثير الحساب؛ قد أقبل بخره، وأدبر ذفره؛ وهجمت عيناه، واضطربت رجلاه؛ يفيق سريعاً، وينطق رجيعاً؛ يصبح جبسا، ويمسي رجسا، إن جاع جزع، وإن شبع جشع.
ومن صفة المرأة السوء يقال: امرأة سمعنة نظرنة. وهي التي إذا تسمعت أو تبصرت فلم تر شيئاً تظننت تظنناً.
قال أعرابي:
إن لنا لكنه ... سمعنه نظرنه
مفنة معنة ... كالذئب وسط العنه
إلا تره تظنه
وقال يزيد بنعمر بن هبيرة: لا تنكحن برشاء ولا عمشاء، ولا وقصاء، ولا لثغاء، فتجيئك بولد ألثغ. فوالله لولد أعمى أحب إلي من ولد ألثغ.
وقالوا: آخر عمر الرجل خير من أوله، يثوب حلمه، وتثقل حصاته، وتخمد شرارته، وتكمل تجارته. وآخر عمر المرأة شر من أوله، يذهب جمالها، ويذوب لسانها، ويعقم رحمها، ويسوء خلقها.
وعن جعفر بن محمد عليهما السلام: إذا قال لك أحد: تزوجت نصفا، فاعلم أن شر النصفين ما بقي في يده وأنشد:
وإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا
وقال الحطيئة في امرأته:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
وقال في أمه:
تنحي فاجلسي مني بعيداً ... أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانونا على المتحدثينا
حياتك ما علمت حياة سوء ... وموتك قد يسر الصالحينا
وقال زيد بن عمير في أمته:
أعاتبها حتى إذا قلت أقلعت ... أبى الله إلا خزيها فتعود
فإن طمثت قادت وإن طهرت زنت ... فهي أبداً يزنى بها وتقود
ويقال إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها، فعلامة ذلك أن تكون عند قربه منها مرتدة الطرف عنه، كأنها تنظر إلى إنسان غيره؛ وإذا كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه.
وقال آخر يصف امرأة لثغاء:
أول ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر
والسوأة السوآء في ذكر القمر
ولآخر في زوجته:
لقد كنت محتاجاً إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السوء باق معمر
فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلاً ... وعذبها فيه نكير ومنكر

وكان روح بن زنباع أثيراً عند عبد الملك، فقال له يوماً: أرأيت امرأتي العبسية؟ قال: نعم قال: فيم شبهتها؟ قال بمشجب بال، وقد أسيئت صنعته. قال: صدقت. وما وضعت يدي عليها قط إلا كأني أضعها على الشكاعي، وأنا أحب أن تقول ذلك لابنيها الوليد وسليمان. فقام إليه فزعاً، فقبل يده ورجله، وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تعرضني لهما. قال: ما من ذلك بد، وبعث من يدعوهما. فاعتزل روح، وجلس ناحيةً من البيت كأنه حلس، وجاء الوليد وسليمان فقال لهما: أتدريان لم بعثت إليكما؟ إنما بعثت لتعرفا لهذا الشيخ حقه وحرمته. ثم سكت.
أبو الحسن المدائني: كان عند روح بن زنباع هند بنت النعمان بن بشير، وكان شديد الغيرة، فأشرفت يوماً تنظر إلى وفد من جذام، كانوا عنده، فزجرها. فقالت: والله لأبغض الحلال من جذام، فكيف تخافني على الحرام فيهم. وقالت له يوماً: عجباً منك كيف يسودك قومك؟ وفيك ثلاث خلال: أنت من جذام، وأنت جبان، وأنت غيور؟ فقال لها: أما جذام فإني في أرومتها، وحسب الرجل أن يكون في أرومة قومه. وأما الجبن فإنما لي نفس واحدة، فأنا أحوطها، فلو كانت لي نفس أخرى جدت بها. وأما الغيرة فأمر لا أريد أن أشارك فيه، وحقيق بالغيرة من كانت عنده حمقاء مثلك مخافة أن تأتيه بولد من غيره فتقذف به في حجره. فقالت:
وهل هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بعل
فإن أنجبت مهرا عريقاً فبالحري ... وإن يك إقراف فما أنجب الفحل
وعن الأصمعي قال: قال أبو موسى: جاءت امرأة إلى رجل تدله على امرأة يتزوجها فقال:
أقول لها لما أتتني تدلني ... على امرأة موصوفة بجمال
أصبت لها والله زوجاً كما اشتهت ... إن احتملت منه ثلاث خصال
فمنهن عجز لا ينادي وليده ... ورقة إسلام وقلة مال

صفة الحسن
عن أبي الحسن المدائني قال: الحسن أحمر، وقد تضرب فيه الصفرة مع طول المكث في الكن، والتضمخ بالطيب، كما تضرب في بيضة الأدحى واللؤلؤة المكنونة. وقد شبه الله عز وجل بها في كتابه فقال: " كأنهن بيض مكنون " ، وقال: " كأنهم لؤلؤ مكنون " . وقال الشاعر:
كأن بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهن قيظ ليله ومد
وقال آخر:
مروزي الأديم تغمره الصف ... رة حيناً لا يستحق اصفرارا
وجرى من دم الطبيعة فيه ... لون ورد كسا البياض احمرارا
وقالت امرأة خالد بن صفوان له: لقد أصبحت جميلاً. فقال لها: وما رأيت من جمالي! وما في في رداء الحسن ولا عموده ولا برنسه؟ قالت: وكيف ذلك؟ قال: عمود الحسن الشطاط، ورداؤه البياض، وبرنسه سواد الشعر.
وقالوا: إن الوجه الرقيق البشرة الصافي الأديم إذا خجل يحمر. وإذا فرق يصفر. ومنه قولهم: ديباج الوجه. يريدون تلونه، من رقته.
وقال عدي بن زيد يصف لون الوجه:
حمرة خلط صفرة في بياضٍ ... مثل ما حاكٌ حائك ديباجاً
وقالوا: إن الجارية الحسناء تتلون بلون الشمس، فهي بالضحى بيضاء، وبالعشي صفراء. وقال الشاعر:
بيضاء ضحوتها وصفراء العشية كالعراره
وقال ذو الرمة:
بيضاء صفراء قد تنازعها ... لونان من فضة ومن ذهب
ومن قولنا في هذا المعنى:
بيضاء يحمر خداها إذا خجلت ... كما جرى ذهب في صفحتي ورق
ومن قولنا أيضاً:
يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقاً ... ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... دراً يعود من الحياء عقيقا
ومن قولنا:
عطابيل كالآرام أما وجوهها ... فدر ولكن الخدود عقيق
قولهم في الجارية
جميلة من بعيد، مليحة من قريب. فالجميلة التي تأخذ بصرك جملة على بعد، فإذا دنت لم تكن كذلك. والمليحة التي كلما كررت فيها بصرك زادتك حسنا.
وقال بعضهم: السمينة الجميلة، من الجميل، وهو الشحم. والمليحة أيضاً من الملحة، وهو البياض. والصبيحة مثل ذلك، يشبهونها بالصبح في بياضه.
المنجبات من النساء
قالوا: أنجب النساء الفروك. وذلك أن الرجل يغلبها على الشبق لزهذها في الرجل.
أبو حاتم عن الأصمعي قال: النجيبة التي تنزع بالولد إلى أكرم العرقين.

وقال عمر بن الخطاب: يا بني السائب، إنكم قد أضويتم فانكحوا في النزائع.
وقالت العرب: بنات العم أصبر، والغرائب أنجب.
والعرب تقول: اغتربوا لا تضووا. أي انكحوا في الغرائب، فإن القرائب يضوين البنين.
وقالوا: إذا أرادت أن يصلب ولد المرأة فأغضبها ثم قع عليها، وكذلك الفزعة. وقال الشاعر:
ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل
حملت به في ليلة مزؤودةٍ ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
قالت أم تأبط شراً: والله ما حملته تضعا ولا وضعا، ولا وضعته يتنا ولا أرضعته غيلا، ولا أنمته مئقا. حملته وضعا وتضعاً وهي أن تحمله في مقبل الحيض. ووضعته يتناً، وضعته منكساً تخرج رجلاه قبل رأسه وأرضعته غيلاً، أرضعته لبنا فاسدا وذلك أن ترضعه وهي حامل، وأنمته مئقا، أي مغضبا مغتاظا.
ومن أمثال العرب قولهم: أنا مئق وأنت تئق فلا نتفق. المئق: المغضب المغتاظ. والتئق: الذي ر يحتمل شيئا.

من أخبار النساء
لما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية، زوجة المختار ابن أبي عبيد، أنكر الناس ذلك عليه وأعظموه، لأنه أتى بما نهى رسول الله ( عنه في نساء المشركين، فقال عمر بن أبي ربيعة:
إن من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول
قتلت باطلاً على غير ذنب ... إن الله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
ولما خرجت الخوارج بالأهواز، أخذوا امرأة فهموا بقتلها، فقالت لهم: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ فأمسكوا عنها.
باب الطلاق
محمد بن الفار قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أخي الأصمعي قال: سمعت عمي يقول: توصلت بالملح وأدركت بالغريب.
وقال عمي للرشيد، في بعض حديثه: بلغني يا أمير المؤمنين أن رجلا من العرب طلق في يوم خمس نسوة. قال: إنما يجوز ملك الرجل على أربع نسوة، فكيف طلق خمسا؟ قال: كان لرجل أربع نسوة فدخل عليهن يوما فوجدهن متلاحيات متنازعات، وكان شنظيرا. فقال: إلى متى هذا التنازع؟ ما إخال هذا الأمر إلا من قبلك، يقول ذلك لامرأة منهن، اذهبي فأنت طالق. فقالت له صاحبتها: عجلت عليها الطلاق، ولو أدبتها بغير ذلك لكنت حقيقا. فقال لها: وأنت أيضا طالق. فقالت الثالثة: قبحك الله، فوالله لقد كانتا إليك محسنتين، وعليك مفضلتين. فقال: وأنت أيتها المعددة أياديهما طالق أيضا. فقالت له الرابعة، وكانت هلالية وفيها أناة شديدة: ضاق صدرك عن أن تؤدب نساءك إلا بالطلاق. فقال لها: وأنت طالق أيضا. وكان ذلك بمسمع جارة له، فأشرفت عليه وقد سمعت كلامه، فقالت: والله ما شهدت العرب عليك وعلى قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم، أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة. قال: وأنت أيضا أيتها المؤنبة المتكلفة طالق إن أجاز زوجك. فأجابه من داخل بيته: هيه، قد أجزت، قد أجزت.
ودخل المغيرة بن شعبة على زوجته فارعة الثقفية، وهي تتخلل، حين انفتلت من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام اليوم إنك لجشعة، وإن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لبشعة، كنت فبنت. فقالت: والله ما اغتبطنا إذا كنا ولا أسفنا إذ بنا، وما هو لشيء مما ذكرت، ولكني استكت فتخللت للسواك. فخرج المغيرة نادما على ما كان منه. فلقيه يوسف بن أبي عقيل، فقال له: إني نزلت الآن عن سيدة نساء ثقيف، فتزوجها فإنها ستنجب فتزوجها. فولدت له الحجاج.
وقال الحسن بن علي بن الحسن لامرأته عائشة بنت طلحة: أمرك بيدك. فقالت: قد كان عشرين سنة بيدك فأحسنت حفظه، فلن أضيعه إذ صار بيدي ساعة واحدة، وقد صرفته إليك. فأعجبه ذلك منها وأمسكها.
وقال أبو عبيدة: طلق رجل امرأته وقال في ذلك:
لقد طلقت أخت بني غلاب ... طلاقاً ما أظن له ارتدادا
ولم أك كالمعدل أو أويس ... إذا ما طلقا ندما فعادا
قال أبو عبيدة: وطلاق المعدل وأويس يضرب به المثل.
ونكح رجل امرأة من العرب، فلما اهتداها رأت ريع داره أحسن ريع، وشمل عياله أجمع شمل، فقالت: أما والله لئن بقيت لهم لأشتتن أمرهم، وقالت في ذلك:
أرى ناراً سأجعلها إرينا ... وأترك أهلها شتى عزينا

فلما انتهى ذلك إلى زوجها طلقها، وقال في ذلك:
ألا قالت هدي بني عدي ... أرى ناراً سأجعلها إرينا
فبيني قبل أن تلحي عصانا ... ويصبح أهلنا شتى عزينا
وقيل لابن عباس: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ فقال: يكفيه من ذلك عدد كوكب الجوزاء.
وقيل لأعرابي: هل لك في النكاح؟ قال: لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها.
وعن الزهري قال: قال أبو الدرداء لامرأته: إذا رأيتني غضبت ترضيني، وإن رأيتك غضبت ترضيتك، وإلا لم نصطحب. قال الزهري: وهكذا يكون الإخوان.
قال الأصمعي: كنت أختلف إلى أعرابي أقتبس منه الغريب، فكنت إذا استأذنت عليه يقول: يا أمامة، ائذني له. فتقول: ادخل. فاستأذنت عليه مراراً، فلم أسمعه يذكر أمامة، فقلت: يرحمك الله، ما أسمعك تذكر أمامة؟ قال: فوجم وجمة. فندمت على ما كان مني، ثم أنشأ يقول:
ظعنت أمامة بالطلاق ... ونجوت من غل الوثاق
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي
ودواء ما لا تشتهيه ... النفس تعجيل الفراق
والعيش ليس يطيب من ... إلفين من غير اتفاق
وعن الشيباني قال: طلق أبو موسى امرأته وقال فيها:
تجهزي للطلاق وارتحلي ... فذا دواء المجانب الشرس
ما أنت بالحنة الولود ولا ... عندك نفعٌ يرجى لملتمس
لليلتي حين بنت طالقةً ... ألذ عندي من ليلة العرس
بت لديها بشر منزلة ... لا أنا في لذة ولا أنس
تلك على الخسف لا نظير لها ... وإنني ما يسوغ لي نفسي
أقبل منظور بن زبان بن سيار الفزاري إلى الزبير فقال: إنما زوجناك ولم نزوج عبد الله. قال: مالك؟ قال: إنها تشكوه. قال: يا عبد الله طلقها. قال عبد الله: هي طالق. قال منظور: أنا ابن قهدم. قال الزبير: أنا ابن صفية. أتريد أن يطلق المنذر أختها؟ قال: لا، تلك راضية بموضعها.
وتزوج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان خديجة بنت عروة بن الزبير، فذكر لها جماله، وكان يقال له المذهب من حسنه، وكان رجلاً مطلاقاً. فقالت: محمد هو الدنيا لا يدوم نعيمها. فلما طلقها خطبها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي فكتب إليها:
أعيذك بالرحمن من عيش شقوةٍ ... وأن تطعمي يوماً إلى غير مطمع
إذا ما ابن مظعون تحدر وسقه ... عليك فبوئي بعد ذلك أو دعي
فردته ولم تتزوجه.
وعن العتبي عن أبيه قال: أمهر الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر تسعين ألف دينار، فبلغ ذلك خالد بن يزيد بن معاوية، فأمهل عبد الملك، حتى إذا أطبق الليل دق عليه الباب، فأذن له عبد الملك. فدخل عليه. فقال له: ما هذا الطروق أبا يزيد؟ قال: أمرٌ والله لم ينتظر له الصبح، هل علمت أن أحدا كان بينه وبين من عادى ما كان بين آل أبي سفيان وآل الزبير بن العوام؟ فإني تزوجت إليهم، فما في الأرض قبيلة من قريش أحب إليهم منهم، فكيف تركت الحجاج وهو سهم من سهامك يتزوج إلى بني هاشم؟ وقد علمت ما يقال فيهم في آخر الزمان. قال: وصلتك رحم. وكتب إلى الحجاج يأمره بطلاقها ولا يراجعه في ذلك. فطلقها. فأتاه الناس يعزونه، وفيهم عمرو بن عتبة. فجعل الحجاج يقع بخالد وينتقصه، ويقول: إنه صير الأمر إلى من هو أولى به منه، وإنه لم يكن لذلك أهلاً. فقال له عمرو بن عتبة: إن خالداً أدرك من قبله، وأتعب من بعده، وعلم علماً فسلم الأمر أهله، ولو طلب بقديم لم يغلب عليه، أو بحديث لم يسبق إليه. فلما سمعه الحجاج استحى، فقال: يا بن عتبة، إنا نسترضيكم بأن نعتب عليكم، ونستعطفكم بأن ننال منكم، وقد غلبتم على الحلم فوثقنا لكم به، وعلمنا أنكم تحبون أن تحلموا فتعرضنا للذي تحبون.

من طلق امرأته ثم تبعتها نفسه
الهيثم بن عدي قال: كانت تحت العربان بن الهيثم بن الأسود بنت عم له، فطلقها، فتبعتها نفسه، فكتب إليها يعرض لها بالرجوع فكتبت إليه:
إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بدلاً ... إن الغزال الذي ضيعت مشغول
فكتب إليها:
من كان ذا شغل فالله يكلؤه ... وقد لهونا به والحبل موصول
وقد قضينا من استطرافه طرفا ... وفي الليالي وفي أيامها طول

وطلق الوليد بن يزيد امرأته سعدى. فلما تزوجت اشتد ذلك عليه وندم على ما كان منه. فدخل عليه أشعب، فقال له: أبلغ سعدى عني رسالةً، ولك مني خمسة آلاف درهم. فقال: عجلها. فأمر له بها. فلما قبضها قال: هات رسالتك، فأنشدها:
أسعدى ما إليك لنا سبيلٌ ... ولا حتى القيامة من تلاق
بلى، ولعل دهراً أن يواتي ... بموت من خليلك أو فراق
فأتاها فاستأذن فدخل عليها. فقالت له: ما بدا لك من زيارتنا يا أشعب؟ فقال: يا سيدتي. أرسلني إليك الوليد برسالة، وأنشدها الشعر. فقالت لجواريها: خذن هذا الخبيث. فقال: يا سيدتي، إنه جعل لي خمسة آلاف درهم. قالت: والله لأعاقبنك أو لتبلغن إليه ما أقول لك. قال: سيدتي اجعلي لي شيئاً. قالت لك بساطي هذا. قال: قومي عنه. فقامت عنه وألقاه على ظهره. وقال: هاتي رسالتك، فقالت: أنشده:
أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع
فلما بلغه وأنشده الشعر سقط في يده، وأخذته كظمة ثم سرى عنه، فقال: اختر واحدة ًمن ثلاث: إما أن نقتلك، وإما أن نطرحك من هذا القصر، وإما أن نلقيك إلى هذه السباع. فتحير أشعب وأطرق حيناً، ثم رفع رأسه فقال: يا سيدي، ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى. فتبسم وخلى سبيله.
وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أمره أبوه بطلاقها ثم دخل عليه فسمعه يتمثل:
فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء تطلق
وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه: الفرزدق الشاعر. طلق النوار ثم ندم في طلاقها وقال:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقةً نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... بأمرٍ ليس لي فيه خيار
وكانت النوار بنت عبد الله قد خطبها رجل رضيته، وكان وليها غائباً، وكان الفرزدق وليها إلا أنه كان أبعد من الغائب، فجعلت أمرها إلى الفرزدق، وأشهدت له بالتفويض إليه. فلما توثق منها بالشهود أشهدهم أنه قد زوجها من نفسه، فأبت منه ونافرته إلى عبد الله بن الزبير، وهي بنت منظور بن زبان. فكان كلما أصلح حمزة من شأن الفرزدق نهاراً أفسدته المرأة ليلاً، حتى غلبت المرأة وقضى ابن الزبير على الفرزدق. فقال:
أما البنون فلم تقبل شفاعتهم ... وشفعت بنت منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
وقال الفرزدق في مجلس ابن الزبير:
وما خاصم الأقوام من ذي خصومة ... كورهاء مشنوءٍ إليها خليلها
فدونكها يا بن الزبير فإنها ... ملعنة يوهي الحجارة قيلها
فقال ابن الزبير: إن هذا شاعر وسيهجوني، فإن شئت ضربت عنقه، وإن كرهت ذلك فاختاري نكاحه وقري. فقرت واختارت نكاحه، ومكثت عنده زماناً ثم طلقها وندم في طلاقها.
وعن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عن أبي مخزوم عن راوية الفرزدق قال: قال لي الفرزدق يوماً: امض بنا إلى حلقة الحسن، فإني أريد أن أطلق النوار. فقلت له: إني أخاف أن تتبعها نفسك، ويشهد عليك الحسن وأصحابه. قال: انهض بنا. فجئنا حتى وقفنا على الحسن،، فقال: كيف أصبحت أبا سعيد؟ قال: بخير، كيف أصبحت يا أبا فراس؟ فقال: تعلمن أني طلقت النوار ثلاثاً. قال الحسن وأصحابه: قد سمعنا. فانطلقنا، فقال لي الفرزدق: يا هذا، إن في نفسي من النوار شيئاً. فقلت قد حذرتك، فقال:
ندمت ندامة الكسعى لما ... غدت مني مطلقةً نوار
و كانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت بها يميني ... لكان علي للقدر الخيار
وممن طلق امرأته وتبعتها نفسه قيس بن ذريح. وكان أبوه أمره بطلاقها فطلقها وندم، فقال في ذلك:
فوا كبدي على تسريح لبنى ... فكان فراق لبنى كالخداع
تكنفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمر وليس بمستطاع
كمغبون يعض على يديه ... تبين غبنه بعد البياع

وطلق رجل امرأته فقالت: أبعد صحبة خمسين سنة؟ فقال: ما لك عندنا ذنب غيره.
العتبي قال: جاء رجل بامرأة كأنها برج فضة إلى عبد الرحمن بن أم الحكم، وهو على الكوفة، فقال: إن امرأتي هذه شجتني. فقال لها: أنت فعلت به؟ قالت: نعم، غير متعمدة لذلك كنت أعالج طيباً، فوقع الفهر من يدي على رأسه، وليس عندي عقل، و لا تقوى يدي على القصاص. فقال عبد الرحمن للرجل: يا هذا، علام تحبسها وقد فعلت بك ما أرى؟ قال: أصدقتها أربعة آلاف درهم، ولا تطيب نفسي بفراقها. قال: فإن أعطيتها لك أتفارقها؟ قال: نعم. قال: فهي لك. قال: هي طالق إذا، فقال عبد الرحمن: احبسي علينا نفسك، ثم أنشأ يقول:
يا شيخ ويحك من دلاك بالغزل ... قد كنت يا شيخ عن هذا بمعتزل
رضت الصعاب فلم تحسن رياضتها ... فاعمد بنفسك نحو الجلة الذلل

مكر النساء وغدرهن
في حكمة داود عليه السلام. وجدت من الرجال واحداً في ألف، ولم أجد واحدة في النساء جميعا.
قال الهيثم بن عدي: غزا ابن هبولة الغساني الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي فلم يصبه في منزله، فأخذ ما وجد له وآستاق امرأته. فلما أصابها أعجبت به، فقالت له: انج، فوالله لكأني أنظر إليه يتبعك، فاغراً فاه كأنه بعير أكل مرار.
وبلغ الحارث، فأقبل يتبعه حتى لحقه، فقتله وأخذ ما كان معه وأخذ امرأته، فقال له: هل أصابك؟ قالت:نعم والله ما اشتملت النساء على مثله قط. فأمر بها فأوثقت بين فرسين، ثم استحضرهما حتى تقطعت. ثم قال:
كل أنثى وأن بدا لك منها ... آية الود حبها خيتعور
إن من غره النساء بود ... بعد هند لجاهلٌ مغرور
وقالت الحكماء: لا تثق بامرأة، ولا تغتر بمال وإن كثر. وقالوا: النساء حبائل الشيطان. وقال الشاعر:
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن ... جزوعاً إذا بانت فسوف تبين
وخنها وإن كانت تفي لك إنها ... على مدد الأيام سوف تخون
وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لآخر من طلابها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
وإن أسلبت يوم الفراق دموعها ... فليس لعمر الله ذاك يقين
وقالت الحكماء: لم تنه امرأة قط عن شيء إلا فعلته. وقال طفيل الغنوي:
إن النساء متى ينهين عن خلق ... فإنه واقعٌ لا بد مفعول
وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: أرسل عبد الله بن همام السلولي شاباً إلى امرأة ليخطبها عليه، فقالت له: فيما يمنعك أنت؟ فقال لها: ولي طمع فيك؟ قالت: ما عنك رغبة. فتزوجها ثم انصرف إلى ابن همام، فقال له: ما صنعت؟ فقال: والله ما تزوجتني إلا بعد شرط. فقال أو لهذا بعثتك؟ فقال ابن همام في ذلك:
رأت غلاماً علا شرب الطلاء به ... يعيا بإرقاص بردي الخلاخيل
مبطناً بدخيس اللحم تحسبه ... مما يصور في تلك التماثيل
أكفى من الكفء في عقد النكاح وما ... يعيا به حل هميان السراويل
تركتها والأيامى غير واحدة ... فاحبسه عن بيها يا حابس الفيل
وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: كان النساء يجلسن لخطابهن، فكانت امرأة من بني سلول تخطب، وكان عبد بن عاصم السلولي يخطبها، فإذا دخل عليها بقول له: فداك أبي وأمي، وتقبل عليه تحدثه، وكان شاب من بني سلول يخطبها. فإذا دخل عليها الشاب وعندها عبد الله بن هند قالت للشاب: قم إلى النار، وأقبلت بوجهها وحديثها على عبد الله، ثم إن الشاب تزوجها، فلما بلغ ذلك عبد الله بن هند قال:
أودى بحب سليمى فاتكٌ لقن ... كحية برزت من بين أحجار
إذا رأتني تفديني وتجعله ... في النار يا ليتني المجعول في النار
وله فيها:
ما تظن سليمى إن ألم بها ... مرجل الرأس ذو بردين مزاح
حلوٌ فكاهته خزٌ عمامته ... في كفه من رقى الشيطان مفتاح
السراري

تسرر الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هاجر، فولدت له إسماعيل عليه السلام. وتسرر النبي عليه الصلاة والسلام مارية القبطية، فولدت له إبراهيم. ولما صارت إليه صفية بنت حيي كان أزواجه يعيرنها باليهودية، فشكت ذلك إليه. فقال لها: أما إنك لو شئت لقلت فصدقت وصدقت: أبي إسحاق، وجدي إبراهيم، وعمي إسماعيل، وأخي يوسف.
ودخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك، فقال له: بلغني أنك تحدث نفسك بالخلافة، ولا تصلح بها، لأنك بن أمة، فقال به: أما قولك إني أحدث نفسي بالخلافة فلا يعلم الغيب إلا الله، وأما قولك إني ابن أمة، فإسماعيل ابن أمة، أخرج الله من صلبه خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، إسحاق ابن حرة أخرج الله من صلبه القردة والخنازير.
قال الأصمعي: وكان أكثر أهل المدينة يكرهون الإماء، حتى نشأ منهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة فقهاً وعلماً وورعاً. فرغب الناس في السراري.
وتزوج علي بن الحسين جارية له وأعتقها، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يؤنبه. فكتب إليه علي: إن الله رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم به النقيصة، وأكرم به من اللؤم، فلا عار على مسلم. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تزوج أمته وامرأة عبده. فقال عبد الملك: إن علي بن الحسين يشرف من حيث يتضع الناس.
وقال الشاعر:
لا تشتمن امرأ من أن تكون له ... أم من الروم، أو سوداء عجماء
فإنا أمهات القوم أوعيةٌ ... مستودعات وللأحساب آباء
وقال بعضهم: عجبت لمن لبس القصير كيف يلبس الطويل؟ ولمن أحفى شعره كيف أعفاه؟ وعجباً لمن عرف الإماء، كيف يقدم على الحرائر؟ وقالوا: الأمة تشترى بالعين وترد بالعيب، والحرة غل في عنق من صارت إليه.

الهجناء
العرب تسمي العجمي إذا أسلم: المفرج، وهو المسلماني. ومنه يقال: مسالمة السواد. والهجين، عندهم؛ الذي أبوه عربي وأمه أعجمية. والمذرع: الذي أمه عربية وأبوه أعجمي. وقال الفرزدق:
إذا باهلي أنجبت حنظليةٌ ... له ولداً منها فذاك المذرع
والعجمي: النصراني ونحوه، وإن كان فصيحاً. والأعجمي: الأخرس اللسان، وإن كان مسلماً. ومنه قيل: زياد الأعجم، وكان في لسانه لكنة. والفرس تسمى الهجين: واشن، والعبد: واش ونجاش. ومن تزوج أمة: نغاش، وهو الذي يكون العهد دونه، وسمي أيضاً: بوركان والعرب تسمي العبد الذي لا يخدم إلا ما دامت عليه عين مولاه: عبد العين. وكانت العرب في الجاهلية لا تورث الهجين.
وكانت الفرس تطرح الهجين ولا تعده، ولو وجدوا أمًا أمةً على رأس ثلاثين أمًّا ما أفلح عندهم، ولا كان آزاد مرد، ولو كان بيده مزاد. والآزاد عندهم: الحر، والمرد: الريحان.
وقال ابن الزبير لعبد الرحمن بن أم الحكم:
تبلغت لما أن أتيت بلادهم ... وفي أرضنا أنت الهمام القلمس
ألست ببغل أمه عربيةٌ ... أبوه حمار أدبر الظهر ينخس
وشبه المذرع بالبغل، إذا قيل له: من أبوك قال: أمي الفرس.
مما احتجت به الهجناء
أن النبي صلى الله عليه وسلم، زوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب من المقداد بن الأسود وزوج خالدة بنت أبي لهب من عثمان بن أبي العاص الثقفي. وبذلك احتج عبد الله بن جعفر، إذ زوج ابنته زينب من الحجاج بن يوسف. فعيره الوليد بن عبد الملك، فقال عبد الله بن جعفر: سيف أبيك زوجه. والله ما فديت بها إلا خيط رقبتي.
وأخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد زوج ضباعة من المقداد، وخالدة من عثمان بن أبي العاص، ففيه قدوة وأسوة.
وزوج أبو سفيان ابنته أم الحكم بالطائف في ثقيف: وقال لهذم الكاتب في عبد الله بن الأهتم، وسأله فحرمه:
وما بنو الأهتم إلا كالرخم ... لا شيء إلا أنهم لحم ودم
جاءت به حذلم ومن أرض العجم ... أهتم سلاح على ظهر القدم
مقابل في اللؤم من خال وعم وكانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء. وقالوا: لا تصلح لهم العرب.
زياد بن يحيى قال: حدثنا جبلة بن عبد الملك قال: سابق عبد الملك بين سليمان ومسلمة، فسبق سليمان مسلمة، فقال عبد الملك:
ألم أنهكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرهان فتدرك

وما يستوي المرآن، هذا ابن حرة ... وهذا ابن أخرى ظهرها متشرك
وتضعف عضده ويقصر سوطه ... وتقصر رجلاه فلا يتحرك
وأدركنه خالاته فنزعنه ... ألا إن عرق السوء لا بد يدرك
ثم أقبل عبد الملك على مصقلة بن هبيرة الشيباني فقال: أتدري من يقول هذا؟ قال: لا أدري. قال: يقوله أخوك الشني. قال مسلمة: يا أمير المؤمنين. ما هكذا قال حاتم الطائي. قال عبد الملك: وماذا قال حاتم؟ فقال مسلمة: قال حاتم:
وما أنكحونا طائعين بناتهم ... ولكن خطبناهم بأسيافنا قسرا
فما زادها فينا السباء مذلةً ... ولا كلفت خبزاً ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بخير نسائنا ... فجاءت بهم بيضاً وجوههم زهرا
وكائن ترى فينا من ابن سبية ... إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا
ويأخذ رايات الطعان بكفه ... فيوردها بيضا ويصدرها حمرا
أغر إذا غبر اللئام رأيته ... إذا سرى ليل الدجى قمراً بدراً
فقال عبد الملك كالمستحي:
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا
قال الأصمعي: كانت بنو أمية لا تبايع لبني أمهات الأولاد، فكان الناس يرون أن ذلك لاستهانة بهم، ولم يكن لذلك، ولكن لما كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد ابن أم ولد، فلما ولى الناقص ظن الناس أنه الذي يذهب ملك بني أمية على يديه، وكانت أمه بنت يزدجرد بن كسرى، فلم يلبث إلا سبعة أشهر حتى مات، ووثب مكانه مروان بن محمد، وأمه كردية، فكانت الرواية عليه. ولم يكن لعبد الملك بن مروان ابن أسد رأياً، ولا أذكى عقلاً، ولا أشجع قلباً، ولا أسمح نفساً، ولا أسخى كفاً من مسلمة، وإنما تركوه لهذا المعنى.
وكان يحيى بن أبي حفصة، أخو مروان بن أبي حفصة يهودياً، أسلم على يد عثمان بن عفان فكثر ماله، فتزوج خولة بنت مقاتل بن قيس بن عاصم ونقدها خمسين ألفاً. وفيه يقول القلاخ:
رأيت مقاتل الطلبات ... حلى نحور بناته كمر الموالي
فلا تفخر بقيس إن قيساً ... خريتم فوق أعظمه البوالي
وله فيه:
نبتت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر
أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك مما رجوت الترب والحجر
لله در جياد أنت سائسها ... برذنتها وبها التحجيل والغرر
فقال مقاتل يرد عليها:
وما تركت خمسون ألفاً لقائل ... عليك فلا تحفل مقالة لائم
فإن قلتم زوجت مولىً، فقد مضت ... به سنة قبلي، وحب الدراهم
ويقال إن غيره قال ذلك.

باب في الأدعياء
أول دعي كان في الإسلام واشتهر: زياد بن عبيد، دعي معاوية. وكان من قصته أنه وجهه بعض عمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العراق إلى عمر بفتح كان. فلما قدم وأخبر عمر بالفتح في أحسن بيان وأفصح لسان، قال له عمر: أتقدر على مثل هذا الكلام في جماعة الناس على المنبر؟ قال: نعم، وعلى أحسن منه، وأنا لك أهيب. فأمر عمر بالصلاة جامعةٌ، فاجتمع الناس. ثم قال لزياد: قم فاخطب، وقص على الناس ما فتح الله على إخوانهم المسلمين. ففعل وأحسن وجود. وعند أصل المنبر علي بن طالب، وأبو سفيان بن حرب. فقال أبو سفيان لعلي: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك! قال: فكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمه سمية. قال: فما يمنعك أن تدعيه؟ قال: أخاف هذا الجالس على المنبر، يعني عمر، أن يفسد علي إهابي. فلما ولي معاوية استلحقه بهذا الحديث، وأقام له شهودا عليه. فلما شهد الشهود قام زياد على أعقابهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: هذا أمر لم أشهد أوله ولا علم لي بآخره، وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهد الشهود بما قد سمعتم، والحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيعوا، فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب مشكور. ثم جلس.
فقال فيه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فقد ضاقت بما يأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عفٌ ... وترضى أن يقال أبوك زان

وأشهد أن قربك من زياد ... كقرب الفيل من ولد الأتان
وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشد علي من قول يزيد بن مفرغ الحميري:
فكرا ففي ذاك إن فكرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سمية ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش في الجماهير
سبحان من ملك عباد بقدرته ... لا يدفع الناس محتوم المقادير
وكان ولد سمية ثلاثا: زياداً وأبا بكرة ونافعا. فكان زياد ينسب في قريش، وأبو بكرة في العرب، ونافع في الموالي. فقال فيهم يزيد بن مفرغ:
إن زياداً ونافعاً وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
إن رجالاً ثلاثةً خلقوا ... من رحم أنثى محالفي النسب
ذا قرشي، فيما يقول، وذا ... مولىً وهذا ابن عمه عربي
وقال بعض العراقيين في أبي مسهر الكاتب:
حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثوبك بالمداد
وقال آخر في دعي:
لعينٌ يورث الأبناء لعناً ... ويلطخ كل ذي نسب صحيح
ولما طالت خصومة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ونصر بن حجاج عند معاوية في عبد الله بن حجاج، مولى خالد بن الوليد، أمر معاوية حاجبه أن يؤخر أمرهما حتى يحتفل مجلسه. فجلس معاوية وقد تلفع بمطرف خزٍ أخضر، وأمر بحجر فأدني منه، وألقى عليه طرف المطرف، ثم أذن لهما، وقد احتفل المجلس. فقال نصر بن حجاج: أخي وابن أبي، عهد إلي أنه منه. وقال عبد الرحمن: مولاي وابن عبد أبي وأمته، ولد على فراشه. قال معاوية: يا حرسي، خذ هذا الحجر - وكشف عنه - فادفعه إلى نصر بن حجاج. وقال: يا نصر، هذا مالك في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنه قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فقال نصر: أفلا أجريت هذا الحكم في زياد أمير المؤمنين؟ قال: ذاك حكم معاوية وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في الأرض أحمى من الأدعياء، لتستحق بذلك العروبية. قال الشاعر:
دعي واحدٌ أجدى عليهم ... من آلفي عالم مثل ابن داب
ككلب السوء يحرس جانبيه ... وليس عدوه غير الكلاب
وقال الأصمعي: استمشى رجل من الأدعياء، فدخل عليه رجل من أصحابه فوجد عنده شيحاً وقيصوماً، فقال له: ما هذا؟ فقال، ورفع صوته: الطبيعة تتوق إليه. يريد أن طبيعته من طباع العرب. فقال فيه الشاعر:
يشم الشيح والقيصو ... م كي يستوجب النسبا
وليس ضميره في الصد ... ر إلا التين والعنبا
وعن إسماعيل بن أحمد قال: رأيت على أبي سعيد الشاعر المخزومي كردوانياً مصبوغاً بتوريد، فقلت: أبا سعيد، هذا خز؟ قال: لا. ولكنه دعي على دعي. وكان أبو سعيد دعياً في بني مخزوم. وفيه قال الشاعر:
لم يته قط على النا ... س شريف يا أبا سعيد
فته ما شئت إذ كن ... ت بلا أب ولا جد
وإذ حظك في النس ... بة بين الحر والعبد
وإذ قاذفك المفح ... ش في أمن من الحد
وعن أحمد بن عبد العزيز قال: نزلت في دار رجل من بني عبد القيس بالبحرين، فقال لي: بلغني أنك خاطب؟ قلت: نعم. قال: فأنا أزوجك. قلت له: إني مولى. قال: اسكت وأنا أفعل. فقال أبو بجير فيهم:
أمن قلةً صرتم إلى أن قبلتم ... دعاوة زراع وآخر تاجر
وأصهب رومي وأسود فاحم ... وأبيض جعد من سراة الأحامر
شكولهم شتى وكل نسيبكم ... لقد جئتم في الناس إحدى المناكر
متى قال إني منكم فمصدق ... وإن كان زنجياً غليظ المشافر
أكلهم وافى النساء جدوده ... وكلهم أوفى بصدق المعاذر
وكلكم قد كان في أولية ... له نسبة معروفة في العشائر
على علمكم أن سوف ينكح فيكم ... فجدعاً ورغماً للأنوف الصواغر
فهلا أبيتم عفةً وتكرما ... وهلا وجلتم من مقالة شاعر
تعيبون أمراً ظاهراً في بناتكم ... وفخركم قد جاز كل المفاخر

متى شاء منكم مفرج كان جده ... عمارة عبس خير تلك العمائر
وحصن بن بدر أو زرارة دارم ... وزبان زبان الرئيس ابن جابر
فقد صرت لا أدري وإن كنت ناسياً ... لعل نجاراً من هلال بن عامر
وعل رجال الترك من آل مذحج ... وعل تميماً عصبة من يحابر
وعل رمال العجم من رمل عالج ... وعل البوادي بدلت بالحواضر
زعمتم بأن الهند أولاد خندق ... وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسل ابن ضبة ناسل ... وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
بنو الأصفر الأملاك أكرم منكمٍ ... وأولى بقربانا ملوك الأكاسر
أأطمع في صهري دعيا مجاهراً ... ولم نر شراً من دعي مجاهر
ويشتم لؤماً عرضه وعشيره ... ويمدح جهلاً طاهراً وابن طاهر
وقال زرارة بن ثروان، أحد بني عامر بن ربيعة بن عامر:
قد اختلط الأسافل بالأعالي ... وماج الناس واختلط النجار
وصار العبد مثل أبي قبيس ... وسيق مع المعلهجة العشار
وإنك لن يضيرك بعد حول ... أطرف كان أمك أم حمار
وقال عقيل بن علفة:
وكنا بني غليظ رجالاً فأصبحت ... بنو مالك غيظاً وصرنا لمالك
لحا الله دهراً زعزع المال كله ... وسود أستاه الإماء الفوارك
وذكر جعفر بن سليمان بن علي يوماً ولده، وأنهم ليسوا كما يحب. فقال له ولده أحمد بن جعفر. عمدت إلى فاسقات المدينة ومكة وإماء الحجاز فأوعيت فيهم نطفك، ثم تريد أن ينجبن، ألا فعلت في ولدك ما فعل أبوك فيك حين اختار لك عقيلة قومها؟ ودخل الأشعث بن قيس على علي بن أبي طالب، فوجد بين يديه صبية تدرج، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه زينب بنت أمير المؤمنين. قال: زوجنيها يا أمير المؤمنين. قال: اغرب، بفيك الكثكث، ولك الأثلب، أغرك ابن أبي قحافة حين زوجك أم فروة؟ إنها لم تكن من الفواطم، ولا العواتك من سليم. فقال: قد زوجتم أخمل مني حسبا، وأوضع مني نسباً: المقداد بن عمرو، وإن شئت فالمقداد بن الأسود. قال علي: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهو أعلم بما فعل، ولئن عدت إلى مثلها لأسوأنك. وفي هذا المعنى قال الكميت بن زيد:
وما وجدت بنات بني نزار ... حلائل أسودين وأحمرينا
وما حملوا الحمير على عتاق ... مطهمة فيلفوا مبغلينا
بني الأعمام أنكحنا الأيامى ... وبالآباء سمينا البنينا
أراد تزويج أبرهة الحبشي في كندة.
عن العتبي قال: أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن خداش لخالد النجار.
اليوم من هاشم بخ وأنت غداً ... مولى وبعد غد حلف من العرب
إن صح هذا، فأنت الناس كلهم ... يا هاشمي ويا مولى ويا عربي
قال: وكان الهيثم بن عدي، فيما زعموا دعياً. فقال فيه الشاعر:
الهيثم بن عدي من تنقله ... في كل يوم له رحل على حسب
إذا اجتدى معشراً من فضل نسبتهم ... فلم ينيلوه عداهم إلى نسب
فما يزال له حلٌ ومرتحل ... إلى النصارى وأحياناً إلى العرب
إذا نسب عدياً في بني ثعل ... فقدم الدال فبل العين في النسب
وقال بشار العقيلي:
إن عمراً فاعرفوه ... عربي من زجاج
مظلم النسبة لا يع ... رف إلا بالسراج
وقال فيه:
ارفق بنسبة عمرو حين تنسبه ... فإنه عربي من قوارير
ما زال في كير حداد يردده ... حتى بدا عربياً مظلم النور
وقال أيضا في أدعياء:
هم قعدوا فانتقوا لهم حسباً ... يدخل بعد العشاء في العرب
حتى إذا ما الصباح لاح لهم ... بين ستوقهم من الذهب
والناس قد أصبحوا صيارفةً ... أعلم شيءٍ بزائف الحسب
وقال أبو نواس في أشجع بن عمرو:
قل لمن يدعي سليماً سفاهاً ... لست منها ولا قلامةً ظفر
إنما أنت من سليم كواوٍ ... ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو

وقال فيه:
أيا متحيراً فيه ... لمن يتعجب العجب
لأسماء تعلمهن ... أشجع حين ينتسب
ولأحمد بن أبي الحارث الخراز في حبيب الطائي:
لو أنك إذ جعلت أباك أوساً ... جعلت الجد حارثة بن لام
وسميت التي ولدتك سعدى ... فكنت مقابلاً بين الكرام
وله فيه:
أنت عندي عربي ... ليس في ذاك كلام
شعر فخذيك وساقي ... ك خزامى وثمام
وضلوع الصدر من ... جسمك نبع وبشام
وقذى عينيك صمغ ... ونواصيك ثغام
لو تحركت كذا لان ... جفلت منك نعام
وظباء سانحاتٌ ... ويرابيع عظام
وحمام يتغنى ... حبذا ذاك الحمام
أنا ما ذنبي إن ك ... ذبني فيك الكرام
القفا يشهد إذ ما ... عرفت فيك الأنام
كذبوا ما أنت إلا ... عربي والسلام
وقال في المعلى الطائي:
معلى، لست من طي ... فإن قبلتك فارهنها
وابنك فارمٍ في أجأٍ ... فلا ترغب به عنها
كأن دماملاً جمعت ... فصور وجهه منها
ولآخر:
تعلمها وإخوته ... فكلهم بها درب
لقد ربوا عجوزهم ... ولو زينتها غضبوا
فيا لك عصبة إن ح ... دثوا عن أصلهم كذبوا
لهم في بيتهم نسب ... وفي وسط الملا نسب
كما لم تخف سافرة ... وتخفى حين تنتقب
وقال خلف بن خليفة الأقطع في الأدعياء:
فقل للأكرمين بني نزار ... وعند كرائم العرب الشفاء
أآخر مرتين سبيتمونا ... وفي الإسلام ما كره السباء
إذا استحللتم هذا وهذا ... فليس لنا على ذاكم بقاء
فلا تأمن على حال دعياً ... فليس له على حالٍ وفاء
وكيف يفي لأبعد من أبيه ... ونسبته إذا اتصل الدعاء

الباه وما قيل فيه
ذكر عند مالك بن أنس الباه، فقال: هو نور وجهك، ومخ ساقك، فأقل منه أو أكثر.
وقال معاوية: ما رأيت نهما في النساء إلا عرفت ذلك في وجهه.
وقال الحجاج لابن شماخ العكلي: ما عندك للنساء؟ قال: أطيل الظماء، وأرد فلا أشرب.
وقيل للمدائني: ما عندك يا أبا الجحاف؟ قال: يمتد ولا يشتد، ويرد ولا يشرب. وقيل لآخر: ما عندك لهن؟ قال: ما يقطع حجتها، ويشفي غلمتها.
وقال كسرى كنت أراني إذا كبرت أنهن لا يحببنني، فإذا أنا لا أحبهن. وأنشد الرياشي لأعرابي من بني أسد:
تمنيت لو عاد شرخ الشباب ... ومن ذا على الدهر يعطى المنى
وكنت مكيناً لدى الغانيات ... فلا شيء عندي لها ممكنا
فأما الحسان فيأبينني ... وأما القباح فآبى أنا
ودخل عيسى بن موسى على جارية، فلم يقدر على شيء، فقال:
النفس تطمع والأسباب عاجزةٌ ... والنفس تهلك بين اليأس والطمع
وخلا ثمامة بن أشرس بجارية له، فعجز، فقال: ويحك، ما أوسع حرك؟ فقالت:
أنت الفداء لمن قد كان يملؤه ... ويشتكي الضيق منه حين يلقاه
وقال آخر لجاريته:
ويعجبني منك عند الجماع ... حياة الكلام وموت النظر
وقال آخر:
شفاء الحب تقبيل ولمسٌ ... وسبح بالبطون على البطون
ورهز تذرف العينان منه ... وأخذ بالذوائب والقرون
وقالت امرأة كوفية: دخلت على عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقيل هي مع زوجها في القيطون، فسمعت زفيراً ونخيراً لم يسمع قط مثله، ثم خرجت وجبينها يتفصد عرقاً، فقلت لها: ما ظننت أن حرة تفعل مثل هذا؟ فقالت: إن الخيل العتاق تشرب بالصفير.
وقيل لأعرابي: ما عندك للنساء؟ فأشار إلى متاعه، وقال:
وتراه بعد ثلاث عشرة قائماً ... نظر المؤذن شكَّ يوم سحاب
وقال الفرزدق:
أنا شيخٌ ولي امرأةٌ عجوز ... تراودني على ما لا يجوز
وقالت رق أيرك مذ كبرنا ... فقلت لها بل اتسع القفيز
وقال الراجز:

لا يعقب التقبيل إلا زبي ... ولا يداوي من صميم الحب
إلا احتضان الركب الأزب ... ينزع منه الأير نزع الضب
روى زياد عن مالك عن محمد بن يحيى بن حبان أن جدته عاتبت جده في قلة إتيانه إياها، فقال لها: أنا وأنت على قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قالت: وما قضاء عمر؟ قال: قضى أن الرجل إذا أتى امرأته عند كل طهر فقد أدى حقها. قالت: أفترك الناس كلهم قضاء عمر، وأقمت أنا وأنت عليه. فقال:
أنا شيخ ولي امرأة عجوز ... تراودني على ما لا يجوز
تريدني أنيكها في كل يوم ... وذلك عند أمثالي عزيز
وقالت رق أيرك مذ كبرنا ... فقلت لها: بل اتسع القفيز
وقال أعرابي حين كبر وعجز:
عجبت من أيري وكيف يصنع ... أدفعه بإصبعي ويرجع
يقوم بعد النشر ثم يصرع
ودخلت عزة صاحبة كثير على أم البنين، زوج عبد الملك بن مروان، فقالت لها: أخبريني عن قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ما هذا الدين الذي طلبك به؟ قالت: وعدته بقبلة، فخرجت منها. قالت: وعدته بقبلة، فخرجت منها. قالت أنجزيها وعلي إثمها.
علي بن عبد العزيز قال: كان أبو البيداء رجلاً عنينا، وكان يتجلد ويقول لقومه: زوجوني امرأتين. فقالوا له: إن في واحدة كفاية. قال: أما لي فلا. فقالوا: نزوجك واحدة فإن كفتك وإلا نزوجك أخرى فزوجوه أعرابية فلما دخل بها أقام معها أسبوعاً، فلما كان في اليوم السابع أتوه فقالوا له: ما كان من أمرك في اليوم الأول؟ قال: عظيم جداً. فقالوا: ففي اليوم الثالث؟ قال: لا تسلوني. فاستجابت امرأته من وراء الستر فقالت:
كان أبو البيداء ينزو في الوهق ... حتى إذا أدخل في بيتٍ أنق
فيه غزالٌ حسن الدل خرق ... مارسه حتى إذا ارفض العرق
انكسر المفتاح وانسد الغلق
أهديت جاريةٌ إلى حماد عجرد، وهو جالس مع أصحابه على لذة، فتركهم وقام بها إلى مجلس له فافتضها، وكتب إليهم:
قد فتحت الحصن بعد امتناع ... بسنانٍ فاتحٍ للقلاع
ظفرت كفي بتفريق جمع ... جاءنا تفريقه باجتماع
وإذا شملي وشمل خليلي ... إنما يلتام بعد انصداع
آخر:
لم يوافق طباع هذا طباعي ... فأنا وهي دهرنا في صراع
وتحريت أن أنال رضاها ... فأبت غير جفوة وامتناع
فتفكرت لم بليت بهذا ... فإذا أن ذا لضعف المتاع
وقع بين رجل وامرأته شر، فجعل يحيل عليها بالجماع، فقالت: فعل الله بك،كلما وقع بيننا شيء جئتني بشفيع لا أقدر على رده.
وأقبل رجلٌ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إن لي امرأةً كلما غشيتها تقول: قتلتني قتلتني. قال: اقتلها وعلي اثمها.
وقال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبي: زوجني امرأةً من كلب. ففعل وصارت عنده. فقال له هشام، ودخل عليه: لقد وجدنا في نساء كلب سعة. فقال له الأبرش: إن نساء كلب خلقن لرجال كلب.
وقالوا: من ناك لنفسه لم يضعف أبداً ولم ينقطع، ومن فعل ذلك لغيره فذاك الذي يصفي وينقطع. يعنون من فعل ذلك ليبلغ أقصى شهوة المرأة ويطلب الذكر عندها. وقال الشاعر:
من ناك للذكر أصفى قبل مدته ... لا يقطع النيك إلا كل منهوم
وقالوا: من قل جماعه فهو أصح بدناً وأطول عمراً، ويعتبرون ذلك بذكور الحيوان. وذلك أنه ليس في الحيوان أطول عمراً من البغل، ولا أقصر عمراً من العصافير، وهي أكثر سفاداً. والله أعلم.

كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين
والممرورين والبخلاء والطفيليين

قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النساء والأدعياء، وما قيل في ذلك من الشعر، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كتابنا هذا ذكر المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين، فإن أخبارهم حدائق مونقة، ورياض زاهرة، لما فيها من كل طرفة ونادرة، فكأنها أنوار مزخرفة، أو حلل منشرة، دانية القطوف من جاني ثمرتها، قريبة المسافة لمن طلبها. فإذا تأملها الناظر، وأصغى إليها السامع وجدها ملهى للسمع، ومرتعاً للنظر، وسكناً للروح، ولقاحاً للعقل، وسميراً في الوحدة، وأنيساً في الوحشة، وصاحباً في السفر، وأنيساً في الحضر.
قال أبو الطيب اليزيدي: أخذ رجل ادعى النبوة أيام المهدي فأدخل عليه، فقال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: وإلى من بعثت؟ قال: أو تركتموني أذهب إلى أحد؟ ساعة بعثت وضعتموني في الحبس. فضحك منه المهدي، وخلى سبيله.
أدعى رجل النبوة بالبصرة. فأتي به سليمان بن علي مقيداً، فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة، فإني نبي مقيد. قال: ويحك، من بعثك؟ قال: أبهذا يخاطب الأنبياء يا ضعيف؟ والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل يدمدمها عليكم. قال: فالمقيد لا تجاب له دعوة؟ قال: نعم، الأنبياء خاصة، إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها. فضحك سليمان: فقال له: أنا أطلقك، وأمر جبريل فإن أطاعك آمنا بك وصدقناك. قال: صدق الله " فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " . فضحك سليمان وسأل عنه، فشهد عنده أنه ممرور، فخلى سبيله.
قال ثمامة بن أشرس: شهدت المأمون أتي برجل أدعى النبوة، وأنه إبراهيم الخليل. فقال المأمون: ما سمعت أجرأ على الله من هذا. قلت: أكلمه؟ قال: شأنك به. فقلت له: يا هذا، إن إبراهيم كانت له براهين. قال: وما براهينه؟ قلت: أضرمت له نار وألقي فيها فصارت برداً وسلاماً، فنحن نضرم لك ناراً ونطرحك فيها، فإن كانت عليك برداً كما كانت على إبراهيم آمناً بك وصدقناك. قال: هات ما هو ألين علي من هذا. قال: براهين موسى. قال: وما كانت براهين موسى؟ قال: عصاه التي ألقاها، فصارت حية تسعى، تلقف ما يأفكون، وضرب بها البحر فانفلق، وبياض يده من غير سوء. قال: هذا أصعب. هات ما هو ألين من هذا. قلت: براهين عيسى. قال: وما براهين عيسى؟ قلت: كان يحيي الموتى، ويمشي على الماء، ويبرئ الأكمه والأبرص. فقال: في براهين عيسى جئت بالطامة الكبرى. قلت: لا بد من برهان. فقال ما معي شيء من هذا، قد قلت لجبريل: إنكم توجهونني إلى شياطين، فاعطوني حجة أذهب بها إليهم، وأحتج عليهم. فغضب وقال: بدأت أنت بالشر قبل كل شيء، أذهب الآن فانظر ما يقول لك القوم، وقال: هذا من الأنبياء لا يصلح إلا للحمر. فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا هاج به مرار وأعلام ذلك فيه. قال: صدقت، دعه.
أدعى رجل النبوة في أيام المهدي، فأدخل عليه فقال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: ومتى نبئت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ قال: ففي أي الموضع جاءتك النبوة؟ قال: وقعنا والله في شغل، ليس هذا من مسائل الأنبياء، إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت لك فاعمل بقولي. وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك. فقال المهدي: هذا ما لا يجوز. إذ كان فيه فساد الدين. قال: واعجباً لك، تغضب لدينك لفساده، ولا أغضب أنا لفساد نبوتي، أنت والله ما قويت علي إلا بمعن بن زائدة والحسن بن قحطبة وما أشبههما من قوادك. وعلى يمين المهدي شريك القاضي، قال: ما تقول في هذا النبي يا شريك؟ قال: شاورت هذا في أمري وتركت أن تشاورني. قال: هات ما عندك؟ قال: أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل. قال: رضيت. قال: أكافر أنا عندك أم مؤمن؟ قال: كافر. قال: فإن الله يقول: " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم " فلا تطعني ولا تؤذني، ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين فإنهم أتباع الأنبياء، وأدع الملوك والجبابرة فإنهم حطب جهنم. فضحك المهدي وخلى سبيله.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16