كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

يومَ لا يُقدر لا أرهبه ... ومِن المقدور لا يَنْجو الحَذِر
وكان إذا سار بأرض الكوفة يرتجز ويقول:
يا حبذا السير بأرض الكُوفه ... أرضٍ سواءٍ سَهْلة مَعروفه
تعرفها جِمالنا المَعْلوفه وكان عبد الله بن عباس في طريقه من البصرة إلى مكة يحدو الإبل ويقول:
أُولى إلى أهلك يا ربَابُ ... أُولى فقد هان لك الإيابُ
وقال ابن عباس لما كفّ بصره
إن يأخذ الله من عينيّ نُورَهما ... ففي لساني وقَلبي منهما نُورُ
قلبي ذكيّ وعَقلي غير ذي دَخل ... وفي فَمي صَارمٌ كالسيف مَأثور

قولهم في الغزل
قال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغَزل الرقيق يُنشده الإنسان في المسجد، فسَكت عنه حتى أُقيمت الصلاة وتقدَم إلى المحراب فالتفت إليه، فقال:
وتبرد بَرد رداء العرو ... س في الصَّيف رَقرقتَ فيه العَبيرا
وَتسخن ليلةَ لا يَسْتطيع ... نُباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا
ثم قال: الله أكبر.
وقال العجاّج. دخلتُ المدينة فقصدتُ إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا بأبي هُريرة قد أكب الناس عليه يسألونه، فقلت: أفرجوا لي عن وجهه. فأفرج لي عنه. فقلت له: إني إنما أقول:
طاف الخَيالان فهاجَا سَقَما ... خيالُ أروى وخيِال تَكْتُما
تُريك وجهاً ضاحكاً ومِعْصما ... وساعداً عَبْلاً وكَعْباً أَدْرما
فما تقوله فيه؟ قال: قد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُنشَد مثلَ هذا في المسجد فلا ينكره.
ودخل كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الصبح فمثل بيت يديه، وأنشد:
بانت سعاد فقَلبي اليوم مَتْبولُ ... مُتَيم إثْرها لم يُفْد مَكْبُولُ
وما سُعاد غدَاة البَين إذ رَحلوا ... إلا أغنُّ غَضيض الطرف مَكحول
هَيفاء مَقْبلة عَجْزاء مدْبرة ... لا يشتكي قِصَر منها ولا طُول
ما إن تَدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أثوابها الغُول
ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت ... إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل
كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدُها إلا الأباطيل
ولا يَغُرًنك ما منت وما وَعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تَضْليل
ثم خرج من هذا إلى مَدح النبيّ صلى الله عليه وسلم. فكساه بُرداً، اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألفاً. ومن قول عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود في الغزل:
كتمتَ الهوى حتى أضرّ بك الكَتْم ... ولامَك أقوامٌ ولومُهمُ ظُلم
ونَم عليك الكاشِحون وقبل ذا ... عليك الهَوى قد تَمّ لو نَفع النّم
فيامَن لِنفس لا تَموت فَيْنقضي ... عَناها ولا تَحْيا حَياةً لها طَعم
تجنّبت إتيان الحَبيب تأثّما ... ألا إن هِجران الحبيب هو الإثْم
ومن شعر عُروة بن أذينة، وهو من فقهاء المدينة وعُبّادها، وكان من أرقّ الناس تشبيبا:
قالت وأَنبثتها وَجْدي وبُحت به ... قد كُنتَ عندي تحب السِّتر فاستَتِر
ألست تُبصر من حولي فقلتُ لها ... غطَّى هواك وما ألقَى على بَصري
ووقفتْ عليه امرأة، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت تقوله:
إذا وجدتُ أُوار الحُبّ في كَبِدي ... غدوتُ نحو سِقاء الماء أَبتَرِدُ
هبني بردتُ ببرَد الماء ظاهرَه ... فَمن لنار على الأحشاء تَتّقد
والله ما قال هذا رجل صالح. وكذبتْ عدوةُ الله عليها لعنة اللّه، بل لم يكن مُرائيا ولكنه كان مَصْدورا فنَفث.
وقدم عُروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك في رجال من أهل المدينة، فلما دخلوا عليه ذكروا حوائجِهم فقضاها، ثم التفت إلى عُروة فقال له: ألست القائل:
لقد علمتُ وخيرُ القول أصدَقهُ ... بأنّ رزْقي وإن لم آتِ يَأْتيني
أسعى له فيُعنِّيني تَطَلُّبه ... ولو قعدت أتاني لا يُعَنّيني

قال: بلى. قال: فما أراك إلا قد سَعيت له. قال: سأنظر في أمري يا أمير المؤمنين، وخَرج عنه، فجعل وجهته إلى المدينة. وكَشف عنه هشام بن عبد الملك، فقيل له: قد توجّه إلى المدينة. فبعَث إليه بألف دينار. فلما قدم عليه بها الرسولُ، قال له أبلغ أميرَ المؤمنين السلام، وقل له: أنا كما قلت، قد سَعيت وعُنيت في طلبه، وقعدتُ عنه فأتاني لا يُعنِّيني.
ومن قول عبد الله بن المبارك، وكان فقيهاً ناسكاً شاعراً رقيقَ النسيب، مُعجب التَّشْبيب، حيث يقول:
زعموها سألتْ جارتَها ... وتعرّت ذات يوم تَبْتَرِدْ
أكما يَنْعتني تُبصرنني ... عَمْرَكن الله لمْ لا يقتصد
فتضاحَكْن وقد قُلن لها ... حَسَنَ في كُل عَين من تود
حسَداً حُمّلنه مِن شأنها ... وقديماً كان في الحُب الحَسد
وقال شريح القاضي، وكان من جملة التابعين، والعلماء المتقدمين، استقضاه عليِّ رحمه الله ومُعاوية، وكان تزوج امرأة من بني تميم تسمى زَينب. فنَقم عليها، فضربها ثم نَدِم، فقال:
رأيتُ رجالاً يضربون نساءَهم ... فشُلّت يميني يومِ أَضرب زَيْنبا
أأضربها في غير ذَنْب أتتْ به ... فما العدل منِّي ضرْب مَن ليس أَذْنبا
فزينبُ شْمس والنساء كواكب ... إذا برزت تُبْدِ منهن كوكبا

قولهم في المدح
قال شَراحيل بن مَعْن بن زائدة: حجّ الرشيد وزميلُه أبو يوسف القاضي وكنت كثيراً ما أسايره: فبينما أنا أسايره إذ عرض له أعرابيّ من بني أسد فأنشده شعراً مدحه فيه وقَرّظه. فقال له الرشيد: ألم أَنْهك عن مثل هذا في شِعْرك يا أخا بني أسد؟ إذا أنت قلت فقل كما قال مَروان بن أبي حَفصة في أبي هذا، وأشار إليّ، يقول:
بنوِ مَطر يوم اللِّقاء كأنهم ... أُسود لها في غِيل خِفَّان أَشْبُلُ
همً يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهمُ بين السِّماكين منزل
بها ليلُ في الإسلام سادُوا ولم يكُن ... كأوِّلهم في الجاهليّة أول
هم القومُ إن قالوا أصابُواو إن دُعوا ... أجابُواو إنْ أَعطوا أَطابوا وأَجْزلوا
وما يَستطيع الفاعلون فَعالَهم ... وإنْ أَحسنوا في النائبات وأَجملوا
وقال عُتبة بن شمَّاس يَمدح عُمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
إنّ أولى بالحقّ في كل حَقٍّ ... ثُمّ أحرى بأن يكون حَقِيقَا
مَن أبوه عبدُ العزيز بنُ مَرْوا ... ن ومَن كان جَدُّه الفَاروقا
رَدّ أموالنَا علينا وكانت ... في ذُرَا شاهق تَفوت الأَنوقا
مَدحٍ عبّاس بن مِرْداس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فكَساه حُلَّة. ومَدحه كَعب بن زهير كَساه بُردا اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألف درهم، وإن ذلك البُرد لعند الخلفاء إلى اليوم.
وقال ابنُ عبّاس: قال لي عُمر بن الخطّاب: أنشدني قول زُهير. فأنشدتُه قولَه في هَرِم بن سِنَان بن حارثة حيثُ يقول:
قومٌ أبوهم سِنان حين تَنْسبهم ... طابُوا وطابَ من الأفلاذ ما ولَدوا
لو كان يُعقد فوق الشّمس من كَرم ... قوم بأولهم أو مَجْدهم قَعدوا
جِنّ إذا فَزِعوا إنْس إذا أمنوا ... مُرَزَّءون بهاليل إذا احتَشدوا
مُحسَّدون على ما كان مِن نِعم ... لا يَنزع الله منهم مالَه حُسدوا
فقال له عمر: ما كان أحبَّ إليّ لو كان هذا الشِّعر في أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. انظُر إلى ضنانة عُمر بالشعر، كيف يرَ أحداً يَستحق مثل هذا المدح إلا أهلَ بيت محمد عليه الصلاة والسلام.
وأسمع رجل عبد الله بنِ عمر بيتَ الحُطيئة:
مَتى تَأْتِه تَعْشو إلى ضوْء ناره ... تَجدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِد

فقال ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فلم ير أحداً يَستحق هذا المدح غير رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذن نُصيب بن رَبَاح على عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له، فقال: أعْلموا أميرَ المؤمنين أنِّي قلتُ شعراً، أوله الحمد للّه. فأعلموه. فأَذِن له فأُدخل عليه وهو يقول:
الحمدُ للّه أما بعدُ يا عُمر ... فقد أتتْنا بك الحاجاتُ والقَدرُ
فأَنت رأسُ قريش وابنُ سيِّدها ... والرأسُ فيه يكون السمع والبَصر
فأَمر له بحلْية سَيفه.
ومدَحه جرير بشعره الذي يقول فيه:
هذِي الأراملُ قد قَضِّيت حاجتَها ... فَمَنْ لحاجةِ هذا الأرمل الذكرِ
فأَمر له بثلثمائة دِرْهم. ومدحه دُكين الرَّاجز، فأَمر له بخَمس عشر ناقة. ومَدح نُصيب بن ربَاح عبد الله بن جعفر، فأَمر له بمال كثير وكُسوة ورَواحل.
فقيل له: تَفعل هذا بمثل هذا العَبدِ الأسود؟ فقال: أمَا والله لئن كان عبداً إنّ شعره لحُر، وان كان أسودَ إن ثناءه لأبيض. وإنما أخذ مالاً يفَنى، وثياباً تَبلى، ورواحل تَنضى، فأعطى مديحا يُروى، وثَناءه يَبقى.
ودخل ابن هَرِم بن سِنان على عمرَ بن الخطاب، فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا ابنُ هرم بن سنان. قال: صاحب زهير؟ قال: نعم. قال: أما إنه كان يقول فيكم فيُحسن. قال: كذلك كنا نعطيه فنُجزل. قال: ذهب ما أعطيتموه بَقي ما أعطاكم.
وكان طُريح الثًقفي ناسكاً شاعراً، فلما قال في أبي جعفر المَنصور قولَه:
أنت ابنُ مُسْلنِطح البِطاح ولم ... تَعْطِف عليك الحني والولُجُ
لو قلت للسيل دَعْ طريقَك والمو ... جُ عليه كالليل يَعتلج
لهمَّ أو كاد أو لكان له ... في سائر الأرض عنك مُنعرج
طُوبىَ لفرعَيْك من هُنا وهُنا ... طوبَى لأعراقك التي تَشج
قال أبو جعفر: بلغني عن هذا الرجل أنه يتأله، فكيف يقول للسّيل: دع طريقك. فبلغ ذلك طريحاً، فقال: الله يعلم أني إنما أردت: يا رب لو قلت للسيل دع طريقك.
وقال الحطيئة لمّا حَبسه عمرُ بن الخطاب في هجائه للزّبرقان بنَ بدر أبياتاً يمدح فيها عُمر ويسَتعطفه. فلما قرأها عمرُ عَطف له، وأمر بإطلاقه وعفا عما سلف منه. والأبيات:
ماذا تقول لأَفراح بذي مَرَخ ... زُغْبٍ الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ
ألقيت كاسبَهم في قَعر مُظلمة ... فاغفر عليك سلامُ الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحِبه ... ألقَى إليك مقاليد النًّهى البَشر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكنْ لأنفسهم كانت بها الإثر
ودخل ابن دارَة على عديّ بن حاتم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مدحتُك. قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حَسبه، فإنّي أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول، لي ألفُ شاة وألفُ دِرْهم وثلاثة أَعبد وثلاث إماء وفرسي هذا حَبيس في سبيل اللّه، فامدَحْني على حَسب ما أخبرتك. فقال:
تحِنّ قَلوصي في مَعدٍّ وإنما ... تُلاقيِ الربيعُ في ديار بني ثُعَلْ
وأبْقى الليالي مِن عَديّ بن حاتم ... حُساماً كنَصل السِّيف سُلَّ من الخِلَل
أبوك جواد لا يُشق غُباره ... وأنت جواد ليس يُعذِر بالعِلل
فإنْ تَفعلوا شرّاً فمثلكُم اتَّقى ... وإنْ تَفعلوا خيراً فمثلكُم فعل
قال عديّ: أمسك لا يبلغ مالي إلى أكثر من هذا.

قولهم في الهجاء
قال الله تبارك وتعالى في هجو المشركين: " والشَعَراءُ يَتبِعُهم الغَاوون. آَلمْ تَرَ أَنّهم في كُلِّ وادٍ يَهيمون. وأَنّهم يَقُولون ما لا يفعلونْ. إلا الذين آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحات وذَكَرُوا الله كَثيراً وانتصروا مِن بَعد ما ظُلموا وسَيَعْلَم الذين ظَلَموا أيَّ مُنْقَلب يَنْقَلبون " فأرْخَص الله للشعراء بهذه الآية في هِجائهم لمن تعرّض لهم

يزيد بن عمرو بن تميم الخُزاعيّ عن أبيه عن جدّه: أنَّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال. يا رسول اللّه، إن أبا سفيان يهجوك. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اللّهم إنه هَجاني وإني لا أقول الشعر، فاهجُه عني. فقام إليه عبد الله بن رَواحة فقال: يا رسول اللّه، إيذن لي فيه. قال: أنت القائل:
قثبّت الله ما آتاك من حسن.
قال: نعم. قال: وإياك فثبت اللّه. ثم قام إليه كعب بن مالك فقال: يا رسول اللّه، إيذن لي فيه. فقال: أنت القائل هممت ؟ قال: نعم. قال: لستَ له. ثم قام حسَّان بن ثابت فقال: يا رسول اللّه، إيذن لي فيه، وأخرج لسانه فضَرب به أَرْنبة أنفه، وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيَّل لي أني لو وضعتُه على حجر لفَلقه، أو على شَعر لحَلقه. فقال: أنت له، اذهب إلى أبي بكر يُخبرك بمثالب القوم ثم اهجهم وجبريل معك. فقال يرد على أبي سفيان:
ألا أبلِغ أبا سفيان عَنِّي ... مغلغَلةً فقد برح الخَفاءُ
هجوت محمداً وأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجَزاء
أتهجوه ولست له بندٍّ ... فشركما لخير كما الفداء
أمن يهجو رسوله الله منكم ... ويطريه ويمدحه سواء
لنا في كُل يوم من مَعدٍّ ... سِباب أو قِتال أو هِجَاء
لساني صارمٌ لا عيبَ فيه ... وبَحْري لا تُكدِّره الدِّلاء
فإنّ أبي ووالدَه وعِرْضى ... لِعْرض محمد منكم وِقَاء
وقال رجل من أهل اليمن: دخلتُ الكوفة فأتيتُ المسجد فإذا بعَمار بن ياسر ورجل يُنشده هِجاء معاوية وعمرو بن العاص، وهو يقول: ألصق بالعجوزَيْن. قلت له: سبحان اللّه!. أتقول هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إن شئت فاجلس وإن شئت فاذهب. فجلست، فقال. أتدري ما كان يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجانا أهلُ مكة؟ قلت: لا أدري. قال: كان يقول لنا: قولوا لهم مثل ما يقولون لكم. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت: لقد شكر الله لك بيتاً قلته، وهو:
زعمتْ سَخينة أنْ ستغلب ربَّها ... وليُغلبنّ مُغالب الغلاّب
وسألت هُذيل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُحل لها الزِّنا. فقال حسان في ذلك:
سالت هذيل رسولَ الله فاحشةً ... ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب
وقال عبد الملك بن مروان: ما هجاني أحدٌ بأوجع من بيت هُجي به ابن الزُّبَير وهو:
فإن تُصِبْك مِن الأيام جائحة ... لم نَبك منك على دُنيا ولا دين
وقيل لعَقيل بن علَّقة: ما لك لا تُطيل الهجاء؟ قال: يَكفيك من القِلاَدة ما أحاط بالعنق. وقال رجل من ثَقيف لمحمد بن مُناذر: ما بالُ هجائك أكثر من مَدْحك؟ قال: ذلك مما أغراني به قومُك واضطرني إليه لؤمك. وقال أبو عمرو بن العلاء: قلت لجرير: إنك لعَفيف الفَرج كثيرُ الصَّدقة فَلِم تَسُب الناس؟ قال: يبدءوني ثم لا أغفر لهم. وكان جرير يقول: لست بمُبتدئ ولكنني مُعتدٍ - يريد أنه يُسْرفِ في القِصاص. ومثله قوله الشاعر:
بني عمّنا لا تَنْطقوا الشعرَ بعدما ... دَفنتم بأفناء العُذَيب القَوافِيا
فَلَسنا كَمن قد كنتمُ تَظْلِمونه ... فيقبل ضَيماً أو يحكم قاضيا
ولكنّ حكم الصيف فيكم مُسلَط ... فنرضى إذا ما اصبح السيفُ راضيا
فإن قلتُم إنّا ظَلمنا فلم نكُن ... ظَلمنا ولكنّا أسأنا التقاضيا
وكان عمر بن الخطّاب يقول: واحدة بأخرى والبادي أظلم.
أبو الحسن المدائني قال: وفد جرير على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك للأخطل: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا جرير، قال الأخطل: والذي أعمى رأيك يا جرير ما عرفتُك. قال له جرير: والذي أعمى بصيرتك وأدام خِزيتك، لقد عرفتُك، لَسِيماك سِيما أهل النار.
ابنُ الأعرابيّ قال: دَخل كُثيّر عَزّة على عبد الملك فانشده، وعنده رجل لا يعرفه. فقال عبدُ الملك للرجل: كيف تَرى هذا الشعر؟ قال. هذا شعر حِجازيّ، دعني أضغَمه لك ضَغْمه. قال كُثِّير: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الأخطل. قال: فالتفت إليه فقال له: هل ضَغمتَ الذي يقول:

والتَغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى ... حكّ آستَه وتمثَّل الأمثالاَ
تلقاهُم حُلَماء عن أعدائهم ... وعلى الصَّديق تراهم جُهَّالا
حدّثنا يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن عبد الحَكم بمصر، قال: كان رجل له صديق يقال له حُصين، فَولى موضعاً يقال له السَّابَيْن، فطلب إليه حاجةً فاعتلّ عليه فيها، فكتب له:
لا أذهبْ إليك فإنّ وُدّكَ طالق ... مني وليس طلاقَ ذات البَيْنِ
فإذا ارْعويتَ فإنها تَطْليقة ... وتُقيم وُدَّك لي على ثِنْتين
وإذا أبيتَ شفعتُها بمثالها ... فيكون تَطليقان في حَيْضين
وإنِ الثلاث أتيك منِّيِ بَتَّةً ... لم تُغن عنك ولايةُ السابَين
لم أَرض أنْ أَهجو حُصيناً وحدَه ... حتى أسود وجهَ كل حُصين
طَلب دِعبلُ بن عليِّ حاجة إلى بعض الملوك فصَرّح بمَنعه. فكتب إليه:
أحسبتَ أرضَ الله ضيّقةً ... عنّي فأرضُ الله لم تَضِقِ
وحَسبْتني فَقْعاً بِقَرْقرةٍ ... فوطِئْتَني وَطْئاً على حَنَقِ
فإِذا سألتُك حاجةً أبدا ... فاضربْ بها قُفْلاً على غَلَق
وأعِدَّ لي غُلاًّ وجامعةً ... فاجمع يديّ بها إلى عُنقي
ثم ارم بي في قَعر مُظلمة ... إن عدتُ بعد اليوم في الحُمُق
ما أطوَلَ الدُّنيا وأوسَعها ... وأدلَّني بمَسالك الطُّرق
ومثل هذا قول أبي زُبيدة:
ليتكَ أَدّبتَني بواحدة ... تجعلها منكَ آخِرَ الأبدِ
تَحِلف ألا تَبرّني أبداً ... فإنّ فيها بَرْداً على كَبِديَ
إن كان رِزْقي إليك فارْم به ... في ناظرَيْ حية على رَصَدِ
وقال زياد: ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ من قول الشاعر:
فكِّر ففي ذاك إنْ فكَّرت مُعتَبر ... هل نِلتَ مكْرُمةً إلا بتَأْمير
عاشت سُميّة ما عاشَت وما عَلمت ... أَنّ ابنَها من قُريش في الجماهير
سُبْحان من مُلْك عَبّاد بقُدرته ... لا يَدْفع الخلقُ محتومَ المَقادير
وقال بِلاَل بن جَرير: سألتُ أبي: أيّ شيء أشدُّ عليك؟ قال: قولُ البَعِيث:
ألستَ كُليبياً إذا سِيم خُطّةً ... أقرَّ كإقرار الحَليلة للبَعْل
وكل كُليبيّ صحيفة وجهه ... أذلُّ لأقدام الرّجال من النَعل
وكان بلالُ بن جَرير شاعراً ابنَ شاعر ابنَ شاعر، لأن الخَطفي جدَّه كان شاعراً، وهو القائل:
ما زال عِصيانُنا للّه يُسْلمنا ... حتى دفعنا إلى يَحيى ودينارِ
إلى عُليجين لم تُقْطع ثِمارُهما قد طالما سَجداً للشمس والنّار ومن أخبث الهجاء قولُ جَميل:
أبوك حُباب شارق الضَّيف بُرْدَه ... وجدِّيَ يا شمّاخ فارسُ شَمَّرَا
بنو الصّالحين الصالحون ومَن يَكُن ... لآباء سَوْء يَلْقهم حيث سَيَّرَا
فإن تَغْضبوا من قِسمة الله فيكم ... فَللَهُ إذ لم يُرضِكم كان أبصرا
وقال كُثير في نُصيب، وكان أسودَ ويكني أبا الحَجناء:
رأيت أبا الحَجناء في الناس حائراً ... ولونُ أبي الحَجناء لونُ البهائِم
يراه على ما لاحَه من سَواده ... وإن كان مَظلوماً له وجهُ ظالم
وكان يقال لسعد بن أبي وقَّاص: المُستجاب؟ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة سَعد. فقال رجل بالقادسيّة فيه:
ألم تَر أنّ الله أنزل نَصْره ... وسعدٌ بباب القادسيّة مُعْصِم
فأُبْنا وقد آمتّ نساء كثيرة ... ونسْوة سَعد ليس فيهنّ أيَم
فقال سَعد: اللهم اكفني يَده ولسانَه. فَخَرِس لسانُه، وضُربت يدُه فقُطعت.
وذُكر عند المُبرّد محمد بن يزيد النحويّ رجلٌ من الشعراء، فقال: لقد هجاني ببيتين أنضجَ بهما كَبدي. فاستنشدوه. فأَنشدهم هذين البيتين:
سألنا عن ثُمالةَ كُلّ حَيّ ... فكُلّ قد أجاب ومَن ثُماله
فقلتُ محمد بن يزيدَ منهم ... فقالوا الآن زِدْتهما جَهاله

ولم يَقل أحدٌ في القبيح أحسنَ من قول أبي نُوَاس:
وقائِلةٍ لها في وَجْه نُصْحٍ ... علامَ قتلتِ هذا المُستهامَا
فكان جوابُها في حُسن مَيْسِ ... أأجمع وجهَ هذا والحَراما
وكان جرير يقول: إذا هجوت فأضحك. وينشَد له:
إذا سَعلتْ فتاةُ بَنى نُمير ... تلقَّمَ بابُ عِصْرِطها التُّرابا
تَرى بَرصاً بمَجمع إسكَتيها ... كعَنْفقَة الفَرزدق حين شَابا
وقوله أيضاً:
وتقول إذ نَزعوا الإزارَ عن استها ... هذي دواةُ مُعلِّم الكُتَّابِ
وقوله أيضاً:
أحين صِرْت سَماماً يا بني لجأ ... وخاطرتْ بيَ عن أحسابها مُضَرُ
هيأتمُ عُمَرا يحمي دياركم ... كما يُهيَّأ لاست الخارئ الحَجر
وقال عليُّ بن الجهم يهجو محمدَ بن عبد الملك الزيَّات وزيرَ المتوكل:
أحسن من سبعين بيتاً سُدى ... جمعُك إياهنّ في بَيْتِ
ما أحوَج المُلك إلى دِيمَة ... تَغسل عنه وَضَر الزَّيت
وقالوا: أَهجى بيت قالْته العرب قولُ الطرمّاح بن حَكيم:
تميم بطُرْق اللؤمٍ أهدَى من القَطَا ... ولو سَلكتْ سُبْلَ المَكارم ضَلَّت
ولو أنّ بُرْغوثا على ظهر قَملة ... رأتْه تميمٌ يوم زحْفٍ لولّت
ولو أن عُصفوراً يمُد جناحَه ... لقامت تميمٌ تحتَه واستظلّتِ
وقال بعضُهم: قولُ جرير في بني تَغلب:
والتّغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى ... حكّ آستَه وتمثّل الأمثالاَ
ويقال: قولُه:
قومٌ إذا اْستَنْبح الأضيافُ كلبَهُم ... قالوا لأمهم بُولِي على النّار
ومن أخبثَ الهجاء قول زياد الأعجم:
قالوا الأشاقر تَهجوكم فقلتُ لهم ... ما كنتُ أحسبُهم كانوا ولا خُلِقُوا
وهم من الحَسب الذّاكي بمنزلةٍ ... كطُحلب الماء لا أصلٌ ولا وَرَق
لا يكثُرون وإن طالتْ حياتهم ... ولو يَبول عليهم ثَعلب غَرِقوا
وقوله أيضاً:
قَضى الله خلقَ الناس ثم خُلقُتُم ... بَقِيَّةَ خَلْق الله آخرَ آخِر
فلم تَسمعوا إلا الذي كان قبلكم ... ولم تُدركوا إلا مَدَقّ الحَوافر
وقال فيهم:
قَبيلةٌ خَيرُها شرّها ... وأصدقُها الكاذب الآثم
وضيفهُمُ وَسْطَ أبياتِهم ... وان لم يكن صائماً ضائمُ
ونظير هذا قول الطِّرمَّاح:
وما خُلقتْ تَيْم وزَيد مَناتِها وضبَّةُ ... إلا بعد خَلق القَبائل
ومن أخبث الهجاء قول الطرمّاح في بني تميم:
لو حان ورد تَميم ثم قِيل لهم ... حوض الرَّسول عليه الأزْدُ لم تَرِدِ
أو أنزل الله وحياً أن يعذّبها ... إن لم تَعُد لِقتال الأزد لم تَعُد
وكُلّ لُؤْم أباد الله أثلته ... ولُؤم ضبّة لم يَنقُص ولم يَزِد
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خَلْقه خَفِيت عنه بنو أسد
قومٌ أقام بدار الذل أوّلُهم ... كما أقامت عليه جذْمةُ الوَتِد
ومثله قول المُساور بن هِنْد:
ما سرني أنّ قَوْمي من بني أسد ... وأنّ رَبيٍّ يُنْجيني من النارِ
وأنهم زَوّجوني من بناتِهم ... وأنّ لي كلّ يوم ألفَ دينار
ومن أخبث الهجاء من غير إقذاع:
بلاد نأَى عني الصديقُ وسبّني ... بها عنزيَّ ثم لم أَتكلّم
وقال عبيد:
يا أبا جعفر كتبتُك سَمْحاً ... فاستطال المِداد فالميم لامُ
لا تلمني على الهِجماء فلم يَه ... جك إلا المدادُ والأقلام
وقال سليمان بن أبي شَيخ: كان أبو سَعيد الرَّاني يُماري أهل الكوفة ويفضل أهلَ المديِنة، فهجاه رجل من أهل الكوفة وسّماه شرْشيراً. وقال: كلب في جهنم يُسمى شرْشيراً. فقال:
عندي مسائلُ لا شَرْشير يَعرفها ... إنْ سِيل عنها ولا أصحاب شَرْشير
وليس يَعرف هذا الدَين معرفةَ ... إلا حنيفية كُوفيةُ الدُّورَ

لا تسألنَّ مَدينيّا فتُكْفِرهْ ... إلا عن البَمّ والمَثْنى أو الزِّير
فكتب أبو سعيد إلى أهل المدينة: إنكم قد هُجيتم فرُدُّوا. فَرَد عليه رجل من أهل المدينة يقول:
لقد عجبت لغَاوٍ ساقَه قدر ... وكُل أمر إذا ما حُمّ مَقدورُ
قالوا المدينة أرضَ لا يكون بها ... إلاّ الغِناء وإلاِّ البمّ والزّير
لقد كذبتَ لعمر الله إنّ بها ... قَبرَ النبي وخير الناس مَقْبور
قال: فما انتَصر ولا انتُصر به، فليته لم يَقُل شيئاَ.
وقال: فساور الوراق في أهل القِياس:
كُنا من الدّين قبل اليوم في سَعِةٍ ... حتى بُلِينا بأصحاب المقاييس
قامُوا من السُوق إذ قلّت مكاسبُهم ... فاستعمَلوا الرأيَ بعد الجَهد والبوس
أمِّا العُرَيْب فأمَسوْا لا عطَاءَ لهم ... وفي المَوالي علاماتُ المفاليس
قال: فلقيه أبو حَنيفة، فقال له: هجوْتنا، نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم، فَكفَّ عنه وقال:
إذا ما الناسُ يوماً قايسُونا ... بمسألة من الفُتيا طريفَهْ
أتيناهم بمقْياس صَحيح ... بَديع من طِراز أبي حَنِيفة
إذا سَمع الفقيه بها وَعاها ... وأثبتَها بِحِبْرٍ في صَحيفه
ومن خبيث الهجاء قولُ الشاعر:
عَجِبْت لعبدانٍ هَجوْني سَفاهةً ... أَن اصطَبحوا من شائِهم وتَقيَّلُوا
بِجَاد وَرَيْسان وفِهْر وغالب ... وعَون وهِدْم وابن صِفْوة أَخيلُ
فأمّا الذي يُحصيهم فمُكَثِّر ... وأمّا الذي يطريهم فمُقلِّل
وقال أبو العتاهية في عبد الله بن مَعن بن زائدة:
قال ابنُ مَعْنِ وجَلَى نَفسه ... على القَرابات مِن الأَهل
هَل في جَوارِي الحَيّ من وائل ... جاريةٌ واحدة مِثْلي
أُكْنَى أبا الفضل فيا مَن رأى ... جاريةً تُكنى أبا الفَضْل
قد نقطت في خدِّها نُقطةً ... مخافةَ العَين من الكُحل
مداراة الشعراء وتَقيتهم
أبو جعفر البَغداديّ قال: مَدح قومٌ من الشعراء بن سُليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبَّاس، فماطلهم بالجائزة، وكان الخليلُ بن أحمد صدَيقه، وكان وقتَ مَدْحهم إياه غائباً فلمّا قَدِمَ الخليلُ أَتَوْه فأخبروه، واستعانوا به عليه، فكتب إليه:
لا تَقبلنّ الشعر ثم تَعُقه ... وتَنام والشعراءُ غيرُ نيام
واعلم بأنهمُ إذا لم يُنصَفوا ... حَكموا لأنفسهم على الحُكّام
وجنايةُ الجاني عليهم تَنْقضي ... وعقابُهم باقٍ على الأيّام
فأجازهم وأحسن إليهم.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لمّا مدحه عبّاس بن مِرْداس: اقطعوا عنّي لسانَه. قالوا: بماذا يا رسولَ اللّه؟ فأمر له بحُلة قَطع بها لسانَه. ومَدح ربيعةُ الرقيّ يزيدَ بنَ حاتم، وهو والي مصر فتشاغل عنه ببعض الأمور، واستبطأه ربيعةُ فشخص من مصر، وقال:
أُراني ولا كُفران للّه راجعاً ... بخُفَّيْ حُنين من نَوال ابنِ حاتِم
فبلغ قولُه يزيدَ بن حاتم، فأرسل في طلبه وردّه. فلمّا دخل عليه قال له: أنت القائل:
أُراني ولا كفران للّه راجعاً ... بخُفيّ حُنين من نَوَال بن حاتم
قال: نعم. قال: هل قُلت غير هذا؟ قال: لا. قال: والله لترجعنّ بِخُفيِّ حُنين مملوءتين مالاً، فأمر بخَلْع خُفيه، وأن تُملا له مالاً. ثمّ قال: أَصْلح ما أفسدت من قولك. فقال فيه، لما عُزل من مصر ووُلّي مكانَه يزيدُ بن حاتم السُّلمي:
بَكى أهلُ مصر بالدموع السَّواجِم ... غداة غدا منها الأغر ابن حاتم
لشتّان ما بيت اليَزيدين في النّدى ... يزيد سليمٍ والأغرِّ ابن حاتم
فَهَمُّ الفَتى القَيْسيّ إنفاقُ مالِه ... وهَمُّ الفَتى العَبْسيّ جَمْعُ الدَّراهم
فلا يَحسب التَّمتامُ أنّي هجوته ... ولكنًني فضّلتُ أهل المَكارم

وأعلم أنّ تقيّةَ الشعراء من حِفظ الأعراض التي أمر الله تعالى بحفظها. وقد وضعنا في هذا الكتاب باباً فيمن وضعه الهجاء، ومَن رفعه المدح.
وكان لزياد عامل على الأهوازِ يقال له: تَيم. فمدحه رجلٌ من الشعراء فلم يعطه شيئاً. فقال له الشاعر: أما إني لا أهجوك، ولكنّني سأقول فيك ما هو شرّ عليك من الهجاء فدخل على زياد فأسمعه شعراً مدحه فيه، وقال في بَعضه:
وكائن عند تَيْم مِن بُدُور ... إذا ما صُفِّدتْ تدعو زِياداً
دعَتْه كي يُجيب لها وشيكاً ... وقد مُلئت حناجرُها صِفاداً
فقال زياد: لبّيك يا بُدور. ثم أرسل فيه، فأَغرمه مائة ألف.

باب في رواة الشعر
قال الأصمعيّ: ما بلغتُ الحلُم حتى رويتً اثني عشر ألفَ أرجوزةٍ للأعراب.
وكان خَلف الأحمر أَروى الناس للشِّعر وأعلَمهم بجيّده.
قال مَروان بن أبي حَفْصة: لما مدحْتُ المهديَّ بشعري الذي أولًه:
طرقْتك زائرةً فحيِّ خَيالَهَا ... بيضاءُ تَخْلِط بالحَياء دَلالَها
أردتُ أنْ أَعرضه على بُصراء البَصرة، فدخلتُ المسجد الجامع، فتصفَحت الحَلَق، فلم أر حَلقة أعظمَ من حَلْقة يُونس النحوي، فجلستُ إليه، فقلتُ له: إني مدحتُ المهديَّ بشعر، وأردتُ ألا أرفعه حتى أعرضَه على بصرائكم، وإني تَصفْحت الحَلق فلم أر حَلْقة أحفلِ من حَلْقتك، فإن رأيتَ أن تَسمعه مِنّي فافْعل. فقال: يا بن أخي، إنّ هاهنا خَلَفاً ولا يُمكن أحدُنا أن يَسمع شعراً حتى يحضَر، فإذا حَضر فأسْمعه. فجلستُ حتى أقبل خلف الأحمر. فلمّا جلس جلستُ إليه، ثم قلت له ما قلتُ ليونس. فقال: أنشد يا بن أخي. فأنشدتُه حتى أتيتُ على آخره. فقال لي: أنتَ والله كأعشى بكر، بل أنت أشعرُ منه حيث يقول:
رَحلتْ سُمَيّة غُدوةً أجمالهَا ... غَضْبَى عليك فما تقول بدَالهَا
وكان خَلفٌ مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن، وينَحله الشعراء. ويقال إن الشعر المَنسوب إلى ابن أخت تأبّط شَرّاً، وهو:
إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْع ... لقتيلاً دَمُه ما يُطَلُّ
لخلَف الأحمر، وإنه نَحله إياه. وكذلك كان يفعل حمّاد الرواية، يَخلط الشعر القديم بأبيات له. قال حماد: ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتاً فجازت عليه إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر. قيل له: وما البيتُ الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال:
وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ ... من الحوادث إلا الشَّيبَ والصلعَا
وقال حمّاد الراوية: أرسل إليّ أبو مُسلم ليلاً فراعني ذلك، فلبستُ أكفاني ومضيتُ. فلما دخلتُ عليه تركني حتى سَكن جأشي، ثم قال لي: ما شِعر فيه أوتاد؟ قلت: من قائله أصلح اللّه الأمير؟ قال: لا أدري. قلت: فمِن شعراء الجاهلية أم مِن شُعراء الإسلام؟ قال: لا أدري. قال: فأطرقتُ حيناً أفكر فيه، حتى بدر إلى وَهمي شعر الأفوه الأوديّ حيث يقول:
لا يَصلح الناسُ فوضىَ لا سراةَ لهم ... ولا سَراةَ إذا جُهّالهم سادُوا
والبيت لا يُبتنَي إلا له عَمَد ... ولا عِمادَ إذا لم تُرْس أوتاد
فإنّ تَجمَّع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
فقلت: هو قَوْل الأَفوه الأودي أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات. فقال: صدقتَ، انصرفْ إذا شئتَ. فقمتُ، فلما خطوتُ البابَ لحَقني أعوان له معهم بَدْرة، فصَحِبوني إلى الباب. فلما أردتُ أن اقبضها منهم، قالوا: لا بُدّ مِن إدخالها إلى موضع مَنامك. فدخلوا معي، فعرضتُ أنْ أعطيهِم منها. فقالوا: لا نقدم على الأمير.
الأصمعيّ قال: أقبل فِتْيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جِئنا نتحدّث إليك. قال: كذبتم يا خُبثاء، ولكنْ قُلتم: كَبر الشيخُ فهلم بنا عسى أن نأخذَ عليه سَقطة، قال: فأَنشدهم لمائة شاعر كُلهم اسمه عمرو.
وقال الأصمعي: فعددتُ أنا وخَلف الأَحمر فلم نَزد على أكثر من ثلاثين.
وقال الشَّعبي: لستُ لشيء من العُلوم أقلَّ رواية مني للشعر، ولو شئتُ لأنشدت شهراً ولا أعيد بيتاً.
وكان الخليل بن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتاً. وكذلك كان الأصمعي.

وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر؟ قال: نَظري لجيِّده. وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا أجده؟ والذي أجده منه لا أريده.
وقيل لآخر: ما لك تَروي الشعر ولا تقوله؟ قال: لأني كالمسَنّ أَشحذ ولا أَقطع. وقال الحسنُ بن هانئ: رويتُ أربعَةَ آلاف شعر، وقلت أربعَة آلاف شعر، فما رزَأت الشعراء شيئاً.
القاسم بن محمد السّلاميّ قال: حدَّثنا أحمد بن بِشْر الأطْروش قال: حدَّثني يحيىِ بن سَعيد قال: أخبرني الأصمعيِّ قال: تصرَفتْ بي الأسباب إلى باب الرشيد مؤِمِّلاً للظفر، بما كان في الهِمَّة دفيناً، أترقّب به طالع سَعد يكون على الدَّرك مُعيناً. فاتَصل بي ذلك إلى أن كنت للحرسِ مُؤْنساً بما استملتُ به مودتَهم. فكنتُ كالضَّيف عند أهل المبرة. فطَرقتُهمِ متوجِّهاً بإتحافي. وطاولْتني الغايات بما كِدْت أصِير به إلى مَلالة، غير أنني لم أزل مُحْيِياً للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفَترة، وقلتُ في ذلك:
وأيُّ فتى أعِير ثباتَ قَلْب ... وساع ما تَضِيق به المَعاني
تجاذبه المواهبُ عن إباء ... ألاّ بل لا تُواتيه الأمانَي
فرُبَّ مُعرَّس للناس أجلى ... عن الدَرك الحميد لدى الرِّهان
وأيّ فتى أناف على سُموّ ... مِن الهمّات مُلْتهبَ الْجَنَان
بغير توسُّع في الصَّدرماض ... على العَزمات كالعَضْب اليَماني
فلم نَبْعد أنْ خرج علينا خادم في ليلةٍ نَثرت السعادةَ والتوفيق، وذلك أن الرشيد تربّعِ الأرقُ بين عينيه، فقال: هل بالحَضرة أحدٌ يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، رُبّ قيْد مُضيَّق قد فكّه التَيسير للإنعام. أنا صاحبُك، إن كان صاحبُك مَن طلب فأدمن، أو حَفِظ فأَتقن. فأَخذ بيدي، ثم قال: ادخل، إنْ يحتم الله لك بالِإحسان لديه والتَّصويب، فلعلّها تكون ليلةً تُعوِّض صاحبها الغِنى. قلت: بَشرك الله بالخير. قال: ودخلتُ فواجهتُ الرَشيد في البهو جالساً كإنّما رُكِّبب البدرُ فوق أزراوه جمالاً، والفضلُ بن يحيى إلى جانبه، والشَمع يحُدق به على قضب المَنابر، والخَدم فوق فَرشه وُقوف. فوقف بي الخادم حيث يَسمع تَسْليمي، ثم قال: سَلِّم. فسلّمت. فردّ، ثم قال: يُنَحَّى قليلاً ليسكن روعه إن وجد للرَّوْعة حساً. فقعدتُ حتى سكن جأشي قليلاً، ثم أقدمتُ، فقلت: يا أمير المؤمنين، إضاءة كَرمك، وبَهاء مجدك، مُجيران لمن نَظر إليك من اعتراض أذَّية له، أيسألني أمير المؤمنين فأجيب، أم أبتدئ فأصيب، بيُمن أمير المؤمنين وفَضْله؟ قال: فتبسّم إليَّ الفَضلُ ثم قال: ما أحسن ما أستدعى الاختبار، وأسهلّ به المُفاتحة، وأجْدر به أن يكون محسناً. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدم مبرزاً مُحسناً في استشهاده على براءته من الحَيْرة، وأرجو أن يكون مُمْتعاً. قال: أرجو. ثم قال: ادْنُ. فدنوتُ. فقال: أشاعرٌ أم راوية؟ قلت: رواية يا أمير المؤمنين. قال: لمن؟ قلت: لذى جِدٍّ وهَزْل، بعد أن يكون محسناً. قال: والله ما رأيتُ أوعى لعِلم ولا أخير بَمحاسنِ بيان قَتقَتْه الأذهان منك. ولئن صرتُ حامداً أثرَك لتعرفن الإفضال مُتوجِّهاً إليك سريعاً. قلت: أنا على الميْدان يا أمير المؤمنين، فيُطلق أميرُ المؤمنين من عِقالي مُجيباً فيما أحبه. قال: قد أنصف القارةَ مَن راماها. ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بَديّاً؟ قلت: ذكرت العربُ يا أمير المؤمنين أنَ التتابعة كانت لهم رُماة لا تقع سِهامهم في غير الحَدق، وكانت تكون في المَوْكب الذي يكون فيه المَلك على الجياد البُلْق، بأيديهم الأسورةُ، وفي أعناقهم الأطواق، تُسميهم العرب القارة. فخرج من موكب الصُغد فارس مُعْلَم بعَذَبات سُود في قَلنْسوته، قد وضع نُشابته في الوتر ثم صاح: أين رُماة الحرب؟ قالوا: قد أنصف القارة مَن راماها. والملك أبو حسَّان إذ ذاك المضاف إليه. قال: أحسنت! أرويتَ للغجَّاج ورُؤبة شيئاً؟ قلت: هما يا أمير المُؤمنين يتناشدان لك بالقَوافي، وإن غابا عنك بالأشخاص. فمدَ يدَه فأخرج من تحت فراشه رُقعة ينظر فيها، ثم قال: اسْمعني:
ارقني طارقُ هّم طَرَقا

فمضيتُ فيها مُضي الجَواد في سَنن مَيدانه، تَهْدِرُ بها أشداقي، حتى إذَا صَرتُ إلى امتداح بني أمية ثَنيتُ عِنان اللسان إلى امتداحه المنصورَ في قوله.
قُلْت لزِيرٍ لم تَصِلْه مَرَيمه
قال: أعن حَيْرة أمِ عن عَمد؟ قلت: بل عن عمد، تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنتَ بارك الله فيك، مثلك يُؤمَّل لهذا الموقف. قال الرشيد: أرجع إلى أول هذا الشعر. فأخذتُ من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلتُ. فقال الفَضل: ما لك تُضيِّق علينا كَلّ ما اتسع لنا من مساعدة السَّهر في ليلتنا هذه بذكر جَمل أَجرب؟ صِرْ إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت، هي التي أخرجتْك من دارك، وأَزعجتك من قَرارك، وسلبتْك تاجِ مُلكك ثم ماتت، فعملت جلودها سِياطاً يضرب بها قومُك ضربَ العبيد، ثم قهقه. ثم قال: لا تَدع نفسك والتعرّضَ لما تكره. فقال الفضل: لقد عُوقبتُ على غير ذنب، والحمد للّه. قال الرشيد: أخطأتَ في كلامك يرحمك اللّه، لو قلتَ: وأستغفر اللّه، قلتَ صواباً، وإنما يُحمد الله على النعم. ثم صَرف وجهه إليّ، وقال: ما أحسن ما أدَّيت في قدر ما سئلت؟ أسمعني كلمةَ عديِّ بن الرّقاع في الوليد ابن يزيد بن عبد الملك:
عَرف الدِّيار توهماً فاعتادها
فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، ألبستْنا ثوبَ السهر ليلتَنا هذه لاستماع الكذب، لمَ لا تأمره أن يُسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك؟ قال: ويحك! إنه أدب ما يُخطب أبكاره بالنّسب، وقلّما يُعتاض عن مثله. ولأن أسمع الشعر ممن يَخْبره وشغلته العنايةُ به عُمرَه أحبُّ إليّ من أن تُشافهني به الرُّسوم. وللمُمتَدح بهذا الشعر حركات ترد عليها فلا تصدُر من غير انتفاع بها. ولا أكون أول مُستنّ طريقة ذِكْر لم تؤدها الرواية. قال الفضل: قد والله يا أميرَ المؤمنين شاركتُك في الشوق، وأعنتُك على التّوْق. ثم التفتَ إليّ الفضلِ، فقال: أحْدُ بنا ليلتك مُنشداً، هذا سيدي أمير المُؤمنين قد أصغى إليك مُستمعاً، فمُر وَيحك في عِنان الإنشاد، فهي ليلة دهرك لن تنصرف إلا غانماً. قال الرشيد: أمّا إذا قطعتَ عليّ فأحلف لتشركنّي في الجزاء. فما كان لي في هذا شيء لم تُقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت نفسي على ذلك متقدّماً فلا تَجعلنّه وعيداً. قال الرشيد: ولا أجعله وَعيداً. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التِّيه على العرب كلها، إني أرى الخليفة والوزير وهما يَتناظران في المَواهب لي. فمررتُ في سنن الإنشاد، حتى إذا بلغتُ إلى قوله:
تُزْجِي أَغنَّ كأن إبرة رَوْقة ... قَلَم أصابَ من الدَّواة مِدادَها
فاستوى جالساً، ثم قال: أتحفظ في هذا شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال الفرزدق: لما قال عَدي:
تزجي أغنّ كأن إبرة رَوْقة
قلت لجرير: أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبِيهاً؟ فقال جرير:
قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها
فما رجع الجواب حتى قال عديّ:
قَلم أصاب من الدَّواة مدادها
فقلت لجرير: ويحك! لكأن سَمعَك مَخبوء في فؤاده. فقال جرير: اسكت، شغَلني سَبُّك عن جَيّد الكلام. ثم قال الرشيد: مُرَّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أُمةٍ إصلاحَها ورَشادها
قال الفضل: كذب وما برّ. قال الرشيد: ماذا صَنع إذ سمع هذا البيت؟ قلت: ذكرت الرواةُ يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلاّ باللّه. قال: مُرّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
تأتيه أَسْلاب الأعِزة عَنوَةً ... عُصَباً وتَجمع للحُروب عَتادَها
قال الرشيد: لقد وصفه بحَزم وعزم، لا يَعْرِض بينهما وَكْلٌ ولا استذلال.
قال: فماذا صَنع؟ قلت: يا أمير المؤمنين ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء اللّه. قال: أحسبك وَهمت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أنت أولى بالهِداية، فليردّني أميرُ المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله:
ولقد أراد الله إذ ولاّكها ... من أُمة إصلاحَها ورشادَها
ثمّ قال: والله ما قلت هذا عن سَمع، ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يمكن يُخطئ في مثل هذا. قال الأصمعيّ: وهو والله الصواب. ثم قال: مُرَّ في إنشادك. فمضيتُ حتى بلغت إلى قوله:

وعلمتُ حتى لا أسائل واحداً ... عن حَرف واحدةٍ لكي أزدادَها
وقال: وكان من خَبرهم ماذا؟ قلت: ذكرت الرواة أن جريراً لمّا أنشد عدي هذا البيت، قال: بلى واللّه، وعشر مِئين. قال عديّ: وَقْر في سمعك أثفل من الرصاص. هذا والله يا أمير المؤمنين المَديح المُنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الكلام في مَدْحه وتَشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين، لا يُحسنِ عديّ أن يقول:
شُمسُ العَداوة حتى يُستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قَدروا
قال الرشيد: بلى. قد أحسن إذ يقول في الوليد:
لِلْحمد فيه مذاهب ما تَنتهي ... ومكارم يَعْلون كُلَّ مكارم
ثمّ التفت إليَّ فقال: ما حفظتُ له في هذا الشعر شيئاً حين قال:
أطفأتَ نِيران الحُروب وأُوقدت ... نارٌ قَدَحْتَ براحتيك زِنادهَا
قلت: ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه حَك يميناً بشمال مُقتدحاً بذلك، ثم قال: الحمد للّه على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: أرويتَ لذي الرُّمة شيئاً؟ قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله إني لا أسألك سؤال امتحان، وما كان هذا عليك، ولكنّني أجعله سبباً للمُذاكرة، فإن وَقع عن عِرْفانك شيء، فلا ضيق عليك بذلك عِندي، فما ذا أراد بقوله:
مُمَرّ أَمرّت مَتْنَه أسديّة ... يَمانيّة حَلالة بالمَصانِع
قلت: وصف يا أمير المؤمنين حماراً وحشِيَّاً أسمنه بَقل رَوضة تشابكت فروعه، ثم تواشجت عُروقه، من قَطْر سحابة كانت في نَوء الأسد، ثم في الذَراع منه. قال: أصبتَ. أفترى القومَ علموا هذا من النجوم بنظرهم، إذ هو شيء قَلّما يُستخرج بغير السبب الذي رُويت لهم أصوله؟ أو أَدَّتهم إليه الأوهام والظُّنون؟ فالله أعلم بذلك. قلت: يا أمير المؤمنين، هذا كثير في كلامهم، ولا أحسبه إلا عن أثر أُلْقي إليهم. قال: قلّما أجد الأشياء لا تُثيرها إلاّ الفكر في القُلوب. فإن ذهبتَ إلى أنه هِبة الله ذكّرهم بها، ذهبتَ إلى ما أدَتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويتَ للشّماخ شيئاً؟ قلتُ: نعم يا أمير المؤِمنين. قال: يُعجبني منه قولُه:
إذا رُدَّ من ثِنْي الزِّمَام ثَنتْ له ... جِراناً كخُوط الخَيْزران المُمَوَّج
قلت: يا أمير المؤمنين، هي عَروس كلامه. قال: فأيها الحسن ألان من كلامه؟ قلت: الرائيّة، وأنشدتُه أبياتاً منها. قال: أمسك، ثمّ قال: أستغفر الله ثلاثاً، أَرِحْ قليلاً واجلس، فقد أمتعتَ مُنشداً، ووجدناك مُحسناً في أدبك، مُعبراً عن سرائر حفظك. ثم التفت إلى الفضل، فقال: لكَلام هؤلاء، ومَن تقدّم من الشعراء، دِيباجُ الكلام الخُسْرواني، يَزيد على القَدِم جِدّة وحُسناً. فإذا جاءك الكلام المُزيَن بالبديع، جاءك الحرير الصِّينيّ المُذهّب، يَبقى على المُحادثة في أفواه الرواة. فإذا كان له رَوْنق صَوَاب، وَعَته الأسماع، ولَذّ في القلوب، ولكن في الأقل منه. ثم قال: يُعجبني مثلُ قول مُسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته، مفتخراً عليها بطُول السّرى في اكتساب المغانم، حيث قال:
أجدّكِ هل تَدرين أن رُبَ ليلةٍ ... كأنّ دُجاها من قُرونك يُنشَر
صبرتُ لها حتى تجلّت بُغرة ... كغُرة يحيى حين يُذكر جَعفر

أفرأيت؟ ما ألطف ما جعلهما مَعدناً لكمال الصفات ومَحاسِنها؟ ثم التفت إليّ، فقال: أجدُ ملالة، ولعلِّ أبا العبّاس يكون لذلك أنشط، وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه، فأقِم معه مُسامراً له، ثم نَهض. فتبادر الخدم، فأمسكوا بيده حتى نزل عن فَرشه، ثم قُدّمت النعل، فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يُسوّي عَقب النعل في رجْله. فقال له: ارفُق ويحك، حَسْبك قد عَقرتني. قال الفضل: لله دَرُّ العَجم، ما أحكم صَنعتهم، لو كانت سِنْديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة. قال: هذه نَعلي ونَعل آبائي رحمة الله عليهم، وتلك نَعلك ونعل آبائك. لا تزال تُعارضني في الشيء، ولا أَدعك بغير جواب يُمضّك، ثم قال: يا غلام، عليّ بصالح الخادم. فقالت: يُؤمر بتَعجيل ثلاثين ألفَ درهم في ليلته هذه. قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره لدعوت لك بمثل ما أمر به أمير المؤمنين. فدعا له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين إلا ألفَ درهم. وتصبح من غد فتلقى الخازن إن شاء اللّه. قال الأصمعيّ: فما صليت الظَّهر إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.
وقال دِعبل بّن علي الخُزاعي:
يَموت رديء الشَعر من قبل أهلِه ... وجيّده يَبقى وإن مات قائلُه
وقال أيضاً:
إنّي إذا قلتُ بيتاً مات قائله ... ومَن يقال له، والبيتُ لم يَمُتِ
باب مَن استعدى عليه من الشعراء
لما هَجا الحُطيئة الزِّبرقان بنَ بَدْر بالشّعر الذي يقول فيه:
دَع المكارِم لا تَرْحل لبُغيتها ... واقعُد فإنك أنت الطاعِم الكاسي
إستعدى عليه عمرَ بن الخطّاب، وأنشده البيتَ. فقال: ما أرى به بأساً. قال الزِّبرقان: والله يا أمير المؤمنين، ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ منه. فبعث إلى حسّان بن ثابت وقال: انظُر إن كان هجاه. فقال: ما هَجاه، ولكن سَلح عليه. ولم يكن عُمر يَجهل موضع الهجاء في هذا البيت، ولكنه كَره أن يتعرّض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله، وأمر بالحُطيئة إلى الحَبس، وقال: يا خَبيث! لأشغلّنك عن أعراض المسلمين. فكتب إليه من الحَبس يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ ... زغب الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ
ألقيت كاسبَهم في قعر مظلمة ... فاغفِر عَليك سلامُ الله يا عُمر
أنت الإمام الذي مِن بعد صاحبه ... أَلقت إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر
ما آثروك بها إذ قدَّموك لها ... لكنْ لأنفسهم قد كانت الإثَر
فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألا يهجو رجلاً مُسلماً.
ولمِّا هجا النجاشيُ رهطَ تميم بن مُقبل، استعدَوا عليه عمَر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: يا أميرَ المؤمنين، إنّه هجانا. قال: وما قال فيكم؟ قالوا: قال:
إذا الله عادَى أهل لُؤم ورقة ... فعادَى بني عَجْلان رَهْط ابنِ مُقبل
قال عمر: هذا رجل دعا، فإن كان مظلوماً استُجيب له، وإن لم يكن مظلوماً لم يُستجب له. قالوا: فإنه قد قال بعد هذا:
قبيلته لا يَخْفرون بذمَة ... ولا يَظلمون الناسَ حَبَّة خَرْدل
قال عمر: ليت آلَ الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
ولا يَردون الماءَ إلا عشية ... إذا صَدر الوْرَّاد عن كُل مَنْهل
قال: فإن ذلك أَجَمّ لهم وأمكن. قَالوا: فإنه يقول بعد هذا:
وما سمَي العَجلان إلاّ لقَولهم ... خُذ القَعْب واحلب أيها العَبْد واعجل
قال عمر: سيِّد القوم خادمُهم، فما أرى بهذا بأساً.
ونظير هذا قول معاوية لأبي بُردة بن أبي مُوسى الأشعري، وكان دَخل حمّاما فزحمه رجل، فرفع رجلُ يده فلَطم بها أبا بُردة فأثر في وجهه. فقال فيه عُقَيبة الأسديّ:
لا يَصرم الله اليمينَ التي لها ... بوَجهك يابنَ الأشعريّ نُدوبُ
قال: فاستعدى عليه مُعاوية وقال: إنّه هَجاني. قال: وما قال فيك؟ فأنشده البيت. قال معاوية: هذا رجل دَعا ولم يقل إلا خيراً. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ فأنشده:
وأنت اْمرؤٌ في الأشْعرين مُقابَل ... وفي البَيت والبَطحاء أنت غَريبُ
قال معاوية: وإذا كنتَ مُقابَلا في قومك فما عليك ألا تكون مقابَلا في غيرهم.
قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ قال قال:

وما أنا من حُدّاث أمك بالضُّحى ... ولا مَن يُزكِّيها بظَهر مَغِيبِ
قال: إنما قال: ما أنا من حدَاث أمك، فلو قال: إنه من حُدَّاثها لكان ينبغي لك أن تغضب.
والذي قال لي أشد من هذا. قال: وما قال لك يا أمير المؤمنين؟ قال قال :
مُعاويَ إننا بَشرٌ فأسجِحْ ... فَلسْنا بالجبال ولا الحديدِ
أكلتُم أرضَنا وجَردتموها ... فهل من قاَئم أو من حَصِيد
فَهَبْنا أُمةً هَلَكت ضَياعاً ... يَزيدُ أميرُها وأبو يَزيدِ
أتطمع بالخُلود إذا هَلَكنا ... وليس لنا ولا لك مِن خُلود
ذَرُواجَور الخلافة واستقِيموا ... وتأميرَ الأرازل والعَبيد
قال: فما مَنعك يا أميرَ المًؤمنين أن تَبعثَ إليه مَن يضرب عُنقه؟ قال: أو خَيْر من ذلك؟ قال: وما هو؟ نجتمع أنا وأنت فنَرفع أيدينا إلى السماء ونَدعو عليه. فما زاد على أن أزرى به.
استعدى قومٌ زيادا على الفَرزدق، وزعموا أنه هَجاهم. فأرسل إليه وَعَرض له أن يُعطيه. فهرب منه وأنشده:
دَعانِي زيادٌ للعَطاء ولم أكُن ... لأقْرَبه ما ساق ذو حَسَب وَفرا
وعِنْد زياد لو يريد عطاءَهم ... رجالٌ كثيرٌ قد يَرى بهمُ فَقْرا
فلمّا خَشِيتُ أن يكون عطاؤه ... أداهم سُودا أو مُحَدْرَجة سمرا
نَهضتُ إلى عَنْس تَخوَّن نيها ... سُرى الليل واستعراضُها البلدَ القَفْرا
يَؤم بها المَوماة مَن لا ترى له ... لدى ابن أبي سُفيان جاهاً ولا عُذرا
ثم لحق بَسعيد بن العاص، وهو والي المدينة، فاستجار به وانشده شعره الذي يقول فيه:
إليك فررتُ منك ومن زيادٍ ... ولم أحْسب دمِي لكما حَلالاً
فإنْ يكُن الهِجاء أحلّ قَتْلي ... فقد قُلنا لشاعركم وقَالا
ترى الغُر السوابق من قريش ... إذا مِا الأمرُ في الحَدَثان عالا
قِياماً يَنْظرون إلى سعيد ... كأنَهمُ يَرَوْن به هلالا
ولما وقع التّهاجي بين عبد الرحمن بن حسَّان وعبد الرحمن بن أم الحكَم أرسل يزيد بنُ مُعاوية إلى كَعب بن جُعيل، فقال له: إنّ عبد الرحمن بن حَسَّان قد فضح عبدَ الرحمن بن أُم الحكم، فاهْج الأنصار. فقال: أرادِّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان؟ لا أهجوا قوماً نصروا رسول الله صلى الله عيه وسلم، ولكن أدلك على غُلامٍ منّا نصرانيّ. فدلّه على الأخطل. فأرسل إليه فهجا الأنصار، وقال فيهم:
ذهبت قريش بالمَكارم كُلِّها ... والُّلؤمُ تحت عَمائِم الأنصارِ
قومٌ إذا حَضر العَصِير رأيتَهم ... حُمْرا عُيونُهم من المُسْطار
وإذا نسبتَ ابن الفُريعة خِلْتَه ... كالجَحش بين حِمارة وحِمار
فدعُوا المَكارم لستُمُ من أهلها ... وخذُوا مساحِيَكم بني النّجار
وكان مع معاوية النُّعمان بن بَشير الأنصاريّ، فلما بلغه الشّعر أقبل حتى دخل على معاوية، ثم حَسر العِمامة عن رأسه، وقال: يا معاوية، هل تَرى من لؤم؟ قال: ما أرى إلا كَرَماً. قال: فما الذي يقول فينا عبدُ الأراقم:
ذهبت قُريش بالمَكارم كُلها ... واللؤمُ تحت عمائم الأنصار
قال: قد حكّمتك فيه. قال: والله لا رضيتُ إلا بقَطع لسانه. ثم قال:
مُعاوي إلا تُعطنا الحقّ تَعْترف ... لِحَى الأزد مَشْدودا عليها العمائمُ
أيشتُمنا عبدُ الأراقم ضلّة ... وما ذا الذي تجدي عليك الأراقم
مالي ثأر دون قَطْع لِسَانه ... فدُونك مَن تُرضيه عنك الدَراهم
قال معاوية: قد وهبتُك لسانَه. وبلغ الأخطلَ. فلجأ إلى يزيدَ بن معاوية. فركب يزيدُ إلى النُّعمان فاستوهبه إياه. فوَهبه له.
ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أُم الحكم:
وأمَّا قولُك الخُلفاء منّا ... فهم مَنعوا وَريدَك مِن وِداجِي
ولولاهم لَطِحْتَ كَحُوت بَحْر ... هَوَى في مُظلم الغَمرات داجِي

وهم دُعْج ووُلْد أبيك زُرق ... كأنّ عُيونهم قِطَع الزُجاج
وقال يزيد لأبيه: إنّ عبد الرحمن بن حسَّان يُشبَب بابنتك رَملة قال: وما يقول فيها؟ قال: يقول:
هِيَ بَيْضاء مثلُ لؤلؤة الغَوّ ... اص صِيغت من لُؤلؤ مَكنونِ
قال: صدق. قال: ويقول:
إذا ما نسبتها لم تَجِدْها ... في سَناء من المَكارم دونِ
قال: صدق أيضاً. قال: ويقول:
تجعل المسك واليَلَنْجو ... ج صِلاءً لها على الكانون
قال: وصدق. قال: فإنه يقول:
ثم خاصَرتها إلى القُبة الخض ... راء تَمشي في مَرمر مَسْنون
قال: كذب. قال: وِيقول:
قُبّة من مَراجل ضربوها ... عند بَرْد الشتاء في قَيْطون
قال: ما في هذا شيء. قال: تبعث إليه من يأتيك برأسه. قال: يا بُني، لو فعلت ذلك لكان أشدَّ عليك؟ لأنه يكون سبباً للخوض في ذِكره، فيُكثِّر مكثر ويزيد زائد، اضرب عن هذا صفحا، واطودونه كَشْحا.
ومن قول عبد الله بن قيس، المَعروف بالرُّقيات. يُشبِّب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية:
أعاتِك يا بنْت الخَلائف عاتكَا ... أنيلي فتىً أَمسى بحُبك هالِكَا
تبدَّتْ وأتراب لها فقتْلنَنيِ ... كذلَك يَقْتلن الرجالَ كذلكا
يُقلِّبن ألحاظاً لهنّ فوِاتراَ ... ويَحْملن من فوق النَعال السبائكا
إذا غَفلت عنّا العُيون التي نرى ... سَلَكْن بنا حيثُ اشتهين المَسالكا
وقُلْن لنا لو نَستطيع لزاركم ... طَبِيبان مِنّا عالمان بدائكا
فهل مِن طَبيب بالعِراف لعلّه ... يُداوي سَقِيماً هالكاً مُتهالكا
فلم يَعرض له يزيدُ للذي تقدّم من وصاية أبيه مُعاوية في رَملة.
تحدَثت الرواة أن الحَجاج، رأى محمدَ بن عبد الله بن نُمير الثقفي، وكان يُشبّب بزَينب بنت يوسف أخت الحجّاج، فارتاع مِن نظر الحجّاج إليه. فدعا به. فلما وقف بين يديه قال:
فِدَاك أبي ضاقت بي الأرضُ رُحْبُها ... وإن كنتُ قد طوّفتُ كُل مَكان
وإن كنتُ بالعنقاء أو بتُخومها ... ظننتك إلا أنْ تَصُد تَراني
فقال له: لا عليك، فوالله إن قُلتَ إلا خيراً، إنما قلت هذا الشعرَ:
يُخبئن أطرافَ البنَان من التُقى ... ويَخْرُجن وسطَ الليل مُعتجراتِ
ولكن اخبرني عن قولك:
ولما رأت رَكْب النّميري أعرضت ... وكُنُ من أن يَلقينَه حَذِرات
في كم كنت؟ قال: والله إن كنتُ إلا على حِمار هَزيل، معي رفيق على اتان مثله. قال: فتبسِّم الحجّاج ولم يَعرض له. والأبيات التي قالها ابنُ نمير في زَينب بنت يوسف:
ولم تَر عيني مثلَ سِرْب رأيتُه ... خَرَجْن من التَّنْعيم مُعْتمرات
مَرَرْن بفَخِّ ثم رُحن عشيةً ... يُلبِّين لرحمن مُؤْتجرات
تَضوّع مِسْكاً بطنُ نَعمان إذ مَشَتْ ... به زينب في نسْوة خَفِرات
ولما رأت رَكْب النُّميري أعرضتْ ... وكُنَّ من أن يلْقَينه حَذِرات
دَعَت نِسْوةً شُمَّ بدَناً ... نواضِرَ لا شُعْثاً ولا غَبِرات
فأدْنين لما قُمْن يَحْجُبن دونها ... حِجاباً مِن القَسيِّ والحِبرَات
أجل الذي فوق السَّموات عرشُه ... أوانسَ بالبَطْحاء مُعْتجرات
يُخَبِّئْن أطراف البَنان من التُقي ... ويخْرُجن وسطَ الليل مُخْتمرات
وكان الفرزدق قد عرَّض بهشام بن عبد الملك في شِعره. والبيتُ الذي عرض به فيه قولُه:
يُقلِّب عينَاً لم تكن لخليفة ... مُشَوِّهةً حَوْلاء جما عُيوبُها
فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القَسْريّ عامله على العراق يأمره بحَبسه، فحبسه حتى دخل جَرير على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت تُريد أن تَبْسط يدَك على بادي مُضر وحاضرها فأطْلِق لها شاعرهَا وسيّدها الفرزدق. فقال له هشام: أوَ مَا يسُرك ما أخزاه اللّه؟ قال: ما أريد أن يُخزيه الله إلا على يديّ. فأمر بإطلاقه.

أي بيت تقوله العرب أشعر

قيل لأبي عمرو بن العلاء: أيّ بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي إذا سمعه سامعُه سَوّلت له نفسه أن يقول مثله، ولأن يخدَش أنفه بظفر كلْبٍ أهونَ عليه من أن يقول مثلَه.
وقيل للأصمعيّ: أيّ بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: الذي يُسابق لفظه معناه.
وقيل لخليل: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البَيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته. وقيل لغيره: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيتُ الذي لا يَحْجبه عن القلب شيء.
وأحسن من هذا كله قول زُهير:
وإنّ أحسنَ بيتٍ أنت قائُله ... بيت يُقال إذا أَنشدتَه صَدَقا

أحسن ما يجتلب به الشعر
قالت الحكماء: لم يُستدع شارد الشعر بأَحسنَ من الماء الجاري، والمكان الخالي، والشرف العالي. وتأول بعضهم الحالي بالحاء. يريد الحالي بالنوَّار، يعني الرياض، وهو توجيه حسن ولقي أبو العتاهية الحسنَ بن هانئ، فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تُؤتى بالرّياحين والزهور فتوضع بين يديك؟ قال: وكيف ينبغي للشعر أن يُقال إلا على هكذا؟ قال: أما إني أقوله على الكَنيف. قال: ولذلك توجد فيه الرائحة.
وقال عبد الملك بن مَروان لأرطاة بن سُهيّة: هل تقول الآن شعراً؟ قال: ما أَشرب ولا أَطرب ولا أضرب، فلا يقال الشعر إلا بواحدة من هذه.
وقيل للحُطيئة: مَن أشعر الناس؟ فأخرج لساناً رقيقاً، كأنه لِسان حَيّة وقال: هذا إذا طَمِع.
وقيل لكُثير عَزّة: لمَ تركتَ الشعر؟ قال: ذهب الشَّباب فما أَعجب، وماتت عَزّة فما أطرب، ومات ابن أبي ليلى فما أرغب. يريد عبد العزيز بن مروان وقالوا: أشعر الناس النابغة إذاَ هب، وزُهير إذا غضب، وجَرير إذا رَغب.
وقال عمرو بن هند لِعَبيد بن الأبرص، ولَقيه في يوم بُؤسه: أَنْشِدني من شعرك. قال: حال الجَريض دون القَريض.
وقد يَمتنع الشعر على قائله ولا يَسلس حتى يَبعثه خاطر يطربه، أو صوت حَمامة.
وقال الفرزدق: أنا أشعر الناس عند اليأس، وقد يأتي عليّ الحِين وقَلْع ضِرْس عندي أهون من قول بيت شِعر. وقال الراجز:
إنما الشِّعر بناءٌ ... يبتنيه المُتنونَا
فإذا ما نسقوه ... كان غَثاً أو سمينا
رُبما وأتاك حِينا ... ثم يستصعب حِينا
واسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكَرى، وأول النهار قبل الغداء، وعند مفاجأة النفس واجتماع الفكر. وأقوى ما يكون الشعر عندي على قَدر قُوة أسباب الرغبة أو الرهبة.
قيل للخُريمي: ما بال مدائحك لمحمد من مَنصور بن زياد أحسنُ من مَراثيك؟ قال: كُنا حينئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نَعمل على الوفاء، وبينهما بَوْن بعيد.
والدليل على صحة هذا المعنى وصِدْق هذا القياس، أنّ كُثيرَ عزّة والكُميت ابن زيد كانا شِيعيّين غاليين في التشيع، وكانت مدائحهما في بني أمية أشرفَ وأجود منها في بني هاشم، وما لذلك علّة إلا قوة أسباب الطمع.
وقيل لكُثير عزّة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أَطوف في الرّباع المُحيلة، والرِّياض المُعشبة، فإن نفرت عنك القوافي، وأعيت عليك المعاني، فروّح قلبك، وأجمّ ذهنك، وارتصد لقولك فراغَ بالك وسعة ذِهنك فإنك تجد في تلك الساعة ما يَمتنع عليك يومَك الأطول، وليلك الأجمع.
من رفعه المدح ووضْعه الهجاء
قال بلال بن جرير: سألتُ أبي جريراً فقلت له: إنك لم تَهجُ قوماً قط إلا وضعتَهم، غير بني لجأ؟ قال: يا بُني، إنّي لم أجد شرفاً فأضعه، ولا بناء فأهدمه.
وقد يكون الشيء مدحاً فيجعله الشَعر ذمّا، ويكون ذمَّا فيجعله الشعر مدحا. قال حبيب الطائي في هذا المعنى:
ولولا خِلال سَنها الشِّعْر ما دَرى ... بُغاةُ النَّدَى من أين تُؤتى المَكارمُ
تُرى حكمة ما فيه وهو فُكاهة ... وَيقضي بما يقضي به وهْو ظالم
ألا تَرى إلى بني عبد المَدان الحارثيِّين كانوا يَفخرون بطُول أجسامهم وقديم شرفهم، حتى قال فيهم حسان بن ثابت:
لا بأسَ بالقَوم مِن طُول ومن غِلَظ ... جِسْم البِغال وأحلامُ الصَافير
فقالوا له: والله يا أبا الوليد لقد تَركْتَنا ونحن نَسْتحي من ذكر أَجسامنا بعدَ أن كُنَّا نَفخر بها. فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت، فقال فيهم:

وقد كُنا نقول إذا رَأينا ... لِذي جِسْم يُعدّ وذِي بَيانِ
كأنك أيها المُعطَى لِساناً ... وجِسْماً من بني عَبد المَدان
وكان بنو حنظلة بن قُريع بن عَوْف بن كعب يقال لهم: بنوِ أنف الناقة، يُسَبون بهذا الاسم في الجاهلية. وسبب ذلك أن أباهم نحر جزوراَ وقسم اللحم فجاء حَنظلة، وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبيّاً، فجعل يجره. فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلُقب به، وكانوا يغضبون منه حتى قال فيهم الحُطيئة:
سِيري أمامَ فإنّ الأكثرين حصىً ... والأكرمين إذا ما ينسبون أبَا
قوم هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرهُمِ ... ومن يُسوّي بأنف النّاقة الذّنبا
فعاد هذا الاسم فخراً لهم وشرفاَ فيهم.
وكان بنو نمير أشرافَ قيس وذوائبهَا حتى قال جريرِ فيهم:
فغُضَّ الطَّرفَ إنك من نُمير ... فلا كَعباً بلغتَ ولا كلابا
فما بقي نُميريّ إلا طأطأ رأسه. وقال حَبيب الطَّائي: وقد كان المحلق بن حَنْتَم بن شدَّاد خاملاً لا يذكر، حتى طَرقه الأعشى في فِتْية وليس عنده إلا ناقة. فأتى أمه، فقال: إنّ فتية طَرقونا الليلة، فإنْ رأيتِ أن تأذني في نَحر الناقة؟ قالت: نعم يا بُني. فنَحرها واشترى لهم ببعض لحمها شراباً وشَوى لهم بعضَ لحمها. فأصبح الأعشى ومَن معه غادِين. فلم يَشْعر المحلّق حتى أتته القصيدةُ التي أولها:
أَرِقتُ وما هذا السُّهاد المُؤرّقُ ... وما بِيَ من سُقْم وما بي مَعشَقُ
وفيها يقول:
لَعْمري لقد لاحتْ عيون كثيرة ... إلى ضَوء نار في يَفاع تَحرَّقُ
تُشَبّ لمَقْرورَيْن يَصْطليانها ... وبات على النار النَدىِ والمحلق
رَضِيعي لَبانٍ ثَدْىَ أمّ تقَاسما ... بأسْحمَ داجٍ عوْضُ لا نتَفرّق
ترى الجُود يَسْرِي سائلاً فوق وَجهه ... كما زان مَتْن الهُنْدوانيّ رَونق
فلما أتته القصيدةُ جَعلت الأشراف تخطب إليه، ويقول القاتل:
وبات على النّار النَّدى والمُحلَّق
وقوله تقاسما بأسحم داج . يقول: تحالقا على الرماد، وهذا شيء تفعله الفُرس لئلا يفترقوا أبداً. والعرض: الدهر.

ما يعاب من الشعر وليس بعيب
قال الأصمعي: سمعتُ حمّاداً الراوية، وأَنشده رجل بيتَ حَسّان:
يُغْشَون حتى ما تَهِرّ كلابُهم ... لا يَسْألون عن السواد المُقبل
فقال: ما يُعرف هذا إلا في كلاب الحَانات. وأنشده آخر قولَ الشاعر:
لِمنْ مَنزل بين المَذانب والجِسْر
فقال: ما يعرف هذا إلا دار الماسيديين.
ومما يُعاب من الشعر وليس بعيب قولُ الفرزدق:
أيابنةَ عبد الله وابنةَ مالك ... ويا بِنت ذي البُردين والفَرس الوَرْدِ
فقال مَن جهل المَعنى ولم يعرف الخبر: ما في هذا من المدح أن يمدح رجل بلباس بُردين، وركوب فرس ورْد. وإنما معناه: ما قال أبو عُبيدة: إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان، فأخرج إليهم برُدي مُحرِّق. وقاد لهم: ليقُم أعزّ العرب قَبيلةً فَليلْبِسْهما. فقال عامر بن أحيمر بن بَهدلة، فائترز بأحدهما وتَردّى بالآخر. فقال له النُّعمان: بم أنت أعزُ العرب قبيلةً؟ قال: العِزّ والعدد من العرب في مَعدّ، ثم في نِزار، ثم في مُضَر، ثم في خِنْدف، ثم في تَميم، ثم في سَعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بَهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فَلْينافرني، فسكت الناس. فقال النعمان: هذه عَشيرتك فكيف أنت كما تَزعم، في نَفسك وأهل بَيتك؟ فقال: أنا أبو عشرة وعَم عشرة وخال عشرة، وأمّا أنا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وَضع قَدمَه في الأرض، وقال: مَن أزالها فله مائة من الإبل. فلَمْ يتعاطَ ذلك أحدٌ. فذهب بالبُردين. فسُمَّي: ذا البُردين، وفيه يقول الفرزدق:
فما تمِّ في سَعد ولا آل مالك ... غُلام إذا ما سِيل لم يَتبهدل
لهمْ وهَب النعمانُ بُردَي مُحَرِّق ... بمَجْد مَعَدّ والعديد المُحصّل
ومما يُعاب من الشعر وليس بعَيْب قولُ الأعشى في فرس النُّعمان، وكان يُسمَى اليحموم:
ويأمر لليَحموم كُلّ عشيَّة ... بقَت وتَعْليق فقد كاد يَسْنَقُ

فقالوا ما هذا مما يُمدح به أحد من السُّوقة فضلاً عن الملوك. إنه يقوم بفوس ويأمر له بالعلف حتى كادَ يسنق. وليس هذا معناه، وإنما المعنى فيه ما قال أبو عُبيدة: إن ملوك العرب بلغ من حَزمها ونَظرها في العواقب أنّ أحدهم لا يبيت إلا وفرسُه مَوقوف بسَرجه، ولجامه بين يديه، قريباً منه، مخافة عدو يفجؤه، أو حال تنقلب عليه: فكان للنعمان فرس يقال له اليَحموم، يتعاهده كُلّ عشية. وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأَفنية البيوت.
ومما عابوه، وليس بعَيب، قولُ زُهير:
قِفْ بالديار التي لم يَعْفُها القِدَم ... بلَى وغيَّرها الأرياح والدِّيمُ
فنَفى ثم حقّق في معنى واحد. فنَقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره، لأنه زعم أنَّ الديار لم يَعْفُها القِدَم. ثم إن انتبه من مَرْقده، فقال: بلى عفاها وغيْرها أيضاً الأرياح والدِّيم. وليس هذا معناه الذي ذهب إليه، وإنما معناه: أنَّ الديار لم تَعْفُ في عَيْنه، من طريق محبّته لها وشغفه بمن كان فيها.
وقال غيرُه في هذا المعنى ما هو أبين من هذا، وهو قولُه:
ألا ليتَ المنازل قد بَلينا ... فلا يَرْمِين عن شَزْر حَزِينَا
فقوله ألا ليت المنازل قد بلينا أي بَلِي ذِكْرُها، ولكنَها تتجدّد على طُول البلى بتجدّد ذكرها. وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى، فلخّصه وأوضحه، وشنَّفه وقرّطه، حيث يقول:
لمن دِمَنٌ تزداد طِيبَ نَسيم ... على طُول ما أقوت وحسْنَ رُسوم
تجافَى البِلَى عنهنّ حتى كأنما ... لَبسْنَ على الإقواء ثوبَ نَعيم
وممَّا عِيب من الشّعر وليس بعَيب، ما يُروى عن مَروان بن الحَكم أنه قال لخالد بن يزيدَ بن معاوية، وقد أستنشده من شعره، فأَنشده:
فلو بقيتْ خلائفُ آل حَرْب ... ولم يُلْبِسْهمُ الدَّهرُ المَنونَا
لأصبح ماءُ أهل الأرض عَذْباً ... وأصبح لحمُ دُنياهم سمينا
فقال له مروان: منونا وسمينا، والله إنها لقافية ما اضطرك إليها إلا العَجْز. وهذا مما لا عَجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر، وما أرى العيب فيه إلا على مَن رآه عيباً؟ لأنَ الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كُلها، قديمها وحديثها. وقال عبَيد بن الأبرصِ:
وكُل ذي غيْبة يؤوب ... وغائبُ المَوت لا يؤوبً
مَن يسأل الناسَ يَحْرموه ... وسائلُ الله لا يَخِيب
ومثلُه من المُحدثين:
أجارةَ بيتينا أبوك غَيُور ... وميسور ما يُرجى لديك عَسيرُ
ومما عِيب من الشعر وليس بعيب، قولُ ذي الأمة:
رأيتُ الناسَ يَنْتجعون غَيْثاً ... فقلت لصَيْدح انتجعي بلالا
ولما أنشدوا هذا الشعر بلالَ بن أبي بُردة، قال: يا غلام مُرْ لصيدح بقَتٍّ من عَلف، فإنها هي انتجعَتْنا. وهذا من التعنّت الذي لا إنصاف معه، لأن قوله انتجعي بلالا إنما أراد نفسه. ومثله في كتاب الله تعالى: " واسأل القَرْيةَ التي كُنّا فِيها والعِيَر التي أقْبَلنا فيها " . وإنما أراد أهلَ القرية وأهل العِير.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في بعض ما يَرتجز به من شعر:
إليك تَعدو قَلِقاً وَضينُها ... مخالِفاً دينَ النصارى دينُها
فجعل الدِّين للناقة، وإنما أراد صاحبَ الناقة. ولم تزل الشعراء في مدائحها تصف النُّوق وزيارتَها لمن تمدحه، ولكنّ مَن طلب تعنّتاً وَجده، أو تجنّياً على الشاعر أدركه عليه، كما فعل صريعُ الغواني بالحَسن بن هانئ حين لَقيه، فقال له: ما يَسلم لك بيتٌ عندي من سَقَط. قال: فأيّ بيت أسْقطت فيه؟ قال: أنشدني أيَّ بيتٍ شئتَ. فأنشدَه:
ذَكر الصِّبوحَ بسُحرِة فارتاحا ... وأمله ديكُ الصّباح صِياحَا
فقال له: قد ناقضت في قولك، كيف يُمِلّه ديك الصباح صِياحاً، وإنما يُبشره بالصَّبوح الذي ارتاح له. فقال له الحسن: فأنشدني أنت من قولك. فأنشده:
عاصىَ العَزاءَ فراح غَير مُفَنَدِ ... وأقام بين عَزيمة وتجلّدِ
قال له: قد ناقضت في قولك، إنك قلت:
عاصى العزاء فراح غير مُفند
ثم قلت:
وأقام بين عزيمة وتجلّد

فجعلته رائحاً مُقيماً في مقام واحد، والرائح غير المُقيم. والبيتان جميعاً مؤتلفان. ولكنَ من طلب عيباً وجده. ومما عابه ابنُ قتيبة وليس بعيب، قول المُرقَش الأصغر:
صحا قلبُه عنها على أنّ ذِكْرها ... إذا ذُكرت دارت به الأرضُ قائمَا
فقال له: كيفَ يَصحو مَن كانت هذه صِفته؟ والمعنى صحيح، وإنما ذهب إلى أن حاله هذه، على ما تقدّم من سوء حاله، حال صَحْو عنده. ومثل هذا في الشعر كثير، لأن بعض الشّر أهون من بعض.
وقال النبيّ صلى الله عيه وسلم في عمّه أبي طالب: إنه أخفُّ الناس عذاباً يوم القيامة، يُحذَى نعلين من نار يَغلي منها دماغُه. وهذا من العذاب الشديد، وإنما صار خفيفًا عندما هو أشدّ منه، فزعم المُرقّش أنه عند نفسه صاحٍ، إذ تبدُل حاله أسهل مما كان فيه. وقد عاب الناسُ على الحَسن بن هانئ قَوله:
واخفَت أهلَ الشّرك حتى إنّه ... لتخافُك النُطفُ التي لم تخلقِ
فقالوا: كيف تَخافه النُطف التي لم تُخلق؟ ومجاز هذا قَريب، إذا لحظ أنّ كل من خاف شيئاً خافه بجوارحه وسَمْعه وبَصره ولحمه ودمه، والنُطف داخلة في هذه الجملة، فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النُطف التي في أصلابها.
وقال الشاعر:
ألا تَرْثِي لمُكتئبٍ ... يُحبّك لحمُه ودمُه
وقال المكفوف:
أحبكمُ حبّاً على الله أجرُه ... تَضمّنه الأحشاءُ واللحمُ والدمُ
ولقى العتّابي منصوراً النَمريّ فسأله عن حاله. فقال: إني لَمدهوش، وذلك أني تركت امرأتي وقد عَسُر عليها ولادُها. فقال له العتّابي: ألا أدلّك على ما يُسهل عليها. قال: وما هو؟ قال: اكتب عَلى رَحمها هارون. قال: وما مَعناكَ في هذا؟ قال: ألستَ القائل فيه:
إنْ أخلف القَطر لم تُخلف مواهبُه ... أو ضاق أمر ذَكرناه فيتسعُ
فقال: أبا لخُلفاء تُعرّض، وفيهم تَقع، وإياهم تَعيب. فيقال: إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العَتّابي. فكتب إلى عبد الصمد عمّه يأمره بقتله. فكتب إليه عبدُ الصمد يشفع له. فوهبه إياه.

تقبيح الحسن وتحسين القبيح
سُئل بعض علماء الشعر: من أشعر الناس؟ قال الذي يُصوِّر الباطل في صورة الحق، والحقَّ في صورة الباطل، بلُطف معناه، ورقّة فِطْنته، فيُقَبِّح الحسنَ الذي لا أحسن منه، ويُحسن القبيح الذي لا أقبح منه.
فمن تحسين القبيح قولُ الحارث بن هشام يعتذر من فراره يوم بَدْر:
الله أعلم ما تركتُ قِتالَهم ... حتى رَموا مُهري بأشقَرَ مُزْبِدِ
وعلمتُ أنّي إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يَضْرر عدوّي مَشهدي
فصرفتُ عنهم والأحبةُ فيهمُ ... طمعاً لهم بعقاب يوم مُفْسِدِ
وهذا الذي سمعه صاحب الهند رُتْبيل، فقال: يا معشر العرب، حَسّنتم كل شيء فحَسُن حتى حَسّنتم الفرار. ومن تقبيح الحسن: قولُ بشّار العقيلي في سليمان بن عليّ، وكان وصل رجلاً وأحسن إليه:
يا سوأةً يُكثر الشيطانُ ما ذُكرت ... منها التعجبَ جاءت من سُليمانَا
لا تَعجبنَّ لخَيْرِ زلّ عن يده ... فالكَوكبُ النَّحس يَسقي الأرضَ أحيانا
وقال غيرُه في تَحسَين القَبيح:
يقولون لي إنّي بَخيل بنائلي ... ولَلْبخلُ خيرٌ من سؤال بَخيل
وقال المُتلمّس في تَقبيح الحسن:
وحَبْس المال خيرٌ من بُغاه ... وضَرْبٌ في البلاد بغَيْر زادِ
وإصلاحُ القليل يزيدُ فيه ... ولا يَبقَى الكثير مع الفَساد
وقال محمود الورَاق في تحسين القبيح:
يا عائبَ الفقر ألا تَزدجرْ ... عيبُ الغِنى أكبرُ لو تعتبرْ
مِن شرَف الفَقر ومِن فَضله ... على الغِنى إنْ صَحّ منك النَّظر
أنك تَعصي كي تَنال الغِنَى ... وليس تَعصي الله كي تفتقر
ومن تحسين القبيح، أنه قيل لجَذيمة الأبرش: ما هذا الوَضح الذي بك؟ قال: سيفُ الله جلاه. وقال اْبن حَبْناء، وكان به بَرص:
لا تحسبنّ بياضاً فيَّ مَنْقصةً ... إنّ اللَّهاميمَ في أقرابها بَلقُ
وقال محمود الورّاق يمدح الشَيب:
وعائب عابَني بشَيْبي ... لم يَعْدُ لمّا ألم وقتَه

فقلت للعائِبي بشيبي ... يا عائبَ الشَّيب لا بلغتَه
وقال آخر:
يقولون هل بعدَ الثلاثين مَلْعبُ ... فقلتُ وهل قبل الثلاثين مَلعبُ
لقد جلّ قدرُ الشَّيب إن كان كُلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب
وقال أعرابيّ في عجوز:
أبى القلبُ إلا أمّ عمرو وحُبّها ... عجوزاً ومَنْ يُحبِب عجوزاً يفنَّدِ
كثَوْب يمانٍ قد تَقادم عهدُه ... ورُقْعته ماشِيتَ في العَين واليَدِ
قال بَشّار العُقبليّ في سوداء:
أشبهك المِسكُ وأشبهته ... قائمةً في لونه قاعدَه
لا شَكَّ إذ لونُكما واحد ... أنّكما من طِينة واحده

الاستعارة
لم تزل الاستعارة قديمةً تُستعمل في المَنظوم والمَنثور. وأحسن ما تكون أن يُستعار المنثور من المنظوم، والمَنظوم من المنثور. وهذه الاستعارة خفية لا يُؤبه بها، لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال. وأكثر ما يجتلبه الشعراء ويتصرف فيه البلغاء فإنما يجري فيه الآخر على سنَن الأول. وقلَّ ما يأتي لهم معنى لم يَسبق إليه أحد، إما في مَنظوم وإما في مَنثور؟ لأن الكلام بعضه من بعض، ولذلك قالوا في الأمثال: ما ترك الأول للآخر شيئاً. ألا ترى أنّ كعب بن زُهير، وهو في الرَّعيل الأول والصدر المتقدم، قد قال ِفي شعره:
ما أرانا نقول إلا مُعاراً ... أو مُعاداً من قولنا مَكْرورا
ولكن في قولهم إن الآخِر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يُحسنه ويَقرِّبه ويوضحه، فهو أولى به من الأول، وذلك كقول الأعشى:
وكأْسٍ شربتُ على لذّة ... وأخرى تداويتُ منها بهَا
فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانئ فحسّنه وقَرّبه إذ قال:
دعْ عنكَ لَوْمي فإنّ اللومَ إغراءُ ... وَداوِني بالَّتي كانتْ هي الدَّاءُ
وقال القُطاميّ:
والناسُ مَن يَلْقَ خيراً قائلون له ... ما يَشْتَهي ولأمّ المخطئ الهَبَلُ
أخذه من قول المُرقِّش:
ومَن يَلق خيراً يَحمد الناسُ أمرَه ... ومن يَغْوَ لا يَعدَم على الغيّ لائِمَا
وقال قيس بن الخَطيم:
تَبدَّت لنا كالشَّمس تحت غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب
أخذه بعضً المُحدثين فقال:
فشبَّهتُها بدراً بدَا منه شِقُّه ... وقد سَترتْ خدا فأبدت لنا خَدا
وأَذْرت على الخَدّين دمعاً كأنه ... تنَاثُر درّ أو نَدى واقَع الوَرْدا
وأخذه آخر فقال:
يا قمرا للنِّصف من شَهره ... أبْدَى ضِياءً لثمانٍ بَقينْ
وأخذه بشّار فقال:
ضنت بخدّ وجَلَت عن خَد ... ثم انثنت كالنَّفَس المُرْتدِّ
فلم يُفسد الآخر قولَ الأول، ولم يكن الأولُ أولى بالمعنى من الآخر.
وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله، وهو قولي:
كأنّ التي يوم الوَداع تعرّضت ... هلال بدا مَحْقاً على أنه تِمُّ
وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم، ومن المنظوم في المنثور، فإنها أحسن استعارة.
دخل سهلُ بن هارون على الرشيد وهو يضاحك ابنه المأمون، فقال سهل: يدعو للمأمون: اللهم زِدْه من الخيرات، وابسُط له من البركات، حتى يكون كُل يوم من أيامه مُوفياً على أمسه، مقصّراً عن غده. فقال له الرشيد: يا سهل، من رَوى من الشعر أفصحه، ومن الحديث أوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه القول؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحداً سبقني إلى هذا المعنى. قال: بلي. سبقك أعشى همدان، حيث يقول:
رأيتك أمس خير بني مَعدّ ... وأنت اليوم خيرٌ منك أمس
وأنت غداً تزيد الضعفَ خيراً ... كذاك تزيد سادةُ عبد شَمْس
وقد يكون مثلُ هذا وما أشبهه عن موافقة.
وقد سُئل الأصمعيّ عن الشاعريْنِ يَتّفقان في المعنى الواحد ولم يَسمع أحدُهما قول صاحبه. فقال: عُقول الرجال توافتْ على ألسنتها.
اختلاف الشعراء في المعنى الواحد
وقد تختلف الشعراء في الواحد، وكل واحدٍ منهم مُحسن في مذهبه، جارٍ في توجيهه، وإن كان بعضُه أحسنَ من بعض.
ألا ترى أن الشَماخ بن ضِرار يقول في ناقته:

إذا بلغتني وحملتِ رَحلي ... عَرابةَ فاشرَقي بدَم الوَتِين
وقال الحسن بن هانئ في ضِدّ هذا المعنى ما هو أحسن منه في محمد الأمَين:
فإذا المطيُّ بنا بلغْن محمداً ... فظُهورهن على الرجال حَرامُ
وقال أيضاُ:
أقول لناقتي إذ أبلغتْني ... لقد صبحتِ مني باليَمين
فلم أجعلك للغِربان نُحْلاً ... ولا قلتُ اشرَقي بدَم الوتين
فقد عاب بعضُ الرواة قولَ الشماخ واحتجوا في ذلك بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصارية المأسورة التي نجت على ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم: إِني نذرت يا رسول الله إن نجْا بي الله عليها أن أنحرها قال: بئسما جَزيتيها. ولا نذْر لأحد في مِلْك غيره.
وقد قالت الشعراء فلم تزل تمدح حُسن الهيئة وطيب الرائحة وإسبال الثوب.
قال الفرزدق:
بنو دارم قَومي ترى حُجزاتِهم ... عِتاقاً حواشيها رِقاقاً نِعالهُا
يَجُرون هُدَّابَ اليَماني كأَنهم ... سُيوفٌ جلاَ الأطباعُ عنها صِقالُها
وأول من سبق إلى هذا المعنى النابغة الذبياني في قوله:
رقاقُ النّعال طَيِّبٌ حُجزاتُهم ... يحيَّوْن بالريحان يوم السَّباسبِ
وقال طَرَفة:
ثم راحوا عَبقُ المِسك بهم ... يُلْحِفُين الأرضَ هُدَّابَ الأزُرْ
وقال كُثير عَزِّة في إسبال الذيول يمدح بعض بني أمية:
أشمّ من الغادِين في كُل حُلّة ... يَميسون في صِبْغ من العَصْب مُتْقِن
هم أزر حمر الحَواشي بُطونها ... بأَقدامهم في الحَضْرميّ المُلسَّن
وقال فيه أيضاً:
إذا حُلَل العَصْب اليَماني أجادَها ... أَكُفُّ أساتيذ على النَّسج دُرَّب
أتاهم بها الجابي فراحوا عليهمُ ... تمائمُ من فَضفاضهن المُكَعب
لها طُرُز تحت البَنائِق أدنيت ... إلى مُرهفات الحَضرمي المُعَقْرب
وقال آخر:
معي كُل فَضفاض القَمِيص كأنه ... إذا ما سرتْ فيه المُدَام فَنِيق
وخالفهم فيه صريع الغواني فقال:
لا يَعبق الطيب خدّيه ومَفرقَه ... ولا يُمَسِّح عينيه من الكُحُل
وقال دُريد بن الصِّمَّة يرثي أخاه عبد الله بن الصمة ويصفه بتَشمير الثوب:
كَمِيش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بَعيد عن السوات طَلاّع أنجُدِ
مثل قول الحجاج:
أنا ابن جَلاَ وطَلاعِ الثنايا ... متَى أضع العمامَة تَعرفوني
وقد يُحمل معناهم في تشمير الثوب وسَحبه واختلافهم فيه على وجهين: أحدهما أن يَستحسن بعضُهم ما يَستقبح بعض. والوجه الثاني، وهو أشبه، أن يكون لتشمير الثوب موضع ولسحبه موضع، كما قال عمرو بن معد يكرب:
فيوماً تَرانا في الخزوز نجرّها ... ويوماً تَرانا في الحَديد عوابسَا
ويوماً تَرانا في الثَريد نَدسه ... ويوماً ترانا نكسر الكَعك يابسا
وقال أعشى بكر لعمر بن مَعد يكرب:
وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومة ... شهباء يجتنب الكُماة نزالَها
كتب المقدَم غيرَ لابس جُنّة ... بالسيف تَضرب معلماً أبطالها
وقال مُسلم بن الوليد في يزيدَ بن مَزيد خلافَ هذا كُله، وهو:
تراه في الأمن في دِرع مُضاعَفة ... لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عَجل
ولما أنشده يزيدَ بن مزيد، قال له: ألا قلت كما قال الأعشى؟ وأنشده البيتين.
فقال: قولي أحسنُ من قوله، إنه وصفه بالخُرق، وأنا وصفتك بالحَزم.
وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسديّ: ما أحسنُ شيء مُدحت به؟ قال: قول الشاعر:
أسيلم ذا كُمْ لا خَفاً بِمكانه ... لعين تُرجِّي أو لأذن تَسمَّعُ
من النَّفر الشُّم الذين إذا اعتَزَوْا ... وهاب رجال حلْقَة الباب قَعْقَعوا
جلا الأذفُر الأحوى من المسك فَرْقَه ... وطيبُ الدِّهان رأسَه فهوِ أنزع
إذا النَفر السُّود اليمانون حاولوا ... له حَوْكَ بُرديه أدقّوا وأوْسعوا
فقال عبد الملك: أحسن من هذا قول أبي قَيسِ بن الأسلت:

قد حَصَّت البيضة رأسي فما ... أطعَم نوْماً غير تَهْجاع
أَسْعى على جُلِّ بني مالكٍ ... كُل امرئ في شأنه ساعِي
وقال بعضُهم:
سألتُ المُحبين الذين تَحمّلوا ... تبَاريحَ هَذا الحُب في سالف الدَهرِ
فقالوا شفاءُ الحُب حب يُزيله ... لأخرى وطُولٌ للتَمادي على الهَجر
وقال الحَمدوني ما هو أحسن من هذا المعنى في ضدّه؟ وهو قولُه:
زَعموا أنّ من تشاغل بالح ... بّ سَلا عن حَبيبِه وأفاقا
كَذبوا ما كذا بَلَونا ولكنْ ... لم يكُونوا فيما أرى عُشّاقا
كيف أسلو بلذة عنك والل ... ذات يُحدثْن لي إليك اشتياقا
كُلما رُمتُ سَلوةً تُذهب الحُرقةَ ... زادت قلبي عليكِ احتراقا
وقال كُثير عزّة:
أريد لأنسى ذكرَها فكأنما ... تَمثلُ لي ليلى بكُل سَبيل
وقال بعضُ الناس: إن كان يُحبها فلماذا يُحب أن يَنسى ذكرها؟ ألا قال كما قال مجنون بني عامر:
فلا خَفِّف الرحمنُ ما بي من الهَوى ... ولا قَطَع الرحمنُ عن حُبها قَلْبي
فما سَرَّني أنّي خَليُّ من الهَوى ... ولو أن لي ما بين شرَق إلى غَرب
وذهب أكثرهم إلى أنّ بُعْدَ العَهد يُسلي المُحب عن حَبيبه، وقالوا فيه:
إذ ما شئتَ أن تَسلو حبيباً ... فأكثر دونه عَدَد اللّيالِي
وقال العبّاس بن الأحنف:
إذا كنت لا يُسليك عمن تُحبه ... تَناء ولا يَشفيك طُولُ تلاقِي
فما أنتَ إلا مستعير حَشاشةً ... لمُهجة نَفس آذنتْ بِفراق
وقال كُثيّر عَزة:
فإن تَسْل عنكِ النفس أو تَدع الَهوى ... فباليأس تَسْلو عنك لا بالتجلّدِ
ومثله قولُ بشّار:
ومن حُبها أتمنّى أن يُلاقيَني ... من نحو بَلْدتها ناعٍ فيَنْعاها
كيما أقول فِراقٌ لا لِقاء له ... وتُضمر النفس يأسا ثم تَسلاها
وهذه المذاهب كلها خارجة من معناها، حائرة في مجراها.
وقال عبدُ الله بن جُندب:
ألا يا عبادَ الله هذا أخوكُم ... قتيلاً فهل منكم له اليومَ واترُ
خذوا بدَمي إن مِتُّ كل خَريدة ... مريضةِ جَفْن العَين والطَّرفُ ساهر
وقال صَريع الغواني في ضد هذا:
أدِيرا عليِّ الراح لا تَشربَا قبلي ... ولا تَطْلُبا من عند قاتلتي ذَحْلي
وقول عبد الله بن جُندب أحسَن في هذا المعنى، لأنه إنما أراد أن يَدُل على موضع ثأره واسم قاتله، ولم يُرد الطلب بالثأر لأنه لا ثأر له.
وقد قال عبدُ الله بن عبّاس، ونَظر إلى رجل مُدنف عِشْقاً:
هذا قتيلً الحُبّ لا عَقْل ولا قَوَد
وقال الفرزدق، وأراد مذهب ابن جُندب فلم تُوانه رقّة الطَّبع، فخرج إلى أَجْف القول وأَقْبحه، فقال:
يا أخت ناجيةَ بنِ سامةَ إنني ... أَخشى عليكِ بَنيَّ إن طَلبوا دَمِي
لن يَتْركوك وقد قتلتِ أباهمُ ... ولو ارتقيت إلى السماء بسلم
وقال ابنُ أخت تأبط شرّاً يرثي خالَه، وقتلْته هُذيل:
شامِسٌ في القُرِّ حتى إذا ما ... ذَكَت الشِعرى فبرْد وظِل
ظاعِن بالحَزم حتى إذا ما ... حلَّ حَلَّ الحَزمُ حيث يحلّ
أخذ معنى البيت الأول أعرابيّ فسهّل معناه وحسّن ديباجته، فقال:
إذا نزل الشتاء فأنت شمسٌ ... وإن نزل المصيف فأنت ظِلُّ
وأَخذ معنى البيت الثاني الحسن بن هانئ فقال في الخَصيب:
فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكنْ يصير الجُود حيثُ يصيرُ
وقالوا في الخَيال فحيّوه بالسلام ورحّبوا به؛ فمن ذلك قولُ مروان ابن أبي حَفْصة:
طرقْتك زائرةً فحيِّ خيالَها
وقال آخر:
طَرق الخَيالُ فحيّه بسَلام
وعلى هذا بُنيت أشعارهم، وخالفهم جَرير فطَرد الخيال، فقال:
طرقْتك صائدة القُلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
وأولُ من طَرد الخيال طرفة فقال:
فقُل لخَيال الحنظلية يَنقلب ... إليها فإنِّي واصلٌ مَن وَصَلْ
وأعجبُ مِن هذا قولُ الرّاعي الذي هجا الخَيال فقال:

طافَ الخيالُ بأصحابي فقلتُ لهم ... أم شَذرة زارتْني أم الغُولُ
لا مرحباً بابنة الأقيال إذ طَرقت ... كأنّ مَحْجرها بالقار مَكْحول
وقد يختلف معنى الشاعر أيضاً في شعر واحد يقوله، ألا ترى أن امرأ القيس قال في شعره:
وإن تك قد ساءتك منّي خليفةٌ ... فسُلِّي ثِيابي مِن ثيابك تَنْسُل
توصف نفسَه بالصبر والجَلَد والقوة على التهالك، ثم أدركتْه الرقةُ والاشتياق فقال في البيت الذي بعده:
أغرّك منّي أنّ حُبّك قاتِلي ... وأنك مهما تأمري القلبَ يَفعَل
مُستدركاً قولَه في البيت الأول:
فسُلي ثيابي من ثيابك تَنْسُل
ولم يزلْ من تقدم من الشعراء وغيرهم مُجمعين على ذَم الغُراب والتشاؤم به، وكأن اسمَه مُشتق من الغُربة، فسمَّوه غراب البَيْن، وزعموا أنه إذا صاح في الديار أقوتْ من أهلها. وخالفهم أبو الشِّيص، فقال ما هو أحسن من هذا، وأصدقُ من ذلك كُله، وهو قولُه:
ما فَرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبلُ
والناس يَلْحَون غُرا ... ب البَيْن لما جَهِلوا
وما إذا صاح غُرا ... ب في الدِّيار احتملوا
وما على ظَهر غُرا ... ب البَينْ تُطْوى الرحل
وما غُراب البين إل ... لا ناقة أو جَمل
وقال آخر في هذا المعنى وذَكَر الإبل:
لهنّ الوَجى إذ كُن عَوْناً على النَوى ... ولا زال منها ظالعٌ وكَسِيرُ
وما الشّؤم في نَعْب الغُراب ونَعْقه ... وما الشؤْم إلا ناقة وبَعير
ومن قولنا في هذا المعنى:
نعب الغراب فقلتُ أكذبُ طائرٍ ... إن لم يُصدِّقه رُغاء بَعير
رِدُّ الجمال هو المُحقَق للنَّوى ... بل شَر أحلاس لهنّ وَكُور
وقد يأتي من الشعر ما هو خارج عن طبقة الشعراء، مُنفردٌ في غرائبه وبديع صنعته ولطيف تَشْبيهه، كقول جعفر بن جِدار، كاتب ابن طُولون:
كم بين بارِي وبين بَمّا ... وبين بَوْن إلى دِمَمّا
من رَشأ أبيض التّراقي ... أغيدَ ذي غُنَّة أحَمَّا
وطَفْلة رَخْصة المَدارِي ... لَيست تُحَلّى ولا تُسمى
إلا بسِلْك من اللآلى ... يُعْجِز من يُخرج المُعمَى
صُغرى وكُبرى إلى ثلاثِ ... مثل التّعاليل أو أتَمَّا
وكم ببَم وأرض بَمّ ... وكَم بِرَمّ وأرْض رَمّا
من طَفلة بَضَة لَعوب ... تلقاك بالحُسن مستتما
مُنهن رَيّا وكيف رَيّا ... ريا إذا لاقت المَشَما
لو شمها طائر بَدوٍّ ... لَخَرّ في التُرب أولَهَمّا
تَسحب ثوبين من خَلْوق ... قد أفنيا زعفران قُمّا
كأنما جلّيا عليها ... من طِيب ما باشرَا وشَما
فأَلفيا زعفران قُم ... فانغمسا فيه واستحمِّا
فهي نظير اسمها المُعلَّى ... يقوح لامِرْطها المُدَمَّا
هيهاتَ يا أختَ آل بَمِّ ... غَلطت في الاسم والمُسمَّى
لو كان هذا وقيل سَمَ ... ماتَ إذاً من يقول سَمّا
قد قلتُ إذ أقبلتْ تَهادى ... كطَلعة البَدْر أو أتمّا
تُومي بأسْروعة وتُخْفي ... بالبُرْد مثَل القِداح حُمّا
لو كنت ممن لكنت مِمّا ... لكنّني قد كَبرتُ عَمّا
عاتبني الدهرُ في عِذاري ... بأحرُف فارعويت لمّا
قُوّس ما كان مستقيماً ... وأبيضّ ما كان مُدّلهمّا
وكيف تَصبو الدُّمى إلى مَنِ ... كان أخاً ثم صار عَمّا
بي عنكِ يا أختَ أهل بَمَ ... شُغْل بما قد دنا مُهِمّا
فلستُ من وجهك المُفدَّى ... ولستُ من قَدّك المُحمّى
أذهلني عنك خوفُ يوم ... يحيا له كل من ألمَّا
ما كسَبتْه يداي وَهْنا ... خيراً وشرًّاً أصبت ثَما

تُحشر فيه الجنان زَفًّا ... وتُحشر النَار فيه زَمّا
تقول هذي لَطالبيها ... هَيتَ وهذي لهم هَلُمّا
نَفسيَ أولى بأنْ أذُمّا ... مِن أمرها كل ما استُذمّا
يا نفسُ كم تُخدعين عَمّا ... بلُبس داج وأكل لمّا
رعيت مِن ذي الحُطام مَرعى ... جمعتِ أكلاً له وذَمّا
وَيحك فاستيقظي ليومٍ ... يحيا له كم من أِرما
ألم تَرَيْ يُونس بن عَبْدال ... أعْلى غَدا صامتاً فصُما
في حُفرة ما يُحير حَرفاً ... قد دكّ من فوقها وطما
والمُزَنَيّ الذيَ إليه ... نَعشو إذا دَهرُنا ادلهما
أخفى فؤادي له عَزائي ... لكنْ زَفيري عليه نَمَا
كأنما خُوِّفا فخافا ... أو حذَرا كاساهما فصما
أقبل سَهْم من الرَّزايا ... فخَصَ أعلامنا وعَمَّا
دَكدك منّا ذُرَا جبال ... شامخة في السماء شما
وَحصَنا دون مَنْ عليها ... وزاد همًّا بنا وغما
قد قَرُب الموتُ يا بنَ أما ... فبادر المَوت يا بن أما
واعلم بأنَّ من عصاك جهلا ... مِن التُقى لم يُطعك هِمّا
هو الهُدى والرَّدى فإمَّا ... أتيت آتى الردى وإما
ها أنذا فَاعتبر بحالي ... في طَبق مُوصَد مُعَمَّى
قد أسكنتني الذُّنوب بيتاً ... يخاله الإلف مُستحما
فهل إلى توبة سبيلٌ ... تكون فيها الهموم هَمّا
فَنَشكر الله لا سواه ... لعل نعماه أن تَتِمّا
يا نفسً جِدّي ولا تَميلي ... فأفضل البِرّ ما استُتمّا
أو ابحثي عن فُل بن فُل ... تَرَيْه تحت التراب رِمّا
لبئس عَبْد يروح بَغْياَ ... مع المَساوي تراه دَوْما
في غَمرة العَيش لا يُبالي ... أحمده الجارُ أمْ أَذَمَّا
كم بين هذا وبين عبد ... يغدو خميصَ الحشى هضمّا
يقطع آناءه صلاةً ... ودهره بالصلاح صوْمَا
إنّ بهذا الكلام نُصحاً ... إن لم يوافِ القلوب صُمّا
يا رب لِي ألفُ ذَنب ... إن تعفُ يا رب فاعفُ جَمّا
فأبْرِد بعفوٍ غليلَ قَلب كأنّ فيه رسيسَ حُمَى وقال الغَزّال:
لَعَمْري ما ملّكتُ مِقْوَدَي الصِّبا ... فأمْطوَ للذّات في السَّهل والوَعْرِ
ولا أنا ممّن يُؤثِر اللهوَ قلبُه ... فأمسي في سُكر وأصبحِ في سكرِ
ولا قارع باب اليهوديّ مَوْهناً ... وقد هَجع النُّوامُ من شهوة الخمر
وأوْتَغه الشيطان حتى أصاره ... من الغَيّ في بحر أضلّ من البَحر
أغذّ السُّرى فيها إذا الشَّرْب أنكروا ... ورَهْني عند العِلْج ثوبي من الفُجر
كأنّي لم أسمع كتابَ محمد ... وما جَاء في التَنزيل فيه من الزّجر
كفانيَ من كُل الذي أعجبوا به ... قُلَيلة ماء تُستقى لي من النَّهر
ففيها شرَابي إن عَطشتُ وكُلّ ما ... يريد عيالي للعَجين وللقِدْر
بخُبْز وبَقل ليس لحماً وإنني ... عليه كثيرُ الحمد لله والشكر
فيا صاحبَ اللُحمان والخَمر هل تَرى ... بوجهي إذا عاينتَ وجهيَ من ضر
وبالله لو عمرت تِسعين حِجةً ... إلى مثلها ما اشتقتُ فيها إلى خَمْر
ولا طربتْ نفسي إلا مِزْهر ولا ... تَحَنَّن قلبي نحو عُود ولا زَمْر
وقد حدّثوني أن فيها مَرارة ... وما حاجة الإنسان في الشرب للمُرّ
أخي عُد ما قاسيتَه وتقلبت ... عليك به الدُّنيا من الخَير والشر
فهل لك في الدُنيا سِوَى الساعةِ التي ... تكون بها السَّراء أو حاضِر الضُّرّ

فما ساق منها لا يُحس ولا يُرى ... وما لم يكن منها عَمِي عن الفِكْر
فطوبَى لعبدٍ أخرج الله روحَه ... إليه من الدنيا على عَمل البِر
ولكنني حُدثْت أن نُفوسَهم ... هنالك في جاه جليل وفي قَدْر
وأجسادهم لا يأكل التربُ لحمَها ... هنالك لا تبلى إلى آخر الدهر
فَفرَّق الدهرُ شملاً كان ملتئماً ... منّا وجمع شملاً غيرَ ملتئم
ما زلتُ أرعى نُجومَ الليل طالعةً ... أرجو السلوَّ بها إذ غِبْتُ عن نَجمي
نَجْم من الحُسن ما يجرى به فَلَك ... كأنه الدرّ والياقوت في النَّظم
ذاك الذي حاز حُسناً لا نظير له ... كالبدر نوراً عَلا في مَنْزل النّعم
وقد تناظَرَ واليِرْجِيسُ في شَرَفٍ ... وقَارَن الزَّهرةَ البَيضاء في تَوَم
فذاك يُشبهه في حُسن صُورته ... وذا يَزيد بحظّ الشّعر والقَلم
أشكو إلى الله ما ألقى لفُرقته ... شِكْوى مُحبّ سَقيم حافظِ الذِّمم
لو كنت أشكو إلى صُمِّ الهضاب إذاً ... تَفطَّرتْ للذي أبديه من أَلم
يا غادراً لم يزَل بالغَدر مُرتدياً ... أين الوفاءُ ابِنْ لي غيرَ محْتشم
إن غاب جسمُك عن عَيني وعن نَظري ... فما يَغيب عن الأسرار والوَهم
إني سأبكيك ما ناحتْ مَطوقةٌ ... تبْكي أَلِيفاً على فَرْع من النَّشم

ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلام
قال أبو حاتم: أبيح للشاعر ما لم يُبَح للمتكلم، من قَصرْ الممدود، ومَدّ المقصور، وتَحريك الساكن، وتَسكين المتحرك، وصَرْف ما لا يَنصرف، وحَذف الكلمة ما لم تلتبس بأُخرى، كقولهم: فل من فلان، وحم من حمام .
قال الشاعر:
وجاءت حوادث مِن مِثلها ... يقال لِمثلك: ويهاً فُل
وقال مُسلم بن الوليد:
سَل الناسَ إني سائل الله وحْدَه ... وصائنُ وِجهي عن فُلان وعن فُل
وقال آخر:
دعاء حمامات تُجاوبها حَمُ
ومن المحذوف أيضاً قولُ الشاعر:
لها أشاريرُ مات لَحم تتَمِّره ... من الثَعالِي وَوَخْز من أرَانِيها
يريد من الثعالب. ومثله قول الشاعر:
ولضَفادِي جمَه نَقانِقُ
يريد الضفادع. ومن المحذوف قولُ كعب بن زُهير:
ويلُمّها خَلّةً لو أنها صَدقت ... في وَعدها أو لو أنَّ النُّصح مَقْبولُ
يريد ويل لأمها.
ومنه قولهم: لاه أبوك يريدون: للّه أبوك. وقال الشاعر:
لاه ابن عَمّك لا يخا ... ف المُبْديات من العَواقب
وكذلك الزيادة أيضاً إذا احتاجوا إليها في الشعر، فمن ذلك قول زُهير:
ثم استمرُّوا وقالوا إنّ موعدَكم ... ماء بشرقيّ سَلْمى فَيْدُ أورَكَكُ
قال الأصمعي: سألت بجنبات فَيد عن رَكك. فقيل: ماء هاهنا يُسمى ركّا. فعلمت أن زهيراً احتاج فضعَّف: ومنه قول القِطامىّ.
وقولُ المرء يَنْفُذ بعد حِين ... مواضعَ ليس يَنفذُها الإبارُ
ومثله قولهم: كَلكال، من كلكل. ونظر هذا كثير في الشعر لمن تتَبّعه.
وأما قَصرهم المَمدود فجائز في أشعارهم، ومدِّ المقصور عندهم قَبيح. وقد يُستجاد في الشعر على قِبحه، مثلُ قوله حسّان بن ثابت:
قَفاؤُك أحسن من وجهه ... وأمك خيرٌ من المُنذرِ
وأنشد أبو عُبيدة:
يالك من تمْرٍ ومن شِيشاءِ ... يَنْشبَ في الحَلق وفي اللهاء
فمد اللَّهى، هو جمع لهاة: كما قالوا: قطاة وقطى، ونواة ونوى.
أما تحريك الساكن وتسكين المتحرك، فمن ذلك قول لَبيد بن ربيعة:
تَرّاك أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها ... أو يَرْتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها
ومثله قولُ امرئ القيس:
فاليوم أشربْ غيرَ مُسْتحقب ... إثماً من الله ولا واغل
وِقال أمية بن أبي الصَّلت:
تأبى فما تَطلع لهم في وقتها ... إلا مُعذبة وإلا تُجْلدُ
ومن قولهم في تحريك الساكن:

اضْرِبَ عنك الهُمومَ طارقَها ... ضَرْبَك بالسَّوط قَوْنَس الفَرس
وأما صَرف مالا يَنصرف عندهم فكثير، والقَبيح عندهم ألا يُصرف المُنصرف، وقد يُستجاد في الشعر على قُبحه. قال عبِّاس بن مُرْداس:
وما كانَ بَدْر ولا حابس ... يفوق مِرداس في المَجمع
ومن قولهم في تَسكين المُتحرّك، وقد استشهد به سيبويه في كتابه:
عَجِب الناسُ وقالُوا ... شِعْرُ وضَاح اليَماني
إنما شِعْريَ قَنْدٌ ... قد خُلِطْ بجُلجلان
ولو حرك خلط اجتمع خمس حركات.

باب ما أدرك على الشعراء
قال أبو عبد الله بن مسلم بن قُتيبة: أدركتِ العلماءُ بالشعر على امرئ القيس قولَه:
أغرّك منّي أنّ حُبك قاتلي ... وانك مهما تأمُري القلبَ يفعل
وقالوا: إذا لم يَغُرّ هذا فما الذي يَغر؟ ومعناه في هذا البيت يناقض البيت الذي قبله، حيث يقول:
وإنْ كُنتِ قد ساءتكِ مني خليقة ... فسُلّى ثِيابي من ثيابك تَنْسُل
لأنه ادَّعى في هذا البيت فضلاً للتجلد وقوة الصبر بقوله:
فسُلّى ثيابي من ثيابك تنسل
وزعم في البيت الثاني أنه لا تَحمُل فيه للصبر، ولا قُوة على التمالك، بقوله:
وإنك مهما تأمُري القلبَ يَفْعَل
وأقبح من هذا عِندي قولهُ:
فظَلّ العَذَارى يَرْتمين بلَحْمها ... وشَحْمٍ كهُدَّاب الدِّمَقْس المُفتَّل
ومما أدرك على زُهير قولُه في الضفادع:
يخرُجن من شَرَياتٍ ماؤها طَحِلٌ ... على الجُذُوع يَخَفْن الغَم والغَرقَا
وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافَة الغَمّ والغرق، وإنما ذلك لأنهن يبتن في الشّطوط.
ومما أدرك على النابغة قولُه يصف الثِّور:
تَحِيد عن أسْتَن سودٍ أسافلُه ... مثل الإماء الغوادِي تَحْمل الحُزَمَا
قال الأصمعيّ: إنما تُوصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرَّواح لا بالغدو، لأنهن يجَئن بالحَطبِ إذا رُحن؟ قال الأخْنَس التِّغلبيّ:
تَظل بها رُبْدُ النَعام كأنها ... إماء يَرُحن. بالعَشيّ حَواطبُ
وأخذ عليه في وصف السيف قولُه:
يَقُدِّ السَّلوقيَّ المُضاعَفَ نَسجه ... وُيوقِد بالصُّفّاح نارَ الحُباحبِ
فزعم أنه يَقُد الدّرع المضاعفة والفارس والفرس، ثم يقع في الأرض فيقدح النار من الحجارة، وهذا من الإفراط القَبيح. وأقبح عندي من هذا في وصف المرأة قولِه:
ليستْ من السُّود أعقاباً إذا انصرفتْ ... ولا تَبيع بأعلى مكّة البُرمَا
وممّا أخذ عليه قولُه:
خَطاطيفُ حُجْنٌ في حِبَال مَتينةٍ ... تُمدُ بها أيدٍ إليك نَوَازعُ
فشَبه نفسه بالدَّلو، وشَبه النُّعمان بخَطاطيف حُجن، يريد خطاطيف مُعوجة تُمدّ بها الدلو. وكان الأصمعيّ يُكثر التعجب من قوله:
وعَيرتْني بنو ذُبيان خَشْيتَه ... وهل علي بأن أخشاكَ من عارِ
ومما أدبك على المُتلمّس قوله:
وقد أتناسى الهَمّ عند احتقاره ... بناجٍ عليه الصيعريّة مُكْدَم
والصيعرية: سِمة للنوق، فجعلها صفة للفَحْل. وسمعه طرفة وهو صبّي يُنشد هذا البيت، فقال: استنوق الجمل. فضحك الناس، وصارت مثلاً. وأخذ عليه أيضاً قولُه.
أحارثُ إنا لو تُساط دماؤنا ... تَزايلْنَ حتى لا يَمسّ دمٌ دمَا
وهذا من الكَذب المُحال.
ومما أدرك على طَرفة قوله:
أسد غِيل فإذا ما شرَبوا ... وَهَبوا كلّ أمُون وطِمِرّ
ثم راحوا عَبق المسك بهم ... يلْحِفون الأرضَ هدّاب الأزر
فذكر أنهم يُعطون إذا سَكروا، ولم يَشترط لهم ذلك إذا صَحَوْا، كما قال عنترة:
وإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ ... مالِي وعِرْضي وافر لم يُكَلم
وإذا صحوتْ فما أقصِّر عن ندى ... وكما عَلمتِ شمائِلي وتكرُّمي
ومما أدرك على عديّ بن زَيد قولُه في صفة الفَرس:
فَضافَ يُعرِّي جُلَّة عن سَراته ... يَبُدّ الجيادَ فارهاً مُتتابعَا
ولا يقال للفرس: فاره، وإنما يقال له: جواد وَعَتيق. ويقال للكَوْدن والبَغْل والحمار: فاره.

ومما أدرك عليه وصفهُ الخمر بالخُضرة، ولا نعلم أحداً وصفها بذلك، فقال:
المُشْرِفُ الهِنديّ يُسْقَى به ... أخضَر مَطْموثاً بماء الخَريصْ
ومما أدرك على أعشى بَكر قولُه:
وقد غَدوتُ إلى الحانوت يَتْبعني ... شاوٍ مِشَلّ شَلول شلشل شَوِلُ
وهذه الألفاظ الأربعة في معنى واحد. ومما أدرك علِى لَبيد قوله:
ومُقام ضيِّق فرْجتُه ... بمُقامي ولساني وجَدَلْ
لو يقوم الفِيل أو فيّالُه ... زلّ عن مِثل مُقامي وزَحَل
فظن أن الفَيال أقوى الناس، كما أن الفِيل أقوى البهائم.
ومما أدرك على عمرو بن أحمر الباهلي قولُه يصف المرأة:
لم تدر ما نَسْجُ اليَرندج قبلَها ... وَدِراسُ أعوصَ دَارِس مُتجَدّدِ
اليَرَندجِ: جلود سُود. فَظنّ أنه شيء يُنْسج. ودِراسِ أعوص، يريد أنها لم تُدارس الناس عَويص الكلام الذي يخفي أحياناً ويَتبين أحياناً.
وقد أتى ابنُ أحمر في شعره بأربعة ألفاظ لم تُعرف في كلام العرب، منها: أنه سمّى الناعر ماموسةً، ولا يُعرف ذلك فقال:
كما تطايح عن مامُوسة الشَّرَرُ
وسَمَّى حُوار الناقة بابوساً، ولا يُعرف ذلك، فقال:
حَنّتْ قَلُوصي إلى بابُولسِها جَزعاً ... فما حَنِينُكِ أمْ مَا أنتِ والذّكَر
وفي بيت آخر يذكر فيه البَقرة:
وبَنسَ عنها فرْقَد خَصِرُ
أي تأخّر، ولا يُعرف التَبنّس. وقال.
وتقَنَع الحرباء أرْنَتَه
يريد ما لُفّ على الرأس. ولا تعرف الأرنة إلا في شعره.
ومما أدرك على نُصيب بن رَبَاح قولُه:
أَهيمُ بدَعْد ما حَييت فإن أمُت ... فواكبدي مَن ذا يَهيم بها بَعدِي
تلهّف على من يهيم بها بعده.
ومما أدرك على الرَّاعي قولهُ في المرأة:
تكسو المفارقَ واللّباتِ ذا أرَج ... من قُصْب مُعتَلف الكافور درَّاج
أراد المسك. فجعله من قُصْب. والقُصب: المِعَى. فجعل المِسك من قُصْب دابّة تعتلف الكافور فيتولَد عنه المسك. ومما أدرك على جَرير قولُه في بني الفَدَوْكس رهط الأخطل:
هذا ابنُ عمّي في دِمَشْق خليفة ... لو شِئتُ ساقكُم إليَّ قَطِبنَا
القطين، في هذا الموضع: العَبيد والإماء. وقيل له: أبا حَزْرة، ما وجدتَ في تميم شيئاً تفخر به عليهم حتى فخرتَ بالخلافة، لا والله ما صنعتَ في هجائهم شيئاً. ومما أدركَ على الفَرزدق قولُه:
وعَضّ زمان يابن مَروان لم يَدَعْ ... من المال إلا مُسْحتا أو مُجَلَّفُ
وقد أكثر النحويّون الاحتيالَ لهذا البيت، ولم يأتوا فيه بشيء يُرضي. ومثلُ ذلك قولُه:
غداةَ أحلَّت لابن أَصْرَم طَعنةً ... حُصَينٌ عَبيطاتِ السَّدائفِ والخَمرُ
كان حُصين بن أصرم قد حلف ألا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره، فأدركه في هذا اليوم الذي ذكره. فقال " عبيطات السدائف. فنصب عبيطات السدائف ورفع الخمر هانما هي معطوفة عليها، وكان وجهها النصب، فكأنه أراد: وحلّت له الخمر.
ومما أدرك على الأخطلِ قولُه في عبد الملك بِن مَرْوان:
وقد جَعل الله الخِلافة منهمُ ... لأبيض لا عارِي الخِوَان ولا جَدْبِ
وهذا مما لا يُمدح به خليفة.
وأخذ عليه قولُه في رجل من بني أسد يمدحه، وكان يُعرف بالقَين ولم يكن قَيناً، فقال فيه:
نِعْم المجير سماك من بني أسدٍ ... بالمَرْج إذ قَتلت جيرانَها مُضَرُ
قد كنتُ أحسبه قَيْناً وأنبؤه ... فالآن طيَر عن أثوابِه الشَرَرُ
وهذا مدْح كالهجاء.
ومما أدرك على ذي الرمة:
تُصْغي إذا شَدَّها بالكور جانحةً ... حتى إذا ما استَوى في غَرْزها تَثِبُ
وسَمعه أعرابيّ يُنشده فقالت: صُرع والله الرجل، ألا قلت كما قال عَمُّك الراعي:
وواضعة خدّها للزَما ... م فالخَدُّ منها له أصْعرُ
ولا تُعجل المرءَ قبل الرًّكو ... ب وهي برُكبته أبْصر
وهي إذا قام في غرْزها ... كمثل السفينة أو أوْقرُ
ومما أدرك عليه قولُه:
حتى إذا دَوّمت في الأرض راجعةً ... كِبْرٌ ولو شاء نَجَّى نَفْسه الهَربُ

قالوا: التَّدويم: إنما يكون في الجوّ، يقال: دَوّم الطائر في السماء، إذا حلّق واْستدار؟ ودوَم في الأرض، إذا استدار فيها.
وما أدرك على أبي الطَّمَحان القَيْنيّ قولُه:
لما تَحَمَّلت الحُمول حسبتُها ... دَوْماً بأثلة ناعماً مَكْمُوماً
الدوم: شَجر المُقل، وهو لا يُكَم وإنما يُكَم النخل.
ومما أخذ على العجّاج قوله:
كأنّ عَينيه من الغُؤور ... قَلتان أو حَوْجَلتا قارُورِ
صَيّرتا بالنَّضح والتِّصْيير ... صلاصلَ الزَّيت إلى الشّطورِ
الحوجلتان: القارورتان. جعل الزَجاجَ ينضح ويَرشح. ومما أدرك على رؤبة قوله:
كُنتم كمن أدخل في جُحرٍ يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقَى الأسودا
جعل الأفعى دون الأسود، وهي فوقه في المضرّة.
وأخذ عليه في وصف الظَّليم قوله:
وكُلُّ زَجّاج سُخَامُ الخَمْل ... تَبْري له في زعلاتٍ خطْل
فجعل للظليم عدّة إناث، كما يكون للحَمار، وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
وأُخذ عليه قولُه يصف الرَّامي:
لا يَلتوي من عاطس ولا نَغَق
إنما هو النَّغيق والنُّغاق، وإنما يصف الرامي. وأدرك عليه قولُ:
أقفرت الوعثاء والعثاعِث ... من أهلها والبُرَق البَرَارِثُ
إنما هي البراث: جمع بَرْث. وهي الأرض اللينة.
وأدرك عليه قولُه: يا ليتنا والدهر جري السُّمّةِ إنما يقال: ذهب السّهمي أي في الباطل وأخذ عليه قوله
أو فِضّة أو ذهبٌ كِبْريتُ
قال: سَمع بالكِبْريت أنه أحمر فظن أنه ذَهب.
مما يَستقبح من تشبيهه قولُه في النساء:
يَلْبسن من لين الثيابِ نِيما
والنِّيم: الفرو المُغشىَّ. وأخذ عليه قولُه في قوائم الفَرس:
يَردبن شتَّى وَبقَعْن وَفْقَا
وأنشده مُسلم بنِ قُتَيبة، فقال له: أخطأت يا أبا الجَحِّاف. جعلتَه مُقيداً.
قال له رؤبة: أدْنني من ذنب البعير.
ومما أُدرك على أبي نُخيلة الراجز قولهُ في وصف المرأة:
مُرَية لم تَلْبس المرقّقا ... ولم تذُق من البُقول الفُستُقا
فجعل الفُستق من البقول، وإنما هو شَجر.
ومما أُدرك على أبي النجم قولُه في وصف الفرس:
يَسبح أُخراه ويَطفو أوَّلهُ
قال الأصمعي: إذا كان كذلك فحِمار الكسَّاحِ أسرع منه، لأن اضطراب مؤخره قَبيح. وإنما الوجه فيه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الأعور السُّلمي:
مرّ كَلمع البَرق سام ناظرُه ... يَسْبَح أُولاه ويَطفُو آخرُه
فما يَمسّ الأرضَ منه حافرُه
وأخذ عليه في الوُرود قولُه:
جاءت تَسامى في الرَّعيل الأول ... والظِّل عن أَخفافها لم يَفْضل
فوصف أنها وردت في الهاجرة. وإنما خَير الورود غَلساً، والماء بارد. كما قال الآخر:
فوردت قبل الصباح الفاتِقِ
وكقول لبَيد بن ربيعة العامريّ:
إنّ من وِرْدي لتغْلِيس النَهل
وقال آخر:
فوردْنَ قبل تَبينُّ الألوان
وأنشد بشَّار الأعمى قوِلَ كُثيّر عزة:
ألا إنَّما ليلَى عصا خيْزُرانة ... إذا غَمزوها بالأكُفّ تَلِينُ
فقال: للّه أبو صخر! جعلها عصا خَيْزرانة. فوالله لو جعلها عصا زيْد لَهَجّنها بالعَصَا، ألا قال كما قلتُ:
وبيضاء المَحاجر من معَدٍّ ... كأن حديثَها قِطَع الجُمانِ
إذا قامتْ لحاجتها تَثَنَّت ... كأنّ عِظامَها من خَيزران
ودخل العتابيّ على الرشيد فأَنشده في وصف الفَرس:
كأنّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا ... قادمةً أو قلماً مُحرّفَا
فعلم الناس أنه لحن، ولم يهتدِ أحدٌ منهم إلى إصلاح البيت غير الرشيد، فإنه قال: قُل:
تخال أذْنيه إذا تَشَوَّفا
والراجز وإن كان لَحن فإنه أصاب التَّشبيه. حدّث أبو عبد الله بن محمد بن عُرْفَة بواسط، قال: حدّثني أحمد بن محمد أبن يحيى عن الزُّبير بن بكّار عن سُليمان بن عياش السَّمديّ عن السائب، راوية كُثير عَزة، قال: قال لي كُثير عَزة يوماً: قُم بنا ابنِ أبي عَتيق نتحدّث عنده. قال: فجئنا فوجدنا عنده ابنَ مُعاذ المُغنّي. فلما رأى كُثيّراَ قال لابن أبي عتيق: ألا أُغنيك بشعر كُثير عزة؟ قال: بلى فغنّاه:

أبائنة سُعدى نعم ستَبِين ... كما انبت من حَبل القَرين قرينُ
أأن زُمّ أجمال وفارق جِيرة ... وصاح غُراب البين أنت حَزين
كأنك لم تَسمع ولم تَر َقبلها ... تفرُّق أُلاف لهنّ حَنِين
فأخلفن مِيعادي وخُنّ أمانتي ... وليس لمن خانَ الأمانة دِينُ
فالتفت ابنُ أبي عَتيق إلى كُثيّر، فقال: أوللدِّين صحبتهن يا بن أبي جُمعة؟ ذلك والله أشبهُ بهنّ، وأدعى للقلوب إليهنّ؟ وإنما يُوصفن بالبُخل والامتناع، وليس بالوفاء والأمانة. وذو الرقيات أشعر منك حيث يقول:
حَبّذا الإدلال والغَنَجُ ... والتي في طَرفها دَعَجُ
وِالتي إن حدّثت كَذبت ... والتي في ثَغرها فَلج
خبروني هل على رجُل ... عاشِقٍ في قُبلة حَرَج
فقال كُثيّر: قُم بنا من عند هذا، ومَضى.
عُمارة بن عَقيل بن بِلال بن جَرير، قال: إنّي بباب المأمون إذ خرج عبد الله ابن أبي السِّمط، فقال لي: علمتُ أنّ أمير المؤمنين على كماله لا يعرف الشِّعر.
قلت له: وبِم علمتَ ذلك؟ قال: أسمعتُه الساعَة بيتاً لو شاطرني مُلكه عليه لكان قليلاً. فنظر إلي نَظراً شَزراً كاد يَصطلمني. قلت له: وما البيت؟ فأنشد:
أضحى إمامُ الهُدى المأمون مُشتغلاً ... بالدّين والناسُ بالدنيا مَشاغيلُ
قلت له: والله لقد حَلم عليك إذ لم يؤدّبك عليه. ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبّر أمرها؟ ألا قلت كما قالَ جَدّي في عبد العزيز بن مروان:
فلا هو في الدُّنيا مُضِيع نصيبه ... ولا عَرَضُ الدُّنيا عن الدّين شاعلُ
فقال: الآن علمتُ أنني أخطأت.
الهيثم بن عَدِيّ قال: دخل رجل من أصحاب الوليد بن عبد الملك عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد رأيتُ ببابك جماعةً من الشعراء لا أحسبُهم اجتمعوا بباب أحد من الخلفاء، فلو أذنتَ لهم حتى يُنشدوكَ؟ فأذن لهم فأَنشدوه وكان فيهم الفرزدق، وجرير، والأخطل، والأشهب بن رُميلة. وترك البَعِيث فلم يأذن له. فقال الرجل المُستأذن لهم: لو أذنتَ للبَعِيث يا أمير المؤمنين، إنه لشاعر. فقال: إنه ليس كهؤلاء إنما قال من الشعر يسيراً. قال: والله يا أمير المؤمنين إنه لشاعر. فأَذِن له فلما مَثَل بين يديه، قال: يا أمير المؤمنين، إن هؤلاء ومَن ببابك قد ظَنّوا أنك إنما أذنتَ لهم دوني لفَضل لهم عليّ. قال: أولستَ تعلم ذلك؟ قال: لا واللّه، ولا علّمه الله لي. قال: فأنشِدْني من شعرك. قال: أمَا والله حتى أنشدك من شعر كُل رجل منهم ما يَفضحه فأقبل على الفرزدق، فقال: قال هذا للشيخُ الأحمق لعبد بني كُليب:
بأيّ رِشاءٍ يا جريرُ وماتحٍ ... تدلّيت في حَوْمات تلك القَماقِم
فجعله يتدلّى عليه وعلى قومه من عَلُ، وإنما يأتيه من تحته لو كان يَعقلُ. وقد قال هذا، كَلبُ بني كُليب:
لَقومِيَ أحَمى للحقيقة منكُم ... وأضربُ للجَبَّار والنقعُ ساطع
وأوثقُ عند المُرْدفات عشيّة ... لَحَاقاً إذا ما جَرَّد السيفَ لامِع
فجعل نساءه لا يثقْنَ بلَحاقه إلا عشيَّة، وقد نُكحن وفُضحن. وقال هذا النصراني، ومدح رجلاً يسمى قَيناً فهجاه، ولم يشعر، فقال:
قد كُنت أحسبه قيناً وأُنبؤه ... فالآن طُيّر عن أثوابه الشَّررُ
وقال ابن رُميلة ودَفع أخاه إلى مالك بن رِبْعيّ بن سَلْميّ فقُتل، فقال:
مَدَدنا وكان ضَلَّة من حلومنا ... بَثَدْيٍ إلى أولاد ضَمرة أقْطَعا
فمن يرجو خيرَه وقد فعل بأخيه ما فَعل. فجعل الوليدُ يُعْجب من حفظه لمثالب القوم وقُوة قلبه، وقال له: قد كشفتَ عن مساوئ القوم، فأنشدني من شعرك. فأنشده فاستحسن قولَه ووصَله وأجزل له.
ومما عِيب على الحسن بن هانئ قولُه في بعض بني العبًاس:
كيف لا يدينك من أمل ... مَنْ رسولُ الله من نَفره
فقالوا: إنّ حَق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُضاف إليه ولا يُضاف هو إلى غيره. ولو اتسع فأجازه لكان له مجاز حسن. وذلك أن يقول القائل من بني هاشم لغيره من أفناء قُريش: منّا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يريد أنه من القبيلة التي نحن منها، كما قال حسّان بن ثابت:

وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائمُ عِزٍّ لا تُرام ومَفْخَرُ
بَهاليلُ منهم جَعفرٌ وابنُ أمه ... عليّ ومنهم أحمدُ المتخير
فقال: منهم، كما قال هذا: من نفر.
ومما أُدرك عليه قولُه في البَعير:
أَخْنس في مثل الكِظَام مَخْطِمُه
والأخنس: القصير المَشافر، وهو عَيب له، وإنما تُوصف المَشافر بالسبوطة. ومما أُدرك على أبي ذُؤيب قوِلُه في وصف الدُّرّة:
فجاء بها ما شئت مِن لطميّة ... يدُور الفُرات فوقَها وَتمُوجُ
قالوا: والدُّرة لا تكون في الماء الفُرات، إنما تكون في الماء المالح.
واجتمع جريرُ بن الخَطَفي وعُمَر بن لَجَأ التَّيمي عند المُهاجر بن عبد الله والي اليمامة، فانشده عُمر بن لَجأ أرجوزَته التي يقول فيها:
تَصْطكُّ ألْحِيها على دِلائها ... تَلاَطُمُ الأزد على عَطائِها
حتى انتهى إلى قوله:
تُجَرّ بالأهونِ من إدْنائها ... جَرّ العَجوز الثنْيَ من خِفَائها
فقال جرير: ألا قلت:
جرّ الفتاة طَرَفَيْ رِدائها
فقال: والله ما أَردتُ إلا ضَعْف العجوز. وقد قلتَ أنت أعجبُ من هذا، وهو قولُك:
وأوثق عند المُرْدفات عَشيّةً ... لَحاقاً إذا ما جَرّد السَّيفَ لامعُ
والله لئن لم يُلْحقن إلا عشيّة ما لُحقن حتى نكحن وأحبلن. ووقع الشَّرُّ بينهما.
وقَدم عمرُ بن أبي ربيعة المدينةَ، فأقبل إليه الأحوصُ ونُصيب، فجعلوا يتحدثون. ثم سألهما عمرُ عن كُثيّر عَزّة، فقالوا: هو هاهنا قَريب. قال: فلو أرسلنا إليه؟ قالا: هو أشدّ بَأْوا من ذلك. قال: فاذهبا بنا إليه. فقاموا نحوَه، فألفَوْه جالساً في خَيمة له. فوالله ما قام للقُرشيّ، ولا وَسّع له. فجعلوا يتحدّثون ساعة. فالتفت إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال له: إنك لشاعر لولا أنك تُشبِّب بالمرأة، ثم تَدعها وتُشبِّب بنفسك. أَخبرني عن قولك:
ثم اسبَطَرت تَشتدِّ في أَثَري ... تسأل أهلَ الطَّوافِ عن عُمر
والله لو وصفتَ بهذا هِرّة أهلِك لكان كثيراً! ألا قلت كما قال هذا، يعني الأحوص:
أَدور ولولا أن أرى أم جَعْفر ... بأبياتِكم ما دُرتُ حيثُ أدورُ
وما كنتُ زَوّاراً ولكنّ ذا الهَوى ... وإن لم يَزر لا بُدّ أن سيزور
قال: فانكسرت نَخوةُ عمر بن أبي ربيعة ودخلت الأحوصَ زَهوةٌ ثم ألتفت إلى الأحوص، فقالت: أخبرني عن قولك:
فإنّ تَصِلي أصِلْك وإن تَبِينيبهَجْرك بعد وَصْلك، ما أبالِي أمَا والله لو كنتَ حُرَّاً لبالَيتَ ولو كُسر أنفُك. ألا قلت كما قال هذا الأسود، وأشار إلى نصيب:
بزينَب اْلمِم قبلَ أن يَرحل الرَّكْبُ ... وقُلْ إن تَملِّينا فما ملكِ القَلْبُ
قال: فانكسر الأحوص ودخلت نصيْباً زهوة. ثم التفت إلى نُصيب، فقال له: أخبرني عن قولك:
أهيم بدَعد ما حييتُ فإن أمت ... فواكبدِي مَن ذا يهيم بها بَعدِي
أهمّك ويحك مَن يفعل بها بعدك. فقال القوم: الله أكبر استوت الفِرَق قُوموا بنا من عند هذا.
ودخل كُثير عزة على سُكينة بنت الحُسين عليه السلام، فقالت له: يا بن أبي جُمعة، أخبرني عن قولك في عَزّة:
وما رَوْضة بالحزن طَيِّبة الثَّرى ... يَمُج النَدى جَثْجاثُها وعَرارُها
بأطيَبَ من أرْدَانِ عَزّة مَوْهِناً ... وقد أوقدت بالمندل الرَّطب نارُها
ويحك! وهل على الأرض زنجية مُنْتنة الإبطين، تُوقد بالمَندل الرطب نارها إلا طاب ريحُها. ألا قلت كما قال عَمّك امرؤ القيس:
ألم تَريَاني كُلما جِئْتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيّبِ
سمر عبدُ الملك بنُ مَروان ذاتَ ليلة وعنده كُثيّر عَزّة، فقال له: أنشدني بعضَ ما قلتَ في عَزّة. فأنشده، حتى إذا أتى على هذا البيت:
هممتُ وهَمّت ثم هابتْ وَهِبْتُها ... حياءً ومِثْلي بالحَيَاء حَقِيقُ
قال له عبدُ الملك: أما والله لولا بيت أنشدتَنيه قبل هذا لحرمتُك جائزتك.
قال: لمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك شركتُها معك في الهَيبة، ثم استأثرت بالحياء دونها. قال: فأي بيت عفوتَ به يا أمير المؤمنين؟ قال قولك:

دعُوني لا أريد بها سِواها ... دعُوني هائماً فيمن يَهيمُ
ومما أدرك على الحسن بن هانئ قولُه في وصفِ الأسد، حيث يقول:
كأنما عينُه إذا التفتت ... بارزةَ الجفن عينُ مَخْنُوقِ
وإنما يُوصف الأسد بغؤور العَينين، كما قال العجّاج:
كأن عَينيه من الغُؤور ... قَلتان أو حَوْجلتا قارورِ
وقال أبو زُبيد:
كأنّ عينيه نَقباوان في حَجَر
ومن قولنا في وصف الأسد ما هو أشبه به من هذا:
ولرُبّ خافقة الذَوائب قد غَدتْ ... مَعْقودةً بلوائه المَنْصور
يَرْمِي بها الآفاق كُل شَرَ نْبَث ... كفّاه غيرُ مُقلَّم الأظْفورِ
لَيثٌ تَطِير له القُلوبُ مخافةً ... مِن بين همهمة له وزَئير
وكأنما يُومي إليك بطَرفة ... عن جَمْرتين بجَلْمد مَنْقُور

باب من أخبار الشعراء
حَدّث دِعْبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشِّيص وأبو نُواس في مجلس، فقال لهم أبو نُواس: إنّ مجلسنا هذا قد شُهر باجتماعنا فيه، ولهذا اليوم ما بعده، فليأت كُل واحد منكم بأحسن ما قال، فَلْينشده. فأنشد أبو الشِّيص، فقال:
وَقف الهَوى بي حيثُ أنتِ فليس لي ... متأخر عنه ولا مُتقدَّمُ
أجدُ الملامةَ في هَواكِ لذيذةً ... حُبّاً لذِكْرك فَلْيلمني اللُّوم
وأهنتِني فأهنت نفسيصاغراً ... ما مَن يهون عليك ممَن أُكْرِم
أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحبّهم ... إذ كان حَظِّي منك حظِّي منهمُ
قال: فجعل أبو نواس يعجب من حُسن الشعر حتى ما كاد ينقضي عَجبُه. ثم أنشد مسلم أبياتاً من شعره الذي يقول فيه:
فاقسم أنْسىَ الداعياتِ إلى الصِّبا ... وقد فاجأتْها العينُ والسِّترُ واقعُ
فغطّت بأيديها ثمارَ نُحورها ... كأيدي الأسرى أثقلتها الجَوَامع
قال دِعبل: فقال لي أبو نُواس: هاتِ أبا عليّ، وكأنّي بك قد جئتنا بأم القِلادة. فقلتُ: يا سيدي، ومن يُباهيك، بها غيري. فنشدته:
أين الشَّبابُ وأيَّة سَلَكا ... أَمْ أَين يُطلب ضلَّ أم هَلَكا
يا ليتَ شعري كيف صَبْرُكما ... يا صاحِبَيَّ إذا دَمِي سُفِكا
لا تطلُبا بظُلامتي أحداً ... قَلبي وطَرْفي لا دَمِي اشتركا
ثم سَألناه أن ينشد. فأنشد أبو نُواس:
لا تَبْك هِنداً ولا تَطْرب إلى دَعْدِ ... واشرب على الوَرْد من حَمراء كالوَرْدِ
كأساً إذا انحدرتْ في حَلْق شاربها ... وجدتَ حُمرتها في العيْن والخَدّ
فالخَمر ياقوتة والكأس لُؤلؤة ... في كَفّ جاريِة مَمشوقةَ القَدّ
تَسْقيك من عَينها خَمْراً ومن يَدها ... خَمراً فما لكَ من سُكْرَين من بُدّ
لي نَشْوتان وللندْمان واحدة ... شيء خُصصتُ به من بينهم وَحْدي
فقاموا كلهم فسجدوا له. فقال: أفعلتموها أعجميَّة، لا كلمتُكم ثلاثاً ولا ثلاثاً ولا ثلاثاً. ثم قال: تسعة أيام في هَجر الإخوان كثير، وفي هجر بعض يوم استصلاح للفساد وعُقوبة على الهَفوة. ثم التفت إلينا فقال: أعلمتم أنّ حكيماً عَتب على حكيم فكتب المعتوبُ عليه إلى العاتب: يا أخي، إنّ أيام العمر أقلُّ من أن تَحتمل الهجر، محمد بن الحسن المَدِينيّ، قال: أَخبرني الزبيرُ بن أبي بكرة، قال: دخلت على المُعتز بالله أمير المؤمنين فسَلمتُ عليه، فقال: يا أبا عبد اللّه، إني قد قلتُ في ليلتي هذه أبياتاً وقد أعيا عليّ إجازةُ بعضها. قلت: أنشدني. فأنشدني، وكان مَحموماً:
إنّي عرفتُ عِلاجَ القَلْب من وَجَع ... وما عرفتُ عِلاجَ الحُبّ والخُدَع
جَزعتُ للحبِّ والحمَى صَبرتُ لها ... إني لأعجبُ من صَبري ومن جزعي
مَن كان يَشغلُه عن حُبه وَجَعٌ ... فليس يَشغلني عن حُبكم وَجَعي
قال أبو عبد الله: فقلت:
وما أملُّ حَبيبي ليلةً أبداً ... مع الحَبيب ويا ليتَ الحبيبَ معِي
فأمر لي على البيت بألف دِينار.

اجتمع الحسنُ بن هانئ وصريعُ الغواني وأبو العتاهية في مجلس بالكوفة، فقيل لأبِي العتاهية: أنشدنا. فأنشد:
أسيَّدتي هاتي فديتُك ما جُرْمي ... فانزِلَ فيما تَشْتهين من الحُكْم
كفاكِ بحَقّ الله ما قد ظَلَمْتِني ... فهذَا مقامُ المُسْتجير من الظُّلم
وقيل لصريع الغواني: أنشدنا. فأنشأ يقول:
قد اطّلعتَ على سِرِّي وإعْلاني ... فاذهبْ لشانِكَ ليس الجَهْلُ من شَانِي
إنّ التي كُنتُ أنحو قَصْد شِرّتها ... أعطت رضاً وأطاعتْ بعد عِصْيانِ
ثم قيل للحسن بن هانئ: أنشدنا، فأنشد:
يا بنة الشَيخ اصْبَحينا ... ما الذي تَنتظرِينَا
قد جَرى في عُوده الما ... ءُ فأجْرِي الخمر فِينا
قيل: هذَا الهزل، فهاتِ الجدّ. فأنشأ:
لمِن طَلل عارِي المَحلّ دفينُ ... عفا عهدُه إلا روائمُ جُونُ
كما افترقت عند المَبيت حمائمٌ ... غَريباتُ مُمْسىً ما لهن وُكون
ديارُ التي أمّا جَنَى رَشَفاتها ... فحُلو وأما مسها فيَلين
وما أَنْصفت أما الشُّحوبفظاهرٌ ... بوَجهي وأمّا وجهها فَمَصُون
فقام صريعُ الغواني يجرّ ذيلَه وخرج وهو يقول: إن هذا مجلس ما جلستُه أبداً.
هشام بن عبد الملك الخُزاعيّ قال: كُنا بالرقة مع هارون الرشيد فكتب إليه صاحبُ الخَبر بموت الكِسائي وإبراهيم المَوصلي والعبَّاس ابن الأحنف في وقت واحد. فقال لابنه المأمون: اخرج فصلّ عليهم. فخرج المأمون في وُجوه قُوّاده وأهل خاصّته، وقد صُفُّوا له. فقالوا له: مَن ترى أن يُقدَّم؟ قال: الذي يقول:
يا بَعِيدَ الدار عن وَطنه ... هائماً يَبْكي على شَجَنِهْ
كُلما جدّ البُكاء بِه ... زادتِ الأسقامُ في بَدنِه
قيل له: هذا، وأشاروا إلى العباس بن الأحنف. فقال: قَدّموه، فقُدِّم عليهم.
أبو عمرو بن العلاء قال: نزل جرير، وهو مُقبل من عند هشام بن عبد الملك، فبات عندي إلى الصبح، فلمّا أَصْبح شَخص وخرجتُ معه أشيعه. فلما خرجنا عن أَطناب البيوت التفتَ إليّ فقال: أنشدني من قول مَجنون بني عامر قيس ابن المُلوّح، فأنشدتُه:
وأدنْيتِني حتى إذا ما سَبَيْتني ... بقَول يُحلّ العُصْمَ سَهلَ الأباطحَ
تجافيتِ عنِّي حين لا ليَ حيلة ... وغادرتِ ما غادرتِ بين الجَوانح
فقال: والله لولا أنه لا يَحسن لشيخ مثلي الصُّراخ لصرخت صرخة يسمعها هشامٌ على سريره. وهذا من أرق الشِّعر كُله وألطفه، لولا التضمين الذي فيه. والتضمين أن يكون البيت معلّقاً بالبيت الثاني لا يتم معناه إلا به. وإنما يُحمد البيت إذا كان قائماً بنفسه.
وقال العبّاسُ بن الأحنف نظير قول المجنون بلا تضمين، وهو قولُه:
أشكو الذين أذاقُوني مودَتهم ... حتى إذا أيقظوني بالهَوى رقدُوا
وقال الأصمعيّ: دخلتُ على هارون الرشيد، فوجدتُه منغمساً في الفراش فقال: ما أبطأ بك يا أصمعيّ؟ قلت: احتجمت يا أمير المؤمنين. قال: فما أكلتَ عليها؟ قلت: سِكباجة وطَباهَجة قال: رميتَها بحَجرها. أتشرب؟ فقلت: نعم، وقلت:
اسقنى حتى تراني مائِلاً ... وترى عُمرانَ ديني قد خَرِبْ
قال: يا مسرور، أي شيء معك؟ قال: ألف درهم. قال: ادفعها للأصمعيّ.
وكان يصحب عليَّ بن داود الهاشمي يَهوديّ ظَريف مؤنس أديب شاعر أريب، فلما أراد الحَج أراد أن يَستصحبه، فكتب إليه اليهودأي يقول:
إنّي أعوذ بداودٍ وحُفْرته ... من أن أحُج بكُره يا بن داوُدِ
نُبِّئتُ أنْ طريقَ الحَج مُصردة ... عن النَّبيذ وما عَيْشي بِتَصريدِ
والله ما فيَّ من أَجر فتَطلبَه ... فيما علمت ولا دِيني بمَحْمود
أما أبوك فذاك الجُود يعَرِفُه ... وأنت أشبهُ خَلق الله بالجُود
كأنّ ديباجَتَيْ خَدّيه من ذهب ... إذا تَعصّب في أثوابه السّود

حَدّث أبو إسحاق يحيى بن محمد الحَواريّ، قال: سمعتُ شيخاً من أهل البَصرة يقول: قال إبراهيم السَّويقي، مولى المَهالبة: تتابعتْ عليّ سنون ضيّقة، وألحِّ عليَّ العُسر وكثرةُ العِيال وقلّة ذات اليد، وكُنت مشتهراً بالشعر أقصد به الإخوان وأهلَ الأقدار وغيرَهم، حَتى جفاني كُل صديق، وملّني مَن كنت أقصده، فأضرّني ذلك جدّاً. فبينما أنا ذات يوم جالس مع امرأتي في يوم شديد البرد، إذ قالت: يا هذا، قد طال علينا الفَقر وأضرّ بنا الجهد، وقد بقيتَ في بيتي كأنك زَمِن، هذا مع كَثرة الولد، فاخرُج عنّي واكفِني نفسك ودَعني مع هؤلاء الصبيان أقوم بهم مَرّة وأقعد بهم أخرى. وألَحّتْ عليّ في الخصومة، وقالت لي: يا مشؤوم، تعلمتَ صناعة لا تُجدي عليك شيئاً. فضجرتُ منها ومِن قولها وخرجتُ على وجهي في ذلك البرد والرِّيح، وليس عليَّ إلا فَرْو خَلَق ليس فوقه دِثار ولا تحته شِعار، وعلى عُنقي إزار، ثم جاءت ريحٌ شديدة فذهبت به عن بدني، وتفرّقت أجزاؤه عني، من بِلاه وكثرة رقاعه. وعلى عنقي طَيْلسان ليس عليّ منه إلا رسمه. فخرجت والله متحيَّراً لا أدري أين أقصد ولا حيث أذهب. فبينما أنا أجِيل الفكرة إذ اخذتني سماء بقطر متدارك. فدفعت إلى دارٍ على بابها روشن مطل ودكّان نظيف وليس عليه أحد، فقلت: أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر. فقصدت قصدَ الدار. فاذا بجارية قاعدة قد لزمتْ باب الدار كالحافظة عليه، فقالت لي: إليك يا شيخ عن بابنا. فقلت لها: ويحك، لستُ بسائل، ولا أنا ممن تُتخوف ناحيته. فجلست على الدّكان. فلما سكنت نفسي سمعتُ نغمة رخيمة من وراء الباب تدلّ على نغمة امرأة. فأصغيت، فإذا بكلام يدل على عِتاب. ثم سمعت نغمةً أخرى مثل ذلك، وهي تقول: فعلتِ وفعلتِ. والأخرى تقول: بل أنت فعلتِ وفعلتِ. إلى أن قالت إحداهما: أنا، جُعلت فداك إن كنتُ أسأتُ فاغفري واحفظي عنه أشعار ظريفة. فأنشدتْها تقول:
هبيني يا مُعذِّبتي أسأتُ ... وبالهِجْران قَبلكُم بدأت
فأين الفضلُ منكِ فَدَتْك نَفْسي ... عليّ إذا أسأتِ كما أسأت
فقالت: تها. ثم قالت: يا أبا إسحاق، ما لي أراك بهذه الهَيئة الرثّة والبزّة الخَلقة؟ فقلت: يا مولاتي، تعدَّى عليّ الدهرُ، ولم يُنصفني الزمان، وجفاني الإخوان، وكَسدت بضاعتي. فقالت: عَزّ عليّ ذلك. وأومأت إلى الأخرى، فضربت بيدها علىِ كمُها. فسلّت دملُجا من ساعدها، ثم ثَنَّت باليد الأخرى، فسلّت منها دملجاً آخر. فقالت: يا أبا إسحاق، خُذ هذا واقعد على الباب مكانَك وانتظر الجاريةَ تأتيك. ثم قالت: يا جارية، سَكَن المطر؟ قالت: نعم. فقامتا وخرجتا وقعدتُ مكاني. فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسةُ أثواب وصرّة فيها ألفُ دِرهم، وقالت لي: تقول مولاتي: أنفق هذه، فإن احتجتَ فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله. فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي: إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي قالت: هذا لِبَناتي، وكابرتني عليهما. فدخلت السّوقَ فبعتُهما بخمسين ديناراً، وأقبلتُ. فلما فتحت الباب صاحب امرأتي، وقالت: قد جئتَ أيضاً بشُؤمك! فطرحتُ الدنانيرَ والدراهم بين يديها والثياب، فقالت: من أين هذا؟ قلت: مِن الذي تشاءمت به وزعمتِ بضاعتي التي لا تُجدي. فقالت: قد كانت عندي في غاية الشؤم، وهي اليوم في غاية البركة.

نوادر من الشعر
وقال المأمون لمحمد بن الجَهم: أَنشدني بيتاً أوّله ذَمّ وآخره مَدْح أولك له كُورة فأنشده:
قَبحتْ مناظرُهم فحين خبرتُهم ... حَسُنت مناظرُهم لحسن المَخْبَر
أرادوا ليُخفوا قبرَه عن عدوّه ... فطيبُ تُراب القَبر دلَّ على القبر
فولاه الدِّينور. وقال هارون الرشيد للمُفَضّل الضَّبِّي: أنشدنا بيتاً أوله أعرابي في شَملته، هَبَّ من نَومته، وآخره مَدنيّ رقيق، غُذِّي بماء العَقيق. قال المُفضل: هَوَّلتَ عليَّ يا أمير المؤمنين، فليت شعري، بأيّ مَهر تُفتضّ عَروس هذا الخدْر؟ قال هارون: هو بيتُ جَميل حيث يقول:
ألا أيها النّوام ويحكُم هُبُّوا ... أُسائلكم هل يَقتل الرجلَ الحبُّ

فقال له المفضل: فأخبرني يا أمير المؤمنين عن بيت أوله أكثمُ بن صَيفيّ في إصابة الرأي، وآخره بُقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء؟ قال له هارون: ما هو؟ قال: هو بيتُ الحسن بن هانئ حيث يقول:
دع عنكَ لَومي فإنّ اللومَ إغراء ... وداوني بالَّتي كانت هي الدواء
قال: صدقت. وقال الرَّبيع: خرجنا مع المنصور مُنصَرفنا من الحَجّ، فنزلنا الرَّضمة، ثم راح المنصور ورُحنا معه في يوم شديد الحَرّ، وقد قابلْته الشمس، وعليه جُبة وَشيْ. فالتفت إلينا، وقال: إنّي أقول بيتاً من الشعر، فمَن أجازه منكم فله جُبتي هذه قلنا: يقول أمير المؤمنين. فقال:
وهاجرة نصبت لها جَبيني ... يُقطِّع حرُّها ظَهرَ العِظَايه
فبَدره بشّار الأعمى فقال:
وقفتُ بها القلوصَ ففاض دَمعي ... على خَدِّي وأَسعد واعظَايه
فخرج له من الجُبة. فلقيته بعد ذلك، فقلت له: ما فعلتَ بالجُبة؟ قال: بعتُها بأربعة آلاف درهم. خرج رسول عائشة بنت المَهديّ، وكانت شاعرةً، إلى الشعراء وفيهم صرَيع الغواني، فقال: تُقرئكم سيدتي السلامَ وتقول لكم: من أجاز هذا البيتَ فله مائة دينار. فقالوا: هاته. فأنشدهم:
أنيلي نَوَلاً وجُودي لنَا ... فقد بلغتْ نَفسيَ التَرْقوه
فقالِ صَريع:
وإني كالدلْو في حُبكم ... هَوِيتُ إذا انقطعتْ عَرْقوه
قال الحسن: صدقتَ. ثم أقبل إليه رجلٌ آخر، فقال: يا أبا سَعيد، ما تقول في الرجلِ يشك في الشَّخص يبدو له فيقول: والله هذا فلان، ثم لا يكون هو، ما ترى في يمينه؟ فقال الفرزدق: وقد قلتَ أنا في مثل هذا. قال: الحسن، وما قلت؟ قال: قلت:
ولستَ بمأخوذ بقَول تقولُه ... إذا لم تُعِنْه عاقداتُ العزائِم
قال الحسن: صدقتَ. فأخذ المائة الدِّينار.
وكان الفرزدق يجلس إلى الحَسن البَصريّ، وجرير يجلس إلى ابن سِيرين، لتباعد ما بين الرَّجلين، وكان موتُهما في عام واحد، وذلك سنة عشر ومائة. فبينما الفرزدق جالس عند الحَسن إذ جاءه رجل فقال: يا أبا سَعيد: إنّا نكون في هذه البُعوث والسرَّ أيا فنُصيب المرأة من العدوّ وهي ذاتُ زَوْج، أفتحلّ لنا من غير أن يُطلّقها زوجُها؟ قالت الفرزدق: قد قلتُ أنا في مثل هذا في شعري. قال له الحسن: وما قلت؟ قال: قلتُ:
وذات حَلِيل أَنكحْتها رماحُنا ... حَلالاً لمن يبني بها لم تُطلَقِ
واستعدت امرأةٌ على زَوجها عبّادَ بن منصور وزعمت أنه لا يُنفق عليها.
فقال لرؤبة: احكُم بينهما. فقال:
فطَلّق إذا ما كنتَ لستَ بمُنفقٍ ... فما الناسُ إلا مُنفِقٌ أو مطلق
وكان رجل يدَّعي الشعرَ ويستبرده قومُه، فقال لهم: إنما تَستبردونني من طريق الحَسد. قالوا: فبيننا وبينك بشّار العقيلي. فارتفعوا إليه. فقال له: أنشدني. فأنشده فلما فرغ، قال له بشّار: إني لأظنك من أهل بيت النُّبوة؟ قال له: وما ذلك؟ قال: إن الله تعالى يقول: وَما علّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي له فضحك القومُ وخَرجوا عنه. وقال أبو دُلف:
أنا أبو دُلف المُبدِي بقافية ... جوابُها يهلك الداهي من الغَيظِ
مَن زاد فيها له رَحْلي وراحلتي ... وخاتمي والمَدَى فيها إلى القَيظ
فأجابه ابنُ عبد ربّه.
قد زدتُ فيها وإن أَضحى أبو دُلف ... والنفسُ قد أَشرفت منه على الفَيظِ
سَمر الفرزدقُ والأخطلُ وجرير عند سليمان بن عبد الملك ليلةً، فبينما هم حوله إذ خفَق. فقالوا: نَعس أمير المؤمنين، وهمّوا بالقيام. فقال لهم سليمان: لا تقوموا حتى تقولوا في هذا شعراً. فقال الأخطل:
رَماه الكَرى في رأسه فكأنّه ... صَرِيع تَروَّى بين أصحابه خَمْرا
فقال له: ويحك! سكران جعلتَني ثم قال جرير بن الخَطَفي:
رماه الكَرى في رأسه فكأنما ... يرى في سواد الليل قُنبرةً حَمْرا
فقال له: ويحك! أجعلتَني أَعمى. ثم قال الفرزدق بعد هذا:
رماه الكَرى في رأسه فكأنما ... أَمِيمُ جَلاميدٍ تَركْن به وَقرا
قال له: ويحك! جعلتني مَشْجوجاً. ثم أذن لهم فانقلبوا، فحيّاهم وأعطاهم.

كان عمرُ بن أبي ربيعةَ القُرشيّ غَزلاً مُشبِّباً بالنساء الحَوَاجّ رقيقَ الغزل، وكان الأصمعي يقول في شعره: الفُستق المقشَّرَ الذي لا يُشبع منه. وكان جرير يَستبرده، ويقول: شِعر حِجازِيّ لو أَنجد في تَمُوز لوُجد البرد فيه. فلما أنشد:
فلما تلاقينا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذَوكَ النَّعل بالنَّعل
فقال: ما زال يَهْذي حتى قال الشعر.
وقالت العلماء: ما عُصي الله بشعر ما عُصي بشعر عمر بن أبي ربيعة. ووُلد عمر بن أي ربيعة، يوم مات عُمر بن الخطاب فسُمي باسمه، فقالت العلماء. أي خَير رُفع، وأي شرّ وُضع. ثم إنه تاب في آخر أيامه وتَنسك ونذر لله أن يُعتق رقبة بكل بيت يقوله، وإنه حَجَ، فبينما هو يطوف بالبيت إذ نَظر إلى فتى من نُمير يلاحظ جاريةً في الطواف، فلما رأى ذلك منه مِراراً أتاه، فقال له: يا فتى، أمَا رأيت ما تصنع؟ فقال له الفتى: يا أبا الخَطّاب، لا تَعجل عَليّ، فإنّ هذه ابنة عمّي، وقد سُمّيت لي ولستُ أقدر على صَداقها، ولا أظفر منها بأكثر مما ترى، وأنا فلان بن فلان، وهذه فلانة بنت فلان. فعرفهما عُمر، فقال له: أقعد يا بن أخي عند هذه الجارية حتى يأتيكَ رسولي. ثم ركب دابّته حتى أتى منزلَ عم الفتى، فقَرع الباب، فخرج إليه الرجل، فقال: ما جاء بك يا أبا الخطّاب في مثل هذه الساعة؟ قال: حاجة عَرضت قِبَلك في هذه الساعة. قال: هي مَقْضية. قال عمر: كائنة ما كانت؟ قال: نعم. قال: فإني قد زوَّجت ابنتك فلانة من ابنِ أخيك فلان. قبل: فإني قد أجزتُ ذلك. فنزل عُمر عن دابَّته، ثم أرسل غلاماً إلى داره، فأتاه بألف درهم، فساقها عن الفتى، ثم أرسل إلى الفتى فأتاه، فقال لأبي الجارية: أقسمتُ عليك إلا ما ابتني بها هذه الليلَة. قال له: نعم. فلما أدخلت على الفتى انصرف عمر إلى داره مسروراً بما صنع، فرمى بنفسه على فراشه وجعل يتململ، ووليدة له عند رأسه، فقالت له: يا سيدي، أرقت هذه الليلة أرقاً لا أدري ما دَهمك؟ فأنشأ يقول:
تقول وليدتِي لمّا رأتْنيِ ... طَربتُ وكنتُ قد أقصرتُ حِيناً
أراك اليوم قد أحدثتَ شَوقاً ... وهاج لك الهَوى داءً دفينا
وكنتَ زعمْتَ وإن تَعزي ... مَشُوق حين يَلقي العاشِقينا
ثم ذكر يمينَه فاستغفر الله وأعتق رقبةً لكل بيت.
دعا الأعورُ بنُ بنان التِّغلبي الأخطل الشاعر إلى منزله، فأدخله بيتاً قد نجّد بالفُرش الشريفة والوِطاء العجيب، وله امرأة تُسمى بَرَة، في غاية الحسن والجمال، فقال له: أبا مالك، إنك رجلِ تدخل على الملوك في مجالسهم فهل ترى في بيتي عَيباً؟ فقال له ما أرى في بيتك عيباً غيرك. فقال له: إنما أعجب من نفسي أذ كنت أدخل مثلَك بيتي، اخرج عليك لعنة اللّه. فخرج الأخطل وهو يقول:
وكيف يُداويني الطبيبُ من الجَوَى ... وبَرّة عند الأعور بن بَنَانِ
ويُلصق بَطْناً مُنتن الريح مُجْرِزاً ... إلى بَطْن خَوْد دائِم الخَفقَان

باب من الشعر يخرج معناه في المدح والهجاء
قال الشاعر في خيّاط أعور يسمَّى عَمْراً:
خاط لي عَمرو قَباءْ ... ليت عينيه سواء
فاسأل الناس جميعاً ... أمديحٌ أم هجاء
ومثله قولُ حبيب في مَرثية بني حُميد، حيث يقول:
لو خَر سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ... ما كان إلا على هاماتهم يَقَعُ
فلو هُجي بهذا رجل على أنه أنجس خَلق الله لجاز فيه، ولو مُدح به على مذهب قول الشاعر:
وإنا لتَستحلي المَنايا نُفوسُنا ... ونترك أخرى مُرةً ما تَذُوقها
وقول الآخر:
ونحن أناس ما نَرى القَتل سُبَّةً ... إذا ما رأتْه عامرٌ وسَلُولُ
يُقَرِّب حبّ المَوت آجالَنا لنا ... وتَكرهه آجالهمُ فتَطُول
وما مات منّا سيّد في فِراشه ... ولا طُلّ مِنّا حيثُ كان قَتِيل
تسيل على حَدِّ السيوف دماؤنا ... وليس على غَير السُّيوف تَسِيل
لجاز ذلك. ومثله لحَبيب:
انظر فحيثُ تَرى السُيوفَ لوامعاً ... أبداً ففَوْقَ رؤوسهم تتألّقُ
ما قالوه في تثنية الواحد

وجمع الاثنين والواحد وإفراد الجمع والاثنين
وقال الفرزدق في تثنية الواحد:
وعندي حُساماً سيفه وحمائلُه
وقال جرير:
لما تَذكَّرت بالدَّيْرين أرقني ... صوتُ الدَجاج وقَرْعٌ بالنَّواقيس
وإنما هو دَيْر الوليد، مَعروف بالشام، وأراد بالدجاج: الدَيكة.
وقال قَيس بن الخَطيم في الدِّرع:
مُضاعفة يَغشى الأناملَ رَيْعُها ... كأنّ قتيريْها عُيون الجَنادبِ
يريد: قَتيرها. وقال آخر:
وقال لبَوَّابَيْه لا تُدخِلنَّه ... وسُدَا خَصاصَ الباب عن كل مَنْظرِ
وقال أهِلُ التفسير في قول الله عزّ وجلّ: " ألْقِيَا في جَهَنَم كُلًّ كَفار عَنِيد " إنه إنما أراد واحداً فثنَّاه. وكذلك قولُ معاوية للجِلْواز الذي كان وكلّه برَوْح بن زِنْباع، لما اعتذر إليه رَوح واستعطفه: خلِّيا عنه.
قولهم في جمع الاثنين والواحد
قال الله تبارك وتعالى: " فإنْ كان له إخْوةٌ فلأمّه السُّدُس " . يريد أخوين فصاعدا. وقوله: " إنّ الذين يُنَادونَك مِنْ وَرَاء الحجُراتِ أكْثرُهم لا يعْقِلُون " وإنما ناداه رجلٌ من بني تَميم، وقوله: " وألْقَى الألْوَاحَ " وإنما هما لَوْحان.
وقال الشاعر:
لَوْ الرجاء لأمرٍ ليس يَعْلمه ... خَلْق سِوَاك لما ذَلَت لكم عُنُقِي
ومثل هذا كثير في الشعر القديم والمُحدث.
وأمّا قولهم في إفراد الجمع فهو أقل من هذا الذي ذكرنا.
وكذلك في إفراد الاثنين. فمن ذلك قول الله تعالى: " ثُم يُخرِجكُم طِفْلاً " وقوله: " فَأْتِياه فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبِّ العَاَلمِين " وقوله: " فما مِنكم مِنْ أحِدِ عَنهُ حَاجِزين " وقال جرير:
هَذي الأراملُ قد قَضَّيت حاجتَها ... فَمَن لحاجَةِ هذا الأرمل الذكَرِ
وقال آخر:
وكأنّ بالعينين حَبَّ قَرَنْفُل ... أو فُلفلٍ كحِلت به فانهلّتِ
وِلم يقل: فانهلّتا. وقال مُسلم بن الوليد:
ألا أنِف الكَواعبُ عَن وِصالي ... غداةَ بدَا لها شيبُ القَذال
وقال جرير:
وقُلنا للنِّساء به أقيمي
قولهم في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر
قال مالك بن أَسماء بن خارجة الفَزاريّ في شعره الذي أوله:
حَبَّذا ليلُنا بتلِّ بَوَناً
ومَررنا بنِسْوة عطراتٍ ... وسَماع وقَرقَف فنزلْنَا
ما لَهم لا يُبارك الله فيهم ... حين يُسألن مَنحنا ما فَعلنا
وقال آخر: وقد استشهد به سيبويه في كتابه.
فلا ديمة وَدقت وَدْقها ... ولا أرْضَ أَبقلَ إبقالهَا
فذكِّر الأرضَ. وقال نصيب:
أنّ السماحةَ والمُروءة ضمنا ... قَبرًا بمَرْو على الطَّريق الوَاضح
وقالت أعرابية:
قامتْ تُبكّيه على قَبرهِ ... مِن ليَ مِن بعدك يا عامر
تركْتَني في الدار وحشيةً ... قد ذَلّ مَن ليس له ناصر
وقال أبو نُواس:
كَمَن الشَّنآن فيه لَنا ... ككُمون النار في حِجرِهْ
وإنما ذكرتُ هذا البابَ في كتاب الشعر، لاحتياج الشاعر إليه في شعره واتساعه فيه
باب ما غلط فيه على الشعراء
وأكثر مَا أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن، ولكنّ أصحاب اللغة لا يُنصفونهم، وربمَا غَلّطوا عليهم، وتأوّلوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها. فمن ذلك قولُ سيبويه، واستشهد ببيت في كتابه في إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وأخطأ فيه:
مُعاوِي إننا بَشر فأسْجح ... فَلَسنَا بالجبال ولا الحَدِيدَا
كذا رواه سيبويه على النَّصب، وزعم أنّ إعرابه على معنى الخبر الذي في ليس. وإنما قاله الشاعر على الخَفض، والشعر كله مخفوض، فما كان يضطره أن ينصب هذا البيت ويحتال على إعرابه بهذه الحِيلة الضعيفة، وإنما الشعر:
مُعاوي إنّنا بَشر فأَسْجِحْ ... فلسنا بالجبال ولا الحَديدَ
أكلتُم أرضنا فَجَردْتُمُوها ... فهل من قَائمٍ أو من حَصِيد
أتطمع في الخُلود إذا هَلكنا ... وليس لنا ولا لك من خُلود
فهَبْنا أمةً هلكتْ ضَياعاً ... يزيدُ أميرُها وأبو يَزيد

ونظير هذا البيت، ما ذكره في كتابه أيضاً واحتج به في باب النون الخفيفة:
نَبتُّم نَباتَ الخَيْزرانيّ في الثَّرى ... حَديثاً متى ما يأتِك الخير يَنفعَا
وهذا البيت للنَّجاشيَّ. وقد ذكره عمرو بن بحر الجاحظ في فخر قَحطان على عدنان. في شعر كُله مخفوض، وهو:
أيا راكباً إمّا عرضتَ فبلِّغن ... بني عامر عنّي يزيدَ بن صَعْصع
نَبتم نَبات الخَيزرانيّ في الثرى ... حديثاً متى ما يأتك الخيرُ يَنفع
ومثله: قولُ محمد بن يزيدَ النحويّ المعروف بالمُبرّد، في كتاب الروضة، وأدركَ.
على الحسن بن هانئ قولَه:
وما لِبَكْرِ بن وائل عُصْم ... إلا بحمَقائها وكاذِبها
فزعم أنه أراد بحَمقائها هَبنَّقة القَيسيّ. ولا يقال في الرجل حَمقاء. وإنما أراد دُغَة العِجليَّة، وعِجْل في بكر، وبها يُضرب المثل في الحُمق.

باب من مقاطع الشعر ومخارجه
اعلم بأنك متى ما نظرتَ بعين الإنصاف، وقطعت بحجة العقل، علمتَ أنّ لكل ذي فضل فضلَه. ولا ينفع المتقدمَ تقدُّمُه، ولا يضرّ المتأخرَ تأخره. فأمّا مَن أساء النظمِ ولم يحسن التأليف فكثير، كقول القائل:
شرَ يومَيْها وأغواه لها ... ركبتْ عَنْز بِحِدْج جَملاً
شرّ يوميها نصب على المحلّ. وإنما معناه ركبت عنز جَملاً بحِدْج في شر يوميها. وكقول الفرزدق:
وما مثْله في النّاس إلا مُملَّكاً ... أبو أمه حيٌ أَبوه يقاربُه
معناه: ما مِثل هذا الممدوح في الناس إلا الخَليفة الذي هو خاله، فقال: أبو أُمه حيّ أبوه يقاربه. فبعد المَعنى القريب، ووعّر الطريق السهل، ولبَّس المعنى بتوعّر اللفظ وقُبح البِنية، حتى ما يكاد يُفهم. ومثل هذا، إلاّ أنه أقرب منه إلى الفهم، قولُ القائل:
بينما ظِل ظَلِيلٌ ناعم ... طلعتْ شمس عليه فاضمحلْ
يريد: حتى طلعت شمس عليه. . ومثلُه قولُ الآخر:
إنّ الكريم وأبيكَ يَعْتمل ... إن لم يَجد يوماً على مَن يَتَّكل
يريد: على من يتكل عليه. وللّه دَرّ الأعشى حيث قال في المخبأة:
لم تَمْش ميلاً ولم تَركب على جَملٍ ... ولم تَر الشمسَ إلا دونَها الكِلَلُ
وأبين منه قولُ النابغة:
ليست من السود أعقاباً إذا انصرفتْ ... ولا تبيع بأعلى مكة البَرَمَا
وقد حذا على مثال قول النابغة بعضُ المُبرزين من أهل العصر، فقال:
ليست من الرمص أشفاراً إذا نَظرت ... ولا تَبيع بفَوق الصُخرة الرُّغُفا
فقيل له: ما معناك في هذا؟ قال: هو مثلُ قول النابغة، وأنشد البيت، وقال: ما الفرق بين أن تَبيع البَرَم أو تَبيع الرغُف، وبين أن تكون رمضاء العينين أو سوداء العَقِبين. وانظر إلى سُهولة معنى الحسن بن هانئ وعُذوبة ألفاظه في قوله:
حذَر امرئ ضربت يداه على العدا ... كالدَّهر فيه شراسةٌ وليانُ
وإلى خُشونة ألفاظ حبيب الطائي في هذا المعنى حيث يقول:
شَرسْتَ بل لِنْت بل قابلتَ ذاك بذا ... فأنتَ لا شك فيك السهلُ والجبلُ
وقد يأتي من الشعر ما لا فائدة له ولا معنى كقول القائل:
الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ ... والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ
وقال الأعشى:
إنّ محلاً وإن مُرتحلا ... وإنّ في السفْر إذ مَضىَ مَهَلاَ
وقال إبراهيم الشَيْبانيّ الكاتب: قد تكون الكلمة إذا كانت مفردةً حُوشيّة بشعة، حتى إذا وضعت في موضعها وقُرنت مع إخواتها حَسُنت، كقول الحسن بن هانئ:
ذو حَصر أفلت من كَرّ القبَل
والكر: كلمة خسيسة، ولاسيما في الرقيق والغزل والنسيب، غير أنها لما وضعت في موضعها حَسُنت، وكذلك الكلمة الرقيقة العَذْبة ربما عقبُتْ ونفرت إذا لم تُوضع في موضعها، مثل قول الشاعر:
رأت رائحاً جَوْناً فقامت غَريرةً ... بمِسْحاتها جُنحَ الظلام تُبادِرُهْ
فأوقع الجافي الجلْفُ هذه اللفظَة غير موضعها، وبَخسها حقَّها حين جعلها في غير مكانها حقًّا، لأنّ المسَاحي لا تَصلح للفرائز.

واعلم أنه لا يَصلح لك شيء من المنثور والمنظوم إلا أن يُجري منه على عِرق، وأن يتمسّك منه بسبب، فأما إن كان غيرَ مُناسب لطبيعتك، وغير ملائم لقَريحتك. فلا تُنض مطيَّتك في التماسه، ولا تُتعب نفسَك في ابتغائه، باستعارتك ألفاظَ الناسِ وكلامَهم، فأنّ ذلك غيرُ مُثمر لك ولا مُجدٍ عليك، ما لم تكن الصناعة ممازجةَ لذهنك، ومَلتحمة بطبعك.
واعلم أنّ من كانَ مرجعُه اغتصابَ نظم من تقدمه، واستضاءتَه بكوكب مَن سبقه، وسَحْبَ ذيل حُلة غيره، ولم تكن معه أداة تُولِّد له من بناتِ ذهنه ونتائج فكره، الكلامَ الجَزْل، والمعنى الحَفْل، لم يكن من الصناعة في عِير ولا نفير، ولا وِرد ولا صَدَر، على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين، وَدرْسَ رسائل المُتقدمين، هو على كل حال ما يَفْتق اللسان، ويُقوي البيان، ويُحد الذهن، ويَشحذ الطبع، إن كانت فيه بقيّة، وهناك خيية.
واعلم أنّ العلماء شبَهّت المعاني بالأرواحِ، والألفاظَ بالأجساد واللُّباب. فإِذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزلَ، وكساه لفظاً حسناً، وأعاره مَخرجاً سهلاً، ومَنحه دَلاًّ مُونقاً، كان في القلب أحلَى، وللصدر أملاً. ولكنه بقي عليه أن يُؤلفه مع شقائقه وقُرنائه، ويجتمع بينه وبين أشباهه ونظائره، وينَظمه في سِلْكه كالجوهر المنثور، الذي إذا تولى نظمه الناظمُ الحاذقُ، وتعاطى تأليفَه الجوهريُّ العالم، اظهر له بإحكام الصَّنعة، ولطيف الحِكمة، حُسناً هو فيه، وكشاه ومَنحه بهجة هي له. وكذلك كلما احلولى الكلامُ، وعذُب وراق، وسَهُلت مخارجه، كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع، وأشدَ اتصالاً بالقلوب، وأخفّ على الأفواه، لا سيما إذا كان المعنى البديعُ مترجَماً بلفظ مُونق شريف، لم يَسِمْه التكلفُ بِمِيسمه، ولم يُفسده التعقيدُ باستهلاكه، كقول ابن أبي كَريمة:
قَفاه وجهٌ والذي وجههُ ... مثلُ قَفاه يُشبه الشمسا
فهجّن المعنى بتعقيد مخارج الألفاظ. وأخذه الحسنُ بن هانئ فأوضحه وسهَّله حيث قال:
بأبي أنتَ مِن غزالٍ غَرير ... بزَّ حُسنَ الوُجوه حُسنُ قَفاكَا
وكلاهما أخذه من حسَّان بن ثابت حيث يقول:
قفَاؤك أحسنُ من وجهه ... وأمُّك خير من المُنذِرِ "
وقَد يأتي من الشعر في طريق المَدح ما الذمُ أولى به من المدح، ولكنه يُحمل على مَحْمَل ما قبله وما بعده، ومثله قولُ حبِيب:
لو خَرَّ سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ... ما كان إلا على هاماتِهم يَقَعُ
وهذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح، وإنما يجوز في الذم والنَّحس، لأنك لو وصفت رجلاً بأنه أنحسُ الخَلق لم تَصِفه بأكثر من هذا. وليس للشجاعة فيه وجْه، لأنّ قوَلهم: لو خَر سيف من السماء لم يقع إلا على رأسه هذا رأس كل نَحس.

قولهم في رقة التشبيب
ومن الشعر المطبوع الذي يجري مع النفس رِقةً، ويُؤدٌي عن الضمير إِبانة، مثل قول العباس بن الأحنف:
وليلة ما مثلها لَيلة ... صاحبُها بالنحس مَفْجوع
ليلةَ جِئناها على مَوعدٍ ... نَسْرِي وداعِي الشوقِ مَتْبوع
لما خَبت نيرانها وانكفأ الس ... امِر عنها وهو مصروع
قامت تَثَنَّى وهي مَرْعوبةٌ ... تَودّ أنّ الشملَ مَجْموع
حتى إذا ما حاولتْ خطوةً ... والصدرُ بالأرداف مَدْفوع
بَكى وِشَاحاها على مَتْنها ... وإنما أبكاهما الجُوع
فانتبه الهادُون مِن أهلها ... وصار للمَوْعود مَرْجوع
يا ذا الذي نم علينا لَقَدْ ... قُلتَ ومنك القولُ مَسْموع
لا تشغليني أبداً بعدها ... إلا ونَمامُك مَنْزوع
ما بال خَلْخَالك ذا خَرْسة ... لسانُ خَلخالك مَقْطوع
عاذِلتي في حُبها أَقْصري ... هذا لَعَمْري عنكِ مَوْضوع
وفي معناه لبشارِ بن بُرد:
سَيّدي لا تأت في قمر ... لحديثٍ وارقب الدّرُعا
وتوقَ الطِّيبَ ليلتنا ... إنه واش إذا سَطَعا
وله أيضاً:
يقولان لو غربت قلبك لا رعوَى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب

الأصمعي قال: سَمع كُثيّر عزة مُنْشداً يُنشد شعرَ جَميل بن معَمر، الذي يقول فيه:
ما أنتِ والوعدَ الذي تَعدِيننيِ ... إلاّ كَبرْقِ سَحابةٍ لم تُمْطِرِ
تُقضى الديونُ وليسَ يُقضىَ عاجلاً ... هذا الغريم ولستُ فيه بمعسِر
يا ليتَني ألقَى المنيةَ بغتةً ... إن كان يومُ لقائكم لم يُقدَر
يَهواك ما عشتُ الفؤادُ وإن أمت ... يَتْبع صَداي صداك بين الأقبُر
فقال كُثَيّر: هذا والله الشعرُ المَطبوع، ما قال أحد مثلَ قول جميل، وما كنتُ إلا راويةً لجميل، ولقد أبقى للشعراء مثالاً يحتذى عليه.
وسمع الفرزدق رجلاً ينشد شعر عُمر بن أبي رَبيعة الذي يقول فيه:
فقالتْ وأرْخَت جَانبَ السِّتر إنما ... مَعِي فتحدَّثْ غيرَ ذِي رِقْبة أهْلي
فقلتُ لها مالي بهم من تَرقُّب ... ولكنّ سري ليس يَحمله مِثْلي
حتى انتهى إلى قولِه:
فلما تَواقَفنا عرفتُ الذي بها ... كمِثل الذي بي حذوَك النَّعل بالنَعل
فقال الفرزدق: هذا والله الذي أرادت الشعراء أن تقوله فأخطأتْه، وبكتْ على الطّلول. وإنما عارض بهذا الشعر جميلاً في شعره الذي يقول فيه:
خَلِيليّ فيما عِشْتُما هل رأيتُما ... قتيلاً بكَى من حُبّ قاتله قَبْلي
فلم يصنع عمر مع جَميل شيئاً.
ومن قولنا في رقةّ النَسيب والشعر المَطبوع، الذي ليس بدون ما تقدّم ذِكْرُه:
صحا القلبُ إلا خَطْرَةً تبْعث الأسىَ ... لها زَفرةٌ موصولة بحَنينِ
بَلى رُبما حلَت عُرى عَزَماتِه ... سوالف آرام وأعْينُ عِين
لواقطُ حَبّات القُلوب إذا رَنَت ... ثِمارُ صُدور لاَ ثِمارُ غُصون
بُرُودٌ كأنوار الرَّبيع لِسنَها ... ثيابُ تَصاب في ثِياب مُجون
قَرَيْن أديمَ اللَّيل عن نور أوْجُهٍ ... تُجَن بها الألبابُ أيّ جنون
وجوهٌ جرى فيها النَّعيمُ فكلَلت ... بوَرْد خُدود يُجتَنى بعُيون
سألبس للأيام دِرعاً من العَزَا ... وإن لم يَكُن عند اللَقا بحَصِين
فكيف ولي قلبٌ إذا هَبّت الصَبا ... أهابَ بِشَوق في الضلوع دَفين
ويهتاجُ منه كُلّ ما كان ساكناً ... دُعاءُ حَمامٍ لم يَبِت بوكون
وإنّ ارتياحي من بُكاء حَمامةٍ ... كذِي شَجن داويتَه بشجون
كأن حَمامَ ألأيك حِين تَجاوبت ... حزينٌ بكَى من رَحمة لِحَزين
ومما عارضتُ به صريعَ الغواني في قوله:
أديرا عليّ الرَّاحَ لا تشرَبَا قَبليِ ... ولا تَطْلُبا من عند قاتِلتي ذَحْلي
فيا حَزني أنّي أموت صبابةَ ... ولكنْ على من يحلُ له قَتْلَي
فَدَيتُ التي صًدت وقالت لِترْبها ... دَعِيه، الثريا منه أقربُ من وَصْلي
فقلت على رويّه:
أتقتُلني ظُلماً وتَجْحدني قَتْلي ... وقد قام مِن عَيْنيك لي شاهدا عَدْل
أطُلاّبَ ذَحْلي ليس بي غيرُ شادنٍ ... بعَيْنيه سِحْر فاطلُبوا عنده ذَحْلي
أغار على قَلبي فلما أتيتُه ... أطالبه فيه أغار على عَقلِي
بِنَفسي التي ضَنّت برد سَلامها ... ولو سألتْ قَتليِ وَهبتُ لها قَتلي
إذا جئتُها صَدَّت حياءً بوَجهها ... فتهجُرني هَجراً ألذَ من الوَصْل
وإن حكمتْ جارتْ عليّ بحُكْمها ... ولكنّ ذاك الجَورَ أشهى من العَدْل
كتمتُ الهوى جَهدي فجرّده الأسى ... بماء البُكا هذا يَخُط وذا يُملي
وأحببتُ فيها العذْلَ حُبًّا لذِكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذْل
أقول لقَلبي كلما ضَامَه الأسىَ ... إذا ما أبيتَ العِزّ فاصبر على الذُّل
برأيكِ لا رَأيي تعرّضتُ للهَوى ... وأمرك لا أمري وفِعْلكِ لا فِعْلي

وجدتُ الهَوى نَصلاً من المَوت مُغْمَداً ... فجردتُه ثم اتكأتُ على النصْل
فإن كُنتُ مَقتولاً على غَير رِيبة ... فأنتِ التي عَرضت نفسيَ للقَتل
فمن نَظر إلى سُهولة هذا الشعر مع بديع معناه ورقة طَبعه، لمْ يَفْضُله شعرُ صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم ولا سيما إذا قرن قوله في هذا الشعر:
كتمتُ الذي ألقى من الحُبّ عاذِلي ... فلم يَدْر ما بي فاسترحتُ من العَذْل
يقولي في هذا الشعر:
وأحببتُ فيها العذلَ حُباً لذكرها ... فلا شيَء أشهى في فؤادي من العَذْل
كتمتُ الهَوى جهدي فجرّده الأسى ... بماء البكا هذا يخط وذا يُمْلي
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت فاصبرْ على الذل
ومن قولنا في رِقّة النسيب وحُسن التشبيب:
كم سَوسنٍ لَطُف الحياءُ بلوْنه ... فأصاره وَرْداً على وَجناتِه
ومثله:
يا لؤلؤاً يَسْبِي العقولَ أنيقَاً ... وَرَشاً بتَقْطيع القلوب رَفيقَا
ما إنْ رأيتُ ولا سمعتُ بمثله ... دُرًّا يَعود من الحَياء عَقِيقا
ونظيرُ هذا من قولنا في رقة التشبيب وحُسن التشبيه البديع الذي لا نظير له، والغريب الذي لم يُسبق إليه:
حَوارء داعَبها الهوى في حُورِ ... حكمتْ لواحظُها على المَقْدورِ
نَظرتْ إليّ بمقلتَيْ أدْمانة ... وتلفّتت بسَوالف اليَعْفور
فكأنما غاض الأسى بجُفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ مَنْثور
ونظير هذا من قولنا:
أدعو إليك فلا دُعاءٌ يُسمَع ... يا مَن يَضرّ بناظرَيْه ويَنْفعُ
للوَرْد حِينٌ ليس يطلُعُ دونَه ... والوردُ عندك كُلَّ حين يَطْلُع
لم تَنصدع كَبِدي عليك لضَعْفها ... لكنّها ذابَتْ فما تَتَصدّع
مَن لي بأحورَ ما يبين لسانُه ... خَجلاً وسيفُ جُفونه ما يَقطَع
مَنع الكلامَ سوى إشارةِ مُقلةٍ ... فبها يُكلِّمني وعَنها يَسْمع
ومثله:
جَمال يفوت الوَهْمَ في غاية الفِكْر ... وطَرْفٌ إذا ما فاه يَنْطق بالسِّحرِ
ووجهٌ أعارَ البدرَ حُلة حاسدٍ ... فمنه الذي يَسْود في صَفحة البَدْر
وقال بشّار بن بُرْد:
وَيْح قلبي في حُبّها ممّا يُجنّ ... ضاق من كِتْمانه حتّى عَلنْ
لا تلم فيها وحسن حُبّها ... كل ما قَرتْ به العَيْن حَسَن
وله:
كأنها روضة مُنوَرةٌ ... تنفستْ في أواخر السَّحَرِ
ولبشّار، وهو أشعر بيت قاله المولدون في الغزل:
أنا والله أشتهي سِحْر عَيَني ... ك وأخشى مَصارع العُشَاقِ
وله:
حَوْراءُ إن نظرت إلي ... ك سَقَتْك بالعينين خَمْرا
وكأنّها بَرْد الشرَا ... بِ صفا ووافق منك فِطْرا
ولأبي نُواس:
وذات خَدّ مورّدْ ... قُوهيّة المُتجرّدْ
تأمّل العينُ منها ... محاسناً ليس تَنْفَد
فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولّد
وكلما عدْت فيه ... يكون في العَوْد أحْمد
وله أيضاً:
ضَعيفة كَرّ الطَّرف تَحسب أنّها ... قريبةُ عهد في الإفاقة من سُقْم

قولهم في النحول
قال عمر بن أبي ربيعة القُرشيّ يصف نُحولَ جِسْمه وشُحوبَ لونه في شِعره الذي يقول فيه:
رأتْ رجلاً أيْما إذا الشمسُ عارضَتْ ... فَيَضْحَى وأيما بالعشي فَيَخْصَرُ
أخا سَفر جَوّابَ أرْض تقاذفتْ ... به فَلَواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ
قليلاً على ظَهر المَطِيّة شَخصُه ... خلاَ ما نَفَى عنه الرداء المُحبّر
وفي هذا الشعر يقول:
فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئتْ ... مصابيحُ شُبّت بالعِشاء وأَنؤرُ
وغاب قمَير كنتُ أرجو غيوبَه ... ورَوَّح رُعْيان ونَوَم سُمَّر

وخُفِّض فيّ الصوتُ أقبلتُ مِشية ال ... حُبابِ ورُكْني خِيفَة القوم أزور
فحييتُ إذ فاجأتها فتلهّفتْ ... وكادت بمكتَوم التّحيّة تَجهر
وقالت وعضت بالبَنان فضحتَني ... وأنت امرؤ مَيْسورُ أمرك أعْسر
أريتَك إذ هُنّا عليك ألم تَخفْ ... رقيباً وحَولي من عدوّك حضر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجةٍ ... سَرتْ بك أم قد نام من كُنتَ تَحذر
فقلتُ لها بل قَادني الشوقُ والهوى ... إليك وما عين من الناس تَنظر
فيالك من ليلٍ تقاصَر طولُه ... وما كان ليلي قبل ذلك يَقْصُر
ويا لك من مَلهىً هُناك ومجلس ... لنا لم يُكدِّره علينا مُكدِّر
يَمج ذكيَّ المسك منها مُفلَّجٌ ... رقيقُ الحَواشي ذو غُروب مؤشر
يَرفّ إذا تَفترُّ عنه كأنه ... حصىَ بَرَد أو أُقْحوان مَنوّر
وتَرْنو بعَيْنيها إليَّ كما رَنا ... إلى رَبْرب وَسْط الخميلة جُؤْذُر
فلمّا تقضىّ الليلُ إلا أقله ... وكادت توالي نَجْمِه تَتغوّر
أشارت بأنّ الحَيّ قد حان منهمُ ... هُبوب ولكنْ موعدٌ لك عَزْور
فما راعني إلا مُنادٍ برحْلة ... وقد لاح مَفْتوق من الصُّبح أشقر
فلما رأتْ مَن قد تنوَّر منهمُ ... وأيقاظهم قالت أشِرْ كيف تأمُر
فقلتُ أباديهم فإمَا أفوتُهم ... وإما يَنالُ السيفُ ثأراً فيثأر
فقالت أتحقيقاً لما قال كاشح ... علينا وتصديقاً لما كان يُؤثر
فإنْ كان ما لا بدَ منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأسْتر
أقص على أخْتَيّ بدْء حَديثنا ... وماليَ من أنْ يَعلما مُتأخّر
لعلهما أن يَبْغِيا لك مَخْرجاً ... وأن يَرحُبا صدراً بما كُنتُ أحْصر
فقالت لأختيها أعِينا على فَتىً ... أتىَ زائراً والأمرُ للأمْرِ يُقْدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا ... أقلي عليكِ اللومَ فالخَطْب أيْسر
يقوم فَيَمشي بيننا مُتنكِّراً ... فلا سِرنا يَفْشو ولا هو يُبصرَ
فكان مِجَنّي دون من كنتُ أتّقي ... ثلاثُ شخوص كاعبان ومُعْصر
فلمَّا أجزنا ساحةَ الحيِّ قُلْن لي ... ألم تَتَّقِ الأعداءَ والليلُ مُقْمِر
وقُلن أهذا دأبُك الدهرَ سادراً ... أما تَستحي أم تَرْعوي أم تُفكِّر
ويُروى أن يزيدَ بن معاوية لما أراد تَوجيه مُسلم بن عُقبة إلى المدينة اعترض الناسَ، فمرّ به رجل من أهل الشام معه تُرس قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشام، مجنّ ابن أبي ربيعة كان أحسَنَ من مِجَنك هذا - يريد قولَ عمر ابن أبي ربيعة:
فكان مجنّي دون من كنتُ أتّقي ... ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصر
وقال أعرابيُّ في النحول "
ولو أنّ ما أبقيتِ مني مُعلَّقٌ ... بعود ثُمام ما تأوّد عودُها
وقال آخر:
إن تسألوني عن تباريح الهَوى ... فأنا الهَوى وأبو الهَوى وأخُوه
فانظُر إلى رجل أضرّ به الأسىَ ... لولا تقلّب طَرفه دَفَنوه
وقال مجنون بني عامي في النُّحول:
ألا إنما غادرتِ يا أم مالِكٍ ... صَدى أينما تذهب به الريحُ يَذْهبِ
وللحسن بن هانئ:
كما لا يَنقضي الأرَبُ ... كذا لا يَفْتر الطلَبُ
ولم يُبْق الهوى إلاّ ... أقلّي وهو مُحْتَسب
وِسوَى أنَّي إلى الحَيوا ... ن بالحركات أنتسب
وقال آخر، وهو خالدٌ الكاتب:
هذا مُحبّك نِضْو لا حراكَ به ... لم يَبْقَ من جِسْمه إلا توهّمه
ومن قولنا في هذا المعنى:
سبيلُ الحُبِّ أوَّله اغترار ... وآخِره هُمومٌ وادّكارُ
وتَلْقى العاشِقين لهم جسوم ... بَراها الشوق لو نُفِخوا لطارُوا
ومثلُه من قولنا:

لم يبقَ من جُثمانه ... إلا حُشاشةُ مُبْتئِسْ
قد رَقّ حتى ما يُرى ... بلِ ذاب حتى ما يُحسّ
وقال الحسنُ بن هانئ في هذا المعنى فأَرْبى على الأولين والآخرين:
يا من تَموَت عَمْداً ... فكان للعين أَمْلَى
وفي الشعوثة أرْبى ... فكان أشْهَى وأحلى
أردت أن تَزديك الْ ... عيُونُ هَيهاتَ كَلا
يا عاقد القَلْب منّيِ ... هلا تذكّرتَ حَلا
تركتَ منّي قليلاً ... مِن القليل أقلا
يَكاد لا يَتجزّا ... أقلّ في اللَّفْظ مِن لا
ولأبي العتاهية:
تلاعبتِ بي يا عُتْبَ ثم حَمَلْتِني ... على مَرْكَب بي المَنيّة والسُّقْم
ألا في سبيل الله جِسْمي وقوتي ... ألا مُسْعد حتى أنوح على جِسمي
وله:
ولم تبقِ منّي إلا القليلَ وما ... أحسبها تترك الذي بَقِيا

قولهم في التوديع
قال لسَعيد بن حُميد الكاتب، وكان على الخراج بالرقّة: ودّعت جاريةً لي تُسمّى شفيع، وأنا أضحك وهي تبكي، وأقول لها: إنما هي أيام قلائل. قال: إن كنت تقدر أن تُخلف مثل شفيع فنَعَمْ. فلما طال بي السفَرُ واتصلت بي الأيام كتبتُ إليها كتاباً وفي أسفله:
ودعتها والدمعُ يقطُر بَيننا ... وكذاك كُل مُلذَّع بفِراقِ
شُغلتْ بتَغييض الدّموع شِمالُها ... ويَمينها مشغولة بعناقِي
قال: فكتبتْ إليّ في طومار كبير ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم وفي آخره: يا كذاب - وسائر الكتاب أبيض. قال: فوجّهتُ الكتب إلى ذي الرياستين الفضل بن سَهل، وكتبْت إليها كتاباً على نحو ما كتبتْ، ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وفي آخره أقول:
فودعتها يوم التّفرق ضاحكاً ... إليها ولم أعلم بأنْ لا تلاقيَا
فلو كنتُ أدري أنه آخر اللقا ... بكيتُ وأبكيتُ الحبيبَ المُصافيا
قال: فكتبتْ إليّ كتاباً آخر ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم في أوله، وفي آخره: أعيذك بالله أن يكون ذلك. فوجهته إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل، فأشخصني إلى بغداد وصيّرني إلى ديوان الضياع.
محمد بن يزيد الرَّبعيّ عن الزّبير عن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير المتوكل قال: إنه لما نفاه المتوكل إلى جزيرة أقريطش، فطال مُقامه بها، تمتّع بجارية رائعة الجمال، بارعة الكمال، فأَنسته ما كان فيه من رَونق الخلافة وتَدبيرها. وكان قبل ذلك مُتيَّماً بجارية خلّفها بالعراق، فسلا عنها. فبينما هو مع الأقريطشيّة في سرور وحُبور يَحلف لها أنه لا يُفارق البلدَ ما عاش، إذ قَدِم عليه كتابُ جاريته من العِراق، وفيه مكتوب:
كيف بَعدي لا ذُقْتمُ النومَ أنتمْ ... خَبِّروني مذ بِنْتُ عنكم وبِنْتُم
بمراض الجُفون من خُردِ الع ... ين ووَرْدِ الخُدود بعدي فُتِنتم
يَا أخلايِ إنّ قلبي وإن با ... ن من الشَّوق عندكم حيثُ كُنتم
فإذا ما أبَى الإله اجتماعاً ... فالمَنايا عليّ وَحْدي وعِشْتم
أخذَتْ هذا المعنى من قول حاتم:
إذا ما أتى يومٌ يُفرَق بيننا ... بمَوت فكُن أنتَ الذي تتأخَّرُ
فلم يباشر لذةً بعد كتابها، حتى رضي عنه المُتوكل وصَرفه إلى أحسن حالاته. الزُّبيريّ قال: حدّثني ابنُ رجاء الكاتب قالت: أخذ مني الخليفة المُعتز جاريةً كنتُ أحبها وتُحبّني، فشربا معاً في بعض اللَيالي، فسكر قبلَها وبقيتْ وحدها ولم تَبرح من المجلس هيبةً له، فذكرتْ ما كنّا فيه من أيامنا، فأخذت العُود فغنّت عليها صوتاً حزيناً من قلب قريح، وهي تقول:
لا كان يومُ الفِراق يوماً ... لم يُبقِ للمُقْلَتَيْن نَوْمَا
شَتّتَ مني ومنك شَملاً ... فسَر قوماً وساء قَوما
يا قوم مَن لي بوَجْد قَلب ... يسُومني في العذاب سَوْما
ما لامني الناسُ فيه إلا بكيتُ ... كيما أزاد لَوْما

فلما فرغت من صوتها، رفع المُعتز رأسه إليها والدمعُ يجري على خدّيها كالفَريد انقطع سِلكَه، فسألها عن الخبر وحَلف لها أن يُبلغها أملَها. فأعلمتهُ القصة. فردّها إليّ وأحسن إليها وألحقني في نُدمائه وخاصته.
وكان لأبي أحمد، صاحب حَرب المعتمد، جارية، فكتبتْ إليه وهو مُقيم على العلويّ بالبصرة، تقول:
لنا عبراتٌ بعدكم تَبعث الأسى ... وأنفاسُ حُزن جَمَّة وزَفِيرُ
ألا ليتَ شِعْري بعدنا هل بَكيتُمُ ... فأمّا بُكائي بعدكم فكَثير
قال أبو أحمد: فلم يكُن لي هَمّ غيرها حتى قفلتُ من غَزاتي.
وكتب مروان بن محمد، وهو مُنهزم نحو مصر، إلى جارية له خلّفها بالرَّمْلة:
وما زال يَدعوِني إلى الصد ما أرى ... فأنأى وَيَثْنيني الذي لكِ في صَدْري
وكان عزيزاً أنّ بيني وبينها ... حِجاباً فقد أمسيتُ منك على عَشر
وأنكاهما والله للقَلب فاعلَمي ... إذا ازددتُ مثلَيْها فصرتُ على شَهْر
وأعظم من هذينِ والله أنني ... أخافُ بألا نَلْتقي آخرَ الدهر
سأبكيك لا مُسْتَبْقياً فيْضَ عَبْرةٍ ... ولا طالِباً بالصَّبر عاقبةَ الصبر
الزبير بن بكار قال: رأيتُ رجلاً بالثّغر وعليه ذلّة واستكانة وخضوع، وكان يُكثر التنفّس، ويُخفي الشَّكوى، وحركاتُ الحُب لا تَخفى، فسألتُه وقد خلوتُ به، فقال وقد تحدّر دمعُه:
أنا في أمْرَيْ رَشادِ ... بين غَزْو وجِهادِ
بَدني يَغزو الأعادي ... والهَوى يَغزُو فؤادي
يا عليماً بالعِبادِ ... رُدّ إلْفي ورُقادِي
وقال أعرابي يصف البَينْ:
أدْمت أناملَها عضّا على البَينْ ... لما انثنت فرأتْني مَعَ العين
وردَّعتنيَ إيماء وما نَطقتَ ... إلا بسُبابة منها وعيَنين
وَجْدِي كوَجدك بل أضعافُه فإذا ... عني تواريتِ قابَ الرّمح واحيَني
وان سمعتِ بموتي فاطلُبي بدَمي ... هواكِ والبَيْن واستعدي على البَين
وقال الآخر،
مالتْ تودّعني والدمعُ يَغْلِبها ... كما يَميل نسيم الرِّيح بالغُصْنِ
ثم استمرّت وقالتْ وهي باكية ... يا ليتَ مَعْرفتي إياكَ لم تَكُن
وقال آخر:
أنينُ فاقِد إلْفٍ أنَّ في الغَلَس ... حتى تَضايَقَ منه مخرجُ النفس
فكُلما أنَّ مِن شَوْق أجالَ يداً ... على فُؤاد له بالبَينْ مخْتلَسِ
وقال آخر:
أمبتكر للبينْ أم أنتَ رائحُ ... وقلبُك مَلْهوفٌ ودمعُك سافحُ
أالآنَ تبكي والنَّوى مُطمئنة ... فكيف إذا بارحتَ مَنْ لا تُبارح
فإنّك لم تَبْرح ولا شطت النَّوى ... ولكنّ صَبْري عن فؤادِيَ نازح
وقال آخر:
إذا انفتحتْ قُيود البَينْ عَنّيِ ... وقِيل أتِيح للنّائي سراحُ
أبتْ حَلقَاتُه إلا انقفالاً ... ويأبَى الله والقدَر المُتَاح
ومن لي بالبَقَاء وكُلّ يومٍ ... لِسَهْم البَينْ في كَبِدي جِرَاح
وقالَ محمد بن أبي أُمية الكاتب:
يا غريباً يَبكي لكل غَريبِ ... لم يَذُق قَبْلها فِراقَ حَبِيبِ
عَزّه البينُ فاستراح إلى الدّم ... ع وفي الدّمع راحةٌ للقلوب
خَتلتْه حوادثُ الدَّهر حتَى ... أقصدتْه منها بسَهْم مُصيب
أيّ يوم أراك فيه كما كُن ... ت قريباً فأشْتكي مِن قَرِيب
وقال أبو الطيامير:
أقول له يومَ ودَّعتُه ... وكُل بعَبْرته مُبْلِسُ
لئن رجعتْ عنك أجسامُنا ... لقد سافرتْ معك الأنْفُس
وقال أبو العتاهية:
أبِيت مُسَهداً قلِقاً وِسَادِي ... أروِّح بالدُموع عن الفُؤادِ
فِراقُك كان آخرَ عَهْدِ نَوْمي ... وأوَّل عَهْد عَيْني بالسُّهاد
فلم أرَ مثلَ ما سُلِيَتْه نَفسي ... وما رجعتْ به من سُوء زادي
وقال محمد بن يزيد التُسْتريّ:

رَفعت جانباً إليكَ من الكِل ... لة قد قابلتْه طَرْفاً كَحِيلاَ
نظرتْ نَظرَةَ الصًبابة لا تم ... لك للبَيْن دَمْعها أن يَجُولا
ثم ولَّت وقد تَغيّر ذاك الصّب ... ح من خَدّها فعاد أصيلا
وقال يزيدُ بن عثمان:
دمعَة كاللُّؤلؤ الرّط ... ب على الخدّ الأسيل
وجُفون تنفث السح ... رمن الطَّرف الكَحِيل
إنَّما يفتضح العا ... شِقُ في يوم الرَّحيل
وقال عليُّ بن الجَهْم:
يا وحشتا للغريب في البَلد الن ... نازح ماذا بنَفْسه صَنَعا
فارقَ أحبابَه فما انتفعُوا ... بالعَيْش من بعده وما انتفَعا
يقولُ في نأيه وغُربته ... عَدْل مِن الله كلُّ ما صَنَعا
وقال آخر:
بانُو فأضْحى الجِسمُ من بعدهم ... ما تُبصر العينُ له فَيَّا
يا أسفي منهم ومن قولهم ... ما ضَرك الفقدُ لنا شَيّا
بأيّ وَجْه أتلقّاهم ... إن وجَدوني بعدهم حَيَّا
وقال آخر:
أترحل عن حَبيبك ثم تَبْكي ... عليه فمَنْ دَعاك إلى الفِرَاقِ
وقال هُدْبة العذريّ:
ألا ليتَ الرِّياحَ مُسخَّرات ... بحاجتنا تُباكرُ أو تَؤُوبُ
فتُخْبِرَنا الشًمالُ إذا أتَتْنا ... وتُخبرَ أهلَنا عنّا الجَنُوب
عسىَ الكَرْبُ الذي أَمْسيتُ فيه ... يكون وراءه فَرَج قَرِيب
فيأمَن خائف ويُفَكّ غانٍ ... ويأتِي أهلَه النائي الغَريب
وقال آخر:
لا باركَ الله في الفِراق ولا ... بارَك في الهَجْر ما أمرَّهُمَا
لو ذُبِح الهَجْر والفِراق كماِ ... يُذْبح ظَبْي لمَا رَحِمْتُهما
شربت كأس الفراق مُترَعةً ... فَطار عن مُقلتيّ نومُهُما
يا سيّدي والذي أؤمّله ... ناشدتُك الله أن تَذُوقهما
وقال حبيب الطائي:
الموتُ عِنْدي والفِرا ... قُ كلاهما ما لا يُطَاقُ
يَتعاونان على النُّفو ... س فَذا الحِمام وذا السِّياق
لو لم يكُن هذا كذا ... ما قِيل موت أو فِراق
وقال آخر:
شتّان ما قُبْلةُ التَلاقِ ... وقُبلة ساعةَ الفِرَاقِ
هذي حياة وتلك موت ... بينهما راحةُ العِنَاقِ
وقال سعيد بن حُميد:
موقفُ البَن مأتَمُ العاشِقينا ... لا تَرى العينُ فيه إلا حَزِينَا
إنّ في البين فَرحتين فأمّا ... فَرْحتي بالوَداع للظَّاعنينا
فاعتناق لمن أحبّ وتَقْبي ... ل وَلمْس بمحْضرَ الكاشِحينا
ثم لي فَرْحة إذا قَدِم الن ... ناس لتَسْليمهم على القادِمينا
وقال أعرابي:
ليلُ الشَّجِيِّ على الخَليّ قصيرُ ... وبَلا المُحِبّ على الحبيب يَسِيرُ
بانَ الذين أحبُّهم فتَحمَّلوا ... وفراقُ مَن تَهْوى عليك عَسِير
فلأبعثنْ نياحةً لفراقهم ... فيها تُلَطَّم أوجه وصُدور
ولألبسنّ مَدارعاً مُسْودَة ... لُبْس الثَّواكل إذ دهاك مَسِير
ولأذكرنّك بعد موتي خالياً ... في القَبْر عندي مُنْكَرٌ ونَكير
ولأطلبنّك في القِيامة جاهداً ... بين الخَلائق والعِبادُ نشور
فبِجَنّةٍ إن صرتَ صرتُ بجَنّة ... ولئن حواك سعيرُها فَسعِير
والمُستهامُ بكُل ذاك جديد ... والذَّنب يُغفر والإله شَكُور
ومن قولنا في البَينْ:
هَيّج البينُ دَواعِي سَقَمِيِ ... وكَسَا جسميَ ثَوْبَ الألَم
أيّها البَين أقلني مَرّةَ ... فإذا عُدْت فقد حَلَّ دَمِي
يا خَليّ الذرع نَمْ في غِبْطة ... إنّ مَن فارقتَه لم يَنَم
ولقد هاجَ لِقَلْبي سَقَماً ... ذِكْرُ مَن لو شاء داوَى سَقَمِي
ومن قولنا في المعنى:

ودّعْتني بزَفْرة واعتناقِ ... ثم نادتْ متى يكون التَّلاقِ
وتَصدَّت فأَشرقَ الصّبحُ منها ... بين تلك الجُيوب والأطْواق
يا سقيمَ الجُفون من غير سُقم ... بين عَينيك مَصْرعُ العُشّاق
إنّ يومَ الفِراق أفظع يوم ... ليتَني مِتّ قبل يوم الفِراق
ومن قولنا فيه:
فررت من اللِّقاء إلى الفِراق ... فحَسْبي ما لَقِيتُ وما ألاقِي
سَقاني البَيْنُ كأسَ الموت صِرْفاً ... وما ظَني أموتُ بكَفِّ ساقي
فيا بردَ اللِّقاء على فُؤادي ... أجِرْني اليومَ من حَرِّ الفِراق
وقال مجنون بني عامر:
وإني لمُفْنِ دمعِ عيني من البُكا ... حِذاراً لأمرٍ لم يكن وهو كائِن
وقالوَا غداً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراقُ حبيب لم يَبِنْ وهو بائن
وما كنتُ أخشى أن تكون مَنيّتي ... بكَفِّيَ إلاّ أنّ ما حان حائِن
وقال أبوِ هشام الباهليّ:
خَليلي غداً لا شكّ فيه مودّعِ ... فوالله ما أدرى غداً كيفَ أصْنَعُ
فواحزَني إنْ لم أودّعه غُدوة ... ويا أسفَاً إن كنتُ فيمن يُوَدَع
فإن لم أودِّعه غداً مِتُّ بعده ... سريعاً وإنْ ودّعتُ فالمَوْتُ أسرَع
أنا اليومَ أبكيه فكيف به غداً ... أنا في غدٍ والله أبكَى وأجزَع
لقد سخُنت عينيِ وجلَّت مُصيبتي ... غداةَ غدٍ إن كان ما أتوقّع
فيا يوم لا أدبرت هل لك مَحْبِسويا غدُ لا أقبلتَ هل لك مَدْفع
وقال بشّار بن بُرد:
نَبَت عيني عن التَغميض حتى ... كأنّ جفونَها عنها قِصارُ
أقول وليلتي تَزداد طُولاً ... أمَا للَيل بعدكم نَهار
وقال المُعتصم، لما دخل مصر وذكر جاريةً له:
غريب في قُرى مِصر ... يُقاسي الهم والسقما
لَلَيلٌ كان بالمَيْدَا ... نِ أقصرُ منه بالفَرَما
وقال آخر:
وَداعكِ مِثلُ وداع الرَّبيعِ ... وفقدُك مثلُ افتقاد الدِّيَمْ
عليك سلام فكَم من ندىَ ... ففدناه منك وكَم مِن كَرم

قولهم في الحمام
قال أبو الحسن الأخفش: قالت جَحْدر العُكْليّ، وكان لصًا:
وقِدْماً هاجَني فازددتُ شوقاً ... بكاءُ حمامتَيْن تجاوبانِ
تجاوبتَا بلَحَن أعجميٍّ ... على عُودين من غَرَب وبانِ
فكان البانُ أن بانت سُليمى ... وفي الغَرَب اغترابٌ غيرُ دانِي
وقال آخر:
وتفَرَّقوا بعد الجميع لأنه ... لا بُدّ أن يتفرّق الجيرانُ
لا تَصبِر الإبلُ الجلادُ تفرّقت ... بعد الجَميع ويَصبر الإنسَانُ
وقال آخر:
فهل ريبة في أن تَحِنّ نَجِيبة ... إلى إلْفها أو أنْ يَحن نَجِيبُ
وإذا رجّعت الإبلُ الحَنِينَ كان ذلك أحسَنَ صوت يَهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لصوت الحَمام. وقال عَوف بن مُحلم:
ألا يا حمامَ الأيك إلفك حاضر ... وغَصْنك مَيّاد ففِيم تنُوح
وكل مُطوَّقة عند العرب حمامة، كالدُّبسي والقُمري والوَرشان، وما أشبه ذلك، وجمعها حَمام، ويقال حمامة، للذكر والأثنى، كما يقال بطة، للذكر والأنثى. ولا يقال حَمام إلا في الجمع. والحمامة تبكي وتغني وتنوح وتُغرّد وتسجع وتُقرقر وتَترنّم، وإنما لها أصوات سَجع لا تُفهم فيجعله الحزين بكاء ويجعله المسرور غناء. وقال حُميد بن ثَور:
وما هاج هذا الشوقَ إلا حمامة ... دعت ساقَ حُرٍّ تَرْحةً وترنُّماً
مُطوقة خَطْباء تَسْجِع كُلّما ... دَنا الصَّيْفُ وانزِاحَ الربيعُ فأنْجمَا
تَغنَّت على غُصن عشاءً فلم تَدع ... لنائحةٍ في نوْحها مُتلوّما
فلم أرَ مِثْلي شاقَه صوتُ مِثْلها ... ولا عَربيا شاقَه صوتُ أعْجما
وقال مَجنون بني عامر في الحمام:
ألا يا حماماتِ اللَوى عُدْن عودةً ... فإنِّي إلى أصواتكنّ حَزينُ

فعُدْن فلما عدْن كِدْن يُمتْننيِ ... وكِدْتُ بأشجاني لهنّ أبِين
لم تَرَ عيْني مثلَهن بوَاكياً ... بكَينْ فَلَم تَذْرِف لهن عُيون
وقال حَبيب في هذا المعنى:
هُنّ الحمامُ فإن كَسَرْتَ عِيافةً ... من حائهنّ فإنهن حِمامُ
وقال:
كما كاد يُنْسى عهد ظَمياء باللِّوى ... ولكنْ أَمَلَّتهُ عليّ الحَمائمُ
بَعثن الهَوى في قَلب مَن ليس هائماً ... فقل في فُؤادٍ رُعْنَه وهو هائِم
لها نَغَم ليست دُموعاً فإنْ علَتْ ... مَضَتْ حيث لا تَمضي الدموعُ السَّواحم
ومن قولنا في الحمام:
فكيف ولي قَلْب إذا هَبّت الصبا ... أهاب بشَوق في الضُّلوع مَكِين
ويهتاج منه كُلما كان ساكناً ... دُعاءُ حمامٍ لم تَبِت بوُكوَن
وكان ارتياحي من بُكاء حمامةٍ ... كذي شَجَن داويتَه بشجون
كأنّ حمامَ الأيك لمّا تجاوبتْ ... حزين بكَى من رَحمة لحزين
ومن قولنا في المعنى:
ونائحٍ في غُصون الأيك أرَّقني ... وما عنيت بشيء ظَلّ يَعْنِيه
مُطوَّقٍ بخِضابِ ما يُزايله ... حتى تُفارقَه إحدى تَراقِيه
قد بات يبكي بشجْوٍ ما دَريت به ... وبِت أبكي بشَجو ليس يَدريه
ومن قولنا فيه:
أناحتَ حماماتُ اللِّوىِ أم تغَنَّتِ ... فأبدتْ دواعِي قَلْبه ما أجنَّتِ
فديتُ التي كانت ولا شيءَ غيرُها ... مُنَى النَّفس لو يُقْضىَ لها ما تَمنّت
ومن قولنا:
لقد سجعت في جُنْح ليل حمامة ... فأيَّ أسىً هاجتْ على الهائم الصبِّ
لكِ الويلُ كم هَيَّجت شجواً بلاَ جَوًى ... وشَكْوى بلا شَكوى وكَرْباً بلا كَرْب
وأسكبتِ دمعاً من جُفونِ مُسَهِّدٍ ... وما رَقرقت منك المدامع بالسَّكب
وقال ذو الرُمة:
رأيتُ غُراباً ناعباً فوق بانة ... من القضب لم يَنْبت لها ورقٌ نَضْرُ
فقلت غرابِّ لاغتراب وبانةٌ ... لبَينْ النَّوى هذي العِيافة والزَّجر

قولهم في طيب الحديث
قال عديّ بن زَيد العِباديّ:
في سَماعٍ يأذَن الشيخُ له ... وحَديثٍ مثل ماذيّ مشَارْ
وقال القُطامي:
فهنّ يَنْبِذْن من قَولٍ يُصِبْن به ... مواقعَ الماء من ذي الغُلَّة الصادِي
وقال جِران العَود:
فَنِلْنا سِقاطاً من حديث كأنّه ... جَنَى النّحل أو أبكار كَرَمْ تقطف
وقال آخر:
وإنا ليَجري بيننا حين نَلْتقي ... حديث له وشيٌ كَوشي المَطارِف
وقال بشّار:
وكأنّ نَشر حديثها ... قِطَع الرِّياض كُسين زَهْرا
وله:
لئن عشقت أُذني كلاماً سمعتُه ... رخيماً فقلبي إذاً لا شكّ باللحظِ أعشق
وكيف تناسى مَنِ كأنّ كلامَه ... بأُذني ولو عرِّيتُ قُرْط مُعلق
وقال بَشّار أيضاً:
وبكر كَنُوَّارِ الرَّبيع حديثُها ... يَرُوق بوجهٍ واضحٍ وقوَام
وقال آخر:
كأنّما عَسَل رُجعَانُ منطقها ... إن كان رَجْع كلام يُشْبه العَسَلاَ
وقال آخر:
وحديثٍ كأنّه زهرَ الرّو ... ض وفيه الصَّفراءُ والحَمْراءُ
قولهم في الرياض
أنشد أحمدُ بن جِدار للمُعلَّى الطائيّ:
كأنّ عُيونَ الروض يَذْرِفن بالنَّدَى ... عُيون يُراسلنَ الدّموعَ على عَذْل
وقال البُحتريّ:
شَقائق يَحْملن النِّدى فكِأنه ... دُموعُ التَّصابِي في خُدود الخَرائِدِ
ومِن لُؤلؤ كالأقْحوان مُنضَدٍ ... على نُكَت مُصْفَرَّة كالفرائد
وقال أيضاً:
وقد نَبّه النيروزُ في غَلَس الدُّجَى ... أوائلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمس نُوَّمَا
يُفَتِّقها بَرْدُ الندى فكأنه ... يَنُثّ حديثاً كان قبلُ مكَتَّما

ومن شَجرٍ ردَ الربيعُ لِباسَه ... عليه كما نَشَّرْتَ وَشْياً منَمْنما
وقال أعشى بَكْر:
ما روضةٌ من رِياض الحَزْن مُعشِبة ... خَضْراءُ جاد عليها مُسْبِل هَطِلُ
يضاحك الشمسَ منها كوكب شَرق ... مؤزَّر بعمِيم النَّبتِ مُكتهل
يوماً بأطيبَ منها نَشر رائحةٍ ... ولا بأحسنَ منها إذ دَنَا الأصل
وأنشد ابنُ أبي طاهر لنفسه:
فتقت جُيوبَ الرَّوض منها ديمة ... حَلَّت عَزاليها صباً وقَبول
ولها عُيون كالعُيون نَواظر ... تَبْدُو فمنها أَمْرَه وكَحِيل
وقال الأخطل الصغير:
خَلَع الرَّبيعُ على الثَّرى من وَشْيه ... حُلَلاً يَظَلّ بها الثرى يَتَخيَّلُ
نَوْرٌ إذا مَرَت الصبا فيه الندى ... خِلْتَ الزَّبَرجد بالفَريد يُفصَل
فكأنها طَوْراً عُيون كُحَّل ... وكأنها طَوْراً عُيون هُملُ
وقال أبو نُواس:
يَوم تَقاصر واستتبِّ نَعِيمُه ... فِي ظِلّ مُلتفّ الحَدائق أخْضَرا
وإذا الرِّياح تَنسّمت في رَوضة ... نثرت به مِسْكاً عليه وعَنْبرا
وأنشد ابنُ مُسهر لابن أبي زُرعة الدِّمشقيّ يقول:
وقد لَبِستْ زُهْرُ الرِّياض حُليها ... وتجللت الأرضَ الفَضَاء الزخارفُ
لجين وعِقْبان ودُرّ وجَوْهر ... تُؤلّفه أيدي الرَّبيع اللَطائفُ
وأنشد البُحتريُّ لنفسه:
قَطَراتٌ من السَّحاب ورَوْض ... نَثَرت وردها عليها الخُدودُ
فكأنّ الحَوْذان والأقحوان ال ... غَضّ نَظْمان لُؤْلؤ وفَريد
وأنشد ابن جدار للمُعلَّى:
ترى للنَّدى فيه مجالاً كأنِّما ... نَثَرتَ عليه لؤلؤ فَتبدَّدا
وأنشد ابنُ الحارثيّ لنفسه:
وما رَوضة عُلْويةٌ أسديّة ... مُنَمنة زَهْراء ذاتُ ثَرىً جَعْدِ
سَقاها النَّدى في عقْب جنح من الدُّجىِ ... فنُوَّارها يهتزّ بالكَوكب السَّعد
بأحسنَ من حُرٍّ تَضمّن حاجةَ ... لحُرّ فأَوْفَى بالنّجاح مع الوَعْد
وأنشد محمد بن عَمَّار للحَسن بن وَهْب، يقول:
طلعتْ أوائلُ للرَّبيع فبشّرتْ ... نَوْرَ الرِّياض بجدَة وشَبابِ
وغدا السحابُ مكلِّلاً جَوَّ الثّرى ... أَذيالَ أَسْحم حالكِ الجلْباب
فترى السماء إذا أجَدّ رَبابُها ... فكأنما التحفَتْ جَناحَ غُراب
وترى الغُصون إذا الرِّياح تناوحتْ ... ملتفةً كتعانُق الأحباب
وقال حَبيب بن أوس الطائيّ:
الروض ما بين مَغْبوق ومُصْطبح ... من رِيق مكْتَفلات بالثّرى دُلُح
وُطْف إذا وكَفت في رَوْضة طَفِقَت ... عيونُ نوارها تَبكي من الفَرح
وأنشد البُحتري في دمشق:
إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ ... مُستحسن وزَمانٍ يُشبه البَلَدا
يمسي السحابُ على أجبالها فِرقاً ... ويُصبح النَبتُ في صحرائها بَدَدا
فلستَ تُبصر إلا واكفاً خَضِلاً ... أو يانعاً خَضِراً أو طائراً غِردا
كأنما القَيظَ ولّى بعدَ جَيئته ... أو الربيعُ دنا من بعد ما بَعُدا
أنشد ابن أبي طاهر لأشْجع:
بين الكنائس والأرواح مُطَردٌ ... للعين يَلْعب فيه الطّرفُ والبَصِرُ
في رُقعة من رقاع الأرض يَعْمرها ... قومٌ على أبوَيهم أجمعت مضر
وأنشد عليّ بن الحمم لعليّ بن الخليل:
ورَوضة في ظلال دَسْكرةٍ ... جداولُ الماء في جوانبها
تَسْتَنّ في رَوْضة مُنوَّرة ... يُغرِّد الطير في مَشاربها
كأنّ فيها الحُليّ والحُلل ال ... يَمْنة تُهدى إلى مَرازبها
وقال إبراهيم بن العبّاس الكاتب:
تأمّل سماء أطلتْ علي ... ك فيها مصابحهُا تزهر
وأرضاً تُقابلها كالعَرو ... س والموْجُ بينهما جَعْفر

ومَسْحب نَوْر الرَّبي ... ع أنفاسهُ المِسكُ والعَنبر
خِلالَ شقائِقه أصْفر ... وأضعافَ أصْفره أحمر
والماء مُطّرد بينه ... يُصفق باديه والمصدر
يُشارفه البرّ من جانب ... ومن جانب بحرُه الأخضر
مَجالُ وحُوش ومَرفا سَفين ... فيا عُرف لَهْوٍ ويا مَنظر
ويا حُسن دُنيَا ويا عِزّ مُل ... ك يسوسهما السائسُ الأكبر
وِقال ابن أبي عُيينة في بُستانه:
يُذكرني الفِرْدوس طوراً فأنثني ... وطَوراً يُواتيني إلى القَصْف والفَتْك
بغَرْس كأبكار العَذارَى وتُربة ... كأنَّ ثراها ماء وَرْد على مِسْك
كأنّ قصورَ الأرض ينظُرن حولَه ... إلى مَلِك أوفَى على مِنْبر المُلك
يُدِلّ عليها مُستطيلاً بحُسنه ... ويَضحك منها وهي مُطرقة تَبْكي
وقال فيه أيضاً:
يا جَنّة فاقت الجنان فما ... تبلغها قيمة ولا ثَمَنُ
ألفتها فاتخذَتُها وطناً ... لأنّ قلبي لأهلها وَطَنُ
زوّج حِيتانها الضباب بها ... هذا لذا كَنَّة وذا خَتَن
فانظر وفكِّر فيما تَمُر به ... إن الأريبَ المُفكّرُ الفَطن
من سُفنِ كالنَعام مقْبلةٍ ... ومِن نَعام كأنها سُفن
وقال الخليلَ بن أحمد:
يا صاحبَ القَصر نِعْم القَصْرُ والوادِي ... بمَنْزلٍ حاضر إن شئتَ أو بادِي
تَرْقى به السُفن والظّلمان واقفةٌ ... والنّون والضّبّ والمَلاح والحادِي
وقال إسماعيل بن إبراهيم الحَمْدُوني:
برَوْضة صنعت أيدي الربيع لها ... بُرُودَها وكَسَتْها وَشْيها عَدَنُ
عاجَت عليها مَطايا الغيث مسبلةَ ... لهنّ في ضَحِكاتٍ أدمُعٌ هُتُن
كأنما البَيْن يُبْكيها ويُضحكها ... وَصْلٌ حَباها به من بعده سَكَن
فولّدت صُفراً أثوابها خُضرا ... أحشاؤهُن لأحشاء الندى وَطن
من كل عَسجدةٍ في خِدْرها اكْتتمتْ ... عَذْراءُ في بَطنها الياقوتُ مُكْتَمِن
وأنشد عمرو بن بحر الجاحظ:
أين إخوانُنا على السرّاء ... أين أهلُ القِباب والدَهناءِ
جاورونا والأرض مُلْبَسة نَو ... رَ الأقاحِي تُجاد بالأنواء
كُلَّ يوم بأقحوان جَديد ... تَضْحك الأرض من بُكاء السماء
ومن قولنا في هذا المعنى:
وَروضةٍ عقدتْ أيدي الرَّبيع بها ... نَورا بنَوْر وتَزْويجاً بتَزْويج
بمُلقِح مُن سَواريها ومُلقحة ... وناتج من غَواديها ومَنتوج
تَوشَحت بمُلاة غير مُلْحمة ... من نَورها ورداء غير مَنْسوج
فأَلبست حُلل المَوشي زَهرتَها ... وجَللتها بأَنماط الدَّيابيج
ومن قولنا:
ومَوْشيّةٍ يهدِي إليك نَسيمُها ... على مَفْرق الأرواح مِسكاً وَعنبراً
سَداوتُها من ناصع اللَّون أَبيض ... ولُحمتُها من ناقع اللَون أَصْفرا
تُلاحظ لَحظاً من عُيونٍ كأنَّها ... فصوص من الياقوت كُلَلن جوهرا
ومثلُه قولُنا:
وما رَوضة بالحَزن حاك لها النَّدى ... برُوداً من المَوشيّ حُمرَ الشَقائق
يُقيم الدُّجى أعناقَها وُيميلها ... شعاعُ الضَحى المُستَنّ في كُل شارق
إذا ضاحكْتها الشمسُ تَبكي بأعين ... مُكلَلة الأَجْفان صُفْر الحَمالق
حكَت أرضُها لونَ السماء وزانَها ... نُجومٌ كأمثال النُجوم الخَوافق
بأطيب نشراً من خَلائقه التي ... لها خضعت في الحُسن زُهرُ الخَلائق

كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر
فرش الكتاب
قال أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه:

قد مضى قولُنا في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في أعاريضه وعِلله، وما يَحسن ويقبح من زِحافه، وما ينفكّ من الدوائر الخَمس من الشطور التي قالت عليها العرب والتي لم تقُل، وَتلخيص جميع ذلك بمَنثور من الكلام يقرُب معناه من الفهم، ومنظوم من الشعر يسهل حفظُه على الرواة. فأكملتُ جميعَ هذه العُروضِ في هذا الكتاب الذي هو جزآن، فجزء للفرش، وجزء للمثال، مختصراً مبينّا مفسراً. فاختصرتُ للفرش أرجوزة، وجمعت فيها كل ما يدخل العروضَ ويجوز في حشو الشعر من الزحاف. وبيّنت الأسباب والأوتاد، والتعاقب والتراقب، والخروم، والزيادة على الأجزاء، وفك الدوائر في هذا الجزء. واختصرتُ المثالَ في الجزء الثاني في ثلاث وستين قطعة، على ثلاثة وستين ضرباً من ضروب العروض. وجعلت المقطعات رقيقة غَزِلة، ليسهل حفظها على ألسنة الرواة. وضمّنت في آخر كُل مقطَّعة منها بيتاً قديماً متصلاً بها وداخلاً في معناها، من الأبيات التي استشهد بها الخليل في عروضه، لتقوم به الحُجة لمن رَوى هذه المقطعات واحتج بها.

مختصر الفرش
اعلم أنّ أول ما ينبغي لصاحب العروض أن يبتدئ به، معرفة الساكن والمتحرك، فإن الكلام كُلَّه لا يعدو أن يكون ساكناً أو متحركاً. واعلم أن كل أَلِف خفيفة، أو ألف ولام خفيفتين، لا يظهران على اللسان ويثبتان في الكتابة فإنهما يسقطان في العروض وفي تقطيع الشعر، نحو ألف: قال ابنك أو ألف ولام نحو: قال الرجل. وإنما يُعَدّ في العروض ما ظهر على اللسان.
واعلم أنّ كل حرف مشدّد فإنه يعُد في العروض حرفين، أولهما ساكن والثاني متحرك، نحو ميم محمد ولام سلاّم.
واعلم أن التنوين كله يعُد في العروض نوناً ساكنة، ليست من أصل الكَلمة.
باب الأسباب والأوتاد
اعلم أنّ مدار الشعر وفواصل العروض على ثمانية أجزاء، وهي: فاعلن فعولن، مفاعيلن، فاعلاتن، مستفعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولات.
وإنما ألفت هذه الأجزاء من الأسباب والأوتاد.
فالسبب سببان: خفيف وثقيل. فالسبب الخفيف حرفان: متحرك وساكن، مثل: من وعن، وما أشبههما. والسبب الثقيل، حرفان متحركان، مثل: بك ولك، وما أشبههما. والوتد وتدان: مفروق ومجموع. فالوتد المجموع ثلاثة أحرف: متحركان وساكن؟ مثل: على وإلى وما أشبههما. والوتد المفروق ثلاثة أحرف: ساكن بين متحركين، مثل أين وكيف، وما أشبههما.
وإنما قيل للسبب سبب؟ لأنه يضطرب فيثبت مرة ويسقط أخرى، وإنما قيل للوتد وتد، لأنه يثبت فلا يزول.
باب الزحاف
اعلم أنّ الزحاف زحافان، فزحاف يُسقط ثاني السبب الخفيف، وزحاف يُسكن ثاني السبب الثقيل، وربما أسقطه. ولا يَدخل الزحافُ في شيء من الأوتاد وإنما يدخل في الأسباب خاصة. وإنما يدخل من الجزء في ثاني الجزء ورابعه وخامسه وسابعه. فإذا أردت أن تعرف موضع الزحاف من الجزء فانظُر إلى جزء من الأجزاء الثمانية التي سُميّت لك. فإن رأيت الوتد في أول الجزء، فإنما يزحف خامسه وسابعه. وإن كان الوتد في آخر الجزء، فإنما يُزحف ثانيه ورابعه. وإن كان الوتد في وسط الجزء، فإنما يزحف ثانيه وسابعه.
وللزحاف الذي يدخل في ثاني الجزء ثلاثةُ أسماء: الخَبن، والإضمار، والوقص. فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن. والمضمر: ما سكن ثانيه المتحرك. والموقوص: ما ذهب ثانيه المتحرك. وللزحاف الذي يدخل في رابع الجزء اسم واحد: المطويّ، وهو ما ذهب رابعه الساكن.
وللخامس منها ثلاثة أسماء: القَبض، والعَصْب، والعَقل: فالمقبوض: ما ذهب خامسه الساكن. والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرك. والمعقول: ما ذهب خامسه المتحرك.
وللسابع اسم واحد: المكفوف، وهو ما ذهب سابعه الساكن.
باب الزحاف المزدوج
المخبول: هو ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان. والمخزول: هو ما سكن ثانيه وذهب رابعه الساكن. والمنقوص: هو ما سكن خامسه وذهب سابعه الساكن. والمشكول: هو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان.
علل الأعاريض والضروب

المحذوف: هو ما ذهب من آخر الجزء بسبب خفيف. والمقطوف: هو ما ذهب من آخر الجزء سبب خفيف وسكن آخر ما بقي. والمقصور: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الجزء الذي في آخره سبب. والمقطوع: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الجزء الذي في آخره وتد. والأبتر: ما حُذف ثم قُطع، فكان فاعل من فاعلاتن وفع من فعولن. والأخذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع. والأصلم ما ذهب من آخر الجزء وتد مفروق. والموقوف: ما سكن سابعه المتحرك. والمكسوف: ما ذهب سابعه المتحرك. والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزء ومن آخر العجز جزء. والمشطور: ما ذهب منه أربعة أجزاء وبقي جزآن.
والزيادة على الأجزاء ثلاثة أشياء: المُذال: وهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن، مما يكون في آخره، وتد؟ والمُسبّغ: ما زاد على اعتداله حرف ساكن، مما يكون في آخره سبب؟ والمُرفَل: ما زاد على اعتداله حرفان: متحرك وساكن، مما يكون في آخره وتد: واعلم أن كل جزء من أجزاء العروض يكون مخالفاً لأجزاء حَشوه بزحاف أو سلامة، فهو المعتل. وما كان معتلاً فإنما هو أربعة أشياء: ابتداء، وفصل، وغاية، واعتماد. هذا قول الخليل. وأنا أقول: إن المعتل كله ثلاثة أشياء: ابتداء، وفصل، وغاية: وإن الاعتماد ليس علة، لأنه غير مخالف لأجزاء الحشو، إذ جاز فيه القبض والسلامة، ولذلك يجوز في أجزاء الحشو كلها، وإنما خالفها في الحسن والقبح، وليس اختلاف الحسن والقبح عِله. ونحن نجد الاعتماد الشعر كثيراً، من ذلك البيت الذي جاء به الخليل:
أقيموا بني النُّعمان عنا صُدورَكم ... وإلا تُقيموا صاغرين الرؤوسا
ومنه قولُ امرئ القيس:
أعنَي على بَرق أَراه وَميض ... يضئ حَبِيا في شَماريخَ بِيض
وتَخرج منه لامعات كأنها ... أكفّ تَلَقَّى الفوزَ عند المفِيض
وإنما زعم الخليلُ أن المُعتلّ ما كان مخالفاً لأجزاء حشوه بزحاف أو سلامة، ولم يُقل بحُسن أو قُبح. ألا ترى أن القَبض في مفاعيلن في الطويل حَسن، والكَفّ فيه قبيح. والقبض في مفاعيلن في الهزج قبيح، والكف فيه حسن. والاعتماد في المتقارب على ضد ما هو في الطويل السالم فيه حسن، والقبض فيه قبيح.
فإذا اعتلّ أولُ البيت سُمي ابتداء، وإذا اعتلّ وسطه، وهو العروض، سُمي فصلاً، وإذا اعتل الطرف، وهو في القافية، سمي غاية. وإذا لم يعتل أوله ولا وسطه ولا آخره سُمي حشواً كُله: وما كان من الأنصاف مستوفياً لدائرته، وآخرُ جزء منه بمنزلة الحَشو من الآخر، فهو التام. وما كان من الأنصاف لم يذهب به الانتقاص بجزء من الأجزاء أجِمع، فهو وافٍ، وإذا ذهب به الانتقاص، فهو مجزوء. وما كان من الأنصاف مُقفى، فهو مُصرَّع: فإن كانت الكلمة كلها كذلك، فهو مشطور. فإذا لم يبق منه إلا جزآن فهو المَنهوك. وإذا اختلفت القوافي واختلطت وكانت حيزاً حيزا من كلمة واحدة هو المُخمَس. وإذ كانت أنصاف على قواف تجمعها قافية واحدة، ثم تعاد لمثل ذلك حتى تنقضي القصيدة، فهو المُسمَّط.

باب الخرم
اعلم أن الخَرم لا يدخل إلا في كل جزء أوله وَتد. وذلك ثلاثة أجزاء: فعولن، مفاعلتن، مفاعيلن. وهو سقوط حركة من أول الجزء. وإنما منعه أن يدخل في السَّبب، لأنك لو أسقطت من السبب حركة بقي ساكن. ولا يُبدأ بساكن، أبدا. ولا يدخل الخرم إلا في أول البيت.
فإذا أدخل الخرم فعولن قيل له أثلم. فإذا دخل القبض مع الخرم قيل له أثرم.
فإذا دخل الخرم مفاعلتن قيل له أعصب. فإذا دخله العَصب مع الخرم قيل له أقصم. فإذا دخله القبض مع الخرم، قيل له أعقص. فإذا دخله العقل مع الحزم قيل له أجمّ.
فإذا دخل الخرم مفاعيلن قيل له أخرم. فإذا دخله الكفّ مع الخَرم قيل له أخرب. فإذا دخله القَبض مع الخرم قيل له أشتر. وكل ما لم يدخله الخرم فهو الموفور.
باب التعاقب والتراقب
اعلم أن التعاقب يدخل بين السببين المتقابلين في حشو الشعر حيثما كانا، ولا يكونان من جميع العروض إلا في أربعة أشطار: في المديد، والرمل، والخفيف، والمجتث. وقد بينّا جميع ذلك في موضعه.
فما عاقبه ما قبله فهو صَدر. وما عاقبه ما بعده فهو عَجز. وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان. وما لم يُعاقبه ما قبله ولا ما بعده فهو بريء.

والتراقب بين السببين المُتقابلين مع فاصلة واحدة. ولا يدخل التراقب من جميع العروض إلا في المضارع والمُقتضب. وقد فسّرناه هنالك. وقد نظمنا جميع ما ذكرناه من هذه الأبواب في أرجوزة ليسهل حفظُها على المتعلم، إذ كان حفظ المنظوم أسهلَ من حفظ المنثور، وذكرنا فيها كُل الدوائر الخمس، وما ينفكّ في كل دائرة من عدد الشُطور التي قالت عليها العرب، والتي لم تقل عليها، وموضع الزَحاف منها.
واعلم أن الدائرة الأولى مؤلّفة من أربعة أجزاء، سُباعيّين مع خُماسيين، وهي: فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن. والدائرة الثانية من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن. والدائرة الثالثة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن. والدائرة الرابعة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مستفعلن مفعولات مستفعلن. والدائرة الخامسة مؤلفة من أربعة أجزاء خماسية، وهي: فعولن فعولن فعولن فعولن.
واعلم أنّ كل دائرة من هذه الدوائر ينفكّ من رأس كل سَبب وكل وتد فيها شطر. وقد بينّا جميع ذلك في الدوائر وأسماء الشطور التي تنفكّ عنها.

أرجوزة العروض
بالله نبدا وبه التمامُ ... وباسمه يُفتتَح الكلامُ
يا طالبَ العِلْم هو المِنهاجِ ... قد كثُرت من دونه الفِجاج
وكُل عِلْم فله فُنونُ ... وكُل فَنّ فله عُيون
أولها جوامعُ البيَانِ ... وأصلها معرفةُ اللِّسان
فإنّ في المجَاز والتأويل ... ضلّت أساطيرُ ذوي العُقول
حتى إذا عَرَفتَ تلك الأبنية ... واحدَها وجَمعها والتَّثنية
طلبتَ ما شئتَ من العلوم ... ما بين مَنثور إلى مَنظوم
فَداوِ بالأعراب والعَروض ... داءك في الأمْلال والقَريض
كلاهما طِبّ لداء الشَعرِ ... واللّفظ من لَحن به وكَسْرِ
ما فَلْسف النَّيطس جالينوسُ ... وصاحبُ القانون بَطْليْموس
ولا الذي يَدْعونه بهرْمس ... وصاحب الأركند والإقليدس
فَلسفَة الخَليل في العَروض ... وفي صَحيح الشِّعر والمَريض
وقد نظرتُ فيه فاختصرتُ ... إلى نِظام منه قد أحْكمتُ
مُلَخّصٍ مُختصر بديع ... والبَعض قد يَكفي عن الجميع
اختصار الفرش
هذا اختصار الفَرش من مَقالي ... وبعدَه أقولُ في المِثال
أوله والله أستعينُ ... أن يُعرف التحريكُ والسكُونُ
من كُل ما يبدو على اللَسان ... لا كُل ما تَخُطه اليدانِ
ويَظهر التَّضعيفُ في الثقيلِ ... تَعُدُّه حَرفين في التَّفصيل
مُسكنَاً وبعدهُ مُحركاً ... كنون كُنّا وكراء سَركا
باب الأسباب والأوتاد
وبعد ذا الأسبابُ والأَوتادُ ... فإنها لقولنا عِمادُ
فالسببُ الخفيف إذ يعدّ ... محرّك وساكن لا يَعْدُو
والسببُ الثقيلُ في التبيينِ ... حركتان غير ذي تَنوينِ
والوتد المَفروق والمَجموعُ ... كلاهما في حَشوه مَمنوعُ
وإنما اعتلَّ من الأجزاء ... في الفصل والغائي والابتداءِ
فالوتد المَجموع منها فافهمنْ ... حركتان قبل حَرف قد سَكَنْ
والوتد المَفروق من هذينِ ... مُسكَنٌ بين مُحركينِ
فهذه الأوتاد والأسبابُ ... لها ثَبات ولها ذَهابُ
وإنما عَروض كُل قافيه ... جار على أجزائه الثَّمانية
وهاكَها بيّنة مصوَّره ... لكُل مَن عاينها مفسَّره
الفواصل
فاعلن، فعولن، مستفعلن، فاعلاتن، مفاعيلن، مفاعلتن، متفاعلن مفعولات.
هذي التي بها يقول المُنشد ... في كُل مَا يَرْجُز أو يُقَصِّد
كُل عروض يَعتزي إليها ... وإنما مَدارهُ عليها

منها خمُاسيّان في الهِجاءِ ... وغيرها مُسبَّع البِناءِ
يدخلُها النُقصان بالزّحافِ ... في الحشو والعروض والقوافي
وإنما تدخل في الأسبابِ ... لأنها تُعرف باضطرابِ

باب الزحاف في موضعين
فكُل جزءٍ زَال منه الثاني ... من كُل ما يبدو على اللَسانِ
وكان حرفاً شانُه السكون ... فإنه عندي اسمُه مخْبونُ
وإن وجدت الثاني المَنْقوصَا ... محركاً سميتَه المَوْقوصَا
وإن يكُن مُحرَّكاً فسكِّنا ... فذلك المُضمَر حقاً بَيّنَا
والرابع الساكن إذ يَزول ... فذلك المطويُ لا يَحُولُ
وإن يزل خامسُه المسكَّنُ ... فذلك المَقبوض فهو يحسنُ
وإن يكن هذا الذي يزولُ ... مُحركَّاً فإنه المعقولُ
وإن يكُن محرّكاً سكّنتَهُ ... فسمِّه المَعصوب إن سميته
وإن أزلت سابعَ الحُروفِ ... سميتَه إذ ذاك بالمَكْفوفِ
باب الزحاف الذي يكون في موضعين من الجزء
كُل زحاف كان في حَرفين ... حَلَّ من الجزء بمَوْضعين
فإنه يُجحِف بالا جزاءِ ... وهو يسمى أقبحَ الأسماءَ
فكُل ما سُكِّن منه الثاني ... وأسقط الرّابع في اللِّسانِ
فذلك المَخزول وهو يَقْبُح ... فحيثما كان فليس يَصلُحُ
وإن يَزُل رابعُه والثاني ... ذاك وذا في الجُزء ساكِنانِ
فإنه عندي اسمُه المَخبولُ ... يُقصِّر الجُزءَ الذي يطولُ
وكل جُزء في الكتاب يُدركُ ... يَسكُن منه الخامس المُحركُ
وأسقط السابع وهو يسكنُ ... فذلك المَنقوص ليس يَحْسُن
وسابع الجُزء وثانيه إذا ... كان يُعد ساكناً ذاك وذا
فأسقطا بأَقبح الزّحافِ ... سُمِّي مشكولاً بلا اختلاف
هذا الزّحاف لا سِواه فاسمَع ... يُطلق في الأجزاء ما لم يُمنع
باب العلل
والعِللُ التي تجوز أجمعُ ... وليس في الحَشو لهنّ موضعُ
ثلاثة تُدعى بالابتداءِ ... والفَصل والغَاية في الأجزاء
والاعتماد خارجٌ عن شَكلها ... وفِعْله مُخالف لفعلها
لأنهم قد تَركوا التزامَهْ ... وجاز فيه القَبضُ والسلامهْ
ومثلُ ذاك جائزٌ في الحَشْوِ ... فَنحو هذا غير ذاك النحوِ
وكُل مُعتلّ فغيرُ جائزِ ... في الحَشو والقَصِيد والأراجزِ
وإنما أجاَزه الخَليلُ ... مُجازفاً إذ خانه الدَّليلُ
وكُل حيّ من بني حَوّاءِ ... فغيرُ مَعْصوم من الخَطَاءِ
فأول البَيت إذا ما اعتلا ... سميته بالابتداء كُلاّ
وغاية الضَّرب تسمَى غايهْ ... وليس في الحَشو لها حِكايهْ
وكُل ما يَدخل في العَروض ... من عِلّة تَجوزُ في القَريض
فهي تُسمَى الفَصل عند ذاكَا ... وقلّ مَن يعرفه هُناكَا
باب الخرم
والخَرم في أوائل الأبياتِ ... يُعرف بالأسماء والصفاتِ
نُقصان حَرف من أوائل العَددْ ... في كُل ما شَطْر يُفكِّ من وَتدْ
خَمسة أشطار من الشُّطور ... يُحزم منها أول الصُّدورِ
منها الطِّويل أول الدوائرِ ... وأطْول البِناء عند الشاعر
يَدْخله الخَرم فيُدعَى أثلمَا ... فإنْ تلاه القَبْض سُمّي أثَرْمَا
والوافر الذي مَدار الثانِيهْ ... عليه قد تَعيه أذْن واعِيَهْ
يَدخله الخَرمُ في الابتداءِ ... في أول الجُزء من الأجزاءِ
وهو يسمى أعضباً فكُلما ... ضمّ إليه العَصبُ سمى أَقْصما
وإن يكن أعصب ثم يُعْقلُ ... فذلك الأجمّ ليس يُجهلُ

والهَزَج الذي هو السّوارُ ... عليه للثالثة المَدارُ
يدخله الخَرْم فيُدعى أخرمَا ... وهو قَبيح فاعلمنّ وافْهمَا
حتى إذا ما كف بعد الخَرم ... سميته أخْرب إذ تُسمي
والأشتر المُهجّن العَروضا ... ما كان منه آخرٌ مَقبوضَا
هذا وفي الرابعة المُضارعُ ... يَدخل فيه الخَرم لا يُدافَعُ
كمِثل ما يدخل في شطر الهَزجْ ... وهو يُسمّى باسمه بلا حَرجْ
ولا يجوز الخَرم فيه وحده ... إلا بقَبض أو بكَفٍّ بعدهُ
لعلة التَّراقب المَذكور ... خُصّ به من أجمع الشُطورِ
والمُتقارب الذي في الآخر ... تَحلو به خامسة الدَّوائر
يَدخله ما يدخُل الطويلاً ... من خَرمه وليس مُسْتحيلاً
هذا جميع الخَرم لا سواهُ ... وهو قبيح عند من سَمّاهُ
يدخل في أوائل الأشعارِ ... ما قيل في ذي الخمسة الأَشطارِ
لأنّ في أول كل شَطْرٍ ... حَركتين في اْبتداء الصَّدرِ
وإنما يَنفكّ في الأوتاد ... فلم يَضرها الخرمُ في التَّمادِي
لقوّة الأوتاد في أجزائها ... وأنها تَبرأ من أدْوائها
سالمةً من أجمع الزِّحافِ ... في كُل مَجْزوء وكل وافِي
والجُزء ما لم تر فيه خرْمَا ... فإنه المَوْفورُ قد يُسمّى

باب علل الأعاريض والضروب
والعِلل المسميات اللاتي ... تُعرف بالفُصول والغاياتِ
تَدْخل في الضرَّب وفي العَروض ... وليس في الحَشْو من القَريض
منها الذي يُعرف بالمَحْذوفِ ... وهو سُقوط السَّبب الخَفيف
في آخر الجُزء الذي في الضرب ... أو في العَروض غير قول الكذبِ
ومثله المَعروف بالمَقطَوف ... لولا سكون آخر الحروف
وكل جُزء في الضُّروب كائنِ ... اسقط منه آخر السَّواكنِ
وسكن الآخر من باقِيه ... ما يجيزون الزَحافَ فيه
فذلك المَقصورُ حين يُوصفُ ... وإن يكن آخرُه لا يُزْحف
من وَتد يكون حين لا سَببْ ... فذلك المَقطوع حين يَنْتسبْ
وكل ما يحذف ثم يُقطعُ ... فذلك الأبترُ وهو أشنعُ
وإن يَزُل من آخر الجُزء وَتدْ ... إن كان مَجموعاً فذلك الأحَدْ
أو كان مَفروقاً فذاك الأصْلم ... كلاهما للجُزء حَقّاً صَيْلمُ
وأن يسكَّن سابعُ الحُروفِ ... فإنه يُعرف بالمَوْقوفِ
وأن يكُن محرَّكاً فاذْهِبا ... فذلك المَكسوف حقّاً مُوجِبَاً
وبعده التَشعيث في الخَفيفِ ... في ضَربه السالم لا المَحْذوفِ
يُقطع منه الوَتد المُوسَّطُ ... وكُل شيء بعده لا يَسقُط
باب التعاقب والتراقب
وبعد ذا تَعاقب الجُزأينِ ... في السببين المُتقابلين
لا يسقطان جُملةً في الشِّعرِ ... فإنّ ذاك من أشدّ الكَسْرِ
ويثبتان أيّما ثَباتِ ... وذاك من سَلامة الأبياتِ
وأن يَنَل بعضهما إزالَهْ ... عاقَبه الآخر لا مَحالَهْ
فكُل ما عاقبه ما قَبلهُ ... سُمِّي صَدراً فافهمنِّ أصلَهُ
وكُل ما عاقَبه ما بعدَه ... فهو يُسمَّى عَجُزاً فعُدَّه
وإن يكُن هذا وذا مُعاقبَاً ... فهو يُسمى طَرفين واجبَاً
يَدخل في المَديد والخفيفِ ... والرَّمل المَجزوء والمَحْذوفِ
ويدخل المجتثَ أيضاً أجمعَه ... ولا يكون في سوى ذي الأربعَة
والجُزء إذ يخلو من التعاقُب ... فهو بَريء غَيرَ قَول الكاذب
وهكذا إن قِسْتَه التعاقبُ ... وليس مثلَ ذلك التَّراقبُ

لأنه لم يأت من جُزأينِ ... في السببين المُتجاورينِ
لكنّه جاء بجزء واحَدِ ... في أول الصَّدر من القَصائدِ
والسببان غير مَزْحوفينِ ... في جُزئه وغيرُ سالمينِ
إن زال هذا كان ذا مكَانَه ... فاسمَعْ مقالي وافهمنْ بيانَه
فهكذا التراقُب المَوصوفُ ... وكُله في شَطره مَعْروفُ
يدخُل أولَ المُضارع السبب ... وبعدَه يدخُل صدرَ المُقتضبْ

الزيادات على الأجزاء
ثم الزِّيادات على الأجزاء ... مَوجودة تُعرف بالأسماءِ
وإنما تَكون في الغاياتِ ... تُزاد في أواخر الأبياتِ
وكُلها في شَطره مَوجودُ ... منها المُرفل الذي يَزيدُ
حَرْفين في الجزء على اعْتدالِه ... مُحرَّكاً وساكناً في حالِه
وذاك فيما لا يَجوز الزَّحفُ ... فيه ولا يُعزى إليه الضعفُ
وفيه أيضاً يدخُلِ المُذالُ ... مُقَيَّداً في كُل ما يُقالُ
وهو الذي يَزيد حرفاَ ساكنَا ... على اعتدال جُزئه مُباينَا
ومثله المُسبغ من هذي العِللْ ... حَرْف تَزيده على شَطر الرَّمَلْ
باب نقصان الأجزاء
فإن رأيتَ الجُزء لم يَذهب معا ... بالانتقاص فهو وافٍ فاسمعا
وإن يكُن أَذهبه النقصان ... فافْهم ففي قولي لك البَيانُ
فذلك المَجزوء في النِّصفين ... إذا انتقصتَ منهما جُزأينِ
والبيتُ إن نقصتَ منه شطرَهُ ... فذلك المَشطور فافهم أَمرهُ
وإن نقصتَ منه بعد الشَطرِ ... جُزءاً صحيحاً من أخير الصَّدرِ
وكان ما يبقى على جُزأينِ ... فذلك المَنهوك غيرَ مَين
صفة الدوائر وصورهما
فاسمع فهذي صِفة الدوائرِ ... وَصْفَ عليم بالعَروض خابرٍ
دوائرٌ تعيا على ذِهْن الحَذِق ... خمس عليهن الخُطوط والحَلَقْ
فما لها من الخُطوط البائنهْ ... دلائل على الحُروف الساكنهْ
والحَلقات المُتَجوِّفاتِ ... علامة للمتحرَكات
والنُّقط التي على الخُطوطِ ... علامة تُعدّ للسُّقوط
والحَلق التي عليها يُنْقطُ ... تسكن أحياناً وحِيناً تَسقَطُ
والنُّقط التي بأجواف الحَلْق ... لمبتدأ السطور منها يُخترقْ
فانظُر تجد من تحتها أسماءها ... مكتوبة قد وُضعت إزاءَها
والنُّقطتان موضعَ التعاقب ... ومثل ذاك موضعَ التراقب
وهذه صُورةُ كُل واحدة ... مِنها ومَعنى فَسْرها على حِدَه
أولها دائرة الطويل ... وهي ثمانٍ لذوي التفضيل
مُقسَّم الشطر على أرباع ... بين خُماسيّ إلى سُباعِي
حُروفه عشرون بعد أربَعه ... قد بَيّنوا لكُل حرف موضعَه
تنفك منها خَمسة شُطورُ ... يَفصلها التفعيل والتَّقديرُ
منها الطويلُ والمَديد بعدهُ ... ثم البَسيط يُحكمون سَرْدَهُ
ثلاثةٌ قالت عليها العربُ ... واثنان صدّوا عنهما ونَكَبُوا
وهذه صُورتها كما تَرَى ... وذكرها مبيناً مفسَّرَا
الأولى دائرة المختلف
الطويل: مبني على فعولن مفاعيلن. ثماني مرات.
المديد: مبني على فاعلات فاعلن. ست مرات، بعد الحذف.
البسيط: مبني على مستفعلن فاعلن. ثماني مرات.
وهذه الثانية المخصوصة ... بْالسبب الثُقيل والمَنقوصة
أحزاؤها ثلاثة مسبعة ... قد كَرهوا أن يَجعلوها أَربعة
لأنها تَخرج عن مِقدارهم ... في جُملة المَوزون من أشعارهم
فهي على عِشرين بعد واحدِ ... من الحُروف ما بها من زائدِ
تنفك منها وافرٌ وكاملُ ... وثالثٌ قد حار فيه الجاهل

الثانية دائرة المؤلف
الوافر: مبني على مفاعلتن. ست مرات. فقطفوا ضربه وعروضه. الكامل: مبني على متفاعلن. ست مرات.
والدارة الثالثة التي حكتْ ... في قَدرها الثانيةَ التي مَضَتْ
في عِدة الأجزاء والحُروف ... وليس في الثَّقيل والخفيفِ
ينفكّ منها مِثلُ ما ينفك ... من تلك حقَاً ليس فيه شكُّ
ترفل من ديباجها في حُلل ... من هَزج أو رَجز أو رَمل
وهذه صورتُها مبينة ... بحَلْيها ووَشْيها مُزَيَّنه
الثالثة دائرة المجتلب
الهزج: مبني على مفاعيلن. بعد الحذف. أربع مرات.
الرجز: مبني على مستفعلن. ست مرات.
الرمل: مبني على فاعلاتن. ست مرات.
ورابع الدوائر المسرودة ... أَجزاؤها ثلاثة مَعْدودة
عَجيبة قد حار فيها الوَصْفُ ... عِشرون حرفاً عَدُّها وحَرْف
مثل التي تقدّمت من قَبلها ... وشَكْلها مُخالف لشَكْلها
بَدِيعة أحْكم في تَدْبيرها ... بالوَتِد المَفْروق في شُطورها
ينفكّ منها ستّة مَقُولة ... مِن بينها ثلاثةٌ مَجهولة
وكل هذه الستّة المَشْطورة ... مَعْروفة لأهلها مَخْبوِرة
أوّلها السَّريع ثم المُنسرحْ ... ثم الخَفيف بعده ثَم وَضحْ
وبعده مَضارع ومقتضب ... شَطران مَجزوآن في قول العَرب
وبعدها المُجتث أحلى شَطْر ... يُوجد مَجْزوءاً لأهل الشِّعرِ
الرابعة دائرة المشتبه
السريع: مبني على مستفعلن مستفعلن مفعولات. ست مرات.
المنسرح: مبني على مستفعلن مفعولات مستفعلن. ست مرات.
الخفيف: مبني على فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن. ست مرات.
المضارع: مبني على مفاعيلن فاعلاتن. ست مرات. فحذفوا منه جزأين فصار مربعا. المقتضب: مبني على مفعولات مستفعلن مستفعلن. ستَ مرات. فربعوه كما تقدم. المجتث: مبني على فاعلاتن فاعلاتن. ست مرات. فربعوه كما تقدم.
بعدها خامسة الدَّوائر ... للمُتقارب الذي في الآخرِ
ينفكّ منها شَطْرَه ... لم يأتِ في الأشعار منه الذّكرُ
مِن أَقصر الأجزاء والشُطورِ ... حُروفه عِشرْون في التَّقديرِ
مؤلَّف الشطر على فواصل ... مخمسات أَرْبع مَوائل
هذا الذي جَرّبه المُجرِّبُ ... من كُل ما قالت عليه العربُ
فكُل شيء لم تَقُل عليه ... فإننا لم نلتفت إليه
ولا نقول غيرَ ما قد قالوا ... لأنّه من قَولنا مُحالُ
وإنه لو جاز في الأبياتِ ... خلافها لجاز في اللغاتِ
وقد أَجاز ذلك الخَليلُ ... ولا أقول فيه ما يَقولُ
لأنه ناقَض في مَعناه ... والسيفُ قد يَنبو وفيه ماه
إذ جَعل القول القديم أصلَه ... ثم أجاز ذا وليس مثلَه
وقد يَزِلّ العاِلم النّحريرُ ... والحَبر قد يَخُونه التَّحبيرُ
وليس للخَليل مِن نَظير ... في كُل ما يأتي من الأمور
لكنّه فيه نَسيجُ وحدِهَ ... ما مثله مِن قبله وبَعدِه
فالحمدُ للّه على نعمائه ... حمداً كثيراً وعلى آلائه
يا مَلكاً ذلّت له المُلوكُ ... ليس له في مُلكه شَريكُ
ثبِّت لعبد الله حُسن نيَّته ... واعطفه بالفَضل على رعيّته
الخامسة دائرة المتفق
المتقارب: مبني على فعولن. ثماني مرات
إبتداء الأمثال
شطر الطويل
الطويل مُثَمّن، له عروض واحد مقبوض وثلاثة ضروب: ضرب سالم، وضرب مقبوض، وضرب مَحذوف معتمد.
العروض المقبوض والضرب السالم
ورَوْضة وَرْدِ حُفّ بالسَّوسن الغَضِّ ... تحلت بلَوْن السَّام والذَّهب المَحْض
رأيتُ بها بدراً على الأرض ماشياً ... ولم أر بدراً قطُّ يَمشي على الأرض

إلى مِثله فَلْتَصْبُ إن كنتَ صابياً ... فقد كان منه البَعضُ يَصْبو إلى البعض
وكُلْ وَرد خَدّيه ورُمّان صَدْره ... بمَصٍّ على مَصٍّ وعَضٍّ على عَضَ
وقُل للذي أَفْنى الفُؤِاد بِحُبّه ... على أنه يَجْزي المَحبّة بالبغْض
أبا مُنذر أفنيتَ فاستبق بعضنا ... حَنانيْك بعضُ الشّر أهون من بَعض

تقطيعه
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن فعولن، مفاعيلن، فعول، مفاعيلن الضرب المقبوض
وحاملةٍ راحاً على راحةِ اليَدِ ... مُورَّدة تَسعَى بلون مُورَّدِ
متى ما ترى الإبريقَ للكأس راكعاً ... تُصَلِّ له من غير طُهر وتَسْجُدِ
على ياسَمين كاللّجين ونَرْجس ... كأقراط دُرّ في قَضيب زَبَرْجد
بتلك وهذِي فاله ليلَك كُلَّه ... وعنها فَسَلْ لا تسأل النَاسَ عن غَد
ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ... ويأتيك بالأخبارِ من لم تُزوِّد
تقطيعه
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن الضرب المحذوف المعتمد
أيقتُلني دائِي وأنتَ طبيبي ... قريب وهل مَن لا يرى بقَريبِ
لئن خنتَ عَهدي إنّني غيرُ خائِنٍ ... وأيّ مُحبٍّ خانَ عهدَ حَبيب
وساحبة فَضلَ الذّيول كأنها ... قَضِيب من الريحان فوقَ كَثِيب
إذا ما بدتْ من خِدْرها قال صاحبي ... أَطِعْني وخُذْ من وَصْلها بنَصيب
وما كُل ذي لُبٍّ بمؤُتيك نُصْحه ... وما كل مُؤْتٍ نُصْحه بلبيبِ
تقطيعه
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن فعولن، مفاعِيلن، فعول، فعولن يجوز في حَشو الطويل القبض والكَف. فالقَبض فيه حَسن: والكَف فيه قبيح. ويدخله الخَرم في الابتداء، فيقال له: أثلم. فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له: أثرم.
والخَرم: سقوط حركة من أول البيت، ولا يكون إلا في وتد. والقَبض: ما ذهب خامسه الساكن. والكفّ: ما ذهب سابعه الساكن. والاعتماد: سقوط الخامس من فعولن التي قبل القافية، اعتمد به فقبض. ولم تَجر فيه السلامة إلاّ على قبح. ولم يأت في الشعر إلاّ شاذّاً قليلاً. والاعتماد في المتقارب: سلامة الجزء الذي قبل القافية. والمحذوف: ما ذهب من آخره سبب خفيف.
شطر المديد
هو مجزوء كله
له ثلاثة أعاريض وستة ضروب: فالعروض الأول منها مجزوء، وله ضرب مثله.
والعرض الثاني محذوف لازم الثاني، له ثلاثة ضروب لازمة الثاني: ضرب مقصور لازم الثاني، وضرب محذوف لازم الثاني، وضرب أبتر لازم الثاني. والعروض الثالث محذوف مخبون. له ضربان: ضرب مثله، وضرب أبتر لازم الثاني.
العروض المجزوء والضروب المجزوء
يا طويلِ الهَجْر لا تَنس وَصْلي ... واشتغالي بك عن كُل شُغل
يا هلالاً فوق جِيدِ غَزالٍ ... وقضيباً تحته دِعْصُ رَمْل
لا سلَتْ عاذلتي عنه نَفْسي ... أكثِري في حُبه أو أَقِلّي
شادِن يُزْهى بخَدٍّ وجِيدٍ ... مائس فاتن بحُسْن ودَل
ومتى مايَع منك كلاماً ... فتَكلَّم فيحجبك بعَقْل
تقطيعه
فعلاتن، فعلن، فعلاتن فعلاتن، فعلن، فعلاتن العروض المحذوف اللازم الثاني والضرب المقصور اللازم الثاني
يا وميضَ البَرق بين الغَمام ... لا عليها بلى عليك السلامْ
إنّ في الأحداج مَقْصورة ... وجهُها يَهْتك سِتْر الظَّلامْ
تَحسب الهَجر حلالاً لها ... وتَرى الوصلَ عليها حَرام
ما تأسِّيك لِدار خَلَتْ ... ولشعب شت بعْد التِئامْ
إنما ذكرُك ما قد مَضى ... ضلَّةٌ مِثل حديث المَنام
تقطيعه
فاعلاتن، فعلن، فاعلن فاعلاتن، فعلن، فاعلان الضرب المحذوف اللازم الثاني
عاتِب ظَلْتُ له عاتِبَاً ... رُبّ مَطْلوب غدَا طالِبا

مَن يتب عن حُب مَعْشوقه ... لستُ عن حُبِّي له تَائبَا
فالهوَى لي قَدَرٌ غالبٌ ... كيف أَعصي القدَر الغَالبا
سَاكِنَ القَصر ومَن حلّه ... أصبح القلبُ بكم ذاهِبا
اعلمُوا أنِّي لكم حافظٌ ... شاهداً ما عِشْتُ أو غائبا
تَقطيعه
فاعلالَن، فاعلن، فاعلن فاعلاتن، فاعلن، فاعلن الضرب الأبتر
أي تُفاح ورُمّانِ ... يُجتنى منِ خُوط رَيحانِ
أي ورد فوق خد بدا ... مستنيراً بين سُوسان
وَثَن يُعبد في رَوضة ... صِيغ من دُرّ ومَرْجان
مَن رأى الذَّلفَاء في خَلْوة ... لم يَر الحَدَّ على الزاني
إنّما الذَّلفاء يا قوتة ... أخرجت من كِيس دِهْقانِ

تقطيعه
فاعلاتن، فاعلن، فاعلن فاعلاتن، فاعلن، فعلن العروض المجزوء المحذوف والمخبون ضربه
مِن مُحب شَفِّه سقمه ... وتلاشىَ لحمهُ ودَمُه
كاتب حَنّث صحيفته ... وبكَى مِن رحمة قَلَمُه
يَرفع الشكوَى إلى قَمر ... يَنْجلي عن وَجْهه ظُلمه
من لقَرْن الشمس جَبْهته ... وللَمع البَرق مبتسمه
خَلّ عَقلي يا مُسفِّهه ... إن عَقلي لستُ أَتّهمه
للفتى عَقل يَعيش به ... حيثُ تَهدي لساقَه قدُمه
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلن، فعلن فاعلاتن، فاعلن، فَعِلن الضرب الأبتر اللازم الثاني
زادني لَومُك إضرارا ... إنّ لي في الحُب أنصارا
طار قلبي مِن هَوى رَشإِ ... لو دَنا للقَلب ما طارا
خُذ بكفِّي لا أَمُتْ غَرَقاً ... إنّ بَحر الحُب قد فارا
أَنضجت نارُ الهَوى كَبدي ... ودُموعي تُطفئ النارا
رُبّ نارٍ بِتُّ أَرْمقها ... تَقْضِم الهِنْديّ والغَارا
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلن، فعلن فاعلاتن، فاعلن، فَعْلن يجوز في حشو المديد: الخَبن والكَف والشكل. فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن. والمكفوف: ما ذهب سابعه الساكن. والمشكول: ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان، وهو اجتماع الخَبن والكَف في فاعلاتن.
ويدخله التعاقب في السببين المتقابلين، بين النون من فاعلاتن والألف من فاعلن لا يسقطان جميعاً، وقد يثبتان. فما عاقبه ما قبله فهو صدر، وما عاقبه ما بعده فهو عجز، وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان، وما لم يعاقبه شيء فهو بريء. والمقصور: كما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من السبب. والأبتر: ما حذف ثم قطع.
شطر البسيط
البسيط له ثلاثة أعاريض وستة أضرب: فالعروض الأول مخبون تام، له ضربان: ضرب مثله، وضرب مقطوع لازم الثاني.
والعروض الثاني مجزوء، له ثلاثة أضرب: ضرب مذال، وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع من الطي.
والعروض الثالث مقطوع ممنوع من الطي، له ضرب مثله.
العروض المخبون والضرب المخبون
بين الأهلة بدر ماله فَلَكُ ... قلبي له سُلِّم والوجه مُشْتركُ
إذا بدا انتهبت عيني محاسِنه ... وَذَلّ قَلبي لعَينيه فينتهك
ابْتعت بالدّين والدُّنيا مودَّته ... فخانَني فَعلى مَن يرجع الدَّرَك
كفُّوا بني حارث أَلحاظَ رِيمكم ... فكلها لفؤادي كلِّه شرَك
يا حارِ لا أُرمين منكم بداهية ... لم يَلْقها سُوقة قَبْلي ولا مَلكُ
تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فَعِلُن مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فَعِلُن الضرب المقطوع اللازم الثاني
يَا ليلة ليس في ظَلمائها نورُ ... إلا وُجوهاً تُضاهيها الدَّنانيرٌ
حُورٌ سَقَتْنيَ بكأس الموت أعينُها ... ماذا سَقَتْنيه تلك الأعينُ الحُور
إذا ابتسَمْن فُدرّ الثغَر مُنتظمِ ... وإنْ نَطَقن فدر اللفظ مَنْثور
خَلِّ الصِّبا عنك واحتِم بالنُّهى عملاً ... فإنّ خاتمةِ الأعمال تَكْفيرُ

والخَير والشرَّ مَقْرونان فيَ قرن ... فالخَبر مُتّبع والشر محذُور

تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فعلن مستفعلن، فعلن، مستفعلن فَعْلن العروض المجزوء والضرب المذال
يا طالباً في الهَوى ما لا يُنالْ ... وسائلاً لم يعْفَ ذُلّ السّؤال
ولَت ليالي الصِّبا مَحمودةً ... لو أنها رَجعت تلك اللَّيالْ
وأعقبتها التي واصلتُها ... بالهَجر لمّا رأت شَيب القَذَال
لا تلتمس وُصلة من مُخلف ... ولا تَكُن طالباً ما لا يُنال
يا صاح قد أخلفت أسماءُ ما ... كانت تُمنَيك من حُسن الوِصال
تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن مستفعلن، فاعلن، مستفعلان الضرب المجزوء
ظالمتي في الهَوى لا تَظْلمي ... وتَصرمي حَبل مَن لم يَصْرِم
أهكذا باطلاً عاقِبْتني ... لا يَرْحم الله مَن لم يَرْحم
قتلتِ نفساً بلا نَفس وما ... ذَنْب بأعظمَ من سَفك الدَّم
لمِثل هذا بكَتْ عيني ولا ... للمنزل القَفْر وللأرْسم
ماذا وُقوفي على رَسمٍ عَفا ... مخْلولق دارسٍ مُسْتعجِم
قطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن مستفعلن، فاعلن، مستفعلن الضرب المقطوع الممنوع من الطي
ما أقربَ اليأس من رَجائي ... وأبعَد الصبرَ من بُكائي
يا مُذكيَ النَّار في فؤادي ... أنت دَوَائي وأنت دائي
مَن لي بمُخلفة في وَعدها ... تَخلط لي اليأسَ بالرَّجاء
سألتها حاجةً فلم تَفُه ... فيها بنَعمٍ ولا بلاءَ
قلت استجيبي فلمّا لم تجب ... سالت دُموعي على ردائي
تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن مستفعلن، فاعلن، فعولن العروض المقطوع الممنوع من الطي ضربه مثله
كآبة الذل في كتابي ... ونَخْوةُ العِزّ في جَوابي
قَتلتَ نفساً بغير نَفس ... فكيف تَنجُو من العذاب
خُلِقْت من بَهجة وطِيب ... إذ خلقِ الناسُ من تُراب
ولَّت حُميَّا الشَّباب عنّي ... فلهفَ نفسي على الشَباب
أصبحتُ والشَّيبُ قد عَلاَني ... يَدْعو حَثِيثاً إلى الخِضَابِ
تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، فعولن مستفعلن، فاعلن، فعولن يجوز في حشو البسيط: الخَبن والطي والخبل. فالخبن: ما ذكرناه في المديد. والطي: ما ذهب رابعه الساكن. والمخبول: ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان، وهو اجتماع الخبن والطي في مستفعلن.
والخبن فيه حسن، والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح.
والمقطوع: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الوتد. والمذال: ما زاد على اعتداله حرف ساكن.
تمت الدائرة الأولى.
شطر الوافر
له عروضان وثلاثة ضروب فالعرض الأول مقطوف، له ضرب مثله. والعروض الثاني مجزوء ممنوع من العقل، له ضربان: ضرب سالم، وضرب معصوب.
العروض المقطوف الضرب المقطوف
تَجافى النومُ بعدك عن جُفوني ... ولكن ليسَ يجفوها الدموعُ
يطيب ليَ السُّهاد إذا افترقنا ... وأنت به يطيب لك الهجوعُ
يذكرني تبسمك الأقاحي ... ويَحكي لي تورّدك الرّبيع
يطير إليك من شوقٍ فُؤادي ... ولكن ليس تتركه الضُّلوع
كأنّ الشمسَ لما غِبْت غابت ... فليس لها على الدُّنيا طُلوع
فما لي عند لَذكّرك امتناع ... ودون لقائك الحِصْن المَنيع
إذا لم تَستطع شيئاً فدَعه ... وجاوزْه إلى ما تَستطيع
تقطيعه
مفاعلتن، مفاعْلتن، فعولن مفاعلْتن، مفاعلْتن، فعولن العروض المجزوء الممنوع من العقل
الضرب السالم
غزال زانه الحَور ... وساعد طَرْفه القَدَر
يُريكِ إذا بدا وجهاً ... حَكاه الشمس والقَمر
براه الله من نُور ... فلا جِنّ ولا بَشر
فَذَاك الهمُّ لا طَلل ... وقفتَ عليه تَعْتَبر

أهاج منزل أَقوى ... وغَيّر آيه الغِير

تقطيعه
مفاعلتن، مفاعلتن مفاعلتن، مفاعلتن الضرب المعصوب
وَبدْرٍ غير ممحوق ... من العقيان مخلوق
إذا أسقيت فَضْلته ... مَزَجتُ بريقه رِيقي
فيالك عاشقاً يسقي ... بقيَّة كأس مَعْشوق
بكيتُ لنَأْيه عَنّي ... ولا أَبكي بتشهيق
لمنزلة بها الأفلا ... ك أَمثال المَهاريق
تقطيعه
مفاعلتن، مفاعلتن مفاعلتن، مفاعيلن يجوز في حَشو الوافر: العَصب والعقل والنقص. فالعصب فيه حسن، والنقص فيه صالح، والعقل فيه قبيح.
ويدخله الخرم في الابتداء، فتستقط حركة من أول البيت، ويسمى أعصب.
فإذا دخله العصب مع الخرم، قيل له: أقصم. فإذا دخله النقص مع الخرم، قيل له: أعقص. فإذا دخله العقل مع الخرم، قيل له: أجم.
والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرك. والمنقوص: ما سكن خامسه المتحرك وذهب سابعه الساكن. والمقطوف: ما ذهب من آخره سبب خفيف وسكن آخر ما بقي. ولا يدخل القطف إلا في العروض والضرب من تام الوافر.
شطر الكامل
الكامل له ثلاثة أعاريض وتسعة ضروب. فالعروض الأول تام، له ثلاثة ضروب: ضرب تام مثله، وضرب مقطوع ممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره، وضرب أحذ مضمر.
والعروض الثاني أحذ، له ضربان: ضرب مثله، وضرب مضمر.
والعروض الثالث مجزوء، له أربعة ضروب: ضرب مرفّل، وضرب مُذال، وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع، إلا من سلامة الثاني وإضماره.
العروض التام الضرب التام
يا وَجْهَ مُعتذر ومُقلةَ ظالمٍ ... كمَ من دَم ظُلماً سفكت بلا دَم
أَوَجَدْتِ وصلي في الكِتاب مُحرما ... ووجدتِ قَتلي فيه غيرَ مُحرّم
كم جَنةٍ لكِ قد سكنتُ ظِلالَها ... مُتفكِّهاً في لَذة وَتنعّم
وشربتُ من خَمر العيون تعلّلا ... فإذا انتشيت أجود جُود المِرْزم
وإذا صحوَتُ فما أقصّرَ عن ندَى ... وكما علمتِ شمائلي وتَكرُّمي
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن الضرب المقطوع الممنوع إلاّ من الإضمار والسلامة
حَالَ الزمانُ فبدّل إلا مالا ... وكَسا المَشيبُ مَفارقاً وقَذالاَ
غنيتْ غواني الحَيّ عنك وربما ... طلعتْ عليك أكَلّة وحِجَالا
أَضَحى عليكَ حلالُهن مُحرماً ... ولقد يكون حرامُهن حَلالا
إنْ الكواعِبَ إنْ رأينك طاوياً ... وِصْلَ الشبابِ طَوين عنك وِصالا
وإذا دَعَونك عَمَّهن فإنه ... نسب يزيدكَ عندهن خَبالا
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلاتن الضرب الأحذ المضمر
يوم المُحب لِطوله شَهر ... والشهر يحسب أنه دهر
بأبي وأُمي غادة في خَدّها ... سِحْر وبين جُفونها سحْر
الشمسُ تَحسب أنها شَمس الضحى ... والبَدر يَحسب أنها البَدر
فسَل الهَوى عنها يُجيب إن نأتْ ... فسَل القِفار يُجيبك القَفر
لمَن الديارُ برامَتَيْن فعاقِلٌ ... دَرست وغَيّر أيها القَطر
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلن العروض الأحذ الثالث ضربه مثله
أمّا الخليطُ فشَدّ ما ذَهبوا ... بانُوا ولم يَقضُوا الذي يَجبُ
فالدارُ بعدهُم كوَشْم يَدٍ ... يا دارُ فيك وفيهمُ العَجَبُ
أين التي صِيغت محاسنُها ... من فِضّة شِيبت بها ذَهب
ولّى الشبابُ فقلت أندُبه ... لا مثلَ ما قالوا ولا نَدبوا
دِمَنٌ عَفت ومَحا معاَلمها ... هَطِلٌ أجَشُ وبارِح تَرِب
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن، فعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلن الضرب الأحذ المضمر
عينيّ كيفَ غَررتُما قلبي ... وأبحتُماه لوعةَ الحُبِّ

يا نظرةً أذكتْ على كَبدي ... ناراً قضيتُ بحرّها نَحْبي
خَلُّواً جَوى قلبي أَكابده ... حَسبي مُكابدةُ الجَوى حَسْبي
عَينيِ جنتْ من شُؤم نَظرتها ... ما لا دواءَ له على قَلْبي
جانيك مَن يَجني عليك وقد ... تُعدي الصحاحَ مبارك الجُرب

قطيعه
متفاعلن، متفاعلن، فعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلن العروض المجزْوء والضرب المجزوء المرفل
هتك الحبابَ عن الضمائر ... طَرْف به تُبلَى السَّرائرْ
يَرنو فيمتحن القُلو ... بَ كأنه في القَلب ناظر
يا ساحراً ما كنتُ أع ... رف قَبله في الناس ساحر
أقصيتني من بعد ما ... أدنيتَني فالقلبُ طائر
وغررتَني وزعمتَ أن ... ك لابن بالصَيف تامِر
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلاتن الضرب المذال
يا مقلة الرّشأ الغَري ... ر وشُقّة القَمر المنيْر
ما رنّقت عيناك لي ... بين الأكلَّة والسُّتور
إلا وضعتُ يدِي على ... قَلبي مخافةَ أن يطير
هَبْني كبعض حمام مك ... ة واستمِع قولَ النَّذير
أَبُنيّ لا تَظْلم بمك ... ة لا الصَّغير ولا الكَبير
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلان الضرب المجزوء
قُل ما بدا لك وافعل ... واقطَعْ حِبالَك أَوْصل
هذا الربيعُ فَحيِّه ... وانزلْ بأكرم مَنزل
وصِل الذي هو واصلٌ ... فإذا كَرهت فبدِّل
وإذا نَبا بك منزلٌ ... أو مَسكن فتحوَّل
وإذا افتقرت فلا تَكُن ... مُتخشعاً وتَجمّل
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن الضرب المقطوع الممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره
يا دَهرُ ماليَ أُصْفي ... وأنت غير مُواتِ
جَرّعَتني غُصصاً بها ... كدّرتَ صفو حياتي
أينَ الذَين تَسابقوا ... في المجد للغايات
قوم بهم رُوح الحيا ... ة ترد في الأموات
وإذا هُمُ ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحسنات
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن متفاعلن فعلاتن يجوز في الكامل من الزحاف: الإضمار والوَفص والخزل. فالإضمار فيه حسن، والوقص فيه صالح. والخزل فيه قبيح.
فالمضمر: ما سكن ثانيه المتحرك.
والموقوص: ما ذهب ثانيه المتحرك.
والمخزول: ما سكن ثانية المتحرك وذهب رابعه الساكن.
ويدخله من العلل القطع والحذ. فالمقطوع، ما تقدم ذكره. والأخذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع.
شطر الهزج
الهزج له عَروض: واحد مجزوء ممنوع من القبض. وضربان: ضرب سالم، وضرب محذوف.
العروض المجزوء الممنوع من القبض ضربه مثله
أيا مَنْ لامَ في الحُبِّ ... ولم يَعلم جَوى قَلبِي
ملاِمُ الصّبّ يُغويه ... ولا أَغوى من القَلب
فأنيُ لمتَ في هند ... مُحِبّاً صادق الحُبِّ
وهند ما لها شِبه ... بشَرْق لا ولا غَرب
إلى هِنْد صَبا قَلْبي ... وهِنْد مثلُها يصبي
تقطيعه
مفاعيلن، مفاعيلن مفاعيلن، مفاعيلن الضرب المجزوء المحذوف
مَتى أشفي غليلِي ... بنَيل من بَخيل
غَزال ليس لي مِنه ... سِوى الحُزن الطويل
جميل الوجه أخلاني ... من الصَّبر الجَميل
قَد حَملت الضيَم فيه ... من حَسود وعَذول
وما ظَهري لباغي الضَّي ... م بالظَّهر الذِّلول
تقطيعه
مفاعيلن، مفاعيلن مفاعيلن، فعولن يجوز في الهَزج من الزحاف القبض والكف. فالكف فيه حسن. والقبض فيه قبيح. وقد فسرنا المقبوض والمكفوف في الطويل أيضاً.
ويدخله الخرم في الابتداء، فيكون أخرم. فإذا دخله الكف مع الخرم، قيل له: أخرب فإذا دخله القبض مع الخرم، قيل له: أشتر. والخرم كله قبيح.

شطر الرجز
الرجز له أربعة أعاريض وخمسة ضروب. فالعروض الأول تام، له ضربان: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقطوع ممنوع من الطيّ.
والعروض الثاني مجزوء، له ضرب مثله مجزوء.
والعروض الثالث مشطور، له ضرب مثله.
والعروض الرابع منهوك، له ضرب مثله.
العروض التام الضرب التام
لم أَدْر جِنِّيٌّ سَباني أم بَشرْ ... أم شَمس ظُهر أشرَقت لي أم قَمَرْ
أم ناظِر يهدي المَنايا طَرفُه ... حتى كأنّ الموتَ منه في النَّظر
يُحي قَتيلاً ما له من قاتِلِ ... إلاّ سِهام الطّرف رِيشت بالحَوَر
ما بال رَسم الوَصل أضحَى داثراً ... حتى لقد أذكرتَني ممّا دثر
دارٌ لسَلمى إذ سُليمى جارة ... قَفْراً تُرى آياتُها مِثل الزبر
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن الضرب المقطوع الممنوع من الطي
قَلب بلوعات الهَوى معمودُ ... حَيّ كَمَيْت حاضرٌ مَفْقودُ
ما ذقت طعم الموت في كأس الأسى ... حتى سَقَتْنيه الظباءُ الغِيدُ
من ذا يداوي القلبَ من داء الهوى ... إذ لا دواءٌ للهَوى مَوجود
أم كيف أسلو غادة ما حبّها ... إلا قَضاءٌ ما له مَرْدود
القلبُ منها مُستريح سالمٌ ... والقَلب مني جاهد مجهودُ
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن مستفعل العروض المجزوء الضرب المجزوء
أعطيته ما سألا ... حكّمتُه لو عَدلا
وهبتُه رَوحي فما ... أدري به ما فَعلا
أسلمته في يده ... عَيَّشه أم قَتلا
قَلبي به في شُغل ... لا مَلَّ ذاك الشغلا
قَيّده الحُب كما ... قَيّد راع جَملاً
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن العروض المشطور الضرب المشطور
يأيها المَشغوف بالحبّ التَّعِبْ ... كم أنت في تَقْرِب ما لا يَقتربْ
دَعْ ودّ من لا يَرعوي إذا غَضب ... ومَن إذا عاتبته يوماً عَتب
إنك لا تَجني من الشوك العِنَب
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن العروضِ المنهوك الضرب المنهوك
بياضُ شَيْب قد نصَعْ ... رفعتُه فما ارتفع
إذا رأى البِيض انقمع ... مِن بين يأس وطَمَعْ
للّه أيام النَّخع ... يا ليتني فيها جَذع أخُبُّ فيها وأَضع
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن ويجوز في حشو الرجز: الخبن، والطي، والخبل. فالخبن فيه حسن. والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح. وقد مضى تفسير الطي والخبن والخبلِ في البسيط. ويدخله من العلل: القطع، وقد ذكرناه. ويكون مجزوءاً. والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزِء، ومن آخر العجز جزء. ويأتي مشطوراً. والمشطور: ما ذهب شطوه. ويأتي منهوكاً. والمنهوك: ما ذهب من شطره جزآن وبقي على جزء.
شطر الرمل
الرمل له عروضان وستة ضروب. فالعروض الأول محذوف جائز فيه الخبن. له ثلاثة ضروب: ضرب متمم وضرب مقصور جائز فيه الخبن، وضرب محذوف مثل عروضه.
والعروض الثاني مجزوء، له ثلاثة ضروب: ضرب مسبغ، وضرب مجزوء مثل عروضه الجائز فيه الخبن، وضرب محذوف جائز فيه الخبن.
العروض المحذوف الجائز فيه الخبن الضرب المتمم
وأنَا في اللَّذات مَخلوع العِذارِ ... هائم في حب ظَبي ذي احْورارِ
صُفرة في حُمرة في خدّه ... جمعتْ روضة وَرْد وبَهار
بأبي طاقةُ آسٍ أقبلت ... تَتَثَنّى بين حِجْل وسِوار
قادني طَرفي وقَلبِي للهَوى ... كيف من طَرفي ومِن قلبي حِذارِي
لو بغير الماء حَلقي شَرقٌ ... كنتُ كالغَصّان بالماء اعتصارِي
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلاتن الضرب المقصور

يا مُدير الصُّدغ في الخدّ الأَسيلْ ... ومُجيل السِّحر بالطرف الكَحيلْ
هل لمحزون كَئيب قُبلة ... منكَ يَشفي بَردُها حَرَّ الغَليل
وقليل ذاك إلاّ أنه ... ليس مِن مثلك عندي بالقَليل
بأبي أحورُ غَنَى مَوهناً ... بغناءٍ قصَّر الليلَ الطويل
يا بني الصّيداء ردُّوا فَرسي ... إنما يفعل هذا بالذَّليل

تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلان الضرب المحذوف
شادن يَسحب أذيال الطَّربْ ... يَتَثنّى بين لَهو ولعبْ
بِجَبين مفْرغٍ من فِضَّة ... فوق خدٍّ مُشرَب لونَ الذهب
كَتَب الدمعُ بخدّي عَهده ... للهوَى والشوقُ يُملي ما كَتب
ما لجهلي ما أراه ذاهباً ... وسوادُ الرأس منّي قد ذَهب
قالت الخنَساء لمّا جِئْتُها ... شابَ بعدي رأسُ هذا واشتهب
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن العروض المجزوء الضرب المسبغ
يا هلالاً في تَجنّيهِ ... وقضيباً في تثنيه
والذي لست أسميه ... ولكنّي أكنِّيه
شادِن ما تقدر العينَ ... تَراه من تَلالِيه
كلما قابله شخص ... رأى صورته فيه
لان حتى لو مشى الذّ ... ر عيله كاد يدميه
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتان الضرب المجزوء
يا هلالاً قد تجلّى ... في ثِياب من حَريرْ
وأميراً بهواه ... قاهراً كُلّ أمير
ما لخدّيك استعارَاً ... حُمرة الوَرد النضير
ورُسوم الوَصل قد ألْ ... بستها ثوبَ دُثور
مُقفرات دارسات ... مثلَ آيات الزبور
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتن الضرب المجزوء المحذوف الجائز فيه الخبن
يا قتيلاً من يده ... ميّتاً من كمَده
قدحتْ للشوق ناراً ... عينُه في كَبده
هائم يبكي عليه ... رحمةً ذو حسده
كل يوم هُو فيه ... مستعيذ من غَده
قلبُه عند الثريا ... بائن عن جَسده
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن، فعلن يجوز في الرمل من الزحاف: الخَبن والكَف والشكل. فالخبن فيه حسن. والكف فيه صالح. والشكل فيه قبيح. وقد فسرنا المكفوف والمخبون.
فأما المشكول: فهو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان.
ويدخله التعاقب في السيبين المتقابلين، على حسب ما يدخل في المديد.
ويدخله من العلل الحذف والقصر والإسباغ. وقد فسرنا المحذوف والمقصور.
وأما المسبغ: فهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن، مما يكون في آخره سبب خفيف، وذلك فاعلاتن يزاد عليها حرف ساكن فيكون فاعلاتان.
شطر السريع
السريع له أربعة أعاريض وسبعة أضرب: فالعَروض الأول مَكسوف مَطوي لازم الثاني، له ثلاثة ضروب: ضرب موقوف مطوي لازم الثاني، وضرب مكسوف مطوي لازم الثاني مثل عروضه، وضرب أصلم سالم.
والعروض الثاني مخبول مكسوف، له ضربان: ضرب مثل عروضه، وضرب أصلم سالم.
والعروض الثالث مشطور موقوف ممنوع من الطي، ضربه مثله.
والعروض الرابع مشطور مكسوف ممنوع من الطي، ضربه مثله.
العروض المكسوف المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف المطوي اللازم الثاني
بكيت حتى لم أدعْ عَبرةً ... إذ حَملوا الهَودج فوق القَلوصْ
بُكاءَ يَعقوبَ على يُوسفٍ ... حتى شَفى غُلته بالقميص
لا تأسفِ الدهرَ على ما مَضى ... والقَ الذي ما دونه من مَحيص
قد يُدرك المبطئ من حَظه ... والخيرُ قد يَسبق جُهد الحَريص
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فاعلن مستفعلن، مستفعلن، فاعلان الضرب المكسوف المطوي اللازم الثاني
للهّ دَرُ البَين ما يَفعلُ ... يَقتل مَن شاء ولا يُقْتلُ

بانُوا بمَن أهواه في ليلةٍ ... ردّ على آخرها الأوّل
يا طُولَ ليل المُبتلي بالهَوى ... وصبْحُه مِن ليله أطول
الدارُ قد ذكَرني رسمها ... ما كِدتُ عن تَذكاره أذْهل
هاج الهَوى رسم بذات الغَضى ... مُخْلولق مستعجم مُحْوِل

تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فاعلن مستفعلن، مستفعلن، فاعلن الضرب الأصلم السالم
قَلبي رهين بين أضلاعي ... من بين إيناسٍ وإطماع
من حيثُ ما يدعوه داعِي الهَوى ... أجابه لَبَّيْك مِن داعي
مَن لِسَقيم ماله عائدٌ ... وَميِّت ليس له ناعي
لما رأتْ عاذلتي ما رأتْ ... وكان لي من سَمعها واعِي
قالتْ ولم تَقْصد لقِيل الخَلني ... مَهْلاً لقد أبلغتَ أسماعِي
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فاعلن مستفعلن، مستفعلن، فعلن العروض المخبول المكسوف ضربه مثله
شَمس تجلّت تحت ثَوب ظُلَمْ ... سقيمةُ الطَّرف بغير سقَمْ
ضاقت عليّ الأرضُ مُذ صَرّمتْ ... حَبلي فما فيها مكانُ قَدم
شمس وأقمارٌ يطوف بها ... طَوْفَ النَّصارى حول بيت صَنَم
النشر مِسك والوُجوه دنا ... نير وأطراف الأكفّ عَنم
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فعلن مستفعلن، مستفعلن، فعلن الضرب الأصلم السالم
أنتَ بما في نفسه أعلمْ ... فاحكُم بما أحببتَ أن تَحْكُمْ
ألحاظُه في الحُب قد هتكت ... مَكْتومِه والحبّ لا يُكتم
يا مُقلة وحشيّة قَتلت ... نفساً بلا نَفس ولم تَظْلم
قالت تسلّيت فقلتُ لها ... ما بال قلبي هائم مغْرم
يأيهاي الزَاري على عمَر ... قد قلتَ فيه غير ما تَعلم
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فعلن مستفعلن، مستفعلن، فعلن العروض المشطور الموقوت الممنوع من الطي ضربه مثله
خَلّيتُ قلبي في يدَيْ ذات الخالْ ... مصفدا مُقيّدا في الأغلالْ
قد قُلت للباكي رسومَ الأطلال ... يا صاح ما هاجَك من رَبعٍ خال
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مفعولان العروض المشطور المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله
ويحى قتيلاً مالَه من عَقْل ... بشادنٍ يَهتزّ مثلَ النَّصل
مُكَحّل ما مَسّه من كُحل ... لا تَعذُلاني إنني في شُغل
يا صاحبَيْ رحلِي أقلا عَذْلي
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مفعولن ويجوز في السريع من الزحاف: الخبن والطي والخبل. فالخبن فيه حَسن. والطي صالح، والخبل فيه قبيح.
ويدخله من العلل: الكسف والوقف والصلم. فالمكسوف: ما ذهب سابعه المتحرك. والموقوف: ما سكن سابعه. والأصلم: ما ذهب من آخره وتد مفروق. والمشطور: ما ذهب شطره.
شطر المنسرح
المنسرح له ثلاثة أعاريض وثلاثة ضروب: فالعروض الأول ممنوع من الخبل، له ضرب مطوي.
والعروض الثاني منهوك موقوف ممنوع من الطي، له ضرب مثله.
والعروض الثالث منهوك مكسوف ممنوع من الطي، له ضرب مثله.
العروض الممنوع من الخبل الضرب المطوي
بَيْضاء مَضْمومة مُقرطقة ... يَنْقدّ عن نهَدها قَراطقُها
كأنما بات نعماً جَذِلا ... في جَنة الخُلد مَن يُعانقها
وأيّ شيء ألذّ مِن أمل ... نالتْه مَعْشوقة وعاشِقُها
دَعْني أمُت من هوى مَخدَّرةٍ ... تَعلق نفسي بها عَلائقها
مَن لم يَمُت غِبْطة يَمُت هَرَما ... الموتُ كأسٌ والمَرء ذائقها
تقطيعه
مستفعلن، مفعولات، مستفعلن مستفعلن، مفعولات، مفتعلن العروض المنهوك الموقوف الممنوع من الطي ضربه مثله
أقصرتُ بعض الإقصارْ ... عن شادن نائي الدارْ
صَبرني لما سارْ ... ولم أكُن بالصبار
وقالَ لِي باستعبار ... صبراً بني عبد الدَّار
تقطيعه

مستفعلن، فعولات العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله
عاضَتْ بوصلٍ صَدا ... تُريد قتلي عَمْدَا
لمَا رأتني فَردا ... أبكي وألقَى جَهْدَا
قالت وأبدتْ دُرًّا ... وَيَلُم سَعْد سَعْدَا

تقطيعه
مستفعلن، مفعولن يجوز في المُنسرح من الزحاف. الخبن والطي والخبل. فالخبن فيه حسن. والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح.
ويدخله من العلل: الوقف والكسف. وقد فسرناهما في السريع.
والمنهوك: ما ذهب شطره، ثم ذهب منه شطر بعد الشطر.
شطر الخفيف
الخفيف له ثلاثة أعاريض وخمسة ضروب.
فالعروض الأول منه تام، له ضربان: ضرب يجوز فيه التشعيث، وضرب محذوف يجوز فيه الخبن.
والعروض الثاني جائز فيه الخبن، له ضرب مثله.
والعروض الثالث مجزوء، له ضربان: ضرب مثله مجزوء، وضرب مجزوء مقصور مخبون.
العروض التام الضرب التام الجائز فيه التشعيب
أنتِ دائي وفي يديكِ دوائِي ... يا شفائي من الجَوى وبَلائِي
إنّ قلبي يُحب من لا أُسمِّي ... في عَنَاء أعْظِم به من عَناءِ
كيفَ لا كَيف أنْ ألذّ بعَيش ... مات صَبري به وماتَ عَزائِي
أيها اللائمون ماذا عليكم ... أنْ تَعِيشوا وأنْ أموتَ بدائي
ليس مَن مات فاستراح بمَيْت ... إنّما المَيْت ميّت الأحياء
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن فاعلاتن، متفعلن، مفعولن الضرب المحذوف يجوز فيه الخبن
ذات دَلّ وشاحُها قَلِقُ ... من ضُمور وحِجْلها شَرِق
بَزّت الشمس نورَها وحَباها ... لَحْظَ عينيه شادن خَرِق
ذَهَب خَدّها يَذُوب حَياءً ... وسِوَى ذاك كُله وَرِق
إن أمُت مِيتَة المُحبّين وَجْداً ... وفؤادي من الهَوى حَرِق
فالمَنايا من بين غادٍ وسارٍ ... كلّ حَيٍّ بَرْهنها غَلِق
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن فاعلاتن، متفعلن، فعلن العروض المحذوف الجائز فيه الخبن ضربه مثله
يا غليلا كالنار في كَبدي ... واغتراب الفُؤاد عن جَسدِي
وجُفوناً تَذْري الدموعَ أسىً ... وتَبيع الرُّقاد بالسهد
ليتَ مَن شفّني هواه رأَى ... زَفراتِ الهَوى على كَبدي
غادة نازح محلّتها ... وَكَلَتْني بلَوْعة الكَمَد
ربّ خَرْق من دونها قذفٌ ... ما به غَير الجِنّ من أحد
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن، فعلن فاعلاتن، مستفعلن، فعلن العروض المجزوء والضرب المجزوء
ما لليلَى تبدَّلتْ ... بعدنا وُدَّ غَيْرنا
أرهقتنا ملامةً ... بعد إيضاح عُذْرنا
فسلوْنا عن ذِكرها ... وتسلّت عن ذِكْرنا
لم نَقل إذ تَحرّمت ... واستهلت بَهجْرنا
ليت شِعري ماذا ترى ... أمّ عَمرو في أمرنا
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن، مستفعلن
الضرب المجزوء المقصور المخبون
أشرقت لي بُدور ... في ظَلام تُنيرُ
طار قلبي بحُبّها ... مَن لقَلبِ يَطير
يا بُدوراً أنا بها الد ... هر عانٍ أسير
إنْ رضيتُم بأن أمُو ... ت فمَوتي حَقير
كُل خطب إن لم تَكو ... نوا غَضبتم يسير
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن فاعلاتن، فعولن يجوز في الخفيف من الزحاف: الخبن والكف والشكل. فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح.
ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفعلن و فاعلاتن لا يسقطان معاً، وقد يثبتان. وذلك أن وتد مستفع لن في الخفيف والمجتث كله مفروق في وسط الجزء. وقد بينا التعاقب في المديد.
ويدخله من العلل: التشعيث والحذف والقصر. وقد بينا المحذوف والمقصور.
وأما التشعيث، فهو دخول القطع في الوتد من فاعلاتن التي من الضرب الأول من الخفيف فيعود مفعولن.

شطر المضارع
المُضارع له عروض واحد مجزوء ممنوع من القبض، وضرب مجزوء ممنوع من القبض مثل عروضه، وهو:
أرى للصّبا وداعَا ... وما يذكر اجتماعَا
كأن لم يكن جديراً ... بِحفْظ الذي أَضاعا
ولم يُصبنا سُرورا ... ولم يلهنا سماعا
فجدّد وصالَ صَبّ ... متى تَعْصه أطاعا
إن تَدْن منه شِبْرا ... يقرِّبْك منه باعا
تقطيعه مفاعلين، فاعلاتن مفاعلين، فاعلاتن يجوز في حشو المضارع من الزحاف: القبض والكف في مفاعيلن، ولا يجتمعان فيه لعلّة التراقب: ولا يخلو من واحد منهما. وقد فسرنا التراقب مع التعاقب. وبدخله في فاعلاتن الكف. فأما القبض فُهو ممنوع منه وتد فاع لاتن في المضارع، لأنه مفروق وهو فاع. والنراقب في المضارع بين السببين من مفاعيلن في الياء والنون لا يثبتان معاً ولا يسقطان معاً، وهو في المقتضب بين الفاء والواو من مفعولات.
شطر المقتضب
المقتضب له عروض واحد مجزوء مطوي وضرب مثل عروضه، وهو:
يا مليحةَ الدَّعَج ... هل لديك من فرج
أم تُراك قاتلتِي ... بالدَّلال والغنَج
من لُحسن وَجهك من ... سُوء فِعْلك السمج
عاذليّ حَسْبكما ... قد غرقت في لُجج
هل عليّ وَيحُكما ... إن لهوتُ من حَرج
تقطيعه فاعلاتن، مفتعلن فاعلاتن، مفتعلن يدخل التراقب في أول البيت في السببين المتقابلين. على حسب ما ذكرناه في المضارع.
شطر المجتث
له عروض واحد مجزوء ضربه مثله
وشادن ذي دَلال ... مُعصب بالجمال
يَضَنّ أَنْ يَحتويهَ ... معي ظلامُ اللَّيالي
أو يَلتقي في منامي ... خياله مع خيالي
غُصنٌ نَما فوق دِعْص ... يَختال كل اختيال
البَطن منها خَمِيص ... والوَجه مثل الهلال
تقطيعه مستفع لن، فاعلاتن مستفع لن، فاعلاتن يجوز في المجتث: الزحاف والخبن والكف والشكل. فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح.
ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفع لن وفاعلاتن على حسب ما يدخل الخفيف، وذلك لأن وتد مستفع لن في المجتث مفروق، كما هو في الخفيف مفروق، وذلك يقع.
شطر المتقارب
المتقارب له عروضان وخمسة أضرب. فالعروض الأول منها تام يجوز فيه الحذف والقصر. له أربعة ضروب: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقصور، وضرب محذوف معتمد، وضرب أبتر. والعروض الثاني مجزوء محذوف معتمد، له ضرب مثله معتمد.
العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر الضرب التام
حالَ عن العَهد لما أحالا ... وزال الأحبّة عنه فَزَالاَ
مَحلّ تَحُل عُراها السَّحاب ... وتَحكي الجَنوبُ عليه الشمالا
فيا صاح هذا مَقام المُحبّ ... وَربع الحَبيب فَحُطَّ الرِّحالا
سَل الرَّبع عن ساكنيه فإنّي ... خرست فما أستطيع السُّؤالا
ولاَ تُعْجلّني هَداك المليكُ ... فإنَّ لكُل مَقام مقالا
تقطيعه
فعولن، فعولن، فعولن فعولن، فعولن فعولن، فعولن الضرب المقصور
فُؤادي رَميْتَ وعَقْلي سَبَيْتَ ... ودَمْعي مَرَيتَ ونومي نَفَيتَ
يَصُد اصطباري إذا ما صَدَدت ... ويَنأى عَزائي إذا ما نأيت
عَزمت عليك بمجَرى الوِشاح ... وما تحت ذلك مما كنيت
وتُفّاح خَدٍّ ورُمَّان صَدْر ... ومَجناهما خير شيء جَنَيت
تجدّد وصلاً عفا رسمهُ ... فمثلُك لمّا بدا لي بَنَيتَ
على رَسْم دار قفار وَقَفْتَ ... ومِن ذكر عهد الحَبيب بَكَيْت
تقطيعه
فعولن، فعولن، فعولن، فعولن فعولن، فعولن، فعولن، فعولن الضرب المحذوف المعتمد
أيا ويح نَفسي ووَيل أمها ... لِمَا لَقِيَتْ من جَوَى هَمِّها
فديتُ التي قتلتْ مُهجتي ... ولم تَتَّق الله في دَمِّها

أَغُضّ الجُفونَ إذا ما بَدَتْ ... وأكني إذا قيل لي سمِّها
أُداري العيون وأَخشى الرقيب ... وأَرْصُد غَفْلة قيّمّها
سبتْني بِجيد وَخَدِّ ونحر ... غَداةَ رَمَتْني بأسهمها

تقطيعه
فعولن، فعولن، فعولن، فعل فعولن، فعولن، فعولن، فعل الضرب الأبتر
لاَ تبك لَيْلَى ولا مَيّه ... ولا تَندُبَنْ راكباً نِيّه
وبَكِّ الصّبا إذ طَوى ثَوْبه ... فلا أَحدٌ ناشِرٌ طيّه
ولا القَلب ناس لما قد مَضى ... ولا تاركٌ أبداً غَيّه
ودَع قول باكٍ على أرْسم ... فَليس الرُّسوم بمَبكيّه
خَلِيلي عُوجاً على رَسم دارٍ ... خَلَت من سُليمى ومن مَيّه
تقطيعه
فعولن، فعولن، فعولن، فعولن فعولن، فعولن، فعولن، فع العروض المجزوء المحذوف المعتمد ضربه مثله
أأُحرمْ منْك الرّضا ... وتذكر ما قد مَضى
وتَعرض عن هائم ... أبَى عنكَ أن يُعرضا
قَضىَ الله بالحُبّ لي ... فصبراً على ما قَضىِ
رميتَ فؤادي فمَا ... تركتَ بهِ مَنْهضاً
فقَوْسك شرِيانَة ... ونَبْلك جمر الغَضا
تقطيعه
فعولن، فعولن، فعل فعولن، فعولن، فعل يجوز في المتقارب من الزحاف: القبض. وهو فيه حسن. ويدخله الحزم في الابتداء، على حاسب ما يدخل الطويل.
وقد أكملنا في هذا الجزء مختصر المثال في ثلاث وستّين مُقطعة، وهي عدد ضرُوب العروض، والتزمنا فيها ذكر الزّحاف والعلل التي يقوم ذكرها في الجزء الأول الذي اختصرنا فيه فرش العروض، ليكون هذا الكتاب مكتفياً بنفسه، لمَن قد تأدّى إليه معرفةُ الأسباب والأوتاد ومواضعها من الأجزاء الثمانية التي ذكرناها في مختصر الفرش.
واحتجنا بعد هذا إلى اختلاف الأبيات التي استشهد بها الخليل في كتابه، لتكون حجة لمَن نظر في كتابنا هذا. فاجتلبنا جملة الأبيات السالمة والمعتلة، وما لكل شطر منها.
أبيات الطويل
العروض المقبوض
الضرب السالم
أبا مُنذر أفْنيت فاستَبْق بعضَنا ... حنانَيْك بعضُ الشرّ أهونُ من بَعض
ضرب مقبوض
ستُبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد
أثلم مكفوف
شاقَتْك أحداج سلَيمَى بعاقلٍ ... فعيناكَ للبَيْن يَجُودان بالدمع
أثرم
هاجك رَبْع دارِسٌ باللَوى ... لأسماء عفَى المُزنُ والقَطْرُ
محذوف معتمد
وما كُل ذي لُب بمُؤتيك نُصحَه ... وما كُل مؤتٍ نُصحه بلَبيب
أَقيموا بني النُّعمان عنا صُدورَكم ... وإلا تُقيموا صاغرين الرءوسا
أبيات المديد
عروض مجزوء
ضرب مجزوء
يا لبكر انشرُوا لي كُليباً ... يا لبكر أين أين الفِرارُ
ضرب مجزوء
مخبون صدر
ومتى مايَع منك كلاماً ... يتكلَم فيجبك بعَقْل
مكفوف عجز
لن يزال قومنا مخصبين ... صالحين ما اتَقَوا واستقامُوا
مشكول عجز
لمن الدّيارُ غَيّرهنّ ... كلّ جَوْنِ المُزْن داني الرَّبابِ
مشكول طرفاه
ليت شعري هل لنا ذاتَ يومٍ ... بجُنون فارع من تَلاق
العروض المحذوف اللازم الثاني
الضرب المقصور، اللازم الثاني
لا يضرن امرأً عيشُه ... كُل عيش صائر للزوال
الضرب المحذوف، وواللازم الثاني
واعلموا أني لكم حافظٌ ... شاهداً ما كنتُ أو غائبا
الضرب الأبتر، اللازم الثاني
إنما الذلفاء ياقوتة ... أُخرجت من كِيس دِهقان
العروض المحذوف المخبون
الضرب المحذوف المخبون
للفتى عقل يَعيش به ... حيث تَهدي ساقه قدمُه
الضرب الأبتر
ربَّ نارٍ بتُّ أَرمقها ... تَقضم الهنديَّ والغارا
أبيات البسيط
العروض المخبون
الضرب المخبون

يا حارِ لا أُرمَينْ منكم بداهيةٍ ... لم يَلْقها سوقةٌ قبلي ولا مَلِك
مخبون
لقد حلّت صُروفَها عَجب ... فأحدَثتْ عِبراً وأَعقبت دُوَلا
مطوي
ارتحلُوا غُدوةً وانطلقوا بكَراً ... في زُمَرٍ منهم تتبعها زُمَرُ

الضرب المقطوع
اللازم الثاني
قد أشهد الغارةَ الشَّعواء تَحملني ... جَرداء مَعْروقة اللحْيين سُرحوبُ
والخير والشرّ مَقْرونان في قَرن ... فالخيرُ مُتَّبع والشرُ مَحْذورُ
العروض المجزوء
الضرب المذال
إنّا ذَمَمْنا على مَا خَيّلت ... سَعْد بن زَيدٍ وعمراً من تميم
مخبون
قد جاءكم أنكم يوماً إذا ... فارقتم الموتَ سوف تُبعثون
مطوي
يا صاح قد أخلفَتْ أسماءُ مَا ... كانت تمنِّيك من حُسن الوِصال
الضرب المحذوف
ماذا وُقوفي على ربع خلا ... مُخْلولقٍ دارس معجم
مخبون
إنِّي لمُثْنٍ، عليها استمعوا ... فيها خصال تُعدُّ أربعُ
مطويِ
تَلقى الهَوى عن بني صادق ... نفسي فِداهُ وأُمَي وأبي
الضرب المقطوع الممنوع من الطي
سِيروا معاً إنما ميعادُكم ... يومُ الثلاثاء ببطن الوادِي
قلت استجيبي فلمّا لم تُجب ... سالت دُموعي على ردائي
العروض المقطوع الممنوع من الطي
ِ
ما هَيَّج الشوقَ من أطلال ... أضحت قفاراً كوَحْي الواحِي
أبيات الوافر
العروض المقطوف
الضرب المقطوف
لنا غَنم نُسوِّقها غزار ... كأن قرون جلّتها العِصيّ
إذا لم تستطع شيئاً فدَعْه ... وجاوزْه إلى ما تَستطيعُ
معقول
منازل لفَرتنى قِفارُ ... كأنما رسومُها شُطورُ
أعصب
إذا نَزل الشتاء بدارِ قومٍ ... تجنَّب جارَ بيتهم الشِّتاءُ
أقصم
ما قالوا لنا سيِّداً ولكن ... تفاحش قولُهم فأتوا بهُجْرِ
وإنك خير مَن رَكب المَطايا ... وأكرمُهم أباً وأخاً وَنْفسَاً
العروض المجزوء الممنوع من العقل
ضربه مثله
لقد علمت ربيعة أن ... حَبلك واهن خَلَقُ
أهاجك منزلٌ أَقوَى ... وغَيْر آيه الغِيَرُ
الضرب المعصوب
عجبتُ لمعشر عدلوا ... بمُعتمر أبا عَمْرِو
أبيات الكامل
العروض التام الضرب التام
وإذا صحوتُ فما أقصر عن ندى ... وكما علمتِ شمائلي وتكرّمِي
المضمر
إنّي امرؤٌ من خير عَبس مَنصبي ... شَطْري وأَحمي سائِري بالمنصل
موقوص
يَذُب عن حَرِيمه بنَبله ... وسَيفه ورُمحه ويحْتمِي
مخزول
مَنزلة صمًّ صداها وعفا ... رسمها إن سُئِلت لم تُجِبِ
الضرب المقطوع
ممنوع إلا من الإضمار
وإذا دعونَك عَمهن فإنه ... نسب يَزيدك عندهنّ خَبالا
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تَجد ... ذُخراً يكون كصالح الأعمالِ
الضرب الأحذ المضمر
لمَن الديارُ برامَتين فعاقلٌ ... دَرست وغَيَّر آيها القَطْرُ
العروض الأحذ السالم
الضرب الأحذ المضمر
لمَن الديار عفا معالمها ... هَطْل أجشُّ وبارح تَربُ
الضرب الأحذ المضمر
ولأنت أشجعُ من أُسامة إذ ... دُعيت نَزال ولُجّ في الذعر
العروض المجزوء
الضرب المرفل
لقد سبقتم إل ... ى فَلِمْ نَزَعْتَ وأنت آخِر
المضمر
وغرتني وزعمت إن ... ك لابنٌ في الصَّيف تامر
موقوص
ذَهبُوا إلى أَجلٍ وك ... ل مؤجل حيّ كذاهب
الضرب المذال
جَدَث يكون مقامه ... أبداً بمُختلف الرّياح
مضمر
إذا اغتبطت أو ابتأسْ ... تُ حمدت ربّ العالمين
موقوص
كُتب الشقاءُ عليهما ... فهما له مُتيسرّ إن
مخزول
جاوبت إذ دعاك ... معالنا غير مخاف
الضرب المجزوء

وإذا افتقرت فلا تكُن ... متخشّعاً وتَجمَّلِ
مضمر
إذا الهوى كَرِه الهُدى ... وأَبَى التُقى فاعص الهَوى
موقوص
ولو أنها وزنت شمام ... بحِلْمه شالتْ لَه
مخزول
خطت مرارتها ... بحلاوةٍ كالعَسل
الضرب المقطوع الممنوع إلا من إضمار
وإذا هم ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحَسناتِ
مضمر
وأبو الحليس ورب مك ... ة فارغ مشغول

أبيات الهزج
العروض المجزوء الممنوع من القبض
ضربه مثله
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي
مكفوف
فهذان يَذودان ... وذا من كثب يرمي
مقبوض
فقالت لا تخف شيّاً ... فما عندك من باس
أثرم
أعادُوا ما استعاروه ... كذاك العيش عاريه
أخرب
ولو كان أبو بشر ... أميراً ما رَضِيناه
أبتر
وفي الذين ماتُوا ... وفيما جَمّعوا عِبْره
الضرب المحذوف
وما ظهري لباغي الض ... يم بالظَّهر الذّلول
مثله
قتلنا سيّد الخَزر ... ج سَعد بن عُباده
أبيات الرجز العروض التام
الضرب التام
دار لسلمى إذ سليمى جارةٌ ... قَفْر تَرى آياتها مثل الزُّبر
مخبون
وطالما وطالما سَقَى ... بكفِّ خالِدٍ وأطْعما
مطوى
فأرسل المهر على آثارهم ... وَهيّأ الرُّمحَ لطعنٍ فطَعَنْ
مخبول
ما ولدتْ والدة من وَلدٍ ... أكرمَ من عَبد مناف حَسبَا
الضرب المقطوع الممنوع من الطي
القلب منها مُستريح سالمٌ ... والقلبُ مني جاهد مجهودُ
لا خَير فيمن كفَّ عنا شرّه ... إذ كان لا يُرجى ليوم خَيرُه
العروض المجزوء الضرب المجزوء
قد هاج قلبي منزل ... من أم عمروا مقفر
مخبول
مات الفَعَال كُلّه ... إذ مات عبد ربه
مطوى
هل يَستوي عندك مَن ... تَهوى ومَن لا تِمقُه
مخبول
لا متك بنت مَطر ... ما أنت وابنة مَطَر
العروض المشطور الضرب المشطور
ما هاج أحزاناً ... وشَجواً قد شجا
إنك لا تَجني من الشوك العِنب مخبون
قد تعلمون أنن ... ي ابنُ أختكم
مطوى
ما كان من ش ... يخك إلا عمله
مخبول
هلا سألت ... طللا وخِيمَاً
مطوى العروض المنهوك
يا ليتني فيها جَذع ... أخب فيها وأضع
مخبون
فارقت غي ... ر وامق
مخبول
يا صاح ... فيما غضبوا
أبيات الرمل
العروض المحذوف والجائز فيه الخبن
الضرب المتمم
مثل سَحق البُرد عَفَّى بعدك ال ... قطر مَغْناه وتأويبُ الشَّمال
مخبون صدر
وإذا رايةُ مجد رُفعت ... نَهض الصَّلتُ إليها فحَواها
مكفوف عجز
ليس كُلّ مَنْ أراد حاجةً ... ثم جَدّ في طِلابها قَضاها
مشكول عجز
فَدعُوا أبا سعيد عامراً ... وعليكمْ أخاهُ فاضرْبوه
مشكول طرفان
إنَ سعداً بطل مُمارسٌ ... صابر محتسب لما أصابه
الضرب المقصور
يا بَني الصَّيداء رُدوا فَرسي ... إنما يُفعل هذا بالذَّليل
أحمدتْ كِسْرى وأمسىَ قيصر ... مُغلَقاً من دونه بابُ الحديد
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن
قالت الخَنساءُ لمّا جِئتُها ... شابَ بعدي رأسُ هذا واشتهبْ
مخبون
كيف تَرجونَ سُقوطي بعدما ... لَفع الرأسَ مَشيبٌ وصَلَع
الضرب المشبع
يا خليليّ أَربعا فاست ... خبرا رَسْماً بعسفانِ
مخبون
واضحات فارسيَّا ... ت وأدم عربيّات
الضرب المجزوء
مُقْفرات دارسات ... مثل آيت الزَّبور
الضرِب المشبع
لانَ حتى لو مشى الذَ ... رّ عليه كادَ يُدْمِيهِ
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16