كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

قال خلف بن خليفة: أدعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القسري، وعارض القرآن. فأتى به خالد، فقال له: ما تقول؟ قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى: " إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر " فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل ساحر وكافر. فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب على خشبة. فمر به خلف بن خليفة الشاعر، وقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، وأنا ضامن عنك ألا تعود.
قال: وإني لقاعد في مجلس عبد الله بن خازم وهو على الجسر ببغداد، فإذا جماعة قد أحاطت برجل ادعى النبوة، فقدم إلى عبد الله فقال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: وإلى من بعثت؟ قال: وما عليك؟ بعثت إلى الشيطان فضحك عبد الله بن خازم وقال: دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم.
وقال ثمامة بن أشرس: كنت في الحبس فأدخل علينا رجل ذو هيئة وبزة ومنظر، فقلت له: من أنت؟ جعلت فداك، وما ذنبك؟ وفي يدي كأس دعوت بها لأشربها. قال: جاء بي هؤلاء السفهاء لأني جئت بالحق من عند ربي، أنا نبي مرسل. قلت: جعلت فداك، معك دليل؟ قال: نعم، معي أكبر الأدلة، ادفعوا إلي امرأة أحبلها لكم، فتأتي بمولود يشهد بصدقي. قال ثمامة: فناولته الكأس وقلت له: اشرب صلى الله عليك.
محمد بن عتاب قال: رأيت بالرقة أيام الرشيد جماعة أحاطت برجل فأشرفت عليه، فإذا رجل له جهارة وبنية، قلت: ما قصة هذا؟ قالوا: ادعى النبوة. قلت: كذبتم عليه. مثل هذا لا يدعي الباطل. فرفع رأسه إلي فقال: وما علمك أنهم قالوا علي الباطل؟ قلت له: وأنت نبي؟ قال: نعم. قلت له: ما دليلك؟ قال: دليلي أنك ولد زنا. قلت: نبي يقذف المحصنات؟ قال: بهذا بعثت. قلت: أنا كافر بما بعثت به. قال: ومن كفر فعليه كفره. فإذا حصاة عائرة جاءت حتى صكت صلعته، قال: ما رماها إلا ابن الزانية؛ ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: ما أردتم بي خيراً حيث طرحتموني في أيدي هؤلاء الجهال.
ادعى رجل النبوة في أيام المأمون، فقال ليحيى بن أكثم: امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا المتنبئ وإلى دعواه. فركبنا متنكرين، ومعنا خادم حتى صرنا إليه، وكان مستتراً بمذهبه. فخرج آذنه وقال: من أنتما؟ فقلنا: رجلان يريدان أن يسلما على يديه. فأذن لهما ودخلا. فجلس المأمون عن يمينه ويحيى عن يساره. فالتفت إليه المأمون فقال له: إلى من بعثت؟ قال: إلى الناس كافة. قال: فيوحى إليك، أم ترى في المنام، أم ينفث في قلبك، أم تناجى، أم تكلم؟ قال: بل أناجي وأكلمك. قال: ومن يأتيك بذلك؟ قال: جبريل. قال: متى كان عندك؟ قال: قبل أن تأتيني بساعة. قال: فما أوحى إليك؟ قال: أوحى إلي أنه سيدخل علي رجلان فيجلس أحدهما على يميني والآخر عن يساري، فالذي عن يساري ألوط خلق الله. قال المأمون: أشهد أن لا إله إلا الله. وأنك رسول الله، وخرجا يتضاحكان.
تنبأ رجل بالكوفة وأحل الخمر ولقي ابن عياش، وكان مغرماً بالشراب، فقال له: أشعرت أنه بعث نبي يحل الخمر؟ قال: إذاً لا يقبل منه حتى يبرئ الأكمه والأبرص. وأتي به عامل الكوفة فاستتابه. فأبى أن يتوب ويرجع. فأتته أمه تبكي، فقال لها: تنحي، ربط الله على قلبك كما ربط على قلب أم موسى. وأتاه أبوه يطلب إليه أن يرجع. فقال له: تنح يا آزر، فأمر به العامل فقتل وصلب.
وذكر بعض الكوفيين قال: بينا أنا جالس بالكوفة في منزلي إذ جاءني صديق لي، فقال لي: إنه ظهر بالكوفة رجل يدعي النبوة، فقم بنا إليه نكلمه، ونعرف ما عنده. فقمت معه: فصرنا إلى باب داره، فقرعنا الباب، وسألنا الدخول عليه. فأخذ علينا العهود والمواثيق إذا دخلنا عليه وكلمناه وسألناه إن كان على حق اتبعناه، وإن كان على غير ذلك كتمنا عليه، ولم نؤذه. فدخلنا فإذا شيخ خراساني أخبث من رأيت على وجه الأرض، وإذا هو أصلع، فقال صاحبي وكان أعور: دعني حتى أسائله. قلت: دونك. قال: جعلت فداك، ما أنت؟ قال: نبي. قلت: ما دليلك؟ قال: أنت أعور عينك اليمنى، فاقلع عينك اليسرى حتى تصير أعمى، ثم أدعو الله فيرد عليك بصرك، فقلت لصاحبي: أنصفك الرجل، قال: فاقلع أنت عينيك جميعاً، وخرجنا نضحك.

وأتى المأمون بإنسان متنبئ فقال له: ألك علامة؟ قال: نعم، علامتي أني أعلم ما في نفسك. قال: قربت علي ما في نفسي؟ قال له: في نفسك أني كذاب. قال: صدقت، وأمر به إلى الحبس. فأقام به أياماً، ثم أخرجه. فقال: أوحى إليك بشيء؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس. فضحك المأمون وأطلقه.
وتنبأ إنسان وسمى نفسه نوحاً صاحب الفلك، وذكر أنه سيكون طوفان على يديه إلا من اتبعه، ومعه صاحب له قد آمن به وصدقه، فأتى به الوالي، فاستتابه فلم يتب، فأمر به فصلب، واستتاب صاحبه فتاب. فناداه من الخشبة: يا فلان. أتسلمني الآن في مثل هذه الحالة؟ فقال: يا نوح، قد علمت أنه لا يصحبك من السفينة إلا الصاري.
قال: وحمل إلى المأمون من أذربيجان رجل قد تنبأ، فقال: يا ثمامة ناظره. فقال: ما أكثر الأنبياء في دولتك يا أمير المؤمنين. ثم التفت إلى المتنبئ، فقال له: ما شاهدك على النبوة؟ قال: تحضر لي ثمامة امرأتك أنكحها بين يديك فتلد غلاماً ينطق في المهد ويخبرك أني نبي فقال ثمامة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال المأمون: ما أسرع ما آمنت به؟ قال: وأنت يا أمير المؤمنين ما أهون عليك أن تتناول امرأتي على فراشك فضحك المأمون وأطلقه.

أخبار الممرورين والمجانين
قال أبو الحسن: كان بالبصرة ممرور يقال له عليان بن أبي مالك، وكانت العلماء تستنطقه لتسمع جوابه وكلامه، وكان راويةً للشعر بصيراً بجيده، فذكر عن عبد الله بن إدريس صاحب الحديث قال: أخرجه الصبيان مرة حتى هجم علينا في الدار، فقال لي الخادم: هذا عليان قد هجم علينا، والصبيان في طلبه. فقلت: ادفع الباب في وجوه الصبيان، وأخرج إليه طعاماً وطبقاً عليه رطب مشان وملبقات وأرغفة. فلما وضعه بين يديه حمد الله وأثنى عليه، وقال: هذا من رحمة الله، وأشار إلى الطعام، كما أن أولئك من عذاب الله، وأشار إلى الصبيان. ثم جعل يأكل والصبيان يرجون الباب، وهو يقول: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " . قال ابن إدريس: فلما انقضى طعامه قلت له: يا عليان، ما لك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: إني كالمسن أشحذ ولا أقطع. وكان بصيراً بالشعر. فقلت: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي لا يحجب عن القلب. قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل قول جميل:
ألا أيها النوام ويحكم هبو ... أسائلكم هل يقتل الرجل الحب
قال: فأنشد النصف الأول بصوت ضعيف وأنشد النصف الآخر بصوت رفيع. ثم قال: ألا ترى النصف الأول كيف استأذن على القلب فلم يأذن له، والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له؟ قلت: وماذا؟ قال: مثل قول الشاعر:
ندمت على ما كان مني فقدتني ... كما ندم المغبون حين يبيع
ثم قال أتستطيب قوله " فقدتني " بالله يا بن إدريس؟ قلت: بلى. فضرب بيده على فخذي وقال: قم، شيب الله قرنك. وابن إدريس يومئذ ابن ثمانين سنة.
وحكى عنه عبد الله بن إدريس قال: مررت به في مربعة كندة وهو جالس على رماد وبيده قطعة من جص، وهو يخط بها في الرماد، فقلت له: ما تصنع هاهنا يا بن أبي مالك؟ قال: ما كان يصنع صاحبنا. قلت: ومن صاحبك؟ قال: مجنون بني عامر. قلت: وما كان يصنع؟ قال: أما سمعته يقول:
عشية ما لي حيلةٌ غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الدار مولع

قلت: ما سمعته. فرفع رأسه إلي متضاحكاً، فقال: أما يقول الله عز وجل " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً " فأنت سمعته أو رأيته؟ هذا كلام من كلام العرب لا علم لك به. قلت: يا بن أبي مالك، متى تقوم القيامة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم سائل، غير أنه من مات فقد قامت قيامته. قلت له: فالمصلوب يعذب عذاب القبر؟ قال: إن حقت عليه كلمة العذاب يعذب، وما يدريك لعل جسده في عذاب من عذاب الله لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا، فإن الله لطفاً لا يدرك. قلت: ما تقول في النبيذ، حلال أم حرام؟ قال: حلال. قلت: أتشربه؟ قال إن شربته فقد شربه وكيع، وهو قدوة، قلت: أتقتري بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي في تحريمه، وأنا أسن منه؟ قال: إن قول وكيع ما اتفاق أهل البلد عليه أحب إلي من قولك مع اختلاف أهل البلدة عليك. قلت: فما تقول في الغناء؟ قال: قد غنى البراء بن عازب، وعبد الله بن رواحة، وسمع الغناء عبد الله بن عمر، وكان عبد الله بن جعفر. قلت له: أيشٍ كان عبد الله بن جعفر؟ إنما سألتني عن الغناء ولم تسألني عن ضرب العيدان.
وكان بالبصرة مجنون يأوي إلى دكان خياط، وفي يده قصبة قد جعل في رأسها أكرة ولف عليها خرقة، لئلا يؤذي بها الناس، فكان إذا أحرده الصبيان التفت إلى الخياط وقال له: قد حمي الوطيس، وطاب اللقاء، فما ترى؟ فيقول: شأنك بهم، فيشد عليهم، ويقول:
أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها؟
فإذا أدرك منهم صبياً رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له عورته، فيتركه وينصرف ويقول: عورة المؤمن حمى، ولولا ذلك لتلفت نفس عمرو بن العاص يوم صفين. ثم يقول وينادي:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني ... خشاش كرأس الحية المتوقد
ثم يرجع إلى دكان الخياط، ويلقي العصا من يده ويقول:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
وكان بالبصرة رجل من التجار يكنى أبا سعيد، وكانت له جارية تدعى خيزران، وكان بها كلفا، فمر يوماً بعليان، وقد أحاط به الناس، فقالوا له: هذا أبو سعيد صاحب خيزران، فناداه: أبا سعيد. قال: نعم. قال: أتحب خيزران؟ قال: نعم قال: وتحبك؟ قال: نعم. فأنشأ يقول:
نبئتها عشقت حشاً فقلت لهم ... ما يعشق الحش إلا كل كناس
فضحك الناس من أبي سعيد ومضى.
ومر ابن أبي الزرقاء صاحب شرطة ابن أبي هبيرة بصباح الموسوس فقال له: يا بن أبي الزرقاء، أسمنت برذونك وأهزلت دينك، أما والله إن أمامك عقبة لا يجاوزها إلا المخف. فوقف ابن أبي الزرقاء. فقيل له: هو صباح الموسوس، قال: ما هذا بموسوس.
وقال إبراهيم الشيباني: مررت ببهلول المجنون وهو يأكل خبيصا، فقلت: أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته إلي لآكله لها. وكان بهلول هذا يتشيع. فقيل له: اشتم فاطمة وأعطيك درهما. فقال: بل أشتم عائشة وأعطني نصف درهم.
وقال ابن عبد الملك: يعرف حمق الرجل في أربع: لحيته، وشناعة كنيته، وإفراط شهوته، ونقش خاتمه. فدخل عليه شيخ طويل العثنون فقال: أما هذا فقد أتاكم بواحدة، فانظروا أين هو من الثلاث. فقيل له: ما كنيتك؟ قال: أبو الياقوت. قيل: فنقش خاتمك؟ قال: " وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد " . قيل: أي الطعام تشتهي؟ قال: خلنجبين.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً ينادي: يا أبا العمرين، فقال: لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما.
وقيل لداود المصاب في مصيبة نزلت به: لا تتهم الله في قضائه. قال: أقول لك شيئاً على الأمانة؟ قال: قل. قال: والله ما بي غيره.
ودخل أبو عتاب على عمرو بن هداب وقد كف بصره والناس يعزونه فقال له: أبا زيد، لا يسوءك فقدهما فإنك لو دريت بثوابهما تمنيت أن الله قطع يديك ورجليك ودق عنقك. ودخل على قوم يعود مريضاً لهم فبدأ يعزيهم. قالوا: إنه لم يمت. فخرج وهو يقول: يموت إن شاء الله، يموت إن شاء الله.
ووقع بين أبي عتاب وبين ابنه كلام، قال: لولا أنك أبي وأنك أسن مني لعرفت.
أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع قال: كان الغاضري من أحمق الناس، فقيل له: ما رأيت من حمقه؟ فسكت. فلما أكثر عليه قال: قال لي مرة: البحر من حفره؟ وأين ترابه الذي خرج منه؟ وهل يقدر الأمير أن يحفر مثله في ثلاثة أيام؟

ودخل رجل من النوكى على الشعبي وهو جالس مع امرأته، فقال: أيكما الشعبي؟ فقال: هذه. فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل شتمني أول يوم من رمضان، هل يؤجر؟ قال: إن كان قال لك: يا أحمق، فإني أرجو له.
وسأل رجل آخر الشعبي فقال: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في الصلاة في أنفه فخرج عليها دم، أترى له أن يحتجم؟ قال الشعبي: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.
وقال له آخر: كيف كانت تسمى امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاح ما شهدناه.
العتبي قال: سمعت أبا عبد الرحمن بشراً يقول: كان في زمن المهدي رجل صوفي، وكان عاقلاً عالماً ورعاً، فتحمق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الإثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة. فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلاً وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية. فقد عدلت وقمت بالقسط وخلفت محمداً عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع، ونزعت فيه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة، اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام. فقال: جزاك الله خيراً أبا حفص عن الإسلام، قد فتحت الفتوح، ووسعت الفيء، وسلكت سبيل الصالحين، وعدلت في الرعية وقسمت بالسوية، اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه. فيقول له: خلطت في تلك الست السنين، ولكن الله تعالى يقول: " خلطوا عملاً صالحاً آخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم " . وعسى من الله موجبة. ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين. ثم يقول: هاتوا علي بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه. فيقول: جزاك الله عن الأمة خيراً أبا الحسن، فأنت الوصي وولي النبي، بسطت العدل، وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفيء، فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر وأنت أبو الذرية المباركة، وزوج الزكية الطاهرة، اذهبوا به إلى أعلى عليين من الفردوس، ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبي. فقال له: أنت القاتل عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة، وأنت الذي جعل الخلافة ملكاً، واستأثر بالفيء، وحكم بالهوى، واستنصر بالظلمة، وأنت أول من غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقض أحكامه، وقام بالبغي. اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة، ثم قال: هاتوا يزيد. فأجلس بين يديه غلام. فقال له: يا قواد، أنت الذي قتلت أهل الحرة، وأبحث المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمثلت بشعر الجاهلية:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلت حسينا، وحملت بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا على حقائب الإبل، اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار. ولا يزال يذكر والياً بعد وال حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز فقال: هاتوا عمر. فأتى بغلام، فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله يا عمر خيراً عن الإسلام، فقد أحييت العدل بعد موته، وألنت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق، بعد شقاق ونفاق. اذهبوا به فألحقوه بالصديقين. ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس، فسكت فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: بلغ أمرنا إلى بني هاشم، ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعاً.
ومن مجانين الكوفة: عيناوة وطاق البصل. قيل لعيناوة: من أحسن، أنت أو طاق البصل؟ قال: أنا شيء وطاق البصل شيء. وكان طاق البصل يغني بقيراط ويسكت بدانق. وكان عيناوة جيد القفا، فربما مر به من يعبث فيصفعه، فحشا قفاه خراء، وقعد على قارعة. فإذا صفعه أحد قال: شم يدك يا فتى، فلم يصفعه أحد بعد ذلك.
ووعد رجل رجلاً من الحمقى أن يهدي له نعلاً حضرمية، فطال عليه انتظارها، فبال في قارورة وأتى الطبيب وقال: انظر في هذا الماء إن كان يهدي إلي بعض إخواني نعلاً حضرمية.

وكان بالكوفة امرأة حمقاء يقال لها مجيبة، فقفد عيناوة فتىً كانت أرضعته مجيبة، فقال له لما وجده: كيف لا تكون أرعن ومجيبة أرضعتك؟ فوالله لقد زقت لي فرخاً فما زلت أرى الرعونة في طيرانه.
ومن المجانين هبنقة القيسي، وجرنفش السدوسي، واسم هنبقة يزيد بن ثروان، وكنيته أبو نافع، وكان يحسن من إبله إلى السمان ويسيء إلى المهازيل. فسئل عن ذلك فقال: أما أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله! وشرد بعير له فجعل بعيرين لمن دل عليه، فقيل له: أتجعل بعيرين في بعير؟ قال: إنكم لا تعرفون فرحة من وجد ضالته.
وافترس الذئب له شاة، فقال لرجل: خلصها من الذئب وخذها، فإن فعلت فأنت والذئب واحد.
وسام رجل هبنقة بشاة، فقال: اشتريتها بستة، وهي خير من سبعة، وأعطيت فيها ثمانية وإن أردتها بتسعة وإلا فزن عشرة.
وكان باقل الذي يضرب به المثل في العي اشترى شاة بأحد عشر درهما، فسئل: بكم اشتريت الشاة؟ ففتح يديه جميعاً وأشار بأصابعه وأخرج لسانه، ليتم العدد أحد عشر.
ولما قرب الفرزدق رأس بغلته من الماء قال له الجرنفش: نح رأس بغلتك حلق الله شأفتك. قال: لماذا عافاك الله؟ قال له: لأنك كذوب الحجرة، زاني الكمرة فصاح الفرزدق. يا بني سدوس، فاجتمعوا إليه. فقال: سودوا الجرنفش عليكم، فما رأيت فيكم أعقل منه.
قال الأصمعي: سوبق بين الجرنفش وهنبقة أيهما أجن وأحمق. فجاء جرنفش بحجارة خفاف من جص، وجاء هنبقة بحجارة ثقال وترس، فبدأ الجرنفش، فقبض على حجر، ثم قال: دري عقاب، بلبن وأشخاب. ثم رفع صوته وقال: الترس فرمى الترس فأصابه، فانهزم هنبقة، فقيل له: لم انهزمت؟ فقال إنه قال: الترس. فرمى الترس فلم يخطئه، فلو أنه قال العين ورماها، أما كان يصيب عيني.
وتبع داود بن المعتمرة امرأة ظنها من الفواسد، فقال لها: لولا ما رأيت عليك من سيما الخير ما تبعتك، فضحكت المرأة وقالت: إنما يعتصم مثلي من مثلك بسيما الخير، فأما إذ صارت سيما الخير من سيما الشر فالله المستعان.
ووقع داود هذا بجارية فلما أمعن في الفعل قال لها: أثيب أم بكر؟ فقالت له: سل المجرب.
قالت أم غزوان الرقاشي لابنها، وهو يقرأ في المصحف: يا غزوان، لعلك تجد في هذا المصحف حماراً كان أبوك في الجاهلية فقده. فقال: يا أماه. بل أجد فيه وعداً حسناً ووعيداً شديداً.
ونظر رجل من النوكى إلى شيخ في الحمام وعليه سرة كأنها مدهن عاج. فقال له: يا شيخ، دعني أجعل ذكري في سرتك. فقال له: يا بن أخي، وأين يكون آستك حينئذ؟

مجانين القصاص
قال أبو دحية القاص: ليس في خير ولا فيكم. فتبلغوا بي حتى تجدوا خيراً مني.
وقال في قصصه يوماً: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف هملاج. قالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
وقال ثمامة بن أشرس: سمعت قاصاً ببغداد يقول: اللهم ارزقني الشهادة أنا وجميع المسلمين. ووقع الذباب على وجهه فقال: ما لكم كثر الله بكم القبور.
قال: ورأيت قاصاً يحدث الناس بقتل حمزة فقال: ولما بقرت هند عن كبد حمزة استخرجتها فعضتها ولاكتها ولم تزدردها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو ازدردتها ما مسها النار. ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال: اللهم أطعمنا من كبد حمزة.
باب نوكى الأشراف
من النوكى المتقدمين: مالك بن زيد مناة بن تميم، دخل على امرأته ناجية مغضباً، فلما رأت ما به من الجهل والجفاء قالت له: ضع شملتك. قال: جسدي أحفظ لها. قالت: اخلع نعليك. قال: رجلاي أحق بهما. فلما رأت ذلك قامت وجلست إليه. فلما شم رائحة الطيب وثب عليها.
ومن النوكى عجل بن لجيم. قال أبو عبيدة: أرسل ابن لعجل بن لجيم فرساً في حلبة فجاء سابقاً، فقال لأبيه: كيف ترى أن أسميه يا أبت؟ قال: افقأ إحدى عينيه وسمه الأعور. قال الشاعر:
رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وأي عباد الله أنوك من عجل
أليس أبوهم عار عين جواده ... فأضحت به الأمثال تضرب في الجهل
ومن بني عجل دغة التي يضرب به المثل في الحمق. وقد ذكرنا نسبها وخبرها في كتاب الأمثال.

ومن نوكى الأشراف: عبيد الله بن مروان، عم الوليد بن عبد الملك. بعث إلى الوليد قطيفة حمراء، وكتب إليه: إني قد بعثت إليك قطيفة حمراء حمراء، فكتب إليه قد وصلت القطيفة، وأنت والله يا عم أحمق أحمق.
ومنهم معاوية بن مروان وقف على باب طحان، فرأى حماراً يدور بالرحا في عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت الجلجل في عنق الحمار؟ قال: ربما أدركتني سآمة أو نعاس، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه واقف فصحت به، فانبعث. قال: أفرأيت إن وقف وحرك رأسه بالجلجل وقال هكذا وهكذا - وحرك رأسه - فقال له: ومن لي بحمار يكون عقله مثل عقل الأمير؟ وهو القائل، وضاع له بازي: اغلقوا أبواب المدينة حتى لا يخرج البازي.
وأقبل إليه قوم من جيرانه فقالوا: مات جارك أبو فلان، فمر له بكفن. فقال: ما عندنا اليوم شيء ولكن عودوا إلينا إذا نبش.
وأقبل إليه رجل أحمق منه، فقال له: تعيرنا أصلحك الله ثوباً نكفن فيه ميتاً؟ قال: أخشى أنه ينجسه فلا تلبسه إياه حتى يغسل ويطهر.
ومن النوكى الأشراف: عيينة بن حصن، دخل على عثمان بغير إذن، وكانت عنده ابنته، فقال له عثمان: ألا استأذنت؟ قال: ما ظننت أن هنا من أحتاج أن أستأذن عليه. قال: ادن فتعش. فقال: أنا صائم. قال: تصوم الليل وتفطر النهار. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه السفيه المطاع.
ومن حمقى قريش: أبان بن عثمان بن عفان. قال الشعبي: قدم أبان على معاوية. فقال: يا أمير المؤمنين، زوجني ابنتك. قال: يا بن أخي هما اثنتان. إحداهما عند ابن عامر والأخرى عند أخيك عمرو. قال: كنت أظن أن لك ثالثة. قال: يا بن أخي، تخطب إلي ولا تدري لي بنت أم لا، رحم الله أباك.
ومر معاوية بن مروان بحقل له فلم ير فيها ما يعجبه، فقال: ما كذب من قال: كل حقل لا ترى آست صاحبها لا تفلح أبداً. ثم نزل عن دابته وأحدث فيها ثم ركب. وهو الذي يقول لأبي امرأته: ملأتني البارحة ابنتك دماً. قال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن، فلو كنت خصياً ما زوجناك، وعلى الذي غرنا بك لعنة الله.
وكان أبو العاج والياً بواسط فأتاه صاحب شرطته بقوادة، فقال: ما هذه؟ قال: قوادة. قال: وما تصنع؟ قال: تجمع بين الرجال والنساء قال: إنما جئتني بها لتعرفها بداري، خل عنها لعنك الله ولعنها.
وكان الربيع العامري والياً باليمامة، فأتي بكلب قد عقر كلباً فأفاده فقال فيه الشاعر:
شهدت بأن الله حقاً لقاؤه ... وأن الربيع العامري رقيع
أقاد لنا كلباً بكلب فلم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع
وقال عوانة: أستعمل معاوية رجلاً من كلب، فذكر يوماً المجوس وعنده النار.
فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم، والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي.
وكان بالبصرة ثلاثة إخوة من بني عتاب بن أسيد، كان أحدهم يحج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن يحج. وكان الآخر يضحي عن أبي بكر وعمر، ويقول: أخطأ السنة في ترك الأضحية، وكان الثالث يفطر أيام التشريق عن عائشة، ويقول: غلطت رحمها الله في صومها أيام التشريق.
ولعب رجل من النوكى بين يدي الرشيد بالشطرنج. فلما رآه وقد استجاد لعبه قال له: يا أمير المؤمنين، ولني نهر بوق. فقال له: ويلك أوليك نصفه. اكتبوا عهده علي بوق. قال: فولني أرمينية. قال: إذا يبطئ على أمير المؤمنين خبرك.

أهل العي والجهل المشبهون بالمجانين
خطب وكيع بن أبي سود وهو والي خراسان فقال في خطبته: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر. فقالوا له: بل في ستة أيام. فقال: والله لقد قلتها وأنا أستقلها.
وخطب علي بن زياد الإيادي فقال في خطبته: أقول لكم ما قال العبد الصالح لقومه: " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " . فقالوا له: إن هذا ليس من قول العبد الصالح إنما هو من قول فرعون. فقال: من قاله فقد أحسن.
وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي فقال: أقول لكم كما قال الله في كتابه:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
وخطب والٍ باليمامة فقال في خطبته: إن الله تبارك وتعالى لا يعاون عباده على المعاصي. وقد أهلك أمة عظيمة على ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم، فسمي مقوم الناقة.

وبكى حول ابن سنان أولاده وأهله حين ودعوه وهو يريد مكة حاجاً، فقال: لا تبكوا فإني أرجو أن أضحي عندكم.
ودخل قوم دار كردم السدوسي فقالوا له: أين القبلة في دارك هذه؟ فقال: إنما سكناها منذ ستة أشهر.
ودخل كردم السدوسي على رجل فدعاه إلى الغذاء فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت؟ قال: قليل أرز فأكثرت منه.
وقيل لأبي عبد الملك عناق: بأي شيء تزعمون أن أبا علي الأسواري أفضل من سلام بن سليمان أبي المنذر؟ قال: لأنه لما مات سلام بن سليمان أبو المنذر مشى أبو علي في جنازته، فلما مات أبو علي لم يمش سلام في جنازته.
ومرض كردم فقال له عمه: أي شيء تشتهي؟ فقال: رأس كبشين قال: لا يكون. قال: فرأسي كبش قال: لا يكون. فقال: لست أشتهي شيئاً.
وقال مسعدة بن طارق الذراع: إن لوقوف على حدود دار نقسمها إذ أقبل عيص، سيد بني تميم والمصلي على جنائزهم. ونحن في خصومة لنصلح بينهم، فقال: خبروني عن هذه الدار، هل ضم بعضها إلى بعض أحد، فأنا منذ ستين سنة أفكر في كلامه فما أدرك له معنى ولا مجازاً.
وأقبل كردم الذراع إلى قوم ليكسر لهم دوراً، فوجد داراً منها فيه زنقة. فقال: ليست هذه الدار لكم فقالوا: بلى والله ما نازعنا أحد قط فيها. قال: فليست الزنقة لكم. قالوا: فكسر ما صح عندك أنه لنا ودع الزنقة. فكسر صحن الدار. فقال: عشرون في عشرين مائتان. قالوا: من هذا المعنى لم تكن الزنقة عندك لنا؛ إذ عشرون في عشرين مائتان.
وسئل آخر كان ينظر في الفرائض عن فريضة لم يعرفها، فالتمسها في كتابه فلم يجدها. فقال: لم يمت هذا الرجل بعد، ولو مات لوجدت فريضته في كتابي.
وعزى قوماً فقال: آجركم الله وأعظم أجوركم وأجركم. فقيل له في ذلك، فقال؛ مثل قول مروان بن الحكم: بارك الله فيكم وبارك لكم وبارك عليكم.
وكان أبو إدريس السمان يكتب: فلا أصحبك الله إلا بالعافية، ولا حيا وجهك إلا بالكرامة.
العتبي قال: بعث رجل وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه ما عليه، فرجع إليه مضروباً فقال: ما لك ويلك؟ قال: سبك فسببته فضربني. قال: وبأي شيء سبني؟ قال: هن الحمار في حر أم الذي أرسلك. قال له: دعني من افترائه علي. أخبرني أنت كيف جعلت لأير الحمار من الحرمة ما لم تجعل لحر أمي؟ هلا قلت: أير الحمار في هن أم من أرسلك؟ وقال أبو نواس: قلت لأحد الوراقين الذين يكتبون بباب البطوني: أيما أسن أنت أم أخوك؟ قال: إذا جاء رمضان استوينا.
قال ثمامة بن أشرس للمأمون: مررت في غب مطر والأرض ندية والسماء مغيمة والريح شمال، وإذا بشخص أصفر كأنه جرادة، وقد قعد على قارعة الطريق، وحجام يحجمه على كاهله وأخدعيه بمحاجم كأنها قعاب، وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه، فقلت: يا شيخ، لم تحتجم في هذا البرد؟ قال: لهذا الصفار الذي بي.
وقيل لأبي عتاب: كيف برك بأمك؟ قال: والله ما قرعتها بسوط قط.

النوكى من نساء الأشراف
دغة العجلية، وجهيزة، وشولة، ودراعة، وسارية الليل، وريطة بنت كعب، وهي التي نقضت غزلها أنكاثاً. وفيها يقال في المثل: " خرقاء وجدت صوفة " .
وقال عمرو بن عثمان: شيعت القاضي عبد العزيز بن المطلب المخزومي قاضي مكة إلى منزله وبباب المسجد حمقاء تصفق بيديها وتقول: أرق عيني ضراط القاضي.
فقال لي: يا أبا حفص، أتراها تعني قاضي مكة؟ وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله، كما قالوا: رب رمية من غير رام.
قيل لدغة: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يفيق، والغائب حتى يرجع.
ومن أخبار أهل العي المشبهين بالمجانين: دخل أبو طالب صاحب الطعام على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد ليشتري طعاماً من طعامهم، فقال لها: قد رأيت متاعك وقلبته. قالت له: هلا قلبت طعامك يا أبا طالب؟ قال: وقد أدخلت يدي فيه فوجدته قد حمي وصار مثل الجيفة. قالت: يا أبا طالب، ألست قد قلبت الشعير، فأعطنا به ما شئت وإن كان فاسداً.
قال الأصمعي: كان بين رجلين من النوكى عبد فقام أحدهما يضربه، فقال له شريكه: ما تصنع؟ قال: أنا أضرب نصيبي منه. قال: وأنا أضرب حصتي فيه، وقام فضربه. فكان من رأي العبد أن سلح عليهما، وقال: اقتسما هذه على قدر الحصص.

ومر بعضهم بامرأة قاعدة على قبر وهي تبكي، فقال لها: ما هذا الميت منك؟ قالت: زوجي. قال: وما كان عمله؟ قالت: كان يحفر القبور، قال: أبعده الله، أما علم أنه من حفر حفرة وقع فيها.
وطلب رجل من النوكى من ثمامة بن أشرس أن يسلفه مالاً ويؤخره به. فقال: هاتان حاجتان وأنا أقضي لك إحداهما. قال: رضيت. قال: أنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك.
وكان أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل أبي رافع من فضلاء أهل المدينة وخيارهم، مع بله فيهم وعي شديد - فمن ذلك أن امرأة أبي رافع رأته في نومها بعد موته، فقال لها: أتعرفين فلاناً الصيرفي؟ قالت له: نعم. قال: فإن لي عليه مائتي دينار. فلما انتبهت من نومها غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر وسألته عن المائتي دينار. فقال: رحم الله أبا رافع، والله ما جرت بيني وبينه معاملة قط. فأقبلت إلى مسجد المدينة، فوجدت مشايخ من آل أبي رافع كلهم مقبول القول، جائز الشهادة، فقصت عليهم الرؤيا، وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادعاه أبو رافع. قالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة، قومي بصاحبك إلى السلطان ونحن نشهد لك عليه. فلما رأى الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤديها، قال لهم: إن رأيتم أن تصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا. قالوا: نعم والصلح خير، ونعم الصلح الشطر، فأد إليها مائة دينار من المائتين. فقال لهم: أفعل، ولكن اكتبوا بيني وبينها كتاباً يكون وثيقة لي. قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة؟ قال: تكتبون لي عليها أنها قبضت مني مائة دينار صلحاً على المائتي دينار التي ادعاها أبو رافع علي في نومها، وأنها قد أبرأتني منها وشرطت على نفسها ألا ترى أبا رافع في نومها مرة أخرى، فيدعي علي بغير هذه المائتين، فتجيء بفلان وفلان يشهدان علي لها. فلما سمعوا الوثيقة فطن القوم لأنفسهم، وقالوا: قبحك الله وقبح ما جئت به.
ومنهم عامر بن عبد الله بن الزبير، أتي بعطائه وهو في المسجد، فقام ونسيه في موضعه، فلما صار إلى بيته ذكره، فقال: يا غلام، ائتني بعطائي الذي نسيت في المسجد. قال: وأين يوجد، وقد دخل المسجد بعدك جماعة؟ قال: وبقي أحد يأخذ ما ليس له؟ وسرقت نعله مرة فلم يلبس نعلاً بعدها حتى مات، وقال: أكره أن أتخذ نعلاً فيجيء من يسرقها فيأثم. وفي هذا الضرب يقول أبو أيوب السختياني: في أصحابي من أرجو بركته ودعاءه، ولا أقبل شهادته.
قال الأصمعي: كان الشعبي يحدث أنه كان في بني إسرائيل عابد جاهل قد ترهب في صومعته، وله حمار يرعى حول الصومعة، فاطلع عليه من الصومعة فرآه يرعى فرفع يديه إلى السماء، فقال: يا رب، لو كان لك حمار كنت أرعيه مع حماري، وما كان يشق علي. فهم به نبي كان فيهم في ذلك الزمان، فأوحى الله إليه دعه، فإنا أثيب كل إنسان على قدر عقله.
هشام بن حسان قال: أقبل رجل إلى محمد بن سيرين فقال: ما تقول في رؤيا رأيتها؟ قال: وما رأيت؟ قال: كنت أرى أن لي غنماً، فكنت أعطى بها ثمانية دراهم، فأبيت من البيع، ففتحت عيني فلم أر شيئاً، فأغلقتهما ومددت يدي، وقلت: هاتوا أربعة، فلم أعط شيئاً. فقال له ابن سيرين: لعل القوم اطلعوا على عيب في الغنم فكرهوها. قال: يمكن الذي ذكرت.

شعراء المجانين
منهم أبو ياسين الحاسب، وجعيفران، وجرتفش، وأبو حية النميري، وريسيموس، وصالح بن شيرزاذ الكاتب.
وكان أبو حية أجن الناس وأشعر الناس، وهو القائل:
ألا حي أطلال الرسوم البواليا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلةٌ ... تقاضاه أمر لا يمل التقاضيا
وهو القائل أيضاً:
فلأبعثن مع الرياح قصيدةً ... مني مغلغلةً إلى القعقاع
ترد المناهل لا تزال غريبةً ... في القوم بين تمتعٍ وسماع
وهو القائل أيضاً:
فأبدت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كفٍ ومعصم
وأما جعيفران الموسوس الشاعر، وهو من مجانين الكوفة، فإنه لقي رجلاً فأعطاه درهماً وقال له: قل شعراً على الجيم. فقال:
عادني الهم فاعتلج ... كل هم إلى فرج
سل عنك الهموم بال ... كاس والراح تنفرج
وهو القائل:

ما جعفرٌ لأبيه ... ولا له بشبيه
أضحى لقوم كثير ... فكلهم يدعيه
هذا يقول بنيي ... وذا يخاصم فيه
والأم تضحك منهم ... لعلمها بأبيه
قال أبو الحسن: استأذن جعيفران على بعض الملوك فأذن له، وحضر غداؤه، فتغدى معه، فلما كان من الغد استأذن فحجبه، ثم أتاه في الثالثة فحجبه. فنادى بأعلى صوته:
عليك إذنٌ فإنا قد تغدينا ... لسنا نعود وإن عدنا تعدينا
يا أكلة ذهبت أبقت حرارتها ... داءً بقلبك ما صمنا وصلينا
العتبي قال: قال أبو وائل لأبي: إن في حماقةً، ولكن إن طلبت الشعر وجدت عندي منه علما. قال: وهل تقول منه شيئاً؟ قال: نعم، أقول أجود من قولك، وأنا الذي أقول:
لو أن جومل كلمتني بعدما ... نسيت نوائحي البكاء وأقبر
لحسبت ميت أعظمي سيجيبها ... أو أن باليها الرميم سينشر
قال له أبي: أما الشعر فحسن إلا أن اسم المرأة قبيح. قال: ألا إن اسم المرأة جمل، ولكنني ملحته بجومل. فقال له: إن هذا من الحماقة التي برئ إلينا منها.
قال العتبي: قال أبي: وأنشدني أبو وائل:
ما أوجع البين من غريب ... فكيف إن كان من حبيب
يكاد من شوقه فؤادي ... إذا تذكرته يموت
فقال له أبي: إن هذا باء وهذا تاء. قال: لا تنقط أنت شيئاً. قلت: يا هذا، إن البيت الأول مخفوض وهذا مرفوع. قال: أنا أقول لا تنقط وهو يشكل.
ولما توفيت أم سليمان بن وهب الكاتب، أخي الحسن بن وهب، دخل عليه رجل من نوكى الكتاب يسمى صالح بن شيرزاذ، بشعر يرثيها فيه، فأنشده:
لأم سليمان علينا مصيبةٌ ... مغلغلة مثل الحسام البواتر
وكنت سراج البيت يا أم سالم ... فأمسى سراج البيت وسط المقابر
فقال سليمان: ما نزل بأحد من خلق الله ما نزل بي، ماتت أمي ورثيت بمثل هذا الشعر، ونقل اسمي من سليمان إلى سالم.
ومن قول صالح بن شيرزاذ هذا:
لا تعدلن دواء بالفساء فإن ... كان الضراط فذاك الآذريطوس
ودخل بعض شعراء المجانين على أبي الواسع، وحوله بنوه، فاستأذنه في الذنه في الإنشاد فاستعفى. فلم يزل به حتى أذن له. فأنشده شعراً، فلما انتهى فيه إلى قوله:
وكيف تنفى وأنت اليوم رأسهم ... وحولك الغر من أبنائك الصيد
قال له: ليتك، تركتنا رأساً برأس. وقيل: وفد أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر تغزل فيه بمائة بيت ومدحه ببيتين، فقال له: والله ما تركت قافيةً لطيفة ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك. قال: سأقول غير هذا. فغدا عليه بشعر يقول فيه:
هل تعرف الدار لأم الغمر ... دع وحبر مدحةٌ في نصر
فقال له نصر: لا ذا ولا ذاك.
وقال بعض العلماء: ما شبهت تأويل الرافضة في قبح مذهبهم إلا بتأويل رجل من المجانين مجانين أهل مكة في الشعر، فإنه قال: ما سمعت بأكذب من بني تميم، زعموا أن قول القائل:
بيتٌ زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
فزعموا أن هذه أسماء رجال منهم. قال بعض أهل الأدب: قلت له: وما عندك أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، والزرارة الحجر زررت حول البيت، ومجاشع زمزم تجشعت بالماء، وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة. قلت له: فنهشل؟ قال: نهشل؟ وفكر فيه ساعة، ثم قال: قد أصبته، هو مصباح الكعبة طويل أسود فذاك النهشل.
قال المبرد محمد بن يزيد النحوي: خرجنا من بغداد نريد واسطا، فملنا إلى دير هزقل ننظر في المجانين، فإذا بالمجانين كلهم قد رأونا، ونظرنا إلى فتى منهم قد غسل ثوبه ونظفه، وجلس ناحية عنهم، فقلنا: إن كان فهذا، فوقفنا به، فسلمنا عليه فلم يرد السلام، فقلنا له: ما تجد؟ فقال:
الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبث ما أجد
نفسان لي نفس تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر وليس يفوقها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد

فقلت له: أحسنت والله. فأوما بيده إلى شيء ليرمينا به. وقال: أمثلي يقال له أحسنت. قال: فولينا عنه هاربين. فقال: أسألكم بالله إلا ما رجعتم حتى أنشدكم، فإن أحسنت قلتم لي: أحسنت، وإن أسأت قلتم لي: أسأت. قال: فرجعنا ووقفنا وقلنا له: قل، فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحلوها وسارت بالدجى الإبل
وقلبت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إلي ودمع العين ينهمل
وودعت ببنان عقده عنم ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ما ذا حل بي وبها ... من نازل البين حل البين وارتحلوا
يا راحل العيس عرج كي نودعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم ... يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا
قال: فقلنا له: ماتوا. فصاح وقال: وأنا والله أموت، وتربع وتمدد، فمات فما برحنا حتى دفناه.
وقال محمد بن يزيد المبرد: دخلنا دير هزقل، فإذا بمجنون بيده حجر، وقد تفرق الناس عنه وهو يقول: يا معشر إخواني اسمعوا مني. ثم أنشأ يقول:
وذي نفس صاعد ... يئن بلا عائد
يكر على جحفل ... ويضعف عن واحد
وأنشد أبو العباس لماني الموسوس:
له وجنات في بياض وحمرة ... فحافاتها بيض وأوساطها حمر
رقاق يجول الماء فيها كأنها ... زجاج أجيلت في جوانبها الخمر
وقال محمد بن يزيد: أصابتنا سحابة جود، ثم أقلعت سريعاً، فمر بي ماني الموسوس فقال:
لا تظن الذي جرى ... مطراً كان ممطراً
إنما ذاك كله ... دمع عيني تحدرا
وتوالت غيومها ... من همومي تفكرا
هكذا حال من يرى ... من حبيب تغيرا
وقف ماني الموسوس على أبي دلف فأنشده:
كرات عينك في العدا ... تغنيك عن سل السيوف
وقال أبو دلف: والله ما مدحت قط بمثل هذا البيت، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبضها وقال: نقنع من هذا بنصف درهم في هريسة.
ولماني الموسوس:
من الظباء ظباء همها السحب ... ترعى القلوب وفي قلبي لها عشب
أفدى الظباء اللواتي لا قرون لها ... وحليها الدر والياقوت والذهب
يا حسن ما سرقت عيني وما انتهب ... والعين تسرق أحياناً وتنتهب
فتلك من حسن عينيها وهبت لها ... قلبي لو قبلت مني الذي أهب
وما أريدهما إلا لرؤيتهما ... فإن تأبت فما لي فيهما أرب
إذا يدٌ سرقت فالحد يقطعها ... والحد في سرق العينين لا يجب
ومر علي بن الجهم بمبرسم، قد اجتمع الناس عليه، وتحلقوا حوله، فلما رآه المبرسم قصد نحوه، وأخذ بعنانه، ثم أنشأ يقول:
لا تحفلن بمعشر ال ... همج الذين أراهم
فوحق من أبلى بهم ... نفسي ومن عافاهم
لو قيس موتاهم بهم ... كانوا هم موتاهم
ثم نظر حوله فرأى غلاماً جميل الهيئة حسن الوجه، فشق ثيابه وقال:
هذا السعيد لديهم ... قد صار بي أشقاهم
قال أبو البختري الشاعر: كان يبلغني أن ببغداد مجنوناً يكنى أبا فحمة، له بديهة حسنة، فتعرضت له، فأتيح لي لقاؤه في بعض سكك بغداد، فقلت له: كيف أصبحت أبا فحمة؟ فأشنأ يقول:
أصبحت منك على شفا جرفٍ ... متعرضاً لموارد التلف
وأراك نحوي غير ملتفت ... متحرفاً عن غير منحرف
يا من أطال بهجره كلفي ... أسفي عليك أشد من كلفي
قال أبو البختري: فأخرجت له قبضة نرجس كانت في كمي، فحييته بها، فجعل يشمها ملياً، ثم أنشأ يقول:
لما تزوجت الجنوب بهاطل ... جون هتون زبرج دلاح
أضحى يلقحها بوسمي الصبا ... فاستثقلت حملاً بغير نكاح
حتى إذا حان المخاض تفجرت ... فأتت بولدان بلا أرواح
حاك الربيع لها ثياباً وشيت ... بيد الندى وأنامل الأرواح
من أصفر في أزهر قد زانه ... تبر على ورق من الأوضاح

ركبن في عمد الزبرجد فاغتدى ... نحو الغزالة ناظراً بملاح
قال الحسن بن هانئ: لقيت ماني الموسوس، فأنشدني:
شعر حي أتاك من لفظ ميت ... صار بين الحياة والموت وقفاً
قد برت جسمه الحوادث حتى ... كاد عن أعين البرية يخفى
لو تأملتني لتبصر شخصي ... لم تبين من المحاسن حرفا
ثم مضيت، فأتيت جعيفران الموسوس، وهو شيخ من بني هاشم أرت اللسان، وعليه قيد من فضة، وفي عنقه غل من ذهب، فقال لي: من أين دببت يا حسن؟ قلت: من بيت مانويه. فقال: في حر أم مانويه! فدعا بدواة وقرطاس، وقال لي اكتب:
ما غرد الديك ليلاً في دجنته ... إلا حثثت إليك السير مجهودا
ولا هدت كل عين لذ راقدها ... بنومة في لذيذ العيش ممهودا
إلا امتطيت الدجى شوقاً إليك ولو ... أصبحت في حلق الأقياد مصفودا
أسعى مخاطرةً بالنفس يا أملي ... والليل مدرع أثوابه السودا
فلم ترق ولم ترث لمكتئب ... زودته حرقات القلب تزويدا
هيهات لا غدر في جن ولا بشر ... إلا يخال معداً فيك موجودا
ثم قال: خرق رقعة مانويه. فخرقتها ثم مضيت، فلقيت عدرد المصاب، وحوله الصبيان، وهو يلطم وجهه ويبكي، وينادي: أيها الناس، الفراق مر المذاق. فقلت له: أبا محمد، من أين أقبلت؟ قال: شيعت الحاج. قلت: وما الذي حملك على تشييعهم؟ فقال: لي فيهم سكن. قلت: فهل قلت فيهم شيئاً؟ قال: نعم، وأنشدني:
هم رحلوا يوم الخميس غديةً ... فودعتهم لما استقلوا وودعوا
فلما تولوا ولت النفس معهم ... فقلت ارجعي قالت إلى أين أرجع
إلى جسد ما فيه لحم ولا دم ... وما هو إلا أعظمٌ تتقعقع
وعينان قد أعماهما الحزن والبكا ... وأذن عصت عذالها ليس تسمع
أبو بكر الوراق قال: حدثني صديق لي، قال: رأيت رجلاً من أهل الأدب قد ذهب عقله بالمحبة، وخلفه دابة له تدور معه، فاستوقفته وقلت له: يا فلان، ما حالك وأين النعمة؟ قال: تغير قلبي فتغيرت النعمة. قلت: بم تغير؟ قال: بالحب، ثم بكى وأنشأ يقول:
أرى التحمل شيئاً لست أحسنه ... وكيف أخفي الهوى والدمع يعلنه
أم كيف صبر محب قلبه دنف ... الهجر ينحله والشوق يحزنه؟
وإنه حين لا وصلٌ يساعفه ... يهوى السلو ولكن ليس يمكنه
وكيف ينسى الهوى من أنت همته ... وفترة اللحظ من عينيك تفتنه
فقلت: أحسنت والله. فقال: قف قليلاً، فوالله لأطرحن في أذنيك أثقل من الرصاص، وأخف على الفؤاد من ريش الحواصل، وأنشد:
للحب نارٌ على قلبي مضرمة ... لم تبلغ النار منها عشر معشار
الماء ينبع منها من محاجرها ... يا للرجال لماء فاض من نار
ثم وقف وأنشد:
أعاد الصدود فأحيا الغليلا ... وأبدى الجفاء فصبراً جميلا
ورد الكتاب ولم يقره ... لئلا أرد إليه الرسولا
وأحسب نفسي على ما ترى ... ستلقى من الهم هجراً طويلا
وأحسب قلبي على ما أرى ... سيذهب مني قليلاً قليلا
ثم ترك يدي ومضى.
وحكى أبو العباس المبرد قال: دخل عمرو بن مسعدة على المأمون، وبين يديه جام زجاج فيه سكر طبرزذ وملح جريش. قال: فسلمت. فرد، وعرض علي الأكل. فقلت: ما أريد شيئاً، هنأك الله يا أمير المؤمنين، فلقد باكرت بالغداء، فإني بت جائعاً. ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول:
أعرض طعامك وابذله لمن دخلا ... واحلف على من أبى واشكر لمن أكلا
فلا تكن سابري العرض محتشما ... من القليل فلست الدهر محتفلا
ودعا برطل، ودخل رجل من أجلة الفقهاء، فمد يده إليه، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئاً فلا تسقنيها شيخاً. فرد يده إلى عمرو بن مسعدة، فأخذها منه، وقال: كنت يا أمير المؤمنين، الله الله، إني عاهدت الله في الكعبة إلا أشربها أبداً. ففكر طويلاً، والكأس في يد عمرو بن مسعدة، حتى لقد ظن أنه سيأمر فيها. ثم قال:

ردا علي الكأس إنكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي
لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت ... إلا بدمعكما من الوجد
خوفتماني الله ربكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي
محمد بن يزيد الأسدي قال: حدثني حبيب بن أوس قال: كنت في غرفة لي على شاطئ دجلة في وقت السحر أيام الخريف، فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال، قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في الدجلة يسبح فيها، وقد احمر جلده من برد الماء، وإذا ماني الموسوس يرمقه ببصره، فلما خرج من الماء قال:
خمش الماء جلده الرطب حتى ... خلته لابساً غلالة خمر
قلت له: لعنك الله يا ماني، أبعد الجهاد والغزو تخمش غلاماً قد بات مؤاجرا في الحمامات؟ فقال لي: مثلك يخاطب يا أحمق، وإنا يخاطب هذا، وأشار إلى السماء، وقال:
يكفيك تقليب القلوب وإنني ... لفي ترح مما ألاقي فما ذنبي
خلقت وجوهاً كالمصابيح فتنة ... وقلت اهجروها عز ذلك من خطب
فإما أبحت الصب ما قد خلقته ... وإما زجرت القلب عن لوعة الحب
أخذ هذا المعنى يزيد بن عثمان فقال:
أيا رب تخلق ما تخلق ... وتنهى عبادك أن يعشقوا
إذا هكذا صغت حسن الوجوه ... فأي البرية لا يفسق
خلقت الملاح لنا فتنة ... وقلت اعبدوا ربكم واتقوا
وقال أبو بكر الموسوس في نصراني:
أبصرت شخصك في نومي تعانقني ... كما تعانق لام الكاتب الألفا
يا من إذا درس لإنجيل ظل له ... قلب الحنيف عن القرآن منصرفا
وله فيه:
زناره في خصره معقود ... كأنه من كبدي مقدود

أخبار البخلاء
أجمع الناس على بخل أهل مرو ثم أهل خراسان.
قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج، ويثير الحب إليها، ويلطف بها، إلا في مرو، فإني رأيته يأكل وحده، فعلمت أن لؤمهم في المآكل. ورأيت فيمرو طفلاً صغيراً في يده بيضة، فقلت له: أعطني هذه البيضة، فقال: ليس تسع يدك. فعلمت أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب، والجبلة المفطورة.
واشتكى رجل مروزي ضرراً من سعال، فدلوه على سويق اللوز، فاستثقل النفقة، ورأى الصبر على الوجع أخف عليه، فلم يزل يماطل الأيام ويدافع الألم حتى أتيح له بعض الموفقين، فدله على ماء النخالة، وقال له: إنه يجلو الصدر. فأمر بالنخالة، فطبخت له وشرب ماءها، فجلا صدره. ووجده بعضهم، فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء، وقال لأم عياله: اطبخي لأهل بيتنا النخالة، فإني وجدت ماءها يعصم ويجلي الصدر. فقالت له زوجته: قد جمع الله في هذا الدواء دواء وغذاء.
وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل ليلاً من أهل خراسان، فإذا هو قد أتى بمسرجة فيها فتيل دقيق، وقد ألقى في دهن المسرجة شيئاً من ملح، وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة، فإذا عشي المصباح أخرج به رأس الفتيل، فقلت: ما بال هذا العود مربوطاً؟ فقال: هذا عود قد شرب الدهن، فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان، فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة. قال: فبينا أنا أتعجب واسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو، ونظر إلى العود، فقال: أبا فلان، فررت من شيء ووقعت فيما هو شر منه، أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء، أو ليس كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج وأروى، وهو عند إسراجك الليلة أعطش؟ قد كنت أنا جاهلاً مثلك زماناً، حتى وفقني الله إلى ما هو أرشد، اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة، أو مسلة صغيرة، فإن الحديد أبقى، وهو مع ذلك غير نشاف، والعود والقصبة ربما تعلقت بهما الشعرة من قطن الفتيلة فتشخص لها، وربما كان ذلك سبباً لإطفائها. قال الخراساني: ألا وإنك تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين.

قال الأصمعي: قال لي أبو محمد الخزامي، واسمه عبد الله بن كاسب، ونحن في العسكر، إن الشيب سهك، وبياض الشعر الأسود هو موته كما أن سواده حياته، ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض؟ والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامة، والطيب غال ممتنع الجانب، فلست أرى شيئاً هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل، فإن ريحه طيبة والشعر سريع القبول، وأقل ما يصنع أن ينفي سهك الشيب حتى تكون حاله لا لنا ولا علينا.
وكان ثمامة بن أشرس يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، واعلموا أن أعدى عدو له المملوح، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشرها، فإن الباقلاء، تقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته.
ومن البخلاء هشام بن عبد الملك. قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام. فأطرفته وحدثته. فقال: سل حاجتك، فقلت: يا أمير المؤمنين، تزيد في عطائي عشرة دنانير. فأطرق حينا، وقال: فيم؟ ولم؟ وبم؟ ألعبادة أحدثتها؟ أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين؟ ألا لا يا بن صفوان، ولو كان لكثر السؤال، ولم يحتمله بيت المال، فقلت: وفقك الله يا أمير المؤمنين وسددك. فأنت والله كما قال أخو خزاعة:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة قربى أو صديق توافقه
منعت وبعض المنع حزم وقوةٌ ... ولم يفتلتك المال إلا حقائقه
قيل لخالد بن صفوان: ما حملك على تزيين البخل له؟ قلت: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من يلومه.
وخرج هشام بن عبد الملك متنزها، ومعه الأبرش الكلبي، فمر براهب في دير، فعدل إليه، فأدخله الراهب بستاناً له، وجعل يجتني له أطيب الفاكهة. فقال له هشام: يا راهب، بعني بستانك. فسكت عنه الراهب. ثم أعاد عليه، فسكت عنه. فقال له: ما لك لا تجيبني؟ فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك. قال: لماذا ويحك؟ قال: لعلك أن تشبع. فالتفت هشام إلى الأبرش، فقال: ما سمعت ما قال هذا؟ قال: والله إن لقيك حر غيره.
ومن البخلاء: عبد الله بن الزبير، وكانت تكفيه أكلة لأيام، ويقول: إنما بطني شبر في شبر، فما عسى أن يكفيه.
وقال فيه أبو وجرة مولى آل الزبير:
لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد ... أبقيت خبزاً كثيراً للمساكين
فإن تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم نبك منك على دنيا ولا دين
ما زلت في سورة الأعراف تدرسها ... حتى فؤادك مثل الخز في اللين
إن امرأ كنت مولاه فضيعني ... يرجو الفلاح لعندي حق مغبون
وابن الزبير هو الذي قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري. فقال فيه الشاعر:
رأيت أبا بكر وربك غالب ... على أمره، يبغي الخلافة بالتمر
وأقبل إليه أعرابي فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام. فقال له: اذهب فقاتل، فإن أغنيت أعطيناك. قال: أراك تجعل روحي نقداً ودراهمك نسيئة.
وأتاه أعرابي يسأله حملا، ويذكر أن ناقته نقبت. فقال: انعلها من النعال السبتية، واخصفها بهلب. قال الأعرابي: إنما أتيتك مستوصلاً ولم آتك مستوصفاً، فلا حملت ناقةٌ حملتني إليك. قال: إن وصاحبها.
ومن رؤساء أهل البخل: محمد بن الجهم، وهو الذي قال: وددت أن عشرة من الفقهاء وعشرة من الشعراء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الأدباء تواطأوا على ذمي، واستهلوا بشتمي حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق، حتى لا يمتد إلي أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء راج.
وقال له أصحابه: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك، فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا؟ قال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام هات الغداء.
وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحداً قط في ماله إلا ليشغله عن الطمع في غيره، ولا شفع في صديق ولا تكلم في حاجة محترم إلا ليلقن المسؤول حجة المنع، ويفتح على السائل باب الحرمان.
ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر. قال أبو عبيدة عن جهم قال: أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة، فقدم إلي تمراً، وأرسل غلامه بفلس وسكرجة يشتري زيتاً. فأتى الغلام بالزيت. فقال له: خنتني وسرقتني. قال: وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس؟ قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت.

ومن البخلاء: زبيدة بن حميد الصيرفي. استلف من بقال على بابه درهمين وقيراطاً، فمطله بها ستة أشهر، ثم قضاه درهمين وثلاث حبات. فاغتاظ البقال وقال: سبحان الله! أنت صاحب مائة ألف دينار، وأنا بقال لا أملك مائة فلس، وإنما أعيش بكدي، واستقضي الحبة على بابك والحبتين، صاح على بابك حمال، ولا يحضر تلك الساعة وكيلك، فأعنتك وأسلفتك درهمين وأربع شعيرات، فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات. فقال زبيدة: يا مجنون، أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء، وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربعة صيفية، لأن هذه ندية وتلك يابسة، وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلاً.
قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف، فقال: لا أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، تغاشى وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن، فقال: ما باله يا سيدي؟ قال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله هاهنا، وكان قال لي: اسقني لبناً. قال صاحب اللبن: هذا هين موجود، ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه بها. فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه، حتى أتى عليها، ثم تجشأ. فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت؟ قال: أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة.
ومن أمثال العرب في البخل قولهم: ما هو إلا أبنة عصا أو عقدة رشا. لأن عقدة الرشا المبلول لا تكاد تنحل.
قيل لبختى المدينة: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يرده. قيل لها: فما الذل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشرف؟ قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال.
والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائباً: " جاء فلان على غبيراء الظهر " و " جاء على حاجبه صوفة " . و " جاء بخفي حنين " .
وقال أبو عطاء السندي، في يزيد بن عمر بن هبيرة:
ثلاث حكتهن لقوم قيسٍ ... طلبت بها الأخوة والثناء
رجعن على حواجبهن صوفٌ ... وعند الله نحتسب الجزاء

طعام البخلاء
قال الأصمعي: كان يقول المروزي لزواره إذا أتوه:هل تغذيتم اليوم؟ فإن قالوا نعم، قال: والله لولا أنكم تغذيتم لأطعمتكم لونا ما أكلتم مثله، ولكن ذهب أول الطعام بشهوتكم وإن قالوا:لا قال: لولا أنكم لم تتغذوا لسقيتكم أقداحاً من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله، فلا يصير في أيديهم منه شيء.
وكان ثمامة بن أشرس إذا دخل عليه أصحابه وقد تعشوا عنده قال لهم: كيف كان مبيتكم ومنامكم؟ فإن قال أحدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون، قال النفس إذا أخذت قوتها اطمأنت. وإذا قال أحدهم إنه لم ينم ليلته قال: إنه من إفراط الكظة والإسراف من البطنة. ثم يقول: كيف كان شربكم للماء؟ فإن قال أحدهم: كثيراً قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير. وإن قالوا قليلا. قال: ما تركت للماء مدخلاً.
وكان إذا أطعم أصحابه استلقى على قفاه، ثم يتلو قوله تعالى: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا " . ودخل عليه رجل،وبين يديه طبق فراريج، فغطى الطبق بذيله، وأدخل رأسه في جيبه، وقال للرجل الداخل: أدخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري.
وشوي لأبي جعفر الهاشمي دجاج، ففقد فخذاً من دجاجة، فأمر فنودي في منزله: من هذا الذي تعاطى فعقر؟ والله لا أخبز في التنور شهراً أو ترد. فقال ابنه الأكبر: يا أبت، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

وقال دعبل الشاعر: كنا يوما عند سهل بن هارون، فأطلنا الحديث، حتى أضر به الجوع، فدعا بغذائه، فإذا بصفحة عدملية فيها مرق لحم ديك قد هرم، لا تحز فيها سكين، ولا تؤثر فيه الضرس، فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصفحة، ففقد الرأس، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس؟ قال: رميت به. قال: لم؟ قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه. قال: ولأي شيء ظننت ذاك؟ فوالله إني لأبغض من يرمي برجله فضلاً عن رأسه، والرأس رئيس الأعضاء، وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، وفيه العين التي يضرب فيها المثل في الصفاء، فيقال: شراب مثل عين الديك. ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه، فإن كان بلغ من جهلك ألا تأكله فعندنا من يأكله، انظر أين هو؟ قال: والله ما أدري أين رميته. قال: لكني والله أدري أنك رميت به في بطنك.
وأهدى رجلٌ من قريش لزياد بن عبيد الله، وهو على المدينة، طعاماً، فثقل عليه ذلك. فقال: اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه، فجمعوا، وكشف عن الطعام، فإذا طعام له بالٌ، فندم على الإرسال للمساكين، وقال للغلام: انطلق إلى هؤلاء المساكين، وقل لهم: إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس، لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان.
وقال: دخلت على يحيى بن عبد الله بن خالد بن أمية، وقوم يأكلون عنده، فمد يده إلى رغيف الخوان فرفعه، وجعل يرطله بيده ويقول: يزعمون أن خبزي صغير، فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه؟ قال: ودخلت عليه يوماً والمائدة موضوعة، والقوم يأكلون، وقد رفع بعضهم يده، فمددت يدي لآكل، فقال أجهز على الجرحى، لا تتعرض للأصحاء يقول: تعرض للدجاجة التي قد نيل منها، والفرخ المنزوع الفخذ، فأما الصحيح فلا تتعرض له. فهذا معناه في الجرحى.
وسأل يحيى بن خالد أبا الحارث جمين عن طعام رجل، فقال: أما مائدته فمقببة، وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل، وبين الرغيف والرغيف فترة نبي. قال: فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكانبون. قال: فمن يأكل معه؟ قال: الذباب. قال له يحيى: وأرى ثوبك مخرقاً فلا يكسوك ثوباً وأنت في صحبته؟ قال: جعلت فداك، والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى الكوفة مملوءاً إبراً وفي كل إبرة منه خيط، وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قد من دبر، ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده لم يفعل.
أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة فقال: يهجوا ابن الأغلب:
لو أن قصرك يا ابن أغلب كله ... إبر يضيق بهن رحب المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرةً ... ليخيط قد قميصه لم تفعل
وقيل لحصين: أتغديت عند فلان؟ قال: لا، ولكني مررت به يتغدى. قيل: فكيف علمت أنه يتغدى؟ قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسي البندق يرمون الذباب به في الهواء.
وقال أبو الحارث جمين: دخلت على فلان،فوضع بين أيدينا مائدة كنا أشوق إلى الطعام إذا رفعت منا إليه إذا وضعت.
وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك، فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. قال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا. وخرج وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وقال آخر:
ولو عليك اتكالي في الغداء إذا ... لكنت أول مقتول من الجوع
يقول عند دعاء الضيف مبتدئاً ... صوت ضعيف وداع غير مسموع
قال المدائني: كان للمغيرة بن أبي عبد الله الثقفي، وهو والي الكوفة، جدي. يوضع على مائدته بعد الطعام، لا يمسه هو ولا أحد ممن يحضر. فحضر مائدته أعرابي، فبسط يده وأسرع في الأكل. فقال: يا أعرابي، إنك لتأكل الجدي بحرد كأن أمه نطحتك. فقال له الأعرابي: أصلحك الله، وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك. ثم بسط الأعرابي يده إلى بيضة بين يديه، فقال: خذها فإنها بيضة العقر. فلم يحضر طعامه بعد ذلك.

ودخل أشعب على والي المدينة، فحضر طعامه، وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر،فبدر إليه أشعب فمزقه،فقال له: يا أشعب، إن أهل السجن ليس لهم إمام يصلي بهم فإن رأيت أن تكون لهم إماماً تصلي بهم، فإن في ذلك أجراً. فقال: والله ما أحب هذا الأجر ولك زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله.
قال عمرو بن ميمون: تغديت يوماً عند الكندي، فدخل عليه رجل كان جاراً وصديقاً لي، فلم يعرض عليه الطعام، ونحن نأكل، فاستحيت أنا منه فقلت: سبحان الله، لو دنوت فأصبت معنا. قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء. قال: فكتف كتافا لو بسط يده إلى أكل بعد لكان كافراً.
قال: ومررت ببعض طرق الكوفة، فإذا أنا برجل يخاصم جارا له. فقلت: ما بالكما؟ فقال أحدهما: إن صديقا لي زارني واشتهى علي رأساً، فاشتريته له وتغدينا، فأخذت عظامه، فوضعتها عند باب داري أتجمل بها عند جيراني، فجاء هذا وأخذها، ووضعها على باب داره، يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس.
قال رجل من البخلاء لولده: اشتروا لي لحما فاشتروا له، وأمر بطبخه حتى تهرأ، فأكل منه حتى انتهت نفسه، وشرعت إليه عيون ولده، فقال: ما أنا مطعمه أحداً منكم إلا من أحسن صفة أكله. فقال الأكبر أتعرقه يا أبت حتى لا أدع للذرة فيه مقيلا؟ قال: لست بصاحبه. فقال الأوسط: أتعرقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول؟ قال: لست بصاحبه. فقال الأصغر: أتعرقه يا أبت ثم أدقه دقاً، وأسفه سفاً؟ قال: أنت صاحبه، وهو لك دونهم.
وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان أبو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرؤوس ويصفها، ويسميها العرس، لما فيها من الألوان الطيبة، وربما سماه الكامل، والجامع، ويقول: الرأس شيء واحد، وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة، والرأس فيه الدماغ، وطعمه مفرد، وفيه العينان، وطعمهما مفرد، والشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين، وطعمها مفرد، على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ وأرطب من الزبد، وأدسم من السلاء. وفي الرأس اللسان، وطعمه مفرد، والخيشوم، والغضروف، ولحم الخدين، وكل شيء من هذه طعمه مفرد. والرأس سيد البدن، والدماغ هو معدن العقل، وخاصة الحواس، وبه قوام البدن، وفيه يقول الشاعر
إذا نزعوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
وقيل لأعرابي: أتحسن أن تأكل كل الرأس؟ قال: نعم أبخص عينيه، وأفك لحييه، وأسحى خديه، وأرمي بالدماغ إلى من هو أحق به مني. وكانوا يكرهون أكل الدماغ، ولذا يقول قائلهم:
ولا أبتغي المخ الذي في الجماجم

وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له: إيام ونهم الصبيان، وبغر السباع، وأخلاق النوابح، ونهش الأعراب، وكل ما بين يديك، فإنما حظك منه ما قابلك. وأعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف، من لقمة كريمة أو مضغة شهية، فإنما ذلك للشيخ المعظم، والصبي المدلل، ولست بواحد منهما. وقد قالوا مدمن اللحم كمدمن الخمر. أي بني، لا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، ولا تنهش نهش السباع، وعود نفسك الأثرة، ومجاهدة الهوى والشهوة، فإن الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة، وأحذر صرعة الكظة وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعد نفسك من الزمنى. واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من غيره. أي بني، والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو الكظة، ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحة، والوجبات عيش الصالحين. أي بني، لأمر ما طالت أعمار الرهبان، وصحت أبدان الأعراب، ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم، وأن الداء كله هو في فضول الطعام، فكيف لا يرغب في شيء يجمع لك في صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة؟ أي بني، ما صار الضب أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلغ بالنسيم، وما زعم الرسول أن الصوم وجاءٌ إلا أنه جعله حجازا دون الشهوات، فافهم تأديب الله، وتأديب الرسول. أي بني، قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت وكف أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول، وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت، فلا أبعد الله غيرك.
ومن البخلاء أبو الأسود الدؤلي، وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط، وبين يديه طبق تمر، فقالت: السلام عليك، قال أبو الأسود كلمة مقبولة.
ووقف عليه أعرابي، وهو يأكل، فقال الأعرابي: أدخل؟ قال: وراءك أوسع لك. قال: الرمضاء أحرقت رجلي. قال: بل عليهما يبردان. قال: أتأذن لي أن آكل معك؟ قال: سيأتيك ما قدر لك. قال: تالله ما رأيت رجلاً ألأم منك. قال: بلى قد رأيت إلا أنك نسيت. ثم أقبل أبو الأسود يأكل حتى إذا لم يبق في الطبق إلا تميرات يسيرة نبذها له، فوقعت تمرة منها فأخذها الأعرابي ومسحها بكسائه. فقال أبو الأسود: يا هذا إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها منه. قال: كرهت أن أدعها للشيطان. قال: لا والله ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها.
الأصمعي قال: قال مر رجل بأبي الأسود الدؤلي، وهو يقول: من يعشي الجائع؟ فقال أبو الأسود: علي به، فأتاه بعشاء كثير. وقال: كل حتى تشبع، فلما أكد ذهب ليخرج، قال: أين تريد؟ قال: أريد أهلي. قال: لا أدعك تؤذي المسلمين الليلة بسؤالك، اطرحوه في الأدهم، فبات عنده مكبولًا، حتى أصبح.
قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة، فأخلى له المنزل، ثم هرب عنه مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة، فخرج الضيف، فاشترى ما يحتاجه، ثم رجع وكتب له:
يأيها الخارج من بيته ... وهارباً من شدة الخوف
ضيفك قد جاء بزادٍ له ... فارجع تكن ضيفاً على الضيف
وقال آخر:
بت ضيفاً لهشام ... في شرابي وطعامي
وسراجي الكوكب الدر ... ي في داجي الظلام
لا حراماً أجد الخ ... بز ولا غير الحرام
وله:
بت ضيفاً لهشام ... فشكا الجوع عدمته
وبكى لا صنع الله ... له حتى رحمته
وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع، فألح عليه أن يتغدى عنده في منزله، فيمطله ابن المقفع، فيقول: أتراني أتكلف لك شيئاً؟ لا والله لا أقدم لك إلا ما عندي، فلا تتثاقل علي. فلم يزل به حتى أجابه، وأتى به إلى منزله، فإذا ليس عند إلا كسر يابسة وملح جريش، فقدمه له. ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك، فألح في السؤال، فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك. فقال ابن المقفع، للسائل، أرح نفسك وانج، والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة.

وانتقل رجل من البخلاء إلى دار ابتاعها، فلما حلها وقف سائل، فقال له: صنع الله لك، ثم وقف ثان، فقال له مثل ذلك، ثم وقف ثالث، فقال له مثل ذلك. فقال لابنته: ما أكثر السؤال في هذا المكان. فقالت له: يا أبت. ما تمسكت لهم بهذا القول، فما تبالي كثروا أم قلوا؟ الأصمعي قال: تقول العرب: ما علمتك إلا برما قروناً.
البرم: الذي يأكل مع أصحابه، ولا يجعل شيئاً، والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين.
وألم اللئام كلهم وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له: هجاء الأضياف، وهو القائل في ضيف نزل به وأكله:
ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت ... وبين أخرى تليها قيد أظفور
وله:
تجهز كفاح ويحدر حلقه ... إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل
أتانا وما ساواه سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
وله في الأضياف:
لا مرحباً بوجوه القوم إذ دخلوا ... دسم العمائم تحيكها الشياطين
ألفيت جلتنا الشهريز بينهم ... كأن أيديهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى تلقى المساكين

ما قالت الشعراء في طعام البخلاء
فمن أهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك أسته وتمثل الأمثالا
وقوله فيهم:
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
قوم إذا نبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
وقال الراعي:
اللاقطين النوى تحت الثياب كما ... مجت كوادن دهم في مخالبها
فأين هؤلاء من الذين يقول فيهم الشاعر:
أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدى رفعت ستوره
لآخر:
أبو نوح أتيت إليه يوماً ... فغداني برائحة الطعام
وقدم بيننا لحماً سميناً ... أكلناه على طبق الكلام
فلما أن رفعت يدي سقاني ... كؤوساً حشوها ريح المدام
فكان كمن سقى ظمآن آلا ... وكنت كمن تغدى في المنام
ولآخر:
تراهم خشية الأضياف خرساً ... يصلون الصلاة بلا أذان
ولحماد عجرد:
حريث أبو الصلت ذو خبرة ... بما يصلح المعدة الفاسدة
تخوف تخمة إخوانه ... فعودهم أكلة واحدة
ولآخر:
أتانا بخبز له حامض ... كمثل الدراهم في رقته
إذا ما تنفس حول الخوان ... تطاير في البيت من خفته
فنحن كظوم له كلنا ... يرد التنفس من خشيته
فيكلمه اللحظ من رقة ... ويأكله الوهم من قلته
نزل رجل من العرب ببخيل، فقد إليه جرادا فعافه، وأمر برفعه وقال:
لحا الله بيتاً ضمني بعد هجعة ... إليه دجوجي من الليل مظلم
فأبصرت شيخاً قاعداً بفنائه ... هو العير إلا أنه يتكلم
أتانا ببرقان الدبي في إنائه ... ولم يك برقان الدبي لي مطعم
فقلت له غيب إناءك واعتزل ... فما ذاق هذا لا أبا لك مسلم
ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة إلى عجوزٍ من محارب، فلم تقره شيئاً فرحل عنها وقال:
تضيفت في برد وريح تلفني ... وفي طرمساء غير ذات كواكب
إلى حيزبون توقد النار بعدما ... تلفعت الظلماء من كل جانب
تصلى بها برد العشاء ولم تكن ... تخال وميض النار يبدو لراكب
فما راعها إلا بغام مطيتي ... تريح بمحسور من الصدر لاغب
فجنت جنوناً من دلاث مناخة ... ومن رجل عاري الأشاجع شاحب
سرى في جليد الليل حتى كأنما ... تخزم بالأطراف شوك العقارب
تقول وقد قربت كوري وناقتي ... إليك فلا تذعر علي ركائبي
فسلمت والتسليم ليس يسرها ... ولكنه حق على كل جانب

فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت ... كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب
فلما تنازعنا الحديث سألتها ... من الحي قالت معشر من محارب
من المشتوين القد في كل شتوة ... وإن كان عام الناس ليس بناصب
فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ... علي مبيت السوء ضربة لازب
وقمت إلى مهرية قد تعودت ... يداها ورجلاها حثيث المواكب
إلا إنما نيران قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
وقال الخليل بن أحمد:
كفاه لم تخلقا للندى ... ولم بك بخلهما بدعه
فكف عن الخر مقبوضه ... كما نقصت مائة سبعه
وكف ثلاثة آلافها ... وتسع مئيها لها شرعه
وقال غيره:
وجيرة لا ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيدٌ وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يبلغنا ما تنضج النار
وقال أحمد بن نعيم السلمي في بني حسان:
إذا احتفلوا لضيف لهوج قدرهم ... جراديم أشباه النخامة تبلع
تبل ختان الضيف حتى تريبه ... ويصبح من عين أسته يتطلع
ويقريك من أكرهته من سوادهم ... قرى الجن أو أدنى لجوعٍ وأبشع
عظاماً وأرواثاً وبعراً وإن يكن ... لدى القوم نارٌ يشتوى لك ضفدع
ولآخر:
فبتنا كأنا بينهم أهل مأتم ... على ميت مستودع بطن ملحد
يحدث بعضٌ بعضنا بمصابه ... ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجلد
ولآخر:
ذهب الكرام فلا كرام ... وبقي العضاريط اللئام
من لا يقيل ولا يني ... ل ولا يشم له طعام
ولآخر:
صدق أليته إن قال مجتهدا: ... لا والرغيف، فذاك البر من قسمه
فإن هممت به، فافتك بخبزته ... فإن موقعها من لحمه ودمه
قد كان يعجبني لو أن غيرته ... على جرادقه كانت على حرمه
ولآخر:
إن هذا الفتى يصون رغيفاً ... ما إليه لناظر من سبيل
هو في سفرتين من أدم الطا ... ئف في سلتين في منديل
في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل
وقال أبو نواس في فضل الرقاشي:
رأيت قدور الناس سوداً من الصلى ... وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر
يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ... ويخرج ما فيه على طرف الظفر
إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها ... أمامهم الحولي من ولد الذر
وقال في إسماعيل الكاتب:
خبز إسماعيل كالوش ... ي إذا ما انشق يرفا
عجباً من أثر الصن ... عة فيه كيف يخفى
إن رفاءك هذا ... ألطف الأمة كفا
فإذا قابل بالنص ... ف من الجردق نصفا
أحكم الصنعة حتى ... ما يرى مغرز إشفى
ولآخر:
ارفع يمينك من طعامه ... إن كنت ترغب في كلامه
سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
ولآخر:
رأيت الخبز عز لديك حتى ... حسبت الخبز في جو السحاب
وما روحتنا لتذب عنا ... ولكن خفت مرزئة الذباب
ولآخر:
زرت امرأً في بيته مرةً ... له حباء وله خير
يحذر أن يتخم إخوانه ... إن أذى التخمة محذور
ويشتهي أن يؤجروا عنده ... بالصوم والصائم مأجور
ومن قولنا في نحوه:
طعام من لست له ذاكرا ... دق كما دق بأن يذكرا
لا يفطر الصائم من أكله ... لكنه صوم لمن أفطرا
في وجهه من لؤمه شاهد ... يكفي به الشاهد أن يخبرا
لم تعرف المعروف أفعاله ... قط كما لم ينكر المنكرا
وقال آخر:
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... عى دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ... ولم يدر أن المكرمات تكون

فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين
إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين

باب من أخبار البخلاء
الرياشي قال: صاحب رجل رجلا من البخلاء، فقال له: احملني. فقال: ما كنت لأنزل وأحملك. قال: ما أنت بحاتمٍ حيث يقول:
أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
قال: ما فيها محمل، ولا بي طاقة على المشي. وقد قال شاعرهم حاتم:
أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر
وقال كثير عزة:
مهين تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا مانعته كان أحزما
سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة، فلم يقضها، فتشفع إليه برجل فقضاها، فقال:
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولى سواكم أجرها واصطناعها
أبى لك كسب المجد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها، وإن همت بشر أطاعها
احتاج أبو الأسود الدؤلي مرة، فبعث إلى جار له موسر يستسلفه، وكان حسن الظن به،فاعتل عليه ورده، فقال:
لا تشعرن النفس يأساً فإنما ... يعيش بجد حازمٌ وبليد
ولا تطمعن في مال جارٍ لقربه ... فكل قريب لا ينال بعيد
وكتب إلى آخر يستسلفه، فكتب إليه: المؤونة كثيرة، والفائدة قليلة، والمال مكذوب عليه. فكتب إليه أبو الأسود: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت صادقاً فجعلك الله كاذباً.
وقال بعض الشعراء في بخيل:
ميت مات، وهو في كنف العي ... ش مقيم في ظل عيش ظليل
في عداد الموتى وفي عامر الدني ... ا أبو جعفر أخي وخليلي
لم يمت ميتة الحياة ولكن ... مات عن كل صالح وجميل
ولآخر:
فأما قراه كله فلنفسه ... ومال يزيد كله ليزيد
ولآخر:
له يومان يوم ندىً ويوم ... يسل السيف فيه من القراب
فأما جوده فعلى النصارى ... وأما بأسه فعلى الكلاب
ولآخر:
كدحت بأظفاري وأعملت معولي ... فصادفت جلموداً من الصخر أملسا
تجهم لما جئت في وجه حاجتي ... وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى
فأجمعت أن أنعاه لما رأيته ... يفوق فواق الموت حتى تنفسا
وأنشد أبو جعفر البغدادي للجلودي:
جاء بدينارين لي صالحٌ ... أصلحه الله وأخزاهما
أدناهما تحمله ذرةٌ ... وتلعب الريح بأوفاهما
بل لو وزنالك ظليهما ... ثم عمدنا فوزناهما
لكان لا كانا ولا أفلحا ... عليهما يرجح ظلاهما
ولحماد عجرد:
أورق بخير تؤمل للجزيل فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود
إن الكريم ترى في الناس عفته ... حتى يقال غني وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجهٌ سود
وأنشد:
جاد ابن موسى من دنانيره ... لنا بدينارين أسرارا
كلاهما في الكف من خفة ... لو نفخا من فرسخ طارا
قلت وقلبي لهما منكر ... أريهما للحين قسطارا
فكان هذا عنده بهرجا ... وكان هذا عنده بارا
ثم وزنا واحداً منهما ... كان له القسطار مختارا
فكان في كفة ميزانه ... ينقص قيراطاً ودينارا
باب ما قيل في البخلاء
سمع رجل أبا العتاهية ينشد:
فارمي بطرفك حيث شئت فلن تري إلا بخيلا
فقال له: بخلت الناس كلهم. قال: فأردني واحداً سمحا! وقال ابن حازم:
وقالوا لو مدحت فتى كريماً ... فقلت وأين لي بفتى كريم؟
بلوت ومر بي خمسون عاماً ... وحسبك بالمجرب من عليم
فلا أحدٌ يعد ليوم خير ... ولا أحد يعود على عديم
ولآخر:
لما رآنا فر بوابه ... وانسد من غير يد بابه

كلب له من بعضه حاجب ... يحجبه إن غاب حجابه
ومن قولنا:
جعل الله رزق كل عدوٍ ... لي بكف لبعض من لا أسمي
كف من لا يهز عطفيه يوماً ... لمديح ولا يبالي بذم
يتلقى الرجاء منه بوجه ... راشح الخد والجبين بسم
جئته زائراً فما زال يشكو ... لي حتى حسبته سيدمي
ألف اللؤم فيه من كل طرف ... معرقاً فيه بين خال وعم
قد نهاني النصيح عنه مراراً ... بأبي أنت من نصيح وأمي
ومن قولنا:
يراعة غرني منها وميض سنىً ... حتى مددت إليه الكف مقتبسا
فصادفت حجراً لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا
كأنما صيغ من بخل ومن كذب ... فكان ذاك له روحاً وذا نفسا
كلب يهر إذا ما جاء زائره ... حتى إذا جاء مهدي تحفة نبسا
ومن قولنا:
صحيفة طابعها اللوم ... عنوانها بالبخل مختوم
أهداكها والخلف في طيها ... والمطل والتسويف واللوم
من وجهه نحس ومن قربه ... رجس ومن عرفانه شوم
لا تهتضم إن كنت ضيفاً له ... فخبزه في الجوف هاضوم
تكلمه الألحاظ من رقة ... فهو بلحظ العين مكلوم
لا تأتدم شيئاً على أكله ... فإنه بالجوع مأدوم

احتجاج البخلاء
الأصمعي: قال أبو الأسود الدؤلي: لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حلاً منهم.
وقال لبنيه: لا تطيعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم.
وقال لهم أيضاً: لا تجاودوا الله، فإنه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل، ولكنه علم أن قوماً لا يصلحهم الغنى ولا يصلح لهم إلا الفقر، وقوماً لا يصلحهم الفقر ولا يصلح لهم إلا الغنى.
وقال سهل بن هارون: لو قسمت في الناس مائة ألف لكان الأكثر لائمي.
ونحوه قول ابن الجهم: منع الجميع أرضى للجميع.
وقال رجل من تغلب: أتيت رجلاً من كندة أسأله، فقال: يا أخا بني تغلب، إني لن أصلك حتى أحرم من هو أقرب إلي منك، وإني والله لو مكنت من داري لنقضوها طوبةً طوبة. والله يا أخا بني تغلب، ما بقي بيدي من مالي وأهلي وعرضي إلا ما منعته من الناس.
وهذا نظير قول لآخر: من أعطى في الفضول قصر في الحقوق.
وقال رجل لسهل بن هارون: هبني ما لا مرزئة عليك فيه. قال: وما ذاك يا بن أخي؟ قال: درهماً واحداً. قال: يا بن أخي. لقد هونت الدرهم، وهو طابع الله في أرضه الذي لا يعصى، والدرهم ويحك عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف دية المسلم. ألا ترى يا ابن أخي إلى أين انتهاء الدرهم الذي هونته؟ وهل بيوت المال إلا درهم على درهم.
وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني، أوصيك باثنتين ما تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
وقال أبو الأسود: إمساكك ما بيدك خير من طلبك ما بيد غيرك. وأنشد في المعنى:
يلومونني في البخل جهلاً وضلةً ... وللبخل خير من سؤال بخيل
ونظيره قول المتلمس:
وحبس المال خير من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقيل لخالد بن صفوان: ما لك لا تنفق فإن مالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه. قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله؟ قال: لا، ولكن أخاف ألا أموت في أوله.
وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم، لا يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال، فسلم لي المال وسمني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال لك سخي إلا وأنت ذو مال، فقد جمع الله لاسم السخاء المال والحمد، وجمع لاسم البخل المال والذم. قال: بينهما فرقٌ عجيب وبون بعيد، إن في قولهم بخيل سبباً لمكث المال في ملكي، وفي قولهم سخي سبباً لخروج المال عن ملكي، واسم البخيل فيه حزم، واسم السخي فيه تضييع وحمد، والمال ناض نافع وكرم لأهله، والحمد ريح وسخرية وسمعة وطرمذة، وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه، وعرى ظهره، وضاع عياله، وشمت به عدوه.

وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك ألا يقيم عليك، ومن احتاج إليك ألا يزول عنك، فمن حبك لصديقك وضنك بمودته ألا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك. وقد قيل في مثل هذا: أجع كلبك يتبعك وسمنه يأكلك. فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقطع أسبابه من الشكر، والمعين على الغدر شريك الغادر، كما أن مزين الفجور شريك الفاجر.
وقال يزيد بن عمر الأسدي لبنيه: يا بني، تعلموا الرد فإنه أسد من العطاء، ولأن تعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها عليهم، ولأن يقال لأحدكم بخيل وهو غني، خيرٌ له من أن يقال له سخي وهو فقير.
وقال الجذامي: يقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك، فما ظنك إن كان أقصر مني؟ أليس يتخيل في قميصي؟! وإن كان أطول مني، أليس يصير آيةً للسائلين؟ فمن أسوأ أثراً على صديقه ممن جعله ضحكة، فما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي، فمتى يتفق هذا؟ وقال أبو نواس: كان معنا في السفينة، ونحن نريد بغداد، رجل من أهل خراسان، وكان من فقهائهم وعقلائهم، وكان يأكل وحده، فقلت له: لم تأكل وحدك؟ فقال: ليس علي في هذا مسألة. إنما المسألة على من أكل مع الجماعة لأنه يتكلف، وأكلي وحدي هو الأصل، وأكلي مع الجماعة تكلف ما ليس علي.
ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم، فجعل يقلبه ويقول: في شق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي شق آخر: قل هو الله أحد، ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذاً ورقية. ورمى به في الصندوق.
وكان أبو عيسى بخيلاً، وكان إذا وقع الدرهم بيده طنه بظفره، وقال: يا درهم، كم من مدينة دخلتها، وأيد دوختها، فالآن استقر بك القرار، واطمأنت بك الدار. ثم رمى به في الصندوق.
وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجةً. قال: وأنا لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك إلي؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها. قال: قد فعلت. قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة. فانصرف الرجل عنه.
وكان ثمامة يقول: ما بال أحدكم إذا قال له الرجل: اسقني، أتى بإناء على قدر الري أو أصغر؟ وإذا قال: أطعمني، أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة، والطعام والشراب أخوان؟ أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز ما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء. الناس أرغب شيء في المأكول إذا كثر ثمنه أو كان قليلاً في منبته، ألا ترى الباقلاء الأخضر أطيب من الكمثري، والباذنجان أطيب من الكمأة، ولكن أهل التحصيل والنظر قليل، وإنما يشتهون على قدر الثمن.
وكان يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، وأعدى عدو له المالح، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشره؛ فإن الباقلاء يقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته، فما حاجتكم أن تصيروا طعاماً إلى طعامكم؟ الأصمعي قال: جاء رجل من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة فمت إليه بقرابة وسأله أن يعطيه، فلم يعطه شيئاً، ثم عاد إليه بعد أيام، فقال: أنا العقيلي الذي سألتك منذ أيام. فقال له ابن هبيرة: وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام. فقال: معذرة إليك؛ إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي. قال: ذلك ألأم لك عندي، وأهون بشأنك علي. نشأ في قومك مثلي فلم تعرفه، ومات مثل يزيد ولم تعلم به، يا حرسي، اسفع بيده.
ومن أشعار البخلاء الذين يتمثلون بها:
وزهدني في كل خير صنعته ... إلى الناس ما جربت من قلة الشكر
ولآخر:
ارقع قميصك ما اهتديت لجيبه ... فإذا أضلك جيبه فاستبدل
ولابن هرمة:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
ومن أمثالهم في البخل وخلف الوعد قولهم: تختلف الأقوال إذا اختلفت الأحوال. وقولهم:
كلام الليل يمحوه النهار
وقولهم:
بروق الصيف كاذبة الرعود

رسالة سهل بن هارون في البخل
بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله.

قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار، وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عياباً، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهى مرشداً وأن تغري بمشفق، وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإصلاح فاسدكم وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم. وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم ولأنفسنا قبلكم، وشهرنا به في الآفاق دونكم. ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت " . فما كان أحقكم في كريم حرمتنا بكم أن ترعوا قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط بلغتم، ولا بواجب الحرمة قمتم. ولو كان ذكر العيوب يراد به فخراً لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا.
عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين، فهو أطيب لطعمه، وأزيد في ريعه. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: املكوا العجين، فإنه أحد الريعين.
وعبتموني حين ختمت على سد عظيم وفيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نفيسة، ومن رطبة غريبة على عبدٍ نهم، وصبي جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة، وليس من أصل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادات القادة، ولا في تدبير السادة أن يستوي في نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب، التابع والمتبوع، والسيد والمسود، كما لا تستوي مواضعهم في المجالس، ومواقع أسمائهم في العنوان، ومن شاء أطعم كلبه الدجاج السمين، وعلف حماره السمسم المقشر.
وعبتموني بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق وعلى كيس فارغ وقال: طينة خير من ظنة. فأمسكتم عمن ختم على لا شيء، وعبتم من ختم على شيء.
وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا طبخ أحدكم لحماً فليزد من الماء، فمن لم يصب لحماً أصاب مرقاً.
وعبتموني بخصف النعل وبتصدير القميص، حين زعمت أن المخصومة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنسك، وأن الترقيع من الحزم، والتفريق من التضييع، والاجتماع من الحفظ. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويلطع أصابعه، ويقول: لو أهدى إلي ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت. وقال عليه الصلاة والسلام: من لم يشبع من الحلال خفت مؤنته وقل كبره.
وقال الحكماء: لا جديد لمن لا يلبس الخلق.
وبعث زياد رجلاً يرتاد له محدثاً، واشترط عليه أن يكون عاقلاً. فأتاه به موافقاً، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا، ويلبس الناس جديداً، فتفرست فيه العقل والأدب. وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه. وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وسمى له موضعاً، كما جعل لكل زماناً رجالاً، ولكل مقام مقالاً. وقد أحيا الله بالسم، وأمات بالدواء، وأغص بالماء. وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين. وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز، وأمر مالك بن أنس بفرك البعر. وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة. ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية. وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة. فقال: إن لا بد فاجعلها بيوضاً.
وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي. ولقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشد من الكفاية، فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء وجدت في الأعضاء فضلاً عن الماء، فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوله، ولكان نصيب الأول كنصيب الآخر، فعبتموني بذاك وشنعتم علي. وقد قال الحسن، وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ. فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه الكلأ.

وعبتموني أن قلت: لا يغترن أحدكم بطول عمره، وتقويس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوته، وأن يرى نجوه أكثر من رزقه فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، وإلى تحكم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه، فلعله أن يكون معمراً، وهو لا يدري، وممدوداً له في السن وهو لا يشعر، ولعله أن يرزق الولد على اليأس، ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على باله ولا يدركه عقله، فيسترده ممن لا يرده، ويظهر الشكوى إلى من لا يرجمه، أصعب ما كان عليه الطلب، وأقبح ما كان له أن يطلب. فعبتموني بذلك، وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وعبتموني بأن قلت: إن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك، وإن الحفظ إلى المال المكتسب، والغنى المجتلب، وإلى ما يعرض فيه بذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن، واهتمام القلب أسرع، ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر، وطاب نفساً بالذل.
وعبتموني أن قلت: إن كسب الحلال مضمنٍ بالإنفاق في الحلال، وأن الخبيث ينزع إلى الخبث، وإن الطيب يدعو إلى الطيب، وأن الإنفاق في الهوى حجاب دون الهوى، فعبتم علي هذا القول، وقد قال معاوية: لم أر تبذيراً قط إلا وإلى جنبه حق مضيع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا فيماذا ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف. وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم، وأنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات، فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى نفسه، فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة، فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع. وقال عمر بن الخطابرضي الله عنه في العبد والأمة والشاة والبعير: فرقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين، وقال ابن سيرين: كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرقها في السفن، فإن عطب بعض سلم بعض. ولولا أن السلامة أكثر ما حملنا أموالنا في البحر. قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع.
وعبتموني أن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكراً، وللمال لثروة، فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله، فعبتموني بذلك، وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلاً من غني أمن الفقر، وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر. وقال الشاعر: في يحيى بن خالد بن برمك.
وهوب تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما
وعبتموني حين زعمتم أني أقدم المال على العلم، لأن المال به يفاد العلم، وبه تقوم النفس قبل أن تعرف فضل العلم، فهو أصل والأصل أحق بالتفضيل من الفرع. فقلتم: كيف هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء. قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر ما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال، وجهل الأغنياء بحق العلم. فقلت: حالهما هي القاضية بينهما، وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه، وشيء يغني فيه بعضهم عن بعض. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني لأبغض أهل البيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد. وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض.
وعبتموني حين قلت: فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت أن احتيج إليها استعملت، وإن استغني عنها كانت عدة. وقد قال الحصين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع منه شيء. قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمني عليه، لأن المال مخدوم. وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن فيه إلا أنه عز في قلبك، وذل في قلب عدوك، لكان الحظ فيه جسيماً، والنفع فيه عظيماً. ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتعليم الخلفاء، وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو، ولستم علي تردون، ولا رأيي تفندون، فقدموا النظر قبل العزم، وأدركوا ما عليكم قبل أن تدركوا ما لكم، والسلام عليكم.
ومن اللؤم التطفيل، وهو التعرض للطعام من غير أن يدعى إليه.

أخبار الطفيليين

أولهم طفيل العرائس، وإيه نسب الطفيليون، وقال لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرساً فلا يلتفت تلفت المريب، ويتخير المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام فليمض، ولا ينظر في عيون الناس، لظن أهل المرأة أنه من أهل الرجل ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة، فإن كان البواب غليظاً وقاحاً فتبدأ به وتأمره وتنهاه، من غير تعنف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.
القحذمي قال: يقول الطفيليون: ليس في الأرض عود أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى، وخشب منبر الخليفة، وخوان الطعام.
وكان أبو العرقين الطفيلي قد نقش في خاتمه: اللؤم شؤم. فقيل له: هذا رأس التطفيل.
أحمد بن علي الحاسب قال: مر طفيلي بسكة النخع بالبصرة على قوم وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي، فأنكره صاحب المجلس. فقالوا له: لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك؟ قال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، وما وجهت بهدية، فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، واطراحها صلة، وقد جاء في الأثر: " صل من قطعك، وأعط من حرمك " . وأنشد:
كل يوم أدور في عرصة الدا ... ر أشم القتار شم الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخاناً أو دعوة الأصحاب
لم أعرج دون التقحم لا أر ... هب طعناً أو لكزة البواب
مستهيناً بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هياب
فتراني ألف بالرغم منهم ... كل ما قدموه لف العقاب
ومنهم أشعب الطماع، قيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء. وفيه يقال: أطمع من أشعب.
وقف أشعب إلى رجل يعمل طبقاً، فقال له: أسأل بالله إلا ما زدت في سعته طوقاً أو طوقين. فقال له: وما معناك في ذلك؟ قال: لعله يوماً أن يهدى إلي فيه شيء.
ساوم أشعب رجلاً في قوس عربية، فسأله ديناراً، فقال له: والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء وقع مشوياً بين رغيفين ما أعطيتك بها ديناراً.
وبينما قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتاناً إذ استأذن عليهم أشعب، فقال أحدهم: إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام، فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية، ويأكل معنا الصغار، ففعلوا. وأذن له، فقالوا له: كيف رأيك في الحيتان؛ فقال: والله إن لي عليها لحرداً شديداً وحنقاً، لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان. قالوا له: فدونك خذ بثأر أبيك. فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير، ثم وضعه عند أذنه، وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس، فقال: أتدرون ما يقول لي هذا الحوت؟ قالوا: لا ندري. قال: إنه يقول: إنه لم يحضر موت أبي ولم يدركه لأن سنه يصغر عن ذلك، ولكن قال لي: عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت، فهي أدركت أباك وأكلته.
وكان رجل من الأمراء يستظرف طفيلياً يحضر طعامه وشرابه، وكان الطفيلي أكولاً شروباً، فلما رأى الأمير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه، فكتب إليه الطفيلي:
قد قل أكلي وعقل شربي ... وصرت من بابة الأمير
فليدع بي وهو في أمان ... أن أشرب الراح بالكبير
وأقبل طفيلي إلى صنيع فوجد باباً قد أرتج، ولا سبيل إلى الوصول، فسأل عن صاحب الصنيع: إن كان له ولد غائب أو شريك في سفر؟ فأخبر عنه أن له ولداً ببلد كذا. فأخذ رقا أبيض وطواه وطبع عليه، ثم أقبل متدللاً، فقعقع الباب قعقعة شديدة، واستفتح، وذكر أنه رسول من عند ولد الرجل. ففتح له الباب، وتلقاه الرجل فرحاً، وقال: كيف فارقت ولدي؟ قال له: بأحسن حال، وما أقدر أن أكلمك من الجوع. فأمر بالطعام فقدم إليه، وجعل يأكل، ثم قال له الرجل: ما كتب كتاباً معك؟ قال: نعم، ودفع إليه الكتاب. فوجد الطين طرياً. فقال له: أرى الطين طرياً، قال: نعم. وأزيدك أنه من الكد ما كتب فيه شيئاً. فقال: أطفيلي أنت؟ قال: نعم أصلحك الله. قال: كل: لا هنأك الله.
وقيل لأشعب: ما تقول في ثريدة مغمورة بالزبدة، مشقفة باللحم؟ قال: فأضرب كم؟ قيل له: بل تأكلها من غير ضرب. قال: هذا ما لا يكون، ولكن كم الضرب، فأتقدم على بصيرة؟ وقيل لمزبد المديني، وقد أكل طعاماً كظه: قئ. قال: أقئ خبزاً نقياً ولحم جدي؟ امرأتي طالق: لو وجدتهما قيئاً لأكلتهما.

وقيل لطفيلي: ما أبغض الطعام إليك؟ قال: القريص. قيل له: ولم ذا؟ قال: لأنه يؤخر إلى يوم آخر.
ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم. قالوا له: أعرفت منا أحداً؟ قال: نعم، عرفت هذا، وأشار إلى الطعام. فقالوا: قولوا بنا فيه شعراً. فقال الأول:
لم أر مثل سرطة ومطة
وقال الثاني:
ولفة دجاجة ببطة
وقال الثالث:
كأن جالينوس تحت إبطه
فقال الإثنان للثلث: أما الذي وصفناه من فعله فمفهوم، فما يصنع جالينوس تحت إبطه؟ قال: يلقمه الجوارشن كلما خاف عليه التخمة يهضم بها طعامه.
ومر طفيلي على الجماز، فقال له: ما تأكل؟ قال: كلب في قحف خنزير.
ودخل طفيلي على قوم يأكلون فقال: ما تأكلون؟ فقالوا من بغضه: سماً. فأدخل يده وقال: الحياة حرام بعدكم.
ومر طفيلي على قوم كانوا يأكلون، وقد أغلقوا الباب دونه، فتسور عليهم من الجدار، وقال: منعتموني من الأرض فجئتكم من السماء.
وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين؟ قال أربعة أرغفة.
وقيل لآخر: كم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر؟ قال: كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر درهما.
قال محمد بن أحمد الكوفي حدثنا الحسين بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سموا له بالبصرة، فجمعوا وأبصرهم طفيلي، فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع، فانسل فدخل وسطهم، ومضى بهم المتوكلون حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعد لهم، فدخل الزورق، فقال الطفيلي: هي نزهة. فدخل معهم، فلم يكن بأسرع من أن قيدوا وقيد معهم الطفيلي، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعو بأسمائهم رجلاً رجلاً، فيأمر بضرب رقابهم، حتى وصل إلى الطفيلي، وقد استوفى العدة، فقال للموكلين: ما هذا؟ قالوا: والله ما ندري، غير أنا وجدناه مع القوم، فجئنا به. فقال له المأمون: ما قصتك؟ ويلك! قال: يا أمير المؤمنين. امرأته طالق إن كان يعرف من أحوالهم شيئاً، ولا مما يدينون الله به، إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة. فضحك المأمون، وقال: يؤدب. وكان إبراهيم بن المهدي قائماً على رأس المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، وأحدثك عن حديث عجيب عن نفسي. قال: قل يا إبراهيم. قال: خرجت يا أمير المؤمنين من عنك يوماً، فطفت في سكك بغداد متطرباً، فانتهيت إلى موضع، فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها، فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها، فوقفت على خياط، فقلت: لمن هذه الدار؟ قال: لرجل من التجار البزازين، قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، فنظرت إلى الدار، فإذا بشباك فيها مطل، فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكف والمعصم عن رائحة القدور، وبقيت باهتاً ساعة، ثم أدركني ذهني، فقلت للخياط: أهو ممن يشرب النبيذ؟ قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، وليس ينادم إلا تجاراً مثله مستورين، فبينا أنا كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب، فقال الخياط: هؤلاء منادموه. فقلت: ما اسماهما وما كناهما؟ قال: فلان وفلان. فحركت دابتي وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما. قد استبطأكم أبو فلان أعزه الله، وسايرتهما حتى بلغا الباب، فأجلاني وقدماني، فدخلنا. فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل، أو قادم قدمت عليهما من موضع، فرحب بي وأجلست في أفضل المواضع، فجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من ريحها، فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها وبقي الكف والمعصم، كيف أصل إلى صاحبتهما، ثم رفع الطعام وجاءونا بوضوء، فتوضأنا وصرنا إلى بيت المنادمة، فإذا أشكل بيت يا أمير المؤمنين، وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل علي بالحديث، وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه على معرفة متقدمة، حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية كأنها جان تثنى كالخيزران، فأقبلت فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست، وأتي بالعود، فوضع في حجرها، فجسته، فاستبنت في جسها حذقها، ثم اندفعت تغني:
توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها كفي فآلم كفها ... فمن مس كفي في أناملها عقر
فهيجت يا أمير المؤمنين بلابلي، وطربت لحسن شعرها، ثم اندفعت تغني:

أشرت إليها هل عرفت مودتي ... فردت بطرف العين إني على العهد
فحدت عن الإظهار عمداً لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضاً على عمد
فصحت: يا أمير المؤمنين: السلاح، وجاءني من الطرب ما لم أملك نفسي، ثم اندفعت فغنت الصوت الثالث:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكف تسلم
فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، وأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت به، فقلت: بقي عليك يا جارية. فضربت بعودها الأرض وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟ فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي، فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى. فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه؛ ثم غنيت:
ما للمنازل لا يجبن حزيناً ... أصممن أم قدم المدى فبلينا
راحوا العشية روحةً مذكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا
فما أتممته حتى قامت الجارية فأكبت على رجلي تقبلها، وقالت: معذرةً إليك، فوالله ما سمعت أحد يغني هذا الصوت عناءك، وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا كفعلها، وطرب القوم والله، واستحثوا الشراب، فشربوا بالكاسات والطاسات، ثم اندفعت أغني:
أفي الحق أن تمسي ولا تذكرينني ... وقد سفحت عيناي من ذكرك الدما
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما
إلى الله أشكو أنها مادرية ... وأني لها بالود ما عشت مكرما
فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا، ثم اندفعت أغني الثالث:
هذا محبك مطويٌ على كمده ... حرى مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما جنى ويد أخرى على كبده
فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه، وسكر القوم. وكان صاحب المنزل حسن الشرب الصحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم وخلوت معه، فلما شربنا أقداحاً قال: يا هذا، ذهب ما مضى من أيامي ضياعاً إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت يا مولي؟ ولم يزل يلح حتى أخبرته الخبر، فقام وقبل رأسي، وقال: وأنا أعجب يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك، وأني لجالس مع الخلافة ولا أشعر؟ ثم سألني عن قصتي فأخبرته حتى بلغت خبر الكف والمعصم، فقال للجارية: قومي فقولي لفلانة تنزل، ثم لم يزل ينزل جواريه واحدةً بعد أخرى وأنظر إلى كفها ومعصمها، وأقول: ليست هي، حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي وأختي، ووالله لأنزلنهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداءك، ابدأ بالأخت قبل الزوجة، فعساها هي، فبرزت، فلما رأيت كفها ومعصمها قلت: هي هذه، فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، فقال للمشايخ: هذه أختي فلانة، أشهدكم أني زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرين ألفاً، فرضيت النكاح. فدفع إليها البدرة وفرق الأخرى على المشايخ، وقال لهم: انصرفوا. ثم قال: يا سيدي، أمهد لك بعض البيوت، فتنام مع أهلك. فأحشمني ما رأيت من كرمه، فقلت: بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال: ما شئت، فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي، فوالله يا أمير المؤمنين لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا، فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين. فعجب المأمون من كرم الرجل، وأطلق الطفيلي وأجازه وألحق الرجل في أهل خاصته.
ومر طفيلي بقوم يتغدون فقال: سلام عليكم معشر اللئام. فقالوا: لا والله، بل كرام. فثنى رجله وجلس، وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين، واجعلني من الكاذبين.
ودخل طفيلي من أهل المدينة على الفضل بن يحيى، وبيده تفاحة، فألقاها إليه، وقال: حياك الله يا مدني، فلزمها وأكلها. فقال له: شؤم عليك يا مدني، أتأكل التحيات؟ قال: إي والله، والزاكيات الطيبات كنت آكلها.
وقال إبراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه:

نعم النديم نديم لا يكلفني ... ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج
يكفيه لونان من كشك ومن عدس ... ولو يشاء فزيتون بطسوج
وقال طفيلي في نفسه:
نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل
ونقل علنا دعينا فغبنا ... وأتانا فلم يجدنا الرسول
وقال آخر، وأتى طعاماً لم يدع إليه، فقيل له: من دعاك؟ فأنشأ:
دعوت نفسي حين لم تدعني ... فالحمد لي لا لك في الدعوة
وكان ذا أحسن من موعد ... مخلفه يدعو إلى الجفوة
ودخل طفيلي في صنيع رجل من القبط، فقال له: من أرسل لك؟ فأنشأ:
أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم ... إن المحب إذا ما لم يزر زارا
فقال له القبطي: زر زارا، ليس ندري، من هو؟ اخرج من بيتي.
ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل، فرأى لهم هيئة حسنة وثياباً نقية، فظنهم يدعون إلى وليمة، فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحداً منهم، فلما بلغ صاحب الشرطة قال: أصلحك الله، لست والله منهم، وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم. فقال: ليس هذا مما ينجيك مني، اضربوا عنقه. فقال: أصلحك الله، إن كنت ولا بد فاعلاً فأمر السياف أن يضرب بطني بالسيف، فإنه هو الذي ورطني هذه الورطة. فضحك صاحب الشرطة وكشف عنه، فأخبروه أنه طفيلي معروف، فخلى سبيله.
وقال طفيلي:
ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً ... وخيلاً من البرني فرسانها الزبد
فأطلب فيما بينهن شهادةً ... بموت كريم لا يشق له لحد
وكان أشعب يختلف إلى ينة بالمدينة يطارحها الغناء، فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها: ناوليني هذا الخاتم الذي في إصبعك لأذكرك به. قالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود لعلك تعود.
اصطحب شيخ وحدث من الأعراب، فكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ متخلع الأضراس بطيء الأكل، فكان الحدث يبطش بالقرص، ثم يقعد يشتكي العشق، ويتضور الشيخ جوعاً، وكان اسم الحدث جعفراً. فقال الشيخ فيه:
لقد رابني من جعفر أن جعفراً ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له لو مسك الحب لم تبت ... سميناً وأنساك الهوى شدة الأكل
وقال الحدث:
إذا كان في بطني طعامٌ ذكرتها ... وإن جعت يوماً لم تكن لي على ذكر
ويزداد حبي إن شبعت تجدداً ... وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري
وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة، ويظهر لها التعاشق، إلى أن سألته سلفة نصف درهم، فانقطع عنها وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقاً أخرى، فصنعت له نشوقاً وأقبلت به إليه، فقال لها: ما هذا؟ قالت: نشوق عملته لك لهذا الفزع الذي بك. فقال: اشربيه أنت للطمع، فلو انقطع طمعك انقطع فزعي، وأنشأ يقول:
أخلفي ما شئت وعدي ... وامنحيني كل صدِّ
قد سلا بعدك قلبي ... فاعشق من شئت بعدي
إنني آليت لا أع ... شق من يعشق نقدي
وقيل لأشعب: ما أحسن الغناء؟ قال: نشيش المقلي. قيل له: فما أطيب الزمان؟ قال: إذا كان عندك ما تنفق. وكان أشعب يغني:
ألا أخبرت أخباراً ... أتت في زمن الشدة
وكان الحب في القلب ... فصار الحب في المعده
وقال آخر في طفيلي من أهل الكوفة:
زرعنا فلما تمم الله زرعنا ... وأوفى عليه منجل بحصاد
بلينا بكوفي حليف مجاعة ... أضرّ بزرع من دبي وجراد
وقال هشام أخو ذي الرُّمة لرجل أراد سفراً: إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت أن تكون كلب الرفاق فافعل.
وخرج أبو نواس متنزهاً مع شطار من أصحابه، فنزلوا روضة ووضعوا شراباً، فمر بهم طفيلي، فتطارح عليهم، فقال أبو نواس: ما اسمك؟ قال: أبو الخير. فرحب به وقعد معهم. ثم مرت بهم جارية فسلمت، فرد عليها، وقال لها: ما اسمك؟ قالت: زانة. قال أبو نواس لأصحابه: اسرقوا الياء من أبي الخير، فأعطوها زانة، فتكون زانية، ويكون أبو الخير أبا الخرء، كما هو. ففعلوا.

الجاحظ قال: دعي أبو عبد الله الواسطي إلى صنيع، فدعاني فدعوت أبا الفلوسكي. فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ، فقال له: أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان؟ قال: نعم. قال: فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع، فلم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب، فتدخل تجاهنا، فوجدنا البواب ذا غلظ وجفا، فمنعنا فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر أحداً يعلم أبا عبد الله الواسطي بحالنا. فمكثنا حيناً حتى أتى من نعرفه، فسألناه أن يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا، فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا، فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس، فقعد فيه، ثم قال لي: ها هنا عندنا يا أبا عثمان. فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي: كيف تسمي العرب من أمالت أنفسها؟ قال الفلوسكي: تسميه ضيفاً، فقال له الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيف؟ قال: تسميه ضيفاً. قال الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيفان؟ قال: ما لمثل هذا عند العرب تسمية، قال الجاحظ: فقلت: قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسماً، ثم تتحكم تحكم صاحب البيت؟

باب من أخبار المحارفين الظرفاء
منهم أبو الشمقمق الشاعر، وكان أديباً طريقاً محارفاً، وكان صعلوكاً متبرماً بالناس، وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج، فينظر من فروج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه. فأقبل إليه يوماً بعض إخوانه الملطفين له، فدخل عليه، فلما رأى سوء حاله، قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث: إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. فقال: إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزازاً، ثم أنشأ يقول:
أنا في حال تعالى الله ... ربي أي حال
ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أفلست حتى ... محت الشمس خيالي
ولقد أفلست حتى ... حل أكلي لعيالي
وله:
أتراني أرى من الدهر يوماً ... لي فيه مطية غير رجلي
كلما كنت في جميع فقالوا ... قربوا للرحيل قربت نعلي
حيث كنت لا أخاف رحيلاً ... من رآني فقد رآني ورحلي
وقال أبو الشمقمق أيضاً:
لو قد رأيت سريري كنت ترحمني ... الله يعلم ما لي فيه تليس
والله يعلم ما لي فيه شادكةٌ ... إلا الحصيرة والأطمار والديس
وقال أيضاً:
برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السحاب
فأنت إذا رأدت دخلت بيتي ... علي مسلماً من غير باب
لأني لم أجد مصراع باب ... يكون من السحاب إلى التراب
ولا انشق الثرى عن عود تخت ... أؤمل أن أشد به ثيابي
ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي
ولا حاسبت يوماً قهرماني ... محاسبة فأغلط في حسابي
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبداً ودابي
وقال أيضاً:
لو ركبت البحار صارت فجاجاً ... لا نرى في متونها أمواجاً
ولو أني وضعت ياقوتةً حم ... راء في راحتي لصارت زجاجا
ولو أني وردت عذباً فراتاً ... عاد لا شك فيه ملحاً أجاجاً
فإلى الله اشتكى وإلى الفض ... ل فقد أصبحت بزاتي دجاجا
وقال عمرو بن الهدير:
وقفت فلا أدري إلى أين أذهب ... وأي أموري بالعزيمة أركب
عجبت لأقدار علي تتابعت ... بنحس، فأفنى طول عمري التعجب
ولما التمست الرزق فانجد حبله ... ولم يصف لي في بحره العذب مشرب
خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... لرفع الغنى إياي إذ جئت أخطب
فزوجنيها ثم جاء جهازها ... وفيه من الحرمان تخت ومشجب
فأولدتها الحرف النقي فما له ... على الأرض غيري والد حين ينسب
فلو تهت في البيداء والليل مسبل ... علي جناحيه لما لاح كوكب

ولو خفت شراً فاستترت بظلمة ... لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب
ولو جاد إنسان علي بدرهم ... لرحت إلى رحلي وفي الكف عقرب
ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب
ولو لمست كفاي عقداً منظماً ... من الدر أضحى وهو ودع مثقب
وإن يقترف ذنباً ببرقة مذنب ... فإن برأسي ذلك الذنب يعصب
وإن أر خيراً في المنام فنازح ... وإن أر شراً فهو مني مقرب
ولم أغد في أمرٍ أريد نجاحه ... فقابلني إلا غراب وأرنب
أمامي من الحرمان جيشٌ عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب
وقال آخر:
ليس إغلاقي لبابي أن لي ... فيه ما أخشى عليه السرقا
إنما أغلقته كيلا يرى ... سوء حالي من يمر الطرقا
منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا
وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى:
الحمد لله ليس لي نشب ... فخف ظهري وقل زواري
من نظرت عينه إلي فقد ... أحاط علماً بما حوت داري
جهري في البيت كامنٌ وعلى ... مدرجة الرائحين أسراري
وقال بعض المحارفين:
لزمتني حرفةٌ ما تنقضي ... أبداً حتى أوارى في الجدث
كلزوم الطوق إلا أنها ... تستجد الدهر والطوق يرث

كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان
وسائر الحيوان " وتفاضل البلدان "
" فرش " الكتاب
قال أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في المتنبئين والممرورين، والبخلاء، والطفيليين، والمحدودين.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيه في طبائع الإنسان وسائر الحيوان، وتفاضل البلدان، والنعمة والسرور، إذ لم يكن مدار الدنيا إلا عليها، ولا قوام الأبدان إلا بها، وإذ هي ثمرة الفراسة، وتركيب الغريزة، واختلاف الهمم، وطيب الشيم، وتفاضل الطعوم. وقد تكلم الناس في النعمة والسرور على تباين أحوالهم، واختلاف هممهم، وتفاوت عقولهم، وما يجانس كل رجل منهم في طبعه، ويؤالفه في نفسه، ويميل إليه في وهمه. وإنما اختلف الناس في هذا المذهب لاختلاف أنفسهم، فمنهم من نفسه غضبية، فإنما همه منافسة الأكفاء، ومغالبة الأقران، ومكاثرة العشيرة. ومنهم من نفسه ملكية فإنما همه التفنن في العلوم، وإدراك الحقائق، والنظر في العواقب. ومنهم من نفسه بهيمية، فإنما همه طلب الراحة، وإهمال النفس على الشهوة من الطعام والشراب والنكاح، وعلى هذه الطبيعة البهيمية قسمت الفرس دهرها كله، فقالوا: يوم المطر للشرب، ويوم الريح للنوم، ويوم الدجن للصيد، ويوم الصحو للجلوس. وهي أغلب الطبائع على الإنسان، لأخذها بمجامع هواه، وإيثار الراحة، وقلة العمل، فمنه قولهم: الرأي نائم والهوى يقظان. وقولهم: الهوى إله معبود. وقولهم: ربيع القلب ما اشتهى. وقولهم: لا عيش كطيب نفس.
النفس الملكية
قيل لضرار بن عمرو: ما السرور؟ قال: إقامة الحجة، وإيضاح الشبهة. وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إحياء السنة، وإماتة البدعة.
وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقة، واستنباط الدقيقة.
وقال الحجاج بن يوسف لخريم الناعم: ما النعمة؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال: فالصحة، فإني رأيت المريض لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال له: الغنى، فإني رأيت الفقير لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. فالشباب، فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال: ما أجد مزيداً.
وقيل لأعرابي: ما السرور؟ قال: الأمن والعافية.
النفس الغضبية
قيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.
وقيل للحسن بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ.
وقيل لعبد الله بن الأهتم. ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، ووضع الأعداء، وطول البقاء، مع الصحة والنماء.
وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره، ورأى في عدوه ما يسره.
وقيل لأبي مسلم صاحب الدعوة: ما السرور؟ قال: ركوب الهمالجة، وقتل الجبابرة.

وقيل له: م اللذة؟ قال: إقبال الزمان، وعز السلطان.

النفس البهيمية
قيل لامرئ القيس: ما السرور؟ قال: بيضاء رعبوبة، بالطيب مشبوبة، باللحم مكروبة. وكان مفتوناً بالنساء.
وقيل لأعشى بكر: ما السرور؟ قال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية. وكان مغرماً بالشراب.
وقيل لطرفة: ما السرور؟ فقال: مطعم هني، ومشرب روي، وملبس دفي، ومركب وطي. وكان يؤثر الخفض والدعة.
وقال طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضا في الطخية المتورد
وتقصير يوم الدجن، والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء الممدد
وسمع بهذه الأبيات عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال: وأنا والله لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي: لولا أن أعدل في الرعية، وأقسم بالسوية، وأنفر في السرية.
وقال عبد الله بن نهيك على مذهب طرفة:
فلولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى ... وربك لم أحفل متى قام رامس
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كأن أخاها مطلع الشمس ناعس
ومنهن تقريط الجواد عنانه ... إذ ابتدر الشخص الكمي الفوارس
ومنهن تجريد الكواكب كالدمى ... إذا ابتز عن أكفالهن الملابس
وقيل ليزيد بن مزيد: ما السرور؟ قال: قبلة على غفلة. وكان صاحب وصائف.
وقيل لحرقة بنت النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ قالت: شرب الجريال، ومحادثة الرجال.
وقيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: دار قوراء، وجارية حوراء، وفرس مرتبط بالفناء.
وقيل للحسن بن هانئ: ما السرور؟ قال: مجالسة الفتيان، في بيوت القيان، ومنادمة الإخوان، على قضب الريحان وأنشأ يقول:
قلت بالقفص لموسى ... ونداماي نيام
يا رضيعي ثدي أم ... ليس لي عنه فطام
إنما العيش سماع ... ومدام وندام
فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام
وقال معاوية لعبد الله بن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: ليس هذا من مسائلك يا أمير المؤمنين. قال: عزمت عليك لتقولن. قال: هتك الحيا، واتباع الهوى.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما العيش؟ قال: ليخرج من ها هنا من الأحداث، فخرجوا. فقال: العيش كله في إسقاط المروءة.
وقال هشام بن عبد الملك: الذ الأشياء كلها جليس مساعد، يسقط عني مؤونة التحفظ.
وقيل لأعرابي: ما السرور؟ قال: لبس البالي في الصيف، والجديد في الشتاء.
وقيل لآخر: ما النعيم؟ قال: الماء الحار في الشتاء، والبارد في الصيف
البنيان
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من بني بنيانا فليتقنه.
وقالت الحكماء: لذة الطعام والشراب ساعة، ولذة الثوب يوم، ولذة المرأة شهر، ولذة البنيان دهر. كلما نظرت إليه تجددت لذته في قلبك، وحسنه في عينك.
وقالوا: دار الرجل جنته في الدنيا.
وقالوا: ينبغي للدار أن تكون أول ما تبتاع وآخر ما يباع.
وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر بن يحيى، حين اختط داره ليبنيها: هي قميصك، إن شئت فضيق، وإن شئت فوسع.
وقال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح: كيف منزلك بمنبج؟ قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل أهلها. قال: وكيف ذلك، وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أحتذي مثاله.
ولما دخل هارون منبجاً قال لعبد الملك بن صالح: هذا منزلك؟ قال: هو لأمير المؤمنين، ولي به. قال: كيف ماؤه؟ قال: أطيب ماء. قال: كيف هواؤه؟ قال: أفسح هواء.
وذكر عند جعفر بن يحيى الدار الفسيحة الجو، الطيبة النسيم، فقال رجل عنده: لقد دخلت الطائف فكأني كنت أبشر، وكأن قلبن ينضح بالسرور، ولا أجد لذلك علة إلا طيب نسيمها، وانفساح هوائها.
وقيل للحسن بن سهل: كيف نزلت الأطراف؟ قال: لأنها منازل الأشراف، ينالون فيها ما أرادوا بالقدرة، وينالهم فيها من أرادهم بالحاجة.
قولهم في الدار الضيقة
ما هي إلا قوارة حافر، وما هي إلا وجارضبع، وما هي إلا قبرة قانص، وما هي إلا مفحص قطاة.
وقالوا: ما هي إلا محلة يعسوب برأس سنان.

ومن مات في دار ضيقة قيل فيه: خرج من قبر إلى قبر.

من كره البنيان
كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بناء بيته، فقال: ابن ما يكنك عن الهواجر، وأذى المطر.
وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز يستأذنه في بناء مدينة، فكتب إليه: ابنها بالعدل ونق طرقها من الظلم.
ومر عمر بن الخطاب ببناء يبني بآجر وجص، فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعامل من عمالك. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. وأرسل إليه من يشاطره ماله.
وقيل ليزيد بن المهلب: ما لك لا تبني؟ قال: منزلي دار الإمارة أو الحبس.
ومر رجل من الخوارج بدار تبنى فقال: من هذا الذي يقيم كفيلاً؟ والخوارج تقول: كل مال لا يخرج بخروجك ويرجع برجوعك، فإنما هو كفيل بك.
ولما بنى أبو جعفر داره بالأنبار دخلها مع عبد الله بن الحسن، فجعل يريه بنيانه فيها، وما شيد من المصانع والقصور، فتمثل عبد الله بن السحن بهذه الأبيات:
ألم تر حوشباً أضحى يبني ... قصوراً نفعها لبني بقيله
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليلة
وقالوا في الحجاج بن يوسف، إذ بنى مدينة واسط: بناها في غير بلده، وأورثها غير ولده.
اللباس
إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة.
علي بن عاصم عن أبي إسحاق الشيباني قال: مررت بمحمد بن الحنفية واقفاً بعرفات، وعليه برد ومطرف خز أصفر.
الشيباني عن ابن جريج، أن ابن عباس كان يرتدي رداء بألف.
أبو حاتم عن الأصمعي أن ابن عون اشترى برنسا، فمرت عليه معادة العدوية، فقالت: مثلك يلبس هذا؟ قال: فذكرت ذلك لابن سيرين، فقال: ألا أخبرتها أن تميماً الداري اشترى حلة بألف يصلي فيها.
وقال معمر: رأيت قميص أيوب السختياني كاديمس الأرض، فسألته عن ذلك، فقال: إن الشهرة كانت فيما مضى في تذييل القميص، وإنها اليوم في تشميره.
وفي موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه، أن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار، فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله، فقلت: هلم يا رسول الله إلى الظل. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر: وعندنا صاحب له نجهزه يذهب يرعى ظهرنا. قال: فجهزته، ثم أدبر يذهب في الظهر، وعليه ثوبان. قد أخلقا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما له ثوبان غير هذين؟ قلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما. قال: فادعه، فمره يلبسهما. قال: فدعوته فلبسهما ثم ولى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماله، ضرب الله عنقه، أليس خيراً له؟ فسمعه الرجل فقال: في سبيل الله يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في سبيل الله. فقتل الرجل في سبيل الله.

العتبي قال: أصابت الربيع بن زياد الحارثي نشابة على جبينه، فكانت تنتقض عليه في كل عام، فأتاه علي بن أبي طالب عائداً، فقال: كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أجدني لو كان لا يذهب ما بي إلا ذهاب بصري لتمنيت ذهابه. قال له: وما قيمة بصرك عندك؟ قال: لو كانت لي الدنيا فديته بها قال: لا جرم ليعطيك الله على قدر ذلك إن شاء الله، إن الله يعطي على قدر الألم والمصيبة، وعنده تعالى تضعيف كثير. قال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد؟ قال: وماله؟ قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغم أهله، وأحزن ولده. فقال: علي عاصماً فلما أتاه عبس في وجهه، وقال: ويلك يا عاصم، أترى الله أباح لي اللذات وهو يكره أخذك منها؟ لأنت أهون على الله من ذلك، أو ما سمعته يقول: " مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان " ، ثم قال: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " وقوله: " ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها " . أما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال. وقد سمعته عز وجل يقول: " وأما بنعمة ربك فحدث " . وإن الله عز وجل خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال: " يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " وقال: " يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم " . فقال عصام: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: على لبس الخشن وأكل الخشن. قال: إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يتسع على الفقير فقره. قال: فما برج حتى لبس الملاء ونبذ العباء.

لباس الصوف
قدم حماد بن سلمة البصرة فجاء فرقد السبخي وعليه ثياب صوف، فقال له حماد: ضع عنك نصرانيتك هذه، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم، فخرج علينا معصفرة، ونحن نرى أن الميتة قد حلت له.
قال أبو الحسن المدائني: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم، وإلى خراسان، وعليه مدرعة صوف، فقال له قتيبة: ما يدعوك إلى لباس هذه؟ فسكت عنه فقال له قتيبة: أكلمك فلا تجيبني؟ قال: أكره أن أقول زهداً فأزكي نفسي، أو أقول فقراً فأشكو ربي.
وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقاً لسرائركم لقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، ولئن كان مخالفاً لها لقد هلكتم.
وكان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، ومقعدهما واحد في مسجد المدينة، فلا ينكر بعضهما على بعض شيئاً.
وقال محمود الوراق في أصحاب الصوف:
تصوف كي يقال له أمينٌ ... وما يعني التصوف والأمانة
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة
التزين والتطيب
دخل رجل على محمد بن المنكدر يسأله عن التزين والتطيب، فوجده قاعداً على فرش حشايا مصبغة، وجارية تغلفه بالغالية، فقال له: يرحمك الله، جئت أسألك عن شيء فوجدتك فيه. قال: على هذا أدركت الناس.
وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والشعث، حتى لو لم يجد أحدكم إلا زيتونة فليعصرها وليدهن بها.
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة: ما لي أراك شعثاء، مرهاء، سلتاء؟ قالت: يا رسول الله، أو لسنا من العرب؟ قال: بلى، وربما أنسيت العرب الكلمة فيعلمنيها جبريل.
الشعثاء: التي لا تدهن. والمرهاء: التي لا تكتحل. والسلتاء: التي لا تختضب.
وقال صلى الله عليه و سلم ما نلت من دنياكم إلا النساء والطيب.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا قتادة الأنصاري قال: يا رسول الله إن لي جمة أفأرجلها يا رسول الله؟ قال: نعم وأكرمها. قال: فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين.
وروى مالك عن زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اخرج فأصلح رأسك ولحيتك. ففعل ثم رجع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟ وقد تمادحت العرب بحسن الهيئة وطيب الرائحة، فقال النابغة:
رقاق النعال طيبٌ حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
يحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج فوق المشاجب

يصونون أجساداً قديماً نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب
وقال الفرزدق:
بنو دارم قومي ترى حجزاتهم ... عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها
يجرون هداب اليماني كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها
وقال طرفة:
أسد غيل فإذا ما فزعوا ... غير أنكاس ولا هوج هذر
فإذا ما شربوا وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحو عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وقال كثير عزة:
أشم من الغادين في كل حلة ... يميسون في صبغ من العصب متقن
لهم أزر حمر الحواشي يطونها ... بأقدامهم في الحضرمي الملسن
وقال آخر:
من النفر الشم الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا
جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدهان رأسه فهو أنزع
إذا النفر السود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقوا وأوسعوا
وقال آخر:
يشبهون ملوكاً في مجلتهم ... وطول أنضية الأعناق واللمم
إذا غدا المسك يجري في مفارقهم ... راحو كأنهم مرضى من الكرم
وقال آخر في علي بن داود الهاشمي:
أما أبوك فذاك الجود نعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود
كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا تعصب في أثوابه السود

الرحلة والركوب
سمع عمرو بن العاص رجلاً يقول: الرجلة قطعة من العذاب. فقال له: لم تحسن، بل العذاب قطعة من الرجلة.
ولما مشي هارون إلى مكة ومشت معه زبيدة كانت تبسط الدرانك أمامهم وتطوي خلفهم، فلما أعيا دعا بخادم له، فألقي ذراعه عليه وتأوه، وقال: والله لركوب حمار شموس خير من المشي على الدرانك.
قال الشاعر:
وما عن رضاً صار الحمار مطيتي ... ولكن من يمشي سيرضى بما ركب
وقال أعرابي:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع
الخيل
قد مضى من قولنا في وصف الخيل وفضائلها في كتاب الحروب ما كفى عن إعادتها هنا.
البغال
قال مسلمة بن عبد الملك: ما ركب الناس مثل بغلة طويلة العنان، قصيرة العذار، سفواء العرف، حصاء الذنب، سوطها عنانها، وهمها أمامها.
وعاتب الفضل بن الربيع بعض الهاشميين في ركوب بغلة فقال: هذا مركب تطامن عن خيلا الفرس، وارتفع عن ذلة الحمار، وخير الأمور أوسطها.
الحمير
قيل للفضل الرقاشي: إنك لتؤثر الحمير على سائر الدواب. قال: لأنها أرفق وأوفق. قيل: ولم ذلك؟ قال: لا تستبدل بالمكان على طول الزمان، ثم هي أقل داء وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صريعا، وأقل جماحا، وأشهر فارها، وأقل نظيراً، يزهي راكبه وقد تواضع بركوبه، ويعد مقتصداً وقد أسرف في ثمنه.
وقال جرير بن عبد الله: لا تركب حماراً، إن كان حديداً أتعب يديك، وإن كان بليداً أتعب رجليك.
طبائع الإنسان وسائر الحيوان
زعم علماء الطب أن في الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلاً: فللدم منها ستة أرطال، وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال. فإن غلب الدم الثلاث الطبائع تغير منه الوجه وورم، ويخرج ذلك إلى الجذام. وإن غلبت الثلاث الطبائع الدم أحدث المد، فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها على بعض فليعدل جسده بالاقتصاد، وينقيه بالمشي، فإن لم يفعل اعتراه ما وصفنا: إما جذام وإما مد. أسأل الله العافية ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان إلا من النصف من تموز إلى النصف من آب، فذلك ثلاثون يوماً لا يصلح فيها علاج، إلا أن ينزل مرض لا بد من مداواته.
جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم قال: الغلام كل سنة مقدار أربع أصابع من أصابعه.

حدثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه، أنه قرأ في التوراة: إن الله عز وجل حين خلق آدم ركب جسده من أربعة أشياء، ثم جعلها وراثة في ولده تنمو في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة: رطب، ويابس، وسخن، وبارد. قال: وذلك أني خلقته من تراب وماء، وجعلت فيه يبساً، فيبوسة كل جسد من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح. ثم خلقت للجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع أخر، وهي ملاك الجسد وقوامه، لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة إلا بالأخرى: المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم الرطب الحار، والبلغم البارد. ثم أسكنت بعض هذا الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرة الصفراء، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع وكانت كل واحدة فيها وفقاً لا تزيد ولا تنقص كملت صحته، واعتدل نباته. وإن زادت بقدر ما زادت. وإن كانت ناقصةً عنهن ملن بها وعلونها وأدخلن عليها السقم من نواحيهنلقلتها عنهن، حتى تضعف عن طاقتهن، وتعجز عن مقارنتهن.
قال وهب بم منبه: وجعل عقله في دماغه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، وصرامته في قلبه، ورعبه في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه، وجعل فيه ثلثمائة وستين مفصلاً.
الأصمعي: من لم يخف شعره قبل الثلاثين لم يصلع أبداً، ومن لم يحمل اللحم قبل الثلاثين لم يحمله أبداً.
حدث زيد بن أخزم قال: حدثني بشر بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب.
وقالت الحكماء: الخنث يعتري الأعراب والأكراد والزنج والمجانين وكل صنف، إلا الخصيان، فإنه لا يكون خصي مخنثاً.
وقالوا: كل ذي ريح منتنة وذفر كالتيس وما أشبهه، إذا خصي نقص ريحه وذهب صنانه، غير الإنسان، فإنه إذا خصي زاد نتنه واشتد صنانه، وخبث عرقه وريحه. وقالوا: وكل شيء من الحيوان يخصى فإن عظمه يرق، وإذا رق عظمه استرخى لحمه، إلا الإنسان، فإنه إذا خصي طال عظمه وعرض.
وقالوا: الخصي والمرأة لا يصلعان أبداً، والخصي تطول قدمه وتعظم.
وبلغني أنه كان لمحمد بن الجهم برذون رقيق الحافر، فخصاه فجاد حافره وحسن.
قالوا: والخصي تلين معاقد عصبه وتسترخي، ويعتريه الاعوجاج والفدع في أصابعه، وتسرع دمعته، ويجود جلده، ويسرع غضبه ورضاه، ويضيق صدره عن كتمان السر.
وزعم قوم أن أعمارهم تطول لترك الجماع، كما تطول أعمار البغال.
وقالوا: إن على قصر أعمار العصافير من كثرة الجماع.
وقالوا: في الغلمان من لا يحتلم أبداً، وفي النساء من لا تحيض أبداً، وذلك عيب. ومن الناس من لا يسقط شعره ولا يتبدل سنه، فمنهم عبد الصمد بن علي ذكروا أنه دخل قبره برواضعه.
وقالوا: الضب والخنزير لا يلقيان شيئاً من أسنانهما أبداً.
وقالت الحكماء: إن الجنين يغتذي بدم الحيض يقبل إليه من قبل السرة، ولذلك لا تحيض الحوامل إلا القليل. وقد رأينا من الحوامل من تحيض. وذلك لكثرة الدم.
وتقول العرب: حملت المرأة سهواً، إذا حاضت عليه. وقال الهذلي:
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
يعني أنها لم تر عليه دم حيض في حملها به.
وقالوا: فإذا خرج الولد من الرحم دفعت الطبيعة ذلك الدم الذي كان الجنين يغتذيه إلى الثديين، وهما عضوان باردان عصبيان يغيرانه لبناً خالصاً سائغاً للشاربين.
وقالوا: يعيش الإنسان حيث تعيش النار ويتلف حيث لا تبقى النار.
وأصحاب المعادن والحفائر إذا هجموا على فتق في بطن الأرض أو مغارة قدموا شمعة في طرف قناة، فإن عاشت بالنار وثبتت دخلوا في طلبها، وإلا أمسكوا.
والعرب تتشاءم ببكر ولد الرجل إذا كان ذكراً.
وكان قيس بن زهير أزرق بكراً، ابن بكرين.
وحدث محمد بن عائشة عن حماد عن قتادة عن عبد الله بن حارث بن نوفل قال: بكر البكرين شيطان مخلد لا يموت إلى يوم القيامة. يعني من الشياطين.
قالوا: وابن المذكرة من النساء والمؤنث من الرجال أخبث ما يكون، لأنه يأخذ بأخبث خصال أبيه وخصال أمه. والعرب تذكر أن الغيرى لا تنجب.
وقال عمرو بن معد يكرب:

ألست تصير إذا ما نسب ... ت بين المغارة والأحمق
قالت الحكماء: كل امرأة أو دابة تبطئ عن الحمل إن واقعها الفحل في الأيام التي يجري فيها الماء في العود فإنها تحمل بإذن الله.
وقالت الحكماء: الزنج شرار الخلق وأردؤهم تركيباً، لأن بلادهم سخنت جداً فأحرقتهم في الأرحام. وكذلك من بردت بلاده فلم تنضجه الرحم. وإنما فضل أهل بابل لعلة الاعتدال. وقالوا: الشمس هي التي شيطت شعر الزنج وقبضته، والشعر إن أدنيته من النار تقبض، فإذا زدته شيئاً تفلفل، فإن زدته احترق.
وقالوا: أطيب الأمم أفواها الزنج وإن لم تستن، وذلك لرطوبة أفواهها وكثرة الريق فيها، وكذلك الكلاب من سائر الحيوان أطيبها أفواها، لكثرة الماء فيها وخلوف فم الصائم يكون لقلة الريق، وكذلك الخلوف في آخر الليل.
وقالت الحكماء أيضاً: كل الحيوان إذا ألقي في الماء سبح. إلا الإنسان والقرد والفرس الأعسر، فإن هذه تغرق ولا تسبح.
قالوا: وليس في الأرض هارب من حرب أو غيرها يستعمل الحضر إلا إذا أخذ على يساره، ولذلك قالوا: فمال على وحشية، وأنحى على شؤمي يديه.
وقالوا: كل ذي عين ذوات الأربع: السباع والبهائم الوحشية والإنسية، فإنما الأشفار منها بجفنها الأعلى، إلا الإنسان، فإن الأشفار، يعني الهدب، بجفنيه معاً، الأعلى والأسفل.
وقالوا: كل جلد ينسلخ إلا الإنسان، فإن جلده لا ينسلخ.
وحدث أبو حاتم عن الأصمعي قال: اختصم رجلان إلى عمر رضي الله عنه في غلام، كلاهما يدعيه، فسأل عمر أمه فقالت: غشيني أحدهما ثم أهرقت دماً، ثم غشيني الآخر. فدعا عمر بالرجلين فسألهما، فقال أحدهما: أعلن أم سر؟ قال: أسر. قال: اشتركنا فيه. فضربه عمر حتى اضطجع. ثم سأل الآخر، فقال مثل ذلك. فقال عمر: ما كنت أرى مثل هذا يكون، ولقد علمت أن الكلبة يسفدها الكلاب، فتؤدي إلى كل كلب نجله.
وركب الناس في أرجلهم، وركب ذات الأربع في أيديها، وكل طائر كفه رجله.
الليث بن سعد عن ابن عجلان أن امرأة حملت، فأقامت حاملاً خمس سنين ثم ولدت، وحملت مرة أخرى فأقامت حاملاً ثلاث سنين ثم ولدت.
وولد الضحاك بن مزاحم، وهو ابن ثلاثة عشر شهراً. وقال جرير: ولد الضحاك لسنتين، وشعبة لسنتين.

ما نقص من خلقة الحيوان
حدث أبو حاتم عن أبي عبيدة، والأصمعي، وأبو زيد قالوا: الفرس لا طحال له. والبعير لا مرارة له، والظليم لا مخ له. وقال زهير:
من الظلمان جؤجؤه هواء
وكذلك طير الماء. والحيتان لا ألسنة لها ولا أدمغة لها، وصفن البعير لا بيضة فيه، والسكة لا رئة لها ولا تنفس، وكل ذي رئة يتنفس.
المشتركات من الحيوان
الراعبي بين الورشان والحمامة. والجوامز من الإبل، بين العراب والفوالج. والحمير الأخدرية، من الأخدر، فرس كان لأردشير كسرى. توحش وحمى عانات حمير فضرب بها. وأعمارها كأعمار الخيل. والزرافة بين الناقة من نوق الحبش وبين البقرة الوحشية وبين الضبعان، واسمها " اشتركا وبلناك " ؛ وذلك أن الضبعان ببلاد الحبشة يسفد الناقة فتجيء بولد خلقه بين خلق الناقة والضبعان، فإن كان ولد تلك الناقة ذكراً عرض للمهاة فألقحها زرافة. وسميت زرافة لأنها جماعة وهي واحدة، كأنها جمل وبقرة وضبع. والزرافة في كلام العرب: الجماعة.
وقال صاحب المنطق: الكلاب تسفدها الذئاب في أرض سلوقية، فتكون منها الكلاب السلوقية.
الأنعام
حديث يزيد بن عمرو عن عبد العزيز الباهلي عن الأسود بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلق الله دابة أكرم من النعجة وذلك أنه ستر حياها دون حيا غيرها.
وحدث أبو حاتم عن الأصمعي عن إهاب بن عمير قال: كان لنا جمل يعرف فسج الحامل، قبل أن يشمها.
وقيل لأبنة الخس: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنى. قيل: فمائة من الضأن؟ قال: غنى. قيل: فمائة من الإبل؟ قالت: منى. والعرب تضرب المثل في الصرد بالمعز فتقول: أصرد من عنز جرباء.
سئل دغفل العلامة عن بني مخزوم، فقال: معزى مطيرة، عليها قشعريرة، إلا بني المغيرة، فإن فيهم تشادق الكلام، ومصاهرة الكرام.
ومما تقول الأعراب على ألسنة البهائم، تقول المعزى: الاست جهوى، والذنب ألوى، والجلد زقاق، والشعر رفاق.

والضأن تضع مرة في السنة وتفرد ولا تتئم، والمعز قد تلد مرتين في السنة وتضع الثلاثة وأكثر وأقل، والنماء والعدد والبركة في الضأن. ونحو هذا الخنازير ربما تضع الأنثى عشرين خنزيراً، لا نماة فيها ولا بركة.
ويقال: الجواميس ضأن البقر، والبخت ضأن الإبل، والبراذين ضأن الخيل، والحرذان ضأن الفأر، والدلدل ضأن القنافذ، والنمل ضأن الذر.
وتقول الأطباء: في لحم المعز: إنه يورث الهم، ويحرك السوداء، ويورث النسيان، ويخبل الأولاد، ويفسد الدم. ولحم الضأن يضر بمن يصرع من المرة إضراراً شديداً، حتى يصرعهم في غير أوان الصرع: الأهلة وأنصاف الشهور. وهذان الوقتان هما وقت مد البحر وزيادة الماء، ولزيادة القمر إلى أن يصير بدراً بين في زيادة الدماغ والدم وجميع الرطوبات. قال الشاعر:
كأن القوم عشوا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم
وفي الماعز أيضاً أنها ترضع من خلفها وهي محفلة حتى تأتي على كل ما في ضرعها. وقال ابن أحمر:
إني وجدت بني أعيا وجاملهم ... كالعنز تعطف روقيها فتحتفل
وإذا رعت الماعزة في فضل نبت ما تأكله الضائنة ولم ينبت ما تأكله الماعزة، لأن الضائنة تقرض بأسنانها والماعزة تقلعه وتجذبه من أصله. وإذا حملت الماعزة أنزلت اللبن في أول الحمل إلى الضرع، والضائنة لا تنزل اللبن إلا عند الولادة، ولذلك تقول العرب: رمدت المعزى فربق ربق، ورمدت الضأن فربق ربق.
وذكور كل شيء أحسن من إناثه إلا التيوس، فإن الصفايا أحسن منها، وأصوات ذكور كل شيء أجهر وأغلظ إلا إناث البقر، فإنها أجهر أصواتاً من ذكورها.
وقرأت في كتاب للروم: إذا أردت أن تعرف ما لون جنين النعجة، فانظر إلى لسانها فإن الجنين يكون على لونه.
وقرأت فيه: إن الإبل تتحامى أمهاتها فلا تسفدها.
وقالوا: كل ثور أفطس، وكل بعير أعلم، وكل ذباب أقرح. وقالوا: البعير إذا صعب وخافوه استعانوا عليه حتى يبرك ويعقل ثم يكومه فحل آخر فيذل، وقد يفعل ذلك بالثور.
وقال بعض القصاص: مما فضل الله به الكبش أن جعله مستور العورة من قبل ومن دبر، ومما أهان به التيس أن جعله مهتوك الستر، مكشوف القبل والدبر.
وفي مناجاة عزير: اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن النبات الحبة، ومن البيوت مكة وإيلياء، ومن إيلياء بيت المقدس.
وفي الحديث " إن الغنم إذا أقبلت وإذا أدبرت أقبلت، والإبل إذا أدبرت أدبرت وإذا أقبلت أدبرت، ولا يأتي نفعها إلا من جانبها الأشأم " .
والأقط قد يكون من المعزى. قال امرؤ القيس:
لنا غنم نسوقها غزار ... كأن قرون جلتها عصي
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري

النعام
قالوا في الظليم: إن الصيف إذا أقبل وابتدأ البسر بالحمرة ابتدأ لون وظيفيه بالحمرة فلا يزالان يتلونان ويزدادان حمرة إلى أن تنتهي حمرة البسرة. لذلك قيل له خاضب، وللنعام خواضب. وفي الظليم أن كل ذي رجلين إذا انكسرت إحدى رجليه نهض على الأخرى، والظليم إذا انكسرت إحدى رجليه جثم، ولذا قال الشاعر في نفسه وأخيه:
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا دونها صبرا
قالوا: وعلة ذلك أنه لا مخ في عظمه.
وكل عظم كسر يجبر إلا عظما لا مخ فيه.
والظليم يغتذي المدر والصخر، فتذيبه قانصته بطبعها حتى يصير كالماء. وفي النعامة أنها أخذت من البعير المنسم، والوظيف والعنق والخدامة، ومن الطير الريش والجناحين والمناقير، فهي لا بعير ولا طائر.
وقال الأحيمر السعدي: كنت ممن خلعني قومي وأطل السلطان دمي، وهربت وترددت في البوادي حتى ظننت أني قد جزت نخل وبار أو قريباً من ذلك، وإني كنت أرى النوى في رجيع الذئاب، وكنت أغشى الذئاب وغيرها من بهائم الوحش، ولا تنفر مني لأنها لم تر أحداً قبلي، وكنت أمشي إلى الظبي السمين فآخذه، إلا النعام فإني لم أره قط إلا نافراً فزعاً.
الطير
بلغني عن مكحول أنه قال: كان من دعاء داود النبي عليه السلام: يا رازق النعاب في عشه.
وذلك أن الغراب إذا فقس عن فراخه خرجت بيضاء فإذا رآها كذلك نفر عنها، وتفتح أفواهها فيرسل الله ذباباً يدخل في أفواهها فيكون ذلك غذاءها حتى تسود، فإذا اسودت عاد الغراب فغذاها ودفع الله الذباب عنها.

قال الرياشي: ليس شيء تغيب أذناه من جميع الحيوان إلا وهو يبيض، وليس شيء تظهر أذناه إلا وهو يلد.
قال: هذا يروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الطير: الصرد، والهدهد، والذرة، والنحلة.
وقالوا: الطير ثلاثة أضرب: بهائم الطير وهو ما لقط الحبوب والبزور، وسباع الطير وهي التي تتغذى باللحم، ومشترك وهو مثل العصفور يشارك بهائم الطير، فإنه ليس بذي مخلب ولا منسر. وإذا سقط الطير على عود قدم أصابعه الثلاثة وأخر الدابرة. وسباع الطير تقدم إصبعين وتؤخر إصبعين. ويشارك سباع الطير فإنه يلقم فراخه ولا يزقها، وإنه يأكل اللحم ويصطاد الجراد والنمل.
وقالوا: العصفور شديد الوطء والفيل خفيف الوطء.
وقال صاحب الفلاحة: العقاب والحدأة يتبدلان فيصير العقاب حدأة والحدأة عقاباً، والأرنب تتبدل فتصير الأنثى ذكراً والذكر أنثى.
وذكر الغربان لا يحضن، وكذلك ذكر الأوز وذكر الدجاج.
وقال كعب الأحبار: ما ذهب طائر في السماء قط أكثر من اثني عشر ميلاً.
ومن حديث سفيان الثوري عن أنس بن مالك قال: عمر الذباب أربعون يوماً، والبعوضة ثلاثة أيام، والبرغوث خمسة أيام.
قال: والحمام تعجب بالكمون وتألف الموضع الذي يكون فيه، وكذلك العدس ولا سيما إذا نقع في عصير حلو. ومما يصلحن عليه ويكثرن أن تدخن بيوتهن بالعلك.
وأيمن مواضعها وأصلحها أن يبني لها بيت على أساطين خشب ويجعل فيه ثلاث كوى: كوة في سمك البيت، وكوة من قبل المغرب، وباب من قبل الجنوب.
قال: والسذاب إذا ألقي في اللبن تحامته السنانير البرية.
هشام بن محمد قال: حدثني ابن الكلى قال: أسماء نساء بني نوح (، إذا كتين في زوايا بيت البرج سلمت الفراخ ونمت وسلمت من الآفات. قال هشام: فجربته أنا وغيري فوجدناه كما قال، واسم امرأة سام بن نوح محلت محم، واسم امرأة حام نف نسا، واسم امرأة يافث فالر.
والطير الذي يخرج من وكره بالليل البومة، والصدى، والهامة، والضوع، والوطواط، والخفاش، وغراب الليل.
قالوا: وإذا خرج فرخ الحمامة نفخ أبواه في حلقه لتتسع الحوصلة بعد التحامها وتنفتق، فإذا اتسعت زقاه عند ذلك اللعاب ثم زقاه بعد ذلك الحب.
قال المثنى بن زهير: لم أر قط في رجل أو امرأة إلا رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها، وذكراً لا يريد إلا أنثاه إلا أن يهلك أحدهما أو يفقد، ورأيت حمامة لا تمنع شيئاً من الذكور، ورأيت حمامة لا تقمط إلا بعد شدة الطلب، ورأيت حمامة تزيف للذكر ساعة يريدها، ورأيت حمامة تقمط الذكر، ورأيت ذكراً يقمط ما لقي ولا يزاوج، ورأيت ذكراً له أنثيان يحضن مع هذه وهذه.
قالوا: ومن عجائب الخفاش أنه لا يبصر في الضوء الشديد ولا في الظلمة الشديدة، وتحبل وتلد، وتحيض، وترضع، وتطير بلا ريش، وتحمل ولدها تحت جناحها، وربما قبضت عليه بفيها، وربما ولدت وهي تطير، ولها أذنان وأسنان، وجناحان متصلان برجليها.
قالوا: والخطاف يتبع الربيع حيث كان، وتقلع إحدى عينيه وترجع.

البيض
قالوا: والبيض يكون من أربعة أشياء: منه ما يتكون من السفاد، ومنه ما يتكون من التراب، ومنه ما يتكون من نسيم ريح يصل إلى أرحامها، وهو شيء يعتري الحجل وما شاكلها في الطبيعة، فربما كانت الأنثى على قبالة الريح التي تهب في بعض الزمان فتحتشي لذلك بيضاً.
وكذلك النخلة التي تكون تحت الفحال وتحت ريحه فتلقح بتلك الريح وتكتفي بذلك.
والدجاجة إذا هرمت لم يكن لبيضها مخ، وإذا لم يكن لها مخ لم يكن لبيضها فرخ، لأن الفرخ يخلق من بياض البيض وغذاؤه الصفرة.
السباع
يقال: إنه ليس في السباع أطيب أفواها من الكلاب، ولا في الوحش أطيب أفواها من الظباء. ويقال: ليس أشد بخراً من الأسد والصقر، ولا في السباع أسبح من كلب.
وليس في الأرض فحل من سائر الحيوان لذكره حجم إلا الإنسان والكلب. والأسد لا يأكل الحار ولا الحامض ولا يدنو من النار، وكذلك أكثر السباع.
وتقول الروم: الأسد يذعر لصوت الذئب ولا يدنو من المرأة الطامث. والأسد إذا بال شغر كما يشغر الكلب، وهو قليل الشرب، ونجوه كنجو الكلب، ودواء عضته كدواء عضة الكلب.
قالوا: والعيون التي تضيء بالليل: عيون الأسد والنمور والأفاعي والسنانير.

وقالوا: ثلاثة من الحيوان ترجع في قيئها: الأسد والكلب والسنور.
وقالوا: أيام حمل الكلبة ستون يوماً، فإن وضعت قبل ذلك لم تكد أولادها تعيش. وأناث الكلاب تحيض كل سبعة أيام يوماً، وعلامة ذلك إن يرم ثفر الكلبة، ولا تريد السفاد في ذلك الوقت.
وذكور السلوقية تعيش عشرين سنة وتعيش أناثها اثنتي عشرة سنة.
وليس يلقى الكلب من أسنانه إلا النابين. والذئاب تسفد الكلاب في أرض سلوقية فتكون منها الكلاب السلوقية.
والكلب من الحيوان يحتلم كما يحتلم الإنسان.
وقالوا: في طبع الذئب محبة الدم، ويبلغ بطبعه أن يرى ذئباً مثله قد دمي، فيثب عليه فيمزقه. قال الشاعر:
وكنا كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
ويقولون: ربما ينام الذئب بإحدى عينيه ويفتح الأخرى، قال حميد بن ثور:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان نائم
قالوا: والذئب أشد السباع مطالبةً، وإذا عجز عوى عواء استغاثة فتسامعت به الذئاب، فأقبلت حتى تجتمع على الإنسان أو غيره فتأكله، وليس في السباع من يفعل ذلك غيرها.
وقضيب الذكر من الأرانب من عظم، وكذلك قضيب الثعلب.
والأرانب تنام مفتوحة العين، وتحيض.
وليس لشيء من ذكور الحيوان ثدي في صدره إلا الإنسان والفيل.
ولسان الفيل مقلوب على طرفه داخل.
وزعمت الهند أن نابي الفيل قرناه، يخرجان مستبطنين حتى يخرقا الحنك. ويخرجان منكسين.
وقال صاحب المنطق: ظهر فيل عاش أربعمائة سنة.
وحدثني شيخ لنا عن الزيادي قال: رأيت فيلاً أيام أبي جعفر قيل إنه سجد لسابور ذي الأكتاف، ولأبي جعفر.
والفيلة تضع في سبع سنين.

الحيوان الذي لا يصلح إلا بأمير
الناس، والفأرة، والغرانيق، والكراكي، والنحل، والحشرات.
قتادة عن ابن عمر قال: الفأرة يهودية، ولو سقيتها ألبان الإبل ما شربته. والفأر أصناف: منها الزباب، وهو أصم لا يسمع، والخلد وهو أعمى. وتقول العرب: هو أسود من زبابة، وفأرة البش، والبش سم قاتل يقال: هو قرون السنبل، وله فأرة تغتذيه لا تأكل غيره. وفأرة المسك من غير هذا. وفأرة الإبل: أرواحها إذا عرقت.
قالوا: والأفعى إذا نفثت في فيها الأتراج وأطبقت لحييها الأعلى على الأسفل لم تقتل بعضتها أياماً.
قالوا: الثوم والملح وبعر الغنم نافع جداً إذا وضع على موضع لسعة الحية، والحيات تقتل بريح السذاب والشيح، وتعجب باللفاح والبسباس، والبطيخ والخردل والحرف، واللبن والخمر.
وليس في الأرض حيوان أصبر على الجوع من الحية، ثم الضب بعدها. وإذا هرمت الحية صغر بدنها، وقنعت بالنسيم.
قالوا: وكل شيء يأكل فهو يحرك فكه الأسفل، ما عدا التمساح فإنه يحرك فكه الأعلى.
وبمصر سمكة يقال لها الرعادة، من اصطادها لم تزل يده ترعد ما دامت في شبكته.
والجعل إذا دفنته في الورد سكنت حركته حتى تسحبه ميتاً، فإذا أدنيته من الروث تحرك ورجعت نفسه.
والبعير إذا ابتلع في علفه خنفساء قتلته إذا وصلت إلى جوفه حية.
والضب يذبح ثم يمكث ليلة، ثم يقرب من النار فيتحرك.
والأفعى تذبح فتبقى أياماً تتحرك وإذا وطئها أحد نهشته، ويقطع ثلثها الأسفل فتعيش، وينبت ذلك المقطوع.
قالوا: وللضب ذكران وللضبة حران. حكاه أبو حاتم عن الأصمعي. ويقال لذلك النزك. وأنشد:
سبحل له نزكان كانا فضيلة ... على كل حافٍ في الأنام وناعل
وسام أبرص لا يدخل بيتاً فيه زغفران.
ومن عضه كلب كلب احتاج أن يستر وجهه من الذباب لئلا تسقط عليه.
وخرطوم الذباب يده، ومنه يغني، وفيه يجري الصوت كما يجري الزامر الصوت في القصبة بالنفخ.
والسلحفاة إذا أكلت أفعى أكلت سعتراً جبلياً.
وابن عرس إذا قاتل الحية أكل السذاب. والكلاب إذا كان في أجوافها داء أكلت سنبل القمح. والإيل إذا مهشته الحية أكل السراطين.
قال ابن ماسويه: فلذلك يظن أن السراطين صالحة لمن نهشته الحية.
قال صاحب المنطق: الحية إذا اشتكت كبدها من رفع الأرانب والثعالب في الهواء تعالجت بأكل الأكباد حتى تبرأ.
وبعض الناس يعملون من الأوزاغ سماً أنفذ من البيش ومن ريق الأفاعي.
وإذا زرع في نواحي الزرع خردل تجنبته دبي الجراد، وإذا أخذ المر داسنج وخلط بعجين الدقيق ثم طرح للفأر وأكل منه مات، وكذلك برادة الحديد.

وإذا أخذ الأفيون والشونيز والبازرند وقرن الإيل وبابونج وظلف من أظلاف العنز، فخلط ذلك جميعاً، ثم يدق وينخل نخلاً جيداً ويعجن بخل ثقيف، ثم يقطع قطعاً، فيدخن قطعة منه، هربت الحيات والهوام والنمل والعقارب من ريحه. والبعوض تهرب من دخان الكبريت والعلك.
وقالت الحكماء: لحم ابن عرس نافع من الصرع، ولحم القنفذ نافع من الجذام والسل والشنج ووجع الكلى، يجفف ويشوى ويطعمه العليل مطبوخاً ومشوياً ويضمد به الشنج.
وعين الأفعى وعين الجراد لا تدوران.
وليس ينسج من العناكب إلا الأنثى، وهي الخدرنق، وولد العنكب ينسج ساعة تولد.
والقمل يتخلق في الرؤوس على لون الشعر، إن كان أسود أو أبيض أو مخضوباً.
وأم حبين لا تقيم بمكان تكون فيه السرقة، وهي دويبة يضرب بها المثل في الصنعة، فيقال: أصنع من سرفة.
أبو حاتم: عن الأصمعي، قال: قال أبو بكر المهجري: ما من شيء يضر إلا وفيه منفعة.
وقيل لبعض الأطباء: إن فلاناً يقول إنما أنا مثل العقرب أضر ولا أنفع. فقال: ما أقل علمه بها، إنها لتنفع إذا شق بطنها ووضعت على مكان اللسعة، وقد تجعل في جوف فخار مسدود الرأس مطين الجوانب ثم يوضع الفخار في تنور. فإذا صارت العقرب رماداً سقي من ذلك الرماد مثل نصف دانق من به حصاة من غير أن يضر سائر الأعضاء. وقد تلسع من به حمى عتيقة فتقلع عنه، وقد تلسع المفلوج فيذهب عنه الفالج. وقد تلقى العقرب في الدهن وتترك فيه حتى يأخذ الدهن منها، ويجتذب قواها فيكون ذلك الذهن مفرقاً للأورام الغليظة.
وقال المأمون: قلت لبختيشوع وسلمويه، وابن ماسويه: إن الذباب إذا دلك على موضع لسعة الزنبور سكن ألمها، فلسعني زنبور، فحككت على موضع لسعته عشرين ذبابة، فما سكن إلا في قدر الحين الذي يسكن فيه من غير علاج، فلم يبق في يدي منهم، إلا أن قالوا: كان هذا الزنبور حتفاً قاضياً، ولولا هذا العلاج له لقتلك.
وقال محمد بن الجهم: لا تتهاونوا بكثير مما ترون من علاج العجائز، فإن كثيراً منه وقع إليهن من قدماء الأطباء، كالذباب يلقي في الإثمد فيسحق معه، ليزيد ذلك من نور البصر، ويشد مراكز شعر الأجفان، في حافات الجفون.
قالوا: وللسع الأفاعي والحيات ينفع ورق الآس الرطب، يعصر ويسقى من مائه قدر نصف رطل.

مصايد الطير
قال صاحب الفلاحة: من أراد أن يحتال للطير والدجاج حتى يتحيرن ويغشى عليهن فيصيدهن عمد إلى الحلتيت، فدافه بالماء ثم جعل في ذلك شيئاً من عسل، ثم نقع فيه برا يوماً وليلة، ثم ألقى ذلك البر إلى الطير فإذا لقطه تحير وغشى عليه، فلا يقدر على الطيران إلا أن يسقى لبناً خالطه سمن.
قال: وإن عمد إلى طحين بر غير منخول فعجن بجير ثم طرح للطير والحجل فأكلا منه، تحيرت وأخذت.
ومما يصاد به الكراكي وغيرها من الطير أن يوضع لهن في مواقعهن إناء فيه خمر ويجعل فيه خريق أسود، وينقع فيه شعير، ثم يلقى لهن، فإذا أكلن منه أخذهن الصائد كيف شاء.
وقال غيره: تصاد العصافير بأيسر حيلة، تؤخذ سلة في صورة المحبرة المنكوسة، ويجعل في جوفها عصفور، فتنقض عليه العصافير وتدخل عليه، فما دخل لم يقدر على الخروج، فيصيد الرجل منها من يومه ما شاء وهو وادع.
وقال: ويصاد طير الماء الساكن بالقرعة، وذلك أن تأخذ قرعة يابسة صحيحة فيرمي بها في الماء فإنها تتحرك بتحرك الماء فإذا أبصرها الطير تحرك وفزع، فإذا كثر ذلك عليه أنس حتى ربما سقط عليها، ثم تأخذ قرعة مثلها فتقطع رأسها، ويفتق فيها موضع عينين ثم يدخل الصائد رأسه فيها، ويدخل الماء ويمشي رويداً، وكلما دنا من الطائر مد يده تحت الماء حتى يقبض على رجليه ويغمس يده به تحت الماء ويكسر جناحيه، ويخليه فيبقى طافياً على الماء يسبح برجليه ولا يطيق الطيران، وسائر الطير لا تنكر انغماسه في الماء، فإذا فرغ من صيد ما أراد بالقرعة لقطها وحملها.
مصايد السباع
السباع العادية تصاد بالزبى والمغويات، وهي آبار تحفر في أنشاز الأرض، ولذلك يقال: قد بلغ السيل الزبى.

قال صاحب الفلاحة: ومما يصاد به السباع العادية أن يؤخذ سمك من سمك البحر الكبار السمان فيقطع قطعاً، ثم تشدخ وتكتل كتلاً، ثم تؤجج نار في غائط من الأرض تقرب من السباع، ثم تقذف تلك الكتل فيها واحدة بعد أخرى حتى ينتشر دخان تلك النار، وقتار تلك الكتل في تلك الأرض، ثم يطرح حول تلك النار قطع من لحم قد جعل فيه الخربق الأسود والأفيون، وتكون تلك النار في موضع لا ترى فيه حتى تقبل السباع لريح القتار وهي آمنة، فتأكل من قطع ذلك اللحم، ويخرج عليه فيصيدها الكامنون لها كيف شاءوا.

تفاضل البلدان
الأصمعي يرفعه إلى قتادة قال: الدنيا كلها أربعة وعشرون ألف فرسخ، فبلد السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ، وبلد الروم ثمانية آلاف فرسخ، وبلد الفرس ثلاثة آلاف فرسخ، وبلد العرب ألف.
الأصمعي قال: جزيرة العرب ما بين نجران إلى العذيب، وقال غيره: أرض العرب ما بين بحر القلزم وبحر الهند.
قالوا: وسواد البصرة: الأهواز، وفارس. وسواد الكوفة: كسكر إلى الزاب إلى عمل حلوان إلى القادسية، وهذه كلها من عمل العراق.
وعمل العراق من هيث إلى الصين، والهند، والسند، ثم كذلك إلى الري، وخراسان كلها إلى بلد الديلم، والجبال. وأصفهان سرة العراق، وافتتحها أبو موسى الأشعري. والجزيرة ليست من عمل العراق. وهي ما بين الدجلة والفرات والموصل من الجزيرة. ومكة والمدينة ومصر ليست من عمل العراق.
الأصمعي قال: البصرة كلها عثمانية، والكوفة كلها علوية، والشام كلها أموية، والجزيرة خارجية، والحجاز سنية. وإنما صارت البصرة عثمانية من يوم الجمل، إذ قاموا مع عائشة وطلحة والزبير فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقيل لرجل من أهل البصرة: أتحب علياً؟ قال: كيف أحب رجلاً قتل من قومي من لدن كانت الشمس هكذا إلى أن صارت هكذا ثلاثين ألفاً.
والكوفة علوية؛ لأنها وطن علي رضي الله عنه وداره. والشام أموية؛ لأنها مركز ملك بني أمية وبيضتهم. والجزيرة خارجية؛ لأنها مسكن ربيعة. وهي رأس كل فتنة، وأكثرها نصارى وخوارج، ومنازلهم الخابور وهو واد، بالجزيرة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لبني تغلب: يا خنازير العرب. والله لئن صار هذا الأمر إلي لأضعفن عليكم الجزية.
وقال هارون الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة. قال: بلى، ولكن منابرهم الجذوع.
الأعمش عن سليم: قال: ذكر عمر بن الخطاب الكوفة، فقال: جمجمة العرب، وكنز الإيمان، ورمح الله في الأرض، ومادة الأمصار.
علي بن محمد المديني قال: الكوفة جارية حسناء تصنع لزوجها، فكلما رآها سرته.
وقال محمد بن عمير بن عطارد: الكوفة سفلت عن الشام ورباها. وارتفعت عن البصرة وعمقها، فهي مرية مريعة عذبة برية، وإذا أتتها الشمال هبت على مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور، وإذا هبت الجنوب جاءتها بريح السواد وورده وياسمينه وأتراجه، فماؤها عذب، وعيشها خصب.
قال ابن عياش الهمداني لأبي بكر الهذلي عن أبي العباس، وذكرت عنده الكوفة والبصرة، فقال: إنما مثل الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء ببرده وعذوبته، ومثل البصرة مثل المثانة يأتيها الماء بعد تغير وفساد.
وقال الحجاج: الكوفة بكر حسناء، والبصرة عجوز بخراء، أوتيت من كل حلى وزينة.
وقال جعفر بن سليمان: العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، وداري عين المربد.
وقال الأصمعي: تذاكروا عند زياد الكوفة والبصرة. فقال زياد: لو أضللت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلني عليها.
وقال حذيفة: أهل البصرة لا يفتحون باب هدىً، ولا يغلقون باب ضلالة، وقد رفع الطاعون عن جميع أهل الأرض إلا عن أهل البصرة.
ومما نقم على أهل الكوفة أنهم أغدر الناس. طعنوا الحسن بن علي، وانتهبوا عسكره، وخذلوا الحسين بن علي بعد أن استدعوه حتى قتل.
وشكوا سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، وزعموا أنه لا يحسن أن يصلي، فدعا عليهم أن لا يرضيهم الله عن والٍ، ولا يرضي والياً عنهم.
وقد دعا عليهم علي بن أبي طالب فقال: اللهم ارمهم بالغلام الثقفي. يعني الحجاج بن يوسف.

وشكوا عمار بن ياسر والمغيرة بن شعبة، وطردوا سعيد بن العاص، وخذلوا زيد بن علي. وادعى النبوة منهم غير واحد، منهم المختار بن أبي عبيد. وكتب إلى الأحنف: بلغني أنكم تكذبونني وتكذبوا رسلي، وقد كذبت الأنبياء من قبلي ولست بخير من كثير منهم.
وقيل لعبد الله بن عمر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه. قال: صدق، الشياطين يوحون إلى أوليائهم.
ولما أرادت سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم الرحيل من الكوفة إلى المدينة بعد قتل زوجها المصعب حف بها أهل الكوفة، وقالوا: أحسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله (. فقالت: لا جزاكم الله خيراً من قوم، ولا أحسن الخلافة عليكم، قتلتم أبي وجدي وأخي وعمي وزوجي، أيتمتموني صغيرة وأيمتموني كبيرة.
ولما دخل عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل المصعب، أقبل إليه جماعة من هؤلاء، قالوا: أمراؤك أهل الكوفة. قال: قتلة عثمان؟ قالوا: نعم وقتلة علي! قال: هذه بهذه.
قدم عبد الله بن الكواء على معاوية، فقال: أخبرني عن أهل البصرة، قال: يقبلون معاً ويدبرون شتى. قال: فأخبرني عن أهل الكوفة. قال: أنظر الناس في صغيرة وأوقفهم في كبيرة. قال: فأخبرني عن أهل المدينة. قال: أحرص الناس على الفتنة وأعجزهم عنها. قال: فأخبرني عن أهل مصر. قال: لقمة آكل. قال: فأخبرني عن أهل الجزيرة. قال: كناسة بين حشين. قال: فأخبرني عن أهل الشام، قال: جند أمير المؤمنين، ولا أقول فيهم شيئاً. قال: لتقولن. قال: أطوع خلق الله لمخلوق وأعصاهم للخالق، ولا يخشون في السماء ساكناً.
قتادة قال: قيست البصرة في زمن خالد بن عبد الله القسري، فوجدوا طولها فرسخين وعرضها فرسخين.
الأصمعي قال: قال ابن شهاب الزهري: من قدم أرضاً فأخذ من ترابها فجعله في مائها ثم شربه عوفي من وبائها.
الأصمعي قال: دخلت الطائف فكأني كنت أبشر، وكان قلبي ينضح بالسرور، وما أجد لذلك علةً إلا انفساح جوها، وطيب نسيمها.
ودخل سليمان بن عبد الملك الطائف، فنظر إلى بيادر الزبيب فقال: ما تلك الجرار السود؟ قيل له: ليست بجرار يا أمير المؤمنين، ولكنها بيادر الزبيب. فقال: لله در قسي، في أي عش أودع أفراخه؟ يريد بقسي ثقيفاً. كذلك كان اسمه.
الأصمعي قال: من أمثال العامة يقولون: حمى خيبر، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وطواعين الشام.
الأصمعي قال: ذكروا أن في باب سمرقند مكتوباً: بين هذه المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ.
قال الأصمعي: وبين بغداد وأفريقية ألف فرسخ، وبين الكوفة والبصرة ثمانون فرسخاً، وواسط بينهما متوسطة، ولذلك سميت واسطاً.

الشامات
أول حد الشام من طريق مصر أمج، ثم يليها غزة، ثم الرملة رملة فلسطين، ومدينتها العظمى فلسطين وعسقلان، وبها بيت المقدس. وفلسطين هي الشام الأولى.
ثم الشام الثانية، هي الأردن، ومدينتها العظمى طبرية، وهي التي على شاطئ البحيرة، والغور واليرموك. وبيسان فيما بين فلسطين والأردن.
ثم الشام الثالثة الغوطة، ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس.
ثم الشام الرابعة وهي أرض حمص.
ثم الشام الخامسة وهي قنسرين، ومدينتها العظمى - حيث السلطان - حلب. وبين قنسرين وحلب أربعة فراسخ، وساحلها أنطاكية مدينة عظيمة على شاطئ البحر، في داخلها البساتين والأنهار والمزارع، وهي مدينة حبيب النجار، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى. وبها مسجد ينسب إلى حبيب النجار.
ومن ثغور الشام الخامسة: المصيصة وطرسوس ونهرا جيحان وسيحان.
الجزيرة
ثم الجزيرة، وهي ما بين دجلة والفرات، وبهما نهران يقال لهما الخابور والبليخ، ومخرجهما من رأس العين، مدينة عظيمة بالجزيرة في داخلها عين هي عنصر الخابور والبليخ. وعلى الخابور منازل ربيعة أكثرها نصارى، وخوارج. ونصيين من الجزيرة، وهي مدينة عظيمة مطلة على جبل الجودي. والموصل من الجزيرة أيضاً. والرقة وحران من الجزيرة أيضاً. ومن ثغور الجزيرة في جهة عمورية من أرض الروم بطرة وملطية. وفي جوف الفرات جزائر فيها مدن يقال لها عانة وعانات. وعلى شط الفرات مما يلي الجزيرة قرقيسيا، ومما يلي الشام الرحبة رحبة مالك بن طوق.
العراقان

العراقان: هما البصرة والكوفة، وقد تقدم ذكرهما واختلاف الناس فيهما. ومما أحدث الخلفاء بالعراق خلفاء بني هاشم من المدن الأنبار، وهي مدينة أبي العباس، أول من ولي الخلافة ابتناها واتخذها دار خلافته. ثم ولي أخوه أبو جعفر المنصور، فانتقل إلى بغداد وابتنى بها الكرخ، وهي مدينة السلام في جوف بغداد، وهي دار خلافة بني هاشم. حتى قام المعتصم محمد بن هارون فانتقل منها إلى سامرا. وتفسير سامرا أن سام بن نوح عليه السلام بناها. وإنما هو بالسريانية، وهي دار الخلافة إلى الآن.

فارس
منها الأهواز مدينة عظيمة وبلدها واسع جداً، وهي من سواد البصرة. وتستر مدينة يعمل فيها التستري من الملاحف. ومدينة يقال لها جور وإليها ينسب ماء الورد الجوري. ومدينة يقال لها السوس بها تعمل الثياب السوسية من الخز وغيره. ومدينة يقال لها العسكر وإليها تنسب الثياب العسكرية ومدينة يقال لها الأفساسار وبها تعمل الأكسية الأفساسارية الجياد. ومدينة يقال لها دستوا، وبها تعمل الثياب الدستوائية. ومدينة يقال لها ميسان، وبها يعمل الوطاء الميساني. ومدينة يقال لها الدسكرة دسكرة الملك، كانت لكسرى. ومدينة يقال لها حلوان، وهي أول الجبال من خراسان وآخر العراق.
خراسان
أول مدنها الري، وهي آخر الجبال من خراسان، وإليها ينسب من الرجال الرازي، ومن خراسان مرو، وهي دار خلافة المأمون، ومنها خرج أبو مسلم صاحب الدعوة. ومن ينسب إليها من الرجال يقال له مروزي، ومن الثياب مروي. ومدينة يقال لها قومس، وإليها تنسب الطيقان القومسية. ومدينة يقال لها سابور بها ملك بني طاهر. ومدينة يقال لها هراة إليها ينسب الهروي من الرجال والمتاع. ومدينة يقال لها بلخ وإليها ينسب البلخي، وبها معادن البجادي العتيق، وهو جنس من الفصوص تسميه العامة البزادي. ومدينة يقال لها خوارزم وإليها ينسب الخوارزمي، وهي على شط البحر المحيط. وبلخ على شط النهر العظيم، الذي يقال له جيحان بخراسان. ثم جرجان، وهي مدينة عظيمة على شط البحر المحيط، وإليها ينسب الوشي الجرجاني والمتاع. ثم قوهى وهي مدينة عظيمة إليها ينسب القوهي من الثياب. ثم كابل، وهي مدينة يؤتى منها بالإهليلج الكابلي. ثم سمرقند، وهي مدينة عظيمة إليها ينسب السمرقندي من الثياب. وبين بغداد وبينها مسيرة ستة أشهر ومما يليها كرمان، وهي على بطائح السند وبلاد السند من آخر خراسان، ما بين المغرب والمشرق من جهة القبلة. وآخر مدن خراسان مدينة يقال لها تبت، وهي من أرض الترك وبها مجمع المسك وإليها ينسب المسك التبتي. ومدينة يقال لها فرغانة وأهلها جنس من العجم يقال لهم الصغد، وهم الذين يقطعون آذانهم من الحزن، إذا مات لهم كبير.
ومن المدن التي في صدر خراسان مع الجبال مدينة يقال لها قرميسين. ثم الدينور، وإليها ينسب الدينوري. ومدينة همدان مدينة عظيمة، وطبرستان مدينة عظيمة فيها تعمل الأكسية الطبرية، ثم قم وهي مدينة عظيمة، منها يؤتى بالزعفران. ثم أصبهان وهي مدينة عظيمة، ثم طوس وهي من ثغور الجبال.
مصر
من ناحية الشام الفسطاط، وهي مدينة بها منبران ومسجدان يجمع فيهما العسكر حيث السلطان. وعين شمس، بها منبر، وهي كانت مدينة فرعون، وفيها بنيانه قائم. والفرما لها منبر، والعريش الذي يقال له عريش مصر له منبر، وهي آخر مصر وأول الشام. ومن أسفل الأرض بوصير، لها منبر. وتنيس لها منبر، وإليها تنسب الثياب التنيسية، وبها طراز للخليفة. وشطا لها منبر وإليها ينسب الشطوي، وديبق، لها منبر وإليها ينسب الدبيقي من الثياب. والإسكندرية لها منبر. من ناحية الحجاز. القلزم لها منبر. وأيلة لها منبر. ومن ناحية الصعيد القس، وإليها ينسب القسي من الثياب. والصفن، وإليها تنسب الأكسية الصفنية الحمر. ودلاص لها منبر، وهي مجمع سحر مصر. والفيوم مدينة لها منبر تؤدي كل يوم ألف دينار، وخلف ذلك بوق، وبها تكون معادن الذهب والجواهر والزبرجد.
صفة المسجد الحرام

صحنه كبير واسع، ذرعه طولاً من باب بني جمح إلى باب بني هاشم الذي يقابل دار العباس بن عبد المطلب أربعمائة ذراع وأربع أذرع. وذرعه عرضاً من باب الصفا إلى دار الندوة لاصقاً بوجه الكعبة الشرقي ثلثمائة ذراع وأربع أذرع. وله ثلاث بلاطات محدقة به من جهاته كلها، منتظم بعضها ببعض. وهي داخلة في الذرع الذي ذكرت، فوقها سماوتها مذهبة، وحافاتها على عمد رخام بيض عددها في طوله من الشرق إلى الغرب مع وجه الصحن خمسون عموداً، وفي عرضه ثلاثون عموداً، طول كل عمود منها عشرة أذرع ودوره ثلاث أذرع. والمذهبة من رؤوس العمد ثلثمائة وعشرون رأساً. وسور المسجد كله من داخله مزخرف بالفسيفساء. وأبوابه على عمد رخام ما بين الأربعة إلى الثلاثة إلى الاثنين، وهي ثلاثة وعشرون باباً لا غلق عليها، يصعد عليها في عدة من درج.

صفة الكعبة
وبيت الله الحرام بوسط المسجد، كان ارتفاعه في عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال والله أعلم تسع أذرع، وطوله في الأرض ثلاثون ذراعاً، وعرضه اثنتان وعشرون ذراعاً. وكان له ثلاثة سقوف ثم بنته قريش في الجاهلية فاقتصرت على قواعد إبراهيم ورفعته ثمان عشرة ذراعاً، ونقصت من طوله في الأرض ست أذرع وشبراً تركته في الحجر، فلما هدمه ابن الزبير رده على قواعد إبراهيم ورفعه سبعاً وعشرين ذراعاً، وفتح له بابين: باباً إلى الشرق وباباً إلى الغرب يدخل من الشرقي ويخرج من الغربي. فكان كذلك حتى قتل. فلما تغلب الحجاج على مكة استأذن عبد الملك بن مروان في هدم ما كان ابن الزبير زاده من الحجر في الكعبة. فأذن له فرده على قواعد قريش وسد الباب الغربي ولم ينقص من ارتفاعه شيئاً.
فذرع وجهه القبلي اليوم من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرون ذراعاً، ووجهه الجنوبي من الركن العراقي إلى الركن الشامي، وهو الذي يلي الحجر إحدى وعشرون ذراعاً. ووجهه الشرقي من الركن الأسود إلى الركن العراقي خمس وعشرون ذراعاً. ووجهه الغربي من الركن اليماني إلى الركن الشامي خمس وعشرون ذراعاً.
وحول البيت كله إلا موضع الركن الأسود درجة مجصصة، يكون ارتفاعها عظم الذراع في عرض مثله، وقاية للبيت من السيل.
وباب البيت في وجهه الشرقي على قدر القامة من الأرض، طوله ست أذرع وعشر أصابع، وعرضه ثلاث أذرع وثمان عشرة إصبعاً. والبابان من ساج، غلظ كل باب ثلاث أصابع، ظاهرهما ملبس بالذهب وباطنهما بالفضة، في كل باب ست عوارض، ولها عروتان يضرب فيهما قفل من ذهب وحواجبه كلها مذهبة ما عدا الحاجب الأيمن، فإن العلوي الثائر لما تغلب على مكة قلع ذهبه فترك على حاله. وتحت العتبة العليا عتبة مذهبة والبابان من ورائهما، والعتبة السفلى مستورة بالديباج إلى الأرض.
وبين الركن الأسود والباب خمس أذرع أو نحوها، وهو الملتزم فيما يذكر عن ابن عباس.
والحجر الأسود على رأس صخرتين من وجه الأرض قد نحت من الصخر مقدار ما أدخل فيه الحجر وشقت الصخرة الثالثة عليهما مثل إصبعين. والحجر أملس مجزع حالك السواد في قدر الكف المحنية، قد لز من جوانبه بمسامير الفضة. وفيه صدوع، وفي جانب منه صفيحة فضة تحسبها شظية منه شظيت فجبرت بها. وصخر الركن الأسود أحرش أكبر من صخرنا قليلاً.
وللبيت سقفان سقف دون سقف، وفيهما أربع روازن ينفذ بعضها إلى بعض للضوء، وللسقف الأسفل ثلاث جوائز من ساج منقشة مذهبة. وفي داخل البيت في الحائط الغربي قبالة الباب الجزعة، على ست أذرع من قاع البيت وهي سوداء مخططة ببياض، طولها اثنتا عشرة إصبعاً في مثل ذلك، وحولها طوق من ذهب عرضه ثلاث أصابع. ذكر أن النبي ( جعلها على حاجبه الأيمن حين صلى في البيت.
والحجر بجوفي البيت محجور من الركن العراقي إلى الركن الشامي تحجيراً محنياً غير مرتفع. قد انقطع طرفاه دون الركنين اللذين يليانه بمثل ذراعين للدخول والخروج، يكون ما بين موسطة جنبي التحجير والبيت كما بين الركنين، وارتفاع التحجير مثل نصف قامة. وهو ملبس بالرخام من داخله وخارجه وأعلاه، وجعل بين كل رخامتين عمود من رصاص لزازاً لهما، وقاع الحجر كله مفروش بالرخام، ومصب الميزاب فيه، وقبلتنا إليه.
والميزاب موسطة أعلى جدار الكعبة خارجاً عنه مثل أربع أذرع في سعته، وارتفاع حيطانه ثمان أصابع، ملبس ظاهره وباطنه بصفائح الذهب. والصفائح مسمرة بمسامير مروسة من ذهب.

والبيت كله مستور إلا الركن الأسود، فإن الأستار تفرج عنه مثل القامة ونصف، وإذا دنا وقت الموسم كسي القباطي، وهو ديباج أبيض خراساني، فيكون بتلك الكسوة ما كان للناس محرمين. فإذا حل الناس وذلك يوم النحر، حل البيت، فكسى الديباج الأحمر الخراساني. وفيه دارات مكتوبة فيها حمد الله وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، فيكون كذلك إلى العام القابل. ثم يكسى أيضاً على حال ما وصفت. فإذا كثرت الكسوة فخشي على البيت من ثقلها خفف منها، فأخذ ذلك سدنة البيت، وهم بنو شيبة.
وذكر بعض المصريين أنه حضر كشف البيت سنة خمس وستين فرأى بلاطه الزعفران واللوبان.
وذكر أيضاً عن بعض المكيين حديثاً يرفعونه إلى مشايخهم، أنهم نظروا إلى الحجر الأسود إذ هدم ابن الزبير البيت وزاد فيه، فقدروا طوله ثلاث أذرع، وهو ناصع البياض فيما ذكروا إلا وجهه الظاهر. واسوداده فيما ذكروا، والله أعلم لاستلام أهل الجاهلية إياه، ولطخه بالدم.
والمقام بشرقي البيت على سبع وعشرين ذراعاً منه، وجه المصلي خلفه مستقبل البيت إلى الغرب، والركن العراقي على يمينه، والباب والركن الأسود على يساره، وهو فيما ذكر من رآه حجر غير مرفوع يكون ذراعاً في ذراع، وفيه أثر قدم إبراهيم عليه السلام، وطول القدم مثل عظم الذراع. والحجر موضوع على منبر لئلا يمر به السيل، فإذا كان وقت الموسم وضع عليه تابوت حديد مثقب لئلا تناله الأيدي. وحول البيت كله سوارٍ ست غلاظ مربعة من حديد مذهبة ورؤوسها مذهبة أيضاً، يوقد عليها بالليل للطائفين، بين كل عمود منها والبيت نحو ما بين المقام والبيت. وزمزم بشرقي الركن الأسود بينهما مثل الثلاثين ذراعاً، وهي بئر واسعة تنورها من حجر مطوق أعلاه بالخشب، وسقفها قبو مزخرف بالفسيفساء على أربعة أركان، تحت كل ركن منها عمودا رخام متلاصقان، قد سد ما بين كل ركنين منها بشرجب خشب، ورد إلى باب من جهة المشرق. وحول القبو كله رف مثل البرطلة، وبشرقي زمزم بيت مقدر سقفه قبو مزخرف بالفسيفساء أيضاً مقفل عليه، وشرقي هذا البيت بيت كبير مربع له ثلاثة أقباء، وفي كل وجه منه باب.
وحمام المسجد كثير أنيس، يكاد الإنسان أن يطأه بقدمه لأنسه بالناس، وهو في لون حمام الأبرجة عندنا إلا أنه أقدر منه، وليس منها حمامة تجلس على البيت ولا تطير عليه. ولقد همني ذلك فرأيتها حين تكاد أن تحاذي البيت، وهي مستعلية في طيرانها ذلك، عكست حتى تصير دونه، وأخذت عن يمينه أو يساره، وذرقها ظاهر بارز على البيوت التي في المسجد إلا بيت الله الحرام فإنه نقي ليس فيه ولا عليه منه أثر، فسبحان معظمه ومقدسه ومطهره وتعالى علواً كبيراً.
وبين باب الصفا - وهو بقبلي البيت - والصفا الشارع وهو بطن الوادي، وبعد الشارع فناء غير كبير فيه الباعة، ثم الصفا في أصل جبل أبي قبيس قد أحدق بها البناء إلا من الوجه الذي يرقى إليها منه، والرقي إليها على ثلاث درج مبنية بالصخر. والواقف على الصفا مستقبل الجوف بنظر إلى البيت من باب الصفا. والمروة بشرقي المسجد وهي من الصفا بين المشرق والمغرب، قد أحدق بها البناء أيضاً إلا من وجه المصعد إليها، وهو من أعلى القصور، بينها وبين المسجد الحرام الزقاق الضيق، فالواقف على المروة مستقبل البيت تجاه الفرجة يرى الميزاب وما اتصل به من البيت، وبين الصفا والمروة شبيه بما بين السقاية والمسجد الجامع. والساعي بينهما إذا هبط من الصفا يريد المروة سلك في الشارع وهو مبطن الوادي، عن يمينه القصور، وعن يساره المسجد، ثم يتعرضه بطن وادٍ إذ انصبت قدماه فيه أرقل حتى يخرج عن آخره، وله علمان أخضران في جانبي الوادي، أحدهما وهو الأول خلف باب الصفا لاصقاً بالسور، والثاني أمامه بائن عن السور، جعلا ليفهم بهما حد الوادي الذي يرمل فيه.
ومنى قرية بشرقي مكة تنحو إلى القبلة قليلاً، خارجة عن الحرم على نحو الفرسخ منها، وفيها بنيان وسقايات، وأول ما يلقى منها الخارج من مكة إليها جمرة العقبة ثم الجمرتين اللتين ترميان مع جمرة العقبة بعد يوم النحر أيام التشريق. وبها مسجد أكبر من جامع قرطبة، وهو مسجد الخيف، له مما يلي المحراب أربع بلاطات معترضة، سقفها من جرائد النخل، وعمدها مجصصة، والمنبر عن يسار المحراب، والباب الذي يخرج منه الإمام عن يمينه، وفي موسطة صحن المسجد منارة، وفي كل جانب منها سقيفة.

والمزدلفة وهي المشعر الحرام بين منى وعرفة، وهي من منى على نحو الميلين، ولها مسجد مصحر لا بناء فيه إلا الحائط الذي فيه المحراب، وليس بها ساكن.
وعرفة بشرقي منى على نحو الفرسخين منها، ليس بها ساكن ولا بناء إلا سقايات وقنوات يجري فيها الماء، وليس بمسجدها بنيان إلا الحائط الذي فيه المحراب، وموقف الناس يوم عرفة بعرفة في الجبل وما يليه مما تحته، والجبل بين المشرق والجوف من مسجدها، وفي الموضع الذي يقف فيه الإمام ماء جارٍ. ومحراب منة وعرفة والمزدلفة إلى نحو المغرب.

صفة مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم
بلاطاته في قبلته معترضة من المشرق إلى المغرب، في كل صف من صفوف عمدها سبعة عشر عموداً، ما بين كل عمودين منها فجوة كبيرة واسعة، والعمد التي في البلاطات القبلية بيض مجصصة شاطة جداً، وسائر عمد المسجد رخام، والعمد المجصصة على قواعد عظيمة مربعة ورؤوسها مذهبة عليها نجف منقشة مذهبة، ثم السموات على النجف وهي أيضاً منقشة مذهبة. وقبالة المحراب موسطة البلاطات، بلاط مذهب كله شقت به البلاطات من الصحن إلى أن ينتهي إلى البلاط الذي بالمحراب ولا يشقه، وفي البلاط الذي يلي المحراب تذهيب كثير، وفي موسطته سماء كالترس المقدر مجوف كالمحار، مذهب، وقد أخذ وجه السور القبلي من داخل المسجد بإزار رخام من أساسه إلى قدر القامة منه، وكف على الإزار بطوق رخام في غلظ الأصبع، ثم من فوقه إزار دونه في العرض مخلق بالخلوق، ثم فوقه إزار مثل الأول فيه أربعة عشر باباً في صف من الشرق إلى الغرب في تقدير كوى المسجد الجامع بقرطبة منقشة مذهبة، ثم فوقه إزار رخام أيضاً فيه صنيفة سماوية فيها خمسة سطور مكتوبة بالذهب بكتاب ثخين، غلظه قدر أصبع، من سور قصار المفصل، ثم فوقه إزار رخام مثل الأول الأسفل، فيه ترسة من ذهب منقشة وبين كل ترسين منها عمود أخضر في حافاته قضبان من ذهب، ثم فوقه إزار رخام فيه صنيفة منقشة عرضها مثل عظم الذراع، لها قضبان وأوراق من ذهب ثم فوقه إزار فسيفساء عريض، ثم السماوات عليه. والمحراب في موسطة السور القبلي، على قوسه قصة من ذهب ناتئة غليظة، في وسطها مرآة مربعة ذكر أنها كانت لعائشة رضي الله عنها.
قبو المحراب مقدر جداً، وفيه دارات بعضها مذهبة وبعضها حمر وسود، وتحت القبو صنيفة ذهب منقشة، تحتها صفائح ذهب مثمنة، فيها جزعة في مثل جمجمة الصبي الصغير مسمرة، ثم تحتها إلى الأرض إزار رخام مخلق بالخلوق، فيه الوتد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوكأ عليه في المحراب الأول، عند قيامه من السجود فيما ذكر. والله أعلم. وعن يمين المحراب باب يدخل منه الإمام ويخرج، وعن يساره باب صغير شطرنجي قد سد بعوارض من حديد، وبي هذين البابين والمحراب ممشى مسطح لطيف.
والمقصورة من السور الغربي لاصقة بالباب إلى الفصيل اللاصق بالسور الشرقي، ومن هذا الفصيل يصعد إلى ظهر المسجد، وهي قديمة مختصرة العمل، لها شرفات وأربعة أبواب، وخارج المقصورة قريباً منها عن يسار المحراب سرب في الأرض يهبط فيه على درج فيفضي منها إلى دار عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والمنبر على يمين المحراب في أول البلاط الثالث من المحراب في روضة مفروشة بالرخام محجور حولها به. وله درج، وسمر في أعلاه لوح لئلا يجلس أحد على الدرجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس عليها، وهو مختصر ليس فيه من النقوش ودقة العمل ما في منابر زماننا الآن، والجذع أمام المنبر، وبشرقي المنبر تابوت يستر به مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبره صلوات الله عليه وسلامه بشرقي المسجد في آخر مسقفه القبلي مما يلي الصحن بينه وبين السور الشرقي مثل عشر أذرع، قد حظر حوله بحائط بينه وبين السقف مثل ثلاث أذرع، وله ستة أركان، ولبس بإزار رخام أكثر من قامة، وما فوق الرخام مخلق بالخلوق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة " .

وعلى ظهر المسجد حذاء القبر حجر محجور لئلا يمشى عليه، والبلاطات الجوفية خمسة والغربية أربعة، منتظم بعضها ببعض في طولها مع وجه الصحن من القبلة إلى الجوف ثمانية عشر عموداً، وحنايا المسجد كلها مما يلي الصحن مشدودة من جهاتها الأربع إلى مناكب العمد من داخله، مزخرفة بخشب منقش، وللمسجد ثلاث منارات اثنتان في الجوف وواحدة في الشرق، وحيطان المسجد كلها من داخله مزخرفة بالرخام والذهب والفسيفساء أولها وآخرها، وله ثمانية عشر باباً عتبها مذهبة، وهي أبواب عظيمة لا غلق عليها، أربعة منها في الجوف، وسبعة في الشرق وسبعة في الغرب. وقاع المسجد كله مفروش بالحصى وليس له حصر، ووجه سور المسجد كله من خارج منقش بالكذان، وكذلك الشرفات.
فينبغي للداخل في المسجد أن يأتي الروضة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها روضة من رياض الجنة " فيصلي فيها ركعتين، ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فيستدبر القبلة ويستقبل القبر، ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، ولا يلصق بالقبر فإنه من فعل الجهال، وقد كره ذلك، فإذا فعل ما ذكر استقبل القبلة ودعا بما أمكنه بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفنا به، ورزقنا شفاعته برحمته، آمين.

صفة مسجد بيت المقدس
وما فيه من آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
طول المسجد سبعمائة ذراع وأربع وثمانون ذراعاً، وعرضه أربعمائة ذراع وخمس وخمسون ذراعاً بذراع الإمام، ويسرج في المسجد ألف قنديل وخمسمائة قنديل، وعدة ما فيه من الخشب ستة آلاف خشبة وتسعمائة خشبة، وعدد ما فيه من الأبواب خمسون باباً، وعدد ما فيه من العمد ستمائة وأربعة وثمانون عموداً، والعمد التي داخل الصخرة ثلاثون عموداً، والعمد التي خارج الصخرة ثمانية عشر عموداً، وفيه الصخرة الملبسة صفائح الرصاص عليها ثلاثة آلاف صفيحة وثلثمائة واثنتان وتسعون صفيحة، ومن فوق ذلك صفائح النحاس مطلية بالذهب يكون عليها عشرة آلاف صفيحة، ومائتان وعشر صفائح، وجميع ما يسرج في الصخرة من القناديل أربعمائة قنديل وأربعة وستون قنديلاً بمعاليق النحاس وسلاسل النحاس، وكان طول صخرة بيت المقدس في السماء اثني عشر ميلاً، وكان أهل أريحاء، يستظلون بظلها، وأهل عمواس مثل ذلك. وكان عليها ياقوتة حمراء تضئ لأهل البلقاء، وكان يغزل في ضوئها نساء أهل البلقاء. وفي المسجد ثلاث مقاصير للنساء، طول كل مقصورة ثمانون ذراعاً في عرض خمسين ذراعاً، وفيه من السلاسل لتعليق القناديل ستمائة سلسلة، طول كل سلسلة ثمان عشرة ذراعاً، وفيه من غرابيل النحاس سبعون غربالاً، وفيه من الصنوبر التي للقناديل سبع صنوبرات، وفيه من المصاحف الجامعة سبعون مصحفاً، وفيه من الكبار التي في الورقة منها جلد ستة مصاحف على كراسي تجعل فيها، وفيه من المخاريب عشرة، ومن القباب خمس عشرة قبة، وفيه أربعة وعشرون جباً للماء، وفيه أربعة مناور للمؤذنين، وجميع سطوح المسجد والقباب والمنارات ملبسة صفائح مذهبة، وله من الخدم بعيالاتهم مائتا مملوك وثلاثون مملوكاً، يقبضون الرزق من بيت مال المسلمين، ووظيفته في كل شهر من الزيت سبعمائة قسط بالإبراهيمي، وزن القسط رطل ونصف بالكبير، ووظيفته في كل عام من الحصر ثمانية آلاف ووظيفته في كل عام من السراقة لفتائل القناديل اثنا عشر ديناراً ولزجاج القناديل ثلاثة وثلاثون دينارا، ولصناع يعملون في سطوح المسجد في كل عام خمسة عشر ديناراً.
آثار الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام
بيت المقدس

مربط البراق الذي ركبه النبي صلى الله عليه وسلم تحت ركن المسجد، وفي المسجد باب داود عليه الصلاة والسلام، وباب سليمان عليهما الصلاة والسلام، وباب حطة التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى " وقولوا حطة " وهي قول لا إله إلا الله، فقالوا: حنطة، وهم يسخرون فلعنهم الله بكفرهم، وباب محمد صلى الله عليه وسلم، وباب التوبة الذي تاب الله فيه على داود، وباب الرحمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه " له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " يعني وادي جهنم الذي بشرقي بيت المقدس، وأبواب الأسباط أسباط بني إسرائيل وهي ستة أبواب، وباب الوليد، وباب الهاشمي وباب الخضر، وباب السكينة. وفيه محراب مريم ابنة عمران رضي الله عنها التي كانت الملائكة تأتيها فيه بفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ومحراب زكريا الذي بشرته فيه الملائكة بيحيى وهو قائم يصلي في المحراب، ومحراب يعقوب، وكرسي سليمان صلوات الله عليه الذي كان يدعو الله عليه، ومغارة إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام الذي كان يتخلى فيها للعبادة، والقبة التي عرج النبي ( منها إلى السماء، والقبة التي صلى فيها النبي( بالنبيين، والقبة التي كانت السلسلة تهبط فيها زمان بني إسرائيل للقضاء بينهم، ومصلى جبريل عليه السلام، ومصلى الخضر عليه السلام. فإذا دخلت الصخرة فصل في أركانها وصل على البلاطة التي تسامى الصخرة، فإنها على باب من أبواب الجنة. ومولد عيسى بن مريم على ثلاثة أميال من المسجد. ومسجد إبراهيم عليه السلام وقبره على ثمانية عشر ميلاً من المدينة. ومحراب المسجد بغربيه.
فضائل بيت المقدس ينصب الصراط ببيت المقدس، ويؤتى بجهنم - نعوذ بالله منها - إلى بيت المقدس، وتزف الجنة يوم القيامة زفاً مثل العروس إلى بيت المقدس، وتزف الكعبة بحاجها إلى بيت المقدس، ويقال لها: مرحباً بالزائرة والمزورة. ويزف الحجر الأسود إلى بيت المقدس، والحجر يومئذ أعظم من جبل أبي قبيس.
ومن فضائل بيت المقدس، أن الله رفع نبيه صلى الله عليه وسلم إلى السماء من بيت المقدس، ورفع عيسى بن مريم عليه السلام إلى السماء من بيت المقدس، ويغلب المسيح الدجال على الأرض كلها إلا بيت المقدس، وحرم الله على يأجوج ومأجوج أن يدخلوا بيت المقدس، والأنبياء كلهم من بيت المقدس، والأبدال كلهم من بيت المقدس. وأوصى آدم وموسى ويوسف وجميع أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم أن يدفنوا ببيت المقدس.

نتف من الأخبار
فرج بن سلام قال: حدثني سليمان بن المغيرة قال: كنت أجد من أبي أيوب المازني رائحة طيبة ليست برائحة شراب ولا رائحة طيب، فقلت له: أخبرني عن هذه الرائحة، فقال: عفص آمر به، فيدق وينخل، فألته بقطران شامي، ثم آخذ منه كل غداة على إصبعي، فأدلك به أسناني وعمورها، فتطيب نكهتها، وتشتد ثتها وعمورها.
الرياشي قال: كانوا إذا أرادوا جارية مضغت نصف جوزة وأكلتها. فلا تزال طيبة النكهة سائر ليلتها.
عبد الصمد بن همام قال: كتب عامل عمان إلى عمر بن عبد العزيز: إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء، فطفت على الماء. فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة وإلا خل عنها.
وقال رجل للحسن: أبا سعيد، الملائكة خير أم الأنبياء؟ فقال: قال الله جل ثناؤه: " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك " . وقال: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون " . وقال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " .
العتبي قال: حدثني أبو النصر عن جويبر عن الضحاك، قال: من سمع الأذان في بيته فقام يصلي فقد أجاب.
أبو حاتم: عن العتبي قال: سمى المحرم لأنه جعل حراماً. وصفر لإصفار مكة من أهلها. والربيعان للخصب فيهما. والجماديان لجمود الماء فيهما من شدة البرد. ورجب لترجيب العرب أسنتها. وشعبان لأنه شعب بين رجب ورمضان. ورمضان لإرماض الأرض من الحر. وشوال لأن الإبل شالت بأذنابها فيه لحمها. وذو القعدة لقعودهم فيه عن الغزو من أجل الحج. وذو الحجة للحج.
الرياشي عن محمد بن سلام عن يونس النحوي، قال: قال لي رؤية وأنا أسأله عن الغريب: حتى متى سألني عن هذه الأباطيل، وأزوقها لك؟ أما ترى الشيب قد أخذ في عارضيك ولحيتك؟

وقال الخليل بن أحمد: إنك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجلس عند غيره.
الرياشي عن الأصمعي، قال: لا تكون حطمة، حتى يكون قبلها بريق تأتي فتحطم.
ومن حديث أبي رافع، عن أبي ذر: قال قلت: يا رسول الله: صلى الله عليك، كم عدد النبيين؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً.
أبو بكر بن عياش: عن العجلي، عن قتادة. قال: طول الدنيا مائة ألف وأربعة وعشرون ألف فرسخ.
ومن حديث عبد الله بن عمرو، قال: العرش مطوق بحية، والوحي ينزل في السلاسل.
ومن حديث ابن أبي شيبة، أن العباس بن عبد المطلب، كان أقرب شحمة أذن إلى السماء، وكان إذا طاف بالبيت يشبه بالفسطاط العظيم، وإذا مشى بين قوم تحسبه راكباً.
ومن حديث عروة بن الزبير عن عائشة عن النبي (، قال: خلق الله الملائكة من نور، والجان من نار، وآدم من تراب.
وسأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى القيامة؟ فقال له: وما أعددت لها؟ لا شيء والله غير أني أحب الله ورسوله. قال: المرء مع من أحب.
زياد عن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: " إياكم والشرك الأصغر " . قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء " .
زياد عن مالك، قال: إذا لم يكن في الرجل خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره، وإذا رأيت الرجل يستحل مال عدوه فلا تأمنه على مال صديقه.
وقال بعضهم: سمعت حذيفة يحلف لعثمان في شيء بلغه عنه ما قاله، ولقد سمعته يقول فسألته عن ذلك، فقال: يا بن أخي، اشتري ديني بعضه ببعض لئلا يذهب كله.
أخذه الشاعر فقال:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا ولا ما نرقع
زياد عن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الغيرة من الإيمان، والمراء من النفاق " .
الأصمعي قال: سأل علي بن أبي طالب الحسن ابنه رضوان الله عليهم: كم بين الإيمان واليقين؟ قال: أربع أصابع. قال، وكيف ذلك؟ قال: الإيمان كل ما سمعته إذناك وصدقه قلبك، واليقين ما رأته عيناك فأيقن به قلبك، وليس بين العين والأذنين إلا أربع أصابع.
الرياشي قال: ضرب علي كرم الله وجهه بيده زانياً، فأوجعه إيجاعاً شديداً. فقال له عم المضروب: بعض هذا الضرب، فقد قتلته. فقال علي رضي الله عنه: إنه وتر من ولدها من قبل أبيها وأمها من النبيين والصالحين إلى آدم.
قال الرياشي: فكنت أعجب من شنعة حد الرجم، فلما سمعت شنعة الذنب هان علي الحد.
الأصمعي عن أبي عمرو قال: دم الحيض غذاء المولود.
أقبل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينشد ضالة له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لا وجدتها لا وجدتها، إنما المساجد لما بنيت له " .
الأصمعي عن أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد بن معاوية، أبوها خليفة، وجدها خليفة، وأخوها معاوية ين يزيد خليفة، وزوجها عبد الملك بن مروان خليفة، وولدها يزيد بن عبد الملك خليفة، وأربابها الوليد وسليمان وهشام خلفاء.
قتادة عن أنس بن مالك قال: أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة، فإنه قال: اقتلوهم وإن وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: وهم عبد العزى بن يزيد بن خطل، ومقيس بن صبابة الكندي، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة. فأما عبد العزى فإنه قتل وهو معلق بأستار الكعبة. وأما عبد الله بن أبي سرح فإنه كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه وشفع له عنده. وأما مقيس، فإنه كان له أخ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل خطأ، فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني فهر، ليأخذ له عقله من الأنصار، فلما اجتمع له العقل أخذه وانصرف مع الفهري، فنام في بعض الطريف فوثب عليه مقيس فقتله، ثم أقبل وهو يقول:
شنى النفس من قد بات بالقاع مسندا ... يضرج ثوبيه دماء الأخادع
قتلت به فهرا، وأغرمت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به نذري وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوتار أول راجع

وأما سارة: فإنها كانت مولاة لقريش، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئاً، ثم أتاها رجل فبعث معها كتاباً إلى أهل مكة يتقرب به إليهم ليحفظ في عياله، وكان عياله بمكة، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب فلحقاها، ففتشاها، فلم يقدرا على شيء، فأقبلا راجعين، ثم قال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، ارجع بنا إليها. فرجعا إليها، فسلا سيفيهما، ثم قالا: لتدفعن إلينا الكتاب أو لنذيقنك الموت. فأنكرته، ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا تؤدياني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقبلا منها ذلك، فحلت عقاص رأسها، وأخرجت الكتاب من قرن من قرونها، فرجعا بالكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعاه إليه، فدعا الرجل وقال له: ما هذا الكتاب؟ فقال له: أخبرك يا رسول الله، إنه ليس ممن معك أحد إلا وله بمكة من يحفظه في عياله غيري، فكتبت بهذا الكتاب ليكافئوني في عيالي، فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " .
أمر المصعب بن الزبير رجلاً من بين أسد بن خزيمة بقتل مرة بن مكان السعدي، فقال مرة:
بني أسد، إن تقتلوني تحاربوا ... تميماً إذا الحرب العوان اشمعلت
ولست وإن كانت إلي حبيبة ... بباكٍ على الدنيا إذا ما تولت
وكان ابن سعد الأسدي قد تولى صدقات الأعراب لعمر بن عبد العزيز وأعطياتهم، فقال فيه جرير يشكو عمر:
حرمت عيالاً لا فواكه عندهم ... وعند ابن سعد سكر وزبيب
وقد كان ظني بابن سعد سعادة ... وما الظن إلا مخطئ ومصيب
فإن ترجعوا رزقي إلي فإنه ... متاع ليالٍ والأداء قريب
تحيا العظام الراجفات من البلى ... وليس لداء الركبتين طبيب
لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان أبو خيثمة فيمن تخلف عنه، فأقبل وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانها، ومهدت له في ظل حائط. فقال: أظل ممدود، وثمرة رطبة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، في الضح والريح، ما هذا بخير. ثم ركب ناقته ومضى في إثره. فقالوا: يا رسول الله، نرى رجلاً يرفعه الآل، فقال: كن أبا خيثمة. فكانه.
الضح: الشمس، تقول العرب في أمثالها: " جاء فلان بالضح والريح " ، إذا أقبل بخير كثير.

نتف من الطيب
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم " . يريد ما نزعتم عن القسي، ونزوتم على ظهور الخيل، وإنما أراد الحركة والله أعلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سافروا تصحوا " .
وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من ثلاث في غير إفراط: الأكل، والمشي، والجماع. فأما الأكل فإن الأمعاء تضيق لتركه. وأما المشي فإن من لم يتعاهده أوشك أن يطلبه فلا يجده. وأما الجماع فإنه كالبئر، إن نزحت، جمت، وإن تركت تخثر ماؤها، وحق هذا كله القصد فيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من استقل برأيه فلا يتداوى. فرب دواء يورث الداء " .
وقال الحكماء: إياك وشرب الدواء ما حملتك الصحة.
وقالوا: مثل الدواء في البدن مثل الصابون في الثوب، ينقيه ويخلقه.
الأصمعي عن رجل عن عمه قال: لقيت طبيب كسرى شيخاً كبيراً قد شد حاجبيه بخرقة، فسألته عن دواء المشي، فقال: سهم يرمى به في جوفك أصاب أم أخطأ.
وفي كتاب التفصيل للهند: الدواء من فوق والدواء من تحت، والدواء لا من فوق ولا من تحت.
تفسيره: من كان داؤه فوق سرته سقي الدواء، ومن كان داؤه تحت سرته حقن بالدواء، ومن لم يكن له داء لا من فوق ولا من تحت لم يسق الدواء ولم يحقن به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس: " بم كنت تستمشين في الجاهلية؟ قالت: بالشبرم. قال: حار بار، ثم قالت: استمشيت بالسنا. قال: لو أن شيئاً يرد القدر لرده السنا.
ومن حديث أبي هريرة:أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم، وهم يتذاكرون الكمأة، ويقولون فيها: جدري الأرض، فقال: إن الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، وهي شفاء من السم.

وأهدى تميم الداري إلى النبي صلى الله عليه وسلم زبيباً، فلما وضعه بين يديه قال لأصحابه: " كلوا فنعم الطعام الزبيب، يذهب النصب، ويشد العصب، ويطفئ الغضب، ويصفي اللون، ويطيب النكهة، ويرضي الرب " .
وقال طلحة بن عبد الله: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في جماعة من أصحابه، وفي يده سفرجلة يقلبها، فلما جلست إليه دحرج بها نحوي، وقال: دونكها أبا محمد، فإنها تشد القلب، وتطيب النفس، وتذهب بطخاء الصدر " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أربع من النشر: شرب العسل نشرة، والنظر إلى الماء نشرة، والنظر إلى الخضرة نشرة، والنظر إلى الوجه الحسن نشرة " .
وقال عثمان بن عفان: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من بلغ الخمسين أمن الأدواء الثلاث: الجنون، والجذام، والبرص " .
ومن حديث زيد بن أسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما انزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله " .
ومن حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنزل الدواء الذي أنزل الداء " .
ومن حديث زيد بن أسلم أن رجلاً أصابه جرح في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له رجلين من بني أنمار، فقال: أيكما أطل؟ فقال له رجل من أصحابه: في الطب خير؟ قال: " إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية يسعط به من العذرة، ويلد به من ذات الجنب " .
يريد القسط الهندي، وهو الذي تسميه العامة الكست.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بهذه الحبة السوداء؛ فإن فيها دواء من كل داء إلا السام " يعني الشونيز.
وفي مسند ابن أبي شيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يحد البصر، وينبت الشعر " .
وفيه: أن عبد الله بن مسعود قال: عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل.
الأصمعي قال: ثلاث ربما صرعت أهل البيت عن آخرهم: الجراد، ولحوم الإبل، والفطر، وهو الفقع.
ويقول أهل الطب: إن أردأ الفطر في ظلال الشجر، ولا سيما في ظلال الزيتون، فإنه قتال.
وقال وهب بن منبه: إذا صام الرجل زاغ بصره، فإذا أفطر على الحلوى رجع إليه البصر.
وأقبل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني كنت في الجاهلية ذا فطنة وذا ذهن، وأنكرت نفسي في الإسلام. فقال له: أكنت تنام في القائلة؟ قال: نعم. قال: " فعد إلى ما كنت عليه من نوم القائلة " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالشجرة التي كلم الله منها موسى بن عمران، زيت الزيتون فادهنوا به، فإن فيه شفاء من الباسور " .
وقال: في الزيتونة يقول الله: " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " .
ويقول الأطباء: إذا خرج الطعام من قبل ست ساعات فهو من ضرر، وإذا أقام في الجوف أكثر من أربع وعشرين ساعة فهو من ضرر.
دخل المغيرة بن شعبة على معاوية، فقال له معاوية: أنكرت من نفسي خصلتين: قل طعمي، ورق عظمي. فإن تدثرت بالثقيل أثقلني، وإن تدثرت بالخفيف أصابني البرد. قال: نم يا أمير المؤمنين بين جاريتين سمينتين يدفئانك بشحومهما، ويحملان عنك ثقل الدثار بمناكبهما. وأكثر من الألوان، وكل من كل لون ولو لقمة، فإن ذلك إذا اجتمع نفع. فدخل عليه بعد ذلك فقال له معاوية: يا أعور، قد جربنا ما قلت فوجدناه موافقاً.

التعويذ والرقي
أبو بكر بن أبي شيبة عن عقبة عن شعبة عن أبي عصمة قال: سألت سعيد بن المسيب عن تعليق التعويذ؟ قال: لا بأس به.
وكان مجاهد يكتب للصبيان التعويذ ويعلقه عليهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم من قال إذا أصبح: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة، لم يضره عين ولا حية ولا عقرب.
وفي مسند ابن أبي شيبة: إن خالد بن الوليد كان يفزع في نومه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: " أخبرني جبريل أن عفريتاً من الجن يكيدك، فقل: أعوذ بكلمات الله التامة المباركات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر كل ذي شر " . فقالهن خالد، فذهب ذلك عنه.
وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ولا رقية إلا من عين أو حمة " . والحمة: السم.

سفيان بن عيينة قال: بينا عبد الله بن مسعود جالساً تعرض عليه المصاحف، إذ أقبلت أعرابية فقالت: أبا فلان، لرجل جالس إليه: لقد لدغ مهرك، وتركته كأنه يدور في فلك، فقم واسترق له. فقال له ابن مسعود: لا تسترق له، واذهب فانفث في منخره الأيمن أربعاً وفي الأيسر ثلاثاً، وقل: أذهب الباس، يا رب الناس، فإنه لا يذهبه إلا أنت. ففعل، فلم يبرح حتى أكل وشرب وبال وراث.
دخل أبو بكر على عائشة وهي تشتكي، ويهودية ترقيها، فقال لها: ارقيها بكتاب الله.

الحجامة والكي
قال عبد الله بن عباس: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه من أذى كان به.
وفي مسند ابن أبي شيبة: أن عيينة بن حصن دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحجم في فأس رأسه، فقال: ما هذا؟ قال: " هذا خير ما تداويتم به " .
وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير ما تداويتم به الحجامة والقسط العربي، ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة " .
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير يوم تحتجمون فيه سبعة عشر، وتسعة عشر، وأحد وعشرون.
وفيه أنه قال: " إن كان في شيء مما تعالجون به خير ففي شرطة من محجم أو لذعة من نار تواقع ألماً، أو شربة من عسل، وما أحب أن أكتوي " .
السم والسحر
في مسند ابن أبي شيبة: أن يهود خيبر أهدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجمعوا لي من هاهنا من اليهود " . فجمعوا له. فقال لهم: هل جعلتم في هذا الشاة سماً؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك السم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما زالت أكلة خيبر تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري " .
الليث بن سعد عن الزهري قال: أهدي لأبي بكر طعام، وعنده الحارث ابن كلدة طبيب العرب، فأكلا منه، فقال الحارث، لأبي بكر: لقد أكلنا والله في هذا الطعام سم سنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحول، فماتا جميعاً عند انقضاء السنة.
وفي مسند ابن أبي شيبة: أن رجلاً من اليهود سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى لذلك أياماً، فأتاه جبريل فقال له: إن رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً وجعلها في مكان كذا وكذا. فأرسل عليا رضي الله عنه فاستخرجها، وجاء بها، فجعل يحلها، فكلما حل عقدة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خفة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما أنشط من عقال.
وفي مسند لبن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: " طب رسول الله صلى الله عليه وسلم - والطب: السحر - فبعث إلى رجل فرقاه " .
العين
تقول العرب: رجل معين، إذا أخذ بالعين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو سبق القدر شيء لسبقته العين.
وتقول العرب: إن العين تسرع بالإبل إلى أوصامها، وبالرجال إلى أسقامها.
ونظر عامر بن أبي ربيعة إلى سهل بن حنيف يستحم، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، قال: فلبط به، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عامر ابن أبي ربيعة أن يتوضأ له ثم يطهره بمائه، ففعل، فقام سهل بن حنيف كأنما أنشط من عقال.
أبيات في الطب
وجدناها في كتاب فرج بن سلام
النافجاء بشيرج ملتوت ... فيه شفاء للرياح مميت
يغلى لذلك حلبة في مائها ... تسقيه مصطحبا وحين يبيت
وقال:
ليس شيء أنفى عن الجسم للري ... ح من الأنجدان والمحروث
وقال:
في الحرف سبعون دواء وفي الكم ... مون فيما قيل ستونا
قد قاله هرمس في كتبه ... فلا تدع حرفاً وكمونا
وقال:
بسعتر بر داو كل مبلغم ... وذا المرة الصفراء بالرازيانق
وذو المرة السوداء ذاك علاجه ... تعاهد فصد العرق من كفٍ حاذق
وذو الدم فليكثر حجامة ... فما غيرها شيء له بموافق
وقال:
لا تكن عند أكل سخن وبهر ... ودخول الحمام تشرب ماء
فإذا ما اجتنبت ذلك منه ... لم تخف ما حييت في الجوف داء
وقال:
إن أردت الرقاد في الليل فاجعل ... قطنة عندها على الأذنين

فيه تظهر السلامة للأذ ... نين مما يضر بالعينين
وقال:
لا تشرب الماء بعد النوم من ظمأ ... ولا تبت أبداً من غير منتفض
فجوف من بات من ماء ومن ثقل ... ومن رياح دعا كلا إلى مرض
وقال:
احس في الحمام ماء سخنا ... وليكن ذلك في البيت السخن
يسلم البطن من الداء ولا ... يعتريه وجع طول الزمن
وقال:
إن دخلت الحمام فاضرب على رأ ... سك بالماء السخن سبع مرات
فيه تظهر السلامة من كل ... ل صداع بقدرة الجبار
وقال:
لا تجامع ولا تمطى ولا تد ... خل إذا ما شبعت في الحمام
فهو دفع لكل ما يتقيه ال ... مرء من فالج وكل سقام
وقال:
ما كان في الرأس أخرجه بغرغرة ... فالقيء يخرج ما في الصدر من عفن
وكل ما كان في الصلب فذلك لا ... يستل إلا بإخلاط من الحقن
وقال:
على الريق في البرد احس ماء مسخناً ... وفي الصيف ماء بارداً حين تصبح
وذلك فيما قيل فيه مصحة ... وذاك على إدمانه الجسم يصلح
وقال:
إن من باكر الغداء وبعد ال ... عصر منه تعاهد للعشاء
فبإذن الإله يبقى صحيحاً ... سالماً في الحياة من كل داء
وقال:
إن رأس الطب إن تد ... لك بالزنبق دلكا
باطني رجليك عند الن ... نوم ينفى السقم عنكا
وقال:
شجر البراغيث الكريه مشمه ... يبري بإذن الله من داء الحبن
وقال:
إن السواك ليستحب لسنة ... ولأنه مما يطيب به الفم
لم تخش من حفر إذا أدمنته ... وبه يسيل من اللهاة البلغم
وقال:
احتجم بين كل شهرين ولتل ... ف على أثرة من الأيام
سبعة منك للزبيب بلا عج ... م تبديه قبل كل طعام
فهو للعين وللهاة وللحل ... ق أمان له من الأسقام
وقال:
ولا تغط الرأس في وقت ما ... تخرج من الحمام واخش الضرر
إن بخار الرأس في وقت ما ... وصفته داءٌ يصيب البصر
وقال:
إن الجماع على الحمام مصحة ... ولذاذة تاهت على اللذات
وقال:
السمك المالح إن لم يكن ... بد من الأكل له فانعم
بالطبخ أكثر زيته ثم كل ... من قبل مأدوماً من المطعم
وقال:
اطل منك الشعر في كل ... ل أربعاً لا تدور
وليكن غسلك بالبا ... رد منه والطهور
إنه يزعر منه ... شعر الجسم الكثير
إنني طب بما يج ... هله الناس خبير
وحدث محمد بن إبراهيم الوراق قال: حدثني محمد بن عبيد الله بن الحارث بن إسحاق بمصر قال: حدثنا محمد بن داود بن أبي ناجية قال: حدثنا زياد بن يونس الحضرمي، عن محمد بن هلال المدني عن أبيه عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها. فقال: إنها تذكر كثرة الجماع. قال: يا رسول الله، أفأزني؟ قال: لا، ولكن إذا جاءنا سبي، فتعال حتى نعطيك جارية. فقدم عليه سبي، فجاء إليه، فقال له: يا رسول الله، وعدي! فقال له: اختر. فقال له: اختر لي. فقال: " خذ هذه، فإني أراها زرقاء، فلعلها " . قال: فما لبثنا أن جاءت المرأة، فقالت: يا رسول الله، ما زاده الأمر إلا تجدداً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، أفأزني؟ قال: لا. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تسكثر الأطلاء. قال: نعم. قال: " فأقل اطلاءك يقل جماعك " .
قال محمد: قال لي ابن أبي ناجية: وأنا كما تراني شيخ كبير، قد أتى علي ثمانون سنة، إذا أحببت الوطء اطليت في كل خمس عشرة ليلة.

الهدايا
كتب سعيد بن حميد إلى بعض أهل السلطان في يوم النيروز:

أيها السيد الشريف، عشت أطول الأعمار، بزيادةٍ من العمر، موصولة بقرائنها من الشكر، لا ينقضي حق نعمة حتى تجدد لك أخرى، ولا يمر بك يوم إلا كان مقصراً عما بعده، موفياً على ما قبله. إني تصفحت أحوال الأتباع الذين تجب عليهم الهدايا إلى السادة، فالتمست التأسي بهم في الإهداء، وإن قصرت بي الحال عن الواجب، وإني وإن أهديت نفسي فهي ملك لك، لا حظ فيها لغيرك، ورميت بطرفي إلى كرائم مالي، فوجدتها منك. فكنت إن أهديت منها شيئاً كمهدي مالك إليك، وفزعت إلى مودتي، فوجدتها خالصة لك قديمة غير مستحدثة، فرأيت إن جعلتها هديتي لم أجدد لهذا اليوم الجديد براً ولطفاً، ولم أميز منزلة من الشكر بمنزلة من نعمتك، إلا كان الشكر مقصراً عن الحق والنعمة زائدة على ما تبلغه الطاقة، فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك، والإقرار بما يجب لك براً أتوصل به إليك، وقلت في ذلك:
إن أهد مالاً، فهو واهبه ... وهو الحقيق عليه بالشكر
أو أهد شكراً، فهو مرتهن ... بجميل فعلك آخر الدهر
والشمس تستغني إذا طلعت ... أن تستضيء بسنة البدر
وكتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك: النفس لك، والمال منك، والرجاء موقوف عليك، والأمل مصروف نحوك، فما عسى أن أهدي إليك في هذا اليوم، وهو يوم سهلت فيه العادة سبيل الهدايا للسادة، وكرهت أن نخليه من سنته، فنكون من المقصرين، أو أن ندعي أن في وسعنا ما يفي بحقك علينا، فنكون من الكاذبين، فاقتصرنا على هدية تقضي بعض الحق، وتنفي بعض الحقد، وتقوم عندك مقام أجمل البر. ولا زلت أيها الأمير دائم السرور والغبطة، في أتم أحوال العافية، وأعلى منازل الكرامة، تمر بك الأعياد الصالحة، والأيام المفرحة، فتخلقها وأنت جديد، تستقبل أمثالها، فتلقاك ببهائها وجمالها. وقد بعثت الرسول بالسكر لطيبه وحلاوته، والسفرجل لفأله وبركته، والدرهم لبقائه عند كل من ملكه، ولا زلت حلو المذاق على أوليائك، مراً على أعدائك، متقدماً عند خلفاء الله الذين تليق بهم خدمتك وتحسن أفنيتهم بمثلك. وقد جمعنا في هذه القصيدة ثناء ومسرةً واعتذاراً وتهنئة. وهي:
غاد في المهرجان كأساً شمولا ... وأطعني ولا تطيعن عذولا
فهو يوم قد كان آباؤك الغ ... ر يحلونه محلاً جليلا
إن للصيف دولة قد تقضت ... وأراك الشتاء وجهاً جميلا
وتجلت لك الرياض عن النو ... ر فكانت من كل شيء بديلا
فتمتع باللهو، لا زلت جذلا ... ن وطرف الزمان عنك كليلا
يعدل الشكر والثناء، وإن لم ... يك شكري لما أتيت عديلا
فجعلت الذي أطيق من الشكر ... على ما عجزت عنه دليلا
يا لها من هدية تقنع المه ... دى إليه ولا تعني الرسولا
وكتب بعض الشعراء إلى بعض أهل السلطان في المهرجان: هذه الأيام جرت فيها العادة، بإلطاف العبيد للسادة، وإن كانت الصناعة تقصر عما تبلغه الهمة، فكرهت أن أهدي فلا أبلغ مقدار الواجب، فجعلت هديتي هذه الأبيات، وهي:
ولما أن رأيت ذوي التصافي ... تباروا في هدايا المهرجان
جعلت هديتي وداً مقيماً ... على مر الحوادث والزمان
وعبداً حين تكرمه ذليلاً ... ولكن لا يقر على الهوان
يزيدك حين تعطيه خضوعاً ... ويرضى من نوالك بالأماني
وأهدى أبو العتاهية إلى بعض الملوك نعلاً وكتب معها:
نعل بعثت بها لتلبسها ... تسعى به قدم إلى المجد
لو كان يصلح أن أشركها ... خدي جعلت شراكها خدي
وأهدى علي بن الجهم كلباً، وكتب:
استوص خيراً به فإن له ... عندي يداً لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في غسق ال ... ليل إذا النار نام موقدها
أهدى أحمد بن يوسف ملحاً طيباً إلى إبراهيم بن المهدي، وكتب إليه: الثقة بك سهلت السبيل إليك، فأهديت هدية من لا يحتشم، إلى من لا يغتنم.
وأهدى إبراهيم بن المهدي إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي جراب ملح، وجراب أشنان، وكتب إليه:

لولا إن القلة قصرت عن بلوغ الهمة لأتعبت السابقين إلى برك، ولكن البضاعة قعدت بالهمة، وكرهت أن تطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر، فبعثت بالمبتدأ به ليمنه وبركته، والمختوم به لطيبه ونظافته. وأما ما سوى ذلك فالمعبر عنا فيه كتاب الله تعالى إذ يقول: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج " . إلى آخر الآية.
وكتب إبراهيم بن المهدي إلى صديق له: لو كانت التحفة على حسب ما يوجه حقك لأجحف بنا أدنى حقوقك، ولكنه على قدر ما يخرج الوحشة، ويوجب الأنس وقد بعثت بكذا وكذا.
وكتب رجل إلى المتوكل على الله وقد أهدى إليه قارورة من دهن الأترج: إن الهدية يا أمير المؤمنين، إذا كانت من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أنفع وأوقع. وأرجو أن لا تكون قصرت بي همة أصارتني إليك، ولا أخرني إرشاد دلني عليك، وأقول:
ما قصرت همة بلغت بها ... بابك يا ذا الندى وذا الكرم
حسبي بوديك أن ظفرت به ... ذخراً وعزاً يا واحد الأمم
أهدى حبيب بن أوس الطائي إلى الحسن بن وهب قلماً، وكتب معه إليه هذه الأبيات:
قد بعثنا إليك أكرمك الل ... ه بشيء فكن له ذا قبول
لا تقسه إلى ندى كفك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل
فاستجز قلة الهدية مني ... إن جهد المقل غير قليل
ومن قولنا في هذا المعنى وقد أهديت سلي عنب ومعهما:
أهديت بيضاً وسداً في تلونها ... كأنها من بنات الروم والحبش
عذراء تؤكل أحياناً وتشرب أح ... يانا فتعصم من جوع ومن عطش
وأهديت حوتين وكتبت معهما:
أهديت أزرق مقروناً بزرقاء ... كالماء لم يغذها شيء سوى الماء
ذكاتها الاخذ ما تنفك طاهرة ... بالبر والبحر أمواتاً كأحياء
وأهديت طبق ورد ومعه:
رياحين أهديها لريحانة المجد ... جنتها يد التخجيل من حمرة الخد
وورد به حييت غرة ما جد ... شمائله أذكى نسيماً من الورد
ووشي ربيع مشرق اللون ناضر ... يلوح عليه ثوب وشي من الحمد
بعثت بها زهراء من فوق زهرة ... كتركيب معشوقين خداً على خد
وكتبت على كأس:
اشرب على منظر أنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي
واحلل وشاح الكعاب رفقاً ... واحذر على خصرها الرقيق
وقل لمن لاعم في التصابي ... إليك خل عن الطريق
وأنشد أحمد بن أبي طاهر في هذا المعنى:
ما ترى في هدية من فقير ... حيل ما بينه وبين اليسار
يغرب الناس في الهدايا إلى النا ... س، ويهدي غرائب الأشعار
محكماتٍ كأنها قطع الرو ... ض تحلت أنوارها بالبهار
وأنشد يزيد بن المهلب في المعتمد:
سيبقى فيك ما يهدي لساني ... إذا فنيت هدايا المهرجان
قصائد تملأ الآفاق مما ... أحل الله من سحر البيان
وقال آخر:
جعلت فداك، للنيروز حق ... وأنت علي أوجب منه حقا
ولو أهديت فيه جميع ملكي ... لكان جميعه لك مسترقا
وأهديت الثناء بنظم شعر ... وكنت لذاك مني مستحقا
لأن هدية الألطاف تفنى ... وأن هدية الأشعار تبقى
وقال حبيب:
فوالله لا أنفك أهدي شوارداً ... إليك يحملن الثناء المنخلا
ألذ من السلوى وأطيب نفحةً ... من المسك مفتوقاً وأيسر محملا
وقال مروان بن أبي حفصة:
بدولة جعفر حمد الزمان ... لنا بك كل يوم مهرجان
جعلت هديتي لك فيه وشياً ... وخر الوشي ما نسج اللسان
وقال أحمد بن أبي طاهر:
من سنة الأملاك فيما مضى ... من سالف الدهر وإقباله
هدية العبد إلى ربه ... في جدة الدهر وأحواله
فقلت ما أهدي إلى سيدي ... حالي وما خولت من حاله

إن أهد نفسي فهي من نفسه ... أو أهد مالي فهو من ماله
فليس إلا الحمد والشكر والم ... دح الذي يبقى لأمثاله
وقال الحمدوني، وأهدى إليه سعيد بن حميد أضحية مهزولة، فقال فيها:
لسعيد شويهة ... نالها الضر والعجف
فتغنت وأبصرت ... رجلاً حلاملاً علف
" بأبي من بكفه ... برء دائي من الدنف "
فأتاها مطعماً ... وأتته لتعتلف
ثم ولى فأقبلت ... تتغنى من الأسف
" ليته لم يكن وقف ... عذب القلب وانصرف "
وقال الحمدوني: كتبت إلى الحسن بن إبراهيم، وكان كل سنة يبعث إلي بأضحية، فتأخر عني سنة فكتبت إليه:
سيدي أعرض عني ... وتناسى الود مني
مر بي أضحى وأضحى ... أخلفاني فيه ظني
لا يراني فيهما أه ... لا لظلف ولقرن
فتعزيت بيأس ... ثم ضحيت بجني
واصطحبت الراح يوماً ... ثم أنشدت أغني
لا يجرم صد عني ... صد عني بالتجني
أهدت جارية من جواري المأمون تفاحة له، وكتبت إليه: إني يا أمير المؤمنين لما رأيت تنافس الرعية في الهدايا إليك، وتواتر ألطافهم عليك، فكرت في هدية تخف مؤونتها، وتهون كلفتها، ويعظم خطرها، ويجل موقعها، فلم أجد ما يجتمع فيه هذا النعت، ويكمل فيه هذا الوصف إلا التفاح، فأهديت إليك منها واحدة في العدد، كثير في التصرف، وأحببت يا أمير المؤمنين أن أعرب لك عن فضلها، وأكشف لك عن محاسنها، وأشرح لك لطيف معانيها، ومقالة الأطباء فيها، وتفنن الشعراء في وصفها، حتى ترمقها بعين الجلالة، وتلحظها بمقلة الصيانة، فقد قال أبوك الرشيد رضي الله عنه: أحسن الفاكهة التفاح، اجتمع فيه الصفرة الدرية، والحمرة الخمرية، والشقرة الذهبية، وبياض الفضة، ولون التبر، يلذ بها من الحواس العين ببهجتها، والأنف بريحها، والفم بطعمها. وقال أرسطا طاليس الفيلسوف، عند حضوره الوفاة، واجتمع إليه تلاميذه: التمسوا لي تفاحة أعتصم بريحها، وأقضي وطري من النظر إليها. وقال إبراهيم بن هانئ: ما علل المريض المبتلى، ولا سكنت حرارة الثكلى ولا ردت شهوة الحبلى، ولا جمعت فكرة الحيران، ولا سلت حسيفة الغضبان ولا تحيت الفتيان في بيوت القيان، بمثل التفاح. والتفاحة يا أمير المؤنين إن حملتها لم تؤذك، وإن رميت بها لم تؤلمك، وقد اجتمع فيها ألوان قوس قزح من الخضرة والحمرة والصفرة، وقال فيها الشاعر:
حمرة التفاح مع خضرته ... أقرب الأشياء من قوس قزح
فعلى التفاح فاشرب قهوةً ... واسقنيها بنشاط وفرح
ثم غن الآن كي تطربني ... طرفك الفتان قلبي قد جرح
فإذا وصلت إليك يا أمير المؤمنين فتناولها بيمينك، واصرف إليها يقينك، وتأمل حسنها بطرفك، ولا تخدشها بظفرك، ولا تبعدها عن عينك، ولا تبذلها لخدمك، فإذا طال لبثها عندك، ومقامها بين يديك، وخفت أن يرميها الدهر بسهمه، ويقصدها بصرفه، فيذهب بهجتها، ويحيل نضرتها، فكلها.
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال المأمون: احملوا إليها من كل ما أهدي لنا في هذا اليوم.
وكتب العباس الهنداني إلى المامون في يوم نيروز:
أهدى لك الناس المرا ... كب والوصائف والذهب
وهديتي حلو القصا ... ئد والمدائح والخطب
فاسلم سلمت على الزما ... ن من الحوادث والعطب

كتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب
فرش الكتاب
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان والنتف، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الطعام والشراب اللذين بهما نمو الغراسة، وهما قوم الأبدان، وعليهما بقاء الأرواح.
قال المسيح عليه الصلاة والسلام في الماء: هذا أبي، وفي الخبز، هذا أمي. يريد أنهما يغذيان الأبدان كما يغذيها الأبوان.

وهذا الكتاب جزآن، جزء في الطعام، وجزء في الشراب. فالذي في الطعام منهما متقص جميع ما يتم ويتصرف به أغذية الطعام، من المنافع والمضار، وتعاهد الأبدان بما يصلحها من ذلك في أوقاته، وضروب حالاته واختلاف الأغذية مع اختلاف الأزمنة بما لا يخلي المعدة وما لا يكظها، فقد جعل الله لكل شيء قدراً.
والذي في الشراب منهما مشتمل على صفوف الأشربة، وما اختلف الناس فيه من الأنبذة، ومحمود ذلك ومذمومه، فإنا نجد النبيذ قد أجازه قوم صالحون، وكرهه قوم صالحون.
وقد وضعنا لكل شيء من ذلك باب، فيحتاط كل رجلٍ لنفسه بمبلغ تحصله، ومنتهى نظره، فإن الرائد لا يكذب أهله.

أطعمة العرب
الوشيقة من اللحم، وهو أن يغلى إغلاءةً ثم يرفع، يقال منه وشقت أشق وشقا، قال الحسن بن هانئ:
حتى رفعنا قدرنا بضرامها ... واللحم بين موذم وموشق
والصفيف مثله، ويقال: هو القديد، يقال: صففته أصفة صفاً.
والربيكة: شيء يطبخ من بر وتمر، ويقال: منه ربكته أربكه ربكاً.
والبسيسة: كل شيء خلطته بغيره، مثل السويق بالأقط، ثم تلته بالسمن أو بالزيت، أو مثل الشعير بالنوى للإبل، يقال: بسسته أبسه بساً.
والعبيثة: بالعين غير معجمة: طعام يطبخ ويجعل فيه جراد، وهو الغثيمة أيضاً.
والبغيث والعليث: الطعام المخلوط بالشعير. فإذا كان فيه الزؤان فهو المعلوث.
والبكيلة والبكالة جميعاً: وهي الدقيق يخلط بالسويق، ثم يبل بماء أو سمن أو زيت، يقال: بكلته أو أبكله، بكلاً.
والفريقة: شيء يعمل من اللبن.
فإذا قطعت اللحم صغاراً قلت: كتفته تكتيفاً.
أبو زيد قال: إذا جعلت اللحم على الجمر قلت: حسحسته، وهو أن تقشر عنه الرماد بعد أن يخرج من الجمر. فإذا أدخلته النار ولم تبالغ في طبخه قلت: ضهبته، وهو مضهب.
والمضيرة سميت بذلك لأنها طبخت باللبن الماضر، وهو الحامض والهريسة لأنها تهرس. والعصيدة لأنها تعصد أي تلوى، واللفيتة لأنها تلفت.
والفالوذ: وهو السرطراط. ومن أسماء الفالوذ أيضاً: السريط، لأنه يسترط مثل يزدرد. ويقال: " لا تكن حلوا فتسترط، ولا مراً فتعقي " .
يقال: أعقى الشيء: اشتدت مرارته.
الرغيدة: اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق لعقاً.
الحريرة: الحساء من الدسم والدقيق.
والسخينة: حساء كانت تعمله قريش في الجاهلية، فسميت به، قال حسان:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
والعكيس: الدقيق يصب عليه الماء ثم يشرب: قال منظور الأسدي:
ولما سقيناها العكيس تمذحت ... خصواصرها وازداد رشحاً وريدها
تمذحت، أي انتفخت.
أسماء الطعام
الوليمة: طعام العرس. والنقيعة: طعام الإملاك. والإعذار: طعام الختان. والخرس: طعام الولادة. والعقيقة: طعام سابع الولادة. والنقيعة: طعام يصنع عند قود الرجل من سفره؛ يقال: أنقعت إنقاعاً. والكيرة: طعام يصنع عند البناء يبنيه الرجل في داره. والمأدبة: كل طعام يصنع لدعوة، يقال: آدبت أودب إيداباً. وأدبت أدباً. قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
الآداب: صاحب المأدبة. والجفلى: دعوة العامة. والنقري: دعوة الخاصة.
والسلفة: طعام يتعلل به قبل الغداء. والقفي: الطعام الذي يكرم به الرجل، يقال منه: قفوته فأنا أقفوه قفواً. والقفاوة: ما يرفع من المرق للإنسان، قال الشاعر:
ونقفي وليد الحي إن كان جائعاً ... ونحسبه إن كان ليس بجائع
صفة الطعام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أكرموا الخبز فإن الله سخر له السموات والأرض. وكلوا سقط المائدة.
وقال الحسن البصري: ليس في الطعام سرف، وتلا قوله تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " .
وقال الأصمعي: الكبادات أربعة: العصيدة، والهريسة، والحيس، والسميذ.
أبو حاتم: والسويق طعام المسافر، والعجلان، والحزين والنفساء، وطعام من لا يشتهي الطعام.
أبو حاتم، عن الأصمعي قال: قال أبو صوارة: الأرز الأبيض بالسمن المسلي والسكر الطبرزذ ليس من طعام أهل الدنيا.
وقال مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أكل الخبيص يزيد في الدماغ.

وقال الحسن لفرقد السبخي: بلغني أنك لا تأكل الفالوذج! قال: يا أبا سعيد أخاف أن لا أؤدي شكره! قال: يا لكع، وهل تؤدي شكر الماء البارد في الصيف، والحار في الشتاء؟ أما سمعت قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما كسبتم " .
وسمع الحسن رجلاً يعيب الفالوذج، فقال: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن، ما عاب هذا مسلم.
وقال رجل في مجلس الأحنف: ما شيء أبغض إلي من الزبد والكمأة. فقال الأحنف: " رب ملوم لا ذنب له " .
وقيل لشريح القاضي: أيهما أطيب، اللوزينق أو الجوزينق؟ فقال: لا أحكم على غائب! ولد لعبد الرحمن بن أبي ليلى غلام فصنع الأخبصة، ودعا الناس، وفيهم مساور الوراق، فلما أكلوا قال مساور الوراق:
من لم يدمم بالثريد سبالنا ... بعد الخبيص فلاهناه الفارس
الرقاشي قال: أخبرنا أبو هفان أن رقبة بن مصقلة طرح نفسه بقرب حماد الراوية في المسجد، فقال له حماد: ما لك؟ قال: صريع فالوذج. قال له حماد: عند من؟ فطالما كنت صريع سمك مملوح خبيث. قال: عند حكم في الفرقة وفصل في الجماعة. قال: وما أكلتم عنده؟ قال: أتانا بالأبيض المنضود، والملوز المعقود، والذليل الرعديد، والماضي المودود.
محمد بن سلام الجمحي قال: قال بلال بن أبي بردة، وهو أمير على البصرة للجاوود بن أبي سبرة الهذلي: أتحضر طعام هذا الشيخ؟ يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، قال: نعم. قال: فصفه لي. قال: نأتيه فنجده متصحباً، يعني نائماً، فنجلس حتى يستيقظ، فيأذن لنا فنساقطه الحديث، فإن حدثناه أحسن الاستماع، وإن حدثنا أحسن الحديث، ثم يدعو بمائدته، وقد تقدم إلى جواريه وأمهات أولاده أن لا تلطفه واحدة منهن إلا إذا وضعت مائدته، ثم يقبل خبازه، فيمثل بين يديه، فيقول: ما عندك اليوم؟ فيقول: عندي كذا عندي كذا، فيعدد كل ما عنده، ويصفه، يريد بذلك أن يحبس كل رجل نفسه وشهوته على ما يريد من الطعام، وتقبل الألطاف من هاهنا وهاهنا، وتوضع على المائدة، ثم يؤتى بثريدة شهباء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات حفافين من العراق، فنأكل معه، حتى إذا ظن أن القوم قد كادوا يمتلئون جثا على ركبتيه، ثم استأنف الأكل معهم. فقال أبو بردة: لله در عبد الأعلى، ما أربط جأشه على وقع الأضراس.
وحضر أعرابي طعام عبد الأعلى، فلما وقف الخباز بين يديه ووصف ما عنده قال: أصلحك الله، أتأمر غلامك يسقيني ماء؟ فقد شبعت من وصف هذا الخباز.
وقال له عبد الأعلى يوماً: ما تقول يا أعرابي لو أمرت الطباخ فعمل لون كذا، ولون كذا؟ قال: أصلحك الله لو كانت هذه الصفة في القرآن لكانت موضع سجود.
أبو عبيدة قال: مر الفرزدق بيحيى بن المنذر الرقاشي فقال له: هل لك أبا فراس في جدي رضيع، ونبيذٍ صليب منشراب الزبيب؟ قال: وهل يأبى هذا إلا ابن المراغة.
وقال الأحوص لجرير لما قدم المدينة: ماذا ترى أن نعد لك؟ قال: شواء وطلاء، وغناء. قال: قد أعد لك.
وقال مساور الوراق في وصف طعام:
اسمع بنعتي للملوك ولا تكن ... فيما سمعت كميت الأحياء
إن الملوك لهم طعامٌ طيب ... يستأثرون به على الفقراء
إني نعت لذيذ عيشي كله ... والعيش ليس لذيذه بسواء
ثم اختصصت في اللذيذ وعيشه ... صفة الطعام لشهوة الحلواء
فبدأت بالعسل الشديد بياضه ... شهد تباكره بماء سماء
إني سمعت لقول ربك فيهما ... فجمعت بين مبارك وشفاء
أيام أنت هناك بين عصابة ... حضروا ليوم تنعم أكفاء
لا ينطقون إذا جلست إليهم ... فيما يكون بلفظةٍ عوراء
متنسمين رياح كل هبوبة ... بين النخيل بغرفة فيحاء
فقعدت ثم دعوت لي بمبذرف ... متشمر يسعى بغير رداء
قد لف على عضلاته ... قلص القميص مشمر سعاء
فأتى بخبز كالملاء منقط ... فبناه فوق أخاون الشيزاء
حتى ملاها ثم ترجم عندها ... بالفارسية داعياً بوحاء
فإذا القصاع من الخلنج لديهم ... تبدن جوانبها مع الوصفاء

ارفع وضع وهنا وهاك وهاهنا ... قصف الملوك ونهمة القراء
يؤتون ثم بلون كل طريفة ... قد خالفته موائد الخلفاء
من كل فرني وجدي راضع ... ودجاجة مربوبة عشواء
ومصوص دراج كثير طيب ... ونواهض يؤتى بهن شواء
وثريدة ملمومة قد سقفت ... من فوقها بأطايب الأعضاء
وتزينت بتوابل معلومة ... وخبيصاتٍ كالجمان نقاء
هذا الثريد وما سواه تعلل ... ذهب الثريد بنهمتي وهوائي
ولقد كلفت بنعت جدي راضع ... قد صنته شهرين بين رعاء
قال نال من لبن كثير طيب ... حتى تفتق من رضاع الشاء
من كل أحمر لا يقر إذا ارتوى ... من بين رقص دائم ونزاء
متعكن الجنبين صافٍ لونه ... عبل القوائم من غذاء رخاء
فإذا مرضت فداوني بلحومها ... إني وجدت لحومهن دوائي
ودع الطبيب ولا تثق بدوائه ... ما خالفتك رواضع الجزاء
إن الطبيب إذا حباك بشربة ... تركتك بين مخافة ورجاء
وإذا تنطع في دواء صديقه ... لم يعد ما في جونة الرقاء
نعت الطبيب هليلجاً وبليلجاً ... ونعت غيرهما من الحلواء
رطب المشان مجزعاً يؤتى به ... والرازقي فما هما بسواء
وبنانياً زرقاً كأن بطونها ... قطع الثلوج نقية الأمعاء
ليست بآكلة الحشيش ولا التي ... يبتاعها الخناق في الظلماء

باب آداب الأكل والطعام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الأكل في السوق دناءة " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " سموا إذا أكلتم، واحمدوا إذا فرغتم " . وكان يلطع أصابعه بعد الطعام.
وقال صلى الله عليه وسلم: " الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعد الطعام ينفي اللمم.
ومن الأدب في الوضوء أن يبدأ صاحب البيت فيغسل يديه قبل الطعام، ويقدم أصحابه بعد الطعام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: " املكوا العجين فإنه أحد الريعين " .
وكان فرقد يقول لأصحابه: إذا أكلتم فشدوا الإزار على أوساطكم، وصغروا اللقم، وشدوا المضغ، ومصوا الماء، ولا يحل أحدكم إزاره فيتسع معاه، ويأكل كل واحد ما بين يديه.
وقالوا: كان ابن هبيرة يباكر الغداء، فسئل عن ذلك فقال: إن فيه ثلاث خصال: أما الواحدة: فإنه ينشف المرة، والثانية: أنه يطيب النكهة، والثالثة: أنه يعين على المروءة. فقيل له: وكيف يعين على المروءة؟ قال: إذا خرجت من بيتي وقد تغديت، لم أتطلع إلى طعام أحدٍ من الناس.
البطنة وقولهم فيها
قالوا: البطنة تذهب الفطنة.
وقال مسلمة بن عبد الملك لأليون، ملك الروم: ما تعدون الأحمق فيكم؟ قال: الذي يملأ بطنه من كل ما وجد.
وحضر أبو بكرة سفرة معاوية ومعه ولده عبد الرحمن، فرآه يلقم لقماً شديداً، فلما كان بالعشي راح إليه أبو بكرة، فقال له معاوية: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اعتل. قال: مثله لا يعدم العلة.
ورأى أبو الأسود الدؤلي رجلاً يلقم لقماً منكراً، فقال: كيف اسمك؟ قال: لقمان، قال: صدق الذي سماك.
ورأى أعرابي رجلاً سميناً، فقال له: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك.
وقعد أعرابي على مائدة المغيرة، فجعل ينهش ويتعرق، فقال المغيرة: يا غلام، ناوله سكيناً. قال الأعرابي: كل امرئ سكينه في رأسه.
قال أعرابي: كنت أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات جفافين من العراق، فأضرب فيها كما يضرب الولي السوء في ما اليتيم.
وقال أعرابي:
ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً ... وخيلاً من البرني فرسانها الزبد
فأطلب فيما بينهن شهادة ... بموت كريمٍ لا يعد له لحد

واصطحب شيخ وحدث من الأعراب في سفر، وكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ مخلع الأضراس، وكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشكو العشق، والشيخ يتضور جوعاً، وكان يسمى جعفراً، فقال الشيخ فيه:
لقد رابني من جعفر أن جعفراً ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له لو مسك الحب لم تبت ... بطيناً ونساك الهوى شدة الأكل
الأصمعي قال: تقول العرب في الرجل الأكول: إنه برم قرون.
البرم: الذي يأكل مع الجماعة ولا يجعل شيئاً. والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين ويأكل أصحابه تمرة تمرة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن.
وكان عبد الله بن الزبير إذا قدم التمر إلى أصحابه قال عبد الله بن عمر: إياكم والقران، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
وقيل لبسرة الأحول: كم تأكل كل يوم؟ قال: من مالي أو من مال غيري؟ قيل له: من مالك. قال: مكوكاً. قيل: فمن مال غيرك، قال: اخبزوا واطرحوا.
وقال رجل من أهل العراق في قينة حفص الكاتب:
قينة حفص ويلها ... فيها خصالٌ عشره
أولها أن لها ... وجهاً قبيح المنظره
ودارها في وهدةٍ ... أوسع منها القنطره
تأكل في مقعدها ... ثوراً وتخرى بقره
قال تأبط شراً: ما أحببت شيئاً قط حبي ثلاثة: أكل اللحم، وركوب اللحم، وحك اللحم باللحم.
وقال أبو اليقظان: كان هلال بن الأسعر التميمي أكولاً، فيزعمون أنه أكل جملاً، وأكلت امرأته فصيلاً، فلما أراد أن يجامعها لم يصل إليها، فقالت له: وكيف تصل إلي وبيني وبينك بعيران.
وكان الواثق واسمه هارون بن محمد بن هارون أكولاً، وكان مفتوناً بحب الباذنجان، وكان يأكل في أكلة واحدة أربعين باذنجانة، فأوصى إليه أبوه - وكان ولي عهده - ويلك متى رأيت خليفة أعمى؟ فقال للرسول: أعلم أمير المؤمنين أني تصدقت بعيني جميعاً على الباذنجان.
وكان سليمان بن عبد الملك من الأكلة، حدث العتبي عن أبيه عن المشردل وكيل عمرو بن العاص قال: لما قدم سليمان الطائف دخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب وابنه بستاناً لعمرو بن العاص فجال فيه ساعة، ثم قال: ناهيكم بمالكم هذا مالاً، ثم ألقى صدره على غصن، وقال: ويلك يا شمردل ما عندك شيء تطعمني؟ قال: بلى إن عندي جدياً كانت تغدو عليه بقرة وتروح عليه أخرى. قال: عجل به. قال: فأتيته به كأنه عكة سمن، فأكله وما دعا عمر ولا ابنه، حتى إذا بقي الفخذ قال: هلم أبا حفص. قال: إني صائم. فأتى عليه، ثم قال: ويلك يا شمردل، ما عندك شيء تطعمني؟ قال: بلى والله عندي خمس دجاجات هنديات كأنهن رثلان النعام. قال: فأتيت بهن فكان يأخذ برجلي الدجاجة فيلقي عظامها نقية حتى أتى عليهن، ثم قال: يا شمردل، ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، إن عندي حريرة كأنها قراضة الذهب. فقال: عجل بها. فأتيته بعس يغيب فيه الرأس، فجعل يلاطمها بيديه ويشرب، فلما فرغ تجشأ فكأنما صاح في جب، ثم قال: يا غلام، أفرغت من غدائي؟ قال: نعم. قال: وما هو؟ قال: ثمانون قدراً، قال: ائتني بها قدراً قدراً، قال: فأكثر ما أكل من كل قدر ثلاث لقم، وأقل ما أكل لقمة، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، ثم أذن للناس ووضعت المائدة وقعد فأكل مع الناس، فما أنكرت من أكله شيئاً.
وقال الأصمعي: كنت يوماً عند هارون الرشيد، فقدمت إليه فالوذجة، فقال: يا أصمعي. قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: حدثني بحديث مزرد أخي الشماخ. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن مزرداً كان رجلاً جشعاً نهماً، وكانت أمه تؤثر عيالها بالزاد عليه، وكان ذلك مما يضريه ويحفظه، فذهبت يوماً في بعض حقوق أهلها وخلفت مزرداً في بيتها ورحلها، فدخل الخيمة فأخذ صاعين من دقيق، وصاعاً من عجوة، وصاعاً من سمن، فضرب بعضه ببعض فأكله، ثم أنشأ يقول:
ولما مضت أمي تزور عيالها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع
خلطت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتريع
ودبلت أمثال الأثافي كأنها ... رؤوس رخال قطعت لا تجمع
وقلت لبطني أبشري اليوم إنه ... حمى أمنا مما تفيد وتجمع
فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم تشبع

قال: فاستضحك هارون حتى أمسك على بطنه واستلقى على ظهره، ثم قعد فمد يده، وقال: خذ، فذا يوم تشبع يا أصمعي.
وقال حميد الأرقط، وهو الذي يقال له: " هجاء الأضياف " ، يصف أكل الضيف:
تجهز كفاه ويحدر حلقه ... إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل
أتانا وما ساواه سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
وقال:
لا أبغض الضيف ما بي جل مأكله ... إلا تنفجه حولي إذا قعد
ما زال ينفخ جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعل الضيف قد ولدا
وقال:
لا مرحباً بوجوه القوم إذ نزلوا ... دسم العمائم تحكيها الشياطين
ألقيت جلتنا الشهريز بينهم ... كأن أظفارهم فيها سكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقى المساكين
أبو الحسن المدائني قال: أقبل نصراني إلى سليمان بن عبد الملك، وهو بدابق، بسلين، أحدهما مملوء بيضاً، والآخر مملوء تيناً، فقال: اقشروا، فجعل يأكل بيضة وتينة حتى فرغ من السلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا بسكر فأكله، فأتخم ومرض فمات.
والأكلة كلهم يعيبون الحمية، ويقولون: الحمية إحدى العلتين.
وقالوا: من احتمى فهو على يقين من المكروه، وفي شك من العافية.
وقالوا: الحمية للصحيح ضارة، وللعليل نافعة.

الحمية وقولهم فيها
قيل لبقراط: مالك تقل الأكل جداً؟ قال: إني إنما آكل لأحيا، وغيري يحيا ليأكل.
وأجمعت الأطباء على أن رأس الداء كله إدخال الطعام على الطعام، وقالوا: احذروا إدخال اللحم على اللحم، فإنه ربما قتل السباع في القفر. وأكثر العلل كلها إنما يتولد من فضول الطعام.
والحمية مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى صهيباً يأكل تمراً وبه رمد، فقال: " أتأكل تمراً وأنت أرمد؟ " .
ودخل على علي رضي اللهعنه، وهو عليل وبيده عنقود عنب، فنزعه من يده.
وقال عليه الصلاة والسلام: " لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم " .
وقيل للحارث بن كلدة طبيب العرب: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم. يريد قلة الأكل. ومنه قيل للمجاعة: الأزمة، وللكثير أزمات.
وقيل لآخر: ما أفضل الدواء؟ قال: أن ترفع يدك عن الطعام وأنت تشتهيه.
أبو الأشهب عن أبي الحسن قال: قيل للمنذر بن جندب: إن ابنك أكل طعاماً كظله حتى كاد يقتله. قال: لو مات ما صليت عليه.
ودعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى الغداء، فقال: ما في فضل يا أمير المؤمنين. قال: لا خير في الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل.
وقال الأحنف بن قيس: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل أن يكون وصافاً لبطنه وفرجه.
وقيل لبعض الحكماء: أي الأدواء أطيب؟ قال: الجوع ما ألقيت إليه من شيء قبله.
وقال رجل من أهل الشام، لرجل من أهل المدينة: عجبت منكم، أن فقهاءكم أظرف من فقهائنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا، قال: أوتدري من أين ذلك؟ قال: لا أدري. قال: من الجوع، ألا ترى أن العود إنما صفا صوته لما خلا جوفه.
وقال الجاحظ: كان أبو عثمان الثوري يجلس ابنه معه يوم الرأس، وكان له يوم معروف يأكل فيه رأساً لا محالة، وكان يجلس ابنه معه: ويقول: إياك يا بني ونهم الصبيان، وأخلاق النوائح، ونهش الأعراب، وكل مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة، أو مضغة شهية، أو شيء مستطرف، فإنما ذلك للشيخ المعظم، أو للصبي المدلل، ولست بواحد منهما. وقد قالوا: مدمن اللحم كمدن الخمر. أي بني، عود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، فإن الله جعلك إنساناً، فلا تجعل نفسك بهيمة. واحذر صرعة الكظة، وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهماً فعد نفسك من الزمنى، واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، وأن السقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من قاتل غيره.
أي بني، والله ما أدى الركوع والسجود ذو كظة، ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحة، والوجبات عيش الصالحين.

أي بني؛ لأمر ما طالت أعمار أهل الهند، وصحت أبدان العرب، ولله در الحارث بن كلدة، إذ زعم أن الدواء هو الأزم، فالداء كله من فضول الطعام، فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة؟ أي بني، لم صار الضب أطول عمراً، إلا لأنه يتبلغ بالنسيم؟ ولم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن الصوم وجاء؟ إلا لأنه جعله حجازاً دون الشهوات؟ فافهم تأديب الله عز وجل، وتأديب رسوله عليه الصلاة والسلام.
أي بني، قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول، ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك.

سياسة الأبدان بما يصلحها
قال الحجاج بن يوسف للباذون طبيبه: صف لي صفةً آخذ بها نفسي ولا أعدوها. قال له: لا تتزوج من النساء إلا شابة، ولا تأكل اللحم إلا فتياً، ولا تأكله حتى تنعم طبخه، ولا تشرب دواء إلا من علة، ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها، ولا تأكل طعاماً إلا أجدت مضغه، وكل ما أحببت من الطعام، واشرب عليه، فإذا شربت فلا تأكل، ولا تحبس الغائظ ولا البول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فامش قبل أن تنام ولو مائة خطوة.
قيل ليهود خيبر: بم صححتم على وباء خيبر؟ قالوا: بأكل الثوم، وشرب الخمر، وسكنى اليفاع، وتجنب بطون الأودية، والخروج من خيبر عند طلوع النجم وعند سقوطه.
وقال قيصر لقس بن ساعدة: صف لي مقدار الأطمعة. فقال: الإمساك عن غاية الإكثار، والبقيا على البدن عند الشهوة. قال: فما أفضل الحكمة؟ قال: معرفة الإنسان قدره. قال: فما أفضل العقل؟ قال: وقوف الإنسان عند منتهى علمه.
وسأل عبد الملك بن مروان أبا المفوز: هل أتخمت قط؟ قال: لا. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دققنا، ولا نكظ المعدة ولا نخليها.
وقيل لبزر جمهر: أي وقت فيه الطعام أصلح؟ قال: أما لمن قدر فإذا جاع ولمن لم يقدر فإذ وجد.
وقال: أربع يهدمن العمر، وربما قتلن: الحمام على البطنة، والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد الجاف، وشرب الماء البارد على الريق.
وقال إبراهيم النظام: ثلاثة أشياء تفسد العقل: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، ودوام النظر في البحر.
الأصمعي قال: جمع هارون من الأطباء أربعة: عراقياً، ورومياً، وهندياً، ويونانياً، فقال: ليصف لي كل واحد منكم الدواء الذي لا داء معه. فقال العراق: الدواء الذي لاداء معه حب الرشاد الأبيض. وقال الهندي: الإهليلج الأسود. وقال الرومي: الماء الحار، وقال اليوناني - وكان أطبهم - حب الرشاد الأبيض يولد الرطوبة، والماء الحار يرخي المعدة، والإهليلج الأسود يرق المعدة، لكن الدواء الذي لا داء معه أن تقعد على الطعام وأنت تشتهيه، وتقوم عنه وأنت تشتهيه.
تدبير الصحة
ثم نذكر بعد هذا من وصف الطعام وحالاته، وما يدخل على الناس من ضروب آفاته، باباً في تدبير الصحة التي لا تقوم الأبدان إلا به، ولا تنمى النفوس إلا عليه.
وقد قال الشافعي: العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان.
ولم نجد بداً - إذ كانت جملة هذه المطاعم التي بها نمو الغراسة، وعليها مدار الأغذية تضر في حالة، وتنفع في أخرى - من ذكر ما ينفع منها ومقدار نفعه، وما يضر منها ومبلغ ضره، وأن نحكم على كل ضرب منها بالأغلب عليه من طباعه، وقلما نجد شيئاً ينفع في حالة إلا وهو يضر في الأخرى، ألا ترى أن الغيث الذي جعله الله رحمة لخلقه، وحياة لأرضه، قد يكون منه السيول المهلكة، والخراب المجحف؟ وأن الرياح التي سخرها الله مبشرات بين يدي رحمته، قد أهلك باه قوماً وانتقم بها من قوم؟ وفي هذا المعنى قال حبيب الطائي:
ولم تر نفعاً عند من ليس ضائراً ... ولم تر ضراً عند من ليس ينفع
قال خالد بن صفوان لخادمه: أطعمينا جبناً، فإنه يشهي الطعام، ويهيج المعدة، وهو حمض العرب. قال: ما عندنا منه شيء. فقال: لا عليك، فإنه يقدح الأسنان، ويشد البطن.

ولما كانت أبدان الناس دائمة التحلل، لما فيها من الحرارة الغريزية من داخل، وحرارة الهواء المحيط بها من خارج، احتاجت إلى أن يخلف عليها ما تحلل، واضطرت بذلك إلى الأطعمة والأشربة، وجعلت فيها قوة الشهوة ليعلم بها وقت الحاجة منها إليها، ومقدار ما يتناول منها، والنوع الذي يحتاج إليه، ولأنه لا يخلف الشيء الذي يتحلل ولا يقوم مقامه إلا مثله، وليس تستطيع القوة التي تحيل الطعام والشراب في بدن الإنسان أن تحيل إلا ما شاكل البدن وقاربه. فإذا كان هذا هكذا، فلا بد لمن أراد حفظ الصحة أن يقصد لوجهين: أحدهما أن يدخل على البد الأغذية الموافقة لما يتحلل منه، والآخر أن ينفي عنه ما يتولد فيه من فضول الأغذية.

ما يصلح لكل طبيعة من الأغذية
وينبغي لك أن تعرف اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها، لتعرف بذلك موافقة كل نوع من الأطعمة لكل صنف الناس. وذلك أن الأغذية مختلفة، فمنها معتدلة، كالتي يتولد منها الدم الخالص النقي، ومنها غير معتدلة، كالتي يتولد منها البلغم والمرة الصفراء والسوداء، والرياح الغليظة، ومنها لطيفة، ومنها غليظة، ومنها ما يتولد منه كيموس لزج، وكيموس غير لزج ومنها ما له خاصة منفعة أو مضرة في بعض الأعضاء دون بعض. فقد يجب متى كان المستولي على البدن الدم النقي أن تكون أغذيته قصداً في قدرها، معتدلة في طبائعها. ومتى كان الغالب عليه البلغم، فيجب أن تكون مسخنة أو يغتذي بما يزيد في الحرارة، ويقمع الرطوبة. ومتى كان الغالب عليه المرة السوداء، فينبغي له أن يغتذي بالأغذية الحارة الرطبة. ومتى كان الغالب عليه المرة الصفراء، فيغتذى بالأغذية الباردة الرطبة، ومتى كان البدن مستحصفاً عسر التحلل، فينبغي أن يغتذى بأغذية يسيرة لطيفة جافة، ومتى كان متخلخلاً فينبغي له أن يتعذى بأغذية لزجة، لكثرة ما يتحلل من البدن.
فهذا التدبير ينبغي أن يلتزم، ما لم يكن في بعض أعضاء البدن ألم، فينبغي أن يستعمل النظر في الأغذية الموافقة للعضو الألم، لأنا ربما اضطررنا إلى استعمال ما يوافق العضو الآلم إن كان مخالفاً لسائر البدن، كما أنه لو كانت الكبد باردة ضيقة المجاري، احتجنا إلى استعمال الأغذية اللطيفة، وتجنب الأغذية الغليظة، وإن كان سائر البدن غير محتاج إليها لضعف أو نحافة، لئلا تحدث الطبيعة في الكبد سدداً، وربما كانت الكبد حارة فتحذره الأغذية الحلوة، وإن احتاج إليها، لسرعة استحالتها إلى المرة الصفراء. وربما كانت المعدة ضعيفة، فتحتاج إلى ما يقويها من الأغذية، وربما كان يولد الطعام فيها بلغماً، فتحتاج إلى ما يقمع الصفراء، وإلى تجنب الأشياء المولد لها. وربما كان الطعام يبقى على رأس المعدة طافياً، فيستعمل الأغذية الغليظة الراسية ليتثقل بثقلها إلى أسفل المعدة، وتأمره بحركة يسيرة بعد الطعام، لينحط الطعام عن رأس المعدة. وربما كان رأس المعدة حاراً قابلاً للحار فيتجنب الأغذية الحارة، وإن احتاج إليها سائر البدن.
الحركة والنوم مع الطعام
وينبغي ألا يقتصر على ما ذكرنا دون النظر في مقدار الحركة قبل الطعام، والنوع بعده، فمتى كانت الحركة قبل الطعام كثيرة، غذيناه بأغذية كثيرة غليظة لزجة إلى اليبس ما هي، بطيئة التحلل، ولم نأمره بالحمية، لقلة الحاجة إليها. ومتى لم تكن قبل الطعام حركة، أو كانت يسيرة، فينبغي ألا يقتصر على الحمية، بقلة الطعام ولطافته، دون أن يستعين على تخفيف ما يتولد في البدن من الفضول باستفراغ الأدوية المسهلة، وبالحمام، وبإخراج الدم. ومتى كانت الحركة كافية، استعملنا الأغذية المعتدلة في كثرتها، وقد لطافتها وغلظها. ومت كان النوم بعد الطعام كثيراً احتجنا إلى استعمال أغذية كثيرة غزيرة الغذاء، لطول الليل، وكثرة النوم، ومتى كان النوم قليلاً احتجنا إلى الطعام القليل الخفيف اللطيف، كالذي يغتذي به في الصيف، لقصر الليل وقلة النوم.
تقدير الطعام وما يقدر منه وما يؤخر
ويجب في الطعام أن يقدر فيه اربعة أنحاء: أولها ملاءمة الطعام لبدن المغتذي به في الوقت الذي يعتذي به فيه، كما ذكرنا آنفاً: أنه متى كان الغالب على البدن الحرارة احتاج إلى الأغذية البادرة. ومتى كان الغالب عليه البرد احتاج إلى الأغذية الحارة، ومتى كان معتدلاً احتاج إلى الأغذية المعتدلة المشاكلة له.

والنحو الثاني: تقدير الطعام بأن يكون على مقدار قوة الهضم، لأنه وإن كان في نفسه محموداً وكان ملائماً للبدن، وكان أكثر من قد احتمال قوة الهضم، ولم يستحكم هضمه، تولد منه غذاء رديء.
والنحو الثالث: تقديم ما ينبغي أن يقدم من الطعام، وتأخير ما ينبغي أن يؤخر منه، ومثل ذلك أنه ربما جمع الإنسان في أكلة واحدة طعاماً يلين البطن، وطعماً يحبسه. فإن هو قدم الملين وأتبعه الآخر سهل انحدار الطعام منه، ومتى قدم الطعام الحابس وأتبعه الملين لم ينحدر وفسدا جميعاً. وذلك أن الملين حال فيما بينه وبين النزول الطعام الحابس، فبقي في المعدة بعد انهضامه، ففسد به الطعام الآخر. ومتى كان الطعام الملين قبل الحابس انحدر الملين بعد انهضامه، وسهل الطريق لانحدار الحابس. وكذلك أيضاً إن جمع أحد في أكلة واحدة طعاماً سريع الانهضام وآخر بطيء الانهضام، فينبغي له أن يقدم البطيء الانهضام ويتبعه السريع الانهضام، ليصير البطيء في قعر المعدة؛ لأن قعر المعدة أسخن، وهو أقوى على الهضم، لكثرة ما فيه من أجزاء اللحم المخالطة له، وأعلى المعدة عصبي بارد لطيف ضعيف الهضم. ولذلك إذا طفا الطعام على رأس المعدة لم ينهضم.
والنحو الرابع: أن من يتناول الطعام الثاني بعد انحدار الأول، وقد قدم قبله حركة كافية، وأتبعه بنوم كاف، استمرأه. ومن أخذ وقد بقي في معدته أو أمعائه بقية من الطعام الأول غير منهضمة، فسد الطعام الثاني ببقية الأول.

باب الحركة والنوم مع الطعام
ومن أكل الطعام بعد حركة كافية، وأخذه على حاجة من البدن إليه، وافى الطعام الحرارة الغريزية بمنزلة النار إذا اشتعلت. ومن تناول طعاماً من غير حركة وأخذه على غير حاجة من البدن إليه وافى الطعام الحرارة الغريزية خامدة، بمنزلة النار الكامنة في الزناد. ومن اتبع الطعام بنوم بطنت الحرارة الغريزية فيه، فاجتمعت في باطن البطن، فهضمت طعامه. ومن اتبع الطعام بحركة انحدر عن معدته غير منهضم، وابنث في العروق غير مستحكم، فأحدث سدداً وعللاً في الكبد والكلى وسائر الأعضاء. وربما كانت الأطعمة لضعف المعدة تطفو فيها وتصير في أعلاها، فلا نأمره بالنوم حتى ينحدر الطعام على المعدة بعض الانحدار، حتى يصير في قعر المعدة. وربما أمرنا بحركة يسيرة كما ذكرنا آنفاً لانحدار الطعام عن المعدة بعض الانحدار.
وإن أكثر الشراب منع الطعام من الانهضام، لأنه يحول فيما بين جرم المعدة وبين الطعام، وإذا لم تلق المعدة الطعام لم تحله إلى مشاكلة البدن وموافقته، فيبقى فيها غير منهضم، فيجب لذلك على من أخذ الطعام أن يتناول معه من الشراب ما يسكن به جل العطش ويصبر على قدر احتماله من العطش، ويصبر حتى ينهضم، ثم يتناول بعد ذلك من الشراب ما أحب، فإنه عند ذلك يعين على انحدار الطعام وترقيقه، لتنفيذه في المجاري الدقاق. ويجب أيضاً أن يكون أخذه للطعام في وقت حركة الشهوة. وذلك أنه إذا تحركت الشهوة ولم يبادر بأخذ الطعام اجتذبت المعدة من فضول البدن ما صار في المعدة أبطل الشهوة، وأفسد الطعام إذا خالطه.
الأوقات التي يصلح فيها الطعام
أجود الأوقات كلها الطعام: الأوقات الباردة، لجمعها الحرارة في باطن البدن، فأما الأوقات الحارة فينبغي أن يتجنب أخذ الطعام فيها، لأن حرارة الهواء تجذب الحرارة الباطنة الغريزية إلى ظاهر البدن ويخلو منها باطنه، فتضعف الحرارة في باطن البدن عن هضمه، فلذلك كانت القدماء تفضل العشاء على الغداء، لما يلحق العشاء من اجتماع الحرارة في باطن البدن، لبرد الليل والنوم، ولأن الحرارة في النوم تبطن وتسخن باطن البدن ويبرد ظاهره، واليقظة على خلاف ذلك، لأن الحرارة تنتشر في ظاهر البدن وتضعف في باطنه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16