كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

وزعم جعفرٌ أنه كانت في سليمان رُتّة وفي صالح مثلُها، وأنها موجودة في آل سليمان وصالح. وكان عليّ يقول: أكره أنْ أوصي إلى محمد ولدي، وكان سيدَ ولده وكبيرَهم، فأشينه بالوصيّة، فأَوصى إلى سليمان. فلما دُفن عليّ جاء محمد إلى سُعدى ليلاً، ولْكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما اصبح غداً عليه سليمان بالوصية، فقال: فقال: أخرجي لي وصيّة أبي. قالت: إن أباك أجلُّ من أن تُخرَج وصيّته ليلاً، ولكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما أصبح غداً عليه سليمان بالوصية، فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصيّة أبيك. فقال: جزاك الله من ابنٍ وأخ خيراً، ما كنت لأثَرِّب على أبي بعد موته كما لم أثَرِّب عليه في حياته.

العُتبي عن أبيه عن جدّه قال: لما اشتكى معاويةُ شكاتَه التي هلك فيها أرسل إلى ناس من جلّة بني أمية، ولم يحضرها سفياني غيري وغير عثمان بن محمد، فقال: يا معشر بني أمية، إني لما خِفْتُ أن يسبقكم الموتُ إليَّ سبقته بالموعظة إليكم، لا لأرد قَدَراً، ولكن لأبلغِ عُذْراً. إن الذي اخلِّف لكم من دنياي أمرٌ ستُشاركون فيه وتُغْلبون عليه، والذي أخَلف لكم من رأى أمر مقصور لكم نَفْعه إن فعلتموه، مَخوف عليكم ضرَره إن ضَيّعتموه. إن قريشاً شاركتكم في أنسابكم، وانفردتُم دونها بأفعالكم، فقدَّمكم ما تقدمتُم له، إذ أخَّر غيرَكم ما تأخروا عنه، ولقد جُهل بي فَحَلمْت، ونُقر لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم. إنّ دولتكم ستطول، وكل طويل مملول، وكل مملول مخذول. فإذا كان ذلك كذلك، كان سببُه اختلافَكم فيما بينكم، واجتماعَ المختلفين عليكم، فيُدْبر الأمرُ بضد ما اقبل به. فلستُ أذكر جسيماً يُركب منكم، ولا قبيحاً يُنتهك فيكم، إلا والذي أمسك عن ذكره أكثُرُ وأعظم، ولا مُعوّل عليه عند ذلك أفضلُ من الصبر واحتساب الأجر. سيمادكم القومُ دولتَهم امتداد العِنانين في عُنق الجواد، حتى إذا بلغ الله بالإمر مَداه، وجاء الوقتُ المبلول بريق النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع الحِلْقة المطبوعة على مَلالة الشيء المَحبوب، كانت الدولةُ كالإناء المُكْفأ. فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتَّقه غيركم فيكم، فجعل العاقبةَ لكم، والعاقبةُ للمتقين. قال عمرو بن عُتبة: فدخلتُ عليه يوماً آخر فقال: يا عمرو، أوعيتَ كلامي؟ قلت: وعيتُ. قال: أعِد عليّ كلامي فقد كلمتُكم وما أراني أمسي من يومكم ذلك. قال شبيبُ بن شَيبة الأهتميّ: حججت عامَ هلك هشامُ وولي الوليدُ بن يزيد، وذلك سنة خمس وعشرين ومائة، فبينما أنا مُريح ناحية من المسجد، إذ طلع من بعض أبواب المسجد فَتى أسمرُ رقيقُ السمرة، موفر اللمة. خفيف اللحية، رَحب الجبهة، أقنى بينّ القَنَى، أعينُ كأنّ عينيه لسانان يَنطقان، يخلط أبهة الأملاك بزيِّ النُّساك، تَقبله القلوب، وتَتبعه العيون، يُعرف الشَرف في تواضعه، والعِتْق في صُورته، واللُّب في مِشيته. فما ملكتُ نفسي أن نهضتُ في أثره سائلاً عن خبره، وسَبقنيِ فتحرَّم بالطواف، فلما سبَّع قصد المقام فركع، وأنا أرعاه ببصري. ثم نَهض مُنصرِفاً، فكأن عيناً أصابته، فكبا كَبوة دَميت لها إصْبعه، فقعد لها القرفصاء، فدنوتُ منه متوجّعاً لما ناله مُتّصلاً به، أمسح رجله من عَفر التراب، فلا يَمتنع عليَ، ثم شققتُ حاشية ثوبي فعصبت بها إصبعه، وما يُنكر ذلك ولا يَدْفعه، ثم نهض متوكئاً عليّ. وانقدتُ له أماشيه، حتى إذا أتى داراً بأعلى مكّة، ابتدره رجلان تكاد صدورهما تَنفرج من هَيبته، ففتحا له الباب. فدخل، واجتذبني فدخلتُ بدخوله، ثم خلّى يدي وأقبل على القِبْلة، فصلى ركعتين أوجز فيهما في تَمام، ثم استوى في صدر مجلسه، فحمِدَ الله وأثنى عليه وصلَّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها، ثم قال: لم يَخْف عليّ مكانك منذ اليوم ولا فعلُك بي، فمن تكون يرحمك اللهّ؟ قلت: شَبيب بن شيبة التميميّ. قال: الأهتميّ؟ قلتُ: نعم. قال: فرحّب وقَرّب، ووصف قومي بابين بيان، وأفصح لسان. فقلت له: أنا أجلك، أصلحك اللّه، عن المسألة، وأحب المعرفة. فتبسم وقال: لطف أهل العراق، أنا عبدُ الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس. فقلت: بأبي أنت وأمي، ما أشبَهك بنَسبك، وأدلَك على مَنْصبك، ولقد سبق إلى قلبي من محبّتك ما لا أبلغه بوَصفي لك. قال: فأحمد الله يا أخا بني تميم، فإنّا قوم يُسعد الله بحُبنا من احبّه، ويُشقي ببُغضنا من أبغضه، ولن يصل الإيمانُ إلى قلب أحدكم حتى يُحبَّ الله ويُحب رسوله، ومهما ضَعُفنا عن جزائه قوِي الله على أدائه. فقلت له: أنت تُوصف بالقلم وأنا من حَمَلته، وأيامُ الموسم ضَيقة، وشُغل أهل مكة كثير، وفي نفسي أشياء احب أن أسأل عنها، أفتأذن لي فيها جُعلت فداك؟ قال: نحن من أكثر الناس مُستوحشون، وأرجو أن تكون للسرِّ موضعاً، وللأمانة واعياً، فإِن كنتَ كما رجوتُ فافعل. قال: فقدّمت من وثائق القول والإيمان ما سكَن إليه، فتلا قولَ اللّه: " قُلْ أيّ شيءٍ أكْبرُ شهادةً قُل الله شهيد بَيْني وبَيْنكم " ثم قال: سَل عما بدا لك. قلت:

ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثَّقفي، خال الوليد. فتنفّس الصُّعداء، وقال: عن الصلاة خَلْفه تسألني أم كرهتَ أن يتأمَّر على آل الله مَن ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرضُ للّه تَعبّدَ به خلقَه، فأدَ ما فرَض الله تعالى عليك في كل وقت مع كُل أحد وعلى كل حال، فإن الذي نَدبك لحجّ بيته وحُضور جماعته وأعياده لم يُخبرك في كتابه بأنه لا يَقبل منك نُسكاً إلا مع أكمل المؤمنين إيماناً، رحمةً منه لك، ولو فعل ذلك بك ضاق الأمْر عليك، فاسْمَح يُسمح لك. قال: ثم كرّرت في السؤال عليه فما احتجتُ أن أسأل عن أمر دين أحداً بعده. ثم قلت: يَزعم أهلُ العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شكِ فيها، تَطلع طُلوعَ الشمس وتَظهر ظهورَها، فنسأل الله خيرَها، ونعوذ بالله من شرها، فخِذ بحظّ لسانك ويدك منها إن أدركتَها. قلت: أو يتخلّف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قَوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم، ونأبى إلا طلباً بحقنا، فنُنصر ويُخذلون، كما نُصر بأولنا أولُهم، ويُخذل بمُخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعتُ. فقال: سَهِّل عليك الأمر، " سُنة الله التي قد خَلَت من قبل ولن تَجد لسُنةِ الله تبديلاً " . وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صِلة أرحامهم، وحفظ أعقابهم، وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبُكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم؟ قال نحن قوم حُبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا، وبُغِّض إلينا الغَدر وإن كان لنا، وإنما يَشد علينا منهم الأقل، فأما أنصار دَولتنا، ونُقباء شِيعتنا وأمراء جُيوشينا، فهم مواليهم، ومَوالي القوم من أنفسهم. فإذا وَضعت الحرب أوزارها صَفحنا بالمُحسن عن المسيء، ووَهبنا للرجل قومه ومَن اتصل بأسبابه، فتذهب النَّائرة، وتَخبو الفِتْنة، وتطمئنّ القلوب. قلت: ويقال: إنه يُبتلى بكم مَن أخلص لكم المَحبة. قال: قد رُوي أن البلاء أسرعُ إلى مُحبِّينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أُرد هذا. قال فمَهْ؟ قلت: تَعُقّون الولي وتحظون العدو؟ قال مَن يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يَسلم منا من الأعداء أقلّ وأَيسر، وإنما نحن بَشر وأكثرنا أذن، ولا يعلم الغيبَ إلا الله، وربما استترت عنّا الأمور فنقع بما لا نُريد، وإن لنا لإحساناً يَأسو الله به ما نَكْلم، ويَرُمّ به ما نَثْلم، ونستغفر الله مما لا نَعلم، وما أنكرتُ من أن يكون الأمرُ على ما بلغك، ومع الوَليّ التعزُّز والإدلال والثِّقة والاسترسال؟ ومع العدوّ التحرّز والإحتيال، والتذلّل والإغتيال؟ وربما أمَلَّ المُدِلّ، وأخلَّ المُسترسل، وتجانب المُتقرّب، ومع المقة تكون الثقة؟ على أنّ العاقبةَ لنا على عدوّنا، وهي لوليّنا؟ وإنك لسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم. قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قَريب إن شاء الله تعالى. قلت: عَجّل الله ذلك. قال: آمين. قلتُ: ووهب لي السلامة منكم فإني من مُحبِّيكم. قال آمين، وتبسم. وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدْح في الدين، أو هَتْك للمُلك، أو تُهمة في حُرمة. ثم قال: احفظ عنّي ما أقول لك: أصدُق وإن ضرك الصدق؟ وأنصَح وإن باعدك النُّصح، ولا تجالس عدوّنا وإن أَحظيناه، فإنه مَحذول، ولا تَخذل ولينا وإن أبعدناه، فإِنه مَنصور، وأصحبنا بترك المُماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصِلْ إذا قطعوك، ولا تَستخْفِ فيمقتوك، ولا تَنْقبض فيتحشَّموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرَّض للأموال. وأنا رائح من عَشيتي هذه، فهل من حاجة؟ فنهضتُ لوداعه فودَّعته، ثم قلت: أترقتُ لظهور الأمر وقتاً؟ قال: الله المقدِّر المُوقِّت، فإذا قامت النَّوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العامَ وموتُ محمد بن عليّ مستهلَّ ذي القعدة، وعليه أخْلِفتْ، وما بلغْتكم حتى أنضيت. قلتُ: فهل أَوْصى؟ قال، نعم، إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت فإذا مولى له يَتْبعني، حتى عَرف منزلي، ثم أتاني بكُسوة من كُسوته، فقال: يأمرك أبو جَعفر أن تصلَيَ في هذه، قال: وافترقنا.ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثَّقفي، خال الوليد. فتنفّس الصُّعداء، وقال: عن الصلاة خَلْفه تسألني أم كرهتَ أن يتأمَّر على آل الله مَن ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرضُ للّه تَعبّدَ به خلقَه، فأدَ ما فرَض الله تعالى عليك في كل وقت مع كُل أحد وعلى كل حال، فإن الذي نَدبك لحجّ بيته وحُضور جماعته وأعياده لم يُخبرك في كتابه بأنه لا يَقبل منك نُسكاً إلا مع أكمل المؤمنين إيماناً، رحمةً منه لك، ولو فعل ذلك بك ضاق الأمْر عليك، فاسْمَح يُسمح لك. قال: ثم كرّرت في السؤال عليه فما احتجتُ أن أسأل عن أمر دين أحداً بعده. ثم قلت: يَزعم أهلُ العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شكِ فيها، تَطلع طُلوعَ الشمس وتَظهر ظهورَها، فنسأل الله خيرَها، ونعوذ بالله من شرها، فخِذ بحظّ لسانك ويدك منها إن أدركتَها. قلت: أو يتخلّف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قَوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم، ونأبى إلا طلباً بحقنا، فنُنصر ويُخذلون، كما نُصر بأولنا أولُهم، ويُخذل بمُخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعتُ. فقال: سَهِّل عليك الأمر، " سُنة الله التي قد خَلَت من قبل ولن تَجد لسُنةِ الله تبديلاً " . وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صِلة أرحامهم، وحفظ أعقابهم، وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبُكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم؟ قال نحن قوم حُبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا، وبُغِّض إلينا الغَدر وإن كان لنا، وإنما يَشد علينا منهم الأقل، فأما أنصار دَولتنا، ونُقباء شِيعتنا وأمراء جُيوشينا، فهم مواليهم، ومَوالي القوم من أنفسهم. فإذا وَضعت الحرب أوزارها صَفحنا بالمُحسن عن المسيء، ووَهبنا للرجل قومه ومَن اتصل بأسبابه، فتذهب النَّائرة، وتَخبو الفِتْنة، وتطمئنّ القلوب. قلت: ويقال: إنه يُبتلى بكم مَن أخلص لكم المَحبة. قال: قد رُوي أن البلاء أسرعُ إلى مُحبِّينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أُرد هذا. قال فمَهْ؟ قلت: تَعُقّون الولي وتحظون العدو؟ قال مَن يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يَسلم منا من الأعداء أقلّ وأَيسر، وإنما نحن بَشر وأكثرنا أذن، ولا يعلم الغيبَ إلا الله، وربما استترت عنّا الأمور فنقع بما لا نُريد، وإن لنا لإحساناً يَأسو الله به ما نَكْلم، ويَرُمّ به ما نَثْلم، ونستغفر الله مما لا نَعلم، وما أنكرتُ من أن يكون الأمرُ على ما بلغك، ومع الوَليّ التعزُّز والإدلال والثِّقة والاسترسال؟ ومع العدوّ التحرّز والإحتيال، والتذلّل والإغتيال؟ وربما أمَلَّ المُدِلّ، وأخلَّ المُسترسل، وتجانب المُتقرّب، ومع المقة تكون الثقة؟ على أنّ العاقبةَ لنا على عدوّنا، وهي لوليّنا؟ وإنك لسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم. قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قَريب إن شاء الله تعالى. قلت: عَجّل الله ذلك. قال: آمين. قلتُ: ووهب لي السلامة منكم فإني من مُحبِّيكم. قال آمين، وتبسم. وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدْح في الدين، أو هَتْك للمُلك، أو تُهمة في حُرمة. ثم قال: احفظ عنّي ما أقول لك: أصدُق وإن ضرك الصدق؟ وأنصَح وإن باعدك النُّصح، ولا تجالس عدوّنا وإن أَحظيناه، فإنه مَحذول، ولا تَخذل ولينا وإن أبعدناه، فإِنه مَنصور، وأصحبنا بترك المُماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصِلْ إذا قطعوك، ولا تَستخْفِ فيمقتوك، ولا تَنْقبض فيتحشَّموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرَّض للأموال. وأنا رائح من عَشيتي هذه، فهل من حاجة؟ فنهضتُ لوداعه فودَّعته، ثم قلت: أترقتُ لظهور الأمر وقتاً؟ قال: الله المقدِّر المُوقِّت، فإذا قامت النَّوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العامَ وموتُ محمد بن عليّ مستهلَّ ذي القعدة، وعليه أخْلِفتْ، وما بلغْتكم حتى أنضيت. قلتُ: فهل أَوْصى؟ قال، نعم، إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت فإذا مولى له يَتْبعني، حتى عَرف منزلي، ثم أتاني بكُسوة من كُسوته، فقال: يأمرك أبو جَعفر أن تصلَيَ في هذه، قال: وافترقنا.

قال: فوالله ما رأيتُه إلا وحرسيَّان قابضان عليّ يُدنياني منه في جَماعة من قومي لأُبايعه. فلما نَظر إليَّ أَثبتنَي، فقال: خلِّيا عمن صحَت مودتُه، وتقدَمت حُرمته، وأخدتْ قبل اليوم بيعتُه. قال: فأكبر الناسُ ذلك من قوله، ووجدتهُ، على أوّل عهده لي، ثم قال لي: أين كنتَ عنّي في أيام أخي أبي العبّاس. فذهبتُ أعتذر. قال: أَمسِك، فإنّ لكل شيء وقتاً لا يعدوه، ولن يَفوتك إن شاء الله حظُّ مودّتك وحق مُسابقتك، فاختر بين رِزْقٍ يَسعك أو عمل يرفعك. قلت: أنا حافظ لوصيَّتك. قال: وأنا لها أحفظ، إنما نهيتُك أن تخطُب الأعمال، ولم أَنهك عن قَبولها. قلت: الرزقُ مع قرب أمير المؤمنين أحبُّ إليَّ. قال: ذلك لك، وهو أجمّ لقلبك، وأَودع لك، وأعفَى إن شاء الله ثم قال: هل زدتَ في عِيالك بعدي شيئاً، وكان قد سألني عنهم، فذكرتُهم له، فعجبتُ من حفظه، قلت: الفرسَ والخادم. قال: قد أَلحقنا عيالَك بعيالنا وخادمك بخادمنا وفرسك بخَيلنا، ولو وسعني لحملتُ إليك بيت المال، وقد ضممتُك إلى المهديّ، وأنا أُوصيه بك، فإنه أَفرغ لك مني.
قال لأحوص بن محمد الشاعر الأنصاريّ، من بني عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الذي حَمت لَحمه الدَّبْر، يُشبِّب بامرأة يقال لها أم جعفر، فقال فيها:
أدورُ ولولا أن أرى أم جَعفر ... بأبياتكم ما دُرت حيث إِدُور
وكان لأم جعفر أخٌ يقال له أيمن، فأستعدَى عليه ابنَ حَزم الأنصاري، وهو والي المدينة للوليد بن عبد الملك، وهو أبو بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزم، فبعث ابنُ حزم إلى الأحوص، فأتاه. وكان ابنُ حزم يُبغضه، فقال: ما تقول فيما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يزعم أنك تُشبّب بأخته ولد فضحتَه وشَهرت أخته بالشعر. فأنكَر ذلك. فقال لهما: قد اشتبه علي أمرُكما، ولكنني أدفع إلى كُل واحد منكما سَوطاً، ثم اجتِلدا، وكان الأحوص قصيراً نحيفاً، وكان أيمن طويلاً ضخماً جَلْداً. فغلب أيمنُ الأحوصَ، فضَربه حتى صَرعه وأثخنه. فقال أيمن:
لقد مَنع المعروفَ من أم جعفر ... أشمُ طويلُ السّاعدين غَيورُ
عَلاكَ بمَتن السَّوْط حتى أتْقيتَه ... بأصفرَ مِن ماء الصِّفاق يَفُور
قال: فلما رأى الأحوص تحامُلَ ابْنِ حزم عليه امتدح الوليدَ، ثم شَخص إليه إلى الشام، فدخل عليه فأنشده:
لا ترثين لَحزْميٍّ رأيتَ به ... ضُرًّا ولو ألقي الحَزميُّ في النار
الناخسين لمَروان بذي خُشُب ... المُدْخلين على عُثمان في الدار
قال له صدقتَ والله، لقد كُنّا غَفلنا عن حزم وآل حزم ثم دعا كاتبَه فقال: اكتُب عهد عثمان بن حيّان المُري على المدينة، وأعزِل ابن حزم، واكتُب بقبض أموال حَزم وآل حَزم وإسقاطهم أجمعين من الديوان، ولا يأخذون لأمويّ عطاءً أبداً ففعل ذلك. فلم يزالوا في الحِرمان للعطاء مع ذَهاب الأموال والضِّياع حتى انقضت دولةً بنى أمية وجاءت دولة بني العبّاس. فلما قام أبو جعفر المنصور بأمر الدولة قدم عليه أهل المدينة، فجلس لهم فأمر حاجبَه أن يتقدّم إلى كل رلّ منهم أن يَنتسب له إذا قام بين يديه، فلم يزالوا على ذلك يفعلون، حتى دخل عليه رجلٌ قَصير قَبيح الوجه، فلما مَثل بين يديه قال له: يا أمير المؤمنين، أنا ابنُ حزم الأنصاريّ الذي يقول فينا الأحوص:
لا تَرثينّ لحزميٍ رأيتَ به ... ضرًا ولو ألقي الحَزميُّ في النار
الناخسين لمروان بذي خُشب ... والمدخلين على عثمان في الدار

ثم قال: يا أمير المؤمنين، حُرمنا العطاء منذ سِنين، وقُبضت أموا لُنا وضياعُنا. فقال له المنصور: أعِد عليَّ البيتين. فأعادهما عليه. فقال: أما والله لئن كان ذلك ضَرَّكم في ذلك الحين ليَنفعنَّكم اليوم، ثم قال: عليَ بسليمان الكاتب. فأتاه أبو أيوب الخُوزيّ. فقال: اكتُب إلى عامل المدينة أن يَرُدّ جميع ما اقتطعه بنو أميَّة من ضِياع بني حَزم وأموالهم، ويَحسب لهم ما فاتَهم من عطائهم، وما استُغلَّ من غَلاّتهم من يومئذٍ إلِى اليوم، فيُخلف لهم جميعَ ذلك من ضِياع بني مَروان، ويَفْرض لكُل واحد منهم في شرَف العطاء - وكان شرفُ العطاء يومئذ مائتي ألف دينار في السنة - ثم قال: عليَّ الساعة بعشرة آلاف دَرهم تُدفع إلى هذا الفتى لنَفقته. فخرج الفتى من عنده بما لم يَخرج به أحد ممن دخل عليه.

ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم
أبو العباس السفاح
ولد أبو العبَّاس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المطلب مُستهل رجب سنةَ أربع ومائة. وبُويع له بالكوفة يومَ الجمعة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من ربيعٍ الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وتُوُفِّي بالأنبار لثلاثَ عشرَةَ ليلةً خلت من ذي الحجَّة سنةَ ستّ وثلاثين ومائة. فكانت خلافتُه أربعَ سنين وثمانيةَ أشهر. وأمه رَيطة بنتُ عبيد الله بن عبد الله ابن عبد المَدان.
وكان أبيضَ طويلاً أقنَى الأنف حسنَ الوجه حسنَ اللّحية جعدَها. نقشُ خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤمن " . وصلى عليه عمُه عيسى بن عليّ. ورُزق من الولد اثنين: محمد، من أم ولد، ومات صغيراً، وابنة سمَّاها رَيطة، من أم ولد، تزوَّجها المهديُّ وأولدها عليّاً وعُبيد اللّه.
ووَزَر له أبو سَلمة حَفْص بن سليمان الخلال، وهو أول من لُقِّب بالوزارة.
فقتلهِ أبو العبّاس وأستوزر بعده خالَد بن بَرْمك إلى آخر أيَّامه، وكان حاجَبه أبو غسان صالحُ بن الهيثم، وقاضيَه يحيى بنُ سعيد الأنصاريّ.
المنصور
وبُويع أبو جعفر المنصور. واسمه عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله ابن العبّاس في اليوم الذي تُوفِّي فيه أخوه لثلاثَ عشرةَ خلت من ذي الحجَّة سنةَ ستّ وثلاثين ومائة. وكان مولدُه بالشراة لسبعٍ خَلونَ من ذي الحجة سنةَ خمس وتسعين. وتُوفِّي بمكة قبل التَرْوية بيوم، لسبعٍ خَلَونَ من ذي الحجة سنة ثمانٍ وخمسين ومائة وهو مُحْرم. ودُفن بالحَجون. وصلَّى عليه إبراهيمُ بن يحيى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بنِ العبِّاس. وكانت مُدَّة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثمانيةَ أيام. وكانت سِنّه ثلاثاً وستين سنة. وأمُّه أَمَة اسمها سَلامة. وجِنْسها بربرية.
وكان أسمرَ طُوالاً نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين يَخْضِب بالسواد. ونقش خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤِمن " . وتزوَج بنت منصور الحِمْيرية، وولدت له: محمداً، وهو المهديُّ، وجعفراً. وكانت شرطت عليه ألا يتزوج ولا يتسرَّى إلا عن أمرها. وكان قد ابتاع جاريته أمَّ عليّ وجعلها قيِّماً في داره على أمِّ موسى وأولاده. فحظيت عند أمِّ موسى وسألته التسرِّي بها لمَا رأت من فضلها. فواقعها فأولدها عليّاً، وتوفي قبل استكمال سَنة؟ ثم فاطمة بنت محمد، من ولد طَلحة بن عُبيد اللّه، فولدت له سُليمان، وعيسى، ويعقوب. ورُزق من أمهات الأولاد: صالحاً والعالية وجعفراً والقاسمَ والعبَّاس وعبد العزيز.
ووُزر له ابنُ عطية الباهليّ، ثم أبو أيوب الموريانيّ، ثم الربيع، مولاه. وكان حاجبه عيسى بنُ روضة، مولاه، ثم أبو الخَصيب، مولاه. وكان قاضيَه عبدُ الله بن محمد بن صفوان، ثم شريك بن عبد اللّه، والحسن بن عمار، والحجَّاج بن أرطاة.
المهدي
ثم بُويع ابنُه أبو عبد الله محمد المهديُ بن عبد الله المَنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس صبيحة اليوم الذي تُوفي فيه أبوه لستٍّ خلَوِن من ذي الحجة سنةَ ثمان وخمسين ومائة. وكان مولدُه بالحميمة يومَ الخميس لثلاث عشرةَ ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة ستٍّ وعشرين ومائة. وتُوفي بما سَبَذان في المُحرم سنة تسع وستين ومائة. وصلّى عليه ابنُه الرشيدُ - فكانت خلافته عشرَ سنين وخمسةً وأربعين يوماً. وكانت سنه إحدى وأربعين سنة وثمانيةَ أشهر ويومين.

وكان أسمرَ طويلاً معتدلَ الخلف، جعدَ الشعر، بعينه اليمنى نُكتة بياض، نقش خاتمه " الله ثقة محمد وبه يؤمن " وتزوَج رَيطة بنت السفاح، وأولدها علياً وعُبيد اللهّ. وأول جارية ابتاعها مَحْياة، فرُزق منها ولداً مات قبل استكمال سنة. وكان يبتاع الجواري باسمها وتُقَربهن إليه. وأول من حَظِي منهن عنده رحيم، ولدت له العباسة، ثم الخَيزران، فولدت له موسى وهارون والبانوقة؟ ثم حللة وحَسنة، وكانتا مغنيتين مُحسنتين. وتزوج سنة تسع وخمسين ومائة أمَ عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد اللهّ، وأعتق الخيزران في السنة وتزوَّجها. ووَزر له أبو عبد الله مُعاوية بن عبد الله الأشعري، ثم يعقوب بن داود السلمي، ثم الفيض بن أبي صالح. واستحجب سلامان الأبْرش. واستخلف علي القضاء محمد بن عبد الله بن عُلاثة، وعافيةَ بن يزيد، كانا يَقْضيان معاً في مسجد الرُصافة.

الهادي
ثم بويع ابنُه أبو محمد موسى الهادي بن المهديّ مستهل صفر سنة تسع وستين ومائة. وتُوفي ليلة الجمعة لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيعِ الأول سنة سبعين ومائة بعِيساباد. وصلّى عليه أخوه الرشيد. وكانت خلافتُه سنة وشهرين إلا أياماً. وكانت سنُّه ستاً وعشرينِ سنة.
وكان أبيضَ طويلاً جسيماً بشَفته العليا تقلُص. نقش خاتمه " الله ربي " . وتزوَّج أمةَ العزيز، فأولدها عيسى؟ ثم رحيم، فأولدها جعفراً؛ ثم سعوف، فأولدها العباس؟ واشترى جاريته حسنة بألف درهم، وكانت شاعرةً، فرُزق منها عدَة بنات، منهن أم عيسى، تزوَّجها المأمون. وكان له من أمهات الأولاد عبد الله وإسحاق وموسى، وكان أعمى.
ووَزر له الربيع بن يونس، ثم عمر بن بَزيع. واستحجب الفضلَ بن الربيع. وولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيمَ، في الجانب الغربيّ، وسعيدَ بن عبد الرحمن الجُمحيّ، بالجانب الشرقي.
هارون الرشيد
ثم بُويع أخوه أبو محمد هارون الرشيد في اليوم الذي توفي فيه أخوه يومَ الجمعة لأربَع عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وفي هذه الليلة وُلد عبد الله المأمون. ولم يكن في سائر الزمان ليلة وُلد فيها خليفة وتُوفي فيها خليفة وقام فيها خليفة غيرها. وكان مولد الرشيد في المُحرم سنة ثمان وأربعين ومائة. وتُوفِّي في جُمادى الأولى سنةَ ثلاث وتسعين ومائة ودُفن بطوس. وصلَّى عليه ابنُه صالح. فكانت خلافتُه ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً وستةَ عشر يوماً. وكانت سنُه ستًا وأربعين سنة وخمسة أشهر. ولما أفضتْ إليه الخلافةُ سلّم عليه عمُه سليمان المَنصور، والعبَّاس بن محمد عُم أبيه، وعبدُ الصمد ابن علي عمّ جده، فعبدُ الصمد عم العباس، والعبّاس عمُّ سليمان وسِليمان عم هارون.
وكان الرشيد أبيضَ جسيماً طويلاً جميَلاً. قد وَخطه الشيب. نقش خاتمه " لا إله إلا الله " ، وخاتم آخر " كن من الله على حذر " وتزوَج زُبيدة، واسمُها أمَة العزيز، وتُكنى أمَّ الواحد، وزُبيدة لقب لها. وهي ابنة جعفر بن المَنصوِر، أولدها محمداً الأمين؟ ثم مراجل، فأولدها عبد الله المأمون؟ وماردة، أولدها محمداً المعتصم؟ ونادر، ولدت له صالحاً؟ وشجا، ولدت له خديجة ولبابة؟ وسريرة، ولدت محمداً، وبَربرية، ولدت له أبا عيسى ثم القاسم، وهو المؤتمن؟ وسكينة، وحث، فولدت له إسحاق وأبا العبَّاس.
وَوزر له جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وقَتله، ثم الفضل بن الربيع. واستحجب بِشرَ بن ميمون، مولاه؟ ثم محمد بن خالد بن بَرمك. واستخلف على قَضاء الجانب الغربي نُوحَ بن دَرَّاج، وحفصَ بن غِياث.
الأمين
ثم بويع أبو عبد الله محمد الأمين في جُمادي الآخرة سنة ثلاثٍ وتسعين ومائة. وقُتل يومَ الأحد لخمس بقين من المُحرم سنة ثمانٍ وتسعين ومائة. وكان مَولده بالرُّصافة سنةَ إحدى وسَبعين ومائة في شوَّال. فكانت خلافته أربعَ سنين وستةَ أشهر وأياماً. صفا له الأمر في جُملتها سنتين وشهراً. وكانت الفتنة بينه وبين أخيه سَنتين.
وكان طويلاً جسيماً جميلاً حسنَ الوجه بعيدَ ما بين المَنْكبين، أشقرَ سبطاً، صغير العَينين، به أثر جُدري. نقش خاتمه " محمد واثق بالله " . ورُزق من الولد موسى، من أم ولد تُدعى نَظم، ولَقبه الناطق بالحق، وضرَب اسمَه على الدراهم.
وذكر الصُّولي قال: حدّثني مَن قرأ على دِرهم:

كُل عز ومفخر ... فلمُوسى المُظفِّرِ
مَلك خُطَّ ذِكْرُه ... في الكَتاب المُسَطّرِ
وماتت نَظم فاشتد جزعه عليها، فدخلت زُبيدة معزِّيةً له، فقالت:
نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف ... ففي بَقائك ممَّن قد مَضى خَلف
عُوِّضت مُوسى فماتت كُال مَرزية ... ما بعد مُوسى على مَفقودةٍ أسف
وبايع لابنه مولى في حياته، ولأخيه عبد اللّه، وأمه أمّ ولد، ونَقَش اسمَه أيضاً على الدراهم.
وكان لجعفر بن موسى الهادي جاريةِّ اسمُها بَذْل، فطلبها الأمين منه، فأبى عليه، وكان شديدَ الوجد بها. فزاره الأمينُ يوماً فسُر به وزاد عليه في الشرب حتى ثمل، فانصرف وأخذ الجارية. فلما أصبح جعفر نَدم على ما جرى ولم يَدْر ما يصنع. فدخل على الأمين. فلما مَثل بين يديه قال له: أحسنت والله يا جعفر بدَفعك بذل إلينا وما أحسنّا. ووَقر زَورقه بعشرين ألفَ ألفِ درهم.
ووَزر للأمين الفضلُ بن الرَّبيع إلى آخر أيامه. وكان حاجبَه العباسُ بن الفضل بن الربيع، ثم عليُّ بن صالح صاحب المُصلّى، ثم السِّندي بن شاهك.

المأمون
ثم بُويع أبو العبِّاس عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بعد قَتل أخيه، يومَ الخميس لخمس خلون من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة. وكان مولدُه بالياسرية في ليلة الجمعةَ لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وتُوفي بالبَذَنْدُون سنة ثماني عشرة ومائتين لثمانٍ خلون من رجب. ودُفنِ بطرسوس فكانت خلافتُه عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثةَ عشرَ يوماً وكانت سنُه ثمانياً وأربعين سنة وأربعةَ أشهر إلا أياماً.
وكان أبيضَ تعلوه شُقرة، أجنأ أعينَ طويلَ اللحية رقيقَها ضيقَ الجبين، بخدِّه خالٌ أسود، وكان قد وَخطه الشيب. نَقْش خاتمه " سَل الله يُعطك " .
وكان الرشيد حدَّ المؤمون. وذلك أنه دَخل على الرشيد وعنده مُغَنية تُغنيه فلَحنت، فكسر المأمون عينه عند استماعه اللحن، فتغيّر لونُ الجارية وفَطن الرشيد لذلك، فقال: اعْلمتها بما صنعت؟ قال: لا والله يا مولاي. قال: ولا أومأتَ إليها؟ قال: قد كان ذلك. فقال: كُن منّي بمرأى ومَسمع فإذا خرج إليك أمرى فانته إليه، ثم أخذ دواةً وقرطاساً وكتب إليه:
يا آخذ اللَّحن على ال ... قينة عند الطَربِ
تُريد أن تفهمها ... حدَّ لُغات العرب
أقسم بالله وما ... سَطَر أهلُ الكُتب
للكَلب خيرٌ أدباً ... مِن بعض أهل الأدب
إذا قرأتَ ما كتبتُ به إليك، فَأمُر مَن يضربك عشرين مَقرعة جياداً. فدعا المأمون البوابين ثم أمرهم ببَطحه وضَربه، فامتنعوا. فأقسم عليهم، فامتثلوا أمره. ورُزق من الولد محمداً الأصغر، وعُبيد اللّه، من أم عيسى بنت موسى الهادي. وتزوَّج بُوران بنت الحسن بن سَهل، بنى بها سنةَ عشر ومائتين، ووَهب لأبيها عشرةَ آلافِ ألفِ درهم، ولولده ألفَ ألفِ درهم. وكان له عدّة أولاد من بنين وبنات.
ووَزر له الفضلُ بن سهل ذو الرياستين، ثم الحسنُ بن سهل، ثم أحمد بن أبي خالد ثم أحمد بن الأحول، يوسف، ثمِ ثابت بن يحيى، ثم محمد بن يزداد. واستحجب عبدَ الحميد بن شَبيب، ثم محمداً وعلياً، ابني صالح مولى المنصور.
المعتصم باللّه
ثم بُويع أخوه أبو إسحاق المُعتصم بن الرشيد يومَ الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. وكان مولده في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائة. وتُوفي بسرَ من رأىِ يوم الخميس لاثنتي عشرةَ ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين. وصلّى عليه ابنُه هارون الواثق. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. وأمه أم ولد يقال لها ماردة.
وكان أبيضَ أصهبَ اللحية طويلها مَربوعاً مُشرب اللون حُمْرةً. نقش خاتمه " الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن " وكان شديدَ البأس، حَمل باباً من حديد فيه سبعُمائةٍ وِخمسون رطلاً وفوقه عِكام فيه مائتان وخمسون رطلاً، وخَطا خُطا كثيرة وكان يُسمَى ما بين إصبعي المُعتصم المِقطرة، لشدّته. وإنه أعتمد يوماً على غلام فدقَّه. وذكر الصُوليّ أنه كان يسمى المُثمّن، وذلك أنه الثامن من خلفائهم.

ومولده سنة ثمان وسبعين ومائة. ووَلي الأمرَ في سنة ثماني عشرة ومائتين، وله ثماني وأربعون سنة. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. ورُزق من الولد الذَكور ثمانية، ومن الإناث ثمانياً. وغزا ثماني غزوات. خلَّف في بيت ماله ثمانية آلافِ دينار، ومن الوَرِق ثمانية آلاف ألف درهم.
ووَزر له الفضلُ بن مروان، ثم أحمد بن عمَّار، ثم محمد بن عبد الملك الزيات. واستحجب وَصيفاً مولاه، ثم محمد بن حمّاد بن دَنْفش.

الواثق
ثم بويع ابنه أبو جعفر هارون صبيحةَ اليوم الذي تُوفي فيه أبوه يومَ الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنةَ سبع وعشرين ومائتين. وكان مولدُه يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان سنة ستّ وتسعين ومائة. وتُوفي بسُرَ مَن رأى يوم الأربعاء لستٍّ بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وصلّى عليه أخوه المتوكّل. فكانت خلافتُه خمسَ سنين وتسعةَ أشهر وثلاثةَ عشر يوماً. وكانت سنّه ستاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياماً.
وكان أبيضَ إلى الصُّفرة، حسنَ الوجه جسيماً في عينه اليمنى نُكتة بياض نقش خاتمه " محمد رسول الله " وخاتم آخر " الواثق بالله " . ورُزق من الولد محمداً المُهتدي، وأبا وأمه أم ولد يقال لها قُرب؟ وعبد الله، وأبا العبَّاس أحمد، وأبا إسحاق محمداً، وأبا إسحق إبراهيم.
ووزر له محمد بن عبد الملك الزيات. وحاجبه إيتاخ، ثم وصيف مولاه، ثم ابن دَنفش. وقاضيه ابن أبي دُواد.
المتوكل
ثم بُويع أخوه أبو الفضل جعفر المتوكّل يومَ الأربعاء لستً بقين من ذي لحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكان مولده يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ست ومائتين. وقُتل ليلةَ الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، ودُفن في القصر الجعفري. وصلى عليه ابنهُ المُنتصر ولمن عهده. فكانت مدةُ خلافته أربعَ عشرةَ سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام. وكانت سنّه أربعين إلا ثمانيةَ أيام.
وكان أسمرَ كبيرَ العينين نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين. نقَش خاتمه " على إلهي اتكالي " . وكان كثيرَ الولد.
وَزر له محمد بن عبد الملك الزيات، ثم محمد بن الفضل الجُرجانيّ، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. واستحجب وصيفاً التّركي، ثم محمد بن عاصم، ثم إبراهيم بن سهل. وكان خليفتَه على القضاء يحيى بن أكثم.
المنتصر
ثم بويع ابنُه أبو جعفر محمد المنتصر لأربع خلوان من شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين. وكان مولدُه يومَ الخميس لستٍّ خلون من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين ومائتين. ومات ليلة السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. فكانت خلافتُه ستة أشهر؟ وسنّه ستاً وعشرين سنة إلا ثلاثةَ أيام.
وكان قصيراً أَسمرَ ضخم الهامة عظيمَ البطن جَسيماً، على عينه اليمنى أثر. نقَش خاتمه " يؤتى الْحذِر من مأمنه " ، وعلى خاتم آخر " أنا من آل محمد. الله وليّ ومحمد " .
ورُزق من الولد عليا وعبدَ الوهاب وعبدَ الله وأحمدَ.
ووَزَر له أحمدُ بن الخصيب. وحاجبه وصيف، ثم بغا، ثم ابنُ المَرزبان، ثم أوتامش.
المستعين
ثم بويع المُستعين أبو العبَّاس أحمد بن محمد بن المعتصم يوم الاثنين لأربع خَلون من شهر ربيع الآخر سنةَ ثمان وأربعين ومائتين. وخلع نفسه بموافقة المُعتزّ بوساطة أبي جعفر المَعروف باْبن الكردية، يومِ الجمعة لأربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر. وكان مولده يوم الثلاثاء لأربع خلون من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين. وقُتل بالقادسية مع خَلعه نفسَه بتسعة أشهر. وأمه أم ولد يقال لها مخارق.
وكان مربوعاً أحمرَ الوجه أشقَر مُسْمِناً عريض المنكبين، ضخم الكراديس، خفيف العارضين، بوجهه أثر جُدري، ألثغ بالسين. نقش خاتمه " في الاعتبار غِنى عن الاختبار " .
وزر له أحمدُ بن الخَصيب، فنكبه، وقلّد مكانَه ابنَ يَزْداد؟ ثم شُجاع بن القاسم، كاتب أوتامش، وأوتامش هذا حاجبه. وكانت سنه إحدى وثلاثين سنة إلا ثمانية أيام.
المعتز

ثم وَلِى أبو عبد الله محمد المعتزّ بن المتوكّل يومَ الجمعة. لأربع خلون منِ المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكانت الفِتنة قبل ذلك بينه وبين المستعين سنةَ. وقُتل عشيةَ يوم الجمعة لليلة خلتْ من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان مولده يومَ الخميس لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكانت خلافتُه منذ بُويع له واجتمعت الكلمةُ عليه ثلاثَ سنين وستةَ أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، ومنذ بايعه أهل سُرِّ من رأى إلى أن قُتل أربعَ سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً. وقتله صالح بن وَصيف.
وكان أبيض شديدَ البياض، رَبْعة حسنَ الجسم، على خدِّه الأيسر خالٌ أسود الشعر. نقش خاتمه " الحمد للهّ رب كل شيء وخالق كل شيء " .
وزر له جعفر بن محمود الإسكافي، ثم عيسى بن فرخان شاه، ثم أحمد ابن إسرائيل الأنباري. وحاجبه سَماء بن صالح بن وصيف. وكانت سنه أربعاً وعشرين سنة وشهرين وأياماً.

المهتدي
ثم بويع المهتدى أبو عبد الله محمد بن الواثق بسُرَّ من رأى يومَ الأربعاء لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. وكان مولده يومَ الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة تِسع عشرة ومائتين: وقُتل بسرَ من رأى بسَهم لحقه يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين. فكانت خلافتُه أحدَ عشرِ شهراً وأربعةَ عشر يوماً. وكانت سنة سبعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأحدَ عشر يوماً وكان أبيضَ مُشرباً حُمرة، صغيرَ العينين، أقنى الأنف، في عارضيه شيب، و خَضب لما ولي الخلافة: نقش خاتمه " من تعدَى الحق ضاق مذهبه !.
وزَر له أيوب سليمان بن وَهب. وحاجبه باك باك.
المعتمد
ثم بويع أبو العبَّاس أحمد المعتمد بن المتوكل يومَ الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ستٍ وخمسين ومائتين. وكان مولده يوم الثلاثاء لثمان بقين من المحرم سنة تسع وعشرين ومائتين. فكانت خلافتُه ثلاثاً وعشرين سنة. وكانت سنه خمسين سنة وخمسةَ أشهر واثنين وعشرين يوماً. ومات أخوه وولىّ عهده طَلحة الموفّق في أيامه في صفر سنة ثمان سبعين ومائتين، وكان قد غَلب على الأمر لمَيل الناس إِليه. وكان المعتمد قد عَقد لولده جعفر ولقبه المُفوض، وبعدَه لأبي أحمد طلحة الموفّق، فاشتد أمرُ الموفَق وقتل صاحب الزنج في سنة سبعين ومائتين ومَال الناس إِليه، واسمه الناصر لدين للَه، وكان يُدْعى له على المِنبر، في أيام المعتمد، وكان الموفّق حَبس ابنَه أبا العباس المعتضد، فلما حضرتْه الوفاةُ أطلقه للقيام بالأمر، وأجرى المُعتمد أمرَه على ما كان يَجري عليه أمر أبيه الموفق، وافرده بولاية العهد، وأمر بكَتْب الكُتب بخلع ابنه المفوض وأفرد المُعتضد بالعَهد وجَعله الخليفة بعده.
وكان المعتمد أسمر مربوعاً نحيفَ الجسم حسنَ العينين مدوَر الوجه، على وجه أثر جُدريّ. نقش خاتمة " السعيدُ من كفي بغيره " . ووَزر له عبيدُ الله يحيى ابن خاقان، ثم سليمان بن وهب، ثم الحسن بن مَخلد، ثم صاعد بن مخلد، ثم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل. حاجبه موسى بن بغا، ثم جعفر بن بغا، ثم بكتمر.
المعتضد
وبُويع المعتضد أبو العباس أحمد بن المُوفق في رجب سنة سبع وسبعين ومائتين.
- وكان مولده في جُمادى الآخرة سنةَ ثلاث وأربعين ومائتين. وتُوفى ببغداد ليلة الثلاثاء لسبع بقين من شهر - ربيع الأخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وصلى عليه أبو عمر القاضي. فكانت خلافته تسعَ سنين وتسعة أشهر وأربعة أيام. وكانت سنّه خمساً وأربعين سنة وتسعةَ أشهر وأياماً: وأمه ضرِار.
وكان نحيفَ الجسم معتدلَ القامة طويلَ اللحية أسمر. نَقْش خاتمة الاضطرار يزيل الاختيار ووَزر له عُبيد الله بن سليمان بن وهب، ثم ابنُه القاسم بن عُبيد اللّه. وحاجبه صالح الأمين.
المكتفي

ثم بُويع ابنُه أبو محمد علىّ بن المُعتضد يومَ الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وكان مولدُه في رَجب سنة أربع وستين ومائتين، وتُوفى ببغداد فدُفن عند قبر أبيه ليلةَ الأحد لثلاثَ عشرةَ ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وكانت خلافتُه ستَّ سنين وستة أشهر وعشرين يوماً. وكانت سنّه إحدى وثلاثين سنة وأربعةَ أشهر وأياماً. وأمه جيجق، وقيل خاضع. وكان رَبْعة حسنَ الوجه أسودَ الشعر وافرَ اللحية عريضها، ولم يَشِب إلى أن مات. نقش خاتمه " بالله على بن أحمد يثق. وخلّف في بيت ماله ستة عشر ألفَ ألفِ دينار، ومن الوَرِق ثلاثين ألفَ ألفِ درهم.
ووَزر له القاسم بن عُبيد الله، ثم العباس بن الحسن ثم الحسن بن أيوب. وحاجبُه خَفيف السمَرْقَندىّ، ثم سَوسن مولاه.

المقتدر
ثم بُويع المقتدر، وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد في اليوم الذي توفّى فيه أخوه يومَ الأحد لثلاث عشرةَ ليلةً خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وخُلع في خلافته دَفعتين، الأولى بعد جلوسه بأربعة أشهر وأيام بابن المُعتز وبطل الأمر من يومه. والدَفعة الثانية بعد إحدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته، خَلع نفسه وأشهد عليه وأجلس القاهرَ يومين وبعضَ اليوم الثالث. ووقع الخُلف بين العسكرين، وعاد المقتدرُ إلى حاله. وكان مولده لثمان بقين من شهر رمضان سنة لاثنتين وثمانين ومائتين. وقُتل بالشَّماسية يوم الأربعاءِ لثلاثٍ بقين من شوَّال سنة عشرِين وثلثمائة. فكانت خلافتُه خمساً وعشرين سنة إلا خمسةَ عشرا يوماً. وكانت سنّه ثمانياً وثلاثين سنة وشهراً وعشرين يوماً.
وكان أبيضَ مَشرباً حُمرة حسنَ الخلق ضخم الجسم، بعيد ما بين المَنكبين، جعدَ الشعر، مدوَرَ الوجه، قد كَثُر الشيبُ في وجه. نقش خاتمه " الحمد للّه الذي ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير " .
وَوَزر له العبَّاس بن الحسن، ثم علىّ بن محمد بن موسى بن الفُرات، ثم عبيد الله بن خاقان، ثم أبو الحسن علىّ بن عيسى بن داود بن الجراح ثم حامد بن العبّاس، ثم أحمد بن عبيد الله الخَصيبي، ثم محمد بن علىّ بن مُقلة، ثم سليمان بن الحسن بن مَخلد بن الجراح ثم عُبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم الحسين بن القاسم بن عُبيد الله بن سليمان بن وهب، ثم الفضل بن جَعفر ابنِ موسى بن الفرات. واستحجب سَوسنا، مولى المكتفي، ونصراً القشوريّ، وياقوتاً المعتضديّ، وإبراهيم ومحمداً، ابني رائق.
القاهر
ثم بويع أخوه أبو منصور محمد القاهر بن المعتضد يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلثمائة. وخُلع وسُمل يوم الأربعاء لخمس خلون من جُمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده لخمس خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين ومائتين، وكانت خلافتُه سنةً وستة أشهر وستة أيام. وعاش إلى أيام المطيع، وكانت سنه وكان رَبْعة أسمر اللون، معتدل القامة، أصهب الشعر. وَوَزر له أبو علىّ محمد بن مُقلة، ثم محمد بن القاسم بن عُبيد اللهّ، ثم أحمد بن عُبيد الله الخَصيبىّ. واْستحجب علىّ بن بليق، مولى يونس، ثم سلامة الطولوني.
الراضي
ثم بويع الراضي أبو العباس أحمد بن المُقتدر يومَ الأربعاء لستٍّ خلون من جُمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده في رَجب سنةَ سبع وتسعين ومائتين. ومات ببغداد ليلةَ السبت لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين وثلثمائة. ودُفن بالرُصافة. وكانت خلافتهُ ستِّ سنين وعشرة أيام. وكانت سنّه إحدى وثلاثين سنة وثمانيةَ أشهر وأياماً. وأمه أمُّ ولد يقال لها ظَلوم. كان قصيرَ، نحيفَ الجسم، أسودَ الشعر، رقيق السُّمرة، في وجهه طول.
نقش خاتمه " رسول الله " . ووزر له أبو علّيِ محمد بن مُقله، ثم ابنُه أبو الحسين علي بن محمد ثم عبد الرحمن بن عيسى بَن داود بن الجرَّاح ثم محمد بن القاسم الكَرْخيّ، ثم سُليمان بن الحَسن بن محمد بن الجراح ثم الفَضل بن جعفر بن الفرات ثم أبو عبد الله أحمد بن محمد اليزيديّ. واستحجب محمدَ بن ياقوت، ثم ذكيّاً، مولاه.
المتقي
َ

ثم بويع أخوه المُتقي أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر يومَ الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلثمائة. وخلع وسمل يوم السبت لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة. وكان مولده في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهراً إلا أياماً.
وكان أبيض تعلوه حُمرة، أصهَبَ شَعرِ اللحية، كثّ اللِّحية، بفكه الأدنى عِوَج. نقش خاتمه " محمد رسول الله " وزر له أحمد بن محمد بن ميمون، ثم اليزيدىّ، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد ثم أبو إِسحاق محمد بن أحمد القراريطي. ثم محمد بن القاسم الكَرخي، ثم أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ، ثم عليِّ بن محمد بن مُقلة. واستحجب سلامة، مولى خُمارويه بن أحمد، ثم بدر الخرشني، ثم عبد الرحمن بن أحمد بن خاقان المُفْلحيّ.

المستكفي
ثم بُويع أبو القاسم عبد الله بن عليّ المستكفي في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة بالسِّنديّة عُقيب كسوف القمر. وخلع في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. فكانت خلافته سنة واحدة وسِتة أشهر وأياماً. وكان مولدُه مستهل سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وتوفى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة. وكانت سنه سبعاً وأربعين سنة. وأمه أم ولد يقال لها غُصن.
وكان أبيضَ تعلوه حُمرة، ضخمَ الجسم، تام الطُول؟ خفيفَ العارضين، كبيرَ العينين، أشهلَ، جهوريّ الصوت. نقش خاتمه " محمد رسول الله " . وَزر له محمد بن عليّ السرَّ مَن رائي. واستكتب بعده أبا أحمد الفضل بن عبد الله الشيرازي، واستحجب أحمد بن خاقان.
المطيع
ثم بُويع المطيع أبو القاسم الفضل بن المقتدر لسبعِ بقين من شعبان سنه أربع وثلاثين وثلثمائة وخَلع نفسَه ببغداد لسبعَ عشرة ليلة خَلت من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وثلثمائة. وكان مولدُه في النصف من ذي القِعدة سنة إحدى وثلثمائة. وتوفي في. فكانت خلافته تسعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوماً. وأمه أم ولد تُدعى مَشْعلة. وكانت سنة وكان شديدَ البياض أسودَ شعر الرأس واللحية. وَزر له عليّ بن محمد ابن مُقلة. والناظر في الأمورِ أبو جعفر الصيمريّ. كاتب أحمد بن بُويه. ثم استولى على اسم الوزارة. وكتب للمطيع الفضل بن عبد الرحمن الشيرازيّ، ومات وقام مقامه أبو محمد الحسن بن محمد المُهلبي، وحاجبه عزْ الدولة بُحتيار ابن مُعز الدولة.
تم كتاب اليتيمة الثانية
كتاب الدرة الثانية في أيام العرب
ووقائعهم
فرش الكتاب
قال الفقيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عَبد ربّه رضي الله عنه: قد مَضى قولُنا في أخبار زياد والحجَّاج والطالبين والبرامكة، ونحن قائلون بعَون الله وتَوفيقه في أيام العرب ووقائعهم فإنها مآثر الجاهليَّة، ومكارمُ الأخلاق السنيّة. قيل لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدّثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كُنّا نتناشد الشعر، ونتحدّث بأخبار جاهليّتنا. وقال بعضُهم: وددتُ أنّ لنا مع إسلامنا كرمَ أخلاق آبائنا في الجاهليَّة، ألا ترى أنّ عَنترة الفوارس جاهليّ لا دينَ له، والحسنَ بن هانئ إسلاميّ له دين، فمنع عنترةَ كرمُه ما لم يَمنع الحسنَ بن هانئ دينُه؟ فقال عنترة في ذلك:
وأغُضّ طَرْفي إن بَدت ليَ جارتي ... حتى يُوارِي جارتي مَأواها
وقال الحسنُ بن هانئ مع إسلامه:
كان الشبابُ مطيَّةَ الجَهل ... ومُحسِّنَ الضَّحكات والهَزْل
والباعِثي والناسُ قد رَقدوا ... حتى أتيتُ حليلةَ البَعْل
حروب قيس في الجاهلية
يوم مَنْعِجِ
لغَنيّ على عبس

قال أبو عبيدة مَعْمر بن المُثنّى: يوم مَنعج، يقال له يوم الرِّدْهة، وفيه قُتل شأس بن زُهير بن جَذيمة بن رَواحة العبسيّ بمنعج على الردْهة. وذلك أنّ شأس بن زُهير أقبل من عند النُعمان بن المُنذر، وكان قد حَباه بحباء جَزيل، وكان فيما حباه قطيفةٌ حَمراء ذات هُدب وطَيلسانٌ، وطِيبٌ. فورد مَنْعج، وهو ماء لغنيّ، فأناخ راحلتَه إلى جانب الرَّدْهة عليها خِباء لرِيَاح ابن الاسَل الغَنويّ، وجعل يَغتسلِ، وامرأةُ رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الأبيض. فانتزع له رياحٌ لسَهما فقتله ونحر ناقته فأكلها، وضمَّ متاعَه وغَيَّب أثره. وفُقد شأس بن زهير، حتى وجدوا القطيفةَ الحمراء بسوق عُكاظ قد سامتهاامرأةُ رياح بن الأسَل، فعلموا أنّ رياحاً صاحبُ ثأرهم. فغزت بنو عَبس غنياً قبل أن يطلبوا قَوَداً أوْدِيةً، مع الحصين بن زُهير بن جَذيمة والحُصين بن أسَيد بن جَذيمة. فلما بلغ ذلك غَنِياً قالوا لرِيَاح: أنجُ لعلّنا نُصَالح القومَ على شيء. فخرج رياحٌ رَدِيفاً لرجلِ من بني كلاب، لا يريان إلا أنهما قد خالفا وِجْهة القوم. فمرّ صُرَدٌ على رُءوسهما فصَرصر. فقالا: ما هذا؟ فما راعهما إلا خيلُ بني عَبْس. فقال الكِلاَبي لرِياح: أنحدر من خَلفي وألتَمس نفقاً في الأرض فإنّي شاغلٌ القومَ عنك. فأنحدر رياحٌ عن عَجز الجَمل حتى أتى صَعْدة فاحتفر تحتها مثلَ مكان الأرنب ووَلَج فيه. ومَضى صاحبُه، فسألوه فحدّثهم، وقال: هذه غني جامعة وقد استمكنتُم منهم. فصدقوه وخلّوا سبيلَه. فلما ولّى رأوا مَركبَ الرجل خلفَه، فقالوا: مَن الذي كان خلفَك؟ فقال: لا أكذب، رياح بن الأسل، وهو في تلك الصَعَدات. فقال الحُصينان لمن معهما: قد أمكننا الله من ثأرنا ولا نُريد أن يَشرَكنا فيه أحد. فوقفوا عنهما، ومَضيا فجعلا يُرِيغان رياحَ بن الأسل بين الصَعَدات. فقال لهما رياح: هذا غزالكما الذي ترِيغانه. فابتدراه، فَرمى أحدَهما بسهم فأقصده، وطَعنه الآخر قبل أن يَرْميه فأخطأه، ومرَّت به الفرسُ، واستدبره رياحٌ بسهم فقَتله، ثم نجا حتى أتى قومَه، وانصرفوا خائبين مَوْتورين وفي ذلك يقول الكُميت بن زيد الأسديّ، وكانت له أمان من غَنيّ:
أنا ابنُ غَنيّ والداي كلاهما ... لأمَّين منهم في الفُروع وفي الأصل
هم استَودعوا زُهَراً بسَيْب بن ساِلم ... وهُم عَدلوا بين الحُصَينيين بالنبْل
وهم قَتلوا شأسَ المُلوك وأرغموا ... أباه زُهيراً بالمَذَلّة والثُكْل

يوم النفراوات
لبني عامر على بني عبس

فيه قُتل زُهير بنِ جَذيمة بن رَوَاحة العَبسيّ وكانت هوازن تُؤدي إليه إتَاوة، وهي الخراج. فأتته يوماً عجوز من بني نصر بن مُعاويةَ بسَمن في نِحْي واعتذرت إليه وشكتْ سنينَ تتابعت على الناس، فذاقه فلم يَرْض طعمَه، فدَعسها بقوس في يده عُطل في صدرها. فاستلقت على قَفاها مُنكشفة. فتألى خالدُ بن جعفر، وقال: والله لأجعلنّ ذراعي في عُنقه حتى يُقتلَ أو أقتل. وكان زهير عَدُوسا مِقداماً لا يُبالي ما أَقدم عليه. فاستقلّ، أي انفرد، من قومه بابنَيْه وبَنى أَخويه: أُسيدَ وزِنْباع، يَرعى الغيثَ في عُشَرَاوات له وشَوْل. فأتاه الحارث بن الشرَّيد، وكانت تُماضر بنت الشَرِيد تحت زُهير فلما عرف الحارث مكانَه أنذر بني عامر بن صَعصعة، رهطَ خالد بن جعفر. فركب منهم ستة فوارس، فيهم خالد بن جعفر، وصَخر بن الشريد، وحُنْدج ابنُ البَكاء، ومعاوية بن عُبادة بن عَقِيل، فارس الهَرار - ويقال لمُعاوية: الأَخيل: وهو جَدّ ليلى الأخْيليّة - وثلاثة فوارس من سائر بني عامر. فقال أسَيد لزُهير: أعلمتْني راعيةُ غَنمي أنها رأتْ على رأس الثنيّة أشباحاً ولا أَحسبُها إلاّ خيلَ بني عامر، فالحق بنا بقَومنا. فقال زهير: كُل أَزبّ نَفور. وكان أًسيد أشعرَ القفا، فذهبتْ مثلاً. فتحمَّل أًسيد بمن معه وبقي زُهير وابناه: ورقاء والحارث وصُحبتهم الفوارس. فتمرِّدت بزُهير فرسُه القَعساء، ولحقه خالد ومُعاوية الأخيل، فطعن مُعاوية القعساء، فقلبت زُهيراً، وخرَّ خالد فوقه، ورفع المِغْفر عن رأس زُهير، وقال: يا آل عامر، أَقبلوا جميعاً. فأقبل معاويةُ، فضرِب زهيراً على مَفْرق رأسه ضرِبةً بلغت الدِّماغ، وأقبل ورَقاء بن زُهير فضرب خالداً وعليه درعان فلم يُغن شيئاً، وأجهض ابنا زُهير القوم عن زهير واحتملاه وقد اثخنته الضَّربة، فمنعوه الماء. فقال: أَميِّتٌ أنا عَطشاً؟ اسقُوني الماء وإن كانت فيه نفسي. فسقَوْه فمات بعد ثلاثة أيام. فقال في ذلك وَرقاء ابن زُهير:
رأيتُ زهيراً تحت كَلْكل خالدٍ ... فأقبلتُ أَسعَى كالعَجول أُبادرُ
إلى بَطَليْن يَنْهضان كلاهما ... يردان نصل السيف والسيف نادر
فشُلَّت يميني يومَ أضربُ خالداً ... ويمنعه مني الحديد المظاهر
فيا ليت أنّي قبل أيام خالد ... ويوم زهير لم تلدني تماضر
لعمري لقد بُشِّرْتِ بي إذ وَلَدْتِني ... فماذا الذي ردت عليك البشائر
وقال خالدُ بن جعفر في قتله زُهيراً:
بل كيف تكْفُرني هوازنُ بعدما ... أعتقتهُم فتوالدوا أحرار
وقتلتُ رَبّهمُ زُهيراً بعدما ... جَدَع الأنُوف وأَكثر الأوتارا
وجعلتُ مَهر بناتِهم ودياتِهم ... عَقْل الملوك هَجائنا وبِكارا

يوم بطن عاقل
لذبيان على عامر
فيه قُتل خالد بن جَعفر ببطن عاقل. وذلك أن خالداً قَدم على الأسود بن المُنذر، أخي النُّعمان بن المُنذر، ومع خالد عُروة الرحَّال بن عُتبة بن جعفر. فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غَيظ بن مُرَّة بن عَوف بن سعد ابن ذُبيان عند الأسود بن المُنذر. قال: فدعا لهما الأسود بتَمر. فجيء به على نِطْع فجُعل بين أيديهم. فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم: يا حارث، ألا تَشكر يدي عندك أن قتلتُ عنك سيّدَ قومك زُهيراً وتركتك سيدَهم؟ قال: سأَجزيك شُكْر ذلك. فلما خرج الحارث قال الأسود لخالد ما دعاك إلى أن تتحرش بهذا الكلب وأنت ضيفي فقال له خالد: إنما هو عَبد من عَبيدي لو وجدني نائماً ما أَيقظني. وانصرف خالدٌ إلى قُبَّته، فلامه عِروةُ الرحّال. ثم ناما وقد أشرجت عليهما القُبة، ومع الحارث تَبيع له من بني مُحارب يقال له خِرَاش. فلما هدأت العُيون أخرج الحارث ناقتَه، وقال لِخَراش: كُن لي بمَكان كذا، فإن طَلع كوكب الصُّبح ولم آتِك فانظُر أي البلاد أحب إليك فأعمِد لها. ثم انطلق الحارث حتى أتى قُبةَ خالد فهتك شرَجَها، ثم ولَجها، وقال لعُروة: أسكُت فلا بأس عليك.

وزعم أبو عُبيدة أنه لم يشعر به حتى أتى خالداً وهو نائم فقتله، ونادى عُروة عند ذلك: واجِوَارَ المَلك! فأقبل إليه الناسُ، وسَمع الهُتافَ الأسودُ بن المُنذر، وعنده امرأة من بني عامر، يقال لها المُتجردة، فشقت جَيبَها وصرَخت. وفي ذلك يقولُ - عبد الله بن جَعدة:
شَقت عليكَ العامرية جَيْبَها ... أسفاً وما تَبْكِي عليكَ ضلا
يا حارِ، لو نَبهتَه لوجدتَه ... لا طائشاً رعِشاً ولا مِعْزالا
واغرورقت عيناي لما أخْبرت ... بالجَعفري وأسبلتْ إسبالا
فلنقتلنَ بخالدٍ سرواتِكم ... ولنجعلنْ للظالمين نَكالا
فإذا رأيتُم عارضاً متهللاً ... مِنّا فإنا لا نُحاول مالا

يوم رحرحان
لعامر على تميم
قال: وهرب الحارثُ بن ظالم ونَبَتْ به البلادُ، فلجأ إلى مَعبد بنِ زُرارة، وقد هَلك زرارةُ، فأجاره. فقالت بنو تميم لمَعبد: مالك آويتَ هذا المَشئوم الأنكد، وأغريت بنا الأسود؟ وخَذلوه غير بني دمَاوية، وبني عبد الله ابن دارم. وفي ذلك يقول لَقيطُ بن زُرارة:
فأمَا نَهشلٌ وبنو فُقَيْم ... فلم يَصبِر لنا منهم صَبُورُ
فإنْ تَعمِد طُهيةَ في أمور ... تجدْها ثَم ليس لها نَصير
ويَربوع بأسْفل ذي طُلوح ... وعمرو لا تَحل ولا تَسير
أسيد والهُجيم لها حُصاص ... وأقوامٌ من الجَعْراء عُور
وأسلمنا قبائلُ من تميم ... لها عددٌ إذا حُسبوا كَثير
وأما الآثمان: بنو عَديّ ... وَتيم إذا تُدبرت الأمور
فلا تَنعم بهم فِتيانَ حَرْب ... إذا ما الحيُ صبحهم نذير
إذا ذهبت رماحُهمِ بزَيْد ... فإن رِماحَ تَيْم لا تَضير
قال: وبلغ الأحوصَ بن جعفر بنِ كلاب مكانُ الحارث بن ظالم عند مَعبد، فغزى مَعبداً، فالتقَوْا برَحرحان. فانهزمت بنو تَميم وأسر مَعبد ابنُ زرارة، أسره عامرٌ والطفيل، ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لَقيطُ ابن زُرارة عليهم في فِدائه، فقال لهما: لكما عندي مائتا بعير. فقال: لا يا أبا نَهشل، أنت سيد الناس وأخوكَ معبد سيد مضر، فلا نقبل فيه إلا ديةَ مَلِك. فأبى أن يَزيدهم، وقال لهم: إن أبانا أوصانا أن لا نزيد أحداً في ديته على مائتي بعير. فقال مَعبد للقِيط: لا تَدَعْني يا لقيط، فوالله لئن تركتَني لا تراني بعدها أبداً. قال: صبراً أبا القَعقاع، فأين وصاة أبينا ألا تُؤكلوا العربَ أنفسكم، ولا تَزيدوا بفدائكم على فِداء رجل منكم، فَتذْؤُب بكم ذُؤبان العرب. ورحل لقيط عن القوم. قال: فمنعوا معبداً الماءَ وضارّوه حتى مات هُزالا.
وقيل: أبَى معبد أن يَطعم شيئا أو يَشرب حتى مات هُزالا. ففي ذلك يقول عامر ابن الطفيل:
قضينا الجَوْن من عبس وكانت ... منية مَعبد فينا هُزالاَ
وقال جرير:
وليلةَ وادي رَحْرحان فَرَرْتُم ... فِراراً ولم تُلْووا زَفيفَ النعائِم
تركتم أبا القَعقاع في الغُل مُصْفَداً ... وأيَ أخ لم تسلموا
وقال:
وبرَحرحان غداةَ كُبِّل مَعبد ... نَكَحوا بناتِكم بغَير مُهورِ
يوم شعب جبلة
لعامر وعبس على ذبيان وتميم

قال أبو عُبيدة: يوم شِعب جَبلة أعظم أيام العرب، وذلك أنه لما انقضت وَقْعة رَحرحان جمع لقيطُ بن زرارة لبني عامر وألب عليهم. وبين يوم رَحرحان ويوم جَبلة سنة كاملة. وكان يوم شِعْب جَبَلة قبلَ الإسلام بأربعين سنة، وهو عام وُلد النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكانت بنو عَبس يومئذ في بني عامر حُلفاءَ لهم، فاْستعدى لَقيط بني ذُبيان، لعداوتهم لبني عَبس من أجل حَرب داحس، فأجابته غَطفان كلّها غيرَ بني بدر. وتجمّعت لهم تميم كلها غير بني سَعد، وخرجت معه بنو أَسد لحلْف كان بينهم وبين غَطفان، حتى أتى لقيط الجونَ الكَلْبيّ، وهو ملك هَجر، وكان يَجبى مَن بها من العَرب، فقال له: هل لك في قوم غارِّين قد مَلئوا الأرض نَعماً وشاء فترسلَ معي ابنيك، فما أَصبنا من مال وَسبْى فلهما، وما أصبنا من دم فَلِي؟ فأجابه الجَون إلى ذلك، وجعل له موعداً رأسَ الحَوْل. ثم أتى لقيطٌ النعمانَ بن المُنذر فاسنتجده وأطعمه في الغنائم، فأجابه. وكان لقيطٌ وجيهاً عند الملوك. فلما كان على قَرن الحَول من يوم رَحرحان انهلّت الجيوش إلى لَقيط، وأقبل سِنانُ بن أبي حارثة المُرّي في غَطفان، وهو والد هَرِم بن سِنان الجَواد، وجاءت بنو أسد، وأرسل الجونُ ابنيه معاويةَ وعمراً، وأرسل النعمان أخاه لأمه حسَّان ابن وَبَرة الكَلبيّ. فلما توا فَوْا خرجوا إلى بني عامر، وقد أُنذروا بهم وتَأهّبوا لهم. فقال الأحوصُ بن جعفر، وهو يومئذ رَحَا هوازن، لقيس بنُ زهير: ما ترى؟ فإنك تزعم أنه لم يَعْرض لك أمران إلا وجد تَ في أحدهما الفَرج. فقال قيسُ ابن زهير: الرأي أن نَرتحل بالعِيال والأموال حتى نَدْخل شِعْب جَبلة فنُقاتِل القوم دونها من وَجه واحد، فإنهم داخلون عليك الشِّعب، وإنّ لقيطاً رجل فيه طَيش فسيقتحم عليك الجبَل، فأرى لك أن تأمر الإبل فلا تَرعى ولا تُسقى وتُعقل، ثم تَجعل الذّراري وراء ظُهورنا، وتأمر الرجالَ فتأخذُ بأذناب الإبل، فإذا دخلوا علينا الشِّعب حَلّت الرّجّالة عُقل الإبل، ثم لَزِمت أذنابَها، فإنها تنحدر عليهم وتحنّ إلى مرعاها وورْدها، ولا يَردّ وجوهَها شيء، وتخرج الفُرسان في إثر الرّجّالة الذين خلفَ الإبل فإنها تُحطّم ما لقيت وتُقبل عليهم الخيل، وقد حُطِّموا من عَل. قال الأحوص: نِعم ما رأيت، فأخذ برأيه. ومع بني عامر يومئذ بنو عَبس، وغنى في بني كِلاب، وباهلةُ في بني كعب، والأبناءُ أبناء صَعصعة. وكان رهط المُعَقَر البارقيّ يومئذ في بني نُمير بن عامر، وكانت قبائل بَجيلة كُلّها فيهم غير قَسْر. قال أبو عُبيدة: وأقبل لَقيط والملوك ومن مَعهم، فوجدوا بني عامر قد دخلوا شِعْب جَبلة، فنزلوا على فَم الشِّعب. فقال لهم رجل من بني أسد: خذوا عليهم فَم الشِّعب حتى يَعْطشوا ويَخْرجوا، فوالله ليتساقطُنّ عليكم تساقطَ البَعَر من أست البعير. فأتوا حتى دخلوا الشِّعب عليهمِ، وقد عقلوا الإبل وعَطّشوها ثلاثة أخماس، وذلك اثنتا عشرةَ ليلة، ولم تَطْعم شيئاً. فلما دخلوا حلّوا عُقُلَها، فأقبلت تهوي. فسمع القومُ دَويها في الشِّعب، فظنوا أن الشِّعب قد هُدم عليهم، والرّجالة في إثرها آخذين بأذنابها، فدقّت كلَّ ما لقيتْ، وفيها بَعير أعور يتلوه غلام أعسر أخذٌ بذنبه وهو يرتجز ويقول: " أنا الغلامُ الأعسر الخيرُ فيِّ والشرّ والشرُّ في أَكثرْ " فانهزموا لا يُلوون على أحد. وقُتلَ لقيطُ بنُ زُرارة، وأسر حاجبُ بن زرارة، أسره ذو الرُّقَيْبة. وأسر سِنان بن حارثة المُري، أسره عُروة الرحال، فجزّ ناصيَته وأطلقه، فلم تَشِنْه. وأسر عمرو بن أبي عمرو بن عُدس، أسره قيس بن المُنتفق، فجزّ ناصيته ناصيته وخلاّه طَمعاً في المُكافأة، فلم يَفعل. وقُتل معاوية بن الجَوْن، ومُنقذ بن طَرِيف الأسدي، ومالك بن رِبْعيّ بن جَندل ابن نَهشل. فقال جرير:
كأنك لم تَشهدْ لَقِيطاً وحاجباً ... وعمرو بنَ عمرو إذ دَعا يا لَدَارم
ويومَ الصّفا كُنتم عَبيداً لعامر ... وبالحَزْن أصبحتم عَبيدَ اللَهازم
يعنى بالحَزن يومَ الوقيط. وقال جرير أيضاً في بني دارم:
ويومَ الشِّعب قد تَركوا لَقِيطاً ... كأنّ عليه حُلّةَ أرْجوانِ
وكبل حاجبٌ بشِمام حَوْلاً ... فحكَم ذا الرًّقيبة وهو عَانى

ِوقالت دخْتَنوس بنت لَقيط تَرثي لَقيطاً:
فَرَّت بنو أسد فِرا ... رَ الطيْر عن أربابها
عن خَير خِنْدف كلها ... مِن كهلها وشَبابها
وأتَمَها حسباً إذا ... نُصَّتْ إلى أحسابها
وقال المُعقَر البارقيّ:
أمِن آل شَعثاء الحُمول البَواكرُ ... مع الصُّبح أم زَالتْ قُبيلُ الأباعرُ
وحَلت سُليمى في هِضاب وأيكة ... فليس عليها يومَ ذلك قادر
وألقتْ عَصاها واستقرت بها النَوى ... كما قَرّ عيناً بالإياب المُسافر
وصبحها أملاكُها بكتَيبةٍ ... عليها إذا أمستْ من الله ناظر
مُعاويةُ بنُ الجَون ذُبيانُ حولَه ... وحسان في جَمع الرِّباب مُكاثر
وقد زَحفتْ دُودان تَبغي لثأرِها ... وجاشت تميم كالفُحول تُخاطر
وقد جَمَعوا جمعاً كأنَّ زُهاءه ... جراد هَفا في هَبْوة مُتطاير
فمرّوا بأطناب البُيوت فردّهم ... رجال بأطناب البيوت مَساعر
فباتوا لنا ضيفاً وبِتْنا بنِعْمة ... لنا مُسْمِعاتٌ بالدُّفوف وزامِر
فلم نَقْرهم شيئاً ولكنْ قِراهُم ... صَبوح لدينا مَطْلَع الشمس حازِر
وصَبَحهم عد الشَرُوق كتائب ... كأركان سَلْمى سيرُها مُتواتر
كأن نَعام الدَوَ باض عليهمُ ... وأعينهمُ تحت الحَبيك خَوازر
مِن الضاربين الهام يَمْشون مَقدماً ... إذا غُصّ بالرِّيق القليل الحَناجر
أضنّ سرَاةُ القوم أنْ لن يُقاتلوا ... إذا دُعيت بالسَّفْح عَبْسٌ وعامر
ضربنا حَبِيك البَيْض يا غَمر لجة ... فلم يَنج في الناجِين منهم مُفاخر
هوى زَهْدمٌ تحت العَجَاج لحاجب ... كما انقضّ بازٍ أقتمُ الرِّيش كاسر
يُفرّج عنّا كُلَّ ثَغرٍ نخافه ... مِسَحّ كسِرْحان القَصيمة ضَامر
وكُلُّ طَموح في العِنان كأنها ... إذا اغتمَست في الماء فَتْخاء كاسِر
لها ناهضٌ في الوَكْر قد مهدت له ... كما مَهَدت لِلبَعْل حَسناءُ عاقِرِ
تخاف نِساءً يَبْتَززن حِليلَها ... مُحرَّبةٌ قد أحْردتها الضرائر
استعار هذا البيت فألقت عصاها من المُعَقّر البارقيّ، إذ كان مثلاً في الناس، راشدُ بن عبد ربّه السُّلمى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل أبا سُفيان بن حرب عَلَى نَجران فولاّه الصلاةَ والحَرب، ووجّه راشدَ ابن عبد ربّه السُّلمى أميراً على المظالم والقضاء، فقال راشد بن عبد ربّه:
صحا القلب عن سَلْمى وأقْصر شأْوه ... ورَدّت عليه تبتغيه تًماضرُ
وحَلّمه شَيْبُ القَذال عن الصِّبا ... وللشَّبيبُ عن بَعض الغَواية زاجر
فأقصر جهلي اليومَ وارتد باطلي ... عن اللهو لما أبيض مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعدَ صحْوه ... بمَعرض ذي الآجام عِيسٌ بَواكر
ولما دنتْ من جانب الغُوط أخصبت ... وَحلّت فلاقاها سُلَيم وعامر
وخبّرها الرُّكبان أنْ ليس بينها ... وبين قُرى بصرى ونَجران كافر
فألقت عَصاها واستقرَّت بها النِّوى ... كمَا قَر عيناً بالإياب المُسافر
فاستعار هذا البيت الأخير من المُعقّر البارقيّ، ولا أحسبه استجاز ذلك إلا لاستعمال العامة له وتمثّلهم به.

يوم مقتل الحارث بن ظالم
بالخَربَة

قال أبو عُبيدة: لما قَتل الحارث بنُ ظالم خالدَ بن جعفر الكِلابيّ أتى صديقاً له من كِندة، فالتفَّ عليه، فطلبه الملك، فخَفَّى ذكره. ثم شَخص من عند الكِنْديّ، وأضمرته البِلاد حتى استجار بزياد، أحد بني عِجل بن لُجيم، فقام بنو ذُهل بن ثَعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لعِجْل: أخْرجوا هذا الرجل من بين أظهركم فإنه لا طاقَة لنا بالشهباء ودَوْسر - وهما كتيبتان للأسود بن المُنذر - ولا بمُحاربة الملك. فأبتْ ذلك عليهم عِجْل. فلما رأى ذلك الحارثُ ابنُ ظالم كَرِه أن يَقع منهم فِتْنة بسببه، فأرتحل من بني عِجْل إلى جَبلَي طيىء، فأَجاروه، فقال في ذلك:
لَعمري لقد حَلِّ بي اليومَ ناقَتي ... على ناصِر من طَيىّء غير خاذل
فأصبحتُ جاراً للمَجرَّةِ فيهم ... على باذخ يعلو يدَ المتطاول
إذا أَجأ لفت علِيَّ شِعابَها ... وَسَلْمى فأني أنتمُ مِن تَناولي
فمكث عندهم حِيناً ثم إنّ الأسود بن المُنذر لما أَعجزه أمره أرسل إلى جارات كُنّ للحارث بن ظالم، فاستاقهنّ وأموالهن. فبلغِ ذلك الحارثَ ابنَ ظالم، فخرج من الجَبلين، فاندسَّ في الناس حتى عَلمِ مكان جاراته ومَرعى إبلهن، فأتاهنّ فاستنقذهنّ، واستاق إبلَهن فألحقهنّ بقومهن، واندس في بلاد غَطفان، حتى أتى سِنانَ بن أبي حارثة المُري، وهو أبو هَرِم الذي كان يمدحه زُهير. وكان الأسود بن المنذر قد اْسترضع ابنه شَرَحْبيل عند سَلْمى امرأة سِنان، وهي من بني غَنم بن دُودان بن أسد، فكانت لاَ تأمن على ابن الملك أحداً، فاستعار الحارث بن ظالم سَرج سِنان، وهو في ناحية الشَّرَبَّة لا يعلم سِنَان ما يُريد، وأتى بالسّرْج امرأة سنان وقال لها: يقول بعلُك: ابعثي بابن الملك مع الحارث، فإني أريد أن أستأمن له الملكَ، وهذا سرجُه آية ذلك. قال: فزينته سَلْمى ودفعتْه إليه. فأتى بِه ناحيةً من الشرَبة فقَتله، وقال في ذلك:
أخصْيي حِمارٍ بات يَكْدِم نَجْمةً ... أتُؤكل جاراتي وجارُك سالمُ
علوتُ بذي الحيات مَفْرقَ رأسِه ... ولا يركب المَكْروهَ إلا الأكارم
فتكتُ به كما فتكتُ بخالد ... وكان سِلاحي تَجْتويه الجماجم
بَدأتُ بذاك وانثنيتُ بهذه ... وثالثة تَبيضّ منها المَقادم
قال: وَهَرب الحارث من فَوره ذلك، وهَرب سنان بن أبي حارثة. فلما بلغ الأسودَ قتلُ ابنه شرحبيل، غزا بنِي ذُبيان، فقتل وسَبى وأخذ الأموال، وأغار على بني دُودان، رَهْطِ سَلْمى التي كانِ شرحبيل في حِجرها، فقتلهم وسبَاهم، بسَط أرِيك. قال: فوجد بعد ذلك نَعلي شرحبيل في ناحِية الشَّربة عند بني مُحَارب بن خَصفة، فغزاهم الملك، ثم أسرهم، ثم أحْمَى الصَّفا، وقال: إني أحذيتكم نعالاً، فأمشاهم على ذلك الصفا، فتساقطت أقدامهم. ثم إن سيار بن عمرو بن جابر الفَزاري احتمل للأسود ديةَ ابنه ألف بعير، وهي دية الملوك، ورَهنه بها قوسَه فوفاه بها، فقال في ذلك:
ونحن رهنا القوسَ ثُمَّتَ فودِيت ... بألفٍ على ظَهر الفَزاري أقْرعاً
بعشر مِئين للملوك وفَى بها ... ليُحمَد سيار بن عمروٍ فأسرعا
وكان هذا قبل قَوس حاجب. وقال في ذلك أيضاً:
وهل وجد تُم حاملاً كحاملي ... إذ رَهن القوسَ بألفٍ كامل
بِدِية ابن المَلِك الحُلاحِل ... فافتكها مِن قَبل عام قابِل
سيار الموفى بها ذو النَائل وهرب الحارث فلحق بمَعبد بن زُرارة، فاستجار به فأجاره، وكان من سَببه وقعة رَحْرَحان التي تقدم ذكرها. ثم هرب الحارث حتى لحق بمكة وقريش، لأنه يقال إن مُرة بن عَوف بن سعد بن ذبيان، إنما هو مُرة بن عَوف بن لؤي ابن غالب، فتوسَّل إليهم بهذه القَرابة، وقال في ذلك:
إذا فارقتُ ثَعلبة بنَ سَعْد ... وإخوتَهم نسبت إلى لُؤيّ
إلى نَسب كريم غير دَغْل ... وحيٍّ من أكارم كُلّ حَيّ
فإمْ يك منهمُ أصْلي فمنهم ... قَرابين الإله بني قُصي
فقالوا: هذه رَحم كَرْشَاء، إذ استغنيتُم عنها لنْ يَتِرَكم. قال: فشخص الحارث عنهم غَضبان، وقال في ذلك:
ألا لستم منّا ولا نحن منكُم ... بَرِئْنا إليكم من لُؤي بن غالب

غَدَوْنا على نَشْز الْحِجاز وأنتم ... بمنشعب البَطْحاء بين الأخاشب
وتوجّه الحارث بن ظالم إلى الشام فلحق بيزيدَ بن عمرو الغساني، فأجاره وأكرمه. وكان ليزيد ناقة مُحماة، في عُنقها مُدية وزِناد وصُرَة مِلْح، وإنما كان يَمتحن بها رعيِّته لينظر مَن يجترئ عليه. فوَحِمت امرأة الحارث فاشتهت شَحماً في وَحَمها، فانطلق الحارثُ إلى ناقة الملك فانتحرها، وأتاها بشَحمها، وفُقدت الناقة، فأرسل الملكُ إلى الخِمْس التغلبي، وكان كاهناً، فسأله عن الناقة، فأخبره أنِّ الحارث صاحبها. فهَم الملك به، ثم تذمم من ذلك. وأوجس الحارثُ في نفسه شرّاً، فأتى الخِمْس التّغلبيّ فقَتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقَتله. قال: أيها الملك، إنك قد أجرتَني فلا تَغْدرنّ بي. فقال الملك: لا ضَير إن غدرتُ بك مرة لقد غدرتَ بي مراراً. وأمر ابنَ الخِمْس. فقَتله وأخذ ابنُ الخِمْس سيفَ الحارث فأتى به عُكاظ في الأشهر الحُرم، فأراه قيسَ بن زُهير العبسيّ، فضربه به قيسٌ فقَتله، وقال يرثي الحارثَ بن ظالم:
ومَا قصَرتْ من حاضنٍ سترَ بَيتها ... أبرّ وأوفَى منك حارِ بنَ ظاِلم
أعز وأحمَى عند جارٍ وذِمّة ... وأضرَبَ في كابٍ من النّقع قاتم

حرب داحس والغبراء
وهي من حُروب قيس قال أبو عُبيدة: حرب داحس والغبراء بين عَبس وذُبيان، ابني بَغيض بن رَيْث بن غَطفان. وكان السبب الذي هاجها أنّ قيسَ بن زُهير وحَمل بن بَدر تَراهنا على داحسِ والغَبراء، أيهما يكون له السَّبْق، وكان داحس فحلاً لقيس ابنُ زهير، والغبراء حِجْراً، لحَمَل بن بَدْر، وتواضعا الرهان على مائة بعير، وجعلا مُنتهى الغاية مائة غَلْوة، والإضمار أربعين ليلة، ثم قادوهما إلى رأس المَيدان بعد أن أَضمروهما أربعين ليلة، وفي طَرف الغاية شِعاث كثيرة. فأكمن حَملُ بن بدر في تلك الشّعاب فِتْيانا على طريق الفَرسين، وأمرهم إن جاء داحس سابقاً أن يردّوا وجهه عن الغاية. قال: فأرسلوهما فأحضرا، فلما احضرا خَرجت الأنثى من الفحل. فقال حَمَل بن بدر: سبقتُك يا قيس. قال قيس: رُوَيدا يَعْدُوان الجَدَد إلى الوَعْث ترشح أعطاف الفحل. قال: فلما أَوغلا في الجَدد وخرجا إلى الوَعْث بَرز داحس عن الغَبراء فقال قيس: جَرْي المُذْكيات غِلاء، فذَهبت مثلاً. فلما شارف داحس الغاية ودنا من الْفِتية، وَثبوا في وجه داحس فردّوه عن الغاية. ففي ذلك يقول قيسُ بن زُهير:
وما لاقيت من حَمل بن بَدْر ... وإخوته على ذاتِ الإصادِ
هُمُ فَخروا عليّ بغير فَخْر ... وردّوا دون غايته جَوادي
ثارت الحرب بين عبس وذُبيان، ابني بَغيض، فبقيت أربعين سنة لم تُنتَج لهم ناقه ولا فَرس، لاشتغالهم بالحرب. فبعث حذيفة بن بدر ابنَه مالكاً إلى قيس بن زُهير يطلب منه حَق السبتى. فقال قيس: كلا، لأمطُلنك به، ثم أخذ الرُّمح فَطعنه به فدقّ صلبه، ورجعت فرسه عارية فاْجتمع الناسُ فاحتملوا دية مالك مائة عُشَراء. وزعموا أن الرَّبيع بن زياد العَبسيّ حَملها وحدَه، فقَبضها حُذيفة وسكن الناس. ثم إن مالك بن زهير نزل اللُّقاطة من أرض الشربّة، فأخبر حُذيفة بمكانه، فعدا عليه فقتله. ففي ذلك يقول عَنترة الفوارس:
فللّه عَينَا مَن رَأى مثلَ مالِكٍ ... عَقيرةَ قوم أن جَرَى فَرَسان
فليتهما لم يَجريا قَيْد غَلوة ... وليتهما لم يُرْسَلا لِرهان
فقالت بنو عَبس: مالك بن زُهير بمالك بن حُذيفة، ورُدّوا علينا مالَنا. فأبَى حذيفةُ أن يردّ شيئاً. وكان الربيعُ بن زياد مجاوراً لبني فَزارة، ولم يكن في العَرب مثلُه ومثلُ إخوته، وكان يقال لهم الكَمَلة، وكان مُشاحناً لقيس بن زهير من سَبب دِرْع لقيس غَلبه عليها الربيعُ بن زياد، فاطّرد قيسٌ لَبوناً لبني زياد فأتى بها مكةَ، فعاوض بها عبد الله بن جُدعان بسلاح، وفي ذلك يقول قيس ابن زُهير:
ألم يبلغك والأنباءُ تنْمِي ... بما لاقت لَبون بني زِياد
ومَحْبسها على القُرشيّ تُشْرى ... بأدراع وأسياف حِداد
وكنتُ إذا بُليت بخَصم سَوء ... دَلفتُ له بدَاهية نآد

ولما قُتل مالك بن زُهير قامت بنو فَزارة يسألون ويقولون: مَا فعل حِماركم؟ قالوا: صِدْناه. فقال الربيع: ما هذا الوَحْي؟ قالوا: قتلنا مالكَ بن زهير. قال بئسما فعلتم بقَومكم، قَبلتم الدِّية، ثم رَضيتم بها وغَدرتم. قالوَا: لولا أنك جارنا لقَتلناك، وكانت خُفرة الجار ثلاثاً. فقالوا له: بعد ثلاث ليال: اخرُج عنا. فخرج وأتبعوه فلم يَلحقوه، حتى لَحق بقومه. وأتاه قيسُ بن زهير فعاقده. وفي ذلك يقول الربيع:
فإنْ تكُ حَربُكم أمستْ عوَانا ... فإني لم أكُن ممَن جَناها
ولكنْ وُلْد سودة أرثوها ... وَحشُوا نارها لِمَن اصطلاها
فإنّي غيرُ خاذلكم ولكن ... سأسعى الآن إذ بَلغت مداها
ثم نَهضت بنو عَبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان إلى بني فَزارة وذُبيان، ورئيسهم الربيع بن زياد، ورئيس بني فَزارة حُذيفة بن بَدر.

يوم المريقب
لبني عبس على فزارة
فالتقوا بذي المرَيْقِب: من أرض الشربة؟ فاقتتلوا، فكانت الشوكةُ في بني فَزارة، قُتل منهم عوف بن زيد بن عمرو بن أبي الحصين، أحد بني عديّ بن فَزارة، وضَمضم أبو الحصين المُري، قتله عَنترة الفوارس، ونَفر كثير ممن لا يعرف أسماؤهم. فبلغ عنترةَ أنّ حُصينا وهَرِماً، ابني ضَمضم، يشتُمانه ويُواعدانه فقال في قصيدته التي أولها:
يا دار عَلبة بالجوَاء تَكلَمي ... وعِمِي صَباحاً دَار عَبلة واسلمي
ولقد خَشيتُ بأن أمَوتَ ولم تَدُر ... للحَرْب دائرةُ على ابنى ضَمْضم
الشاتِمَي عِرْضى ولم أشتمهما ... والناذِرين إذا لم ألْقَهما دَمي
إن يَفعلا فلقد تركت أباهما ... جَزَر السباع وكل نَسر قَشْعم
لما رآني قد نزلتُ أريده ... أبدى نواجذَه لغَير تَبسم
وفي هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس:
فلتعلَمن إذا التقت فُرسانُنا ... يوم المُريقب أنَ ظنك أحمقُ
يوم ذي حسى
لذبيان على عبس
ثم إن ذُبيان تجمّعت لِمَا أصابت بنو عَبْس منهم يومَ المُريقب: فزارةُ، ابن ذُبيان، ومُرة بن عَوف بن سعد بن ذُبيان، وأحلافُهم، فنزلوا فتوافَوْا بذي حُسَا، وهو وادي الصفا من أرض الشَرّبة، وبينها وبين قَطن ثلاث ليال، وبينها وبين اليَعْمرية ليلة. فهربت بنو عَبر، وخافت أن لا تقوم بجماعة بني ذُبيان، واتبعوهم حتى لَحقوهم، فقالوا: التَفاني أو تُقيدونا. فأشار قيسُ ابن زُهير على الربيع بن زياد ألا يُناجزوهم وأن يُعطوهم رهائنَ من أبنائِهم حتى ينظروا في أمرهم. فتراضَوْا أن تكون رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو، أحدِ بني ثعلبة ابن سعد بن ذبيان. فدَفعوا إليه ثمانيةً من الصِّبيان وانصرفوا، وتكاف الناس. وكان رأيُ الربيع مُناجزَتهم. فصرفه قيس عن ذلك. فقال الربيع:
أقول ولم أملك لقَيْس نصيحةً ... أرى ما يَرى واللهُ بالغَيبِ أعلم
أَتُبقي على ذُبيان في قَتل مالك ... فقد حَشَ جاني الحَرب ناراً تَضرَّم
فمكثت رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو حتى حضرتْه الوفاة، فقال لابنه مالك ابن سُبيع: إن عندك مكرمةً لا تَبيد، لا ضَيْرَ إنْ أنت حفظتَ هؤلاء الأغَيلمة، فكأَنّي بك لو متَُّ أتاك خالُك حُذيفة بنُ بدر فعَصر لكَ عيْنيه وقال: هلك سيدُنا، ثم خَدعك عنهم حتى تَدفعهم إليه فيقتلهم، فلا تشرف بعدها أبداً، فإن خِفْتَ ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما هلك شبيع أطاف حُذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه. فأتى بهم اليَعْمريّة، فجعل يُبرز كل يوم غُلاماً فينصبه غَرضاً، ويقول: نادِ أباك. فيُنادي أباه حتى يَقتله.
يوم اليعمرية
لعبس على ذبيان
فلما بلغ ذلك مِن فِعل حُذيفة بني عبس أَتوهم باليَعْمرية فلقُوهم - بالحَرَّة، حرَّة اليعمريّة - فقتلوا منهم اثني عشر رجلاً، منهم: مالكُ بن سُبيع الذي رَمَى بالغِلْمة إلى حُذيفة، وأخوه يزيدُ بن سُبيع، وعامر بن لَوذان، والحارث بن زَيد، وهرم بن ضَمضم، أخو حُصين. ويقال ليوم اليعمريّة يوم نفْر، لأنّ بينهما أقلَّ من نصف يوم.
يوم الهباءة
لعبس على ذبيان

ثم اجتمعوا فالتقوا في يوم قائظ إلى جَنب جَفْر الهَباءة، واقتتلوا من بُكرة حتى أنتصف النهار، وحَجز الحرّ بينهم، وكان حُذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركضُ فقال قيس بن زهير: يا بني عبس، إن حذيفة غداً إذا احتدمت الوديقة مُستنقع في جَفْر الهَباءة، فعليكم بها. فخرجوا حتى وَقعوا على أثر صارف، فرس حُذيفة، والحَنْفاء، فرس حَمل بن بذر. فقال قيس بن زهير: هذا أثر الحَنْفاء وصارف، فَقَفَوْا أثَرهما حتى توافَوْا مع الظَّهيرة على الهَباءة. فَبصُر بهم حملُ بن بدر، فقال لهم: من أبغضُ الناس إليكم أن يقف على رؤوسكم؟ قالوا: قيسُ ابنُ زهير والربيعُ بن زياد، فقال: هذا قيسُ بن زهير قد أتاكم. فلم يَنقض كلامُه حتى وقف قيسٌ وأصحابُه على جَفْر الهَباءة، وقيس يقول: لبّيكم لَبَّيكم - يعني إجابة الصِّبية الذين كانوا ينادونهم إذ يُقتلون - وفي الجفر حُذيفةُ وحَمَل، ابنا بدر، ومالك بن بَدْر، ووَرْقاءُ بن هِلال، من بنِي ثَعلبة بن سعد، وحَنَش بن وهْب. فوقف عليهم شدَّاد بن مُعاوية العَبْسيِّ؛ وهو فارس جَروة، وجروة فرسه، ولها يقول:
ومَنْ يكُ سائلاً عنّي فإنّي ... وجَروةَ كالشِّجا تحت الْوريد
أقوتها بقُوتي إنْ شَتَوْنا ... وألحقها رِدائي في الجَليد
فحال بينهم وبين خَيلهم. ثم توافت فرسان بني عَبس، فقال حَمل: ناشدتك الله والرحم يا قيس. فقال: لَبيكم لَبَّيكم. فعَرف حُذيفة أنه لن يَدعهم، فأنتهر حملاً وقال: إياك والمأثورَ من الكلام. فَذهبت مثلاً. وقال لقيس: لئن قتلَتني لا تَصلح غطفانُ أبعدها. فقال قيس: أبعْدَها الله ولا أصلحها. وجاءه قِرْواش بمعْبلة، فقَصَم صُلبه. وأبتدره الحارث بن زُهير وعمرو بن الأصلع، فَضرباه بِسَيْفيهما حتى ذفّفَا عليه. وقَتل الربيعُ بن زياد حمَل بن بدر. فقال قيس ابن زهير يَرثيه:
تعَلّم أنّ خيرَ الناس مَيْت ... على جَفْر الهَباءة ما يَرِيم
ولولا ظُلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما طَلع النجوم
ولكن الفَتى حملَ بن بَدر ... بَغى والبَغْيُ مَرْتعه وَخيم
أضن الحلْم دلّ عليّ قَومي ... وقد يُستضعف الرجُل الحليم
ومارستُ الرجالَ ومارَسُوني ... فَمُعْوجٌ عليَّ ومُستقيم
ومثّلوا بحُذيفة بن بدر كما مَثل هو بالغِلْمة، فقَطعوا مَذاكيره وجعلوها في فيه، وجعلوا لسانه في استه. وفيه يقول قائلهم:
فإنّ قتيلاً بالهَباءة في استه ... صحيفتُه إنْ عاد للظُّلم ظالمُ
متى تَقرأوها تَهْدِكم عن ضلالكم ... وتُعرف إِذ ما فُضَّ عنها الخَواتم
وقال في ذلك عَقيل بن علَّفة المرِّي:
ويوقد عوفٌ للعشيرة نارَه ... فهلا على جَفْر الهَباءة أوْقدَا
فإنّ على جَفر الهَباءة هامة ... تُنادي بني بَدر وعاراً مُخلّدا
وإنّ أبا ورد حُذيفَةَ مُثْفَرٌ ... بأيْر على جَفر الهَباءة أسودا
وقال الربيع بن قَعْنب:
خَلُق المَخازي غيرَ أنّ بذي حُسا ... لبني فَزارة خِزْيةً لا تَخْلقُ
تِبْيانُ ذلك أنّ في استِ أبيهم ... شَنعاءَ من صُحف المَخازي تَبْرق
وقال عمرو بن الأسِلع:
إنّ السماء وإنّ الأرض شاهدة ... والله يَشهد والإنسانُ والبَلدُ
أنّي جَزيتُ بني بَدْر بسَعْيهم ... على الهَباءة قَتلاً ماله قَوَد
لمّا التقينا على أَرجاء جُمّتها ... والمَشرفيّة في أيماننا تَقِد
عَلوتُه بحُسام ثم قلتُ له ... خُذْها إليك فأنتَ السيّد الصِّمَد
فلما أصيب أهلُ الهَباءة واستعظمت غَطفان قَتل حُذيفة تجمّعوا، وعَرفت بنو عَبس أنْ ليس لهم مُقام بأرض غَطفان، فخرجوا إلى اليمامة فنزلوا بأخوالهم بني حَنيفة، ثم رَحلوا عنهم فنزلوا ببني سَعد بن زيد مَناة.

يوم الفروق

ثم إنّ بني سَعد غدروا لجوارهم، فأتوا معاويةَ بن الجَوْن فاستجاشوه عليهم وأرادوا أكلَهم. فبلغ ذلك بني عَبس، ففروا ليلاً وقدموا ظُعُنهم، ووقف فرسانهم بمَوضع يقال له الفَرُوق. وأغارت بنو سَعد ومَن معهم من جُنود المَلِك على محلّتهم، فلم يجدوا إلا مَواقد النَيران، فاتبعوهم حتى أتوا الفَروق، فإذا بالخيل والفُرسان، وقد توارت الظعن، فانصرفوا عنهم. ومضى بنو عَبس فنزلوا ببني ضبة فأقاموا فيهم وكان بنو جَذِيمة من بني عَبس يُسَمون بني رَوَاحة، وبنو بَدر من فَزارة يُسمون بني سَوْدة. ثم رجعوا إلى قومهم فصالحوهم، وكان أول مَن سعى في الحَمالة حَرْملة بن الأشعر بن صِرمة بن مُرَّة، فمات، فسعى فيها هاشمُ ابن حَرملة ابنُه، وله يقول الشاعر:
أحيا أباه هاشمُ بن حَرْمله ... يوم الهَباتَينْ ويوم اليَعْمَله
ترى المُلوك حولَه مُرعْبله ... يَقْتل ذا الذّنب ومَن لا ذَنْبَ له
يوم قَطَن
فلما توافَوْا للصُلح وقفت بنو عَبس بقَطن، وأقبل حُصين بن ضَمْضم، فلقي تيحان. أحد بني مخزوم بن مالك. فقتله بأبيه ضَمضم، وكان عنترةُ بن شدّاد قتله بذي المُريقب. فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان وقالوا: لا نصالحكم ما بَلَّ البحر صُوفة، وقد غدرتم بنا غيرَ مرّة، وتنَاهض القومُ عبس وذُبيان، فالتَقَوْا بقَطن، فقَتل يومئذ عمرو بن الأسلع عُيينةَ، ثم سَفرت السفراءُ بينهم، وأتى خارجةُ بن سِنان أبا تَيحان بابنه فدَفعه إليه، فقال: في هذا وفاء من ابنك. فأخذه فكان عنده أياماً. ثم حمل خارجةُ لأبي تيْحان مائةَ بعير قادها إليه واصطلحوا وتعاقدوا.
يوم غدير قَلْهى
قال أبو عُبيدة: فاصطلح الحيان إلاّ بني ثَعلبة بن سَعد بن ذُبيان، فإنهم أبَوْا ذلك، وقالوا: لا نَرضى حتى يُودوا قَتلانا أو يُهدَر دمُ مَن قَتلها. فخرجوا من قَطن حتى وَردوا غدير قلْهى فسَبقهم بنو عَبْس إلى الماء فمَنعوهم حتى كادوا يموتون عَطشَاً ودوابّهم، فاصلح بينهم عوف ومَعقل، ابنا سُبيع، من بني ثعلبة، وإياهما يَعني زُهير بقوله:
تداركتُما عَبْساً وذُبيان بعدما ... تفانَوْا ودقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشَم
فورَدوا حَرباً واخرجوا عنه سَلْما.
تم حرب داحس والغبراء.
يوم الرّقم

لغطفان على بني عامر
غَزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غَطَفان بالرَّقَم - وهو ماء لبني مُرة - وعلى بني عامر عامر بن الطُّفيل - ويقال يزيد بن الصعق - فركب عُيينة بن حِصن في بني فَزارة، ويزيد بن سِنان في بني مُرَّة، ويقال الحارث بن عَوف، فانهزمت بنو عامر، وجعل يقاتل عامر بن الطُّفيل ويقول: " يَا نَفْسُ إلا تقْتلي تَموتي " فزعمت بنو غَطفان أنهم أصابوا من بني عامر يومئذٍ أربعةً وثمانين رجلاً، فدَفعوهم إلى أهل بيت من أَشجع، كانت بنو عامر قد أصابُوا فيهم، فقتلوهم أجمعين. وانهزم الحَكم بن الطفيل في نفر من أصحابه، فيهم جِرِابُ بن كعب، حتى انتهوا إلى ماء يقال له المَرَوراة، فقطع العطشُ أعناقَهم فماتوا، وخنق نفسَه الحكمُ بن الطُّفيل تحت شجرة مخافَة المُثلة. وقال في ذلك عُروة بن الوَرْد:
عجبت لهمِ لمْ يَخْنقون نُفوسهم ... ومَقْتلهم تحت الوَغى كان أجدرَا
يوم النُّتَأة
لعبس علي بني عامر
خرجتْ بنو عامر تُريد أن تدرك بثأرها يوم الرِّقم، فجمعوا على بني عَبس بالنُتَأة وقد أنذروا بهم، فالتقوا، وعلى بني عامر عامرُ بن الطُّفيل، وعلى بني عَبس الربيعُ بن زياد، فاقتتلوا قتالاً شديداً. فانهزمت بنو عامر وقُتل منهم صَفوان بن مُرة، قتله الأحنفُ بن مالك، ونهشل بن عُبيدة بن جعفر، قَتله أبو زُعبة بن حارث: وعبدُ الله بن أَنس بن خالد. وطَعنِ ضبيعةُ بن الحارث عامرَ بن الطُّفيل فلم يَضرّه، ونجا عامر، وهُزمت بنو عامر هَزيمةَ قَبيحة. فقال خراشةُ بن عمرو العَبْسي:
وسارو على أَظمائهم وتَواعدُوا ... مِياهاً تحامتها تَميم وعامِرُ
كأنْ لم يكن بين الذُّنَاب وواسطٍ ... إلى المُنحنَى مِن ذي الأراكة حاضر
ألا أَبْلِغَا عنّي خَلِيلِيَ عامراً ... أتَنْسى سُعادَ اليومَ أم أنتَ ذاكِر

وصدتك أطرا فُ الرِّماحِ عن الهَوى ... ورُمتَ أموراً ليس فيها مَصادر
وغادرتَ هِزّانَ الرئيس ونَهشلاً ... فلله عينا عامرٍ مَن تُغادر
وأسلمتَ عبدَ الله لما عرفتَهم ... ونَجّاك وثّابُ الجَرَاميز ضَامر
قَذَفْتَهمُ في الموت ثم خَذلْتهم ... فلا وَالت نفس عليك تحاذر
وقال أبو عبيدة: إن عامر بن الطُّفيل هو الذي طَعن ضُبيعة بن الحارث، ثم نجا من طَعنته، وقال في ذلك:
فإن تَنجُ منها يا ضُبيع فإنّني ... وَجدِّك لم أعقِدْ عليك التَّمائمَا
يوم شُوَاحط

لبني محارب على بني عامر
غَزت سرّيةٌ من بني عامر بن صعصعة بلاَد غَطفَان، فأغارت على إبل لبني مُحارب بن خَصَفة، فأدركهم الطلبُ، فقتلوا من بني كلاب سَبعةً واْرتدّوا وإبلهم. فلما رجعوا من عندهم وَثب بنو كلاب على جَسْر، وهم من بني مُحارب، كانوا حاربوا إخوتهم فخرجوا عنهم وحالفوا بني عامر بن صَعصعة، فقالوا: نَقتلهم بقَتل بني محارب من قَتلوا منّا. فقام خِداش بن زُهير دونهم حتى مَنعهم من ذلك، وقال:
أيا راكباً إمّا عرِضتَ فبلّغنْ ... عَقِيلاً وابْلغ إن لقيتَ أبا بَكْر
فيا أخَوَينا من أبينا وأمنا ... إليكم إليكم لا سبيلَ إلى جَسْر
دعُوا جانبي إني سأترك جانباً ... لكم واسعاً بين اليَمامة والقَهرْ
أبى فارسُ الضَحياء عمرو بنُ عمرو ... أبي الذَّم واختار الوَفاء على الغَدْر
يوم حوّزة الأول
لسُلَيم على غطفان
قال أبو عُبيدة: كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حَرْملة، أحد بني مُرة بن غطفان، كلام بعُكاظ، فقال معاوية: لوددتُ والله أني قد سمعتُ بظعائنَ يَنْدبنْك. فقال هاشم: والله لوددتُ أني قد تَربت الرَّطْبة - وهي جْمة معاوية، وكان الدهرَ تَنطِف ماءً ودُهنا وإن لم تُدْهن - فلما كان بعدُ تهيأ معاوية ليغزو هاشماً، فنهاه أخوه صخر. فقال، كأني بك إن غزوتهم علق بجمَتك حسك العُرْفط. قال: فأبى مُعاوية وغزاهم يوم حوزة، فرآهم هاشم بن حرملة قبل أن يراه مّعاوية، وكان هاشماً ناقهاً من مَرض أصابه، فقال لأخيه دُريد ابن حَرملة: إنّ هذا إن رآني لم آمَن أن يَشد عليّ وأنا حديثُ عهد بشَكِيَّة، فاستَطْرِدْ له دوني حتى تجعلَه بيني وبينك، ففعل. فحمل عليه معاويةُ وأردفه هاشم، فاختلفا طَعنتين، فأردى معاويةُ هاشماً عن فرسه الشمّاء، وأنفذ هاشم سِنانة من عانة معاوية. قال: وكَرّ عليه دُريد فظنّه قد أرْدى هاشماً، فضرب معاويةَ بالسيف فقتله، وشدَّ خِفافُ بن عُمير على مالك ابن حارث الفَزاريّ: قال: وعادت الشمّاء، فرس هاشم، حتى دخلت في جَيش بني سُليم، فأخذوها وظنّوها فرس الفَزاري الذي قَتله خفاف، ورجع الجيشُ حتى دنوا من صَخْر، أخي معاوية، فقالوا: أنْعم صَباحاً أبا حسان. فقال: حُييتم بذلك، ما صنع مُعاوية؟ قالوا: قُتل. قال: فما هذه الفرس؟ قالوا: قَتلنا صاحبَها. قال: إذاً قد أدركتم ثأركم، هذه فرسُ هاشم بن حرملة.
قال: فلما دخل رجب رَكِب صخرُ بن عمرو الشّماءِ صبيحةَ يوِم حَرام فأتى بني مُرة. فلما رأوه، قال لهم هاشم: هذا صخر فحيوه وقولوا له خيراً، وهاشم مريض من الطعنة التي طَعنه معاوية، فقال: مَن قَتل أخي؟ فسكتوا. فقال: لمن هذه الفرسُ التي تحتي؟ فسكتوا. فقال هاشم: هَلَم أبا حسان إلى مَن يُخبرك. قال: مَن قتل أخي؟ فقال هاشم: إذا أصبتَنِي أو دريداً فقد أصبتَ ثأرَك. قال: فهل كفَّنتموه؟ قال: نعم، في بُردين، أحدهما بخَمس وعشرين بَكْرة. قال: فأروني قبره. فأروه إياه. فلما رأى القبر جَزع عنده، ثم قال: كأنكم قد أنكرتُم ما رأيتُم من جَزعي، فوالله ما بِت منذ عَقَلتُ إلا واتراً أو موتوراً، أو طالباً أو مطلوباً، حتى قُتل معاوية فما ذقت طَعم نوم بعده.
يوم حوزة الثاني

قال: قم غَزاهم صَخر، فلما دنا منهم مضى على الشمّاء، وكانت غَرّاء مُحجّلة، فسوَّد غُرتها وتَحجيلها، فرأتْه بنتٌ لهاشم، فقالت لعمّها دُريد: أين الشمّاء؟ قال: هي في بني سُليم، قالت: ما أشبهها بهذه الفرس. فاستوى جالساً، فقال: هذه فرس بَهيم والشمّاء غَرّاء محجّلة، وعاد فاضطجع. فلم يَشعر حتى طَعنه صخر. قال: فثارُوا وتَناذروا، وولّى صَخر، وطلبته غَطفان عامّةَ يومها، وعارض دونه أبو شَجرة بن عبد العُزّى، وكانت أمه خَنساء أخت صَخر وصَخْر خاله، فرد الخَيل عنه حتى أراح فرسَه ونجا إلى قومه. فقال خُفاف بن ندبه لما قتل مُعاوية: قَتلني الله إن بَرحت مِن مَكاني حتى أثار به، فشدّ على مالك، سيّد بني جُمح، فقَتله، فقال في ذلك:
فإن تَكُ خَيلي قد أصيب صَميمُها ... فَعمْداً على عَيْنٍ على عَين تَيَمَّمْتُ مالكا
نَصبتُ له عَلْوَى وقد خام صُحبتي ... لأَبْنيَ مَجداً أو لأثأر هالكا
أقول له والرمحُ يَأْطر مَتنْه ... تَأَمَّل خُفافاً إنني أنا ذلكا
وقال صَخر يَرثي مُعاوية، وكان قال له قومه، أهجُ بني مُرة. فقال: ما بيننا أجل من القَذْع. وأنشأ يقول:
وعاذلةٍ هَبّت بليلٍ تَلُومني ... ألا لا تلُوميني كَفَى اللومُ مابيا
تقول أَلا تَهْجو فوارسَ هاشم ... وماليَ أنْ أهْجوهم ثُم مالِيا
أبى الذم أنّي قد أصابوا كَريمتيِ ... وأنْ لَيس إهداء الخَنا مِن شِمَاليا
إذا ما أمرؤ أَهدَى لِمَيْتٍ تحيةَ ... فَحَيّاك ربًّ الناس عَنِّي مُعاويا
وهَوَّن وَجدي أنني لم أقُل له ... كذبت ولم أبخلْ عليه بماليا
وذي إخوة قطّعت أقرانَ بَيْنهم ... كما تَركوني واحِداً لا أخَالِيا
وقال في قَتْل دريد:
ولقد دفعت إلى دُريد طَعنةً ... نَجْلاء تُوغَرِ مثل غَطّ المنخُر
ولقد قتلتُكمُ ثُناءَ ومَوْحداً ... وتركتُ مُرّة مِثل أمس الدَّابر
قال أبو عبيدة: وأما هاشم بن حَرملة فإنه خَرج مُنتجعاً، فلقيه عمرُو بن قيس الجشميّ فتَبِعه، وقال هذا قاتلُ مُعاوية، لا وَألتْ نفسي إن وَأل فلما نزل هاشمٌ كَمَن له عمرو بن قَيس بين الشَجر، حتى إذا دنا منه أرسل عليهِ مِعْبلة ففَلق قَحفه فقتله، وقال في ذلك:
لقد قتلتُ هاشمَ بن حَرْمله ... إذ المُلوك حوله مُغَرْبله
يقتل ذا الذَنب ومن لا ذنَب له
يوم ذات الأَثل
قال أبو عُبيدة: ثم غزا صخرُ بن عمرو بن الشَّريد بني أَسد بن خُزيمة واكتسحِ إبلهم فأتى الصريخُ بني أسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قِتالاً شَديداً، فطعن ربيعةُ بن ثَور الأسديّ صخراً في جَنبه، وفات القَوم بالغَنيمة. وجرى صخرٌ من الطعنة، فكان مريضاً قريبا من الحَوْل حتى مَلّه أهلُه، فسمِع امرأة من جاراته تسأل سَلْمى امرأته: كيف بعلُكِ؟ قالت: لا حَيّ فيُرجى، ولا ميْت فيُنسىَ، لقد لقينا منه الأمرَّين. وكانت تُسأل أمه: كيف صخر؟ فتقول: أرجو له العافية إن شاء اللّه. فقلل في ذلك:
أرى أُمّ صخر لا تَملّ عِيادتي ... ومَلّت سُلَيمى مَضْجعي ومَكاني
فأيّ امرئ ساوَى بأمّ حَليلةً ... فلا عاش إلا في شَقَى وهَوانَ
وما كنتُ أخشِىَ أن أكونَ جِنازة عليكِ ... ومَن يَغترُّ بالحَدثان
لَعمري لقد نبّهتُ مَن كان نائماً ... وأسمعت مَن كانت له أذنان
أَهُمّ بأمر الحَزْم لو أسْتَطيعه ... وقد حِيل بين العَيْر والنّزوان
فلما طال عليه البلاءُ وقد نَتأت قِطْعة من جَنبه مثْلُ اليد في موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعْتها لرجونا أن تَبرأ. فقال: شَأنكم. فقطعوها فمات. فقالت الخَنساء أخته ترثيه
فما بالُ عَينِيَ ما بالُها ... لقد اخضل الدمع سِرْبالَها
أمِن فَقدِ صَخْر من آل الشَري ... د حَلّت به الأرضِ أثقالَها
فآليت أبكي على هالك ... وأسأل نائحةً ما لَها

هممتُ بنَفسيِ كُلَّ الهموم ... فأولَى لنَفسيَ أولى لها
سأحمل نفسي على آلة ... فإمَّا عليها وإما لها
وقالت ترثيه:
وقائلة والنَّعشُ قد فات خَطْوَها ... لِتُدركَه يا لهفَ نَفسي على صَخْرِ
ألا ثَكِلَت أمُّ الذين غَدَوا به ... إلى القبر ماذا يَحملون إلى القَبْرِ
يوم عَدْنِيَّة
وهو يوم مِلْحان
قال أبو عُبيدة: هذا اليوم قبل يوم ذات الأثْل، وذلك أن صخراً غَزا بقومه وترك الحيّ خِلْواً، فأغارت عليهم غطفان، فثارت إليهم غِلْمانهم ومَن كان تخلّف منهمِ، فقُتل من غَطفان نَفر وأنهزم الباقون، فقال في ذلك صَخر:
جزى الله خيراً قومَنا إذ دعاهُم ... بَعْدنِيةَ الحَيُّ الخُلوف المُصبِّح
وغلمانُنا كانوا أسود خَفِيَّة ... وحَقَّ علينا أن يُثابوا وُيمدحوا
هُم نَفَّروا أقرانَها بمُضَرَّس ... وسعْرٍ وَذوا الجَيش حتى تَزحزحوا
كأنهم إذ يُطردون عَشية ... بقُنّة مِلْحان نَعام مُروّح

يوم اللوى
لغطفان على هوازن
قال أبو عُبيدة: غزا عبدُ الله بن الصِّمة - واسم الصمَة معاوية الأصغر، من بني عزيّة بن جُشم بن مُعاوية بن بكر بن هوازن، وكان لعبد الله ثلاثة أسماء وثلاثُ كنى، فاسمه عبد الله وخالد ومَعبد، وكُنيته أبو فُرغان وأبو ذفافة وأبو وفاء، وهو أخو دُريد بن الصمة لأبيه وأمه - فأغار على عَطفان فأصاب منهم إبلاً عظيمة فأطردها. فقال له أخوه دُريد: النجاة، فقد ظَفرت. فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى انتقع نقيعتي - والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الابل فيَصنع منها طَعاماً لأصحابه ويَقْسم ما أصاب على أصحابه - فأقام وعَصى أخاه، فتتبعته فَزازة فقاتلوه، وهو بمكان يقال له اللَوى، فقُتل عبد اللهّ، وارتُث دُريد فبقي في القَتلى. فلما كان في بعض الليل أتاه فارسان، فقال أحدُهما لصاحبه: إني أرى عينيه تَبِصّ، فأنزل فانظُر إلى سُبتَّه. فنزل فكشف ثوبَه فإذا هي تَرمْز، فطَعنه، فخرج دم كان قد أحتقن. قال دُريد: فأفقتُ عندها، فلما جاوزوني نهضتُ. قال: فما شعرِت إلا وأنا عند عُرقوبيَ جمل امرأة من هَوازن. فقالت: من أنت؟ أعوذ بالله من شرك. قلت: لا، بل مَن أنت؟ ويلك! قالت: امرأة من هَوازن سيارة. قلت: وأنا من هوازن، وأنا دُريد ابن الصَمّة. قال: وكانت في قوم مُجتازين لا يشعرون بالوَقعة، فضمته وعالَجَته حتى أفاق. فقال دُريد يرثي عبد الله أخاه ويذكر عِصْيانه له وعِصْيان قومه بقوله:
أعاذِلَ إن الرزءَ في مِثل خالد ... ولا رُزْءَ فيما أهلك المرءُ عن يَدِ
وقُلت لعارض وأصحاب عارض ... ورَهْطِ بني السوداء والقوم شهَدى
علانيةً ظنُوا بألفي مُدَججِ ... سراتُهم في الفارسيّ المُسرَّد
أمرتُهم أمرِي بمُنقطع اللوى ... فلم يستبينوا الرُشد إلا ضحَى الغَد
فلما عَصَوْني كنتُ منهم وقد أرى ... غَوايتَهم وأنني غيرُ مُهْتدي
وما أنا إلا من غَزِيّة إن غَوَت ... غويتُ وإن تَرْشُد غَزيّة أرْشُد
فإن تُعقب الأيامُ والدهر تَعلموا ... بَني غالب أنا غِضاب لِمَعبد
تنادَوْا فقالوا أردَت الخيلُ فارساً ... فقلتُ أعبدُ الله ذلكم الردي
فإنْ يك عبدُ الله خلَّى مكانَه ... فما كان وقَافاً ولا طائشَ اليَد
ولا بَرِماً إذ ما الرياحُ تناوحتْ ... برَطْب العِضاه والضرّيع المُعضد
كميشُ الإزار خارجٌ نصف ساقه ... صبور على الضراءِ طلاع أنجُد
قليل التشكّي للمَصائب حافظٌ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غَد
وهوَن وَجْدي أنّني لم أَقُل لَه ... كَذَبْت ولم أبْخل بما مَلكتْ يدِي

أبو حاتم عن أبي عُبيدة قال: خَرج دريدُ بن الصِّمة في فوارسَ من بني جشَم، حتى إذا كانوا في وادٍ لبني كِنانة يقال له الأخْرم، وهم يُريدون الغارةَ على بني كنانة، إذ رُفع له رجل في ناحية الوادي معه ظَعينة، فلما نَظر إليه قال لفارس من أصحابه: صِحْ به: خَلِّ عن الظعينة وأنجُ بنفسك. فانتهى إليه الفارسُ وصاح به وألحّ عليه. فألقى زمامَ الناقة وقال للظَّعينة:
سِيرى على رِسْلك سَيْرَ الآمنِ ... سيرَ رَداحٍ ذَاتِ جأشٍ ساكِنِ
إنّ أنثنائي دون قِرْني شائني ... أَبلى بلائي وأخبُري وعايِني
ثم حَمل عليه فصرَعه وأخذ فرسَه فأعطَاه للظِّعينة. فبعث دُريد فارساً آخر لينظرَ ما صَنع صاحبُه. فلما انتهى إليه ورأى ما صَنع صاح به. فتصامم عنه كأن لم يَسمع. فظن أنه لم يَسمع، فغَشيه. فألقى زِمامَ الرَّاحلة إلى الظّعينة، ثم خَرج وهو يقول:
خَلِّ سبيلَ الحُرّة المنيعة ... إنك لاقٍ دونها رَبيعه
في كَفّه خَطِّيَّة مطيعه ... أَوْلا فخُدْها طعنةً سَريعه
والطَّعنُ منّي في الوغَى شريعه
ثم حَمل عليه فصرعه. فلما أبطأ على دُريد بعث فارساً لينظر ما صنعا. فلما انتهى إليهما وجدهما صريعَيْن، ونظر إليه يقود ظعينته ويجُر رُمْحه. فقال له الفارس: خل عن الظعينة. فقال للظَّعينة: أقصِدي قصدَ البيُوت، ثمِ أقبل عليه فقال:
ماذا تُريد من شَتيم عابس ... ألم تَر الفارس بعد الفارِس
أَرْداهما عاملُ رُمح يابس
ثم حَمل عليه فصرعه وانكسر رُمحه. وارتاب دُريد فظنّ أنهم قد أخذوا الظّعينة وقَتلوا الرجل. فلحق دريد ربيعةَ، وقد دَنا من الحيّ، ووجد أصحابَه قد قتلوا، فقال: أيها الفارس، إنّ مِثْلك لا يُقتل، ولا أرى معك رُمحك والخيلُ ثائرةٌ بأصحابها، فدونَك هذا الرُّمحَ فإني مُنصرف إلى أصحابي ومُثبِّطهم عنك. فانصرف إلى أصحابه، فقال: إنّ فارس الظَّعينة قد حَماها وقَتل أصحابكم وأنتزع رُمحي، ولا مَطْمع لكم فيه. فانصرف القومُ. فقال دُريد في ذلك:
ما إن رأيتُ ولا سَمِعتُ بمثله ... حامِي الظّعينة فارساً لم يُقتل
أردَى فوارسَ لم يكونوا نُهْزةّ ... ثم استمرّ كأنه لم يَفْعل
مُتهلِّلاً تَبدو أَسِرَّة وجهه ... مثل الْحسام جَلَتْه كفُّ الصَيْقل
يُزْجِي ظَعينَته ويَسْحب رُمْحه ... مُتوجهاً يمنَاه نحو المَنزل
وتَرى الفوارسَ من مَهابة رُمحه ... مثلَ البُغاث خَشِين وَقْع الأجْدل
يا ليتَ شعْري مَن أبوه وأمّه ... يا صاح مَن يَكُ مثلَه لا يجهل
وقال ابنُ مُكَدَم:
إن كان يَنفعكِ اليقينُ فسائلِي ... عنِّي الظعينةَ يومَ وادي الأخْرم
إذ هِي لأوَّل مَن أتاها نُهبة ... لولا طعانُ رَبيعة بنِ مُكَدَّم
إذ قال لي أدنى الفوارس منهم ... خَلِّ الظعينَةَ طائعاً لا تَنْدَم
فصرفتُ راحلة الظَّعينة نحوَه ... عمداً ليعلَم بعضَ ما لم يَعلم
وهتكت بالرُّمح الطَّويل إهابه ... فَهَوى صريعاً لليَدين وللفَمَ
ومَنحت آخرَ بعدَه جَيَّاشةً ... نَجْلاء فاغرةً كشِدْقِ الأضجَم
ولقد شفعتُهما بآخَر ثالثٍ ... وأبى الفِرارَ عن العُداة تَكرُّمي
ثم لم يَلبث بنو كنانة أن أغاروا على بني جُشم، فقتلوا، وأسروا دريدَ بن الصِّمة، فأخفى نَسبه. فبينما هو عندهم مَحبوس إذ جاءت نِسوة يتهادَيْن إليه

فصاحت إحداهنّ فقالت: هلكتم وأهلكتم! ماذا جَرّ علينا قومنا؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رُمحه يوم الظعينة، ثم ألقت عليه ثَوبها، وقالت: يا آل فراس، أنا جارةٌ له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه: من هو؟ فقال: أنا دُريد ابن الصَمة، فمَن صاحبي؟ قالوا: رَبيعة بن مُكدَم. قال: فما فَعل؟ قالوا: قتلتْه بنو سليم. قال: فما فعلتْ الظّعينة؟ قالت المرأة: أنا هي، وأنا امرأته. فحَبسه القومُ وأتمروا أنفسهم، فقال بعضُهم: لا ينبغي لدُريد أن تُكفر نعمتُه على صاحبنا، وقال الآخرون: لا والله لا يَخرج من أيدينا إلا برضا المُخارق الذي أسره. فانبعثت المرأة في الليل. وهي رَبطة بنت جِذْل الطِّعان، فقالت:
سنَجزى دُريداً عن ربيعة نِعمةً ... وكُل امرئ يجزى بما كان قَدَّمَا
فإن كان خيراً كان خيراً جزاؤه ... وإن كان شرًا كان شراً مُذَمما
سنَجزيه نُعمَى لم تكن بصَغيرةٍ ... بإهدائه الرُّمح الطَّويل المقوما
فلا تَكّفروه حَقّ نُعماه فيكُم ... ولا تركبوا تلك التي تَمْلأ الفَما
فإنْ كان حَياً لم يَضِق بثَوابه ... ذِراعاً غَنِياً كان أو كان مُعْدِما
ففُكّوا دُريداً من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسىَ إلى الشرّ سلَما
فلما أصبحوا أطلقوه. فكستْه وجَهَّزته ولحق بقومه. فلم يَزل كافا عن حَرب بني فراس حتى هلك.

يوم الصلعاء
لهوازن على غطفان
فلما كان في العام المُقبل غزاهم دُريد بن الصَمة بالصَّلعاء، فخرجت إليه. غطفان. فقال دُريد لصاحبه: ما ترى؟ قال: أرى خيلاً عليها رجال كأنهم الصَبيان، أسِنتها عند آذان خَيلها. قال: هذه فَزارة. ثم قالت: انظُر ما ترى؟ قال: أرى قوماً كأن عليهم ثياباً غُمست في الجادي. قال: هذه أشجع. ثم قال: انظر ما ترى؟ قال: أرى قوماً يَهزّون رماحَهم سوداً يخدُون الأرضَ بأقدامهم. قال: هذه عَبْس، أتاكم الموت الزُّؤام، فاثبتُوا. فالتقوا بالصّلعاء، فكان الظَّفر لهوازن على غَطفان، وقَتل دُريدٌ ذُؤَابَ بن أسماء بن زيد بن قَارِب.
حرب قيس وكنانة
يوم الكديد
لسليم على كنانة
فيه قتل ربيعة بنُ مُكَدَّم فارسُ كنانة. وهو من بني فِراس بنِ غنْم بن مالك بن كِنانة، وهم أنجد العرب، كان الرجل منهم يُعدل بعشرة من غيرهم، وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة: وددتُ والله أنّ لي بجَميعكم، وأنتم مائةُ ألف، ثَلثَمائةٍ من بني فراس بن غنم. وكان ربيعة بن مُكَدَم يعقَر على قبره في الجاهليَّة، ولم يُعقر على قبر أحد غيره، ومر به حسانُ بن ثابت. وقتلته بنو سُليم يوم الكَدِيد. ولم يحضُر يوم الكَدِيد أحد من بني الشريد.
يوم برزة
لكنانة على سليم
قال أبو عُبيدة: لما قَتلت بنو سُليم ربيعَة بن مُكدم فارسَ كنانة ورجعوا، أقاموا ما شاء الله. ثم إن ذا التاج مالكَ بن خالد بن صَخر بن الشّريد - واسم الشريد عمرو، وكانت بنو سُليم قد توجوا مالكاً وأمَروه عليهم - غزا بني كنانة، فأغار على بني فِراس ببَرْزة، ورئيسُ بني فِراس عبدُ الله بن جِذْل. فدعا عبدُ الله إلى البِراز، فبرز إليه هندُ بن خالد بن صَخْر بن الشرًيد، فقال له عبدُ اللّه: مَن أنت؟ قال: أنا هِندُ بن خالد بن صَخر. فقال عبدُ الله: أخوك أسن منك، يُريد مالكَ بن خالد. فَرجع فأحضر أخاه، فبَرز له، فجعل عبدُ الله ابن جِذلَ يرتحز ويقول:
ادْنُ بني قِرْف القِمَعْ ... إنّي إذا الموتُ كَنَعْ
لا أستغيثُ بالجَزَعْ
ثم شَدّ على مالك بن خالد فقتله فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر، فشد عليه عبد الله بن جِذل فقتله أيضاً. فشدّ عليه أخوهما عمرو بنُ خالد بن صَخْر بن الشَّريد، فتخالفا طَعْنتين، فجرح كُلُّ واحد منهما صاحبَه وتحاجزا. وكان عمرو قد نهى أخاه مالكاً عن غَزو بني فِراس، فعصاه وانصرف للغَزْو عنهم. فقال عبدُ الله بن جذل:
تجنبتُ هِنداً رغبةً عن قتاله ... إِلى مالكٍ أَعْشُو إلى ضَوْء مالِك
فأيقنت أنّي ثائرُ ابن مُكَدَّم ... غَداتئذ أو هالك في الهَوالك
فأنفذتُه بالرُّمح حينَ طَعنتُه ... مُعانقةً ليست بطَعْنة باتِك

وأثنى لكُرز في الغبار بطَعْنة ... عَلَتْ جِلْدَه منها بأحمَر عاتك
قتلنا سُليماً غَثَّها وسَمِينها ... فصبراً سُليماً قد صَبرنا لذلك
فإن تك نِسواني بَكَين فقد بَكت ... كما قد بَكَتْ أمٌّ لكُرز ومالك
وقال عبد الله بنْ جِذل أيضاً:
قَتلنا مالكاً فبَكَوْا عليه ... وهل يُغْني مِن الجَزع البُكاء؟
وكُرْزاً قد تَركناه صريعاً ... تَسيل علَى تَرائبه الدِّماء
فإنْ تَجزع لذاك بنو سُلَيمفقدوأبيهم غُلب العَزاء
فصبراً يا سُليم كما صَبرنا ... وما فِيكم لواحدنا كِفاء
فلا تَبْعد ربيعةُ من نَديم ... أخو الهُلاك إن ذُمّ الشِّتاء
وكم مِن غارة ورَعِيل خَيْل ... تَدَاركها وقد حَمِس اللِّقاء

يوم الفيفاء
لسليم على كنانة
قال أبو عُبيدة: ثم إنّ بني الشّريد حَرَّموا على أنفسهم النِّساء والدُّهن، حتى يُدركوا بثأرهم من بني كِنانة. فغزا عمرو بن خالد بن صَخر بنِ الشرّيد بقومه حتى أغار على بني فِراس، فقَتل منهم نَفراً: منهم عاصم بن المُعلَى، ونَضلة والمُعارِك، وعمرو بن مالك، وحِصْن، وشُريح، وسَبى سَبْيا فيهم ابنة مُكَدّم، أخت ربيعة بن مُكَدّم. فقال عبَّاس بن مِرْداس في ذلك يرُدّ على ابن جِذْل في كلمته التي قالها يومَ بَرْزة:
ألا أَبلغَا عَنّي ابن جِذْل ورهْطَه ... فكيف طَلبناكمُ بِكُرْزٍ ومالِك
غداةَ فَجَعْناكم بحِصن وبابنه ... وبابن المُعلَّى عاصمٍ والمعارك
ثمانية منهم ثَأرناهُم به ... جميعاً وما كانوا بَواءً بمالك
نُذيقكم، والموتُ يَبني سرُادقاً ... عليكم، شَبا حدِّ السّيوف البواتك
تَلُوح بأيدينا كما لاح بارق ... تلألأ في داجٍ من اللَّيل حالك
صَبحناكم العُوجَ العَناجيج بالضُّحى ... تَمُر بنا مَرِّ الرِّياح السواهك
إذا خرجت من هَبْوة بعد هَبْوة ... سَمت نحو ملتف من الموت شائكِ
وقال هندُ بن خالد بن صخر بن الشَريد:
قتلتُ بمالك عمراً وحِصْناً ... وخَلّيت القَتام على الخُدودِ
وكُرزاً قد أًبأتُ به شُريحاً ... على أَثر الفوارس بالكَديد
جَريناهم بما انتكهوا وزِدْنا ... عليه ما وَجدنا من مَزِيد
جَلَبنا من جَنوب الفَرْد جُرْداً ... كطَيْر الماء غَلّس للوُرود
قال: فلما ذكر هندُ بن خالد يوم الكَدِيد، وافتخر به ولم يشهده أحدٌ من بني الشريد، غضب من ذلك نُبيشة بن حَبيب، فأنشأ يقول:
تُبخل صُنْعَنا في كُل يوم ... كمَخْضوب البَنان ولا تَصِيد
وتأكل ما يَعاف الكلبُ منه ... وتَزعم أن والدَك الشريد
أبى لي أن أقِر الضيمَ قيس ... وصاحبُه المَزُور به الكَديد
حرب قيس وتميم
يوم السُّوبان
لبني عامر على بني تميم
قال أبو عُبيدة: أغارت بنو عامر علي بني تميم وضَبْة فاقتتلوا. ورئيس ضَبَة حسّان بن وَبرة، وهو أخو النعمان لأمه، فأسره يزيد الصعِق، وانهزمت تميم. فلما رأى ذلك عامرُ بن مالِكِ بن جَعفر حَسده، فشذ على ضرِارَ بن عمرو الضبي، وهو الردِيم. فقال لابنه أدْهم: أغْنِه عني. فشد عليه فطَعنه. فتحوّل عن سرَجه إلى جَنب أبدائه. ثم لَحقه، فقال لأحد بَنيه أغنه عني، فَفَعل مثل ذلك. ثم لَحقه، فقال لابن له آخر: أغنه عني، ففعل مثل ذلك، فقال: ما هذا إلا مُلاعب الأسنة، فسُمَى عامرٌ من يومئذ ملاعبَ الأسنة. فلما دنا منه قال له ضِرار: إني لأعلم ما تريد، أتُريد اللبن؟ قال: نعم. إنك لن تَصل إلي ومِن هؤلاء عينٌ تَطرف، كلهم بني. قال له عامر: فأحلني على غيرك. فدلّه على حُبيش بن الدُّلف وقال: عليك بذلك الفارس. فشدّ عليه فأسره. فلما رأى سوادَه وقِصَره جعل يتفكّر. وخاف ابن الدُلف أن يقتله، فقال: ألست تُريد اللبن؟ قال: بَلى. قال: فأنا لك به. وفادى حسان بن وَبرة نفسَه من يزيد بن الصّعق على عَصافيرالنعمان بذي لِيان، وذو ليان، عن يمين القَرْيتين.

يوم أقرن
لبني عبس على بني دارم
غزا عمرو بن عُدَس من دارم، وهو فارس بن مالك بن حَنظلة، فأغار على بني عَبْس وأخذ إبلا وشاء، ثم أقبل، حتى إذا كان أسفَل من ثَنية أقْرُن نزل فابتَنى بجارية من السبْي. ولحقه الطلب، فاقتتلوا. فقتَل أنسُ الفوارس بنُ زياد العَبْسي عَمراً، وانهزمت بنو مالك بن حَنظلة. وقتلت بنو عبس أيضاً حَنظلةَ بن عمرو - وقال بعضُهم: قُتل في غير هذا اليوم - وارتدوا ما كان في أيدي بني مالك. فنعى ذلك جريرٌ على بني دارم فقال:
هل تَذكُرون لَدَى ثنية أقْرُن ... أنسَ الفَوارس حين يَهْوي الأسلع
وكان عمرو أسلعَ، أي أبرص، وكان لسَمَاعة بن عمرو خال من بني عَبس، فزاره يوماً فقَتله بأبيه عمرو.
يوم المروت
لبني الغير على بني قشير
أغار بَحيِر بن سَلْمة بن قُشير على بني العَنبر بن عمرو بن تميم، فأتى الصريخُ بني عمرو بن تميم، فاتبعوه حتى لحقوه، وقد نزل المَرُّوت، وهو يَقسم المِرْباع ويُعطى مَن معه. فتلاَحق القومُ واقتتلوا. فطعَن قعْنبُ بن عتّاب الهيثَم بن عامر القُشيري فصرعه فأسره، وحَمل الكدَام، وهو يزيد بن أزهر المازني على بحير بن سَلمة فطعنه فأرداه عن فرسه، ثم نزل إليه فأسره. فأبصره قَعنب بن عتاب، فحمل عليه بالسيَّف فضربه فقتله. فانهزم بنو عامر وقُتل رجالهم. فقال يزيدُ بن الصَعِق يرثي بَحيرا:
أواردةٌ عليّ بني رِياح ... بفَخْرهُم وقد قتلوا بَحيرَا
فأجابته العَوْراء، من بني سَليط بن يَربوع:
قَعيدَك يا يزيدُ أبا قُبيس ... أَتُنذر كي تُلاقينا النّذورَا
وتُوضِع تُخبرالرُّكبان أنّا ... وُجدنا في مراس الحَرب خُورا
ألم تعلم قعيدَك يا يزيد ... بأنا نَقَمع الشَّيخَ الفَخُورا
ونفقأ ناظِرَيه ولا نُبالي ... ونَجعل فوق هامَتِه الذَّرورا
فأبلغ إن عَرضت بني كلاب ... بأنا نحن أَقعَصْنا بَحيرا
وضرَّجنا عُبيدة بالعَوالي ... فأَصبح مُوثَقاً فِينا أَسِيرا
أفخراً في الخلاء بغير فَخْرٍ ... وعند الحَرب خَواراً ضَجُورا
يوم دارة مأسل
لتميم على قيس
غزا عُتبة بن شُتَير بن خالد الكِلابيّ بني ضَبّة فاستاق نَعَمهم، وقَتل حُصيْن ابن ضِرار الضَّبي، أبا زَيد الفوارس، فجمع أبوه ضرار قومَه وخرج ثائراً بابنِهِ حُصين، وزيد الفوارس، يومئذ حَدَث لم يُدرك، فأغار على بني عمرو بن كِلاب، فأفلت منه عُتبةُ بن شُتير بن خالد، وأسر أباه شُتير بن خالد، وكان شيخاً أعور. فأتى به قومه، فقال: إما أن ترُدّ ابني حُصينا. قال: فإني لا أَنشر الموتى. قال: وإما أن تدفع إليّ ابنك عُتبة أقتله به. قال: لا تَرضى بذلك بنو عامر أن يدفعوا فارسَهم شاباً مُقتبَلاً بشَيخ أعورَ هامة اليوم أو غد. قال: وإما أن أقتلك. قال: أمّا هذه فنعم. قال: فأمر ضِرارٌ ابنَه أدهم أن يَقتله، فلما قَدّمه ليضربَ عُنقه نادى شُتير: يا آل عامر، صَبْراً، بصبيّ. كأنه أنِف أن يُقتل بصبيّ. فقال في ذلك شمعلة في كلمة له طويلة:
وخيَرْنا شُتيراً في ثلاثٍ ... وما كان الثلاثُ له خيارَا
جعلتُ السيفَ بين اللِّيث منه ... وبين قِصاص لمَّته عِذَارا
وقال الفرزدق يَفخر بأيام ضبّة:
ومَغبوقة قبل القِيان كأنّها ... جَرادٌ إذا أجلى عن القَزع الفجر
عوابسُ ما تَنفكُّ تحت بطونها ... سَرابيلُ أبطال بنائُقها حُمْر
تَركْن ابنَ ذي الجَدَّين يَنْشِج مُسْندا ... وليس له إلا ألاءته قَبر
وهُنّ على خَذَي شتير بن خالد ... أثير عَجاج من سنَابكها كُدْر
إذا سُوّمت للبأس يَغْشى ظُهورَها ... أسودٌ عليها البِيض عادتها الهَصْر
يَهزّون أرماحاً طِوالا مُتونُها ... يهن الغِنى يومَ الكَريهة والفَقْر
أيام بكر على تميم
يوم الوقيط

قال فراسُ بن خِنْدف: تجمَّعت اللهازُم لتُغير على تَميم وهم غارُّون، فرأى لك ناشب الأعور بن بَشامة العَنبري، وهو أسير في بني سَعد بن مالك ابن ضُبيعة بن قيسِ بن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رسولاً أرسله إلى بني العَنبر أوصيهم بصاحبكم خيراً، ليولوه مثلَ الذي تولوني من البر به والإحسان إليه. وكان حَنظلة بن الطُّفيل المَرثدي أسيراً في بني العَنبر. فقالوا له: على أن تُوصيه ونحن حضُور. قال نعم. فأتوه بغلام لهم. فقال: لقد أتيتموني بأحمقَ وما أراه مُبلِّغاً عني. قال الغلام: لا والله ما أنا بأحمَق، وقل ما ئشت فإني مُبلَغه. فملأ الأعورُ كفه من الرمل، فقال: كم هذا الذي في كفِّي من الرمل؟ قال الغلام: شيء لا يُحصى كَثرة، ثم أومأ إلي الشمس، وقال: ما تلك؟ قال: هي الشمس. قال: فاذهب إلى قومي فابلغهم عني التحيةَ وقُل لهم يُحسنوا إلى أسيرهم وُيكْرموه، فإني عند قوم مُحسنين إلي مُكرمين لي، وقل لهم يَقْروا جمل الأحمر، ويَرْكبوا ناقتي العَيْساء، بآية أكلت معهم حَيْساً، وَيرْعوا حاجتي في أبيني مالك. وأخبرهم أنِّ العوسج قد أَوْرق، وأنّ النِّساء قد اشتكت. ولْيعصوا هَمَّام بن بَشَامة، فإنه مَشْئوم مَحدود، وُيطيعوا هُذَيل بن الأخْنس، فإنه حازم مَيمون. قال: فأتاهم الرسول فأبلغهم. فقال بنو عمرو بن تميم: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جنّ الأعورُ بعدنا، فواللهّ ما نعرف له ناقةً عَيْساء، ولا جملاً أحمر. فشخص الرسولُ، ثم ناداهم هُذيل: يا بني العنبر، قد بَين لكم صاحبُكم: أما الرمل الذي قبض عليه، فإنه يُخبركم أنه أتاكم عددٌ لا يُحصى؟ وأما الشمس التي أومأ إليها، فإنه يقول: إن ذلك أوضحُ من الشَّمس؟ وأما جَمله الأحمر، فإنه هو الصَمَّان يأمركم أن تُعْروه؟ وأما ناقتهُ العَيساء، فهي الدَّهناء يأمركم أن تَحْترزوا فيها، وأما أبْناء مالك، فإنه يأمركم أن تنذروا بني مالك بن حنظلة ابن مالك بن زَيد مناة ما حَذركم وأن تُمسكوا الحِلْف بينكم وبينهم، وأما العَوْسج الذي أورق، فيُخبركم أنّ القوم قد لَبسوا السلاح؛ وأما تشكيَ النساء، فيُخبركم بأنهن قد عَمِلنَ شِكاءً يغزون به. قال: وقوله بآية ما أكلت معكم حَيساً، يريد أحلاطاً من الناس قد غزوكم. فتحرَّزت عمرو فركبتَ الدَهناء، وَأنذروا بني مالك، فقالوا: لسنا ندري ما يقول بنو عمرو ولسنا متحوِّلين لِمَا قال صاحبُكم: قال فصبّحتِ اللهازمُ بني حنظلة، فوجدوا بني عمرو قد أجلت، وإنما أرادوهم على الوَقيط، وعلى الجَيش أبجر بِن جابر العِجْليّ. وشهدها ناسٌ مع تيم اللات، وشهدها الفِزْر بن الأسود بن شريد، من بني سِنان. فاقتَتلوا، فأسر ضِرارُ بن القَعقاع بن مَعبد بن زُرارة، وتَنازع في أسره بِشرُ بن العوراء، من تيم اللات، والفِزْر بن الأسود، فجزّا ناصيتَه وخَليّا سربه من تحت الليل. وأسر عمرو بن قيس، من بني ربيعة، عَثْجَلَ بن المأموم بن شَيبان بن عَلقمة، من بني زُرارة، ومَنَ عليه. وأسرت غَمامةُ بنت طوق بن عُبيد بن زُرارة، واشترك في أسِرها الحَطيم بن هلال، وظربان بن زياد، وقيس بن خالد. ورَدُوها إلى أهلها. وعَير جريرٌ الخَطفي بني دارم بأسْر ضِرارِ وعَثْجل وغَمامة، فقال:
أغَمام لو شَهد الوقيطَ فوارسي ... ما قِيد يقتل عَثجل وضِرَارُ
وأسر حنظلةُ بن المأمون بن شيبان بن عَلقمة، أسره طَيْسلة بن زِياد، أحد بني ربيعة. وأسر جُويرية بن بَدر، من بني عبد الله بن دارم، فلم يزل في الوثاق حتى قال أبياتاً يَمدح فيها بني عِجل، وأنشأ يتغنّى بها رافعاً عقيرته:
وقائلةٍ ما غالَه أن يَزُورها ... وقد كنتُ عن تلك الزَيارة في شُغل
وقد أدركتْني والحوادثُ جَمةٌ ... مَخالبُ قوم لا ضِعافٍ ولا عُزْل
سِراع إلى الدّاعَي بِطاء عن الخَنَا ... رزانٍ لدى النّادي مِن غير ما جَهْل
لعلهُم أن يمَطروني بنعمية ... كما طاب ماءُ المُزن في البلَد المَحْل
فقد يُنعش الله الفتى بعد عسرة ... وقد يَبتدي الحُسنَى سَراةُ بني عِجْل

فلما سَمعوه أطلقوه. وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وعمرو ابن ناشب، وأسر سنان بن عمرو، أخو بني سلامة بن كِندة، من بني دارم، وأسر حاضر بن ضَمرة، وأسر الهيثم بن صَعصعة، وهَرب عوفُ بن القَعقاع عن إخوته، وقُتل حكيم النّهشلي، وذلك أنه لم يَزل يُقَاتل وَهو يَرتجز ويقول:
كُل امرئ مُصبَّح في أهله ... والموتُ أدنى مِن شِراكَ نَعْلِهِ
وفيه يقول عَنترة الفوارس:
وغادَرْنا حكيماً في مَجال ... صَريعاً قد سَلَبناه الإزارَا
يوم النِّباج وثَيْتل

لتميم على بكر
الخُشنيّ قال: أخبرنا أبو غَسّان العَبْديّ - واسمه رفيع - عن أبي عُبيدة مَعمر بن المُثنى قال: غدا قيس بن عاصم في مُقاعس، وهو رئيس عليها - ومُقاعس هم: صُريم، ورَبيع، وعُبيد، بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زَيدَ مناة ابن تَميم - ومعه سَلاَمة بن ظرِب بن نَمِر الحَمّاني في الأجارب، وهم حِمّان، وربيعة. ومالك، والأعرج، بنو كعب بن سَعد بن زيد مناة بن تميم. فغَزوا بكر بن وائل. فوجدوا بني ذهل بن ثَعلبة بن عُكابة واللَّهازم - وهم قَيس وتيم اللتَ، ابنا ثَعلبة، وعِجْل بن لُجيم، وعَنَزة بن أسد بن ربيعة - بالنِّباج وثَيْتل، وبينهما رَوْحة. فتنازع قيسُ بن عاصم وسَلامة بن ظَرِب في الإغارة ثم اتفقا على أن يُغير قَيس على أهل النِّباج، ويُعير سلاَمة على أهل الثَيتل. قال: فبعث قيسُ بن عاصم سنانَ بنَ سُمَي، الأهتم شيِّفَةً له - والشَّيفة: الطَّليعة - فأتاه الخبرُ. فلما أصبح قيسُ سقى خَيله، ثم أطلق أَفواه الرَّوايا، وقال لقومه: قاتلوا فإن الموت بين أيديكم، والفلاةَ مِن ورائكم. فلما دنوا من القوم صُبحاً سمعوا ساقياً من بكر يقول لصاحبه: يا قيس، أَوْرد. فتفاءلوا به. فأغاروا على النِّباج قبل الصُبح، فقاتلوهم قتالاً شديداً. ثم إن بكر انهزمت وأَسر الأهتمُ حُمْرانَ بن بِشر بن عمرو بن مَرْثد، وأصابوا غنائم كثيرة. فقال قيس لأصحابه لا مُقام دون الثَّيتل، فالنجاء النجاء. فأبوا. ولم يُغِر سَلاَمة ولا أَصحابه بعد على من بثَيْتَل فأغار عليهم قيس بن عاصِم، فقاتلوه ثم انهزموا. فأصاب إبلاً كثيرة. فقال سلامة: إنكم أعرتُم على ما كان أمره إليّ. فتلاحَوْا في ذلك. ثم اتفقوا على أن سَلّموا إليه غنائم ثَيتل. ففي ذلك يقول ربيعة بن ظَرِيف:
فلا يُبعِدَنْك الله قيسَ بن عاصم ... فأنتَ لنا عِزٌّ عزيز وَمَوْئل
وأنت الذي حَرَّبْت بكر بنَ وائل ... وقد عَضَّلَتْ منها النِّباجُ وثَيتل
غداة دَعت يا آل شَيبان إذ رأت ... كراديس يَهْدِيهنّ وَرْد مُحجّل
وظَلّت عُقاب الموت تَهْفو عليهم ... وشُعثُ النواصي لجمهنّ تُصَلصل
فما منكُم أبناءَ بكر بن وائل ... لغارتِنا إلا رَكوبُ مُذلّل
وقال جرير يصف ما كان من إطلاق قَيس بن عاصم أفواه المَزاد بقوله:
وفي يوم الكُلاب ويوم قَيْسٍ ... هَرَق على مُسلّحةَ المَزادَ
وقال قُرة بن قَيس بن عاصم:
أنا ابنُ الذي شَقَّ المَزاد وقد رَأى ... بثيتل أَحياء اللَهازم حُضَّرَا
وصَبَّحهم بالجيش قيسُ بن عاصم ... فلم يَجدُوا إلا الأسنة مَصدَرا
على الجُرد يَعَلُكْن الشكِيم عَوابساً ... إذا الماءُ من أعطافهنَ تَحذَرا
فلم يَرها الراءون إلا فُجاءةً ... يُثرنَ عَجاجاً بالسنابك أكْدرا
سَقاهم بها الذِّيفانَ قيسُ بن عاصم ... وكان إذا ما أوْردَ الأمرَ أصْدرا
وحُمران أدته إلينا رِماحُنا ... فنازَع غُلا مِن ذِرَاعيه أسمَرا
وجَشَامة الذُهلي قُدْناه عَنْوةً ... إلى الحيّ مَصْفود اليدَيْن مُفكِّرا
يوم زرود
لبني يربوع على بني تغلب

أغار خُزيمة بنِ طارق التغلبي على بني يَرْبوع، وهم يزَرود، فنَذِروا به فالتقَوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزِمت بنو تَغلب. وأسر خزٍيمة بن طارق، أسره أنيف بن جبلة الضبيّ، وهو فارس الشَيط، وكان يومئذٍ مُعتلاً في بني يربوع، وأسيدُ بن حِناءة السّليطي، فتنازعا فيه، فحَكما بينهما الحارث بن قُراد، وأم الحارث امرأة من بني سَعد بن ضَبّة، فحكم بناصية خزيمة لأنيف بن جَبله، على أنّ لأسيد على أنيف مائةً من الإبل. قال: ففدا خزيمةَ نفسَه بمائتي بعير وفَرِس. وقال أنيف:
أخذتُك قَسراً يا خُزَيمَ بنَ طارقٍ ... ولاقيت منِّي الموتَ يوم زَرُود
وعانقتُه والخيلُ تَدْمَى نُحُورُها ... فأنزلتُه بالقاع غيرَ حَميد

أيام يربوع على بكر
وهذه أيام كُلها لبني يربوع على بني بكر، من ذلك: يوم ذي طُلوح، وهو يوم أوْد، ويوم الحائِر، ويوم مَلْهَم، ويوم القُحْقُح، وهو يوم مالة، ويوم رأس عَين، ويوم طِخْفة. ويوم الغَبِيط، ويوم مُخطط، ويوم جَدُود، ويوم الْجِبايات ويوم زَرود الثاني.
يوم ذي طلوح
لبني يَربوع على بكر
كان عَمِيرة بن طارق بن خصينة بن أرِيم بن عبيد بن ثَعلبة تَزوَّج مُرية بنت جابر، أخت أبجر بن جابر العِجْليّ، فَخَرج حتى ابتنى بها في بني عِجْل. فأتى أبجرُ أختَه مُرَيّة، امرأة عَميرة يزورها، فقال لها: إني لا أرجو أنْ آتيك ببنت النَطِف امرأة عَميرة التي في قومها. فقال له عَميرة: أترضى أن تُحاربني وتَسْبيني؟ فَندِم أبجر، وقال لعَميرة: ما كنتُ لأغزو قومك. ثم غزا أبجر والحَوْفزان مُتساندين. هذا فيمن تَبعه من بني شَيبان، وهذا فيمن تَبعه من بني اللَّهازم، وساروا بعَميرة. معهم، قد وكّل به أبجرُ أخاه حُرْفصة بن جابر. فقال له عمَيرة: لو رجعْتُ إلى أهلي فاحتملتُهم؟ فقال حُرْفصة: افعل. فكرّ عَميرة على ناقته، ثم نكل عن الجَيش، فسار يومين وليلة حتى أتى بني يربوع فأنذرهم الجيش. فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذي طُلوح. فأوِّل ما كان فارس طَلع عليهم عَمِيرة، فنادى: يا أبجر، هَلُم. فقال: مَن أنت؟ قال: أنا عَميرة. فكذّبه، فسَفر عن وجهه، فعرفه فأقبل إليه. والتقت الخيلُ بالخيل. فأسر الجيشُ إلا أقلِّهم، وأسر حَنظلةُ بن بشر بنِ عمرو بن عدس بن زَيد بن عبد الله ابن دارمَ. وكان في بني يَربوع الحوفزانَ بنِ شريك، وأخذه معه مُكَبّلا. واخذ ابن طارِق سَوادَةَ بن يزيد بن بجير بن غنْم، عم أبجر وأخذ ابن عَنَمة الضِّبي الشاعر، وكان مع بني شيبان، فافتكه مُتمم بن نوبرة. فقال ابن عَنَمة يَمدح مُتمَم بن نُوبرة:
جَزى الله ربَ الناس عنّي مُتمَماً ... بخَير جزاء ما أعف وأمْجدَا
أجيرتْ به آباؤنا وبنَاتُنا ... وشَاركَ في إطلاقنا وتَفرَّدا
أبا نَهْشل إني لكم غيرُ كافرٍ ... ولا جاعلٌ من دونك المالَ مُؤصدا
وأسر سُويد بن الحَوفزان، وأسر أسود وفَلْحس، وهما من بني سَعد بن هَمّام. فقال جرير في ذلك يذكر يوم ذي طُلوح:
ولمّا لَقِيتا خيلَ أبجرَ يَدّعي ... بدَعْوى لُجيم غير مِيل العوَاتِقِ
صبَرنا وكان الصبر منّا سَجِيّةً ... بأسيافنا تحت الظِّلال الخَوافق
فلما رَأوا أن لا هوادةَ عِنْدنا ... دَعَوْا بعد كَربٍ يا عَمِيرَ بن طارق
يوم الحائر
وهو يوم مَلْهَم.
لبني يربوع على بكر

وذلك أن أبا مُليلِ عبد الله بن الحارث بن عاصم بن حُميد وعَلْقمة أخاه، انطلقا يطلبان إبلاً لهما حتى وردا مَلهم، من أرض اليمامة. فخرج عليهما نَفر من بني يَشْكر، فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل. فكان عندَهم ما شاء الله، ثم خلّوا سبيلَه وأخذوا عليه عهداً وميثاقاً أن لا يُخبر بأمر أخيه أحداً. فأتى قومَه فسألوه عن أمر أخيه فلم يخبرهم. فقال وَبَرة بن حمزة: هذا رجل قد أخذ عليه عَهد وميثاق. فخرجوا يَقُصّون أثرَه، ورئيسُهم شِهاب بن عبد القيس، حتى وردوا مَلْهم. فلما رآهم أهل مَلْهم تحصنوا. فحرقت بنو يَربوع بعضَ زرعهم وَعقروا بعضَ نَخلهم. فلما رأى ذلك القوم نزلوا إليهم فقاتلوهم، فهُزمت بنو يشكر، وقُتل عمرو بن صابر صَبْراً، ضَربوا عُنقه، وقَتل عُتَيبة بن الحارث بن شهاب مُثَلّم بن عبيد بن عمرو، رجلاً آخر منهم، وقتل مالكُ بن نويرة حُمرانَ بن عبد الله، وقال:
طَلبنا بيوم مثل يومك عَلْقمَا ... لَعمري لمَن يَسعى بها كان أَكرَما
قَتلنا بجَنْب اَلعِرْض عمرَو بن صابر ... وحُمْران أَقْصدناهما والمُثلَّما
فللّه عَيناً مَن رأى مثلَ خَيْلنا ... وما أدركت من خَيلهم يوم مَلهما

يوم القحقح
وهو يوم مالة. لبني يربوع على بني بكر
أغارت بنو أبي ربيعة بن ذُهل بن شَيبان على بني يربوع، ورئيسهم المَجَبَّةُ ابن أبي ربيعة بن ذُهل، فأخذوا إبلاً لعاصم بن قُرط، أحد بن عُبيد، وانطلقوا. فطلبهم بنو يربوع فناوشوهم، فكانت الدائرة على بني أبي ربيعة. وقَتل المِنْهالُ بن عِصْمة المَجَبّة بن أبن ربيعة. فقال في ذلك ابن نِمْران الرّياحيّ:
وإذا لقيتَ القومَ فاطعَن فيهم ... يومَ اللِّقاء كطَعنة المِنْهالِ
تَرك المَجَبَّةَ للضِّباع مُنكَّساً ... والقومُ بين سَوافلٍ وعَوالي
يوم رأس العين
لبني يربوع على بكر
أغارت طوائفُ من بني يربوع على بني أبي رَبيعة برأس العَيْن، فاطردوا النَعم. فاتبعهم مُعاوية بنِ فِراس في بني أبي ربيعة فأدركوهم، فقُتل معاويةُ ابن فِرَاس وفاتوا بالإبل. وقال سحُيم في ذلك:
أليس الأكرمون بنو رِياحٍ ... نَمَوْني منهمُ عَمِّي وخالي
همُ قَتلوا المَجَبَّة وابنَ تَيم ... تَنوح عليهما سُود اللَّيالي
وهُم قَتلوا عَميد بني فِراس ... برأس العَين في الحِجَج الخَوالي
وذاد يومَ طِخْفة عن حِماهم ... ذِيادَ غَرائبِ الإبل النَهال
يوم العظالي
لبني يربوع على بكر
قال أبو عُبيدة: وهو يوم أعشاش، ويوم الأفاقة، ويوم الإياد، ويوم مُليحة.

قال: وكانت بكر بن وائل تحت يدِ كسرى وفارس، وكانوا يُجيرونهم ويُجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عَين التَمر في ثلاثمائة فارس مُتساندين يتوقعون انحدار بني يربوع في الحَزن، وكانوا يَشْتُون خُفافاً، فإذا انقَطع الشتاء انحدروا إلى الحَزْن. قال: فاحتمل بنو عُتيبَة وبنو عُبيد وبنو زُبيد، من بني سَليط، من أول الحيّ حتى أَسْهلوا ببطن مُليحة، فطَلعت بنو زُبيد في الحَزن حتى حَلّوا الحُدَيقة والأفاقة، وحلت بنو عُتيبة وبنو عُبيد بعَين بروضة الثّمَد. قال: وأقبل الجيشُ حتى نزلوا هَضْبة الخَصيّ، ثم بَعثوا رئيسَهم. فصادفوا غلاماً شاباً من بني عُبيد، يقال له: قُرط بن أَضبط، فعرفه بِسْطام، وقد كان عرف عامة غلمان بني ثَعلبة حين أسره عُتيبة - قال: وقال سَلِيط: بل هو المُطَوًح بن قِرواش - فقال له بسطام: أخبرني ما ذاك السواد الذي أرى بالحُديقة؟ قال: همٍ بنو زُبيد. قال: أفيهم أَسِيد بن حِنَاءة؟ قال: نعم، كم هُم؟ قال: خمسون بيتاً، قال: فأين بنو عتيبة وأين بنو أَزْنم؟ قال: نَزَلوا رَوْضة الثمَد. قال: فأين سائر الناس؟ قال: هم مُحتجزون بخُفاف. قال: فمن هُناك من بني عاصم؟ قال: الأحيمر، وقَعنب: ومَعْدان، ابنا عِصْمة. قال: فمن فيهم من بني الحارث بن عاصم؟ قال: حُصَين ابن عبد اللهّ. فقال بِسطام لقومه: أَطيعوني تَقْبضوا على هذا الحيّ من بني زُبيد وتُصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يُغني عنا زُبيد، لا يَردون رِحْلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغَنيمتين. فقال له مفْروق: انتفخ سَحْرك يا أبا الصَهباء. وقال له هانئ: أَجُبْناً! فقال لهم: ويلكم، إن أَسيداً لم يُظِله بيت قطُّ شاتياً ولا قائِظاً، إنما بيته القفر، فإذا أحسَ بكم أحال على الشقراء فَركض حتى يُشرف على مليحة، فينادي: يا ليربوع، فتركب؟ فيلقاكم طَعن يُنسيكم الغنيمة، ولا يبصر أحدُكم مصرعَ صاحبه، وقد جَبّنْتُموني، وأنا أتابعكم، وقد أَخبرتُكم ما أنتم لاقون غداً. فقالوا: نَلتقط بني زُبيد ثم نَلتقط بني عُبيد وبني عُتيبة، كما تلتقط الكَمْأة، ونبعث فارسين فيكونان بطريقِ أَسيد فيحولان بينه وبين يَرْبوع، ففعلوا. فلما أحسّ بهم أَسيد رَكِب الشّقراء، ثم خرج نحو بني يَربوع. فابتدره الفارسان، فطعن أحدَهما، فألقى نفسه في شِق فأخطاه، ثم كَر راجعاً حتى أشرف على مُليحة، فنادى: يا صباحاه، ياليربوع، غُشِيتم. فتلاحقت الخَيلُ حتى توافوا بالعُظَالي، فاقتتلوِا، فكانت الدائرة على بنى بكر، قُتل منهم: مَفروق بن عمرو، فدُفن بثَنيّة يقال لها ثِنية مَفْروق، والمقاعس الشَيباني، وزُهير بن الحزوَر الشَيباني، وعمور بن الحَزَور الشيباني، والهَيْش بن المِقعاس، وعُمير بن الوَدّاك؟ والضريس. وأمّا بِسْطام، فألح عليه فارسان من بني يَربوع، وكان دارعاً على ذات النُّسوع، وكانتا إذا أَجدَت لم يتعلّق بها شيء من خيلهم، وإذا أَوعثت كادوا يَلْحقونها، فلما رأى ثِقل دِرْعة وَضعها بين يديه على القَربُوس وكَرِه أن يَرْمي بها، وخاف أن يُلحق في الوَعث، فلم يزل ديدَنُه وديدنُ طالبيه حتى حَمِيت الشمسُ وخاف اللِّحاق، فمرّ بو جار ضَبُع، فرمى الدِّرع فيه، فمدَّ بعضها بعضاً حتى غابت في الوِجار. فلمّا خفف عن الفرس نَشِطت ففاتت الطَّلب، وكان أخر مَن أتى قومَه، وكان قد رَجع إلى دِرعه لمَّا رجع عنه القومُ فأخذها. فقال العوَّام بن شَوْذب الشيباني في بِسْطام وأصحابه:
إنْ يك في يوم الغَبِيط مَلامَة ... فيومُ العُظالي كان أَخزَى وأَلْوما
أناخُوا يريدون الصَّباح فصَبَّحوا ... وكانوا على الغازين دَعْوة أَشْأَما
فررتُم ولم تُلووا على مُجْحِريكم ... لو الحارث الحَرّاب يدْعى لأَقْدَما
ولو أنّ بِسْطاماً أُطيع لأمره ... لأدّى إلى الأحياء بالحِنْو مَغْنما
ففرّ أبو الصهباء إذ حَمِى الوَغى ... وألقَى بأَبدان السِّلاح وسَلّما
وأَيقن أنَّ الخيلَ إنْ تَلْتبس به ... يَعُد غانماً أو يَملأ البيت مأتما
ولو أنها عُصفورة لحسبها ... مُسوَّمة تدعو عُبَيْداً وأَزْنَما

أبَى لك قَيد بالغِبِيط لقاءهم ... ويومُ العُظالي إن فخرِتَ مُكلَّما
فأفلتَ بسطام جَريضاً بنَفسه ... وغادَر في كَرْشاء لَدْناً مُقوَّما
وفاظ أسيراً هانئ وكأنّما ... مَفارِقُ مَفْروقِ تَغشَّين عَنْدَما
قال: ثم إن هانئاً فَدَى نفسَه وأَسرى قومِه، فقال العوًّام في ذلك:
إنِّ الفَتى هانئاً لاقَى يشكّته ... ولم يَخم عن قِتال القوم إذ نَزَلا
ثمت سارَع في الأَسْرى فَفكَّهُم ... حامِىَ الذّمار حقيق بالذي فَعلا

يوم الغبيط
لبني يربوع على بني بكر
قال أبو عُبيدة: يقال لهذا اليوم: يوم الغبيط ويوم الثَّعالب. والثعالب: أسماء قبائل اجتمعت فيه، ويقال له يوم صَحْراء فَلْج، وقال أبو عُبيدة: حدَّثني سَليط بن سَعْد وزَبَّان الصُّبيري وجَهْم بن حسان السَلِيطيّ، قالوا: غزا بِسْطام بن قَيس، ومَفْروق بن عَمرو، والحارث بن شَريك، وهو الحَوفْزان، بلادَ بني تميم - وهذا اليومُ قبلَ يوم العُظالي - فأغاروا على بني ثَعلبة بن يَرْبوع، وثعلبة بن سَعد بن ضبة، وثعلبة بن عديّ بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذُبيان. فلذلك قيل له يوم الثَّعالب، وكان هؤلاء جميعاً مُتجاورين بصَحراء فَلج، فاقتتلوا، فانهزمت الثعالبُ فأصابوا فيهم واستاقوا إبلاً من نَعمهم. ولم يَشهد عُتيبةُ بن الحارث بن شهاب هذه الوَقْعَة، لأنه كان نازلاً يومئذ في بني مالك بن حَنظلة، ثم امتَرُّوا على بني مالك، وهم بين صحراء فَلج وبين الغَبِيط، فاكتسحوا إبلَهم. فركبتْ عليهم بنو مالك، فيهم عتيبة بن الحارث بن شِهاب ومعه فَرسان من بني يَربوع تَأثّفهُم - أي صاروا لهم مثل الأثافي للرَماد - وتألّف إليهم الأحيمر بن عَبد اللّه، والأسيد بن حِنَّاءةَ، وأبو مَرْحب، وجَزْء ابن سعد الرِّياحي، وهو رئيس بني يَربوع، وربيع والحلَيس وعُمارة، بنو عُتيبة ابن الحارث، ومَعْدان وعِصْمة، ابنا قعنب، ومالك بن نُويرة، والمِنْهال بن عِصْمة، أحد بني رِياح بن يَربوع، وهو الذي يقول فيه مُتمَم بن نويرة في شعره الذي يَرثي فيه مالكاً أخاه:
لقد غَيّب المنهالُ تحت لِوائه ... فتى غير مِبْطان العَشِيِّة أَرْوعَا
فأدركوهم بغَبيط المَدَرة، فقاتلوهم حتى هَزَموهم، وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم. وألحّ عُتيبة وأَسيد والأحيمر على بسطام. فلحقه عُتيبة، فقال: أَسْتَأَسِرْ لي يا أبا الصَهباء. فقال: ومَن، أنت؟ قال: أنا عُتيبة، وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش. فأسره عُتيبة، ونادى القومُ بِجَادَا، أخا بسطام: كُرَّ على أخيك، وهم يرجون أنْ يأْسروه. فناداه بِسْطام: إن كَرَرت فأنا حَنيف وكان بِسْطام نَصْرانيَّاً، فلحق بِجَاد بقومه. فلم يزل بسطام عند عُتيبة حتى فادى نَفْسه.
قال أبو عُبيدة: فزعم أبو عمرو بن العلاء أنه فَدى نَفسَه بِأربعمائة بَعير وثلاثين فرساً - ولم يكن عَرِبيُ عكاظي أعلى. فداءً منه - على أنْ جَزَ ناصيته وعاهده أنْ لا يَغْزو بني شِهاب أبداً. فقال عُتيبة بن الحارث بني شِهاب:
أبْلغ سَرِاة بني شَيْبان مالُكةً ... أَنَي أبأتُ بعبد الله بِسْطاما
قاظ الشَرَبَّة في قَيْد وسِلْسلة ... صوت الحديد يُغنِّيه إذا قاما
يوم مخطط
لبني يربوع على بكر
قال أبو عُبيدة غزا بِسْطام بن قيس والحَوْفزان، وهو الحارث، مُتساندين يقودان بكر بن وائل حتى وَردوا على بني يَرْبوع بالفِردَوْس، وهو بَطْن لإياد، وبينه وبين مُخطّط ليلة، وقد نذرتْ بهم ينو يَربوع، فالتقوا بالمُخطّط فاقتتلوا. فانهزمت بكرُ بن وائل وهَربَ الحَوفزان وبِسطام ففاتا رَكْضاً. وقُتل شريكُ ابن الحوفزان، قَتله شِهابُ بن الحارث أخو عُتيبة، وأسر الأحيمرُ بن عبد الله ابن الضُّريس الشَيباني. فقال في ذلك مالكُ بن نويرة، ولم يَشهد هذا اليوم:
إلا أكُن لاقيتُ يومَ مخطّط ... فقد خبَر الرُّكبان ما أَتودّدُ
بأفناء حَيّ مِن قبائل مالك ... وعَمرو بن يَربوع أقاموا فأَخْلدوا
فقال الرئيسُ الحَوفزان تَبَينوا ... بني الحِصْن قد شارفتُم ثم حَردوا

فما فَتِئوا حتى رَأَوْنا كأنّنا ... مع الصُبح آذي من البَحر مُزيد
بمَلْمومة شَهْباء يُبرق جالُها ... ترى الشمس فيها حين دَارتْ تَوَقد
فما برحوا حتَى عَلَتْهم كتائب ... إذا طُعنت فرسانُها لا تُعَرد
فأقررت عيني يومَ ظلُوا كأنهم ... ببَطْن الغَبيط خُشْبُ أَثْل مُسند
صَريعٌ عليه الطير ُيَحْجِل فوقَه ... وآخرُ مَكبُول اليَدين مُقَيد
وكان لهم في أَهْلهم ونسائهم ... مبيت ولم يَدْرُوا بما يحدث الغَد
وقد كان لابن الحَوفزان لو انتهى ... شَريكٌ وبِسطام عن الشر مَقْعد

يوم جدود
غزا الحوفزان، وهو الحارث بن شريك، فأغار على مَن بالقاعة من بني سَعد بن زَيد مناة، فأخذ نَعَماً كثيراً وسَبى فيهنّ الزَّرقاء، من بني ربيع بن الحارث، فأعجب بها وأعجبت به، وكانت خَرقاء، فلم يتَمالك أن وَقع بها. فلما انتهى إلى جَدود مَنعتهمّ بنو يربوع بن حَنظلة أن يَرِدُوا الماء، ورئيسُهم عُتيبة ابن الحارث بن شهاب، فقاتلوهم. فلم يكن لبني بكر بهم يد، فصالحوهم على أن يُعطوا بني يربوع بعضَ غنائمهم، على أن يُخلوهم يَردوا الماء، فقَبِلوا ذلك وأجازوهم. فبلغ ذلك بني سَعد، فقال قيسُ بن عاصم في ذلك:
جَزَى الله يَرْبوعاً بأسوأ سَعْيها ... إذا ذُكرت في النّائبات أمورُها
ويوم حَدُود قد فَضَحتم أباكمُ ... وسالمتُم والخيلُ تَدْمى نُحورُها
فأجابه مالك:
سأسألُ مَن لاقى فوارسَ مُنْقذٍ ... رِقابَ إماء كيف كان نَكِيرُها
ولما أتى الصريخ بني سعد رَكب قيسُ بن عاصم في إثر القوم حتى أدْركهم بالأشْيمَينْ، فألحّ قيسٌ على الحَوْفزان، وقد حمل الزرقاء. وكان الحَوْفزان قد خرج في طَليعة، فلقيه قيس بنُ عاصم فسأله: مَن هو؟ فقال: لا تَكاتُم اليوم، أنا الحَوْفزان، فمن أنت؟ قال: أنا أبو عليّ، ومَضى. ورجع الحوفزان إلى أصحابه، فقال: لقيتُ رجلاً أزرق كأنّ لِحْيته ضرَيبة صُوف، فقال: أنا أبو عليّ. فقالت عجوز من السّبي: بِأَبي أبو عليّ، ومَن لنا بأبي عليّ؟ فقال لها: ومن أبو عليّ؟ قالت: قَيس بنُ عاصم. فقال لأصحابه: النَّجاء، وأردف الزَّرقاء خلفه وهو على فرسه الزبِد، وعَقد شَعرها إلى صَدره ونجا بها. وكانت فرسُ قيس إذا أوْعثت قَصرَّت وتَمطَّر عليها الزَّبد. فلما أجدَّت لحقت بحيث تكلّم الحوفزان. فقال قيس له: يا أبا حِمار، أنا خير لك من الفلاة والعَطَش. قالت له الحوفزان: ما شاءت الزَّبِد. فلما رأى قيس أنِّ فرسه لا تَلحقه نادي الزرقاء، فقال: مِيلي به يا جَعار. فلما سَمِعه الحوفزان دَفعها بِمرفقه وجَزَّ قُرونها بسيفه. فلما ألقاها عن عَجز فرسه. وخاف قيس ألاّ يَلحقَه، فنَجله بالرُّمح في خُرابة وَركه، فلم يُقْصِده وعرّج عنها. وردّ قيس الزرقاء إلى بنِي الرّبيعِ. فقال سَوَّار بن حَيّان اْلمِنقريّ:
ونحن حَفرنا الحَوفزانَ بطَعْنةٍ ... تَمجّ نَجيعاً من دم الجَوف أشكلاَ
يوم سفوان
قال أبو عُبيدة: التقت بنو مازن وبنو شَيبان على ماء يقال له سَفَوَان، فزعمت بنو شَيبان أنه لهم، وأرادوا أن يُجْلوا تميَماً عنه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظهرتْ عليهم بنو تَميم وذادوهم حتى وردوا المُحْدَث، وكانوا يَتواعدون بني مازن قبلَ ذلك، فقال في ذلك وَدَّاك المازنِيّ:
رُوَيْداً بني شَيْبان بعض وَعيدكم ... تُلاقوا غداً خَيْلي على سَفَوَانِ
تُلاقُوا جِياداً تَحِيد عن الوَغَى ... إذا الخيلُ جالت في القَنا المُتداني
عَليها الكمِاة الغُرُّ من آل مازنٍ ... ليوث طِعان كلَّ يوم طِعان
تُلاقُوهمُ فَتعْرِفوا كيف صَيْرُهم ... على ما جَنت فِيهم يدُ الحَدَثان
مَقاديم وصّالون في الرَّوْع خَطْوَهم ... بكُل رَقِيق الشَّفْرتين يَمانِي
إذا استُنجدوا لم يَسألوا مَن دعاهم ... لأية حَرْب أم لأيّ مَكان
يوم السلي

قال أبو عُبيدة: كان من حديث يوم السليّ أن بني مازن أغارت على بني يَشكُر فأصابوا منهم، وشدّ زاهرُ بن عبد الله بن مالك على تيْم بن ثَعلبة اليَشْكري فقتله، فقال في ذلك:
للّهِ تَيم أيُّ رُمح طِرَادِ ... لاقَى الحِمَامَ وأي نَصْل جِلادِ
ومِحَشّ حَرْب مُقدم متعرض ... للموت غَير مُعرد حَياد
وقال حاجب بنَ ذُبْيان المازني:
سَلي يَشْكُراً عني وأبناء وائل ... لَهازِمَها طُرَأ وجَمْعَ الأراقم
ألم تَعلمي أنّا إذا الحربُ شمرت ... سِمَامُ على أعدائنا في الحَلاَقِم
عتاةٌ قُراةٌ في الشِّتاء مَساعِرٌ ... حُماةُ كماةٌ كالليوث الضَراغم
بأيديهُم سُمْرٌ من الخَطّ لَدْنةٌ ... وبيضٌ تُجَلَى عن فِراخ الجَماجم
أولئك قوْمٌ إن فخرتُ بعزهم ... فخرتُ بعزّ في اللَهى والغَلاصم
هُمُ أنزلوا يومَ السلي عزيزَها ... بسُمْر العَوالِي والسُيوف الصَوارم

يوم نقا الحسن
وهو يوم السَّقيفة - لبني ضبة علي بني شيبان
قال أبو عُبيدة: غزا بسطامُ بن مَسعود بن قيس بن خالد، وقيسُ بن مسعود، وهو ذو الجدَين، وأخوه السليلُ بن قيس بن ضَبة بن أد ابن طابخة، فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتَفق فيها فَحْلُها قد فَقأ عينَه، وفي الإبل مالكُ بن المُنتفق. فركب فرساً له ونجا رَكْضاً، حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه. فركبتْ بنو ضبة، وتداعت بنو تميم، فتلاحقوا بالنقا. فقال عاصمُ بن خَليفة لرجل من فُرسان قومه: أيهم رئيس القوم؟ قال: حاميتهم صاحبُ الفرس الأدهم - يعني بِسْطاماً - فعلا عاصمٌ عليه بالرمح، فعارضه، حتى إذا كان بحذائه رَمى بالقوس وجمعَ يَديه في رُمحه فطَعنه، فلم تخطئ صِماخَ أذنه، حتى خرج الرمحُ من الناحية الأخرى، وخَر على الألاءة - والألاءة: شجرة - فلما رأى ذلك بنو شَيبان خلُوا سبيل بن مَسعود، أخا بِسطام، في سِبعين من بني شَيبان. فقال ابنُ عَنَمة الضبي: وهو مجاور يومئذ في بني شَيبان، يرثي بسطاماً، وخاف أن يقتلوه، فقال:
لأمَ الأرْض ويلٌ ما أجنَتْ ... بحيثُ أضَرَ بالحَسَن السَّبيل
يقسِّم مالَه فينا ويَدْعو ... أبا الصَّهباء إذ جَنح الأصيل
كأنكِ لم تَرَيْه ولن نراه ... تَخب به عُذَافِرةٌ ذَمُول
حَقِيبة رَحْلها بَدنٌ وسَرْج ... تُعَارِضها مُرببة دَءُول
إلى مِيعادِ أرعنَ مُكفهر ... تُضمَر في جوانبه الخُيول
لكَ المِرْباع منها والصَّفَايا ... وحُكْمُك والنَشيطةُ والفُضول
لقد ضَمِنت بنو زيد بن عمرو ... ولا يُوفِي ببسطام قَتِيل
فخر على الآلاءة لم يوسد ... كأن جَبينه سيفٌ صَقِيل
فإن تَجزع عليه بنو أبيه ... فقد فُجعوا وحل بهم جليل
بمِطْعام إذا الأشوالُ راحت ... إلى الحَجَرات ليس لها فَصيل
وقال شَمعلة بن الأخضر بن هُبيرة:
ويم شقائق الحَسَنَيْن لاقتْ ... بنو شَيبان آجالاً قِصارا
شَكَكْنا بالرِّماح وهُن زُور ... صِمَاخي كَبْشهم حتى استدارا
وأَوْجزناه أسمرَ ذا كُعوب ... يُشبّه طولُه مَسداً مُغَارا
وقال مُحرز بن المُكَعبر الضَّبي:
أطلقت من شَيبان سبعينَ راكباً ... فآبوا جميعاً كلّهم ليس يَشْكُر
إذا كنتَ في أَفْناء شَيبان مُنعِماً ... فجُزّ اللِّحى إنّ النّواصيَ تَكْفُر
فلا شُكرَهم أَبغِي إذا كنتُ مُنعِماً ... ولا وُدَّهم في آخر الدَّهر أُضْمِر
أيام بكر على تميم
يوم الزُّويرين

قال أبو عُبيدة: كانت بكر بن وائل تَنتجِع أرضَ تميم في الجاهليَّة تَرعى بها إذا أجدبوا. فإذا أرادوا الرُّجوع لم يَدعوا عورة يُصيبونها ولا شيئاً يَظفرون به إلا اكتسحوه. فقالت بنو تميم: امنعوا هؤلاء القوم من رَعْي أرضكم وما يأتون إليكِم. فَحُشدت تميم وحُشدت بكر واجتمعت، فلم يتخلّف منهم إلاّ الحَوافزان ابن شريك في أناس من بني ذُهل بن شَيبان، وكان غازياً. فقدّمتْ بكرُ عليهم عَمراً الأصمّ أبا مَفْروق - قال: وهو عمرو بن قيس بن مَسعود، أبو عمرو ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان - فحسد سائرُ ربيعة الأصمّ على الرِّياسة، فأتوه فقالوا: يا أبا مَفْروق، إنا قد زَحفنا لتميم وزَحفوا لنا أكثرَ ما كنا وكانوا قطُّ. قالت: فما تريدون؟ قالوا: نُريد أن نجعل كُل حيّ على حَياله ونَجعل عليهم رجلاً منهم فَنعْرفَ غناء كل قبيلة، فإنه أشدُ لاجتهاد الناس. قال: والله إني لأبغض الخلافَ عليكم، ولكن يأتي مَفْروق فينظر فيما قلتم. فلما جاء مَفروق شاوره أبوه - وذلك أول يوم ذُكر فيه مَفروق بن عمرو - فقال له مفروق: ليس هذا أرادوا، وإنما أرادوا أن يَخْدعوك عن رأيك وحَسدوك على رِياستك، والله لئن لقيتَ القومَ فظفرتَ لا يزال الفضلُ لنا بذلك أبداً، ولئن ظُفِر بك لا تزال لنا رياسة نُعرف بها. فقال الأصم: يا قوم، قد استشرتُ مَفروقاً فرأيتُه مخالِفاً لكم، ولستُ مخالفاً رأيه وما أشار به. فأقبلتْ تميم بجمَلين مجللَين مقرونين مُقيَّدين وقالوا: لا نُولي حتى يُولّي هذان الجملان، وهما الرُّوَيْران. فأَخبرت بكر بقولهم الأصم. وأنا زُوَيركم، إن حَشُّوهما فحُشوني، وإن عقروهما فاعقِروني. قال: والتقى القومُ فاقتتلوا قتالاً شديداً. قال: وأَسرت بنو تميم حَرَّاث بن مالك، أخا مُرة بن هَمام، فركَض به رجل منهم وقد أردَفه، وأتبعه ابنُه قتادة بن حَرَّاث حتى لحق الفارسَ الذي أسر أباه، فطَعنه فأراده عن فرسه واستنقذ أباه. ثم استحرّ بين الفريقين القتالُ، فانهزمت بنو تميم، فقُتل مِنهم مَقتلة عظيمة، فممن قُتل قُتل منهم: أبو الرئيس النَّهشلي. وأخذت بكر الزّويرين، أخذتهما بنو سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة؟ فنحروا أحدَهما فأكلوه واقتحلوا الآخر، وكان نَجِيباً، فقال رجل من بني سَدوس:
يا سَلْم إن تَسْألي عنّا فلا كُشُفٌ ... عنا اللِّقاء ولسنا بالمَقارِيفِ
نحن الذين هَزَمْنا يوم صبَّحنا ... جيشَ الزُّوَيْرين في جَمع الأَحاليف
ظلُوا وظَلْنا نَكُرّ الخيلَ وَسْطَهمُ ... بالشِّيب منّا وبالمُرْد الغَطاريف
وقال الأغلب بن جُشَم العِجْليّ:
جاءوا بزويْرهم وجِئنا بالأصمَّ ... شَيخ لنا قد كان من عهد إرم
فكر بالسيف الرُّمح انحطم ... كهِمَّةَ اللَيث إذا ما الليثُ هَمّ
كانت تميمُ معشراً ذوي كَرَم ... مُخلِصة من الغَلاصم العظم
قد نَفخوا لو يَنفُخون في فَحَمْ ... وصَبروا لو صبروا على أمَمْ
إذ ركبتْ ضَبة أعجازَ النَّعم ... فلم تَدَع ساقاً لها ولا قَدَم
يوم الشَّيِّطين

لبكر على تميم
قال أبو عُبيدة: لما ظَهر الإسلامُ، قبل أن يُسلم أهلُ نجد والعراق، سارت بكر بن وائل إلى السوِاد، وقالت: نغير على تميم بالشيطين، فإن في دِين ابن عبد المطلب إنه مَن قَتل نفساً قُتل بها. فنُغير هذا العام، ثم نُسلم عليها. فارتحلوا مِن لَعلع بالذّراري والأموال، فأتوا الشّيطين في أَربع، وبينهما مسيرةً ثمان أميال، فسَبقوا كُلّ خبر حتى صبَّحوهم وهم ولا يشعرون، ورئيسُهمٍ يومئذ بشرُ بن مَسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجَدّين، فقَتلوا بني تميم قتلاً ذريعاً وأخذوا أموالَهم. واستحرّ القتلُ في بني العَنبر وبني ضَبَّة وبني يَربوع، دون بني مالك بن حَنظلة.
قال أبو عُبيدة: حَدَّثنا أو الحَمناء العَنبريّ، قال: قُتل من بني تميم يوم الشَيطين ولعلع ستمُّائة رجل. قال: فوفد وفدُ بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ادع الله على بكر بن وائل. فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فقال رُشيد بن رُمَيْض العنبريّ:
وما كان بين الشَّيِّطين ولَعْلع لِنسْوتنا ... إلا مراجِعُ أربُع

فجئْنا بجَمْع لم يرَ الناسُ مثلَه ... يكاد له ظَهْر الوريعة يَظْلَع
بِأَرعن دَهْم تُنْشَد البلقُ وَسْطَه ... له عارضٌ فيه الأسنةُ تَلمع
صَبحنا به سعداً وعَمراً ومالكاً ... فكان لهم يومٌ من الشرّ أشنع
فخلّوا لنا صَحْن العِراق فإنّه ... حَمِىً منهم لا يستطاع مُمنع
يوم صَعْفُوق

لبكر على تميم
أغارت بنو أبي ربيعة على بني سَليط بن يَرْبوع يوم صَعْفوق فأصابوا منهم أَسرى. فأتى طريفُ بن تميم العَنبري فروةَ بن مَسعود، وهو يومئذ سيدُ بني أبي ربيعة، ففدَى منهم أَسرى بني سَليط ورَهنهم ابنه. فأبطأ عليهم، فقَتلوا ابنَه، فقال:
لا تَأْمننّ سُلَيمى أنْ أُفارقَها ... صرمى الظعائن بعد اليوم صَعْفوق
أعطيت أعداءه طوعاً برُمته ... ثم انصرفتُ وظنّي غير مَوْثوقِ
يوم مبايض
لبكر على تميم
قال أبو عُبيدة: كانت الفُرسان إذا كانت أيامُ عُكاظ في الشهر الحرام وأَمن بعضهم بعضاً تقنّعوا كيلا يُعرفوا، وكان طَريف بن تميم العَنْبري لا يتقنع كما يتَقنِّعون، فوافى عُكاظَ وقد كشفت بكر بن وائل، وكان طريفُ قد قتل شَراحيل الشَيباني، أحد بني عمرو بن أبي ربيعة بن ذُهل بن شيبان. فقال حَصِيصه: أروني طريفاً. فأروه إياه. فجعل كُلّما مرّ به تأمَله ونَظر إليه ففَطِن طَريف، فقال: مالك تنظر إليِّ؟ فقال: أتوسّمك لأعرفك. فلله علي إن لَقِيتُك أن أقتلكَ أو تَقْتلني. فقال طريف في ذلك:
أَوَ كُلما وردتْ عُكاظَ قَبيلةٌ ... بَعثوا إلي عريفَهم يتوسَّم
فتوسموني إنّني أنا ذلكم ... شاكِي سلاحي في الحوادث مُعْلَم
تحتي الأغر وفوق جِلْدي نَثْرةٌ ... زَغف تَردُ السيفَ وهو مُثَلّم
حولي أُسَيِّدُ والهجيم ومازنٌ ... وإذا حللتُ فحولَ بيتيَ خَضَم
قال: فمضى لذلك ما شاء الله. ثم إنّ بني عائذة، حُلفاء بني أبي ربيعة بن ذهل بن أبي شيبان. وهم يزعمون أنهم من قريش، وأن عائذة ابنُ لُؤي بن غالب - خرج منهم رجلان يَصِيدان فعَرض لهما رجل من بني شَيبان فذَعر عليهما صيدَهما، فوثبا عليه فقتلاه. فثارت بنو مُرّة بن ذهل بن شَيبان يريدون قَتلهما. فأبت بنو أبي ربيعة عليهم ذلك. فقال هانئ بن مَسعود: يا بني أبي ربيعة، إن إخوتَكم قد أرادوا ظُلمكم، فانمازوا عنهم. قال: ففارقوهم وساروا حتى نَزلوا بمُبايض ماء، - ومُبايض: عَلَم من وراء الدهناء - فأَبق عبدٌ لرجل من بني أبي، ربيعة فسار إلى بلاد تَميم، فأخبرهم أنّ حيَاً جديداً من بني بكر بن وائل نُزول على مُبايض، وهم بنو أبي ربيعة، أو الحيّ الجديد المُنتقى من قومه. فقال طَريف العَنبريّ: هؤلاء ثأرى يا آل تَميم، إنما هم أَكَلة رأس. وأقبلَ في بني عمرو بن تميم، وأقبل معه أبو الجَدْعاء، أحد بني طُهيَّة، وجاءَه فَدكيُّ بن أَعْبد المِنْقري في جَمْع من بني سعد بن زيد مَناة، فنَذِرت بهم بنو أبي ربيعة، فانحاز بهم هانئ بن مَسعود، وهو رئيسهم، إلى عَلَم مُبايض، فأقاموا عليه. وشرَّقوا بالأموال والسرح، وصَبّحتهم بنو تميم. فقال لهم طَريف: أطيعوني وافرغُوا من هؤلاء الأكلب يَصْفُ لكم ما وراءهم. فقال له أبو الجدعاء رئيس بني حَنظلة، وفدكيّ رئيسُ سعد بن زيد مناة: أُنُقاتل أكْلباً أحرزوا نفوسهم ونترك أموالهم ما هذا برأي، وأبوا عليه. فقال هانئ لأصحابه: لا يُقاتل رجل منكم. ولحقت تميم بالنَّعم والبغال، فأغاروا عليها. فلمّا ملئوا أيديهم منِ الغَنيمة، قال هانئ بن مسعود لأصحابه: احمِلوا عليهم. فهزموهم وقتلوهم طَريفاً العَنبري، قتله حَمصيصَة الشَّيباني، وقال:
ولقد دعوتُ طريف دعوةَ جاهل ... سَفَهاً وأنت بعَلم قد تَعلُم
وأتيتُ حيَّاً في الحُروب محلَّهمَ ... والجيشُ باسم أبيهم يستقدم
فوجدتُ قوماً يَمنعون ذِمارهم ... بُسْلاً إذا هاب الفوارسُ أَقْدموا
وإذا دُعُوا أبني رَبيعة شَمَّروا ... بكتائب دون السَّماء تُلَمْلم

حَشَدوا عليك وعَجلوا بِقراهمُ ... وحَمَوْا ذِمار أبيهم أنْ يُشْتموا
سَلبوك دِرْعك والأغرّ كليهما ... وبنو أُسيّد أَسْلموك وخَضَّم

يوم فيحان
لبكر على تميم
قال أبو عُبيدة: لما فَدى نفسه بسْطامُ بن قَيس من عُتيبة بن الحارث، إذ أُسر يوم الغَبيط، بأربعمائة بعير، قال: قال: لأدركنّ عَقْل إبلي. فأغار بفيحان فأخذ الربيعَ بن عُتَيبة وأستاق مالَه. فلمّا سار يومين شُغل عن الربيع بالشراب، وقد مال الربيع على قدِّه حتى لان، ثم خَلعه وانحلّ منه، ثم جال في مَتن ذات النُّسوع - فرس بِسطام - وهرب. فركبوا في إثره، فلمّا يَئسوا منه ناداه بِسطام يا ربيع، هُلمّ طليقاً، فأبَى. قال: وأبوه في نادِي قومه يُحدثهم، فجعل يقول في أثناء. حديثه: إيهاً يا ربيع، أنجُ يا ربيعَ، وكان معه رَئِيِّ. قال: وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بني يَربوع، فإذا هو براع، فاستسقاه، وضربت الفرس برأسها فماتت، فسمى ذلك المكان إلى اليوم: هَبِير الفرس. فقال له أبوه عُتَيبة: أمّا إذ نجوت بنفسك فإني مخلف لك مالَك.
يوم ذي قار الأول
لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: فخرج عتَيبة في نحو خمسةَ عشر فارساً من بني يربوع، فكمن في حِمى ذي قار حتى مَرت إبل بني الحُصين بالفَداوّية، اسم ماء لهم، فصاحوا بمن فيها من الحامية والرِّعاء، ثم استاقوها. فأخلف للرِبيع ما ذهب له، وقال:
ألم تَرني أفأتُ على رَبيعٍ ... جِلاداً في مَباركها وخُورَا
وأني قد تركتُ بني حُصين ... بذي قارٍ يَرِمُّون الأمورا
يوم الحاجر
بكر على تميم
قال أبو عبيدة: خرج وائل بن صُريم اليَشكريّ من اليمامة، فلقيه بنو أُسيِّد ابن عمرو بن تميم فأخذوه أسيراً، فجعلوا يَغْمسونه في الركيَّة ويقولون:
يأيها الماتحُ دَلْوى دُونكما
حتى قتلوِه. فغزاهم أخوه باعث بن صُريم يوم حاجر، فأخذ ثُمامة بنِ باعث ابن صُريم رجلاً من بني أسيِّد، كان وجيهاً فيهم، فقتله وقتل على بَطنه مائةَ منهم. فقال باعثُ بن صُريم:
سائلْ أسَيِّد هل ثأرتُ بوائل ... أم هل شَفيتُ النفسَ من بَلبالها
إذ أرسلوني ماتحاً لدِلائهم ... فملأتُها عَلَقاً إلى أَسْبالها
إنّ الذي سَمك السماء مكانَها ... والبدرَ ليلةَ نِصْفها وهِلالِها
آليت أنقُف منهُم ذا لحْية ... أبداً فَتَنْظُر عينُه في مالِها
وقال:
سائل أسيّد هل ثأرتُ بوائل ... أم هل أتيتهمُ بأمرٍ مُبْرَم
إذ أرسلوني ماتحاً لِدلائهم ... فملأتهنّ إلى العَراقي بالدمِ
يوم الشِّقِيق
لبكر على تميم
قال أبو عُبيدة: أغار أَبجر بن جابر العِجلْي على بني مالك بن حَنظلة، فسَبى سُلَيْمى بنت مِحْصَن، فولدت له أَبجرِ. ففي ذلك يقول أبو النَجم:
ولقد كررتُ على طُهية كَرَّةَ ... حتى طرقت نساءها بمَساء
حرب البسوس
وهي حرب بكر وتغلب، ابني وائل
ٍ
أبو المُنذر هشام بن محمد بن السائب قال: لم تَجتمع مَعد كلها إلاّ على ثلاثة رَهط من رؤساء العرب، وهم: عامر وربيعة وكُليب.
فالأول: عامر بن الظَّرب بن عمرِو بن بكر بن يَشكر بن الحارث، وهو عَدْوان بن عمرو بن قيس بن عَيلان، وهو النَاس بن مُضر. وعامر بن الظرب هو قائد معد يوم البَيداء، حين تَمَذْحجت مَذْحج، وسارت إلى تِهامه، وهي أول وَقْعة كانت بين تهامة واليمن.

والثاني: ربيعة بن الحارث بن مُرة بن زهير بن جُشم بن بكر بن حُبَيب ابن كعب، وهو قائد معدّ يوم السُّلان، وهو يوم كان بين أهل تهامة واليمن. والثالث: كُليب بن ربيعة، وهو الذي يُقال فيه: أعزّ من كليب وائل. وقاد معدَاً كلها يوم خَزار، ففصّ جُموع اليمن، وهَزمهم. فاجتمعت عليه معدّ كُلها، وجعلوا له قسمِ الملك، وتاجَه وتحيّته وطاعته. فغَبر بذلك حيناً من دهره، ثم دخله زهوٌ شديد، وبغى على قومه لما هو فيه من عِزّة وانقياد معدّ له، حتى بلغ من بَغيه أنه كان يَحمي مواقع السحاب، فلا يُرعى حِماه، ويُجير على الدَهر فلا تُحفر ذمّته، ويقول: وَحش أرض كذا في جواري فلا يُهاج، ولا تورد إبلُ أحدٍ مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، حتى قالت العرب: أعزُّ من كليب وائل. وكانت بنو جُشم وبنو شَيبان في دار واحدة بتِهامة، وكان كُليب بن وائل قد تزوّج جَليلة بنت مُرة بن ذُهل بن شَيبان، وأخوها جَسّاس ابن مُرة. وكانت البَسوس بنت مُنقذ التميميّة خالةَ جساس بن مُرة، وكانت نازلةً في بني شَيبان مجاورةً لجسّاس، وكانت لها ناقة يقال لها سَراب، ولها تقول العرب: أشأم من سَراب، وأشأم من البَسوس فمرّت إبل لكُليب بسَراب، ناقة البسوس، وهي مَعقولة بفناء بيتها في جوار جَسَّاس بن مُرة. فلمّا رأت سرابُ الإبلَ نازعت عِقالَها حتى قطعتْه، وتَبعت الإبل واختلطت بها حتى اْنتهت إلى كُليب، وهو على الحَوض معه قوسٌ وكنانة. فلمّا رآها أنكرها، فانتزع لها سهماً، فخَرم ضَرعها، فنفرت الناقة وهي تَرْغو. فلما رأتها البسوس قَذفت خِمارَها عن رأسها وصاحت: واذُلاّه! واجاراه! وخرجت.
فأحمست جسّاساً. فركب فرساً له مُعْرَوريةً، فأخذ آلته، وتَبعه عمرو ابن الحارث بن ذُهل بن شَيبان على فرسه ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحِمَى، فقال له: أيا أبا الماجدة، عمدتَ إلى ناقة جارتي فعقرتها. فقال له: أتُراك ما نِعي إن أذُبّ عن حِماي؟ فأحمسه الغضبُ، فطَعنه جسَّاس فقَصم صُلبه، وطعنه عمرو بن الحارث من خلفه فقطع بَطنه، فوقع كُليب وهو يَفْحص برجله، وقال لجساس: أغِثْنى بشربة من ماء. فقال: هيهات، تجاوزت شبَيثَاً والأحَصّ. ففي ذلك يقول عمرو بن الأهْتم:
وإنّ كُليباً كان يَظلم قومَه ... فأدركه مثلُ الذي تَريانِ
فلما حَشاه الرمحَكفُّ اْبن عمّه ... تذكّر ظُلم الأهل أيّ أوان
وقال لجسّاسٍ أَغِثْني بشرَبة ... وإلا فخَبِّر مَن رأيتَ مكاني
فقال تجاوزتَ الأحصَّ وماءه ... وبَطن شُبيثٍ وهو غير دِفَان
وقال نابغة بني جَعدة:
أَبْلغ عِقالاً أنّ خُطة داحس ... بكَفَيك فاستأخر لها أو تَقَدّم
كليب لعمري كان أكثَر ناصرأً ... وأيسرَ ذَنباً منك ضُرِّج بالدَّم
رَمى ضَرْع ناب فاستمرّ بطَعْنة ... كحاشية البُرد اليَماني المُسهًم
وقال لجسّاسً أغثْني بشَرْبةٍ ... تَداركْ بها مَنَّا عليّ وأَنعِم
فقال تجاوزتَ الأحصّ وماءَه ... وبطن شُبيث وهو ذو مترسّم

فلما قُتل كُليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النِهى. وتشمّر المُهلهل أخو كليب، واسمه عُدِيّ بن ربيعة، وإنما قيل له المُهلهل لأنه أول مَن هَلهل الشعر، أي أرقّة، واستعد لحرب بكر، وترك النِّساء والغَزل، وحَرّم القِمار والشَراب، وجَمع إليه قومَه، فأرسل رجالاً منهم إلى بني شَيبان يُعذر إليهم فيما وَقع من الأمر. فأتوا مُرة بن ذهل بن شَيبان، وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيماً بقَتلكم كُليباً بناب من الإبل، فقطعتمِ الرحم، وانتهكتمِ الحُرمة، وإنا كرهنا العَجلة عليكم دون الإعذار إليكم. ونحن نعرض عليكمِ خِلالاً أربع لكم فيها مَخرج، ولنا مَقنع. فقال مرة: وما هي؟ قال له: تُحْي لنا كليباً، أو تدفع إلينا جَساساً قاتلَه فنقتله به، أو همّاماً فإنه كُفء له، أو تُمكننا من نفسك فإنّ فيك وفاءَ منِ دمه؟ فقال: أما إحيائي كُلَيباً فهذا ما لا يكون؟ وأمّا جَسّاس فإنه غلام طَعن طعنةَ على عَجَل ثم ركب فرسَه فلا أدري أيّ البلاد أحتوى عليه؛ وأمّا همّام فإنه أبو عَشرة وأخو عَشرة وعَمّ عشرة كُلهم فُرسان قومهم، فلن يُسلموه لي فأدفعه إلَيكم يُقتل بجرَيرة غيره، وأما أنا فهل هو إلاّ أنْ تَجول الخيلُ جولةً غداً فأكونَ أوّلَ قتيل بينها، فما أتعجَّل من الموت؟ ولكن لكم عندي خَصْلتان: أما إحداهما، فهؤلاء بنيّ الباقون فعلِّقوا في عُنق أيّهم شِئتم نِسْعة فانطلقوا به إلى رِحالكم فأذبحوه ذَبْح الجَزور، وإلا فأَلف ناقة سوداء المُقَل أقيمِ لكم بها كفيلاً من بني وائل. فغضب القومُ وقالوا: لقد أسأتَ، تُرْذل لنا ولدك وتسومنا اللبنَ من دم كُليب. ووقعت الحربُ بينهم.
ولحقت جليلةُ زوجةُ بأبيها وقومها. ودعت تغلب النمرَ بن قاسط فانضمّت إلى بني كُليب وصاروا يداً معهم على بكر، ولحقت بهم غُفَيلة ابن قاسط، واعتزلت قبائل بكر بن وائلِ وكَرِهوا مُجامعة بني شَيبان ومُساعدتهم على قتال إخوتهم، وأعظموا قتلَ جسّاس كُليباً رئيسهم بناب من الإبل. فظَعنت لجيم عنهم، وكفّت يَشْكر عن نُصرتهم، وأنقبض الحارث بن عُباد في أهل بيته. وهو أبو بُجير وفارس النَّعامة. وقال المُهلهل يرثي كُليباً:
بِت ليلي بالأنْعَمين طويلاً ... أرقب النجم سهراً أن يزولا
كيف أهَدَأ ولا يزال قَتيلٌ ... من بني وائل ينسي قتيلا
غَنِيت دارنا تهامة في الده ... ر وفيها بنو معد حلولا
فتساقَوْا كأساً أمرت عليهم ... بينهم بقتل العزيز الذليلا
فَصَبحْنا بني لُجيم بضَرب ... يترك الهم وقعه مفلولا
لم يُطيقوا أن يَنْزلوا ونزَلناً ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
انتضَوْا مَعْجِس القسي وأبْرق ... نا كما توعد الفحولا
قَتلوا ربَّهم كُلباً سَفاهاً ... ثم قالوا ما نخاف عويلا
كَذبوا والحرام والحِلِّ حتى ... نسلب الخدر بيضة المحجولا
ويموت الجَنين في عاطفِ الرح ... م ونروي رماحنا والخيولا
وقال أيضاً يَرثيه:
كُليبُ لا خيرَ في الدنيا ومَن فيها ... إذ أنت خليتها فيمن يخلبها
كُليب أيّ فتَى عزٍّ ومَكْرُمة ... تحت السّقائف إذ يعلوك سافيها
نَعى النُعاةُ كُليباً لي فقلتُ لهم ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
الحَزم والعَزْمُ كانا من صَنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائدُ الخَيْل تَرْدَى في أعنَتها ... زهواً إذا الخيل لجت في تعاديها
مِن خيل تَغْلبَ ما تلقي أسنَّتها ... إلا وقد خضبوها من أعاديها
يُهَزْهِزُون من الخَطّيّ مُدْمَجة ... كمتاً أنابيبها زرقاً عواليها
تَرى الرِّماحَ بأيدينا فنُوردها ... بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها
ليت السماء على مَن تّحتها وقعتْ ... وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها
لا أصلح الله منِّا من يُصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
يوم النهِّي

قال أبو المُنذر: أخبرني خِرَاش أن أوَل وَقعة كانت بينهم بالنهي يوم النهِّى.
فالتقوا بماء يقال له النَهي كانت بنو شَيبان نازله عليه. ورئيسُ تَغلب المهلهل، ورئيس شَيبان الحارثُ بن مُرًة. فكانت الدائرةُ لبني تَغلب، وكان الشَّوكة في شَيبان، واستحرّ القتل فيهم، إلا أنه لم يُقتل في ذلك اليوم أحد من بني مَرَة.
يوم الذنَّائب
ثم التقوا بالذنائاب، وهي أعظم وَقعة كانت لهم، فظفرت بنو تَغلب وقُتلت بكر مقتلة عظيمة. وفيها قُتل شرَاحيل بن مرة بن هَمام بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان وهو جدّ الحَوْفزان، وهو جد مَعْن بن زائدة. والحَوْفزان هو الحارث ابن شريك بن عمروِ بن قيس بن شَراحيل، قتله عتاب بن سَعد بن زُهير بن جُشَم. وقُتل الحارث بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان، قتله كعب بن ذُهل بن ثعلبة. وقُتل من بني ذهل ثَعلبة: عمرو بنُ سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة. وقتل مِن بني تَيم الله. جميلُ بن مالك بن تَيم اللّه، وعبد الله بن مالك بن تَيم اللّه. وقُتل من بني قيس ابن ثعلبة: سعدُ بن ضُبيعة بن قيس، وتميم بن قيس بن ثعلبة، وهو أحد الخَرِفين. وكان شيخاً كبيراً فحُمل في هودج، فلَحِقه عمرو بن مالك بن الفَدَوْكس بن جُشم، وهو جدّ الأخطل، فقَتله. هؤلاء مَن أصيب من رؤساء بكر

يوم الذنائب
.
يوم واردات
ثم التقوا بواردات، وعلى الناس رؤساؤهم الذين سمَينا. فظفرت بنو تغلب وأستحر القتلُ في بني بكر، فيومئذ قتل الشعثمان، شَعثم وعبد شمس، ابنا معاوية بن عامر بن ذُهل بن ثعلبة؟ وسيار بن الحارث بن سيار. وفيه قُتل همام ابن مرة بن ذُهل بن شَيبان، أخو جساس لأمه وأبيه، فمرْ به مُهلهل مقتولاً، فقال: والله ما قُتل بعد كُليب قَتيل أعز علي فقداً منك، وقتله ناشرة. وكان همَام رَباه وكَفله، كما كان ربى حُذيفةُ بن بَدْر قِرْواشاً، فقتله يومَ الهَباءة.
يوم عُنيزة
ثم التقوا بعُنيزة، فظَفِرت بنو تَغلب. ثم كانت بينهم مُعاودة ووقائع كثيرة، كُل ذلك كانت الدائرة فيه لبني تَغلب على بني بكر. فمنها: يوم الحِنو، ويوم عُويْرضات، ويوم أنيق، ويوم ضَرِيّة، ويوم القُصيبات. هذه الأيام لتغلب على بكر. أُصيبت فيها بكر حتى ظنّوا أن ليس يَسْتقبلون أمرهم. وقال مُهلهل يصف هذه الأيّام ويَنعاها على بكر في قَصيدة طويلة أولها:
أليلَتنا بذي حُسُم أَنِيري ... إذا أنت انقضَيت فلا تَحُورِي
فإن يكُ بالذّنائب طال ليلي ... فقد أَبكي من اللّيل القَصير
وفيها يقول:
فلا نُبش المَقابِرُ عن كُليب ... لأُخْبر بالذّنائب أيّ زِير
كأنّا غدوةً وبني أَبينا ... بجَنب عُنَيزة رَحَيا مُدِير
وإنّي قد تركتُ بوارداتٍ ... بجُيراً في دَم مِثل العَبير
هتكتُ به بيوتَ بني عُبَاد ... وبعضُ القتل أَشْفى للصدور
على أنْ ليس عَدْلاً من كُليب ... إذا بَرزت مُخبَّأة الخُدورِ
ولولا الريح اسْمع مَن بحَجْر ... صَليلَ البِيض تُقرع بالذكور
وقال مهلهل لما أسرف في الدماء:
أكثرت قتلَ بني بكر بِربّهم ... حتى بكيتُ وما يَبْكي لهم أحدُ
آليتُ بالله لا أرضىَ بِقَتْلهمِ ... حتى أبهرج بكراً أينما وُجدوا
قال أبو حاتم: أُبهرج: أدعهم بهرجاً لا يُقتل بهم قتيل ولا تُؤخذ لهم دية.
قال: والبَهْرج من الدراهم، مِن هذا. وقال المُهلهل:
يا لبَكر انشروا لي كُلَيباً ... يا لبَكر أينَ الفِرارُ؟
تلك شيبان تقول لبكر ... صرِّح الشرُّ وبان السِّرار
وبنو عِجْل تقول لقَيس ... ولتَيْم اللات سِيرُوا فسارُوا
وقال:
قَتلوا كليباً ثم قالوا ارْبعوا ... كَذبوا وربّ الحِلِّ والإحرْام
حتى تبيدَ قبائلٌ وقبيلةٌ ... ويَعض كلُ مثقف بالهَامَ
وتقومَ ربَّاتُ الخُدور حواسراً ... يَمْسحن عُرْض ذَوائب الأيتام
حتى يَعضّ الشيخُ بعدَ حَمِيمه ... مما يرَى نَدماً على الإيهام
يوم قِضَة

ثم إنّ مُهلهلاً، أسرف في القتل ولم يُبال بأيّ قبيلة من قبائل بكر أوقع، وكان أكثرُ بكر قعدت عن نُصرة بني شَيبان لقَتْلهم كُليب بن وائل، فكان الحارث بن عُباد قد اعتزل تلك الحُروب. حتى قُتل ابنُه بُجير بن الحارث. ويقال إنه كان ابنَ أخيه، فلما بلغ الحارثَ قتلُه، قال: نِعْم القتيلُ قتيلٌ اصلح بين ابني وائل، وظنّ أنّ المُهلهل قد أدرك به ثأر كُليب وجعله كُفئاً له. فقيل له: إنما قتله بشِسْع نَعْل كُليب. وذلك أن المهلهل لما قَتل بُجيراً قال: بُؤ بشِسْع كُليب. فغضب الحارثُ بن عُباد، وكان له فرس يقال لها النَّعامة، فَركبها وتولَّى أمرَ بكر، فقَتل تَغلب حتى هَرب المُهلهل وتفرقت قبائل تغلب، فقال في ذلك الحارث بن عُباد:
قربا مَرْبط النًّعامة مِنّي ... لَقحتْ حربُ وائل عَن حِيالي
لم أكُن من جُناتها علم اللهُ ... وإنّي بحِرّها اليومَ صَالي
وكان أول يوم شهده الحارث بن عُباد يوم قِضَة، وهو يوم تَحْلاق اللِّمم، وفيه يقول طَرفة بن العَبْد:
سائلوا عنّا الذي يَعْرفنا ... ما لَقُوا في يوم تَحْلاق اللِّممْ
يوم تُبْدي البيضُ عن أسْؤُقها ... وتَلُفّ الخيْلُ أفواجَ النَّعم
وفيه أسر الحارثُ بن عباد المهلهلَ وهو لا يَعرفه، واسمه عديّ بن ربيعة، فقال له: دُلّني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك. فقال له عديّ: عليك العهود بذلك إن دللتُك عليه؟ قال: فأنا عديّ. فجزَّ ناصِيَتَه وتَركه، وقال فيه:
لَهْف نفسي على عَدِيّ ولم أعْرِف عَدِيّاً إذا أمْكَنتْني اليدان.
وفيه قُتل عمرو وعامر التَغلبيان. قتلهما جَحدر بن ضُبيعة. طَعن أحدهما بسنان رُمحه والآخر بزُجّه. ثم إنَ المُهلهل فارق قومَه ونزل في بني جَنْب، وجَنب في مَذحِج، فخطبوا إليه ابنته فمنعهم. فأخبروه على تَزْويجها وساقوا إليه في صداقها جُلوداً من أدَم، فقال في ذلك:
أعزز على تَغْلب بما لَقِيتْ ... أختُ بني الأكرمين من جُشَم
أنكحها فقدُها الأراقمَ في ... جَنْب وكان الحِباء من أدم
لو بأبانَينْ جاء يَخْطبها ... زمَل ما أنفُ خاطب بدَم

الكلاب الأول
قال أبو عُبيدة: لما تَسافهت بكرُ بن وائل وغَلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامُها، ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إنّ سُفهاءنا قد غَلبوا على أمرنا فأكل القويُ الضعيفَ، ولا نَستطيع تغييرَ ذلك، فنرى أن نُملَك علينا ملكاً نُعطيه الشاةَ والبعير، فيأخذ للضّعيف من القوي، ويردُّ على المظلوم من الظالم، ولا يُمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون، فتفسُد ذاتُ بيننا، ولكنّا نأتي تُبعَاً فنُملَكه علينا. فأتوه فذكروا له أمرهم، فملّك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكِنديّ، فقَدِم فنزل عاقل، ثم غزَا ببكر بن وائل حتى أنتزع عامة ما في أيدي ملوك الحيرة اللَّخميَين، وملوك الشام الغسانيين، وردّهم إلى أقاصي أعمالهم. ثم طُعن في نَيْطه، أي مات، فدُفن ببطن عاقل. واختلف أبناه شُرَحْبِيل وسَلَمة، في المُهلك، فتواعد الكُلاب. فأقبل شُرَحبيل في ضَبة والرباب كُلها، وبني يَربوع وبكر بن وائل. وأقبل سَلَمة في تَغلب والنمر وبَهراء، ومَن تَبعه مِن بني مالك بن حَنظلة، وعليهم سُفيان بن مُجاشع، وعلى تغلب السفَاح - إنما قيل له السفاح، لأنه سَفح أوعية قَومه - وقال لهم: أبدرُوا إلى ماء الكلاب، فسبقوا ونزلوا عليه. وإنما خرجتْ بكرُ بن وائل مع شُرحبيل لعداوتها لبني تغلب. فالتقوا على الكُلاب، واستحر القتلُ في بني يَربوع، وشد أبو حَنَش على شُرحبيل فقتله، وكان شرُحبيل قتل ابنه حَنَشاً، فأراد أبو حَنَش أن يأتي برأسه إلى سَلمة فخافه، فبعثه مع عَسيف له. فلما رآه سَلمة دَمعت عيناه، وقال له: أنت قتلتَه؟ قال: لا، ولكنه قتله أبو حَنش. فقال: إنما أدفع الثوابَ إلى قاتله. وهَرب أبو حَنش عنه. فقال سَلَمة:
ألا أبْلغ حَنَش رسولاً ... فما لك لا تجيء إلى الثوابِ
تعلم أن خير الناس مَيْتاً ... قَتِيلٌ بَين أحجار الكُلاب
تداعت حَوله جُشَمِ بن بَكر ... وأسلمه جَعاسيسُ الرباب
ومما يَدُل على أن بكراً كانت مع شرُحبيل قولُ الأخطل:

أبا غسان إنّك لم تُهني ... ولكن قد أهنتَ بني شِهاب
تَرقَّوا في النَخيل وأنسِئونا ... دِماءَ سرَاتكم يومُ الكُلاب

يوم الصفقة ويوم الكلاب الثاني
قال أبو عُبيدة: أخبرنا أبو عمرو بن العَلاء قال: كان يوم الكُلاب مُتصِلاً بيوم الصَفْقة، وكان من حديث الصَفقة أن كِسرى الملك، كان قد أوقع ببني تميم، فأخذ الأموالَ وسَبى الذَّراري بمدينة هَجر، وذلك أنّهم أغاروا على لَطيمة له فيها مِسك وعَنبر وجَوهر كثير، فسُمِّيت تلك الوَقعة يوم الصَّفقة، ثم إنّ بني تميم أداروا أمرهم، وقال ذو الحِجا منهم: إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وَهنتم، وتسامعتْ بما لقيتُم القبائل فلا تَأْمنون دَوران العرب. فجَمعوا سَبعة رؤساء منهم وشاوروهمِ في أمرهم، وهم: أكثم بن صيفيّ الأسيِّديّ، والأُعيمر بن يَزيد بن مُرة المازنيّ، وقيس بن عاصم المِنْقريّ، وأُبير بن عِصْمة التَّيميّ، والنُّعمان ابن الحَسْحاس التَّيمي، وأُبَيْر بن عمرو السَّعدي، والزِّبْرقان بن بَدر السعديّ. فقالوا لهم: ماذا تَروْن؟ فقال أكثم بن صَيفيّ، وكان يُكنى أبا حَنش: إنّ الناس قد بلغهم ما قد لقينا، ونحن نخاف أن يطمعوا فينا، ثم مَسح بيده على قَلبه، وقال: إنّي قد نَيّفت على التِّسعين، وإنما قلبي بَضْعة من جِسْمي، وقد نَحل كما نحل جِسْمي، وإنّي أخاف أن لا يُدرك ذهني الرأيَ لكم، وأنتم قومٌ قد شاع في النّاس أمرُكم، وإنما كان قوامكم أسيفاً وَعَسيفاً - يُريد العَبد والأجير - وصِرْتم اليوم إنما تَرعى لكم بناتكم، فليعرض عليّ كُل رجل منكم رأيَه وما يَحْضُره، فإني متى أسمع الحَزم أعرفه. فقال كُل رجل منهم ما رأى، وأكثمُ ساكتٌ لا يتكلَم حتى قام النعمان بن الحَسْحاس، فقال: يا قوم، انظُروا ماءَ يجمعكم، ولا يعلم الناس بأيّ ماء أنتم حتى تَنفرج الحَلْقة عنكم وقد جَممتم، وصلُحت أحوالُكم، وانجبر كسيركم، وقَوِي ضعيفُكم. ولا أعلمِ ماءً يَجمعكم إلا قِدّة، فارتحلوا ونزلوا قِدَة. وهو موضع يُقال له الكُلاب. فلما سمِع أكثم ابن صيفيّ كلام النعمان، قال: هذا هو الرأي. فارتحلُوا حتى نزلوا الكُلاَب. وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلي اليمن، وأَسفله مما يلي العراق. فنزلت سعدُ والرَّباب بأعلى الوادي، ونزلتْ حَنظلة بأسفله.

قال أبو عُبيدة: وكانوا لا يخافون أن يُغْزَوا يفي القَيْظ، ولا يسافر فيه أحد، ولا يَستطيع أحدٌ أن يَقطع تلك الصَّحاري لبُعْد مَسافتها، وليس بها ماء، ولشدّة حرّها. فأقاموا بقيّة القَيظ لا يعلم أحد بمكانهم، حتى إذا تَهوّر القيظ - أي ذ هب - بَعث الله ذا العَينين، وهو من أهل مدينة هَجَر، فمرَّ بقِدّة وصَحرائها، فرأى ما بها من النَّعم، فانطلق حتى أَتىَ أهل هَجر، فقال لهم: هل لكم في جارية عَذْراء، ومُهرة شَوهاء، وَبكْرة حَمْراء، ليس دونها نَكبة؟ فقالوا: ومَن لنا بذلك؟ قال: تلكم تَميم ألقاء مطروحون بقِدّة. قالوا: إي واللّه. فمشى بعضُهم إلى بعض، وقالوا: أغتنمُوها من بني تَميم. فأَخرَجوا منهم أربعةَ أملاك، يقال لهم اليَزيديّون: يزيد بن هَوْبر، ويزيد بن عبد المَدَان، ويزيد بن اَلمأمور، ويَزيد بن المُخَرِّم، وكلهم حارثيّون؟ ومعهم عبد يغوث الحارثيّ. فكان كُل واحد منهم على أَلفين، والجماعة ثمانية آلاف. فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبرَ منه، ومن جيش كَسْرى يومَ ذي قَار ويوم شِعْب جَبلة. فمضَوا حتى إذا كانوا ببلاد باهلةَ، قال جَزْء بن جَزْء الباهليّ لابنه: يا بني، كل لك في أُكْرومة لا يُصاب أبداً مثلُها؟ قال: وما ذاك؟ قال: هذا الحيّ من تميم قد وَلجوا هناك مخافةً، وقد قصصتُ أثرَ الجيش يريدونهم، فأركب جَملي الأرْحبيّ وسِرْ سيراً رُويداً، عُقْبةً من الليل - يعني ساعة - ثم حل عنه حَبْليه وأَنْخِه وتوسَّد ذراعه، فإذا سمعته قد أَفاض بجرّته وبال فاستنقعتْ ثَفِناته في بَوْله فشُدّ عليه حَبْله، ثم ضَعْ السوط عليه فإنك لا تَسأل جملَك شيئاً من السَّير إلا أعطاك، حتى تصبح القوم ففعل ما أمره به. قال الباهلي: فحللت بالكلاب قبل الجَيش وأنا أنظُر إلى ابن ذُكاء - يعني الصّبح - فناديتُ: يا صَباحاه! فإنهم لَيَثِبون إليّ ليسألوني مَن أنت، إذ أقبل رجل منهم من بني شَقيق على مُهر قد كان في النَّعم، فنادى؛ يا صباحاه! قد أُتي على النَّعم. ثم كَر راجعاً نحو الجيش. فلقيه عبد يغوث الحارثيّ، وهو أول الرعيل، فطعنه في رأس مَعدته، فسبق اللبنَ الدمَ، وكان قد أصطبح. فقال عبد يغوث: أطيعوني وامضُوا بالنعم وخلوا العَجائز من تميم ساقطةً أفواهُها. قالوا: أما دون أن نَنكح بناتِهم فلا. وقال ضمرة بن لَبيد الحِماسي ثم المَذْحجي الكاهن: انظُروا إذا سُقْتم النعم، فإن أتتكم الخيلُ عُصَباً، العصبة تنتظر الأخرى حتى تلحق بها، فإن أمر القوم هين وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضُهم بعضاً حتى يردوا وُجوه النعم، فإن أمرهم شديد. وتقدمت سعد والرباب في أوائلٍ الخَيل، فالتقَوْا بالقوم فلم يَلتفتوا إليهم. واستقبلوا النعم ولم يَنتظر بعضُهم بعضاً. ورئيس الرباب النعمان بن الحَسْحاس، ورئيس بني سعد قَيسُ بن عاصم. وأجمع العُلماء أن قيس بن عاصم كان رئيسَ بني تميم. فالتقى القوم، فكان أولَ صريع النعمانُ بن الحسحاس. واقتتل القومُ بقية يومهم وثبَت بعضُهم لبعض حتى حَجز الليلُ بينهم. ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيسُ بن عاصم: يالَسعد، ونادى عبدُ يغوث: يالَسعد. قيسٌ يدعو سعدَ بنَ زيدَ مناة، وعبدُ يغوث يدعو سعدَ العشيرة. فلما سمع ذلك قيسٌ نادى: يالكعب فنادى عبدُ يغوث يالكعب. قيس يدعو كعبَ بن سعد، وعبدُ يغوث يدعو كعبَ بن مالك. فلما رأى ذلك قيس نادى: يالكعب مُقاعس. فلما سمعه وَعْلة بن عبد الله الجَرْمي، وكان صاحبَ لواء أهل اليمن، نادى: ياَلمُقاعس، تفاءل به، فطَرح اللواء، وكان أول من أنهزم. فحملت عليهم بنو سعد والرباب فهزموهم. ونادى قيسُ بني عاصم: يالَتميم، لا تقتلوا إلا فارساً، فإن الرّجالة لكم. ثم جعل يرتجز ويقول:
لما تولَّوا عُصَباً هواربَاً ... أقسمتُ أطعن إلاٌ راكباً
إنْي وجدتُ الطعن فيهم صائباً
وقال أبو عبيدة: أمر قيس بن عاصم أن يَتبعوا المُنهزمة ويقطعوا عُرقوبَ مَن لَحِقوا، ولا يَشتغلوا بقَتلهم عن اتَباعهم. فجزُوا دوابرَهم. فذلك قولُ وَعْلة:
فدى لكمُ أهلي وأُميَ ووالدي ... غداةَ كُلاب إذ تُجز الدَوابرُ

- وسنكتب هذه القصيدة على وَجهها - . وحَمى عبدُ يغوث أصحابه فلم يُوصل إلى الجانب الذي هو فيه، فألظٌ به مَصاد بن ربيعة بن الحارث. فلما لحقَه مَصاد طعنه فألقاه عن الفرس فأسره. وكان مَصاد قد أصابته طعنة في مَأْبِضه، وكان عِرْقُه يَهمي - أي يَسيل - فَعصبه، وكَتفه - يعني عبدَ يغوث - ثم أردفه خلفه فنزفه الدمُ، فمال عن فرسه مَقْلوباً. فلما رأى ذلك عبدُ يغوث قطع كِتافَه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أولَ النهار. ثم ظُفِر به بعد في آخره، ونادى مُنادٍ: قُتِل اليزيديّون. وشَدٌ قَبيصة بن ضرار الضَبي على ضمرة بن لَبيد الحِماسيّ الكاهن، فطَعنه فخر صريعاً. فقال له قَبيصةُ: ألا أخبرك تابعُك بمَصرعك اليوم؟ وأسر عبد يغوث، أسره عِصمة ابن أُبير التَّيمي.
قال أبو عُبيدة: انتهى عِصْمة بن أُبير إلى مَصَاد، وقد أمعنوا في الطلب، فوَجده صريعاً، وقد كان قبل ذلك رأى عبد يَغوث أسيراً في يديه فعرف أنه هو الذي أجهز عليه، فاقتصّ أثرَه، فلما لحقه قال له: ويحك! إنّي رجل أُحب الِّلبن وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش. قال عبد يغوث: ومن أنت؟ قال: عصمة بن أُبير. قال عبد يغوث: أوَ عندك مَنَعة؟ قال: نعم. فألقى يدَه لا يده. فانطلق به عِصْمة حتى خَبأه عند الأهتم على أن جَعل له من فدائه جُعلا. فوَضعه الأهتم عند امرأته العَبْشمية. فأعجبها جمالُه وكمانُا خَلْقه. وكان عِصْمة الذي أسره غلاماً نحيفاً. فقالت لعبد يغوث: مَن أنت؟ قال: أنا سيد القوم. فضحكت وقالت: قَبَّحك الله سيّد قوم حينَ أسرك مثلُ هذا! ولذلك يقول عبد يغوث:
وتَضْحك مني شيخةٌ عَبْشميّة ... كأنْ لم تَريْ قَبْلي أسيراً يَمانيَا
فاجتمعت الرباب إلى الأهتم، فقالت: ثأرُنا عندك، وقد قُتل مَصاد والنُعمان، فأخرجه إلينا. فأبى الأهتم أن يُخرجه إليهم، فكاد أن يكون بين الحيين؟ الرباب وسعد، فِتْنة. حتِى أقبل قيسُ بن عاصم المِنْقري، فقال: أيؤتى قطع حِلف الرباب - مِن قِبَلنا؟ وضرب فمَه بقَوس فهَتمه، فَسُمَي الأهتم. فقال الأهتم: إنما دَفعه إليّ عِصْمة بن أبير ولا أدفعه إلاّ إلى مَن دَفعه إليّ، فليجئ فليأخذه، فأتوْا عِصْمة فقالوا: يا عصمة، قُتل سيدنا النعمان وفارسنا مَصاد، وثأرنا أسيرُك وفي يدك، فما ينبغي لك أن تَسْتحييه. فقال: إني مُمْحل وقد أصبت الغِنى في نفسي، ولا تَطيب نفسي عن أسيري. فاشتراه بنو الحَسْحاس بمائة بعير - وقال رُؤبة بن العجَّاج: بل أرضوه بثلاثين من حواشي النَّعم - فدفعه إليهم، فخَشُوا أن يهجوهم، فشدُّوا على لسانه نِسْعة. فقال: إنكم قاتلي ولابد، فَدعُوني أذُم أصحابي وأنوح على نفسي. فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تَهجوَنا. فعقد لهم ألا يفعل. فأطلقوا لسانَه وأمهلوه حتى قال قصيدته التي أولها:
أَلاَ لا تلوماني كَفى اللَّوم ما بِيا ... فما لكما في اللّوْم خيرٌ ولا ليَا
ألم تَعْلما أنّ الملامةَ نَفعها ... قليل وما لوْمِي أخِي مِن شِمَاليا
فيا راكباً إمَّا عَرضْتَ فبلَغنْ ... نَدامايَ من نَجْران أن لا تَلاقيا
أبا كَرب والأيْهمين كليهما ... وقيس بأعلى حَضرموتِ اليمانيا
جَزى الله قومي بالكُلاب مَلامة ... صَريحَهم والآخِرين المَواليا
ولو شئتُ بَحَّتنى من القوم نَهدة ... ترى خلفها الجُرد الجياد تَواليا
ولكنًني أحمِي ذِمارَ أبيكمِ ... وكاد الرِّماح يَخْتطفْن المُحاميا
أحقَّاً عبادَ الله أنْ لستُ سَامِعاً ... نَشيدَ الرِّعاء المُعزِبين المَتاليا
أقولُ وقد شَدُّوا لساني بنِسْعة ... أمَعشَر تَيْم أَطْلِقوا عَن لِسانيا
وتَضْحك منِّي شيخةٌ عبشمية ... كَأَنْ لم تَرَيْ قَبْلي أسيراً يمانياً
أمعشَر تَيْم قد مَلكتم فأَسْجِحوا ... فإنَّ أخاكم لم يكن من بَوائيا
وقد عَلمتْ عِرْسي مُليكةُ أنَّني ... أنا الليثُ مَعْدوَاً عليه وعاديا
وقد كنتُ نحّارَ الجَزور ومُعْمل اْلمط ... ي وأمضي حيث لا حي ماضيا

وأَعقِر للشَّرْب الكِرام مَطِيَّتي ... وأَصدَعِ بين القَيْنَتين رِدَائياً
وكُنتُ إذا ما الخَيل شَمَّصها القَنَا ... لَبِيقاً بتصْريفِ القَناة بَنانيا
وعاديةٍ سَوْم الجَرادِ وزعتها ... بِرُمْحي وقد أَنحَوْا إليَ العوالِيا
كأنِّيَ لم أرْكب جواداً ولم أقُلْ ... لِخَيْليَ كرّي قاتِليعن رِجالِيا
ولم أَسْبَأ الزِّقّ الرَّوِيّ ولم أقُلْ ... لأيْساَرِ صِدْقِ أَعْظِموا ضوْءَ نارِيا
قال أبو عُبيدة: فلِما ضُربِت عنقه قالت ابنةُ مَصاد: بؤ بمَصَاد. فقال بنو النعمان: يا لَكاع، نحن نشتريه بأموالنا ويبوء بمَصاد! فوقع بينهم في ذلك الشر، ثم اصطلحوا، وكان الغَناء كُله يوم الكُلاب من الرَّباب لتميم، ومن بني سَعد لِمُقاعس. وقال وَعْلة الجَرْميّ، وكان أول مُنهزم انهزم يوم الكُلاب، وكان بيده لِواء القَوم:
ومَنّ عليَ الله مَنَّاً شكرتُه ... غَدَاةَ الكُلاب إذ تُجز الدّوابر
ولمّا رأيتُ الخيلَ تَتْرَى أَثابجاً ... علمتُ بأن اليومَ أَحْمسُ فاجِر
نجوتُ نجاءً ليس فيه وَتيرَة ... كأني عُقابٌ عند تَيمن كاسر
خُدارية صَقْعاء لَبّد ريشَها ... بطَخْفة يوم ذو أَهاضيبَ ماطرُ
لها ناهض في الوَكْر قد مَهَدت له ... كما مَهدت للبَعْل حَسْناءُ عاقر
كأنا وقد حالت حذُنُة دوننا ... نَعامٌ تَلاه فارسٌ مُتواتر
فمَن يك يَرْجو في تَميم هوادة ... فليس لجَرْم في تميم أواصِر
ولما سمعتُ الخَيل تدعو مُقاعساً ... تَنازعني من ثُغرة النحر ناحِر
فإن أسْتطع لا تَبْتئس بي مُقاعس ... ولا تَرَني بيداؤُهمِ والمَحاضِر
ولا أكُ يا جَرَّارة مُضريةٍ ... إذا ما غدتْ قوت العِيال تُبادر
وقد قُلت للنهدي هل أنت مُرْدِفي ... وكيف رِدافُ الفَل أمُك عاثِر
يُذَكَرني بالآل بيني وبينه ... وقد كان في جرم ونَهْد تَدَابُر
وقال محرز بن المُكعْبر الضبي، ولم يَشهدها، وكان مُجاوراً في بني بكر بن وائل لما بلغه الخبر:
فِدى لقومِيَ ما جمعت من نَشب ... إذ ساقت الحربُ أقواماً لأقوام
إذ حُدِّثت مَدْحجِ عنا وقد كُذبت ... أنْ لا يُذببعن أحسابنا حاَمي
دارت رحانا قليلاً ثم واجههم ... ضربٌ تَصدّع منه جِلْدة الهام
ظلّت ضباع مُجَيْراتٍ تجررهم ... وأَلْحُموهن منهم أيّ إلحام
حتى حُذُنة لم نَترك بها ضَبُعا ... إلا لها جزر من شِلْو مِقْدام
ظَلت تدوس بني كَعب بكَلْكَلها ... وَهمّ يومُ بني فَهْد بإظْلام
قال أبو عُبيدة: حدَّثني المُنتجع بن نَبهان قال: وَقف رُؤبة بن العجاج على التَّيم بمسجد الحروريَّة فقال: يا معشر تيم، إني سَمرت عند الأمير تلك الليلة فتذاكرنا يومَ الكُلاب فقال: يا معشرَ تَيم، إنّ الكُلاب ليس كما ذكرتم، فأعفُونا من قصيدَتيْ صاحبَيْنا - يعني عبد يغوث وَوعْلة الجَرميّ - ومن قصيدة ابنِ المُكعبر صاحبكم وهاتوِا غيرَ ذلك، فأنتم أكثر الناس كلاماً وهِجاء. قال رؤبة: فأنَشدناه في ذلك اليوم شعراً كثيراً. فجعل يقول: هذه إسلاميّة كُلّها،
يوم طِخَفَة

كانت الرِّدافة، رِدافة المَلِك، لعتّاب بن هَرْميّ بن رِياح، ثم كانت لقَيس بن عَتّاب، فسأل حاجب بن زُرَارة النُّعمان أن يجعلها للحارث بن قُرْط بن سفيان بن مُجاشع، فسأَلها النعمانُ بن يَربوع، وقال: أَعقبوِا إخوتكم في الرِّدافة. قالوا: إنهم لا حاجة لهم فيها، وإنما سألها حاجبٌ حسداً لنا، وأَبَوْا عليه، فقال الحارث بن شِهاب، وهو عند النعمان: إنّ بنيِ يَربوع لا يُسلمون رِدافتهم إلى غيرهم. وقال حاجب: إن بعث إليهم الملك جيشاً لم يمنعوه ولم يَمتنعوا، فبعث إليهم النعمانُ قابوسَ ابنَه، وحسَّانَ بن المنذر. فكان قابوس على الناس وكان حسان على المقدمة، وبَعث معهم الصَنائع والوَضائع - فالصنائع: مَن كان يأتيه من العرب، والوضائع: المُقيمون بالحِيرة - فالتقوا بطِخفة، فانهزم قابوسُ ومَن معه، وضَرب طارق بنُ عُميرة فرسَ قابوس فعقره، وأَخذه ليجزّ ناصيته. فقال قابوس: إنّ الملوك لا تُجز نواصيها، فجهّزه وأرسله إلى أبيه وأما حسان بن المُنذر، فأسره بشرُ بن عمرو الرياحيّ، ثم مَنّ عليه وأَرسله. فقال مالك بن نويرة:
ونحن عَقرنا مُهر قابوسَ بَعدما ... رَأْي القومُ منه الموتَ والخيل تُلْحَب
عليه دلاص ذاتُ نَسْج وسَيفُه ... جُراز من الْهندي أبيضُ مُقْضَب
طَلبْنا بها إنّا مَداريك قبلَها ... إذا طَلب الشِّأوَ البَعيد المُغَرّب

يوم فيف الريح
قال أبو عُبيدة: تجمّعت قبائل مَذْحج، وأكثرُها بنو الحارث بن كعب شعب، وقبائلُ من مُراد وجُعْفِيّ وزَبِيد وخَثْعم، وعليهم أنسُ بنُ مُدْركة، وعلى بني الحارثُ الحُصين. فأغاروا على بني عامر بن صَعْصعة بفَيف الرِّيح، وعلى بني عامر عامرُ بن مالك مُلاعب الأسِنَّة. قال: فاقتَتل القومُ، فكَثروهم. وارفضّت قبائلُ من بني عامر. وصَبرت بنو نُمير، فما شُبِّهوا إلا بالكِلاب المُتعاظلة حوْلَ اللّواء. وأقبلِ عامر بن الطًّفيلِ، وخَلفه دعيُّ بن جعفر. فقال: يا معشر الفِتيان، مَن ضرَب ضربة أو طعن طعنةَ فلْيُشهدني. فكان الفارس إذا ضَرب ضربة أو طَعن طعنة قال عند ذلك: أبا عليّ. فبينما هو كذلك إذ أتاه مُسْهِر بن يزيد الحارثي، فقال له مِن ورائه: عندك يا عامر، والرمح عند أذنه. فوَهَصه - أي طعنه - فأصابَ عَينَه. فوثب عامرٌ عن فَرسه ونجا على رِجْليه، وأخذ مُسْهِر رمحَ عامر. ففي ذلك يقول عامرُ بن الطُفيل بن مالك بن جَعفر:
لعَمري وما عَمْري على بهين ... لقد شان حُر الوَجْه طَعنةُ مُسْهِرِ
أعاذل لو كان البِداد لقُوتلوا ... ولكن نَزَوْنا للعديد المُجمهَر
ولو كان جمع مثلُنا لم يَبَزّنا ... ولكنن أَتتنا أُسْرة ذاتُ مَفْخر
أتونا ببَهراء ومَذْحج كُلها ... وأكْلُب طُرَّاً في جِنَان السَّنَوَّرِ
وقال مُسْهِر، وقد زعم أنهم أخذوا امرأة عامر بن الطفيل:
رَهصتُ بخرْص الرُّمح مُقلة عامر ... فأضحَى بخَيصاً في الفَوارس أَعْورَا
وغادر فينا رُمحَه وسِلاحَه ... وأَدْبر يَدْعو في الهَوالك جَعْفرا
وكُنّا إِذا قَيسيَّة دُهيت بنا ... جَرى دَمعُها مِن عَينها فتحدَرا
مخافةَ ما لاقتْ حليلةُ عامر ... من الشرِّ إذ سِرْبالها قد تَعفرا
وقال: وامتنّت بنو نُمير على بني كلاب بصَبرهم يوم فَيف الريح، فقال عامر:
تَمُنُّون بالنُّعمى ولولا مَكَرُنا ... بمُنعرجِ الفَيفا لكنتُم مواليَا
ونحن تداركْنا فوارسَ وَحْوحٍ ... عشيّة لاقينَ الحُصين اليَمانيا
وحوح، من بني نُمير، وكان عامر أستنقذهم وأُسر حَنظلة بن الطفيل يومئذ.
قال أبو عُبيدة: كانت وقعة فيف الريح وقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلمه بمكة، وأَدرك مُسهِرُ بن يزيد الإسلام فأسلم.
يوم تِيَاس
كانت أفناء قبائل من بني سَعد بن زَيد مَناة وأفناء قبائل من بني عمرو بن تميم التقت بِتَياس، فقطع غيلانُ بن مالك بن عمرو بن تميم رِجْلَ الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة، فطلبوا القِصاص، فأقسم غيلان أن لا يَعْقِلَها ولا يُقَص بها حتى تُحشى عيناه تُراباً، وقال:

لا نَعْقِل الرٌجلَ ولاَ نِديها ... حتى تَروْا داهيةً تنسيها
فالتقوا فاقتتلوا، فجرحوا غيلان حتى ظَنوا أنهم قد قتلوه. ورئيسُ عمرو كعب بن عمرو، ولواؤه معِ ابنه ذُؤيب، وهو القائل لأبيه:
يا كعبُ إنّ أخاك مُنْحَمِق ... إن لم يكن بكَ مرّةً كعب
جانِيكَ مَن يَجني عليك وقد ... تُعْدِي الصحاحَ مَبارك الجُربِ
والحربُ قد تضطر صاحبَها ... نحو المَضيق ودونه الرحْبُ

يوم زرود الأول
غزا الحوفزان حتى انتهى إلى زَرود خلفَ جبل من جبالها، فأَغاروا على نَعم كثير صادر عن الماء لبني عَبْس فاحتازوه. وأتى الصريخُ بني عَبس فركبوا. ولحق عُمارة بن زِيَاد العَبْسيّ الحَوْفزان فعَرفه، وكانت أُمًّ عُمارة قد أرضعتْ مُضَرَ بنَ شَريك، وهو أخو الحَوفزان. وقالِ عُمارة: يا بني شَريك، قد علمتُم ما بيننا وبينكم. قال الحوفزان، وهو الحارث بن شريك: صدقتَ يا عمارة، فانظُر كُل شيء هو لك فخذْه. فقال عُمارة: لقد علمتْ نساءُ بني بكر بن وائل أنّي لم أَملأ أيدي أزواجهنّ وأبنائهنّ شفقةً عليهن من المَوت. فحمل عُمارة ليُعارض النَّعم ليردَّه، وحال الحوفزانُ بينه وبين النَّعم، فعَثرت بعُمارة فرسُه، فطَعنه الحوفزان. ولحَق به نَعامةُ بنُ عبد الله بن شَريك فطعنه أيضاً. وقال نَعامة: ما كرهتُ الرُّمح في كَفل رجل قط أشدّ من كَفل عُمارة. وأُسِر ابنا عُمارة: سِنان وشَدّاد. وكان في بني عَبس رجلان من طيء ابنان لأوس بن حارثة مُجاورَيْن لهم، وكان لهما أخ أسير في بني يَشْكر، فأصابا رجلاً من بني مُرّة يقال له: مَعْدان بن مِحْرب، فذَهبا به فدَفناه تحت شجرة، فلمّا فقدتْه بنو شَيبان نادَوْا: يا ثارات مَعدان فعند ذلك قَتلوا ابني عُمارة. وهَرب الطائيّان بأسيرهما. فلما بَرأ عُمارة من جِراحه أتى طيّئاً فقال: ادفعوا إليّ هذا الكَلب الذي قُتِلنا به. فقال الطائيّ لأوس: أدفَع إلى بني عَبس صاحبَهم. فقال لهم أوس: أتأمرُونني أُنْ أُعطِيَ بني عَبْس قطرةً من دمي، وإن اْبني أسيرٌ في بني يَشكر؟ فوالله ما أرجو فَكاكَه إلا بهذا. فلما قَفل الحَوفزانُ من غَزْوه بَعث إلى بني يَشْكر في ابن أوْس. فبعثوا به إليه، فافتكّ به مَعْدان. وقال نَعامة بن شَريك:
استَنْزلت رماحُنا سِنَانَا ... وشيخَه بطَخْفة عِيَانا
ثم أخوه قد رَأى هَوانا ... لما فَقدْنا بيننا مَعْدانا
يوم غول الثاني
هو يوم كِنهل
قال أبو عُبيدة: أقبل ابنا هُجَيمة، وهما من بنى غَسّان، في جَيْش، فنَزلا في بني يَرْبوع فجاورا طارقَ بن عَوْف بن عاصم بن ثعلبة بن يَرْبوع، فنزلا معه على ماء يقال له كِنْهل، فأغار عليهما أناسٌ من ثَعلبة بن يَربوع، فاستاقوا نَعمَهما وأسروا مَن كان في النَعم، فركب قيسُ بن هُجيمة بخَيله حتى أدرك بني ثَعلبة، فكَر عليه عُتيبة بن الحارث. فقال له قَيس: هل لك يا عتيبة إلى البِرَاز؟ فقال: ما كنتُ لأسْألَه وادعه. فبارزه. قال عُتيبة: فما رأيتُ فارساً أملأ لعيني منه يومَ رأيتُه فَرَماني بقَوسه؟ فما رأيتُ شيئاً كان أكرهَ إليَ منه. فطَعنني. فأصاب قَرْبوس سَرْجي، حتى وجدت مَسّ السِنان في باطن فَخِذي، فتجنبتُ. قال: ثم أَرسل الرُّمح وقَبض بيدي، وهو يَرى أنْ قد أَثْبتني، وانصرف. فأتبعتهُ الفرس. فلما سَمع زَجلها رَجع جانحاً على قَرَبوس سَرْجه، وبدا لي فَرْج الدِّرع، ومَعي رمح مُعلَّب بالقِدّ والعَصَب كُنّا نَصطاد به الوَحش، فرميتُه بالقَوس وطعنتُه بالرمحٍ، فقتلتُه وانصرفت، فلحقتُ النَّعم. وأقبل الهِرْماس بن هُجيمة فوقف على أخيه قتيلاً ثم أتْبعني، وقال: هل لك في البِراز؟ فقلتُ لعلّ الرجعةَ لك خير. قال: أبعد قَيس؟ ثَم شدّ عليّ فضربني على البَيضة، فخَلَص السيفُ إلى رأسي. وضربتُه فقتلتُه. فقال سُحيم بن وثيل يعيّر طارداً بقتل جارَيْه:
لقد كنتَ جار ابْني هُجيمة قبلَها ... فلم تغْن شَيئاً غير قَتْل المُجاور
وقال جرير:
وساق ابني هجَيمة يومَ غَوْلٍ ... إلى أسْيافنا قَدَرُ الحِمام
يوم الجُبَّات

قال أبو عُبيدة: خَرج بنو ثَعلبة بن يِرْبوع فمرّوا بنَاسٍ من طوائف بني بَكْر بن وائل بالجُبَّات، خرجوا سِفاراً، فنزلوا وسرحوا إبلهم تَرْعى، وفيها نَفر منهم يَرْعونها، منهم سَوادة بن يَزيد بن بُجير العِجْليّ، ورجل من بني شَيبان، وكان مَحمُوماً، فمرَّت بنو ثَعلبة بن يَرْبوع بالإبل فأطْرَدوها، وأخذوا الرّجلين فسألوهما: مَن مَعكما؟ فقالا: معنا شيخُ بن يزيد بن بُجير العِجْليّ في عصابة من بني بَكْر بن وائل خَرجوا سِفاراً يُريدون البَحْرين. فقال الربيعُ ودُعْموص ابنا عُتيبة بن الحارث بن شِهاب: لن نذهب بهذين الرجلين وبهذِه الإبل ولم يَعلموا مَن أخذها، ارجعوا بنا حتى يَعلموا مَن أخذ إِبلهم وصاحَبيْهم ليعنِيَهم ذلك. فقال لهما عُميرة: ما وراءكما إلا شَيْخ ابن يَزيد قد أَخذتما أخاه وأَطْردتُما مالَه، دعاه. فأبَيا ورَجعا، فوقفا عليهم وأخبراهم وتسمَّيا لهم، فركب شيخُ بن يزيد فأتْبعهما وقد وَلّيا، فَلَحِق دُعموصاً فأسره. ومَضى ربيع حتى أتى عُميرة فأخبره أنّ أخاه قد قُتل. فرجع عُميرة على فرس يقال له الخنساء، حتى لَحِق القَوْم فافتكّ دُعْموصاً على أن يردَّ عليهم أخاهم وإبلهم. فردّها عليهم. فكفَر ابنا عُتيبة ولم يَشْكُرا عُميرة. فقال:
ألمن تَرَ دُعْموصاً يصُدّ بوَجهه ... إذا ما رآني مُقْبِلاً لم يُسَلِّم
ألم تَعْلما يا بني عُتَيبة مَقْدَمِي ... على ساقطٍ بين الأسنّة مُسْلم
فعارضتُ فيه القومَ حتى انتزعتُه ... جِهاراً ولم أنظُر له بالتلوُّم
يوم إرَاب
غزا الهُذيلِ بن هُبيرة بن حَسَّان التَّغلبيِّ فأغار على بني يَربوع بإراب، فقَتل فيهم قَتْيلاً ذَريعاً وأصاب نَعَماً كثيرة وسَبى سَبْياً كثيراً، فيهم زينب بنت حِمْير بن الحارث بن همَّام بن رِياح بن يَرْبوع وهي يومئذ عَقِيلة نساء بني تَميم. وكان الهُذيل يُسمَى مِجْدعا، وكان بنو تميم يُفزعون به أولادهم وسَبى أيضاً طابية بنت جَزْء بن سَعد الرِّياحي، ففَداها أبوها ورَكب عُتيبة بن الحارث في أسراهم ففكَّهم أجمعين.
يوم الشِّعْب
غزا قيسُ بن شَرْقَاء التَّغلبيّ، فأغار على بني يَرْبوع بالشِّعب فاقتتلوا، فانهزمت بنو يَربوع. فزَعم أبو هُدْبة أنها كانت اختطافا. فأُسر سُحيم لا ابن وثيل الرِّياحي، ففي ذلك يقول سُحيم:
أقول لهم بالشِّعْب إذ يأسرُونني ... ألم تَعْلموا أنِّي ابن فارس زَهْدَم
ففدا نَفسه، وأُسر يومئذ مُتمَم بن نُويرة. فوفد مالكُ بن نوبرة على قَيسَ ابن شرقاء في فِدائه، فقال:
هل أنت يا قيس بن شَرْقاء مُنْعِمٌ ... أو الجَهْد إن أَعطيْتهُ أنت قابله
فلما رأى وَسامته وحُسن شارته، قال: بل مُنعم. فأطلقه له.

يوم غول الأول
فيه قُتل طَريف بن شَراحيل وعمرو بن مَرثد المحلَّيّ. غزا طَريف بن تميمِ في بني العَنبر وطوائف من بني عمرو بن تَميم، فأغار على بني بَكْر بن وائل بغول فاقتتلوا. ثم إن بكراً انهزمتْ، فقُتل طَريف بن شرَاحيل، أحدُ بني أبي رَبيعة، وقُتل أيضاً عمرو بن مَرْثد المُحلَّميِّ وقتل المُحسَّر. فقال في ذلك رَبيعة بن طَريف:
يا راكباً بَلِّغن عني مغَلْغلة ... بني الخَصِيب وشرُّ المَنْطق الفَنَدُ
هَلا شراحيل إذ مالَ الحِزامُ به ... وسْطَ العَجَاج فلم يَغْضب له أحد
أو المُحسَّر أو عمرو تَحيفَهم ... منّا فوارسُ هَيْجا نَصْرُهم حَشَدُ
إنْ يَلحظوني بزُرْق من أسنَّتنا ... يُشْفَي بهنَ الشَّنا والعُجب والكَمد
وقد قَتلناكُم صَبراً ونَأْسرِكم ... وقد طَرَدْناكم لو يَنْفع الطَّرد
حتى استغاث بنا أدنىَ شَريدكم ... مِن بَعد ما مَسَّه الضرَّاء والنَّكد
وقال نَضلة السُلميّ في يوم غَوْل، وكان حقيراً دَميماً، وكان ذا نَجدة وبأس:
ألم تَسَل الفَوارِسَ يوم غَوْلٍ ... بنَضْلة وهو مَوْتور مُشيح
رأوْه فازْدَروه وهو حُرٌّ ... ويَنفع أهله الرجلُ القَبِيح
فشدّ عليهم بالسيَّف صَلْتاً ... كما عَضَ الشِّبا الفرس الجَموح

فأطْلق غُلّ صاحبه وأردَى ... قَتيلاً منهمُ ونَجا جَرِيح
ولم يخشُوا مَصَالته عليهم ... وتحتَ الرّغْوة اللبن الصَّريح
يوم الخَندَمَة
كان رجلٌ من مُشركي قريش يَحدُ حَرْبةً يومَ فَتْح مكّة، فقالت له امرأته: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتُها لمحمَّد وأصحابه. قالت: والله ما أرى يقوم لمُحمد وأصحابه شيء. قال: والله إنِّي لأرجو أن أخدِمَك بعضَ نسائهم. وأنشأ يقول:
إن تُقْبِلوا اليومَ فما بي عِلّة ... هذا سلاحٌ كامل وألّه
وذو غِرَارين سريعُ السَّلّه
فلما لَقيهم خالدُ بن الوليد يوم الخَندمة انهزم الرجل لا يلوي على شيء. فلامتْه امرأته، فقال:
إنك لو شَهدتِ يوم الخنْدمه ... إذ فَر صَفوانٌ وفَرّ عِكْرمه
ولقِيتْنا بالسُّيوف المُسْلمه ... يَفْلقن كُلّ ساعد وجُمْجمه
ضَرْباً فلا تَسمع إلا غَمْغمه ... لم تَنْطِقي في اللوم أدنى كَلِمه
يوم اللّهَيْماء
قال أبو عُبيدة: كان سبب الحرّب التي كانت بين عمرو بن الحارث ابن تميمِ بن سَعد بن هُذيل، وبين بني عَبْد بن عَديّ بن الدِّيل بن بَكْر بن عَبْد مَناة، أن قيْس بن عامر بن عَريب، أخا بني عبد بن عَديّ، وأخاه سالماً، خَرجا يُريدان بني عمرو بن الحارث على فَرسين، يقال لإحداهما الَّلعَّاب والأخرى عَفزر. فباتا عند رجل من بني نُفاثة. فقال النُّفاثيّ لقَيس وأخيه: أطيعاني وارجعا، لا أعرفنّ رماحَكما تكْسر في قَتال نُعمان. قالا: إنَّ رماحنا لا تُكسر إلا في صُدور الرِّجال. قال: لا يَضرّكما، وسَتَحْمدان أَمري. فأصبحا غاديَينْ، فلما شارفا مَتْن الّلهيماء منِ نَعمان، وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك بموضع يقال له أًديمة، أغارا على غنَم لجُندب بن أبي عُمَيس، وفيها جُندب، فتقدَّم إليه قَيس، فرماه جُندب في حَلَمة ثَدْيه، وبَعجه قيس بالسيف، فأصابت ظُبَةُ السَّيف وجه جُندب، وخَرَّ قَيس. ونَفرت الغنم نحو الدار وأَتْبعها. وحَمل سالمُ على جُندب بفَرسه عَفْزر، فضربَ جُندب خَطْمَ عَفزر بالسَّيْف فقَطعه، وضَربه سالمٌ، فاتقاه بيده، فقَطع أحدَ زَنْديه، فخر جُندب وذَفّف عليه سالم. وأدرك العشيُّ سالماً فخرج وترك سيفَه في المَعركة وثوبهُ بحِقْويه لم يَنْج إلا بجفْن سيفه ومِئْزره، فقال في ذلك حَمَّاد بن عامر:
لعمرُك ما ونىَ ابنُ أبي عُميس ... وما خانَ القتال وما أضاعَا
سَمَا بقرانِه حتّى إذا ما ... أتاه قِرْنه بَذَل المِصَاعا
فإنْ أكُ نائياً عنه فإنّي ... سرُرت بأنّه غُبِن البِيَاعا
وأفلتَ سالمٌ منها جَرِيضاً ... وقد كُلِم الذُّبابة والذَّراعا
ولو سَلمت له يُمنى يدَيْه ... لَعَمْرُ أبيك أَطْعَمَك السِّباعا
وقال حُذيفة بن أُنس:
ألا بَلِّغَا جِلّ السًواري وجابراً ... وَبلِّغ بني ذِي السِّهم عَنا ويَعْمُرا
كَشفتُ غِطاء الحَرْب لما رأيتُها ... تَميل على صِغوٍ من الَّليل أكْدرا
أخو الحَرْب إن عَضت به الحرب عضها ... وإن شَمَرت عن ساقَها الحَربُ شَمَّرا
ويمْشي إذا ما الموتُ كان أمامَه ... كذي الشِّبْل يَحْمي الأنْف أن يَتأخرا
نجا سالمٌ والنفسُ منه بشدْقه ... ولم يَنْج إلا جَفنَ سيف ومِئْزرا
وطاب عن الَّلعّاب نفساً ورَبه ... وغادر قيسا في المكر وعفزرا
يوم خزَاز

قال أبو عُبيدة: فنازع عامر ومِسْمع ابنا عبد الملك، وخالدُ بن جَبلة، وإبراهيم بنِ محّمد بن نُوح العُطارديّ، وغسان بن عبد الحميد، وعبد الله بن سَلْم الباهليّ، ونفر من وجوه أهل البَصْرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويَتنازعون في الرِّياسة يومَ خَزاز، فقال خالد بن جَبلة: كان الأحوص بن جَعفر الرئيس. وقال عامر ومِسْمع: كان الرئيسَ كليبُ بن وائل. وقال ابن نُوح: كان الرئيسَ زرارةُ بن عُدَس. وهذا في مجلس أبي عمرو بن العَلاء. فتحاكَموا إلى أبي عَمرو، فقال: ما شَهدها عامرُ بن صَعْصعة، ولا دارمُ بن مالك، ولا جُشَم بن بكر، اليومُ أقدمُ من ذلك، ولقد سألت عنه منذ ستّين سنة فما وجدتُ أحداً من القوم يعلم مَن رئيسُهم ومَن المَلِك، غَير أنَّ أهل اليمن كان الرجلُ منهم يأتي ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعُمّال صَدقاتهم اليومِ، وكان أوّل يوم امتنعت معدّ عن المُلوك ملوك حْمير، وكانت نِزَار لم تَكْثُر بعد، فأوقدوا ناراً على خَزَاز ثلاثَ ليال، ودخَّنوا ثلاثةَ أيام. فقيل له: وما خزَز؟ قال: هو جَبل قريب من إمْر على يَسار الطريق، خلفه صَحْراء مَنْعِج، يُناوحه كُور وكُوير إذا قطعتَ بطنَ عاقل. ففي ذلك اليوم امتنعت نِزار من أهل اليمن أنْ يأكلوهم، ولولا قولُ عمرو بن كًلثوم ما عُرف ذلك اليوم، حيث يقول:
ونحنُ غَدَاةَ أوقد في خَزَارِ ... رَفَدْنا فوق رِفْد الرافدينَا
فكُنّا الأيْمنين إذا التقينا ... وكانَ الأيْسرِينِ بنو أبينا
فصالُوا صَولةً فيمن يَليهم ... وصُلْنا صولةَ فيمن يَلينا
فأبوا بالنِّهاب وبالسَّبايا ... وأبْنا بالمُلوك مصفدينا
قال أبو عمر بن العلاء: ولو كان جدّه كُليب وائل قائدَهم ورئيسَهم ما ادَّعى الرّفادة وتَرك الرياسة، وما رأيتُ أحداً عرَف هذا اليومَ ولا ذكره في شِعْره قبله ولا بعده.
يوم المِعَا
قال أبو عُبيدة: أغار المُنبطح الأسديُّ على بني عُبَاد بن ضُبَيعة، فأخذ نَعَما لبني الحارث بن عُبَاد، وهي ألفُ بعير، فمر ببني سَعد بن مالك بن ضُبيعة، وبني عِجْل بن لُجيم، فتَبعوه حتى انتزعوها منه، ورئيسُ بني سعد حُمران ابن عَبد عمرو، فأسر اقْتلُ بن حَسان العِجْلي المُنبطحَ الأسديَ، ففَداه قومه، ولا أدري كم كان فداؤه، واستنقذوا السَّبي. فقال حُجر بن خالد بن مَحمود في يوم المِعَا:
ومُنْبَطح الفواضِر قد أذقْنا ... بنَا عجةِ المِعَا حَرَّ الجلاد
تَنقذنا أَخاذيذاً فرُدّت ... على سَكن وجَمْع بني عُبَاد
سكن، ابن باعث بن الحارث بن عُباد. والأخاذيذ. مَن أخذ من النساء.
وقال حُمران بن عبد عمرو:
إنَّ الفوارس يوم ناعجة المِعَا ... نِعْمَ الفوارسُ مِن بني سَيّار
لم يُلْهم عَقْد الأصِرّة خَلْفهم ... وَحنِينُ مُنْهَلة الضُّروع عِشَار
لَحِقوا على قُبِّ الأياطل كالقَنا ... شُعْث تُعدّ لكُلِّ يوم عَوَار
حتى حَبَوْن أخا الغَواضِر ظَعْنةً ... وفَكَكن منه القِدَّ بعدَ إسَار
سالتْ عليه من الشِّعاب خوانِف ... وِرْد الغَطَاط تبلُجَ الأسْحار
يوم النِّسَار
قال أبو عُبيدة: تحالفت أسدٌ وطيء وغَطفان ولَحقت بهم ضَبّة وعديّ، فغَزَوْا بني عامر، فقتلوهم قَتْلاً شديداً، فغَضبتْ بنو تميم لقَتل بني عامر، فتجمعوا حتى لحقوا طيِّئاً وغَطَفان وحلَفاءهم من بني ضَبّة وعَدِيّ يوم الجفَار، فقُتلت تميمُ أشدَّ ممّا قُتلت عامر يومَ النِّسار. فقال في ذلك بِشرْ بن أبي خاَزم:
غضبتْ تميم أن تقتَّلَ عامرٌ ... يوم النِّسار فأعْتِبوا بالصَّيْلَم
يوم ذات الشُّقوق
فحلف ضمرة بنِ ضَمْرة النَّهشليّ فقال: الخَمر علي حرام حتى يكونَ له يوم يُكافئه. فأغار عليهم ضمرة يوم ذات الشُّقوق فقَتلهم، وقال في ذلك:
الآنَ ساغَ الشَّرابُ ولم أَكُن ... آتي التِّجارولا أَشُدّ تَكلُّمي
حتى صَبحْت على الشقوق بغارة ... كالتَّمر ينْثر في حَرِير الحُرَّم

وأبأتُ يوماً بالجفَار بمثله ... وأجرت نِصفاً مِن حَديث المَوْسم
ومشتْ نساء كَالظباءَ عواطلاً ... من بين عارفة السباء وأيِّم
ذَهب الرِّماح بزَوْجها فتَرَكْنَه ... في صَدْر معتدل القَناة مُقَوّم
يوم خَوّ
قال أبو عُبيدة: أغارت بنو أَسد على بني يَرْبوع فاكتَسحوا إبِلهم، فأتى الصريخُ الحيَّ، فلم يَتلاحقوا إلا مساءً بمَوضع يُقال له خَوّ. وكان ذُؤاب بن ربيعة الأشتر على فرس أنثى، وحصان عُتَيبة بن الحارث بن شِهاب على حِصان، فجعل الحصان يستنشق ريح الأُنثى في سواد الليل ويَتبعها، فلم يعلم عُتَيبة إلا وقد أقحم فرسَه على ذُؤاب بن رَبيعة الأشتر، وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه في ظلمة اللّيل، وكان عُتيبة قد لَبس دِرْعه وغَفل عن جُربَّانها حتى أتى الصَّريخ فلم يشُده، ورآه ذُؤاب، فأقبل بالرُّمح إلى ثُغرة نَحره. فخرّ صريعاً قتيلاً. ولحق الربيعُ بن عُتيبة فشدِّ على ذُؤاب فأَسره وهو لا يَعلم أنه قاتلُ أبيه، فكان عنده أسيراً حتى فاداه أبوه ربيعةُ بإيل مَعلومة قاطَعَه عليها، وتواعدا سُوقَ عُكاظ في الأشهر الحُرم أن يأتيَ هذا بالإبل ويأتي هذا بالأسير. وأقبلَ أبو ذُؤاب بالإبل، وشغل الربيعُ بن عتيبة فلم يحضر سُوقَ عُكاظ. فلما رأى ذلك ربيعة أبو ذؤاب لم يشُك أن ذُؤابا قد قَتلوه بأبيهم عُتيبة، فرثاه وقال:
أبْلغ قبائلَ جَعْفر مخْصوصة ... ما إن أحاول جَعفرَ بنَ كِلابِ
إنّ المودة والهوادة بيننا ... خَلَق كسَحْق الرَّيْطة المِنْجاب
ولقد علمتُ على التجلّد والأسى ... أنّ الرزّية كان يومَ ذُؤاب
إنْ يَقتلوك فَقد هتكتَ بيوتَهم ... بعُتيبة بن الحارث بن شِهَاب
بأحبّهم فقداً إلى أعدائه ... وأشدِّهم فقداً على الأصحاب
فلما بلغهم الشعرُ قتلوا ذُؤاب بن ربيعة. وقالت آمنةُ بنتُ عتيبة تَرثي أباها:
على مِثْل ابن مَيّة فانْعَيَاه ... بشَقّ نَواعِم البَشَر الجُيوبَا
وكان أبي عتيبة سَمهريّاً ... فلا تَلْقَاه يدَخر النَّصيبا
ضَرُوباً للكَمِيّ إذا اشمعلّت ... عَوانُ الحَرْب لا وَرعاً هَيُوبا

أيام الفجار
الفجار الأول
قال أبو عبيدة: أيّام الفِجار عدَّة وهذا أولها. وهو بين كِنَانة وهَوازن، وكان الذي هَاجَه أنّ بَدر بن مَعْشر، أحدَ بني غفار بن مُلَيْل بن ضمرِة بن بكر بن عَبد مَناة بن كِنانة. جُعل له مجلس بسوق عكاظ، وكان حَدَثاً مَنيعاً في نفسه، فقام في المجلس وقام على رأسه قائم، وأنشأ يقول:
نحن بنو مُدْرِكة بن خِنْدفْ ... مَن يَطْعنوا في عَيْنه لم يَطْوفْ
ومَن يكونوا قومَه يُغَطْرف ... كأنّهم لُجة بحر مسْدف
قال: ومدَّ رجلَه وقال: أنا أعزُّ العرب فمن زَعم أنه أعزُّ منّي فَلْيضربها. فضربها الأُحَيمر بن مازن، أحدُ بني دَهْمان بن نَصر بن مُعاوية، فأَنْدرها من الرُّكبة، وقال:
خُذْها إليك أيها المُخنْدف
وقال أبو عبيدة: إنما خَرصها خريصة يسبرة، وقال في ذلك:
نحن بنو دهْمان ذو التغِطْرُف ... بحر لبَحر زاخرِ لم يُنْزفِ
نَبنيْ على الأحياء بالمُعرَّفِ
قال أبو عُبيدة: فتجاور الحيّان عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهما الدماء، ثم تراجعوا، ورَأَوْا أنّ الخطبَ يسير.
الفجار الثاني
كان الفجار الثاني بين قُريش وهوازن، وكان الذي هاجه أنَّ فِتْيةً من قُريش قَعدوا إلى امرأة من بني عامر بن صَعصعة، وضيئةٍ حُسَّانة بسُوق عُكاظ. وقالوا: بل أطاف بها شبابٌ من بني كنانة وعليها بُرقع وهي في دِرْع فُضُل، فأعجبهم ما رأوا من هَيئتها، فسألوها أن تُسفر عن وجهها. فأبت عليهم. فأتي أحدُهم من خَلفها فشدَّ دُبُر دِرْعها بشوكة إلى ظهرها، وهي لا تدري، فلما قامت تقلّص الدرعُ عن دُبرها. فضحكوا وقالوا: مَنعتْنا النظَر إلى وجهها فقد رأينا دُبرها. فنادت المرأة: يا لعامر. فتحاور الناسُ، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حربُ بن أُمية وأَصلح بينهم.
الفجار الثالث

وهو بين كنانة وهوازن. وكان الذي هاجه أنَّ رجلاً من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نَصر بن مُعاوية، فأَعدم الكِنانيّ. فوافى النصريُّ بسُوق عُكاظ بقِرْد فأَوقفه في سوق عُكاظ، وقال: مَن يَبيعني مثلَ هذا بمالي على فلان؟ حتى أَكثر في ذلك. وإنما فعل ذلك النَّصريُّ تعييراً للكنانيّ ولقومه. فمرّ به رجل من بني كنانة فضرب القِرْد بسَيفه فقتله. فهتَف النصريُّ: يا لَهوازن، وهتَف الكنانيّ: يا لكنانة. فتهايج الناسُ حتى كاد أن يكونَ بينهم قتال، ثم رأوا الخطبَ يسيراً فتراجعوا، ولم يَفقم الشر بينهم.
قال أبو عبيدة: فهذه الأيام تسمى فِجاراً لأنها كانت في الأشهر الحُرم، وهي الشُّهور التي يُحرِّمونها، ففجروا فيها، فلذلك سُمِّيت فِجاراً. وهذه يقال لها: أيام الفجار الأول.

الفجار الآخر
وهو بين قُريش وكِنانة كلها وبين هوازن، وإنما هاجها البرّاض بقتله عُروة الرَّجال بن عُتبة بن جعفر بن كلاب، فأبت أن تقتل بعُرْوةَ البرّاض، لأنَّ عروة سيّد هوازن والبرّاض خليع من بني كِنانة، أرادوا أن يَقتلوا به سيّداً من قُريش. وهذه الحروب كانت قبل مَبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بستٍّ وعِشرين سنة، وقد شَهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ أربعَ عشرةَ سنة مع أعمامه. وقال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: كنت أنْبُل على أعمامي يومَ الفِجار وأنا ابنُ أربعَ عشرةِ سنة - يعني أناولهم النَّبل - وكان سببُ هذه الحرب أنَّ النعمان بن المُنذر ملك الحِيره كان يَبعث بسُوق عُكاظ في كُل عام لطيمةً في جِوار رجل شريف مِن أشراف العرب يُجيرها له حتى تُباع هناك، ويَشتري له بثَمنها من أدَم الطائف ما يحتاج إليه. وكانت سوق عكاظ تقوم في أول يوم من ذي القِعدة، فيتسوَّقون إلى حُضور الحج ثم يَحُجّون. وكانت الأشهر الحرم أربعةَ أشهر: ذا القعدة وذا الحجّة والمُحرم ورجب. وعكاظ: بين نخلة والطائف، وبينها وبين الطائف نحو من عشرة أميال. وكانت العربُ تَجتمع فيها للتجارة والتهيء للحجّ من أول ذي القعدة إلى وقت الحج، ويأمن بعضُها بعضاً. فجهّز النُعمان عِير اللطيمة، ثم قال: من يُجيرها؟ فقال البرَّاض ابن قيس النمريُ: أنا أجيرها على بني كنانة. فقال النّعمان: ما أريد إلا رجلاً يُجيرها على أهل نجد وتِهامة. - فقال عُروة الرحّال، وهو يومئذ رجلُ هوازن: أكَلْب خليع يُجيرها لك؟ أبيتَ اللعن، أنا أجيرها لك على أهل الشّيح والقَيْصوم من أهل نَجد وتهامة. فقال البرّاض: أعلى بني كِنانة تُجيرها يا عُروة؟ قال: وعلى الناسِ كلِّهم. فدفعها النُّعمان إلى عُروة. فخرج بها وتبعه البَرّاضُ، وعُروة لا يَخشى منه شيئاً، لأنه كان بين ظَهراني قومه من غَطَفان إلى جانب فَدك إلى أرض يقال لها أُوارة. فنزل بها عروةُ فشرب من الخمر وغنّته قَيْنة ثم قام فنام. فجاء البرَاض فدخل عليه، فناشده عُروة، وقال: كانت مني زلّة، وكانت الفعلة مني ضلّة. فقتله وخَرج يرتجز ويقول:
قد كانتا الفَعلة مني ضَلّة
هلا على غيري جعلتَ الزلّة
فسوف أَعْلو بالحُسام القُلّة.
وقال:
وداهية يُهال الناس منها ... شددتُ لها بني بَكْر ضُلوعِي
هَتكتُ بها بيوتَ بني كلاَبِ ... وأَرضعتُ الموالي بالضُّروع
جمعتُ له يديَّ بنَصَل سَيفَ ... أفلّ فخرّ كالجذْع الصرَّيعِ

واستاق اللَطيمة إلى خَيبر. وأتبعه المُساور بن مالك الغَطَفانَي وأسد بن خيْثم الغَنوى حتى دخل خَيبر. فكان البرّاض أولَ مَن لَقِيهما، فقال لهما، مَن الرجلان؟ قالا: من غَطفان وغَنيّ. قال البرّاض: ما شأن غَطَفان وغنىّ بهذه البلدة؟ قال: ومَن أنت؟ قال: من أهل خَيبر. قالا: ألك عِلْم بالبرّاض؟ قال: دَخل علينا طريداً خليعاً فلم يُؤْوِه أحد بخَيبر ولا أَدخله بيتاً. قالا: فأين يكون؟ قال: وهل لكما به طاقةٌ إن دللتكما عليه؟ قالا: نعم. قال: فانزلا. فنزلاً وعَقلاً راحلتَيْهما. قال: فأيّكما أجرأ عليه، وأمضى مَقْدماً، وأحدّ سيفاً؟ قال الغَطفاني: أنا. قال البرَّاض: فانطلقْ أدلُّك عليه، ويحفظ صاحبُك راحلتيكما. ففَعل. فانطلق البرَّاض يَمشي بين يدي الغَطفانيّ حتى انتهى إلى خَربة في جانب خَيبر خارجة عن البيُوت. فقال البرَّاض: هو في هذه الخَرِبة وإليها يَأْوي، فأَنظرني حتى أنظرُ أثمَّ هو أم لا. فوقف له ودخل البرّاض، ثم خرج إليه وقال: هو نائم في البَيت الأقصى خلفَ هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت، فهل عندك سيفٌ فيه صرامة؟ قال: نعم. قال: هاتِ سَيفك أنظرُ إليه أصارم هو؟ فأعطاه إياه. فهزِّه البرّاض ثم ضَربه بن حتى قَتله، ووضع السيفَ خلفَ الباب، وأقبل على الغنويّ، فقال: ما وراءك؟ قال: لم أَرَ أجبنَ من صاحبك، تركته قائماً في الباب الذي فيه الرجل، والرجلُ نائم لا يتقدم إليه ولا يتأخَر عنه. قال الغنويّ: يا لَهْفاه، لو كان أحد ينظرُ راحلتَينا؟ قال البراض: هما علي إن ذهبت. فانطلق الغنويُّ والبراض خلفه، حتى إذا جاوز الغنويّ بابَ الخَرِبة أخذ البرَّاض السيفَ من خلف الباب، ثم ضرَبه حتى قتله وأخذ سِلاحَيهما وراحلتيهما ثم انطلق. وِبلغ قريشاً خبرُ البرَّاض بسُوق العكاظ، فخَلصوا نَجِيَّاً. وأتبعتهم قَيس لمّا بلغهم أن البرَّاص قتل عُروة الرحَّال، وعلى قيس أبو بَراء عامر بن مالك. فأدركوهم، وقد دخلوا الحرم، ونادَوْهم: يا معشر قريش، إنَّا نُعاهد الله أن لا نُبطل دم عُروة الرحَّال أبداً، ونقتل به عظيماً منكم، وميعادنا وإيّاكم هذه الليالي من العام المُقبل. فقال حرب بنُ أُمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم: إنّ موعدكم قابِل في هذا اليوم. فقال خِداشُ بن زُهير، في هذا اليوم، وهو يوم نَخلة:
يا شدَةً ما شدَدْنا غَيرَ كاذبةٍ ... على سَخِينةً لولا البيت والحَرمُ
لما رأَوْا خيلَنا تُزْجَى أوائلُها ... اسادُ غِيل حَمى أشبالِها الأجَم
واستُقبلوا بضِراب لا كِفاءَ له ... يُبْدِي من العُزل الأكفال ما كَتموا
ولَوا شلالاً وعُظمُ الخيل لاحقة ... كما تَخُب إلى أوطانها النَّعَم
ولَت بهم كل مِحْضارٍ مُلَمْلمةٌ ... كأنَّها لِقْوة يَحْتثها ضَرَم
وكانت العرب تسمي قريشاً سَخِينة، لأكلها السُّخن.
يوم شمطَة
وهي من الفِجار الآخر، ويوم نخلة منه أيضاً.
قال: فجمعت كنانة قُريشها وعبد منافها والأحابيشومَن لحق بهم من بني أسد بن خُزيمة. وسلَّحَ يومئذ عبد الله بن جُدعان مائة كَمِيّ بأداة كاملة سِوى من سُلّح من قومه. والأحابيشُ بنو الحارث بن عبد مَناة بن كِنانة: قال: وجمعت سليم وهوازن جموعَها وأحلافها غير كِلاب وبني كعب، فإنهما لم يشهدا يوماً الفِجار غيرَ يوم نَخلة، فاجتمعوا بشْمطة من عُكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قَرن الحَول، وعلى كل قَبيلة من قريش وكِنانة سيِّدها، وكذلك على قبائل قيس، غير أن أمر كِنانة كلها إلى حَرْبِ بن أمية، وعلى إحدى مُجنَّبَتها عبد الله بن جُدعان. وعلى الأخرى كريز بن ربيعة وحَرب بن أمية في القلب، وأمرُ هوازن كُلها إلى مسعود بن معتب الثّقفي. فتناهض الناس وزَحف بعضهم إلى بعض، فكانت الدائرة في أول النهار لكِنانة على هَوازن، حتى إذا كان آخرُ النهار تداعت هَوازن، وصابرت وانقشعت كنانة، فاستحرَّ القتلُ فيهم، فقُتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، وقيل ثمانون. ولم يُقتل من قُريش يومئذ أحدٌ يذكر. فكان يوم شَمطة لهوازن على كنانة.
يوم العَبْلاء

ثم جَمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قَرن الحَوْل في اليوم الثالث من أيام عُكاظ والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا في يوم شَمطة، وكذلك على المُجَنَبتين، فكان هذا اليوم أيضاً لهَوازن على كنانة، وفي ذلك يقول خِداش بن زُهير:
ألم يَبْلغك ما لقيتْ قُريش ... وحيّ بني كنانة إذ أُبِيروا
دَهمناهم بأرعَن مُكفهرّ ... فظلّ لنا بِعَقْوتهم زَئِير
وفي هذا اليوم قتل العوَامِ بن خُويلد، والد الزُّبير بن العوَّام، قتله مُرَّة ابن مُعتِّب الثقفيّ، فقال رجل من ثقيف:
منَا الذي ترك العوَّام مُنْجدلاً ... تَنتابه الطيرُ لحماً بين أَحجارِ
يوم شَرَب
ثم جمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا على قَرن الحَوْل في الثالث من أيام عُكاظ فالتقوا بشَرب، ولم يكن بينهم يومٌ أعظم منه. والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا، وكذلك على المُجنّبتين. وحَمل ابنُ جُدْعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير، ممَّن لم تكن له حَمولة، فالتقوا. وقد كان لهوازن على كِنانة يومان مُتواليان: يوم شمطة ويوم العَبْلاء. فحميت قُريش وكنانة. وصابرت بنو مَخزوم وبنو بكر، فانهزمت هوازن وقُتلت قتلاً ذريعاً. وقال عبد الله بن الزُّبَعْرى يمدح بنى المًغيرة.
ألا للهّ قومٌ و ... لدتْ أُختُ بني سَهْم
هشامٌ وأبو عَبد ... مَنافٍ مِدْره الخَصْم
وذو الرُّمحين أشبال ... مِن القُوَّة والحَزم
فهذان يذُودان ... وذا مِنْ كَثَب يَرْمي
وأبو عبد مناف: قُصي؛ وهشام: ابن المُغيرة؛ وذو الرُّمحين: أبو ربيعة بن المُغيرة، قاتل يوم شرَب برُمحين؟ وأمهم رَيطة بنت سَعيد بن لسَهْم. فقال في ذلك جَذْل الطعان:
جاءت هوازنُ أرسالاً وإخوتها ... بنو سلَيم فهابوا المَوتَ وانصرفوا
فاستُقبلوا بضرِابٍ فَضَّ جَمْعَهم ... مثلَ الحريق فما عاجُوا ولا عَطَفوا
يوم الحرَيرة
قال: ثم جمع هؤلاء وأولئك، ثم التقَوْا على رأس الحَوْل بالحُريرة وهي حَرَّة إلى جَنب عُكاظ. والرؤساء على هؤلاء وأولئك هم الذين كانوا في سائر الأيام، وكذلك على المُجنَّبتين، إلا أنّ أبا مُساحق بَلْعاء بن قَيس اليَعْمُري قد كان مات. فكان من بعده على بكر بن عبد مَناة بن كِنانة أخوه حُثامة بن قَيس. فكان يوم الحُريرة لَهوازن على كِنانة، وكان آخر الأيام الخَمسة التي تزاحفوا فيها. قال: فقُتل يومئذ أبو سفيان بن أُمية، أخو حَرْب بن أمية. وقُتل من كِنانة ثمانيةُ نَفر، قتلهم عثمانُ بن أُسيد بن مالك، صت بني عامر ابن صَعْصعة. وقُتل أبو كَنَف وابنا إياس وعمرو بن أيوب. فقال خِدَاشُ بن زهير:
إنّي مِن النَّفر المُحْمَر أَعْينهمِ ... أهل السوام وأهل الصَخر واللُّوبِ
الطاعِنين نُحورَ الخَيل مُقْبِلةَ ... بكل سَمْراء لم تُعْلب ومَعْلوب
وقد بلوتُم فأبلوكم بلاءَهم ... يوم الحُريرة ضرباً غير مَكذوب
لاقتْهمُ منهمُ اسادُ مَلْحمة ... ليسوا بزارعة عُوج العَراقيب
فالآن إن تُقْبلوا نأخذ نحورَكم ... كان تباهوا فإني غيرُ مَغلوب
وقال الحارث بن كَلَدة الثَّقفيّ:
تركتُ الفارسَ البَذّاخ منهم ... تَمُجّ عروقُه عَلقاً غبيطا
دعستُ لبانَه بالرُّمح حتى ... سمعتُ لِمَتْنه فيه أطيطا
لقد أرديتَ قومَك يا بنَ صَخْر ... وقد جَشًمتهم أمراً سَلِيطاً
وكم أسلمتُ منكم من كميِّ ... جريحاً قد سمعت له غَطِيطاً
مضت أيام الفجار الأخر، وهي خمسةُ أيام في أربعة سنين، أولها يوم نَخلة، ولم يكن لواحد منهما على صاحبه؛ ثم يوم شَمطة، لهوازن على كنانة، وهو أعظم أيامهم؟ ثم يوم العَبْلاء؛ ثم يوم شَرب، وكان لكنانة على هوازن؛ ثم يوم الحُريرة، لهوازن على كنانة.
قال أبو عُبيدة: ثم تداعى الناس إلى السلم على أن يَذروا الفضلَ ويَتعاهدوا ويتواثقوا.

يوم عين أباغ
وبعده يوم ذي قار

قال أبو عُبيدة: كان ملكَ العرب المُنذر الأكبر بنُ ماء السماء، ثم مات. فملك ابنهُ عمرو بن المُنذر، وأُمّه هند وإليه يُنسب. ثم هلك فَمَلك أخوه قابوس. وأمه هِنْد أيضاً، فكان مُلكه أربعَ سنين. وذلك في مَملكة كِسْرى ابن هُرمز. ثم مات فملك بعده أخوه المُنذر بن المنذر بن ماء السماء، وذلك في مَملكة كِسرى بن هُرمز. فغزاه الحارث الغساني، وكان بالشامِ من تحت يد قَيصر، فالتقوا بعَينْ أَباغ، فقُتل المنذر. فطلب كسرى رجلاً يجعله مكانه. فأشار إليه عديّ بن زيد - وكان من تَراجمة كِسْرى - بالنّعان بن المنذر، وكان صديقاً له، فأَحبّ أنْ يَنفعه وهو أصغر بني المنذر بن ماء السماء، فولاّه كِسْرى على ما كان عليه أبوه. وأتاه عديّ بن زيد، فمكّنه النعمان. ثم سَعى بينهما فَحبسه حتى أتى على نَفسه، وهو القائل:
أبلغ النعمان عني مَالُكا ... أنّه قد طال حَبَسي وانتظاري
لو يغير الماء حَلْقي شَرِق ... كنتَ كالغصّان بالماء اعتصاري
وعِداتي شُمَّت أَعْجبهمِ ... أنّني غُيِّبت عنهم في إسارِي
لامرئ لم يَبْل مني سَقْطةَ ... إن أصابَتْه مُلِمّات العِثارِ
فلئن دَهْرٌ تولّى خَيرُه ... وجَرت بالنَّحس لي منه الجَواري
لَبِما مِنه قَضَينا حاجةً ... وحياةُ المَرء كالشيء المُعار
فلما قَتل النعمانُ عديّ بن زَيد العبَاديّ، وهو من بني امرئ القيس بن سَعد بن زيد مَناة بن تميم، سار ابنُه زيد بن عديّ إلى كسرى، فكان من تَراجمته. فكاد النعمانُ عند كِسرى حتى حمله عليه. فهرب النعمانُ حتى لحق ببني رَواحة من عَبْس، واستعمل كِسرى على العرب إياسَ بنَ قَبيصة الطائي. ثم إنّ النعمان تجوَّل حِيناً في أحياء العرب، ثم أشارت عليه امرأتُه المُتجرّدة أنْ يأتي كسرى ويعتذرَ إليه، ففعل. فَحبسه بساباط حتى هلك، ويقال: أوْطأه الفيلة. وكان النعمانُ إذا شَخِص إلى كسرى أودع حَلْقته، وهي ثمانمائة دِرْع وسلاحاً كثيراً، هانئ بنَ مسعود الشّيباني، وجعل عنده ابنته هندَ التي تُسمّى حُرَقة. فلما قُتل النعمان قالت فيه الشعراء. فقال فيه زُهير بن أبي سُلْمى المزنيّ:
ألم تَر للنُّعمان كان بنَجْوةٍ ... من الشرِّ لو أَنّ امرأَ كان باقيَا
فلم أرَ مَخذولاً له مثلُ مُلْكه ... أقلَّ صديقاً أو خليلا مُوافيا
خلا أنَّ حيا من رَوَاحة حافظوا ... وكانوا أُناساً يَتَّقون المَخازيا
فقال لهم خيراً وأَثنى عليهمُ ... ووَدّعهم تَوديع أنْ لا تَلاقيا

يوم ذي قار
قال أبو عُبيدة: يوم ذي قار هو يوم الحِنْو، ويوم قُراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذات العَجرم، ويوم بَطحاء ذي قار، وكُلّهن حَوْل ذي قار وقد ذكرتْهن الشعراء.

قال أبو عُبيدة: لم يكن هانئ بن مَسعود المُستودع حلقة النًّعمان، وإنما هو ابنُ ابنه، واسمه هانئ بن قَبيصة بن هانئ بن مَسعود، لأن وَقعة ذي قار كانت وقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم وخبّر أصحابَه بها، فقال: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا. فكتب كسرى إلى إياس بنِ قَبيصة بأمره أن يَضُم ما كان للنُّعمان. فأَبى هانئ بن قَبيصة أن يُسلم ذلك إليه، فغضب كسرى وأراد استئصال بَكْر بن وائل. وقَدِم عليه النَّعمانُ بن زُرْعة التَّغلبيّ، وقد طمع في هلاك بكر بن وائل، فقال: يا خير الملوك، ألا أدلّك على غِرَّة بكر؟ قالَ: بلى. قال أقِرَّها وأظْهر الإضراب عنها حتى يُجْليها القَيظ ويُدنيها منك، فإنهم لو قاظُوا تساقطوا بماء لهم، يقال له ذو قار، تساقطَ الفَراش في النار، فأقرَّهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكرُ بن وائل حتى نزلوا الحِنْو حِنْو ذي قار، فأرسل إليهم كِسْرى النعمانَ بن زُرعة يُخيّرهم بين ثلاث خصال: إما أن يُسلموا الحَلْقة، وإما أن يُعرو الدِّيار. وإما أن يَأْذنوا بحَرب. فتنازعتْ بكرُ بينها. فهَمَّ هانئ بن قَبيصة برُكوب الفلاة، وأشار به على بَكْر، وقال: لا طاقَة لكم بجمُوع الملك. فلم تُرَ من هانئ سقطةٌ قبلها. وقال حِنظلةُ ابن ثَعلبة بن سيّار العِجْليّ: لا أرى غير القتال، فإنّا إن رَكبنا الفلاة مِتْنا عَطشا، وإن أعطينا بأيدينا تقتل مُقاتلتُنا وتُسبى ذرارينا. فراسلت بكر بينها وتوافت بذي قار، ولم يَشْهدها أحد من بني حَنيفة. ورؤساء بني بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانئ بن قَبيصة، ويزيد بن مُسْهر الشَّيباني، وَحنظلة بن ثَعلبة العِجْتي - وقال مِسْمع بن عبد الملك العِجْلي بن لُجيم بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل: لا والله ما كان لهم رئيس وإنما غُزوا في ديارهم - فثار الناسُ إليهم من بيوتهم. وقال حَنظلة بن ثعلبة في هانئ بن قَبيصمة: يا أبا أمامة، إنّ ذمّتنا عامّة، وإنه لن يُوصل إليك حتى تفَنى أرواحنا، فأخْرج هذه الحلقة ففرِّقها في قومك، فإن تَظفر فستردّ عليك، وإن تَهْلِك فأهونُ مَفقود. فأمر بها فأُخرجت وفُرِّفت بينهم، وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أُبتَ إلى قومك سالماً.

قال أبو المُنذر: فعقد كِسْرى للنعمان بن زُرعة على تَغلب والنّمِر، وعقد لخالد بن يزيد البَهرانيّ على قُضاعة وإياد، وعَقد لإياس بن قَبيصة على جَميع العَرب، ومعه كَتيبتاه الشَّهباء والدَّوْسر، وعقد للهامَرْز التُّسْتَريّ، وكان على مسلّحة كِسرى بالسواد، على ألف من الأساورة. وكتب إلى قَيس بنِ مَسعود ابن قَيس بنِ خالد ذي الجَدّين، وكان عاملَه على الطَّف طفّ سَفَوان. وأمره أن يُوافيَ إياس بن قَبيصة، ففعل. وسار إياس بمَن معه من جُنده من طيىء، ومعه الهامَرْز والنّعمان بن زُرعة وخالد بن يَزيد وقَيْس بن مَسْعود، كُل واحد منهم على قومه. فلما دنا من بَكر انسل قيسٌ إلى قومه ليلاً، فأتى هانئاً فأشار عليهم كيف يصنعون، وأمرهم بالصبر ثم رجع. قلما التقى الزَّحْفان وتقارب القومُ قام حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العِجْلي، فقال: يا معشر بكر، إنّ النّشّاب التي مع هؤلاء الأعاجم تُفرقكُم، فعاجلوا اللقاء وابدءوا بالشدَّة. وقال هانئ بن مَسعود: يا قوم، مَهلك مَعْذور، خير من مَنْجى مَغرور. إن الجَزع لا يردّ القَدر، وإن الصبر من أسباب الظّفر. المنيّة خير من الدنيّة، واستقبال الموت خير من استدباره. فالجِدّ الجِد فما من الموت بُد. ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقَطع وُضُن النِّساء فسقطْنَ إلى الأرض، وقال: ليقاتل كُل رجل منكم عن حَليلته، فسُمَي مُقَطّع الوُضُن. قال: وقَطع يومئذ سبعُمائة رجل من بني شَيبان أيديَ أَقْبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضَرب السُّيوف. وعلى ميمنتهم بكرُ ابن يزيد بن مُسهر الشّيباني، وعلى مَيْسرتهم حَنظَلة بن ثعلبة العِجْلي وهانئ بن قَبيصة. ويقال: ابنُ مَسعود في القَلب. فتجالد القومُ، وقَتل يزيدُ بن حارثة اليشكري الهَامَرز مُبارِزه، ثم قُتل يزيد بعد ذلك. ويقال إنَّ الحَوفزان بن شريك شد على الهامَرْز فقَتله. وقال بعضُهم: لم يُدرك الحَوفزان يوم ذي قار وإنما قتله يزيدُ بن حارثة. وضرب الله وُجوهي الفُرس فانهزموا، فأَتبعهم بكر حتى دخلوا السّواد في طلبهم يَقْتلونهم. وأُسر النّعمان بن زُرعة التّغلَبي، ونجا إياسُ بن قبيصة على فرسِه الحَمامة، فكان أولَ من انصرِف إلى كسرى بالهزيمة إياسُ بن قَبيصة، وكان كِسرى لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتِفه. فلما أتاه ابن قَبيصة سأله عن الجيش. فقال: هَزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم. فأعجب بذلك كِسْرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس، وقال: إن أخي قيس بن قبيصة مريض بعين التّمر، فأردتُ أن آتيَه. فأذن له. ثم أَتى كِسْرى رجل من أهل الحِيرة وهو بالخَوَرْنق، فسأل: هل دَخل على الملك أحدٌ ؟ فقالوا: إياس، فظَنّ أنه حدّثه الخَبر، فدَخل عليه وأَخبره بهزيمة القوم وقَتْلهم. فأَمر به فنُزعت كَتِفاه.
قال أبو عُبيدة: لما كان يوم ذي قار كان في بَكْر أسرى من تَميم قريباً من مائتي أَسِير، أكثرهم من بني رِيَاح بن يَرْبوع. فقالوا: خَلُّوا عنّا نُقاتلْ معكم فإنما نَذُب عن أَنفسنا. قالوا: فإنا نخاف ألا تناصحونا. قالوا: فدعونا نُعلم حتى تروا مكاننا وغَناءنا فذلك قولُ جرير:
منّا فوارسُ ذي بهْدِي وذي نَجَب ... والمُعْلَمِون صباحاً يوم ذِي قار
قال أبو عُبيدة: سُئل عمرو بن العلاء، وتَنافر إليهِ عِجْليّ ويَشكري، فزعم العِجْليّ أنه لم يَشهد يومَ ذي قار غيرُ شيبانيّ وعِجْلي. وقال اليَشكريّ: بل شهدتْها قبائلُ بكر وحُلفاؤهم. فقال عمرو: قد فَصل بينكماَ التّغلَبيّ حيث يقول:
ولقد أمرتُ أخاك عمراً أَمْرةً ... فعصى وضَيعها بذات العُجْرُم
في غَمرة الموتِ التي لا تَشتَكي ... غمراتِها الأبطالُ غير تَغَمْغم
وكأنما أقدامهم وأكفُّهم ... سِرْب تَساقَط في خَليج مُفْعم
لمَّا سمعتُ دُعاء مُرَّة قد عَلا ... وابني رَبيعة في العَجاج الأَقتم
ومحلم يَمْشون تحت لوِائهم ... والموتُ تحت لواء آل مُحلِّم
لا يَصْدفون عن الوغى بوجوههم ... في كُل سابغةٍ كلون العِظْلم
ودَعَت بنو أُم الرِّقاع فأقبلوا ... عند الِّلقاء بحَل شاكٍ مُعْلم
وسمعتُ يَشْكر تدّعي بخُبَيِّب ... تحت العجَاجة وهي تَقْطُر بالدّم

يَمْشون في حَلق الحديد كما مَشت ... أُسْد العَرين بيوم نَحْس مُظْلم
والجَمع من ذُهل كأنّ زُهاءهمِ ... جُرد الجمال يَقودها ابنا قَشْعم
والخَيل من تحت العجاج عوابساً ... وعلى سنَابكها مناسج من دَم
وقال العُديل بن الفُرْخ العِجْليّ:
ما أَوقد الناس من نار لمَكْرُمة ... إلا اصطَلينا وكُنّا موقدي النّارِ
وما يَعدُّون من يوم سمعتُ بهِ ... للناس أفضلَ من يوم بذي قار
جِئْنا بأسلابهم والخيلُ عابسةٌ ... لما استلبنا لكِسرى كل إسوار
قال: وقالت عِجْل: لنا يوم ذي قار. فقبل لهم: فمن المستودع ومن المَطلوب؟ ومن نائب الملك ومن الرئيس؟ فهو إذا كان لهم كانت الرياسة لهانئ، وكان حَنظلة يُشير بالرأي. وقال شاعرهم:
إنْ كُنت ساقيةً يوماً ذوي كَرم ... فاسقي الفوارِسَ من ذُهلِ بنِ شَيبانَا
واسقي فوارسَ حامُوا عن ذِمارهم ... واعلي مفارقَهم منسْكاً ورَيْحانا
وقال أعشي بكر:
أمّا تميمٌ فقد ذاقتْ عداوتَنا ... وقيسَ عَيلان مَسَّ الخِزْيُ والأسَفُ
وجُند كِسْرى غداة الحِنْو صَبَّحهم ... منّا غَطاريف تُزجي الموتَ فانْصرفوا
لَقُوا مُلَمْلَمةَ شَهْبَاء يَقْدمها ... للموتِ لا عاجزٌ فيها ولا خَرِف
فَرْعٌ نَمَتْهُ فُروع غيرُ ناقصةٍ ... مُوفَّق حازمٌ في أمره أُنف
فيها فوارسُ محمود لقاؤهمُ ... مِثْل الَأسنَّة لا مِيل ولا كُشف
بِيضُ الوُجوهِ غداةَ الروع تَحْسَبهم ... جِنَّان عَبْس عليها البَيْض والزَّغَف
لما التقينا كَشَفْنا عن جَماجمنا ... لِيَعْلَموا أننا بَكْرٌ فينْصَرفوا
قالوا البقيَّةَ والهِنْديُ يحْصدهم ... ولا بقيَّةَ إلا السيف فانكَشفوا
لو أَنَ كلَّ معدِّ كان شارَكَنَا ... في يوْم ذي قار ما أَخطاهُمُ الشَّرَف
لما أَمالوا إلى النّشّاب أيديَهم ... مِلْنا بِبيض فَظل الهام يُخْتَطف
إذا عَطْفنا عليهم عَطْفَةً صَبَرتْ ... حتى تولَّت وكاد اليومُ يَنْتَصف
بطارق وبنو مُلْك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها النَّطف
مِنْ كل مَرْجانة في البحر أحرَزها ... تيارُها ووقاها طينَها الصّدَف
كأنما الآلُ في حافاتِ جَمْعهم ... والبِيض بَرْق بدا في عارضٍ يَكِف
ما في الخُدود صدود عن سيُوفهم ... ولا عن الطَّعْنِ في الَّلبَّات مُنْحَرف
وقال الأعشىَ يلوم قَيسَ بن مسعود:
أقَيسَ بنَ مَسْعود بنِ قيس بنِ خالد ... وأنت أمرؤٌ تَرْجو شبابك وائلُ
أَطوْرَيْن في عام: غزَاة ورحلة ... ألا ليت قيْساً غَرَّفَتْه القوابل
لقد كان في شَيبان لو كنتَ راضياً ... قِبابٌ وحيٌّ حِلَّة وقَنابل
ورَجْراجة تُعْشي النواظرَ فَحْمةٌ ... وجُرْد على أكتافهنَّ الرَّواحل
رحلتَ و تَنْظُر وأنت عميدُهم ... فلا يَبْلغنَي عنك ما أنت فاعل
وعُرِّيت من أهل ومالٍ جمعتَه ... كما عُرِّيَتْ مما تُمِرُّ المَغازل
شَفى النفسَ قَتْلى لم تُوسَّد خُدُودُها ... وِساداً ولم تُعْضَض عليها الأنامل
بعيْنيكَ يومَ الحِنْو إذ صَبَّحْتُهمُ ... كتائبُ موتٍ لم تُعُقْها العواذل
ولما بلغ كسرى خبرُ قيس بن مَسعود إذ انسل إلى قومه، حَبسه حتى مات في حَبْسه. وفيه يقول الأعشى:
وعُرِّيت من أهل ومال جَمعتَه ... كما عُرِّيت مما تُمِرّ المغازلُ
وكتب لَقيطٌ الإياديّ إلى بني شَيبان في يوم ذي قار شعراً يقول في بَعضه:
قُوموا قياماً على أمشاط أرجلِكم ... ثم أفزعوا قد يَنالُ الأمنَ من فَزِعا

وقَلِّدوا أمرَكم للّه دَرُّكم ... رَحْبَ الذِّراع بأمر الحرب مُضطلعا
لا مُترَفاً إنْ رخاءُ العيش ساعدَه ... ولا إذا عَض مكروهٌ به خَشَعا
ما زال يَحْلُب هذا الدهرَ أشْطُرَه ... يكون مُتَبَعاً طوراً ومُتَبِعا
حتى اْستمرّت على شَزْر مَريرتُه ... لا مُسْتحكمَ الرأي لا قَحْماً ولا ضَرعا
وهذه الأبيات نظير قول عبد العزيز بن زُرَارة:
قد عِشتُ في الدهر أطواراً على طُرق ... شتى فصادفت منه اللينَ والفَظَعا
كُلاَّ بلوتُ فلا النعماءً تُبطرني ... ولا تَخشّعت من لأوائه جَزعا
لا يملأ الأمرُ صدري قبلَ موقعه ... ولا أضيق به ذرْعاً إذا وَقعا

كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر
قال الفتيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه، رحمه اللّه: قد مَضى قولُنا في أيام العرب ووقائعها وأخبارها، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في فضائل الشعر ومَقاطعه ومَخارجه، إذ كان الشعر ديوانَ العرب خاصة والمنظومَ من كلامها، والمقيِّدَ لأيامها، والشاهد على أحكامها. حتى لقد بلغ من كَلَف العرب به وتَفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تَخيَّرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القبَاطيّ المُدرجة، وعَلِّقتها بين أستار الكعبة. فمنه يقال: مذهَّبة امرئ القيس، ومُذَهَّبة زُهير. والمذَهبات سبع، وقد يقال لها المُعَلقات. قال بعضُ المحدثين يصف قصيدةً له ويُشبهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت:
بَرْزة تُذكر في الحُس ... ن من الشعر المعلق
كل حَرْف نادرٍ من ... ها له وجهٌ معشق
المعلقات
لامرئ القَيس:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل.
ولزهير:
أمن أم أوفى دِمْنة لم تكلم
ولطَرَفة:
لِخَوْلة أطلالٌ ببرقة ثَهمد
ولعَنترة:
يا دارَ عَبلة بالجواء تكلمي
ولعمرو بن كُلْثوم
ألا هُبِّي بصحنك فاصْبحينا
وللَبيد:
عفَت الدِّيار محلها فمقامها
وللحارث بن حِلَّزة:
آذَنَتْنا ببَيْنها أسماء
اختلاف الناس في أشعر الشعراء
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وذُكر عنه امرؤ القيس بن حُجْر: هو قائد الشعراء وصاحبُ لوائهم. وقال عمرُ بن الخطّاب للوَفد الذين قَدموا عليه من غَطفان: من الذي يقول:
حلفتُ فلم اتركْ لنَفْسك رِيبةً ... وليس وراء الله للمرءِ مَذْهَبُ
قالوا: نابغة بني ذُبيان. قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر:
أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيابي ... على وَجَل تُطَنُّ بيَ الظُنونُ
فألفيت الأَمانةَ لم نَخنها ... كذلك كَان نُوح لا يَخون
قالوا: هو النابغة. قال: هو أشعرُ شُعرائكم. وما أحسب عُمر ذهب إلا إلى أنه أشعرُ شُعراء غَطفان: ويَدُل على ذلك قوله: هو أشعرُ شُعرائكم.
وقد قال عمر لابن عَباس: أنشدني لأشعر الناس، الذي لا يُعاظِل بين القوافي ولا يَتَتَبَّع حُوشيّ الكلام. قال: مَن ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: زُهير بن أبي سُلْمى. فلم يَزل يُنشده من شعره حتى أصبح. وكان زُهير لا يَمدح إلا مُستحقّاً، كمدحه لِسنان بن أبي حارثة وهَرِم بن سِنان، وهو القائِل:
وانّ أشعر بيتِ أنتَ قائلُه ... بيتٌ يُقال إذا أنشدتَه صَدَقا
وكذلك أحسنُ القول ما صدّقه الفعل قالت بنو تَميمٍِ لسَلامة بن جَندَل: مجدْنا بشعرك قال: افعلوا حتى أقول. وقيل للبيد: مَن أشعر الشعراء؟ قال: صاحبُ القُروح - يريد امرأ القيس - قيل له: فبعده مَن؟ قال: ابن العِشْرين - يعني طَرفة - قيل له: فبعده من؟ قال: أنا.
وقيل للحُطيئة: من أشعَر الناس؟ قال: النابغة إذا رَهب، وزُهير إذا رَغب، وجَرير إذا غَضِب. وقال أبو عمرو بن العلاء: طرفة أشعرُهم واحدةً، يعني قصيدته:
لِخولة أطلالٌ بِبُرقة ثَهْمد
وفيها يقول: ستُبدى لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويَأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّدِ وانشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيتَ، فقال: هذا من كلام النُّبوة. وسمع عبد الله بن عمر رجلاً ينشد بيت الحُطيئة:

مَتى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوء نارِه ... تَجدْ خَيْرَ نارٍ عندها خيرُ موقِدِ
فقال: ذاك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إعجاباً بَالبيت. يعني أنّ مثل هذا المَدح لا يَستحقّه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئل الأصمعيّ عن شعر النابغة، فقال: إنْ قلت ألينُ من الحرير صدقتَ، وإن قلتَ أشدّ من الحديد صدقت. وسُئل عن شعر الجَعديّ، فقال: مُطْرف بآلاف. وخِمار بواف. وسُئل حمَّاد الراوية عن شعر ابن أبي رَبيعة، فقال: ذلك الفسِتق المُقشرّ الذي لا يُشبع منه. وقالوا في عمرو بن الأهتم: كان شعره حللاً مًنَشرَة. وسُئل عمرو بن العلاء عن جَرير والفَرزدق، فقال: هما بازيان يَصيدان ما بين الفِيل والعَنْدبيل. وقال جرير: أنا مدينةُ الشعر والفَرزدقُ نَبْعته. وقال بلالُ بن جرير: قلت لأبي: يا أبت، إنك لم تَهْج قوماً قطُّ إلا وضعتَهم إلا بني لَجأ. قال: إنّي لم أجد شرفاً فأضعَه ولا بناء فأهدمه.
واختلف الناس في أَشعر نصف بَيت قالته العربُ. فقال بعضهم: قولُ أبي ذُؤيب الهُذلي:
والدهرُ ليس بمُعتب من يَجْزَع
وقال بعضهُم: قول حُميد بن ثَور الهِلاليّ:
نوكّل بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضي
وقال بعضهُم قول زُميل:
ومَن يَكُ رهناً للحوادث يَغلق
وهذا ما لا تُدرك غايته، ولا يُوقف على حده. والشعر لا يفوت به أحد، ولا يأتي له بديع إلا أتى ما هو أبدعُ منه، وللّه دَرّ القائل: أشعر الناس مَن أبدع في شعره. إلا ترى مَروان بن أبي حَفصة، على موضعه من الشعر وبُعد صِيته فيه، ومَعرفته بغَثِّه وسَمِينه، انشدوه لامرئ القَيس فقال: هذا أشعرُ الناس.
وقد قالوا: إنَّ لحسَّان بن ثابت أفخِرَ بيت قالته العرب، وأحكمَ بيت قالته العرب. فأما أفخر بيت قالته العرب، فقوله:
وبيوم بَدْرٍ إذ يرد وجوهَهم ... جِبريل تحت لِوائنا ومحمدُ
وأما أحكم بيت قالته العرب، فقوله:
وإنَ امرأً أَمسى وأصبح سالماً ... من النَّاس إلا ما جَنى لسعيدُ
وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول جرير:
والتَّغْلبيّ إذا تَنَحْنح للقِرَى ... حكَّ آسْتَه وتمثَّلَ الأمْثَالاَ
ولما قال جرير هذا البيت قال: والله لقد هجوتُ بني تَغلب ببيت لو طُعنوا في أستاههم بالرِّماحِ ما حكّوها.
ويقال: إن أبدع بيت قالته العرب قولُ أبي ذُؤيب الهُذَليّ:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبتها ... وإذا تُردُّ إلى قَليلٍ تَقْنعُ
ويقال: إنَّ أصدق بيت قالته العرب قولُ لَبيد:
ألاَ كُل شيءٍ ما خلا الله باطلُ ... وكُل نَعيم لا محالةَ زائلُ
وذُكر الشعر عند عبد الملك بن مَروان فقال: إذا أردتُم الشعر الجيِّد فعليكم بالزُّرق من بني قيس بن ثَعلبة، وهم رهط أعشى بَكْر، وبأصحاب النِّخل من يَثرب، يريد الأوس والخَزْرج، وأصحاب الشَّعف من هُذيل، والشَّعف: رءوس الجبال.

فضائل الشعر
ومن الدليل على عِظَم الشِّعر عند العرب، وجليل خَطْبهِ في قلوبهم، أنَّه لما بُعث النبيُ صلى الله عليه وسلم بالقرآن المُعجِز نظمه، المُحكم تأليفه، وأعجب قريشاً ما سمعوا منه قالوا: ما هذا إلا سِحْر. وقالوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم: " شَاعِرٌ نَتربصُ بهِ رَيْبَ المَنُون " . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمرو بن الأهتم لمّا أعجبه كلامُه: إنَّ مِنِ البيان لَسِحْراً.
لقد خشيت أن تَكون ساحرَاً ... روايةً مَرّاً ومراً شاعرَاً
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ من الشعر لحِكْمة. وقال كعبُ الأحبار: إنّا نَجد قوماً في التوراة أناجيلُهم في صُدورهم، تَنطق ألسنتهم بالحِكْمة، وأظنّهم الشُّعراء. وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه: أفضلُ صِناعات الرَّجل الأبيات من الشِّعر، يُقدِّمها في حاجاته، يَستعطف بها قلبَ الكريم، ويستميل بها قلب اللئيم.

وقال الحجَّاج للمُساور بن هند: ما لك تقول الشعرَ وقد بلغتَ من العُمر ما بلغتَ؟ قال. أرعى به الكلأ، وأشرب به الماء، وتقضي لي به الحاجة، فإن كفيتَني ذلك تركتهُ. وقال عبدُ الملك بن مروان لمؤدِّب ولده: روَهم الشِّعر يَمْجدوا ويَنْجدوا. وقالت عائشة: روُّوا أولادَكم الشعرَ تعذُب ألسنتهم. وبعث زياد بولده إلى معاوية، فكاشفه عن فنون منِ العِلم، فوجده عالماً بكل ما سأله عنه. ثم أستنشده الشعر، فقال: لم أَرْوِ منه شيئاً. فكتب معاويةُ إلى زياد: ما منَعك أن تُرَوِّيه الشعر؟ فوالله إن كان العاقّ لَيَرْويه فَيبرّ، وإن كان البخيل لَيَرْويه فيسخُو، وإن كان الجبان لَيَرْويه فيقاتل.
وكان علي رضي الله عنه إذا أراد المُبارزة في الحرب أنشأ يقول:
أيّ يوميّ من المَوتِ أفرّ ... يومَ لا يُقدر أم يوم قَدِرْ
يومَ لا يُقدر لا أَرْهَبه ... ومِن المَقدور لا يَنجو الحَذِر
وقال المقداد بن الأسود: ما كنتُ أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بشِعر ولا فَريضة من عائشة رضي الله عنها. وفي رواية الخُشَنِيّ عن أبي عاصمٍ عن عبد الله بن لاحق عن ابن أبي مُليكة قال: قالت عائشة: رحم الله لَبيداً كان يقول:
قَضِّ اللُبانةَ لا أبالك وأذهبِ ... والحق بأسرتك الكِرام الغُيَّبِ
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلف كجِلْدِ الأجرب
فكيف لو أدرك زَماننا هذا! ثم قالت: إني لأروي ألفَ بيت له، وإنه أقلُّ ما أروي لغيره.
وقال الشَعبيّ: ما أنا لشيء من العِلم أقلّ مني روايةً للشِّعر، ولو شئتُ أن أنشد شعراً شهراً لا أعيد بيتاً لفعلت. وسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عائشة وهي تُنشد شعر زُهير بن جَناب:
أرفَعْ ضعيفَك لا يَحُر بك ضعْفهُ ... يوماً فتُدركَه عواقبُ ما جَنَى
يَجزيك أو يثني عليك فإنّ مَن ... أثنى عليك بما فعلتَ كمن جَزَى
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: صدق يا عائشة، لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس.
يزيد بن عمرو بنِ مسلم الخُزاعي، عن أبيه عن جَدّه قال: دخلتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومُنشد يُنشده قول سُويد بن عامر المصطلق:
لا تأمنَن وإن أمسيتَ في حَرَمٍ ... إنَّ المَنايا بجَنْبي كُل إِنْسانِ
فاسلُك طريقَك تَمْشي غير مُخْتَشع ... حتى تلاقِي الذي مَنَّى لك الماني
فكل ذي صاحب يوماً مُفارقهُ ... وكُلّ زادٍ وإنّ أبقيته فاني
والخيرُ والشرُّ مَقْرونان في قَرَن ... بكُل ذلك يأتيك الجَدِيدان
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أَدرك هذا الإسلام لأسلم.
أبو حاتم، عن الأصمعي قال: جاء رجُل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك يا رسول اللّه؟ قال: نعم. فأنشده:
تركتُ القِيان وَعزْف القِيان ... وأدمنتُ تَصليةً وابتهالا
وكَرِّي المُشقَّر في حَوْمة ... وشَنِّي على المُشْركين القِتالا
فيا ربّ لا أغبننْ صفقتيَ ... فقد بِعْت مالي وأهلي بدالا
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: رَبح البَيع، ربح البيع. قدم أبو ليلى النابغة الجَعديّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانشده شعرَه الذي يقول فيه:
بَلَغنا السماءَ مجدنا وسناؤنا ... وإِنا لَنرجو فوق ذلك مَظْهَرَا
فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله بك.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إلى الجنة إن شاء اللّه: فلما انتهى إلى قوله:
ولا خير في حِلم إذا لم تَكُن له ... بوادرُ تَحْمِي صَفْوه أن يُكَدَّرا
ولا خيرَ في جَهل إن لم يكُن له ... حَلِيم إذا ما أورد الأمرُ اصدرَا
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يفْضض الله فاك. فعاش مائةً وثلاثين سنة لم تَنْغُض له ثنية.
سفيان الثّوري عن لَيث عن طاووس عن ابن عباس قال: إنها لكَلمة نبيّ.
يَعني قولَ طرفة:
ستُبدي لك الأيامً ما كنت جاهلاً ... وَيأتيك بالأحبار مَن لم تُزودِ
وسمع كعب قولَ الحُطيئة:

مَن يفعل الخير لا يَعْدَم جَوازيه ... لا يذْهبُ العُرف بين الله والناس
قال: إنه في التّوْراة حَرْفاً بحَرف: يقول اللّه تعالى: " مَن يفعل الخير يَجدْه عندي، لا يذهب الخيرُ بيني وبينَ عبدي " .
وقال عبد الله بن عبّاس: أنشدت النبيّ صلى الله عليه وسلم أبياتاً لأًمية بن أبي الصَّلت يذكر فيها حَملة العرش، وهي:
رَجُلٌ وثَورٌ تحتَ رِجْل يَمينه ... والنّسرِ للأخرى وليثٌ مُرْصَدُ
والشمسُ تَطْلُع كُل آخر ليلةٍ ... فجراً ويُصبح لونُها يتوقد
تبدو فما تبدو لهم في وَقْتها ... إلا مُعذِّبة وإلا تُجْلَد
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم كالمُصدِّق له.
ومن حديث ابن أبي شَيْبة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردف الشريد، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: تَرْوي من شِعر أُمية بن أبي الصَّلت شيئاً؟ قلتُ: نعم. قالت: فأنشِدني. فأنشدته. فجعل يقول بين كل قافيتين: هيه، حتى أنشدتُه مائة قافية. فقال: هذا رجل آمن لسانه وكَفر قلبُه.
ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم جُند يجنّده رسول الله صلى الله عليه وسلم على المُشركين، يدُل على ذلك قولُه لحَسان: شُنَ الغَطاريف على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشدُّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام: وتَحفظْ ببَيْتي فيهم. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيَّاً لأسُلّنّك منهم سَلّ الشّعرة من العجين. ثم أخرج لسانه فضرب به أَرنبة أَنفه، وقال: والله يا رسولَ الله إنه ليخيّل لي أنّي لو وضعته على حَجر لفَلقه، أو على شَعَر لحَلقه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيد الله حسّاناً في هَجْوه برُوح القُدس. وقال ابن سيرين: بلغني أنّ دَوْساً إنما أسلمتْ فَرقاً من كعب بن مالك صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يقول:
قَضينا من تِهامة كُلّ نحب ... وخَيْبر ثم أَغْمدنا السيوفَا
نُخبِّرها ولو نَطقت لقالت ... قواضبُهنَّ دَوْساً أو ثَقِيفاً
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت لقد شكر الله لك قولَك حيثُ تقول:
زعمتْ سَخينةُ أنْ ستغلب رَبَّها ... ولَيُغْلبنّ مُغالب الغَلاّبِ
ولو لم يكن من فضائل الشّعر إلا أنّه أعظمُ الوسائل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك أنه قال لعبد الله بن رَواحة: أَخْبرني ما الشعرُ يا عبد الله؟ قال: شيء يَختلج في صَدْري فيَنطق بهِ لساني. قال: فأَنْشِدني فأَنشده شعره الذي يقول فيه:
فثبَّت الله ما آتاك مِنْ حَسَنِ ... فَفَوْتَ عيسى بإذْن الله والقَدَرِ
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: وإياك ثَبَّت الله، وإياك ثَبت الله ومِن ذلك ما رواه ابنُ إسحاق صاحب المَغازي وابنُ هشام. قال ابن إسحاق: لما نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفراء - قال ابنُ هشام: الاثيلِ - أمر عليَّاً فضرَب عنق النَضر بن الحارث بن كَلدة بن عَلْقمة بن عبد مناف، صبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت أُختُه قُتيلة بنت الحارث ترثيه:
يا راكباً إنّ الأثيل مَظنّة ... من صُبحِ خامسة وأنت مُوفقُ
أَبْلِغ بها مَيْتاً بأنَّ تحيةً ... ما إن تزال بها النجائبُ تخفق
مني عليك وعَبرة مَسْفوحة ... جادت بواكِفها وأًخرى تَخنُق
هل يَسمعني النضرُ إن ناديتُه ... أم كيف يَسمع مَيت لا ينطق
أمحمد يا خيرَ ضِنْء كَريمة ... في قَومنها والفحلُ فحلٌ مُعرق
ما كان ضرك لو مَننت وربما ... مَنّ الفتى وهو المَغيظ المُحنق
فالنضر أقربُ من أَسرت قرابةً ... وأحقُّهم إن كان عِتْق يُعتق
ظَلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشه ... للهّ أرحام هناك تمزق
صبراً يُقاد إلى المنيّة مُتعباً ... رَسْفَ المُقيّد وهو عانٍ مُوثَق
قال ابن هشام: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، لمّا بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبلَ قتله ما قتلْتهُ.

من حديث زياد بن طارق الجشميّ قال: حدّثني أبو جَرْول الجُشمي، وكان رئيس قومه، قال: أَسَرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، فبينما هو يُميز الرجال من النساء إذ وثبتُ فوقفتُ بين يديه وأنشدته:
امنُن علينا رسولَ الله في حُرَم ... فإنك المرءُ نرجوه ونَنتظر
امنُن على نِشوة قد كنتَ تَرْضعها ... يا أَرجح الناس حِلْماً حين يُخْتبر
إنّا لَنْشكر للنُّعمى إذا كُفِرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخر
فذكَّرته حين نشأ في هوازن وأرضعوه. فقال عليه الصلاةُ والسلام: أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو للّه ولكم. فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو للّه ولرسوله. فردّت الأنصار ما كان في أيهديها من الذَّراري والأموال.
فإذا كان هذا مَقامِ الشعر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأي وسيلة تَبلغه أو تعْشره.
وكان الذي هاج فتْح مكة أنّ عمرو بن مالك الخْزاعِيّ، أحدَ بني كَعب، خَرج من مكة حتى قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكانت خُزاعة في حِلْف النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي عهده وعَقْده، فلمّا انتقضت عليهم قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا، أقبل عمرو بنُ مالك الخُزاعيّ بأبيات قالها. فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يا رب إنّي ناشدٌ مُحمدَاً ... حِلْفَ أَبينا وأَبيه الأتْلدَا
قد كنتُم وُلْداً وكُنّا وَلدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك الموكدا
وجعلوا لي في كَداء رَصداً ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذلّ وأقل عدداً ... هُم بيّتونا بالوتير هُجَّدا
وقَتّلونا رُكعّا وسُجّدا ... فانصرُ هَداك الله نَصْراً أَيِّدا
وأدْع عبَاد الله يأتوا مَدَدا ... فيهِم رسولُ الله قد تجرّدا
إنْ سِيم خَسْفاً وجهُه تَربّدا ... في فَيْلق كالبَحر يَجْري مُزْبدا
قال ابن هشام: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، نُصرت يا عمرو بن مالك. ثمَّ عَرض عارضٌ من السماء، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة تستهلّ بنَصْر بني كعب. وقال عمر بن الخطّاب: الشعر جَزل من كلام العرب، يُسكَّن به الغَيظ، وتُطفأ به الثائرة، ويتبلَّغ به القومُ في ناديهم، وُيعطى به السائل. وقال ابنِ عبّاس: الشعر عِلْم العرب وديوانها فتعلَّموه، وعليكم بشعر الحِجاز. فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز، وحَضَّ عليه، إذ لغتهم أَوسط اللّغات.
وقال معاويةُ لعبد الرحمن بن الحكم: يا بن أخي، إنك شُهرت بالشعر، فإياك والتشبيبَ بالنّساء، فإنك تغرّ الشريفة في قومها، والعفيفة في نفسها؛ والهجاء، فإنك لا تَعْدو أن تُعادي كريماً أَو تَستثير به لئيماً. ولكن افخر بمآثر قَومك، وقُل من الأمثال ما تُوَقّر به نفسك، وتؤدِّب به غيرك. وسُئل مالك ابن أنس: منِ أين شاطر عمرُ بن الخطاب عُمّاله؟ فقال أموال كثيرة ظهرت عليهم، وإنّ شاعراً كتب إليه يقول:
نَحجُّ إذا حَجُّوا ونَغْزو إذا غَزَوْا ... فأنيَّ لهم وَفْر وَلَسنا بذي وَفْر
إذا التاجرُ الهِنْدي جاء بفَارة ... من المسك راحت من مَفارقهم تَجْري
فدونك مالَ الله حيثُ وجدتَه ... سَيرضَون إن شاطرتهم منك بالشَّطْر
قال: فشاطرهم عُمر أموالهم.
وأنشد عمر بن الخطّاب قولَ زُهير:
فإن الحق مَقْطعه ثلاثٌ ... يَمين أو نَفارٌ أو جَلاءُ
فجعل يعجب بمعرفته بمقاطع الحُقوق وتَفصيلها وإنما أراد: مَقطع الحقوق يَمين أو حكومة أو بيِّنة. وأُنشد عُمر قول عَبَدة بن الطَّبيب:
والعيشُ شح وإشفاقٌ وتَأميلُ
فقال: على هذا بُنيت الدنيا.
ولمّا هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهاجر أصحابُه، مستهم وباء المدينة فمرض أبو بكر وبلال. قالت عائشة: فدخلتُ عليهما، فقلت: يا أبت، كيف تَجدك؟ ويا بِلال، كيف تَجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول:
كُلّ امرئ مُصَبّح في أهله ... والموتُ أَدْنى من شرِاك نَعْلِهِ

وقالت: وكان بلال إذا أَقلعت عنه يَرفع عقيرته ويقول:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً ... بوادٍ وحَوْلي إذْخر وجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يوماً مِياه مَجنّةٍ ... وهل يبدوَن لي شَامَة وطَفِيل
قالت عائشة: وكان عامر بن فُهيرة يقول:
وقد رأيتُ الموتَ قبل ذَوْقه ... إنّ الجَبان حَتْفه مِن فَوْقه
كالثَور يَحْمي جِلده برَوْقِه قالت عائشة: فجئتُ رسوله الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه. فقال: اللَّهم حبِّب إلينا المدينة كحُبنا مكة وأشد، وصَحّحها وبارك لنا في صاعها ومُدها، وأنقُل حماها فاجعلها بالجُحفة.
ومن حديث البَراء بن عازب، قال: لما كان يوم حُنين رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، والعبّاس وأبا سُفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وهما آخذان بِلجام بغلته، وهو يقول:
أنا النبيّ لا كَذِب، ... أنا ابنُ عبد المُطّلبْ
ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة عن سُفيان بن عُيينة يَرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه لما دخل الغار نُكِبَ، فقال.
هل أنتِ إلا إصْبع دَمِيت، ... في سَبيل الله ما لقيت
فهذا من المَنثور الذي يُوافِق المنظوم، وإن لَم يتعمد به قائله المنظوم. ومثل هذا من كلام الناس كثير يأخذه الوَزن، مثلُ قول عبد مملوك لمواليه: اذهبوا بي إلى الطبيب، وقولوا قد اكتوى. ومثله كثير مما يأخذه الوزن ولا يُراد به الشعر. ولا يُسمَّى قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان موزوناً، شعراً، لأنه لا يراد به الشّعر. ومثلُه قي أي الكتاب: " ومِن اللَّيْل فَسَبّحه وإدْبَار النُّجوم " ومنه: " وجِفَان كالجَوَاب وقُدُور راسيات " ومثله " ويُخزْهم ويَنْصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مُؤمنين " ومنه: " فَذَلكَ الَّذي يَدُعِّ اليَتيم " . ولو تطلّبت في رسائل الناس وكلامهم لوجدت فيه ما يَحتمل الوزن كثيراً ولا يُسمّى شعراً. من ذلك قولُ القائل: مَن يشتري باذنجان. تقطيعه: مستفعلن مفعولات. وهذا كثير.
مَن قال الشعر من الصحابة والتابعين

والعلماء المشهورين
كان شعراء النبيّ صلى الله عليه وسلم: حسّان بن ثابت، وكَعب بن مالك، وعبدَ الله بن رواحة. وقال سعيد بن المُسيِّب: كان أبو بكر شاعراً، وعُمر شاعراً، وعليُّ أشعرَ الثلاثة. ومن قول عليّ كرّم الله وجهه بصِفين:
لمَن رايةٌ سَوداء يخْفِق ظلُّها ... إذا قِيل قَدِّمها حُضين تَقدَّما
يُقدِّمها في الصَّف حتى يزِيرها ... حِياضَ المَنايا تَقْطُر السّمّ والدَما
جَزى الله عنِّي والجَزاء بكَفِّه ... رَبيعة خيراً ما أَعف وأكَرما
وقال أنس بن مالك خادمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قَدِم علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وما في الأنصار بيت إلاّ وهو يقول الشعر. قيل له: وأنتَ أبا حمزة؟ قال: وأنا وقال عمرو بن العاص يوم صفين:
شَبّت الحربُ فأعددتُ لها ... مُفْرع الحارِك مَحْبوك الثَّبَجْ
يَصِل الشدَّ بشِدٍّ فإذا ... وَنت الخيلُ عن الشدَ مَعَج
جُرْشُع أعظَمُه جُفْرَته ... فإذا أبتلّ من الماء خَرَج
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص:
فلو شَهدتْ جُمل مُقامي ومَشْهدي ... بصفِّين يوماً شاب منها الذوائب
عشيّةً جا أهلُ العِراق كأنهم ... سَحاب ربيع زعْزعتها الجَنائب
وجِئْناهُم نَرْدِي كأنّ صُفوفنا ... من البحر مدٌّ موجُه مُتراكب
إذا قلت قد ولَّوا سرِاعاً بدت لنا ... كتائبُ مِنهم وأرجحنّت كَتائب
فدارتْ رَحانا واستدارت رَحاهُم ... سراة النّهارِ ما تَوالى المناكب
وقالوا لنا إنا نَرى أنْ تبايعوا ... علياً فقُلنا بل نَرى أن نُضارب
من شعراء التابعين

عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مَسعود، وهو ابن أخي عبد الله بن مَسعود، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد السَّبعة من فُقهاء المدينة، وله يقول سَعيد بن المُسيّب: أنت الفقيه الشاعر. فقال: لا بُد للمصدور أن يَنْفث. يعني أنه مَن كان في صَدره زُكام فلا بد من أن يَنفث زَكمة صدره. يريد أن كل من أختلج في صَدره شيء من شعر أو غيره، ظهر على لسانه.
وقال عُمر بن عبد العزيز: وَدِدْت لو أنّ لي مجلساً من عبيد الله بن عبد الله ابن عُتبة بن مَسعود بدينار. قال عبيد الله بن عَبد الله بن عُتبة بن مسعود: ما أحسن الحسنات في إثْر السيآت، وأقبحَ السيآت في إثر الحَسنات، وأحسن من هذا وأقبح من ذلك: الحسنات في إثر الحسنات، والسيآت في إثر السيآت.

ومن شعراء التابعين
عروة بن أذينة، وكان من ثقات أصحاب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَروي عنه مالك. وقال ابن شُبرمة: أن عُروة بن أذينة يَخرج في الثُّلث الأخير من الليلِ إلى سِكك البصرة فينادي: يأهل البصرة، " أَفأمِنْ أَهْلُ القُرَى أنْ لأْتِيَهم بَأْسُنا بَيَاتاً وهُم نائِمُون. أَوَ أَمِن أهْل القُرى أن يأتيَهم بأْسنا ضُحى وهُم يَلعَبونّ " . الصلاة الصلاة.
من شعراء الفقهاء المبرزين
عبد الله بن المًبارك صاحب الرقائق. وقال حِبان: خرجنا مع ابن المُبارك مُرابطين إلى الشام، فلما نَظر إلى ما فيه القومُ من التعبّد والغَزو والسرايا كل يَوم التفت إليّ وقال: إنّا للهّ وإنّا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وليال وأيام قطعناها في عِلْم الخليَّة والبَرِيّة، وتركناها هنا أبوابَ الجَنَّة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي وأنا معه في أزقة المَصِّيصة إذ لقي سَكرانَ قد رفع عَقيرته يتغنّى ويقول:
أذلني الهوى فأنا الذليلُ ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
قال: فأخرج برنامجاً من كُمه، فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت. شعر سمعتَه من سكران؟ قال: أما سمعتم المَثل: رُب جوهرة في مَزْبلة؟ قالوا: نعم. فهذه جَوْهرة في مَزبلة. وبلغ عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن عمر بن عبد العزيز بعضُ ما يكره فكتب إليه:
أتاني عنك هذا اليومَ قولٌ ... فضِقْت به وضاق به جَوابي
أبا حفص فلا أدري أرغمي ... تريد بما تحاول أم عتابي
فإن تك عاتباً تُعْتَب وإلا ... فما عودي إذاً بيَراع غاب
وقد فارقتُ أعظَم منك رُزءَاً ... وواريتُ الأحِبَّة في التُّراب
وقد عَزّوا علي إذ اسْلموني ... معاً فلبستُ بعدهُم ثِيابي
وقد ذكرنا شعر عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة وعُروة بن أُذينة في الباب الذي يتلو هذا الباب، وهو: قولهم في الغزل .
حدّث فرج بن سلام قال: حدِّثنا عبد الله بن الحَكم الواسطيّ عن بعض أشياخ أهل الشام قال: استعمل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حَرب على نجران. فولاّه الصلاة والحرب. ووجّه راشدَ بن عبد ربِّه السلمي أميراً على القضاء والمظالم. فقال راشدُ بن عبد ربّه:
صحا القلبُ عن سَلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه ما بَعَتْه تُماضر
وحكّمه شيبُ القَذال عن الصبا ... وللشّيب عن بعض الغَواية زاجر
فاقصر جَهْلِي اليومَ وأرتد باطلي ... عن الَّلهو لما ابيض مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعد صحْوه ... بمَعْرض ذي الاجام عيسٌ بواكر
ولما دنت من جانب الغُوط أخصبت ... وحلّت ولاقاها سُلَيم وعامر
وخبّرها الركبان أنْ ليس بَيْنها ... وبين قُرى بُصرى ونَجران كافر
فألقت عَصاها واستقرت بها النَّوى ... كما قَر عيناً بالإياب المُسافر
وكان عبد الله بن عمر يُحب ولده سالماً حبّاً مُفرطا، فلامه الناس في ذلك فقال:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجِلْدَةُ بين العَين والأنْف سالم
وقال: إنّ ابني سالما ليُحب الله حبّاً لو لم يخَفه ما عصاه.
وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إذا برز إلى القتال أنشد:
أيّ يومي من الموتِ أفر ... يومَ لا يُقدر أم يوم قُدر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16