كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

والذي يحتاج إلى كثرة الغذاء من الناس من كان الغالب على بدنه الحرارة، وكانت كبده لحرارتها سريعة التوليد للمرة الصفراء، فلذلك يحتاج إلى الأطعمة الغليظة البطيئة الانهضام ويستمرئها، ويستمرئ لحم البقر، ولا يستمرئ لحم الدجاج وما أشبهه من الأطعمة الخفيفة. ولا يصلح شيء من هذه إلا في وقت تحرك الشهوة، فإنه أفضل وقت يؤخذ فيه الطعام. وللعادة في هذا حظ عظيم، ألا ترى أنه من اعتاد الغداء فتركه واقتصر على العشاء عظم ضرر ذلك عليه، ومن كانت عادته أكلة واحدة فجعلها أكلتين لم يستمرئ طعامه؟ ومن كانت عادته أن يجعل طعامه في وقت من الأوقات، فنقله إلى غير ذلك الوقت أضر ذلك به، وإن كان قد نقله إلى وقت محمود. فيجب لذلك أن يتبع العادة إذا تقادمت فطالت، وإن كانت ليست بصواب، إذا لم يحدث شيء اضطره إلى نقلها، لأن العادة طبيعة ثانية، كما ذكر الحكيم أبقراط. فإن حدث شيء يدعوه إلى الانتقال عنها فأوفق الأمور في ذلك أن ينتقل عنها قليلاً قليلاً. وللشهوة أيضاً في استمراء الطعام أعظم الحظ، لأنها دليل على الموافقة والملاءمة، فمتى كان طعامان مستويان في الجودة، وكانت شهوة المحتاج إليهما أميل إلى أردئهما، اخترناه على الأجود، إذا لم نخف منه ضرراً أكثر مما ينال منه من المنفعة، لحسن قبول المعدة له واستمرائها إياه.
فقد بان أنه يحتاج في حسن استعمال الأغذية وجودة تخير الأطعمة إلى معرفة اختلاف الطبائع وحالاتها.
فقد بينت اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها، وما يجب على كل واحد منها من أنواع الأطعمة والأشربة. وبقي أن نبقي اختلاف قوى الأطعمة والأشربة، وأن أصف أنواع الأغذية، وأسمي ما في كل صنف منها، إن شاء الله تعالى.

أنواع الأطعمة
الأطعمة اللطيفة
هي التي يتولد منها دم لطيف. فمنها لباب خبز الحنطة، والحب المقشور، ولحم الفراريج، ولحم الدراج والطيهوج، والحجل، وأجنحة جميع الطيور، وما لان لحمه من صغار السمك ولم تكن فيه لزوجة، والقرع، والماش، وما أشبهه. وهذا الجنس من الأطعمة نافع لمن ليست له حركة، وكانت الحرارة الغريزية في بدنه ضعيفة، ولم يأمن أن يتولد في بدنه كيموس غليظ، ويتولد في كبده أو طحاله سدد، أو في كلاه، أو في صدره، أو في دماغه، أو في شيء من مفاصله من البلغم.
الأطعمة اللطيفة في نفسها الملطفة لغيرها
هي التي يكون ما يتولد منها لطيفاً، وتلطف ما تلقاه من الكيموس اللزج الغليظ في البدن.
وهذا الجنس من الأطعمة أربعة أصناف: صنف منها حلو لطيف، لما فيه من قوة الجلاء، مثل ماء الشعير، والبطيخ، والتين اليابس، والجوز، والقسطل، والعسل، ما يعمل منه من الناطف. وهذا الجنس في منفعته من جنس الأول من الأطعمة اللطيفة، إلا أنه أبلغ في تلطيف البدن.
والصنف الثاني حار حريف: كالحرف، والثوم، والكراث، والكرفس، والكرنب والجرجير، والصعتر، والنعنع، والرازيانج، والشراب الأصفر اللطيف العتيق الحار.
وهذا كله نافع لمن احتاج إلى فتح السدد التي في الكبد والطحال والصدر والدماغ، وتقطيع البلغم وترقيقه. ولا ينبغي لأحد أن يكثر استعماله لأنه يرقق الدم أولاً ويصيره مائياً، فيقل لذلك غذاء البدن. ويضعف ثم إنه يسخن البدن سخونة مفطرة، فيصير أكثره مرة صفراء، ثم إنه بعد ذلك إذا تمادى مستعمله في استعماله حلل لطيف الدم وترك غليظه، فصار أكثر مرة سوداء، وربما تولد من ذلك حجارة في الكلى. ومضرة هذا الصنف أشد ما تكون على من كانت المرة الصفراء غالبة عليه.
والصنف الثالث: يذيب ويلطف بملوحته، كالمري، وما لان لحمه وقل شحمه من السمك إذا ملح، والسلق، وماء الجبن، وكل ما جعل فيه من الأطعمة الملح والمري والبورق. ومنافع هذا النصف ومضاره قريبة من منافع الأشياء الحريفة ومضارها، إلا أن هذا الصنف في تنقية المعدة والأمعاء وتليين الطبيعة أبلغ.
والصنف الرابع: يقطع ويلطف بحموضته، كالخل، والسكنجبين، وحماض الأترج، وماء الرمان الحامض، وكل ما يتخذ بها من الأطعمة. وهذا الصنف نافع لمن كان معدته وسائر بدنه حاراً إذا تولد فيها البلغم من غلظ ما يتناول من الأغذية ومن كثرتها.
الأطعمة الغليظة في نفسها الملطفة لغيرها

منها البصل، والجزر، والفجل، والسلجم، وما أشبه ذلك. فهذه الأطعمة في نفسها غليظة وتلطف ما تلقى من الشيء الغليظ، بما فيها من الحدة والحرافة، وهي تولد كيموساً غليظاً. ومتى ما طبخ شيء منها أو شوي ذهب عنه قوة الحرافة والتقطيع، وبقي جرمه غليظاً رديئاً، وقد يتناول للمنفعة بتقطيع هذه الأطعمة وتلطيفها، ويسلم من غلظ جرمها على إحدى ثلاث جهات: إما أن تطبخ فتلطف، كالذي يفعل بالبصل، وإما أن تعصر أو تطبخ ثم يستعمل ماؤها، وإما أن تؤكل نيئة فتقطع البلغم، كالذي يفعل بها جميعاً.

الأطعمة الغليظة
الغالب على الأطعمة الغليظة كلها اليبس واللزوجة. فمنها شيء يكون اليبس واللزوجة من طبعه. ومنها ما يكتسب اليبس من غيره. فالذي يكون اليبس من طبعه العدس، ولحم الأرانب، والبلوط، والشاه بلوط، والكمأة، والباقلي المقلو. هذه كلها غليظة، لأن اليبس في طبائعها. وأما الذي يكتسب اليبس من غيره فالكبود والبيض المسلوق والمشوي وما قلي منه، واللبن المطبوخ طبخاً كثيراً، والضروع، وعصير العنب المطبوخ، لا سيما إن كان العصير غليظاً. فهذه كلها غليظة، لأن الحرارة بالطبخ أحدثت لها يبساً وانعقاداً. وأما لحوم الإبل، ولحوم التيوس، ولحوم البقر، والكروش والأمعاء، فإنها غليظة بصلابتها. وكذلك الترمس، وثمر الصنوبر، والسلجم، واللوبيا، وما خبز على الفرن، فإن ظاهره غليظ لما أحدثت له النار من اليبس، وباطنه غليظ لما فيه من اللزوجة. وكذلك كل ما لم يجود عجنه أو خبزه أو إنضاجه من خبز التنور، وكل ما خبز على الطابق بدهن أو غيره، والسمن والفطر والشهد واللبن والأدمغة، فإنها كلها غليظة للزوجة فيها طبيعية. وأما الفالوذج فإنه غليظ للزوجته، والانعقاد الحادث له من الطبخ. وأما الباذنجان فإنه غليظ لليبس وللزوجة في طبعه. وأما الخبز فإنه غليظ لاجتماع الحالات الثلاث فيه. فأما السمك الصلب اللزج فإنهغليظ، لاجتماع الصلابة واللزوجة فيه. وأما الآذان والشفاه وأطراف العضل، فإنها تولد كيموساً لزجاً ليس بالغليظ، وقد تولد ما يعرض من الأغذية الباردة عن هضمها وتلطيفها، كالذي يعرض من أكل الفاكهة قبل نضجها، ومن أكل الخيار والقثاء، وشحم الأترج واللبن الحامض. فهذه الأطعمة الغليظة كلها إن صادفت بدناً حاراً كثير التعب قليل الطعام كثير النوم بعد الطعام، انهضمت وغذت البدن غذاء كثيراً نافعاً، وقوته تقوية كثيرة. وأحمد ما تستعمل هذه الأغذية في الشتاء، لاجتماع الحرارة في باطن البدن وطول النوم، ومتى أحس أحد في بدنه نقصاناً بيناً. وإن أكلها من يجد الحرارة في بدنه قليلة ولا سيما في معدته، وتعبه قليل، ونومه بعد الطعام قليل، لم يستحكم انهضامها، وتولد منها في البدن كيموس غليظ حار يابس يتولد منه سدد في الكبد والطحال. فلذلك ينبغي لمن أكل طعاماً غليظاً من غير حاجة إليه لعلة أو شهوة أن يقل منه ولا يفرده، ولا يدمنه. وما كان من الأطعمة الغليظة له مع غلظه لزوجة فهو أغذاها للبدن، فإن لم تنهضم فهو أكثرها توليداً للسدد.
الأطعمة المتوسطة
المتوسطة بين الغلظة واللطيفة، تصلح لمن كان بدنه معتدلاً صحيحاً، ولم يكن تعبه كثيراً. وأجود الأغذية له المتوسط، لأنها لا تنهكه ولا تضعفه كاللطيفة، ولا تولد خاماً ولا سدداً كالغليظة، وهي كل ما أحكم صنعه من الخبز، ولحوم البقر، والدجاج، والجداء، والحولية من الماعز. وأما لحوم الخرفان والضأن كلها فرطبة لزجة. وأما لحم فراخ الحمام والقطا فهي تولد دماً سخناً، وأغلظ من الدم المعتدل. وأما فراخ الوراشين فإنها مثل فراخ الحمام والقطا والإوز، فأجنحتها معتدلة، وسائر البدن كثير الفضول.
وكل ما كثرت حركته من الطير وكان مرعاه في موضع جيد الغذاء، صافي الهواء، كان أجود غذاء وألطف. وكل ما كان على خلاف ذلك فهو أردأ غذاء وأوسخ.
وكل ما لم يستحكم نضجه من البيض، وخاصة ما ألقي على الماء الحر، وأخذ من قبل أن يشتد، فهو معتدل. وكل ما كان من لحم السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة والزهومة، وكان مرعاه ماء نقياً من الأوساخ والحمأة فهو معتدل جيد الغذاء.
ومن الفواكه التين والعنب، إذا استحكم نضجهما على الشجر وأسرعت الانحدار إلى الجوف، كان ما يتولد منها معتدلاً، فإن لم تسرع الانحدار فلا خير فيها.
ومن البقول الهندبا، والخس، والهليون.

ومن الأشربة ما كان لونه ياقوتياً صافياً، ولم يكن عتيقاً جداً.

الأطعمة الحارة
يحتاج إليها من كان الغالب عليه البرودة، وفي الأوقات الباردة والبلاد الباردة. وينبغي أن يجتنبها من كان حار البدن، وفي الأوقات الحارة، وفي البلاد الحارة. منها الحنطة المطبوخة، والخبز المتخذ من الحنطة، والحمص، والحلبة، والسمسم، والشهدانج، والعنب الحلو، والكرفس، والجرجير، والفجل، والسلجم، والخردل، والثوم، والبصل، والكراث، والخمر العتيق. وأسخن الأشربة الحارة العتيق الأصفر.
الأطعمة الباردة
ينبغي أن يستعملها من كان حار البدن، وفي الأوقات الحارة، والبلد الحار. وهي الشعير وكل ما يتخذ منه، والجاورس، والدخن، والقرع، والبطيخ، والخيار، والقثاء، والإجاص، والخوخ، والجمار، وما بين الحموضة والعفوصة، من العنب والزبيب، والطلع، والبلح، والخس والهندبا، والبقلة الحمقاء، والخشخاش، والتفاح، والكمثرى، والرمان. فما كان من الرمان عفصا فهو بارد غليظ، وما كان حامضاً فهو بارد لطيف. فأما الخل فهو بارد لطيف، وهو ضار بالعصب. وما كان أيضاً من الشراب عفصا هو أقل حرارة، وما كان من ذلك حديثاً غليظاً فهو بارد.
الأطعمة اليابسة
يحتاج إلى الأطعمة اليابسة من كان الغالب على بدنه الرطوبة، وفي الأوقات الرطبة، وللبلد الرطب. منها العدس، والكرنب، والسويق، وكل ما يشوى ويطبخ ويقلى، وكل ما أكثر فيه السذاب والمري والخل والأبزار والخردل، ولحم المسن من جميع الحيوان.
الأطعمة الرطبة
يحتاج إلى الأطعمة الرطبة من أفرط عليه اليبس، وفي الأوقات اليابسة والبلد اليابس. وهي: الشعير، والقرع، والبطيخ، والقثاء، والخيار، والجوز الرطب، والعنب، والنبق، والإجاص، والتوت، والجمار، والخس، والبقلة اليمانية، والقطف، والباقلاء الرطب، والحمص الرطب، واللوبيا الرطبة، وكل ما يطبخ بالماء ويسلق به وثقل فيه الأبزار والخل والمري والسذاب، وجيمع لحوم صغار الحيوان.
الأطعمة القليلة الفضول
أجنحة الطيور، وأكارع المواشي، ورقابها، وما يربى في البر من الحيوان في المواضع الجافة.
الأطعمة الكثيرة الفضول
منها لحم الأوز خلا الأجنحة، والأكباد كلها من جميع الحيوان، والنخاع والدماغ، والطيور التي في الفيافي والآجام، والحمص الطري، والباقلاء الطري ولحم الضأن، ولحم المراضع من كل الحيوان، ولحم كل ساكنٍ غير سريع النهوض، وما كان من السمك على ما ذكرنا صلباً لرجاً.
الأطعمة التي غذاؤها كثير
كل ما غلظ من الأطعمة إذا نهضم غذى غذاءً كثيراً. وكل ما كان له فضول كان غذاؤه كثيراً.
وقد يحتاج إلى الأطعمة الكثيرة الغذاء من احتاج إلى أن يأخذ طعاماً قليلاً يغذي غذاءً كثيراً، كالناقة والمسافر، وكالذي يثقل معدته الكثير من الطعام وبدنه يحتاج إلى عذاء كثير.
فمن ذلك لحم البقر، والأدمغة، والأفئدة، وحواصل الطير كلها، والسمك الغليظ اللوح، والسميد والباقلاء، والحمص، واللوبيا، والترمس، والعدس، والتمر، والبلوط، والشاه بلوط، والسلجم، تغذو غذاءً كثيراً لغلظها. واللبن الحليب والشراب الأحمر. وغذاء اللبن كله أغلظه وأرقه، ٌل غذاء. وأغلظ اللبن لبن البقر ولبن النعاج، وأرقه لبن الأتن وألبان اللقاح. وألبان الماعز متوسطة بين ذلك.
وأغذى الأشربة النبيذ الغليظ الحلو، ثم الغليظ الأسود الحلو، ثم الغليظ الأبيض الحلو، ثم من بعد هذه الأشربة العفصة الحلوة. وكلما مال إلى الحمرة والحلاوة كان أغذى. والأبيض أقلها غذاء.
الأطعمة التي غذاؤها قليل
كل ما كان من الأطعمة لطيفاً كان غذاؤه قليلاً، وكل ما أفرط فيه اليبس أو الرطوبة، أو كثرة الفضل قل غذاؤه، كالأكارع، والكروش، والمصارين، والشحم، والآذان، والرئة، ولحم الطير كله. وما ملح من الحيوان قليل الغذاء، لليبس الذي فيه. وكذلك الزيتون، والفستق، والجوز، واللوز، والبندق، والغبيرا والزعرور، والخروب، والبطم، والكمثرى العفص، والزبيب العفص، فإنما قل غذاؤه للعفوصة.
وأما السمك والقرع، والرمان والتوت، والإجاص والمشمش، فإنما قل غذاؤها لكثرة رطوبيتها. وغذؤها غير باقٍ سريع التحلل.

وأما خبز الشعير والخشكار، والباقلاء الرطب، وجميع البقول، مثل الكرنب، والسلق، والحماض، والبقلة الحمقاء، والفجل، والخردل، والحرف، والجزر، فقليلة الغذاء، لكثرة الفضل فيها. وأما البصل والثوم والكراث فإنها إذا أكلت نيئة لم تغذ. وإذا طبخت غذت غذاءً يسيراً. وأما التين والعنب فإنهما بين ما قل غذاؤه وما كثر غذاؤه.

الأطعمة التي تولد كيموسا جيدا
ً
كل ما كان معتدلاً من الأطعمة لم تفرط فيه قوة ولا تجاوزت القدرة فيه ولد دماً خالصاً نقياً صحيحاً. وكل ما كان كذلك فهو موافق لجميع الأبدان، وفي جميع الأوقات، وهو لجميع الأبدان المعتدلة في الأوقات المعتدلة أوفق، لأن ما تجاوز الاعتدال من الأبدان يحتاج من الأطعمة إلى ما فيه قوة تجاوز الاعتدال، وكذلك الأبدان المعتدلة التي ليست بمعتدلة.
وفي الأطعمة المعتدلة ما هو غليظ، وما هو لطيف، وما هو بين ذلك. وأجودها لجميع الناس ما كان معتدلاً منها، بين الغليظ واللطيف. وقد وصفنا الأطعمة الغليظة واللطيفة والمتوسطة، ومتى يصلح كل صنف منها. فبقي علينا أن نخبر بجملة الأطعمة المولدة الكيموس الجيد، وقسمتها على ما قسمناها.
فمن ذلك: خبز الحنطة النقي المحكم الصنعة إن كان من يومه، ولحم الدجاج والجداء، وحولية الماعز، وما كان من السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة، وما لم يكن له زهومة، وما لم يكن له سمن كثير، وما كان مرعاه في ماء ليس فيه أوساخ ولا حمأة، ولم يكن سريع العفونة، وكل ما اشتد واستحكم نضجه من البيض، وكل شراب طيب الريح، ياقوتي اللون، ليس فيه حلاوة، وكل ذلك يولد كيموساً معتدلاً بين اللطيف والغليظ.
وأما الدراج والفراريج، وأجنحة جميع الطير، وما صغر من السمك وكان مرعاه على ما وصفنا، وما ألقى عليه من السمك الملح فصار رخصا، وذهبت لزوجته، وأما كشك الشعير، والشراب الطيب الرائحة، الأحمر. فكل ذلك جيد الكيموس لطيف.
وأما اللبن الحليب فإنه جيد الكيموس، إلا أن فيه غلظاً. ولذلك ربما تجبن في المعدة. فلهذه العلة يخلط به العسل والملح ويرق بالماء. وأجود اللبن وأعدله لبن الماعز، لأنه ألطف من لبن الضأن والبقر، وأغلظ من لبن الأتن واللقاح.
وينبغي للبن أن يؤخذ من حيوانٍ صحيح شاب، جيد الغذاء. ولا يستحب في وقت ما يضع الحيوان، ولا بعد ذلك بزمان طويل؛ لأن اللبن من الحيوان في وقت ما يضع غليظ، ثم يرق بعد ذلك قليلاً قليلاً حتى يصير مائياً، فلذلك كان أوله وآخره ردئياً. وأجود ما يؤخذ اللبن ساعة يحلب، قبل أن يغيره الهواء، لأنه سريع الاستحالة. وأما الخشكار من الخبز الرطب، وكل ما لم تحكم صنعته من خبز السميد، وخبز الفرن، ولحم العجل، ومن أجزاء الغنم: الضرع والكبد والفؤاد، ومن الحبوب الباقلاء، ومن الشراب ما كان طيب الرائحة حلواً، فكل ذلك يولد كيموساً غليظاً جداً.
الأطعمة التي تولد كيموساً رديئاً
كل ما لم يكن معتدلاً من الأغذية لم يولد دماً خالصاً صافياً.
والأطعمة الرديئة الكيموس ثلاثة أصناف: منها ما يزيد في البلغم، ومنها ما يزيد في الصفراء، ومنها ما يزيد في السوداء.
وينبغي لجميع الناس أن يتجنبوا الإكثار منها، وإدمان استعمالها، وإن كانوا لها مستمرئين، لأنها وإن لم يتبين لها ضرر في عاجل الأمر يجتمع منها في بدن مدمن استعمالها مع طول الزمان كيموس رديء، يولد أمراضاً رديئة. وأولى الناس بتجنب كل صنف من أصنافها من كان الغالب على بدنه ما يزيد فيه ذلك الصنف.
فأقول: إن كل ما يتخذ من الخبز من دقيق كثير النخالة، أو ما عتق من الحنطة، رديء الكيموس، يزيد في السوداء.
ولحم الضأن كله يزيد في البلغم، ولحم الماعز المسن كله يزيد في السوداء، وأردؤه لحم التيوس. ولحم البقر والجزور والأرانب والظباء والأيايل كل هذا يزيد في السوداء، وشر هذه اللحوم لحم الجزور، وبعده لحم التيوس، لا سيما ما لم يخص منها، وبعده لحم المسن من الضأن، وبعده لحم البقر. وكل ما خصي من هذه كان أجود غذاء.
وأما لحوم الأرانب والظباء والأيايل فهو دون جميع ما ذكرنا في الرداءة. ومن أعضاء جميع الحيوان الكلى رديئة الكيموس، لزهومتها وما استفادت من رداءة البول.

والدماغ يزيد في البلغم، وكل البطون تزيد في البلغم، لكثرة الفضول فيها. والبيض المطجن يولد غذاء غليظاً فاسداً، وكذلك الجبن، ولا سيما ما عتق منه. والعدس يزيد في السوداء. والدخن والجاورس يولدان دماً غليظاً. وما صلب لحمه من السمك وغلبت عليه اللزوجة يولد البلغم، فإن ملح وعتق ولد السوداء.
والتين اليابس إن أكثر أكله ولد فضلاً عفناً يكثر منه القمل. والكمثرى والتفاح إن أكلا غير نضيجين ولدا كيموساً رديئاً بارداً. كذلك القثاء والخيار. فأما البطيخ والقرع فربما انهضما ولم يحدثا في البدن حدثاً رديئاً، وربما فسدا في المعدة، فولدا كيموساً ردئياً، ولا سيما إن صادفا في المعدة فضلاً رديئاً، فلذلك تعرض الهيضة كثيراً لمن أكل البطيخ.
والبقول كلها رديئة الكيموس، لكثرة الفضل فيها، وقلة الغذاء. وأما البصل والثوم والكراث والفجل والجزر والسلجم فرديئة، لما فيها من الحرارة والحرافة، وربما زادت في الصفراء، وربما زادت في السوداء أيضاً، كما ذكرت آنفاً، إلا أنها أن طبخت وصب ماؤها وطبخت بماءٍ ثان ذهبت الحرافة والرداءة عنها.
والباذروج يسخن الدم ويجففه تجفيفاً شديداً. والكرنب يولد السوداء وكذلك جميع البقول الرديئة.

الأطعمة المتوسطة الكيموس
وهي بين ما يولد الكيموس الجيد، وما يولد الكيموس الردي، فمنها خبز الخشكار، ولحم الخصيان من المعز والضأن. ومن الأعضاء: اللسان، والأمعاء والذنب. ومن الفاكهة: العنب، والبطيخ، والمعلق من العنب أجود والتين اليابس مع الجوز، والشاهبلوط، ومن البقول الخس وبعده الهندبا، وبعده الخبازى، وبعده القطف، والبقلة الحمقاء اليمانية، والحماض، وما لم يكن فيه حدة كثيرةً من الأصول.
الأطعمة السريعة الانهضام
وإنما يسرع الانهضام لأحد وجهين: فالوجه الأول منهما إذا كانت الأطعمة غير يابسة كالعدس، ولا صلبة كالترمس، ولا لزجة كالحنطة، ولا خشنة كالسمسم، ولا كريهة كالسذاب، ولا كثيرة الفضول كالأرز، ولا يغلب عليها برد شديد كاللبن الحامض، ولا حر شديد كالعسل.
والوجه الثاني: لطبيعة البطن المستمرئ لها، وذلك لأحد وجهين: الأول موافقة الأغذية، ومشاكلة الأبدان الطبيعية، كالأطعمة التي يشتهيها ويلذها الإنسان، فقد تجد الناس يختلفون في شهواتهم ويستمرئ كل واحدٍ منهم ما شهوته إليه أميل، وإن كان الذي لا يشتهيه أحمد من الذي يشتهيه.
والوجه الثاني: لمزاج عارض يصادف من الطعام مضادة كالذي ترى، أن من غلب عليه الحر لعلةٍ من العلل كان للأطعمة الباردة أسد استمراء، لما تطفئ من حرارة البدن وتعدله. ومن غلب عليه البرد استمرأ الحار ولم يستمرئ البارد. ومن رطب بدنه أو معدته استمرأ الأطعمة الجافة ولم يستمرئ الرطبة، ومن عرض له اليبس خلاف ذلك.
فقد بان بما ذكرناه أن الأطعمة اللطيفة والمتوسطة في نفسها، سريعة الانهضام. وقد يجوز أن تكون الأطعمة الغليظة أسرع انهضاماً في بعض الأبدان أيضاً. فقشر الخبز المحكم، ولحم الدجاج والفراريج والدراج والحجل، وكبود الإوز وأجنحتها، سريعة الانهضام. وفي الجملة: الجناح من كل طائر أسرع انهضاماً من سائره. وليس الطير كله بأسرع انهضاماً من المواشي.
وكل ما كان من الحيوان يابساً فصغيره أسرع انهضاماً. وكذلك لحم العجاجيل أسرع انهضاماً من لحم البقر، ولحم الجدي الحولي أسرع انهضاماً من لحم المسن من الماعز.
وكل ما كان من الحيوان أرطب فكبيره من قبل أن يشتد أسرع انهضاماً من صغيره. ألا ترى أن الحولي من الضأن أسرع انهضاماً من الخروف؟ وكل ما كان مرعاه في المواضع اليابسة أسرع انهضاماً مما كان مرعاه في المواضع الرطبة. وكل ما كان جرمه متخلخلاً فهو أسرع انهضاماً مما كان جرمه متلززاً. ولذلك كان الجوز أسرع انهضاماً من البندق. والبيض الحار امرأ من البيض البارد. والشراب الحلو أمرأ من العفص.
الأطعمة البطيئة الانهضام

وإنما يعسر الانهضام من الطبيعة في الطعام إذا كان يابساً، أو صلباً، أو لزجاً، أو ملتززاً، أو كثير الدسم، أو كثير الفضول، أو كريه الطعم، أو الحرافة فيه مفرطة أو البرد أو الحر، أو مخالفاً للمزاج الطبيعي إذا لم يشته. فلحم البقر ولحم الإبل، والكروش والأمعاء، والأوز، والآذان من جميع الحيوان، والجبن، والبيض البارد، عسرة الانهضام ليبسها وصلابتها. وكذلك من الطير الوراشين والفواخت والطواويس. والقوانص من جميع الطير عسرة الانهضام.
ومن الحبوب: الأرز، والترمس، والعدس، والدخن، والجاورس، والبلوط والشاهبلوط.
وأما لحم التيوس، وأكارع البقر، فعسرة الانهضام، لزهومتها وكراهتها. وأما لحم الضأن، والكبود من جميع الحيوان والإوز، فلكثرة الفضول فيها وأما الجبن الحامض فلبرده. وأما الحنطة المسلوقة فللزوجتها وتلززها. وأما الباقلاء واللوبياء - كثرة النفخ فيها. وأما السمسم فلكثرة دهنه. وأما العنب والتين وسائر الفواكه إذا لم يستحكم نضجها، والأتراج والباذروج والسلجم والجوز والشراب الحديث الغليظ، فلكثرة الفضول فيه.

الأطعمة الضارة للمعدة
السلق رديء، للذعه أياها، ولما فيه من الحدة البورقية، والباذروج والسلجم ما لم يستقص طبخهما للذع فيهما. والبقلة اليمانية والقطف للزوجتهما، فلذلك ينبغي أن يؤكلا بالخل، والمري. والحلبة رديئة للمعدة، للذعها إياها، والسمسم رديء للمعدة للزوجته وكثرة دهنه، واللبن لسرعة استحالته في المعدة والعسل ما أكثر منه لذع المعدة وأغثاها. والبطيخ أيضاً يغثي، وإذا لم ينضج في المعدة ولد كيموساً رديئاً، فينبغي بعد أكل البطيخ أن يأكل طعاماً كثيراً جيد الكيموس.
والأدمغة أيضاً كلها رديئة للمعدة، فلذلك ينبغي أن تؤكل بالصعتر، والفودنج البري، والخردل، والملح. وكذلك أيضاً المخاخ. والنبيذ الحديث الغليظ الأسود العفض يسرع الحموضة في المعدة ويغثي.
الأطعمة التي تفسد في المعدة
المشمش، والسمسم، والنون، والبطيخ، إذا لم يسرع انحدارها عن المعدة وصادفت فيها كيموساً رديئاً أسرع إليها الفساد. فيجب أن تؤكل قبل الطعام والمعدة نقية، ليسرع انحدارها عنها، ويسهل الطريق لما يؤكل بعدها من الطعام، فإن أكلت بعد الطعام فسدت لبقائها في المعدة، وأفسدت سائر الطعام بفسادها، وربما بلغ الفساد بها إلى أن تصير بمنزلة السم القاتل.
الأطعمة التي لا يسرع إليها الفساد في المعدة
من كان يفسد طعامه في معدته فأجود الأطعمة له ما كان غليظاً بطئ الانحدار، مثل لحم البقر، وأكارعها، وما أشبه ذلك، مما قد ذكرناه في الأطعمة الغليظة.
الأطعمة الملينة المسهلة للبطن
كل ما كان من الأطعمة فيه حلاوةٌ أو حدة أو لزوجة. فمن ذلك ماء العدس، وماء الكرنب يلينان البطن، وجرمهما يمسك البطن، وكذلك مرقة الديوك العتيقة، وخبز الخشكار، وماء الحلبة مع العسل، وزيتون الماء إذا كان قبل الطعام مع مريٍ لين البطن، فإن كان أيضاً بعد الطعام بلا مري فإنه يقوي المعدة على دفع الطعام لعفوصته. وكذلك ما عمل منه بالخل.
وكل طعام عفصٍ فإنه دابغ للمعدة مقوٍ لها.
فأما اللبن وماء الجبن فيلينان البطن، ولا سيما إذا خلط به الملح.
ولحم الصغير من الحيوان، والسلق، والقطف، والبقلة اليمانية، والقرع والبطيخ، والتين، والزبيب الحلو، والتوت الحلو، والجوز الرطب، والإجاص الرطب، والسكنجبين والنبيذ الحلو، ملين للبطن.
الأطعمة التي تحبس البطن
إذا كان الطعام ينحدر عن المعدة قبل انهضامه احتجنا إلى الأطعمة الممسكة الحابسة للبطن.
وكل ما غلب عليه من الأطعمة اليبس أو العفوصة أو الغلظ، كالسفرجل والكمثرى، وحب الآس، وثمر العوسج، وجرم العدس، والبلوط، والشاهبلوط. والنبيذ العفص، يمسك البطن، لعفوصته وقبضه. والجاورس، والدخن وسويق الشعير، تمسك البطن بيبوستها. ولحم الأرانب، والكرنب المطبوخ بعد صب مائه الأول عنه، ثم يطبخ بماءٍ ثان، فإنه يمسك البطن بيبسه. واللبن المطبوخ، والجبن كلاهما يمسك البطن لغلظه. وذلك أن يطبخ اللبن حتى تفني مائيته، ويبقي جرمه، وربما ولد سدداً في الكبد، وحجارة في الكلى.

وأما الأشياء الحامضة كالتفاح الحامض، والرمان الحامض، فإن صادفت في المعدة كيموساً غليظاً قطعته وحدرته، ولينت البطن، وإن صادفت المعدة نقية أمسكت البطن.

الأطعمة التي تولد السدد
اللبن الغليظ والجبن ربما أحدثا سدداً في الكبد، وحجارة في الكلى، لمن أكثر استعمالها، وكان كلاه وكبده مستعدة لقبول الآفات.
وجميع الأطعمة الحلوة رديئة للكبد والطحال، فإذا أكل معها الفوذنج الجبلي، والصعتر، والفلفل، فتح سدد الكبد والطحال.
والرطب، والتمر، وجميع ما يتخذ من الحنطة سوى الخبز الجيد الصنعة، والأشربة الحلوة أيضاً تولد سدداً في الكبد، وحجارة في الكلى، وتغلظ الطحال.
الأطعمة التي تجلو المعدة وتفتح السدد
ماء الكشك كشك الشعير يجلو المعدة، ويفتح السدد. والحلبة، والبطيخ، والزبيب الحلو، والباقلاء، والحمص الأسود، ينقي الكلى، ويفتت الحجارة المتولدة فيها. والكبر بالخل، والعسل إذا أكل قبل الطعام فإنه يجلو وينقي المعدة والأمعاء، ويفتح السدد. والسلق أيضاً يجلو ويفتح السدد في الكبد، ولا سيما إذا أكل بالخردل. والبصل، والثوم، والكراث، والفجل يقطع ويلطف الكيموس الغليظ. والتين رطبه ويابسه يجلو وينقي الكلى. واللوز كله، ولا سيما المر منه فإنه يجلو ويلطف، ويفتح سدد الكبد والطحال، ويعين على نفث الرطوبة من الصدر والرئة. والفستق يقوي الكبد ويفتح سددها.
وعسل النحل حارٌ يابس وماء العسل يلطف البصاق الغليظ، ويعين على نفثه. والسكنجبين يلطف ويقطع الرطوبة الغليظة. ويفتح سدد الكبد والطحال، وينقي الصدر والرئة.
والنبيذ اللطيف إذا كانت له حدة وحرافة يصفي اللون، وينقي العروق من الكيموس الغليظ، وينتفع به من كان يجد في بدنه كيموساً غليظاًبارداً. وأما النبيذ الرقيق المائي فإنه يعين على نفث الرطوبة من الرئة، بتقويته الأعضاء وتلطيفه لما بها من الفضل الغليظ، وقد يفعل ذلك النبيذ الحلو.
الأطعمة التي تنفخ
الحمص والباقلاء، ولا سيما إن طبخ بقشره، فإن طبخ مقشراً أو مسحوقاً كان أقل نفخاً، وإن قلي أيضاً كان أقل نفخاً. وبعد هذه اللوبياء، والماش، والعدس، والشعير إذا لم ينعم طبخها.
والنعناع، والأنجذان، والحلتيت، والتين الرطب، يولد نفخاً إلا أنه يتحلل سريعاً لسرعة انحداره.
وما استحكم نضجه من التين والعنب كان أقل نفخاً. ويابس التين أقل نفخاً من رطبه.
واللبن يولد رياحاً في المعدة. والعسل إذا طبخ ونزعت رغوته قل نفخه. والنبيذ الحلو العفص يولد نفخاً.
ما يذهب النفخ من الأطعمة
كل الطعام نافخٍ إذا أحكمت صنعته، وأجيد طبخه وإنضاجه قل نفخه. وكل ما قلي منه قل نفخه. وكل ما خلط به الأبزار المحللة للرياح كالكمون والذاب، والأنيسون والكاشم يقل نفخه. والخل الممزوج بالعسل يلطف الرياح، ويذهب بالنفخ.
كتاب إسحاق بن عمران إلى بعض إخوانه
كتب إسحاق بن عمران المعروف بسم ساعة إلى رجل من إخوانه: اعلم رحمك الله أن الخام والبلغم يظهران على الدم والمرة بعد الأربعين سنة فيأكلانهما، وهما عدوا الجسد وهادماه. ولا ينبغي لمن خلف الأربعين سنة أن يحرك طبيعة من طبائعه غير الخام والبلغم، ويقوي الدم جاهداً، غير أنه ينبغي له في كل سبع سنين أن يفجر من دمه شيئاً، ومن المرة مثل ذلك، لقلة صبره على الطعام اللذيذ، والمشروب الروي.
فتعاهد أصلحك الله ذلك من نفسك، واعلم أن الصحة خير من المال والأهل والولد، ولا شيء بعد تقوى الله سبحانه وتعالى خير من العافية.
وما تأخذ به نفسك، وتحفظ به صحتك أن تلزم ما أكتب به إليك: في شهر يناير تشرب شراباً شديدياً كل غداة. وفي شهر فبرير لا تأكل السلق. وفي مارس لا تأكل الحلواء كلها وتشرب الأفسنتين في الحلاوة. وفي أبريل لا تأكل شيئاً من الأصول التي تنبت في الأرض ولا الفجل. وفي مايه لا تأكل رأس شيء من الحيوان. وفي يونيه تشرب الماء البارد بعد ما تطبخه وتبرده، على الريق. وفي يوليه تجنب الوطء. وفي أغشت لا تأكل الحيتان. وفي سبتمبر تشرب اللبن البقري. وفي أكتوبر لا تأكل الكراث نيئاً ولا مطبوخاً. وفي نبنبر لا تدخل الحمام. وفي دجنبر لا تأكل الأرنب.

زعم علماء الطب أن الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلاً: فللدم منها ستة أرطال، وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال، فإن غلب الدم الطبائع تغير منه الوجه وورم، وخرج ذلك إلى الجذام، وإن غلبت الثلاث الطبائع الدم أنبتت المد.
قال: فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها بعضاً فليعدل جسده بالاقتصاد، وينقه بالمشي، فإنه إن لم يفعل اعتراه ما وصفنا: إما جذام، وإما مد. نسأل الله العافية.
ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان إلا أيام السموم، إلا أن ينزل فيها مرض شديد لا بد من مداواته، أو يظهر فيها موم، أو ذات الجنب، فإنه ينبغي للطبيب أن يعانيه بفصاد، أو شيء خفيف، فإنها أيام ثقيلة. وهي خمسة عشر يوماً من تموز إلى النصف من آب، فذلك ثلاثون يوماً لا يصلح فيها علاج، وكان بقراطيس يجعلها تسعة وأربعين يوماً، ويقطع الغرر والخطر في أيام القيظ، فإذا مضى لأيلول ثلاثة أيام طاب التداوي كله.
وأمر جالينوس في الربيع بالحجامة، والنورة، وأكل الحلاوة وشربها، ونهى عن القطاني واللبن الرائب، وعتيق الجبن، والمالح، والفاكهة اليابسة، إلا ما كان مسلوقاً.
وفي القيظ وهو زمان المرة الصفراء بأكل البارد الرطب على قدر قوة الرجل في طبعه وسنه، وترك الجماع، وأكل الحوت الطري، والفاكهة الرطبة والبقول ولحم البقر والمعز، ومن القطاني العدس، ومن الأشربة المربب بالورد، والسكركة من الشعير، والسكر بالماء المطبوخ، وأكل الكزبرة الخضراء في الأطعمة وأكل الخيار والبطيخ، ولزوم دهن الورد، وماء الورد، ورش الماء، وبسط البيت بورق الشجر، ومن الدواء السكر بالمصطكى، يسحقهما مثلاً بمثل، ويأخذ منهما على الريق قدر الدرهم أو أكثر قليلاً.
وفي زمان الخريف وهو زمان السوداء، وهو أثقل الأزمنة على أهل تلك الطبيعة، من الطعام والشراب بالحار الرطب، مثل الأحساء بالحلاوة، وأكل العسل وشربه. ونهي فيه عن الجماع، وأكل لحم المعز والبقر، وأمر بأكل صيود البر والبحر، وحسو البيض والدهن قبل الحمام، وإيتان النساء على غير شبع في آخر الليل وفي أول النهار، والتماس الولد على الريق من الرجل والمرأة، فإن أولاد ذلك الزمان أسد وأقوى تركيباً من غيرهم، كما قالت الحكماء.

الخمر المحرمة في الكتاب
أجمع الناس على أن الخمر المحرمة في الكتاب خمر العنب، وهي ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب، من غير أن تمسه نار. ولا تزال خمراً حتى تصير خلاً، وذلك إذا غلبت عليها الحموضة، وفارقتها النشوة؛ لأن الخمر ليست محرمة العين، كما حرمت عين الخنزير، وإنما حرمت لعرض دخلها، فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالاً، كما كانت قبل الغليان حلالاً، وعينها في كل ذلك واحدة، وإنما انتقلت أعراضها من حلاوةٍ إلى مرارة، ومن مرارة إلى حموضة، كما ينتقل طعم الثمرة إذا أينعت من حموضة إلى حلاوة، والعين قائمة، وكما ينتقل طعم الماء بطول المكث فيتغير طعمه وريحه، والعين قائمة.
ونظير الخمر فيما يحل ويحرم بعرض: المسك، الذي هو دم عبيط حرام، ثم يجف وتوجد رائحته فيصير حلالاً طيباً.
فهذه الخمر بعينها المجمع على تحريمها. وأصحاب النبيذ إنما يدورون حولها ويتعللون بأنهم يشربون ما دون المسكر، ولا لذة لهم دون مواقعة السكر، كما قال الشاعر:
يدورون حول الشيخ يلتمسونه ... بأشربةٍ شتى هي الخمر تطلب
وكقول القائل:
إياك أعني فاسمعي يا جاره
قيل للأحنف بن قيس: أي الشراب أطيب؟ فقال: الخمر. قيل له: وكيف علمت ذلك، وأنت لم تشربها؟ قال: إني رأيت من حلت له لا يتعداها، ومن حرمت عليه إنما يدور حولها.
وقال ابن شبرمة:
ونبيذ الزبيب ما اشتد منه ... فهو للخمر والطلاء نسيب
وقال عبد الله بن القعقاع:
أتانا بها صفراء يزعم أنها ... زبيب فصدقناه وهو كذوب
فهل هي إلا ساعة غاب نحسها ... أصلي لربي بعدها وأتوب
وقال ابن شبرمة: أتانا الفرزدق، فقال: اسقوني. فقلنا: وما تريد أن نسقيك؟ قال: " أقربه إلى الثمانين " ، ويعني حد الخمر.

وقال قيصر لقس بن ساعدة: أي الأشربة أفضل عاقبة في البدن؟ قال: " ما صفا في العين، واشتد على اللسان، وطابت رائحته في الأنف، من شراب الكرم " . قيل له: فما تقول في مطبوخه؟ فقال: " مرعى ولا كالسعدان! " . قيل له: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: ميت أحيى، فيه بعض المتعة، ولا يكاد يحيا من مات مرة. قيل له: فما تقول في العسل؟ قال: نعم شراب الشيخي ذي الإبردة، والمعدة الفاسدة.
علي بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته، إذ أتي بابن شراعة من الكوفة، فوالله ما سأله عن نفسه ولا سفره، حتى قال له: يا ابن شراعة، إني والله ما بعثت فيك لأسألك عن كتاب الله، ولا سنة رسول. قال: والله لو سألتني عنهما لأصبتني فيهما حماراً. قال: فإنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة. قال: فأنا دهقانها الخبير، وطبيبها العليم. قال: فأخبرني عن الطعام؟ قال: ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم، غير أن أنفعه أدسمه، وأشهاه أمرؤه، قال: فما تقول في الشراب؟ قال: ليسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: فما تقول في الماء؟ قال: لا بد لي منه، والحمار شريكي فيه. قال: فما تقول في السويق؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته قط إلا استحييت من أمي، من طول ما أرضعتني به. قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: حاموا به على الشراب. قال: فما تقول في الخمر؟ قال: أوه، تلك صديقة روحي. قال: وأنت والله صديق روحي. قال: وأي المجالس أحسن؟ قال: ما شرب الناس على وجه قط أحسن من النساء.
قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد، وهو في الفرش منغمس كما ولدته أمه، فقال لي: يا أصمعي، من أين طرقت اليوم؟ قال: قلت احتجمت. قال: وأي شيء أكلت عليها؟ قلت: سكباجة وطباهجة. قال: رميتها بحجرها. قال: هل تشرب؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين:
اسقني حتى تراني مائلاً ... وترى عمران ديني قد خرب
قال: يا مسروق، أي شيء معك؟ قال: ألف دينار. قال: ادفعها إليه.

آفات الخمر وجناياتها
أول ذلك أنها تذهب العقل - وأفضل ما في الإنسان عقله - وتحسن القبيح، وتقبح الحسن. قال أبو نواس:
اسقني حتى تراني ... حسنٌ عندي القبيح
وقال أيضاً:
اسقني صرفاً حمياً ... تترك الشيخ صبيا
وتريه الغي رشداً ... وتريه الرشد غيا
وقال أيضاً:
عتقت في الدن حولاً ... فهي في رقة ديني
وقال الناطق بالحق:
تركت النبيذ وشرابه ... وصرت خدينا لمن عابه
شراب يضل سبيل الرشاد ... ويفتح للشر أبوابه
وإنما قيل لمشارب الرجل " نديم " من الندامة، لأن معاقر الكأس إذا سكر تكلم بما يندم عليه، وفعل ما يندم عليه، فقيل لمن شاربه نادمه، لأنه فعل مثل ما فعله، فهو نديم له، كما يقال جالسه فهو جليس له. والمعاقر: المدمن، كأنه لزم عقر الشيء، أي فناءه.
وقال أبو الأسود الدؤلي:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنياً بمكانها
فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
وقد شهر أصحاب الشراب بسوء العهد، وقلة الحفاظ، وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت ذنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك. قال الشاعر:
أرى كل قومٍ يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلهم رث الوصال سئوم
فهذا ثنائي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
وقال قصي بن كلاب لبنيه: اجتنبوا الخمر، فإنها تصلح الأبدان، وتفسد الأذهان.
وقيل لعدي بن حاتم: مالك لا تشرب الخمر؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلي.
وقيل له: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: معاذ الله أن أصبح حكيم قومي وأمسي سفيههم.
وقيل لأعرابي: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلي. وقال يزيد بن الوليد: النشوة تحل الحبوة.

وقيل لعثمانبن عفان رضي الله عنه: ما منعك من شرب الخمر في الجاهلية، ولا حرج عليك فيها؟ قال: إني رأيتها تذهب العقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملةً ويعود جملة.
وقال أيضاً: ما تغنيت، ولا تفتيت، ولا شربت خمراً، ولا مسست فرجي بيدي بعد أن خططت بها المفصل.
وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح: هل لك فيما يثمر المحادثة؟ ثريد المنادمة؟ قال: أصلح الله الأمير، الشعر مفلفل، واللون مرمد، ولم أقعد إليك بكرم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني، فإن رأيت ألا تفرق بينهما فافعل.
وربما أذهبت الكأس البيان، وغيرت الخلقة، فيعظم أنف الرجل ويحمر ويترهل.
وقال جرير في الأخطل:
وشربت بعد أبي ظهير وابنه ... سكر الدنان كأن أنفك دمل
شبه أنفه بالدمل في ورمه وحمرته.
وقال آخر في حماد الراوية:
نعم الفتى، لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حماد
هدلت مشافره الدنان، فأنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد
وأبيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد
ودخل أمية بن عبد الله بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ فقال: قمت بالليل فأصاب الباب وجهي. فقال عبد الملك:
رأتني صريع الخمر يوماً فسؤتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع
فقلت: لا واخذك الله يا أمير المؤمنين بسوء ظنك. فقال: بل واخذك الله بسوء مصرعك.
وقال حسان بن ثابت.
تقول شعثاء لو صحوت عن ال ... كأس لأصبحت مثري العدد
أنسى حديث الندمان في فلق ال ... صبح وصوت المسامر الغرد
لا أخدش الخدش بالجليس ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي
يأبى لي السيف واللسان وقو ... م لم يساموا كلبدة الأسد
وقال ابن الموصلي:
سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلام أمئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
لعمري لئن نكبت عن منهل الصبا ... لقد كنت وراداً لمشربه العذب
ليالي أمشي بين بردي لاهباً ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب
ويروى أن الحسن بن زيد لما ولي المدينة قال لإبراهيم بن هرمة: لا تحسبني كمن باع لك دينه رجاء مدحك، وخوف ذمك، فقد رزقني الله بولادة نبيه الممادح، وجنبني المقابح، وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حقه، وإني أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدين: حد الخمر، وحد السكر ولأزيدنك لموضع حرمتك، فليكن تركك لها لله تعن عليه، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم. فنهض ابن هرمة وهو يقول:
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدبني بآداب الكرام
وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبرني عنها وحبي ... لها حب تمكن في العظام
أرى طيب الحلال علي خبثاً ... وطيب النفس في خبث الحرام
وذكروا أن حارثة بن بدر الغداني كان فارس بني تميم وشريفها، وكان قد غلب على زياد، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك، وهو رجل مستهتر بالشراب. فقال لهم: كيف باطراح رجلٍ ما راكبني قط فمست ركبتي ركبته، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت إليه عنقي، ولا سألته عن شيء قط إلا وجدت علمه عنده. فلما مات زياد جفاه ولده عبيد الله بن زياد، فقال له حارثة: أيها الأمير: ما هذا الجفاء مع معرفتك بحالي عند أبي المغيرة؟ فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد برع بروعاً لم يلحقه معه عيب؛ وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من تغلب علي، وأنت رجل نديم الشراب، فدع النبيذ وكن أول داخلٍ وآخر خارج. فقال حارثة: أنا لا أدعه لله، أفادعه لك؟ قال: فاختر من عملي ما شئت! قال: ولني رامهرمز، فإنها عذبة، وسرق، فإن بها شراباً وصف لي عنه فولاه إياها، فلما خرج شيعه الناس. وكتب إليه أنس بن أبي أنيس:
أحار بن بدر قد وليت ولايةً ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئاً تخونه ... فحظك من ملك العراقين سرق

وبادر تميماً بالغنى إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق
فإن جميع الناس إما مكذب ... يقول بما تهوي، وإما مصدق
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ... ولو قيل يوماً حققوا لم يحققوا
فوقع حارثة في أسفل كتابه " لا بعد عنك الرشد " .
ولما خرجت الأزارقة على أهل البصرة لاقاهم حارثة بن بدر، وتولى حربهم في أصحابه في فرسانٍ من بني يربوع، حتى أصيب في تلك الحروب. وقال فيه الشاعر:
فلولا ابن بدر للعراقين لم يقم ... لما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حامي الحقيقة أو مأت ... إليه معد بالأكف وقحطان
وقال الشاعر:
شربنا من الداذي حتى كأننا ... ملوك لهم في كل ناحية وفر
فلما علت شمس النهار رأيتنا ... تخلى الغنى عنا وعاودنا الفقر
وكان أبو الهندي من ولد شبث بن ربعي الرياحي، من بني يربوع، وكان قد غلب عليه الشراب، على كريم منصبه، حتى كاد يبطله، وكان قد ضاف إلى راعٍ يسمى سالماً، فسقاه قدحاً من لبن، فكرهه وقال:
سيغني أبا الهندي عن وطب سالم ... أباريق كالغزلان بيض نحورها
مفدمة قزاً كأن رقابها ... رقاب كراكٍ أفزعتها صقورها
فما ذر قرن الشمس حتى كأنما ... أرى قريةً حولي تزلزل دورها
ولقيه نصر بن سيار، والي خراسان، وهو يميد سكراً فقال له: أفسدت مروءتك وشرفك. قال: لو لم أفسد مروءتي لم تكن أنت والي خراسان.
ومرض أبو الهندي، فلما وجد فقد الشراب جعل يبكي ويقول:
رضيع المدام فارق الراح روحه ... فظل عليها مستهل المدامع
أديرا علي الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم در المراضع
وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد ناسكاً، فاستعدى عليه وعلى ابنه، فهرب معه، وقال فيه أبو الهندي:
قل للسري أبي قيس أتوعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا
أبا الوليد أما والله لو علمت ... فيك الشمول لما حرمتها أبدا
ولا نسيت حمياها ولذتها ... ولا عدلت بها مالاً ولا ولدا
وشرب أبو الهندي في غرفة مع نديمٍ له، فاطلع منها فإذا بميت يزف به على شرجع، فالتفت إلى صاحبه فقال:
اصبب على قلبك من بردها ... إني أرى الناس يموتونا
فكان هذا القول منه " دليلاً " على " عدم " اتعاظه بالموت.
وكان أبو الهندي عجيب الجواب، وجلس إليه رجل كان صلب أبوه في جناية، فجعل يعرض له بالشراب، فقال أبو الهندي: أحدهم يبصر القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع المعترض في أست أبيه! وقال عبد الرحمن بن أم الحكم:
وكأس ترى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أم أبان
ترى شاربيها حين يعتورانها ... يميلان أحياناً ويعتدلان
فما ظن ذا الواشي بأروع ماجد ... وعذراء خود حين يلتقيان
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان
وقال:
لا هنيئاً بما شربت مريئاً ... ثم قم صاغراً وغير كريم
لا أحب النديم يومض بالعي ... ن إذا ما انتشى لعرس النديم
وقال أبو العباس المبرد: ودخل عمرو بن مسعدة على المأمون، وبين يديه جام زجاج، فيه سكر طبرزذ، وملح جريش، قال: فسلمت عليه، فرد وعرض علي الأكل، فقلت: ما أريد شيئاً. هنأك الله يا أمير المؤمنين، فلقد باكرت الغداء. قال: بت جائعاً! ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول:
اعرض طعامك وابذله لمن دخلا ... واعزم على من أبى واشكر لمن أكلا
ولا تكن سابري العرض محتشماً ... من القليل فلست الدهر محتفلا
ودعا برطل، ودخل شيخ من جلة الفقهاء فمد يده إليه، فقال: والله يا أمير المؤمنين، ما شربتها ناشئاً، فلا تسقينها شيخاً. فرد يده إلى عمرو بن مسعدة، فأخذها منه وقال: يا أمير المؤمنين، فإني عاهدت الله في الكعبة ألا أشربها أيضاً. ففكر طويلاً والكأس في يد عمرو بن مسعدة، فقال:

ردا علي الكأس إنكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي
لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت ... إلا بدمعكما من الوجد
خوفتماني الله ربكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي
شرب المأمون ويحيى بن أكثم القاضي وعبد الله بن طاهر، فتغامز المأمون وعبد الله على سكر يحيى، فغمز يد الساقي فأسكره، وكان بين أيديهم رزم من ورد ورياحين، فأمر المأمون فشق له لحد في الورد والرياحين، وصيروه فيه، وعمل بيتي شعر، ودعا قينة، فجلست عند رأسه وحركت العود وغنت:
دعوته وهو حي لا حراك به ... مكفنٌ في ثياب من رياحين
فقلت قم قال رجلي لا تطاوعني ... فقلت خذ قال كفي لا تواتيني
فانتبه يحيى لرنة العود، وقال مجيباً لها:
يا سيدي وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضاً قد وهى جسدي ... ولا أجيب المنادي حين يدعوني
فاختر لبغداد قاضٍ إنني رجلٌ ... الراح تقتلني والعود يحييني
حدثنا أبو جعفر البغدادي قال: كان بالجزيرة رجل يبيع نبيذاً في ماخورٍ له، وكان بيته من قصب، وكان يأتيه قوم يشربون عنده، فإذا عمل فيهم الشراب قال بعضهم لبعض: أما ترون بيت هذا النباذ من قصب؟ فيقول بعضهم: علي الآجر، ويقول الآخر: علي الجص، ويقول الآخر: علي أجرة العامل. فإذا أصبحوا لم يعملوا شيئاً، فلما طال ذلك على النباذ قال فيهم:
لنا بيت يهدم كل يوم ... ويصبح حين يصبح جذم خص
إذا ما دارت الأقداح قالوا ... غداً نبني بآجر وجص
وكيف يشيد البنيان قومٌ ... يمرون الشتاء بغير قمص
ودخل حارثة بن بدر على زياد، وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ قال: ركبت فرسي الأشقر فصرعني. قال: أما إنك لو ركبت الأشهب ما صرعك.
أراد حارثة بالأشقر النبيذ، وأراد زياد بالأشهب اللبن.
وكان قيس بن عاصم يأتيه في الجاهلية تاجر خمر، فيبتاع منه، ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفذ ما عنده. فشرب قيس ذات يوم فسكر سكراً قبيحاً، فجذب ابنته وتناول قرنها، ورأى القمر فتكلم بشيء، ثم نهب ماله ومال الخمار، وأنشأ يقول:
من تاجر فاجر جاء الإله به ... كأن لحيته أذناب أجمال
جاء الخبيث ببيسانيةٍ تركت ... صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال
فلما صحا أخبر بما صنع وما قال، فآلى ألا يذوق خمراً أبداً. - وربما بلغت جناية الكأس إلى عقب الرجل ونجله. قال المأمون: " يا نطف الخمار، ونزائع الظؤور، وأشباه الخؤولة " .
وقال الشاعر:
لما رأيت الحظ حظ الجاهل ... ولم أر المغبون غير العاقل
رحلت عنساً من كروم بابل ... فبت من عقلي على مراحل
وقال آخر يصف السكر:
أقبلت من عند زيادٍ كالخرف ... أجر رجلي بخطٍ مختلف
كأنما يكتبان لام ألف
وقال آخر يصف السكر:
شربنا شربةً من ذات عرقٍ ... بأطراف الزجاج من العصير
وأخرى بالمروح، ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير
كأن الديك ديك بني تميم ... أمير المؤمنين على السرير
كأن دجاجهم في الدار رقطا ... بنات الروم في قمص الحرير
فبت أرى الكواكب دانياتٍ ... ينلن أنامل الرجل القصير
أدافعهن بالكفين مني ... وألثم لبة القمر المنير
وقال الشاعر:
دع النبيذ تكن عدلاً، وإن كثرت ... فيك العيوب، وقل ما شئت يحتمل
هو المشيد بأخبار الرجال فما ... يخفى على الناس ما قالوا وما فعلوا
كم زلةٍ من كريم ظل يسترها ... من دونها ستر الأبواب والكلل
أضحت كنارٍ على علياء موقدةٍ ... ما يستسر لها سهل ولا جبل
والعقل علق مصونٌ لو يباع لقد ... ألفيت بياعه يعطون ما سألوا

فاعجب لقوم مناهم في عقولهم ... أن يذهبوها بعل بعده نهل
قد عقدت بخمار الكأس ألسنهم ... عن الصواب ولم يصبح بها علل
وزررت بسنات النوم أعينهم ... كأن أحداقها حول وما حولوا
تخال رائحهم من بعد غدوته ... حبلى أضر بها في مشيها الحبل
فإن تكلم لم يقصد لحاجته ... وإن مشى قلت مجنون به خبل
وقال:
أخو الشراب ضائع الصلاة ... وضائع الحرمة والحاجات
وحاله من أقبح الحالات ... في نفسه والعرس والبنات
أف له أفٍ إلى أفات ... خمسة آلافٍ مؤلفاتٍ

من حد من الأشراف في الخمر
وشهر بها
منهم يزيد بن معاوية، وكان يقال له: يزيد الخمور، وبلغه أن مسور بن مخرمة يرميه بشرب الخمر، فكتب إلى عامله بالمدينة: أن يجلد مسوراً حد القذف، ففعل. فقال مسور:
أيشربها صرفاً بطين دنانها ... أبو خالدٍ ويضرب الحد مسور
وممن حد في لشراب الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخو عثمان بن عفان لأمه. شهد أهل الكوفة عليه أنه صلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران. ثم التفت إليهم فقال: إن شئتم زذتكم! فجلده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان. وفيه يقول الحطيئة، وكان نديمه أبو زبيد الطائي:
شهدت الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم ... ليزيدهم خيراً ولا يدري
ليزيدهم خيراً ولو قبلوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كبحوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب، شرب بمصر، فحده هناك عمرو بن العاص سراً. فلما قدم إلى عمر جلده حداً آخر علانية.
ومنهم العباس بن عبد الله بن عباس، كان ممن شهر بالشراب ومنادمة الأخطل الشاعر. وفيه يقول الأخطل:
ولقد غدوت على التجار بمسمحٍ ... هرت عواذله هرير الأكلب
لباس أردية الملوك تروقه ... من كل مرتقبٍ عيون الربرب
ومنهم قدامة بن مظعون، من أصحاب رسول الله (، حده عمر بن الخطاب بهشادة علقمة الخصي وغيره، في الشراب.
ومنهم عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب المعروف بأبي شحمة، حده أبوه في الشراب، وفي أمر أنكره عليه.
ومنهم عبد الله بن عروة بن الزبير، حده هشام بن إسماعيل المخزومي في الشراب.
ومنهم عاصم بن عمر بن الخطاب، حده بعض ولاة المدينة في الشراب.
ومنهم عبد العزيز بن مروان، حده عمرو الأشدق.
وممن فضح بالشراب بلال بن أبي بردة الأشعري، وفيه يقول يحيى ابن نوفل الحميري:
وأما بلال فذاك الذي ... يميل الشراب به حيث مالا
يبيت يمص عتيق الشراب ... كمص الوليد يخاف الفصالا
ويصبح مضطرباً ناعساً ... تخال من السكر فيه احولالاً
ويمشي ضعيفاً كمشي النزيف ... تخال به حين يمشي شكالا
وممن شهر بالشراب عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي، القاضي بالكوفة. وفضح بمنادمة سعد بن هبار. وفيه يقول حارثة بن بدر:
نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبار
ما يسمع الناس أصواتاً لهم عرضت ... إلا دوياً، دوي النحل في الغار
يدين أصحابه فيما يدينهم ... كأساً بكأس وتكراراً بتكرار
فأصبح الناس أطلاحاً أضربهم ... حث المطي وما كانوا بسفار
ومنهم أبو محجن الثقفي، وكان مغرماً بالشراب، وقد حده سعد بن أبي وقاص في الخمر مراراً. وشهد القادسية مع سعد، وأبلى فيها بلاء حسناء. وهو القائل:
إذا مت فادفني إلى ظل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا مامت ألا أذوقها
ثم حلف بالقادسية ألا يشرب خمراً أبداً، وأنشأ يقول:
إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت ... وحال من دونها الإسلام والحرج
فقد أباكرها صهباء صافيةً ... طوراً وأشربها صرفاً وأمتزج

وقد تقوم على رأسي مغنية ... فيها إذا رفعت من صوتها غنج
فتخفض الصوت أحياناً وترفعه ... كما يطن ذباب الروضة الهزج
ومنهم عبد الملك بن مروان، وكان يسمى " حمامة المسجد " ، لاجتهاده في العبادة قبل الخلافة. فلما أفضت إليه الخلافة شرب الطلاء، وقال له سعيد بن المسيب: بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت بعدي الطلاء؟ فقال: إي والله، والدماء! ومنهم الوليد بن يزيد، ذهب به الشراب كل مذهب حتى خلع، وقتل. وهو القائل:
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ... ثباتاً يساوي ما حييت عقالا
دعوا لي سلمى والنبيذ وقينة ... وكأساً ألا حسبي بذلك مالا
أبالملك أرجو أن أخلد فيكم ... ألا رب ملك قد أزيل فزالا
وسقى قوم أعرابية مسكراً، فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا: نعم. قالت: فما يدري أحدكم من أبوه! ومنهم إبراهيم بن هرمة، وكان مغرماً بالشراب، وحده عليه جماعة من عمال المدينة؛ فلما ألحوا عليه وضاق ذرعه بهم، دخل إلى المهدي بشعره الذي يقول فيه:
له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل
لهم طينة بيضاء من آل هاشم ... إذا اسود من لؤم التراب القبائل
إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أتى ... وإن قال إني فاعل فهو فاعل
فأعجب المهدي بشعره، وقال له: سل حاجتك. قال: تأمر لي بكتاب إلى عامل المدينة أن لا يحدني على شراب. فقال له: ويلك، كيف نأمر بذلك؟ لو سألتني عزل عامل المدينة وتوليتك مكانه لفعلت. قال: يا أمير المؤمنين: ولو عزلت عامل المدينة ووليتني مكانه، أما كنت تعزلني أيضاً وتولي غيري؟ قال: بلى. قال: فكنت أرجع إلى سيرتي الأولى. فقال المهدي لوزرائه: ما تقولون في حاجة ابن هرمة وما عندكم فيها من التلطف؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه يطلب مالا سبيل إليه: إسقاط حد من حدود الله. قال المهدي: إن عندي له حيلةً، إذ أعيتكم الحيل فيه، اكتبوا له إلى عامل المدينة: من أتاك بابن هرمة سكران فيضرب ابن هرمة ثمانين، ويضرب الذي يأتيك به مائة. فكان ابن هرمة إذا مشى في أزقة المدينة يقول: من يشتري مائه بثمانين؟ وكان بأمج رجل يقال له: حميد، وكان مفتوناً بالخمر، فهجاه ابن عم له، وقال فيه:
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
علاه المشيب على شربها ... وكان كريماً، فما ينزع
ودخل حميد يوماً على عمر بن عبد العزيز، فقال له: من أنت؟ قال: أنا حميد. قال: " حميد الذي " ؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما شربت مسكراً منذ عشرين سنة. فصدقه بعض جلسائه فقال له: إنما داعبناك.

الفرق بين الخمر والنبيذ
أول ذلك أن تحريم الخمر مجمع عليه لا اختلاف فيه بين اثنين من الأئمة والعلماء. وتحريم النبيذ مختلف فيه بين الأكابر من أصحاب النبي ( والتابعين بإحسان. حتى لقد اضطر محمد بن سيرين في علمه وورعه أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ. فقال له عبيدة: اختلف علينا في النبيذ. وعبيدة ممن أدرك أبا بكر وعمر. فما ظنك بشيء اختلف فيه الناس وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام متوافرون، فمن بين كطلق له ومحظر عليه؟ وكل واحدٍ منهم يقيم الحجج لمذهبه، والشواهد على قوله.
والنبيذ كل ما نبذ في الدباء والمزفت، فاشتد حتى يسكر كثيره. وما لم يشتد فليس يسمى نبيذا، كما أنه ما لم يغل من عصير العنب حتى يشتد فليس يسمى خمراً، كمال قال الشاعر:
نبيذ إذا مر الذباب بدنه ... تقطر أو خر الذباب وقيذا
وقيل لسفيان الثوري، وقد دعا بنبيذٍ فشرب منه، ووضعه بين يديه: يا أبا عبد الله، أخشى الذباب أن يقع في النبيذ. قال: قبحه الله، إذا لم يذب عن نفسه.
وقال حفص بن غياث: كنت عند الأعمش وبين يديه نبيذ، فاستأذن عليه قومٌ من طلبة الحديث، فسترته، فقال لي: لم سترته؟ فكرهت أن أقول: لئلا يراه من يدخل، فقلت: كرهت أن يقع فيه الذباب. فقال لي: هيهات، إنه أمنع من ذلك جانباً.
ولو كان النبيذ هو الخمر التي حرمها الله في كتابه ما اختلف في تحريمه اثنان من الأمة.

حدث محمد بن وضاح قال: سألت سحنون، فقلت: ما تقول فيمن حلف بطلاق زوجته، إن المطبوخ من عصير العنب هو الخمر، التي حرمها الله في كتابه؟ قال: بانت زوجته منه.
وذكر ابن قتيبة في كتاب الأشربة: إن الله تعالى حرم علينا الخمر بالكتاب، والمسكر بالسنة، فكان فيه فسحة، فما كان محرماً بالكتاب فلا يحل منه لا قليل ولا كثير، وما كان محرماً بالسنة فإن فيه فسحةً أو في بعضه، كالقليل من الديباج والحرير يكون في الثوب، والحرير محرم بالسنة. وكالتفريط في صلاة الوتر، وركعتي الفجر، وهما سنة. فلا تقول: إن تاركهما كتارك الفرائض من الظهر والعصر. وقد استأذن عبد الرحمن بن عوف رسول الله ( في لباس الحرير لبلية كانت به، وأذن لعرفجة بن سعد، وكان أصيب أنفه يوم الكلاب، باتخاذ أنفٍ من الذهب. وقد جعل الله فيما أحل عوضاً مما حرم، فحرم الربا وأحل البيع، وحرم السفاح وأحل النكاح، وحرم الديباج وأحل الوشي، وحرم الخمر وأحل النبيذ غير المسكر. والمسكر منه ما أسكرك.

مناقضة ابن قتيبة في قوله في الأشربة
قال في كتابه: فإن قال قائل: إن المنكر هو الشربة المسكرة، أكذبه النظر. لأن القدح الأخير إنما أسكر بالأول، وكذلك اللقمة الأخيرة إنما أشبعت بالأولى. ومن قال: السكر حرام، فإنما ذلك مجازٌ من القول، وإنما يريد ما يكون منه السكر حرام. وكذلك التخمة حرام.
وهذا الشاهد الذي استشهد به في تحريمه " قليل ما أسكره كثيره " وتشبيهه ذلك بالتخمة شاهد عليه لا شاهد له؛ لأن الناس مجمعون أن قليل الطعام الذي تكون منه التخمة حلال، وكثيره حرام. وكذلك ينبغي أن يكون قليل النبيذ الذي يسكر كثيره حلالاً، وكثيره حرام، وأن الشربة الآخرة المسكرة هي المحرمة. ومثل الأربعة الأقداح التي يسكر منها القدح الرابع، مثل أربعة رجال اجتمعوا على رجل، فشجه أحدهم موضحة، ثم شجه الثاني منقلة، ثم شجه الثالث مأمومة، ثم أقبل الرابع فأجهز عليه. فلا نقول: إن الأول هو قاتله، ولا الثاني، ولا الثالث، وإنما قتله الرابع الذي أجهز عليه. وعليه القود.
وذكر ابن قتيبة في كتابه، بعد أن ذكر اختلاف الناس في النبيذ، وما أدلى به كل قومٍ من الحجة. فقال: وأعدل القول عندي أن تحريم الخمر بالكتاب وتحريم النبيذ بالسنة، وكراهية ما أفتر وأخدر من الأشربة تأديب.
ثم زعم في هذا الباب بعينه أن الخمر نوعان: فنوع منهما مجتمع على تحريمه، وهو خمر العنب من غير أن تمسه نار، لا يحل منه لا قليل ولا كثير. ونوع آخر مختلف فيه، وهو نبيذ الزبيب إذا اشتد، ونبيذ التمر إذا صلب، وهو يسمى السكر، ولا يسمى السكر إلا نبيذ التمر خاصةً.
وقال بعض الناس: ليس نبيذ التمر خمراً. ويحتجون بقول عمر: ما انتزع بالماء فهو حلال، وما انتزع بغير الماء فهو حرام.
وقال ابن قتيبة: وقال آخرون: هو خمر حرام كله. وهذا هو القول عندي، لأن تحريم الخمر نزل وجمهور الناس مختلفة، وكلها يقع عليها هذا الاسم في ذلك الوقت.
وذكر أن أبا موسى قال: خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن من البتع، وهو نبيذ العسل. وخمر الحبشة السكركة وهي من الذرة، وخمرة التمر يقال له: البتع والفضيخ.
وذكر أن عمر قال: الخمر من خمسة أشياء: من البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل.
والخمر ما خامر العقل. ولأهل اليمن أيضاً شراب من الشعير، يقال له المزر.
فزعم ها هنا ابن قتيبة أن هذه الأشربة كلها خمر. وقال: هذا هو القول وقد تقدم له في صدر الكتاب أن النبيذ لا يسمى نبيذاً حتى يشتد ويسكر كثيره، كما أن عصير العنب لا يسمى خمراً حتى يشتد، وأن صدر هذه الأمة وأئمة الدين لم يختلفوا في شيء اختلافهم في النبيذ، وكيفيته.
ثم قال فيما حكم به بين الفريقين: أما الذين يذهبون إلى تحريمه كله ولم يفرقوا بين الخمر وبين نبيذ التمر، وبين ما طبخ وبين ما نقع، فإنهم غلوا في القول جداً، ونحلوا قوماً من أصحاب رسول الله ( البدريين، وقوماً من خيار التابعين، وأئمة من السلف المتقدمين شرب الخمر. وزينوا ذلك بأن قالوا: شربوها على التأويل. وغلطوا في ذلك، فأتهموا القوم، ولم يتهموا نظرهم، ونحلوهم الخطأ، وبرءوا أنفسهم منه.

فعجبت منه، كيف يعيب هذا المذهب ثم يتقلده، ويطعن على قائله ثم يقول به. إلا أني نظرت في كتابه فرأيته قد طال جداً، فأحسبه أنسي في آخره ما ذهب إليه في أوله.
والقول الأول من قوله هو المذهب الصحيح الذي تأنس إليه القلوب، وتقبله العقول، لا قوله الآخر الذي غلط فيه.

احتجاج المحرمين لقليل النبيذ وكثيره
ذهبوا أجمعوا أن جميع ما أسكر كثيره من الشراب فقليله حرام، كتحريم الخمر. وقال بعضهم: بل هو الخمر بعينها، ولم يفرقوا بين ما طبخ وبين ما نقع. وقضوا عليه كله أنه حرام. وذهبوا من الأثر إلى حديثٍ رواه عبد الله ابن قتيبة عن محمد بن خالد بن خداش، عن أبيه، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام وكل مسكر خمر " . وحديثٍ رواه ابن قتيبة عن إسحاق بن راهويه، عن المعتمر بن سليمان، عن ميمون بن مهدي، عن أبي عثمان الأنصاري، عن القاسم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حرام " .والفرق: ستة عشر رطلاً. وللعرب أربعة مكاييل مشهورة: فأصغرها المد، وهو رطل وثلث في قول الحجازيين، ورطلان في قول العراقيين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد.
والصاع: أربعة أمداد، خمسة أرطال وثلث، في قول الحجازيين، وثمانية أرطال في قول العراقيين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع.
والقسط وهو رطلان وثلثان، في قول الناس جميعاً. والفرق، وهو ستة عشر رطلاً، ستة أقساط في قول الناس جميعاً.
وذهبوا إلى حديثٍ رواه ابن قتيبة عن محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة، عن اعائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل شراب أسكر فهو حرام " ، مع أشباهٍ لهذا من الحديث يطول الكتاب باستقصائها، إلا أن هذه أغلظها في التحريم، وأبعدها من حيلة المتأول.
قالوا: والشاهد على ذلك من النظر: أن الخمر إنما حرمت لإسكارها وجنايتها على شاربها، ولأنها رجس، كما قال الله.
ثم ذكروا من جنايات الخمر ما قد ذكرناه في صدر كتابنا هذا، في باب آفات الخمر وجناياتها.
ثم قالوا: فالعلة التي لها حرمت الخمر من الإسكار، ومن الصداع والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، قائمة بعينها في النبيذ كله المسكر. فسبيله الخمر، لا فرق بينهما في الدليل الواضح، والقياس الصحيح. كما أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفأرة إذا وقعت في السمن، إنه كان جامداً ألقيت وألقي ما حولها، وإن كان ذائباً أريق السمن. فحملت العلماء الزيت وغيره محمل السمن، بالدليل الواضح.
وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى السمن خاصة بنجس الفأرة، وإنما سئل عن الفأرة تقع في السمن فأفتى به، فقاس العلماء الزيت وغيره بالسمن. وكما أمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار، فعلم أهل العلم أنه إنما أراد صلى الله عليه وسلم بالثلاثة الأحجار للتنقية من الأذى، فأجازوا كل ما أنقى: من الخزف، والخرق، وغير ذلك، وحملوه محمل ثلاثة الأحجار. ولما حرمت الخمر لعلةٍ قائمة في النبيذ المسكر حمل النبيذ محمل الخمر في التحريم.
قالوا: ووجدناهم يقولون لمن غلب عليه غنث النفس وصداع الرأس من الخمر: مخمور وبه خمار. ويقولون مثل ذلك في شارب النبيذ، ولا يقولون: منبوذ، ولا به نباذ. والخمار مأخود من الخمر، كما يقال: الكباد في وجع الكبد، والصدار في وجع الصدر.
وذهبوا في تحريم النبيذ إلى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، " أنه نهى عن أن ينبذ في الدباء والمزفت " ، وقالوا: لمن أجاز قليل ما أسكر كثيره: إنه ليس بين شارب المسكر وموافقته السكر حد ينتهى إليه، ولا يوقف عنده، ولا يعلم شارب من شاربي المسكر متى يسكر حتى يسكر كما لا يعلم الناعس متى يرقد حتى يرقد. وقد يشرب الرجل من الشراب المسكر قدحين وثلاثة أقداح ولا يسكر. ويشرب من غيره قدحاً واحداً فيسكر، لا، بل قد يختلف طبع الرجل في نفسه، فيسكر مرة من القدحين ويشرب مرة أخرى ثلاثة أقداح فلا يسكر.
رسالة عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار في الأنبذة

" أما بعد فإن الناس كان منهم في هذا الشراب المحرم أمر ساءت فيه رغبة كثير منهم، حتى سفه أحلامهم، وأذهب عقولهم، فاستحل به الدم الحرام، والفرج الحرام، وإن رجالاً منهم ممن يصيب ذلك الشراب يقولون: شربنا طلاء، فلا بأس علينا في شربه. ولعمري إن فيما قرب مما حرم الله بأساً، وإن في الأشربة التي أحل الله: من العسل، والسويق، والنيذ من الزبيب والتمر لمندوحةً عن الأشربة الحرام، غير أن كل ما كان من نبيذ العسل والتمر والزبيب فلا ينبذ إلا في أسقية الأدم التي لا زفت فيها، ولا يشرب منها ما يسكر؛ فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شرب ما جعل في الجرار، والدباء، والظروف المزفتة. وقال: " كل مسكر حرام " . فاستغنوا بما أحل الله لكم عما حرم عليكم. وقد أردت بالذي نهيت عنه من شرب الخمر وما ضارع الخمر من الطلاء، وما جعل في الدباء والجرار والظروف المزفتة، وكل مسكر - اتخاذ الحجة عليكم. فمن يطع منكم فهو خير له. ومن يخالف إلى ما نهي عنه نعاقبه على العلانية، ويكفنا الله ما أسر. فإنه على كل شيء رقيب. ومن استخفى بذلك عنا فإن الله أشد بأساً وأشد تنكيلاً " .

احتجاج المحللين للنبيذ
قال المحللون لكل ما أسكر كثيره من النبيذ: إنما حرمت الخمر بعينها خمر العنب خاصةً بالكتاب، وهي معقولة مفهومة، لا يمتري فيها أحدٌ من المسلمين، وإنما حرمها الله تعبداً لا لعلة الإسكار كما ذكرتم، ولا لأنها رجس كما زعمتم. ولو كان ذلك كذلك لما أحلها الله للأنبياء المتقدمين، والأمم السالفين، ولا شربها نوحٌ بعد خروجه من السفينة، ولا عيسى ليلة رفع، ولا شربها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام.
وأما قولكم: إنها رجس، فقد صدقتم في اللفظ، وغلطتم في المعنى، إذ كنتم أردتم أنه منتنة؛ فإن الخمر ليست بمنتنة ولا قذرة، ولا وصفها أحد بنتن ولا قذر، وإنما جعلها الله رجساً بالتحريم، كما جعل الزنا فاحشة ومقتاً، أي معصية وإثماً، بالتحريم، وإنما هو جماع كجماع النكاح، وهو عن تراضٍ وبذل، كما أن النكاح عن تراضٍ وبذل. وقد يبذل في السفاح ما يبذل في النكاح، ولذلك سمى الله تبارك وتعالى المحرمات كلها خباثث. فقال تعالى: " ويحرم عليهم الخبائث " . وسمى المحللات كلها طيبات، فقال: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " ، وسمى كل ما جاوز أمره أو قصر عنه سرفاً، وإن اقتصد فيه. وقد ذكر الخمر فيما امتن به على عباده قبل تحريمها، فقال تعالى: " ومن ثمرات التخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً " . ولو أنها رجس على ما تأولتم ما جعلها الله في جنته، وسماها لذة للشاربين.
وإن قلتم: إن خمر الجنة ليست كخمر الدنيا؛ لأن الله نفى عنها عيوب خمر الدنيا، فقال تعالى: " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " ، وكذلك قوله في فاكهة الجنة: " لا مقطوعةٍ ولا ممنوعة " ، فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا؛ لأنها تأتي في وقتٍ وتنقطع في وقت، ولأنها ممنوعة إلا بالثمن، ولها آفات كثيرة، وليس في فواكه الجنة آفة. وما سمعنا أحداً وصف الخمر إلا بضد ما ذكرتم من طيب النسيم، وذكاء الرائحة.
قال الأخطل:
كأنما المسك نهبى بين أرحلنا ... وقد تضوع من ناجودها الجاري
وقال آخر:
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف
وقال أبو نواس:
نحن نخفيها ويأبى ... طيب ريحٍ فتفوح
وإنما قوله فيها " رجس " كقوله تعالى: " وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم " . أي كفراً إلى كفرهم.
وأما منافعها التي ذكرها الله تعالى في قوله: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ، فإنها كثيرةٌ لا تحصى: فمنها أنها تدر الدم، وتقوي المنة وتصفي اللون، وتبعث النشاط، وتفتق اللسان، ما أخذ منها بقدر الحاجة، ولم يحاوز المقدار. فإذا جاوز ذلك عاد نفعها ضراً.
وقال ابن قتيبة، في كتاب الأشربة: كانت الأوائل تقول: الخمر حبيبة الروح، ولذلك اشتق لها اسم من الروح فسميت راحاً، وربما سميت روحاً.
وقال إبراهيم النظام:
ما زلت آخذ روح الزق في لطفٍ ... وأستبيح دماً من غير مذبوح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح

وقد تسمى دماً لأنها تزيد في الدم. قال مسلم بن الوليد الأنصاري:
مزجنا دماً من كرمة بدمائنا ... فأظهر في الألوان منا الدم الدم
قال ابن قتيبة: وحدثني الرياشي أن عبيداً راوية الأعشى قال: سألت الأعشى عن قوله:
وسلافةٍ مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
فقال: " شربتها حمراء، وبلتها بيضاء " . يريد أن حمرتها صارت دماً.
ومن منافع الخمر أنها تزيد في الهمة، وتولد الجرأة، وتهيج الأنفة، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان. قال حسان بن ثابت:
ونشر بها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
وقال طرفة:
فإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وقال مسلم بن الوليد:
تصد بنفس المرء عماً يغمه ... وتنطق بالمعروف ألسنة البخل
وقال الحسن بن هانئ:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
ومن تسخيتها للبخيل على البذل قول بعض المحدثين:
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا
فلي فرحةٌ في سكره بقميصه ... وفي الصحو روعات تشيب النواصيا
فياليت حظي من سروري وترحتي ... ومن جوده ألا علي ولا ليا
قالوا: ولولا أن الله تعالى حرم الخمر في كتابه لكانت سيدة الأشربة. وما ظنك بشراب الشربة الثانية منه أطيب من الأولى، والثالثة أطيب من الثانية، حتى يؤديك إلى أرفق الأشياء وهو النوم. وكل شراب سواها فالشربة الأولى أطيب من الثانية، والثانية أطيب من الثالثة حتى تمله وتكرهه.
وسقى قومٌ أعرابياً كؤوساً، ثم قالوا: كيف تجدك؟ قال أجدني أبشر وأجدكم تحببون إلي.
وقالوا: ما حرم الله شيئاً إلا عوضنا ما هو خير منه أو مثله، وقد جعل الله النبيذ عوضاً عن الخمر نأخذ منه ما يطيب النفس، ويصفي اللون، ويهضم الطعام، ولا نبلغ منه إلى ما يذهب العقل، ويصدع الرأس، ويغثي النفس، ويشرك الخمر في آفاتها وعظيم جناياتها.
قالوا: وأما قولكم: إن الخمر كل ما خمر، والنبيذ كله يخمر، فهو خمر - فإن الأسماء قد تتشاكل في بعض المعاني، فتسمى ببعضها لعلةٍ فيها، وهي في آخر ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر. ألا ترى أن اللبن قد يخمرونه بروبةٍ تلقى فيه ولا يسمى خمراً، وأن العجين قد يخمر فيسمى خميراً ولا يسمى خمراً، وأن نقيع التمر يسمى سكراً لإسكاره ولا يسمى غيره من النبيذ سكراً وإن كان مسكراً. وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحاط به.
ورائب اللبن يسكر إسكاراً كسكر النبيذ. ويقال: قوم ملبونون، وقوم روبى، إذا شربوا الرائب فسكروا منه. وقال بشر بن أبي خازم:
فأما تميم تميم بن مرٍ ... فألفاهم القوم روبي نياما
وأما قولكم للرجل: مخمور، وبه خمار، إذا أصابه صداع من الخمر، وقد يقال مثل ذلك لمن أصابه صداع من النبيذ، فيقال: به خمار، ولا يقال به نباذ - فإن حجتنا في ذلك أن الخمار إنما يعرض مما أسكر من النبيذ، وذلك حرام لا فرق بينه وبين الخمر عندنا، فيقال فيه ما يقال في الخمر. وإنما كان شربة النبيذ من أسلافنا يشربون منه اليسير على الغداء والعشاء ومما لا يعرض منه خمار.
وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر، فقال الأقيشر، وكان مغرماً بالشراب:
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف، ولم تنغر بها ساعةً قدر
أتاني بها يحيى، وقد نمت نومةً ... وقد غارت الشعري، وقد خفق النسر
فقلت: اصطحبها أو لغيري فاسقها ... فما أنا بعد الشيب، ويحك، والخمر
إذا المرء وافى الأربعين، ولم يكن ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر
فدعه، ولا تنكر عليه الذي أنى ... وأن جر أرسان الحياة له الدهر
فأعلمك أن الخمر هي التي لم تغل به القدور.
وأما قول بعض الشعراء في شاربي النبيذ، وما عابوهم به من قلة الوفاء، ونقض العهود فقد قالوا أقبح من ذلك في تارك النبيذ، وقال ابن بيض:
ألا لا يغرنك ذو سجدةٍ ... يظل بها دائباً يخدع

وما للتقى لزمت وجهه ... ولكن ليأتي مستودع
ثلاثون ألفاً حواها السجود ... فليست إلى ربها ترجع
ورد أخو الكأس ما عنده ... وما كنت في رده أطمع
وقال آخر:
أما النبيذ فلا يذعرك شاربه ... واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء
قوم يورون عما في نفوسهم ... حتى إذا استمكنوا كانوا هم الداء
مشمرين إلى أنصاف سوقهم ... هم الذئاب وقد يدعون قراء
وقال أعرابي:
صلى فأعجبني وصام فرابني ... نح القلوص عن المصلي الصائم
وقال غيره:
شمر ثيابك واستعد لقائل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم
وامش الدبيب إذا مشيت لحاجةٍ ... حتى تصيب وديعةً ليتيم
وقال بعض الظرفاء:
أظهروا لله سمتاً ... وعلى المنقوش داروا
وله صلوا وصاموا ... وله حجوا وزاروا
لو يرى فوق الثريا ... ولهم ريش لطاروا
وهؤلاء المراءون بأعمالهم، العاملون للناس والتاركون للناس، هم شرار الخلق وأراذل البرية. وقد فضل شربة النبيذ عليهم بإرسال الأنفس على السجية، وإظهار المروءة. ولسنا نصف بهذا منهم إلا الأدنياء، فليس في الناس صنف إلا ولهم حشوة.
ومن احتجاج المحللين للنبيذ ما رواه مالك وأثبته في موطئه، من حديث أبي سعيد الخدري: أنه قدم من سفر فقدم إليه لحم من لحوم الأضاحي، فقال: ألم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أمر. فخرج إلى الناس فسألهم، فأخبروه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، فكلوا وادخروا وتصدقوا. وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الدباء والمزفت، فانتبذوا، وكل مسكرٍ حرام. وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها ولا تقولوا هجراً " .
والحديثان صحيحان رواهما مالك بن أنس وأثبتهما في موطئه، وإنما هو ناسخ ومنسوخ، وإنما كان نهيه أن ينتبذ في الدباء والمزفت نهياً عن النبيذ الشديد؛ لأن الأشربة التي تعتمل فيها تشتد. ولا معنى للدباء والمزفت غير هذا.
وقوله بعد هذا: " كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام " ، إباحةٌ لما كان حظر عليه من النبيذ الشديد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام " فنهاهم بذلك أن يشربوا حتى يسكروا. وإنما المسكر ما أسكر، ولا يسمى القليل الذي لا يسكر مسكرا. ولو كان ما يسكر كثيره يسمى قليله مسكرا ما أباح لنا منه شيئاً. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ شرب من سقاية العباس، فوجده شديداً. قطب بين حاجبيه، ثم دعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه، ثم قال: " إذا اغتلمت أشربتكم فاكسروها بالماء " . ولو كان حراماً لأراقه وما صب عليه ماء ثم شربه.
واحتجوا: في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف حرام، فإن هذا كله منسوخ، نسخه شربه للصلب يوم حجة الوداع.
قالوا: ومن الدليل على ذلك أنه كان نهى وفد عبد القيس عن شرب المسكر، ثم وفدوا إليه بعد، فرآهم مصفرة ألوانهم، سيئة حالهم، فسألهم عن قصتهم فأعلموه أنه كان لهم شراب فيه قوام أبدانهم فمنعهم من ذلك، فأذن لهم في شربه. وأن ابن مسعودٍ قال: " شهدنا التحريم وشهدتم، وشهدنا التحليل وغبتم " . وأنه كان يشرب الصلب من نبيذ الجر حتى كثرت الروايات به عنه وشهرت وأذيعت، واتبعه عليه عامة التابعين من الكوفيين، وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم:
من ذا يحرم ماء المزن خالطه ... في جوف خابيةٍ ماء العناقيد
إني لأكره تشديد الرواة لنا ... فيه، ويعجبني قول ابن مسعود
وإنما أراد: أنهم كانوا يعمدون إلى الرب الذي قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فيردون عليه من الماء قدر ما ذهب منه، ثم يتركونه حتى يغلي ويسكن جأشه ثم يشربونه. وكان عمر يشرب على طعامه الصلب، ويقول: يقطع هذا اللحم في بطوننا.
واحتجوا بحديث زيد بن أخزم، عن أبي داود، عن شعبة، عن مسعر بن كدام، عن ابن عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، أنه قال: " حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب " .

وبحديث رواه عبد الرحمن بن سليمان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عكرمة عن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف وهو شاكٍ على بعير، ومعه محجن، كلما مر بالحجر استلمه بالمحجن، حتى إذا انقضى طوافه نزل فصلى ركعتين، ثم أتى السقاية فقال: " اسقوني من هذا " . فقال له العباس " ألا نسقيك مما يصنع في البيوت؟ قال: " لا، ولكن اسقوني مما يشرب الناس " . فأتي بقدح من نبيذ، فذاقه فقطب، وقال: " هلموا فصبوا فيه الماء " . ثم قال: " زد فيه " مرة، أو مرتين، أو ثلاثة. ثم قال: " إذا صنع بكم هذا فاصنعوا به هكذا " .
وبحديث رواه يحيى بن اليمان، عن الثوري، عن منصور بن خالد، عن سعيد بن مسعود الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش وهو يطوف بالبيت، فأتي بنبيذٍ من السقاية فشمه فقطب، ثم دعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه وشرب، فقال له رجل: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: " لا " .
وقال الشعبي: شرب أعرابي من إداوة عمر، فانتشى، فحده عمر. وإنما حده للسكر لا للشراب.
ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يشربون ويوقدون في الأخصاص، فقال: نهيتكم عن معاقرة الشراب فعاقرتم، وعن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم " . وهم بتأديبهم، فقالوا: مهلاً يا أمير المؤمنين، نهاك الله عن التجسس، ونهاك عن الدخول بغير إذنٍ فدخلت فقال: هاتان بهاتين. وانصرف، وهو يقول: " كل الناس أفقه منك يا عمر " .
وإنما نهاهم عن المعاقرة وعن إدمان الشراب حتى يسكروا، ولم ينههم عن الشراب.
وأصل المعاقرة من عقر الحوض، وهو مقام الشاربة.
ولو كان عنده ما شربوا خمراً لحدهم.
وبلغه عن عامل بميسان أنه قال:
ألا أبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قريةٍ ... وصناجةٌ تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا في الجوسق المتهدم
فقال: إي والله، إنه ليسوؤني ذلك. فعزله وقال: والله لا عمل لي عملاً أبداً.
وإنما أنكر عليه المدام، وشربه بالكبير، والصنج والرقص، وشغله باللهو عما فوض إليه من أمور الرعية. ولو كان ما شرب عنده خمراً لحده.
حدث محمد بن داود، عن سعيد بن نصير، عن يسار، عن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار، وسئل عن النبيذ، أحرام هو؟ فقال: انظر ثمن التمر، من أين هو، ولا تسل عن النبيذ أحلالٌ هو أم حرام؟ وعوتب سعيد بن زيد في النبيذ، فقال: أما أنا فلا أدعه حتى يكون شر عملي.
وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ؟ قال: نعم. فقيل: وكيف تشربه؟ فقال: على غدائي وعشائي، وعند ظمئي. قيل: فما تركت منه؟ قال: التكأة ومحادثة الإخوان.
قال المأمون: " اشرب النبيذ ما استبشعته، فإذا سهل عليك فدعه " . وإنما أراد به أنه يسهل على شاربه إذا أخذ في الإسكار.
وقيل لسعيد بن أسلم: أتشرب النبيذ؟ فقال: لا. قيل: ولم؟ قال: تركت كثيره لله، وقليله للناس.
وكان سفيان الثوري يشرب النبيذ الصلب الذي تحمر منه وجنتاه.
واحتجوا من جهة النظر أن الأشياء كلها مباحة إلا حرم الله قالوا: فلا نزيل نفس الحلال بالاختلاف، ولو كان المحللون فرقة من الناس، فكيف وهم أكثر الفرق؟ وأهل الكوفة أجمعون على التحليل، لا يختلفون فيه. وتلوا قول الله عز وجل: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله أذن لكم أم على الله تفترون " .
حدث إسحاق بن راهويه قال: سمعت وكيعاً يقول: " النبيذ أحل من الماء " .
وعابه بعض الناس في ذلك، وقالوا: كيف يكون أحل من الماء؟ وهو وإن كان حلالاً فهو بمنزلة الماء. وليس على وكيع في هذا الموضع عيب، ولا يرجع عليه فيه كذب، لأن كلمته خرجت مخرج كلام العرب في مبالغتهم، كما يقولون: " هو أشهر من الصباح " ، و " أسرع من البرق " ، و " أبعد من النجم " ، و " أحلى من العسل " ، و " أحر من النار " . ولم يكن أحدٌ من الكوفيين يحرم النبيذ غير عبد الله بن إدريس. وكان بذلك معيباً.
وقيل لابن إدريس: من خيار أهل الكوفة؟ فقال: هؤلاء الذين يشربون النبيذ. قيل: وكيف وهم يشربون ما يحرم عندك؟ قال: ذلك مبلغهم من العلم.
وكان ابن المبارك يكره شرب النبيذ، ويخالف فيه رأي المشايخ وأهل البصرة.

قال أبو بكر بن عياش: من أين جئت بهذا القول في كراهيتك النبيذ، ومخالفتك أهل بلدك؟ قال: هو شيء اخترته لنفسي قلت: فتعيب من شربه؟ قال: لا. قلت: فأنت وما اخترت.
وكان عبد الله بن داود يقول: ما هو عندي وماء الفرات إلا سواء. وكان يقول: أكره إدارة القدح، وأكره نقيع الزبيب، وأكره المعتق.
وقال: من أدار القدح لم تجز شهادته.
وشهد رجل عند سوار القاضي، فرد شهادته لأنه كان يشرب النبيذ. فقال:
أما النبيذ فإني غير تاركه ... ولا شهادة لي ما عاش سوار
حدث شبابة قال: حدثني غسان بن أبي الصباح الكوفي، عن أبي سلمة يحيى بن دينار، عن أبي المطهر الوراق قال: بينما زيد بن علي في بعض أزقة الكوفة إذ بصر به رجل من الشيعة، فدعاه إلى منزله، فأحضره طعاماً، فتسامعت به الشيعة، فدخلوا عليه حتى غص المجلس بهم، فأكملوا معه، ثم استسقى، فقيل له: أي الشراب نسقيك يا ابن رسول الله؟ قال: أصلبه أو أشده. فأتوه بعس من نبيذ فشرب، ودار العس عليهم فشربوا. ثم قالوا: يا ابن رسول الله لو حدثتنا في هذا النبيذ بحديثٍ رويته عن أبيك عن جدك، فإن العلماء يختلفون فيه؟ قال: نعم، حدثني أبي عن جدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتركبن طبقة بني إسرائيل خذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل. ألا وإن الله ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت، أحل منه الغرفة والغرفتين، وحرم منه الري، وقد ابتلاكم بهذا النبيذ، أحل منه القليل وحرم منه الكثير " .
وكان أهل الكوفة يسمون النبيذ " نهر طالوت " . وقال فيه شاعرهم:
اشرب على طرب من نهر طالوت ... حمراء صافيةً في لون ياقوت
من كف ساحرة العينين شاطرةٍ ... تربي على سحر هاروتٍ وماروت
لها تماوت ألحاظ إذا نظرت ... فنار قلبك من تلك التماويت

قصة الحارث بن كلدة طبيب العرب
مع كسرى أنوشروان الفارسي
حكى الفرغاني عن بعض رجاله قال: وفد على كسرى ملك الفرس الحارث بن كلدة طبيب العرب، فأذن له بالدخول، فمثل بين يديه فقال له كسرى: من أنت؟ قال: أنا الحارث بن كلدة. قال: أعرابي أنت؟ قال: نعم من صميمها. قال: فما صناعتك؟ قال: طبيب. قال: فما تصنع العرب بالطبيب مع جهلها، وضعف عقولها، وقلة قبولها، وسوء غذائها؟ فقال: ذلك أجدر أيها الملك، إذ كانت بهذه الصفة، ان تحتاج إلى من يصلح جهلها، ويقيم عوجها، ويسوس أبدانها، ويعدل أمشاجها. قال الملك: كيف لها أن تعرف ما نزوره عليها، لو عرفت الحق لم تنسب إلى الجهل. قال الحارث: أيها الملك، إن الله جل اسمه قسم العقول بين العباد كما قسم الأرزاق، وأخذ القوم نصيبهم، ففيهم ما في الناس من جاهل وعالم، وعاجز وحازم. قال الملك: فما الذي يحمد من أخلاقهم ويحفظ من مذاهبهم؟ قال الحارث: لهم أنفس سخية، وقلوب جرية، وعقول صحيحة مرضية، وأحساب نقية، يمرق الكلام من أفواههم مروق السهم العائر، ألين من الماء، وأعذب من الهواء، يطعمون الطعام، ويضربون الهام، وعزهم لا يرام، وجارهم لا يضام، ولا يروع إذا نام، ولا يقرون بفضل أحدٍ من الأنام، ما خلا الملك الهمام، الذي لا يقاس به أحد من الأنام.

قال: فاستوى كسرى جالساً، ثم التفت إلى من حوله؛ فقال: أطرى قومه، فلولا أن تداركه عقله لذم قومه، على أني أراه راجحاً. ثم أذن له بالجلوس فقال: كيف بصرك بالطب؟ قال: ناهيك. قال: فما أصل الطب؟ قال: ضبط الشفتين، والرفق باليدين. قال: أصبت الدواء، فما الداء؟ قال: إدخال الطعام على الطعام، هو الذي أفنى البرية، وقتل السباع في البرية. قال: أصبت. ثم قال: فما الجمرة التي تلتهب منها الأدواء؟ قال: هي التخمة، إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت. قال: فما تقول في الحجامة؟ قال: في نقصان الهلال، في يوم صحو لا غيم فيه، والنفس طيبة، والسرور حاضر. قال: فما تقول في الحمام؟ قال: لا تدخل الحمام شبعان، ولا تغش أهلك سكران، ولا تنم بالليل عريان، وارفق بجسمك يكن أرجى لنسلك. قال: فما تقول في شرب الدواء؟ قال: اجتنب الدواء ما لزمتك الصحة، دعه فإذا أحسست بحركة الداء فاحبسه بما يردعه من الدواء؛ فإن البدن بمنزلة الأرض، إن أصلحتها عمرت، وإن أفسدتها خربت. قال: فما تقول في الشراب؟ قال: أطيبه أهناه، وأرقه أمراه، ولا تشرب صرفاً يورثك صداعاً ويثر عليك من الداء أنواعاً. قال: فأي اللحمان أحمد؟ قال: الضأن الفتي وأدسمه أمرؤه، واجتنب أكل القديد المالح، من الجزور والبقر. قال: فما تقول في الفاكهة؟ قال: كلها في إقبال دولتها، وحين أوانها، واتركها إذا أدبرت وتولت وانقضى زمانها. وأفضل الفاكهة الرمان والأترج، وأفضل البقول الهندبا والخس، وأفضل الرياحين الورد والبنفسج. قال: فما تقول في شرب الماء؟ قال: هو حياة البدن، وبه قوته، وينفع ما شرب منه بقدر، وشربه بعد النوم ضرر، وأفضل المياه مياه الأنهار العظام، أبرده وأصفاه. قال: فما طعمه؟ قال: شيء لا يوصف، مشتق من الحياة. قال: فما لونه؟ قال: اشتبه على الأبصار لونه، يحكي لون كل شيء يكون فيه. قال: فأخبرني عن أصل الإنسان ما هو؟ قال: أصله من حيث يشرب الماء. يعني رأسه.
قال: فما هذا النور الذي تبصر به الأشياء؟ قال: العين مركبة من أشياء، فالبياض شحمة، والسواد ماء.
قال: فعلى كم طبع هذا البدن؟ قال: على أربع طبائع: على المرة السوداء، وهي باردة يابسة؛ والمرة الصفراء، وهي حارة يابسة؛ والدم، وهو حار رطب؛ والبلغم، وهو بارد رطب. قال: فلم لم يكن من طبع واحد؟ قال: لو خلق من شيء واحد لم ينحل ولم يمرض ولم يمت. قال: فمن طبعين ما حال الاقتصار عليهما؟ قال: لو اقتصر عليهما لم يجز؛ لأنهما ضدان يقتتلان، ولذلك لم يجز من ثلاثة: موافقان ومخالف. قال: فأجمل لي الحار والبارد في أحرف جامعة. قال: كل حلو حار، وكل حامض بارد، وكل حريف حار، وكل مز معتدل، وفي المر حار وبارد. قال: فما أفضل ما عولج به المرة السوداء؟ قال: بكل حار لين. قال: فالرياح؟ قال: الحقن اللينة والأدهان الحارة اللينة. قال: أفتأمر بالحقن؟ قال: نعم، قرأت في بعض الكتب: أن الحقنة تنقي الجوف، وتكسح الدواء عنه، وعجباً لمن احتقن كيف يهرم أو يعدم الولد، وإن الجاهل كل الجاهل من أكل ما قد عرف مضرته، فيؤثر شهوته على راحة بدنه. قال: فما الحمية؟ قال: الاقتصاد في كل شيء؛ فإنه إذا أكل فوق المقدار ضيق على الروح ساحته.
قال: فما تقول في إيتان النساء؟ قال: كثرة غشيانهن رديء، وإيتان المرأة المولية فإنها كالشن البالي، تسقم بدنك، وتجذب قوتك، ماؤها سم قاتل، ونفسها موت عاجل، تأخذ منك ولا تعطيك. عليك بإيتان الشباب، فإن الشابة ملؤها عذب زلال، ومعانقتها غنج ودلال، فوها بارد، وريحها طيب، ورحمها حرج، تزيدك قوة ونشاطاً. قال: فأي النساء القلب لها أبسط، والعين برؤيتها آنس وأقصد؟ قال: إن أصبتها مديدة القامة، عظيمة الهامة، واسعة الجبين، عريضة الصدر، مليحة النحر، ناهدة الثديين، لطيفة الخصر والقدمين، بيضاء فرعاء، جعدة غضة، حسنة الثغر، تخالها في الظلمة بدراً زاهراً، تبسم عن أقحوان باهر، وإن تكشف تكشف عن بيضةٍ مكنونة، وإن تعانق تعانق ما هو ألين من الزبد، وأحلى من الشهد، وأعذب من القند، وأبرد من الفردوس والخلد، وأذكى ريحاً من الياسمين والورد.

قال: فاستضحك كسرى حتى اختلجت كتفاه، قال: فأي الأوقات أفضل؟ قال: عند إدبار الليل يكون الجوف أخلى، والنفس أشهى، والرحم أدفا. قال: فأي الأوقات ألذ وأطرب؟ قال: نهاراً، يزيدك النظر انتشاراً. قال كسرى: لله درك من أعرابي، لقد أعطيت علماً، وخصصت بفطنة وفهم. ثم أمر له بجائزة وكسى، وقضى حوائجه.
وحضر ابن أبي الحوارى بالشام - وكان معروفاً بالرقائق والزهد - مائدة صالح العباسي، مع فقهاء البلد، فحدثني البحتري بن عبادة، وكان ممن حضر المجلس: أنه بعث إليه بقدح نبيذ فشربه، ثم بعث إليه بثانٍ فامتنع من شربه، فأخذه الناس بألسنتهم، وقالوا: شربت المسكر على أعين هؤلاء وصرت لهم حجة. قال: أحسبكم أردتم أن أكون ممن قال الله تعالى فيه " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم " ، فكيف كنت أدعه لكم وأشربه بعين الله.
وقال بعض القضاة لرجل كان يعذله: بلغني أنك تشرب المسكر. فقال: ما أشرب المسكر، ولكني أشرب النبيذ الصلب.
فأين هؤلاء في ترك الرياء والتصنع من رجل سرقت نعله فلم يشتر نعلاً حتى مات، فعوتب في ذلك فقال: أخشى أن أشتري نعلاً فيسرقها أحد فيأثم.
وآخر لما نظر إلى أهل عرفاتٍ قال: ما أظن الله إلا وقد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم.
وآخر أمر له عمر بن الخطاب بكيسٍ، فقال: آخذ الكيس والخيط؟ فقال له عمر: دع الكيس.
ورجل سأل ابن المبارك فقال: إني قاسمت إخوتي، وبيننا مبرز غير مقسوم، وفي بطر، أفترى لي أن ادخله أكثر مما يدخله شركائي؟ وآخر قال: أفطرت البارحة على رغيف وزيتونة ونصف، أو زيتونة وثلث، أو زيتونة وربع، أو ما علم الله من زيتونة أخرى. فقال له بعض من حضر المجلس: يا فتى، إنه بلغنا أن من الورع ما يبغضه الله، وأحسبه ورعك هذا.
الأعمش قال: أتاني عبد الله بن سعد فقال لي: ألا تعجب؟ جاءني رجل فقال: دلني على شيء إذا أكلته أمرضني، فقد اتسبطأت العلة، وأحببت أن أعتل فأوجر. فقلت له: سل الله العافية، واستدم النعمة؛ فإن من شكر على النعمة كمن صبر على البلية. فألح علي فقلت له: كل السمك، واشرب نبيذ الزبيب، ونم في الشمس، واستمرض الله يمرضك إن شاء الله! هارون بن داود قال: شرب رجل عند خمار نصراني، فأصبح ميتاً، فاجتمع عليه الناس، وقالوا للخمار: أنت قتلته. قال: لا والله، ولكن قتله استعماله قوله:
وأخرى تداويت منها بها

كتاب اللؤلؤة الثانية في النتف والهدايا
والفكاهات والملح
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، رحمه الله: قد مضى قولنا في الطعام والشراب وما يتولد منهما، وينسب إليهما. ونحن قائلون بما ألفناه في كتابنا هذا، من الفكاهات والملح التي هي نزهة النفس، وربيع القلب، ومرتع السمع، ومجلب الراحة، ومعدن السرور.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " روجوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت " .
وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: أجموا هذه القلوب، والتمسوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان. والنفس مؤثرة للهوى، آخذة بالهوينى، جانحة إلى اللهو، أمارة بالسوء، مستوطئة للعجز، طالبة للراحة، نافرة عن العمل، فإن أكرهتها أنضيتها، وإن أهملتها أرديتها.
ودخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه عمر، وهو ينام نومة الضحى، فقال: يا أبت، أتنام وأصحاب الحوائج راكدون ببابك؟ قال: يا بني، إن نفسي مطيتي، فإن أنضيتها قطعتها، ومن قطع المطي لم يبلغ الغاية.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه.
وكان محمد بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير فيمن لا يطرب " .
وقال: " كل كريم طروب " .
وقال هشام بن عبد الملك: أكلت الحلو والحامض حتى ما أجد لواحد منهما طعماً، وشممت الطيب حتى ما أجد له رائحة، وأتيت النساء حتى ما أبالي امرأة أتيت أم حائطاً، ما وجدت شيئاً ألذ إلي من جليس تسقط بيني وبينه مؤونة التحفظ.
وقيل لعمر بن العاصي: ما ألذ الأشياء؟ قال: ليخرج من ها هنا من الأحداث. فخرجوا، فقال: ألذ الأشياء إسقاط المروءة.
وقيل لمسلمة بن عبد الملك: ما ألذ الأشياء؟ فقال: هتك الحياء، واتباع الهوى.

وهذه المنزلة من إهمال النفس وهتك الحياء قبيحة، كما أن المنزلة الأخرى من الغلو في الدين، والتقشف في الهيئة قبيحة أيضاً، وإنما المحمود منها التوسط، وأن يكون لهذا موضعه وهذا موضعه.
وقال مطرف بن عبد الله لولده: " يا بني إن الحسنة بين السيئتين، - يريد بين المجاوزة والتقصير - وخير الأمور أواسطها، وشر السير الحقحقة " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى " .
وفي بعض الكتب المترجمة: إن يحنا وشمعون، كان من الحواريين، وكان يحنا لا يجلس مجلساً إلا ضحك وأضحك من حوله، وكان شمعون لا يجلس مجلساً إلا بكى وأبكى من حوله، فقال شمعون ليحنا: ما أكثر ضحكك، كأنك قد فرغت من عملك؟ فقال له يحنا: ما أكثر بكاءك، كأنك قد يئست من ربك؟ فأوحى الله إلى المسيح: أن أحب السيرتين إلي سيرة يحنا.
وفي بعض الكتب أيضاً أن عيسى بن مريم لقي يحيى بن زكريا فتبسم إليه يحيى، فقال له عيسى: إنك لتبسم تبسم آمن! فقال له يحيى: إنك لتعبس عبوس قانط! فأوحى الله إلى عيسى: " إن الذي يفعل يحيى أحب إلي " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم دخل نعيمان الجنة ضاحكاً، لأنه كان يضحكني " . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وهو أرمد، فوجده وهو يأكل تمراً، فقال له: أتأكل تمراً وأنت أرمد؟ فقال: إنما آكل من الجانب الآخر. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
وكانت سويداء لبعض الأنصار تختلف على عائشة، فتلعب بين يديها وتضحكها، وربما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فيجدها عندها فيضحكان جميعاً، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فقدها، فقال: يا عائشة، ما فعلت السويداء؟ قالت له: إنها مريضة. فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم يعودها، فوجدها في الموت، فقال لأهلها: إذا توفيت فآذنوني. فلما توفيت آذنوه، فشهدها وصلى عليها، وقال: " اللهم إنها كانت حريصة على أن تضحكني، فأضحكها فرحاً " .
وقيل لأبي نواس: قد بعثوا إلى أبي عبيدة والأصمعي ليجمعوا بينهما، فقال؛ أما أبو عبيدة فإن خلوه وسفره قرأ عليهم أساطير الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل في قفص يطربهم بصفيره.
قال ابن إسحاق: وقد طرب الصالحون وضحكوا ومزحوا. وإذا مدحت العرب رجلاً قالوا: هو ضحوك السن، بسام الهشيات، هش إلى الضيف. وإذا ذمته قالت: هو عبوس الوجه، جهم المحيا، كريه المنظر، حامض الوجنة كأنما وجهه بالخل منضوح، وكأنما أسقط خيشومه بالخردل.
وكتب يحيى بن خالد إلى الفضل ابنه وهو بخراسان: " يا بني، لا تغفل نصيبك من الكسل " .
وهذا حرف جامع لما قصدناه من هذا المعنى، لأن بالكسل تكون الراحة، وبالراحة يثوب النشاط وبالنشاط يصفو الذهن، ويصدق الحس ويكثر الصواب.
قال الشاعر:
إنما للناس منا ... حسن خلق ومزاح
ولنا ما كان فينا ... من فساد وصلاح
الهيثم بن عدي قال: رأيت هشام بن عروة قد اجتمع إليه أصحاب الحديث يسألونه، فقال لهم: يا قوم، أما ما كان عندي من الحلال والحرام والسنة فإني لا أستحل أن أمنعكموه، وأما ملحي فلا أعطيكموها ولا كرامة.

باب من المفاكهات
حديث عباس بن الأحنف
حدث أبو العباس النحوي المعروف بالمبرد قال: حدثنا محمد بن عامر الحنفي، وكان من سادات بكر بن وائل، وأدركته شيخاً كبيراً مملقاً، وكان إذا أفاد على إملاقه شيئاً جاد به، وقد كان قديماً ولي شرطة البصرة، فحدثني هذا الحديث الذي نذكره. ووقع إلي من غير ناحيته، ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان، إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك:

ذكر أن فتياناً كانوا مجتمعين في نظام واحد، كلهم ابن نعمة، وكلهم قد شرد عن أهله، وقنع بأصحابه، فذكر ذاكر منهم قال: كنا قد اكترينا داراً شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس، فكنا نفلس أحياناً ونوسر أحياناً، على مقدار ما يمكن الواحد من أهله، وكنا لا نستكثر أن تقع مؤونتنا على واحد منا إذا أمكنه، ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول. وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، ودعونا الملهين والملهيات. وكان جلوسنا في أسفل الدار، فإذا عدمنا الطرب فمجلسنا غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس، وكنا لا نخل بالنبيذ في عسر ولا يسر. فإنا لكذلك يوماً إذا بفتى يستأذن علينا، فقلنا له: اصعد. فإذا رجل نظيف حلو الوجه، سري الهيئة، ينبئ رواؤه على أنه من أبناء النعم، فأقبل علينا فقال: إني سمعت مجتمعكم، وحسن منادمتكم، وصحة ألفتكم، حتى كأنكم أدرجتم جميعاً في قالب واحد، فأحببت أن أكون واحداً منكم، فلا تحتشموا. قال: وصادف ذلك منا إقتاراً من القوت، وكثرة من النبيذ. وقد كان قال لغلام له أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم: هات ما عندك، فغاب الغلام عنا غير كثير، ثم إذا هو قد أتانا بسلة خيزران، فيها طعام المطبخ: من جدي، ودجاج، وفراغ، ورقاق، وأشنان، ومحلب، وأخلة، فأصبنا من ذلك ثم أفضنا في شرابنا؛ وانبسط الرجل؛ فإذا أحلى خلق الله إذا حدث؛ وأحسنهم استماعاً إذا حدث، وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف. ثم أفضينا منه إلى أكرم محالفة، وأجمل مساعدة. وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه، فيظهر لنا أنه لا يحب غيره، ويرى ذلك في إشراق وجهه، فكنا نغنى به عن حسن الغناء، ونتدارس أخباره وآدابه، فشغلنا ذلك عن تعرف اسمه ونسبه، فلم يكن منا إلا تعرف الكنية، فإنا سألناه عنها فقال: " أبو الفضل " .
فقال لنا يوماً بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم كيف عرفتكم؟ قلنا: نعم إنا لنحب ذلك. قال: أحببت جارية في جواركم، وكانت سيدتها ذات حبائب، فكنت أجلس لها في الطريق ألتمس اجتيازها فأراها، حتى أخلقني الجلوس على الطريق، ورأيت غرفتكم هذه، فسألت عن خبرها، فخبرت عن ائتلافكم ومساعدة بعضكم بعضاً، فكان الدخول فيما أنتم فيه آثر عندي من الجارية. فسألناه عنها فخبرنا، فقلنا له: فإنا نختدعها حتى نظفرك بها. فقال: يا إخواني إني والله، على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها، ما قدرت فيها حراماً قط، ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فأشتريها. فأقام معنا شهرين ونحن على غاية الاغتباط بقربه، والسرور بصحبته، إلى أن اختلس منا، فنالنا بفراقه ثكل ممض، ولوعة مؤلمة، ولم نعرف له منزلاً نلتمسه فيه. فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به، وقبح عندنا ما كان حسن بقربه وجعلنا لا نرى سروراً ولا غماً إذا ذكرنا؛ لاتصال السرور بصحبته وحضوره، والغم بمفارقته، فكنا فيه كما قال القائل:
يذكرنيهم كل خير رأيته ... وشر، فما أنفك منهم على ذكر
فغاب عنا زهاء عشرين يوماً، ثم بينا نحن مجتازون يوماً من الرصافة إذا به قد طلع في مركب نبيل، وزي جليل، فحيث بصر بنا انحط عن دابته، وانحط غلمانه، ثم قال: يا إخواني، والله ما هنأني عيش بعدكم، ولست أماطلكم بخبري حتى آتي المنزل، ولكن ميلوا بنا إلى المسجد. فملنا معه، فقال:

أعرفكم أولاً بنفسي، أنا العباس بن الأحنف، وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم، فإذا المسودة محيطة بي، فمضي بي إلى دار أمير المؤمنين، فصرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: ويحك يا عباس، إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك، وحسن تأتيك، وإن الذي ندبتك له من شأنك، وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن " ماردة " هي الغالبة على أمير المؤمنين، وأنه جرى بينهما عتب، فهي بدالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك، وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني، وهو أحرى أن تستعزه الصبابة، فقل شعراً يسهل عليه هذه السبيل. فقضى كلامه، ثم دعاه أمير المؤمنين فصار إليه، وأعطيت قرطاساً ودواة، فاعتراني الزمع، وأذهب عني ما أريد الاستحثاث، فتعذرت علي كل عروض، ونفرت عني كل قافية، ثم انفتح لي شيء والرسل تعنتني، فجاءتني أربعة أبيات رضيتها، وقعت صحيحة المعنى، سهلة الألفاظ، ملائمة لما طلب مني، فقلت لأحد الرسل: ابلغ الوزير أني قلت أربعة أبيات، فإن كان فيها مقنع وجهت بها. فرجع إلي الرسول بأن هاتها، ففي أقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول وردوعه قلت بيتين نم غير ذلك الروي، فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة، وعقبت بالبيتين، فقلت:
العاشقان كلاهما متغضب ... وكلاهما متوجد متعتب
صدت مغاضبة وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذي هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلو فعز منه المطلب
ثم كتبت تحت ذلك:
لا بد للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى من خالد، فدفعه إلى الرشيد، فقال: والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا، والله لكأني قصدت به. فقال له يحيى: فأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به، هذا يقوله العباس بن الأحنف في هذه القصة. فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله:
راجع من يهوى على رغم

استغرب ضحكاً حتى سمعت ضحكه، ثم قال: إي والله، أراجع على رغم، يا غلام هات نعلي. فنهض وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء، فدعاني يحيى، وقال: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة، وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء. قلت: لكن هذا الخبر ما قوع مني بغاية الموافقة. ثم جاء غلام فساره فنهض وثبت مكاني، ثم نهضه بنهوضه، فقال لي: يا عباس، أمسيت أملأ الناس، أتدري ما سارني به هذا الرسول؟ قلت: لا. وقال: ذكر لي أن " ماردة " تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه ثم قالت له: يا أمير المؤمنين، كيف كان هذا؟ فأعطاها الشعر وقال: هذا الذي أتى بي إليك. قالت: فمن يقوله: عباس بن الأحنف. قالت: فبم كوفئ؟ قال: ما فعلت شيئاً بعد. قالت: إذاً والله لا أجلس حتى يكافأ. قال: فأمير المؤمنين قائم لقيامها، وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين، وهما يتناظران في صلتك، فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا الصلة. ثم قال: هذا أحسن من شعرك. قال: فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير، وأمرت لي ماردة بمال دونه. وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به، وحملت على ما ترون من الظهر. ثم قال الوزير: من تمام اليد عندي ألا تخرج من الدار حتى نؤثل لك بهذا المال ضياعاً. فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف درهم، ودفع إلي بقية المال. فهذا الخبر الذي عاقني عنكم، فهلموا حتى أقاسمكم الضياع، وأفرق فيكم المال. قلنا له: هنأك الله ما لك، فكل من يرجع إلى نعمة من أبيه وأهله. فأقسم وأقسمنا، قال: فأنتم فيه أسوتي. فقلنا: أما هذا فنعم، قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. فمشينا إلى صاحبتها وكانت جارية جميلة حلوة، لا تحسن شيئاً، أكثر ما فيها ظرف اللسان، وتأدية الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار. فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة، فأجبناه بالعجب فحط مائة، ثم حط مائة. فقال العباس يا فتيان، إني والله احتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي بها يتم سروري، فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل. قال: هذه الجارية أنا أعاينها منذ دهر، وأريد إيثار نفسي بها، فأكره أن تنظر إلي بعين من قد ماكس في ثمنها، دعوني أعطه بها خمسمائة دينار، كما سأل. قلنا له: وإنه قد حط مائتين، قال: وإن فعل. قال: فصادفت من مولاها رجلاً حراً، فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين. فما زال إلينا محسناً حتى فرق الموت بيننا.

حدث المجرد
قال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: والله لأحدثنك حديثاً ما سمعه مني أحد قط، وهو بأمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حياً. قلت: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا " . قال: يا أبا محمد، إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه. قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة؟ آخذه على ما أحببت. قال:

بينا أنا بسوق الكيل بمكة بعد أيام الموسم، إذا أنا بامرأة من نساء مكة، معها صبي يبكي، وهي تسكته فيأبى أن يسكت، فسفرت وأخرت من فيها كسرة درهم، فدفعتها إلى الصبي، فسكت؛ فإذا وجه رقيق كأنه كوكب دري، وإذا شكل رطب، ولسان فصيح، فلما رأتني أحد النظر إليها قالت: اتبعني. فقالت: إن شريطتي الحلال. قالت: ارجع في حرامك، ومن يريدك على حرام؟ فخجلت وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها فدخلت زقاق العطارين، فصعدت درجة وقالت: اصعد. فصعدت، فقال: أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم، وأنا امرأة من زهرة، ولكن عندي حر ضيق عليه وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة. أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأصفر سليم! قلت: وما أصفر سليم؟ قالت: بدينار واحد يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجاً صحيحاً. قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت. قال: فصفقت بيدها إلى جاريتها فاستجابت لها. قالت: قولي لفلانة: البسي ثيابك وعجلي، وبحياتي لا تمسي غمراً، ولا طيباً، فحسبنا بدلالك، وعطرك. قال: فإذا جارية أقبلت ما أحسب الشمس وقعت عليها، كأنها دمية، فسلمت وقعدت كالخجلة. فقالت لها الأولى: إن هذا الذي ذكرتك له، وهو في هذه الهيئة التي ترين. قالت: حياه الله، وقرب داره. قال: لا، والله يا بنية، لقد أنسيتها. ثم نظرت إلي فغمزتني، وقالت: أتدري ما شريطتها؟ قلت: لا. قالت: أقول لك بحضرتها ما إخالها تكرهه، هي والله أفتك من عمرو بن معد يكرب، وأشجع من ربيعة من مكدم، ولست بواصل إليها حتى تسكر وتغلب على عقلها، فإذا بلغت تلك الحال ففيها مطمع. فقلت: ما أهون هذا وأسهله. قالت الجارية: وتركت شيئاً أيضاً. قالت: نعم والله، اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها فتراك مجرداً، مقبلاً ومدبراً. قلت: وهذا أيضاً أفعله. قالت: هلم دينارك. فأخرجت ديناراً فنبذته إليها، فصفقت صفقة أخرى فأجابتها امرأة، قالت: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلما الساعة. فقلت في نفسي: أبو الحسن وأبو الحسين هو علي بن أبي طالب. قال: فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا فصعدا، فقصت المرأة عليهما القصة، فخطب أحدهما وأجاب الآخر. وأقررت بالتزويج وأقرت المرأة، فدعوا بالبركة، ثم نهضا فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المؤونة، فأخرجت ديناراً آخر فدفعته إليها. وقلت: اجعلي هذا لطيبك. قالت: يا أخي، ليست ممن يمس طيباً لرجل، إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت. قلت: فاجعلي هذا لغدائنا اليوم. قالت: أما هذا فنعم. فنهضت الجارية، وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت وتغدينا، وجاءت بدواة وقضيب، وقعدت تجاهي، ودعت بنبيذ، فأعدته واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط، فإني ألفت بيوت القنان نحواً من ثلاثين سنة، فما سمعت مثل ترنمها قط، فكدت أجن سروراً وطرباً، فجعلت أريغ أن تدنو مني فتأبى، إلى أن غنت بشعر لم أعرفه، وهو:
راحوا يصيدون الظباء، وإنني ... لأرى تصيدها علي حراما
أعزز علي بأن أروع شبيهها ... أو أن تذوق على يدي حماما
فقلت: جعلت فداك، من تغنى بهذا؟ قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سريج وابن عائشة. فلما نعي إلينا النهار وجاءت المغرب، تغنت بصوت لم أفهمه، للشقاء الذي كتب علي، فقالت:
كأني بالمجرد قد علته ... نعال القوم أو خشب السواري

قلت: جعلت فداك، ما أفهم هذا البيت، ولا أحسبه مما يتغنى به. قال: أنا أول من تغنى به. قلت: فإنما هو بيت عائر لا صاحب له. قالت: معه آخر ليس هذا وقته، وهو آخر ما أتغنى به. قال: فجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها. فلما أمسينا وصلينا المغرب، وجاءت العشاء الآخرة، وضعت القضيب، فقمت وصليت العشاء وما أدري كم صليت عجلة وشوقاً، فلما سلمت قلت: تأذنين جعلت فداك أشق ثيابي عجلة للخروج عنها، فتجردت وقمت بين يديها مكفراً لها. قالت: امض إلى زاوية البيت، وأقبل وأدبر حتى أراك مقبلاً مدبراً. قال: وإذا حصير في الغرفة عليه طريق إلى زاوية البيت، فأخطر عليه، وإذا تحته خرق إلى السوق، فإذا أنا في السوق قائماً متجرداً منعظاً، وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا لي نعالها، وكمنا لي في ناحية، فلما هبطت عليهما بادراً إلي فقطعا نعالها على قفاي، واستعانا بأهل السوق، فضربت والله يا أبا محمد حتى نسيت اسمي، فينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد شديدة، فإذا صوت من فوق البيت يغني به، وهو:
ولو علم المجرد ما أردنا ... لخاض لنا المجرد بالصحاري
فقلت في نفسي: هذا والله وقت هذا البيت، فنجوت إلى رحلي، وما في عظم صحيح، فلما انقضى حجنا وانصرفنا جعلت طريقي على ذلك الموضع فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب. فقلت: لعنها الله ولعن الذي هي منه.

حديث صاحبة الزب
قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة، فإني لمنصرف من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة، وإذا هي في ناحية وحدها، قد قام عنها من كان يجلس إليها، وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي، فالتفت فرأيتها، فقالت: هل من حاجة؟ قلت: تزيدين في السماع. قالت: وأنت قائم؟ لو قعدت! فقعدت كالخجل فقالت: كيف علمك بالغناء؟ قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بلا نار؟ وما منعك من معرفته، فوالله إنه لسحوري وفطوري. قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي؟ قالت: يا عير، وله موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة؟ قلت: وكل هؤلاء النسوة التي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك؟ قالت: فيهن وفيهن، ولي من بينهن قصة. قلت: وما هي؟ قالت: كنت أيام شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي من القبح والدمامة والأدمة، وكنت أشتهي النيك شهوة شديدة، وكان زوجي شاباً وضياً، وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره، فأصر ذلك بي، وكان علقته امرأة قصار تجاورني، فزاد ذلك في غمي، فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك؟ قلت: وا بأبي أنت، إذاً تكوني أعظم الخلق منة علي. قالت: اختلفي إلي " مجمع " مولى آل الزبير فإنه حسن الغناء، فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة، ثم غني بها زوجك فإنه ينيكك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة، فكنت إذا أقبل زوجي من مهنته اضطجعت فرفعت عقيرتي، فإذا غنيت صوتاًبت على زب، وإن غنيت صوتين بت على زبين، وإن ثلاثة فثلاثة.
فكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني وقلت: يا هذه، ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة الشوري عليك. قالت: حسبي بها منة، وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك اللوعة شيء؟ قالت لذع في الفؤاد، فأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة، فقد ذهب تسعة أعشارها. قال؛ فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك؟ قالت: أنا في قائت من العيش. فلما نهضت لأقوم قالت: على رسلك، لا تنصرف خائباً. ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
أبى الناس أن يرضوا بها يشترونها ... ومن يشتري ذاعرة بصحيح
ثم قالت: انطلق لطيتك، صحبتك السلامة.
خبر الهاشمي مع المضحك
وحدث أبو عبد الله بن عبد البر المزني بمصر، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن الهيثم بن عدي، قال:

كان بالمدينة رجل من بني هاشم، وكان له قينتان يقال لإحداهما جؤذر، وللأخرى رشأ، وكان يعجبه السماع، وكان بالمدينة مضحك يغب مجالس المتطرفين، ومواضع الملهين، فأرسل إليه الهاشمي ذات يوم ليضحك منه، فلما جاءه قال له المضحك: إنك أصلحك الله في لذتك، ولا لذة لي. قال له: وما لذتك؟ قال تحضرني نبيذاً فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ، وأمر أن يطرح فيه سكر العشر، فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه، فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين، وأهل اليمن يسموت الكنف المراحيض. قال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يقول: غنياني:
رحضت فؤادي فعنيتني ... أهيم من الحب في كل واد
فاندفعتا فغنتاه فقال في نفسه: لم تفهما والله عني، أنظهما شاميتين، وأهل الشام يسمونها المذاهب. قال: يا حبيبتي، أين المذاهب؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:
ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقاً كل هذا التجنب
فغنتاه الصوت فقال في نفسه: لم يفهما عني، ما أظنهما إلا مدنيتين، وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء. قال: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:
خلى علي جوى الأحزان إذ ظعنا ... من بطن مكة والتسهيد والحزنا
قال: فغنتاه فقال في نفسه: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أحسبهما الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش. قال: يا حبيبتي أين بيت الحش؟ قالت إحداهما للأخرى: ويلك ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:
أوحش الحشان فالربع منها ... فمناها فالمنزل المعمور
فرفعا عقيرتيهما تغنيانه فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف. فقال: يا حبيبتي، أين يكون الكنيف، قالت إحداهما للأخرى: يعيش سيدنا، هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل أفهميني ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:
تكنفني الهوى طفلاً ... فشيبني وما اكتهلا
قال: فغلبه بطنه، وعلم أنهما تولعان به، والهاشمي يتقطع ضحكاً، فقال: كذبتما يا زانيتان، ولكني أعلمكما ما هو؟ فرفع ثيابه فسلح عليهما، فانتبه الهاشمي فقال: سبحان الله، أتحدث على وطائي؟ فقال: الذي خرج من جوفي أعز علي من وطائك، إن هاتين القبيحتين حسبتا أنما أسأل عن الحش للضراط، فأردت أن أعلمهما ما هو؟

يوم دارة جلجل
قال الفرزدق: وأصابنا بالبصرة ليلاً مطر جود، فلما أصبحت ركبت بغلة لي وسرت إلى المربد، فإذا أنا بآثار دواب قد خرجت إلى ناحية البرية، فظننت أنهم قوم خرجوا للنزهة، وهم خلقاء أن تكون معهم سفرة، فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغال عليها رحائل، موقوفة على غدير، فأسرعت إلى الغدير، فإذا فيه نوسة مستنقعات في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط، ولا يوم دارة جلجل. وانصرفت مستحياً، فنادينني: يا صاحب البغلة، ارجع نسألك عن شيء. فرجعت إليهن فقعدن في الماء إلى حلوقهن، ثم قلن: بالله إلا ما أخبرتنا ما كان من حديث دارة جلجل. قلت:

حدثني جدي، وأنا يومئذ غلام حافظ، أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عمه، ويقال لها: عنيزة، وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل. وذلك أن الحي تحملوا، فتقدم الرجال، وتخلف النساء والخدم والثقل. فلما رأى امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع رجال قومه غلوة، فكن في غيابه من الأرض، حتى مر به النساء وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فاغتسلنا في هذا الغدير، فيذهب عنا بعض الكلال! فنزلن في الغدير، ونحين العبيد ثم تجردن فوقعن فيه، فأتاهن امرؤ القيس فأخذ ثيابهن، فجمعها وقد عليها، وقال: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها، ولو قعدت في الغدير يومها، حتى تخرج متجردة فتأخذ ثوبها. فأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار، وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يردنه فخرجن جميعاً، غير عنيزة: فناشدته الله أن يطرح ثوبها فأبى، فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة، وأقبلن عليه، فقلن له: إنك عذبتنا وحبستنا وأجعتنا. قال: فإن نحرت لكن ناقتي أتأكلن منها؟ قلن: نعم. فجرد سيفه فعرقبها ونحرها ثم كشطها، وجمع الخدم حطباً كثيراً، فأججن ناراً عظيمة فجعل يقطع أطايبها ويلقي على الجمر، ويأكلن ويأكل معهن، ويشرب من فضلة كانت معه ويسقيهن، وينبذ إلى العبيد من الكباب. فلما أرادوا الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته. وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله وأنساعه، فتقسمن متاعه وزاده. وبقيت عنيزة لم تحمل له شيئاً. فقال لها: يا ابنة الكرام، لا بد أن تحمليني معك، فإني لا أطيق المشي. فحملته على غارب بعيراه، فكان يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها، فإذا امتنعت مال حدجها، فتقول: قعرت بعيري فانزل! ففي ذلك يقول:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من رحلها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلت لها سيري وأرخي زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلل
وكان الفرزدق أروى الناس لأخبار امرئ القيس وأشعاره. وذلك أن امرأ القيس رأى من أبيه جفوة، فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث، وكان مسترضعاً في بني دارم، فأقام فيهم، وهم رهط الفرزدق.

خبر دعبل وصريع الغواني
حدثنا أبو سويد بن أبي عتاهية، عن دعبل بن علي الشاعر، قال: بينا أنا ذات يوم بباب الكرخ وأنا سائر، وقد احتوى الفكر على قلبي في أبيات شعر، قد نطق بها اللسان، على غير اعتقاد جنان، فقلت:
دموع عيني لها انبساط ... ونوم عيني به انقباض
فإذا أنا بجارية رائعة الجمال فائق الكمال، حوراء الطرف، يقصر عن نعتها الوصف؛ لها وجه زاهر، ونور باهر، فهي كما قال الشاعر:
كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة ... في كل جارحة منها لها قمر
وهي تسمع قولي، فاعترضت فقالت:
هذا قليل لمن دهته ... بلحطها الأعين المراض
فأجبتها فقلت:
فهل لمولاي عطف قلب ... أو للذي في الحشا انقراض
فأجابتني، فقالت:
إن كنت تبغي الوداد منا ... فالود في ديننا قراض
قال دعبل: فلا أعلمني خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها، وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمتها؛ مع ملاحة خد، ورشاقة قد، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق. فحار البصر. وذهب اللب، وجل الخطب، وتلجلج اللسان، وتعلقت الرجلان، وما ظنك بالحلفاء إذ دنت من النار. ثم ثاب إلي عقلي، وراجعني حلمي، فذكرت قول بشار:
لا يمنعنك من مخدرة ... قول تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعدما جمحا
هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه، فكيف بمن وعد قبل المسألة، وبذل قبل الطلبة. فقلت مسمعاً لها:
أترى الزمان يسرنا بتلاق ... ويضم مشتاقاً إلى مشتاق
فقالت مجيبة لي في أسرع من نفس:
ما للزمان يقال فيه وإنما ... أنت الزمان فسرنا بتلاق

قال دعبل: فلحظتها فتبعتني وذلك في أيام إملاقي، فقلت: ما لي إلا منزل مسلم صريع الغواني، فسرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فخرج، فقلت له: أجمل لك الخبر: معي وجه صبيح يعدل الدنيا بما فيها، وقد حصل علي ضيقة وعسر. فقال: لقد شكوت ما كدت أبادرك بشكواه، ايت بها. فلما دخلت قال: لا والله ما أملك غير هذا المنديل. فقلت: هو البغية فناولنيه. فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. فأخذته، فبعته بدينار عين وكسر، فاشتريت لحماً وخبزاً ونبيذاً، وصرت غليه، فإذا هما يتساقطان حديثاً كأنه قطع الروض الممطور. قال: ما صنعت؟ فأخبرته. قال: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب؟ اذهب فألطف لتمام ما جئت به. قال: فخرجت فاضطربت في ذلك حتى أتيت به، فألفيت باب الدار مفتوحاً، فدخلت فإذا لا أرى لهما ولا لشيء مما أتيت به أثراً، فسقط في يدي وقلت: أرى صاحب الربع أخذهما. فبقيت متلهفاً حائراً أرجم الظنون، وأجيل الفكر سائر يومي. فلما أمسيت، قلت يا نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقفني على أثر؟ ففعلت، فوقفت على باب سرداب له، وإذا هما قد هبطا فيه، وأنزلا معهما جميع ما يحتاجان إليه، فأكلا وشربا وتنعما. فلما أحسستهما دليت رأسي، ثم ناديت: مسلم، ويلك! فلم يجبني حتى ناديت ثلاثاً. فكان من إجابته لي أن غرد بصوت يقول فيه:
بت في درعها وبات رفيقي ... جنب القلب طاهر الأطراف
ثم قال دعبل: ويلك! من يقول هذا؟ قلت:
من له في حرامه ألف قرن ... قد أنافت على علو مناف
قال: فضحكا ثم سكتا، واستجلبت كلامهما فلم يجيباني، وأخذا في لذتهما، وبت بليلة يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولاً وغماً وهماً، حتى إذا أصبحت ولم أكد خرج إلي مسلم، فجعلت أؤنبه، فقال لي: يا صفيق الوجه، منزلي ومنديلي وطعامي وشرابي، فما شأنك في الوسط؟ قلت له: حق القيادة والفضول والله لا غير! فولى وجهه إليها، وقال: بحياتي إلا أعطيته حق قيادته وفضوله. فقالت: أما حق قيادته فعرك أذنه، وأما حق فضوله فصفع قفاه. فاستقبلني مسلم فعرك أذني وصفعني. فقلت: ما هذا؟ فقال: جرى الحكم عليك بما جرى لك من العذل والاستحقاق.
حدثنا عيسى بن أحمد الكاتب قال: قال لي الحسين بن الضحاك: دخلت على جعفر المتوكل، وشفيع الخادم ينضد ورداً بين يديه، ولم نعرف في ذلك الزمان خادماً كان أحسن منه ولا أجمل، وعليه ثياب موردة، فأمره أن يسقيني ويغمز كفي. ثم قال لي: يا حسين، قل في شفيع. وكان قد حيا المتوكل بوردة، فجعل المتوكل يشرب ويشم الوردة، فقلت:
فيا وردة جاءت إلينا بحمرة ... من الورد تمشي في قراطق كالورد
ويغمز كفي عند كل تحية ... بكفيه يستدعي الشجي إلى الورد
سقاني بكفيه وعينيه شربة ... فأذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلة ... من الدهر إلا من حبيب على وعد
فأمر المتوكل شفيعاً أن يسقيني وخاصة، وبعث معه إلي بتحايا في عبير وشمامات.
وذكروا أن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المتوكل كان يعشق خادماً للمتوكل يقال له شفيع، وكان الحسن بن وهب كاتبه كلفاً بذلك الخادم، فلقيه الحسن بن وهب يوماً، فسأله عن خبره، فأخبره أنه يريد أن يحتجم، فلم تبق بالعراق غريبة إلا بعث بها إليه، ولا طريفاً من الأشربة إلا أدخله عليه، وكتب إليه بهذه الأبيات:
ليت شعري يا أملح الناس عندي ... هل تعالجت بالحجامة بعدي
دفع الله عنك لي كل سوء ... باكر رائح وإن خنت عهدي
قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي ... ففشا منه بعض ما كنت أبدي
وخلعت العذار فليعلم النا ... س بأني إياك أصفي بودي
من عذيري من مقلتيك ومن إش ... راق وجه من حول حمرة خد
فصادف رسوله رسول محمد بن الزيات الوزير، فرأى رقعة الحسن، فاحتال حتى أخذها، وأوصلها إلى الوزير محمد بن عبد الملك. فلما قرأها كتب إلى كاتبه الحسن بن وهب:
ليت شعري عن ليت شعرك هذا ... أبهزل تقوله أم بجد
فلئن كان تقول بجد ... يا ابن وهب لقد تفتيت بعدي

وتشبهت بي وكنت أرى أن ... ي أنا الهائم المتيم وحدي
أترك القصد في الأمور ولولا ... غمرات الصبا لأبصرت قصدي
سيدي سيدي ومولاي ومن أل ... بسني ذلك وأضرع خدي
لا أحب الذي يلوم وإن كا ... ن حريصاً على صلاحي ورشدي
وأحب الأخ المشارك في الحب ... وإن لم يكن به مثل وجدي
كصديقي أبى علي وحاشى ... لصديقي من مثل شقوة جدي
إن مولاي عبد غيري ولولا ... شؤم جدي لكان مولاي عبدي
فلما التقى ابن الزيات الوزير وكاتبه الحسن بن وهب في بيت الديوان تداعبا في ذلك، وسأله ابن الزيات أن يتجافى له عنه، فقال له الحسن: طاعتك واجبة في المحبوب والمكروه، لكن الرئيس أدام الله عزه كان أولى بالتفضيل. فقال له ابن الزيات: هيهات، هذه علة نفسانية تؤدي إلى التلف، فتنح عن نصيبك مني. فقال الحسن: إن كان هذا هكذا سمعنا وأطعنا. وأنشد:
شهيدي على ما في فؤادي من هوى ... دموع تباري المستهل من القطر
وأسلمني من كان بالأمس مسعدي ... وصار الهوى عوناً علي مع الدهر
قال علي بن الجهم: دخلت يوماً على المتوكل، فقال لي، يا علي. قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: دخلت الساعة على قبيحة، وقد كتبت بالمسك في خدها اسمي، فوالله ما رأيت سواداً في بياض أحسن منه في ذلك الخد، فقل فيه شعراً.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أمظلومة معي؟ قال: نعم، ومظلومة خلف ستارة، فدعت بدواة وبدرت بالقول، فقالت:
وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا ... بنفسي خط المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطراً من المسك خدها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا
فيا من لمملوك تملك مالكاً ... مطيعاً له فيما أسر وأظهرا
ويا من مناها في السرائر جعفر ... سقى الله من صوب الغمامة جعفرا
قال: فأفحمت فلم أنطق، وتغلبت علي خواطري فما قدرت على حرف أقوله، وضحك أمير المؤمنين.
الأصمعي قال: دخلت على هارون الرشيد، وبين يديه جارية حسناء، عليها لمة جعدة، وذؤابة تضرب الحقو منها، وهلال بين عينيها مكتوب عليه بالذهب: " هذا ما عمل في طراز الله " . فقال: يا أصمعي، صفها. فأنشأت أقول:
كنانية الأطراف سعيدة الحشا ... هلالية العينين طائية الفم
لها حكم لقمان وصورة يوسف ... ونغمة داود وعفة مريم
فقال: أحسنت والله يا أصمعي. فعل عرفت اسمها؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فقال: اسمها دنيا. قال: فأطرق ساعة ثم قلت:
إن دنيا هي التي ... تسحر العين سافره
ظلموها شطر اسمها ... فهي دنيا وآخره
قال الأصمعي: فأمر لي بعشرة آلاف درهم.
إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: دخلت على الرشيد، وعنده جارية قد أهديت إليه، ماجنة شاعرة أديبة، وبين يديه طبق فيه ورد، فقال: يا إسحاق، أما ترى، ما أحسن هذا الورد ونضرة لونه! قلت: بك والله حسن ذلك يا أمير المؤمنين. فقال: قل فيه بيتاً يشبهه. فأطرق ساعة، ثم قلت:
كأنه خد موموق يقبله ... فم الحبيب وقد أبدى به خجلا
فاعترضتني الجارية فقالت:
كأنه لون خدي حين تدفعني ... كف الرشيد لأمر يوجب الغسلا
فقال الرشيد: قم يا إسحاق، فقد حركتني هذه الفاسقة.
وحدثنا أيضاً قول: كان هارون الرشيد جالساً بين جاريتين من جواريه، فقال لهما: من يبيت عندي هذه الليلة منكما؟ فقالت إحداهما: أنا. فقالت الأخرى: لا، بل أنا. فقال للأولى: ما حجتك فيما ادعيت؟ فقالت: قول الله يا أمير المؤمنين: " والسابقون السابقون. أولئك المقربون " . ثم قال للثانية: وما حجتك أنت؟ قالت: قول الله: " وللآخرة خير لك من الأولى " . فقال: لتقل كل واحدة منكما شعراً في الغزل، فمن كانت أرق شعراً باتت عندي. فقالت الأولى:
أنا التي أمشي كما يمشي الوجي ... يكاد أن يصرعني تغنجي
من جنة الفردوس كان مخرجي
وقالت الأخرى:
أنا التي لم ير مثلي بشر ... كلامي اللؤلؤ حين ينثر
أسحر من شئت ولست أسحر ... لو سمع الناس كلامي كفروا

فقال لهما: قد أحسنتما وأجدتما، وما لواحدة منكما فضيلة على صاحبتها، ولكني أبيت بينكما.
أخبرنا أبو الطيب الكاتب أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان ليلة بين جاريتين. مدنية وكوفية، فجعلت الكوفية تغمز يديه، والمدنية تغمز رجليه، فجعلت المدنية ترتفع إلى فخذيه حتى ضربت بيدها إلى متاعه، وحركته حتى أنعظ، فقالت لها الكوفية: ويحك نحن شركاؤك في البضاعة، وأراك قد انفردت دوننا برأس المال وجدك، فأديليني منه. قال: فقالت المدنية: حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال " من أحيا مواتاً فهو له ولعقبه " . قال: فاستغلتها الكوفية ودفعتها، ثم أخذته بيديها جميعاً، وقالت: حدثنا الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " الصيد لمن صاده لا لمن أثاره " .
أخبرنا الأنطاكي أن المتوكل على الله طلب من محمود الوراق جارية مغنية، وأعطاه بها عشرة آلاف دينار فأبى، فلما مات محمود اشتراها في ميراثه بخمس آلاف، وقال لها: كنا قد أعطينا مولاك بك عشرة آلاف، وقد اشتريناك من ميراثه بخمسة آلاف. قالت: يا أمير المؤمنين، إذا كانت الخلفاء تتربص بلذاتها المواريث فسنشتري بأرخص مما اشتريت.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لاعب هارون الرشيد جارية من جواريه على إمرة مطاعة، فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره، ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فنقطع فرداً. فقام فقضى فيها طره، ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمنى. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره، ثم لاعبها فقمرته فقال: تمني. فقالت: المعادوة. فغشيها، ثم لاعبته فقمرته، فقالت: قم لميعادك. فقال: لا أقدر على ذلك. قالت: فاكتب لي به عليك كتاباً آخذك به مت شئت. قال: ذلك لك. فدعت بدواة وقرطاس وكتبت: " هذا كتاب فلانة على مولاها أمير المؤمنين: إن لي عليك فرضاً آخذه متى شئت وأنى شئت من ليل أو نهار " . وكان رأسها وصيفة لها، فقالت: تزيدي يا سيدتي في الكتاب، فإنك لا تأمنين الحدثان، ومن قام له بهذا الذكر حق فهو ولي ما فيه. فضحك الرشيد حتى استلقى على فراشه، واستطرفها، وأمر أن تنزل مقصورة، وأن يجرى لها رزق سني، وشغف بها. ويقال: إنها " مراجل " أم المأمون.
تنفس محمد بن هارون الأمين يوماً في مجلسه أيام الحصار، فالتفت إلى جليس له، وهو محمد بن سلام صاحب المظالم، فقال له: ويحك يا محمد، أتدري؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول الشاعر:
ذكر الهوى فتنفس المشتاق ... وبدا عليه الذل والإطراق
يا من يصبرني لأصبر بعده ... الصبر ليس يطيقه العشاق
فقال: لا والله ما نكأتها. ثم التفت إلى جليس له آخر، فقال له: ويحك أتدري؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ذكرت قول ابن الأحنف:
تذكرت بالريحان منك شمائلاً ... وبالراح عذباً من مقبلك العذب
فقال: لا والله ما نكأتها، ثم التفت إلى كوثر الخادم، فقال له: ويحك! أتدري؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول ابن نفيلة الغساني:
إن كان دهر بني ساسان فرقهم ... فإنما الدهر أطوار دهارير
وربما أصبحوا يوماً بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
قال: صدقت.
وكتبت جارية إلى علي بن الجهم رقعة، فأجاب فيها:
ما رقعة جاءتك مكتوبة ... كأنها خد على خد
تبدو سواداً في بياض كما ... ذو فتيت المسك في الورد
ساهمة الأسطر مصروفة ... عن جهة الهزل إلى الجد
يا كاتباً أسلمني عتبه ... إليه حسبي منك ما عندي
وكتبت أيضاً:
قلب يمل على لسان ناطق ... ويد تخط رسالة من عاشق
مزج المداد بعبرة شهدت له ... من كل جارحة بحب صادق
فيمينه تحت الوساد وخده ... ويساره فوق الفؤاد الخافق
أهدت جارية من جواري المهدي تفاحة إلى المهدي وطيبتها. وكتبت فيها:
هدية مني إلى المهدي ... تفاحة تقطف من خدي
محمرة مصفرة طيبت ... كأنها من جنة الخلد
فأجاب المهدي:
تفاحة من عند تفاحة ... جاءت فماذا صنعت بالفؤاد
والله ما أدري أأبصرتها ... يقظان أم أبصرتها في الرقاد

وكتب بعض الكتاب إلى مدام، جارية المازني، وبعث إليها بقنين من مدام:
قل لمن يملك الملو ... ك وإن كان قد ملك
قد شربناك مرة ... وبعثنا إليك بك
وقال علي بن الجهم: دخلت على أبي عثمان المازني، وعنده جارية له كأنها شقة قمر، وبيدها تفاحة معضوضة، فقالت: عرفت ما أراد الشاعر بقوله:
خبريني من الرسول إليك ... واجعليه من لا ينم عليك
قلت: ما أعرفه. قالت: هو هذه، ورمت إلي بالتفاحة، فوالله ما وجدت لها جواباً من نظير كلامها.
وقال شيخ من أهل البصرة: لقيت الحسن بن وهب، فأردت أن أمتحن سلامة طبعه، ومعي تفاحة، فأريته إياها وسألته أن يصفها، فقال لي: نحن على الطريق، ولكن مل إلى المسجد. فملنا إليه، فأخذها وقلبها بيده شيئاً، وقال:
يا رب تفاحة خلوت بها ... تشعل نار الهوى على كبدي
قد بت في ليلتي أقلبها ... أشكو إليها طاول الكمد
لو أن تفاحة بكت لبكت ... من رحمة هذه التي بيدي
وعد المأمون جارية أن يبيت عندها، وأخلفها الوعد، فكتبت إليه:
أرقت عيني ونامت ... عين من هنت عليه
إن نفسي فاعذرنها ... أصبحت في راحتيه
رحم الله رحيماً ... دل عيني عليه
فلما قرأ رقعتها ضحك، ولم يبت ليلته إلا عندها.
عتب المأمون على جارية من جواريه، وكان كلفاً بها فأعرض عنها، وأعرضت عنه، ثم أسلمه العزاء، وأقلقه الشوق، حتى أرسل يطلب مراجعتها وأبطأ عليه الرسول فلما رجع إليه أنشأ يقول:
بعثتك مرتاداً ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
وناجيت من أهوى وكنت مقرباً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
ونزهت طرفاً في محاسن وجهها ... ومتعت باستظراف نغمتها أذنا
أرى أثراً منها بعينيك لم يكن ... لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا
ثم إن المأمون أقبل مسترضياً لها فسلم عليها، فلم ترد عليه، وكلمها فلم تجبه، فأنشأ يقول:
تكلم ليس يوجعك الكلام ... ولا يؤذي محاسنك السلام
أنا المأمون والملك الهمام ... ولكني بحبك مستهام
يحق عليك ألا تقتلني ... فيبقى الناس ليس لهم إمام
كتبت امرأة عمر بن عبد العزيز إلى عمر، لما اشتغل عنها بالعبادة:
ألا أيها الملك الذي قد ... سبى عقلي وهام به فؤادي
أراك وسعت كل الناس عدلاً ... وجرت علي من بين العباد
وأعطيت الرعية كل فضل ... وما أعطيتني غير السهاد
فصرف وجهه إليها.
وقعد الرشيد يوماً عند زبيدة، وعندها جواريها، فنظر إلى جارية واقفة عند رأسها فأشار إليها أن تقبله، فاعتلت بشفتيها، فدعا بدواة وقرطاس فوقع فيه:
قبلته من بعيد ... فاعتل من شفتيه
ثم ناولها القرطاس فوقعت فيه:
فما برحت مكاني ... حتى وثبت عليه
فلما قرأ ما كتبت استوهبها من زبيدة، فوهبتها له. فمضى بها وأقام معها أسبوعاً لا يدري مكانهما، فكتبت إليه زبيدة:
وعاشق صب بمعشوقه ... كأنما قلباهما قلب
روحاهما روح ونفساهما ... نفس، كذا فليكن الحب
حدث أبو جعفر قال: بينا محمد بن زبيدة الأمين يطوف في قصر له، إذ مر بجارية له سكرى، وعليها كساء خز تسحب أذياله، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا على حال ما ترى، ولكن إذا كان من غد إن شاء الله. فلما كان من الغد مضى إليها، فقال لها: الوعد. فقالت له: يا أمير المؤمنين: أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار؟ فضحك، وخرج إلى مجلسه، فقال: من بالباب من شعراء الكوفة؟ فقيل له: مصعب والرقاشي وأبو نواس. فأمر بهم فأدخلوا عليه، فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً يكون آخره:
كلام الليل يمحوه النهار
فأنشأ الرقاشي يقول:
متى تصحو وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك صباً مستهاماً ... فتاة لا تزور ولا تزار
إذا استنجزت منها الوعد قالت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال مصعب:

أتعذلني وقلبك مستطار ... كئيب لا يقر له قرار
بحب مليحة صادت فؤادي ... بألحاظ يخالطها احورار
ولما أن مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار
فقلت لها عديني منك وعداً ... فقالت في غد منك المزار
فلما جئت مقتضياً أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس:
وخود أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وهز المشي أردافاً ثقالاً ... وغصنا فيه رمان صغار
وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التجميش وانحل الإزار
فقلت: الوعد سيدتي. فقالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
فقال له: أخزاك الله، أكنت معنا ومطلعاً علينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين عرفت ما في نفسك فأعربت عما في ضميرك. فأمر له بأربعة آلاف درهم، ولصاحبيه بمثلها.
وقال بعض العراقيين:
غضبت من قبلة بالكره جدت بها ... فها أنا جئت فاقتصيه أضعافا
لم يأمر الله إلا بالقصاص فلا ... تستجوري ما رآه الله إنصافا
عتبت ماردة على هارون الرشيد، فكانت تظهر الكراهة وتضمر له المحبة، فقال فيها:
تبدي صدوداً وتخفي تحته صلة ... فالنفس راضية والطرف غضبان
يا من وضعت له خدي فذلله ... وليس فوقي سوى الرحمن سلطان

خبر الحسن بن هانئ مع الأسود
أبو بكر الوراق قال: قال لي الحسن بن هانئ: حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا ببلاد فزارة، وذلك إبان الربيع، نزلنا منزلاً بإزاء ماء لبني تميم، ذا روض أريض، ونبت غريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة، والنمارق المصفوفة، فقرت بنضرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت ببهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء، فأسف غمامها وتدانى من الأرض ركامها، حتى إذا كان كما قال أوس بن حجر حيث يقول:
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
همت برذاذ، ثم بطش، ثم برش، ثم بوابل، ثم أقلعت وقد غدرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألف، رياض مونقة، ونوافح من ريحها عبقة، فسرحت طرفي راتعاً منها في أحسن منظر، وانتشقت من رياها أطيب من المسك الأذفر. قال: فلما انتهينا إلى أوائلها. إذا نحن بخباء على بابه جارية متبرقعة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، قد أشعرت حماليقه فتوراً وملئت سحراً، فقلت لزميلي: استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: استسقها ماء. فاستسقاها فقالت: نعم ونعمى عين، وإن نزلتم ففي الرحب والسعة. ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان، أو قضيب خيزران، فراعني ما رأيت منها، ثم أتت بالماء فشربت منه، وصببت باقيه على يدي، ثم قلت: وصاحبي أيضاً عطشان. فأخذت الإناء فذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول:
إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون الدمى غرة ... ويكشف عن منظر أشنع
قال: وسمعت كلامي، فأتت وقد نزعت البرقع، ولبست خماراً أسود، وهي تقول:
ألا حي ركبي معشر قد أراهما ... أطالا ولما يعرفا مبتغاهما
هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستقيا باللحظ ممن سقاهما
فشبهت كلامها بعقد در وهي سلكه فانتثر، بنغمة عذبة رقيقة رخيمة، لو خوطب بها الصم الصلاب لانبجست، مع وجه يظلم لنوره ضياء العقول، وتتلف في روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير.
فدقت وجلت واسبطرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنت
فلم أتمالك أن سجدت وخررت ساجداً فأطلت من غير تسبيح، فقالت: ارفع رأسك غير مأجور، ولا تذم من بعدها برقعاً، فلربما انكشف عما يصرف الكرى ويحل القوى، ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة، ولا درك طلبة، ولا قضاء وطر، ليس إلا للحين المجلوب، والقدر المكتوب، والأمل الكذوب، فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لصواب، فالتفت إلي صاحبي، فقال لما رأى هلعي، كالمسلي لي عن بعض ما أذهلني: ما هذه الخفة لوجه برقت لك منه بارقة لا تدري ما تحته؟ أما سمعت قول ذي الرمة:

على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا
فقالت: أما ما ذهبت إليه لا أبالك، فلا والله، لأنا بقول الشاعر:
منعمة حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتج الروادف أهضم
لها بشر صاف وعين مريضة ... وأحسن إيماء بأحسن معصم
خزاعية الأطراف سعدية الحشا ... فزارية العينين طائية الفم
أشبه من قولك الآخر. ثم رفعت ثيابها حتى بلغت نحرها، وجاوزت منكبيها فإذا قضيب فضة قد شيب بماء الذهب، يهتز على مثل كثيب النقا، وصدر كالوذيلة، عليه كالرمانتين، وخصر لو رمت عقدة لانعقد، مطوي الاندماج، على كفل رجراج، وسرة مستديرة، يقصر فهمي عن بلوغ نعتها، من تحتها أرنب جاثم، أو جبهة أسد خادر، وفخذان لفاوان، وساقا خدلجان يخرسان الخلاخيل، وقدمان كأنهما لسانا. ثم قالت: أعاراً ترى لا أبالك؟ قلت: لا والله، ولكن سبب القدر المتاح، ومقربي من الموت الذباح، يطبق علي الضريح، ويتركني جسداً بغير روح. فخرجت عجوز من الخباء، فقالت له: امض لشأنك، فإن قتيلها مطلول لا يودي، وأسيرها مكبول لا يفدى. فقلت لها: دعيه فإن له مثل قول غيلان:
فإلا يكن إلا تعلل ساعة ... قليلاً فإني نافع لي قليلها
فولت العجوز وهي تقول:
وما لك منها غير أنك نائك ... بعينيك عينيها وأيرك جانب
فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل، وكرب خابل، وأنا أقول:
يا حسرتي مما يجن فؤادي ... أزف الرحيل بغربتي وبعادي
فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين، ممرنا بذلك المنزل، وقد تضاعف حسنه وتمت بهجته، فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا. فلما أشرفنا على الخيام، فصعدنا ربوة ونزلنا وهدة، إذا هي تتهادى بين خمس ما تصلح أن تكون خادماً لأدناهن، وهن يجنين من نور ذلك الزهر، فلما رأيننا وقفن فقلنا: السلام عليكن. فقالت من بينهن: وعليك السلام، ألست صاحبي؟ قلت: بلى. قلن: وتعرفينه؟ قالت: نعم، وقصت عليهن القصة ما خرمت حرفاً. قلن لها: ويحك، فما زودته شيئاً يتعلل به؟ قالت: بلى، زودته لحداً ضامراً، وموتاً حاضراً. فانبرت لها أنضرهن خداً، وأرشقهن قداً، وأسحرهن طرفاً، وأبرعهن شكلاً، فقالت: والله ما أحسنت بدءاً، ولا أجملت عوداً، ولقد أسأت في الرد، ولم تكافئيه في الود، فما عليك لو اسعفته بطلبته، وأنصفته في مودته، وإن المكان لخال، وإن معك من لا ينم عليك. فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئاً أو تشركيني في حلوه ومره. قالت لها: تلك إذاً قسمة ضيزى، أتعشقين أنت وأناك أنا؟ قالت أخرى منهن: قد أطلتن الخطاب في غير أرب، فسلن الرجل عن نيته، وقصده وبغيته، فلعله لغير ما أنتن فيه قصد.
فقلن: حياك الله، وأنهم بك علينا، من تكون، وممن أنت، وما تعاني، وإلام قصدت؟ فقلت: أما الاسم فالحسن بن هانئ، رجل من اليمن، ثم من سعد العشيرة، وأحد شعراء السلطان الأعظم، ومن يدني مجلسه، ويتقى لسانه، ويرهب جانبه. وأما قصدي فتبريد غلة، وإطفاء لوعة، قد أحرقت الكبد وأذابتها. قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر، وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك، وتنال بغيتك. ثم أقبلت عليهن، فقالت: ما بواحدة منكن عن مثله مرغب، فتعالين نشترك فيه، ونقترع عليه، فمن واقعتها القرعة منا تكون هي البادية. فاقترعن فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري، فعلقن إزاراً على باب مغار يجاورهن وأدخلت فيه، وأبطأن عني وجعلت أتشوف لدخول إحداهن علي، إذ دخل علي أسود كأنه سارية، وبيده شيء كالهراوة، قد أنعظ بمثل رأس الخفيدد، قلت: ما تريد؟ قال: أنيكك. فهمني والله نفسي ثم صحت بصاحبي، وكان أيداً، فبالحري والله ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار، وإذا هن يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات؛ فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنماً إلى جانب الغار فدعونه، فوسوسن إليه شيئاً فدخل عليك. فقلت أبا علي: أتراه كان يفعل في شيئاً؟ فقال: أتراك خلصت منه. فانصرفت وأنا أخزى الناس.
قال إسماعيل: فقلت: ناكك والله الأسود. فقال: ما لك أبعدك الله، فوالله لقد كتمت هذا الحديث مخافة هذا التأويل حتى ضاق به ذرعي، ورأيتك موضعاً له، فبحقي عليك إن أذعته. قال إسماعيل: فما فهت به حتى مات.

خبر ذي الرمة

قال أبو صالح الفزاري: ذكرنا ذا الرمة، فقال عصمة بن عبد الملك شيخ منا، قد بلغ عشرين ومائة سنة: لإياي فاسألوا عنه، كان من أظرف الناس، آدم خفيف العارضين، حسن المضحك، حلو المنطق، وإذا أنشد بربر وجش صوته، وإذا راجعك لم تسأم من حديثه وكلامه، وكان له إخوة يقولون الشعر، منهم مسعود، وهشام، وأوفى، كانوا يقولون القصيدة فيزيد عليها الأبيات، فيغلب عليها فتذهب له، فجمعني وإياه مربع فأتاني يوماً، فقال لي يا عصمة: إن مية منقرية وبنو منقر أخبث حي، وأقوفه لأثر، وأعطفه بشر، فهل عندك ناقة نزدار عليها مية؟ قلت: والله إن عندي للجؤذر قال: علي بها. فركبنا جميعاً وخرجنا حتى أشرفنا على بيوت الحي فإذا هم خلوف، وإذا بيت مية ناحية، فعرفن ذا الرمة فتقوض النساء إلى مي، وجئنا حتى أنخنا، ثم دنونا فسلمنا وقعدنا نتحدث، فإذا هي جارية أملود واردة الشعر بيضاء تغمرها صفرة، وعليها ثوب أصفر، وطاق أخضر، فقلن: أنشدنا يا ذا الرمة. فقال: أنشدهن يا عصمة. فأنشدتهن:
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأعربت العينان والصدر كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكا وامق جاء الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومغايبه
فقالت ظريفة منهن: لكن الآن فلتجل قال: فنظرت إليها مية متكرهة، ثم مضيت في القصيدة، حتى انتهيت إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح ... على القلب لبته جميعاً عوازبه
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله. قالت مية: ما أصحه وهنيئاً له. فتنفس ذو الرمة تنفساً ظننت معه أن فؤاده قد انصدع، ومضيت فيها حتى انتهيت إلى قوله:
وقد حلفت بالله مية ما الذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
إذاً فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدو أحاربه
فالتفتت إليه فقالت: خف عواقب الله. ومضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله:
إذا راجعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الثوب سالبه
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
فقالت الظريفة: ها هي ذه قد راجعتك، وقد بدا لك الوجه منها، فمن لك بأن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت مية إليها فقالت: قاتلك اله، ما أنكر ما تجيبين به. فتحدثن ساعة، ثم قالت الظريفة للنساء: إن لهذين لشأناً، فقمن بنا وقمت معهن، فجلست في بيت أراهما منه، فما رأيته برح من مقعده، ولا فقدته، فسمعتها قالت له: كذبت والله. ولا أدري ما قال لها، فلبثت قليلاً، ثم جاءني معه قارورة فيها دهن ومعه قلائد للجؤذر، فقال: هذا دهن طيب أتحفنا به، وهذه قلائد للجؤذر، ولا والله ما أقلدهن بعيراً أبداً! وشد بهن ذوائب سيفه وانصرفنا. فكنا نختلف إليها حتى انقضى الربيع، ودعا الناس المصيف، فأتاني فقال: هيا عصمة، قد رحلت مي ولم يبق إلا الآثار، ورسوم الديار. وأنشدني:
ألا يا اسملي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
خرج المأمون في يوم عيد وقد ركب الجند أمامه، ومعه يحيى بن أكثم يضاحكه ويحادثه، إذ نظر إلى غلام من الجند في غاية الفراهة، عليه ثوب حرير أخضر، وثوب موشى مزرر بالذهب، فالتفت إلى يحيى بن أكثم فقال له: يا يحيى، ما تقول في هذه البضاعة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا لقبيح من إمام مثلك مع فقيه مثلي. قال: فمن الذي يقول:
قاض يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
فقال: دعبل، الذي يقول:
ولا أرى الجور ينقضي وعلى ال ... أمة والٍ لآل عباس
قال: ينفى إلى السند، وإنما داعبناك. ثم أنشأ المأمون يقول:
أيها الراكب ثوبا ... ه حرير وحديد
جئت للعيد وفي وج ... هك للأعين عيد
أنت جندي ولكن ... فيك للحسن جنود
الفضل بن الربيع قال: قعد المخلوح للناس يوماً وعليه طيلسان أزرق، وتحت لبد أبيض، فوقع في ثمانمائة قصة، فوالله لقد أصاب فما أخطأ، وأسرع فما أبطأ، ثم قال لي: يا فضل، أتراني لا أحسن التدبير والسياسة، ولكني وجدت شم الآس، وشرب الكاس، والاستلقاء من غير نعاس، أشهى إلي من ذلك.

قال ابن قتيبة: خرج أبو عيسى جبريل بن أبي عيسى إلى متنزه بالقفص، ومعه الحسن بن هانئ، في آخر شعبان، فلما كان اليوم الذي أوفى به الشهر ثلاثين يوماً قيل له: إن هذا يوم شك، وبعض أهل العلم يصومه، فقال: لا عليك، ليس الشك حجة على اليقين. حدثنا أبو جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " . ثم قال أبو عيسى:
لو شئت لم نبرح من القفص ... نشربها حمراء كالحص
نسرق هذا اليوم من شهرنا ... والله قد يعفو عن اللص
وذكروا أن أبا عيسى خرج إلى القفص متنزهاً ومعه الحسن بن هانئ، فحمله وخلع عليه، فأقام فيها أسبوعاً، ثم قال: بحياتي صف مجلسنا والأيام كلها. فقال في ذلك:
يا طيبنا بقصور االقفص مشرقة ... بها الدساكر والأنهار تطرد
لما أخذنا بها الصهباء صافية ... كأنها النار وسط الكأس تتقد
جاءتك من دن خمار بطينتها ... صفراء مثل شعاع الشمس ترتعد
وقام كالبدر مشدوداً قراطقه ... ظبي يكاد من التهييف ينعقد
فسلها من فم الإبريق فانبعثت ... مثل اللسان جرى واستمسك الجسد
فلم نزل في صباح السبت نأخذها ... والليل يأخذنا حتى بدا الأحد
واستشرقت غرة الاثنين واضحة ... والجدي معترض والطالع الأسد
يوفي الثلاثاء أعملنا المطي بها ... صهباء ما قرعتها بالمزاج يد
والأربعاء صفا فيه النعيم لنا ... والكأس يضحك في حافاتها الزبد
ثم الخميس وصلناه بليلته ... قصفاً وتم لنا بالجمعة العدد
يا حسننا وبحار القفص تغمرنا ... في لجة الليل والأوتار تجتلد
في مجلس حوله الأشجار محدقة ... وفي جوانبه الأطيار تغترد
لا نستخف بساقينا لعزته ... ولا يرد عليه حكمه أحد
عند الهام أبي عيسى الذي كملت ... أخلاقه فهي كالأوراق تنتقد
أبو جعفر البغدادي قال: حدثنا أبو محمد الدمشقي قال: مررت ذات ليلة، أيام فتنة المستعين، والقمر يزهر بباب الشام، فإذا أنا بشيخ غليظ، أصلع نشوان، قد توشح في إزار أحمر، ومال على شقه الأيمن، وفي يده خوصة يشمها ويقول:
عشرون ألف فتى ما منهم أحد ... إلا كألف فتى مقدامة بطل
أضحت مزاودهم مملوءة نشباً ... ففرغوها وأوكوها إلى الأمل
فقلت له: أحسنت، لله أنت. فقال: أتحب رقيقة؟ فقلت: ما أحوجني إليها.
فقال:
إنما هيج البلا ... حين عض السفرجلا
وعلا الورد وجنتي ... ه فأبدى التخجلا
يفضح البدر في الكما ... ل إذا البدر أكملا
ولقد قام لحظ عي ... ني على القلب بالقلا
قلت له: أبو من أعزك الله؟ قال: ابو عيشونة الخياط، شهدت حروب ابن زبيدة كلها، وجاريت الفتيان في غاية كل ميدان، واعترف لي كل فاتك، وأذعن لي كل شاطر، ونزلت تلك الدار عشرين سنة. وأومأ إلى سجن بغداد، ثم تنفس الصعداء. وقال: أنا الذي أقول:
لي فؤاد مستهام ... وجفون ما تنام
ودموع آخر الده ... ر بعيني سجام
وحبيب كلما خا ... طبته قال سلام
فإذا ما قلت: صلني ... قال لي ذاك حرام
ثم بكى تخالجاً، فلما افاق قلت: ما يبكيك؟ قال: وكيف لا أبكي، ولي حبيب بالبصرة علقته وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم غبت عنه ثلاثاً وثلاثين سنة، فلما عيل صبري خرجت إلى البصرة فطفت في شوارعها حتى رأيته، فما رأيت وجهاً أحسن منظراً ولا أزهى منه. ثم أنشأ يقول:
مردد في كمده ... معذب في سهده
خلا به السقم فما ... أسرعه في جسده
يرحمه لما به ... من ضره ذو حسده
ثم ودعني ومضيت.
وحدثني أبو الفضل قال: إني لفي الطواف أمام الحجر، إذ سمعت حنيناً يخرج من بين الأستار، وإذا قائل يقول:
عفا الله عمن يحفظ الود جهده ... ولا كان عفو الله للناقض العهد

وضعت على الأستار خدي ليلة ... ليجمعني مع من وضعت له خدي
قال: فرفعت الأستار فإذا جارية منفردة، كأنها شمس تجلت عنها غمامة.
فقلت: يا هذه لو سألت الله الجنة مع هذا التضرع والبكاء ما حرمك إياها. قال: فسترت وجهها، وقالت: سبحان من خلق فسوى، ولم يهتك العلانية والنجوى. أما والله إني لفقيرة إلى رحمة ربي، وقد سألته أكبر الأمرين عندي، رجاء فضله، واتكالاً على عفوه. ثم ولت عني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم.
حدث مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب قال: خرجت أنا وزبان السواق إلى العقيق، فلقينا نسوة نازلات من العقيق، لهن جمال وشارة، وفيهن جارية حسانة العينين، فلما رآها زبان قال لي: يا بن الكرام دم أبيك والله في ثيابها، فلا تطلب أثراً بعد عين. وأنشد قول أبي مسلم بن جندب:
ألا يا عباد الله هذا أخوكم ... قتيلاً فهل منكم له اليوم ثائر
خذوا بدمي إن مت كل مليحة ... مريضة جفن العين والطرف ساحر
قال: فقالت لي الجارية: أنت ابن جندب؟ قلت: نعم. قالت: فاغتنم نفسك واحتسب أباك، فإن قتيلنا لا يودى، وأسيرنا لا يفدى.
الزبير بن بكار، عن عبد الله بن مسلم بن جندب قال: قلت:
تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل عين لا تنام طويل
قال: فطرقني عيسى بن طلحة قال: إني سمعت قولك فجئت أعينك. فقلت: يرحمك الله، أغفلت الإجابة حتى أتى الله بالفرج.
أبو المهلهل الخزاعي قال: ارتحلت إلى الدهناء، فسألت عن مي صاحبة ذي الرمة، فدفعت إلى خيمة فيها عجوز هيفاء، فسلمت عليها، وقلت: أين منزل مي؟ فقالت: ها أنا مي. فقلت: عجباً من ذي الرمة وكثرة قوله فيك. قالت: لا تعجب، فإني سأقوم بعذره. ثم قالت: فلانة! فخرجت من الخيمة جارية ناهدي عليها برقع، فقالت لها: أسفري. فلما تحيرت لما رأيت من حسنها وجمالها، فقالت: علقني ذو الرمة وأن في سن هذه، وكل جديد إلى بلى. قلت: عذرته والله. واستنشدتها من شعره فأنشدتني.

ما يكتب على العصائب وغيرها
أبو الحسن قال: دخلت على هارون الرشيد وعلى رأسه جوار كالتماثيل، فرأيت عصابة منظمة بالدر والياقوت، مكتوباً عليها في صفائح الذهب:
ظلمتني في الحب يا ظالم ... والله فيما بيننا الحاكم
قال: ورأيت في عصابة أخرى:
ما لي رميت فلم تصبك سهامي ... ورميتني فأصبتني يا رامي
قال: ورأيت في عصابة أخرى: " وضع الخد للهوى عز " . قال: ورأيت في صدر أخرى هلالاً مكتوباً عليه:
أفلت من حور الجنان ... وخلقت فتنة من يراني
قال إسحاق بن إبراهيم: دخلت على الأمين محمد بن زبيدة، وعلى رأسه وصائف في قراطق مفروجة، بيد وصيفة منهن مروحة مكتوب عليها:
بي طالب العيش في الصي ... ف وبي طاب السرور
ممسكي ينفي أذى الح ... ر إذا اشتد الحرور
الندى والجود في وج ... ه أمين الله نور
ملك أسلمه الشب ... ه وأخلاه النظير
وفي عصابتها:
ألا بالله قولوا يا رجال ... أشمس في العصابة أم هلال
وفي أخرى:
أتهوون الحياة بلا جنون ... فكفوا عن ملاحظة العيون
وكتب " ورد " جارية الماهاني على عصابتها، وكانت تجيد الغناء مع فصاحتها وبراعتها:
تمت وتم الحسن في وجهها ... فكل شيء ما سواها محال
للناس في الشهر هلال ولي ... في وجهها كل صباح هلال
وكتب في عصابتها بيتين من شعر الحسن بن هانئ، وهما:
يا رامياً ليس يدري ما الذي فعلا ... عليك عقلي فإن السهم قد قتلا
أجريته في مجاري الروح من بدني ... فالنفس في تعب والقلب قد شغلا
وقال علي بن الجهم: خرجت علينا " عالج " جارية خالصة، كأنها خوط بان، وهي تميس في روقة، وعلى طرتها مكتوب بالغالية، وكانت من مجان أهل بغداد مع علمها بالغناء:
يا هلالاً من القصور تجلى ... صام قلبي لمقلتيه وصلى
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعى النجوم كنت مخلا

قال: وخرجت إلينا " منال " وعليها درع خام، على جانبها الأيمن مكتوب:
كتب الطرف في فؤادي كتاباً ... هو بالشوق والهوى مختوم
وعلى الأيسر مكتوب:
كان طرفي على فؤادي بلاء ... إن طرفي على فؤادي مشوم
قال: وكان على عصابة " ظبي " جارية سعيد الفارسي مكتوب بالذهب:
العين قارئة لما كتبت ... في وجنتي أنامل الشجن
قال: وحدثني الحسن بن وهب قال: كتبت " شعب " على قلنسوة جاريتها " شكل " :
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه ... إلا حسبتك ذلك المحبوبا
حذراً عليك وإنني بك واثق ... أن لا ينال سواي منك نصيباً
وكتب " شفيع " خادم المتوكل على عاتق قبائه الأيمن:
بدر على غصن نضير ... شرق الترائب بالعبير
وعلى عاتقه الأيسر:
خطت محاسن وجهه ... في صفحة القمر المنير
وكتبت " وصيف " جارية الطائي على عصابتها:
الكفر والسحر في عيني إذا نظرت ... فاغرب بعينك يا مغرور عن عيني
فإن لي سيف لحظ لست أغمده ... من صنعة الله لا من صنعة القين
وكان على عصابة " مزاج " ، وهي من مواجن أهل بغداد وفتاكها:
قالوا عليك دروع الصبر قلت لهم ... هيهات إن سبيل الصبر قد ضاقا
ما يرجع الطرف عنها حين يبصرها ... حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
وكتبت " عنان " جارية الناطفي على عصابتها من قولها:
فما زال يشكو الحب حتى حسبته ... تنفس في أحشائه وتكلما
فأبكي لديه رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما
وكتبت " حدائق " في كفها بالحناء:
ليس حسن الخضاب زين كفي ... حسن كفي زين لكل خضاب
قال: وخرجت علينا جارية حمدان، وقد تقلدت سيفاً محلى، وعلى رأسها قلنسوة مكتوب عليها:
تأمل حسن جارية ... يحار بوجهها البصر
مؤنثة مذكرة ... فهي أنثى وهي ذكر
وعلى حمائل سيفها مكتوب الذهب:
لم يكفه سيف بعينيه ... يقتل من يشاء بحديه
حتى تردى مرهفاً صارماً ... فكيف أبقى بين سيفيه
فلو تراه لابساً درعه ... يخطر فيها بين صفيه
علمت أن السيف من طرفه ... أقتل من سيف بكفيه
وكتب " واجد " على منطقة جاريتها " منصف " الكوفية:
تكتي من غمزة العي ... ن إذا ما مست تنحل
وفؤادي رق حتى ... كاد من صدري ينسل
بعض ما بي يصدع القل ... ب فما ظنك بالكل
ومن قولي فيما كتبت على كأس مذهبة:
اشرب على منظر أنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي
واحلل وشاح الكعاب رفقاً ... واحذر على خصرها الدقيق
وقل لمن لام التصابي ... إليك خل عن الطريق
وقف صريع الغواني بباب محمد بن منصور فاستسقى، فأمر وصيفاً له فأخرج إليه خمراً في كأس مذهبة، فلما نظر إليها في راحته قال:
ذهب في ذهب را ... ح بها غصن لجين
فأتت قرة عين ... من يدي قرة عين
لا جرى بيني ولا بي ... نهما طائر بين
وبقينا ما بقينا ... أبداً ملتقين
في غبوق وصبوح ... لم نبع نقداً بدين
محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: رأيت على مروحة مكتوباً:
الحمد لله وحده ... وللخليفة بعده
وللمحب إذا ما ... حبيبه بات عنده
وقال: ورأيت في مجلس سريراً مكتوباً عليه بالذهب:
أشهى وأعذب من راح ومن ورد ... إلفان قد وضعا خداً على خد
تضم إحداهما أحشاء صاحبه ... حتى كأنهما للقرب في عقد
هذا يبوح بما لاقاه من حرق ... وذاك يظهر ما يخفي من الوجد
وفي عصابة أخرى:
فإن يحجبوها بالنهار فما لهم ... بأن يحجبوا بالليل عني خيالها
قال أبو عبيدة: ورأيت على " عصابة " حسناء مكتوباً:
كتبت في جبينها ... بعبير على قمر
في سطور ثلاثة: ... لعن الله من غدر

وتناولت كفها ... ثم قلت اسمعي الخبر
كل شيء سوى الخيا ... نة في الحب يغتفر
فإذا خانك الحبي ... ب فذره إلى سقر
قال الأصمعي: رأيت على باب الرشيد وصائف على عصابة كل واحدة منهن مكتوب:
نحن حور نواعم ... من أراض مقدسه
أحسن الله رزقنا ... ليس فينا منحسه
فاتق الله يا فتى ... لا تدعني موسوسة
وقال أبو جعفر الكرماني يوماً للمأمون: أتأذن لي في دعابة؟ قال: هاتها ويحك فما العيش إلا فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنك ظلمتني وظلمت غسان بن عباد.
قال: وكيف ذلك ويلك؟ قال: رفعت غسان فوق قدره، ووضعتني، دون قدري، إلا أنك لغسان أشد ظلماً. قال: وكيف؟ قالت: لأنك أقمته مقام هر، وأقمتني مقام رخمة. فاستظرف ذلك منه ورفع درجته.
أبو زيد قال: كان عطاء بن أبي رباح مع ابن الزبير، وكان أملح الناس جواباً، فلما قتل ابن الزبير أمنه عبد الملك بن مروان، فقدم عليه، فسأل الإذن، فقال عبد الملك: لا أريده يضحكني، قد أمنته فلينصرف. قال أصحابه: فنحن نتقدم إليه أن لا يفعل. فأذن له عبد الملك، فدخل وسلم عليه، وبايعه، ثم ولى، فلم يصبر عبد الملك أن صاح به: يا عطاء، أما وجدت أمك اسماً إلا عطاءً؟ قال: وقد والله استنكرت من ذلك ما استنكرته يا أمير المؤمنين، لو كانت سمتني بأمي المباركة صلوات الله عليها مريم. فضحك عبد الملك، وقال: اخرج.
لعب رجل بين يدي هارون بالشطرنج، فلما رآه قد استجاد لعبه وفاوضه الكلام قال له: ولني نهر بوق. قال: بل أوليك نصفه، اكتبوا عهده على بوق. قال: فولني على أرمينية. قال: أخشى أن يبطئ علي خبرك. قال: فغيرها. قال: لا أريد أن أبعدك من نفسي.
واختصم إلى زيادة بنو راسب وبنو طفارة في غلام ادعوه، وأقاموا جميعاً البينة عند زياد. فأشكل على زياد أمره، فقال سعد الرابية، من بني عمرو بن يربوع: أصلح الله الأمير، قد تبين لي في هذا الغلام القضاء، ولقد شهدت البينة لبني راسب والطفاوة، فولني الحكم بنيهم. قال: وما عندك في ذلك؟ قال: أرى أن يلقى في النهر، فإن رسب فهو لبني راسب، وإن طفا فهو للطفاوة. فأخذ زيادة نعليه وقام وقد غلبه الضحك، ثم أرسل إليه فقال: ألم أنهك عن المزاح في مجلسي؟ قال: أصلح الله الأمير، حضرني أمر خفت أن أنساه. فضحك زياد وقال: لا تعودن.
أبو زيد قال: لم يكن بالبصرة أفصح لساناً ولا أظهر جمالاً من الحسن بن أبي الحسن البصري، وزرعة بن أبي حمزة الهلالي.
قال: وأخبرني الوليد بن عبيد البحتري الشاعر قال: كنا عند المتوكل على الله يوماً، وبين يديه عبادة المخنت، فأمر به فألقي في بعض البرك في أيام الشتاء، فابتل وكاد يموت برداً، قال: ثم أخرج من البركة وكسي، وجعل في ناحية من المجلس. فقيل له: يا عبادة، كيف أنت وما حالك؟ قال: يا أمير المؤمنين، جئت من الآخرة. فقال له: كيف تركت أخي الواثق؟ قال: لم أجز بجهنم. فضحك المتوكل وأمر له بصلة.

نوادر أشعب
قال أشعب: في وفي أبي الزناد عجب، كنت أنا وهو في كفالة عائشة بنت عثمان فما زال يعلو وأسفل حتى بلغنا غايتنا هذه.
قيل لأشعب: لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر، لكان أولى بك. قال: قد فعلت. قالوا: فما حفظت من الحديث؟ قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان فيه خصلتان كتب عن الله خالصاً مخلصاً " . قالوا: إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان؟ قال: نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.
وقال أشعب: رأيت رؤيا نصفها حق ونصفها باطل. قالوا له: كيف ذلك؟ قال: رأيتني أحمل بدرة، فمن شدة ثقلها علي كنت أسلح في ثيابي، ثم انتبهت فإذا أنا بالسلح ولا بدرة.
ساوم أشعب رجلاً بقوس، فقال له: أقل ثمنها دينار. قال أشعب: والله أنك رميت بها طائراً في جو السماء فوقع مشوياً بين رغيفين ما اشتريتها منك بدينار أبداً.
وقيل لأشعب: خففت صلاتك. قال: إن لم يخالطها رياء.
وضرب الحجاج أعرابياً سبعمائة سوط، وهو يقول عند كل سوط. شكراً لك يا رب. فلقيه أشعب، فقال: أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط؟ قال: ما أدري. قال: لكثرة شكرك الله. يقول الله: " لئن شكرتم لأزيدنكم " فقال الأعرابي:
يا رب لا شكراً فلا تزدني ... أسأت في شكرك فاعف عني

باعد ثواب الشاكرين مني
وسأل رجل من أشعب أن يسلفه ويؤخره فقال: هاتان حاجتان، فإذا قضيت إحداهما فقد أنصفت. قال له الرجل: رضيت قال: فأنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك.
أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي القعقاع. قال: رأيت أشعب في السوق يبيع قطيفة، ويقول للمشتري: أريد أن أبرأ إليك من عيب. قال: وما ذاك؟ قال: يحترق تحتها من دفن فيها.
قال أشعب: من بال ولم يضرط كتب من الكاظمين الغيظ.
وقيل لأشعب: هل خلق أطمع منك؟ قال: بلى، أمي؛ فإني كنت إذا جئتها بفائدة قد أعطيتها قالت: ما جئت به؟ فأتهجى لها الشيء حرفاً حرفاً. ولقد أهدي لنا مرة غلام قالت: ما جئت به؟ قلت: غين. قالت: ثم ماذا؟ قلت: لام ألف ميم. فأغمي عليها، وجعلت تضرط. ولو أخبرتها به جملة لطار قلبها فرحاً.
وقيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا حسبت أنهما يأمران لي بشيء.
ونظر أشعب إلى رجل قبيح الوجه، فقال: ألم ينهكم سليمان بن داود أن تخرجوا بالنهار.
ومر أشعب برجل نجار يعمل طبقاً فقال له: زد فيه طوقاً واحداً تتفضل به علي. قال: وما يدخل عليك من ذلك؟ قال: لعل يوماً يهدى إلي فيه شيء.
قال الأصمعي: أخبرني هارون بن زكريا عن أشعب قال: أدركت الناس يقولون: قتل عثمان. قال الأصمعي: وعاش أشعب إلى زمان المهدي ورأيته.
دخل رجل على الأعمش يسأله عن مسألة، فرد عليه فلم يسمع، قال له: زدني في السماع يرحمك الله. قال ما ذلك لك، ولا كرامة. قال: فبيني وبينك رجل من المسلمين. قال: فخرجا إلى الطريق، فمر بهما شريك القاضي فقال: إني حدثت هذا بحديث فلم يسمع، فسألني أن أزيده في السماع لأنه ثقيل السمع وزعم أن ذلك واجب له، فأبيت. قال له شريك: عليك أن تزيده، لأنك تقدر أن تزيد في صوتك، ولا يقدر أن يزيد في سمعه.
أتت ليلة الشك من رمضان، فكثر الناس على الأعمش يسألونه عن الصوم، فضجر، ثم بعث إلى بيته في رمانة فشقها ووضعها بين يديه، فكان إذا نظر إلى رجل قد أقبل يريد أن يسأله تناول حبة فأكلها، فكفى الرجل السؤال ونفسه الرد.
قال رقبة بن مصقلة: سفه علينا الأعمش يوماً، فقالت امرأته من وراء الستر: احملوا عنه، فوالله ما يمنعه من الحج منذ ثلاثة سنة إلا مخافة أن يلطم كريه، أو يشتم رفيقه.
طلبت بنت الأعمش من الأعمش حاجة، فحجبها بالرد، فقالت: والله ما أعجب منك، ولكني أعجب من قوم زوجوك.
ودخل رقبة بن مصقلة على الأعمش، فقال: إنا والله لنأتينك فما تنفعنا، ونتخلف عنك فما تضرنا، وإن الوقوف إليك لذل، وإن تركك لحسرة، تسأل الحكمة فكأنما تسعط الخردل، وما أشبهك إلا بالصماخيقون، فإنه كريه الشربة، نافع للمعدة. فرفع رأسه الأعمش وقال: من هذا المتكلم؟ فقيل له: رقبة بن مصقلة. فنكس رأسه.
وقال رجل من تلاميذ الأعمش: صنعت للأعمش طعاماً، ثم دعوته، فمضى معي وأنا أقوده، حتى سقطت رجله في حفرة يعملها الصبيان للكرة، فقال: ما هذا؟ قلت: حفرة يعملها الصبيان للكرة. قال: لا، ولكنك حفرتها لتقع رجلي فيها. والله لا أكلت عندك يومي هذا طعاماً. قال: فحملت الطعام إليه، ثم صنعت له بعد ذلك طعاماً ودعوته إليه، فقال: ادخل بنا الحمام قبل ذلك؟ فأدخلته الحمام، فلما جئت أن أصب الماء الحار على رأسه قال: ما دعاك إلى هذا؟ أردت أن تسلق قفاي، والله لا أكلت عندك يومي هذا طعاماً! قال: فحملت الطعام إليه.
وكثر الشعر على الأعمش فقلنا له: لو أخذت من شعرك؟ قال: لا جد حجاماً يسكت حتى يفرغ. قلنا له: فإنا نأتيك بحجام ونتقدم إليه أن يسكت حتى يفرغ. قال: فافعلوا. قال: فأتيناه بحجام وأعذرنا إليه أن لا يتكلم حتى ينقضي أمره، فبدأ الحجام بحلقه، فلما أمعن في حلقه سأله عن مسألة، فنفض ثيابه وقام بنصف رأسه محلوقاً، حتى دخل بيته؛ ثم جئناه بغيره، فقال: لا والله لا أخرج إليه حتى تصوموه أو تحلفوه. فحلفناه ألا يسأله عن شيء. فخرج إليه.
ولمحمد بن مطروح الأعرج من التبرم المليح، والضجر الموقع، ما هو أحسن من هذا وأوقع.
وسأله رجل يوماً: ما تقول يرحمك الله في رجل مات يوم الجمعة، أيعذب عذاب القبر؟ قال: يعذب يوم السبت.
وقال له آخر: أتجد في بعض الحديث أن جهنم تخرب؟ قال: ما أشقاك إن اتكلت على خرابها.

واستسقى بالناس يوماً، فأسرع بالصلاة قبل أن يتوافى الناس، فلما انصرف تلقاه بعض الوزراء، فقال له: أسرعت أبا عبد الله. قال: ليس علينا أن ننتظر حتى تشربوا وتأكلوا.
وكانت لقومس الكاتب منه منزلة وجوار، وكان يتحفه بما أمكنه من الهدايا، وكانت صلاته معه في الجامع والأعرج صاحب الصلاة، فإذا حضرت الصلاة ولم يحضر قومس قال بعض القومة: أنت يا شيطان، كلم هؤلاء الكلاب لا يقيموا الصلاة حتى يأتي ذا الخنزير. فكان بره في حبس الصلاة عليه براً العقوق خير منه.
وكان يجلس إليه خصي لزرياب، وقد حج وتنسك ولزم الجامع، فيتحدث في مجلسه بأخبار زرياب، ويقول: كان أبو الحسن رحمه الله يقول كذا وكذا. فقال له الأعرج: من أبو الحسن هذا؟ قال: زرياب. قال: بلغني عنه أنه كان أخرق الناس لاست خصي.
وسأله مرة وقال له: ما تقول في الكبش الأعرج. أيجوز في الأضحية؟ قال: نعم والخصي أيضاً مثلك.
وسمع أبو يعقوب الخريمي منصور بن عمار صاحب المجالس، يقول في دعائه: " اللهم اغفر لأعظمنا ذنباً، وأقساناً قلباً، وأقربنا بالخطيئة عهداً، وأشدنا على الدنيا حرصاً " . فقال له: امرأتي طالق إن كنت دعوت إلا لإبليس.
الأصمعي قال: حدثنا بعض شيوخنا عن ابن طاوس قال: أقبلت إلى عبد الله بن الحسن، فأدخلني بيتاً قد نجد بالرهاوي والميساني، وكل فرشة شريفة. قال: فبسطت نطعاً وجلست عليه، وابناه محمد وإبراهيم صبيان يلعبان، فلما نظرا إلي قال أحدهما لصاحبه: ميم. فقال الآخر: جيم. فقلت أنا: نون واو نون. فاستغرا ضحكا وخرجا إلى أبيهما.
أبو زيد قال: سكر حائك من الزط، فحلف بالطلاق ليغنينه أبو علي الأشرس، فمضى معه جماعة إلى أبي علي، فأخبروه، وقالوا: سكر وامتلأ وحلف بالطلاق لتغنينه. فأقبل على الحائك، فقال: يا مرد سبز، يا مرد خش يا مرد تر، إياك أن تعود.
قال أبو زيد: تفسيره: ياسمين أخضر، يا سمين طيب، ياسمين رطب.
وكان شيخ من البخلاء يأتي إلى ابن المقفع، فألح عليه يسأله الغداء عنده، وفي كل ذلك يقول له: أترى أنك تراني أتكلف لك شيئاً؟ لا والله، لا أقدم لك إلا ما عندي. فأجابه يوماً، فلما أتاه إذا ليس عند ولا في منزله إلا كسرة يابسة وملح جريش. ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك. فألح عليه في السؤال، فقال له: لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك! فقال ابن المقفع للسائل: أنك والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت من صدق وعده لم تراده كلمة، ولا وقفت طرفة عين.
مر برقبة بن مصقلة رجل زاهد غليظ الرقبة، فقال: هذا رجل زاهد، والعلامات فيه بخلاف ذلك. فقال له رجل: أكلمه بذلك أصلحك الله، لئلا تكون غيبة؟ قال: كلمه حتى تكون نميمة.
قال شريك بن عبد الله القاضي: سبع من العجائب: عمياء منتقبة، وسوداء مختصبة، وخصي له امرأة، ومخنث يؤم قوماً، وأموي شيعي، ومخعي مرجي، وعربي أشقر. ثم قال شريك: من المحال عربي أشقر.
قالوا: كانت في أبي عمرو ضرار بن عمرو ثلاثة من المحال: كان كوفياً معتزلاً، وكان من بني عبد الله بن غطفان، ويرى رأي الشعوبية، ومحال أن يكون عربي شعوبياً. ومات وهو ابن سبعين سنة.
وقيل لشريح القاضي: أيهما أطيب: اللوز ينق أو الجوز ينق؟ فقال: لا أحكم عن غائب.
وسأل رجل عمر بن قيس عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الإنسان في ثوبه أو خفه أو جبهته؟ فقال له: ارم بها. قال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد. قال: دعها تصيح حتى ينشق حلقها. قال الرجل: أولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح.
وسئل عامر الشعبي عن المسجد الخرب أيجامع فيه؟ قال: نعم، ويخرأ فيه.
الأصمعي قال: ولي رجل مقل قضاء الأهواز، فأبطأت عليه أرزاقه، وحضر الأضحى ليس عنده ما يضحي به ولا ما ينفق، فشكا ذلك إلى امرأته، وأخبرها بما هو فيه من الضيق، وأنه لا يقدر على الأضحية. فقالت له: لا تغتم، فإن عندي ديكاً جليلاً قد سمنته، فإذا كان يوم الأضحى ذبحناه. فبلغ جيرانه الخبر، فأهدوا له ثلاثين كبشاً وهو في المصلى لا يعلم، فلما صار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي، قال لا مرأته: من أين هذا؟ قالت: أهدى لنا فلان وفلان وفلان. حتى سمت جماعتهم. فقال لها: يا هذه تحفظي بديكنا هذا، فهلو أكرم على الله من إسحاق بن إبراهيم، إنه فدي بكبش واحد، قد فدي ديكنا هذا بثلاثين كبشاً.

خرج أبو دلامة مع المهدي في مصاد لهم، فعن لهم ظبي فرماه المهدي فأصابه، ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب، فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قل. فقال:
قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما ك ... ل امرئ يأكل زاده
وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة، رقعة فيها هذه الأبيات:
إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرحيم
وأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأنصار قبح من غريم
لزوم ما علمت بباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرقيم
له مائة علي ونصف أخرى ... ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم
ودخل أبو دلامة على المهدي، وعنده محمد بن الجهم وزيره، وكان المهدي يستثقله فقال له: أبا دلامة، والله لا تبرح مكانك حتى تهجو أحد الثلاثة. فهم أبو دلامة بهجاء ابن الجهم، خاف شره، فرأى أن هجاء نفسه أقل ضرراً عليه، فقال:
ألا أبلغ لديك أبا دلامه ... فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان قرداً ... وخنزيراً إذا وضع العمامه
وإن لزم العمامة كان فيها ... كقرد ما تفارقه الدمامه
وعرض أبو دلامة ليزيد بن مزيد، وهو قادم من الري، فأخذ بعنان فرسه وأنشده:
إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفر
لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهماً حجري
فقال له: أما الصلاة على النبي فصلى الله عليه وسلم، وأما الدراهم فإلى أن أرجع إن شاء الله. فقال له: لا تفرق بينهما، لا فرق الله بينك وبين محمد في الجنة! فاستسلفها من أصحابه وصبها في حجره حتى أثقله.
ودخل أبو دلامة على المهدي فأسمعه مديحاً له فيه، فأعجبه وقال له: سل حاجتك. قال: كلب صيد أصطاد به. قال: قد أمران لك بكلب تصطاد به. قال: وغلام يقود الكلب. قال: وغلام يقود الكلب. قال: وخادم تطبخ لنا الصيد. قال: وخادم. قال: ودار نسكنها. قال: وداراً تسكنها. قال: وجارية آوي إليها. قال: وجارية. قال: بقي الآن المعاش. قال: قد أقطعناك ألف جريب عامر، وألف جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: التي لا تعمر. قال: فأنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفاً من فيافي بني أسد. قال: فإنا نجعلها عامرة كلها. قال: فيأذن أمير المؤمنين في تقبيل يده. قال: أما هذه فدعها. قال: ما منعتني شيئاً أيسر على أم عيالي فقداً منه.

المضحكات
أبو الحسن المدائني قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة فقالت أمها: دعني حتى أسأل عنك. فانصرف الرجل فسأل عن أكرم الحي عليها، فدل على شيخ منهم كان يحسن المحضر في الأمر، فسأله عنه، فأتاه فسأل أن يحسن عليه الثناء، وانتسب له، فعرفه. ثم إن العجوز غدت عليه فسألته عن الرجل، فقال: أنا أعرف الناس به. قالت له: فكيف لسانه؟ قال:مدره قومه وخطيبهم. قالت: فكيف شجاعته؟ قال: منيع الجار، حامي الذمار. قالت: فكيف سماحته؟ قال: ثمال قوم وربيعهم. وأقبل الفتى فقال الشيخ: ما أحسن والله ما أقبل، ما انثنى ولا انحنى. ودنا الفتى فسلم، فقال الشيخ ما أحسن والله ما سلم، ما فار ولا ثار. ثم جلس فقال الشيخ: ما أحسن والله ما جلس، ما دنا ولا نأى. ثم ذهب الفتى ليتحرك فضرك، فقال الشيخ: ما أحسن والله ما ضرط، ما أطنها ولا أغنها، ولا بربرها ولا قرقرها. ونهض الفتى خجلاً، فقال: ما أحسن والله ما نهض، ما ارقد ولا اقطوطى. فقالت العجوز: حسبك يا هذا، وجه إليه من يرده، فوالله ولو سلح في ثيابه لزوجناه.
وخطب رجل امرأة فجعل يخطبها وينعظ، فضرب رأس ذكره بيده وقال: مه إليك يساق الحديث.
أبو سويد قال: كان لحبيب بن أوس حمار حصان، وغلام مؤنث، فإذا نزل أخذ الحمار ينهق والغلام يمجن في كلامه. قلنا له: إنما أنت فضيحة، فهل قلت فيهما شيئاً؟ فقال:
لي حمار وغلام ... وهما مختلفان
أير ذا ينعظ للني ... ك وذا رخو العنان
لو بهذا عف هذا ... لاستراح الثقلان

محمد بن الحجاج البزار، وكان راوية بشار قال: قال بشار ذات يوم يعبث، وكان مات له حمار قبل ذلك، قال: رأيت حماري البارحة في النوم، فقلت له: ويلك ما لك مت؟ قال: إنك ركبتني يوم كذا وكذا فمررنا على باب الأصبهاني، فرأيت أتاناً عند بابه، فعشقتها فمت. وأنشدني:
سيدي مل بعناني ... نحو باب الأصبهاني
تيمتني يوم رحنا ... بثناياها الحسان
وبغنج ودلال ... سل جسمي وبراني
ولها خد أسيل ... مثل خد الشيقران
فبها مت ولو عش ... ت إذاً طال هواني
فقال له رجل من القوم: يا أبا معاذ. ما الشيقران؟ قال: هذا من غريب الحمير. فإذا لقيتم حماراً فسلوه.
وقيل لأعرابي وهو واقف على ركية مالحة: كيف هذا الماء؟ قال: يخطئ القلب، ويصيب الاست.
وأخذ رجل شرب، فأتي به الوالي فقال: استنكهوه. فقالوا: إن نكته لا تبين عنه. قال: فقيئوه. فقال الشارب: فإن لم أقئ نبيذاً فمن يضمن لي عشائي؟ ورافق رجل أعرابياً في سفر فقال له: أنا والله أشتي كشكية! ومد بها صوته فضرط. فقال له صاحبه: ما أسرع ما نفختك يا ابن أم.
أبو الخطاب قال: كان عندنا رجل أحدب فسقط في بئر فذهبت حدبته وصار آدر، فدخلوا يهنئونه، فقال: الذي جاء شر من الذي ذهب!.
أبو حاتم قال: رمي رجل أعور بنشابة، فأصابت عينه الصحيحة فقال: أمسينا وأمس الملك لله.
وقال رجل للجماز: ولدت امرأتي لستة أشهر. فقال: لقد كان أناؤها ضارباً.
قالوا: أتي الحجاج بسقط قد أصيب في بعض خزائن كسري مقفل، فأمر بالقفل فكسر فإذا فيه سقط آخر مقفل، فقال الحجاج: من يشتري مني هذا السقط بما فيه ولا أدري ما فيه؟ فتزايد به أصحابه، حتى بلغ خمسة آلاف دينار، فأخذه الحجاج ونظر فيه، فقال: ما عسى أن يكون فيه إلا حماقة من حماقات العجم! ثم أنفذ البيع وعزم المشتري أن يفتحه ويريه ما فيه، ففتحه بين يديه فإذا فيه رقعة مكتوب فيها: من أراد أن تطول ليحته فليمشطها من أسفل.
الزبير بن بكار قال: جاءت امرأة إلى ابن الزبير تستعدي على زوجها، وتزعم أنه يصيب جاريتها، فأمر به فأحضر، فسأله عما ادعت، فقال: هي سوداء، وخادمها سوداء، وفي بصري ضعف، ويضرب الليل برواقه وإنما آخذ من دنا مني.
قال: وخطب رجل خطبة نكاح، وأعرابي حاضر، فقال: الحمد الله، أحمده وأستعينه، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، حي على الصلاة، حي على الفلاح. فقال الأعرابي: لا تقم الصلاة فإني على غير وضوء.
وقال: سمعت أبا موسى عيسى الضمري يقول: دخلت الحمام فإذا بأعمى قد ركب أعمى فقال له: ما هذا؟ قال: ظلمات بعضها فوق بعض.
وقال العوام بن حوشي: قال لي عيسى بن موسى: من أرضعتك؟ قلت: ما أرضعني خلق سوى أمي. قال: قد علمت أن ذلك الوجه القبيح لا يصبر عليه سوى أمك.
كان رجل مقيت قد تنسك، وتشبه بالحسن البصري، فشهد جنازة، فوقف على القبر وإلى جنبه رجل مليح، فضحك، فقال له الناسك: ما أعددت لهذه الحفرة يا فلان؟ قال: قذفك فيها الساعة.
ودخل أعرابي الحمام فضرط، فقال نبطي كان في الحمام: جبحان الله! فقال له الأعرابي: يا ابن اللخناء لكن ضرطتي أفصح من تسبيحك.
وقيل لأعرابي: مالك لا تجاهد؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أن أسعى إليه راكضاً.
واستشهدوا أعرابياً على رجل وامرأة زنياً فقيل له: أرأيته داخلاً وخارجاً كالمرود في المكحلة؟ فقال: والله ما كنت أرى هذا لو كنت جلدة استه.
وجد منبوذ بضفة العراق وعند رأسه مائة دينار ورقعة مكتوب فيها: " أنا الشقي ابن الشقية، وابن القدح والرطلية، وابن البغي والبغية، وابن الأبقال الطرية، من كفلني فله هذه المائة " .

السندي بن شاهك قائد الخليفة، قال: بعث إلي المأمون بريداً وأنا بخراسان، فطويت المراحل حتى أتيت باب أمير المؤمنين وقد هاج بي الدم وانصرفت إلى منزلي، فقلت: أحضروا إلي الحجام. قالوا: هو محموم. قلت: فهاتوا حجاماً غيره ولا يكون فضولياً. فأتوني به، فما هو إلا أن دارت يداه على وجهي حتى قال: جعلت فداك، هذا وجه ما أعرفه، فمن أنت؟ قلت: السندي بن شاهك. قال: قال: ومن أين قدمت فإني أرى أثر السفر عليك؟ قلت: من خراسان. قال: وأي شيء أقدمك؟ قلت: وجه إلي أمير المؤمنين بريداً، ولكن إذا فرغت سأخبرك بالقصة على وجهها. قلت: وتعرفني بالمنازل والسكك التي جئت عليها؟ قلت: نعم. قال: فما كان إلا أن فرغ ودخل رسول أمير المؤمنين ومعه كركي، فقال: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام، وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم، وقد أمرك بالتخلف في منزلك هذا إلى أن تغدوا عليه إن شاء الله. ويقول: ما أهدي إلينا اليوم غير هذا الكركي، شأنك به. قال: فالتفت السندي إلى جلسائه فقال: ما يصنع بهذا الكركي؟ فقال الحجام: يطبخ سكباجا. قال السندي: يصنع كما قال. وحلف على الحجام أن لا يبرح، فحضر الغداء فتغدينا وهو ينظر، ثم قدم الشراب فلما دارت الأقداح قلت: يعلق الحجام في العقابين. ثم قلت: جعلت فداك، إنك سألتني عن المنازل والسكك التي قدمت عليها، وأنا مشغول في ذلك الوقت وأنا أقصها عليك فاسمع: خرجت من خراسان وقت كذا، فنزلت بمكان كذا، يا غلام: اضرب. فضربه عشرة أسواط، ثم قلت: وخرجت منه إلى مكان كذا، يا غلام أوجع. فضربه عشرة أسواط أخرى، ولم يزل يضربه لكل سكة عشرة حتى انتهى إلى سبعين سوطاً، فالتفت إلي الحجام وقال: يا سيدي: سألتك بالله إلى أين تريد أن تبلغ؟ قلت: إلى بغداد. قال: لست تبلغ بغداد حتى تقتلني، قلت: فأتركك على ألا تعود؟ قال: والله لا عدت أبداً. قال: فتركته وأمرت له بسبعين ديناراً، فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر فقال: وددت أنك بلغت به إلى أن تأتي على نفسه.
أتت جارية أبا ضمضم فقالت: إن هذا قبلني. قال لها: قبليه، فإن الله يقول: " والجروح قصاص " .
وارتفع رجلان إلى أبي ضمضم، فقال أحدهما: أبقاك الله، إن هذا قتل ابني. قال: هل لابنك أم؟ قال: نعم، قال: ادفعها إليه حتى يولدها لك ولداً مثل ولدك، ويربيه حتى يبلغ ولدك ويبرأ به إليك.
وكان بالمدينة أعمى يكنى أبا عبد الله، أتى يوماً يغتسل من عين، فدخل بثيابه فقيل له: بللت ثيابك. قال: تبتل علي أحب إلي من أن تجف على غيري.
وفي كتاب للهند أن ناسكاً كان له سمن في جرة معلقة على سريره، ففكر يوماً وهو مضطجع على السرير وبيده عكاز، فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري بها خمسة أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، فيبلغ النتاج في عشر سنين مائتين وأبيعهن فأبتاع بكل عشرة بقرة، ثم ينمى المال بيدي، فأبتاع العبيد والإماء، ويولد لي ولد فآخذ به في الأدب. فإن عصاني ضربته بهذه العصا. وأشار بالعصا، فأصاب الجرة فانكسرت، وصب السمن على وجهه ورأسه.
الزبير قال: حدثنا بكار بن رباح قال: وكان بمكة رجل يجمع بين الرجال والنساء ويحمل لهم الشراب فشكي إلى عامل مكة فغربه إلى عرفات فبني بها منزلاً، وأرسل إلى إخوانه، فقال: ما يمنعكم أن تعاودوا ما كنتم فيه؟ قالوا: وأين بك وأنت في عرفات؟ فقال: حمار بدرهم، وقد صرتم على الأمن والنزهة. ففعلوا فكانوا يركبون إليه حتى فسدت أحداث مكة، فعادوا بشكايته إلى والي مكة، فأرسل فيه فأتي به فقال: يا عدو الله، طردتك من حرم الله فصرت بفسادك إلى المشعر الأعظم. فقال: يكذبون علي أصلح الله الأمير. فقال: دليلنا أصلحك على ما نقول أن تأمر بحمير مكة فتجمع وترسل بها أمناء إلى عرفات ويرسلونها، فإن لم تقصد لمنزلة من بين المنازل كعادتها إذ ركبها السفهاء فنحن غير مبطلين. فقال الوالي: إن في هذا دليلاً وشاهداً عدلاً. فأمر بحمير من حمير الكراء فجمعت ثم أرسلت، فصارت إلى منزله كما هي من غير دليل، فأعلمه بذلك أمناؤه فقال: ما بعد هذا شيء، جردوه. فلما نظر إلى السياط قال: لا بد أصلحك الله من ضربي؟ قال: نعم يا عدو الله. قال: والله ما في ذلك من شيء هو أشد علي من أن يشمت بنا أهل العراق ويضحكوا منا ويقولوا: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير. قال: فضحك الوالي وخلى سبيله.

ولقي رجل امرأة جميلة فجعل يتعرضها، وألح عليها، فدخلت درباً وكشفت عن وجه قد شاكر البدر حسنه وقالت له: انظر ما يسخن عينك، ويقوم له أيرك، وينيكه غيرك.
وهنأ رجل رجلاً في عرسه، فقال: باليمن والبركة، وشدة الحركة، والظفر في المعركة.
الهيثم بن عدي قال: بينا أنا بكناسة الكوفة إذا برجل مكفوف البصر قد وقف على نخاس من نخاسي الدواب، فقال له: أبغي حماراً ليس بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إذا خلا له الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام ترفق، وإن أقللت علفه صبر، وإن أكثرته شكر، وإذا ركبته هام، وإن ركبه غيري نام. قال له النخاس، يا عبد الله، اصبر فإذا مسخ الله القاضي حماراً أصبت به حاجتك إن شاء الله.
قال: ودخل رجل السوق في شراء فرس، فقال له النخاس: صفه لي. فقال: أريده حسن القميص، جيد الفصوص، وثيق العصب، نقي القصب، يشير بأذنيه، ويتشوف برأسه، ويخطر بيديه، ويدحو برجليه، كأنه موج في لجة، أو سيل في حدور، أو منحط من جبل. فقال له النخاس: نعم كذلك كان صلوات الله عليه. قال: إنما أصف لك فرساً، قال: ما حسبتك إلا في وصف نبي منذ اليوم.
قال: ودخل أبو نخيلة اليمن فلم ير بها أحداً حسناً، ورأى نفسه وكان قبيحاً أحسن من بها، فقال:
لم أر غيري حسناً ... منذ دخلت اليمنا
ففي حر أم بلدة ... أحسن من فيها أنا
محمد بن إسحاق قال: قال سفيان بن عيينة: دخلت الكوفة في يوم فيه رذاذ من مطر، فإذا أنا بكناس قد فتح كنيفاً، ووقف على رأس البئر، وهو يقول:
بلد طيب ويوم مطير ... هذه روضة وهذا غدير
ثم قال لصاحبه: انزل فيها. فأبى عليه، فنزل وهو يقول:
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
الأصمعي قال: بينا أنا سائر بالفيفاء، إذ سمعت صوتاً يقول:
جنبوني ديار هند وسعدى ... ليس مثلي يحل دار الهوان
قال: فالتفت يمنة ويسرة فإذا أنا بالصوت يخرج من حش، فأقبلت حتى وقفت عليه، فإذا بحشاش وبيده كأس، فقلت: يا سبحان الله، أنت في بيت عذرة وتقول:
ليس مثلي يحل دار الهوان
فإنى لك، وأي هوان أكثر مما أنت فيه؟ قال: فرفع رأسه إلي وقال:
لا تلمني فإنني نشوان ... أنا في الملك ما سقتني الدنان
فقلت: ما هو إلا كقول الآخر:
من قر عيناً بعيشه نفعه
ولعلي بن الجهم:
أعظم ذنبي عندكم ودي ... فليت هذا ذنبكم عندي
يا حسرتا أهلك وجداً بمن ... لا يعرف الشكوى من الوجد
حماد الرواية قال: أتيت مكة فجلست في حلقة منها، فيها عمر بن أبي ربيعة القرشي، وإذا هم يتذاكرون العذريين وعشقهم وصبابتهم، فقال عمر بن أبي ربيعة: أحدثكم عن بعض ذلك، كان لي خليل من عذرة يكنى أبا مسهر وكان مستهتراً بأحدايث النساء، يصبو بهن وينشد فيهن، على أنه كان لا عاهر الخلوة، ولا حديث السلوة، وكان يوافي الموسم في كل سنة، فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار، واستوقفت له السفار.
وإنه راث عني سنة من ذلك خبره، حتى قدم وفد عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي فإذا رجل يتنفس الصعداء، فقال: أعن أبي مسهر تسأل؟ قلت: نعم. قال: هيهات هيهات! أصبح والله أبو مسهر لا حياً فيرجى ولا ميتاً فينسى، ولكنه كما قال الشاعر:
لعمرك ما حبي لأسماء تاركي ... صحيحاً ولا أقضي به فأموت
فقلت: وما لذي به؟ قال: كمثل الذي بك، من انهماككما في الضلال، وجركما أذيال الخسار، كأنكما لم تسمعا بجنة ولا انر. قلت: فما أنت منه يا ابن أخي؟ قال: أخوه. قلت: والله إنك وأخاك كالوشي والبجاد، لا يرقعك ولا ترقعه. ثم انطلقت وأنا أقول:
أرائحة حجاج عذرة روحة ... ولما يرح في القوم قيس بن مهجع
خليلي يشكو ما يلاقي من الهوى ... ومهما يقل أسمع وإن قلت يسمع
ألا ليت شعري أي شيء أصابه ... أمن زفرات هجن من بين أضلع
فلا يبعدنك الله خلاً فإنني ... سألقى كما لاقيت في الحب مصرعي

قال: فلما حججت ووقفت بعرفات إذا به قد أقبل، وقد تغير لونه وساءت هيئته، وما عرفته إلا بناقته، فأقبل " فأدنى ناقته من ناقتي " حتى خالف بين أعناقهما، ثم اعتنقني، وجعل يبكي فقلت له: ما الذي دهاك؟ قال: برح الخفاء، وكشف الغطاء. ثم أنشد يقول:
لئن كانت عديلة ذات مطل ... لقد علمت بأن الحب داء
وإنك لو تكلفت الذي بي ... لزال الظلم وانكشف الغطاء
فإن معاشري ورجال قومي ... حتوفهم الصبابة واللقاء
إذا العذري مات بحتف أنف ... فذاك العبد يبكيه الرشاء
فقلت: يا أبا مسهر، إنها ساعة عظيمة تضرب فيها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، فلو دعوت الله كنت قمناً أن تظفر بحاجتك، وتنصر على عدوك فجعل يدعو حتى إذا مالت الشمس للغروب، وهم الناس أن يفيضوا سمعته يهينهم بشيء، فأصغيت إليه مستمعاً فجعل يقول:
يا رب كل غدوة وروحه ... من محرم يشكو الصبا ونوحه
أنت حسيب الخلق يوم الدوحه
فقلت له: وما يوم الدوحة؟ قال: سأخبرك إن شاء الله، ولو لم تسألني فيممنا نحو المزدلفة فأقبل علي وقال: إني رجل ذو مال كثير، ونعم وشاء، وإني خشيت على مالي عام أول التلف، فأتيت أخوالي كلباً، فأوسعوا لي عن صدر المجلس، وسقوني جمة البئر وكنت منهم في خير أحوال، ثم إني عزمت على مرافقة أهل ماء لهم يقال له الحوادث، فركبت يوماً فرسي، وعلقت معي شراباً أهداه إلي بعض الكلبيين، فانطلقت حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم، رفعت لي دوحة عظيمة، فقلت: لو نزلت تحت هذه الشجرة ثم تروحت مبرداً! ففعلت فشددت فرسي بغصن من أغصانها، ثم جلست تحتها، فإذا بغبار قد سطع من ناحية الحي، ثم تبينت فبدت لي شخوص ثلاثة فإذا فارس يطرد مسحلاً وأتانا، فلما قرب مني إذا عليه درع أصفر، وعمامة خز سوداء، فما لبث أن لحق المسحل فطعنه فصرعه، ثم ثنى طعنة للأتان، وأقبل وهو يقول:
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل
فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت، فلو نزلت، فثنى رجله فنزل، فشد فرسه بغصن من أغصان الشجرة، ثم أقبل حتى جلس معي، فجعل يحدثني حديثاً ذكرت به قول الشاعر:
وإن حديثاً منك لو تبذلينه ... جنى النحل في ألبان عود مطافل
فبينا هو كذلك، إذ نكت بالسوط على ثنيتيه، فما ملكت نفسي أن قبضت على السوط، فقلت: مه. قال: ولم؟ قلت: إني أخاف أن تكسرهما، إنهما رقيقتان عذبتان.
قال: فرفع عقريته وجعل يتغنى:
إذا قبل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يأثم وكان له أجرا
وقال: ما الذي تعلقت في سرجك؟ قلت: شراب أهداه إلي بعض أهلك، فهل لك فيه؟ قال: ما نكرهه إذا كره. فأتيته به، فوضعته بيني وبينه، فلما شرب منه شيئاً نظرت إلى عينيه كأنهما عينا مهاة قد أضلت ولدها، ثم رفع عقيرته يتغنى:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا الحلم حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
ثم قمت لأصلح من أمر فرسي، فرجعت وقد حسر العمامة عن رأسه، وإذا غلام كأن وجهه دينار هرقلي، فقلت: سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك. قال: كيف؟ قلت: ذلك لما راعني من نورك وبهرني من جمالك. قال: وما الذي يروعك من رزق الدواب ونبيش التراب، ثم لا يدري أينعم أم يبؤس؟ قلت: لا يصنع الله بك إلا خيراً. ثم قام إلى فرسه، فلما أقبل برقت لي بارقة من تحت الدرع، فإذا ثدي كأنه حق عاج. قلت: نشدتك الله، امرأة؟ قالت: إي والله، امرأة، تكره العهر، وتحب الغزل. قلت: وأنا والله كذلك. قال: فجلست والله تحدثني ما أفقد من أنسها شيئاً، حتى مالت على " الدوحة " سكرى. فاستحسنت والله يا بن أبي ربيعة الغدر، وزين في عيني، ثم إن الله عصمني منه، فما لبثت أن انتهيت معذورة، فلاثت عمامتها برأسها، وأخذت الرمح، وجالت في متن فرسها، فقلت: مضيت ولم تزوديني منك زاداً. فأعطتني بنانها فتمسحت والله منها كالنبات الممطور زهر الثلج. ثم قلت: أين الموعد؟ قالت: إن لي إخوة شوساً وأباً غيوراً، والله لأن أسرك أحب إلي من أضرك. ثم مضت، فكان والله آخر العهد بها إلى يومي هذا، وهي التي بلغتني هذا المبلغ، وأحلتني هذا المحل.

قال: فدخلتني له رقة. فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشد على ناقته وحملت غلاماً لي على بعير، وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة، وأخذت معي ألف دينار، ومطرف خز، ثم خرجنا حتى أتينا بلاد كلب، فإذا الشيخ في نادي قومه، فسلمت عليه، فقال: وعليك السلام، من أنت؟ فقلت: عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي. قال: أنت الكفء الكفي، الذي لا يرغب عن وصله، والرجل الذي لا يرد عن حاجته. قال: قلت: إني لم آتك لنفسي وإن كنت في موضع الرغبة، ولكنني أتيتكم لابن أختكم العذري. قال: والله إنه لكفء الحسب، كريم النسب، غير أن بناتي لم يعرفن هذا الحي من قريش. قال: فعرف الجزع من ذلك في وجهي، فقال: أما إني أصنع بك ما لم أصنع لغيرك، أخيرها في نفسها، فهي وما اختارت. فقلت: خيرها. فأرسل إليها أن من الأمر كذا وكذا، فري رأيك. فقالت: ما كنت لأستبد برأي دون رأي القرشي، خياري ما اختار. قال: قدر ردت الأمر إليك. قال: فحمدت الله وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: قد زوجتها العذري، وأصدقتها هذه الألف الدينار، وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة، وكسوت الشيخ المطرف، فسر به، وسألته أن يبني بها من ليلته، فأجابني إلى ذلك، فضربت القبو في وسط الحي، وهديت إليه ليلاً، وبت عند الشيخ في خير مبيت، فلما أصبحت غدوت فقمت بباب القبة، فخرج إلي وقد تبين الجذل فيه، فقلت: كيف كنت بعدي أبا مسهر؟ قال: أبدت لي كثيراً مما كانت أخفته يوم رأيتها فقلت: أقم على أهلك بارك الله لك. ثم انطلقت إلى أهلي وأنا أقول:
كفيت الفتى العذري ما كان نابه ... ومثلي لأثقال النوائب أحمل
أما استحسنت مني المكارم والعلا ... إذا صرحت أني أقول وأفعل
حدث أبو محمد الشعبي الوراق، وكان عند باب خراسان على رأس الجسر الأول، عن حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن إبراهيم من ميمون الموصلي، قال: بينا أنا ذات يوم عند المأمون، وقد خلال وجهه، وطابت نفسه، إذ قال لي: يا إسحاق، هذا يوم خلوة وطيب. فقلت: طيب الله عيش أمير المؤمنين، وأدام سروره وفرحه. فقال: يا غلمان خذوا علينا الباب، وأحضروا الشراب. قال: ثم أخذ بيدي وأدخلني في مجالس غير المجالس التي كنا فيها، وإذا قد نصبت الموائد، وأصلح كل ما كان يحتاج إليه الحال، حتى كأنه شيء قد كان تقدم فيه. قال: فأكلنا وأخذنا في لذتنا وشربنا، فأقبلت الستيرات من كل ناحية بضروب من الغناء، وصنوف من اللهو، فلم نزل على ذلك إلى آخر النهار، فلما غربت الشمس قال لي: يا إسحاق، خير أيام الفتي أيام الطرب. قلت: هو والله ذاك يا أمير المؤمنين. قال: فإني قد فكرت في شيء، فهل لك فيه؟ قلت: يا سيدي أو أتأخر عن رأي أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه. قال: لعلنا نباكر الصبوح في غدوتنا هذه، وقد عزمت على دخلة إلى دار الحرم، فكن بمكانك ولا ترم، فإني أوافيك عن قريب. قال: قلت: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين. ثم نهض إلى دار النساء، فما عرفت له خبراً إلى أن ذهب من الليل عامته.
قال إسحاق: وكان المأمون من أشغف خلق الله بالنساء، وأشدهم ميلاً إليهن واستهتاراً بهن، وعلمت أن النبيذ قد غلب عليه، وأنهن قد أنسينه أمري، وما كان تقدم إلي ووعدني من سرعة رجوعه، فقلت في نفسي: هو أعزه الله في لذته وأنا هنا هنا في يغير شيء، وفي بقية، وعندي صبية كنت قد اشتريتها، وكانت نفسي متطلعة إلى افتضاضها، فنهضت مسرعاً عند ذكرها فقال الخادم: على أي شيء عزمت؟ وإلى أين تريد؟ قلت: أريد الانصراف. قالوا: فإن طلبك أمير المؤمنين؟ قلت: إنه أدام الله سروره قد شغله الطرب ولذة ما هو فيه عن طلبه، وقد كان بيني وبينه موعد قد جاوز وقته، ولا وجه لجلوسي.

قال إسحاق: وكنت مقدم الأمر في دار المأمون، مقبول القول فيه، لا أعارض في الشيء إذا أومأت إليه، فخرجت مبادراً إلى باب الدار، فلقيني غلمان الدار، وأصحاب النوبة. فقالوا: يا سيدنا، إن غلمانك قد انصرفوا وكانوا قد جاءوك بدابة، فلما علموا بمبيتك انصرفوا. قلت: لا ضير، فأنا أتمشى إلى البيت وحدي. قالوا: نحضرك دابة من دواب النوبة. قلت: لا حاجة لي في ذلك. قالوا: فنمضي بين يديك بمشعل. قلت: لا، ولا أريد أيضاً ذلك. وأقبلت وحدي نحو البيت، حتى إذا صرت ببعض الطريق أحسست بحركة البول، فعدلت إلى بعض الأزقة، لئلا يجوز بي أحد منن العوام فيراني أبول على الطريق، فبلت حتى إذا قمت للتمسح ببعض الحيطان إذا أنا بشيء معلق من تلك الدور إلى الزقاق فما تمالك أن تمسحت حتى دنوت إلى ذلك الشيء لأعرف ما هو، فإذا بزنبيل كبير معلق بأربع آذان، وإذا هو ملبس ديباجاً، وفيه أربعة أحبل إبريسم، فلما نظرت إليه وتبينته قلت: والله إن لهذا لسبباً، وإن له لأمراً. فأمت ساعة أروي في أمره وأفكر فيه، حتى إذا طال ذلك بي قلت: والله لأتجاسرن ولأجلسن فيه كائناً في ذلك ما كان. ثم لففت رأسي بردائي وجلست في جوف الزنبيل، فلما أحس من كان على ظهر الحائط بثقله جذبوا الزنبيل إليهم، حتى انتهوا إلى رأس الحائط، فإذا بأربع جوار، وإذا هن يقلن: انزل بالحرب والسعة، أصديق أم جديد؟ فقلت: لا بل جديد. فقلت: أنت يا جرية بين يديه الشمعة. فابتدرت إحداهن إلى طست فيه شمعة وأقبلت بين يدي، حتى نزلت إلى دار نظيفة بها من الحسن والظرف والنظافة ما حرت له، ثم أدخلتني إلى مجالس مفروضة، ومناص مرصوص، بصنوف من الفرش الذي لم أر مثله إلا في دار ملك أو خليفة، فجلست في أدني مجلس من تلك المجالس، فما شعرت بعد ساعة إلا بضجة وجلبة وستور قد رفعت من ناحية من نواحي الدار، وإذا بوصائف يتساعين في أيدي بعضهن الشمع، وبعضهن المجامر، يسجر فيها العود والند، وإذا بينهن جارية كأنها تمثال عاج، تتهادى بينهم كالبدر الطالع، بقد يزرى على الغصون، ودل وشكل، فما تمالكت عند رؤيتها أن نهضت فقالت: مرحباً بك من زائر أتى، وليست تلك عادته. وجلست ورفعت مجلس عن الموضع الذي كنت فيه. فقالت: كيف كان ذا والله لي ولك، ولا علم كان وقع لي، فما السبب؟ قال: قلت: انصرفت من عند بعض إخواني وظننت أني على وقت، فخرجت في وقت ضيق وأخذني البول، فأخذت إلى هذا الطريق، فعدلت إلى هذا الزقاق، فوجدت زنبيلاً معلقاً، فحملني النبيذ على أن جلست فيه، فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه، وإن كان صواباً فوالله ألهمنيه. قالت: لا ضير إن شاء الله، وأرجوا أن تحمد عواقب أمرك، فما صناعتك؟ قلت: بزاز. قالت: وأين مولدك؟ قلت: بغداد. قالت: ومن أي الناس أنت؟ قلت: من أفنائهم وأوساطهم. قالت: حياك الله وقرب دارك، فهل رويت من الأشعار شيئاً؟ قلت: شيئاً يسيراً. قالت: فذاكرنا بشيء مما حفظت. قلت: جعلت فداك إن للداخل دهشة، وفي انقباض، ولكن تبتدئي بشيء من ذلك، فالشيء يأتي بالمذاكرة. قالت: لعمري لقد صدقت، فهل تحفظ لفلان قصيدته التي يقول فيها كذا وكذا؟ ثم أنشدتني لجماعة من الشعراء القدماء والمحدثين من أحسن أشعارهم، وأجود أقاويلهم، وأنا مستمع أنظر من أي أحوالها أعجب: من ضبطها، أم من حسن لفظها، أم من حسن أدبها، أم من حسن جودة ضبطها للغريب، أم من اقتدارها على النحو معرفة أوزان الشعر؟ ثم قالت: أرجو أن يكون ذهب عنك بعض ما كان من الحصر والانقباض والحشمة. فقلت: إن شاء الله، لقد كان ذلك. قالت: فإن رأيت أن تنشدنا من بعض ما تحفظ فافعل. قال: فاندفعت أنشد لجماعة من الشعراء، فاستحسنت نشيدي، وأقبلت تسألني عن أشياء تمر في شعري كالمختبرة لي، وأنا أجيبها بما أعرف في ذلك، وهي مصغية إلي، ومستحسنة لما آتي به، حتى إذا أتيت على ما فيه مقنع قالت: والله ما قصرت، وما توهمت فيك ما ألفيت، وما رأيت في أبناء التجار وأبناء السوقة مثل ما معك، فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟ قلت: قد نظرت في شيء من ذلك. فقالت: يا جارية أحضرينا ما عندك. فما غابت عنا شيئاً حتى قدمت إلينا مائدة لطيفة، قد جمع عليها غرائب الطعام السري، فقالت: إن الممالحة أول الرضاع، فدونك. فتقدمت، فأقبلت أعتذر بعض الاعتذار وهي مع ذلك تحثني وتضع بين يدي، وإن لمتقسم القلب لما أرى من ظرفها

وعقلها، وحسن خفرها، وكثرة أدبها، حتى رفعت المائدة، وأحضرت آنية النبيذ، فوضعت بين يدي صينية وقنينة وقدح ومغسل، وبين يديها مثل ذلك، وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه ما لم أره اجتمع لأحد، إلا لولي عهد أو سلطان؛ قد عبئ أحسن تعبئة، وهيء بأحسن تهيئة. وحسن خفرها، وكثرة أدبها، حتى رفعت المائدة، وأحضرت آنية النبيذ، فوضعت بين يدي صينية وقنينة وقدح ومغسل، وبين يديها مثل ذلك، وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه ما لم أره اجتمع لأحد، إلا لولي عهد أو سلطان؛ قد عبئ أحسن تعبئة، وهيء بأحسن تهيئة.
قال إسحاق: فتثاقلت عن الشرب لتكون هي التي تبتدئ. فقالت: ما لي أراك متوقفاً عن الشرب؟ قلت: انتظاراً لك. جعلت فداك. فسكبت قدحاً فشربت ثم سكبت قدحا آخر فشرب، ثم قالت: هذا أوان المذاكرة فإن المذاكرة بالأخبار وذكر أيام الناس مما يطرب. قلت: لعمري أن هذا لمن أوقاته. فاندفعت فقلت: بلغني أنه كان كذا وكذا، وكان رجل من الملوك يقال له فلان بن فلان، وكان من قصته كذا وكذا، حتى مررت بعد أخبار حسان من أخبار الملك وما لا يتحدث به إلا عند ملك أو خليفة، فسرت بذلك سروراً شديداً، ثم قالت: والله لقد حدثتني بأحاديث حسان، ولقد كثر تعجبي من أن يكون أحد من التجار يحفظ مثلها، وإنما هي من أحاديث الملوك، وما لا يتحدث به إلا عن ملك أو خليفة. فقلت لها: جعلت فداك، إنه كان لي جار ينادم بعض الملوك، وكان حسن المعرفة، كثير الحفظ، فكان ربما تعطل عن نوبته التي كان يذهب فيها إلى دار صاحبه لشغل يمنعه من ذلك، أو لأمر يقطع، فأمضي إليه، وأعزم عليه وأصير به إلى منزلي، فربما أخبرني من هذه الأحاديث شيئاً، إلى أن صرت من خاصة أخدانه، وممن كان لا يفارقه. ما سمعت مني فمنه أخذته، وعنه استفدته. فقالت: يجب أن يكون هذا كذا. ولعمري لقد حفظت فأحسنت الحفظ، وما هذا إلا لقريحة جيدة، وطبع كريم.
قال إسحاق: وأخذنا في شيء من الشراب والمذاكرة ابتدئ الحديث فإذا فرغت ابتدأت هي في آخر أحسن به حتى قطعنا بذلك عامة الليل، والند والعود وفائق البخور في المجلس يجدد ويسجر، وأنا في حالة لو توهمها المأمون وتأملها لاستطار فرحاً وسروراً. ثم قالت لي: يا أبا فلان - وكنت قد غيرت عليها اسمي وكنيتي - والله إني لأراك كاملاً، وفي الرجال فاضلاًن وإنك لوضئ الوجه، مليح الشكل، بارع الأدب، وما كان بقي عليك إلا شيء واحد حتى تكون قد برعت وبرزت. فقلت: وما هو يا سيدتي دفع الله عنك الأسواء؟ قالت: لو كنت تحرك بعض الملاهي، أو تترنم ببعض الأشعار. فقلت: والله لقدماً اشتهيته، وطالما كلفت به، وحرصت عليه، فلم أرزقه، ولا وجدتني ممن تعلق بشيء منه، فلما طال عنائي به، وكلما تقدمت في طلبه كنت منه أبعد وعنه أذهب، تركته وأعرضت عنه، وإن في قلبي من ذلك لحرقة وحرارة، وإني لمستهتر به مائل إليه، وما أكره أن أسمع في مجلسي هذا من جيده شيئاً لتكمل ليلتي، ويطيب عيشي. قالت: كأنك قد عرضت بنا. فقلت: لا والله، ما هو تعريض، ولا هو إلا تصريح، وقد بدأت بالفضل، وأنت حرية باستتمام ما بدأت به، فقالت: يا جارية، عود. فأحضرت العود فأخذته، فما هو إلا أن جسته حتى ظننت أن الدار قد سارت بي وبمن فيها، واندفعت تغني بصوت ما ظننت أحداً يغني به، مع صحة إيماء، وجودة ضرب، فقلت: والله لقد أكمل الله فيك خلال الفضل، وحباك بالكمال الرائع، والعقل الوافر، والأخلاق المرضية، والأفعال السنية فقالت: هل تعرف لمن هذا الصوت، ومن غنى به؟ فقلت: لا والله. قالت: الغناء لفلان، والشعر لفلان، وكان من سببه كذا وكذا. فقلت: هذا والله أحسن من الغناء. فلم تزل تلك حالها في كل صوت تغنيه، وهي مع ذلك تشرب وأشرب حتى إذا كان عند انشقاق الفجر أو قبله جاءت عجوز كأنها داية لها، فقالت: أي بنية، إن الوقت قد حضر، فإذا شئت فانهضي.

قال: فلما سمعت مقالها نهضت فقالت: عزمت؟ قلت: إي والله. فقالت: مصاحباً، عليك بستر ما كنت فيه، فإن المجالس بالأمانة. فقلت: جعلت فداك، أو أحتاج إلى وصية في ذلك؟ فودعتها، وودعتني، وقالت: يا جارية، بين يديه. فأتي بي باب في ناحية الدار، ففتح لي وخرجت منه إلى طريق مختصرة، وبادرت البيت، فصليت الصبح ووضعت رأسي، فما انتبهت إلا برسل الخليفة على الباب، فقمت وقد أسرج لي، فركبت إلى الدار، فسرت إليه فلما مثلت بين يدي المأمون، قال لي: يا إسحاق، جفوناك ما كنا ضمناه لك، وتشاغلنا عنك. فقلت: يا سيدي، ليس شيء آثر عندي ولا أسر إلا قلبي من سرور يدخل على أمير المؤمنين، فإذا كمل سروره وطاب عيشه، فعيشنا طيب وسرورنا بسروره متصل. ثم قال: ما كانت حالك؟ قلت: يا سيدي، كنت قد اشتريت صبية من السوق، وكنت معلق القلب بها، فلما تشاغل أمير المؤمنين أطال الله بقاء، وخلوت وقد كانت في بقية، طالبتني نفسي بها، فمضيت مسرعاً فأحضرتها وأحضرت نبيذاً، فسقيتها وشربت معها، وغلب علي السكر، فقطعني عما أردت، وذهب بي النوم إلى أن أصبحت. فقال: لي: ما أكثر ما يتهيأ على الناس من هذا، فهل لك في مثل ما كنا فيه أمس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، وهل أحد يمتنع من ذلك؟ قال: فإذا شئت. فنهض ونهضت، فصرنا إلى المجلس الذي كنا فيه بالأمس، على مثل حالنا تلك وأفضل، حتى إذا كان في الوقت وثب قائماً، فقال: يا إسحاق، لا ترم فإني أجيئك، وقد عزمت على الصبحة، فما هو إلا أن توارى عني حتى ضرب بي، وتأملت ما كنت فيه فإذا هو شيء لا يصبر عنه غلا جاهل ولو بزوال نعمته. قال: فنهضت فقال لي الغلمان: الله الله، فإن البارحة قد أنكر علينا نخليتك، وطالبنا بك، وقال: لم تركتموه؟ ولا نحسبك إلا تحب الإيقاع بنا. فقلت: والله لا نال أحدكم بسببي مكروه أبداً، ولكن أبادر الحاجة، والله لا كان لي حبس ولا لبث، وأمير المؤمنين أطال الله بقاءه إذا دخل أبطأ، وأنا موافيكم قبل خروجه إن شاء الله. قال: فنهضت، فما شعرت إلا وأنا في الزقاق، فوافيت الزنبيل على ما كان عليه، فقعدت فيه، وصعدت، وصرت إلى الموضع الذي أعرف، فلم ألبث إلا هنيهة وإذا بها قد طلعت، فقالت: ضيفنا؟ قلت: إي والله. قالت: أو قد عاودت؟ قلت: نعم، ولا أظن إلاأني قد ثقلت. فقالت: مادح نفسه يقرئك السلام. فقلت: هفوة، فمني بالصفح. قالت: قد فعلنا فلا تعد. قلت: إن شاء الله. قال: ثم جلسنا وأخذنا فيما كنا فيه من المذاكرة والإنشاد وأحضرنا النبيذ، ولم نزل على تلك الحال وأفضل، وقد أنست وانبسطت بعض الانبساط، وهي مع ذلك لا تزال تقول لي: أوه، لو كنت الآن على ما أنت عليه وأحكمت من تلك الصنعة شيئاً، لقد تناهيت وبرعت. فقلت: والله لقد حرصت على ذلك وجهدت فيه فما رزقته، ولا قدرت عليه. ثم قلت: يا جعلت فداك، لا تخلينا مما كان من فضلك البارحة، لا تخلينا منه. فتأخذ في الأغاني، وكلما مر صوت حسن طيب وجيد بالغ قالت: يا فتى، أتدري لمن هذا؟ فأقول: لا. فتقول: لإسحاق. فأقول وإسحاق هكذا جعلت فداك في الحذق؟ فتقول: بخ، إسحاق تاريخ هذا الشأن بديع الصوت، وعتيق الغناء! فأقول: سبحانك الله، لقد أعطى إسحاق ما لم يعطه أحد. فتقول: ولو سمعت هذا منه لكنت أشد استحساناً له، وبه أشد كلفاً. حتى إذا كان الوقت، وجاءت العجوز نهضت وودعتها، وبادرت بين يدي جارية ففتحت الباب، فخرجت منه. وبادرت المنزل، فتوضأت للصلاة وصليت الصبح، ووضعت رأسي فنمت، فما انتبهت إلا برسل الخليفة يطلبونني، فقمت وقد أسرج لي فركبت إلى الدار، فما هو إلا أن مثلت بين يدي المأمون حتى قال: يا إسحاق أبيت إلا مكافأة لنا، ومعاملة بمثل ما استعملناه معك! قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ما إلى ذلك ذهبت، ولا إليه قصدت، ولكني ظننت أن يكون أمير المؤمنين قد تشاغل عني بلذته، وأغفل أمري. وجاءني الشيطان فأذكرني أمر الجارية فبادرت إلى البيت. قال: وكان من أمرك ماذا؟ قلت: قضيت الحاجة. وفرغ الأمر. فقال: قد انقضى ما كان بقلبك منها، وواحدة بواحدة، والبادي أظلم. فقلت: بل أنا يا أمير المؤمنين ألوم وأظلم، وإليك المعذرة. فقال: لا تثريب عليك، هل لك في مثل حالنا الأول؟ قلت: إي والله. قال: فانهض بنا. وقام وقمت، حتى إذا صرنا إلى الموضع الذي كنا فيه أخذنا في لذتنا وشربنا، حتى إذا كان في الوقت قال لي: يا

إسحاق، ما عزمك؟ قتل: لا عزم لي يا أمير المؤمنين. قال: فعزمت إليك لتجلسن حتى أخرج إليك لنصطبح، فإني عازم على الصبوح، وقد نغصت علي ذلك مذ يومان. قلت: فالليلة إن شاء الله. وطرحت الستارات ودخل إلى الحرم، فما هو إلا أن توارى عني حتى ضرب بي وقمت وقعدت، وجالت وساوسي، وجعل أفكر في مجلس معها ومكانها ومحادثتها والنظر إليها، وفي الخروج عن طاعة المأمون، وما يلحقني في ذلك من سخطه وموجدته، فيسهل علي كل صعب إذا فكرت في أمرها. قال: فوثبت مبادراً، فاجتمع علي جند الدار، فقالوا لي: أين تريد؟ فقلت: الله، فإن لي قصة، وأنا معلق القلب ببعض من في منزلي، وأحتاج إلى مطالعتهم في بعض الأمر. فقالوا: ليس إلى تركك من سبيل. قال: فلم أزل أرفق بهذا، وأطلب إلى هذا، وأقبل رأس هذا، ووهبت خاتمي لواحد، وردائي لآخر، حتى تركوني، فلما خرجت عن جملتهم وأنا لا أصدق فلم أزل أعدوا حاسراً، حتى وافيت الزنبيل فجلست فيه، وصعدت السطح، وصرت إلى الموضع، وأقبل على مثل حالتها تلك، فلما رأتني قالت: ضيفنا؟ قلت: إيهاً لله. قالت: جعلتها دار مقام؟ قلت: جعلت فداك حق الضيافة ثلاث، ثم إن رجعت بعدها فأنت في حل من دمي. قالت: والله لقد أتيت بحجة. قال: ثم جلسنا، فأخذنا في مثل حالنا الأول من الشرب والإنشاد والمذاكرة والمحادثة والغناء حتى إذا علمت أن الوقت قد قارب فكرت في قضيتي، وعلمت أن المأمون لا يقارني على هذا، وأني لا أتخلص منه إلا بأن أشرح له قصتي، وأكشف له عن حالي، وعلمت أني إن قلت له ذلك طالبني بمعرفة الموضع والمسير به إليه، مع ما كان غلب عليه من الميل إلى النساء، والاستهتار بهن. فقلت لها: أتأذنين في ذكر شيء خطر ببالي؟ قالت: قل ما بدا لك. قلت: جعلت فداك، إني أراك ممن يقول بالغناء، ويعجب به وبالأدب، ولي ابن عم هو أحسن مني وجهاً، وأظرف قداً، وأكثر أدباً، وأغزر معرفة، وإنما أنا تلميذ من تلاميذه، وحسنة من حسناته، وهو أعرف الناس بغناء إسحاق وأحفظهم له. قالت: " طفيلي ويقترح " ، لم ترض أن أتيتنا ثلاثة أيام، حتى احتجت أن تأتي معك بآخر. فقلت لها: جعلت فداك، ذكرته لتكوني أنت المحكمة، فإن أذنت وأردت ذلك، وإلا فلا إكراه. قالت: فإن كان ابن عمك هذا على ما ذكرت فما نكره أن نعرفه ونشاهده. فقلت: هو والله على أكثر مما وصفت. قالت: فإذا شئت. قلت: فالليلة. قالت: والليلة. ثم حضر الوقت فنهضت وصرت إلى البيت، فما وصلت حتى وافيت منزلي قد هجم عليه، وإذا برسل الخليفة وأصحاب الشرط قد ركبوا إلى بابي، فلما بصروا بي سحبت سحباً على حالتي تلك، حتى انتهوا بي إلى الدار، فإذا المأمون جالس وسط الدار على كرسي، وإذا هو مغتاط حرد، فقال: يا إسحاق، أخروجاً عن الطاعة؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: فما قصتك وما الذي أظهر ما أرى من الانحراف، وكثرة الخلاف؟ فاصدقني حالك. قلت: يا أمير المؤمنين، إنه كانت لي قصة أحتاج فيها إلى خلوة. فأومأ إلى من كان واقفاً بين يديه فتنحوا، حتى إذا خلونا قلت: كان من خبري كيت وكيت، وفعلت وصنعت ورأيت كذا. فوالله ما فرغت من حديثها حتى قال: يا إسحاق، أتدري ما تقول؟ فقلت: إي والله، إني لأدري. فقال: ويحك، فكيف لي بمشاهدة ما شاهدت؟ قلت: ما إلى ذلك من سبيل. قال: والله لا بد تلطف لي وتوصلني إليها، فهذا ما لا صبر لعاقل عنه. قلت: إي والله، قد تفكرت في قصتي وفيما قدمت عليه من عصيانك، وعلمت أنه لا ينجيني إلا الصدق والكشف الحال، وعلمت أنك تطالبني به أشد المطالبة، فقدمت إليها ذكراً من ذلك، وقلت لها كيت وكيت، ووعدتها في أمرك كذا وكذا. قال: قد والله أحسنت، ولولا ذلك لنلتك بكل مكروه. قلت: فالحمد لله الذي سلم. قال: ثم نهض ونهضت حتى صرنا إلى مجلسنا، وأخذنا في لذتنا وشربنا، وهو مع ذلك يقول: يا إسحاق، حدثني عنها، وصف لي حالها، واشرح لي أمرها. فوالله ما قطعنا يومنا ذلك إلا بذكرها، وما وصلنا إلى آخر النهار إلا والمأمون لا يصدق من شدة تعلق قلبه بها، وبما قربت عنده من حالها، حتى إذا كان بعد هدأة من الليل وهو يقول في كل ساعة: ما جاء الوقت؟ وأنا أقول: بقي قليل، والسعة. والقلق غالب عليه، حتى إذا جاء الوقت نهضنا فخرجنا من بعض أبواب القصر، ومعنا غلام، وهو على حمار وأنا على حمار. فلما صرنا بالقرب من منزلها نزلنا ثم قلنا للغلام: يجب أن تظهر

بري بحضرتها وإكرامي، وتطرح نخوة الخلافة، وتجبر الملك، وكن كأنك تبع لي. وهو يقول: نعم، أوترى أني أجهل وتحتاج إلى أن توصيني؟ قال لي: ويحك يا إسحاق، فإن قالت لي: عن، فكيف أصنع؟ قال: قلت: أنا أكفيك وأدفعها عن ذلك، وأصدها برفق وحسن مس. ثم صرنا إلى الزقاق، فإذا بزنبيلين معلقين بثمانية أحبل. فقعد في واحد وقعدت في آخر، ثم جذب الجواري وإذا نحن في السطح وبادرن بين أيدينا حتى انتهين بنا إلى المجلس. قال: فأقبل المأمون يتأمل الفرش والدار والزي، ويعجب بذلك إعجاباً شديداً، وقعدت في موضعي الذي كنت أقعد فيه، وقعد المأمون دوني في المرتبة. ثم أقبلت فسلمت، فما تمالك أن نظر إليها فبهت من حسنها، فقالت: حيا الله ضيفنا بالسلام، والله ما أنصفت ابن عمك، ألا رفعت مجلسه؟ فقلت: ذلك إليك جعلت فداءك. فقالت: ارتفع فديتك، فأنت جديد، وهذا قد صار من أهل البيت ولكل جديد لذة فنهض المأمون حتى قعد في صدر المجلس، ثم أقبلت عليه تذاكره وتناشده وتمازحه، وهو آخذ معها في كل فن، فكستها وأفحمها. قال: فالتفتت إلي وقالت: وفيت بوعدك، وصدقت في قولك، ووجب شكرك على صنيعك. قال: ثم أحضرنا النبيذ وأخذنا في الشراب، وهي مع ذلك مقبلة عليه، وهو مقبل عليها، ومسرورة به ومسرور بها. قال: فالتفتت إلي فقالت: وابن عمك هذا من أبناء التجار؟ قلت لها: نعم، فديتك، نحن لا نعرف إلا التجارة. قالت: وإنكما فيها لغريبان. ثم قالت: موعدك. فقلت: لعمري إنه ليجب، ولكن حتى يسمع شيئاً. قال: وذاك. وأخذت العود، وغنت صوتاً، فشربنا عليه رطلاً، ثم غنت بصوت كان المأمون يقترحه علي، فشربنا عليه رطلاً، قال: فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال وغلب عليه الفرح، وتداخله السرور وارتاح وطرب، قال: يا إسحاق، فوالله لقد رأيته نظر إلي نظر الأسد إلى فريسته، فنهضت وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: غنني هذا الصوت. فلما رأتني أخذت العود ووقف بين يديه أغنيه، علمت أنه الخليفة وأني إسحاق. فنهضت وقال: ها هنا. وأومأ إلى كل مضروبة فدخلتها ثم فرغت من ذلك الصوت وشرب رطلاً وقال لي: ويحك يا إسحاق؛ انظر هذه الدار ومن ربها؟ فخرجت فلقيت تلك العجوز، فقلت لها: من صاحب المنزل؟ ومن مولاكم؟ قالت: الحسن بن سهل. قلت: ومن هذه منه؟ قالت: ابنته بوران. فرجعت وأعلمته فقال: علي به الساعة. قال: فقلت لها: امضي فأحضريه وأعلميه أن أمير المؤمنين يطلبه. قال: فغابت عني هنيهة ثم جاءت وهو في إثرها فوقف بين يديه فقال: ألك بنت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أزوجتها؟ قال: لا والله. قال: وما اسمها؟ قال: بوران. قال: فإني أخطبها إليك. قال: هي يا أمير المؤمنين أمتك، وأمرها إليك. قال: فإني قد زوجتها على نقد ثلاثين ألف دينار نحملها إليك في صبيحة ليلتنا هذه، فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتها. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ثم نهض وفتح لنا الباب وخرجنا، فلما صرنا إلى الدار قال: يا إسحاق، لا يقفن أحد على ما وقفت عليه، فإن المجالس بالأمانة. قلت: يا أمير المؤمنين، ومثلي يحتاج إلى وصية بهذا الأمر.بحضرتها وإكرامي، وتطرح نخوة الخلافة، وتجبر الملك، وكن كأنك تبع لي. وهو يقول: نعم، أوترى أني أجهل وتحتاج إلى أن توصيني؟ قال لي: ويحك يا إسحاق، فإن قالت لي: عن، فكيف أصنع؟ قال: قلت: أنا أكفيك وأدفعها عن ذلك، وأصدها برفق وحسن مس. ثم صرنا إلى الزقاق، فإذا بزنبيلين معلقين بثمانية أحبل. فقعد في واحد وقعدت في آخر، ثم جذب الجواري وإذا نحن في السطح وبادرن بين أيدينا حتى انتهين بنا إلى المجلس. قال: فأقبل المأمون يتأمل الفرش والدار والزي، ويعجب بذلك إعجاباً شديداً، وقعدت في موضعي الذي كنت أقعد فيه، وقعد المأمون دوني في المرتبة. ثم أقبلت فسلمت، فما تمالك أن نظر إليها فبهت من حسنها، فقالت: حيا الله ضيفنا بالسلام، والله ما أنصفت ابن عمك، ألا رفعت مجلسه؟ فقلت: ذلك إليك جعلت فداءك. فقالت: ارتفع فديتك، فأنت جديد، وهذا قد صار من أهل البيت ولكل جديد لذة فنهض المأمون حتى قعد في صدر المجلس، ثم أقبلت عليه تذاكره وتناشده وتمازحه، وهو آخذ معها في كل فن، فكستها وأفحمها. قال: فالتفتت إلي وقالت: وفيت بوعدك، وصدقت في قولك، ووجب شكرك على صنيعك. قال: ثم أحضرنا النبيذ وأخذنا في الشراب، وهي مع ذلك مقبلة عليه، وهو مقبل عليها، ومسرورة به ومسرور بها. قال: فالتفتت إلي فقالت: وابن عمك هذا من أبناء التجار؟ قلت لها: نعم، فديتك، نحن لا نعرف إلا التجارة. قالت: وإنكما فيها لغريبان. ثم قالت: موعدك. فقلت: لعمري إنه ليجب، ولكن حتى يسمع شيئاً. قال: وذاك. وأخذت العود، وغنت صوتاً، فشربنا عليه رطلاً، ثم غنت بصوت كان المأمون يقترحه علي، فشربنا عليه رطلاً، قال: فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال وغلب عليه الفرح، وتداخله السرور وارتاح وطرب، قال: يا إسحاق، فوالله لقد رأيته نظر إلي نظر الأسد إلى فريسته، فنهضت وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: غنني هذا الصوت. فلما رأتني أخذت العود ووقف بين يديه أغنيه، علمت أنه الخليفة وأني إسحاق. فنهضت وقال: ها هنا. وأومأ إلى كل مضروبة فدخلتها ثم فرغت من ذلك الصوت وشرب رطلاً وقال لي: ويحك يا إسحاق؛ انظر هذه الدار ومن ربها؟ فخرجت فلقيت تلك العجوز، فقلت لها: من صاحب المنزل؟ ومن مولاكم؟ قالت: الحسن بن سهل. قلت: ومن هذه منه؟ قالت: ابنته بوران. فرجعت وأعلمته فقال: علي به الساعة. قال: فقلت لها: امضي فأحضريه وأعلميه أن أمير المؤمنين يطلبه. قال: فغابت عني هنيهة ثم جاءت وهو في إثرها فوقف بين يديه فقال: ألك بنت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أزوجتها؟ قال: لا والله. قال: وما اسمها؟ قال: بوران. قال: فإني أخطبها إليك. قال: هي يا أمير المؤمنين أمتك، وأمرها إليك. قال: فإني قد زوجتها على نقد ثلاثين ألف دينار نحملها إليك في صبيحة ليلتنا هذه، فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتها. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ثم نهض وفتح لنا الباب وخرجنا، فلما صرنا إلى الدار قال: يا إسحاق، لا يقفن أحد على ما وقفت عليه، فإن المجالس بالأمانة. قلت: يا أمير المؤمنين، ومثلي يحتاج إلى وصية بهذا الأمر.

قال إسحاق: فما أصبحنا حتى أمر بحمل المال، ونقلت إليه من يومها، وكانت أحظى نسائه عنده وآثرهن لديه. وأقمت أستر هذا الحديث إلى أن مات المأمون، فما اجتمع لأحد ما اجتمع لي في تلك الأربعة الأيام التي كنت أنصرف من مجلس أمير المؤمنين في خلافته إلى مجلسها. ووالله ما رأيت من الرجال في ملوكهم ولا خلفائهم ولا سوقهم أحداً يفي بالمأمون، ولا شاهدت من النساء امرأة تقاربها فهماً وعقلاً، وحلاوة وشكلاً، وأما معرفتها وأدبها فما أظن أن في الأرض امرأة كان يتهيأ لها أن تقف من العلوم على مثل ما وقفت عليه. ولقد سألت بعض من كان يتولى خدمتها من عجائزها فقلت لها: وما حملها على ما أرى؟ فقالت: والله إنها لتفعل هذا منذ كذا وكذا سنة. ولقد عاشرة من الظرفاء والأدباء والملاح أكثر من أن يقع عليه إحصاء، وما جرى بينها وبين أحد مكروه ولا خناً، ولا لفظة قبيحة، ولم يكن مذهبها في ذلك إلا حب الأدب والمذاكرة لأهله، والمعاشرة لأهل المروءة والأقدار، وذوي النبل والأخطار لا لريبة تظهر، ولا لحالة تنكر.
قال: فوالله لقد تضاعف قدرها عندي، وعظم خطرها في نفسي، وعلمت شرف همتها وفضلها.
فهذا خبر بوران صحيحاً على الحقيقة، والسبب الذي تزوجها المأمون به.
قال هشام بن الكلبي والهيثم بن عدي: إن ناساً من بني حنيفة خرجوا يتنزهون إلى جبل لهم، فرأى فتى منهم في طريقه جارية، فرمقها فقال لأصحابه: لا أنصرف والله حتى أرسل إليها وأخبرها بحبي لها. فطلبوا إليه أن يكف عن ذلك فأبى أن يكف، وأقبل يراسل الجارية، وتمكن حبها من قلبه، فانصرف أصحابه، وأقام الفتى في ذلك الجبل، فمضى ليلة متقلداً سيفاً وهي بين أخوين لها نائمة، فأيقظها فقالت: انصرف لا ينتبه أخواي فيقتلانك. فقال: الموت والله أهون مما أنا فيه، ولكن إن أعطيتني يدك حتى أضعها على قلبي انصرفت. فأعطته يدها، فوضعها على قلبه وصدره وانصرف.
فلما كانت الليلة الثانية أتاها وهي على مثل تلك الحال فأيقظها، فقالت له مثل مقالها الأول، فقال: لك الله إن أمكنتني من شفتيك أرشفهما أن أنصرف. فأمكنته فرشفهما ساعة ثم انصرف، فوقع في قلبها من حبه مثل الذي كان بقلبه منها وفشا خبرهما في الحي، فقال أهل الجارية: ما مقام هذا الفاسق في هذا الجبل؟ امضوا بنا إليه حتى نخرجه منه. فبعثت إليه الجارية آخر النهار: إن القوم سيأتونك الليلة فاحذر على نفسك. فلما أمسى قعد على مرقب ومعه قوسه وسهمه، ووقع بالحي في بعض الليل مطر، فاشتغلوا عنه، فما كان في آخر الليل وانقشع السحاب وطلع القمر، اشتاقت إليه الجارية، فخرجت تريده، ومعها صاحبة لها من الحي كانت تثق بها، فنظر الفتى إليهما فظن أنهما ممن يطلبه، فرمى فما أخطأ قلب الجارية، فوقعت ميتة وصاحت الأخرى ورجعت. وانحدر الفتى من الجبل فإذا الجارية ميتة، فقال:
نعب الغراب بما كره ... ت ولا إزالة للقدر
تبكي وأنت قتلتها ... فاصبر وإلا فانتحر
ثم وجأ بمشاقصه أوداجه حتى مات، فجاء أهل المرأة فوجدوهما ميتين فدفنوهما في قبر واحد.

باب اللغز
كانت في أبي عطاء السندي لثغة قبيحة فاجتمع يوماً في مجلس بالكوفة حماد الراوية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وبكر بن مصعب، فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما بقي شيء إلا قد تهيأ في مجلسنا هذا، فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي. فأرسلوا إليه، فأقبل يقول: مرهبا مرهبا، هياكم الله. وقد كان قال أحدهم: من يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة وزج وشيطان. فقال حماد الراوية: أنا. فقال: يا أبا عطاء، كيف علمك باللغز؟ قال: هسن - يريد حسن - فقال له:
فما صفراء تكنى أم عوف ... كأن سويقتها منجلان
قال: زرادة. فقال: أصبت. ثم قال:
أتعرف مسجداً لبني تميم ... فويق الميل دون بني أبان
قال: هو في بني سيتان، قال: أصبت. ثم قال:
فما اسم حديدة في الرمح تمسى ... دوين الصدر ليست بالسنان
فقال: زز. فقال: أصبت.
وقال المأمون يصف خاتماً:
وأبيض أما جسمه فمدور ... نقي وأما رأسه فمعار
ولم يكتسب إلا لتسكن وسطه ... مؤنثة لم تكس قط خمار
لها أخوات أربع هن مثلها ... ولكنها الصغرى وهن كبار
وقال آخر في أرنب:

لهوت بذات رأس ذي التياث ... كرفع الإصبعين على الثلاث
إذا السبابة ارتفعت مع الخن ... صر اجتمع الثلاث بلا انتكاث
لهوت بها تطير بلا جناح ... وتنسب في الذكور وفي الإناث
وقال:
رب ثور رأيت في جحر نمل ... وقطاة تحمل الأثقالا
ونسور تمشي بغير رؤوس ... لا ولا ريش تحمل الأبطالا
وعجوز رأيت في بطن كلب ... جعل الكلب للأمير جمالا
وغلام رأيته صار كلباً ... ثم من بعد ذاك صار غزالا
وأتان رأيت واردة الما ... ء زماناً وما تذوق بلالا
وعقاب تطير من غير ريش ... وعقاب مقيمة أحوالها
الثور: النمل الذي يخرج من التراب من الجحر العظيم بفيه. والقطاة: موضع الردف من الفرس. والنسور: بطون الحوافر. والعجوز: السيف. وبطن الكلب: الجلد الذي يعمل منه غمد السيف. وصار كلباً: ضم كلباً، أخذه من صار يصور، من قول الله عز وجل " فصرهن إليك " . والأتان: الصخرة. والعقاب التي تطير من غير ريش: البكرة. والمقيمة أحوالاً: اللواء.
وقال آخر في البيضة:
ألا قل لأهل الرأي والعلم والأدب ... وكل بصير بالأمور أخي أرب
ألا أخبروني أي شيء رأيتم ... من الطير في أرض الأعاجم والعرب
قديم حديث وهو باد وحاضر ... يصاد بلا صيد وإن جد في الطلب
ويؤكل أحياناً طبيخاً وتارة ... قلياً ومشوياً إذا دس في اللهب
وليس له لحم وليس له دم ... وليس له عظم وليس له عصب
وليس له رجل وليس له يد ... وليس له رأس وليس له ذنب
ولا هو حي لا ولا هو ميت ... ألا خبروني إذا هذا هو العجب
وقال آخر:
إني رأيت عجوزً بين حاجبها ... ونابها حبشي قائم رجل
له ثلاثون عيناً بين مرفقه ... وبين عاتقه في رجله قزل
في ظهره حية حمراء قانية ... في ظهرها رجل في ظهره رجل
العجوز: الناقة. والحبشي الذي بين حاجبها ونابها: الأسود الحابس بالخطام. وقوله: له ثلاثون عيناً بين عاتقه وبين مرفقه: مثاقيل كانت مصورة في عضده. وقوله: في ظهره حية حمراء قانية: كان عليه برنس فيه تصاوير بعضها داخل في بعض.
وقال آخر في القلم:
فلا هو يمشي لا ولا هو مقعد ... وما إن له رأس ولا كف لامس
ولا هو حي لا ولا هو ميت ... ولكنه شخص يرى في المجالس
يزيد على سم الأفاعي لعابه ... يدب دبيباً في الدجى والحنادس
يفرق أوصالاً بصمت يجيبه ... وتفرى به الأوداج تحت القلانس
إذا ما رأته العين تحقر شأنه ... وهيهات يبدو النقس عند الكرداس
وقال آخر فيه:
ضئيل الرواء كبير الغناء ... من البحر في المنصب الأخضر
عليه كهيئة مر الشجا ... ع في دعص محنية أعفر
إذا رأسه صح لم ينبعث ... وحار السبيل ولم يبصر
وإن مدية صدعت رأسه ... جرى جري لا هائب مقصر
يقضي لبانته مقبلاً ... ويحسمها هيئة المزبر
جريء بكف فتى كفه ... تسوق الثراء إلى المقتر

أبيات من الشعر المحدث
ماء النعيم بوجهه متحير ... والصدغ منه كعطفة للراء
وكأنما نهكت قوى أجفانه ... بالراح أو قد شيب بالإغفاء
لو باشر الماء القراح بكفه ... لجرت أنامله بنبع الماء
وقال المؤمل:
عجبن لمن يطيبني بمسك
خلاخيل النساء لها وجيب
ولو أن النساء غنين يوماً
لأصبح كل عطار فقيراً

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16