كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

فَيُرْحَم تاراتٍ وَبُحْسَدُ تارةً ... فذا شرُّ مَرْحُوم وَشرُّ مُحَسَّد

القول في الملوك
الأصمعِيّ قال: بَلغني أنت الحسن قال: يابن آدم، أنتَ أسيرُ الجُوع، صرَيع الشِّبع، إنّ قوماَ لَبِسوا هذه المَطَارفَ العِتاق، وِالعَمائم الرقاق، وَوسَعوا دُورَهم وَضيَّقوا قُبورهم، وأسْمَنوا دوابَّهم، وأهزَلوا دِيَبهم، يَتّكِىء أحدُهم على شِماله، ويأكل " مِن " غير مالِه، " فإذا أدركته الكِظّة " قال: يا جارية، هاتي هاضُومَك، ويلك! وهل تَهْضم إلا دينَك. يحيى بنُ يحيى قال: جَلسِ مالكٌ يوماً فأطرقَ مليّا، ثم رَفع رأسَه فقال: يا حَسْرةً على المُلوِك، لأنهم تُركوا في نعِيم دُنياهم، وماتُوا قبل أن يَموتوا حُزْناً على ما خلَفوا، وجَزَعاً مما استقبلوا.
وقال الحسن، وذُكِر عنده الملوك: أما إنّهم وإنْ هَمْلَجت بهم البِغال، وأطافت بهم الرِّجال، وتعاقبت لهم الأموال، إنِّ ذُلَّ المَعْصِية في قُلوبهم، أبَى الله إلا أن يُذِلَّ مَن عَصاه. الأصمعيًّ قال: خَطَب عبد الله بن الحسَن على مِنْبر البَصرة فأنشد على المِنبر:
أينَ المُلوك التي عَن حَظِّها غَفِلت ... حتى سَقاها بِكأْس المَوْت ساقِيها
بلاء المؤمن في الدنيا
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: المُؤمن كالخامَة من الزّرع تَمِيلٍ بها الرّيح مرة كذا ومرّة كذا، والكافر كالأرْزَة المُجْذية حتى يكون انجعافُها مرِّة. ومعنى هذا الحديث: تردُد الرزايا على المؤمن وتجافِيها عن الكافر ليزدادَ إثماَ. وقال وَهْب بنُ مُنَبِّه: قرأتُ في بعض الكُتب: إني لأذودُ عبادي المخْلصين عن نَعيم الدُّنيا كما يَذُود الرَّاعي الشَّفِيقُ إبلَه عن مَوارد الهَلَكة. وقال الفًضيل ابن عِيَاض: ألا ترَوْنَ كيف يُزْوِي الله الدنيا عمن يُحب من خلْقه ويمرمرها عليه مرَّةً بالجوع ومرَّة بالعُرْي ومرَّة بالحاجة، كما تصنع الأُمّ الشَّفيقة بولدها، تَفْطِمه بالصًبْرِ مرَّة، وبالحُضَض مرَّة، وإنما تُريد بذلك ما هو خيرٌ له.
" وفي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخبرني جبريل عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ما ابتليتُ عَبْدي ببليّة! نفسه أو ماله أو ولده فتلقّاها بِصَبْر جميل إلا استحييت يوم القيامة أن أرفَع له ميزاناً أو أنشر له ديواناً " .
كتمان البلاء إذا نزل
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من ابتلي ببَلاء فكَتَمَه ثلاثة أيام صَبْراً واحتساباً كان له أجرُ شهيد. وسَمِع الفُضَيْل بن عِيَاض رجلاً يشْكو بلاء نَزَل به، فقال: يا هذا، تشكو مَنْ يَرْحَمُك إلى من لا يَرْحمك. وقال: مَن شكا مُصِيبةً نزَلت به فكأنما شَكا ربَّه. وقال دُريد بن الصِّمة يَرْثي أخاه عبد الله بن الصِّمة:
قليلَ التَّشَكِّي للمصائب ذاكرًا ... من اليوم أَعقابَ الأحادِيث في غَدِ
وقال تأبَّطَ شرًّا:
قليلَ التشكِّي للمُلًمَ يصيبه ... كثيرَ النوَى شتى الهوى والمسالِكِ
الشيبَانيّ قال: أخبرني صَديقٌ لي قال: سَمِعَني شُريح وأنا أشْتَكي بعضَ ما غمني إلى صديق " لي " ، فأخذ بيدي وقال: يا بن أَخي، إياك والشَّكْوى إلى غير اللّه، فإنه لا يَخلو من تشكو إليه أن يكون صديقاً أو عدوًّا، فأما الصديق فتخْزُنه ولا يَنْفعك، وأما العدوّ فَيَشْمَت بك، انظُر إلى عيني هذه - وأشار إلى إحدى عَينيه - فواللّه ما أبصرت بها شخصاً ولا طريقاً منذُ خمسَ عشرةَ سنة، وما أخبرتُ بها أحداَ إلى هذه الغاية، أما سمعتَ قول العبد الصالح: " إنما أَشْكو بَثِّي وحُزْني إلى اللهّ " ، فاجعلْه مَشْكاك ومَفْزَعك عند كل نائبة تَنُوبك، فإنه أكرمُ مَسْئول، وأقربُ مدعوٍّ إليك. كتب عَقِيل إلى أخيه علي بن أبي طالب رضوانُ اللهّ عليهما يسألهُ عن حاله، فكتب إليه:
فإن تَسْأَلنِّي كيفَ أَنت فإنّني ... جَلِيدٌ على رَيْب الزَمان صَلِيبُ
عزيزٌ عليّ أنْ تُرَى بي كآبة ... فيَفْرَحَ وَاشٍ أَوْ يُسَاءَ حَبيب
وكان ابن شُبْرمة إذا نزلتْ به نازلةٌ قالت: سحابة " صَيْف عن قليل " تَقَشِّع.
وكان يُقال: أَرْبع من كُنوز الجنَّة: كِتْمان المُصيبة، وكِتمان الصَّدقة، وكِتمان الفاقة، وكِتمان الوَجَع.
القناعة

قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أصبح وأَمسى آمناً في سربه مُعَافي في بَدنه عنده قوتُ يومه كان كمن حِيزَتْ له الدُّنيا بحذافيرها. والسِّرب: المَسْلَك؛ يقال: فلان واسع السِّرب، يعني المسلك والمذهب.
وقال قيسُ بيت عاصم: يا بَنيّ: عليكمِ بحِفْظ المال فإنه مَنْبَهةٌ للكريم، ويُسْتَغْنى به عن اللئيم. وإياكم والمَسْألَة، فَإنها آخِر كسْب الرَّجُل. وقال سعد ابن أبي وقّاص لابنه: يا بُني، إذا طلبتَ الغِنَى فاطلبه بالقَناة، فإِنها مالٌ لا يَنْفَد؛ وإياك والطمعَ، فإنه فقْر حاضر؛ وعليك باليأْس، فإِنك لا تَيْأَس من شيء قطُّ إلا أغناك اللهّ عنه. وقالوا: الغَنيُّ من استغنى باللّه، والفقيرُ ما افتقر إلى الناس. وقالوا: لا غِنى إلا غني النّفس. وقيلَ لأبي حازم: ما مالُك؟ قال: مالان، الغِنَى بما في يدي عن الناس، وَاليأسُ عما في أيدي الناس. وقيل لآخر: ما مالُك؟ فقال: التجمُل في الظاهر، والقَصْد في الباطن. وقال آخر: لا بُد مما ليس منه بدّ اليَأْس حُرٌ والرجاءُ عَبْدُ وليس يُغْني الكَدَ إلا الجَدّ.
وقالوا: ثمرةُ القناعة الرَّاحة، وثمرةُ الحِرْص التعب. وقال البُحْتريُّ:
إذا ما كان عندي قُوتُ يوم ... طَرَحْتُ الهمَّ عنّي يا سعيدُ
ولم تَخْطرُ هُمِوم غدٍ ببالِيً ... لأنَ غَداً له رِزْقِّ جَدِيد
وقال عُرْوَة بنُ أذَيْنَة:
وقد عَلِمتُ وخَيرُ القَوْل أصْدَقُه ... بأنَ رِزْقِي وَإنْ لم يَأْتِ يَأْتيني
أسْعى إليه فيعييني تطلبه ... ولو قَعَدْتُ أتاني لا يُعَنِّيني
وَوَفد عُروة بن أذَينة على عبد الملك بن مَرْوَان في رجال من أهل المدينة، فقال له عبد الملك: أَلستَ القائلَ يا عُرْوَة؟ أسْعى إليه فَيُعْييني تَطلبه ؟ فما أراك إلا قد سعيتَ له، فخرج عنه عُروة وشَخص من فَوْرِه إلى المدينة. فأفتقده عبدُ الملك، فقيل له: توجّه إلى المدينة، فبَعث إليه بألف دينار. فلما أتاه الرسول قال: قُلْ لأمير المؤِمنين: الأمرُ على ما قلتُ، قد سَعَيتُ له، فأعياني تطلُّبه، وقعدت عنه فأتاني لا يُعنيني.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِنّ رُوح القُدس نَفَثَ في رُوعِي: إِنَّ نفساً لن تموت حتى تَسْتَوْفي رِزْقَهَا، فاتَّقوا الله وأجملوا في الطَّلب. وقالَ تعالى فيما حكى عن لُقمان الحكيم: " يا بنيَّ إنّها إِنْ تَكُ مِثْقًالَ حًبّةٍ مِن خَرْدَلٍ فَتكُنْ في صَخْرَةٍ أوْ في السَّمَوَاتِ أوْ في الأرْض يَأْتِ بها الله إِنّ الله لَطيفٌ خبِير " .
وقال الحسنُ: ابن آدمَ، لستَ بسابقٍ أجلَك، ولا ببالغٍ أمَلَك، ولا مَغْلوب على رِزْقِكَ، ولا بمرزوق ما ليس لك، فعلامَ تَقْتل نفسَك؟ وقال ابن عبد ربه: قد أخذتُ هذا المعنى فنظمتُه في شعر فقلت:
لستُ بقاض أملِى ... ولا بعَادٍ أجَلي
ولا بمَغْلُوب عَلَى الرًّزْ ... قِ الذي قُدِّرَ لَي
ولا بِمُعطًىً رِزْقَ غَي ... ري بالشقا والعَمَلَ
فليتَ شِعري ما الذي ... أدْخَلني في شُغُلي
وقال آخر:
سيكون الذي قًضي ... غضب المرءُ أَمْ رَضي
وقال محمودٌ الورَّاق:
أما عجبٌ أن يَكْفُلَ بُعَضَهُم ... ببعضٍ فيرضى بالكفِيل المُطالِبُ
وقد كفل اللهّ الوَفي برزقه ... فلم يَرْضَ والإنسانُ فيه عجائب
عليمٌ بأنّ الله مُوفٍ بوَعْده ... وفي قَلْبِه شَكٌّ على القَلْبِ دائب
أبَى الجهل إلا أن يَضرُّ بعلْمِه ... فلم يُغنِ عَنْه عِلْمُه والتجارب
وله أيضاً:
أتطلُبُ رِزْقَ اللهّ من عند غيْره ... وتُصْبِحُ من خوْفِ العواقِبِ آمنا
وترْضى بعَرّافٍ وَإِنْ كان مُشرْكَاً ... ضَميناً ولا تَرْضى بربِّكَ ضامنا
وقال أيضاً:
غِنىَ النَّفْس يغْنيها إذا كنْت قانِعاً ... وليسَ بمُغْنِيك الكثيرُ من الحِرْص
وإنّ اعتقادَ الهمِّ للخير جامعٌ ... وقِلْةَ هَمِّ المَرْءِ تَدْعًو إلى النَّقص
وله أيضاً:
مَن كان ذا مالٍ كثير وَلم ... يَقْنَعْ فَذَاك المُوسِرُ المعْسِرُ

وكل من كان قَنُوعاًً وإن ... كان مقلاً فَهُو المكثر
الفَقْرُ في النفْس وفيها الغِنىَ ... وفي غِنَى النَفس الغِنى الأكبر
وقالَ بَكْر بن حَمّاد:
تبارك مَن ساسَ الأمورَ بِعِلْمه ... وذَلَّ له أهلُ السّموات والأرْض
ومنْ قسِمَ الأرزاق بين عِباده ... وفَضّلَ بَعضَ النَّاس فيها على بعض
فمن ظَنَّ أنّ الحِرْص فيها يَزيده ... فقُولًوا له يزداد في الطول والعَرْض
وقال ابن أبي حازم:
ومًنْتَظِر للموت في كل ساعةٍ ... يَشِيدُ وَيِبْني دائباً ويُحَصِّن
له حينَ تَبْلُوه حقيقةُ مُوقِنِ ... وأفعالُه أفْعَالُ مَن ليس يُوقِن
عَيانٌ كإِنكارٍ وَكالجهْل عِلْمُهَ ... يَشُكّ به في كلِّ ما يتيقن
وقال أيضاً:
اضرع إلى اللهّ لا تَضْرعَ إلى النَّاس ... واقْنَعْ بِيأسٍ فإنّ العِزَّ في اليَاس
واستغنِ عن كل ذي قربى وذي رَحِم ... إنّ الغَنِيَّ مَنِ استغنى عن الناس
وَله أيضاً:
فلا تَحْرِصَنّ فإنّ الأمور ... بكَفِّ الإله مقَاديرُها
فليسَ بآتيك منْهيهاَ ... ولا قاصرٍ عنك مأمُورها
وله أيضاً:
كَمْ إلى كم أنت للحِر ... ص وللآمال عبْد
ليس يُجْدِي الحِرْصُ وَالسع ... يُ إذا لم يك جد
ما لما قد قَدَّرَ الل ... ه من الأمر مرد
قد جرى بالشرِّ نَحْسٌ ... وجَرَى بالخير سعد
وجرى الناسُ على جَر ... يهما قبل وبعد
أَمِنوا الدهر وما للدَ ... هر والأيام عهد
غالَهُم فآصطَلَم الجمْ ... ع وأفنى ما أعدوا
إنّها الدنيا فلا تح ... فل بها جزرٌ ومد
وقال الأضبَطُ بن قُرَيع:
ارْضَ من الدهر ما أتاك به ... مَنْ يَرْضَ يوماً بعَيشِهِ نَفَعَهْ
قد يَجْمع المال غيرُ آكله ... وَيأكلُ المالَ غيرُ مَنْ جَمَعه
وقال مُسلم بن الوليد:
لن يبطئ الأمرُ ما أمَلْتَ أوبتَه ... إذا أعَانَك فيه رِفْقُ مُتَّئِدِ
والدَهْرُ آخِذُ ما أعطى مًكَدِّرُ ما ... أصْفي وَمُفْسِدُ ما أهْوَى له بيَد
فلا يَغُرَّنْك من دهرٍ عَطيَّتُهُ ... فليس يترُكُ ما أعطى على أحد
وقال كُلْثوم العَتَابي:
تَلُومُ على تَرك الغنَى باهليَّةٌ ... لوَى الدهر عنها كلَّ طِرْفٍ وتالِد
رَأتْ حولها النسوانَ يرفُلْنَ في الكُسَا ... مقَلَّدَةً أجيادُها بالقلائد
يَسُرَكِ أني نِلْتُ ما نال جَعْفرٌ ... وما نال يحيى في الحياة ابن خالد
وأنّ أمير المؤمنين أعضّني ... مُعَضهما بالمُرهفات الحدائد
ذَرِيني تَجِئْني ميتتي مُطمَئنَّه ... ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإنّ الذي يَسْمو إلى الرتب العُلا ... سَيُرْمَى بألوان الدُّهى والمكايد
وَجَدْتُ لَذَاذات الحياة مَشوبَةً ... بمُسْتودعات في بطون الأسَاوِد
وقال:
حتّى متى أنا في حِلّ وتَرْحال ... وطُول شُغلٍ بإدْبار وإِقْبَال
ونازح الدار ما ينفكُّ مُغتَرباً ... عن الأحَبِّة ما يَدْرُون ما حالي
بِمَشْرق الأرض طوْراً ثم مَغْرِبَها ... لا يَخْطُر الموت من حِرْص على بالي
ولوَ قَنعْتُ أتاني الرِّزْقُ في دَعَةٍ ... إنّ القُنُوع الغِنَى لا كثرةُ المال
وقال عبدُ الله بن عباس: القَناعة مال لا نَفَاد له. وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: الرِّزق رِزْقان: فرِزْقٌ تطلبه ورِزْقٌ يطلبك، فإن لم تأته أتاك.
وقال حبيب:
فالرِّزق لا تَكْمَدْ عليه فإنه ... يأتي ولم تَبْعث إليه رسولا

وفي كتاب للهند: لا ينبغي للمُلتمس أن يَلْتمس من العيش إلا الكفَافَ الذي به يَدْفع الحاجة عن نَفْسه، وما سِوىَ ذلك إنما هو زيادة في تَعَبه وغَمِّه. ومن هذا قالت الحكماء: أقلُّ الدنيا يَكْفي وأكثرُها لا يَكفي. وقال أبو ذُؤَيب:
والنَّفْسُ راغبة إذَا رغبتها ... وإذا تُرَدُّ إلى قليل تَقْنَعُ
وقال المسيح عليه السلام: عجباً منكم، إنكم تعملون للدُّنيا وأنتم تُرزَقُون فيها بلا عمل، ولا تَعْملون للآخرة و " أنتم " لا تُرْزَقون فيها إلا بالعمل. وقال الحسن: عَيَرَت اليهود عيسى عليه السلام بالفَقْر، فقالت: مِن الغِنَى أتيتم. أخذ هذا المعنى محمودٌ الورَّاق فقال:
يا عائبَ الفَقْرِ ألاَ تَزْدَجِر ... عَيْبُ الغِنَى أكثَرُ لو تَعْتَبِرْ
من شرًف الفَقْر ومن فَضْله ... عَلَى الغِنَى إن صَحَ منك النظر
أنك تَعْصى كي تنالَ الغِنَى ... وليس تَعصى الله كي تَفْتقِر
سُفيان عن مُغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يَكرِهون الطلب في أطارف الأرض. وقال الأعمش: أعطاني البُنَانيُّ مَضَارِبه أخرُج بها إلى ماهٍ، فسألتُ إبراهيم، فقال لي: ما كان يَطْلبون الدنَيا هذا الطلب. وبين ماهٍ وبن الكوِفة عشرةُ أيام. الأصمعيُّ عن يُونس بن حَبيب قال: ليس دون الإيمان غِنًىِ ولا بعده فقْر. قيل لخالد بن صَفْوان: ما أصْبرَك عَلَى هذا الثَوْب " الخَلَق؟ قال: رُبَ مَمْلولٍ لا يُسْتطاع فِرَاقه.
وكتب حكيم إلى حكيم يشكو إليه دهرَه: إنه ليس من أحد أنْصَفه زمانُه فتصرفت به الحالُ حسب استحقاقه، وإنك لا تَرَى الناسَ إلا أحدَ رجلين: إمَا مُقدَّم أخّره حظه، أو متأخِّر قدَّمَه جَدُّه، فارضَ بالحال التِي أنت عليها وإن كانت دون أملك واستحقاقك اختياراً، وإلا رضيت بها اضطراراَ. وقيل للأحْنف بن قيس: ما أصبرك على هذا الثوب " ، فقال: أحقِ ما صُبِر عليه ما ليس إلى مُفارقته سَبيل.
" قال الأصمعيُّ: رأيت أعرابيةَ ذات جمال تسأل بمنى، فقلت لها: يا أمَة اللهّ، تسألين ولك هذا الجمال؟ قالت: قدَرً الله فما أصنع؟ قلت: فمن أين معاشكم؟ قالت: هذا الحاج، نَسْقيهم ونغسل ثيابهم؟ قلت: فإذا ذهب الحال فمن أين؟ فنظرت إليّ وقالت: يا صَلْت الجبين، لو كنّا نعيش من حيث نعلم ما عِشْنا " . وقيل لرجلٍ من أهل المدينة: ما أصْبرَك على الخُبْز والتَّمْر؟ قال: ليتَهما صبرَا عليّ.
الرضا بقضاء اللّه
قالت الحُكماء: أصلُ الزُهد الرِّضا عن اللّه. وقال الفُضَيل بن عِياض: استَخيروا الله ولا تتخيروا عليه، فرُبما اختار العبدُ أمرًا هلاَكُه فيه. وقالت الحكماء: رُبَّ مَحْسود على رَخاء هو شَقاؤه، ومَرْحُوم من سُقم هو شِفاؤه، ومَغْبُوط بنِعْمَة هي بَلاَؤُه. وقال الشاعر:
قد ينعِم الله بالبَلْوَى وإن عَظُمَت ... وَيبْتَلِى الله بَعْضَ القوم بالنِّعَم
" وقال بعضُهم: خاطَبني أخٌ من إخواني وعاتبني في طلب الرُتب، فأنشدته:
كم افتقرتُ فلم أَقْعُد على كَمَدِ ... وكم غَنِيتُ فلم أكبر على أحدِ
إنَي آمرؤ هانت الدنيا عليّ فما ... أشتاق فيها إلى مال ولا وَلَدِ
وقالوا: من طَلب فوق الكفاية رجع من الدَّهر إلى أبعد غاية " .

من قتر على نفسه وترك المال لوارثه
زِياد عن مالك قال: مَن لم يَكًنْ فيه خَيْرٌ لنفسه لم يَكُنْ فيه خيرٌ لغيره، لأنّ نفسَه أولَى الأَنْفُس كُلَها، فإذا ضَيعها فهو لما سِوَاها أضْيَعِ؟ ومن أحبَّ نفسَه حاطَها وأبقى عليها وتَجنَّب كل ما يَعيها أو يَنْقُصها، فَجَنَّبها السَّرِقة مَخافةَ القَطْع، والزِّنا مخافة الحَدّ، والقَتْل خوفَ القِصاص.

علي بن داود الكاتِب قال: لما افتتح هارون الرشيدُ هِرَقْلة وأباحها ثلاثة أيّام، وكان بِطْرِيقها الخارج عليه بَسِيل الرُّوميّ، فنظر إليه الرَّشيدُ مُقْبِلاً على جِدَار فيه كتابة باليُونانية، وهو يُطِيل النظَر فيه، فدَعا به وقال له:ِ لمَ تركتَ النظرَ إلى الانتهاب والغَنيمة وأقبلت على هذا الجدار تنظر فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قرأتُ في هذا الجدار كتابًا هو أحبُّ إليّ من هِرَقْلة وما فيها؛ قال له الرَّشِيد: ما هو؟ قال: بسم اللهّ المَلِكَ الحقِّ المُبين. ابن آدم، غافِص الفُرْصة عند إسكانها، وكِل الأمور إلى وَليِّها، ولا تَحْمِل على قلبك هَمَّ يوم لم يأتِ بعدُ، إِنْ يَكُن من أجَلِكَ يأْتِك الله بِرزْقك فيه، ولا تَجعَلْ سَعْيَك في طلب المال أسوة بالمَغْرُورين، فرُبَّ جامع لِبَعْل حَليلته، واعلم أنّ تَقْتير المرء على نَفْسه هو تَوْفيرٌ منه على غيره، فالسعيدُ من اتعظ بهذه الكلمات ولم يُضَيِّعها. قال له الرَّشيد: أَعِدْ عليَّ يابَسِيل، فأعادَها عليه حتى حَفِظها.
وقال الحسن: ابن آدم، أنتَ أسيرٌ في الدنيا، رَضيتَ من لذّتها بما يَنْقضي، ومن نَعِيمها بما يَمْضي، ومن مُلْكها بما يَنْفد، فلا تَجمْع الأوزار لِنَفْسك ولأهلك الأمْوال، فإذا مِتّ حملتَ الأوزار إلى قَبْرك، وتركتَ أموالَك لأهلك. أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال:
أبْقَيْتَ مالَك مِيراثاً لوارِثه ... فليتَ شِعْرِيَ ما أبقى لك المالُ
القومُ بَعدك في حالٍ تَسرُّهم ... فكيفَ بَعدهم دارت بك الحال
مَلُّوا البُكاء فما يَبْكيك من أحد ... واستَحْكَم القِيلُ في الميراث والقَال
وفي الحديث المرفوع: أشدّ الناس حَسْرَةً يوم القيامة رجلٌ كَسب مالاً من غير حِلِّه فدخلَ به النارَ، وورَّثه مَن عَمِل فيه بطاعة اللهّ فَدَخل به الجنة. وقيل لعبد الله بن عُمر: تُوُفي زَيدُ بن حارثة وترك مائة ألف؛ قال: لكنّها لا تتركه.
ودَخل الحسن على عبد الله بن الأهتم يَعوده في مَرضه فرآه يُصَعِّد بصرَه في صُندوق في بَيْته ويُصَوَبه، ثم التفت إلى الحسن، فقال: أبا سَعيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصُّندوق لم أؤَدً منها زكاة، ولم أصِل بها رحماً؟ فقال له: ثَكِلَتْك أمك! ولمن كنت تجمعها؟ قال: لِرَوْعة الزمان، وجَفْوة السلطان، ومُكاثرة العشيرة. ثم مات، فشَهِد الحسنُ جِنازَته، فلما فرَغ من دَفنه ضرَب بيده القَبْر، ثم قال: انظرُوا إلى هذا، أتاه شيطانُه فحَذّره رَوْعة زمانه، وجفوة سُلطانه، ومُكاثرة عشيرته، عما استودعه اللّه واستعمره فيه، انظُروا إليه يَخْرُج منها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. ثم قال: أيها الوارث، لا تُخْدَعَن كما خدِعَ صُوَيْحبك بالأمس، أتاك هذا المالُ حَلالاً فلا يكونُ عليك وَبالا، أتاك عَفْوًا صَفْوًا ممن كان له جَمُوعا مَنوعا، من باطلٍ جَمَعه، ومن حقٍّ مَنَعه، قطع فيه لُجَج البِحار، ومَفاوِز القِفار، لم تَكْدَح فيه بَيمين، ولم يَعْرِق لك فيه جَبِين، إن يوم القيامة يومُ حَسْرَة وندامة، وإن منِ أعظم الحَسَرَات غداً أن تَرى مالَك في ميزان غيرك، فيالها حسرةً لا تُقال، وتوبةَ لا تُنال.
لما حَضَرَتْ هِشامَ بن عبد الملك الوفاةُ، نَظر إلى أهله يَبْكون عليه، فقال: جاد لكم هشام بالدًّنيا وجُدْتم له بالبُكاء، وترك لكم ما جَمع، وتركْتُمْ له ما عَمل، ما أعظمَ مُنْقَلب هشام إن لم يَغْفر الله له!

نقصان الخير وزيادة الشر
عاصم بن حُميد عن مُعاذ بن جَبَل قال: إنكم لن تَرَوْا من الدنيا إلا بلاءً وفِتْنة، ولا يزيد الأمر إلا شِدة، ولا الأئِمّة إلا غِلَظا، وما يأتيكم أمرٌ يَهُولًكم إلا حقّرَه ما بعده. قال الشاعر:
الخَيرُ والشرُّ مُزْداد وُمنتقصٌ ... فالخير منتقص والشرُّ مُزدادُ
وما أُسَائلُ عن قَوْم عرَفْتُهُمُ ... ذَوِي فَضَائلَ إلا قيل قد بادوا
العزلة عن الناس

قال النبي صلى الله عليه وسلم: استأنسوا بالوُحدة عن جُلساء السَّوء. وقال: إنَّ الإسلام بدأ غريباً ولا تقوم الساعةُ حتى يعود غريباً كما بدأ. وقال العتَّابي: ما رأيتُ الراحةَ إلا مع الخَلْوَة، ولا الأْنسَ إلا مع الوَحشة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خَيركم الأتْقياء الأصْفياء الذين إذا حضروا لم يُعْرَفوا، وإذا غابُوا لم يُفْتقَدُوا. وقال: لا تَدَعوا حَظَّكم من العزلة فإنَّ العُزْلة لكم عبادة.
وقال لُقْمان لابنه: استعذ باللّه من شِرار الناس وكُن من خِيَارهم على حذَر.
وقال إبراهيم بن أدْهم: فِر من الناس فِرَارَك من الأسد. وقيل لإبراهيم بن أدهم:ِ لمَ تَجْتنب الناس؟ فأنشأ يقول:
ارضَ بالله صاحبَا ... وَذَرِ الناس جانِبَا
" قَلِّب الناسَ كيفا شِئ ... ت تَجدْهم عَقارِبا "
وكان محمد بن عبد الملك الزيَّات يأنَسُ بأهل البَلادة ويسْتوْحش من أهل الذكاء، فسُئِلِ عن ذلك، فقال: مَئونة التحفُّظ شديدة. وقال ابن مُحَيْريز: إن استطعتَ أن تعْرِف ولا تُعرَف، وتَسأل ولا تُسأل، وتمشي ولا يُمْشى إليك، فافعل: وقال أيوب السخْتياني: ما أحب الله عبداً إلا أحب أن لا يُشْعَر به.
وقيل للعتَّابي: من تُجالس اليوم؟ قال: من أبصُق في وجهه ولا يَغْضَب؛ قيل له: ومَن هو؟ قال: الحائط وقيل لِدِعْبل الشاعر: ما الوَحْشة عندك؟ قال: النظر إلى الناسِ، ثم أنشأ يقول:
ما أكثر الناسَ لا بَلْ ما أَقلَّهم ... الله يَعْلَم أني لم أقُلْ فنَدَا
إنِّي لأفْتَحُ عَيْني حين أفتَحُها ... على كَثير ولكن لا أرَى أحِدا
وقال ابن أبيَ حازم:
طِبْ عن الإمْرة نفساً ... وارْضَ بالوَحْشَة أنساً
ما عليها أَحدٌ يَسْ ... وى على الخِبْرة فَلْسَا
وقال آخر:
قد بلوتُ الناسَ طُرَّاً ... لم أجِدْ في النَّاس حُرّا
صار َأَحلى الناس في الْع ... ينْ إذا ما ذِيق مُرّا

إعجاب الرجل بعلمه
قال عمرُ بنُ الخطّاب: ثلاثٌ مُهْلِكات: شُحٌ مُطاع، وهوًى مُتَّبع، وإعجاب المَرْء بِنَفْسه. وفي الحديث: خيرٌ من العُجْب بالطاعة أن لا تأتي طاعةً. وقالوا: ضاحكٌ مُعْترف بذَنْبه خيرٌ من باكٍ مُدِلّ على ربه. وقالوا: سيّئة تُسيئك خيرٌ من حَسنة تُعْجِبك. وقال الله تَبارك وتعالى: " ألم تَرَ إلى الَذين يًزكَونَ أنْفُسَهم بَل الله يُزَكِّي مَنْ يشاء " .
وقال الحسن: ذمُ الرجل لنفسه في العَلاَنية مَدْحٌ لها في السريرة. وقالوا: مَن أظهر عَيْبَ نفسه فقد زَكاها. وقيل: أوحى اللهّ إلى عبده داود: يا داود، خالِقِ الناسَ بأخلاقهم، واحتجزْ الإيمان بيني وبينك. وقال ثابت البُنَانِيّ: دخلتُ على داود، فقال لي: ما جاء بك؟ قلت: أزُورك؛ قال: ومَن أنا حتى تزُورَني؟ أمن العُبّاد أنا؟ لا والله، أم من الزهاد؟ لا واللّه. ثم أقبل على نَفسه يُوبّخها، فقال: كنتُ في الشًبيبة فاسقا، ثم شِبْتُ فَصِرْتُ مرائياً، واللّه إنّ المُرائي شرٌ من الفاسق.
لقى عابدٌ عابداً، فقال أحدُهما لصاحبه: والله إني أحبُّك في الله؛ قال: واللّه لو اطلعت على سَريرتي لأبْغَضْتَني في اللهّ. وقال مُعاوية بنُ أبي سُفيان لرجل: مَن سيِّد قومك؟ قال: أنا؛ قال: لو كنتَ كذلك لم تَقُله. وقال محمود الوراق:
تَعْصى الإله وأنت تُظْهِر حُبَّه ... هذا مُحالٌ في القياس بَدِيعُ
لو كنتَ تضمر حبه لأطعته ... إنّ المُحِبّ لمن أحَبَّ مُطِيع
" في كل يوم يَبْتليك بِنِعْمةٍ ... منه وأنت لشكر ذاك مُضِيع "
وقال أبو الأشَعث: دَخلنا على ابن سِيرين فوجدناه يُصلي، فظَن أنا أعجبنا بصلاته، " فأراد أن يَضع نفسه عندنا " ، فلما انفَتل منها التفت إلينا وقال: كانت عندنا امرأة تضع يدها على فرجها وتقول: حاجتكم تحت يدي.
الرياء

زيادٌ عن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والشِّرْكَ الأصغر؛ قالوا: وما الشِّرك الأصغر يا رسول اللّه؟ قال: الرِّياء. وقال عبدُ الله ابن مسعود: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا رِياءَ ولا سمعة، من سَمَع سَمَّع الله به. وقال صلى الله عليه وسلم: ما أسرًّ آمرؤٌ سريرةً إلا ألْبسه الله رِداءها، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر. وقال لُقمان الحكيم لابنه: احذَر واحدةً هي أهلٌ للحذر؟ قال: وما هي؟ قال: إياك أن تُرِيَ الناسَ أنك تَخْشىَ اللهّ وقَلْبُكَ فاجر. وفي الحديث: من أصلح سريرَته أصلح الله علانِيَته. وقال الشاعر:
وإذا أظْهرتَ شيئاً حسناً ... فَلْيَكُن أحسَنَ منه ما تُسِرّ
فَمُسِر الخير مَوْسومٌ به ... ومُسِرً الشرً مُوْسُوم بِشرّ
صلّى أشعب، فخفَّف الصلاة فقِيل له: ما أخفَّ صلاتَك! قال: إنه لم يُخالِطْها رِياء. وصلى رجلٌ من المُرائين، فقيل له: ما أحسنَ صلاَتك! فقال: ومع ذلك إني صائم. وقال طاهرُ بنِ الحُسين لأبي عبد الله المَرْوزِيّ: كم لك منذُ نزلتَ بالعِراق؟ قال: منذُ عشرين سنةَ، وأنا أصوم الدهرَ منذ ثلاثين سنة. قال: أبا عبد الله، سألتًك عن مسألة فأجبتني عن مسألتين. الأصمعيُ قال: أخبرني إبراهيمُ بن القَعقاع بن حَكيم، قال: أمر عمر بن الخطاب لرجلٍ بِكيس، فقال الرجُل: آخُذ الخَيْط؟ قال عمر: ضَع الكِيس.
قال رجل للحسن، وكَتب عنده كِتاباً: أتجعلني في حِل من تُراب حائِطك؟ قال: يا بن أخي، وَرَعُك لا يُنْكر. وقال محمود الوراق:
أظهرُوا للنَّاس دِيناً ... وعلى الدَينار دارُوا
وله صامُوا وصلًّوا ... وله حَجوا وزَارُوا
لو بَدا فوق الثّريّا ... ولهمْ رِيشٌ لطارُوا
وقال مُساور الوَرَّاق:
شمر ثِيابَك واستعدَ لقائلٍ ... واحككْ جَبينَك للقَضاء بثُوم
وعليك بالغَنَوِيّ فاجْلِسْ عنده ... حتى تُصِيب وَديعة لِيَتيمَ
وإذا دَخَلْتَ على الرَّبيع مُسلِّماً ... فاخصُص سَيابةَ منك بالتَّسليم
وقال:
تصوَّفَ كَيْ يُقال له أمين ... وما يَعْني التَّصوفَ والأمانَهْ
ولم يُرِد الإله به ولكنْ ... أراد به الطريقَ إلى الخيانهْ
وقال الغَزّال:
يقولُ لي القاضي مُعاذٌ مُشاوِراً ... ووَلّى آمرأً، فيما يَرى، من ذَوِي العَدْل
قَعِيدَك ماذا تَحْسَب المرء فاعلاً ... فقلت وماذا يَفْعل الدَّبْر في النَّحْل
يَدُقّ خَلاَياها ويَأْكُل شًهْدَها ... ويَترك للذِّبّان ما كان من فَضْل
" وقال أبو عثمان المازنيّ لبعض من راءى فهتك الله عز وجل سِتره:
بَينا أنا في تَوْبتي مُستَعْبِرا ... قد شَبًهوني بأبي دُوَاد
وقد حملتُ العِلْم مستظهراً ... وحَدَّثوا عنّي بإسناد
إذ خَطر الشيطان لي خَطْرةً ... نُكست منها في أبي جاد
وقال ابن أبي العتاهية: أرسلني أبي إلى صُوفيّ قد قَيّر إحدى عينيه أسأله عن المعنى في ذلك؛ فقال: النَّظرُ إلى الدنيا بكلتا عينيّ إسراف. قال: ثم بدا له في ذلك فاتصل الخبر بأبي فكتب إليه:
مُقَيرَ عينِه وَرَعَا ... أردتَ بذلك البِدَعا
خَلَعْتَ وأخبثُ الثقلي ... ن صُوفي إذا خَلعا "

يحيى بنُ عبد العزيز قال: حدَّثني نُعيم عن إسماعيل، رجل من ولد أبي بكر الصدِّيق، عن وَهْب بن مُنَبِّه. قال: نَصب رجلٌ من بني إسرائيل فخًّا، فجاءت عُصفورة، فوقعت عليه، فقالت: مالي أَراك مُنْحنياً؟ قال: لكثرة صَلاتي انحنيتُ؛ قالت: فمالي أراك باديةً عِظامُك؟ قال: لكثرة صِيامي بَدَت عِظامي؛ قالت: فمالي أرى هذا الصوف عليك؟ قال: لِزَهادتي في الدُّنيا لَبِسْتُ الصُوف؛ قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال أتوكّا عليها وأقضي بها حوائجي؟ قالت: فما هذه الحبة في يَدِك؟ قال: قُرْبان إنْ مرّ بي مِسْكين ناولتُه إياه، قالت: فإني مِسْكينة، قال: فخُذيها. فقَبَضت على الحبّة فإذا الفخ في عُنقها، فجعلت تقول: قَعِي قعِي. قال الحسن: تَفْسيره. لا غَرني ناسكٌ مُراءٍ بعدك أبداً.

الدعاء
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الدُّعاء سِلاحُ المُؤمن، والدُعاء يَرُدّ القَدر، والبرُّ يزيد في العُمر. وقالوا: الدُّعاء بي الأذان والإقامة لا يُرد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: استقبلوا البلاءَ بالدُّعاء. وقال اللهّ تعالى: " ادْعُوني أسْتَجبْ لَكُم " . وقال تعالى: " فَلَوْلا إذْ جاءَهُم بَأسُنَا تَضَرّعُوا ولكِنْ قَسَتْ قُلُوبهم له. وقال عبد الله بن عباس: إذا دعوتَ الله فاجعل في دُعاثك الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة عليه مَقْبولة، واللّه أكْرم من أن يَقْبل بعضَ دُعائك ويَرُد بعضاً.
وقال سعيدُ بن المسيب: كنت جالساً بين القَبْر والمِنْبر، فسمعت قائلاً يقول: اللهم إني أسألك عملاً باراً، ورِزْقاً دارًّاً، وعَيْشاً قارًا. فالتفتًّ فلم أرَ أحداً. هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت نائمةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ النًصف! من شَعبان، فلما ألْصِق جِلْدِي بجلده أغفيتُ، ثم انتبهتُ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عندي، فأدركني ما يُدرك النِّساء من الغَيْرة، فلَفَفْت مِرْطي، أما والله ما كان خَزًّا ولا قَزًا ولا دِيباجاً ولا قُطناً ولا كَتَاناً؛ قيل: فما كان يا أمّ المؤمنين؟ قالت: كان سَدَاه ومن شَعر، ولُحْمته من أوبار الإبل. قالت: فنَحَوْتُ إليه أطلبُه، حتى ألفيته كالثًوب الساقط على وَجهه في الأرض وهو ساجدٌ يقول في سُجوده: سَجد لك خَيالي وسوادي، وآمَن بك فُؤادي، هذه يَدي، وما جَنَيْتُ بها على نفسي، " يا مَن " تُرَجَّى لكل عَظيم، فاغفر لي الذنب العَظيم. فقلتُ: بأبي أنت وأمي يا رسول اللهّ، إنّك لفي شأن، وإني لفي شأن. فرَفع رأسَه ثم عاد ساجداً فقال: أعوذ بوَجْهك الذي أضاءت له السمواتُ السَّبع، والأرضون السبع، من فجْاة نِقْمتك، وتحوّل عافيتك، ومن شرِّ كتاب قد سَبق، وأعوذ برِضاك من سُخْطك، وبعَفْوك من عُقوبتك، وبك مِنْك، لا أحْصى ثناءً عليك أنت كما أثْنيت على نفسك. فلما انصرف من صَلاته تَقَدَّمتُ أمامه حتى دخلتُ البيت ولي نَفَس عال؛ فقال: مالك يا عائشة؟ فأخبرتهُ الخَبر؟ فقال: وَيْح هاتين الرُّكبتين ما لَقِيتا في هذه اللَيلة! وَمَسح عليهما. ثم قال: أتدْرين أيّ ليلة هذه يا عائشة؟ فقلتُ: الله ورسولُه أعلم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: هذه الليلةُ ليلةُ النِّصف من شعبان، فيها تُؤَقَّت الآجال، وتُثَبًت الأعمال.
العُتبيّ عن أبيه قال: خرجتُ مع عُمَر بن ذرّ إلى مكة فكان إذا لَبَّى لم يُلَبِّ أحدٌ من حُسن صوته، فلما جاء الحَرَم قال: يا رب، ما زِلْنا نَهْبط وَهْدةً ونَصْعد أكمة، ونَعْلو نَشَزاً، وَيَبْدُو لنا عَلَم، حتى جِئْناك بها نَقِبَةً أخفافها، دبرة ظُهورُها، ذا بلةً أسْنِمَتُهَا، وليس أعظمُ المَؤونة علينا إِتعابَ أبداننا، ولكن أعظم المؤونة علينا أن تَرْجِعَنا خائبين من رحمتك، يا خيرَ من نَزَل به النازلون.
وكان آخَرُ يدعو بعَرفات: يا رب، لم أعْصِك إذ عصيتُك جَهْلاً مني بحقك، ولا استخفافاً بعقوبتك، ولكن الثقة بعَفْوك، والاغترار بِسَتْرِك المُرْخَى علي، مع الشَقْوة الغالِبة، والقَدَر السابق، فالآن مِن عذابك مَنِ يَسْتَنقذني؟ وبِحَبْل مَن أعْتَصِم إن قطعْت حَبْلك عَني؛ فيا أسفي على الوُقوف غداَ بين يدَيْك، إذا قِيل للمُخِفَين جُوزوا، وللمُذْنِبين حُطّوا.

أبو الحسن قال: كان عروة بن الزُّبير يقول في مُناجاته بعد أن قُطِعت رِجْلُه ومات ابنه: كانوا أربعةً - يعنِي بنيه - فأخذتَ واحداً وأبقيتَ ثلاثة؛ وكُنَّ أربعاً - يعنِي يدَيْه ورِجليه - فأخذتَ واحدةَ وأبقيتَ ثلاثاً؛ فلئن ابتليتَ لطالما عافيتَ، ولئن عاقبت لطالما أنعمتَ. وكان داود إذا دَعا في جَوْف الليل يقول: نامت العيون، وغارت النجومُ، وأنت حَيٌّ قَيوم، اغفر لي ذَنبي العظيم فإنه لا يَغْفر الذنبَ العظيم إلا العظيم، إليك رفعت رأسي، نَظَر العَبْدِ الذليل إلى سيّده الجليل. وكان من دُعاء يوسف: يا عُدّتي عند كُرْبتي، ويا صاحبيِ في غُربتي، ويا غَايَتي عند شِدّتي، ويا رَجائي إذا انقطعت حِيلتى، اجعل لي فَرَجاَ وَمَخْرجاً.
وكان عبدُ الله بن ثعلبة البَصْريّ يقول: اللهم أنت من حِلْمك تُعْصىَ وكأنك لا تَرى، وأنت من جًودك وفَضْلك تُعطِي وكأنك لا تُعْطِيِ، وأيّ زمان لم يَعْصك فيه سُكان أرْضك فكُنتَ عليهم بالعفو عوَاداً وبالفَضْل جَوَاداًَ. وكان من دُعاء علي بن الحُسين رضي اللهّ عنه: اللهم إني أعوذ بك أن تُحَسِّن في مَرأى العُيون عَلانِيَتي، وتقَبِّح في خَفيات القُلوب سَرِيرتي، اللهم وكما أسأتُ فأحسنتَ إليّ، إذا عُدْتُ فعُدْ عليّ، وارزقني مُواساة مَن قترَّت عليه ما وسَّعتَ عليَّ.
الشيبانيّ قال: أصاب الناسَ ببغداد ريحٌ مُظْلمة، فانتهيتُ إلى رجل في المسجد وهو ساجد يقول في سُجوده: اللهم احفظ محمداً في أمته، ولا تُشمِت بنا أعداءنا من الأمم، فإن كنتَ أخذتَ العوام بذنبي، فهذه ناصِيتي بين يديك. وكان الفضيل بن عِيَاض يقول: إلهي، لو عَذَبتَني بالنار لم يَخْرُج حُبُّك من قَلبي، ولم أنسَ أياديكَ عندي في دار الدنيا وقال عبد الله بنُ مسعود: اللهم وَسِّع علي في الدنيا وزَهِّدني فيها، ولا تُزْوِها عَني وتُرَغبني فيها.
مَرَّ أبو الدَّرداء برجل يقول في سُجوده: اللهم إنيٍ سائلٌ فقير فأغْنِني من سِعَة فَضْلك، خائفٌ مُستجير فأجِرْني من عَذابك. الأصمعي قال: كان عَطاءُ ابن أبي رَباح يقول في دُعائه: اللهم ارحم في الدُّنيا غُرْبتي، وعند الموت صَرْعتي، وفي القُبور وُحْدَتي، ومَقامي غداً بين يديك.
العُتْبيّ قال: حدَّثني عبدُ الرحمن بن زياد قال: اشتكي أبي فكتب إلى أبي بكر بن عبد الله يسأله أن يدعوَ له، فكتب إليه: حُقَّ لمن عَمِل ذنبا لا عُذْر له فيه، وخاف مَوتاً لا بُدَ له منه " أن يكون مُشْفِقاً " ، سأدعو لك، ولستُ أرجو أن يُستجاب لي بقوةٍ في عَمل وبراءة من ذنْب. العُتْبيّ قال: كان عبد الملك بن مَرْوان يَدْعو على المِنْبر: يا ربّ، إن ذُنوبي قد كَثُرت وجَلّت عن أن تُوصف، وهي صَغيرة في جَنْب عَفْوك، فاعفُ عنّي.

كيف يكون الدعاء
سفيان بن عُيَينة عن أبي مَعْبد عن عِكْرمة عن ابن عبّاس قالت: الإخلاص هكذا، وبَسط يدَه اليُسرى وأشار بإصْبعه من يده اليُمْنى؛ والدعاء هكذا؛ وأشار برَاحتيه إلى السَّماء؛ والابتهال هكذا، ورفع يديه فوق رأسه وظُهورهما إلى وجهه. سُفيان الثَوريّ قال: دخلتُ على جَعفر بن محمد رضي اللهّ عنهما فقال لي: يا سُفيان، إذا كثر ت هُمومك فأكْثِر من لا حَوْلَ ولا قُوّة إلا باللّه العليّ العَظيم، وإذا تَداركتْ عليك النِّعم فأكْثِر من الحَمْد لله، وإذا أبطأ عنك الرّزْق فأكثر من الاستغفار.
وقال عبد الله بن عبّاس: لا كَبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصْرار. وقال عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنه: عجباً ممن يَهْلك والنجاة معه! قيل له: وما هي؟ قال: الاستغفارُ.
دعاء النبي
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر الصِّديق وعمر رضوان الله عليهما
أم سَلمة قالت: كان أكثرُ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مُقَلِّب القُلوب ثَبِّت قَلْبي على دِينك. المًغِيرة بن شُعْبة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من الصلاة يقول: لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له المُلْك وله الحَمْد وهو على كلِّ شيء قدير.
وكان آخرُ دُعاء أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه في خُطْبته: اللهم اجعلْ خيرَ زَماني آخرَه، وخيرَ عَملي خواتِمَه، وخيرَ أيامي يومَ لِقائك.

وكان آخرُ دُعاء عمرَ رضي الله عنه في خُطبته: اللهم لا تَدَعْني في غَمْرة، ولا تَأخًذْني في غرة، ولا تَجْعلني من الغافِلين.

الدعاء عند الكرب
عبد الله بن مَسْعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما مِن عَبدِ أصابه هَم فقال: اللهم إنَي عبدك وابن عَبْدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حُكْمك، عَدْل فيّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ سَمَيت به نَفْسَك، أو ذَكرْتَه في كتابك، أو عَلًمته أحداً من خَلْقك، أو استأثرت به في عِلْم الغَيْب عندك، أن تجعل القرآن ضِياءَ صَدْري، ورَبيعَ قَلْبي، وجَلاء حُزْني، وذهاب هَمِّي، إلا اذهَب الله هَمَه وبدَّله مَكانَ حُزْنه فرحاً.
وقالوا: كلماتُ الفَرَج من كُلِّ كرْب: لا إله إلا الله الكريم الحَلِيم، وسُبْحان اللّه رَبِّ العَرْش العظيم، والحمدُ للّه ربّ العالمين.
الكلمات التي تلقى آدم بها ربه
اللهمّ لا إله إلا أنتَ سُبْحانك وبِحَمْدك، عَمِلْتُ سُوءًا وظلمتُ نَفْسي فَتُبْ عليّ إنك أنتَ التوَّاب الرحيم.
اسم الله الأعظم
عبد الله بنُ يَزيد عن أبيه قال: سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهمَّ إنِّي أسألك بأنَّك أنت الله الأحد الصَّمد الذي لم يَلِد ولم يُولد ولم يَكُن له كُفُواً أحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعِي به أجاب وإذا سُئِل به أعطى. أسماءُ بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اسم الله الأعظم فيما بي الآيتَيْن: " وَإلهكُم إله واحِد لا إله إلا هُو الرَّحْمن الرَّحيم " ، وفاتحة آل عمران: " الم الله لا إله إلا هو الحَيُ القَيوم " .
الاستغفار
شَدّاد بن أوْس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سَيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربٌي لا إلهِ إلا أنْتَ خَلَقْتني وأنا عَبْدُك، وأنا على عَهْدك وَوعْدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شر ما صَنَعْتُ، أبوء لك بِنِعْمتك علي وأبوء بِذَنبي، فاغفِر لي إنه لا يَغْفر الذنوب إلا أنت. الأسْود وعَلْقمة قالا: قال عبد الله بن مَسعود: إنَّ في كتاب الله آيتَين ما أصاب عبدٌ ذَنباً فقرأهما ثم استغفر الله إلا غُفر له: " والَّذين إذا فَعلُوا فاحشةً أو ظَلَموا أنْفُسهم " إلى آخر الآية " ومَنْ يَعْمَل سُوءًا أو يَظْلم نَفْسَه ثم يَسْتغْفر الله يجِد الله غَفُوراً رَحيماً " أبو سَعيد الخُدْرِيّ قال: مَن قال: أسْتغفر اللهّ الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيُّوم وأتُوب إليه، خمس مَرّات غفِر له ولو فر من الزَّحف.
دعاء المسافر
عِكْرمة عن ابن عبّاس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَراً قال: اللهم أنت الصاحبُ في السفر، والخَليفة في الحَضر. اللهم إنَي أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحوْر بعد الكوْر، ومن سُوِء المنظر في الأهل والمال. الشّعْبيُّ عن أمّ سَلَمة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في سَفر يقول: اللهم إنِّي أعوذ بك أن أذِلّ أو أضلً أو أظلِم أو أُظْلَم أو أجهل أو يُجْهل عليّ. وقالت: مَن خرج في طاعة الله فقال: اللهم إنَي لم أخرج أشراً ولا بَطَراً ولا رِيَاء ولا سُمعة، ولكنّي خرجتُ اْبتغاءَ مَرْضاتك واتقاء سُخْطك، فأسألك بحقك على جميع خَلْقك أن تَرْزُقني من الخير أكثر ممّا أرجو، وتَصرْف عنّي من الشر أكثر مما أخاف. استجيب له بإذن اللّه.
الدعاء عند الدخول على السلطان
سعِيد بن جُبَير عن ابن عبّاس قال: إذا دخلتَ على السلطان وهو مَهيبٌ تخاف أن يسْطو عليك فقُل: الله أكْبر وأعزّ مما أخاف وأحذَر، اللهم ربّ السَّموات السَّبع وربّ العرش العظيم، كُنْ لي جاراً منِ عَبدك فلان وجنوده وأشياعه وأتباعه، تبارك اسمك وجلَّ ثناؤك وعزّ جارًك ولا إله غيْرك

أبو الحسن المدائنيّ قال: لما حَجّ أبو جَعْفر المنصور مَر بالمدينة فقال للرَّبيع: عليَّ بجعفر بن مُحمد، قتلني الله إن لم أقتله. فمُطِل به، ثم ألَحَ فيه، فحَضر. فلما كُشِف السِّتْر بينه وبينه ومَثُل بين يدَيْه، هَمَس جعفر بشَفَتيه، ثم تقَرَب وسلّم؛ فقال: لا سلّم اللهّ عليك يا عدو الله، تُعْمِل على الغوائلَ في مُلْكِي، قَتلَني الله إن لم أقتُلك. فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إن سُليمان صلى الله عليه وسلم أعْطِيَ فشكر، وإن أيوب ابتليَ فَصَبَر، وإن يوسف ظُلِم فَغَفَر، وأنت على إرْثٍ منهم وأحَقُّ من تأسىَّ بهم، فنكس أبو جعفر رأسه مَليًّا ثم رفع إليه رأسه وقال: إلي يا أبا عبد الله، فأنتَ القريبُ القرابة، وإنك ذو الرَّحم الواشِجة، السَّليم الناحية، القَليل الغائلة، ثم صافحه بيَمينه وعانقه بِيَساره وأجْلسه معه على فِراشه وانحرف له عن بَعْضه وأقْبل عليه بوَجْهه يُسائله ويُحادثه، ثم قال: عجلوا لأبي عبد الله إذنه وكُسْوته وجائزته. قال الرّبيع: فلما خرج وأسْدل الستر أمسكتُ بثَوْبِه فارتاع، وقال: ما أرانا يا ربيع إلا قد حُبِسنا؟ قلتُ: هذه منِّي لا مِنْه؛ قال: فذلك أيْسر، قلْ حاجتَك؟ قلت: إنِّي منذ ثلاثٍ أدافع عنك وأدَاري عليك، ورأيتُك إذ دخلتَ هَمَسْت بِشَفَتيك، ثم رأيتُ الأمرَ انجلى عنك، وأنا خادم سُلطان ولا غِنى بي عنه، فأًحِب منك أن تُعَلِّمَنيه؛ قال: نعم، قُل: اللهم احرسني بعَيْنك التي لا تنام، واكنُفْني بكنَفَك الذي لا يُرام، ولا أهْلِك وأنت رجائي، فكم من نِعمة أنْعَمْتها عليّ قَلّ عندها شكْري فلمِ تَحْرِمْني، وكم من بليَّة ابتليتني بها قلّ عندها صبري فلم تَخْذًلْني، اللهم بك أدْرأ في نحْره، وأعوذ بخيْرك من شرِّه.

الدعاء على الطعام
مَن قال على طعامه: بسم اللهّ خير الأسماء في الأرض وفي السماء، ولا يَضُر مع اسمه داء، اللهم اجعل فيه الدَّواء والشِّفَاء، لم يضُرّه ذلك الطعام كائناً ما كان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال: الحمد للّه الذي مَنَ علينا وهَدانا وأطعمنا وأرْوانا، وكل بلاء حَسن أبْلانا.
الدعاء عند الأذان
مَن قال إذا سَمِع الأذان: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد نبيًّا، غفر له ذنوبه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا سَمِعْتّم الأذان فقُولوا مِثْل ما يقول المؤذِّن.
الدعاء عند الطيرة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ رأى من الطيْر شيئا يَكرهه فقال: اللهم لا طَيْر إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غَيرك، لم يَضِره.
الساعة التي يستجاب فيها الدعاء
الفُضَيل عن أبي حازم عن أبي سَلمة بن عبد الرحمن عن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أجْمعوا أنّ الساعة التي يُستجاب فيها الدعاء آخر ساعة من يوم الجُمعة.
التعويذ
أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إنّي أعوذ بك من علم لا يَنْفَع، وقَلْب لا يَخشَع، ودُعاء لا يُسمع، ونَفْس لا تَشْبَع 0 " اللهم إني أعوذ بك من هذه الأربع " . وقال صلى الله عليه وسلم: من قال إذا أمْسى وأصْبح: أعوذ بكلمات اللهّ التامات المباركات التي لا يجاوزهن بَرٌ ولا فاجر، من شرِّ ما يَنزل من السماء، ومن شرِّ ما يعرُج فيها، ومن شرِّ ما ذرَأ في الأرض وما يَخْرُج منها، لم يضره شيء من الشياطين والهوامّ.
مَسْروق عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحَسن والحُسين رضي اللهّ عنهما بهذه الكلمات: أعِيذكما بكلمات الله التامَّة، من كل عَينٍ لامّة، ومن كل شَيطان وهَامَة. وكان إبراهيمُ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ بها إسماعيل وإسحاق. وقال أعرابي يصف دَعْوة:
وساريةٍ لم تَسْرِ في الأرض تَبْتَغِي ... مَحَلاً ولم يَقْطَعْ بها البِيدَ قاطعُ
" سَرَتْ حيث لم تَسْرِ الرِّكابُ ولم تُنخ ... لورْد ولم يَقْصرُ لها القَيْدَ مانع "
تَظلُّ وَرَاء اللَيل والليلُ ساقِطٌ ... بأوْرَاقه فيه سميرٌ وهاجع
تَفَتَّحُ أبوابُ السماء لوفْدِها ... إذا قرع الأبوابَ منهنَ قارع

إذا سألَتْ لم يَردد الله سُؤْلَها ... على أهْلِها والله راءٍ وسامع
وإني لأرجو الله حتى كأنما ... أرى بجميل الظنّ ما اللهّ صانع
ومن قولنا في هذا المعنى:
بُنَيٌ لئن أعيا الطبيبَ ابن مُسلم ... ضَنَاك وأعْيا ذا البَيان المُسَجَّع
لأبْتَهِلَنْ تحتَ الظلام بِدَعْوَةٍ ... متى يَدْعها داع إلى الله يُسمع
يُقلقل ما بين الضلوعَ نَشيجُها ... لها شافِع من عَبْرَةٍ وتضرُّع
إلى فارجِ الكَرْب المُجيب لمن دعا ... فَزَعْتُ بكَرْبي إنه خير مَفْزع
فيا خير مَدْعُوّ دعوتُك فاسْتَمع ... ومالِي شَفيع غير فضلك فاشْفَع

كتاب الدرة في التعازي والمراثي
قال أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه: قد مضى قولنا في الزُهد ورجاله المَشْهورين.
ونحن قائلون بعَون الله " وتوفيقه " في النَّوادب والمراثي والتَعازي بأبلغ ما وَجدناه من الفِطر الذكيّة، والألفاظ الشجيّة، التي تُرقّ القلوبَ القاسية، وتذيب الدموع الجامدة، مع اختلاف النَّوادب عند نزول المصائب، فنادبة تُثير الحُزْن من رَبْضَته، وتَبعث الوَجْدَ من رَقْدَته، بصوتٍ كترجيع الطَير، تُقَطًعِ أنفاسَ المآتم، وتترك صدْعاً في القلوب الجلامد؛ ونادبة تَخْفِض من نَشِيجها، وتقْصِد في نحيبها، وتَذهب مَذْهَب الصبر والاستسلام، والثِّقة بجزيل الثواب.
قال عمر بن ذَرّ: سألتُ أبي: ما بالُ الناس إذا وعظتَهم بَكَوْا، وإذا وَعظهم غيرُك لم يَبكوا؟ قال: يا بُني، ليست النائحة الثَكلى مثلَ النائحة المُستأجَرَة. وقال الأصمعيّ: قلتُ لأعرابيّ: ما بالُ المراثي أشرفُ أشعاركم؟ قال: لأنّا نقولُها وقلوبنا مُحْترقة.
وقالت الحكماء: أعظم المصائب كلّها انقطاعِ الرّجاء. وقالوا: كلُّ شيء يَبدو صغيراً ثم يَعْظُم إلا المصيبةَ فإنها تبدو عظيمة ثم تصْغُر.
القول عند الموت
الأصمعيّ عن مُعْتمر عن أبيه، قال: لقِّنوا مَوْتاكم الشَّهادة، فإذا قالوها فدَعوهم ولا تُضْجروهم. وقال الحسن: إذا دخلتم على الرجل في المَوت فبَشِّروه لِيَلْقى ربّه وهو حسن الظنّ به، وإذا كان حيًّا فخَوِّفوه.
ولَقِي أبو بكر طلحةَ بن عبيد الله، فرآه كاسفَاً مُتَغَيراً لونُه، فقال: مالي أراك مُتَغَيِّراً لونُك؟ قال: لكلمة سمعتها منَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أسأله عنها؛ قال وما ذاك؟ قال: سمعتُه يقول: إني أعلم كلمة مَن قالها عند الموت مَحَّصت ذُنوبَه، ولو كانت مثلَ زَبَد البحر، فأنْسِيت أن أسأله عنها. قال أبو بكر: أعَلِّمُكَها، وهي: لا إله إلا اللّه.
أبو الحُبَاب قال: لما احتضر مُعاذ قال لخادمته: وَيْحكِ! هل أصْبَحْنَا؟ قالت: لا، ثم تركها ساعةً ثم قال لها: انظُري، فقالت: نعم؛ قال: أعوذ باللهّ من صباحٍ إلى النار. ثم قال: مَرْحباً بالموت، مَرْحباً بزائر جاء علىِ فاقة، أفلح من نَدِم. اللهم إنك تعلم أني لم أحِبّ البقاء في الدنيا لِجَرْي الأنهار، وغرْس الأشجار، ولكن لمُكابدة اللَّيل الطويل، وظمأ الهَواجر في الحرّ الشديد، ومُزاحمة العُلماء بالرًّكب في مجالس الذِّكر. ولما حضرت الوفاةُ عمرَ بن عُتبه قال لرفيقه: نَزَلَ بي الموتُ ولم أتأهّب له، اللهم إنك تعلم أنه ما سَنح لي أمران لك في أحدهما رضاً ولي في الآخر هوًى، إلا آثرْتُ رِضَاك على هَوَاي. ولما حضرَت الوفاةُ عمَر بنَ الخطاب: قال لوَلده عبد الله بنِ عُمَر: ضَع خَدِّي على الأرض علّ ربِّي أن يتعطَّف عليّ ويَرْحَمني.
ابن السمَّاك قال: دخلتُ على يزيد الرَّقاشي وهو في الموت، فقال لي: سَبَقَني العابدون وقُطع بي، والهْفَاه! موسى الأسْوارِيّ قال: دخلتُ على أزْدامَرْد وهو ثَقيل فإذا هو كالخُفَّاش لم يَبْقَ منه إلا رَأْسُه، فقُلْت له: يا هذا، ما حالُك؟ قال: وما حالُ من يُرِيد سفراً " بعيداً " ، بغير زاد، ويَنطلق إلى ملك عَدْل بغير حُجَّة، ويَدْخُل قبراً مُوحشاَ بغير مُؤْنس؟

قال عمرُ بن عبد العزيز لأبي قِلاَبة، وقد وَلي غَسْل ابنه عبد الملك: إذا غَسّلته وكَفَّنتَه فآذنِّي قبل أن تُغَطِّي وجهه، فَفَعل فنظر إَليه وقال: رَحمك اللّه يا بُني وغَفَر لك. ولما مات محمد بن الحجَّاج جَزع عليه جَزَعاً شديداً، وقال: إذا غسَّلتموه وكَفَّنتُموه فآذنوني، ففعلوا، فنظر إليه وِقال مُتمثّلاً:
الآن لما كنتَ أكملَ مَنْ مَشى ... واْفترّ نابُك عن شَباة القارِح
وتكاملتْ فيك المُروءة كُلُّها ... وأعنت ذلك بالفعال الصالح
فقيل له: اتّق اللّه واسترجع؛ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك: كيف تجدك يا بُني؟ قال: أجِدُني في الموت فاحْتَبِسني، فإنّ ثوابَ اللّه خيرٌ لك منّي؛ قال: واللَّه يا بُني لأن تكون في ميزاني أحب لي أن أكون في ميزانك؛ قال: وأنا واللهّ لأن يكون ما تُحب أحبَّ إليّ من أن يكون ما أحِب.
لما احتضر عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله استأذن عليه مَسْلمة بنُ عبد الملك، فأذِن له وأمره أن يُخفِّف الوَقْفة، فلما دخل وقف عند رأسه فقال: جَزاك اللّه يا أميرَ المؤمنين عنّا خيراً، فلقد ألنت لنا قُلوباً كانت علينا قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذِكْراً.
حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنَس بن مالك، قال: كانت فاطمةُ جالسةً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتراكبت عليه كُرَب الموت، فرفع رأسه وقال: واكَرْباه! فبكت فاطمة وقالت: واكَرْباه لكَرْبك يا أبتاه! قال: لا كَرْب على أبيك بعد اليوم. الرِّياشي عن عثمان بن عُمَر عن إسرائيل عن مَيْسرة بن حبيب عن المِنْهال بن عمرو عن عائشة بنت طَلْحَةَ عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ما رأيتُ أحداً من خَلْق الله أشبه حَدِيثاً وكلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلتْ عليه أخذ بيدها فقبَّلها ورَحَب بها وأجْلسها في مَجْلسه، وكان إذا دخلِ عليها قامت إليه ورَحَّبَت به وأخذت بيده فقبَّلتها. فدخلتْ عليه في مَرضه الذي تُوفي فيه، فأسرَّ إليها فبكت، ثم أسرّ إليها فضَحِكت. فقلتُ: كنتُ أحسَبُ لهذه المَرأة فضلاً على النِّساء، فإذا هي واحدةٌ منهنّ، بينما هي تَبكي إذا هي تَضْحك. فلما تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها، فقالت: أسرّ إليّ فأخبرني أنه مَيِّت فبكيتُ، ثم أسرَ إليَّ أني أولُ أهل بَيته لُحُوقاً به فَضَحكتُ.
القاسم بن محمد عن عائشة أمّ المؤمنين رضي اللهّ عنها: أنها دخَلَت على أبيها في مرضه الذي مات فيه، فقالت له: يا أبَتِ، اعهد إلى خاصتك، وأنْفذ رأيك في عامّتك، واْنقُل من دار جهازك إلى دار مُقامك، وإنك مَحْضُور ومًتَصِل بقلبي لوْعتُك، وأرى تخاذل أطْرافك، وانتفاع لَوْنك، فإلى " اللّه " تَعْزيتي عنك، ولديه ثوابُ صَبْري عليك، أَرْقأ فلا أرْقأ، وأشْكُو فلا أشْكَى. فرفعِ رأسه فقال: يا بُنيّة، هذا يوم يُحَلّ فيه عن غِطائي، وأعاين جزائي، إنْ فرٍحاً فدائم، وإنْ تَرَحاً فمُقيم. إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم حين كان النكوص إضاعةً، والحذر تَفْريطاً، فشَهيدي اللّه ما كان بقلبي إلا إياه، فتَبلَغت بصَحْفتهم، وتعلّلت بدرّة لقْحَتهم، وأقمت صَلاَي معهم، لا مُخْتالاً أشِراً، ولا مُكابِراً بَطِراً، لم أعْدُ سَدَّ الجوْعة، وتوْرية العَوْرة، طَوًى مُمغص تَهْفُو له الأحْشاء، وتَجِبً له الأمعاء؛ واضطررت إلى ذلك اضطرار الجَرِض إلى الماء المَعيف الآجن، فإذا أنا مِتُّ فردِّي إليهم صَحْفتهم ولَقْحَتهم وعَبْدَهم ورحَاهم، ودِثَارة ما فوقي اتقيت بها أذى البرد، ووِثارة ما تحتي اتقيتُ بها أذىَ الأرْض، كان حَشْوهُما قِطَع السَّعف.
ودخل عليه عمر فقال: يا خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كلفتَ القومَ بعدك تَعَبا، ووَلَّيتهم نَصَبا، فهيهات مِن شقّ غُبَارك، فكيف باللحاق بك. وقالت عائشة وأبوها يُغمَّض:
وأبْيَض يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهه ... رَبيع اليَتامى عصمة للأرامِل
" قالت عائشة " : فنظر إليّ " كالغضبان " وقال: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أغمي عليه، فقالت:
لَعمرك ما يغني الثّرَاء عن الفَتى ... إذا حَشْرَجَت يوماً وضاق بها الصَّدْرُ

قالت: فنظر إليّ كالغضبان وقال لي: قُولي: " وَجَاءَتْ سَكْرةُ المَوْتِ بالحَقّ ذلِك ما كُنْتَ منه تَحِيد " . ثم قال: انظروا مُلاءَتيّ فاغْسلوهما وكفِّنوني فيهما، فإن الحيَّ أحوجُ إلى الجديد من الميّت.
وقال مُعَاوية حين حَضرَته الوفاة:
أَلا لَيْتَني لم أغنَ في المًلْكِ ساعةً ... ولم أَكُ في اللَّذّات أعْشىَ النواظِرِ
وكنْتُ كذِي طِمْرَيْنِ عاش بِبُلْغَةٍ ... لياليَ حتى زار ضَنْك المَقابِر
لما ثَقُل مُعاوية ويزيدُ غائبٌ أقبل يزيد، فوجد عُثمان بنَ محمد بن سُفيان جالساً فأَخذ بيده، ودخل على مُعاوية وهو يجود بنفسه، فكلَّمه يزيدُ فلم يُكلِّمه، فبكى يزيدُ وتَضَوَّر مُعاوية ساعةً، ثم قال: أي بُنى، إنّ أعظم ما أخافُ الله فيه ما كنتُ أصنع لك. يا بني، إني خَرجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا مضى لحاجته وتوضأ، أصبّ الماء على يَدَيه، فنَظَر إلى قميص لي قد انخرِق من عاتقي، فقال لي: يا مُعاوية: ألا أكسُوك قميصاً؟ قُلت: بلى، فكَساني قميصاً لم ألبَسْه إلا لَبْسَةً واحدة، وهو عندي؛ واجتز ذات يوم فأخذتُ جُزازة شَعرِه وقُلامَة أظفاره فجعلتُ ذلك في قارُورة، فإذا مِتِّ يا بُني فاغْسِلْني، ثم اجعل ذلك الشّعر والأظفار في عَيْنَيَّ ومِنْخَري وفميِ، ثم اجعل قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم شِعَاراً من تحت كَفَني، إن نَفَع شيء نفع هذا.
لما احتُضِر عمرو بن العاص، جمع بَنِيه فقال: يا بَني، ما تغنون عني من أمر اللّه شيئاً؛ قالوا: يا أبانا، إنه الموت، ولو كان غيرُه لَوَقَيْناكَ بأنفسنا؛ فقال: أَسْنِدُوني، فأسْنَدوه. ثم قال: اللهم إنك أمرتني فلم أأْتمر، وزَجَرتني، فلم أَزْدَجِر، اللهم لا قَوِي فأنتصر، ولا بَريء فأعتذر، ولا مُسْتكبر بل مُسْتغفر، أستغفرك وأتوب إليك، لا إله إلا أنت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين. فلم يَزَل يُكَرِّرها حتى مات. قال: وأخبرنا رجالٌ من أهل المدينة أنَّ عمرو بن العاص قال لبنيه عند موته: إنيِّ لستُ في الشرِّك الذي لو مِتُّ عليه أدْخِلْتُ النار، ولا في الإسلام الذي لو مِتُّ عليْه أدخِلت الجنَة، فمهما قَصَرْتُ فيه فإنِّي مُستَمْسِك بلا إله إلا اللهّ، وقَبَض عليها يده، وقُبض لوقته. فكانت يده تفْتَح، تترَك فَتَنْقَبض. وقال لبَنِيه: إنْ أنا مِتُّ فلا تَبْكوا عليّ، ولا يتبعني مادح ولا نائحٌ، وشًنُّوا عليِّ التراب شَنًّا، فليس جَنْبي الأيمن أولى بالتراب من الأيسر، ولا تجعلوا في قَبري خَشبةً ولا حَجَراً، وإذا وارَيْتموني فاقعدوا عند قَبري قَدْرَ نَحْر جَزُور وَتَفْصِيلها أسْتَأنس بكم.

الجزع من الموت
الفُضَيل بن عِيَاض قال: ما جَزع أحدٌ من أصحابنا عند الموت ما جزع سُفْيان الثوريّ، فقلنا: يا أبا عبد الله، ما هذا الجَزَع؟ أليس تَذْهَب إلى من عَبَدْته وفَرَرْت ببدنك إليه؟ فقال: ويحكم! إني أسْلُك طريقاً لم أعرفه، وأقْدم علِى ربٍّ لِم أره.
ولما تُوُفِّي سعيدُ بن أبي الحسن وجد عليه أخوه الحسن وَجْداً شديداً، فكُلِّم في ذلك، فقال: ما رأيتُ الله جعل الحُزن عاراً على يَعْقوب.
وقال صالح المًرِّي: دخلتُ على الحسن وهو في الموت وهو يُكثِر الاسترجاعَ، فقال له ابنه: أمثْلك يَسترجع على الدنيا؟ قال: يا بُني، ما أسْتَرجع إلا على نفسي التي لم أُصَب بمثلها قَطًّ. ولما أمر معاوية بقتل حجْر بن الأدْبَر وأصحابه، بَعث إليهم أكفانهمِ وأمر بأن تُفْتح قبورهم ويُقْتلوا عليها. فلما قُدِّم حُجْر بن الأدبر إلى السيف جزعِ جزَعاً شديداً، فقيل له: أمثلُك يَجزعٍ من الموت؟ فقال:وكيف لا أجزع وأرى سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً، وقَبْراً مَحفوراً.
البكاء على الميت
الشَّعبي عن إبراهيم قال: لا يكون البُكاء إلا من فَضْلٍ " قُوة " ، فإذا اشتد الحُزن ذَهَبَ البكاء. وأنشد:
فلئن بَكَيْناهُ لَحُقّ لنا ... ولئن تَرَكْنا ذاك للصَّبرِ
فَلِمِثْله جَرَت العُيونُ دماً ... ولمثله جَمَدت ولم تَجْرِ

مر الأحنف بامرأة تبكي مَيتاً ورجل ينهاها، فقال: دَعْها فإنها تَنْدُب عَهْداً قريباً وسَفراً بعيداً. قالوا: لما توُفَي إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم بكى عليه. فسُئِل عن ذلك، فقال: تدمع العينان ويحزن القلب ولا نَقُول ما يُسْخِط الرب.
ومَر النبي صلى الله عليه وسلم بنِسْوة من الأنصار يَبْكين مَيِّتاً، فزَجَرهنَّ عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: دَعْهن يا عُمر، فإن النفسَ مُصابة، والعينَ دامِعة والعهدَ قريب. ولما بكت نساء أهل المدينة على قَتْلى أُحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنَّ حمزةَ لا باكيةَ له. فسَمِع ذلك أهلُ المدينة، فلم يَقُمْ لهم مأتم " أبعدها " إلى اليوم إلا ابتدأ " النّساء " فيه بالبكاء على حمزة قالت النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن يُشَقّ على صَفيَّة ما دفنتهُ حتى يُحْشرً من حواصل الطير وبُطون السِّباع.
ولما نُعي النًّعمان بن مُقَرَّن إلى عمر بن الخطاب وضع يدَه على رأسه وصاح يا أسفي على النعمان. ولما استُشهد زيد بن الخطاب باليمامة، وكا صَحبه رجلٌ من بني عَدِيّ بن كعب فرَجع إلى المدينة، فلما رآه عمرِ دَمَعَت عيناه، وقال: وخلَّفت زيداً ثاوياً وأتيتني وقال عمرُ بنُ الخطاب " رضي الله عنه " : ما هَبت الصَّبا إلا وجدتُ نَسيم زيد.
وكان إذا أصابته مصيبة قال: قد فقدتُ زَيداً فصبرتُ.
ولما تُوفي خالدُ بن الوليد أيام عمرَ بن الخطاب، وكان بينهما هجرة، فامتنع النساء من البكاء عليه. فلما انتهى ذلك إلى عمر، قال: وما على نساء بني المغيرة أن يُرِقْنَ من دمعهن على أبي سُليمان ما لم يكن لَغْواً ولا لَقْلَقة. وقال معاوية، وذُكر عنده النساء: ما مَرَّض المَرضى ولا نَدَب الموْتى مِثْلهنَّ. وقال أبو بكر بن عيّاش: نزلت بي مصيبة أوْجعتني، فذكرتُ قولَ ذي الرُّمة:
لعل انحدار الدَّمع يُعْقِبُ راحةً ... من الوَجْد أو يَشْفي شَجِيّ البَلاَبِل
فَخَلوتُ فبكيتُ فسلوتُ. وقال الفرزدق في هذا المعنى:
ألم تَرَ أنّي يومَ جَوِّ سُوَيْقة ... بَكيتُ فنادَتني هُنَيْدَةُ ماليَا
فقُلتُ لها إنَّ البُكاء لراحةٌ ... به يَشْتَفي من ظَنً أن لا تلاقيَا
قعيدَ كما الله الذي أنتما له ... ألم تَسْمعا بالبِيضَتين المُنَاديا
حَبِيبٌ دعا والرمل بَيني وبينه ... فأسمعنى سَقْياً لذلك داعِياً
يقال: قعيدك اللّه، وقِعْدَك اللهّ، معناه: سألتك اللّه.

القول عند المقابر
قال بعضُهم: خرجنا مع زَيْد بن عليّ نُريد الحجَّ، فلما بلغنا النِّبَاج وصرنا إلى مقابرها التفتَ إلينا، فقال:
لكُلِّ أًناس مَقْبَر بِفنائهم ... فهم يَنْقُصُون والقُبور تَزيدُ
فما إنْ تَزالُ دارُ حَيٍّ قد اخْرِبَتْ ... وقَبْرٌ بأَفْنَاءِ البُيوت جديد
هُمُ جِيرَةُ الأحياء أما مَزارُهم ... فدانٍ وأما المُلتقى فبَعِيد
وقال: مررتُ بيزيد الرَّقاشيّ وهو جالسٌ بين المدينة والمقبرة، فقلت له: ما أجْلسك ها هنا؟ قال: أَنْظُر إلى هذين العَسْكرين، فعسكرٌ يَقْذِف الأحياء وعسكرٌ يلْتقم الموتى ثمِ نادى بأعلى صوته: يأهلَ القُبور المُوحِشَةَ، قد نطق بالخَرَاب فَناؤُها، ومُهِّدَ بالتُّرَاب بِناؤُها، فمحلُّها مُقْترَب، وساكنها مغْتَرب، لا يتواصلون تواصلَ الإخوان، ولا يتزاورون تَزاور الجيران، قد طَحَنهم بكَلْكَله البِلَى، وأكلتهم الجنادل والثّرى.

وكان عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا دخل المَقبرة قال:أما المنازل فقد سُكِنت، وأما الأموال فقد قُسِّمت، وأما الأزواج فقد نُكِحت،فهذا خبر ما عندنا، فليْتَ شِعْري ما عندكم؟ ثم قال: والذي نفسي بِيده، لو أذِن لهم في الكلام لقالوا: إن خير الزَّاد التَّقوى. وكان عليُّ بن أبي طالب إذا دخل المقبرة قال: السلامُ عليكم يأهل الدِّيار المُوحِشة، والمَحالَ المقفرة، من المؤمنين والمُؤمنات، اللهم اغفرِ لنا ولهم، وتجاوَز بعفوك عنّا وعنهم. ثم يقول: الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، والحمد للهّ الذي منها خَلَقنا و " جعل " إليها مَعَادنا، وعليها محشرنا؛ طوبى لمن ذكر المَعاد، وعمل الحسنات، وقَنع بالكفاف، ورَضي عن الله عزّ وجلِّ.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دَخل المَقْبرة قال: السلامُ عليكم دارَ قوم مُؤمنين وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون. وكان الحَسَن البَصريّ إذا دخل المقبرة قال: اللهم رَبّ هذه الأجساد البالية، والعِظامٍ النّخرة، التي خَرَجت من الدُّنيا وهي بك مؤمنة، أدخِل عليها رَوحاً منك وسَلاماً منَّا. وكان عليُّ ابن الفَضْل إذا دَخل المقبرة يقول: اللهم اجعل وَفَاتهم نجاةً لهم مما يَكْرَهون، واجعل حِسابهم زيادة لهم فيما يُحبون.
الوقوفْ على القبور وتأبين الموتى
وقف أعرابيٌ على قَبْر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قُلتَ فَقَبِلْنا، وأمرتَ فحَفظنا، وبلَغت عن ربك فسَمِعْنا. " ولَو أنهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم جاءُوك فاستَغْفرُوا الله واسْتَغْفر لهم الرَّسًولُ لَوَجَدُوا الله تواباً رَحيَماً " . وقد ظَلمنا أنفسنا وجِئْناك فاستَغفر لنا. فما بَقِيت عينٌ إلا سالَتْ. وقفت فاطمةُ عليهما السلام على قبر أبيها صلى الله عليه وسلم، فقالت:
إنا فَقَدْناك فَقْد الأرض وابلها ... وغابَ مُذْ غِبْت عنِّا الوَحْيُ والكُتُبُ
فليتَ قَبْلَكَ كان الموتُ صادَفَنا ... لما نُعِيتَ وحالتْ دونك الكُتُبُ
حمّاد بن سَلَمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: لما فَرغنا من دَفن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلَتْ عليَّ فاطمةُ فقالت: يا أنس، كيف طابَتْ أنفسكم أن تَحْثُوا على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الترابَ، ثم بَكت ونادت: يا أبتاه! أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه! مِن ربِّه ما أدناه، يا أبتاه! مَن ربُّه ناداه، يا أبتاه! إلى جبربل نَنْعاه، يا أبتاه! جَنَّة الفرْدَوْس مأواه. قال: ثم سَكَتتْ، فما زادت شيئاً.
ولما دُفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقْبل عبدُ الله بن مَسعود وقد فاتَتْه الصلاةُ عليه، فوَقَفَ على قَبره يبكي ويَطْرح رِداءه، ثم قال: واللّه لئن فاتَتْني الصلاةُ عليك لا فاتَني حُسْنُ الثّناء، أما واللهّ لقد كنتَ سَخيا بالحقّ، بخيلاً بالباطل، تَرضى حين الرِّضا، وتَسْخَط حين السُّخْط، ما كنتَ عَياباً ولا مَدِّاحاً، فجزاك الله عن الإسلام خَيْراً. ووقف عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه على قَبْر خَبّاب، فقال: رَحم اللهّ خَبِّابا، لقد أسْلم رَاغِباً، وجاهد طائعاً، وعاش زاهداً، وآبتُلي في جسمه فَصَبر، ولن يُضيِّعَ اللهّ أجرَ من أحسن عملاً.

ولما توُفي عليّ بن أبي طالب رضوان اللهّ عليه، قام الحسنُ بن علي رضي اللهّ عنهما، فقال: أيها الناس، إنه قُبِض فيكم الليلة رَجُلٌ لم يسبقه الأولون ولم يُدْركه الآخِرِون، قد كان رسولُ للّه صلى الله عليه وسلم يَبْعثه فيَكتنفه جبريلُ عن يمينه وميكائيل عن شِماله، لا يَنْثني حتى يَفْتح الله له، ما تَرَك صَفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة دِرهم أعدَّها الخادم له. عبدُ الرحمن بن الحسن عن محمد بن مُصْعَب قال: لما مات داود الطائي تكلَّم ابن السّماك فقال: إنّ داود نظر إلى ما بي يَدَيه من آخرته، فأعشى بَصَرُ القَلْب بصرَ العيَنْ، فكأنه لم ينْظر إلى ما إليه تَنْظرون، وكأنًكم لم تَنْظروا إلى ما إليه نظر، وأنتم منه تَعْجبون، وهو منكم يَعْجَب، فلما رآكم مَفْتُونين مَغرورين، قد أذهَلت الدّنيا عًقُولكم، وأماتت بحبِّها قُلوبكم، آستوحش منكم، فكنتَ إذا نظرتَ إليه حَسِبْتَه حيًّا وسْط أمْوات. يا داود، ما أعجب شأنك بين أهل زمانك! أهَنت نَفْسك وإنما تُريد إكرامَها، وأتْعبتها وإنما تُريد راحتها، أخشَنْت المَطعم وإنما تُريد طيبَه، وأخْشَنْت الملبس وإنما تُريد لينه، ثم أمَتَّ نَفْسك قبل أن تموت، وقَبرْتها قبل أن تُقْبَر، وعذَّبتها قبل أن تُعَذَّب، سَجَنْت نفسك في بَيْتك ولا مَحدِّث لها ولا جليس معها، ولا فِرَاش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قُلّة تُبرَّد فيها ماءك، ولا صَحْفة يكون فيها غَداؤُك وعشاؤك. يا داود، ما تشْتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيِّبه، ولا من اللِّباس ليِّنه، بلى، ولكن زَهِدْت فيه لما بين يَدَيك، فلا أصغر ما بذلتَ وما أحقرَ ما تَرَكْتَ في جَنْبِ ما رَغِبْت وأمًلت! لم تقبل من الناس عَطيَّة، ولا من الإخوان هدية، فلما مِتّ شَهَرَك رَبًّك بفَضْلك، وألبسك رِدَاء عملك، فلو رأيت مَنْ حَضرَك علمت أن ربِّك قد أكْرمك وشرَّفك.
وقف الأحنفُ بن قيسِ على قَبْر أخيه فأنشد:
فوالله لا أنْسى قَتيلا رُزِئْتُه ... بجانب قوسىَ ما مَشيَ على الأرض
على انها تَعْفُو الكُلومُ وإنما ... نوَكَلُ بالأدنى وإن جلَّ ما يَمْضي
ووقف محمد بن الحَنَفية على قبر الحُسن بن علي رضي الله عنه فخَنَقَتْه العَبرَة، ثم نَطقَ فقال: يَرْحمك الله أبا أحمد، فلئن عزّت حَياتُك فلقد هَدَّت وفاتُك، ولَنِعْم الرُّوح روح ضَمّه بدَنك، ولَنِعْمَ البدن بَدَنُ ضَمَّه كَفَنُك، وكيف لا يكون كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء، وسليل الهُدى، وخامِس أصحاب الكِساء، غَذَتْك أكُفّ الحقّ، ورُبيت في حِجْر الإسلام، فطِبْت حيّا وطِبْت مَيِّتاً، وإن كانت أنفسنا غيرَ طيِّبة بفراقك، ولا شاكة في الخِيار لك. ووقَفت عائشة على قبر أبي بَكْر فقالت: نَضَّر الله وَجْهَك، وشكرَ لك صالح سَعْيك، فقد كًنت للدنيا مُذِّلاً بإدبارك عنها، وكنت للآخرة مُعِزاً بإقبالك عليها، ولئن كان أجلَّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رُزْؤُك، وأعظم المصائِب بعده فقْدُك، إنَّ كتاب الله لَيعِد بحُسْن الصبر فيك وحُسن العِوَض منك فأنا أنتجز موعد الله بحسن العزاء عليك، وأستعيضه منك بالاستغفار لك، فعليك السلامُ ورحمة اللهّ، توديع غير قاليةٍ لك، ولا زارية على القضاء فيك، ثم انصرفت.

لما قُبض أبو بكر " رضي الله عنه " سُجِّي بثَوب، فارتَجَّت المدينة بالبُكاء عليه ودهش القوم كيوم قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عليٌّ ابن أبي طالب باكياً مُسرعاً مسترجعاً حتى وَقف بالباب وهو يقول: رَحمك الله أبا بكر، كنت واللهّ أولَ القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم عناء، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحربَهم كل الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقاً وَفَضْلاً وَهَدْياً وصمتاً؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول اللهّ وعن المُسلمين خيراً، صدّقت رسول الله " صلى الله عليه وسلم " حين كَذًبه الناس، وواسيتَه حين بَخِلوا، وقمت معه حين قعدوا، سمّاك اللهّ في كتابه صِدِّيقاً فقال: " والَّذي جَاءَ بالصَدق وصَدق به " يريد محمداً ويُريدك. كنت واللهّ للإسلام حِصْناً، وعلى الكافرين عَذاباً، لم تُفْلَل حُجَّتك، ولم تَضْعُف بصيرتُك، ولم تَجْبُن نفسك. كنت كالجبلِ لا تُحَرِّكه العواصف ولا تُزيله القَواصف، كنت كما قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " : ضعيفاَ في بدنك، قويًّا في أمر الله، متواضعاً في نَفْسك، عَظيماً عند اللهّ، قليلاً في الأرض، كثيراً عند المؤمنين، لم يَكن لأحد عِنْدك مَطْمَع، ولا لأحدٍ عندك هَوَادة، فالقويُّ عندك ضعيف حتى تأخذَ الحقّ منه، والضعيفُ عندك قويُّ حتى تأخذ الحقّ له، فلا حَرَمنا الله أجرَك، ولا أضَلنا بعدك.
وَقف عبد الملك بن مَرْوان على قبر معاوية فقال: تاللّه إن كنت إلا كما علمت، يُنْطقك العِلم، ويُسْكِنك الحِلم. ثم أنشأ يقول:
وما الدَّهر والأيام إلاّ كما ترى ... رَزِيّة مالٍ أو فِراقُ حَبِيب
الهيْثم بن عدى قال: لما هَلَك زياد استعمل مُعاوية الضحّاك على الكُوفة، فلما دخلها، سأل عن قبر زياد، فدُلَ عليه، فأتاه حتى وَقف به، ثم قال:
أبا المُغِيرة والدنيا مُفجِّعة ... وإنّ من غرَّت الدُّنيا لَمَغْرُورُ
قد كان عِنْدك لَلْمَعْروف مَعْرفةٌ ... وكان عِنْدك للنَّكْرَاء تَنْكير
لو خَلَّدَ الخِيرُ والإسلامُ ذا قَدَم ... إذًا لَخَلِّدَك الإسلامُ والخير
والأبيات لحارثة بنَ بَدْر يَرْثى زياداً.
المدائنيّ قال: لما دَفن عليُّ بن أبي طالب كرَّم اللهّ وجهه فاطمة عليهما السلام تَمثّل عند قبرها، فقال:
لكًلّ اجْتماع من خَلِيلَين فًرْقَةٌ ... وكل الذي دون الممات قَلِيلُ
وإنّ آفتقادى واحداً بعد واحدٍ ... دليل على أن لا يَدُومَ خَليل
لما مات الحسنُ بن عليّ عليهما السلامُ ضرَبت آمرأته فُسْطاطا على قبره وأقامت حَوْلاً، ثم انصرفتْ إلى بَيتِّها، فسمعَتْ قائلاً يقَول: أدرَكوا ما طَلبوا. فأجابه مُجيب: بل مَلُّوا فانصرفوا. ابن الكَلْبي قال: وقفت نائلة بنتُ الفُرافِصَة الكَلْبية عَلى قبر عثمان فتَرحمت عليه، ثم قالت:
وما ليَ لا أَبْكِي وتَبْكي صَحَابتي ... وقد ذَهَبْت عنّا فُضول أبي عَمْرِو
ثم انصرفتْ إلى منزلها، فقالت: إني رأيتُ الحُزْنَ يَبْلى كما يَبْلى الثوبُ، وقد خِفْت أن يَبْلى حُزْنُ عثمان في قلبي. فَدَعَتْ بفِهْر فهشَمت فاها وقالت: واللّه لا قَعد منّي رجل مَقعد عثمان أبدا.
لما هلك الإسْكندر قامت الخُطباء على رأسه، فكان من قولهم: الإسكندر كان أمس أنطقَ منه اليوم، وهو اليوم أوعظُ منه أمس. أخذ هذا المعنى أبو العتاهية، فقال عند دَفْنه ولداً له:
كَفي حَزَناً بِدَفْنِك ثم أني ... نفضتُ تُرَاب قَبْرك من يَديا
وكنتَ وفي حًياتك لي عِظاتٌ ... فأنتَ اليومَ أوعظُ منك حيّا
وَقف أبو ذرّ الهَمْداني على قبر ابنه ذرّ فقال: يا ذَرّ، شغلني الحزن لك عن الحزْن عليك، فليت شِعْري ما قُلتَ وما قيل لك. ثم قال: اللهم إنّي قد وهبتُ لك إساءته إلي، فَهَبْ له إساءته إليك. فلما انصرف عنه التفتَ إلى قبره فقال: يا ذرّ، قد انصرفنا وتَرَكْناك، ولو أقمنا ما نَفعناك.

وقف محمد بن سُليمان على قبر ابنه فقال: اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه، فحقق رجائي وآمِنْ خوفي. وَقفت أعرابيّة على قبر أبيها فقالت: يا أبتِ، إنَّ في اللهّ تبارك وتعالى من فَقْدِك عِوَضاً، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مُصيبتك أسْوة، ثم قالت: اللهمٍ، نَزل بك عبدُك مُقْفِراً من الزاد، مخشَوْشِن المِهاد، غَنِيًّا عما في أيدي العباد، فقيراً إلى ما في يَدَيك يا جواد، وأنت أي ربّ خيرُ من نزل به المؤًمِّلون، واْسْتَغْنى بفَضْلِهِ المقِلًّون، وولَجَ في سَعة رَحْمَته المُذْنبون. اللهم فَليكن قِرَى عبدك منك رحمتَك، ومِهادُه جنّتك، ثم انصرفت.
قال عبد الرحمن بن عمر: دخلْتُ على امرأة من نجد بأعلى على الأرض في خِباءٍ لها وبين يَدَيْها بُنَيّ لها قد نزلَ به الموتُ، فقامتْ إليه فأَغْمضَته وعَصَبته وَسَجَّته، وقالت: يابن أخي؟ قلتُ: ما تشائين؛ قالت: ما أَحَقَّ من ألبس النِّعمة وأطِيلَت به النَظِرة أن لا يدع التوثّق من نَفْسه قبل حِل عُقْدته، والحُلول بعَقْوَته، والمحالة بينه وبين نَفْسه. قال: وما يَقطر من عينها دمعة صبراً وآحتسابأ. ثم نظرت إليه فقالت: واللهّ ما كان " مالُه " لبَطنه ولا أمره لعِرْسه؛ ثم أنشدت:
رَحِيبُ ذِرَاعُ بالتي لا تشينه ... وإن كانت الفَحْشاء ضاق بها ذَرْعا
وَقفَ عمرُ بن عبد العزيزِ على قبر ابنه عبد الملك فقال: رَحمك الله يا بُنيّ، فلقد كنت سارًّا مولوداً بارًّا ناشئاَ، وما أَحْسِب أنّي لو دعوتُك أَجبْتني. تُوفي رجل كان مُسْرِفاً على نفسه بالذُّنوب فتحامَى الناسُ جِنَازَته، فبلغ عمرَ بن ذرّ خبره، فأوصى إلى أهله أن خذوا في جهازه فإذا فرغتم فآذنوني، ففعلوا وشهده عمر بن ذر وشهده الناسُ معه، فلما فَرَغ من دفنِه وقفَ عمر بن ذر على قبره فقال: يَرْحمك الله أبا فلان، فلقد صَحِبت عُمرَك بالتَّوحيد، وعَفَرْت لله وجهك بالسُّجود، فإن قالوا مُذنب وذو خطايا، فمن منّا غير مُذْنب وغيرُ ذِي خَطايا.
سمع الحسنُ جارية واقفة على قبر أبيِها وهي تقول: يا أبتِ، مثلَ يومك لم أَرَه. قال الذي والله لم يرَ مثلَ يومه أبوك. وسمع عمر بن عبد العزيز خَصِيًّا للوليد بن عبد الملك واقفاً على قبر الوليد وهو يقول: يا مولاي، ماذا لَقِينا بعدك؟ فقال له عمر: أما واللّه لو أُذِن له في الكلام لأخبر أنه لَقي بعدكم أكثرَ مما لَقيتم بعده. وقف مُعاوية على قَبْر أخيه عُتْبة فدعا له وِتَرَحّم عليه، ثمِ التفت إلى مَن معه، فقال: لو أن الدُنيا بُنِيت على نِسْيان الأحِبة ما نسِيت عُتبة أبداَ.

المراثي
ّ
من رثي نفسه
ووصف قبره وما يكتب على القبر
قال قال ابن قتَيْبة: بلغني أن أوّل مَنْ بكى على نفسه وذكرَ الموت في شِعْره يزيدُ بن خَذّاق، فقال:
هَل للفتى من بنات الدهر مِن وَاقِي ... أم هل له من حِمام المَوْتِ من رَاقِي
قد رَجَّلوني وما بالشَّعر من شَعَثٍ ... وألبَسوني ثِيَاباً غيرَ أخْلاق
وطَيَّبوني وقالوِا أيما رَجُلٍ ... وأدرَجوني كأنّي طيّ مخْرَاق
وأرسَلوا فِتْيَةً من خيْرِهِمْ حَسَباً ... لِيُسْنِدُوا في ضرَيح القَبْر أطباقي
وقَسمُوا المال وارفضّت عوائدُهم ... وقال قائلُهُم مات ابن خَذّاق
هَوِّن عليك ولا تُولَع بإشفاق ... فإنّما مالُنا للوارث الباقي
وقال أبو ذُؤيب الهُذليّ يَصِفُ حُفرته:
مُطأْطَأةً لم ينبطوها وإنها ... لَيَرْضى بها فُرَّاطها أُمَّ واحدِ
قَضَوْا ما قَضَوْا من رَمِّهَا ثم أقبلوا ... إلى بِطَاءَ المَشيْ غبْر السَّواعِد
فكنتُ ذَنُوبَ البِئر لما تَبَسَّلت ... وأدرجتُ أكفاني ووُسَدْت ساعدي
وقال عُروة بن حِزام لما نَزل به الموتُ:
مَن كان مِن أخَوَاتي باكياً أبداً ... فاليومَ إني أُراني اليوْمَ مَقْبُوضَا
يُسْمِعْنَنِيه فإنّي غيرُ سامِعِه ... إذا علوتُ رِقابَ القول مَعْروضا
وقال الطرمِّاح بن حَكِيم:

فيا رَبّ لا تَجعل وَفاتِيَ إن أتَتْ ... على شَرْجَعٍ يُعْلَى بخُضْر المَطَارفِ
ولكنْ شهيداً ثاوياً في عِصابة ... يُصابون في فَجٍّ من الأرْض خائف
إذا فارَقُوا دًنْياهُم فارَقُوا الأذىَ ... وصارُوا إلى مَوْعُود ما في الصَّحَائف
فأقْتَلَ قَعْصاً ثم يُرْمى بأعْظُمِي ... مُفَرقةً أوصالُها في التَنَائف
ويُصْبِحَ لَحْمِي بَطْنَ نَسْر مقيلُه ... بجَوَ السماءِ في نُسورعواكف
وقال مالك بن الرّيْب يَرْثى نَفْسه ويصِف قَبْرَه، وكان خرَج مع سَعيد بن عثمان بن عفّان لما وَليَ خُراسان، فلما كان ببعض الطَّريق أراد أن يَلْبَس خُفَّه، فإذا بأفعى في داخلها فلسعَتْه، فلما أحسّ الموت استلقى على قَفاه، ثم أنشأ يقول:
دَعاني الهَوَى من أهل أودَ وصُحْبَتي ... بذِي الطَّبَسينْ؟ فآلتفتُّ ورَائِياً
فما رَاعني إلا سَوَابقُ عَبْرَة ... تقَنَعتُ منها أنْ ألام ردائيا
ألم تَرَني بِعْتُ الضلالةَ بالهدَى ... وأصبحتُ في جَيْش ابن عَفّان غازيا
فللّه درِّى حين أَتْرُك طائعاً ... بَنيَّ بأعْلَى الرقْمَتين وماليا
ودَرّ كبيرَىَّ اللذين كِلاهما ... علَيَّ شفيقٌ ناصح لو نهانيا
ودرُّ الظِّبَاء السانحات عَشيةً ... يُخَبَرْن أني هالكٌ من أماميا
تقول ابنتي لما رأت وَشْك رِحْلتي ... سِفَارُك هذا تارِكي لا أباليا
ألا ليتَ شِعْري هل بَكتْ أمالك ... كما كنتُ لو عالَوْا نَعِيك باكيا
على جَدَث قد جرَّت الرِّيح فوقَه ... تُرَابا كسَحْق المَرْنبانيّ هابيا
فيا صاحَبيْ رَحْلِي دَنا الموت فاحفِرَا ... برابية إنّي مُقيم لياليا
وخُطّا بأطراف الأسِنَّة مَضْجعِي ... ورُدَّا عَلَى عَيْني فَضْلَ رِدَائيا
ولا تَحْسداني بارَك الله فيكما ... من الأرض ذاتِ العَرْض أن توسِعاليا
خُذَاني فَجُراني بِبُرْدِي إليكما ... وقد كنت قبلَ اليوم صَعْباً قيَاديا
تفَقَّدْت مَنْ يَبكى عليّ فلم أجد ... سوى السَّيف والرُّمح الردَيّنيِّ باكيا
وأدْهَم غِرْبيب يجرُّ لِجَامَه ... إلى الماء لم يَترك له الموت ساقيا
وبالرمل لو يَعْلمَنْ علْمِي نِحسوَةٌ ... بَكَين وفَدَّيْن الطبيبَ المُدَاوِيا
عَجُوزِي وأخْتاي اللَّتان أصِيبتا ... بِمَوتي وبِنْت لي تَهِيج البَوَاكيا
لعمري لَئِن غالت خُراسانُ هامتي ... لقد كنتُ عن بابَيْ خرَاسان نائيا
تَحَمَّل أصحابي عِشَاءَ وغادَرُوا ... أخا ثِقَةٍ في عَرْصَة الدَار ثاوِيا
يَقُولون لا تَبْعَد وهم يَدْفِنُونني ... وأينَ مَكان البُعْدِ إلا مَكانيا
وقال رجُل من بني تَغْلب يقال له أفْنُون، وهو لَقبه، واسمه صُرَيم بن مَعْشر بن ذُهْل بن تَيْم بن عمرو بن مالك بن حَبيب بن عمرو بن عُثمان بن تَغْلِب، ولَقِيَ كاهناً في الجاهلية، فقال له: إنك تموت بمكان يقال له إلاهَة. فمكث ما شاء الله، ثم سافر في رَكْب من قومه إلى الشام فأتَوْها، ثم انصرفوا فضلّوا الطَّريق، فمالوا لرجل: كيف نَأخذ؟ فقال: سِيرُوا حتى إذا كنتم بمكان كذا وكذا ظَهَر لكم الطريق ورَأيتم إلاهة - وإلاهة قارة بالسّماوة - فلما أتَوْها نزل أصحابُه وأبى أن يَنْزل، فبينما ناقتُه تَرْتعى وهو راكبها إذ أخَذتْ بمشْفر ناقته حَيَّة، فاحتكت الناقةُ بمشْفرِها فلدغتْ ساقه؛ فقال لأخيه وكان معه، واسمَه مُعاوية: احفر لي فإني ميّت، ثَم تغنِّى قبل أن يموت يبكى نفسه:
فلستُ على شيء فُروحَنْ مُعاويا ... ولا المُشْفِقاتُ إذ تَبِعْنَ الحوَازيا
ولا خَيْرَ فيما يَكْذِب المرْءُ نفسَه ... وتَقْوَالِه للشيء يا ليت ذا ليا

وإن أعْجَبَتك الدهرَ حال من آمرىء ... فَدَعْه ووَاكلْ حاله واللّياليا
يَرُحن عليه أو يُغَيِّرْن ما به ... وإنْ لم يَكُنْ في خَوْفِه العَيْث وإنيا
فطأ مُعْرضاً إنِّ الحُتُوف كثيرةٌ ... وأنَّك لا تبْقى بنَفْسِك باقيا
لعَمْرك ما يَدْري آمرؤ كيف يَتَّقىِ ... إذا هو لم يَجْعل له الله وَاقيا
كفي حَزناً أن يَرحل الرَّكب غُدْوَةَ ... وأنزِلَ في أعلَى إلاهة ثاويا
قال: فمات فَدَفَنوه بها. وقال هُدْبة العذُرِي لما أيْقن بالموت:
ألا عَلَلاني قبل نَوْح النوائح ... وقبلَ آطّلاع النَّفس بين الجَوَانح
وقَبل غدٍ يالَهْفَ نفْسي على غَدٍ ... إذا راح أصحَابي ولستُ برائح
إذا راح أصحابي بِفَيض دُموعهم ... وغُودِرتُ في لَحْدٍ عليّ صَفَائحي
يَقولون هل أصلحتمُ لأخِيكُم ... وما الرمْس في الأرض القِوَاء بصالح
وقال محمد بن بَشير:
ويلٌ لمن لم يَرْحَم الله ... ومَن تكون النار مثْوَاهُ
والوَيل لي من كل يوم أتى ... يُذَكِّرُني الموتَ وأنسَاه
كأنّه قد قيل في مَجْلًس ... قد كنتُ آتية وأغْشاه:
صار البَشيريّ إلى رَبّه ... يَرْحَمًنا اللهّ وإياه
ولما حَضرت أبا العتاهية الوفاةُ - واسمه إسماعيل بن القاسم - أوصى بأن يُكْتَب على قَبره هذه الأبيات الأربعة:
أذْنَ حَيّ تسمعي ... اسمعي ثم عِي وَعي
أنا رَهْنٌ بمَضْجَعيِ ... فاحنَرِي مثلَ مَصْرَعي
عِشْتُ، تسعين حِجّةَ ... ثم وافيتُ مَضجَعي
لي شيءٌ سِوى التُّقَى ... فخذِي منه أو دَعِي
وعارَضه بعضُ الشعراء في هذه الأبيات، وأوْصى بأن تُكتب على قَبره أيضاً فكُتبت، وهي:
أَصبح القبرُ مَضْجَعي ... ومَحلِّي. وِمَوْضِعي
صَرَعَتْني الحُتوف في ... التُّرْب يا ذُلَ مَصْرَعي
أين إخوانيَ الذي ... ن إليهم تَطلُّعي
متُّّ وَحْدِي فلم يَمُتْ ... واحد مِنْهُمُ مَعي
وُجِد على قَبْر جارية إلى جَنْب قبر أبي نُواس ثلاثةُ أبيات، فقِيل إنها من قول أبي نواس، وهي:
أقول لِقَبْر زُرْتُه مُتَلثِّماً ... سَقَى اللهّ بَرْدَ العفو صاحبة القبر
لقد غَيَّبُوا تحت الثَّرَى قَمَرَ الدُّجى ... وشَمْس الضُحى بين الصَّفائح والعفْو
عَجِبْت لعينٍ بعدَها مَلَّت الْبكا ... وقَلْبٍ عليها يَرْتَجى راحةَ الصًبر
الرياشي قال: وُجدتْ تحت الفِراش الذي مات عليه أبو نُواس رقعةٌ مكتوب فيها هذه الأبيات:
يا ربّ إنْ عَظمت ذُنوبي كَثْرةًً ... فلقد عَلِمتُ بأنَّ عَفْوَك أعْظَمُ
إن كان لا يَرْجوك إلا مُحْسِنٌ ... فَبِمن يَلوذ ويستجير المُجْرِمُ
أدْعُوك ربِّ كما أمرتَ تَضرُّعاً ... فإذا رَدَدْتَ يدِي فمن ذا يَرْحم
مالي إليك وسيلةٌ إلا الرّجا ... وجَميلُ عَفوك ثم أني مُسْلِمُ
الخُشنىّ قال: أخبرنا بعضُ أصحابنا ممن كان يَغْشى مجلس الرِّياشي، قال: رأيتُ علي قبر أبي هاشم الإياديّ بواسط:
الموتُ أخْرَجَني من دار مَمْلكتِي ... والموتُ أضْرَعني من بَعد تَشْريفِي
لله عَبْدٌ رَأى قَبري فأعْبرَه ... وخاف من دَهْره رَيْبَ التَصارِيف
الأصمعي قال: أخذ بيدي يحيى بن خالد بن بَرْمك فوقفني على قبره بالحِيرة فإذا عليه مكتوب:
إنَّ بَنِي المُنذر لما آنقضَوْا ... بحب شاد البَيْعة الراهب
تنفَح بالمِسْك مَحاريبهم ... وعنبرٍ يقطبه قاطِبُ
والخُبز واللَحم لهم راهنٌ ... وقهْوَة راوُوقها ساكِب
والقُطْنُ والكَتّان أثوابُهم ... لم يَجْلِب الصُوفَ لهم جالِب
فأَصْبَحوا قُوتاً لدُود الثَّرى ... والدَهرُ لا يَبْقى له صاحِب

كأنما حياتُهم لُعْبَة ... سَرَى إلى بِينِ بها راكب
وقال أبو حاتم: بِين: مَوضع من الحِيرة على ثلاث ليال.
الشَيبانيّ قال: وُجد مكتوباً على بعض القبور:
مَل الأحِبّةُ زَوْرتي فجفيت ... وسَكنتُ في دار البلَى فنسيتُ
الحيّ يَكْذِب لا صَديقَ لِمَيِّتٍ ... لو كَان يَصْدُق مات حين يَمُوت
يا مُؤْنِسا سَكن الثَّرى وَبَقِيتُ ... لو كنتُ أصدُق إذ بليتُ بَليت
أو كان يعمَى للبكاء مُفَجًع ... من طُول ما أبكِي عليك عَمِيت
وقال محمدُ بن عبد الله:
وعمّا قلَيلٍ لنْ تَرى باكياً لنا ... سَيَضْحك من يَبْكى وُيعْرض عن ذِكْري
تَرى صاحبي يبكى قليلاً لِفًرْقتي ... ويَضْحك من طُول اللَيالي على قَبري
ويُحْدِث إخواناً ويَنْسى مَودَتي ... وتَشْغله الأحباب عنّي وعن ذِكْري
من رثى ولده: فمن قولى في وَلدي:
بَلِيت عِظامُك والأسىَ يتجَدَد ... والصبْر يَنْفَد والبُكا لا يَنْفَدُ
يا غائباً لا يُرْتَجَىِ لِإيَابه ... ولقائه دونَ القِيامة مَوْعد
ما كان أحْسَنَ ملْحَداً ضُمِّنْته ... لو كان ضَّم أباك ذاك المُلْحَد
باليأس أسْلو عنك لا بتجلّدِي ... هيهاتَ أين من الحَزين تَجَلّد
ومن قولي فيه أيضاً:
واكَبِدَا قد قُطعت كَبِدي ... وحَرَّقتها لواعجُ الكَمدِ
ما مات حَيٌ لميِّتٍ أسَفآَ ... أعذر من والدِ على وَلد
يا رَحْمةَ الله جاوِرِي جَدَثاً ... دفَنْتُ فيه حُشَاشتي بِيَدي
ونَوِّري ظًلْمة القُبور على ... مَن لم يَصِلْ ظُلْمُه إلى أحد
من كان خِلْواً من كل بائقِةِ ... وطَيِّبَ الرُّوح طاهرَ الجَسَد
يا موت، يَحيى لقد ذهبتَ له ... ليس بُزمَّيْلَةٍ ولا نَكِد
يا مَوْتَه لو أقلتَ عَثْرته ... يا يومَه لو تركتَه لِغَدِ
يا موتُ لو لم تَكُن تعاجله ... لكان لا شكّ بَيْضَة البَلد
أو كنتَ راخيتَ في العِنان ... حاز العُلا واحتَوَى على الأمد
أي حسام سلبت رَوْنَقه ... وأيَّ رُوح سًللت من جَسد
وأيَ ساقٍ قطعت من قَدَم ... وأيَ كَفٍّ أزلْت من عَضدُ
يا قمراً أجْحف الخُسوف به ... قبل بُلوغ السواء في العَدَد
أيُّ حَشاً لم تَذُب له أسفاً ... وأيّ عَيْن عليه لم تَجُد
لا صَبْر لي بعدَه ولا جَلَدٌ ... فجعتُ بالصَّبر فيه والجَلَد
لو لم أَمُتْ عند مَوْته كمَداً ... لَحُقّ لي أن أموت من كَمَدي
يا لَوْعةً ما يزال لاعِجُها ... يَقْدح نارَ الأسى على كَبِدي
وقلت فيه أيضاً:
قَصَد المَنُون له فمات فَقِيدَا ... ومَضى على صَرْف الخطُوب حَمِيدا
بأبي وأمِّي هالِكاً أفْرِدتُه ... قد كان في كلِّ العُلوم فَرِيدا
سُود المقَابر أصبحتْ بِيضاً به ... وغَدت له بيضُ الضمائر سُودا
لم نُرْزَه لما رزِينا وَحْدَه ... وإن استقلّ به المنون وَحِيدا
لكنْ رُزِينا القاسمَ بنَ محمّد ... في فَضْله والأسْودَ بنَ يَزيدا
وابن المُبارك في الرقائق مُخْبِراً ... وابن المُسيِّب في الحديث سَعِيدا
والأخفَشيَنْ فَصاحةً وبلاغةً ... والأعْشَيَيْن رِوايةً ونشيدا
كان الوَصيَّ إذا أردتُ وصيّةً ... والمُستفادَ إذا طلبتُ مفِيدا
وَلَّى حَفيظاً في الأذمّة حافظا ... ومَضى ودودا في الوَرَى مَوْدُودا
ما كان مِثْلى في الرَّزَّية والداً ... ظَفرتْ يَداه بمثله مَوْلُودا
حتى إذا بَذَ السَّوابق في العلا ... والعِلْم ضمِّن شِلْوُه مَلْحودا

يا مَن يُفنِّد في البُكاء مُوَلَّها ... ما كان يَسْمسَ في البُكا تَفْنِيدا
تأبَى القُلوب المسْتَكِينة للأسى ... مِن أن تَكون حجارةً وحَدَيدا
إن الذي باد السُّرورُ بِموْته ... ما كان حُزني بعده لِيَبِيدا
الآنَ لما أن حَوَيتَ مآثرِاً ... أعْيَت عَدُوّا في الوَرَى وحَسُودا
ورأيتُ فيك من الصلاح شمائلاً ... ومن السَّماح دلائلاً وشُهودا
أبْكِي عليك إذا الحمامة طَرَّبت ... وَجْهَ الصَّباح وَغَرِّدت تَغْريدا
لولا الحَياء وأنْ أزَنّ بِبِدْعة ... مما يُعدِّده الوَرى تعْدِيدا
لجعلتُ يومَك في المَنائح مَأتما ... وجعلتُ يومَك في الموالد عِيدا
وقلت فيه أيضاً:
لا بَيْتَ يُسْكن إلا فارَق السكَنَا ... ولا امتلا فَرَحاً إلا امتلا حَزَنَا
لَهْفِي على مَيِّت مات السُّرور به ... لو كَان حَيًّا لأحْيَا الدينَ والسُّنَنا
واهاً عليك أبا بَكْرٍ مُرَدَّدةً ... لو سَكَّنتْ ولَهاً أو فَتَرت شَجَنا
إذَا ذكرتُك يوماً قُلت واحَزَنا ... وما يَرُد عليّ القَوْلُ: واحَزَنا
يا سيّدي ومَراح الرُّوح في جَسدي ... هلا دَنا الموتُ منّي حين مِنْك دنا
حتى يعود بنا في قعْرِ مُظْلمة ... لَحْدٍ وُيلْبسَنا في واحدٍ كَفَنا
يا أطيب الناس رُوحا ضمَّه بَدَنٌ ... أسْتَودع اللهّ ذاك الروح والبَدَنا
لو كنتُ أعطَي به الدنيا مُعاوَضةً ... منه لما كانت الدُنيا له ثَمنا
وقال أبو ذُؤيب الهُذلي، وكان له أولادٌ سبعة فماتوا كلّهم إلا طفلا، فقال يرثيهم:
أمِنَ المَنون وَرَيْبه نَتَوجع ... والدَهر ليس بمًعْتِب من يَجْزَعُ
قالت أمَيمة ما لجسْمك شاحباً ... منذ ابتُذِلْت ومثلُ مالك يَنْفع
أم ما لجسمك لا يُلائِم مَضْجَعاً ... إلا أقَضَّ عليك ذاك المَضْجع
فأجبتُها أن ما لجسْمي أنّه ... أوْدىَ بنَي من البِلاَد فودَعوا
أودى بَنيّ وأعقَبُوني حَسْرةً ... بعد الرُّقاد وعَبْرةً ما تُقلِع
سَبَقُوا هًوىّ وأعْنَقُوا لهواهمُ ... فَتُخرِّموا ولكلِّ جَنْبٍ مَصرَع
فَبقِيت بعدهُم بعَيْشٍ ناصِبٍ ... وإخَال أنِّي لاحقٌ مسْتتبِع
ولقد حَرَصْت بأن أدافع عنهم ... وإذا المَنيّة أقبلتْ لا تُدْفَع
وإذا المنيَّة أنْشَبت أظفارَها ... ألفيتَ كلَّ تَمِيمة لا تَنْفع
فالعين بَعدهُم كأنّ حِدَاقها ... سُمِلت بشَوْك فهي عُورٌ تَدْمَع
حتى كأنِّي للحوادثِ مَرْوَةٌ ... بصفَا المُشرَّق كل يومِ تُقرع
وتَجلُّدي للشامتين أرِيهمُ ... أَنِّي لِرَيْب الدَّهر لا أتَضَعْضَع
وقال في الطِّفل الذي بقي له:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبْتَها ... وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تَقنَعُ
وقال الأصمعي: هذا أبْدَع بَيْت قالته العرب.
وقال أعرابيٌّ يَرْثى بَنِيه:
أسُكّان بَطْن الأرْض لو يُقْبَلُ الفِدَا ... فَدَينا وأعْطينا بكم ساكِني الظَّهْرِ
فيا ليتَ مَن فيها عليها وليتَ مَن ... عليها ثَوَى فيها مُقِيماً إلى الحَشْر
وقاسَمني دهرِي بَنيّ بِشَطْره ... فلما تَقَصىَّ شَطْرُه مالَ في شَطْري
فصارُوا دُيوناً للمَنايا ولم يَكُن ... عليهم لها دَيْن قَضَوْه على عُسْر
كأنهمُ لم يَعْرف الموتُ غيرَهم ... فثُكْلٌ على ثُكلِ وقبر إلى قَبْر
وقد كنتُ حَيَّ الخَوْفِ قبل وَفاتهم ... فلما تُوفّوا مات خوْفي من الدَّهر
فلله ما أعْطى وللّه ما حَوَى ... وليس لأيّام الرزَّية كالصَّبر

وقيل لأعرابية مات ابنها: ما أحسنَ عزاءَك؟ قالت: إن فَقْدي إياه امنَني كل فَقْدٍ سواه، وإن مُصيبتي به هونت عليّ المصائب بعده. ثم أنشأت تقول:
مَن شاء بعدك فَلْيَمُتْ ... فَعَليك كنت أحاذِرُ
كُنتَ السَّوادَ لناظري ... فَعَمِي عليكَ الناظِر
ليتَ المنازلَ والدِّيا ... رَ حَفائر ومَقابر
إنِّي وَغَيري لا محا ... لةَ حيثُ صِرْتَ لصائر
أخذ الحسنُ بن هانئ معنى هذا البيت الأول، فقال في الأمين:
طَوَى الموت ما بَيْني وبين محمد ... وليس لمَا تَطْوِي المِنيّة ناشر
وكنتُ عليه أحذر الموتَ وحدَه ... فلم يَبْق لي شيءٌ عليه أحاذير
لئن عَمَرت دُورٌ بمن لا أحبّه ... لقد عَمَرت ممّن أحبّ المقابر
وقال عبدُ الله بن الأهتم يَرْثي ابنا له:
دَعوتُك يا بُنيِّ فلم تجِبْني ... فَرُدّت دَعْوِتي يأساً عليِّ
بموتك ماتت اللّذات منّي ... وكانت حَيَّةَ ما دُمتَ حياً
فيا أسفَا عليك وطُولَ شَوْقي ... إليك لو ان ذلك رَدّ شَيّا
وأصيب أبو العتاهية بابن له، فلما دَفنه وقَف على قبره وقال:
كَفي حَزَناً بَدَفْنك ثم أنِّي ... نَفَضْتُ تُراب قَبْرك مِن يَدَيّا
وكانت في حياتك لي عِظاتٌ ... فأنت اليومَ أوْعظُ منك حَيّا
ومات ابن لأعرابيّ فاشتد حُزْنه عليه، وكان الأعرابيّ يُكْنى به، فقيل له: لو صَبرتَ لكان أعظمَ لثوابك؟ فقال:
بأبي وأمِّي من عَبَأْتُ حَنًوطَه ... بيدي وفارقَني بماء شَبابه
كيف السُّلوّ وكيف أنسى ذِكْره ... وإذا دُعِيت فإنما أدْعَي به
خرج عمرُ بن الخطّاب رضي اللهّ عنه يوماً إلى بقيع الغَرْقد، فإذا أعرابي بين يديه، فقال: يا أعرابيّ، ما أدخلك دارَ الحق؟ قال: وَدِيعة لي ها هنا منذُ ثلاث سنين؟ قال: وما وَديعتك؟ قال: ابنٌ لي حين تَرَعْرع فقدتُه فأنا أنْدُبه؟ قال عمر: أسْمِعني ما قلتَ فيه؛ فقال:
يا غائباً ما يؤوب من سَفَره ... عاجَله موتُه على صِغَره
يا قُرّة العَين كُنْتَ لي سَكَناً ... في طُول لَيْلى نَعم وفي قِصرَه
شَرِبْتَ كأساً أبوكَ شاربُها ... لا بدُ يوماً له على كِبرَه
أشربُها والأنامِ كلهم ... مَن كان في بَدْوِه وفي حَضَره
فالحَمْد لله لا شريك له ... الموتُ في حُكمه وفي قَدَره
قد قَسَّم الموتَ في الأنام فما ... يَقْدِر خَلْقٌ يَزِيد في عُمرُه
قال عمر: صدقتَ يا أعرابي، غَير أن الله خيرٌ لك منه.
الشَيباني قال: لما مات جَعفر بن أبي جعفر اْلمَنصور اشتدّ عليه حزنه، فلما فَرغ من دَفْنه التفت إلى الرَّبيع فقال: يا ربيع، كيف قال مُطيع بن إياس في يحيى بن زياد؟ فأنشد:
يا هل دواء لِقَلْبيَ القَرِح ... وللدُّموع الذوارِفِ السُّفُح
راحُوا بيحْيى ولو تًطاوعني الْ ... أقدارُ لم يَبْتكر ولم يَرُح
يا خير من يَحسُن البُكاءُ به ... الْيومَ ومَن كان أمس للمِدَح
قد ظَفِر الحُزنُ بالسُّرِور وقد ... أديل مَكْروهُه مِنَ الفَرح
وقالت أعرابيةً تَنْدُب ابناً لها:
ابنيّ غَيّبك المَحلّ المُلْحَدُ ... إمّا بَعُدت فأين من لا يَبْعُدُ
أنت الذي في كل مُمْسىَ لَيْلةٍ ... تَبْلى وحُزْنك في الحَشىَ يتجدَّد
وقالت فيه:
لئن كنتَ لهواً للعُيون وقُوَّةً ... لقد صِرْت سُقْماً للقُلوب الصَّحائح
وهَوَّن حُزْني أنّ يومَك مُدْرِكي ... وأني غداً من أهل تلك الضَّرائح
وقال أبو الخطّار يَرْثي ابنه الخَطّار:
ألا خَبِّراني بارك الله فِيكماِ ... مَتى العَهْدُ بالخَطّار يا فَتَيان
فتى لا يَرى نَومَ العِشاء غَنِيمةً ... ولا يَنْثَني من صَوْلة الحَدَثَان
وقال جرير يرْثي ولده سَوَادَة:

قالوا نَصِيبَك من أجر فقلتُ لهم ... كيف العزَاء وقد فارقتُ أشْبالي
ذا كم سَوادَةُ يَجْلو مُقْلَتيْ لَحِمٍ ... بازٍ يُصَرْصر فوق المَرْقب العالَي
فارقتُه حين غَضَّ الدهرُ من بَصري ... وحين صِرْت كعَظْم الرمّة البالَي
وقال أبو الشَّغْب يَرْثي ابنه شَغْباً:
قد كان شَغْبُ لو آن الله عَمّره ... عِزًّا تُزاد به في عِزّها مُضَرُ
ليتَ الجبالَ تَدَاعت قبل مَصرعه ... دَكَّا فلم يَبْقَ من أحجارها حَجَر
فارقتُ شَغْبا وقد قُوِّسْت من كِبَرٍ ... بِئْس الخلِيطان طولُ الحُزْن والكِبَر
ولما تُوفي أيوبُ بن سُليمان بن عبد الملك في حياة سُليمان، وكانَ ولِيّ عهده وأَكبر ولده، رثاه ابن عبد الأعلى وكان من خاصّته، فقال فيه:
ولقد أقولُ لذي الشَّماتة إذ رَأَى ... جَزَعي ومن يَذُق الحوادثَ يَجْزَع
أَبْشِر فقد قَرَع الحوادِثُ مَرْوَتي ... وآفرحْ بِمَرْوَتك التي لم تُقْرَع
إنْ عِشْتَ تُفجَع بالأحِبّة كلِّهم ... أو يُفْجَعوا بك إن بهم لم تُفْجَع
أَيًّوبُ من يَشْمَت بِموْتك لم يُطِقْ ... عن نَفْسه دَفْعاً وهل مِن مَدْفع
الأصمعيّ عن رجلِ من الأعراب قال: كُنّا عشرةَ إخْوة، وكان لنا أخ يقال له حسن، فَنُعِي إلى أبينا، فبقي سَنَتين، يَبْكي عليه حتى كُفَّ بَصَرُه، وقال فيه:
أَفلحتُ إن كان لم يَمُت حَسَنُ ... وكُفّ عنّي البُكاءُ والحَزَنُ
بل أَكْذَب الله مَن نَعى حَسَناً ... ليس لتَكْذِيب قَوْله ثَمَن
أَجُول في الدار لا أراك ... وفي الدَّار أناس جِوارُهم غَبَن
بُدِّلْتُهم منك ليتَ أنهمُ ... كانُوا وبَيْني وبَيْنهم مُدُن
قد عَلِموا عند ما أنافرهم ... ما في قَناتي صَدْع ولا أُبَن
قد جَرَّبوني فما ألاوِمُهم ... ما زال بَيني وبَينهم إحَن
قد بُرى الجسمُ مذ نُعيتَ لنا ... كما بَرى فَرْع نَبْعة سَفَن
فإن نَعِشِ فالمُنى حَياتُكَ وال ... خُلْد وأنت الحديثُ والوَسَن
إن تَحْيَ نحْيَ بخير عَيْشٍ وإن ... تَمْض فتِلْك السَّبيلُ والسَّنن
بَريدُك الحمدُ والسَّلامُ مَعاً ... فكُلّ حَيٍّ بالموت مُرْتَهَن
يا ويح نَفْسي أن كنتَ في جَدَثٍ ... دونَك فيه الترابُ والكَفن
علي للّه إن لقيتك من ... قَبْل الممات الصَيامُ والبُدُن
أسوقُها حافياً مُجلَّلةً ... أدْما هِجَاناً قد كظَّها السِّمَن
فلا نُبالي إذا بَقيتَ لنا ... من مات أو مَن أوْدى به الزَمن
كُنتَ خليلَي وكنتَ خالِصتي ... لِكل حيٍّ من أهلْهِ سَكَن
لا خيرَ لي فيَ الحَياة بعدَك إِذْ ... أصبحتَ تحت التراب يا حَسن
وقال اعرابي يرثي ابنه:
ولما دعوتُ الصبرَ بعدك والأسى ... أجابَ الأسى طَوْعاً ولم يُجب الصَّبْرُ
فإِن يَنْقَطع منك الرَّجاء فإنه ... سَيَبْقى عليك الحُزْن ما بَقِيَ الدَّهر
وقال أعرِابِيّ يرثي ابنه:
بُنَيّ لئن ضنَّت جُفونٌ بمائها ... لقد قَرِحَتْ منّي عليك جُفُونُ
دَفنتُ بكفّي بَعْضَ نفسي فأصبحتْ ... وللنفس منها دافِنٌ ودَفِين
وهذا نظير قوِلِي في طِفل أصبْت به:
على مِثْلها من فجْعة خانني الصَّبْر ... فِراق حبيب دون أوْبته الحَشْرُ
ولي كَبِدٌ مَشْطُورة في يَدِ الأسى ... فَتَحْتَ الثّرى شَطرٌ وفوق الثّرى شَطر
يَقولون لي صَبِّر فُؤادَك بعدَه ... فقلتُ لهم مالي فؤادٌ ولا صَبر
فُرَيخ من الحُمْر الحواصل ما اكْتَسى ... من الرِّيش حتى ضَمّه الموتُ والقَبْر

إذا قلتُ أسْلو عنه هاجت بلابلٌ ... يُجدِّدها فِكْر يُجدِّده ذِكْر
وأنظر حَوْلي لا أرى غير قَبْرِه ... كأنّ جَمِيعِ الأرْض عندي له قَبر
أفَرْخ جِنَان الخُلْد طِرْتَ بمُهْجتي ... وليس سِوى قَعْرِ الضَّريح له وَكْر
وقالت أعرابيّة تَرْثي ولدها:
يا قَرْحة القَلْب والأحْشاء والكَبِدِ ... يا ليت أمَّك لم تَحْبَل ولم تَلِدِ
لما رأيتًك قد أدْرِجْت في كَفن ... مُطَيَّباً للمَنايا آخرَ الأبد
أيقنتُ بعدكَ أنِّي غيرُ باقيةٍ ... وكيف يَبْقى ذراعٌ زال عن عَضُد
تُوفي ابنٌ لأعرابيّ فَبكى عليه حينا، فلما هَمّ أن يَسْلُو عنه تُوفيِّ له ابن آخر، فقال في ذلك:
إنْ أُفِقْ مِن حَزَنٍ هاج حَزَنْ ... فَفُؤادي ما له اليومَ سَكَنْ
وكما تَبْلَى وُجوهٌ في الثَّرى ... فَكذا يَبْلَى عليهنّ الحَزَن
وقال في ذلك:
عُيون قد بَكَيْنَك مُوجَعاتٍ ... أضرَّ بها البُكاء وما يَنِينَا
إذا أنْفَذْن دَمْعاً بعد دمْعٍ ... يُرَاجِعْن الشُؤونَ فيستقينا
أبو عبد الله البَجَلي قال: وقفتْ أعرابيةٌ على قبر ابن لها يقال له عامر، فقالت:
أقمتُ أَبْكِيه على قَبْرِه ... مَنْ ليَ مِن بَعْدك يا عامرُ
تَرَكْتَني في الدّار لي وَحْشَةٌ ... قد ذلَّ مَن ليس له ناصِر
وقالت فيه:
هو الصَّبْرُ والتَسْلِيم للِهّ والرضّا ... إِذ نَزلتْ بي خُطَّة لا أَشاؤُهَا
إذا نحنُ أُبْنا سالمِينَ بأنْفُسٍ ... كِرَام رَجَتْ أمْراً فَخاب رجاؤُها
فأنْفَسُنا خير الغنيمة إنَّها ... تَؤُوب ويَبْقَى ماؤُها وحَياؤُها
ولا برَّ إلا دون ما بَرَّ عامِرٌ ... ولكنَّ نفساً لا يَدُوم بقاؤها
هو ابنىَ أَمْسى أجره " لي " وعَزَّني ... على نَفْسِه رَبُّ إليه وَلاَؤُها
فإنْ احْتَسِب أوجَر وإن أبكِه أكنْ ... كباكيةٍ لم يُحْي مَيّتَاً بُكاؤُها
الشَيبانيّ قال: كانت امرأة من هُذَيل لها عَشرة إخْوة وعَشْرَة أعمام، فَهَلكوا جمعياً في الطاعون، وكانت بِكْراً لم تَتزوّج، فَخَطبها ابن عمّ لها فتزوّجها، فلم تَلْبث أنْ اشتملت على غُلام فولدتْه، فنَبت نباتاً كأنما يُمد بناصِيَته، وبلغ، فزوّجتْه وأخذتْ في جَهازه، حتى إذا لم يَبْق إلا البِنَاء " بأهْله " أتاه أجلُه فلم تَشُقِّ لها جَيْباً ولم تَدْمَع لها عَين، فلما فَرغوا من جَهازه دُعِيت لتوديعه، فأكبَّت عليه ساعةَ، ثم رَفعت رأسَها ونظرت إليه وقالت:
ألا تلك المَسَرَّة لا تَدُوم ... ولا يَبْقَى على الدَّهر النَّعيمُ
ولا يبقى على الحَدَثان غُفْر ... بشَاهِقَةٍ له أمٌّ رءُوم
ثم اكبَّتْ عليه أخرى، فلم تقطع نَحيبها حتى فاضت نَفسُها، فَدُفِنا جميعاً.
خَليفة بن خَيّاط قال: ما رأيت أشدَّ كَمَداً من آمرأة من بني شَيبان قُتِل ابنها وأبوها وزَوجُها وأمّها وعَمَّتها وخالتُها معِ الضَّحّاك الحَرُورِيّ، فما رأيتُها قطُّ ضاحكةً ولا مُتَبَسِّمَةَ حتى فارقت الدنيا، وقالت ترثيهم:
مَنْ لِقَلْبٍ شَفَّه الحَزَنُ ... ولنَفْس ما لها سَكَن
ظَعَنِ الأبرًارُ فآنْقلَبُوا ... خَيْرَهم من مَعْشر ظَعَنُوا
مَعْشر قضَوْا نُحوبهم ... كل ما قد قدَّموا حَسَن
صَبَرُوا عند السّيُوف فلم ... يَنْكلُوا عنها ولا جَبُنُوا
فِتْيةٌ باعُوا نًفوسَهُم ... لا وَرَبِّ البَيْتِ ما غُبِنُوا
فأصاب القومُ ما طَلَبوا ... مِنَّةً ما بعدها مِنَن
وقال عبدُ الله بن ثَعلبة يَرْثي ولداً له:
أأخْضِب رَأسي أم أطَيِّبُ مَفْرِقي ... ورَأْسُك مَرْموسٌ وأنتَ سلِيبُ
نَسِيبُك من أمْسى يُناجِيك طَرْفُه ... وليس لمن تحت التراب نَسِيب

غَرِيبٌ وأطْرافُ البُيوت تُكِنّه ... ألاَ كلّ مَن تحت التراب غريب
قال العُتْبِيّ - محمدُ بن عُبيد اللّه - يرثِي ابنا له:
أَضْحَتْ بخدي للدُّموع رُسُومُ ... أسَفاً عليك وفي الفؤاد كُلُومُ
والصَّبْر يُحمد في المَوَاطن كلِّها ... إلاّ عليك فإنّه مَذْمُوم
خَرج أعرابيّ هارباً من الطاعون، فبينما هو سائر إذْ لدغته أفعَى فمات، فقال أبوه يَرْثيه:
طافَ يَبْغِي نَجْوَة ... مِنْ هَلاَكٍ فَهَلَكْ
والمَنَايَا رَصَدٌ ... للْفَتَى حيثُ سَلَك
ليتَ شِعْري ضَلّةً ... أي شيءٍ قَتَلك
كلُّ شيءٍ قاتِلٌ ... حين تَلْقى أجلَك
لما قَتل عبد الله المأمون أخاه محمدَ بنَ زبيدة أرسلت أمه زُبيدة بنت جَعْفر إلى أبي العَتاهية أن يقول أبياتاً على لسانها للمأمون، فقال:
ألا إن رَيْبَ الدّهر يُدْنىِ ويًبْعِد ... وللدَّهْرِ أيَّام تُذَمّ وتُحْمَدُ
أَقول لرَحيب الدَّهر إن ذَهبتْ يدٌ ... فقد بَقِيتْ والحمدُ للهّ لِي يَد
إذا بَقِيَ المأمونُ لِي فالرَّشِيدُ لِي ... وليِ جَعْفَرٌ لم يَهْلِكَا ومحمّد
وكَتبت إليه من قوله:
لخير إمام مِن خَير مَعْشَر ... وأكرم بَسَّام على عُودِ مِنْبَرِ
كَتبتُ وَعينىِ تستهلُّ دُموعُها ... إليْك ابن يَعْلي من دمُوعي ومحْجري
فُجِعْنا بأدنىَ الناس مِنك قَرَابةً ... ومَن زلَّ عن كِبْدي فقَلّ تَصبُّري
أتىَ طاهرٌ لا طهَّر الله طاهراً ... وما طاهرٌ في فِعْله بمُطَهَّر
فأبْرزَني مَكْشوفَة الوَجْه حاسِراً ... وأنْهَب أمْوالِي وخَرَّب أدْوُرِي
وعَزَّ على هارونَ ما قد لَقِيتُه ... وما نابني مِن ناقِص الخَلْق أعْوَرِ
فلما نَظر المأمونُ إلى كِتَابها وَجّه إليها بِحباء جَزِيل، وكتب إليها يَسألها القُدومَ عليه، فلم تَأْتِهِ في ذلك الوقت وقَبِلتْ منه ما وجّه " به " إليها. فلما صارتْ إليه بعد ذلك قال لها: مَن قائل الأبيات؟ قالت: أبو العَتاهية؛ قال: وبكم أمرْتِ له؟ فقالت: بعشرين ألفَ دِرْهم؟ قال المأمون: وقد أمرنا له بمثل ذلك. واعتذر إليها من قَتْل أخيه محمد، وقال " لها " : لستُ صاحبَه ولا قاتِلَه. فقالت: يا أميرَ المؤمنين، إنّ لكما يوماً تَجْتمعان فيه، وأرْجو أنْ يَغْفِر اللهّ لكما إن شاء اللّه.
أبُو شَأس يَرثي ابنه شأسا:
ورَبيَّتُ شأساً لِرَيْب الزمان ... فلله تَرْبيتي والنَّصبْ
فلَيتَك يا شأسُ فيمن بَقِي ... وكنتُ مكانَك فيمنْ ذَهَب "

من رثى إخوته
الرِّياشي قال: صَلَّى مُتَمِّم بن نوَيْرة الصُّبح مع أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه، ثم أنشد:
نِعْم القَتِيلُ إذا الرِّياحُ تَنَاوَحَتْبين البيُوت قَتَلْت يا بنَ الأزْور
أدعَوْتَه باللّه ثم قَتَلْتَهلو هو دَعاكَ بِذِمَّة لم يَغْدِر
لا يُضْمِر الفَحْشاءَ تحت رِدَائه ... حلْوٌ شمائلُه عَفِيفٌ المِئزَر
قال: ثمّ بكى حتى سالت عَينُه العَوْراء. قال أبو بَكر: مَا دعوتُه ولا قتلتُه.
وقال مُتَمِّم:
ومُسْتَضْحِكٍ منّي أدّعى كَمصيبتي ... وليس أخو الشَّجْو الحَزِين بضاحكِ
يَقُول أتَبكي مِن قُبُور رأيتَها ... لِقَبْر بأطْراف المَلاَ فالدَّكادك
فقلتُ له إنّ الأسى يَبْعَث الأسىَ ... فَدَعني فَهذِي كلُّها قَبْرُ مالك
وقال مُتَمّم يَرْثي أخاه مالكاً، وهي التي تُسمَّى أمَّ المَراثي:
لَعَمْرِي وما دَهْرِي بتأبين هالكٍ ... ولا جَزَع ممّا أَلمّ فَأوْجَعَا
لقد غَيَّب اْلمِنْهَالُ تحت رِدَائه ... فَتىً غَيرَ مبطَانِ العَشِيّات أَرْوعَا
ولا بَرَماً تُهْدِي النِّسَاء لِعْرسِه ... إذا القَشْعُ من بَرْد الشِّتاء تَقَعْقَعَا

تَراه كنَصْل السّيف يهتز للنَّدَى ... إذا لم تَجد عند امرىء السَّوء مَطْمَعا
فَعَيْنىّ هلا تَبْكيان لمالكٍ ... إذا هَزَّت الرِّيحْ الكَنِيفَ المُرفَّعا
وأرملَة تَمْشي بأَشْعَثَ مُحْثَل ... كَفَرْخ الحُبَاري ريشهُ قد تَمَزَّعا
وما كان وَقّافا إذا الْخَيْل أحْجَمت ... ولا طالباً من خَشْية اْلمَوِت مَفْزَعا
ولا بكهامٍ سَيْفُه عَن عدوّه ... إذا هو لاقَى حاسراً أو مُقَنَّعا
أبى الصَّبرً آياتٌ أراها وأنّني ... أرى كُلَّ حَبْل بعد حَبْلِك أقْطَعَا
وأنّي متى ما أدْعُ باسمك لم تُجب ... وكُنت حَرِيًّا أن تُجيب وتسمعا
تَحِيَّتَه منّي وإن كان نائيَاً ... وأمسى تُراباً فوِقهَ الأرضُ بَلْقَعا
فإن تَكُنِ الأيّام فَرقْن بَيْننا ... فقَد بان مَحْموداً أخِي حِين وَدَّعا
فَعِشْنا بِخيْر في الحَياة وقَبْلَنا ... أصاب المَنايا رَهْطَ كِسْرَى وتُبَّعا
وكُنَا كَنَدْمَاًني جَدِيمة حِقْبَةً ... من الدَهر حتى قِيل لن يَتَصَدًعا
فلمّا تَفَرَّقْنا كأنِّي ومالِكا ... لِطُول اجتماع لم نَبِت ليلةً معا
فما شارِفٌ حَنَّتْ حَنِيناً ورجعَتْ ... أنِيناً فأبْكى شَجْنُها البَرْك أجمعا
ولا وَجْدُ أظْار ثلاثٍ رَوَائم ... رَأيْنَ مَجَرًّا من حُوار ومَصرعا
بأَوْجَد منّي يومَ قام بمالكٍ ... مُنَادٍ فَصِيح بالْفِراق فأَسْمَعَا
سَقى الله أرضاً حَلَّها قَبْرُ مالك ... ذِهابُ الغَوَادي المُدْجنات فأمْرَعا
قيل لعمرو بن بَحْر الجاحظ: إنّ الأصمعيّ كان يُسَمِّي هذا الشعرَ أمَّ المَراثي؛ فقال: لم يَسمع الأصمعيًّ:
أي القلوب عليكم ليس يَنْصَدعُ ... وأي نَوْم عليكم ليس يَمْتَنعً
وقال الأصمعيُّ: لم يَبْتدى أحدٌ مَرْثِية بأحسنَ من ابتداء أوس بن حَجَر:
أيتُها النَّفْسً أجملِي جَزَعا ... إِنّ الذي تَحْذرين قد وَقَعا
وبعدها قولُ زُمَيل:
أجارتَنَا مَن يجتمع يَتَفَرَّقِ ... ومَن يَكُ رَهْنَاً للحوادث يَعْلَقِ
قال ابن إسحاق صاحبُ المغازي: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّفْراء - وقال ابن هشام: الأثيل - أمَر عليَّ بن أبي طالب بضَرْب عُنق النضر بن الحارث بن كَلَدَة بن عَلْقمة بن عبد مَناف، صَبْراً، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أُخته قُتَيْلة بنت الحارث تَرْثيه:
يا راكباً إنّ الأثَيل مَظَّنَة ... من صُبْح خامسةٍ وأنت مُوَفَّقُ
أبْلغْ بها مَيْتاً بأنْ تَحيَّةً ... ما إن تَزال بها النَّجائِبُ تَخْفِقً
منِّي إليك وعَبْرَةً مَسْفُوحَةً ... جادت بواكفها وأخرى تَخْنُقُ
هل يَسْمَعنِّي النَضْر إن ناديتُه ... أم كيف يَسْمع مَيِّتٌ لا يَنْطِق
أمحمدٌ يا خير ضِنْء كريمةٍ ... في قومها والفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِق
ما كان ضَرَّك لو مَنَنْتَ وربما ... مَنَّ الفتى وهو المَغِيظُ المُحْنِق
فالنَّضر أَقْرَبُ مَنْ أسَرْتَ قَرَابَةً ... وأحقُّهم إن كان عِتْقٌ يُعْتَقُ
ظَلَّت سُيوف بني أبيه تَنْوشه ... للّه أرحام هُناك تشقَّق
صَبْراً يًقَاد إلى المنيَّة مُتْعَباً ... رَسْفَ المُقَيد وهو فانِ مُوثَق
قال ابن هشام: قال النبي الصلاُة والسلام لما بلغه هذا الشًّعر: لو بلغني قبلَ قَتْله ما قتلتُه.

الأصمعيًّ قال: نَظر عمرُ بن الخَطاب إلى الخَنساء وبها نًدوب في وَجْهها، فقال: ما هذه النُدوب يا خَنْساء؟ قالت: من طُول البُكاء على أخَوَيّ؛ قال لها: أخَواك في النار؛ قالت: ذلك أطْول لِحُزني عليهما، إني كنتُ أشْفِق عليهما من النار، وأنا اليوم أبْكي لهما من النار، وأنشدتْ:
وقائلةٍ والنَّعشُ قد فات خَطْوَها ... لِتًدْرِكه: يا لَهْفَ نفسي عَلَى صَخْرِ
ألا ثَكِلت أُمُ الذين غَدَوْا به ... إلى القَبرِ ماذا يَحْمِلون إلى القَبر
دخلت خَنساء على عائشة أمّ المؤمنين رضي اللهّ تعالى عنها وعليها صِدَار من شَعَر قد استشعرته إلى جِلْدِها، فقالت لها: ما هذا يا خَنساء؟ فوالله لقد تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لَبِسْتُه؛ قالت: إنّ له مَعْنى دَعاني إلى لِباسه، وذلك أنّ أبي زَوَجني سيّد قومه، وكان رجلاً مِتْلافاً فأسْرف في ماله حتى أنْفده، ثم رَجِع في مالي فأنْفده أيضاً، ثم التفت إليّ فقال: إلى أين يا خَنْساء؟ قلتُ: إلى أخي صَخر. قالتَ: فأتيناه فَقَسَّم مالَه شَطْرَين، ثم خَيَّرنا في أحْسن الشَّطْرين، فَرَجْعنا من عنده، فلم يَزَل زَوْجي حتى أذْهَبَ جَمِيعَه. ثم التفت إليّ، فقال لي: إلى أينِ يا خَنْساء؟ قلت: إلى أخي صَخْر. قالت: فَرَحَلْنا إليه، ثمٍ قَسَّم ماله شَطْرين وخيَّرنا في أفضل الشَّطْرين. فقالت له زوجتُه: أما تَرْضى أن تشَاطِرهَم مالك حتى تُخَيِّرهم بين الشَطرين؟ فقال:
واللّه لا أمْنَحها شِرَارَها ... فلو هَلَكْت قَدَّدَتْ خِمَارَها
واتخذَتْ من شَعَر صِدَارَها ... " وهي حَصَان قد كَفتْني عارها "
فآليت أن لا يُفارق الصِّدارُ جَسَدي ما بَقِيت.
قيل للخَنْساء: صِفِي لنا أخَوَيك صَخْراً ومُعاوية، قالت: كان صَخْرٌ واللّه جُنةَ الزمان الأَغْبر، وزُعافَ الخَميس الأحمر، وكان واللّه مُعاوية القائلَ والفاعل. قيل لها: فأيهما كان أسْنَى وأفْخَر؟ قالت: أمّا صَخْر فَحَرُّ الشِّتاءِ، وأما مُعاوية فَبَرْد الهواء. قيل لها: فأيهما أوْجع وأفْجَع؟ قالت: أما صَخْر فَجَمْر الكَبِد، وأما مُعاوية فَسَقام الجَسَد، وأنشأت:
أسَدان مُحْمَرَّا المَخالب نَجْدَةً ... بَحْران في الزَمن الغَضُوب الأمْمرٍ
قمرَان في النَّادِي رَفِيعا مَحْتدٍ ... في المَجْدِ فَرْعا سُودَدٍ مُتَخَير
وقالت الْخنساء تَرْثِي أخاها " صَخْر بن الشرِيد " :
قَذىً بعَيْنِك أمْ بالْعَينْ عُوَّارُ ... أم أقْفَرت إذ خَلَتْ من أهْلها الدًارُ
كأنَّ عَيْني لذِكْراه إذا خًطَرتْ ... فَيْضٌ يَسِيلُ على الخَدَّين مِدْرار
فالعَينْ تَبكِي على صَخْر وحُق لها ... ودُونه من جَديد الأرض أسْتار
بُكاءَ والهةٍ ضَلَّت أليفَتها ... لها حَنينان إصْغار وإكبار
ترعى إذا نسيت حتى إذا ذكرت ... فإنما هي إقبالٌ وإدبار
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نار
حامي الحقيقة محمود الخليقة مه ... ديُّ الطريقة نفاع ضرار
وقالت أيضاً:
ألا ما لعيني ألا مالها ... لقد أخضل الدمع سربالها
أمن بعد صخرٍ من آل الشريد ... حلت به الأرض أثقالها
فآليت آسي على هالكٍ ... وأسأل باكيةً مالها
وهمت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على خطة ... فإما عليها وإما لها
وقالت أيضاً:
أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجواد ... ألا تبكيان الفتى السيدا
طويال النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
يحمله القوم ما غالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
جموع الضيوف إلى بابه ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا
وقالت أيضاً:

فما أدركت كف امرئ متناولاً ... من المجد إلا والذي نلت أطول
وما بلغ المهدون للمدح غاية ... ولول جهدوا إلا الذي فيك إفضل
وما ألغيث في جعد الثرى دمث الربى ... تعبق فيها الوابل المتهلل
بأفضل سيباً من يديك ونعمةً ... تجود بها بل سيب كفيك أجزل
من القوم مغشي الرواق كأنه ... إذا سيم ضيماً خادرٌ متبسل
شرنبث أطراف البنان ضيازمٌ ... له في رؤعين الغيل عرسٌ وأشبل
وقالت أخت الوليد بن طريف ترثي أخاها الوليد بن طريف:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يريد العز إلا من التقى ... ولا المال إلا من قناً وسيوف
ولا الذخر إلا كل جرداء صلدمٍ ... وكل رقيق الشفرتين حليف
فقدناه فقدان الربيع فليتنا ... فديناه من سادتنا بألوف
خفيفٌ على ظهر الجواد إذا عدا ... وليس على أعدائه بخفيف
عليك سلام الله وقفاً فإنني ... أرى الموت وقاعاً بكل شريف
وقال آخر يرثي أخاه:
أخٌ طالما سرني ذكره ... فقد صرت أشجى إلى ذكره
وقد كنت أغدو إلى قصره ... فقد صرت أغدو إلى قبره
وكنت أراني غنيا به ... عن الناس لو مد في عمره
وكنت إذا جئته زائراً ... فأمري يجوز على أمره
وقالت الخنساء ترثى أخاها صخراً:
بكت عيني وعاودها قذاها ... بعوار فما تقضي كراها
على صخر وأي فتى كصخر ... إذا ما الناب لم ترأم طلاها
حلفت برب صهبٍ معملات ... إلى البيت المحرم منتهاها
لئن جزعت بنو عمرو عليه ... لقد رزئت بنو عمرو فتاها
له كف يشد بها وكفٌ ... تجود فيما يجف ثرى نداها
ترى الشم الغطارف من سليم ... وقد بلت مدامعها لجاها
أحامِيَكم ومُطْعِمَكم تركتُم ... لَدَى غَبْرَاءَ مُنْهَدم رَجاها
فَمن للضَّيْف إِن هَبَّت شَمَالٌ ... مُزَعْزعة تُنَاوِحها صَبَاها
وأَلْجأ برْدُها الأشْوالَ حُدْباً ... إلى الحُجُرات بادِيةً كُلاها
هنالك لو نَزلْت بباب صَخْرِ ... قَرَى الأضيافَ شَحْماً من ذُرَاها
وخَيْل قد دَلَفْتَ لها بِخَيْل ... فَدَارَتْ بين كَبْشَيْها رَحاها
تُكَفْكِفُ فَضْلَ سابِغَة دِلاصٍ ... على خَيْفانةٍ خَفِقٌ حَشاها "
وقال كعب يرثي أخاه أبا المِغْوار:
تقول سُلَيْمى ما لِجِسْمك شاحباً ... كأنَّك يَحْمِيكَ الطَّعامَ طَبِيبُ
فقُلتُ شجُون من خُطُوبٍ تَتابعت ... عليّ كِبَارٌ والزَّمانُ يَريب
لَعَمْرِي لئنْ كانت أصابتْ مَنِيةٌ ... أخِي فالمَنايا للرِّجال شَعوب
فإنِّي لباكِيه وإنِّي لصادِقٌ ... عليه وبعضُ القائلين كَذًوب
أخِي ما أخِي لا فاحشٌ عند بَيْتِه ... ولا وَرعٌ عند اللِّقاء هَيُوب
أخٌ كان يَكْفِيني وِكان يُعِيننِيِ ... على نائباتِ الدَّهْرِ حين تَنوب
هو العَسَل الماذيُّ لِيناً وشِيمةً ... وليثٌ إذا لاقى الرجالَ قَطُوب
هَوَتْ أُمُّه ما يَبْعَثُ الصُّبحُ غادِياً ... وماذا يَرُدّ الليلُ حين يؤوب
كعالِية الرُّمْح الرُّدَيْنيّ لم يَكًن ... إذا ابتدر الخيلَ الرجالُ يَخيب
وَدَاعٍ دَعَا يا مَن يُجيب إلى النَّدا ... فلم يَسْتَجبه عند ذاك مُجِيَب
فقلت ادعُ أخرى وارفَع الصوت ثانيا ... لعلّ أبي المغْوَار منْك قَرِيب
يُجبْك كما قد كان يَفْعَل إنّه ... بأمْثالها رَحْبُ الذّراع أريب

وحًدّثتُماني أنّما المَوْتُ بالقُرى ... فكيفَ وهاتي هَضْبة وكئِيبُ
فلو كانت المَوْتى تُباع اشتريتُه ... بما لم تَكُن عنه النُّفوس تَطيب
بِعَيْني أو يمنى يَدَيّ وخِلْتُني ... أنا الغانمُ الجَذْلانُ حين يؤوب
لقد أفسد الموتُ الحياةَ وقد أتى ... على يَوْمِهِ عِلْقٌ إليّ حَبيب
أتى دون حُلْو العَيْش حتى أمَرَّه ... قُطُوبٌ على آثارهن نُكًوب
فواللّه لا أنْساه ماذَرَّ شارِقٌ ... وما اهتزّ في فَرْع الأراك قَضِيب
فإنْ تكُن الأيّامُ أحْسَنّ مَرّةً ... إليّ لقد عادَتْ لَهُن ذُنُوب
وقال امروء القَيْس يرْثي إخْوته:
أَلا يا عَين جُودي لي شَنينَا ... وبَكِّي للملوك الذَّاهبينا
مُلُوك مِن بني صَخر بن عمرو ... يُقَادُون العَشِيَّة يقْتَلونا
فلم تُغْسَل رُؤوسُهم بِسِدْر ... ولَكنْ في الدِّمَاءِ مُزَمَّلينا
فَلَو في يَوْم مَعْرَكة أصِيبُوا ... ولكنْ في ديَار بَني مَرِينا
وقال الأبَيْرد بن المُعذَّر الرياحي يَرْثي أخاه بُرَيداً:
" تَطَاوَل لَيلي ولم أنمهُ تَقَلّباً ... كأنَّ فِرَاشي حالَ من دونه الجَمْرُ
أراقب من ليل التِّمام نُجومَه ... لَدُن غاب قَرْنُ الشمس حَتَّى بدا الفجر
تَذَكَّرَ عِلْق بَانَ منّا بنَصرِه ... ونائله يا حَبَّذا ذلك الذِّكْر
فإن تَكُن الأيّام فَرَّقْن بَينَنا ... فقد عَذَرَتْنا في صَحابته العُذْر
وكنتُ أرى هَجْراً فِراقك ساعةً ... ألا لا بَلِ الموتُ التفرُّق والهَجْرُ
أحَقًّا عبادَ الله أَنْ لستُ لاقيا ... بُرَيْداً طَوَالَ الدَّهْرِ ما لألأ العُفْر
فَتًى ليس كالفِتْيان إلاّ خِيارَهم ... مِن القَوْم جَزْلٌ لا ذَليلٌ ولا غُمْر
فَتًى إنْ هو استغنى تَخَرَّق في الغِنَى ... وإن كان فَقْرٌ لم يَؤُدْ مَتْنَه الفَقْر
وسامَى جَسيماتِ الأمورِ فَنالها ... على العُسْر حتى يُدْرِك العُسْرَةَ اليُسْر
تَرَى القومَ في العَزَّاء يَنْتَظرونه ... إذا شَتّ رأيُ القوم أو حَزَب الأمر
فَليتَك كُنت الحيَّ في الناس باقياً ... وكنتُ أنا المَيْتَ الذي ضَمَّه القَبْر
قتًى يَشتَري حُسْن الثَّناء بماله ... إذا السَّنَةُ الشَّهْباء قَلَّ بها القَطْر
كأنْ لم يُصَاحِبْها بُرَيد بِغبْطةٍ ... ولم تَأْتنا يَوْماً بأَخْباره البُشْر
لَعَمْري لَنِعْم المرءُ عالىَ نَعِيَّهُ ... لَنا ابنْ عَرِيْنٍ بعد ما جَنَح العَصْر
تَمَضَّتْ به الأخْبار حتى تَغَلْغَلت ... ولم تَثْنِه الأطْباعُ عَنّا ولا الجُدْر
فلمّا نَعى النّاعي بُرَيْداً تَغَوَّلَت ... بي الأرْض فَرْطَ الحُزْن وانْقَطَع الظَّهر
عَساكِرُ تَغْشَى النَّفْس حتى كأنني ... أَخو نَشْوَةٍ ارت بهامَته الخَمْر
إلى الله أشكُو في بُرَيْدٍ مُصِيبتي ... وبَثِّي وأحْزاناً يَجيش بها الصّدر
وقد كُنتُ أَستَعفي الإله إذا اشتكى ... من ألأجر لي فيه وإِن سَرَّني الأجر
وما زال في عَيْنَيّ بَعدُ غِشاوةٌ ... وسَمْعيَ عما كنتُ أَسْمعه وَقْر
عَلى أنَّني أقنَى الحياءَ وأتَّقي ... شماتة أقوام عُيونُهم خُزْر
فحيَّاكَ عَنّي اليلُ والصبحُ إذ بدا ... وهُوجٌ من الأرْواح غُدْوَتُها شَهْر
سَقَى جَدَثاً لو أسْتطيع سَقَيْتُه ... بأُودَ فَرَوَّاه الرَّواعِدُ والقطْر

ولا زال يُسْقَي من بلاد ثَوَى بها ... نَباتٌ إذا صاب الرَّبيع بها نَضْر
حَلفتُ بربِّ الرَّافعين أكُفَّهم ... وربِّ الهَدايا حيثُ حلَّ بها النَّحْر
ومُجْتَمع الحُجّاج حيث تَوَاقفَت ... رِفاقٌ من الآفاق تَكْبيرها جَأر "
يَمينَ امريءٍ آلى وليسَ بكاذبٍ ... وما في يَمين بتَّها صادقٌ وِزْرُ
لَئن كان أَمْسَى ابنُ المُعَذَّر قد ثَوَى ... بُرَيْدٌ لِنعْم المَرْء غَيَّبَه القَبْر
هو المَرْء للمَعْرُوف والدِّين والنَّدَى ... ومِسْعَر حَرْب لا كَهَامٌ ولا غُمْر
أَقام ونادَى أهلُه فَتَحَمَّلوا ... وصُرِّمَتِ الأسْباب واختَلفت النَّجْر
فأيّ امريء غادرتُم في بُيوتكم ... إذا هي أَمْسَتْ لونُ آفاقِها حُمْر
إذا الشَّول أَمْسَتْ وهي حُدْبٌ ظُهورها ... عِجَافا ولم يُسْمَع لِفَحْل لها هَدْر
كَثِير رَماد النَّار يُغْشَى فِنَاؤه ... إذا نُودي الأيْسار واحْتُضِر الجُزْر
فَتًى كان يُغلي اللحمَ نِيئاً ولحمُه ... رَخِيصٌ بكَفّيه إذا تَنْزِل القِدْر
يُقَسِّمه حتى يَشِيع ولم يَكُن ... كآخَر يُضْحى من غيبته ذُخْر
فَتى الحيِّ والأضياف إنْ رَوَّحَتْهم ... بَلِيلٌ وزادُ القَوم إن أَرْمَل السَّفْر
إذا جَهَد القومُ المَطِيَّ وأَدْرَجَتْ ... من الضُّمْر حتى يَبْلغ الحقَبَ الضَّفْر
وخَفَّت بَقَايا زادِهم وتَواكلُوا ... وأَكْسَف بالَ القوم مَجْهولةٌ قَفْر
رأيتَ له فَضْلاً عليهم بقُوته ... وبالعَقْر لما كان زادَهُم العَقْر
إذ القومُ أسْرَوا ليلَهم ثم أصْبَحوا ... غَدَا وهو ما في سِقَاطٌ ولا فَتْر
وإن خَشَعتْ أبصارهم وتَضَاءَلت ... من الأيْن جلى مثلَ ما يَنْظُر الصَقْر
وإنْ جارةٌ حَلَت إليه وَفي لها ... فباتت ولم يُهْتك لجارته سِتر
عَفِيفٌ عن السوآت ما التَبَسَت به ... صليبٌ فما يُلفي بِعُودٍ له كَسْر
سَلَكْت سبيلَ العاَلمين فما لَهم ... وراءَ الذي لاقَيْت مَعْدًى ولا قَصر
وكلًّ امرىء يوِماً مُلاَقٍ حِمَامه ... وإن دَانت الدُّنْيا وطال به العُمْر
فأبليت خيراً في الحياة وإنما ... ثوابُك عِنْدي اليومَ أن يَنْطِق الشَّعر
لِيَفْدِك مَوْلًى أو أخٌ ذو ذِمامَةٍ ... قليل الغناء لا عطاءٌ ولا نصرْ
لِشبْل بن مَعْبَد البَجَلى:
أتى دون حُلْوِ العَيْش حتى أمرَّه ... نُكُوبٌ على آثارهنّ نكُوبُ
تَتَابَعْنَ في الأحْبَاب حتى أبَدْنَهم ... فلم يَبْقَ فيهمْ في الدِّيار قَريبُ
بَرَتني صُروف الدَّهْرِ من كلّ جانب ... كما يَنبري دون اللحَاء عَسِيب
فأصبحتُ إلا رحمةَ الله مُفْرَدًاً ... لَدَى الناس طُرًّا والفُؤاد كَئِيب
إذا ذَرّ قَرْن الشَّمْس عُللت بالأسىَ ... وَيأوِي إِليّ الحُزْن حين تَؤُوب
ونام خَليُّ الباب عنَي ولم أنمْ ... كما لم يَنم عارِي الفِناءِ غَريب
تَضُرّ به الأيامُ حتى كأنَّه ... لِطُول الذي أَعْقَبْن وهو رَقوب
فقلتْ لأصْحابي وقد قَذَفَتْ بنا ... نَوَى غُربةٍ عمن نُحِب شَطُوب
مَتَى العهدُ بالأهْل الذين تَرَكْتُهم ... لهم في فُؤادي بِالعِرَاق نَصِيب
فَما تَرَك الطاعونُ من ذِي قَرابة ... إليه إذا حانَ الإيابُ نَؤُوب
فقد أصبحوا لا دارهمِ منك غرْبَةٌ ... بعد ولاهُمْ في الحياة قَريب

وكُنْتَ تُرَجَّى أنْ تؤُوب إليهمُ ... فغالَتْهمُ من دون ذاك شَعُوب
مَقادِير لا يُغْفِلن مَن حان يَوْمُه ... لهنّ على كلِّ النُّفوس رَقيب
سَقَينْ بكَأس المَوْت مَن حان حَيْنُه ... وفي الحَيِّ مِن أنفاسِهنَّ ذَنًوب
وإنَّا وإيّاهمْ كَوَارِد مَنْهَلٍ ... على حَوْضِه بالتَّاليات يُهِيب
إِلَيه تَنَاهِينا ولو كان دُونه ... مياهٌ رَوَاء كلّهن شرُوب
فهوَّن عني بَعْضَ وَجْدِيَ أنَّني ... رأيْتُ المَنايا تَغْتَدِي وَتَؤُوب
ولَسْنا بأحْيَا مِنْهُم غيرَ أننا ... إلى أجَلٍ نُدْعَى له فَنجِيب
وِإني إذا ما شِئْت لاقيتُ أسْوَةً ... تَكاد لها نَفْس الحَزِين تَطِيب
فتى كان ذا أهل ومالٍ فلم يَزَل ... به الدَّهْرُ حتى صار وهو حَرِيب
وكيف عَزَاء المَرْء عن أهل بَيْتِه ... وليس له في الغَابرين حَبِيب
متى يُذْكَروا يَفْرَح فُؤَادي لِذكْرِهم ... وتَسْجُمْ دُموعٌ بَيْنهن نَحِيب
دُمُوع مَرَاها الشجْوُ حتى كأنها ... جَدَاوِلُ تَجْري بَيْنَهن غروب
إذا ما أردْتُ الصبرَ هاج لِيَ البُكا ... فُؤادٌ إلى أهل القًبُور طَرُوب
بكَى شَجْوه ثم ارْعَوى بعد عَوْله ... كما واتَرَتْ بين الحنين سَلُوب
دَعَاها الهَوَى من سَقْبها فَهِيَ والِهٌ ... ورُدّت إلى الألاَّفِ فَهي تَحُوب
فَوَجْدِي بأهلِي وَجْدُها غيرَ أنهم ... شَبَابٌ يَزِينون النَّدى ومَشِيب

من رثت زوجها
قالت أسماء بنتُ أبي بكر ذاتُ النِّطاقين " رضي الله عنها " تَرْثي زَوْجَها الزُّبير بن العَوَّام، وكان قَتله عَمْرو بن جُرْمُوز المُجاشِعيّ بوادي السِّباع وهو مًنْصَرف من وَقْعة الجَمَل. " وتروى هذه الأبيات لزوجته عاتكة التي تَزوّجها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه " :
غَدَر ابن جُرْمُوز فارس بهُمِةٍ ... يَومَ الهِيَاِج وكان غَيْر َمُعَرِّد
يا عَمْرُو لو نَبَّهْتَه لوَجَدَتْه ... لا طائشاَ رَعِشَ الجَنَانِ ولا اليَد
ثَكِلْتك أمًّك إن قَتَلْت لمُسْلِماً ... حَلَّت عليك عُقوبة المُتَعَمِّد
الهلاليّ قال: تَزَوّج محمد بن هارون الرشيد لُبانة بنت علي بن رَيْطة وكانت من أجمل النّساء، فقُتل محمد عنها ولم يَبْنِ بها، فقالت تَرْثيه:
أبْكِيكَ لا لِلنعِيم والأنُسٍ ... بل للمَعَالي والرُّمْح والفَرَس
يا فارساً بالعَرَاء مطَّرَحاً ... خانَتْه قواده مَع الحرس
أَبْكِي على سَيِّدٍ فجِعْتُ به ... أرْمَلَني قَبْل ليلة العُرُس
أمْ مَن لِبِرِّ أمْ مَن لعائدة ... أم مَن لِذكْر الإله في الغَلَس
مَن للحُروَب التي تَكُون لها ... إن أضرِمت نارُها بلا قَبَس
وقالت أعرابيّة تَرْثي زَوْجَها:
كُنَا كغُصنَين في جُرْثومةٍ بَسَقَا ... حِيناً على خير ما يَنْمِي به الشَّجَر
حَتّى إذا قِيلَ قد طالت فُرُوعُهما ... وطابَ قِنْواهُما واسْتُنْظِر الثَّمر
أخْنَى على واحد رَيْبُ الزَمان وما ... يُبْقِي الزمانُ على شيء ولا يَذَر
كُنِّا كأنْجمُ ليلٍ بينها قَمَر ... يَجْلو الدُجَى فَهَوَى مِن بَينها القَمر
الأصْمعيّ قال: دخلتُ بعضَ مَقابر الأعراب ومعي صاحبٌ لي فإذا جاريةٌ على قبر كأنها تِمثال وعليها من الحَلْى والحُلَل ما لم أر مِثْلَه وهي تَبْكي بعين غَزيرة وصوت شَجيّ. فالتفتُّ إلى صاحبي. فقلتُ: هل رأيتَ أعجَب من هذه؟ قال: لا والله، ولا أحسَبني أراه. ثم قلتُ لها: يا هذه، إني أراك حَزِينة وما عليك زِيّ الحُزْن: فانشأت تقول:
فإن تَسْألاني فِيم حُزْني فإننّي ... رَهِينةُ هَذا القَبْر يا فَتَيانِ

وإني لأسْتَحْييه والترْب بيننا ... كما كنْتُ أستَحْييه حين يَرَاني
أهابُك إجلالاً وان كُنتَ في الثرى ... مَخافَة يومٍ أن يَسُوك لِسَاني
ثم اندفعت في البُكاء وجعلت تقول:
يا صاحبَ القَبْر يا مَنْ كان يَنْعَم بي ... بالاً ويُكثر في الدًنْيا مُوَاساتِي
قد زُرْتُ قَبْرك في حَلى وفي حُلَلَ ... كأنّني لستُ مِن أهل المُصِيبات
أردْتُ آتِيكَ فيما كنت أعرفُه ... انْ قد تُسَرُ به من بَعض هَيْئَاتي
فمَن رَآني رأى عَبْرى مُوَلَهَةً ... عَجيبةَ الزِّيِّ تَبْكي بَينَ أمْوات
وقال: رأيتُ بصحراء جاريةً قد ألْصقت خدَّهَا بقَبْر وهي تَبْكي وتقول:
خدَي تَقيك خشُونةَ اللَّحْدِ ... وقَلِيلةٌ لك سَيِّدي خَدِّي
يا ساكنَ القَبر الذي بوَفاته ... عَمِيتْ عَليَّ مسالِكُ الرُّشد
اسْمَع أبثك علَتي فلعلَّني ... أطْفِي بذلك حُرْقَة الوَجْد

من رثى جاريته
كان لمُعلّى الطائِي جارية يُقال لها وَصْف، وكانت أديبةً شاعرة، فأخبرني محمد بن وَضّاح، قال: أدركتُ معلَّى الطائي بمصر، وأعْطِي بجاريته وَصْف أربعةَ الآف دينار فباعها. فلما دَخل عليها قالت له: بِعْتني يا مُعلى! قال نعم، قالت: واللّه لو مَلَكْتً منك مثلَ ما تَمْلك مني ما بِعْتك بالدُّنيا وما فيها. فَردَ الدَّنانير، واستقال صاحبَه، فأصيب بها إلى ثمانية أيام، فقال يَرْثيها:
يا موتُ كيفَ سَلَبْتَنيِ وَصْفَا ... قَدَّمْتها وتَرَكْتَني خَلْفَا
هَلا ذَهَبْتَ بنا معاً فَلَقد ... ظَفِرَتْ يَدَاك فسُمْتَني خَسْفا
وأَخَذْتَ شِقَّ النَفْس من بَدَني ... فَقَبَرْتَه وتَرَكْتَ لي النِّصْفا
فَعَلَيك بالباقي بلا أجَل ... فالموتُ بعد وفاتها أعفي
يا موتُ ما بَقّيت لي أحداً ... لما زَفَفْت إلى البِلَى وَصْفا
هَلاّ رَحِمْت شَبَابَ غَانِيةٍ ... رَيَّا العِظام وشَعْرَها الوَحْفا
ورَحِمْت عَيْني ظَبْية جَعَلت ... بين الرّياض تُناظِر الخِشْفا
تُغْفي إذا انتصبت فرائصه ... ولَظَلُّ تَرْعاه إذا أغفى
فإذا مَشىِ اختلفت قوائمهُ ... وَقْت الرَّضاع فَيَنْطَوِي ضعْفا
متحيراً في المَشيْ مُرْتَعِشاً ... يَخْطو فَيَضْرِب ظِلْفُه الظّلْفا
فكأَنها وَصْفٌ إذا جَعَلت ... نحوي تُدِير مَحَاجِراً وُطْفا
يا مَوْتُ أنت كذا لكلِّ أخِي ... إلفٍ يَصُون ببرِّه الإلْفا
خَلَّيتني فَرْداً وبِنْت بها ... ما كنتُ قَبْلَك حافلا وكفا
فَتَرَكْتُها بالرَّغْم في جَدَث ... للرّيح يَنْسِف تُرْبَه نَسْفا
دون المُقَطَّم لا ألبسها ... من زينةٍ قُرْطاً ولا شَنْفا
أسْكَنْتها في قَعْر مُظلِمة ... بيتاً يُصافِح تُرْبُه السقْفا
بيتاً إذا ما زَاره أَحَدٌ ... عَصَفَت به أيْدِي البِلَى عَصْفا
لَبِسَتْ ثِيَاب الحَتْفِ جاريةٌ ... قد كنتُ أَلْبَس دونها الحَتْفا
فكأَنّها والنفسُ زاهِقةٌ ... غُصْن من الرَّيْحانِ قد جَفّا
يا قبرُ أبْقِ على محاسنها ... فلقد حويت النور والظرْفا
لما هُزِم مَرْوان بن محمد وخَرج نحو مِصرْ، كتب إلى جارية له خَلَّفها بالرَّمْلة:
وما زَال يَدْعُوِني إلى الصَّبر ما أَرى ... فآبى ويَثْنِيني الذي لكِ في صَدْري
وكانَ عزيزاَ أنّ بَيْني وبينها ... حِجاباً فقد أَمسيتُ منك على عَشر
وأنْكاهما لِلْقَلْب واللّه فاعلمي ... إذا ازددتُ مِثلَيها فَصِرْتُ على شَهْر
وأعظمُ من هَذَينِ واللّه أنني ... أخاف بأن لا نَلْتَقي آخرَ الدَّهر

سأَبْكِيك لا مُستَبْقِياَ فَيْض عَبْرة ... ولا طالباً بالصبر عاقبةَ الصَّبر
وَجدوا على قبر جارية إلى جَنب قَبر أبي نُواس أبياتاً ذكروا أنَ أبا نُواس قالها، وهى:
أَقُولُ لقبْرٍ زُرْتُه مُتَلَثِّما ... سَقَي اللهّ بَرْدَ العَفْو صاحبَة القَبْر
لقد غيَّبوا تَحت الثّرَى قَمر الدُّجَى ... وشَمْس الضًّحَى بين الصَّفائح والعَفر
عَجِبتُ لِعَينْ بَعدها مَلَت البُكا ... وقلْب عَلْيها يَرْتَجي راحَة الصَّبر
وقال حَبِيب الطائي يَرثِي جارِية أصِيب بها:
جُفوف البِلَى أَسْرَعْتَ في الغُصُنِ الرَّطْبوخَطْبَ الردى والموتِ أَبْرحْتَ من خَطْبِ
لقد شَرِقَت في الشَّرق بالموت غادةٌ ... تَبَدَّلْتُ منها غُرْبة الدَّار في الغَرْب
وألبسنى ثوباً من الحُزْن والأسيَ ... هِلاَلٌ عليه نَسْجُ ثَوْب من التُّرب
وكنتُ أرَجِّي القُرْبَ وهي بعيدة ... فقد ثقُلَت بَعْدي عن الًبُعدِ والقُرْب
أقول وقد قالوا استراح بموتها ... من الكرب رَوْح المَوْت شَرٌّ من الكَرْب
لها مَنزل تحت الثَّرَى وعَهدتُها ... لها منزلٌ بين الجَوانِح والقَلْب
وقال يرْثيها:
ألم تَرَني خَلَيتُ نَفْسي وشانَها ... ولم أحفِل الدُّنيا ولا حَدَثانَها
لقد خوَفَتْني النائباتُ صُرُوفَها ... ولو أَمَّنَتْني ما قِبِلتُ أمانَها
وكيف على نارِ اللًيالي مُعرَّسي ... إذا كان شَيْبُ العارِضَين دُخانَها
أُصِبْتُ بِخَوْد سوف أَعْبُر بعدها ... حليفَ أسى أبكى زماناً زمانَها
عِنَانٌ من اللَذَّات قد كان في يَدِي ... فلما قَضىَ الإلْفُ استردت عِنَانَهَا
مَنَحْتُ المَهَاهَجْرِي فَلاَ مُحْسِناتها ... أَوَدُّ ولا يَهْوىَ فُؤَادِي حِسانَها
يقولون هَلْ يبكي الفَتَىِ لِخَريدةٍ ... إذا ما أراد اعتاض عَشْراً مَكانَها
وهل يَسْتَعِيض المَرْءُ من خمْس كَفّه ... ولو صاغَ مِن حًرِّ اللُّجَينْ بنانَها
وقال أعرابي يَرْثي آمراته:
فوالله ما أدْري إذا الليلُ جَنَّني ... وذَكَّرَنيها أيُّنا هو أَوْجعُ
أمُنْفَصِلٌ عن ثَدْي أم كريمةٍ ... أم العاشقُ النَّابي به كلُّ مَضْجَع
وقال محمود الورّاق يَرْثي جاريتَه نَشْو:
ومنتصح يُرَدِّد ذِكْر نَشْوٍ ... على عَمْدٍ لِيَبْعَثَ لي اْكتئاباً
أقول وَعَدَّ ما كانت تُسَاويسَيَحْسُبُ ذاك مَن خَلَقَ الْحِسابا
عَطِيَّته إذا أعطَى سُرور ... وإن أخذ الذي أعطَى أَثَابَا
فأيُ النِّعمتينْ أعمُّ نَفْعاً ... وأحسَنُ في عَواقِبها إيابا
أنعِمْته التي أهْدت سروراً ... أم الأًخْرى التي أهدت ثَوَابا
بل الأخرى وَإِنْ نَزَلَت بحُزْن ... أحَقُ بِشُكْرِ مَن صَبَرَ احتسابا
أبو جَعفر البغداديّ قال: كان لنا جارٌ وكانت له جاريةٌ جَميلة، وكان شَديد المحبَّة لها، فماتت فَوَجد عليها وَجْداً شديداً، فبينا هو ذاتَ لَيْلة نائمٌ إذ أتتْه الجاريةُ في نَوْمه فأنشدتْه هذه الأبيات:
جاءت تَزور وسادِي بعدما دُفِنتْ ... في النَّوْم ألْثِمُ خَدًّا زَانَه الجيدُ
فقلتُ قُرَّةَ عيني قد نُعيتِ لنا ... فكيفَ ذا وطَريقُ القبر مسدود
قالت هُناك عِظامي فيه مُلْحَدةٌ ... ينْهَشْنَ منها هَوَامُ الأرض والدُّود
وهذه النفسُ قد جاءتْك زائرةً ... فاقبَلْ زيارةَ من في القَبر مَلْحُود
فانتبه وقد حَفِظها، وكان يحدّث الناس بذلك ويُنشدهم. فما بَقي بعدَها إلا أيَّاماً يَسيرة حتى لَحِق بها.

من رثى ابنه
قال البُحْتريّ في رثاء ابنة لأحد بَني حُمَيد:
ظَلَم الدَّهْرُ فِيكم وأساءَ ... فَعَزاءَ بَني حُمَيْد عَزَاءَ

أنفْسٌ ما تَزَالُ تَفْقِدُ فَقْداً ... وصُدُورٌ ما تَبْرَح البُرَحَاءَ
أصْبَحَ السيفُ دَاءَكم وهو الدَّاء ... الّذِي ما يزال يُعْي الدَّوَاءَ
وانتحى القَتْلَ فيكم فَبَكَيْنا ... بِدمَاء الدُّمُوع تلك الدِّماء
يا أبَا القاسم المُقَسَّم في النَّج ... دِة والجُودِ والنًّدَى أجزاء
والهزَبْر الذي إذا دارت الحَر ... بُ به صرًف الرَّدىَ كيف شَاء
الأسىَ واجبٌ على الحُرّ إمّا ... نِيَّةً حُرَّةً وإما رِياء
وسَفَاها أن يَجْزَع الحُرّ مما ... كان حَتماً على العِبَاد قَضَاء
أتُبكّى من لا يُنازل بالسَّيْفِ ... مُشيحاً ولا يَهُزّ اللِّوَاء
والفَتى مَن رأى القُبورَ لمن طا ... ب به مِر بَناته أكفَاء
لَسْنَ مِن زينة الْحَياة لعِدّ اللَّ ... ه منها الأموال والأبناء
قد وَلدْنَ الأعْداءَ قِدْماً وورّث ... ن التِّلادَ الأقاصيَ البُعَداء
لم يَئِدِتِرْ بهَنّ قَيْسُ تَمِيم ... عَيْلةً بل حَمِيَّةً وإبَاء
وتَغَشى مُهلهلَ الذلُّ فيه ... ن وقد أعْطَى الأديم حِبَاء
وشقيق بنُ فاتكٍ حَذَرَ العا ... ر عليهنّ فارَقَ الدَّهْناء
وعَلَى غَيْرهنّ أحْزِن يَعْقو ... بُ وقد جاءَه بَنوه عِشاء
وشعَيْب من أجلهنّ رَأَي الوُح ... دة ضعْفاً فاستَأجر الأَنبياء
وَتَلَفَّتْ إلى القبائِل فانظُرْ ... أمهات ينسبن أَمْ أباء
واستْزَلَّ الشَّيطانُ آدَم في الجنَّ ... ة لما أَغْرَى به حَوَّاء
ولعمْري ما العَجْز عِندِيَ إلا ... أن تَبيتَ الرجالُ تَبْكي النِّساء

مراثي الأشراف
قال حَسّان بنُ ثابت يَرْثي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بَكر وعمر رضوانُ اللهّ عليهم:
ثَلاثَةٌ بَرَزُوا بِسَبْقِهمُ ... نَضرَهم ربُّهم إذا نُشرُوا
عاشُوا بلا فُرْقة حَياتَهم ... واجْتَمعوا في المَمات إذ قُبِروا
فَلَيْس مِن مُسْلِمٍ له بَصرٌ ... يُنْكِرهم فَضْلَهم إذا ذُكِروا
وقال حَسّان يَرْثي أبا بكر رضي الله عنه:
إذا تَذَكرتَ شَجْواً من أخي ثِقَةٍ ... فاذْكُر أخاكَ أبا بكْرٍ بما فَعَلا
خَيْرَ البرّية أتقَاها وأعْدَلها ... بعد النبي وأوفاها بما حَمَلا
الثّانيَ اثنينِ والمَحْمُودَ مَشْهَدُه ... وأوّل الناس طُرا صَدَّق الرُّسُلا
وكان حب رسول الله قد عَلِموا ... مِن البرية لم يَعْدِلْ به رَجُلا
وقال يَرْثِي عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه:
عليك سَلامٌ من أمير وبارَكَتْ ... يَدُ اللهّ في ذَاك الأدِيم المُمَزَّقِ
فمَن يَجْرِ أو يَرْكَبْ جَناحَيْ نَعامةٍ ... لِيُدْرِكَ ما قَدَّمْتَ بالأمْس يُسْبَق
قَضَيْتَ أُموراً ثم غادرتَ بعدها ... نَوَافِجَ في أكمامِها لم تُفَتَّق
وما كنتُ أخْشى أن تكونَ وفاتُه ... بَكَفَّيْ سَبَنْتي أَزْرَقِ العَينْ مُطْرِق
وقال يَرْثي عثمان بنِ عفّان رضي الله عنه:
مَن سَرَّه الموتُ صِرْفاَ لا مِزَاج له ... فَلْيأْتِ ما سَرَّه في دار عُثْمانَا
إنّي لمنهُمْ وإن غابوا وإن شَهِدُوا ... ما دمتُ حيًّا وما سُمِّيت حَسَّانَا
يا ليت شِعْري وليت الطّيرِ تُخْبرني ... ما كان شَأْنُ علّيِ وابن عفّانَا
لتَسْمَعَنَّ وَشيكاً في دِيارهمُ ... الله أكبرُ يا ثارَاتِ عثمانَا
ضَحَّوْا بأشمطَ عُنوان السُّجود به ... يُقَطِّع الليلَ تَسْبِيحاً وقُرآنَا
وقال الفرزدق في قَتْل عثمان رضي الله تعالى عنه:

إنَّ الخِلاَفَةَ لما أظْعِنت ظَعَنتْ ... مِن أهْل يَثْربَ إذ غَيرَ الهُدَى سَلَكوا
صارتْ إلى أهْلها منهم ووارثِها ... لما رأى الله في عثمانَ ما انتَهكوا
السافِكي دَمِه ظُلْماً ومَعْصيةً ... أيَّ دَم لا هُدُوا من غَيهِمْ سفَكوا
وقال السيّد الْحِميريّ يَرْثي عليَّ بن أبي طالب كًرَّم الله وَجْهه ويَذكر يومَ صِفِّين:
إنّي أدين بما دان الوَصي به ... وشاركتْ كفُه كَفِّي بصِفِّينا
في سفْكِ ما سَفكَتْ فيها إذا احتُضِروا ... وأبرز اللّهُ للقِسطِ المَوازِينا
تلك الدِّماء معاً يا ربّ في عُنقي ... ثم اسْقِني مثلَها آمينَ آمينا
آمين من مِثْلهم في مِثْل حالِهمُ ... في فِتْيَة هاجَرُوا للهّ سارينا
لَيْسُوا يريدون غيرَ اللهّ رَبِّهم ... نعم المُراد تَوَخَّاه المُرِيدونَا
أنشد الرِّياشي لرجل مِن أهل الشام يرثي عمرَ بن عبد العزيز رضي اللهّ عنه:
قد غَيّب الدَّافنون اللحدَ إذ دَفَنُوا ... بدَيْرِ سِمْعان قِسْطاس المَوازينِ
من لم يَكُنْ همُّه عَيْنًا يُفجِّرها ... ولا النَخيلَ ولا رَكْضَ البَراذِين
أقول لما أتاني نَعْيُ مَهْلِكه ... لا يفقدَنّ قِوَامَ المُلْك والدِّين
وقال الفرزدق يرثيِ عبدَ العزيز بن مروان:
ظَلُّوا على قَبْره يَسْتغْفِرون له ... وقد يَقُولون ثاراتٍ لنا العبَرُ
يُقَبِّلون تُرابا فوق أعْظُمه ... كما يُقَبًل في المَحجُوجة الحَجَر
للّه أرضٌ أجَنَّته ضَريحتُها ... وكيف يُدْفن في المَلْحُودة القَمَر
إنّ المَنابر لا تَعْتاض عن مَلِك ... إليه يشخصُ فوق المِنْبر البَصر
وقال جريرٌ يرثي عمرَ بنَ عبد العزيز:
يَنْعَى النُّعاة أميرَ المُؤمنين لنَا ... يا خير منْ حَجّ بيتَ الله واعتمرا
حُمِّلتَ أمراً عظيماً فاصْطَبرتَ له ... وقُمْتَ فيه بأمْرِ اللهّ يا عُمَرا
فالشمسُ طالعةٌ ليستْ بكاسفةٍ ... تَبْكي عليك نُجوم الليل والقمرا
وقال جرير يَرْثي الوليدَ بن عبد الملك:
إنّ الخَلِيفة قد وَارَتْ شمائلَه ... غَبْراءُ مَلْحُودةٌ في جُولها زَوَرُ
أمْسى بنو وقد جَلَّت مُصِيبتهم ... مثلَ النُجُوم هَوَى من بينها القَمَر
كانوا جَميعاً فلم يَدْفَع مَنَّيتَه ... عبدُ العزيز ولا روْحٌ ولا عُمَر
وقال غيره يرثي قَيْس بن عاصم المنقريّ:
عليك سلامُ الله قَيسَ بن عاصمٍ ... ورَحمتُه ما شاء أن يَتَرَحَمَا
تَحِيّةَ مَن ألبستَه مِنْك نِعْمةً ... إذا زار عن شَحطِ بلادَك سَلّما
فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ... ولكنّه بُنْيان قَوْم تَهدَّما
وقال أبو عَطَاء السِّنْدي يَرْثي يزيد بن عمر بن هُبَيرة لما قُتل بوَاسط:
ألا إنّ عيناً لم تجُد يومَ واسطٍ ... عليكَ بِجَارِي دمْعِها لَجَمُودُ
عَشِيّةَ راحَ الدَّافِنُون وشُقِّقتْ ... جُيوب بأيدي مأتم وخُدود
فإن تك مَهْجُورَ الفِناء فربما ... أقام به بعد الوُفود وُفود
وإنك لم تَبْعد على متعهِّد ... بَلى إنّ مَن تحت التراب بَعيد
وقال منصور النَّمري يَرْثي يزيد بن مَزْيد:
مَتى يَبْرُد الحُزْن الذي في فُؤاديا ... أبا خالدٍ من بعد أن لا تَلاَقِيَا
أبا خالدٍ ما كان أدهَى مُصِيبةً ... أصابت مَعدًا يومَ أصْبَحْت ثاويا
لَعَمْرِي لئن سُرّ الأعادي وأظهَروا ... شَمَاتاً لقد سُّرُوا برَبْعِكَ خالِيا
وأوْتار أقْوَام لَدَيْكَ لَوَيْتَها ... وزُرْتَ بها الأجْداثَ وهِي كما هيا
نُعَزِّي أميرً المؤمنين ورَهْطَه ... بسَيْفٍ لهم ما كان في الحَرْب نابيا

على مِثْل ما لاقَى يزيدُ بن مَزْيد ... عليه المَنايا فالْقَ إن كنْتَ لاقِيا
وإنْ تَكُ أفنَتْه اللَيالِي وأَوْشكَت ... فإنّ له ذِكْرًا سَيُفْنِي اللَّياليا
وقال:
سأبكيكَ ما فاضت دموعي فإن تَغِضْ ... فَحَسْبُكَ منّي ما تّجنّ الجَوانِحُ
كأن لم يَمُتْ حَيٌّ سِواك ولم تَقُم ... على أحدٍ إلا عليكً النَّوائح
لئن حَسُنت فيك المَرَاثي وذِكْرُها ... لقد حَسُنَت من قبلُ فيك المَدَائحُ
فما أنا مِن رُزْءٍ وإنْ جلَّ جازعٌ ... ولا بسُرورٍ بعد مَوْتك فارِح
وقال زِياد الأعجم يرثي المُغيرة بن المهلًب:
إنَ الشَّجاعهَ والسَّماحةَ ضُمَنا ... قَبْرًا بِمَرْوَ على الطَّريق الواضِح
فإذا مَرَرْتَ بقبره فاعقرْ به ... كُومَ الهِجَان وكل طِرْفٍ سابح
" وانضح جوانبَ قَبْره بدمائها ... فلقد يكون أخا دَم وذَبائح "
والآن لما كنْتَ أكملَ مَنْ مَشىَ ... وافتر نابُكَ عن شَبًاةِ القارِح
وتَكامَلَت فيك المروءةُ كلُّها ... وَأعَنْتَ ذلك بالفَعَال الصَالح
للمهلًبي من مَرْثيته للمتوكل:
لا حُزْنَ إلا أراه دُونَ ما أَجدُ ... وهَلْ كمن فَقَدَتْ عَيْناي مَفتَقَدُ
لا يَبْعدَنْ هالكٌ كانت مَنِيته ... كما هَوَى من غِطاء الزُّبْية الأسد
لا يَدْفع الناسُ ضَيْماً بعد لَيْلتهم ... إذْ تُمَدُّ إلى الجاني عليكَ يد
لو أن سَيْفي وعَقْلي حاضران معيِ ... أبليتُه الجُهْدَ إذ لم يًبْلِه أحد
هلاَّ أَتَتْهُ أعاديه مُجاهرةً ... والحَربُ تَسْعَر والأبطال تَجْتلد
فخَر فوق سرَير المُلْكِ مُنْجدلاً ... لم يَحْمه مُلكُه لما آنقضىَ الأمد
قد كان أنصارُه يَحْمُون حَوْزتَه ... وللردىَ دون أرْصاد الفَتَى رَصَد
وأصْبَح الناس فَوْضىَ يَعْجَبون له ... لَيثاً صريعاً تَنَزَّى حوله النَّقَد
علَتْكَ أسيافُ من لا دونه أحدٌ ... وليسَ فوقك إلا الواحد الصمد
جاءُوا عظيماً لدُنيا يَسْعدون بها ... فقد شَقُوا بالذي جاءُوا وما سَعِدوا
ضَجَّت نِساؤًك بعد العزَ حين رأتْ ... خدًّا كريماً عليه قارِت جَسِد
أضحى شهيدُ بني العبّاس مَوْعِظةً ... لكلّ ذي عِزّة في رأسه صَيَد
خَليفةٌ لم ينل ما ناله أحدٌ ... ولم يكن مثله رُوِح ولا جَسَد
كم في أديمك من فَوْهاء هادرة ... من الجَوَائف يَغْلى فوقها الزَّبَد
إذا بَكيتُ فإنّ الدمع مُنْهملٌ ... وإن رَثيتُ فإنَ القولَ مُطَرد
قد كنتُ أسرف في مالي ويُخْلِف لي ... فعلَّمتْني الليالي كيف أقْتَصِد
لمَّا اعتقدتُم أناساً لا حُلومَ لهم ... ضِعتُم وضَيَّعتُمُ مَن كان يُعتَقَد
فلو جَعَلتم على الأحرار نِعْمَتكم ... حَمَتْكم السادة المركوزةُ الحُشُد
قومٌ هُمُ الْجذْمُ والأنساب تَجْمعكم ... والمَجْدُ والدِّينُ والأرحامُ والبَلَد
" إذا قُرَيْشَ أرادوا شَدِّ مُلكهمُ ... بغير قَحْطان لم يَبْرَح به أوَد "
من الألى وَهَبوا للمَجد أنْفًسَم فما ... يبالون ما نَالوا إذا حُمدوا
قد وتُر الناسُ طرًّا ثم صَمَتُوا ... حتى كأنَّ الذي يَبْلونه رَشَد
وقال آخر:
وِفتًى كأنّ جَبينَه بَدْرُ الدُّجا ... قامت عليه نَوَادِبٌ ورَوَامِس
غرَسَ الفَسِيلَ مُؤَمّلاً لِبَقائه ... فنَما الفَسِيلُ ومات عنه الغارس
وقال الأسود بن يَعْفُر.
ماذا أؤَمِّلُ بعد آل مُحَرق ... تَرَكُوا منازلَهم وبَعد إيَادِ

أهل الخَوَرْنَقِ والسَّدير وبارقٍ ... والقَصْر ذي الشّرفات مِن سِنْداد
نَزَلوا بأَنقِرة يَسِيلُ عليهمُ ... ماءُ الفرات يَجىء مِن أطواد
جَرَت الرِّياحُ على محلِّ دِيارهم ... فكأنما كانوا عَلَى مِيعاد
ولقد غَنُوا فيها بأنعِم عِيشةٍ ... في ظِل مُلْكٍ ثابتِ الأوتاد
وإذا النَّعيم وكلًّ ما يلْهَى به ... يوماَ يصِيرُ إلى بِلًى ونَفَاد
وقال عَبِيدُ بن الأبرص:
يا حارِ ما رَاح من قَوْم ولا ابتكَرُوا ... إلا والموت في آثارهم حادِي
يا حار ما طَلَعت شمسٌ ولا غَرَبتْ ... إلا تُقَرَبُ آجالا لميعاد
هل نحن إلا كأرْواح يُمر بها ... تحت التراب وأجسادٌ كأجساد
لما مات أسماء بن خارجة الفَزَاري قال الحجاج: ذلك رجل عاش ما شاء ومات حين شاء. وقال فيه الشاعر:
إذا مات ابن خارجةَ بنِ زَيْدٍ ... فلا مَطَرَتْ على الأرض السماءُ
ولا جاء البَريدُ بغُنْم جَيْشٍ ... ولا حُمِلت على الطهر النساء
فَيَومٌ منْك خيرٌ من رِجالٍ ... كثيرٍ عندهم نَعَمٌ وَشَاء
وقال مسلم بن الوليد الأنصاري:
أمَسْعود هل غادَاكَ يومٌ بفَرْحَةٍ ... وأمْسَيْتَ لم تَعْرِضْ لها التَّرَحَاتُ
وهل نحْنُ إلاّ أنفسٌ مُستعارةٌ ... تَمر بهما الرَّوَحات والغدوات
بكيتَ وأَعْطَتْكَ البكاءَ مُصيبة ... مَضَتْ وَهْيَ فَرد ما لها أخَوَات
كأنك فيها لم تَكن تَعْرِفُ العَزَا ... ولم تَتعمَّد غيْرَك النَّكَبات
سَقَى الضاحكُ الوَسْميُ أعظُمَ حُفْرَةٍ ... طَواها الردَّى في اللّحْدِ وَهْي رُفات
أرَى بهجَةَ الدُّنيا رَجِيعَ دوائرٍ ... لهنَ اجتماعٌ مَرةً وشَتَات
طَوَى أيْدِيَ المَعْرُوف مَصْرَع مالكٍ ... فهُنّ عن الآمال منقبضات
وقال أيضاً:
أمَّا القُبورُ فإنَّهُنَّ أوانسٌ ... بِجِوار قَبْرِك والدِّيار قُبُورُ
عًمَتْ فَوَاضِلُه وعَمَّ مُصابه ... فالناسُ فيه كُلّهم مَأجور
رَدَّت صنائعه إليه حياتَه ... فَكانه من نَشْرِها منْشور
وقال أشجع بن عمرو السُّلَمي يرثي منصور بن زِياد:
يا حُفْرةَ الملك المُؤَمَّل رِفدُهُ ... ما في ثَرَاكِ مِن النَدَى والخِير
لا زِلْتِ في ظِلَّين ظِلِّ سَحابةٍ ... وَطْفَاَءَ دانيةٍ وظِل حبُور
وسَقَى الوليُّ على العِهاد عِراصَ ما ... وَالاكِ من قَبْرٍ ومن مَقْبور
يا يومَ مَنصورٍ أبَحْتَ حِمَى النَدى ... وَفَجَعْته بِوليّه المَذكور
يا يومَه أعْرَيْتَ راحلةَ النَّدَى ... من رَبِّها وحَرَمْتَ كل فَقير
يا يومه ماذا صنَعت بِمُرْمل ... يرْجُو الغِنى ومُكبّل مأسور
يا يومَه لو كنت جِئتَ بِصيْحَةٍ ... فَجَمَعت بين الحيِّ والمقبور
للهّ أوْصال تقسمها البِلى ... في اللحد بين صَفائحٍ وصخور
عَجَبا لخمسة أذْرِع في خمسةٍ ... غَطَّتْ على جَبَل أشمَّ كبير
مَن كان يملأ عَرْضً كلَ تَنُوفةٍ ... وَارَاهُ جُولُ ملحد مَحْفُور
ذَلَتْ بمصرعه المكارِمُ والندى ... وذُبابُ كلِّ مُهَنَّد مأثُور
أَفَلتْ نجوم بَني زِيادٍ بَعدما ... طَلَعَت بنوِر أهلَّة وبُدُور
لولا بقاءُ محمد لتصدَعت ... أكبادُنا أَسفاً على منصور
أبقى مَكارِمَ لا تَبِيدُ صفَاتُها ... ومَضىَ لِوَقت حِمَامه المَقْدُور
أصْبحتَ مَهْجوراً بحُفرتك التي ... بُدِّلْتها من قَصرْك المَعْمُور

بَلَيت عِظَامُك والصفاحُ جَديدة ... ليس البلى لفَعَالك المَشْهور
إِنْ كُنْت ساكِنَ حفْرةٍ فلقد تُرى ... سَكناً لعُودي مِنْبرٍ وسرَير
وقال يرثي محمد بن مَنْصور:
أنْعَى فَتِىَ الجُودِ إلى الجود ... ما مِثلُ مَن أنْعَى بِمَوْجُودِ
أنْعَي فَتَى مَصَّ الثَّرى بعده ... بَقِية الماءِ مِنَ العُود
فانْثَلم المَجْدُ به ثَلمَةً ... جانِبُها ليس بِمَسْدُود
أنْعَي ابن مَنْصور إلى سَيِّدٍ ... وأيِّدٍ ليسَ برِعْدِيد
وأشْعَثٍ يَسْعَى على صِبْيةٍ ... مِثْل فِراخ الطير مجهود
وطارقٍ أعيا عَليه القِرَى ... ومُسْلمٍ في القِدِّ مَصْفود
اليومَ تُخْشىَ عَثَراتُ النَّدى ... وعَدْوَة البُخْلِ على الجُود
أوْرَده يومٌ عَظِيمٌ ثَأى ... في المجد حوضاَ غير محمود
كُلُّ آمرىءٍ يَجرى إلى مٌدَّة ... وأجَل قد خُطّ مَعْدُود
سَيَنْطَق الشِّعُرُ بأيامه ... على لِسانٍ غَيْرِ مَعْقُود
فكل مَفْقودٍ إلى جَنْبِه ... وإنْ تعالى غَير مَفْقُود
يا وافِدَيْ قومهما إنّ ... مَن طَلَبتما تحت الْجَلاميد
طَلَبتما الجودَ وقد ضَمَه ... محمدٌ في بطن مَلْحُود
فاتَكما الموت بمعْرُوفِه ... وليس ما فات بِمَرْدُود
يا عَضداً لِلْمَجْدَ مَفْتوتةً ... وساعِداً ليس بمَعْضود
أوْهَن زَنْدَيْها وَأكْباهما ... قَرْعُ المنايا في اَلصنَّاديد
وهدَّت الرُكْنَ الذي كان بالأمْس ... عِمَاداً غَيْرَ مَهْدُود
وقال حبيبٌ الطائيًّ يَرثي خالدَ بن يَزيد بن مَزيد:
أشَيْبان لا ذاك الهِلالُ بطالعٍ ... عَلَينا ولا ذاك الغَمَام بعائدِ
أشَيْبان عَمَّت نارُها من رَزيَّةٍ ... فما تَشْتَكي وَجْداً إلى غَيْر واجِدِ
فما جانبُ الدُنيا بِسَهْل ولا الضُّحَىِ ... بطَلْق ولا ماءُ الحَياة ببَارد
فيا وَحْشَةَ الدُنيا وكَانت أنيسةَ ... ووُحدَة مَن فيها بِمَصْرع واحد
وأنشد أبو محمد التّيْمي في يَزيد بن مَزْيد:
أحقاً أنّه أودى يَزِيدُ ... تَبَينَّ أيها النَّاعي المُشِيدُ
أتدْرِي من نَعَيت وكيف فاهتْ ... به شَفَتَاكَ واراك الصَّعِيد
أحامي المُلْكِ والإسْلام أوْدى ... فَما للأرْض وَيْحَكَ لا تَمِيد
تَأمَّلْ هل تَرَى الإسْلامَ مالتْ ... دَعائمُهُ وهل شَابَ الوَليد
وهَلْ شِيمَتْ سُيوف بني نِزَارٍ ... وهَل وُضِعت عن الخَيْل اللُّبُود
وهَلْ نَسْقِي البِلادَ عِشَارُ مُزْنٍ ... بدرَّتها وهَلْ يَخْضَرُ عُود
أما هُدَّت لمَصرَعه نِزَار ... بَلَى وتقوّض المجد المَشِيد
وحلَّ ضَرِيحَه إذ حَلَّ فيه ... طَرِيفُ المَجْدِ والحَسَبُ التَّلِيد
وهُدَّ العِزُّ والإسْلامُ لما ... ثَوَى وخَلِيفة اللهّ الرَّشيد
لقد أوْفي رَبِيعَةَ كُلُّ نحْسٍ ... لمهْلِكه وغُيِّبت السُّعُود
وأنْصِلَت الأسِنّة مِن قَنَاهاً ... وأشْرعت الرِّمَاح لِمَن يَكِيد
نعي يزيد أن لم يبق بأسٌ ... غداة مضى وأن لم يبق جود
نَعِيّ أبي الزُّبير لكًلّ يَوْمٍ ... عبوس الوجه زينته الحديد
أأودى عصمة البادي يزيد ... وَسَيْفُ الله والغيثُ الحميد
فمِن يَحْمي حِمَى الإسْلام أمْ مَن ... يَذُبّ عن المَكارم أو يذُود
ومَن يَدْعُو الإمامُ لكلّ خَطْبِ ... يخاف وكُلِّ معضلة تَؤُود

ومَن تُجْلَى به الغَمَراتُ أم مَنَ ... يَقُوم لها إذا اعوج العنيد
ومن يحمي الخميس إِذا تعَايا ... بحيلة نَفْسه البَطَل النَّجِيد
وأين يَؤُمِّ منْتَجع وَلاجٍ ... وأين تَحُطّ أرْحُلَها الوُفُود
لقد رُزِئتْ نِزَارٌ يوْمَ أودْىَ ... عمدٌَ ما يقاسُ به عَمِيد
فلو قُبِلَ الفِدَاءُ فَدَاهُ منّا ... بِمُهْجَته المُسَوَّدُ والمَسُود
أبَعْدَ يَزيد تَختَزن البَوَاكِي ... دُمُوعاً أو تُصَان لها خُدُود
أما واللّه لا تَنْفَكُّ عَيْنِي ... عليه بدَمْعِها أبداً تجود
وإنْ تَجْمُد دُمُوعُ لَئيم قَوْم ... فليس لِدَمْع ذي حَسَب جُمود
وإن يك غالَه حَينٌ فأَوْدَىً ... لقد أودىَ وليس لهًُ نَدِيد
وإنْ يَعْثر بهِ دهرٌ فكم قَد ... تَفَادىَ من مخافته الأسُود
وإن يَهْلِك يزِيدُ فكُلُّ حَيٍّ ... فَرِيسٌ للمنية أو طَرِيد
فإنْ يَكُ عن خُلُود قد دَعَته ... مآثِرُه فكَانَ لها الخُلُود
فما أوْدَى آمروء أوْدَى وأبْقَى ... لِوَارِثِهِ مَكارِمَ لا تَبِيد
ألم تَعْلَم أخِي أن المَنايا ... غَدَرْنَ به وهُنَّ له جُنود
قَصَدْنَ له وكُنَّ يَحدْنَ عنه ... إذا ما الحَرْبُ شبّ لها الوَقُود
فهلا يوْمَ يَقْدُمهَا يَزِيدُ ... إلى الأبطال والخُلان حِيد
ولو لاقى الحُتُوف عَلى سِوَاه ... للاقاها به حتْفٌ عَنِيد
أضَرَاب الفوارس كل يوْم ... ترَى فيه الحُتُوفُ لها وَعِيد
فمن يُرْضى القَواطع والعَواليً ... إذا ما هَزّها قَرْعٌ شَديد
لِتَبْكِكَ قبَّةُ الإسلام لمَّاَ ... وَهتْ أطنابُها وَوَهى العَمُود
وًيبْكِك مُرْهَقٌ تتْلُوهُ خَيْلٌ ... إبَالَةُ وهو مَجْدُول وَحِيد
وَيَبْكِكَ خاملٌ ناداك لمَّا ... تَوَا كَلَهُ الأقارِبُ والبعيد
وَيَبْكِكَ شاعرٌ لم يُبْقِ دَهرٌ ... له نَشبَا وقد كَسَدَ القَصِيد
تَرَكْتَ المَشرفيَّة والعَوَالي ... مُحَلاةً وقد حانَ الوُرُود
وغادَرْتَ الجِيَاد، بكُلِّ لُغْزٍ ... عَوَاطِلَ بَعْدَ زِينتها تَرُود
فإِنْ تُصْبِح مُسَلَّبَةَ فمما ... تُفِيدُ بها الجَزِيلَ وتَسْتَفِيد
أَلمْ تكُ تَكْشف الغَمَرَاتِ عنها ... عوابِسَ والوُجوه البيض سُود
أصِيبَ المَجْد والإسلامُ لمّا ... أَصَابك بالرَّدَى سَهْم سَدِيد
لَقَد عَزَّى ربيعةَ أَنَّ يوماً ... عليها مثلُ يَوْمك لا يعود
ومِثْلُك من قَصَدْن له المنايا ... بأسْهُمها وهُنَّ له جُنود
فيا للدهر ما صَنَعَتْ يَدَاهُ ... كأنَّ الدهر منها مستقيد
سَقَى جَدَثاً أقامَ به يزيدُ ... من الوَسْمِيِّ بَسَّام رَعُود
فإن أَجْزَعْ لمَهْلِكة فإنّي ... على النَّكَبات إذ أوْدىَ جَلِيد
لِيَذْهَبْ مَن أَراد فَلَسْت آسىَ ... على مَن مات بعدك يا يزيد
وقال مَرْوان بن أبي حَفْصَة يَرْثي مَعْنَ بن زائدة:
زار ابن زائدةَ المَقابِر بَعْدَ ما ... أَلْقَتْ إليه عُرَى الأمور نِزَارُ
إنَّ القبائلَ مِنْ نزَارٍ أصْبَحَتْ ... وقلُوبُها أسفاً عليه حَرَارُ
وَدَّتْ رَبِيعَةُ أنَّها قسمتْ لَهُ ... منها فعاشَ بِشَطْرِها الأعمار
فَلأبْكِينًّ فَتَى رَبِيعَة ما دَجَا ... ليلٌ بِظُلْمَته ولاح نَهَار
لا زال قَبْرُ أبي الوَليد تَجُوده ... بِعِهادها وبوَبْلِهِا الأمْطَار

قَبْرٌ يَضُم معِ الشَّجاعة والنَدَى ... حِلْماً يُخالِطُهُ تًقَى وَوَقارُ
إنَّ الرَّزِيَّة من رَبيعة هالكٌ ... تَرَكَ العُيُونَ دُمُوعَهنَّ غِزَار
رَحْبُ السّرَادق والفِنَاء جَبِينهُ ... كالبَدْرِ ضِيَاءَه الإسْفار
لهفاً عليك إذا الطِّعَانُ بمأزِق ... تَرَكَ القَنَا وطِوالُهُنَ قِصَار
خلَّى الأعنة يومَ مات مشَيعٌَ ... بَطَلُ اللِّقَاءِ مُجَربٌ مِغْوَار
يُمْسي وَيُصْبِحُ مُعْلَماً تًذْكَى بِه نَارٌ ... بمُعْتَرَكٍ وَتُخْمَدُ نَار
مهما يُمرَّ فليس يَرْجُو نقْضَهُ ... أحدٌ وليس لِنَقْضِهِ إمْرَارُ
لو كان خَلْفَكَ أو أمامَكَ هائباً ... أحداً سِوَاك لَهَابَكَ المِقْدَار
وقال يرثيه:
بَكى الشامُ مَعْناً يومَ خَلَى مكانَه ... فكادت له أرض العِرَاقين تَرْجُفُ
ثَوَى القائدُ المَيْمُون والذائد الذي ... به كان يُرْمَى الجانبُ المتَخَوَف
أتى الموتُ مَعْناً وهو للعِرْض صائنٌ ... وللمجدِ مُبْتَاعٌ وللمالِ مُتلِف
وما مات حَتَّى قّلدَتْهُ أمُورَها ... ربيعةُ والحيَّان قيْسٌ وخِنْدِف
وحتىَ فَشَا في كلِّ شَرْقٍ ومَغْرِبِ ... أيادٍ له بالضرُِّ والنفْع تُعْرَف
وكم مِن يدٍ عنْدِي لِمَعنٍ كَريمةٍ ... سأشْكُرُها ما دامت العين تَطْرِف
بَكَتْهُ الجيَادُ الأعْوَجِيَّة إذ ثَوَى ... وحَنَ مع النَّبْع الوَشيجُ المُثَقَّف
وقّد غَنِيَتْ ريحُ الصَّبَا في حَياتِهِ ... قَبُولأً فأمْسَتْ وهي نكْبَاءُ حَرْجَف
وقال أبو الشِّيص يرثي هارون الرشيد ويمدح ابنه محمد بن زُبيدة الأمينٍ:
جَرَت جَوَارٍ بالسَّعد والنَّحس ... فنحن في وحْشَةٍ وَفي أنْس
العينُ تَبْكىِ والسنُّ ضاحكةٌ ... فنحن في مأتمٍ وفي عُرْس
يُضْحِكُنا القائم الأمِينُ ويُب ... كِينا وفاة الإمام بالأمْس
بدْرَانِ بَدْرٌ أَضْحَى ببَغْداد في ال ... خُلْدِ وبَحْرُ بطُوس في الرّمْس
وأنشد العُتْبي:
والمرءُ يجمع مآلَهُ مُسْتَهْتِراً ... فَرٍحاً وليس بآكِلِ ما يجمعُ
وليأتينّ عليك يومٌ مرَّةً ... يُنكَى عليك مُقَنَّعاً لا تَسْمَع
وقال حارثه بن بَدْر الغُدانيّ يرثي زياداً:
صَلّى الإلهُ علي قبرٍ وطهَرَه ... عند الثَّويِّة يَسْفِي فوقه المُورُ
زَفَّتْ إليه قُرَيْشٌ نعْشَ سيِّدها ... فثَمَّ كلّ التُّقَى والبر مقبور
أبا المغيرَة والدُّنْيَا مُغَيِّرَةٌ ... وإنَ من غرّت الدُّنيا لمغرُور
قد كان عندكِ للْمعْرُوف معرفةٌ ... وكان عندك للنَّكْراء تَنْكير
لوْ خلَّدً الخيرُ والإسلامُ ذا قَدَم ... إذاً لخلَّدَك الإسْلاَمُ والخِير
قد كُنتَ تُؤتىَ فتُعْطِي المالَ عن سَعةٍ ... فاليوم بيْتُك أضحى وهو مَهْجْور
وقال نَهَار بن تَوْسِعة يرْثي المُهَلَب:
ألا ذَهَبَ الغَزْو المُقَرِّبُ لِلغِنَى ... ومات النَّدَى والحَزْم بعد المهلَّبِ
أقاما بمَرْو الرّوذ رَهْن ضرَيحه ... وقد غيبَا من كلِّ شرق ومَغْرِب
وقال المهلْهل بنُ رَبيعة يرْثي أخاه كًلَيْب وائل، وكان كُلَيب إذا جَلس لم يِرْفَع أحد بحضْرتِه صوتَه:
ذَهَبَ الخِيار من المَعاشر كلِّهم ... واستْبَّ بعدك يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ
وَتناولُوا من كُلِّ أمرِ عظيمةٍ ... لو كنتَ حاضرِ أمرِهم لم يَنْبسوا
وقال عبد الصَّمد بن المُعذَّل يَرْثِي سَعيد بن سَلم:
كم يتيم جَبَرْتَه بعد يُتْمٍ ... وعَدِيمٍ نعَشْتَه بعد عُدْم

كلما عض بالحوادث نادى رَضيَ اللهّ ... عن سعيد بنِ سَلمَ
وقال ابن أخت تأبطَ شرا يرْثي خاله تأبطَ شرّا الفَهْمي، وكانت هُذَيل قتلته:
إنْ بالشَعْب الذي دونَ سَلْع ... لقتيلاً دمه ما يُطَل
قَذف العَبءَ عليَّ ووَلّى ... أنا بالعِبْء له مستَقِل
وَوراء الثأرِ منيَ ابن أختٍ ... مَصعٌ عُقْدَتُهُ ما تُحَل
مُطرِقٌ يَرْشَحُ سَمًّا كما أط ... رقَ أفْعَى يَنْفثُ السَّمَّ صِلُّ
خَبرٌ ما نابنا مُصْمئِلُّ ... جلَّ حَتَى دقَّ فيه الأجَلُ
بَزَّني الدَّهر وكان غَشوماً ... بأَبّي جارُهُ ما بُذَلُّ
شامِسٌ في القُرِّ حتى إذا ما ... ذَكَتِ الشِّعري فَبَرْدٌ وَظِلُّ
يابِسُ الجَنْبَينْ من غير بُؤسٍ ... وندِيُّ الكَفَّين شَهْمٌ مُدِلّ
ظاعِن بالْحَزم حتًى إذا ماَ ... حَل حَلَّ الحزْمُ حيْثُ يَحلُّ
وله طَعْمانِ أَرْيٌ وَشَرْيٌ ... وكلا الطعْمَينْ قد ذاقَ كل
رائحٌ بالمَجْدِ غادٍ عليه ... من ثيابِ الحمْدَ ثَوْبٌ رِفَلّ
أفْتَحُ الراحة بالجُودِ جَواداً ... عاش في جَدْوَى يدَيْه المُقِلُّ
مُسْبِلٌ في الحَيّ أَحْوَى رِفَل ... وإذا يَغْزُو فسِمْع أزَلُّ
يرْكَبُ الهوْلَ وَحيداً ... يَصحَبُه إلا اليماني اقَلّ
ولا فاحتَسوا أنفاسَ يوم فلمّا ... هَوَّموا رُعْتَهُمْ فاشْمَعَلّوا
كلُّ ماض قد تَردَّى بمًاض ... كسَنَا البَرْق إذا ما يُسَل
فَلئِنْ فَلّت هُذَيْلٌ شَبَاه ... لَبِمَا كان هُذَيْلاً يَفُلّ
وبما أبرَكها في مُنَاخٍ ... جَعْجَعٍ يَنْقَب منه الأظَلُّ
صَلِيَتْ منه هُذَيلٌ بِخِرْقٍ ... لا يَمَلّ الشرَّ حتى يَمَلُّوا
يُنْهلً الصَّعْدَةَ حتى إذا ما ... نَهِلَتْ كان لها منه عَلّ
تَضْحًكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هُذيلِ ... وتَرَى الذِّئْبَ لها يَستهل
وعِتَاقُ الطَّير تَغْدُو بِطاناًَ ... تَتَخَطَّاهمُ فما تستقلّ
وفُتُوّ هَجَّروا ثم أسْرَوْا ... ليْلَهم حتَّى إذا آنجاب حَلُّوا
فاسْقِنِيها يا سوادَ بن عَمْروٍ ... إِنّ جِسْمي بعدَ خالِي لَخَلُّ
وقال أُمَية بن أبي الصلت يَرْثى قَتلَى بَدْر " من قُريش " .
ألاّ بَكّيْتِ عَلَى الكِرا ... م بَني الكِرام أولِى المَمَادحْ
كَبُكا الحَمام على فُرو ... ع الأيْكَ في الغُصنُِ الجوانح
" يبكين حَرَّى مُستكي ... ناتٍ يَرُحْن مع الروَائح "
أَمْثالَهنَّ الباكِيا ... ت المُعْوِلات من النوائح
مَنْ يَبكهِم يَبْكى على ... حُزْنٍ وَيَصدُق كُلَّ مادح
من ذا بِبَدْر فالعقن ... قل من مَرازِبة جَحَاجِح
شُمْطٍ وَشُبَّانٍ بَهَا ... ليل مَناوير وَحَاوح
أَلا تَرَونَ لِما أَرى ... ولقد أبان لكلِّ لامِح
أنْ قد تَغيَر بَطْنُ مكَة ... فَهْي مُوحِشةُ الأباطِح
من كُلِّ بِطْرِيق لِبط ... ريق نَقِيِّ اللَوْنِ وَاضح
دُعْمُوص أبواب المُلو ... ك وجائِب لِلخَرْق فاتح
ومن السرَّاطِمَة الحَلا ... جمةَ المَلاًزِبة المنَاجِح
القائِلين الفاعلي ... ن الآمِرين بكُلِّ صالح
المُطْعِمينَ الشَحْم فو ... قَ الخُبْزِ شَحْماً كالأنافح

نُقُل الجفَانِ مع الجفَا ... ن إلى جِفَانَ كالمنَاضِح
ليست باَّصْفارٍ لِمَنْ ... يَعْفُو ولا رَح رَحارِح
" للضيْف ثُمَّ الضَيْف بع ... د الضَّيْفِ والبُسْط السَّلاطح "
وُهُب المِئين من المِئي ... ن إلى المِئين من اللواقح
سَوْقَ المُؤَبَّلِ للمؤبَّل ... صادِرَاتِ عن بَلاَدِح
لِكِرامهم فوق الكرا ... م مزَيّة وَزْن الرَّواجح
كتثاقل الأرطال ... بالقسطاس في الأيدي الموائح
للّه در بني عليّ ... أيّم منهم وناكح
إن لم يُغيرُوا غارَةً ... شَعْوَاءَ تجحَر ُكَلَّ نابح
بالمُقْرَبات المُبْعدا ... ت الطَّامِحَاتِ مع الطَّوامِح
مُرْداً عَلَى جُرْدٍ إلى ... أسْدٍ مُكالِبَةٍ كوالِح
وُيلاقِ قِرْن قِرْنَهُ ... مَشي المُصَافح للمُصَافح
بزُهاءِ ألْفٍ ثُمَ أل ... ف بين ذي بَدنٍ ورَامح
الضَّارِبين التَقْدُمِيَّة ... بالمُهنَّدَة الصفائح
روى الأخفش لسَهل بن هارون:
ما للحوادث عنْكَ مُنصَرِفُ ... إلاّ بنَفْس ما لهَا خَلَفُ
فَكأَنّها رَامٍ عَلَى حَنقٍ ... وَكأنَّنى لِسَهَامِها هَدَف
دهرٌ سُرِرْت به فأَعْقَبَني ... جَرَيانه ما عِشْتُ ألْتَقف
فابْكِ الّذي وَلِّى لمَهْلِكهَ ... عنك السُّرورُ خُلِّفَ الأسف
إذ لا يَردّ عليك ما أخذَتْ ... منك الحوادثُ دَمْعةٌ تَكِف
قَبْرٌ بمُخْتَلف الرِّياح به ... مَنْ لَسْتُ أبلغه بما أَصِف
أنسَ الثرى بمحَلِّه وله ... قد أوحَشَ المُسْتَأْنَس الألِف
فالصبر أحسن ما اعْتَصَمْتَ به ... إذ ليس منه لدَيّ منتصف
وقال فَرْوَةُ بن نَوْفل الحَرُوريّ، وكان بعضُ أهل الكُوفة يقاتلون الخوارج، ويقولون: واللهّ لَنَخْرقنّهُم ولنفعلنَ ولنفعلَنّ، فقال في ذلك فرْوَةُ بنُ نَوْفل، وكان من الخوارج:
ما إنْ نبَالي إذا أروَاحُنَا قُبِضَتْ ... ماذَا فَعْلتمْ بأَجْسادٍ وأَبْشَارِ
تَجْري المَجَرّة والنِّسْرَان بَيْنهما ... والشمسُ والقمرُ الساري بمقدَار
لقد علمتُ وخَيرُ العِلْم أنْفعه ... أن السَّيَدَ الذي ينْجُو منَ النار
وقال يرْثى قَوْمَه:
همُ نَصَبُوا الأجْسَاد للنَبْل والقَنَا ... فلم يَبْق منها اليومٍ إلا رَميمُها
تَظلّ عِتاقُ الطير تحجلُ حَوْلهم ... يُعلِّلن أجساداً قليلا نَعيمها
لِطَافاً بَرَاها الصَّوْمُ حتى كأنَها ... سيوفٌ إذا ما الخَيلُ تَدْمى كلومُها

التعازي
قال عبد الرحمن بن أبي بكر لسليمان بن عبد الملك يُعزِّيه في ابنه أيوب وكان وليّ عهده وأكبر ولده: يا أمير المؤمنين، إنه من طال عمره فَقَدَ أحبَّتَهُ، ومن قَصر عُمره كانت مُصيبته في نفسه. فلو لم يكن في مِيزانك لكُنْتَ في ميزانه. وكَتَب الحسنُ بن أبي الحسن إلى عُمَر بن عبد العزيز يُعزِّيه في ابنه عبد الملك:
وعوِّضْتَ أَجْرًا مِنْ فَقِيدٍ فَلاَ يَكُنْ ... فَقِيدُكَ لا يَأتي وأَجْركَ يَذْهَبُ
العُتْبىِ قال: قال عبدُ الله بن الأهْتَم: مات لي ابن وأنا بمكة فجزِعْتُ عليه جَزَعاً شديداَ، فَدَخَل عليَّ ابن جُرَيجٍ يُعَزِّيني، فقال لي: يا أبا محمد، اسْلُ صَبراً واحْتِساباً قبْلَ أن تَسْلُو غفلة ونسْياناً كما تَسْلو البهائم. وهذا الكِلامُ لعليّ ابن أبي طالب كرّم الله وجهَه يُعزِّي به الأشْعَتَ بن قيْس في ابن له، ومنه أخذه ابن جُرَيْج. وقد ذكَرَه حبيب في شعره فقال:
وقال عليّ في التعازي لأشْعَثٍ ... وخاف عليه بعضَ تلك المآثِم

أتَصْبِرُ لِلْبلْوَى عَزَاءً وحِسْبَةً ... فَتُؤْجَرَ أَمْ تَسْلُو سًلُوَّ البهائم
أتى عليُّ أبي طالب كَرَّم الله وجهه لأشْعَث يُعَزِّيه عن ابنه، فقال: إن تَحْزَنْ فقد آستحقًتْ ذلك مِنك الرّحم، وإن تَصْبر فإن في الله خَلَفاً من كلِّ هالك، مع أنّك إن صَبَرت جرَى عليك القَدَر وأنت مَأجُور، وإن جَزِعْت جَرَى عليك القَدَر وأنت آثِم. وعزَّى ابن السمَّاك رجلاً فقال: عليك بالصَّبْر، فبه يَعْمل من احتَسَب، وإليه يَصير مَن جزع، واعلم أنه ليست مُصيبة إلا ومعها أعظمُ منها من طاعة الله فيها أو مَعْصيته بها.
الأصمعيّ قال: عزّى صالحٌ المُرِّي رجلاً بابنه، فقال له: إنْ كانت مُصيبتك لم تُحْدِث لك مَوْعظةً فمُصِيبتك بنَفْسك أعظمُ من مُصيبتك بابنك، واعلم أنّ التَّهْنِئَة على آجِل الثَّوَاب أولَى من التَّعزِية على عاجل المصيبة. العُتْبىّ قال: عزَى أبي رجلاً فقال: إنما يَسْتوجب على اللهّ وَعْده من صبر لحقه، فلا تجْمَع إلى ما فُجِعت به الفَجيعةَ بالأجر، فإنها أعظمُ المصيبتن عليك، ولكلّ اجتماعٍ فُرْقة إلى دار الحُلولِ.
عزّى عبدُ الله بن عبَّاس عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه في بُنى له صَغير، فقال: عوَّضك الله منه ما عوّضه الله منك. وكان عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه إذا عزَّى قوماً قال: عليكم بالصَّبر فإنّ به يأخُذ الحازم وإليه يَرْجع الجازع. وكان الحسنُ يقول في المُصيبة: الحمدُ لله الذي آجَرَنا على ما لو كلَّفنا غيرَه لعَجَزْنا عنه.

كتاب تعزية
أما بعد، فإنَ أحق مَن تعزَّى، وأوْلى مَنْ تأسى وسلّم لأمر اللّه، وقَبِلَ تأديبَه في الصَبر على نَكبَات الدنيا، وتجرع غُصَص البَلْوى، مَن تَنجَز من الله وعده، وفَهِم عن كتابه أمرَه، وأخْلص له نفسَه، واعترف له بما هو أهلُه. وفي كتاب اللّه سَلوَة من فَقْدَ كل حَبيب وإن لم تَطب النفسُ عنه، وأنْسٌ من كلِّ فقيد وإن عَظًمت اللوعةُ به، إذ يقول عزَّ وجلّ: " كلُّ شيءَ هَالِكٌ إلاّ وَجْهَه لَهُ الحُكم وَإلَيْهِ تُرْجَعُون " وحيث يقول: " الذِين إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا للّه وَإنّا إلَيْهِ رَاجِعُون أولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهمْ وَرَحْمَةٌ وأولئِكَ المُهُتَدُون " . والموتُ سبيل الماضِين والغابرين، ومورِد الخَلاَئق أجْمعين، وفي أَنبياء الله وسالفِ أوليائه أفضلُ العِبْرة، وأحْسن الأسوة، فهل أحد منهم إلا وقد أخذ من فجائع الدُّنيا بأَجْزل العطاء، ومن الصبر عليها باحتساب الأجْر فيها بأوْفر الأنصِبَاء؛ فِجع نبيّنا عليه الصلاةُ والسلام بابنه إبراهيم، وكان ذخْرَ الإيمان، وقُرَّة عَين الإسلام، وعَقِب الطٌهارة، وسَلِيل الوحي، ونَتِيج الرَّحمة، وحَضِين الملائِكة، وبِقيّة آل إبراهيم وإسماعيل صلوات اللهّ عليهم أجمعين وعلى عامة الأنبياء والمُرْسلين، فعمَت الثقلَين مُصِيبتُه، وخَصَّت الملائكةَ رَزِيتَّهً، " ورضى صلى الله عليه وسلم من فراقه بثواب الله بدلاً، ومنِ " فِقْدَانه عِوَضاً، فشكَرَ قَضَاه، واتبع رِضَاه، فقال: يَحْزَن القَلب وتَدْمَع العين، ولا نقول ما يُسْخِط الربّ، وإنّا بك يا إبراهيم لَمَحْزونون. وإذا تأمَّل ذو النّظَر ما هو مُشْفٍ عليه من غَير الدُّنيا، وانْتَصح نفسه وفِكْرَه في غِيرَها بتنقُّل الأحوال، وتقارُب الآجال، وانقطاع يسير هذه المُدَّة، ذَلَّت الدُّنيا عنده، وهانت المصائبُ عليه، وتَسهًّلت الفجائعُ لديه، فأخَذ للأَمر أُهْبته، وأعدَّ للموت عًدَّته. ومن صَحِب الدُّنيا بحُسْن رَويَّة، ولاحَظَها بعين الحقيقة، كان على بَصِيرة من وَشْكِ زوالها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أذكُرُوا الموت فإنه هادم اللذات، ومُنَغِّص الشَّهَوَات. وليس شيء مما اقتصصتُ إلا وقد جعلك اللهّ مُقَدَّماً في العِلْم به. ولَعْمري إن الخَطْبَ فيما أصِبْتَ به لَعَظيم، غير أن تَعوّصه من الأجْر والمَثُوبة عليه بحُسْن الصَّبر يُهَوِّنان الرَّزِيِّة وإن ثَقُلَت، ويُسَهِّلاَن الخَطْب وإن عَظُم. وهب الله لك من عِصْمة الصَّبر ما يُكمل لك به زُلْفي الفائزين، ومزيد الشاكرين، وجعلك من المُرتَضين قَوْلاً وفِعلا، الذين أعطاهم " الحُسْنَى " ووفَّقهم للصَّبْر والتَّقْوَى.

محمد بن الفَضل عن أبي حازم قال: مات عُقْبة بن عِيَاض بن غَنْم الفِهْريّ، فعزَّى رجلٌ أباه فقال: لا تَجْزع عليه فقد قُتِل شهيداً؛ فقال: وكيف أجزع على من كان في حَيَاته زينةَ الدُّنيا، وهو اليومَ من الباقيَات الصَّالحات.
ابن الغاز قال: حَدَّثنا عيسى بن إسماعيل قال: سمعتُ الأصمعيّ يقول: دخلتُ على جعفر بن سُليمان وقد ترك الطعامَ جَزَعاً على أخيه محمد بن سليمان فأنشدته بيتين، فما برحتُ حتى دعا بالمائدة. فقلتُ للأصمعيّ: ما هما، فسكت، فسألتهُ، فقال: أتدري ما قال الأحوص؟ قلت: لا أدْري؛ قال: قال الأحوص:
قد زادهُ كلَفاً بالحُبِّ إذ مَنَعت ... أحبُ شيء إلى الإنسان ما مُنِعاَ
قال أبو موسى: والأبيات لأراكة الثقفي يرْثى بها عمرو بن أراكَة ويُعزِّى نفسه حيث يقول:
لَعَمْري لئن أَتْبَعْتَ عينك ما مضى ... به الدَّهْرُ أو ساق الحِمَامُ إلى القَبر
لتستنفدن ماءَ الشُّئون بأَسْره ... وإنْ كُنْتَ تَمريهنَ من ثَبَج البَحْر
تَبَيّنْ فإنْ كان البُكا ردّ هالِكاً ... على أَحَدٍ فاجْهَد بُكاك على عَمْرو
فلا تَبْكِ مَيْتاً بعد مَيت أَجَنَّة ... عليُّ وعبَّاس وآل أبي بَكْر
أبو عمر بن يزيد قال: لما مات أخو مالكَ بن دِينار، بكى مالك، وقال: يا أخي، لا تَقَرُّ عيْني بعدك حتى أعْلم أفي الجنِّة أنت أم في النَّار، ولا أعلم ذلك حتى ألحق بك. وقالت أعرابية، ورأت ميتاً يُدْفَن: جافي الله عن جَنْبَيْه الثَّرَى وأعانه على طول البِلَى. وعَزَّى أعرابيَ رجلاً فقال: أوصيك بالرِّضا من الله بقَضائه، والتنجًّز لما وعد به من ثوابه، فإنَ الدُّنيا دار زوال، ولا بد من لقاء اللهّ. وَعزَّى أيضاً رجلاً فقال: إنّ من كان لك في الآخرة أجراً، خيرٌ لك ممن كان لك في الدُّنيا سرُوراً. وجَزع رجلٌ على ابن له، فشكا ذلك إلى الحسن؛ فقال له: هل كان ابنك يَغيب عنك؟ قال: نَعم، كان مَغيبُه عنِّي أكثر من حضوره؛ قال: فاترًكه غائباً فإنه فإنه لم يَغِب عنك غيبةً الأجر لك فيها أعظمُ من هذه الغَيْبة. وعزّى رجلٌ نصرانيٌّ مسلماً، فقال له: إنّ مِثْلي لا يُعزِّي مِثْلك، ولكن انظُر ما زَهِد فيه الجاهلُ فارغب فيه.
وكان عليُّ بن الحُسين رضى الله عنه في مجلسه وعنده جماعةٌ، إذ سمع ناعيةً في بَيْته، فنَهض إلى منزله فَسَكّنَهم، ثم رجَعَ إلى مجلسه، فقالوا له: أَمِنْ حَدَث كانت الناعية؟ قال: نعم. فعَزَّوه وعَجِبوا من صَبْره فقال: إنا أهل بيت نُطيع الله فيما نُحب، ونَحْمَدُه على ما نَكره.
تعزية - التمس ما وَعد الله من ثَوَابه بالتّسليم لقضائِه، والانتهاء إلى أمره، فإن ما فات غير مُسْتَدْرَك.
وعزى موسى المَهْدِيّ إبراهيمَ بن سَلْم على ابن له مات، فَجَزع عليه جزعاً شديداً، فقال له: أَيسرُّك وهو بلية وفِتْنَة، ويَحْزُنك وهو صَلَوات ورحمة؟ سُفيان الثّوْري عن سعيد بن جُبير قال: ما أعْطِيَتْ أمّة عند المُصِيبة ما أعْطِيَت هذه الأمة من قولها: " إنّا للّه وإنّا إليه رَاجِعُون " . ولو أعْطِيها أحدٌ لأعْطيها يَعْقوب حيثُ يقول: " يا أسَفَا عَلَى يوسُف، وابيضتْ عَيْنَاهُ منَ الحُزْن فَهُوَ كَظيم " . وعَزَى رجلٌ بابن له فقال له: ذَهب أبوك وهو أصلُك، وذَهب ابنك وهو فَرْعك، فما بَقَاء مَن ذهب أصلُه وفرعه؟

تعازى الملوك
العُتْبى قال: عَزّى أكثَم بن صَيْفيّ عمرو بنَ هِنْد ملكَ العرب على أخيه، فقال له: أيها الملك، إنّ أهلَ الدار سَفْرٌ لا يَحُلّون عُقَد الرحال إلا في غَيْرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك مَن سَيَظْعَنِ عنك ويَدَعك. واعلم أنّ الدُنيا ثلاثة أيام: فأمس عِظَة وشاهدُ عَدْل، فَجَعَك بِنفْسه، وأبْقَى لك عليه حُكْمَك؛ واليوم غَنيمة وصَدَيق، أتاك ولم تَأته، طالت عليك غَيْبَتُه، وستُسْرع عنك رِحْلته؛ وغَد لا تَدري من أهلُه، وسيأتيك إنْ وَجَدك. فما أحسَن الشُّكر للمُنْعم، والتسليمَ للقادر! وقد مَضت لنا أصولٌ نحن فُروِعها، فما بَقَاء الفُروع بعد أصُولها! واعلم أنّ أعظم من المُصيبة سوءُ الخَلف منها، وخيرٌ من الخير مُعْطيه، وشرٌ من الشرّ فاعله.

لما هَلك أميرُ المؤمنين المَنصور، قَدِمَت وُفود الأنصار على أمير المؤمنين المهديّ، وقَدِمَ فيهم أبو العَيْناء المُحَدَث، فَتَقَدَّمَ إلى التّعْزية، فقال: آجَر الله أميرَ المؤمنين على أمير المؤمنين قبلَه، وبارك لأمير المُؤمنين فيما خَلِّفه له، فلا مُصِيبةَ أعظمُ من مُصيبة إمام والد، ولا عُقْبَى أفْضَلُ من خِلافة الله على أوليائه، فاْقبل من الله أفضلَ العطية، واصْبر له على الرزيّة. ولما مات معاويةُ بن أبي سفيان، ويزيدُ غائب، صلَّى عليه الضحّاك بن قيس الفِهْري، ثم قَدِمَ يزيد من يومه ذلك، فلم يَقْدَم أحدٌ على تَعْزيته حتى دخل عليه عبدُ الله بن همّام السلوليّ، فقال:
اصْبرْ يزيدُ فقد فارقتَ ذا مِقَةٍ ... واشكُر حِبَاءَ الذي بالمُلْك حاباكَا
لا رُزْءَ أعظمُ في الأَقْوَام قد عَلِمُوا ... مما رُزِئْتَ ولا عُقْبَى كعُقْبَاكا
أصبحتَ رَاعى أهل الأرض كلِّهمُ ... فأنت تَرعاهُم واللّه يَرْعاكا
وفي مُعاويةَ الباقي لنا خلف ... إذا بقيتَ فلا نَسْمَع بِمَنْعاكا
فافتتح الخُطباء الكلام.
عَزى شَبيبُ بن شَيْبَة المنصورَ على أخيه أبي العبّاس، فقال: جَعل الله ثوابَ ما رُزِئت به لك أَجراً، وأعْقَبك عليه صبرا، وخَتَم لك ذلك بعافية تامّة، ونعْمة عامّة، فثوابُ الله خير لك منه، وما عند الله خير له منك، وأحقُّ ما صُبر عليه ما ليس إلى تَغْييره سبيل. وكتب إبراهيم بن إسحاق إلى بعض الخُلَفاء يُعَزِّيه: إنّ أحَقَّ مَن عَرف حقَ اللهّ فيما أَخَذ منه مَن عَرف نِعْمَته فيما أبقَى عليه. يا أميرَ المؤمنين، إِنّ الماضيَ قبلك هو الباقي لك، والباقيَ بعدك هو المأجور فيك، وإِنّ النِّعمة على الصابرين فيما ابتُلوا به أعظمُ منها عليهم فيما يُعَافَوْنَ منه.
دخل عبدُ الملك بن صالح دار الرّشيد، فقال له الحاجبُ: إن أمير المؤمنين قد أصِيب بابن له ووُلد له آخر. فلما دخل عليه، قال: سرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءَك، ولا ساءَك فيما سرّك، وجَعل هذه بهذه مَثُوبةً على الصبر، وجزاءً على الشكر. ودخل المأمونُ عَلَى أم الفَضْل بن سَهل يُعَزِّيها بابنها الفَضْل بن سهل، فقال: يا أُمّه، إنك لم تَفْقِدِي إلا رؤيته وأنا ولدُك مكانَه؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّ رجلا أفادني ولداً مثلك لَجَدير أن أَجْزع عليه.
لما مات عبدُ الملك بن عمر بن عبد العزيز كتب عمر إلى عُمّاله: إِنَّ عبد الملك كان عبداً من عَبيد اللهّ، أَحْسَنَ الله إليه وإليّ فيه، أعاشه ما شاء وقَبَضَه حين شاء، وكان - ما علمتُ من صالِحِي شباب أَهْل بَيْته قراءةً للقرآن، وتَحَرِّياً للخير، وأعوذ باللّه أن تكون لي مَحَبّة أخالف فيها محبة اللّه، فإن ذلك لا يَحْسُن في إحسانه إليّ، وتتابُع نَعمه عليّ، ولأعلمنّ ما بكت عليه باكية ولا ناحت عليه نائحة، قد نَهينا أهلَه الذين هم أحقُّ بالبكاء عليه. دخل زيادُ بن عثمان بن زياد على سُليمان بن عبد الملك وقد تُوفي ابنه أيُّوب، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنّ عبدَ الرحمن ابن أبي بكر كان يقول: من أَحبّ البقاء - ولا بقاء - فَلْيُوَطِّن نفسه على المصائب.
لما مات مُعاوية دخل عَطاء بن أبي صيْفِيّ على يزِيد، فقال: يا أميرَ المؤمنين، أصبحتَ رُزِئْت خليفةَ اللّه، وأعطيت خلافةَ اللّه، فاحْتسِب على الله أعظم الرزيّة، واشكُره على أحسن العَطية. عزّى محمدُ بن الوليد بن عتبة عُمَر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، أعِدّ لما تَرَى عُدَّةً تكنِ لك جُنّة من الحُزن وسِتْراً من النار. فقال عمر: هلِ رأيتَ حُزْناً يُحْتَجّ به، أو غَفْلة يُنبّه عليها؟ قال: يا أميرَ المؤمنين، لو أن رجلاً ترَك تعْزية رجل لِعِلْمِه وانتباهه لكُنَته، ولكن الله قضى أن الذِّكرى تنفع المؤمنين.

وتُوُفِّيَت أخْتٌ لعمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من دَفْنها دَنا إليه رجل فعزَّاه، فلم يَرُدّ عليه شيئاً، ثم دنا إليه آخرُ فعزَّاه، فلم يرُدَّ عليه شيئاً، فلما رأى الناسُ ذلك أمسكوا عنه ومَشَوْا معه. فلما بلغ البابَ أقبل على الناس بوجهه وقال: أدركتُ الناس وهم لا يُعَزون بامرأة إلا أن تكون أًمًّا، انقلبوا رحمكم اللهّ. وُجد في حائط من حيطان تُبَّع مكتوب:
اصبِرْ لِدَهْرٍ نال من ... ك فهكذا مضت الدهور
فرح وَحُزْنٌ مرةً ... لا الحزن دام ولا السرور
وهذا نظيرُ قول العتَّابي:
وقائلة لمَّا رَأَتْني مسهداً ... كَأَنّ الحَشَا مِنِّي تُلَذِّعُه الجَمُرْ
أباطِنُ داءٍ أم جَوَى بك قاتلٌ ... فقلتُ الذي بي ما يَقوم له صبر
تَفرّق ألافٍ وموتُ أَحِبّة ... وفَقْدُ ذَوى الإفْضَال قالت كذا الدهر
كتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى المُتوكل يُعزيه بابن له:
إنّي أًعزِّيك لا أَنِّي عَلَى ثِقَةٍ ... من الحياة ولكنْ سُنَّةُ الدِّينِ
ليس المُعزى ببعد ميته بباق بعد مَيِّته ... ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حِين
وقال أبو عُيَينة:
فإنْ أَشكُ من لَيلى بجُرْجان طُولَه ... فقد كنت أشكو منه بالبَصرة القِصَرْ
وقائلةٍ ماذا نأى بك عنهمُ ... فقلت لها لا عِلْم لي فَسَلِي القَدَر
وقال بعض الحُكماء لسُليمان بن عبد الملك لما أصِيب بابنه أيّوب: يا أميرَ المؤمنين، إنّ مثلَك لا يُوعَظ إلا بدون عِلْمه، فإن رأَيتَ أن تًقَدِّم ما أخَّرَت العَجَزة من حُسن العَزاء والصَّبر على المُصيبة فتُرضي ربَّك وتُرِيح بدنك، فافعل. وكتب الحسنُ إلى عمر بن عبد العزيزُ يعزِّيه في ابنه عبد الملك ببيت شعر وهو:
وعُوِّضْتُ أَجْراً مِن فَقيد فلا يكُن ... فَقِيدُك لا يَأتي وأَجْرُك يَذْهَبُ
ولما حَضرت الإسكندرَ الوفاةُ كَتب إلى أمِّه: أن اصنَعي طعاماً يحضُره الناسُ، ثم تَقدّمي إليهم أن لا يَأكل منه مَحْزون، ففَعلت. فلم يبْسُط إليه أحدٌ يده، فقالت: ما لكم لا تَأكلون؟ فقالوا: إنك تقَدّمت إلينا أن لا يأكلَ منه مَحْزون، وليس منَّا إلا من قد أصيب بِحَميم أو قرِيب؛ فقالت: مات واللّه ابني وما أَوْصى إِليّ بهذا إلا ليُعَزِّينَى به.
وكان سهل بن هارون يقول في تَعْزِيته: إن التَهْنِئَة بآجل الثَوَاب أوجبُ من التَّعزية على عاجل المُصيبة.

كتاب اليتيمة في النسب
كتاب اليتيمة في النسب وفضائل العرب
قال أحمدُ بنُ محمّد بن عبد ربّه: قد مَضى قولُنا في النّوادب والمَراثي، ونحنُ قائلون بعَوْن الله وتوفيقه في النَّسب الذي هو سبب التعارُف، وسُلّم إلى التَّواصل، به تتعاطف الأرحام الواشجة، وعليه تحافظ الأوَاصر القَريبة. قال اللهّ تبارك وتعالى: " يا أيُّهَا النَّاسُ إنّا خَلقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأنْثَى وَجَعلْنَاكُم شُعُوبَاً وقَبَائِلَ لِتعَارَفُوا " . فمن لم يَعْرف النسب لم يعرف الناسَ، ومَنِ لم يَعْرف الناسَ لم يُعَدّ من الناس. وفي الحديث: تَعلَّموا من النَّسَب ما تَعْرِفون به أحسابَكم وتَصِلون به أرحامَكم. وقال عمرُ بن الخطّاب: تَعلّموا النَّسَب ولا تَكونوا كَنبِيط السَّواد إذا سُئِل أحدُهم عن أَصْله قال: من قَرْية كذا وكذا.
أصل النسب
معاوية بن صالِح عن يحيى عن سَعيد بن المُسيِّب، قال: وَلَد نُوحٍ ثلاثة أولاد: سام وحام ويافِث. فوَلد سام العَرَب وفارس الرُّوم، وَوَلَد حامٌ السّودان والبربر والنبط، وَوَلد يافثُ التركَ والصًقَالبة ويَأجوِج ومَأجوج.
أصل قريش - كانت قُرَيش تُدْعى النضرَ بن كِنَانة، وكانوا مُتَفرِّقين في بَنِي كِنانة، فَجَمَعهم قُصيَّ بن كِلاب بن مُرّة بنِ كعْب بن لؤىّ بن غالب بن فِهْر بن مالك من كلِّ أَوْب إلى البيت، فَسُمُّوا قُرَيشاً. والتّقَرش: التّجَمُّع، وسُمِّي قُصىَّ بن كِلاب مُجَمِّعاً، فقال فيه الشاعر:
قُصيَّ أبوكم كان يُدْعى مُجَمِّعاً ... به جَمَّع الله القبائلَ من فِهْرِ
وقال حبيب:

غَدَوْا في نواحي نَعْشِه وكأنما ... قُرَيشٌ يوم مات مُجَمِّعُ
يُريد بمُجَمِّع قُصيًّ بن كِلاب، وهو الذي بَنى المَشْعَر الحَرَام، وكان يقوم عليه أيام الحج، فسمَّاه اللهّ مَشْعَراً وأمر بالوقوف عنده.وإنما جمع قًصيَّ إلى مكة بني فِهْر بن مالك، فجِذْم قُرَيش كلّها فِهْر بن مالك، فما دُونه قُريش، وما فوقه عَرب، مثل كِنانة وأسد وغيرهما من قبائل مُضر، وأما قبائل قُرَيش، فإنما تَنْتهي إلى فِهر بن مالك لا تُجاوزه. وكان قُريش تُسَمَّى آلَ اللهّ، وجِيران اللّه، وسكّان حرم اللهّ، وفي ذلك يقول عبدُ المطلب ابن هاشم:
نحن آل الله في ذِمَّتِه ... لم نَزَلْ فيها على عَهْدٍ قَدُمْ
إنَّ للبيتِ لَرَبًّا مانِعاً ... مَن يُرِد فيه بإثْمٍ يُخْترَم
لم تَزَلْ للّه فينا حُرْمةٌ ... يَدْفَعُ الله بها عَنَا النِّقَم
وقال الحسنُ بن هانئ في بعض بني شَيْبَة بن عُثمان الذين بأيْدِيهم مِفتاح الكَعْبة:
إذا اشْتَعَبَ الناسُ البيوتَ فأنتُمُ ... أولو الله والبيتِ العَتِيق المُحَرَّم
نسب قريش - أبو المنذر هِشام بن محمد بن السائب الكَلْبي: تَسمِيةُ من انتهى إليه الشرَّف من قُرَيشِ في الجاهلية فَوَصله بالإسلام، عَشرة رَهْط من عشرة أبْطُنٍ وهم: هاشم وأمَيَّةُ ونوْفل وعبد الدار وأسد وتَيْم ومَحْزوم وعَدِيّ وجُمَح وسَهْم. فكان من هاشم: العبَّاس بن عبد المُطلب، يَسْقِي الحَجِيج في الجاهليَّة وبقى له ذلك في الإسلام؛ ومن بني أمية: أبو سُفيان بن حَرْب، كانت عنده العُقاب رايةُ قُرَيش، وإذا كانت عند رَجُل أخرجها إذا حَمِيَت الحرب، فإذا اجتمعت قُريشِ على أحد أعْطَوْه العُقَاب، وإن لم يَجْتمعوا على أحد راَسوا صاحبَها فقَدَّموه؛ ومن بني نوْفَل: الحارثُ بن عامر، وكانت إليه الرِّفادة، وهي ما كانت تُخْرجه من أموالها وتَرْفُد به مُنْقَطِع الحاج؛ ومن بني عبد الدار: عثمان ابن طَلْحة، كان إليه اللِّواء والسِّدانة مع الحِجابة، ويقال: والنَّدْوة أيضاً في بَني عبد الدَّار؛ ومن بَني أَسَد: يزيدُ بن زَمْعة بن الأسود، وكان إليه المَشُورة، وذلك أن رُؤَساء قُريش كانوا لا يجتمعون على أمر حتى يَعْرِضُوه عليه، فإن وافَقه والاهم عليه وإلا تَخَيَّر، وكانوا له أعواناً، واستُشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطَّائف، ومن بني تَيْم: أبو بكر الصِّديق، وكانت إليه في الجاهليّة الأشْناق، وهي الدِّيات والمَغْرَم، فكان إذا احتمل شيئاً فسأل فيه قُريشاً صدَقوه وأمْضوا حمالة مَنْ نَهض معه، وإن احتملها غيرُه خَذَلوه؛ ومن بني مَخْزوم: خالدُ ابن الوليد، كانت إليه القُبَّة والأعِنَّة، فأما القُبة فإنهم كانوا يضرْبونها ثم يجمعون إليها ما يُجَهِّزون به الجَيش، وأما الأعِنَّة فإنه كان على خَيْل قُرَيش في الحَرْب؛ ومن بَني عَدِيّ: عمر بن الخطاب، وكانت إليه السِّفارة في الجاهليَّة، وذلك أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حَرْب بعَثوه سفيراً، وإن نافرهم حي لمُفاخرة جَعَلوه مُنَافِراً ورَضُوا به؛ ومن بني جمح: صَفْوان بن أمية، وكانت إليه الأيسار، وهي الأزْلام، فكان لا يُسْبَق بأمْر عام حتى يكون هو الذي تَسْييره على يَدَيْه؛ ومن بني سَهْم: الحارث بن قَيس، وكانت إليه الحكومة والأموال المُحَجَّرة التي سمَوها لآلهتهم.

فهذه مكارم قُريش التي كانت في الجاهليَّة، وهي السِّقاية والعِمارة والعُقاب والرِّفادة والسِّدانة والحِجابة والنَّدوة واللِّواء والمَشُورة والأشناق والقُبَّة والأعِنَة والسِّفارة والأيسار والحكومة والأموال المحجَّرة إلى هؤلاء العَشَرة من هذه البُطون العَشرة على حال ما كانت في أولِيتهم يتوارثوِن ذلك كابراً عن كابر، وجاء الإسلامُ فوَصَل ذلك لهم، وكذلك كلُّ شرف من شرف الجاهليَّة أدْركَه الإسلام وَصله، فكانت سِقاية الحاجّ وعِمارة المَسْجِد الحَرَام وحلْوان النَّفْر في بَني هاشم. فأما السِّقاية فمَعْروفة، وأما العِمارة فهو أن لا يتكلم أحد في المَسْجد الحَرَام بهُجْر ولا رَفَث ولا يرفعٍ فيه صوتَه، كان العبَّاس ينْهاهم عن ذلك. وأما حُلْوان النَّفْر، فإن العَرب لم تَكُن تملك عليها في الجاهليَّة أحداً، فإن كان حَرب أَقْرعوا بين أهل الرِّياسة، فمَنْ خَرَجت عليه القُرْعة أَحْضروه صَغيراً كان أو كبيراً، فلما كان يوم الفِجار أقرَعوا بين بني هاشم فخَرَج سَهْم العبّاس وهو صَغير فأجلسوه على المِجَن.
أبو الطاهر أحمدُ بن كَثير بن عبد الوهّاب قال: حدَّثني أبو ذَكْوان عن أحمد بن يَزِيد الأنطاكيّ أنّه سَمع المأمون يقول لأبي الطّاهر الذي كان على البَحْرين: من أيّ قُرَيش أنت؟ قال: من بَني سامَة بن لُؤَيّ؛ فقال المأمون: ما سَمِعنا بسامةَ بن لُؤَي نَسَباً في بُطوننا العَشرة، لو عَلِمنا به على بعْدِه لكُنَّا به بَررَة.

فضل بني هاشم وبني أمية
قيل لعليّ بن أبي طالب: أَخبرْنا عنكم وعن بني أمية؛ فقال: بنو أمية أَنْكَر وأمْكَر وأَفْجَر، ونحنُ أصْبَح وأنصح وأَسْمح. وسأل رجلٌ الشَّعْبي عن بني هاشم وبني أمية؛ فقال: إن شِئْت أخبَرْتُك ما قال عليّ بن أبى طالب فيهم، قال: أما بنو هاشم فأطْعَمها للطَّعام، وأضْرَبُها للهَام، وأما بنو أمية فأسدّها حِجْراً، وأَطْلبها للأمر الذي لا يُنال فَيَنالونه. قيل لمُعاوية: أخْبرْنا عنكم وعن بني هاشم، قال: بنو هاشم أشْرَف واحداً ونحن أشرف عدداً، فما كان إلا كَلا وَبَلى حتى جاءوا بواحدةٍ بَذَّت الأوَّلين والآخرين، يريد النبي صلى الله عليه وسلم. وبقوله " أشْرَف واحداً " : عبدَ المطلب بن هاشم.
الرِّياشي عن الأصمعي قال: تَصَدّى رجلٌ من بني أمية لهارون الرّشيد فأنشده:
يا أمينَ الله إني قائلٌ ... قَول ذِي فَهْم وعِلْمٍ وأَدَبْ
عَبْدُ شَمْس كان يَتْلُو هاشماً ... وهُما بعدُ لأُمٍّ ولأبْ
فاحْفظِ الأرحام فينا إنما ... عبدُ شَمْسٍ جَدُّ عَبْد المُطَّلِب
لكُم الفَضْلِ علينا ولنا ... بكُمُ الفَضْلُ علَى كلِّ العَرَبْ
فأَحسن جائزنه وَوَصلَه. سُفْيان الثَّوْريّ يرفَعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله خَلق الخَلْقَ فجَعَلنِي في خَيْر خَلْقه، وجَعلهم أفْراقاً فَجَعلني في خيْر فِرْقة، وجَعلهم قبائل فَجَعلني في خيْر قَبِيلة، وجَعَلهمِ بيُوتاً فَجَعلني في خَيْر بَيْت، فأَنَا خَيْرُكم بَيتاً وخَيْرُكم نَسَباً. وقال صلى الله عليه وسلم: كلُّ سَبب ونسَب مُنْقَطع يومَ القيامة إلا سَبَبي ونسبي.
جماعة بني هاشم بن عبد مناف وجماعة قريش عبدُ المُطّلب بن هاشم ولدُه عَشرْ بَنين، وهم: عبد الله أبو محمّد صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب، والزُّبير، أُمهم فاطمة بنت عمر المَخْزومية، والعبّاس وضِرَار، أمهما نُتَيلة النَّمريّة، وحَمزَة والمُقَوَّم، أمّهما هالةُ بنت وَهْب، وأبو لَهَب، أُمّه لُبْنى، خُزَاعيَّة، والحارث، أمه صَفِيّة، من بني عامر بن صَعْصعة، والغَيْداق، أمه خُزَاعية.
جماعة بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف - وهو أمية الأكبر: حَرْب بن أمية، وأبو حَرْب، وسُفْيان، وأبو سُفيان، وعَمْرو، وأبو عَمْرو وهؤلاء يقال لهم العَنابس والعاصي وأبو العاصي، والعِيص، وأبو العيص، وهؤلاء يقال لهم الأعْياص، ومِنهم مُعاوية بن أبي سُفيان وعثمان بن عَفَّان بن أبي العاص بن أمية، وسعيد بن العاص بن أميَّة، ومَروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.

جماعة بني نوفلِ - الحارث بن عامر صاحب الرِّفادة، ومُطعم بنِ نَوْفل، ومنهم عَدِيّ بن الخِيَار بن نوْفل، ومنهم نافع بن ظُريب بن عمرو بن نوْفل وهو كاتب المصاحف لعمر بن الخطّاب، ومُسلم بن قَرَظَة، قُتِلَ يوم الجَمَل.
جماعة بني عبد الدار - عثمان بن طَلْحَة صاحب الحِجابة، وشَيْبة بن أبي طَلْحَة، والحارث بن عَلْقمَة بن كَلَدَة، كان رَهِينة قريش عند أبي يَكْسوم والنَّضْر بن الحارث بن عَلْقمة بن كَلَدة بن عبد مَناف بن عبد الدار. قَتَله النبي صلى الله عليه وسلم صَبْراً، أمر عليّ بن أبي طالب فَقَتله يوم الأثَيل.
جماعة بني أسد بن عبد العزى - منهم: الزُّبير بن العَوَّام بن خوَيْلد بن أسَد، وأمّه صَفية بنت عبدُ المطلب، ويزيد بن زَمْعَة بن الأسود، صاحب المَشُورة، وأبو البَخْتري، واسمه العاصي بن هِشام بن الحارث بن أسَد، وَوَرقَة ابن نوفل بن أسد وهو الذي أدرك الإيمان بعقله وبَشر خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
جماهير بني تيم بن مرة - منهم: أبو بكر الصِّديق، وطَلْحَة بن عُبيد اللهّ، وعمر بن عبيد اللهّ بن مَعْمر، وعبد الله بن جُدْعان، وعليّ بن يَزيد ابن عبد الله بن أبي مُلَيكة، والمُهاجر بن قنْفُذ بن عُمير بن جُدْعان، ومحمد بن المنكدر بن عبد اللهّ بن الهَدير.
جماهير مخزوم بن مرة - منهم: المغيرة بن عبد اللهّ بن عُمَر بن مخزوم، وخالدُ بن الوليد بن المُغيرة، وعبد الرَّحمن بن الحارث، وعَمرو بن حُرَيث، وأبو جَهْل بن هِشام بن المُغيرة، وعياش بن أبي رَبيعة الشاعر، وعبدُ اللهّ بن المهاجر، وعُمارة بن الوليد بن المُغيرة، وإسماعيلِ بن هِشام بن المُغيرة، ولي ابنه هشامُ ابن إسماعيل بن هشام بن المغيرة المدينة وضرَب سَعيد بن المُسَيِّب بن أبي وَهْب الفَقيه.
جماهير عدي بن كعب - منهم: عمر بن الخطَّاب، وسعيدُ بن زَيْد ابن عَمْرُو بن نُفَيْل، وهو من أصحاب حِرَاء، وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن زَيْد بن الخطّاب، وَلي الكوفة لِعمر بن عبد العزيز، وسُرَاقة بن المُعْتمر، والنحام بن عبد الله بن أسِيد، والنُّعمان بن عَدِيّ بن نَضْلة. استعمله عُمَر على مَيْسان، وعبد اللهّ بن مُطيع، وأبو جَهْم بن حُذَيفة، وخارجةُ بن حُذافة، وكان قاضياً لِعَمرو بن العاصي بمصر فقَتَله الخارجي وهو يظُنّه عمرو بن العاصي، وقال فيه: أردتُ عَمْراً وأراد اللّه خارجة.
جماهير جمح - منهم: صَفْوان بن أًمية، من المُؤَلَّفة قلوبهُم، وأمية بن خَلَف، قُتِل يومَ بَدْر، وأبيّ بن خلَف، ومحمد بن حاطب، وجَميل بن مَعْمر بن حُذافة، وأبو عَزَّة، وهو عَمرو بن عبد الله، وأبو مَحْذُورة، مؤَذّن النبي صلى الله عليه وسلم.
جماهير بني سهم - منهم: الحارث بن قَيْس، صاحبُ حكومة قرَيش، وعَمرو بن العاصي، وقَيْس بن عَدِيّ وخُنَيْس بن حُذَافة، ومُنَبِّه ونُبَيه ابنا الحَجّاج، ومنهم العاصي بن مُنَبِّه، قُتِل مع أبيه، قَتله عليّ يوم بَدْر، وأخذ سَيفَه ذا الفقَار فصار إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
جماهير عامر بن لؤى - ومنهم: سُهيل بن عَمْرو، من المُؤلَّفة قلوبهُم، ومنهم ابن أبي ذِئْب الفَقِيه، واسمُه محمد بن عبد الرَّحمن، وحُوَيطب بن عبد العُزَّى، من المُؤلفة قلوبهُم، وعبدُ اللهّ بن مَخْرَمة، بَدْرِي، ونَوْفل بن مُسَاحق، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرة الفَقيه. وعبد الله بن أبي سَرْح، بدريّ. ومنهم: ابن أمِّ مَكتوم، مُؤذِّن النبي عليه الصلاة والسلام.
جماهير بني محارب بن فهد بن مالك - منهم: الضحّاك بن قَيْس الفِهْري، وحَبيب بن مَسْلمة.
جماهير بني الحارث بن فهد بن مالك - منهم: أبو عُبيدة بن الجَرَّاح، أمن هذ الأمة. وسُهيل وصفْوان ابنا وَهْب، وعِياض بنُ غَنْم بن زُهَير، وأبو جَهْم بن خالد. وبنو الحارث هؤلاء من المُطَيَّبن الذي تحالفوا وغَمَسوا أيديَهم في جَفْنة فيها طيب.
قريش الظواهر وغيرها من بطون قريش - بنو الحارث وبنو مُحارب ابنا فِهْر بن مالك، وهم قُرَيش الظواهر، لأنهم نزلوا حول مكة وما والاها. فمن بنى الحارث بن فِهْر: أبو عُبيدة بن الجَرَّاح، واسمه عامر بن عبد الله بن الجَرّاح، من المُهاجرين الأوّلين. ومن بني مًحَارب بن فِهْر: الضَّحَّاك بن قَيْس الفِهْريّ، صاحِب مَرْج راهِط.

وما سوى هؤلاء من بُطون قُرَيش يقال لهم قُرَيش البِطَاح، لأنهم سَكَنُوا بَطْحَاء مكة، وهم البُطون العشرًة التي ذَكَرناها قبل هذا الباب.
ومن بطون قريش: بنو زُهْرة بن كِلاب بن كَعْب بن لُؤَيّ. منهم: عبد الرَّحمن بن عوف، خال النبي عليه الصلاة والسلام؛ ومنهمِ بنو حَبيب ابن عبد شَمْس. ومنهم عبدُ الله بن عامر بن كُرَيز بن حَبِيب بن عبد شمْس، صاحِب العِرَاق، ومنهم بنو أمية الاصغر بنِ عبد شمْس بن عبد مَناف، وأمه عَبْلة، فيقال لهم العَبَلات. وبنو عبد العُزَّى بن عَبْد شَمْس، منهم أبو العاصي بن الرَّبيع، صهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، تَزَوَّج ابنته التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ولكنَّ أبا العاصي لم يَذْمُم صِهْره. ومنهم: بنو المُطّلب بن عبد مَناف، ومنهم محمد بن إدريس الشافعيّ. ومن بني نَوْفل بن عبد مناف: المُطعِم بن عَدِيّ. ولعبد شَمْس بن عبد مَناف ونَوْفَل بن عبد مناف يقول أبو طالب:
فيا أَخَوَيْنَا عبد شَمْسٍ ونَوْفَلا ... أًعِيذُ كما أن تَبْعثا بيننا حَرْبَا
وَوَلَد أُميةُ الأكبْر العاصيَ وأبا العاصي والعيص وأبا العيص، فهؤلاء يقال لهم الأعياص، وحرباً وأبا حَرْب. وهذه البُطون التي ذَكرْناها كلّها من قرَيش ليست من البطون العَشَرَة التي ذكَرْناها أولا وذَكَرْنا جماهيرها.

فضل قريش
قال النبي عليه الصلاة والسلام: الأئمة من قُريش. وقال: وقَدِّموا قُريشاً ولا تَقْدًموها. ولما قتل النضر بن الحارث بن كَلَدة بن عَبْد مناف، قال: لا يُقْتَل قُرَشيٌّ صَبْرًا بعد اليوم. يُرِيد أنه لا يُكَفّرُ قرَشي فَيُقْتَل صبْراً بعد هذا اليوم. الأصمعيّ قال: قال مُعاوية: أي الناس أفْصَح؟ فقال رجل من السِّماط: يا أمير المؤمِنين، قوم ارتفعوا عن رُتَة العِرَاق، وتياسرُوا عن كَشكَشَة بَكْرِ، وتيامنوا عن شَنشَنة تغلب، ليست فيهم غَمْغَمَة قُضَاعَة، ولا طمطمانِيّة حِمْير؟ قال: مَنْ هُم؟ قال: قَوْمُك يا أمير المُؤمنين؟ قال: صدَقْتَ؛ قال: فمِمّن أنت؟ قال: من جَرْم. قال الأصمعيّ: وجَرْم فُصْحى العَرَب.
قدم محمد بن عُمَير بن عُطارد في نَيِّف وسَبعين راكباً فاستزارهم عَمْرو بن عُتْبَة.
قال: فسمعتُه يقول: يا أبا سُفْيَان، ما بالُ العَرب تُطِيل كلامَها وأنتُمْ تَقْصرُونه مَعاشرَ قُريش؟ فقال عمرٍ و بن عُتْبة: بالجَنْدَل يُرْمى الجَنْدَل، إن كلامَنَا كلام يَقِلّ لَفْظُهُ وَيَكثر مَعْناه، ويُكتَفي بأولاه ويُسْتَشْفي بأخْراه، يَتَحَحِّر تَحَدُر الزُلال على الكَبِد الحَرَّى، ولقد نَقَصُوا وأطال غيرُهم فما أخلُوا، ولله أقوامٌ أدرَكْتُهم كأنّما خُلِقوا لتَحْسين ما قَبحت الدنيا، سهُلَت ألفاظُهم كما سهُلت عليهم أنفاسُهم، فآبتذلوا أموالَهم وصانوا أعراضَهم، حتى ما يجد الطاعنُ فيهم مَطعنا، ولا المادحُ مَزِيدا، ولقد كان آل أبي سُفْيان معِ قلّتهم كثيراً منه نِصِيبُهم، وللّه درُّ مَوْلاهم حيث يقول:
وَضعَ الدهرُفيهمُ شَفْرتيه ... فَمَضى سالماً وأمْسَوْا شًعُوِبَا
شَفْرتَان واللّه أفْنَتا أبدانَهم، وأبقتا أخبارَهم، فَتَركتَاهم حديثاً حسناً في الدنيا ثوابُه في الآخرة احسنُ، وحديثاً سيّئاً في الدُّنيا عقابُه في الآخرة أسوأ، فيَا مَوعوظاً بمَنْ قَبْلَه، مَوْعُوظاً به من بعده، ارْبَحْ نَفْسَك إذا خَسرَها غيرُك. قال: فظننتُ أنه أَرَاد أن يُعْلمه أنّ قُريشاً إذا شاءت أن تتكلّم تكلّمَت.
العُتبيّ قال: شَهِدْتُ مجلس عمرو بن عُتْبَة وفيه ناسٌ من القُرَشييّن، فتشاحُّوا في مَواريث وتجاحدوا، فلما قاموا من عنده أقبل علينا فقال: إن لِقُرَيش دَرَجاً تَزْلَقُ عنها أقدامُ الرجال، وأفعالاً تَخْضَع لها رقاب الأقوال، وغاياتٍ تَقْصرٌ عنها الجِيَاد المَنْسوبة، وألسنةً تَكِلُّ عنها الشَفار المَشْحُوذة، ولو آحتفلت الدنيا ما تَزَيَّنَت إلا بهم، ولو كانت لهم ضاقت عن سَعة أحلامهم. ثم إنّ قوماً منهم تَخَلَّقُوا بأخلاق العَوَام، فصار لهم رٍفق باللْؤم، وخُرْق في الحِرْص، ولو أمكنهم لقاسَمُوا الطيرَ أرزاقها، وإن خافُوا مَكْرُوهاَ تَعًجّلوا له الفَقْر، وإن عجلت لهم النِّعم أخروا عليها الشُّكر، أولئك " أنْضَاء " فكرة الفَقْر، وعَجَزَة حَمَلَة الشُّكر.

قال أبو العَيْناء الهاشميّ: جَرى بين محمد بن الفَضل وبين قَوْم من أهل الأهْوَاز كلام، فلما أَصبح رَجع عنه. قالوا له: ألم تَقُل أمس كذا وكذا؟ قال: تَخْتلف الاقوالُ إذا اختلفت الأحوال. ودخَل محمد بن الفَضْل على وَالي الأهْوَاز فَسَمِعَه يقول: إذا كان الحقُّ استوى عندي الهاشِمِيُّ والنَّبَطِيِّ. فقال محمد بن الفضل: لئن استوت حالتاهما عندك، فما ذلك بزائد النّبطيَّ زينةَ ليست له، ولا ناقص الهاشميَّ قَدْراً هو له، وإنما يَلْحَقُ النقصُ المُسَوِّيَ بينهما.
العُتبي قال: قال عمرو بن عُتبة: اْختصم قوْمٌ من قُرَيش عند مُعاوية فمنعوا الحقَّ. فقال مُعاوية: يا معشرَ قُرَيش، ما بال القَوْم لِأمّ يَصلون بينهم ما انقطع،، وأنتم لعَلاَّت تَقْطعون بينكم ما وَصَلَ اللّه، وتُباعدون ما قرب، بلِ كيف تَرْجُون لغيركم وقد عَجَزتم عن أنفسكم! تقولون: كَفانا الشَّرَفَ من قَبْلنا، فعِنْدَها لَزِمَتْكم الحُجة، فآكفوه مَن بعدكم كما كفاكم مَن قبلكم. أَوَ تعلمون أنكم كنتم رِقاعاً في جُنوب العَرَب، وقد أُخْرجتم من حَرَم ربكم، ومُنِعتبِم ميراث أبيكم وبَلَدِكم، فأخَذَ لَكم اللّه، ما أُخِذَ مِنكمِ، وسمّاكم باجتماعكم اسماً به أبانَكم من جميع العرَب، وردَّ به كيد العَجَم، فقال جل ثناؤُه: " لإيلاَفِ قُرَيش إيلاَفهِمْ " فآرْغَبُوا في الائتلاف أَكْرَمَكم اللهّ به، فقد حَذرَتْكم الفُرْقَةُ نَفْسَهَا، وكفي بالتَّجْربة وَاعِظاً.

مكان العرب من قريش
يحيى بن عبد العزيز عن أبي الحجَّاج رِياح بن ثابت عن أبكر بن، خُنَيس عن أبي الأحوص عن أبي الحَصِن عن عبد الله بن مَسْعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُرَيش الجُؤْجُؤ والعرب الجناحان، والجؤجؤ لا يَنْهض إلا بالجنَاحَنْ. قال عمرو بن عُتبة: ما آستدَرّ لعمّي كلامٌ قطّ فَقَطَعه حتى يَذكر العرَب بفضل أو يُوصى فيهم بخير. ولقد أنْشَده مروَان ذات يوم بيتاً للنابغة حيث يقول:
فهم درْعي التي آسْتلأمْتُ فيها ... إلى يوم النِّسَار وهُمْ مِجنى
فقال معاوبة: أَلا إن دُرُوع هذا الحيّ من قُرَيش إخوانُهم من العرَب، المُتَشَابِكة أرْحَامُهم تَشَابُك حَلَقِ الدِّرْع، التي إن ذَهَبت حَلْقة منه فرقت بين أربع، ولا تَزَال السيوفُ تَكْره مَذاق لُحُوم قُرَيش ما بَقِيَت دُرُوعها معها، وشَدَّتْ نُطُقَها عليها، ولم تَفُكَّ حَلَقها منها، فإذا خَلَعتْها من رِقابها كانت للسُيُوف جَزَرًا.
العُتبي عن أبيه عن عَمْرو بن عُتْبة، قال: عَقُمت النِّساءُ أن يَلِدْن مثلَ عَمِّي، شَهدْتُه يوماً وقد قَدِمَتْ عليه وفودُ العَرب، فقضى حوائجَهُم، وأحسن جوائزَهم، فلما دخلوا عليه ليَشْكروه سَبَقَهم إلى الشُّكْر، فقال لهم: جَزاكم الله يا مَعْشرَ العرَب عن قُرَيش أفضل الجَزاء بتَقَدُّمِكم إياهم في الحَرْب، وتَقْدِيمكم لهم في السَّلْم، وحَقْنِكم دِماءَهم بِسَفْكِهَا منكم، أمَا واللهّ لا يُؤثِركم على غيركم منهم إِلا حازمٌ كريم، ولا يرْغَب عنكم منهم إلا عاجزٌ لئيم، شجرة قامت على ساقٍ فتفرَّعِ أعلاها وآجتمع أصلُها، عضَّدَ اللهّ من عَضَّدَها. فيالها كلمةً لو آجتمعت، وأيدياَ لو آئتلفت، ولكن كيف بإصلاح ما يُرِيد الله إفسادَه.
فضل العرب
يحيى بن عبد العزيز، قال حدَّثنا أبو الحجّاج رِياح - بن ثابت، قال حدَّثنا بكرُ بن خُنَيس عن أبي الأحْوص عن أبي الحَصِين عن عبد الله بن مَسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سألتم الحوائج فاسألوا العرَب، فإنها تُعْطى لِثَلاَث خِصال: كَرَم أحسَابها، واستحياء بَعْضها من بعض، والمُواساة للّه. ثم قال: من أَبْغَض العرَب أبغضه اللهّ.

ابن الكَلْبي قال: كانت في العرب خاصةً عَشْرُ خِصَال لم تكن في أُمَّةٍ من الأمم، خمْسٌ منها في الرأس، وخمس في الجَسَد. فأما التي في الرأس: فالفَرْق والسِّوَاك والمضْمَضة والاستِنْثار وقَصُّ الشارب. وأما التي في الجَسد: فتَقليم الأظفار ونَتْفُ الإبط وحَلْق العانَة والخِتَان والاسْتِنْجاء. وكانت في العرب خاصةً القِيَافة، لم يَكُن في جميع الأمم أحدٌ ينْظُر إلى رجُلَين أحدُهما قَصِير والآخر طويل، أو أحدهما أسْود والآخر أبيَض، فيقول: هذا القَصِير ابن هذا الطويل، وهذا الأسود ابن هذا الأبيض، إلا في العَرب.
أبو العَيْناء الهاشميّ عن القَحْذَميّ عن شَبِيب بن شَيبة قال: كنّا وُقوفاً بالمِرْبد - وكان المِرْبد مَأْلف الأشرَاف - إذْ أَقْبلِ ابن المًقَفَّع فَبشَشْنا به وبَدَأناه بالسلام، فرَدَّ علينا السلامَ، ثم قال: لو مِلتم إلى دار نيْرُوز وظلها الظَّليل، وسُورها المديد، ونَسِيمها العَجيب، فَعَوَّدْتم أبدانَكم تَمْهِيد الأرْض، وأَرَحتُم دَوابَّكم من جَهْد الثِّقل، فإنّ الذي تَطْلًبونه لن تُفَاتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تَنالوه. فَقَبِلْنا ومِلنا، فلما اسْتَقرّ بنا المكانُ، قال لنا: أيّ الأمم أَعْقَل؟ فنظرَ بعضُنا إلى بَعْض، فقُلْنا: لعلَّه أَرَاد أصلَه من فارسِ، قُلنا: فارس، فقال ليسوا بذلك، إنهم مَلكوا كثيراً من الأرض، ووجَدُوا عظيماَ من المُلْك، وغَلَبُوا على كَثِير من الخَلق، ولَبِثَ فيهم عَقْد الأمر، فما استَنْبَطوا شيئاً بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حِكَم بنفُوسهم، قلنا: فالروم؛ قال: أصحابُ صَنعة، قلنا: فالصِّين؛ قال: أصحابُ طُرْفة؛ قلنا: الهند؛ قال: أصحابُ فَلسفة؛ قُلنا: السُّودان، قال: شرُّ خَلْق اللّه؛ قُلنا: التُّرْك؛ قال: كلاب ضالّة، قُلنا: الخزَرُ، قال: بقر سائمة؛ قلنا: فقُل؛ قال: العرَب. قال فَضَحِكنا. قال: أما إنِّي ما أردت مُوافَقَتكم، ولكنْ إذا فاتَنى حظِّي من النِّسْبة فلا يَفُوتني حظِّي منِ المَعْرفة. إنّ العرَب حَكمت على غير مِثال مُثَل لها، ولا آثارٍ أثِرَت، أصحاب إِبل وغنَم، وسًكان شَعَر وأَدَم، يَجودُ أحدُهم بقُوته، ويتَفضَّل بمَجْهوده، ويُشَارِك في مَيْسوره ومَعْسوره، ويَصِف الشيء بعَقْله فيكون قُدْوَة، ويَفْعَله فَيَصِيرحُجّة، ويُحَسِّن ما شاءَ فَيَحْسُن، ويُقَبِّح ما شاء فَيَقْبُح، أَدَّبَتْهُمْ أنْفُسُهم، ورَفعتهم هِممهم، وأعْلتهم قُلوبُهم وأَلْسِنتهم، فلم يزل حِبَاء اللهّ فيهم وحِبَاؤهم في أنْفُسُهم حتى رَفع " الله " لهم الفَخرِ، وبلغ بهم أشرف الذكر، خَتم لهم بمُلكهم الدُنيا على الدَّهر، وافتتحِ دينَه وخلافته بهم إلى الحَشرْ، على الخَيْر فيهم ولهم. فقال " تعالى " : " إنَّ الأرْض لله يُورِثًهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَاده والعَاقبَةُ للمُتَّقِين " . فمن وَضَع حَقَّهم خَسِر، ومَنْ أنْكَر فضلَهم خصِم، ودَفع الحقِّ باللَسَان أَكْبَتُ للجَنان.
ذَكر الأصمعي عن ذي الرُّمة، قال: رأيتُ عبْداً أسودَ لبني أسد قَدِم علينا من شِق اليمامة، وكان وَحْشِيًّا لطُول تَعزُّبِه في الإبل، وربما كان لَقِي الأكَرة فلا يَفْهمٍ عنهم ولا يَسْتَطيع إفهامَهم، فلما رآني سَكن إليَّ، ثم قال لي: يا غَيْلان، لعن الله بلاداً ليس فيها قَريب، وقاتل الله الشاعرَ حيثُ يقول: حُرُّ الثرى مُسْتَغْرَب التُراب وما رأيتُ هذِه العرَب في جميع الناس إلا مِقْدار القَرْحة في جِلْد الفَرَس، ولولا أنَ الله رَقَّ عليهم فَجعَلهم في حَشاه؛ لطمَست هذه العجْمان آثارَهم. والله ما أمر الله نَبِيًه بقَتْلِهم إلا لضنّه بهم، ولا ترَك قَبُول الجزْية " منهم " لا لِتَرْكِها لهم. الأكَرَة: جمع أكار، وهم الحُرَّاث. وقوله: جعلهم في حَشَاه، أي آستَبْطَنهم، يقول الرجل للعربيّ إذا آستَبْطنه: خَبَأْتُك في حَشَاي. وقال الراجز:
وصاحبٍ كالدُمَّل المُمِدِّ ... جَعَلْتُه في رُقْعَةٍ من جِلْدي
وقال آخر:
لقد كنتَ في قَوْم عليك أشِحَّةً ... بحبِّك إلا أن ما طاحَ طائحُ
يَوَدونَ لو خاطُوا عليك جُلودهم ... ولا يدفع الموتَ النفوسُ الشَّحَائح

علماء النسب

كان أبو بكر رضي الله عنه نَسَّابة، وكان سَعيد بن المُسيِّب نَسابة، وقال رجل: أريد أن تعلِّمني النسبَ؛ قال: إنما تُريد أن تُسَابَّ الناس. عِكْرمة عن ابن عبّاس عن عليّ بن أبي طالب، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَعْرض نفسَه على القبائل خَرج مرًة وأنا معه وأبو بكر، حتى رُفِعنا إلى مجلس من مجالسِ العرب، فتقدَّم أبو بكر فسلّم - قال عليّ: وكان أبو بكر مُقَدَّماً في كل خبر وكان رجلاَ نسَّابة - فقال: ممَّن القوم؟ قالوا: من رَبيعة، قال: وأيّ ربيعة أنتم؟ أمن هامَتها؟ قالوا: من هامتها العُظمى؛ قال: وأي هامَتها العُظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر؛ قال أبو بكر: فمِنْكم عَوْف بن محلِّم الذي يقال فيه: لا حُرَّ بوادِي عَوْف؟ قالوا: لا؛ قال: فمنكم جَسّاس بن مرة الحامي الذِّمار والمانعُ الجار؟ قالوا: لا؛ قال: فمنكم أخوالُ المُلوك من كِنْدة؛ قالوا: لا؛ قال: فمنِكم أصْهار المُلوك من لَخْم؟ قالوا: لا؛ قال أبو بكر فلستم ذُهلاً الأكبر، أنتم ذهل الأصْغر. فقام إليه غلام من شَيْبان حين بَقَل وَجْهه، يُقال له دَغفل، فقال:
إِنّ على سائلنا أن نَسْالَه ... والعِبْ! لا تَعْرِفه أو تَحْمِلَه
يا هذا، إنّك قد سألتَنا فأخْبرناك ولم نكْتُمْكَ شيئاً، فممَّن الرجل؟ قال أبو بكر: من قُريش؟ قال: بَخٍ بَخٍ أهل الشَرف والرياسة؛ فمن أيّ قُريش أنت؟ قال: من ولدَ تَيْم بنِ مُرَّة؛ قال: أمكنتَ واللّه الرامي من سَوَاء الثُّغرة، أفمنكم قُصىَّ ابن كلاب الذي جمع القبائل فسمي مجمعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف قال: لا؛ أفمنكم شَيْبة الحَمْدِ وعبدُ المطلب مُطعم طَيْر السماء الذي وَجْهه كالقَمر في الليلة الظَّلماء؟ قال: لا؛ قال: فمن أهل الإفاضة بالنَّاس أنت؟ قال: لا؛ قال: فمن أهل السقاية أنت؛ قال: لا.فاجتذب أبو بكر زِمام الناقة ورَجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الغلام:
صادف دَرُّ السيل دراً يدفعه ... يَهيضُه حيناً وحِيناً يَصْدَعه
قال: فتبسَّم النبي عليه الصلاة والسلام. قال عليّ: فقلتُ له: وقعتَ يا أبا بكر من الأعرابيّ على بائقة؛ قال: أجل، ما من طامَّة إلا وفوقها أخرى، والبلاء مُوَكَّل بالمَنْطق، والحديث ذو شجون.
قال ابن الأعرابي: بَلغني أنَّ جماعةً من الأنصار وَقفوا على دَغْفَل النسابة بعدما كَفً، فسلموا عليه، فقال: مَن القوم؟ قالوا: سادةُ اليَمن، فقال: أمن أهل مَجْدها القديم وشَرفها العَمِيم كِندة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم الطِّوال " أقَصَباً " المُمَحصَّون نَسباً بنو عبدالمَدَان؟ قالوا: لا؛ قال: فأنتم أقودُها للزُّحوف وأخْرقُها للصفوف، وأضرَبُها بالسُّيوف رهطُ عمرو بن مَعْد يكرب؟ قالوا: لا قال: فأنتم أحضرها قَراء وأطيبُها فِنَاء، وأشدُّها لِقاءً " رَهْط " حاتم ابن عبد الله؟ قالوا: لا؛ قال: فأنتم الغارسون للنّخْل، والمُطْعِمُون في اْلمَحْل، والقائلون بالعَدْل الأنصار؟ قالوا: نعم.

مَسلَمة بن شَبِيب عن المِنقريّ قال: ذَكروا أنّ يزيدَ بن شَيبان بن عَلْقمة ابن زُرارة بن عُدَسِ قال: خرجتُ حاجاً حتى إذا كنتُ بالمحصَّب من مِنًى إذا رجل على راحلة معه عَشرة من الشباب مع كل رجل منهم مِحْجَن، يُنَحُّون الناس عنه وُيوسعون له، فلما رأيتُه دنوتُ منه، فقلت: ممّن الرجلُ؟ قال: رجلٌ من مَهْرَة ممن يَسْكن الشَحْر. قال: فكرهتُه ووَلَّيتُ عنه، فناداني من ورائي: مالَك؟ فقلتُ: لستَ من قومي ولستَ تعرفني ولا أعرفك؛ قال: إن كنتَ من كِرام العرب فسأعرفك، قال: فكَرِرْتُ عليه راحلتي فقلت: إني من كِرام العرب، قال: فممن أنت؟ قلت: مِنِ مضر؟ قال: فمن الفُرْسان أنتَ لم من الأرْحاء؟ فعلمتُ أن أراد بالفُرْسان قَيْساَ وبالأرحاء خِنْدفاً، فقلت: بل من الأرحاء؛ قال: أنت آمرءٌ من خِنْدف؟ قلت: نعم؛ قال: من الأرنبة " أنت " أم من الجُمْجمة، فعلمتُ أنه أراد بالأرنبة مُدْركة وبالجُمْجمة بَني أدّ بن طابِخة، قلتُ: بل من الجُمجمة؛ قال: فأنت آمرؤ من بني أد بن طابخة؟ قلت: أجل؛ قال: فمن الدَّوَاني أنت أم من الصَّمِيم؟ قال: فعلِمتُ أنه أراد بالدَواني الرَّباب وبالصَّميم بَني تميم؛ قلتُ: من الصَّميم؟ فأنت إِذاً من بني تَمِيم؟ قلت: أجل؛ قال: فمن الأكثريَنَ أنت أم الأقلّيِن أو من إخوانهم الآخرين؟ فعلمتُ أنه أراد بالأكثرين وَلَد زَيْد " مَناة " ، وبالأقلِّين ولد الحارث، وبإخوانهم الآخرِين بَني عمرو بن تَمِيم، قلتُ: من الأَكْثرين؛ قال: فأنت إذاً من وَلد زَيْد؟ قلتُ: أجل؛ قال: فمن البُحور أنت أم من الجُدود أم من الثِّماد؟ فعلمت أَنه أراد بالبُحور بني سعد، وبالجُدود بني مالك بن حَنْظلة، وبالثَماد بني امرئ القَيْس ابن زيد، قلت: بل من الجُدود؛ قال: فأنت من مالك بن حنظلة؟ قلتُ: أجل؛ قال: فمن اللِّهاب أنت أم من الشِّعاب أم من اللِّصاب؟ فعلمتُ: أنه أراد باللِّهاب مُجاشعاً، وبالشِّعاب نَهْشَلاً، وباللِّصاب بني عبد الله بن دارم، فقلتُ له: من اللِّصاب؟ قال: فأنت من بني عبد الله بن دارم؟ قلتُ: أجل؛ قال: فمن البُيوت أنت أم من الزِّوافر؟ فَعَلِمْتُ أنه أراد بالبُيوت ولدَ زُرَارة وبالزَّوافر الأحْلاف، قلت: من البُيوت؛ قال: فأنت يزيدُ بن شَيْبان ابن عَلْقمة بن زُرَارة بن عُدَس، وقد كان لأبيك امرأتان فأَيتهما أمّك؟.
قول دغفل في قبائل العرب - الهَيثم بن عَدِيّ عن عوَانة قال: سأل زِيادٌ دَغْفلاً عن العَرَب، فقال: الجاهليّة لليَمن، والإسلامُ لِمُضر، والْفَينة " بينهما " لرَبيعة؛ قال: فأخْبرْني عن مُضر؛ قال: فاخِرْ بِكنانة وكاثر بتَميم وحارِبْ بِقَيْس، ففيها الفُرسان والأنجاد، وأما أَسَد ففيها دَلٌّ وكِبْر. وسأل مُعاوية بن أبي سُفيان دَغْفلاً، فقال له: ما تقولُ في بني عامر بن صَعْصعة؟ قال: أعْناق ظِبَاء، وأعجاز نِساء؛ قال: فما تقول في بني أسد؟ قال: عافَة قَافَة، فُصحاء كافَة، قال: فما تقول في بني تميم؟ قال: حَجَر أَخْشَن إن صادفْتَه آذاك، وإن تركتَه أَعْفاك؛ قال: فما تقول في خُزاعة؟ قال: جُوع وأحاديث؟ قال: فما تقول في اليَمن؟ قال: شِدَّة وإباء. قال نَصرْ بن سيّار:
إنّا وهذا الحيَّ من يَمَن لَنا ... عِنْد الفَخَار أَعِزَّةٌ أَكْفَاءُ
قومٌ لهم فينا دماءٌ جَمَّةٌ ... ولنا لديهم إِحْنَةٌ ودِمَاء
وَربيعة الأذْنابِ فيما بَيْننا ... لا هُم لنا سَلْمٌ ولا أعْداء
إن يَنْصرٌونا لا نَعِزُّ بنَصرْهم ... أو يَخْذُلونا فالسَّماء سَماء

مفاخرة يمن ومضر - قال الأبرش الكَلْبي لخالد بن صَفْوان: هَلُمّ أفاخرك، وهما عند هشام بن عبد الملك، فقال له خالد: قُل؛ فقال الأبْرش: لنا رُبْع البَيْت - يُريد الرّكْن اليماني - ومنّا حاتمُ طَيِّىء، ومنا المُهلَب بن أبي صُفْرة. قال خالدُ بن صَفْوان: منّا النبي المُرْسَل، وفينا الكِتَاب المنَزَل، ولنا الخليفةُ المُؤَمَّل؛ قال الأبْرش: لا فاخرتُ مُضرياً بعدك. ونزل بأبي العبّاس قَوْمٌ من اليمن مِن أخواله مِن كَعْب، فَفَخروا عنده بقدِيمهم وحَدِيثهم، فقال أبو العبّاس لخالد بن صَفْوان: أجب القومَ؛ فقال: أخوالُ أمير المُؤمنين؛ قال: لا بُدَ أنْ تقول؛ قال: وما أَقول لقوم يا أميرَ المؤمنين هم بين حائك بُرْد، وسائس قِرْد، ودابغ جِلْد، دَلَ عليهم هُدْهد، ومَلَكَتْهم امرأة، وغَرَّقتهم فَأرة، فلم تَثْبُت لهم بعدها قائمة.
مفاخرة الأوس والخزرج - الخُشنى يَرْفعه إلى أنس قال: تفَاخرت الأوسُ والخَزْرج، فقالت الأوْس: منا غَسِيلُ المَلائكة حَنْظلةُ بن الرَّاهب، ومنَّا عاصم بن " ثابت بن أبي " الأقْلح الذي حَمَت لَحْمَه الدَبْر، ومنا ذو الشَّهادتين خُزَيمة بن ثابت، ومنّا الذي اْهتز لمَوْته العرشُ سعدُ بن مُعاذ. قالت الخزرجُ: منّا أَرْبعة قرأوا القُرآن على عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأه غيرُهم: زيدُ بن ثابت، وأبو زَيد، ومُعاذ بن جَبل، وأبيّ بن كَعْب سيّد القُرّاء، ومنّا الذي أيَّده الله برُوح القُدس في شِعْره، حَسَّان بنُ ثابت.

البيوتات
قال أبو عُبيدة في كتاب التاج: آجتمع عند عبد الملك بن مَرْوان في سَمَره عُلماء كثيرون من العرب، فَذَكروا بُيوتات العرب، فاتفقوا على خَمسة أبْيات، بيت بني مُعاوية الأكْرمين في كِنْدة، وبَيْت بني جُشَم بن بكر في تَغْلب، وبيتِ ابن ذي الجَدَّين في بَكْر، وبيت زُرارة بن عُدَس في تميم، وبيت بني بَدْر في قَيْس. وفيهم الأحْرز بن مُجاهد التِّغلَبي، وكان أعلمَ القَوْم، فَجعل لا يَخُوض معهم فيما يَخُوضون فيه، فقال له عبدُ الملك: مالك يا أحَيرز ساكتاً منذُ الليلة؟ فواللّه ما أنت بدون القوم عِلماً؛ قال: وما أقولُ؟ سَبق أهلَ الفَضْل " في فضلهم أهلُ النقص " في نقُصانهم، واللِّه لو أن للناس كلَهم فَرساً سابقاً لكانت غُرتَه بنو شَيبان، ففيم الإكْثار. وقد قالت المُسيب بن عَلَس:
تَبِيت المُلوكُ على عتْبها ... وشَيْبانُ إنْ عَتبت تُعتِبِ
فكا لشُهْد بالرَّاح أخْلاقُهم ... وأحلامُهم مِنْها أعْذَب
وكالمِسك تُرْب مَقَاماتهم ... وتُرْب قبورِهُم أطيَب
بيوتات مضر وفضائلها
قال النبي صلى الله عليه وسلم، وسًئل عن مُضر " فقال " : كِنَانة جُمْجُمتها وفيها العَيْنان، وأسَد لسانُها وتميم كاهلُها. وقالوا: بيتُ تميم بنو عبد الله بن دارم، ومركزه بنو زُرارة، وبيتُ قيس فَزَارة، ومَركزه بنو بَدْر " بن عمرو " ، وبيتُ بَكْر بن وائل شَيْبان، ومركزه بيتُ بني ذي الجَدّين.
وقال مُعاوية للكَلْبي حين سأله عن أخْبار العَرب، قال: أخبرْني عن أعزِّ العَرب؛ فقال: رجلٌ رأيته بباب قُبته فَقَسَّم الفيء بين الحَلِيفين أسد وغَطفان معاً؛ قال: ومَن هو؟ قال: حِصْن بن حُذَيفة بن بَدْر. قال: فأخْبرني عن أشرف بيت في العرب؟ قال: واللّه إني لأعْرفه وإني لأبْغضه؛ قال: ومَن هو؟ قال: بيتُ زُرارة بن عُدَس. قال: فأخْبرْني عن أفْصح العرب؟ قال: بنو أسد. والمُجْتمع عليه عند أهل النُسب، وفيما ذكره أبو عُبيدة في التاج أن أشرف بيت في مُضر غَير مُدافَع في الجاهليِّة بيتُ بَهْدَلة بن عَوْف بن كعب ابن سَعد بن زَيْد مَنَاة بن تَمِيم.

وقال النعمان بن المُنذر ذاتَ يومٍ وعنده وُجوه العرب ووفُود القبائل ودَعا بُبْرديْ مُحرِّق، فقال: لِيَلْبس هذين البردين أكرمُ العَرب وأشرفُهم حَسَباً وأَعزُهم قَبيلة، فأَحْجم الناس، فقال الأحَيْمِر بن خَلَق بن بَهدلة بن عَوف بن كَعْب بن سَعْد بن زَيد مَناة، فقال: أنا لهما، فائْتزَر بأحدهما وآرتدى بالاخر. فقال له النعمان: وما حُجُّتك فيما آدّعيتَ؟ قال: الشرفُ من نِزار كلَها في مَضرَ، ثم في تَميم، ثم في سَعْد، ثمّ في كَعْب، ثمّ في بَهْدَلة، قال: هذا أنتَ فِي أَهلك فكيف أنت في عَشِيرتك؟ قال: أنا أبو عَشرَة وعَئُم عَشرَة وأخو عَشَرة وخالُ عَشرة؛ فهذا أنت في عَشِيرتك فكيف أنت في نَفْسك؟ فقال: شاهدُ العيَنْ شاهدي، ثم قام فَوَضع قَدَمه في الأرض، وقال: مَن أزالها فله من الإبل مائة. فلم يَقُم إليه أَحدٌ ولا تَعاطَى ذلك. ففيه يقول الفَرزدق:
فما ثَمّ في سَعْدٍ ولا آل مالك ... غلامٌ إذا سِيلَ لم يَتَبَهْدل
لهم وَهَب النعمانُ بُردىَ مُحرِّق ... بمَجد مَعدّ والعَديدِ المُحَصَّل
ومن بيت بَهْدلة بن عوف كان الزِّبْرقان بن بَدْر، وكان يُسمَّى سعد " بن زيد مناة بن تميم: سعدَ " الأَكْرِمين، وفيهم كانت الإفاضة في الجاهليَّة في عُطارد بن عَوْف بن كَعْب بن سعد، ثم في آل كَرِب بن صَفْوان بن عُطار، وكان إذا آجتمِع الناسُ أيامَ الحج بمنى لم يَبْرح أحدٌ حتى يَجوز آلُ صَفْوان ومَن وَرِث ذلك عنهم، ثم يمرّ الناسُ أرسالاً. وفي ذلك يقولُ: أوسُ بنُ مَغْراء السّعديّ:
ولا يَريمون في التَّعْريف مَوْقِفهم ... حتى يُقال أجيزُوا آلَ صَفْوَانَا
ما تَطْلُع الشمسُ إلا عند أوّلنا ... ولا تَغِيبنَّ إلاّ عند أُخْرَانا
وقال الفَرَزْدق:
ترى الناسَ ما سرنا يَسيرون خَلْفَنَا ... وإنْ نحن أَوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا

بيوتات اليمن وفضائلها
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأجدُ نفس رَبكم من قِبل اليمن. معناه واللّه أعلمِ: أن الله يُنفِّس عن المُسلمين بأهل اليمنِ، يريدُ الأنْصار، ولذلك تقول العرب: نفسني فلانٌ في حاجتي؛ إذا رَوَّح عنه بعض ما كان يَغُمًّه من أمر حاجته. وقال عبد الله بن عباس لبعض اليمانيّة: لكم مِن السماء نَجْمُها ومِن الكَعْبَة رُكبُها ومن الشَّرف صَمِيمه. وقال عمرُ بن الخطاب: مَنْ أجودُ العَرَب؟ قالوا: حاتم طيء؛ قال: فَمَن فارسُها؟ قالوا: عَمْرو بن مَعْدِ يكرب؛ قال: فَمَن شاعرُها؟ قالوا: آمرؤ القَيْس بن حُجْر، قال: فأيّ سُيوفها أَقْطَع؟ قالوا: الصَّمْصامة؛ قال: كَفي بهذا فَخْراً لليمن. وقال أبو عُبيدة: مُلوك العَرب حِمْير، ومَقَاولُها غَسّان ولَخْم، وعَدَدُها وفُرسانها الأَزْد، وسِنانُها مَذْحج، ورَيْحانتها كِنْدة، وقُرَيْشها الأنصار. وقال ابن الكَلْبي: حِمْير مُلُوكٌ وأَرْداف المُلوك، والأزْد أُسْد، ومَذْحج الطُّغَان، وهَمْدان أَحْلاس الخَيْل، وغَسان أَرْباب المُلوك. ومن الأزْد: الأنْصار، وهم الأوْسٍ والخَزْرج ابنا حارثة بن عمرو بن عامر، وهم أعزُّ الناس أَنْفُساً وأشرفُهم هِمَما، لم يُؤَدَّوا إتاوةَ قطّ إلى أحد من المُلوك. وكتب إليهم أبو كَرِب تُبًع الآخِر يَسْتَدْعيهم إلى طاعته ويتوعّدهم إنْ لم يَفْعلوا أنّ يَغْزُوَهم، فَكتبوا إليه:
العَبْدُ تُبَّعكم يُريد قِتالَنا ... ومكانُه بالمَنْزِل المُتذَلَل
إنّا أُناس لا يُنامُ بأرْضنا ... عَضَ الرَّسُولُ بِبَظْر أمِّ المُرْسِل
قال: فَغزاهمٍ أبو كَرِب، فكانوا يُحاربونه بالنَّهار ويَقْرُونه باللَّيل، فقال أبو كرب: ما رأيتُ قوما أكرمَ من هؤلاء، يُحاربوننا بالنَهار، ويُخْرجون لنا العَشَاء باللِّيل، آرْتحِلُوا عنهم، فارتحلًوا. ابن لَهِيعة عن ابن هُبيرة عن عَلْقمة ابن وَعْلة عن ابن عبّاس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن سَبأ ما هو، أبلدٌ أم رَجُل أمٍ امرأة؟ فقال: بل رَجُل وُلد له عَشرة فَسَكن اليمنَ منهم ستةٌ والشامَ أربعةٌ، أمّا اليمانيّون فكِنْدة ومَذْحج والأزد وأنمار وحِمْير والأشعريون وأمّا الشاميُون فَلَخْم وجُذَام وغَسّان وعامِلة.

ابن لهيعة قال: كان أبو هُريرة إذا جاء الرسولُ سأله ممّن هو؟ فإذا قال: من جُذام، قال: مَرْحباً بأصهار مُوسى وقوم شُعَيب. ابن لَهيعة عن بَكْر بن سَوَادة قال: أتى رجلٌ من مَهْرَة إلى عليّ بن أبي طالب، قال: ممن أنت؟ قال: من مَهْرَة، قال: " وَآذْكُرْ أَخَا عادٍ إذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحْقَافِ " . وقال ابن لَهِيعة: قَبْرُ هُود في مَهْرَة.

تفسير القبائل والعمائر والشعوب
قال ابن الكَلْبيّ: الشَّعب أكبرُ من القَبيلة ثم العِمَارة ثم البَطْن ثم الفَخِذ ثم العَشِيرة ثم الفَصِيلة. وقال غيرُه: الشّعوبُ العَجَم والقبائل العرب، وإنما قيل للقَبيلة قبيلة لتقابُلها، وتناظرُها، وأن بعضَها يُكافئ بعضاً. وقيل للشَّعْب شَعْب لأنه انشَعب منه أكثر مما آنشعب من القَبيلة، وقيل لها عَمائر، من الاعتمار والاجتماع، وقيل لها بُطون، لأنها دون القبائل، وقيل لها أفخاذ، لأنها دون البُطون، ثم العَشيرة، وهي رَهط الرجل، ثم الفَصيلة، وهي أهلُ بيت الرجل خاصة. قال تعالى: " وفَصِيلتِهِ التي تُؤوبه " . وقال تعالى: " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الأقْرَبِينَ " .
تفسير الأرحاء والجماجم - وقال أبو عُبيدة في التَاج: كانت أَرْحاء العَرَب سِتَاً وجَماجمها ثمانياً، فالأرحاء الست، بمُضَر منها اثنتان، ولرَبيعة اثنتان. ولليمن اثنتان؛ واللتان في مضَر تَميبمِ بن مُرّ وأسد بن خُزَيمة، واللتان في اليمنِ كَلْب ابن وَبْرة وطيئ بن أدد، وإنما سُميت هذه أَرْحاء لأنها أَحْرزت دوراً ومِياهاَ لم يكن للعرب مثلُها. ولم تَبْرح من أَوْطانها ودَارت في دورها كالأرْحاء على أَقْطابها، إلأ أَنْ يَنتجع بعضها في البُرَحاء وعامَ الجَدْب، وذلك قليلٌ منهم. وقيل للجَماجم جماجم لأنها يَتفرع من كلّ وَاحدة منها قبائل اكتفت بأسمائها دون الانتساب إليها، فصارت كأنها جَسَد قائم وكلّ عُضْو منها مُكْتَفٍ باسمه مَعْروف بمَوْضعه، والجماجمُ ثمانٍ: فاثنتان منها في اليَمن، واثنتان في رَبيعة، وَأَرْبع في مُضرَ. فالأربع التي في مُضر: اثنتان في قَيْس واثنتان في خِنْدف، ففي قَيْس: غَطَفان وهَوَازن، وفي خِنْدف: كنانة وتَميم، واللتان في رَبيعة: بكر ابن وائل وعبدُ القَيْس بن أَقصىَ، واللتان في اليمن: مَذْحج، وهو مالك بن أدد ابن زَيْد بن كَهلان بن سَبَأ، وقُضاعة بن مالك بن زيد بن مالك بن حِمْير بن سبأ. أَلا تَرَى أَن بَكْراً وَتَغْلِب ابني وائل قبيلتان مُتكافِئتان في القدر والعَدد فلم يَكُنْ في تَغْلِب رجال شُهِرَت أسماؤهم حتى انتُسِب إليهم واستجزئ بهم عن تَغْلِب، فإذا سألتَ الرجلَ من بني تَغْلب لم يَسْتَجْزِئ حتى يقول تَغْلَبي. ولبَكْر رجالٌ قد اشتَهرت أسماؤهم حتى كانت مثلَ بكر، فمنها شَيبان وعِجْل ويشْكُر وقَيْس وحنيفة وذُهْل، ومثلُ ذلك عبد القَيْس، ألا ترى أن عَنَزة فوقها في النّسب ليس بينها وبين رَبيعة إلا أَبٌ واحد، عَنَزة بن أسد بن ربيعة فلا يَسْتجزئ الرِجلُ منهم إذا سُئل أن يقول عَنَزِيّ؛ والرجل من عبد القَيْس يُنْسب شَيبانيًاً وجَرْمِيَّاَ وبَكْريَّاً. ومثلُ ذلك أن ضَبَّة بن أد، عم تميم، فلا يَسْتجزئ الرجلُ منهم أن يقول ضبّي، والتَّمِيميّ قد ينتسب فيقول مِنْقَرِيّ وَهُجَيْمِيّ وطْهوِيّ ويَرْبُوعِيّ ودارميّ وكَلْبيّ، وكذلك الكِناني يَنْتَسب فيقول لَيْثي ودُؤَلِيٌ وَضمْريٌ وَفِرَاسيّ، وكل ذلك مَشْهور مَعْروف، وكذلك الغَطَفَاني ينتسب فيقول عَبْسي وذُبْياني وَفَزَارِيّ ومُرّي وأَشْجعي وَبَغِيضيّ. وكذلك هَوَازن منها ثقيف والأعْجَاز وعامِر بن صَعْصَعة وقُشَير وَعقيل وجَعْدة، وكذلك القبائل من يَمن التي ذكرنا، فهذا فرق ما بني الجماجم وغيرها من القبائل، والمعنى الذي به سميت جماجم. وجمرِات العَرب أَرْبعة وهمْ: بنو نُمير بن عامر بن صَعْصعة وبنو الحارث بن كَعْب وبنو ضبَّة وبنو عَبْس بن بَغِيض، وإنما قيل لها الجَمَرات لاجتماعهم، والجَمْرة الجَماعة، والتّجْمِير التَجْمِيع.
أسماء ولد نزار

قال أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الخُشَنى: لما احتضِر نِزار بن مَعدِّ ابن عَدْنان تَرك أربعةَ بنين: مُضَر ورَبيعة وأنمار وإياد، وأَوْصىَ أن يُقَسَم ميراثَهم بينهم سَطِيحٌ الكاهِن. فلما مات نِزار صَفَّهم سَطيح بين يَدَيه، ثم أعطاهم على الفِرَاسة، فأَعْطى ربيعةَ الخَيْلَ، فيُقال له رَبيعة الفَرَس، وأَعْطَى مُضر الناقَة الحمراء، فيُقال له مُضَر الحَمْراء. وأَعْطى أَنماراً الحِمارَ، وأَعْطى إياداً أثاثَ البيت. قال: فقِيل لسَطِيح: مِن أين عَلِمْت هذا العِلْم؟ قال سَمِعْتُه من أخي حين سَمِعه من مُوسى يومَ طورِ سيناء. الأصمعيّ قال: أخبرني شيخٌ من تَغْلب، قال: أَرْدَفني أبي، فلمّا أَصْحَر رَفَع عَقيرَته فقال:
رأتْ سِدْرةً مَن سِدر حَوْمَلَ فابتَنَت ... به بيتها أَلا تُحاذِرَ راميَا
إذا هي قامتْ فيه قامتْ ظَلِيلةً ... وأَدْرك روْقَاها الغُصونَ الدَّوانيا
تَطَلَعُّ منه بالعَشيّ وبالضُحَى ... تَطَلّعَ ذاتِ الخِدْر تَدْعو الجَوارِيا
ثمّ قال: أَتَدْري من قائلُ هذه الأبيات يا بُني؟ قلت: لا أَدري؛ قال: قالها رَبيعةُ بن نِزَار، فقلت: وما يَصِف؟ قال: البَقرة الوَحْشيَّة.

أنساب مضر
ولد مضرَ بن نِزَار إلياس والناس، وهو عَيْلان، أمهما الرباب بنت حَيْدة بن مَعدّ. فَولَد الناس، الذي هو عَيْلان بن مُضَر، قَيْسَ بن عَيْلان بنِ مُضر، وولد إلياس بن مُضر عَمْراً، وهو مُدْركة، وعامراً، وهو طابخة، وعُميراَ وهو القَمَعة. ويقال إن القَمَعة هو الجُزَعة، وأُمهم خِنْدف، وِهي لَيْلَى بنت حُلْوان بنِ عمْران بن الحاف بن قُضاعة، فَجَميع ولد إلياس بن مُضر بن نِزار من خِنْدف، ولذلك يُقال لهم خِنْدف، لأنها أمهم وإليها يُنسبون. فَجَميع ولد مُضر بن نِزار قيس وخِنْدف. ومن بُطون خِنْدف: بنو مُدْركة بن إلياس بن مُضر، وهم هُنَيل بن مُدْركة، وكِنانة بن خُزَيمة بن مُدْركة، وأَسَد بن خُزَيمة بن مُدْركة، والهُوِن بن خُزيمة بن مُدْرِكة، وهم إخْوة أَسد. ومن بني طابخة بن إلياس من مُضَر، ضبة بن أدبن طابخة، ومُزَينة، وهما بنو عمرو بن أُدّبن طابخة، نُسبوا إلى أمهم مُزينة بنت كَلب بن وَبْرة، والرباب، بنو أدبن طابخة، وهم عَدِيّ وتَيْم وثَوْر وعُكْل، وإنما سُمِّيت الرباب لأنها اجتَمعت وتحالفت فكانت مثل الربابة. ويقال إنهم كانوا إذا تحالفوا وَضعوا أَيْديهم في جَفْنة فيها رُبّ. وصُوفة، وهو الرٌبيط بن الغَوْث بن أُدّبن طابخة، وكانوا أصحابَ الإجازة، ثم انتقلت في بني عُطارد بن عَوْف بن كَعْب بن سَعْد بن زَبْد مَنَاة بن تَمِيم، و تَميم ابن مُرّ بن أُدّ ابن طابخة. فجميع قبائل مُضر تجمعها قَيْس وخِنْدف، وقد تنسب ربيعة في مُضر وإنماهم إخوة مُضر، لأن ربيعة ابن نُزار ومُضرَ ابن نزار.
بطون هذيل وجماهيرها
منهم لِحْيان بن هُذَيل، بَطْن: وخُنَاعة بن سَعد بن هُذَيل، بَطْن، وحرَيث بن سَعد بن هُذَيل، بَطْن، وصاهِلة بن كاهل بن الحارث بن سَعْد بن هُذيل، بطن، وصُبح بن كاهل، بطن، وكَعْب بن كاهل، بطن. فمن بَنى صاهلة: عبد الله بن مَسْعود، صاحِبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شَهد بدراً. ومن بني صُبْح بن كاهل: أبو بكر الهُذَليّ الفَقيه، ومنهم: صَخْر بن حَبيب الشاعر، الذي يقال له صَخْر الغَيّ، وأبو بكر الشاعر، واسمه ثابت بن عبد شَمْس، ومنهم: أبو ذُؤَيب الشاعر، وهو خُوَيلد بن خالد. وبُطون هُذَيل كلّها لا تَنْتَسب إلى شيء منها، وإنما تَنْتَسب إلى هُذَيل لأنها ليست جُمْجُمَة.
بطون كنانة وجماهيرها

كِنانة بن خُزَيمة بن مُدْركة، منهم: قُريش، وهم بنو النَضْر بن كِنانة، ومنهِم: بَكْربن عبد مَناة، بَطْن، وجُنْدُع بن لَيْث بن بكر بن عبد مَناة، بَطْن، ومنهم: نصْر بن سَيَّار صاحب خُراسان، وغِفَار بن مُلَيْل بن ضَمْرة، بطن، ومنهم: أبو ذَرّ الغِفَاريّ صاحب النبي عليه الصلاة والسلام؛ومُدْلج بن مُرّة بن عبد مَناة، بطن، ومنهم: سُرَاقة " بن مالك " بن جُعْشُم المُدْلِجيّ الذي تَصوَرَ إبليسُ في صُورته يومِ بَدْر، وقال لقُريش: إني جارٌ لكم، وبنو مالك من كِنانة، بَطْن، ومنهم: جِذْل الطعان، وهو عَلْقمة بن أَوْس بن عَمْرو بن ثَعْلبة بن مالك بن كِنانة، ومن ولد جِذْل الطِّعان: رَبيعة بن مُكدم، وهو أشجَع بيت في العَرَب، وفيهم يقول عليُّ بن أبي طالب لأهل الكُوفة: وددْتُ واللّه لو أن لي بمائِة ألفٍ منكم ثلثَمائةٍ من بني فِرَاس بن غَنْم بن ثَعْلبة، وبنو الحارث بن مالك بن كِنانة، منهم: القَلَمَّس، وهو أبو ثمامَة الذي كان يُنْسئ الشُّهور حتى أَنْزل الله فيه: " إنّما النسيءُ زيادة في الكُفْر " وبنو مُخْدِج بن عامر بن ثعلبة، بَطْن: وبنو ضَمْرة بن بكر، في كِنانة، ومنهم: البرّاض بن قَيْس الذي يُقال فيه: أَفْتك من البرّاض؟ وعُمارة بن مَخَشيّ الذي عاقَد النبي عليه الصلاة والسلام على بني ضَمْرة.
ومن بني كِنانة: الأحابيش: مَبْذُول وعَوْف وأَحْمر وعَوْن، وهم بنو الحارث بن عبد مَناة، ومنهم: الحُلَيْس بن عَمرو بن الحارث، وهو رئيس الأحابيش يوم أُحد، وبنو سعد بن لَيْث، ومنهم: أبو الطّفيل عامر بن وَائِلة، ووَائلة بن الأسْقع، كانت له صُحْبة مع النبي عليه الصلاةُ والسلام.

بطون أسد وجماهيرها
أَسَد بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر، منهم دودَان الذي يقول فيه امرؤ القَيس:
قولا لدُودَان عَبِيدِ العَصَا ... ما غَرّكم بالأسد الباسل
ومنهم: كاهل بن عَمْرو بنِ صَعْب، وحُلْمة. فأمّا بنو حُلْمة فأَفناهم امرؤ القيس ابن حُجْر بأبيه، ومنهم: غنْم بن دُودان وثَعْلبة بن دُودان، ومنهم: قعَيْس بن الحارث بن ثَعْلبة بن دودان بن أَسد، ومنهم: بنو الصَّيْداء بن عَمْرو بن قُعَيْس، ومِنهم فَقْعس بن طَرِيف بن عَمْروِ بن قُعَيس، ومنهم: جَحْوان بن فَقْعسٍ ودِثَار ونوْفل ومُنْقذ " وهو " حَذْلم بنو فقعس. فمن بني جَحْوان: طُلَيْحة بنُ خوَيلد الأسديّ، ومن بَني الصَيْداء: شَيْخ بن عُمَيْرة القائدِ، والصامت بن الأفْقم الذي قَتل رَبيعةَ بن مالك، أبا لَبيد بن رَبيعة الشاعر، يوم ذي عَلَق. وفي بني الصَّيْداء يقول الشاعر:
يا بَني الصَّميْداء ردُّوا فَرَسي ... إنّما يُفْعل هذا بالذِّلِيلْ
ومن بني قُعَيْس: العَلاءُ بن محمد بن مَنْظُور، ولي شُرْطة الكُوفة، ومنهم: ذُؤَاب بن رُبَيِّعة الذي قتل عُتَيْبة بن الحارث بن شهاب اليَرْبُوعيّ، ومنهم: قَبِيصة بن بُرْمَة، ومنهم: بِشْر بن أبي خازم الشاعر. ومن بني سَعْد بن ثَعْلبة ابن دودان: سُوَيد بن رَبيعة، وعَبيد بن الابْرص، وعَمرو بن شَأَسْ أبو عِرَار، والكُمَيت بن زيد، ومنهم: ضرِار بن الأًزْور صاحب المُخْتار، ومنهم: بنو غاضرَة بن مالك بن ثَعْلبة بن دودان، ومَن بَني غاضرَة: زِرُّ بن حُبَيش الفَقيه، ومنهم الحَسْحَاس بن هِنْد، الذي يُنْسب إليه عَبْد بَني الحَسْحاس، ومن أسد: بنو غَنْم بن دُودان، ومنهم: زَيْنب بنت جَحْش زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم: أيمَن بن خُرَيم الشاعر، والأًقَيْشِر الشاعر، ومن بني كاهل بن أسْد: عِلْباء بن الحارث، الذي يقول فيه امرؤ القَيس:
وأَفْلَتهنّ عِلْبَاءٌ جَريضاً ... ولو أدْرَكْنَه صَفِر الوِطابُ
الهون بن حزيمة بن مدركة - منهم القَارَة، وهم عائذة وبَيْثَع بنو الهُون ابن خُزَيمة بن مُدْركة، والقارَة أَرْمى حَيّ في العرب، ولهم يُقال:
قَد أَنْصَف القَارَةَ من رَامَاها
فهذه قبائل بن مُدْركة بن إلياس، وهي: هذَيل بن مُدْركة، وكِنَانة بن خُزَيمة بن مُدْركة، وأَسد بن خُزيمة بن مُدْركة، والهونُ بن خُزَيمة بنِ مُدركة.

ومن قبائل طابخة بن إلياس بطوِن ضبّة وجماهيرها: ضبّة بن أُدّ بن طابخة ابن إلياس. وَلَدَ ضبّةُ بنُ أد سَعْدا وسَعِيداً وباسلاً، وله المثلُ الذي يقالُ فيه: أَسَعْدٌ أَمْ سَعِيد. فَقُتل سعيد ولم يعْقِب، ولَحِق باسلٌ بأرض الدَيلم فتزوّج امرأةً من أرض العَجَم، فَوَلدت له الدَيلم. فيُقال إن باسلَ بنَ ضَبّة أبو الدَّيلم. ويا ذلك يَقول أبو بجَير يَعِيب به العَرب:
زَعمتم بأنّ الهِند أَوْلادُ خِنْدف ... وبَينكُم قُرْبىَ وبين البَرابِر
وديْلمَ مِن نَسْل ابن ضَبَّةَ باسلٍ ... وبُرْجانَ من أولادِ عَمْرو بن عامر
فقد صار كلُّ النَّاس أولادَ واحدٍ ... وصارُوا سَواءً في أصول العَناصر
بنو الأصفر الأمْلاك أكرمُ منكمُ ... وأوْلَى بقُربانَا مُلوك الأكاسر
فمن بني سَعْد بن ضَبّة: بنو السيِّد بن مالك بن بَكْر بن سَعْد بن ضَبّة، بَطن، وبنو كُوز بن كَعْب بن بَجَالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سَعْد بن ضَبّة، بطن، وبنو زَيد بن كعب بن بَجَالة بن ذهل بن مالك بن بَكْر، بطن: وبنو عائذة بن مالك بن بكر بن سَعْد بن ضَبّة، بطن، ومنهم: عبدُ مناة بن سَعْد بن ضَبّة، وبنو ثَعْلبة بن سَعْد بن ضبّة. فمن بني كُوز: المُسيِّب بن زُهَير بن عَمْرو، ومن بني زيد: " ضرار بن " عمرو بن مالك بن زَيْد بن كَعْب، وكان سيِّداً مُطاعاً، ووُلد له عبدُ الحارث وحصين وعَمْرو وأَدهم ودُلْجَة وعامر وقَبيصة وحَنْظلة وخِيَار وحارث وقيس وشَيْبَة ومنْذر، كل هؤلاء شريف قد رَأس ورَبَع - يعني قد أخذ المِرْباع - وكان الرئيس إذا غَنم الجيشُ معه أَخذ الرُّبع ومن ولد الحُصين بن ضِرار: زَيْد الفوارس، وله يقول الفَرزْدق:
زَيْدُ الفَوارِس وابن زَيْد منْهُم ... وأبوِ قَبيصة والرئيسُ الأوَّلُ
الرئيس الأوَّل: مُحلِّم بن سُوَيْط، رَبع ضبّة وتميم والرِّباب، ومن بني زَيد الفوارس: ابن شُبْرمة القاضي، ومن بني عائذة بن مالك: شرحاف بن المُثلَّم الذي قَتل عُمارة بن زِيَاد العَبْسي، ومن السِّيد بن مالك: زيد بن حُصَين، وَلي أصْبهان، وعبدُ الله بن عَلْقمة الشاعر الجاهليّ، ومنهم عُمَيرة بنُ اليثربي، قاضي البَصرة، وهو الذي قتل عِلْباء وهِنْد الجَمليّ، وقال في قَتْلهما يوم الجمل:
إني أنا عُمَيرة بن اليَثْربيّ ... قتلتُ عِلْباء وعِنْد الجَمليّ
ومن بني ثعلبة " بن " سعد بن ضَبة: عاصم بن خَلِيفة بن يَعْقل الذي قَتَل بِسطام بن قَيس.
مزينة - مُزَينة بن عَمْرو بن أُدّ بن طابخة بن إلياس، نُسبوا إلى أُمهم مُزينة بنت كلب بن وَبْرة. منهم، النّعمان بن مُقَرِّن، ومنهم: مَعْقل بن سِنَان " بن نُبَيشة " صَاحب النبي عليه الصلاة والسلام، وزُهَير بن أبي سُلْمى الشاعر، ومَعْن بن أَوْس الشاعر، ومنهم إيَاسُ بن مُعاوية القاضي. وإنّما مُزَينة كلّها بنو عُثمان وأَوْس ابني عمرو بن أدّ بن طابخة. وفي ذلك يقول كَعْب بن زُهير:
متى أَدْعُ في أَوسٍ وعُثمانَ تَأْتني ... مَساعِيرُ قَوْمٍ كلّهم سادةٌ دِعَمْ
هم الأسْد عند البَأْس والحَشْد في القُرَى ... وهم عند عَقْد الجار يُوفون بالذِّمم
الرِّباب - وهم: عَدِيّ وتَيم وثَوْر وعُكْل. وإنّما سُمِّيت هذه القبائل الرِّبَاب لأنهم تحالفوا فَوَضعوا أيديهم في جَفْنة فيها رُبّ. وقال بعضُهم: إنما سمُّوا الرِّباب لأنهمِ إذا تَحَالفوا جَمعوا أقداحاً، من كلّ قَبيلة منهم قَدَح، وجَعلوها في قِطْعة أَدَم، وتُسَمَّى تلك القطعة الرُّبة، فسُمُّوا بذلك الرِّباب. فمن بني عَدِيّ بن عَبْد مَناة بن أدّ بن طابخة: ذو الرُّمة الشاعر، وهو غَيْلان بن عقْبة. ومن بني تَيم بن عبد مَناةَ: عُمَر بن لَجَأ الشاعر الذي كان يُهاجِي جريراً. ومن بني عُكْل بن عبد مناة: النَّمِرُ بن تَوْلَب الشاعر. ومن بني ثَوْر بن عَبد مَناة: سفْيان الثَّوْري الفَقيه. فهذه الرِّباب، وهم بنو عَبْد مَنَاة.

صُوفة - هم بنو الغَوْث بن مُرِّ بن أُدِّ طابخة، وفيهم كانت الإجازةُ في الجاهلية، هم كانوا يَدْفعون بالناس من عَرَفات، ثم انتقلت الإجازة في بني عُطَارد بن عَوْف بن كَعْب بن سَعْد بن زيد مَناة بن تميم. فمن الغَوْث: شُرَحْبِيل بن عبد العُزّى الذي يقال له: شُرَحْبيل بن حَسَنة.

بطون تميم وجماهيرها
تَمِيم بن مُرّ بن أُدِّ بن طابخة بن إلياس بن مُضَر. كان لتميم ثلاثةُ أولاد: زَيْدُ مَناة وعمرو والحارث بنو تميم.
فمن الحارث بن تميم: شَقِرة، واسمه مُعاوية بن الحارث بن تميم، وإنما قِيل له شَقِرَة لبيتٍ قاله وهو:
وقد أًحْمل الرُّمح الأصمَّ كُعُوبه ... به من دِماء النَوْم كالشَّقِرَاتِ
والشَّقِرِات: هي شَقائقِ النُّعمان، شَبَّه الدّماء بها في حُمْرتها، ومن بني شَقِرة المُسَيِّب بن شريك الفقيه، ونصر بن حَرْب بن مَخْرمة.
ومن عمرو بن تميم: أُسَيِّد بن عمرو بن تَمِيم، ومنهم أكثم بن صَيْفي حَكِيم العَرَب، وأبو هالة زَوْج " خديجة زَوْج " النبي صلى الله عليه وسلم، وأَوْس بن حَجَر الأسَيْديّ الشاعر، وحَنْظلة بن الرَّبيع صاحب النبيّ عليه الصلاة والسلام، الذي يقال له: حَنْظلة الكاتب.
بنو العنبر بن عمرو بن تميم - منهم: سَوَّار بن عَبد اللهّ القاضي وعُبيد اللهّ ابن الحَسَن القاضي، وعامر قيس الزاهد. ومنهم: بنو دُغَة بنت مِغْنَج التي يُقال فيها: أحمق من دُغَة، وهي من إيَاد بن نِزَار، تَزَوَّجها عَمْر بن خِنْدِف ابن العَنْبر، فولدت له بنو الهُجَيم بن عمرو بن تَمِيم، ويقال لهم: الْحِبَال.
بنو مازن بن عمرو بن تميم - منهم عَبّاد بن أَخْضَرَ، وحاجِب بن ذُبْيان الذي يعرف بحاجب الفِيل، ومالك بن الريْب الشاعر، ومنهم: قَطَرِيّ ابن الفُجاءة، صاحب الأزارقة، وسَلْم وأخوه هِلال بن أَحْوَز.
الْحَبَطات - وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم، وذلك أن أباهم الحارث أكل طَعَاماً فَحَبَطَ " منه، أي وَرِمَ " بطنه. منهم: عَبّاد بن الحُصَين، من فُرْسان العَرَب، كان على شُرْطة مُصْعب بن الزُّبير.
غَيْلان وأَسْلَم وحِرْماز بنو " مالك " بن عمرو بن تميم - " فمن بني غَيْلان: أبو الجَرْباء، شَهِدَ يوم الجمل مع عائشة، وقُتل يومئذ. ومن بني حِرْماز: سَمُرة بن يزيد، كان من رجال البصرة في أول ما نزلها الناس " .
بنو سَعد بن زيد مَناة بن تَميم - الأبناء، وهم ستَّة من ولد سَعْد بن زيد مناة، يقال لهم: عَبد شمس ومالك وعَوْف وعُوافة وجُشم و " كعب " . فبنو سَعد بن زيد مناة. وأولاد كَعْب بن سَعد يسمَّوْن مُقاعس والأجارب إلا عَمراً وعوفاً ابنيْ كعب.
فمن بني عبد شَمْس بن سَعْد - نُمَيْلة بن مُرَّة، صاحب شرطة إبراهيم ابن عبد الله بن الحسن، وإياس بن قَتَادة، حامل الدِّيات في حرب الأزْد لتميم، وهو ابن أخت الأحْنف بن قَيْس، وعَبَدة بن الطَّبيب الشاعر، " و " حِمَّان وهو عبد العُزَّى بن كعب بن سَعْد.
الأجارب - هم بَطْنان في سَعد، وهم: ربيعة بن كعب بن سعد، وبنو الأعْرج ابن كعب بن سعد، وفيهم يقول أَحْمَر بن جَنْدل:
ذُودا قليلاً تُلْحَق الجلائبُ ... يَلْحقنا حِمّان والأجارِبُ
فمن بني الأجارب: حارثةُ بن قَدامة، صاحبُ شرْطة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وعَمْرو بن جُرْمُوز، قاتل الزُّبير بن العَوْام.
مُقاعس، وهو الحارث بن عمرو بن كَعْب بن سَعْد. ومن أفخاذ مُقاعس: مِنْقر بن عُبَيد بن مُقاعس، ومنهم: قيس بن عاصم، سيِّد الوَبر، وعمرو بن الأهتم، وخالد بن صَفْوان بن عَمْرو بن الأهتم، وشَبِيب بن شَيْبة بن عبد اللهّ بن عمرو بن الأهتم. ومن بني عُبيد بن مقاعس، وهم إخوة مِنْقر: الأحْنف بن قيس، وسَلاَمة بن جَنْدل، والسُّلَيك بن السُّلَكة. رَجَليُّ العرب. ويقال له الرِّئبال، لأنه كان يُغير وحدَه، ومنهم عبد الله بن صفَّار، اَلذي تُنسب إليه الصُّفْرِية، وعبد الله بن إباض، الذي تُنسب إليه الإباضيّة. فهذه مُقاعس وجَماهيرُها.
بنو عُطَارد بن عَوْف بن كَعْب بن سعد - منهم: كَرِب بن صَفْوان بن حُباب، صاحب الإفاضة إفاضة الحاج، يَدْفعِ بهم من عَرَفات، وله يقول أوسُ ابن مَغْراء:
ولا يَرِيمون في التَعْريف مَوْقِفهم ... حتى يُقالَ أجيزُوا آلَ صَفْوانَاً

قُرَيع بن عَوف بن كَعب بن سَعد - منهم الأضْبط بن قُرَيع، رئيس تَمِيم يومَ مَيْط، وبنو لُؤَى بن أنْف الناقة الذين مَدَحهم الحُطيئة، فقال فيهم:
قَوْمٌ هُم الأنْف والأذْنابُ غَيرُهم ... ومن يُسَوِّي بأنْف النَّاقة الذَّنبَا
ومنهم: أوْس بن مَغْراء الشاعر، وهذا أشرفُ بَطْن في تَمِيم.
بَهْدلة بن عَوْف بن كَعب بن سَعد - منهم الزِّبْرقان بن بَدْر، واسمه حُصَين، ومنهم: الأحَيْمر بن خَلَف بن بَهْدلة، صاحب بُرْدَيْ مُحرِّق، والذي يقول فيه الفَرزدق:
فيا بنةَ عبد الله وابنةَ مالك ... ويا ابنةَ ذي البُرْدَيْن والفَرَس النِّهْدِ
جُشَم بن عَوْف بن كَعب بن سَعد - يقال لبني جُشم وعُطارد وبَهْدلة: الجذَاع.
حَنظلة بن مالك الأحْمق بن زَيْد مَناة - البَراجم خَمْسة من بني حَنْظَلة ابن مالك بن زَيْد مَناة وهم: غالب وعمرو وقَيْس وكُلْفة " وظُلَيم " بنو حَنْظلة ابن مالك الأحمق بن زَيْد منَاة بن تميم، منهم: عُمَير بن ضَابئ الذي قَتله الحجّاج.
يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - منِ ولده: رِبَاح بن يَربوع بن حَنْظلة، منهم: عَتّاب بن وَرْقاء الرِّياحيّ، إلى أصبهان وأحَدُ أجْواد الإسلام، ومَطَر بن ناجية، الذي غَلَب على الكوفة أيام ابن الأشْعث. وسُحَيم بن وَثيل الشاعر، والحارث بن يَزيد، صاحب الحَسن بن عليّ، وأبو الهنْدِيّ الشاعر، واسمه أزهر بن عبد العزيز، وَمَعْقِل بن قَيْس، صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والأُبَيرد بن قُرّة.
عُدَانة بن يَرْبوع - منهم: وَكيع بن أبي سُود، وحارِثة بن بَدْر، وكان فارساً شاعراً.
ثَعْلبة بن يَرْبوع - منهم مالك ومُتمِّم ابنا نُوَيرة، وعُتَيبة بن الحارث بن شِهاب، الذي يُقال له صَيِّاد الفوارس.
بنو سَلِيط بن يَرْبوع - منهم: المُساور بن رِئَاب.
كَلب بن يَرْبوع - منهم: جَرير بن الخَطَفي الشاعر.
العَنْبر بن يَرْبوعِ - منهم: سَجَاع بنت أَوْس التي تَنَبأت في تميم.
زَيْد بن مالك وكعْب الضَّرَّاء بن مالك ويَرْبوع بن مالك بن حَنْظلة ابن مالك بن زَيْد مَنَاة أُمهم العَدَوِيَّة وبها يُعْرَفون، ويقال لهم بنو العَدويّة وطُهيّة، وهم بنو أبي سُود بن مالك وعَوْف بن مالك أمهم طهيّة وبها يُعْرفون ويقال لبني طُهَيِّة وبني العدَوِيّة الجمَار، ومن بني طُهية: بنو شَيْطان.
ومنهم دَارم بن مالك بن حَنْظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - فولدُ دارم بن مالك: عبد الله ومُجاشع وسَدُوف وخَيْبريّ ونَهْشل وجَرير وأبَان " ومَناف " .
فمن وَلَد عبد الله بن دارم - حاجبُ بنُ زرارة بن عدَس بن عبد الله بن دارم، وهو بَيْت بني تميم وصاحب القوس، ومحمد بن " جُبير بن " عُطارد، وهِلاَل بن وَكيع بن " بِشْر " .
مُجاشع بن دارم - منهم: الفَرزدق الشاعر، والأقرع بن حابس، وأعينَ ابن ضُبَيعة بن عِقَال، والحتات بن يزيد، والحارث بن شرَيح بن زيد صاحب خُراسان، والبَعِيت الشاعر، واسمه خِدَاش بن بِشْر، والأصْبغ بن نُباتة، صاحب عليّ.
نَهشَل بن دارم - منهم: خازم بن خزَيمة، قائد الرَّشيد، وعبَّاس بن مَسْعود، الذي مَدَحه الحُطيئة، وكُثَيِّر عَزَّة الشاعر، والأسود بن يَعْفُر الشاعر.
أَبَان بن دارم - منهم: سَوْرة بن بَحْر، كان فارساً، صاحب خُراسان وذو الخِرَق بن شُرَيح الشاعر.
سدوس بن دارم - " وهؤلاء بادواً " .
ورَبيعة بن مالك بن زَيد مَناة، ورَبيعةُ بنِ حَنْظلة بن مالك بن زيد مَناة، ورَبيعة بن مالك بن حَنْظلة يُقال لهم الرَّبائع. فمِنْ رَبيعة بن حَنْظلة: أبو بِلال الخارجيّ، واسمه مِرْداس بن جُدَير، ومن ربيعة بن مالك بن زيد مَناة: عَلْقمة بن عَبَدَة الشاعر وأخوه شَأْس، ومن رَبِيعة بن مالك بن حَنْظلة: الْحُنَيف بن السِّجْف جِشَيْش بن مالك - وأُمه حُطَّى، على مثال حُبْلى، وبها يُعْرَفون. منهم: حُصَين بن تميم، الذي كان على شرطة عُبيد الله بن زياد، ويقال لجُشَيش ورَبيعة ودارم وكعب بني مالك بن حنظلة بن مالك: الخِشَاب انقضى نسب الرِّباب وضبّة ومزينة وتميم

بطون قيس وجماهيرها

نسب قيس بن عيلان بن مضر - قَيس بن الناس، وهو عيْلان بن مُضر. فَمِنْ بطون قيس: عَدْوَان وفَهْم ابنا عمرو بن قيس بن عيلان، وأمهما جَدِيلة بنت مُدْركة بن إلياس بن مُضر، نسِبوا إليها.
فمن عَدْوان: عامر بن الظَّرب، حَكَم العرب بعكاظ، ومنهم: أبو سَيَّارة، وهو عُمَيلة بن الأعْزل. ومنهم: تأبَّطَ شراً، وهو ثابت ابن عَمَيْثل غَطفان بن قيس بن عيْلان - وأعصُر بن سعد بن قَيس بن عيلان.
فمن بطونِ غَطفان: أشْجع بن رَيْث بن غَطفان. وأشجع بن ريث بن غطفان، منهم: نصْر بن دُهْمان، وكان من المُعمَّرين، عاش مائتي سنة، ومنهم فَرْوَة بن نَوْفل.
عَبْس بن بَغيض بن رَيْث بن غَطَفان - وهي إحدى جَمَرات العرب، منهم: زُهَير بن جَذِيمة، كان سيِّد عَبْس كلِّها حتى قَتله خالدُ بن جعفر الكِلاَبي وابنه قيس بن زُهَير، فارس داحس، وعَنْترة الفوارس، والحُطيئة، وعُرْوَة بن الوَرْد والرَّبيعِ بن زياد، وإخوتُه الذين يقاد لهم الكَمَلة، ومروان بن زِنْباع، الذي يُقال له مرْوَان القَرَظ، وخالد بن سِنَان، الذي ضَيّعه قومُه.
ذُبْيان بن بَغيض بن رَيْث بن غَطفان - منهم: فَزَارة بن ذُبْيان بن بغيض، وفيهم الشرف، ومنهم حُذَيفة بن بَدْر، ومنهم: مَنْظور بن زبّان ابن سَيَّار، وعُمر بن هُبَيرة، وعَدِيّ بن أرْطأة.
مُرَّة بن عَوْف بن سَعْد بن ذُبيان - منهم: هَرِم بن سِنَان المُرِّي الجَوَاد الذي كان يَمْدَحه زُهَير، ومنهم: زِياد النَّابغة الشاعر، ومنهم الحارث بن ظالم الذي يُقال فيه: أمنع من الحارث، ومنهم: شَبِيب بن البرْصاء، وأرْطَأة بن سُهَيَّة، وعَقيل بن عُلَّفة المرِّيّ، وابن مَيّادة الشاعر، ومُسلم بن عُقْبة، صاحب الحَرَّة، وعثمان بن حَيَّان، وهاشم بن حَرْملة، الذي يقول فيه الشاعر:
أحيَا أباه هاشمُ بنُ حَرْملة ... يَقْتُل ذا الذَّنْبِ ومَن لا ذَنْبَ لَهُ
والشمَّاخ الشاعر وأخوِه مُزَرِّد ابنا ضِرَار.
ومن بطون أعصر: غنِي بنِ أعصُر بن سعد بن قيس بن النَّاسِ بن مُضر منهم: طُفَيل الخَيْل، وقد رَبَع غَنِياً، ومنهم: مَرْثد بن أبي مَرْثد، وقد شهِدَ بَدْراً.
باهلة - هم بنو مَعْن بن أَعْصر، نُسِبوا إلى أمهم باهلة، وهم قُتَيْبة ووائل وأوْد وجِأَوَة، أمهم باهلة وبها يُعْرَفون. منهم: حاتم بن النُّعمان، وقُتيبة بن مُسْلم، وأبو أمامة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسَلْمان بن رَبيعة، وَلاّه أبو بكر الصِّدِّيق، وزَيْد ابن الحُباب.
بنو الطفاوَة بنِ أَعْصُر - وهم ثَعْلَبة وعامر ومُعاوية، أمهم الطُّفاوة، إليها يُنْسَبون، وهم إخوة غنِيّ بن أعصر. فهذه غَطفان " وأعصرُ " .
بنو خصَفة بن قَيس بن عيْلان - مُحارب بن زِياد بن خصَفة بن قيس بن عيْلان، منهم: الحَكَم بن مَنِيعِ الشاعر، وبَقِيع بن صَفّار الشاعر الذي كان يُهاجي الأخْطل. ووَلدَ مُحارب: ذهل وغنْم، وهم الأبناء، والخُضْر، وهم بنو مالك بن مُحارب.
سُليمٍ بن مَنْصور بن عِكْرمة بن خَصَفة - منهم: العبّاس بن مِرْداس، كان فارساً شاعراً، وهو من المُؤَلِّفة قلوبهم، والفُجَاءة، الذي أحْرقه أبو بكر في الرِّدّة.
ومنهم صَخْر ومُعاوية ابنا عَمْرو بن الحارث بن الشَّريد، وهما أخوَا الخَنْساء، وخُفَاف بن عُمير الشاعر، ونُبَيْشة بن حَبيب، قاتل ربيعة بن مُكَدِّم ومُجَاشع بن مَسْعود، من أهل البَصرة، وعبد الله بن خازم، صاحب خُرَسان.
ذَكْوان وبهز وبُهْثة بنو سُليم - منهم: أبو الأعْوَر السُّلَمي، صاحب مُعاوية، وعُمير بن الحُباب، قائد قيس، والجَحَّاف بن حُكَيمْ. فهذه بطون سُليم ومُحَارِب.

قبائل هوازن
هو هَوازن بن مَنْصور بن عِكْرِمة بن خَصَفة بن قيس بن عيْلان: سَعد بن بكر بن هَوازن - فيهم استرْضع النبي صلى الله عليه وسلم.
نَصر بن معاوية بن بكر هوازن - منهم: مالك بن عَوْف النَّصْري، قائدُ المُشْركين يوم حُنَين.
جُشم بن معاوية بن بكر - منهم دُرَيد بن الصِّمّة، فارس العَرَب.
ثَقيف - وهو قَسيّ بن مُنَبِّه بن بكر بن هَوازن. منهم: مَسْعود بن معتِّب والمُخْتار بن أبي عُبَيد. ومنهم: عُرْوَة بن مَسْعود، عظيم القَرْيتين، والمُغيرة ابن شُعْبة، وعبدُ الرحمن بن أمّ الحَكَم.

عامر بن صَعْصعة بن مُعاوية بن بَكْر بن هَوَازن - فمن بطون عامر: بنو هِلال بن عامر بن صَعْصعة، منهم: مَيْمونة زوجِ النبي عليه الصلاة والسلام، ومنهم: عاصمُ بن عبد الله، صاحبُ خراسان، وحُميد بن ثَوْر الشاعر، وعَمْرو ابن عامر بن " ربيعة بن عامر " ، فارس الضَّحْياء، ومن وَلده: خالدٌ وحَرْملة ابنا هَوْذة، صَحِبَا النبي صلى الله عليه وسلم، وخِدَاش بن زُهير.
نميرَ بن عامر بن صَعصعة - منهم: الرَّاعي الشاعر، وهو عُبيد بن حُصَين، وهَمَّام بن قَبِيصة، وشرَيك بن خُبَاشة، الذي دَخل الجنَّة في الدُّنيا في أيام عُمَر ابن الخطّاب.
بنو كَعْب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - وهم ستة بُطون، منهم: عَقيل بن كعب - رَهْط تَوْبة بن الحُمَيّر، صاحب لَيْلَى الأخْيَلية، ومنهم: بنو المنْتَفق.
بنو الحَريش بن كَعْب - رَهْط سَعِيد بن عُمر، وَلِيَ خراسان، وهو صاحبُ رأس خاقان.
بنو العَجْلان بن كَعْب - رهط تميم بن مُقْبِل الشاعر.
ومنهم: بنو قُشَير بن كعب - رهط مالك بن سَلَمة، الذي أسر حاجبَ ابن زُرارة.
ومنهم: بنو جَعَدة. بن كعب - رهطُ النابغة الجَعْدي، وهو أبو لَيْلَى. فهذه بطون كعب بن رَبيعة بن عامر بن صَعصعة.
ومن أفْخَاذ ربيعة بن عامر بن صَعصعة: كِلاَب بن رَبيعة بن عامر بن صَعصعة، منهم: المُحلِّق بن حَنْتَم بن شَدَّاد، ومنهم: زُفَر بن الحارث الكِلاَبي، ويزيد بن الصَّعِق، ووَكيع بن الجَرّاح الفقيه.
جَعْفر بن كِلاَب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - منهم: الطُّفيل، فارس قَرْزَل، وعامر بن الطُّفَيل، وعَلْقمة بن عُلاثة، وأبو بَرَاء عامرُ بن مالك، ومُلاعب الأسنّة.
الضِّبَاب بن كِلاَب - منهم: شَمِر بن ذي الجَوْشن. هؤلاء بنو عامر بن صعصعة.
بنو سَلول - وهم: بنو مُرَّة بن صعصعة نُسِبوا إلى أمهم سَلُول.
غاضرة - وهم: بنو مُرَّة بن صعصعة نُسِبوا إلى أُمهم سَلُول.
غاضرة - وهم: غالب بن صعصعة ومالك ورَبيعة وغوَيضرة، وحارث وعبد الله وهما عادية، وعَوْف وقَيْس ومُساود، وسيَّار وهو غَزِيّة.
لَوْذان وجَحْوش وجَحَّاش وعَوْف، وهم الوَقَعة، بنو مُعاوية بن بكر بن هَوازن.
وبنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن يقال لهم الأبناء. هذا آخر نسب مُضر بن نِزار.

نسب ربيعة بن نزار
وَلَدُ رَبِيعة بن نِزَار: أسَد وضُبَيعة وعائشة، وهم " باليمن " في مُرَاد، وعَمْرو وعامر وأَكْلُب، وهم رَهْط أنس بن مُدْرِك. فمن قبائل ربيعة بن نزار: ضبَيْعة بن رَبيعة بن نزار - وفيهم كان بيت ربيعة وشَرفها، ومنهم: الحارث الأضجم، حَكَم ربيعة في زُهْرة، وفيه يقول الشاعر:
قَلوص الظلامةِ مِن وَائلٍ ... تُرَدُّ إلى الحارثِ الأَضجَم
فَمَهْمَا يَشَأْ يأتِ منه السدَادُ ... ومَهما يَشَأ مِنْهُم يَهْضِم
ومنهم المُتلمّس، وهو جَرِير بنُ عبد المَسِيح الشاعر، صاحب طَرَفة بن العَبْد، الذي يقول فيه:
أودىَ الذي عَلِقَ الصَّحيفةَ منهما ... ونَجَاحِذَارَ حَمَامه المُتلمِّسُ
ومنهم: المُسيِّب بن عَلَس الشاعر، ومنهم: المُرَقِّش الأكبر والمُرَقِّش الأصغر، وكان المُرَقِّش الأكبر عَمَّ المَرَقِّش الأصغر، والمرَقِّش الأصغر عمّ طَرَفة ابن العَبد بن سُفيان بنِ سَعد بن مالك بن ضُبَيعة.
عَنزة بن أسد بن رَبيعة بن نِزَار - له وَلَدان: يَقْدُم ويَذْكُر، فمنهما تَفَرَّقت عنَزَة. فمِن يَذْكُر: بنو جِلّان بن عَتِيك بن أَسْلم بن يَذْكر، وبنو هِزّان بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يَذْكر، وبنو الدُّول بن صُبَاح بن عتيك ابن أسلم بن يَذْكر، وهم الذين أسرُوا حاتم طَيِّء، وكَعب بن مامة، والحارث ابن ظالم، وفي ذلك يقول الحارثُ بن ظالم:
أبْلِغ سَراة بني غَيْظٍ مُغَلْغَلَةً ... أنيِّ أُقَسِّم في هِزَّان أَرْباعاَ
ومنهم: كِدَام بن حَيّان، ومن بني هُمَيم، كان من خِيَار التابعين، وكان من خِيار أصحاب عليّ عبد الرحمن بن حسان من بني هميم، وكان من أصحاب عليّ عليه السلام: ولهما يقول عبد اللهّ بن خَليفة:
فيا أخَوَيَّ مِن هُمَيمِ هُدِيتُما ... ويسِّرْتُما للصالحات فأبِشرَا

ومن بني يَقْدُم بن عَنزَة: رشيد بن رميض الشاعر، وعِمْران بن عِصام الذي قَتله الحجّاج " بدَيْر الجمَاجم " .
عَبْد القَيْس بن دُعمِيّ بن جَدِيلة بن أسد بن رَبيعة - وُلد لعبد القيس أفْصى والّلبُؤ. ووُلد لأفْصيى عبدُ القَيْس وشَنّ ولُكَيْز.
الّلبُوء بن عبد القَيْس: منهم رِئَاب بن زَيد بن عَمرو بن جابر بن ضُبَيْب، كان ممن وَحّد الله في الجاهليّة، وسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم وَفْدَ عَبْد القَيس، وكان يسْقى قَبْر كلّ مَن مات مِن وَلده. وفي ذلك يقول الحُجَيْن ابن عبد الله:
ومنَّا الذي المَبْعوث يَعْرف نَسْلَه ... إذا ماتَ منهم مَيّتٌ جيد بالقَطْرِ
رِئاب وأنّي للبرّية كلّها ... بمثل رئاب حين يُخْطَر بالسُّمْر
لُكيْز بن عَبد القَيس - منهم: بنو نُكْرة بن لُكيز بن عَبْد القَيس، ومنهم: الممزّق الشاعر. وهو شَأس بن نَهار بن أسْرج الذي يقول:
فإنْ كنْتُ مَأكولاً فكُن خَيْرَ آكلٍ ... وإلا فأدْرِكْني ولمّا أُمَزِّقِ
وصُبَاح بن لُكَيز - منهم: كَعْب بن عامر بن مالك، كان ممن وَفَد على النبي عليه الصلاة والسلام.
وبنو غَنْم بن وَدِيعة بن لُكيز - منهم: حَكِيم بن جَبَلة، صاحب علي بن أبي طالب كَرّم اللهّ وَجْهَه. وفيه يقول:
دَعا حَكِيمٌ دَعْوَةً سَمِيعَه ... نالَ بها المَنْزِلة الرفيعَه
وبنو جَذِيمة بن عَوْف بن بكر بن أنمار بن وَدِيعة بن لُكيز - منهم: الجارود العَبْدِيّ، وهو بِشر بن عَمْرو.
وعَصَر بن عَوْف بن بَكْر بن عَوْف بن أنْمار بن وَدِيعة بن لُكيز. منهم: عمرو بن مَرْجُوم الذي يمدحه المُتلمِّس.
وبنو حُطَمة بن مُحارب بن عَمْرو بن " أنمار بن " وَدِيعة بن لُكيز، إليهم تُنْسب الدروع الحُطَمية.
وعامر بن الحارث بن عمرو بن أنمار بن وديعة بن لُكيز: منهم مِهْزم بن الفِزْر، الذي يقول فيه الحِرْ مازِيّ:
يَحْمِلن بالمَوْماة بَحراً يَجْري ... العامرَ بن المِهْزم بن الفِزْر
العُمُور من عَبْد قيس: الدِّيل وعِجْل ومُحارب، بنو عمرو بن وَديعة بن لُكيز. فمن بني الدِّيل: سُحْيم بن عبد الله بن الحارث، كان أحدَ السبعة الذين عَبروا الدّجلة مع سَعْد بن أبي وقاص. ومن بني مُحارب: عبد الله بن هَمام بن امرىء القيس بن رَبيعة، وَفد على النبي صلى الله عليه وسلم. ومن بني عِجْل: صَعْصَعة ابن صُوحان وزَيد بن صُوحان، من أصحاب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. فهذه عبدُ القَيس وبطونها وجماهيرها.

النمر بن قاسط
النَّمر بن قاسط بن هِنْب بن أَفْصى بن دعْميّ بن جَدِيلة بن أَسد بن رَبيعة ابن نِزَار: فمن ولد النَّمر بن قاسط: تَيْم الله وأوْس مَناة وعبدُ مَناة وقاسِط وَمنبِّه، بنو النَّمر بن قاسط.
أوس مَناة بن النمر - منهم: صهيَب بن سِنَان بن مالك، صاحب النبي عليه الصلاة والسلام: كان أصابه سِباء في الرُّوم، ثم وافَوا به المَوْسم فاشتراه عبدُ اللهّ بن جُدْعان فأعْتقه، وقد كان النًّعمان بن المنذر استعمل أباه سِنانا على الأبلّة. ومنهم: حُمْران بن أَبان، الذي يقال له مَوْلى عثمان بن عَفْان.
ومن تَيم الله بن النمر: الضِّحْيان، واسمه عامر بن سعد بن الخزرج بن تيم اللّه بن النمر... فتى بني شَيْبان. وإنما سُمى الضحْيان لأنه كان يَجْلس لهم وقت الضُّحى فَيَقْضي بينهم، وقد رَبع رَبيعة أربعين سنة، وأخوه عَوْف بن سَعْد، ومن ولده ابن القِرِّيةَ البَلِيغ، واسمه أيِّوب بن زيد، وكان خَرج مع ابن الأشْعث فقتله الحجّاج، ومنهم: ابن الكَيِّس النَّسابة، وهو عُبيد بن مالك بن شراحيل بن الكَيِّس. فهذا النّمر بن القَاسِط.
تغلب بن وائل
تغلب بن وائل بن قاسط بن هِنْب بن أَفصى بن دُعْمِيّ بن جديلة بن أَسَد بن رَبيعة بن نِزَار - فمن بطونِ تَغلب: الأراقم، وهم جُشَم وعَمْرو وثَعْلبة ومُعاوية والحارث، بنو بَكْر بن حَبِيب بن غَنْم بن تَغْلب، وإنما سُمُّوا الأراقم لأنّ عُيونهم كَعُيون الأراقم. ومن بطون تَغْلب: كلَيب وائل، الذي يقال فيه أعزُّ من كُلَيب وائل، وهو كلَيب بن رَبيعة بن الحارث بن زُهَير بن جُشم، وأخوه مُهَلْهِل بن رَبيعة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16