كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

الشَّعبي قال: دخل الحُسين بن عليّ يوماً على مُعاوية ومعه مَوْلى له يقال له ذَكْوان، وعند مُعاوية جماعةٌ من قُريش فيهم ابنُ الزُّبير، فَرَحّب مُعاوية بالحُسين وأجلسه على سَريره، وقال: ترى هذا القاعدَ - يعني ابنَ الزُّبير - فإنه ليدْركه الحسدُ لبني عبد مناف. فقال ابنُ الزُّبير لمعاوية: قد عَرفنا فضلَ الحسين وقَرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنْ إن شِئتَ أن أعْلمك فضلَ الزُّبير على أبيك أبي سُفيان فَعلتُ. فتكلّم ذكوانُ مولى الحُسين ابن عليّ، فقال: يا بن الزًّبير، إنّ مولاي ما يمنعه من الكلام أن لا يكون طَلْق اللِّسان، رابطَ الجَنان، فإن نَطق نَطق بعِلْم، وإن صَمَت صَمَت بحِلْم غيرَ أنه كَفَّ الكلام وسَبق إلى السِّنان، فأقرَّت بفَضْله الكرام، وأنا الذي أ قول:
فِيم الكلامُ لسابق في غايةٍ ... والناسُ بين مُقَصِّر ومُبلَدِ
إنّ الذي يجْرِي لِيُدْرِك شَأْوَه ... يُنمَى بغير مُسوَّد ومُسدَّد
بل كيف يُدْرَك نُورُ بدر ساطع ... خيرِ الأنام وفَرْع آل محمد
فقال مُعاوية: صَدَق قولُك يا ذَكْوان، أكْثر اللّه في موالي الكِرام مِثْلَك. فقال

ابنُ الزُّبير: إنّ أبا عبد اللهّ سَكَت، وتكلّم مولاه، ولو تكلّم لأجَبْناه، أو لكَفَفْنا عن جوابه إجلالاً له، ولا جوابَ لهذا العبد. قال ذَكْوان: هذا العبدُ خيرٌ. منك، قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم " مولَى القوم منهم " . فأنا مولَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنت ابنُ الزبير بن العوام بن خُويلد، فنحن أكرمُ ولاءً وأحسن فِعْلا. قال ابنُ الزًّبير: إني لستُ أجيب هذا، فهاتِ ما عندك يا معاوية. فقال مُعاوية: قاتلك اللّه يا بنَ الزًّبير! ما أعياك وأبغاك! أتفخر بين يدي أَمير المُؤمنين وأبي عبد الله! إنّك أنت المُتعدّي لِطَوْرك، الذي لا تَعرف قَدْرَك، فَقِسْ شِبْرك بفِتْرك، ثم تعرّف كيف تَقع بين عَرانِين بني عَبْد مَناف. أما والله لئن دُفِعْتَ في بُحور بني هاشم وبني عبد شمس لقطعَتْك باع مواجها، ثم لترمين بك في لُججها. فما بقاؤك في البحور إذا غَمرتك، وفي الأمواج إذا بَهَزَتْك هنالك تعرف نفسَك، وتَنْدم على ما كان من جُرأتك، وتَمنّى ما أصبحتَ فيه من أمان، وقد حِيل بين العَيْر والنَّزَوان. فأطرق ابن الزُّبير مليًّا! ثم رَفع رأسَه فالتفت إلى مَن حوله، ثم قال: أسألكم باللّه، أَتعلمون أنَّ أبي حواريُّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأن أباه أبا سُفيان حاربَ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وأن أمّي أَسماءُ بنت أبي بَكْر الصدَيق، وأمه هِنْد الأَكباد؛ وجَدّي الصّدّيق، وجدَه المَشْدوخ ببدر ورَأسُ الكُفر، وعَمَّتي خديجة ذات الخَطر والحَسب، وعَمَّته أمّ جَميل حمالةُ الحَطَب، وجدَّتِي صفيّة، وجدَّته حَمامة، وزَوْجَ عمتيِ خيرُ ولد آدم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وزوج عَمّته شرُّ ولد آدم أبو لهب سَيصلى نارًا ذات لهب، وخالتي عائشة أمّ المؤمنين. وخالَتَه أشقَى الأشقين، وأنا عبدُ اللهّ وهو مُعاوية. قال له مُعاوية: ويحك يا بن الزُّبير! كيف تَصف نفسك بما وصفتَها؟ واللّه مالَك في القَديم مِن رِياسة، ولا في الحَديث من سياسة، ولقد قُدْناك وسُدْناك قَديماً وحَديثاً، لا تَستطيع لذلك إنكاراً، ولا عنه فِراراً، وإنّ هؤلاء الخُصوم ليعلمون أن قريشاً قد اجتمعت يوم الفِجار على رياسة حَرْب بن أًمية، وأن أباك وأسرتك تحت رايته رَاضُون بإمارته، غير مُنْكرين لِفَضْله ولا طامعين في عَزله، إنْ أمَر أطاعوا، وإنْ قال أنصتوا؛ فلم تَزل فينا القيادةُ وعِزُّ الولاية حتى بَعث اللهّ عز وجلّ محمداً صلى الله عليه وسلم فأنتخبه من خير خلقه، من أسرتي لا من أسرتك، وبَني أبي لابني أبيك، فجحدته قريش أشدَ الجُحود، وأنكرته أشدَ الإنكار، وجاهدتْه أشدَّ الجهاد، إلّاَ مَن عَصم اللهّ من قُريش؛ فما ساد قريشاَ وقادهم إلا أبو سفيان ابن حرب، فكانت الفِئتان تَلتقي، ورَئيس الهُدى منّا ورئَيس الضّلالة منّا، فمَهديّكم تحت راية مَهديّنا، وضالكم تحت راية ضالّنا، فنحنُ الأربابُ وأنتم الأذناب، حتى خلّص اللهّ أبا سفيان بن حَرب بفَضْله من عَظيم شركه، وعَصمه بالإسلام من عبادة الأصنام، فكان في الجاهليّة عظيماً شأنُه، وفي الإسلام مَعروفا مكانُه، ولقد أعْطِي يومَ الفَتح ما لم يُعْطَ أحدٌ من آبائك، وإنّ مُنادِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نادَى: مَن دخل المَسجد فهو آمِن، ومن دخل دارَ أبي سُفيان فهو أمن؛ وكانت دارُه حَرَمًا، لا دارُك ولا دارُ أبيك؛ وأما هِنْد، فكانت امرأة من قريش، في الجاهليّة عظيمة الخطرِ، وفي الإسلام كريمة الخَبر؛ وأما جَدُك الصدِّيق، فَبِتَصديق عبد مناف سُمِّي صِدِّيقاَ لا بتَصْديق عبد العُزّي؛ وأما ما ذَكرتَ من جدِّي المَشْدوخ ببدر فَلَعمري لقد دعا إلى البِراز هو وأخوه وابنُه، فلو بَرزتَ إليه أنتَ وأبوك ما بارزوكم ولا رأوْكم لهم أكفاء، كما قد طَلب ذلك غيركم فلم يَقْبلوهم، حتى برز إليهم أكفاؤُهم من بني أبيهم، فَقَضىَ اللّه مَناياهِم بأيديهم، فنحن قَتلنا ونحن قُتلنا، وما أنت وذاك؟ وأما عَمِّتك أم المُؤمنين، فبنا شرُفت وسُمِّيت أمَّ المؤمنين، وخالتُك عائشة مِثْلُ ذلك، وأما صَفِيّة، فهي أدْنتك من الظلّ ولولاها لكُنتَ ضاحِياً؛ وأمّا ما ذكرت من عمّك وخال أبيك سيّد الشُّهداء، فكذلك كانوا رَحمهم اللّه، وفخرُهم وإرثًهم لي دونك، ولا فَخَر لك فيهم، ولا إرثَ بينك وبينهم؛ وأما قولُك أنا عبدُ الله وهو مُعاوية، فقد

علمتْ قُريش أينا أجودُ في الإزَم، وأمضى في القُدُم وأمنع للحُرم، لا والله ما أراك مُنْتهياً حتى تَرُوم من بني عبد مناف ما رَام أبوك، فقد طالبهم بالذُّحول، وقَدْم إليهم الخُيول، وخَدَعتم أم المؤمنين، ولم تراقبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مَددْتم على نساءكم السُّجوف، وأبرزتم زَوْجته للحُتوف، ومُقارعة السُيوف، فلما التقى الجمعان نكص أبوك هارباً، فلم يُنْجه ذلك أن طَحَنه أبو الحُسَين بكَلْكَله طَحْن الحَصِيد بأيدي العبيد، وأما أنت، فأفلتَّ بعد أن خَمَشتْك بَراثنُه ونالتك مخالبّه. وايم اللهّ، ليقومنك بنو عبد مَناف بثقافها أو لتصيحنّ منها صِيَاح أبيك بوادي السّباع، وما كان أبوك المرهوبَ جانبُه، ولكنه كما قال الشاعر:علمتْ قُريش أينا أجودُ في الإزَم، وأمضى في القُدُم وأمنع للحُرم، لا والله ما أراك مُنْتهياً حتى تَرُوم من بني عبد مناف ما رَام أبوك، فقد طالبهم بالذُّحول، وقَدْم إليهم الخُيول، وخَدَعتم أم المؤمنين، ولم تراقبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مَددْتم على نساءكم السُّجوف، وأبرزتم زَوْجته للحُتوف، ومُقارعة السُيوف، فلما التقى الجمعان نكص أبوك هارباً، فلم يُنْجه ذلك أن طَحَنه أبو الحُسَين بكَلْكَله طَحْن الحَصِيد بأيدي العبيد، وأما أنت، فأفلتَّ بعد أن خَمَشتْك بَراثنُه ونالتك مخالبّه. وايم اللهّ، ليقومنك بنو عبد مَناف بثقافها أو لتصيحنّ منها صِيَاح أبيك بوادي السّباع، وما كان أبوك المرهوبَ جانبُه، ولكنه كما قال الشاعر:
أكيلة سِرْحانٍ فَرِيسة ضَيْغم ... فَقَضقَضه بالكَفّ منه وحَطّمَا
نازع مَرْوانُ بن الحَكَم يوماً ابنٍ الزُّبير عند معاوية، فكان معاوية مع مروان، فقال ابن الزبير: يا معاوية: إنّ لك حقا وطاعة، وإنّ لك صِلَة وحُرْمة، فأطِعْ اللّه نُطِعْك، فإنّه لا طاعة لك علينا إنْ لم تُطِع اللهّ، ولا تُطْرِق إطْراق الأفْعوان في أصول السَّخْبر. وقال مًعاويةُ يوماً وعنده ابنُ الزُّبير، وذُكر له مروان فقال: إنْ يَطْلب هذا الأمرَ فقد يَطمع فيه مَن هو دُونه، وانْ يتركه يتركه لمن هو فَوقه، وما أراكم بمنتَهين حتى يَبْعَثَ اللهّ عليكم من لا تَعْطِفه قَرابة، ولا تردّه مَودة، يَسُومكم خَسْفا، ويُوردكم تلفا. قال ابنُ الزبير: إذاً واللّه نُطلق عِقال الحَرْب بكتائب تمور كرِجْل الجَراد، حافاتها الأسَل، لها دوي كدويّ الرِّيح، تَتْبع طرِيفا من قُريش، لم تكن أمّه براعية ثَلَّة قال مُعاوية: أنا ابنً هِنْد، أطلقتُ عِقَال الحرب، وأكلت ذِرْوة السنام، وشربتُ عُنفوان المَكْرع، وليس للآكل بعدي إلا الفِلْذة، ولا للشارب إلا الرنْق.

مجاوبة الحسن بن علي لمعاوية
وأصحابه

وفد الحسنُ بن عليّ على مُعاوية، فقال عمرو لمعاوية: يا أميرَ المؤمنين: إنّ الحسن لفَهٌّ، فلو حَمَلْتَه على المِنْبر فتكلَّم وسَمِع الناسُ كلامَه عابُوه وسَقط منِ عُيونهم، فَفَعل. فَصَعِد المِنبر وتكلَّم وأحسن، ثم قال: أيها الناس، لو طَلَبتم ابناً لنبيِّكم ما بين لابَتَيْها لم تجدوه غَيْري وغير أخي، وإنْ أدْرِي لعلّه فِتنة لكم ومَتاع إلى حين. فساء ذلك عَمْراً وأراد أن يَقْطع كلامَه، فقال له: أبا محمد، أتَصِف الرُّطب؟ فقال: أجل، تُلحقه الشَّمال، وتُخرجه الجَنوب. وتُنْضجه الشَّمس، ويَصْبغه القَمر. قال: أبا محمد، هل تَنْعت الخِراءة؟ قال: نعم، تُبعد المَشي في الأرض الصَّحْصح حتى تتَوارى من القَوم، ولا تَسْتقبل القِبْلة ولا تَستدبرها، ولا تَسْتنج بِالقُمامة والرِّمّة - يريد الرّوْث والعَظْم - ولا تَبُلْ في الماء الرّاكد. بينما مُعاوية بن أبي سُفيان جالسٌ في أصحابه إذ قيل له: الحسنُ بالباب؟ فقال معاوية: إنْ دخل أَفْسد علينا ما نحن فيه؛ فقال له مروان بن الحَكَم: ائذن لي، فإني أسأله ما ليس عنده فيه جَواب؛ قال مُعاوية: لا تَفعل، فإنهم قَوْم قد. ألْهِموا الكلامَ، وأذن له. فلما دَخل وجَلس، قال له مَرْوان: أَسرْع الشيبُ إلى شاربك يا حسن، ويُقال إن ذلك من الخُرْق، فقال الحسن: ليس كما بلغك، ولكنَّا - معشر بني هاشمٍ - أفواهُنا عَذْبةٌ شِفَاهُها، فنساؤنا يُقْبِلن علينا بأنفاسهنّ وقًبَلِهِن، وأنتم معشرَ بني أمية فيكم بَخَر شديد، فنساؤكم يَصرفن أفواههنّ وأنفاسهن عنكم إلى أصْداغكم، فإنما يَشِيب منكم موضعُ العِذَار من أجل ذلك. قال مَروان: إن فيكم يا بني هاشم خَصْلَةَ سَوء؟ قال: وما هي؟ قال: الغُلْمة؟ قال: أجل، نُزعت الغُلْمة مِن نسائنا ووُضعت في رجالنا، ونُزِعت الغُلْمة من رجالكم ووُضعت في نِسَائكم، فما قام؟ لأموية إلاّ هاشميّ. فَغضِب مُعاوية، وقال: قد كنتُ أَخبرتكم فأبيتم حتى سَمِعتم ما أَظلم عليكم بَيْتَكم، وأفسد عليكم مَجْلِسكم. فَخَرج الحسنُ وهو يقول:
ومارستُ هذا الدَهرَ خمسين حِجَّةً ... وحَمْساً أزَجِّي، قائلا بعد قائل
فلا أنا في الدُّنيا بلغتُ جَسِيمها ... ولا في الذي أهْوَى كدحتُ بطائل
وقد شَرَعت دوني المَنايا أكُفَّها ... وأيقنتُ أنّي رَهْنَ مَوْتٍ مُعاجل
قال الحسن بن عليّ لحبيب بن مَسْلمة الفِهْري: ربّ مَسير لك في غَير طاعة اللّه؛ قال: أمّا مَسيري إلى أبيك فلا، قال: بلى، ولكنّك أطعتَ مُعاوية عن دُنيا قليلة، فلئن كان قام بك في دُنياك لقد قَعد بك في آخرًتك، ولو كنتَ إذ فعلتَ شرّاً قُلتَ خيراً كنتَ كما قال الله عزّ وجل: خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخرً سَيِّئاً ولكنّك كما قال الله: " بَلْ رانَ على قلُوبهم ما كانوا يَكْسِبُون " . قَدِم عبدُ اللّه بن جعفر على عبد الملك بن مَروان، فقال له يحيى بنُ الحَكَم: ما فعلت خَبِيثة؛ فقال: سُبحان الله!ُ يسمِّيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طَيْبة وتُسمِّيها خُبيثة! لقد اختلفتما في الدُّنيا وستَخْتلفان في الآخرًة؛ قال يحيى: لأن أموت بالشام أحبُّ إليّ مِن أن أموت بها؛ قال: اخترت جِوار النَصارَى على جِوِار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يحيى: ما تَقول في عليّ وعُثمان؛ قال: أقول ما قاله مَن هو خيْرٌ منّي فيمن هو شَرٌّ منهما: إنّ تُعذَبهم فإنّهم عِبادُك وإنْ تَغْفِرْ لهم فإِنّك أنْتَ العزيزُ الحَكِيم.

مجاوبة بين معاوية وأصحابه

قال مُعاوية يوماً وعنده الضَّحاك بن قَيس وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص: ما أعجبُ الأشياء؟ قال الضحّاك بن قَيس: إكْداء العاقل وإجْداء الجاهل. وقالت سعيدُ بن العاص: أعجبُ الأشياء ما لم يُرَ مثلهُ. وقالت عمرو بن العاص: أعجب الأشياء غَلبة مَن لا حقَّ له ذا الحقِّ على حقِّه. فقال معاوية: أعجب مِن هذا أن تعْطِي مَن لاحقَّ له ما ليس له بحق من غير غَلبة. حضر قوم من قُريش مجلسَ مُعاويةَ، فيهم عمرو بن العاص وعبدُ اللّه بن صفْوان ابن أمية وعبدُ الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال عمرو: أحمد اللّه يا مَعْشرَ قُريش إذ جعل أمرَكم إلى من يُغْضي على القَذَى، ويتصامُ عن العَوْراء، ويجرّ ذيلَه على الخَدائع. قال عبدُ اللّه: لو لم يكن كذلك لَمَشينا إليه الضَرَاء، ودَببنا إليه الخَمر، وَرَجونا أن يقوم بأمرنا من لا يُطْعمك مالَ مصر. قال معاوية: يا معشرِ قريش، حتى متى لا تُنْصفون من أنفسكم؛ قال عبدُ الرحمن بن الحارث: إن عمراَ أفسدك علينا وأَفسدنا عليك، ولو أغضبتك هذه. قال: إن عمراً لي ناصح؛ قال عبدُ الرحمن: فأطْعمنا مثلَ ما أطعمته، وخُذْنا بمثل نَصِيحته؛ إنا رأيناك يا مُعاوية تَضْرب عوامَّ قُريش بأياديك في خَواصها، كأنّك ترى أن بكرامها قُوّتك دون لئامها، وإنك واللهّ لتُفْرغ في إناء فَعْم من إناء ضخم، وكأَنك بالحرب قد حَلَّ عِقالَها عليك مَن لا ينْظُرك قال مُعاوية: يا بن أخي، ما أحوج أهلَك إليك، فلا تَفْجعهم بنفسك، ثم أنشد:
أغَرّ رجالاً من قُريش تَتايَعوا ... على سَفه منّي الحَيا والتَّكرُّمُ
وقال مُعاوية لابن الزًّبير: تُنازعني هذا الأمرَ كأَنك أحقُّ به منّي! قال: لمَ لا أكون أحقَّ به منك يا مُعاوية، وقد اتبع أبي رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم على الإيمان، واتبع الَناسً أباك على الكُفر؛ قال له مُعاوية: غَلِطت يا بن الزُّبير، بعث اللّه ابنَ عمّي نبيّا، فدعا أباك فأجابه، فما أنت إلا تابع لي، ضالًّا كنتُ أو مَهديًّا. العُتبيّ قال: دعا مُعاويةُ مَروان بن الحكم، فقال له: أشِر عليّ في الحُسين؛ قال: تخرجه معك إلى الشام فَتَقطعه عن أهل العراق وتَقْطعهم عنه؛ قال: أردتَ واللهّ أن تستريح منه وتَبْتليني به، فإن صبرتُ عليه صبرتُ على ما أكره، وإن أسأتُ إليه كُنتُ قد قطعتُ رحمه. فأقامه، وبعث إلى سعيد ابن العاص، فقال له: يا أبا عثمان، أَشِرْ عليّ في الحُسين؟ قال: إنك واللهّ ما تخاف الحسين إلا على مَن بعدك، وإنك لتُخلِّف له قِرْنا إنْ صارعه لَيَصْرعنّه، هانْ سابقه لَيَسبقنّه، فَذَرِ الحُسين منبتَ النّخلة، يشربْ من الماء، ويَصْعد في الهواء، ولا يَبْلغ إلى السماء؛ قال: فما غَيّبك عنّي يوم صِفّين؟ قال: تَحملتُ الحُرم، وكُفيتَ الحَزْم، وكنتُ قريباً، لو دعوتَنا لأجبناك، ولو أمرت لأطعناك؛ قال معاوية: يأهل الشام، هؤلاء قومي وهذا كلامهم.

مجاوبة بين بني أمية

قال: لما أخرج أهلُ المدينة عمرو بن سعيد الأشدق، وكان واليهم بعد الوليد بن عُتبة هو الذي، أمر أهل المدينة بإخراجي، فأرْسِلْ إليه وتوثَّقه. فأرْسل إليه مُعاوية، فلما دَخل عليه، قال له عمرو: أوليد، أنت أمرتَ بإخراجي؟ قال: لا، ورَحِمك أبا أمية، ولا أمرتُ أهلَ الكوفة بإخراج أبيك، بل كيف أطاعني أهلُ المدينة فيك إلا أن تكون عَصيتَ اللهّ فيهم، إنك لتَحُلَّ عُرَى مُلك شَديدةً عُقْدتها، وتُمْري أخلاف فِيقة سريعة دِرّتها، وما جَعل اللهّ صالحاً مُصْلِحا كفاسد مًفْسِد. جلس يوماً عبدُ الملك بن مَروان وعند رأسه خالدُ بن عبد الله بن خالد بن، أسيد، وعند رجليه أُمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد، وأدخلت عليه الأموالُ التي جاءت من قبل الحجّاج حتى وًضعت بين يديه، فقال: هذا واللهّ التَّوفير وهذه الأمانة! لا ما فعل هذا، وأشار إلى خالد، استعملتُه على العراق فاستعمل كلّ مُلِطّ فاسق، فأدّوا إليه العَشرة واحداً، وأدّى إليَّ من العَشرة واحداً؛ وأدى إلي من العشرة واحداً، واستعملتُ هذا على خُراسان، وأشار إلى أمية، فأهدى إلى بِرْذونين حَطِمَينْ، فإن استعملتكم ضَيّعتم، وإن عزلتُكم قلتم استخفَّ بنا وقَطع أرْحامنا. فقال خالدُ بن عبد اللّه: استَعْملتَني على العرِاق وأهله رجلاًن: سماع مُطيع مُناصح، وعدوّ مُبْغض مُكاشح، فإنّا دَارَيْناه ضغْنه، وسَللنا حِقْده، وكَثّرنا لك المَودّة في صُدور رَعيتك؟ وإنّ هذا جَنى الأموالَ، وزَرع لك البَغْضاءَ في قُلوب الرِّجال، فيُوشك أنْ تَنْبُت البغضاء، فلا أموالَ ولا رجالَ. فلما خَرج ابنُ الأشعث قال عبدُ الملك: هذا واللّه ما قال خالد.
قدم محمد بن عمرو بن سعيد بن العاص الشامَ فأتى عَمَّته آمنة بنت سَعيد بن العاص، وكانتْ عند خالد بن يزيدَ بن مُعاوية، فدَخل عليه خالد، فراه، فقال له: ما يَقْدَم علينا أحدٌ من أهل الحجاز إلا اختار المُقام عندنا على المدينة. فَظَن محمدٌ أنه يُعرِّض به، فقال: وما يمنعهم وقد قَدِم من المدينة قومٌ على النَّواضح فَنَكحوا أمَّك، وسَلَبوك مُلْكك، وفَرَّغوك لطَلب الحديث، وقِرَاءة الكتب، ومُعالجة ما لا تَقْدر عليه، يعني الكيميا، وكان يَعْملها. لما عَزَل عُثمانُ عمرو بنَ العاص عن مِصْر وولاّها عبدَ اللهّ بن سَرْح، دخل عليه عمرو وعليه جُبة، فقال له: ما حَشْوُ جُبَّتك يا عمرو؛ قال: أنا؛ قال: قد علمتُ أنك فيها، ثم قال: أشَعرت يا عمرو أن اللِّقاح درَت بعدك ألبانُها بمصر؟ قال: لأنكم أعْجفتم أوْلادها. وقع بين ابن لعُمَر بن عبد العزيز وابن لسُليمان بن عبد الملك كلام، فَجَعل ابنُ عمر يذكر فضلِ أبيه؛ قال له ابنُ سليمان: إنْ شئت فأقْلِل وإنْ شِئْت فأكْثِر، ما كان أبوك إلا حسنةَ من حسنات أبي. لأنّ سُليمان هو وَلَّى عُمَر بن عبد العزيز. ذَكَرُوا أنّ العبّاس بن الوليد وجماعةً من بني مَرْوان كانوا عند هِشام، فذكروا الوليدَ بن يزيد فَحمَّقوه وعابُوه، وكان هِشام يُبغضه، ودخِل الوليدُ، فقال له العبّاس بن الوليد: كيف حُبُّك للرُّوميات؟ فإِن أباك كان مَشْغوفاَ بهن، قال: إني لأحبهن، وكيف لا يُحْبَبن وهُن يَلِدْن مِثْلَك؟ قال: اسكُت فلستَ بالفَحل يَأتي عَسْبُه بمثْلي؟ قال له هِشام: يا وليد، ما شرابك؟ قال: شرابك يا أميرَ المؤمنين، وقام فَخَرج. فقال هشام: هذا الذي تَزْعمون أنَه أحمق. وقُرِّب إلى الوليد بن يزيد فَرسُه، فَجَمع جَرَامِيزه وَوَثَب على سَرْجِه، ثم التفت إلى ولدٍ لهشام بن عبد الملك، فقال: يُحْسِنُ أبوك أن يَصنع مثلَ هذا؟ قال: لأبي مائةُ عبد يَصْنعون مثلَ هذا، فقال الناسُ: لم يُنْصِفه في الجواب. خَطَب عبد الملك بن مَرَوان بنتَ عبد الرحمن بن الحارث بن هِشام، فقالت: واللّه لا تُزَوَجني أبا الذُّباب. فتزوّجها يحيى بن الحكم. فقال عبدُ الملك ليحيى: أما واللهّ لقد تَزَوَّجْت أسْود أفوه، قال يحيى: أما إنَّها أبَّت منّي ما كرهتْ منك. كان عبدُ الملك رديءَ الفَم يَدْمى فَيقع عليه الذُباب، فسُمّي أبا الذُباب.

الجواب القاطع
نَظَر ثابتُ بن عبد اللّه بن الزبير إلى أهْل الشام، فقال: إنّي لأبغِض هذه الوُجوه؟ قال له سَعِيد بنُ عثمان: تُبغضهم لأنّهم قَتلوا أباك؟ قال: صدقتَ، ولكنّ

الأنصار والمهاجرين قَتلوا أباك. وقال الحجّاج لرجل من الخوارج: واللهّ إنك مِن قومٍ أبغِضهم؛ قال له: أدخل اللّهُ أشَدّنا بُغْضاً لصاحبه الجنَة. وقال ابنُ الباهليّ لعمرو بن مَعْد يكرب: إنّ مُهْرَكَ لمُقْرِف؛ قال: هَجين عَرَفَ هَجيناً مثلَه. وقال الحجّاج لامرأة من الخوارج: والله لأعُدَّنَّكم عدًّا ولاحْصُدَنّكم حَصْداً؛ قالت له: اللّه يَزْرع وأنت تَحْصُد، فأين قُدْرة المَخْلوق من الخالق؟ وأنيَ الحجّاج بامرأة من الخَوارج، فقال لأصحابه: ما تَقُولون فيها؟ قالوا: عاجِلْها القَتْلَ أيَها الأمير، قالت الخارجية: لقد كان وزراءُ صاحبِك خَيْرًا من وُزرائكَ يا حجّاج؛ قال لها: ومَن صاحبي؟ قالت: فِرْعون، استشارهم في موسى، فقالوا: أرجِه وأخاه. وأُتي زِيَاد برجل من الخوارج، فقال له: ما تقول فيَّ وفي أمير المؤمنين؟ قال: أمّا الذيَ تُسَمِّيه أميرَ المؤمنين فهو أميرُ المشركين؛ وأما أنت، فما أقول في رَجُل أوَّله لِزنْية وآخره لِدَعْوة؟ فأمَر به فقًتِل وصُلِب. قال الأشعث بن قَيْس لشرُيح القاضي: لَشَدَّ ما ارْتَفَعْت! قال: فهل رأيتَ ذلك ضرًك؟ قال: لا، قال: فأراكَ تَعْرِف نِعمة اللّه عليك وتَجْهلها على غيرك. نازع محمدُ بن الفَضْل بعضَ قَرابته فٍي مِيراث، فقال له: يا بن الزِّنْدِيق؛ قال له: إن كان أبي كما تقوله وأنا مثلًه، فلا يَحِلّ لك أن تُنازعني في هذا الميراث، إِذ كان لا يرث دِينٌ دِيناً.
وأتيَ الحجّاج بامرأة من الخوارج، فجعل يكلِّمها وهي لا تَنْظُر إليه، فقيل لها: الأميرُ يِكلَمكِ وأنت لا تَنْظُرين إليه! قالت: إني لأسْتَحي أن أنظر إلى من لا ينظُر الله إليه. فأمر بها فقُتِلت. لَقي عثمانُ بن عفان علي بن أبي طالب، فَعَاتبه في شيء بلغه عنه، فسكت عنه عليّ؟ فقال له عثمان: ما لك لا تقول؟ قال له علي: ليس لك عندي إلا ما تحب وليس جوابُك إلا ما تَكره. وتكلم الناسُ عند مُعاوية في يزيد ابنه، إذ أخذ له البيعة، وسَكت الأحنفً فقال له: ما لك لا تقول أبا بَحْر؟ قال: أخافُك إن صدقتُ، وأخافُ اللهّ إن كذبتُ. قال مُعاوية يوماً: أيها الناس إن اللّه فَضّل قُريشاً بثلاث، فقال لنبيه عليه الصلاةُ والسلام: وانْذِرْ عَشِيرتَك الأقربين فنحن عشيرته، وقال: وإنّه لِذِكْرٌ لَك ولِقَوْمك فنحن قومُه، وقال: لإيلافِ قُرَيشٍ إيلافهم إلى قوله الذي أطْعَمهم من جُوع أمنهم مِن خَوف ونحن قُريش. فأجابه رجل من الأنصار، فقال: على رِسْلك يا مُعاوية، فإن اللّه يقول: " وكَذّب به قَوْمُك " وأنتم قومُه، وقال: " ولما ضُرِب ابنُ مَرْيم مَثَلاً إذا قَوْمًك منه يَصِدُون " وأنتم قومُه، وقال الرسولُ عليه الصلاةُ والسلام: يا رَبِّ إنّ قوْمي اتّخذُوا هَذَا القُرآن مَهْجُورا، وأنتم قومُه، ثلاثةٌ بِثلاثة، ولو زِدْتنا لزدناك، فأفحمه.
وقال مًعاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهلَ قَومك حين مَلّكوا عليهم امرأة! فقال: أجْهلُ من قَومي قومُك الذين قالوا حين دعاهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم اللهَم إنْ كان هَذا هُو الحقّ مِن عِندك فأمْطِر عَلينا حِجَارةً مِن السَّماء أوْ ائتنا بِعَذَاب اليم، ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه.

مجاوبة الأمراء والرد عليهم
قال مُعاوية لجارية بن قُدَامة: ما كان أهْونَك على أهْلِك إذ سَمَّوْك جارية!

قال: ما كان أهونَك على أهلك إذ سَمِّوْك مُعاوية! وهي الأنثى من الكلاب، قال: لا أمَّ لك! قال: أمِّي وَلَدتْنِي للضيوف التي لَقِيناكَ بها في أيْدِينا؛ قال: إنك لتُهَدِّدني؛ قال: إنك لم تَفْتَتِحْنا قَسْراً، ولمِ تَمْلِكنا عَنْوةً، ولكنَّك أعْطَيتنا عَهْدًا وَمِيثاقاً، وأعطيناك سَمْعاً وطاعةً، فإن وَفَّيت لنا وفَّينا لك، وإن فَزِعْت إلى غير ذلك، فإنّا تَركنا وراءَنا رجالاً شِدَادًا، وأَلْسِنَةً حِدَادًا قال له مُعاوية: لا كَثّر اللّه في النَاس أمثالَك؛ قال جارية: قُلْ مَعْرُوفاً ورَاعِنا، فإنّ شَرَّ الدًّعاء المُحْتَطب. عَدَد مُعاوية بنُ أبي سُفيان على الأحنف ذُنوباً، فقال: يا أميرَ المؤمنين، لا تَرُدّ الأمورَ عَلَى أعقابها، أمَا واللّه إنّ القُلوبِ التِي أبغضناك بها لَبَيْن جَوانحنا، والسُّيوفَ التيِ قاتلناك بها لعلى عَواتقنا، ولئن مَدَدْت فِتْراً من غَدْر لَنُمدَنَ باعاً من خَتْر، ولئن شئت لَتَسْتَصْفِينًّ كَدَر قلوبنا بصَفو حِلْمك، قال: فإنّي أفعَل. قال مُعاويةُ لعديّ بن حاتم: ما فَعلتْ الطّرَفات يا أبا طَرِيف؟ - يعني أولادَه - قال: قُتلوا؟ قال: ما أنصفك ابنُ أبي طالب إذ قُتل بَنُوك معه وبَقي له بَنُوه؛ قال: لئن كان ذلك لقد قُتل هو وبَقيتُ أنا بعده؛ قال له معاوية: ألم تَزْعم أنه لا يُخْنق في قَتْل عثمان عَنْز؛ قد واللهّ خُنِق فيه التَيس الأكبر. ثم قال معاوية: أمَا إنه قد بقيتْ من دَمه قَطْرة ولا بد أن أتّبعها؛ قال عديّ: لا أبا لك! شِم السيفَ، فإنً سَلَّ السيفِ يَسُل السيفِ. فالتفت مُعاوية إلى حَبيب بن مسلمة، فقال: اجعلها في كتابك فإنها حِكْمة. الشَيْبانيّ عن أبي الحُبَاب الكِنْدِيّ عن أبيه: أن معاوية بن أبي سُفْيان بينما هو جالس وعنده وُجوه الناس إذ دَخل رجل من أهل الشام، فقام خَطيباً، فكان آخرَ كلامه أن لَعن عليًّا، فأطرق الناسُ وتكلّم الأحنف، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنّ هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أنّ رِضَاك في لَعْن المُرْسَلين للَعنهم، فاتَّقِ اللّه ودَعْ عنك عليًّا، فقد لَقي ربّه، وأفْرِد في قَبْره، وخلاَ بعمله، وكان واللّه - ما علمنا - المُبَرِّزَ بسَبْقه، الطاهرَ خُلقه، المَيْمونَ نقيبتُه، العظيمَ مُصيبتُه؛ فقال له مُعاويِة: يا أحنف، لقد أغضيتَ العينَ عَلَى القَذَى، وقلت بغير ما ترى، وايم اللّه لتَصْعدنَ المِنْبر فلَتَلعنَّه طَوْعَا أو كَرْهًا، فقال له الأحْنف: يا أميرَ المؤِمنين، إن تُعْفِني فهو خيرٌ لك، وإنْ تَجْبُرْني على ذلك فواللهّ لا تَجْري به شَفتاي أبداً؛ قال: قُمْ فاصْعَد المِنْبَر؛ قال الأحنف: أمَا واللهّ مع ذلك لأنْصِفَنَك في القَوْل والفِعْل، قال: وما أنت قائل يا أحنف إن أنصَفتني؛ قال: أصعدُ المِنبَر فاحمد اللّه بما هو أهلُه، وأصلِّى على نبيّه صلى الله عليه وسلم، ثم أقوله: أيها الناس، إنَّ أميرَ المؤمنين مُعاوية أمَرني أنْ ألعن عليًّا، هانَّ عليًّا ومُعاوية اختلفا فاقْتَتلا، وأدًى كلُّ واحد منهما أنه بّغِي عليه وعَلَى فئتِه، فإذا دعوتُ فأمِّنوا رَحمكم اللهّ، ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكَتُك وأنبياؤك وجميعُ خلقك الباغيَ منهما عَلَى صاحبه، وألعن الفئةَ الباغية، اللهم العنهم لعناً كثيراً، أمِّنوا رحمكم اللهّ؛ يا مُعاوية، لا أزيد على هذا ولا أنْقُص منه حَرْفاً ولو كان فيه ذَهابُ نفسي. فقال معاوية: إذن نُعْفِيك يا أبا بَحْر.

وقال مُعاوية لِعَقيل بن أبي طالب: إن عليا قد قَطعك ووصلتُك، ولا يُرْضِيني منك إلا أن تَلْعنه عَلَى المِنْبر؟ قال: أفْعل. فإصْعد فَصَعِد، ثم قال بعد أن حَمِد اللّه وأثنى عليه: أيها الناس، إن أميرَ المُؤمنين مُعاوية أمرنيِ أنْ ألْعن علي بن أبي طالب، فالعنوه، فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، ثم نزل. فقال له مُعاوية: إنك لم تُبين أبا يزيد مَن لعنتَ بيني وبينه؟ قال: والله لا زدتُ حَرفاً ولا نَقَصت آخر، والكلام إلى نية المُتكلَم. الهيثم بن عدي قال: قال مُعاوية لأبي الطُّفيل: كيف وَجْدُك على عليّ؟ قال: وَجدُ ثمانين مُثْكِلا؛ قال: فكيف حُبُّك له؟ قال: حًبّ أم موسى، وإلى اللّه أشْكو التَقْصير. وقال له مرة أخرِى: أبا الطفَيل؟ قال: نعم؟ قال: أنت من قَتلة عُثمان؟ قال: لا، ولكنّي ممن حَضره ولم يَنْصُره؟ قال وما مَنعك مِن نَصْره؟ قال: لم يَنْصُره المُهاجرن والأنصار فلم أنصُره؟ قال: لقد كان حَقُّه واجباً، وكان عليهم أن يَنْصروه؟ قال: فما منعك مِن نُصْرته يا أمير المؤمنين وأنت ابنُ عمّه؟ قال: أو مَا طلبي بدمه نصره له؟ فَضحك أبو الطفيل وقالَ: مَثَلك ومَثَلُ عثمان كما قال الشاعر:
لأعرقنّك بعد المَوْتِ تَنْدُبني ... وفي حَياتي ما زَوَّدْتني زادَا
العُتْبي قال: صَعِد معاويةُ المِنْبر فَوَجد مِن نفسه رِقة، فقال بعد أن حَمِد اللّه وأثنى عليه: أيها الناسُ: إنَ عُمَر ولأني أمراً مِن أمره، فوالله ما غَشَشْتُه ولا خُنْتُه، ثم ولّاني الأمر مَن بعده ولم يجعل بيني وبينه أحداً، فأحسنتُ والله وأسأتُ، وأصبتُ وأخطأت، فمن كان يَجْهلني فإني أعرفه بنفسي. فقام إليه سَلمة بن الخطل العَرجي، فقال: أنصفتَ يا مُعاوية، وما كُنتَ مُنْصفاً. قال: فَغضب مُعاوية، وقال: ما أنتَ وذاك يا أحْدب! واللّه لكأنّي انظر إلى بيتك بمهيعة، وبطُنْب تَيْس، وبطُنْب بهْمة. بفنائه أعنِز عَشرْ، يُحْتلبن في مثل قَوّارة حافر العِيْر، تَهْفو الرحُ منه بجانب، كأنه جناح نسْر. قال: رأيت والله ذاك، في شَرّ زماننا إلينا، واللّه إن حَشْوه يومئذ لحسب غير دَنِس، فهل رأيتني يا معاوية أكلتُ مالاً حراماً أو قتلتُ امرأ مًسلماً؟ قال: وأين كنتُ أراك وأنت لا تَدِبّ إلا في خَمرَ، وأي مُسلم يَعْجِز عنك فَتَقْتله؛ أم في مال تَقوى عليه فَتأكله؟ اجلس لا جلستَ؟ قال: بل اذهب حتى لا تَراني؛ قال: إلى أبعد الأرض لا إلى أقربها، فمضى. ثم قال مُعاوية: رُدّوه عليّ، فقال الناس: يعاقبه؛ فقال له أستغفر اللّه منك يا أحدب، واللهّ لقد بَرَرْتَ في قَرابتك، وأسلمتَ فَحَسُن إِسلامُك، وإنّ أباك لسيد قومه، ولا أبرح أقول بما تُحب، فاقْعُد.
الأوزاعيّ قال: دخل خُريم النَّاعم على مُعاوية فَنَظر إلى ساقَيْه، فقال: أيّ ساقين لو إنّهما على جارية! قال: في مثل عَجِيزتك يا أميرَ المُؤمنين: قال معاوية: واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم. دخل عَطاء المُضْحك على عبد الملك بن مَرْوان، فقال له: أما وجدتْ لك أمُك اسماً إلا عطاء؟ قال: لقد استكثرتً من ذلك ما استكثرتَه يا أميرَ المؤمنين، ألا سَمَتني باسم المُباركة، صلوات اللّه عليها، مَرْيم. قال مُعاوية لصُحار بن العبّاس العبديَ: يا أزرق؛ قال: البازي أزْرق؛ قال:

يا أحمر؛ قال: الذّهب أحمر، قال: ما هذه البلاغة فيكم عبدَ القَيس؟ قال: شيء يَخْتلج في صدُورنا فَتَقْذِفه ألسنتُنا كما يقذف البحر الزَبد، قال: فما البلاغة عندكم؟ قال: أن نقول فلا نُخْطِىء، ونُجيب فلا نُبْطىء. وقال عبدُ الله بن عامر بن كُريز لعبد الله بن حازم: يا بن عَجْلَى قال: ذاك اسمُها؛ قال: يا بن السَّوداء؛ قال: ذاك لونها، قال: يا بن الأمة؛ قال: كل أنثى أمة، فاقصد بذَرْعك لا يَرْجع سَهمُك عليك، إن الإماء قد وَلَدتك. دخل عبيدُ الله بن زياد بن، ظَبْيان على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما هذا الذي يقول الناس؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون إنك لا تُشبه أباك؟ قال: والله لأنا أشبهُ به من الماء بالماء، والغُراب، ولكن أدُلك على مَن لم يُشبه أباه؟ قال: مَن هو؟ قال: من لم تُنْضِجه الأرحام، ولم يُولد لتمام، ولم يُشْبِه الأخوال والأعمام؟ قاد: ومَن هو؟ قال: ابنُ عمي سُويد بن مَنجوف، وإنما أرادَ عبدَ الملك بن مروان، وذلك أنه وُلد لستة أشهر.
دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك فلم يَجد موضعاً يَقْعد فيه، فَعلم أن ذلك فُعِل به على عَمْد، فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله! قال: أو مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله؛ قال زيد إنه لا يَكْبُر أحدٌ فوق أن يوصىَ بتقوى الله، ولا يَصْغر دون أن يوصى بتقوى الله. قال له هشام: بلغني أنك تُحدِّث نفسَك بالخِلافة ولا تَصْلُح لها لأنك ابن أمة؛ قال زيد: أما قولك إِني أحدث نفسي بالخلافة، فلا يَعلم الغَيْب إلا اللّه؛ وأمّا قولُك إني ابن أمة، فهذا إسماعيلُ بن إبراهيم خليل الرحمن، ابنُ أمة، من صُلّبه خيرُ البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وإسحاق، ابن حُرّة، أخرج من صلْبه القِردةُ والخَنازير وعَبدة الطاغوت. قال له: قم، قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره، فلما خرج من عنده قال: ما أحب أحدٌ قط الحياة إلا ذلَ. قال له حاجبه: لا يَسمعِ هذا الكلام منك أحد. وقال زيدُ بن عليّ:
شرَّده الخَوْفُ وأزْرى به ... كذاك مَن يَكره حَرّ الجلاد
محتفي الرِّجْلين يشكو الوَجى ... تَقْرعه أطرافُ مَرْوٍ حِدَاد
قد كان في الموت له راحة ... والموتً حَتْم في رِقاب العِباد
ثم خرج بخراسان فقُتل وصّلب في كُناسة. وفيه يقوله سُدَيف بن مَيْمون في دولة بني العباس:
واذْكروا مَقْتل الحُسَين وزَيْداً ... وقَتيلاً بجانب المِهْراس
يُريده حمزَة بن عبد المطلب المَقْتول بأُحد.

دَخل رجل من قَيْس على عبد الملك بن مَرْوان فقال: زُبيريّ! واللّه لا يحبك قلبي أبداً؛ قال: يا أميرَ المُؤمنين، إنما يَجْزع من فَقْد الحُبّ النِّساء، ولكنْ عَدْلاً وإنْصافاً. وقال عمر بن الخطّاب لأبي مَريم الحنفيّ، قاتل زيد بن الخطّاب: واللّه لا يُحبك قلبي أبداً حتى تُحِبّ الأرضُ الدمَ؛ قال: يا أمير المؤمنين، فهل تَمْنعني لذلك حقّا؟ قال: لا؛ قال: فَحَسبي. دخل يزيدُ بن أبي مُسلم على سُليمان بن عبد الملك، فقال له: على امرىء أوْطأك رَسَنك وسَلَّطك على الأمة لعنةُ اللّه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتَني والأمرُ مُدبر عني، ولو رأيتَني والأمر مُقْبل علي لَعَظُم في عَيْنك ما استصغرت مني؟ قال: أتظن الحجّاج استقرّ في قَعْر جَهنم أم هو يَهْوِي فيها؟ قال: يا أمير المُؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فَضعْه من النار حيثُ شئت. وقاِل مروان بن الحكم لزُفر بن الحارث: بَلغني أن كِندة تَدَعيك؛ قال: لا خَيْرَ فيمن لا يُتَقى رهبةً ولا يدًعى رَغبة. قال مَرْوان بن الحكم للحسن بن دْلْجة: إني أظنك أحمق؟ قال: ما يكون الشَيخ إذا أعمل ظَنه؟ وقال مروان لحُويطب بن عبد العُزي: وكان كبيراً مُسنا. أيها الشيخ، تأخر إسلامك حتى سَبقك الأحداث؛ فقال: الله المُستعان، واللهّ لقد هممت بالإسلام غيرَ مَرّة كُلّ ذلك يَعُوقني عنه أبوك ويَنهاني ويقول: يَضع مِن قَدْرك، وتترك دين آبائك لدين مُحْدَث، وتَصير تابعا. فسكت مَرْوان. قال عبدُ الملك بن مروان لثابت بن عبد اللّه بن الزُّبير: أبوك كان أعلمَ بك حيثُ كان يَشْتُمك؛ قال: يا أمير المؤمنين، إنما كان يَشْتُمني لأنّي كنتُ أنهاه أن يُقاتل بأهْل المدينة وأهل مكة، فإن اللهّ لا يَنْصر بهما؛ أما أهلُ مكة فأخرجوا النبيً صلى الله عليه وسلم وأخافوه، ثم جاءوا إلى المدينة فآذَوْه، حتى سَيَّرهم، يعرِّض بالحَكم بن أبي العاصي طَريدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأما أهل المدينة فَخذلوا عُثمان حتى قُتل بين أظهرهم ولم يَدْفعوا عنه، قال له: عليك لعنةُ الله. جلس مُعاوية يُبايع الناسَ على البَراءة من عليّ، فقال له رجل من بني تميم: يا أميرَ المُؤمنين، نُطيع أحياءَكم ولا نَبْرأ من مَوْتاكم؛ فالتفت مُعاوية إلى زِياد فقال: هذا رجل فاستَوْصِ به. قال مُعاوية يوماً: يا معشر الأنصار، لمَ تَطْلبون ما عِندي، فوالله لقد كُنتم قليلاَ معي كثيراً مع عليّ، ولقد فَلَلتم حَدِّى يوم صِفَّين، حتى رأيتُ المَنايا تتلظى من أسنِّتكم، ولقد هَجَوْتُموني بأشدّ من وَخز الأسل، حتى إذا أقام اللهّ منَا ما حاولتم مَيْلَه، قُلتم ارْع فينا وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم هيهات! أبَى الحَقِين العِذْرة. فأجابه قيسُ بن سَعد، قال: أما قولُك جِئناك نَطْلب ما عندك، فبالإسلام الكافي به اللهُ لا بما تمتّ به إليك الأحزاب؛ وأما استقامهُ الأمر، فعلى كُره منّا كان؛ وأما فَلُنا حَدَّك يوم صِفِّين، فأمر لا نَعْتذر منه؛ وأما عَداوتُنا لك، فلو شئتَ - كَفَفْتَها عنك، وأما هِجاؤنا إيَّاك، فقول يَثْبُت حَقّه، ويَزُول باطلُه؛ وأما وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَمن يُؤمن به يَحْفظها من بعده، وأما قولك: أبى الْحَقِين العِذْرة، فليس دون الله يد تجزك منّا، فدُونك أمرَك يا مُعاوية، فإنما مثلًك كما قال الشاعر:
يا لكِ من قبرةٍ بمَعْمَر ... خَلا لك الجرُّ فبِيضى واصْفِرِى
وقال سُليمان بنُ عبد الملك ليزيد بن المُهلَب: فيمن العِزُ بالبَصرْة؟ قال: فينا وفي حُلفائنا من رَبيعة. قال سليمان: الذي تحالفتما عليه أعزّ منكما.

مَر عمر بن الخطاب بالصبيّان يَلْعبون وفيهم عبدُ اللّه بن الزبير، فَفروا، وَثَبت ابنُ الزُبير؟ قال له عمر: كيف لم تَفِر مع أصحابك؟ قال: لم أجْترم فأخافَك، ولم يكن بالطّريق من ضِيق فأوسِعَ لك. وقال عبد الله بن الزُبير لعديّ بن حاتم: متى فُقِئت عينُك؟ قال: يومَ قُتِل أبوك، وهَربتَ عن خالتك، وأنا للحق ناصرِ، وأنت له خاذِل. وكان فُقئت عينه يوم الجمل. وقال هارون الرشيد ليزيدَ بن مَزْيد: ما أكثرَ الخطباء في ربيعة؟ قال: نعم، ولكنّ مَنابرَهم الجُذُوع. كان المِسْوَر بن مَخْرمة جليلاً نبيلاً، وكان يقول في يزيدَ بن ُمعاوية: إنه يشرب الخمر. فبلغه ذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يَجلِدَه الحدّ، ففعل. فقال المِسْوَر في ذلك:
أيَشْرَبُها صِرْفاً يَفُض خِتَامها ... أبو خالدٍ ويجلَدُ الحدَّ مِسْورُ
قال المأمون ليحمى بن أكْثم القاضي: أخْبِرني مَن الذي يقول؟
قاضٍ يَرَى الحدَّ في الزَناء ولا ... يَرى على مَن يلوط مِن باس
قال: يقوله يا أميرَ المُؤمنين الذي يقول:
لا أحْسَب الجَوْر يَنْقَضى وعَلَى ال ... أمة والٍ مِن آل عَباس
قال: ومَن يقوله؟ قال: أحمد بن نُعيم، قال: يُنْفَى إلى السند، وإنما مَزَحنا معك.
قال سُليمان بن عبد الملك لِعَدي بن الرقاع: أنْشِدني قولك في الخمر:
كمَيت إذا شُجت وفي الكأس وَرْدَةٌ ... لها في عِظام الشاربين دَبِيبُ
تُريك القَذى من دُونها وهي دُونهلِوَجْه أخيها في الإنَاء قُطُوب فأنشده. فقال له سُليمان: شربتَها ورب الكعبة، قال عدي: والله يا أميرَ المؤمنين، لئن رابَك وَصْفي لها قد رابتني مَعْرِفتُك بها. فتضاحكا وأخذا في الحديث. الأصمعي قال: لما ولي بلالُ بن أبي بُرْدة البصرةَ بَلغ ذلك خالدَ بن صَفوان، فقال:
سَحابة صَيْفٍ عن قَلِيل تَقَشعُ
فَبَلغ ذلك بِلالاً فَدعا به، فال له: أنت القائل:
سَحَابةُ صَيْفٍ عن قَلِيل تَقَشعُ

أما والله لا تَقشّع حتى يصيبك منها شُؤْبوب بَرَد، فَضَربه مائةَ سوط. وكان خالد يأتي بلالاً في وِلايته، ويَغْشاه في سُلطانه، ويَغتابه إِذا غاب عنه، ويقول: ما في قَلب بِلال من الإيمان إلاّ ما في بَيْت أبي الزّرد الحَنفي من الجواهر. وأبو الزّرد رجل مُفْلس. دخل عُتبة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على خالد بن عبد الله القَسريّ بعد حِجاب شديد، وكان عُتبة رجلاً سخيا، فقال له خالد، يُعرّض به: إن هاهنا رجالاً يُداينون في أموالهم، فإِذا فَنِيت يُداينون في أعْراضهم. فَعلم القُرشيّ أنه يُعرِّض به، فقال: أصلِح اللّه الأمير، إنَّ رجالَاً تكون أموالُهم أكثرَ من مُرواتهم، فأولئك تَبْقى أموالهمِ، ورجالَا تكون مُرواتهم أكثرَ من أَموالهم، فإذا نَفدت دّانوا على سَعة ما عِند الله. فخَجِل خالد وقال: أما إنك منهم ما عَلِمْت. كان شَرِيك القاضي يُشاحن الربيعَ صاحبَ شُرْطة المهديّ، فحمل الربيعُ المهديَّ عليه، فدَخل شريك يوماً على المهديّ، فقال له المهديّ: بَلَغني أنك وُلدت في قَوْصرة؛ فقال: وُلدتُ يا أميرَ المُؤمنين بخراسان والقَواصر هناك عَزيزة؛ قال: إني لأراك فاطميّا خَبيثا؛ قال: واللّه إني لأحبِّ فاطمةَ وأبا فاطمة صلى الله عليه وسلم، قال: وأنا والله أحبهما، ولكني رأيتُك في مَنامي مَصروفا وَجهك عنّي، وما ذاك إلا لبُغضك لنا، وما أراني إلا قاتلك لأنك زِنْديق؟ قال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الدَماء لا تُسفك بالأحلام، ليس رُؤياك رُؤيا يوسفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأما قوْلُك بأني زِنْديق، فإن للزنادِقة علامةً وليس رؤياك رؤيا يوسف النبي صلى الله عليه وسلم وأما قولك بأني زنديق، فإن للزنادقة علامة يعرفون بها؟ قال: وما هي؟ قال: بشُرب الخمر والضّرب بالطنبور؛ قال: صدقت أبا عبد اللهّ، وأنت خير من الذي عحمَلني عليك. قال عمرُ بن الخطاب لعمرو بن العاص لما قَدِم عليه من مِصر: لقد سِرْتَ سِيرَة عاشِق، قال: واللّه ما تَأبطتني الإمَاء، ولا حَمَلتني البَغايا! في غُبَرات المآلي؛ قال عمر: والله ما هذا جوابُ كلامي الذي سألتُك عنه، وإنَ الدُجاجة لتَفْحص في الرماد فَتضع لغير الفَحْل، والبَيْضة منسوبة إلى طَرْقها، وقام عمر فدخل. فقال عمرو: لقد فَحُش علينا أميرُ المؤمنين. وتَزْعم الرُّواة أن قُتيبة بن مُسْلم لما افتتحِ سَمَرْقَند أفضى إلى أثاث لم يُرَ مِثْلُه، وإلى آلات لم يُسمع بمثلها، فأراد أن يُرِي الناس عظيمَ ما فَتح اللهُ عليهم، ويُعرِّفهم أقدارَ القوم الذين ظهروا عليهم، فأمر بدارٍ ففُرشت، وفي صَحْنها قُدور أَشْتات، تُرْتَقى بالسلالم. فإذا الحُضَين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرَّقاشي قد أقبل، والناسُ جلوس على مراتبهم، والحضين شَيْخ كبير، فلما رآه عبدُ اللّه ابن مُسْلم قال لقتيبة: إئذن لي في كلامه؛ فقال: لا تُرِدْه، فإنه خبيثُ الجواب فأبَى عبدُ اللّه إلا أن يأذن له - وكان عبدُ اللّه يُضعّف، وكان قد تسوّر حائطاً إلى امرأة قبلِ ذلك - فأقبل على الحُضين، فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، ضعُف عَمُّك عن تسوّر الحِيطان؛ قال: أرأيت هذه القُدور؟ قال: هي أعظم من أن لا ترى، قال: ما أحسُب بَكْر بن وائل رَأى مثلَها؟ قال: أجل، ولا عَيْلان، ولو كان رآها سُمِّي شَبعان ولم يُسمَّ عَيْلان، قال له عبدُ اللّه: أتعرف الذي يقوله:
عَزَلْنا وأمّرنا وبكرُ بنُ وائل ... تَجُرّ خُصَاها تَبْتغي مَنْ تُحالفُ
قال: أعرفه وأَعْرف الذي يقوِل:
وخَيبة من يخيب على غني ... وباهلة بن يَعْصر والرِّباب،
يُريدً: يا خَيبةَ مَن يخيب. قال له: أتعرف الذي يقول:
كأنّ فِقاح الأزْد حول ابن مِسْمَع ... إذا عَرِقت أفواه بَكْر بن وائل
قال: نعم. وأعرفً الذي يقول:
قوم قُتيبةُ أمُّهم وأبوهمُ ... لولا قُتيبةُ أصبحوا في مَجْهَل
قال: أما الشعر، فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرِآن شيئاً؟ قال: أقرأ منه الأكثر: هل على الإنسان حين مِنَ الدهر لم يَكُنْ مشيئاً مذكوراً قال: فأغضبه، فقال: واللّه لقد بلغني أن امرأة الحُضين حُملت إليه وهي حُبلى من غيره. قال: فما

تحرك الشيخُ عن هَيئته الأولى، ثم قال على هرسله: وما يكون! تلد غَلاماً على فراشي، فيقال: فلان بن الحُضين، كما يقال: عبدُ اللّه بن مُسلم. فأقبل قُتيبة على عبد اللّه، فقال: لا يُبعد اللهّ غيرك. والحُضين هذا هو الحضين ابن المُنذر الرقاشيّ، ورَقاش أمه، وهو من بنِى شيبان ابن بَكر بن وائل، وهو صاحب لواء عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه بصِفْين على رَبيعة كلها، وله يقول عليُّ بن أبي طالب:
لمَن رايةٌ سَوْداءُ يَحْفِق ظِلُّها ... إذا قيل قدمْها حُضَينُ تَقدّمَا
يُقدِّمها في الصَف حتى يزُيرها ... حِياضَ المنايا تَقْطِر السُّمَّ والدَّما
جَزى اللّه عني والجزاءُ بفَضْلِه ... ربيعةَ خيراً ما أَعف وأَكْرَما
وقال المُنذر بن الجارود العَبدي لعمرو بن العاص: أيّ رجل أنتَ لو لم تكُن أُمّك، ممن هي؟ قال: أحمد اللّه إليك، لقد فَكَرتُ فيها البارحةَ، فجعلتُ أنقِّلها في قبائل العَرب، فما خطرت لي عبدُ القيس ببال. قال خالدُ بن صَفوان لرجل من بني عبد الدار، وسَمعه يَفْخر بموْضعه من قُريش، فقال له خالد: لقد هَشمتك هاشم، وأَمتك أُمية، وخَزَمتك مَخْزوم، وجَمَحتك جُمح، وسَهَمتك سَهْم، فأنت ابنُ عبد دارها، تَفْتح الأبواب إذا أُغلقت، وتُغلقها إذا فُتحت.

جواب في هزل
كان للمغيرة بن عبد الله الثّقفيّ - وهو والي الكُوفة - جَدْيٌ يوضع على مائدته، فَحَضره أعرابي فمد يَده إلى الجَدْي؟ وجَعل يُسرع فيه، قال له المُغيرة: إنّك لتَأكله بحَرْد كأن أُمَّه نَطحَتْك، قال قال: وإنك لمُشْفِق عليه كأن أُمه أَرْضعتك. كان إبراهيمُ بن عبد اللّه بن مُطيع جالساً عند هِشام، إذ أَقبل عبدُ الرحمن بن عَنْبسة بن سَعيد بن العاص أحمرَ الجُبّة والمِطْرف والعِمامة، فقال إبراهيم: هذا ابنُ عَنْبسة قد أَقبل في زينة قارُون. قال: فَضَحِكَ هشام. قال له عبدُ الرحمن: ما أَضحكك يا أميرَ المُؤمنين؟ فأَخبره بقول إبراهيم. فقال له عبدُ الرحمن: لولا ما أَخاف من غَضبه عليك وفي وعلى المُسلمين لأجبته؟ قال: وما تخاف من غَضبه؟ قال: بلغني أن الدًجال يَخْرج من غَضْبة يَغْضَبها، وكان إبراهيم أَعْور. قال إبراهيمُ: لولا أن له عِندي يداً عظيمة لأجبتُه؛ قال: وما يده عندك؟ قال: ضرَبه غلامٌ له بُمدية فأصابه، فلمّا رأى الدم فزعَ، فَجَعل لا يَدْخل عليه مَمْلوك إلا قال له: أنت حّرّ، فدخلتُ عليه عائداً، فقلت له: كيف نجدك؟ قال لي: أنت حُر؛ قلت له: أنا إبراهيم؛ قال لي: أنت حُر. فَضحِك هشامٌ حتى اسْتَلْقَى. قال عبدُ الرحمن بن حسّانِ لِعَطاء بن أبي صَيْفي بن ثابت: لو أَصبتَ رَكْوةً مملوءةً خَمْراً بالبقيعِ ما كنت صانِعاً؟ قال: كنتُ أُعرفها بين التجار، فإن لم تكن لهم. فهي لك؟ لكن أخْبرني عن الفُريعة أكبرُ أم ثابت؟ وقد تزوّجها قبله أربعةٌ كُلُّهم يَلْقاها بمثل ذِراع البَكْر، ثم يُطلِّقها عن قِلى، فقيل لها: يا فُريعة، لم تُطلقين وأنت جميلة حُلوة؛ قالت: يُريدون الضَيق ضَيَّق اللّه عليهم. ولقي رجل من قريش، كان به وَضَح، حارثة بن بَدر، وكان مُغرماً بالشراب، فقال لها: أشعرت أنه بُعث نبيّ لهذه الأمة يُحلّ الخمر للناس؟ قال: إذاً لا نُصدِّق به حتى يُبرئ الأكمه والأبْرص. دخل الزِّبرقانُ بن بَدْر على زِياد، فسلّم تسليماً جافياً، فأدناه زياد فأجلسه معه، ثم قال له: يا أبا عيّاش، الناسُ يَضْحكون من جَفائك، قال ولمَ ضَحِكوا؛ فواللهّ إنْ منهم رجلٌ إلا وَدّ أني أبوه دون أبيه لِغية كان أو لِرشْدة. دخل الفرزدقُ على بلال بن أبي بُردة وعنده ناسٌ من اليمامة يَضْحكون، فقال: يا أبا فراس، أتدري مِمِّ يَضْحكون؟ قال: لا أدري؟ قال: من جَفائك؟ قال: أصلح اللهّ الأمير، حَججتُ فإذا رجلٌ على عاتقه الأيمن صَبِيٌ، وامرِأةٌ آخذةٌ بِمئزره، وهو يقول:
أنتَ وهبتَ زائداً ومَزيداً ... وكَهْلَةَ أُولج فيها الأجْرَدَا

وهي تقول: إذا شئتَ، فسألتُ؟ ممن الرجل؟ قيل: من الأشْعريين، فأنا أَجْفَى من ذلك الرجل؛ قال: لا حيّاك اللهّ، فقد علمتُ أنّا لا نُفلت منك. اجتمع رَجل كَوسج معِ رجل مُسْبِل، فقال المُسْبِل: والبَلد الطيب يَخرُج نَباتُه بإذن ربّه والذي خبُث لا يخْرُج إلا نَكِداً، قالت الكَوْسجُ: قل لَا يَسْتوي الخبيثُ والطيب ولو أَعجبك كثرْة الخبيث. مَرّ مَسلمة بن عبد الملك، وكان من أجمل الناس، بمُوَسْوس على مَزْبلة، فقال له المُوسوس: لو رآك أبوك آدم لقَرت عينُه بك؟ وقال له مَسْلمة: لو رآك أبوك آدم لأذهبت سَخنةُ عينه بك قَرّةَ عينه بي! وكان مَسلمة من أحضر الناس جواباً.
خرج إبراهيم النَّخعي وقام سُليمان الأعمش يمشي معه، فقال إبراهيم: إنّ الناس إذا رَأَوْنا قالوا: أَعْور وأَعمش! قال: وما عليك أن يَأْثموا ونؤْجَر؟ قال وما عليك أن يَسلموا ونَسلم. وقال شَدّاد الحارثيّ: لقيتُ أَسودَ بالبادية، فقلتُ: لمَن أنت يا أَسود؟ قال: لسيّد الحيّ يا أَصْلع؟ قلتُ: ما أَغضبَك مني الحق؟ قال لي: الحقُّ أَغْضبك؟ قلت: أَوَلستَ بأسود؟ قال: أولستَ بأَصلع؟ أدْخِل مالكُ بن أَسماء السجن - سِجْن الكوفة - فجلس إليه رجلٌ من بني مُرّة فاتكأ عليه المُري يُحدّثه، ثم قال: أَتَدري كم قَتلنا منكم في الجاهلية؟ قال: أما في الجاهلية فلا ولكن أعرف من قتلتم منّا في الإسلام قال: أنا، قد قَتَلتني بنَتن إبطيك. مَرت امرأة من بني نُمير على مَجلس لهم في يوم ريح، فقال رجلٌ منهم: إنها لَرَسْحاء. قالت: واللّه يا بني نُمير ما أَطعتم اللّه ولا أَطعتم الشاعر، قال اللّه تبارك وتعالى: " قُلْ للمؤْمِنين يَغُضوا من أَبْصارهم " وقال الشاعر:
فغُضّ الطّرْفَ إنَكَ من نُمير
قيل لشُريح: أيهما أطيب: الجَوْزنيق أم اللوْزنيق؛ قال: لستُ أَحكم على غائب. هشام بن القاسم قال: جَمعني والفَرزدقَ مجلس فتجاهلتُ عليه فقلتُ: مَن الكَهْل؟ قال: وما تَعرفني؟ قلت: لا؟ قال: أبو فِراس، قلتُ: ومَن أبو فِراس؟ قال: الفرزدق؟ قلت: ومَن الفرزدق؟ قال: وما تعرف الفرزدق؟ قلت: لا أعرف الفرزدق إلا شيئاً يفعله النساء عندنا يَتَشهَوْن به كهيئة السًويق؛ قال: الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم يَتَشهَّوْن بي. قال هشامُ بن عبد الملك للأبرش الكلبي؛ زوَجني امرأةً من كَلْب، فزوّجه، فقال له ذاتَ يوم: لقد وجدنا في نساء كلب سَعة؛ قال: يا أميرَ المؤمنين، نِساءُ كلب خُلقن لرجال كلب. وقال له يوماً، وهو يتغدى معه يا أبرش، إن أَكلك أكلُ مَعدي؟ قال: هيهات! تَأبى ذلك قُضاعة. عمُارة عن محمد بن أبي بكر البَصْري قال: لما مات جعفر بن محمد قال أبو حنيفة لشَيْطان الطاق: مات إمامُك، وذلك عند المهدي؛ فقال شيطانُ الطاق: لكنّ إمامك من المُنظرين إلى يوم الوقت المَعْلوم. فَضَحِك المهديّ من قوله، وأمر له بعشرة آلاف درهم. العُتبيّ قال: حدّثني أبي قال: لمّا افتُتح النُجَير، وهي مدينة باليمن، سمع رجلٌ منِ كِندة رجلاً وهو يقول؟ وَجدنا في نساء كِندة سَعة؟ فقال له: إن نِساءَ كِنْدة مَكاحلُ فقَدت مَراوِدها. لقي خالدُ بن صَفْوان الفرزدقَ، وكان كثيراً ما يُداعيه، وكان الفرزدق دَميماً، فقال له: يا أبا فِراس، ما أنت بالذي لما رَأينه أَكْبَرْنه وقَطّعن أيديهنِ؟ قال له: ولا أنت أبا صَفوان بالذي قالت فيه الفتاة لأبيها: يا أَبَت استأْجِرْه إنّ خير مَن استأجرتَ القويُ الأمين. باع رجل ضَيْعة من رجل، فلمّا انتقد المالَ قال للمُشتري: أمَا والله لقد أخذتَها كثيرة المَؤونة، قليلة المَعونة؛ قال له المُشتري: وأنت والله أَخذتَها بطيئةَ الإجتماع، سريعةَ الإفتراق. واشترى رجل من رجل داراً، فقال لصاحبها: لو صبرتَ لاشتريتُ منك الذِّراع بعشرة دنانير؛ قال له البائع: وأنت لو صبرتَ لاشتريتَ مني الذراع بِدِرْهم. وكان بالرَّقة رجل يُحَدَث بأخبار بني إسرائيل، فقال له الحجّاج بن حَنْتَمة: كيف كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ قال: حَنْتمة؛ فقال له رجل من ولد أبي مُوسى الأشعريّ: أين وجدتَ هذا؟ قال: في كتاب عَمرو بن العاص.

وقال رجل للشَّعبيّ: ما كان اسم امرِأة إبليس؟ قال: إن ذلك نَكاح ما شَهدناه. ودخل رجلٌ على الشَعبي فوجده قاعداَ مع امرأة، فقال: أيّكما الشَّعبيّ؟ قال الشعبي: هذه، وأشار إلى المرأة. كان مَعْن بن زائدة ظَنِيناً في دِينه، فبعث إلى ابن عيَّاش المنتوف بألف دينار، وكتب إليه: قد بعثتُ إليك بألف دينار، اشتريتُ بها منك دِينك، فاقْبِض المال وأكتُب إليَّ بالتّسليم. فكَتب إليه: قد قبضتُ المالَ وبِعْتُك به ديني خَلا التَّوحيد، لمَا عَلِمْتُ من زُهْدِك فيه. بَعث بلالُ بن أبي بُرْدة في ابن أبي عَلْقمة المَمْرور، فلمّا أُتي به قال: أتدري لما بعثتُ إليك؟ قال: لا أدري؟ قال: بعثتُ إليك لأضحك بك؟ قال: لئن فعلت لقد ضَحك، أحدُ الحَكَمين من صاحبه، يُعرض له بجدّه أبي مُوسى، فَغَضِب به بلالٌ وأمر به إلى الحَبس. فكلّمه الناسُ وقالوا: إن المجنون لا يُعاقب ولا يُحاسب، فأمر بإطلاقه وأن يُؤتى به إليه. فأُتي به في يوم سبت وفي كمّه طرائف أُتحِف بها قي الحَبس، فقال له بِلال: ما هذا الذي في كُمك؟ قال: من طَرائف الحَبْس؟ قال: ناولني منها؟ قال: هو يوم سَبْت ليس يُعطَى ولا يُؤخذ يُعرض بعمّة كانت له من اليَهود. دخل حَسّان بن ثابت على عائشة رضي الله عنها فأَنشدها:
حَصان رَزَانٌ ما تُزَنّ بريبةٍ ... وتُصْبِح غَرْثَى من لُحوم الغَوَافِل
قالت له: لكنّك لستَ كذلك، وكان حَسّان من الذين جاءوا بالإفك.

نظر رجل من الأزد إلى هلال بن الأحْوز حين قَدم من قَنْدابيل، وقد أَطافت به بنو تميم فقال: انظرُوا إليهم وقد أَطافوا به إطافة الحواريين بعيسى. فقال له محمد بن عبد الملك المازني: هذا ضِدّ عيسى، عيسى كان يُحيى المَوتى وذا يُميت الأحْياء. لما حُلقت لِحْيةٌ ربيعة بن أبي عبد الرحمن، كانت امرأة من المسجد تقف عليه كُلّ يوم في حَلْقته، وتقول: الله لك يا بن أبي عبد الرحمن! مَن حَلَق لِحْيتك؟ فلمّا أَبْرَمَتْه، قال لها: يا هذه، إنّ ذلك حَلَقها في جَزّة واحدة وأنت تَحْلقينها في كل يوم. خرج سعيدُ بنُ هِشام بن عبد الملك يوماً بِحِمْص في يوم مطر عليه طَيْلَسان وقد كاد يمسّ الأرض، فقال له رجلٌ وهو لا يعرفه: أَفسدتَ ثوبَك يا عبد الله؟ قال: وما يضرُّك؟ قال: وَدِدتُ أنك وهو في النّار؛ قال: وما يَنفعك؟ لما قِدم الحجّاجُ العِراقَ والياً عليها خَرج عُبيد الله بن ظَبْيان مُتوكِّئاً على مَوْلى له وقد ضَرَبه الفالِجُ، فقال: قَدِم العراقَ رجل على دِينيّ، فقال له حُضَين ابن المنذِر الرَّقاشيّ؛ فهو إذًا مُنافق؟ قالت عبيد اللّه: إنه يَقْتل المنافقين؟ قال له حُضَين: إذاً يَقْتلك. لما قَدِم عبدُ الملك بن مروان المدينةَ نَزل دارَ مَرْوان، فمرّ الحجّاج بخالد بنِ يزيد بن مُعاوية وهو جالسٌ في المسجد، وعلى الحجّاج سَيْف مُحلَّىً، وهو يخْطِر متبختراَ في المَسْجد، فقال له رجلٌ من قُريش: مَن هذا التَخْطَارة؟ فقال خالدُ بَخٍ بَخٍ! هذا عمرو بن العاص. فَسمعه الحجّاج فمال إليه، فقال: قلتَ: هذا عمرو بن العاص! والله ما سَرّني أنّ العاص وَلدني ولا ولدتُه، ولكنْ إن شِئتَ أخبرتُك مَن أنا، أنا ابن الأشياخ من ثَقِيف، والعقائل من قُريش، والذي ضَرب مائة ألفٍ بسيفه هذا، كُلّهم يَشْهد على أبيك بالكُفْر وشُرْب الخمر، حتى أَقروا أنه خليفة، ثم وَلِّى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص! قال رجلٌ من بني لهْب لِوَهْب بن مُنَبّه: ممّن الرجل؟ قال: رجل من اليمن؟ قال: فما فعلتْ أُمّكم بلقيس؟ قال: هاجرتْ مع سُليمان للّه ربّ العالمين، وأمّكم حَمّالة الحطب في جِيدها حَبْل من مَسَد. وقال رجل لابن شُبرمة: مِن عندنا خَرج العِلمُ إليكم؟ قال: نعم، ثم لم يَرْجع إليكم. نَظر يزيدُ بن منصور، خالُ المهديّ، إلى يزيد بن مَزْيد، وعليه رداءٌ يمان وهو يَسْحبه، فقال: ليس عليك غَزْله، فاسحب وجُرّ؛ قال له: على آبائك غَزْلُه، وعليّ سَحْبُه. فشكاه إلى المهديّ؟ فقال: لم تَجد أحداً تتعرّض له إلاّ يزيدَ بن مَزْيد! دخل أبو يَقْظان القَيْسيّ علي يزيدَ بن حاتم، وهو والي مِصْر وعنده هاشمُ ابن حُديج، فقال له يزيد: حَرِّكه، وعلى أبي اليَقْظان حُلّة وَشيْ وكِساء خَزّ، فقال هاشم: الحمدُ للّه أبا اليَقْظان، لَبِسْتم الوَشيْ بعد العَباء؛ قال: أجل، تحوكون ونَلْبس، فلا عَدِمْتم هذا مِنّا، ولا عَدِمْنا هذا منكم. كتب الفرزدقُ إلى عبد الجبّار بن سلْمى المُجاشعيّ يَسْتهديه جارية، وهو بعُمان، فكتب إليه:
كتبتَ إليّ تستهدي الجَوارِي ... لقد أَنْعَظْتَ مِن بلد بَعيدِ
وقال رجلٌ من العَرب: رأيتُ البارحهَّ الجنة قي مَنامي، فرأيتُ جَميع ما فيها من القُصور، فقلتُ: لمَن هذه؟ فَقِيل لي: للعرب؟ قال له رجلٌ من المَوِالي: صَعِدْت الغًرف؟ قال: لا؟ قال: تلك لنا. قال عبدُ الله ابن صَفْوان، وكان أُمّياَ، لعبد الله بن جَعفر بن أبي طالب: أبا جعفر، لقد صِرْتَ حُجَّةً لِفْتياننا علينا، إذا نَهيناهم عن المَلاهي قالوا: هذا ابنُ جَعْفر سيد بني هاشم يَحْضرُها ويتخذها؛ قال له: وأنت أبا صَفْوان صِرْت حُجة لِصبْياننا علينا، إذا لُمْنَاهم في تَرْك المَكْتب قالوا: هذا أبو صَفْوٍان سيد بني جُمح يقرأ آيةً ولا يخطها. قال مُعاوية لعبد اللّه بن عامر: إنّ ليإليك حاجة؟ قال: بحاجةٍ تقضيها يا أميرَ المؤمنين، فَسَلْ حاجتك؟ قال: أريد أن تهب لي دُورك وضِياعك بالطّائف؛ قال: قد فعلتُ، قال: وَصَلَتك رَحِم، فَسَلْ حاجتك، قال: حاجتي إليك أن تردِّها عليِّ يا أميرَ المُؤمنين؟ قال: قد فعلت. وقال رجل لثُمَامة بن أَشْرس: إنّ لي إليك حاجةَ، قال: وأنا لي إليك حاجة؟ قال: وما حاجُتك؟ قال: فَتقْضيها؟ قال: نعم، فلما تَوثق منه قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة.

جواب في فخر

سَعيد بن أبي عَرُوبة عن قَتادة مّال! تَفاخر عمرو بن سَعيد بن العاص وخالدُ بن يزيد بن مُعاوية عند عبد الملك بن مَرْوان، فقال عبدُ الملك لشيخ من موالي قُريش: اقِض بينهما: فقال الشيخُ: كانَ سعيد بن العاصي لا يَعتمّ - أحد في البلد الحرام بلون عِمامته، وكان حرب بن أُمية لا يبكى على أحد من بني أمية ما كان في البلد شاهداً، فلمّا مات سعيدٌ وحَرْب شاهد لم يُبْك عليه. قال الأبرش الكلبيّ لخالد بن صَفْوان: هَلُمّ أفاخرْك، وهما عند هشام بن عبد الملك، قال له خالد؛ قُل، فقال له الأبرش: لنا رُبع البيت - يُريد الرُكن اليَمانيّ - ومنّا حاتم طيىء، ومما المُهلّب بن أبي صفرة. فقال خالد بن صفوان: منّا النبيّ المُرسل، وفينا الكِتاب المنزل ولنا الخليفة المُؤمّل. قال الأبرش: لا فاخرتُ مُضريَّاً بعدك. ونزل بأبيِ العباس قوم من اليمن من أخواله من كَعب، ففخروا عنده بقَديمهم وحَديثهم، فقال أبو العباس لخالد بن صَفوان: أجب القوم؟ فقال: أخوال أمير المؤمنين؛ قال: لا بد أن تقول؛ قال: وما أقول، يا أميرَ المُؤمنين لقوم هم بين حائك بُرد، ودابغ جِلْد، وسائِس قِرْد، مَلَكتهم امرأة، ودَلّ عليهم هُدهد، وغَرَّقتهم فأره. فلم يَقُم بعدها ليمانيّ قائمة. قال عبدُ الملك بن الحجّاج: لم كان رجل من ذهب لكُنْتُه. قال له رجلٌ من قُريش: وكيف ذلك؟ قال: لم تَلِدْتي أمَهَ بيني وبين آدم ما خلا هاجَر؛ فقال له: لولا هاجَر لكُنْت كَلْباً من الكِلاب. دخل عمر بن عُبيد الله بن مَعْمر على عبد الملك بن مروان وعليِه حِبَرة صَدْأة عليها أثر الحمائل، فقالت له أمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد: يا أبا حَفْص، أي رجل أنت لو كنتَ من غير مَن أنت منه من قريش؛ قال: ما أحب أني من غير مَن أنا منه، إنّ منّا لسيد الناس في الجاهلية عبدَ اللّه بن جُدْعان، وسيّدَ الناس في الإسلام أبا بكر الصدّيق، وما كانت هذه يدي عندك، إني استنقذت أمهاتِ أولادك من عدوك أبي فُديك بالبحرين، وهُنّ حَبالى، فولدن في حجابك.
قال عبدُ الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة، لمُعاوية: أما واللّه لو كُنَّا بمكة على السواء، لعلمتَ! قال مُعاوية: إذاً كنتُ أكون مُعاوية بن أبي سفيان، مَنْزلي الأبْطح، يَنشقّ عنِّي سَيْلُه، وكنتَ عبدَ الرحمن بن خالد، منزلُك أَجياد، أعْلاه مَدَرَة، وأسفله عَذِرة. تنازع الزبير بن العوام وعُثمان بن عفّان في بعض الأمر، فقال الزبير: أنا ابن صَفِية؛ قال عُثمان: هي أدْنَتك من الظَلّ، ولولا ذاك لكُنت ضاحياً. قال أحمد بن يوسف الكاتب لمحمد بن الفَضل: يا هذا، إنّك تَتطاول بهاشم كأنك جمعتها، وهي تَعتدّ في أكثر من خمسة آلاف؛ قال له محمد بن الفضل: إنَّ كثْرة عددها ليس يُخرج من عنقك فَضْل واحدها. فَخر مولى لزياد بزياد عند مُعاوية. قال له فعاوية: اسكت، فواللّه ما أدْرك صاحُبك شيئاً بسيفه إلا أدركتُ أكثرَ منه بلساني. وقال رجل من مَخْزوم للأحوص محمد، بن عبد اللّه الأنصاري: أتعرف الذي يقول:
ذَهبتْ قُريش بالمَكارم كُلِّها ... والذُّلُّ تحت عمائم الأنْصَارِ؟
قال: لا، ولكنّي أعرفُ الذي يقول:
الناسُ كَنَوْه أبا حَكَمٍ ... واللّه كَنَّاه أبا جَهْل
أبقتْ رياستُه لأسْرته ... لؤْمَ الفُرُوع ورِقَة الأصل

سأل رجلٌ من قُريش رجلاً من بني قَيس بن ثعلبة: ممن أنت؟ قال: من ربيعة؛ قال له القُرشسيّ: لا أثر لكم ببَطحاء مكة؛ قال القَيْسي: آثارُها. في أكناف الْجَزيرة مَشْهورة، مَواقفنا في ذي قار مَعْروفة، فأما مكّة فسواء العاكفُ فيها والبادي، كما قال اللّه تبارك و، تعالى، فأفحمه. قال الأشعث بن قيس لشرُيح القاضي: شَد ما ارتفعتَ! قال: فهل ضرَك؟ قال: لا؟ قال: فأراك تَعرف نعمةَ الله على غيرك، وتَجلهلها على نَفْسِك. قال سليمانُ بن عبد الملك ليزيد بن المُهَلَّب: فيمن العِزُّ بالبَصرة؛ قال: فينا، وفي أحلافنا من رَبيعة؛ قال له سليمان بن عبد الملك: الذي تحالفتما عليه أعز منكما. قَدِم أعرابيّ البصرَة فَدخلَ المسجدَ الجامعِ، وعليه خًلْقان وعمامة قد كَوَّرِها على رأسه، فَرَمى بطَرفه يمنةً ويسرةً، فلم يرَ فتية أحسنَ وُجوهاً ولا أظْهر زيّاً من فتْية حَضروا حَلْقة عُتْبة المَخزوميّ، فدنا منهم وفي الحَلْقة فُرْجة فطبقها، فقال له عُتبة: ممن أنت يا أعرابيّ؟ قال: من مَذحج، قال: مِن زَيْدها الأكْرمين، أو من مُرادها الأطْيبين؛ قال: لستُ من زيدها ولا من مُرادها؟ قال: فمن أنت؟ قال: فإني من حُماةِ أعراضها، وزَهْرة رياضها بني زُبيد. قال: فأفحم عُتْبة حتى وَضع قَلَنسُوته عن رأسه، وكان أصْلع، فقال له الأعرابي: فأنت يا أصلع، ممن أنت؟ قال: أنا رجل من قريش؛ قال: فمن بيت نُبوَتها، أو من بيت مَمْلكتها؛ قال: إِني من رَيحْانتها بنِي مَحزوم، قال: واللّه لو تَدْري لم سُمِّيت بنو مَخزوم ريحانَة قريش، ما فخرت بها أبداً، إنما سميت ريحانة قُريش لِخَور رجالها، ولين نسائها، قال عتبة: واللّه لا نازعتُ أعرابياً بعدك أبداً. وَضع فَيْروز بن، حُصَين يدَه على رأس نُميلة بن مالك بن أبي عُكابة عند زياد، فقال: مَن هذا العبد؟ قال: أنت العبد، ضَربناك فما انتصرت، ومَننا عليك فما شَكرْت. اجتمعت بَكر بن وائل إلى مالك بن مِسْمَع لأمر أراده مالك، فأرسل إلى بَكر بن وائل وأرسل إلى عُبيد اللّه بن زياد بن، ظَبيان، فأتى عُبيد اللّه، فقال: يا أبا مِسْمع، ما مَنعك أن تُرسل إلي؟ قال: يا أبا مَطر، ما في كنانتِي سَهْم أنا أوْثق به منِّي بك. قال: وإنّي لفى كِنانتك! أمَا واللّه لئن كنتُ فيها قائماً لأطولنَها، ولئن كنتُ فيها قاعداً لأَخْرِقَنها. نازع مالكُ بن مِسْمعِ شَقيق بن ثَوْر، فقال له مالكٌ! إنما شَرّفَك قَبْر بِتُسْتَر؛ قال شقيقِ: لكن وَضعك قبْرٌ بالمُشَقَّر. وذلك أنَّ مِسْمعاً أبا مالك جاء إلى قوم بالمُشَقّر، فنبحه كَلْبهُم، فَقَتله، فقتلوه به، فكان يقال له: قتيل الكلاب. وأراد مالك قَبر مَجْزأة بن ثَوْر، أخي شفيق، وكان استُشهد بتُسْتر مع أبي مُوسى الأشعريّ. قال قُتيبة بن مُسلم لهُبيرة بن مَسْروح: أي رجل أنت لو كانت أحوالك من غير سَلوٍل! فبادل بهم، قال: أصْلح اللّه الأمير، بادِل! بهم مَن شئت وجَنِّبني باهلة. وكان قتيبة من باهلة.

جواب ابن أبي دواد
قال أحمدُ بن أبي دُواد لمحمدِ بن عبد الملك، الزيات عند الواثق: أضوي أي أسكت - يا لنّبطية - فقال له: لماذا واللّه؟ ما أنا بِنَبطيّ ولا بِدَعِيّ؟ قال له: ليس فوقك أحد يَفْضُلك، ولا دونك أحد تَنْزل إليه، فأنت مُطّرح في الحالتين جميعاً. ودخل أحمد بن أبي دُواد على أشْناس، فقال له: بلغني أنك أفسدت هذا الرجل، يعني، محمد بن عبد الملك، وهو لنا صديق، فأحب أنْ لا تأتينا؛ قال له ابن أبي دُواد: أنت رجل صَنَعَتْك هذه الدولة، فإنْ أتيناك فلها، هان تَركناك فلنفسك. قال أحمدُ بن أبي دواد: دخلتُ على الواثق، فقال: ما زال قومٌ اليومَ في ثَلْبك ونَقْصك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، لكل امرئ منهم ما اكتسب مات الإثم، والذي تولّى كِبْره منهم له عذاب عظيم، فاللّه وليّ جزائه، وعِقابُ أمير المؤمنين مِن ورائه، وما ضاع امرؤ أنت حائطُه، ولا ذَلّ مَن كنت ناصرَه، فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: أبا عبد اللّه:
وسَعى إلى بعَيْب عَزّةَ نِسوة ... جَعل المليكُ خُدودَهن نِعالهَا

وقال أبو العيناء الهاشمي: قلت لابن أبي دُواد: إنَّ قوماً تَضافروا عليَّ؛ قال: يَدُ اللّه فَوق أَيْدِيهم. قلتُ: إنهم جماعة؛ قال: كم مِن فِئةًٍ قليلةًٍ غَلبَتْ فئِةً كثيرةً بإذن اللّه واللّه مع الصابرين. قلت: إنَّ لهم مكراً؛ قال: ولا يَحيقُ المَكْر السيَّء بأهله. قال أبو العيناء: فحدّثت به أحمدَ بن يوسف الكاتب، فقال: ما يُرى ابنُ أبي دواد إلا أنّ القرآن إنما أنزل عليه.

جواب في تفحش
خَطب خالدُ بن عبد اللّه القَسريّ، فقال: يأهل البادية، ما أخشنَ بلدَكم! وأغلظَ معاشَكم! وأجفى أخلاقَكم! لا تشهدون جمعة، ولا تُجالِسون عالماً فقام إليه رجال منهم دَميم، فقال: أمّا ما ذكرت من خُشونة بلدنا، وغِلَظ طَعامنا، وجَفاء أخلاقنا، فهو كذلك؛ ولكنّكم معشرَ أهل الحَضر فيكم ثلاث خِصال هي شرٌّ مِن كل ما ذكرت، قال له خالد: وما هي؟ قال: تَنْقُبون الدُّور، وتَنْبِشون القُبور، وتَنْكحون الذُّكور؛ قال: قَبَّحك اللّه وقَبَّح ما جِئت به. أبو الحسن قال: أتى موسى بن مُصعب منزل امرأة مَدنيّة لها قَيْنة تَعْرِضها، فإذا امرأة جميلة لها هَيْئة، فَنظر إلى رجل دَميم يجيء ويَذهب ويأمر ويَنهى في الدار، فقال: مَن هذا الرجل؟ قالت: هَو زَوجي؟ قال: إنا للّه وإنا إليه راجعون! أمَا وجدتِ مِن الرجال غيرَ هذا وبكِ مِن الجمال ما أرى؟ قالت: واللّه يا أبا عبد اللّه لو استدبرك بمثل ما يَستقبلني به لَعَظُم في عينك. أبو الحسنِ قال: قالت عاتكة بِنت المُلاءة لِرائض دوابّ زَوْجها في طريق مكة: ما وجدتُ عملاً شَرّاً من عملك، إنما كَسْبُك باستك! فقال لها: جُعلت فداك، ما بين ما أكتسب به، وما تَكْتسبين به أنت إلا إصبعان؛ قالت: ويلي عليك! خذوا الخبيث. فَطَلبه حَشمُها، ففاتهم رَكْضاً. أبو الحسن قال: قال رجل من الأزد في مَجلس يُونس النحويّ: وَدِدْت واللّه أنّ بَني تَميم جميعاً في جَوْفي، على أنْ يُضربَ وَسطي بالسَّيفِ. قال له شَيخ في ناحِية المَجلِس حِرْمازي من بني تميم: يا هذا، يَكْفيك من ذاك كَمَرة حِماريّة يملأ بها أستك إلى لهَاتك.

وسأل أعرِابيّ شيخاً من بني مَروان وحولَه قومٌ جلوس، فقال: أصابَتْنا سنةٌ ولي بضعَ عشرةَ بِنْتاَ؟ فقال الشيخُ: أما السّنة، فوددتُ واللّه أنّ بينكم وبين السماء صفيحةً من حديد؛ وأما البنات، فليتَ اللّه أضعفهن لك أضعافاً كثيرة، وجَعلك مَقْطوع اليدين والرِّجلين ليس لهن كاسب غيرُك. قال: فنظَر الأعرابي مليًّا، ثم قال: ما أدري ما أقول لك! ولكني أراك قبيح المنظر، لئيم المَخْبر، فأعضك اللّه ببُظور أمهات هؤلاء الجلوس حولك. وسأل أعرابي شيخاً من الطائف وشَكا إليه سنةً أصابته؛ فقال: وددتُ واللّه أنّ الأرض حصّاء ولا تُنبت شيئاً، قال: ذلك أيْبس لجَعَر أمك في آستها. قال عبيدُ اللّه بن زياد بنِ، ظَبيان لزُرْعة بن ضَمْرة الضِّمْريّ: إني لو أدركتُك يوم الأهواز، لقطعتُ منك طابَقاَ شَحيماً؛ قال: ألا أدُلك على طابق شَحِيم، هو أولى بالقطع؛ قال: بلى، قال: البَظْر الذي بين استيْ أمك. قال عبدُ اللّه بن الزُّبير لعَدِيّ بن حاتم: متى فُقِئت عينك؟ قال: يومَ طعنتُك في آستك وأنت مُولٍّ. وقال الفرزدق: ما عَييتُ بجواب أحد قط ما عَييتُ بجواب امرأة، وصبيّ، ونَبَطيّ؟ فأمّا المَرأة، فإني ذهبتُ ببغلتي أسْقيها في النّهر، فإذا معشر نِسْوة، فلما هَمزت البغلة حَبَقَت، فاستضحك النسوة، فقلتُ لهن: ما أضحككن؟ فوِالله ما حَملتني أنثى إلا فعلتْ مثلَها؟ فقالت امرأة منهن: فكيف كان ضُراط أمك قُفيرة؛ فقد حَملتْك في بَطنها تسعةَ أشهر، فما وجدتُ لها جواباً؛ وأما الصبيّ فإنّي كنت أنشد بجامع البَصْرة، وفي حَلْقتي الكميتُ ابن زَيد، وهو صَبيّ، فأعْجَبني حًسن استماعه، فقلتُ له: كيف سمعتَ يا بُني؟ قال لي: حَسن؛ قلتُ: أفيسرّك أنّي أبوك؟ قال: أما أبي فلا أُريد به بَديلًا، ولكنْ وَدِدْتُ أن تكون أميّ؟ قلتُ: اْسترها عليّ يا بن أخي، فما لقيتُ مثلَها؟ وأمّا النبطيّ، فإني لَقيتُ نَبطيِّاً بيَثْرب فقال لي: أنت الفَرزدق؟ لمحلتُ: نعم؟ قال: أنت الذي يخَاف الناس لسانَك؟ قلتُ: نعم، قال: فأنت الذي إذا هجوتني يموت فَرس هذا؟ قلتُ: لا، قال: فَيموت وَلدي؟ قلتُ: لا؟ قال: فأموت أنا؛ قلت: لا؟ قال: فأدْخلني اللّه في حِرام الفرزدق مِن رِجْلي إلى عنقي؛ قلت: ويلك! ولم تركتَ رأسك؟ قال: حتى أرَى ما تَصنع الزّانية. ولقي جَرير الفرزدقَ بالكوفة، فقال: أبا فراس، تَحتمل عنّي مسألة؟ قال: أحتملها بمسألة؟ قال: نعم، قال: فَسَل عمَّا بدا لك؟ قال: أيّ شيء أحبّ إليك: يتقدّمك الخيرُ أو تَتقدّمه؟ قال: لا يتقدّمني ولا أتقدمه، ولكنْ أكون معه في قَرَن؟ قال: هات مسألتك؟ قال له الفرزدق: أيّ شيء أحب إليك إذا دخلتَ على امرأتك: أن تجديدها على أَيْر رجل أو تجد يَد رجل على حِرِها؟ قال: قاتلك اللّه! ما أقبَح كلامَك! وأرذلَ لسانك! أبو الحسن قال: مرٍ الفرزدق يوماً بمسجد الأحامرة وفيه جماعةٌ فيهم أبو المًزرّد الحنفي، فقال له الفرزدق. يا أخا بني حَنيفة، ما شيءٌ لم يكن له أسنان ولا تكون، ولو كان لم يَستقم؟ قال: لا أَدْري، قال: يا أبا المزرد، إنه سَفيه، فإنْ لم تَغضب أخبرتُك؟ قال: قُلْ فإني لا أغضب؟ فقال: حِرِ أمّك، لم تكن له أسْنان ولا تكون، ولو كان لم يَسْتقم. أبو الحَسن قال: لقي الفَرَزدَق عمرو بن عَفْراء فعاتَبه في شيء بَلغه عنه، فقال له ابنُ عَفْراء وهو بالمِرْبد: ما شيء أحبَّ إليّ مِن أن آتي كلَّ شي تَكْرهه؟ قال له الفرزدقُ: باللّه إنّك لأتي كلّ شيء أكرهه؟ قال: نعم؟ قال فإني أكْره أن تَأتي أمّك فَأتها. ضاف رجلٌ قبيح الوجه دَنيّ الحَسب أبا عبد اللّه الجمّار، فجعل يَفْخر ببيته؟ فقال له الجماز: اسكت، فقَبَاحة وجهك، ودُنُوّ حسبك يمنعاننا مِن سَبّك؛ فأبى إلا التَّمادي في اللّجاج، فقال له الجمّاز:
لو كُنْتَ ذا عِرْض هَجَوْناكا ... أو حسن الوجه لنكناكا
جمعتَ مَرْ قُبْحك لؤْماً فلل ... قُبح أو اللّؤم تَرَكنْاكا

كتاب الواسطة في الخطب

قال أبو عمر، أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه: قد مضى قولُنا في الأجْوبة وتَباين النّاس فيها على قدر عُقولهم ومَبلغ فِطَنهم، وحضُورِ أذهانهم بم ونحن قائلون بعَون اللّه وتَوْفيقه في الخُطب التي يُتخيّر لها الكلامُ، وتفَاخرت بها العربُ في مَشاهدهم، ونَطقت بها الأئمة على مَنابرهم، وشُهرت بها في، وقامت بها على رُؤوس خُلفائهم، وتَباهت بها في أعيادهم ومَساجدهم، ووصلَتْها بِصَلَواتهم، وخوطب بها العوام، واستُجزلت لها الألفاظ، وتُخيِّرت لها المعاني: أعلم أنّ جميع الخُطب على ضَرْبين: منها الطِّوال، ومنها القِصَار؛ ولكُلِّ ذلك مَوْضع يَليق به، ومكانٌ يَحسُن فيه. فأول ما نَبدأ به من ذلك خُطبُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم السَّلف المُتقدمين، ثم الجلّة من التابعين، والجلّة من الخُلفاء الماضين، والفُصحاء المتكلّمين، على ما سَقط إلَينا، ووَقع عليه اختيارُنا؛ ثم نذكر بعضَ خُطب الخَوارج، لجزالة أَلفاظهم، وبَلاغة مَنْطقهم، كخُطْبة قطريّ بن الفُجاءة في ذَمّ الدنيا، فإنها مَعْدومة النَّظير، مُنْقطعة القَرين، وخُطبة أبي حَمْزة التي سمعها مالكً بن أنس، فقال: خَطَبنا أبو حَمْزة بالمدينة خُطبة شَكّك فيها المُستبصر، ورَدّ بها المُرتاب؟ ثم نَسمح بصَدر من خُطب البادية وقَوْل الأعراب خاصَّة، لمعرفتهم بداء الكَلام ودَوائه، ومَوارده ومصادره.
قال عبدُ الملك بن مَرْوان لخالد بن سَلِمة القُرَشيّ المَخْزومي مَن أخطبُ الناس؟ قال: أنا؟ قال: ثم مَن؟ قال: أنا؟ قال: ثم مَن؟ قال: شيخ جُذام - يَعني رَوْح بن زِنْباع - قال؟ ثم مَن؟ قال: أُخيفش ثقيف - يعني الحجاج - ؛ قال: ثم مَن؟ قال: أميرُ المؤمنين.
وقال مُعاوية لما خَطب الناسُ عنده فأَكثروا: واللّه لأرْمينكم بالخَطيب المِصْقع، قُمْ يا زِياد. وقال محمدٌ كاتب المَهديّ - وكان شاعراً راوية، وطالباً للنحو عَلَّامة - ، قال: سمعتُ أبا دُواد يقول: وجَرى شيء من ذِكر الخًطب وتَحْبير الكلام، فقال: تَلْخيص المَعاني رِفْق، والاستعانة بالغَريب عَجْز، والتّشادق في غَيْر أهل البادية نَقْص، والنَّظر في عُيون الناس عِيّ، ومَسْح اللِّحية هُلْك، والخُروج عَمّا بُني عليه الكلامُ إسهاب. قال: وسمعتُه يقول: رأْسُ الخطابة الطبع، وعَمودها الدُّرْبة، وحَلْيها الإعراب، وبَهاؤها تَخُيّر اللفظ، والمحبّة مَقْرونة بقلّة الاستكراه. وأَنشدني بيتاً له في خُطباء إياد:
يَرْمُون بالخُطَب الطِّوال وتارةً ... وَحْيَ المَلاَحظ خِيفةَ الرُّقباء
أَنشدني في عِيّ الخَطِيب واستعانته بمَسْح العثْنون وفَتْل الأصَابع:
مَلِيءٌ ببُهْر والتفات وسُعْلة ... ومَسْحةِ عُثْنون وفَتْل الأصابع

مَرّ بِشرْ بن المُعتمر بإبراهيم بن جِبلة بن مَخْرمة السَّكوني الخَطيب، وهو يعَلِّم فِتْيانهم الخَطابة، فوقف بِشرٌ يستمع، فظنّ إبراهيم أنه إنما وَقف ليَسْتفيد، أو يكون رجلاً من النظّارة. فقال بشر: اضربوا عمّا قال صفْحاً، واطووا عنه كَشْحاً، ثم دفع إليهم صَحيفة من تَنْميقه وتَحْبيره، فيها: خُذْ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإنّ قليل تلك الساعة أكرمُ جوهراً، وأشرفُ حَسباً، وأحسن في الأسماع، وأَحْلى في الصُّدور، وأسلم من فاحش الخَطأ، وأجلبُ لكُلّ عين وغُرّة، من لفظ شريف، ومَعنى بديع، واعلم أنّ ذلك أَجدى عليك مما يُعطِيك يومُك الأطْول بالكدّ والمُطاولة، والمُجاهدة بالتّكليف والمُعاودة، ومهما أَخطأك لم يُخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، وخَفيفاً على اللسان سَهْلاً، كما خَرج من يَنبوعه، ونَجم من مَعدنه؛ وإياك والتوعّرَ، فإن التوعّر يُسلمك إلى التَّعقيد، والتّعقيد هو الذي يَسْتهلك مَعانيك، ويَشين ألفاظَك. ومَن أراد معنًى كريماً فَلْيَلْتمس له لفظاً كريماً، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف؛ ومن حقهما أن تَصونهما عما يُفسدهما ويهجِّنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالاًَ منك قبل أن تَلتمس إظهارهما، وتَرتهن نفسك بمُلابستهما وقضاء حقهما. وكن في ثلاث منازل: وإن أَوْلَى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عَذْباً، وفخَماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، إمّا عند الخاصة، إن كنت للخاصة قصدت، وإمّا عند العامة، إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من مَعاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من مَعاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المَنفعة مع مُوافقة الحال، وما يَجب لكل مَقام من المقال، وكذلك اللفظ العاميّ والخاصيّ، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولُطف مَداخلك، واقتدارك على نفسك، على أن تُفْهم العامة معاني الخاصة، وتَكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تَلطف عن الدهماء، ولا تَجفو عن الأكفاء، فأنت البليغُ التام. فقال له إبراهيم بن جبلة: جُعلت فداك، أنا أحوجُ إلى تعلّمي هذا الكلام من هؤلاء الغِلْمة.

خطبة رسول الله في حجة الوداع
صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

إن الحمد للهّ نَحمده ونَستغفره ونَتوب إليه؛ ونعوذ بالله من شرُور أنفسنا، ومن سَيئات أعمالنا، مَن يَهْد اللّه فلا مُضِلِّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له وأَشهد أن لا إله اللّه وحدَه لا شريك له، وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه. أُوصيكم عبادَ اللهّ بَتْقوى اللّه، وٍ أَحثُّكم على طاعته، وأَسْتَفْتح بالذي هو خير. أما بعد، أيّها الناس، اسمعوا منّي أبيّنَ لكم، فإني لا أدري لعليّ لا أَلْقاكم بعد عامي هذا في مَوْقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالَكم عليكم حَرام إلى أن تَلقوا ربَّكم، كحُرمة يومكم هذا في شَهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بَلّغت، اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فَلْيُؤَدها إلى الذي ائتمنه عليها، وإن رِبَا الجاهلية مَوْضوع، وإن أوّل ربا أبدأ به ربا عمّي العبّاس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهليَّة مَوْضوعة، وإن أول دَم أبدأ به دَم عامر بن رَبيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسّقاية. والعَمْدُ قَوَد، وشبْه العمد ما قُتل بالعصا والحجر، ففيه مائة بعير، فمَن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس، إنّ الشيطان قد يَئسْ أن يُعبد في أرْضكم هذه ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تُحَقِّرون من أعمالكم. أيها الناس، إنّما النّسيء زيادة في الكُفر، يُضَل به الذين كَفروا، يُحلّونه عاماً ويُحَرمونه عاماً، ليُواطئوا عدّة ما حَرّم اللّه، وإنالزمان قد استدار كهيئته يوم خَلق اللّه السموات والأرض، وإن عدّةَ الشهور عند اللهّ اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق، السموات والأرض، منها أربعة حُرم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادي وشعبان، ألَا هل بلّغت، اللهم أشهد. أيها الناس، إنّ لنسائكم عليكم حقَاً، وإنّ لكم عليهن حقّاَ، لكم عليهن أن لا يُوطِئن فَرْشَكم غيركم، ولا يُدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن اللّه قد أذن لكم أن تَعْضُلوهن وتَهْجروهن في المَضاجع وتضربوهن ضرباً غير مُبرِّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رِزقُهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عَوَار لا يملكن لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأَمانة اللّه، واستحلَلتُم فُروجهن بكلمة اللّه، فاتقوا اللّه في النساء واستوصوا بهن خيراً. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة فلا يحل لامرئ مالُ أخيه إلاّ عن طِيب نفسه، ألا هل بلّغت، اللهم أشهد. فلا تَرْجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تَضلّوا: كتابَ اللّه، ألا هل بلَّغت، اللهم أشهد. أيها الناس: إنّ ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلُكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمُكم عند اللّه أتقاكم، ليس لعربيّ على عجميّ فَضل إلّا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم؟ قال: فَلْيبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس، إن اللّه قد قَسم لكل وارث نصيَبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية ولا تجوز وصية، في أكثر من الثّلث، والولدُ للفراش وللعاهر الحَجر، من ادَعى إلى غير أبيه، أو تولّى غَير مواليه، فعليه لعنةُ اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صَرْفاً ولا عدلاً. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

وخطب أبو بكر يوم السقيفة
أراد عُمر الكلام، فقال له أبو بكر؟ على رِسْلك، ثم حَمد اللّه وأَثنى عليه، ثم قال؟ أيها الناس، نحن المُهاجرون أوّلُ الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطّهم داراً، وأحسنُهم وجوهاً، وأكثر الناس وِلادةً في العرب، وأمسّهم رَحِماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمنا قبلكم، وقُدِّمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى: والسّابِقون الأوّلون من المُهاجِرين والأنصار والذينَ أتبعوهم بإحْسان. فنحنُ المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدًين، وشركاؤنا في الفَيْء، وأنصارُنا على العدوّ، آويتم وآسيتم، فجزاكم اللهّ خيراً، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تَدِين العرب إلّا لهذا الحيّ من قُرَيش، فلا تنْفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم اللهّ من فضله.
وخطب أيضا
ً

حمد اللّه وأَثنى عليه، قال: أيها الناس، إني قد وُلِّيتُ عليكم، ولستُ بخيركم، فإن رأيتُموني على حق فأَعينوني، وإن رأيتُموني على باطل فسدِّدوني. أَطيعوني ما أطعتُ اللّه فيكم، فإذا عصيتُه لا طاعة لي عليكم. ألاَ إن أقواكم عندي الضَّعيفُ حتى آخذَ الحقَّ له، وأَضعفَكم عندي القوي حتى آخذَ الحق منه. أقول قولي هذا وأَستغفر اللّه لي ولكم.

وخطب أخرى
فلمّا حمد اللّه بما هو أهله، وصلّى على نبيه عليه الصلاةُ والسلام، قال: إنّ أشقَى الناس في الدنيا والآخرًة الملوكُ. فرفع الناسُ رؤوسهم، فقال: ما لكم أيها الناسُ، إنكم لطَعانون عَجِلون. إن من الملوك مَن إذا مَلك زهده الله فِيما بيده، ورغّبه فيما بيد غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلَبه الإشفاقَ، فهو يَحسد على القليل، ويتَسخّط الكثير، ويَسأم الرّخاء، وتَنقطع عنده لذّة البقاء، لا يستعمل العِبْرة، ولا يسكُن إلى الثقة، فهو كالدرهم القَسيّ، والسَّراب الخادع، جَذِل الظاهر، حزين الباطن؟ فإذا وَجبت نفسُه، ونَضب عمره، وضحا ظلُّه، حاسبه اللهّ فأَشدّ حسابَه، وأقل عَفْوه. ألا إن الفقراء هم المَرحومون، وخيرَ الملوك مَن أمن باللّه وحَكم بكتابه وسُنَّة نبيِّه، صلى الله عليه وسلم وإنكم اليوم على خِلافة نبوة ومَفْرِق محجَّة، وسترون بعديِ مُلْكاً عَضُوضاً، ومَلِكاً عَنُودا، وأُمة شَعاعاً، ودَماً مُفاجاً، فإن كانت للباطل نزْوَة، ولأهل الحق جَوْلة، يعفو بها الأثر، ويَموت لها الخبر، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن، واعتصموِا بالطاعة. وليكن الإبرام بعد التَشاور، والصَّفقة بعد طوله التناظر. أفي بلاد خرْشَنة؛ إنّ الله سَيْفتح لكم أقصاها، كما فتح عليكم أدناها.
وخطب أيضاً فقال
الحمد للّه أحمده وأستعينه، وأَستغفره وأومن به وأَتوكّل عليه، وأَسْتهدي اللهّ بالهُدى، وأَعوذ به من الضّلال والرّدى، ومن الشك والعَمى. مَن يَهْدِ اللّه فهو المُهتدي ومن يُضلّل فلن تَجد له وليَّاً مُرْشداً. وأَشهد أن لا إله إلا اللّه وحدَه لا شريكَ له، له المُلك وله الحَمْد يُحيي وُيميت، وهو حَيٌ لا يَموت، يُعزّ مَن يشاء، ويُذِل مَن يشاء، بيده الخَير وهو عَلَى كلّ شيء قدير. وأَشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، أَرسله بالهُدى ودين الحق ليُظهره عَلَى الدين كلّه ولو كَرِه المشركون، إلى الناس كَافة رحمةً لهم وحُجة عليهم، والناسُ حينئذ عَلَى شَرّ حال، في ظُلمات الجاهليّة، دينّهم بِدْعة، ودَعْوتهم فِرْية. فأعزِّ اللّه الدينَ بمحمد صلى الله عليه وسلم وألفَ بين قلوبكم أيها المًؤمنون فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حُفْرة من النار فأَنقذكم منها، كذلك يُبيّن اللّه لكم آياته لعلكم تَهتدون. فأَطيعوا اللهّ ورسوله، فإنه قال عزّ وجلّ: مَن يُطِع الرَّسولَ فقد أطاع الله ومَن تَوَلى فما أَرسلناكَ عليهم حَفيظاً. أمّا بعد، أيها الناس، إني أوصيكم بتقوى اللّه العظيم في كل أَمر وعَلَى كلِ حال، ولُزوم الحق فيما أَحببتم وكَرِهتم، فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير. مَن يَكْذب يَفْجر، ومَن يَفْجر يَهْلِك. وإيّاكم والفَخْرَ، وما فَخْرُ مَن خُلق من تراب وإلى التراب يَعود، هو اليوم حيّ غداً مَيّت. فاعمَلوا وعُدُّوا أنفسَكمِ في الموتى، وما أَشكل عليكم فردّوا عِلْمه إلى اللّه، وقَدِّموا لأنفسكم خيراً تَجدوه مًحْضراً، فإنه قال عَزٌ وجلّ: يَوْمَ تَجد كلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحضَراً ومَا عَملت مِن سُوء تَوَدُّ لو أَنَّ بينها وبينه أَمَداً بَعيداَ ويُحذِّرَكم اللّه نفسَه والله رءُوف بالعِبَاد. فاتّقوا اللّه عبادَ اللّه، وراقبوه واعتبروا بمَن مَضى قبلكم، واعلموا إنه لا بُدّ من لقاء ربّكم والجزاء بأعمالكم صَغيرها وكَبيرها، إلا ما غَفر اللّه أنه غَفور رحيم، فأَنْفًسَكم أَنفسكم والمُستعانُ الله، ولا حَولَ ولا قوّة إلّا باللّه. إنً اللّه وملائكته يصلّون على النبيّ، يأيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلِّموا تَسْليَماَ. اللَّهم صَلِّ على محمدٍ عَبْدِك ورسولك أفضلَ ما صلَيت على أحدٍ من خلْقك، وزَكِّنا بالصلاة عليه، وأَلحقنا به، وأحشُرنا في زمْرته، وأَوْرِدْنا حوضَه. اللًهم أَعِنَّا عَلَى طاعتك، وانصُرنا عَلَى عدوّك
خطبة أخرى رضي الله عنه

حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أَوصِيكم بتقوى اللّه، وان تُثْنُوا عليه بما هو أهلُه، وأن تَخْلِطوا الرَّغبة بالرَّهبة، وتَجمعوا الإلحافَ بالمَسألة، فإنَّ اللّه أَثنىِ عَلَى زكريّا وعَلَى أهل بيته، فقال: أنّهم كانوا يُسَارِعُون في الخَيْرَاتِ ويَدْعُوننا رَغَباَ وكانوا لنا خاشِعين. ثم اعلَموا عبادَ اللّه أن اللهّ قد ارتهن بحقه أنفسَكم، وأَخذ عَلَى ذلك مواثيقَكم، وعَوَّضكم بالقليل الفاني الكثيرَ الباقي، وهذا كتابُ اللّه فيكم لا تَفْنى عجائبُه، ولا يُطْفأ نورُه. فثِقوا بقوله، وانتصحوا كتابَه، واستبصروا به ليوم الظلمة، فإنه خَلقكم لعبادته، ووَكَل بكم الكرامَ الكاتبين، يَعلمون ما تفَعلون. ثم اعلموا عبادَ اللّه أنكم تَغْدون وتَرُوحون في أجل قد غُيِّب عنكم عِلْمُه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجالُ وأنتم في عَمل اللّه، ولن تَستطيعوا ذلك إلا باللّه، فسابقوا في مَهل بأعمالكم قبل أن تنقضي آجالكم فتردّكم إلى سُوء أعمالكم، فإنَّ أَقواماً جعلوِا أجالَهم لغيرهم، فأَنهاكم أن تكونوا أمثالَهم. فالوَحَى الوَحَى، والنجاء النجاء، فإن وراءكم طالباً حَثيثاً مَرُّه، سريعاً سَيْرُه.

خطب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
قال بعد أن حَمِد اللّه وأثنى عليه: أيها الناس، تعلَّموا القرآن واعملوا به تكونوا من أهله، إنه لم يبلغ حقّ مخْلوق أن يُطاع في معْصية الخالق. إلا وإني أنزلت نَفْسي من مال اللّه بمنزلة وإلَي اليتيم: إن استَغنيت عفَفْت، وإن افتَقَرْت أكلْتُ بالمعروف، تَقَرمَ البَهمة الأعرابية: القَضْم لا الخَضْم.
وخطب أيضا
ً
حمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: مَن أراد أن يَسْأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومَن أراد أن يَسْأل! عن الفرائض فَلْيأت زيدَ بن ثابت، ومَن أراد أن يَسأل عن الفِقْه فَلْيأت مُعاذ بن جَبَل، ومَن أراد أن يَسْأل عن المال فَلْيأتني، فإن اللّه جعلني له خازناً وقاسماً. إني بادىء بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمُعطيهن، ثم المهاجرين الأوَلين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، أنا وأصحابي، ثم بالأنصار الذين تَبؤَءوا الدارَ والإيمان مِن قبلهم، ثم مَن أسرع إلى الهِجرة أسْرعَ إليه العطاء، وجمَن أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء. فلا يلومنً رجل إلا مُناخ راحلته. إني قد بَقيت فيكم بعد صاحبي، فابتليتُ بكم وابتُليتم بي، وإني لن يَحْضرني من أموركم شيء فأكِله إلى غير أهل الْجَزاء والأمانة، فلئنْ أحسنوا لأحسننَ إليهم، ولئنْ أساءُوا لاُ نكّلَنَ بهم.
وخطب أيضا
ً
فقال: الحمد لله الذي أعزَنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورَحمنا بنبيّه صلى الله عليه وسلم، فهدانا به من الضلالة، وجَمعنا به من الشتات، وألَّف بين قلوبنا، ونَصرنا عَلَى عدوّنا، ومكّن لنا في البلاد، وجَعلنا به إخواناً مُتحابين. فاحَمدوا الله عَلَى هذه النّعمة، واسألوه المَزيدَ فيها والشُكر عليها، فإنَّ اللّه قد صَدقكم الوعدَ بالنَصر عَلَى مَن خالفَكم. وإياكم والعملَ بالمَعاصي، وكُفْر النعمة، فقلما كفر قوم بنعمة ولم يَنزعوا إلى التوبة إلا سُلبوا عزَهم، وسُلط عليهِم عدوّهم. أيها الناس، إنَ الله قد أعزّ دَعوة هذه الأمة وجَمع كلمتها وأظهر فَلَجها ونصَرها وشرَّفها، فاحمدوه عبادَ الله عَلَى نِعمَه، واشكروه عَلَى آلائه. جعلَنا اللّه وإياكم من الشاكرين.
وخطبة له أيضا
ً
أيها الناس، إنه قد أتي عَلَيَّ زمان وأنا أرى أن قوماً، يقرءون القرآن يُريدون به اللّه عزّ وجلّ وما عنده، فخُيّل إليّ أن قوماً قَرَءوه يُريدون به الناس والدنيا. ألا فأريدوا اللّه بأعمالكم. ألا إنما كنا نعرفكم إذ يتنزَّل الوَحْي وإِذ رسول اللّه بين أظهرنا يُنبئنا من أخباركمٍ، فقد انقطع الوَحْى، وذهب النبي، فإنما نعرفكم بالقَول. ألا مَن رأينا منْه خيراً ظنَنا به خيراً وأحببناه عليه، ومَن رأينا منه شرّا ظنَنَا به شرّا وأبغضناه عليه. سرائركم بَينكم وبين ربكم. ألا وإني إنما أبعث عُمّالي ليُعلِّموكم دينكم وسُننكم، ولا أبعثهم ليَضرِبوا ظهوركم ويأخذوا أموالَكم. ألا مَن رابه شيء من ذلك فَلْيرْفعه إليّ، فوالذي نفسي بيده لاقُصَّنكم منه.

فقامٍ عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيتَ إن بعثتَ عاملاً من عُمّالك فأدّب رجلاً من رعيَّتك فَضرَبه، أتقصّه منه؟ قال: نعم، والذي نفَس عُمر بيده، لأقصَّنه منه، فقد رأيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقصّ من نفسه.
وخطب أيضاًً فقال
أيها النّاس، اتقوا اللّه في سَريرتكم وعَلانيتكم، وَأْمروا بالمعروف وانهوا عن المُنكر، ولا تكونوا مثلَ قوم كانوا في سَفينة فأقبل أحدُهم على مَوضعه يَخْرِقه، فنَظر إليه أصحابهُ فمَنعوه، فقال: هو مَوْضعي ولي أن أحْكم فيه. فإِن اخذوا عَلَى يده سَلِم وسَلِموا، وإنْ تركوه هَلك وهَلكوا معه. وهذا مَثل ضربتُه لكم، رحمنا اللهّ وإياكم.

خطب عام الرمادة بالعباس
رحمه الله:
حمد الله وأثنى عليه وصلى عَلَى نبيّه، ثم قال: أيها الناس، استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً، اللهم إني استغفرك وأتوب إليك. اللهم إنا نتقرب إليك بعمّ نبيّك وبقيّة آبائه وكِبار رجاله، فإنك تقول وقولُك الحق: وأمّا الْجدَارُ فكانَ لغُلامينْ يَتِيميْن في المدينة وكانَ تَحْته كَنْز لهما وكان أَبُوهما صالحاً. فحفظتَهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللهم نبيّك في عَمّه. اللهم أغفر لنا إنك كنت غفاراً. اللهم أنت الرّاعي، لا تُهمل الضالّة، ولا تدع الكَسيرة بمَضْيعة. اللهم قد ضَرع الصغير، وَرَقّ الكبير؛ وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السرّ وأخْفى. اللهم أغِثْهم بغِياثك قبل أن يَقْنطوا فَيَهْلِكوا، فإنه لا ييأس من رَوْحٍ اللهّ إلا القومُ الكافرون. فما برحوا حتى علَّقوا الحِذاء، وقَلّصوا المآزر، وطَفِق الناس بالعبّاس يقولون: هنيئاً لك يا ساقي الْحِرمين.
خطب إذ ولي الخلافة
صَعد المِنْبَر فحَمد اللهّ وأثنى عليه، ثم قال: يأيها الناس، إني داعٍ فأمِّنوا. اللهم إني غَليظ فَلَينِّي لأهل طاعتك بموافقة الحقّ، ابتغاء وجهك والدار الآخرة، و ارزقْني الغِلْظة والشدّة على أعدائك وأهل الدَّعارة والنِّفاق، من غير ظُلم منّي لهمِ ولا اعتداء عليهم. اللهم إني شحيح فسَخِّني في نوائب المَعروف، قَصْداً من غير سرف ولا تَبْذير ولا رياء ولا سُمعة، واجعلني ابتغي بذلك وَجْهَك والدارَ الآخرًة. الَّلهم ارزقني خَفْض الْجَناح وَلين الجانب للمُؤمنين. اللهم إني كثيرُ الغَفْلة والنِّسيان فألْهمني ذِكرْك على كلّ حال، وذِكرْ الموت في كلّ حين. اللهم إني ضعيف عند العمل بطاعتك فارزقني النشّاط فيها والقًوّة عليها بالنيّة الحسنة التي لا تكون إلا بعزّتك وتَوْفيقك. اللهم ثَبِّتني باليقين والبرّ والتَّقوى، وذِكْر المَقام بين يديك، والْحَياء منك، وأرزقني الخُشوع فيما يُرْضيك عني، والمُحاسبة لنفسي، وصلاح النِّيات، والحَذر من الشّبهات، اللهم ارزقني التفكّر والتدبّر لما يتلوه لِساني من كتابك، والفَهْم له، والمَعرفة بمَعانيه، والنّظر في عجائبه، والعملَ بذلك ما بقيتُ، إنك على كلّ شيء قدير.
وكان آخرً كلام أبي بكر الذي إذا تكلَّم به عُرف أنه قد فرغ من خطبته: اللهم اجعل خيرَ زماني آخرًه، وخيرَ عملي خواتمَه، وخيرَ أيامي يومَ ألقاك. وكان آخرً كلام عمر الذي إذا تكلم به عُرف أنه فَرغ من خُطبته: اللهم لا تَدعني في غَمرة، ولا تأخذني على غِرِّة، ولا تَجْعلني من الغافلين.
خطبة لعثمان بن عفان
رضي اللّه عنه
ولما وَلي عثمانُ بن عفّان قام خطيباً، فحمِد اللهّ وأثنى عليه، وتَشهَّد، ثم أُرتج عليه، فقال. أيها الناس، إنَّ أوّل كلّ مَركب صَعْب، هانْ أعِش فستأتيكم الخُطب عَلَى وَجهها، وسيجعل اللهّ بعد عُسر يُسراَ.
خطبة أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب رضوان اللّه عليه

أوّل خُطبة خَطبها بالمدينة، فحَمِد الله وأَثنى عليه وصلى على نبيّه عليه الصلاةُ والسلام، ثم قال: أيها الناس، كتابَ اللّه وسُنّةَ نبيّكم صلى الله عليه وسلم أما بعد، فلا يَدَعينّ مُدّعٍ إلا على نفسه، شُغِل مَن الجنّة والنار أمامَه. ساعٍ نجا، وطالبٌ يرجو، ومقمر في النار، ثلاثة، واثنان: مَلَك طار بجناحيه، ونبيّ أخذ اللّه بيديه، لا سادس. هلك مَن اقتحم، وَرَدِي مَن هوى اليمينُ والشِّمال مَضَلَّة، والوًسطى الجادّة. مَنهج عليه أم الكتاب والسنّة وآثارُ النبوّة. إنَّ اللّه داوَى هذه الأمة بدواءين: السَّوط والسيف، لا هَوادة عند الإمام فيهما. استتروا ببيوتكم، واصْلِحوا فيما بينكم، فالموتً من ورائكم. مَن أَبدى صَفحته للحقّ هَلَك. قد كانت أمورٌ لم تكونوا فيها مَحمودين. أما إني لو أشاء أن أقول لقُلت. عفا اللّه عما سَلف. سَبق الرجلاًن ونام الثالث كالغُراب همته بَطنه، وَيْله! لو قُصّ جناحاه وقُطع رأْسه لكان خيراً له. انظروا فإن أنكرتم فانكروا، وإن عَرفتم فاعرفوا. حقّ وباطل، ولكُلّ أهل، ولئن كَثر الباطل لقديماً فعل ولئن قَلَّ الحق لرَّبما ولعلّ، ولقلما أدبر شيء فاقبل، ولئن رجعتْ إليكم أُموركم إنكم لسعداء، وإني لأخشى أن تكونوا في فَتر، وما علينا إلا الاجتيهاد. ورَوى فيها جعفَر بن محمد رضوان الله عليه: ألا إن الأبرار عِتْرتي، وأطايب أرومتي؛ أحلم الناس صغِاراً، وأعلم الناس كباراً. ألا وإنا أهلَ البيت مَن عِلْم الله عِلْمُنا، وبحُكم اللّه حُكمُنا، ومِن قَول صادقٍ سمعنا، فإن تَتبعوا آثارنا تهتدوا ببصَائرنا. معنا رايةُ الحق، من يَتبعها لَحِق، ومن تأخر عنها غَرِق. ألاَ وبنا تُردّ تِرَة كل مؤمن، وبنا تُخلع رِبقْة الذل من أعناقكم، وبنا فُتح الأمر وبنا يُختم.

وخطبة له أيضا
ً
حَمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم عبادَ اللّه ونَفسي بتَقْوى اللّه ولُزوم طاعته، وتقديم العَمَل، وتَرْك الأمَل، فإنه من فَرّط في عمله، لمْ يَنْتفع بِشيء من أمله. أين التَّعِب بالليل والنهار، واْلمقتحم لِلُجج البحارِ، ومَفاوِز القِفار؛ يَسير من ورِاء الجبال، وعالج الرمال؛ يَصل الغُدُوّ بالرَّواح، والمَساء بالصَّباحِ، في طلب مُحقَرات الأرباحِ؛ هَجَمتْ عليه منيّته، فعظُمت بنفسه رَزِيته؛ فصار ما جَمع بُوراً، وما اكتسب غروراً، ووافَى القيامةَ مَحْسوراً. أيها اللاهي الغازُ نفسه، كأنِّي بك وقد أتاك رسولُ ربك، لا يَقْرع لك باباً، ولا يَهاب لك حِجاباً؟ ولا يَقْبل منك بَدِيلًا، ولا يأخذ منك كَفِيلاً؛ ولا يرْحم لك صغيراً، ولا يُوقّر فيك كبيراً؛ حتى يُؤدِّيك إلى قَعْر مُظلمة، أرجاؤُها مُوحشة، كفِعْله بالأمم الخالية، والقُرون الماضية. أين مَن سعى واجتهد، وجَمع وعدّد، وبَنَى وشَيّد، وزَخرف ونَجّد، وبالقليل لم يَقْنع، وبِالكثير لم يُمتَّع؟ أين مَن قاد الجنود، ونَشر البُنود؛ أضحَوْا رُفاتاً، تحت الثرى أمواتاً، وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون. عبادَ اللّه، فاتّقوا اللّه ورَاقبوه، واعملوِا لِلْيوم الذي تُسيَر فيه الجبال، وتَشقّق السماء بالغَمام، وتَطايَرُ الكُتب عن الأيمان والشمائل. فأيّ رَجُل يومئذ تُراك؟ أقائل: هاؤم اقَرءوا كتابيه؟ أم: يا ليتني لم أوت كتابيَه؟ نسأل مَن وَعَدَنا بإقامة الشرائع جَنَّته أن يَقينا سُخْطه. إنّ أحسنَ الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ اللّه الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفه، تَنْزِيل من حَكِيم حَمِيد.
وخطبة له أيضا
ً

الحمدُ للّه الذي اسْتَخْلص الحمدَ لنفسه، واستوجبه على جَميع خَلْقه، الذي ناصيةُ كُلّ شيء بيده، ومَصير كُلّ شيء إليه، القَوي في سُلطانه، اللَطيف في جَبَروته، لا مانعَ لما أعطى، ولا مُعْطِي لما مَنع، خالق الخلائقِ بقًدْرته، ومسخَرهم بَمشِيئته، وَفي العهد، صادق الوَعْد، شديد العِقاب، جزيل الثَواب. أحمده وأستعينه على ما أنعَم به، مما لا يَعرف كنْهَه غيرُه، وأتوكَل عليه توكّل المسْتسلم لقُدرته، المُتبري من الحَوْل والقُوةِ إلا إليه، وأشهد شهادةً لا يَشُويها شك أنه لا إله إلا هو وحدَه لا لشريك له، إلهاً واحداً صَمَداً، لم يَتَخذ صاحبةً ولا ولَداً، ولم يكن له شريك في المُلك، ولم يكن له وليّ من الذُّل وكَبِّره تَكْبيراً، وهو على كل شيء قدير. قَطع ادعاء المُدعي بقوله عزّ وجلّ: وما خَلَقْتُ الجنِّ والإنْس إلاّ لِيَعبدون. وأشهدُ أن صلى الله عليه وسلم صفوتُه من خَلْقه، وأمينُه على وَحْيَه، أرسله بالمَعْروف أمِراً، وعن المُنكر ناهياً، وإلى الحقّ داعياً، على حين فَتْرة من الرُّسل، وضَلالة من الناس، واختلاف من الأمور، وتَنازُع من الألسن، حتى تَمّم به الوَحْي، وانْذر به أهلَ الأرض. أوصيكم عبادَ اللّه بتَقْوى اللّه، فإنها العِصْمةُ من كلّ ضَلال، والسّبِيلُ إلى كل نَجاة؟ فكأنكم بالجُثث قد زايَلَتْها أرواحُها، وتَضمَّنتها أجداثُها، فلن يَسْتقبِلَ معمَّر منكم يوماً من عُمره إلا بانتقاص آخرَ من أَجَله، وإنما دُنياكم كَفْيء الظِّل، أو زاد الراكب. وأحذِّركم دُعاء العَزيز الجبّار عبدَه، يوم تعفَّى آثارُه، وتًوحِشُ منه دِيارُه، ويُوتَم صِغارُه، ثم يصير إلى حَفِير من الأرض، مُتعفِّراً خَدُّه، غيرَ مُوسَد ولا مُمهّد. أسأل الذي وَعدنا على طاعته جَنْته أن يَقينا سُخْطه، ويجنِّبنا نِقْمته، ويهَب لنا رَحْمته، إنَ وأبلغ الحديثِ كتابً اللّه.
وخطبة له رضي اللّه عني
أما بعد، فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوَداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلا، وإن المضمار اليوم والسِّباق غداً. ألا وِإنكم في أيام أمل، ومِن ورائه أجل، فمن أخْلَص في أيام أمله، قبل حُضور أجله، نفعه عملُه، ولم يَضره أملُه؛ ومن قَصر في أيام أمله، قبل حُضور أجله، فقد خَسِر عملُه، وضَجره أمله. ألا فاعملوا اللّه في الرغْبة، كما تَعملون له في الرَّهبة. ألا وإني لم أر كالجنَة نام طالبها، ولم أر كالنَار نام هاربها. ألا وإنكم قد أمِرْتم بالظَّعْن، ودُللتم على الزّاد، وإن أخوفَ ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطولُ الأمل.

وخطبة له أيضا
ً

قالوا: ولما أغار سُفيان بن عَوف الأسديّ على الأنبار في خلافة في رضي اللّه عنه، وعليها حَسّان البكْري، فَقَتله وأزال تلك الخَيْل عن مَسارحها، فَخرج عليّ رضي الله عنه حتى جَلس على باب السدّة، فَحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجَنًة، فمن تَركه ألبسه. الله ثوبَ الذُّل، وأشْمله البَلاء، والزمه الصغار، وسامَه الخَسْف، ومَنعه النِّصْف. ألا وإني دعوتُكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاَ ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقُلت لكُم: اغزُوهم قبلَ أن يَغزوكم، فوللّه ما غُزى قومٌ قط في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا. فتواكلتم وتخاذلتم وثَقُل عليكم قَوْلي، فاتخدتُموه وراءَكم ظِهْريّاً، حتى شنّت عليكم الغارات. هذا أخو غامِد، قد بلغت خيلُه الأنبار، وقَتل حَسّان البَكْريّ، وأزال خَيْلَكم عن مَسارحها، وقَتل منكم رجالاَ صالحين. ولقد بَلغني أنّ الرجل منهم كان يَدْخل على المَرأة المُسلمة والأخرى المُعاهَدَة فَينْزعِ حِجْلها وقُلْبها ورِعاثَها، ثمٍ انصرفوا وافرِين، ما كُلِم رجلٌ منهم. فلو أنّ رجلاً مُسْلماً ماتَ من بعد هذا أسَفا ما كان عندي مَلُوماً، بل كان عندي جدِيراً. فواعجبا مِن جِد هؤلاء في باطلهم، وفَشَلكم عن حَقّكم! فقُبحاً لكم وَتَرَحاً! حين صرتم غرضاً يُرمي، يغار عليكم ولا تُغيرون، تُغزَوْن، ولا تَغْزُون ويُعمى اللّهُ وتَرْضون! فإذا أمرتكم بالمَسير إليهم في أيام الحَرّ قُلتم: حَمارة القَيْظ، أَمهلنا حتى ينْسلخ عنَّا الحر، وإذا أمرتُكم بالمسير إليهم ضُحى في الشّتاء، قلتم: أمْهلنا حتى يَنسلخ عنا هذا القر. كُلّ هذا فِراراً من الحَر والقر، فختم واللّه من السِّيف أفرّ. يا أشباهَ الرِّجال ولا رِجال! ويا أحلام أطفال، وعُقولَ ربّات الحِجَال! وَدِدْتُ أن اللّه أخرجنيِ من بين أظْهُركم وقَبضني إلى رَحْمته مِن بينكم، وأني لم أركم ولِم أعرفكمٍ، معرفةٌ واللّه جَرّت وَهْنا، وورّيتم والله صَدْري غَيْظاً، وجَرّعْتموني الموت أنفاسا، وأفسدتُم علّي رأي بالعِصْيان والخِذْلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب شُجاعٍ، ولكنْ لا عِلْم له بالحَرب، للّه أبوهم! وهَلْ منهم أحد أشدً لها مِرَاساً وأطولُ تجربة منّي! لقد مارستُها وأنا ابنُ عِشْرين، فها أنذا الآنَ بد نَيَّفت على الستين، ولكنْ لا رأيَ لمن لا يُطاع.
وخطبة له رضي اللّه عنه
قام فيهم فقال: أيها الناس، المجتمعة أبدانهم، المُختلفة أهواؤهم، كلامُكم يوهِي الصُم الصِّلاَب، وَفِعْلكم يُطْمع فيكم عدوَكم؟ تقولون في المجالس كَيْت وكَيْت، فإذا جاء القِتال! قلتم حِيدِي، حَيَادِ. ما عَزًت دعوةُ مَن دعاكم، ولا استراح قلبُ من قاساكم، أعاليل بأباطيل. وسألتُموني التأخير، دِفاع ذي الذَين المَطول. هيهات! لا يدفع الضَّيمَ الذَّليلُ، ولا يُدْرَك الحقُّ إلا بالجِدّ. أيّ دار بعد داركم تَمَنعون؟ أم مع أَيّ إمام بَعدي تُقاتِلون؛ المَغْرور واللّه من غَرر تموه، ومَن فاز بكم فاز بالسَّهم الأَخْيَب. أصبحتُ والله لا أصدِّق قولَكم، ولا أطمع في نُصْرَتكم، فرق اللّه بيني وَبَينكم، وأعقبني بكم مَن هو خير لي منكم. وَدِدْت واللّه إن لي بكلّ عشرة منكم رجلاً من بني فِرَاس ابن غَنْم، صَرْفَ الدِّينار بالدِّرهم.

خطب إذ استنفر أهل الكوفة لحرب الجمل

فأقبلوا إليه مِع ابنه الحَسن رضي اللّه عنه، فقام فيهم خَطيباً، فقال: الحَمد للّه ربِّ العالمين، وصلّى اللّه على سيّدنا محمد خاتَم النبيين وآخرً المُرسلين. أما بعد، فإنَّ اللّه بعث محمداً عليه الصلاةً والسلام إلى الثّقَلين كافَّة، والناسُ في اختلاف، والعرب بشرَّ المَنازل، مُستضعفون لما بهم، بعضهم على بعض، فرَأب اللّه به الثَّأي، ولأمَ به الصَّدْع، ورَتَق به الفَتق وأمن به السبُل، وحَقَن به الدِّماء، وقَطع به العداوةَ الواغرة للقُلوب، والضَغائن المُخَشِّنة للصُّدور، ثم قَبضه اللّه عز وجلّ مَشكوراً سَعْيُه، مَرْضيّاً عملُه، مَغْفوراً ذَنْبه، كريماً عند ربه. فيا لها مصيبةً عَفت المسلمين، وخَضَت الأقرَبين! ووَليَ أبو بكر، فسار بسِيرة رَضِيها المسلمون؛ ثم وَلِيَ عمر، فسار بِسيرة أبي بكر رضير اللَه عنهما؛ ثمَّ وَليَ عثمان، فَنال منكم وَنلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان، اتيتموه فقَتَلتموه، ثَم أتيتموني فقلتم لي: بايِعْنا، فقلتُ لكم: لا أفعل، وقَبضت يدي فَبسطتموها، ونازعتم كَفِّي فَجَذبتموها، وقلتم: لا نَرْضى إلاّ بك، ولا نَجتمع إلاٌ عليك، وتَدَاكَكْتم علي تَدَاكُك الإبل الهِيم على حِياضها يوم وِرْدها، حتى ظننتُ أنكم قاتلِي، وأنَ بعضَكم قاتلُ بعض، فبايعتُموني، وبايعني طلحَة والزُّبَير، ثم ما لَبِثَا أن استأذناني للعمرة، فسارا إلى البَصرة، فقَتَلا بها المسلمين، وفَعلا الأفاعيل، وهما يَعْلمان واللّه أني لستَ بدون واحد ممن مَضى، ولو أشاء أن أقول لقُلت: اللّهم إنهما قَطَعا قَرَابتي، ونَكثا بَيْعتي، وألَّبا عليَّ عدوِّي. اللّهم فلا تُحْكِم لهما ما أبرَما، وأرِهما المَساءة فيما عَمِلاً وأمَّلاً.

مما حفظ عنه بالكوفة على المنبر
قال نافع بن كُليب: دخلتُ الكوفة للتّسليم على أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه، فإنّي لجالس تحت منبره وعليه عِمامةٌ سوداء وهو يقول: انظروا هذه الحكومة، فمن دَعا إليها فاقتلوه وإن كان تحت عِمامتي هذه. فقال له عديُّ بن حاتم: قلتَ لنا أمس: من أبى عنها فاقتلوه، وتقول لنا اليوم: مَن دعا إليها فاقتلوِه، واللّه ما نَدْري ما نَصْنع بك! وقام إليه رجل أحْدب من أهْل العراق فقال: أمرت بها أمسي وتنهى عنها اليومَ! فأنت كما قال الأول: أكلكَ وأنا اعلم ما أنت. فقال عليّ: إلِي يُقال هذا؟
أصبَحتُ أذْكُر أرحاماً واصِرةً ... بُدِّلت منها هُوِيَّ الريح بالقَصَب
أمَا واللِّه لو إني حين أمرتكم بما أمرتكم به، ونَهيتكم عمَّا نهيتكم عنه، حَملَتُكم على المَكروه الذي جعل اللّه عاقبتَه خيراً إذا كان فيه، لكانت الوُثَقى التي لا تُفْصم، وِلكن مَتى وإلى مَتى أداويكم؟ إني واللّه بكم كناقِش الشوكة بالشوكة! يا لَيت لي بعض قومي، وليت لي من بَعْدُ خيرَ قومي. اللّهم إنَّ دِجلة والفرات نهران أعجمان أصمِّان أبكمان، اللهم سَلِّط عليهما بَحْرَك، وانزع منهما بَصرك، وَيْ للنَزعة بأشْطان الرِّكي، دُعوا إلى الإسلام فقَبلوه، وقرءوا القرآن فاحْسنوه، ونَطقوا بالشَعرِ فأحْكموه، وهُيِّجوا إلى الجهاد فَوَلَوْا اللَقاح أولادَها، وسَلَبوا الضيوف أغمادَها، ضَرْباً ضَرْبَاً، وزَحْفاً زَحْفاً، لا يَتباشرون بالحياة، ولا يُعَزَّون على القتلى:
أولئك إخوانيَ الذّاهبون ... فَحَق البكاءُ لهم أن يَطِيبَا
رُزِئتُ حَبِيباً على فاقةٍ ... وفارقتُ بعد حَبيبٍ حَبيبَا
ثم نزل تَدْمع عيناه. فقلت: إنَّا لله وإنَا إليه راجعون على ما صِرْتَ إليه! فقال: نعم؛ إنا للّه وإنا إليه راجعون! أقوِّمهم والله غُدْوَة، ويَرْجعون إليَ عشيةً، مثل ظَهْر الحيَّة، حتَّى متى وإلى متى؟ حَسْبي اللّه ونعم الوكيل!
خطبة الغراء
رضي الله عنه:

الحمد للهّ الأحد الصَّمد، الوِاحد المُنفرد، الذي لا مِن شيء كان ولا مِن شيء خُلق إلا وهو خاضع له، قُدْرة بان بها من الأشياء، وبَانت الأشياء منه، فلست له صفة تّنال، ولا حَدّ يُضرب له فيه الأمثال، كلِّ دون صِفته تَحْبير اللّغات، وضَلَّت هناك تَصاريف الصِّفات، وحارت دونَ مَلكوته مذاهبُ التَّفْكير، وانقطعت دون عِلْمه جوامعُ التَّفْسير، وحالت دونَ غَيْبه حُجبٌ تاهت في أَدْنىَ دُنوّها طامحات العُقول. فتَبَارك الله الذي لا يَبْلغه بُعْدُ الهِمَم، ولا يَناله غَوْصُ الفِطن؛ وتَعالى الذي ليس له نَعْت مَوْجود، ولا وَقْتٌ مَحدود. وسُبحان الذي ليس له أوَلُ مُبتدأ، ولا غايةُ مُنْتهى، ولا آخِرٌ يَفْنى؛ وهو سُبحانه كما وَصف نفسه، والواصفون لا يَبْلغونَ نعْته، أحاط بالأشياء كُلِّها عِلْمُه، وأتْقنها صُنْعه، وذلّلها أمرُه، وأحصاها حِفْظُه، فلا يَغْرُب عنه غُيوب الهَوى، ولا مَكنون ظُلَم الدُّجى، ولا ما في السموات العُلى، إلى الأرض السابعة السُّفلى؛ فهو لكلّ شيء منها حافظ وَرَقيب، أحاط بها. الأحد الصَّمد، الذي لم تُغيره صُروف الأزمان، ولم يَتكاءده صُنْع شيِء منها كان. قال لِما شاء أن يكون؛ كُنْ فكان؛ ابتدع ما خَلق، بلا مثال سَبق، ولا تعب، ولا نَصَب؛ وكلُّ عالم من بعد جهْلِ تَعلَّم، والله لم يَجهل ولم يَتعلَّم؛ أحاط بالأشياء كلِّها عِلماً، ولم يَزْدَد بتجربتها خُبراً؛ عِلْمه بها قبل كَوْنها كِعلْمه بها بعد تكوينها؛ لم يُكَوَنها لتَسْديد سُلطان، ولا خَوْفٍ من زوال ولا نُقصان؛ ولا استعانة على ضد مُناوئ، ولا نِذ مُكاثر؛ ولكنْ خلائق مَرْبوبون، وعِباد داخرون. فسُبحان الذي لم يؤده خَلْقُ ما ابتدأ، ولا تَدْبير ما بَرأ، خَلَق ما عَلِم وعِلم ما أراد، ولا يتفكّر على حادث أصاب، ولا شُبهة دَخلت عليه فيما شاء؛ لكنْ قضاء مُتقن، وعِلْم مُحْكم، وأمر مُبْرَم. توحّد فيه بالربوبية، وخَص نفسه بالوَحْدانية؛ فلَبِسَ العز والكِبرياء، واستخلص المَجد والسناء، واستكمل الحَمْد والثناء؛ فانفرد بالتَوحيد، وتوحّد بالتمجيد؛ فجل سبحانه وتعالى عن الأبناء، وتَطَهّر وتقدّس عن مُلامسة النساء؛ فليس له فيما خَلق نِدّ، ولا فيما ملك ضِدّ هو اللّه الواحد الصَّمد، الوارثُ للأبد، الذي لا يَبيد ولا يَنْفد، مَلَك السمواتِ العُلى، والَأرَضين السُّفلى، ثم دَنَا فَعَلاً، وعَلا فَدَنَاً، له المَثَل الأعلى، والأسماء الحُسنى، والحمدُ للّه ربّ العالمين. ثم إنّ اللهّ تبارك وتَعالى سُبحانه وبحَمْدِه، خَلَقَ الخلق بِعلمه، ثم اختار منهم صَفْوَته لنفسه، واختار من خيَار صَفْوَته أُمناء على وَحْيه، وخَزنة له على أَمره، إليهم تَنْتهي رسالتُه، وعليهم يَنزل وَحْيه؛ جعلهم أَصْفِياء، مُصْطَفين أَنبياء، مَهديِّين نُجباء. استودعهم وأقرَّهم في خير مُستقر، تَناسختهم أكارمُ الأصلاب، إلى مطهّرات الأمّهات؛ كلّما مضى منهم سَلف، انبعث لأمره منهم خَلف؛ حتى انتهت نُبوَّة اللّه وأَفضت كرامتُه إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأخرجه من أَفضل المَعادن مَحْتِداً، وأَكرم المَغارس منبتاً، وأمنعها ذِرْوة، وأَعزّها أَرُومة، وأَوْصلها مَكْرمة؛ من الشجرة التي صاغ منها أمناء، وانتخب منها أنبياء؛ شجرة طيِّبة العُود، مُعتدلة العَمود، باسقة الفُروع، مُخضَرّة الأصول والغصون، يانعة الثِّمار، كريمة المُجْتنى؛ في كرم نَبتت، وفيه بَسقت وأَثْمرت، وعزت فامتنعت؛ حتى أكرمه اللّه بالروح الأمين، والنُّور المبين، فختم به النّبيين، وأتمّ به عِدْة المُرسلين؛ خليفتُه على عباده، وأمِينُه في بلاده؛ زَيّنه بالتَّقوى، واثار الذِّكرى؛ وهو إمام مَن اتقى، ونَصْر من اهتدى؛ سراجٌ لمع ضَوؤه، وزَنْد بَرقَ لمعه، وشِهابٌ سطع نُوره. فاستضاءت به العِباد، واستنارت بهِ البلاد، وطَوى به الأحساب، وأزجى به السّحاب، وسَخّر له البُراق، حتى صافحته المَلائكة، وأَذعنت له الأبالسة، وهَدم به أصنام الآلهة. سِيرتُه القَصْد، وسُنته الرشد؛ وكلامه فَصْل، وحُكمه عَدْل. فَصدع صلى الله عليه وسلم بما أمره به، حتى أفصح بالتّوحيد دعوتَه، وأظهر في خَلْقه: لا إله إلا الله، حتى أُذعن له بالرُبوبية، وأُقرّ له بالعُبودية والوَحدانية. اللهم فخُص محمداً صلى الله عليه وسلم بالذِّكر المحمود، والحَوض

المَوْرود. اللَّهم آتِ محمِداً الوَسيلة، والرفعة والفَضيلة؛ واجعل في المُصطَفين مَحِلَته، وفي الأعلين درجتَه، وشرِّف بُنيانه، وعَظَم بُرهانه؟ واسقنا بكأسه، وأوْرِدنا حَوضَه، وأحشُرنا في زُمرته؛ غيرَ خَزايا ولا ناكِثين، ولا شاكَين ولا مُرتابين، ولا ضالين ولا مَفتونين، ولا فبذَلين ولا حائدين ولا مضلين. اللهم أعط محمداً من كل كرامة أفضلَها، ومن كُل نعيم أكملَه، ومن كل عَطاء أجزلَه، ومن كل قَسْم أَتمًه؛ حتى لا يكون أحد من خَلقك أقربَ منك مَكاناً، ولا أحظَى عندك منزلة، ولا أدنى إليك وسيلة، ولا أعظم عليك حقّاً ولا شَفاعة من محمد؛واجمع بيننا وبينه في ظِلّ العيش، وبَرد الرَّوح، وقُرة الأعين، ونضرة السُّرور، وبهجة النعيم؛ فإنا نشهد أنه قد بلّغ الرِّسالة، وأدّى الأمانة والنَّصيحة، واجتهد للأمّة، وجاهد في سَبيلك، وأُوذي في جَنبك، ولم يَخف لَومة لائم في دِينك، وعَبدك حتى أتاه اليقين. إمام المُتقين، وسيّد المُرسلين، وتَمام النبيين، وخاتَم المُرسلين، ورسولُ ربّ العالمين. اللّهمِ. ربَّ البيت الحرام، ورب البلد الحرام، وربَّ الركن والمَقام، ورب المَشْعر الحرام، بَلغ محمداً منّا السلام. اللَّهم صلِّ على ملائكتك المُقربين، وعلى أنبيائك المُرسلين، وعلى الحَفظة الكرام الكاتبين، وصلّى اللّه عليه أهل السموات وأهل الأرضين، من المُؤمنين.ود. اللَّهم آتِ محمِداً الوَسيلة، والرفعة والفَضيلة؛ واجعل في المُصطَفين مَحِلَته، وفي الأعلين درجتَه، وشرِّف بُنيانه، وعَظَم بُرهانه؟ واسقنا بكأسه، وأوْرِدنا حَوضَه، وأحشُرنا في زُمرته؛ غيرَ خَزايا ولا ناكِثين، ولا شاكَين ولا مُرتابين، ولا ضالين ولا مَفتونين، ولا فبذَلين ولا حائدين ولا مضلين. اللهم أعط محمداً من كل كرامة أفضلَها، ومن كُل نعيم أكملَه، ومن كل عَطاء أجزلَه، ومن كل قَسْم أَتمًه؛ حتى لا يكون أحد من خَلقك أقربَ منك مَكاناً، ولا أحظَى عندك منزلة، ولا أدنى إليك وسيلة، ولا أعظم عليك حقّاً ولا شَفاعة من محمد؛واجمع بيننا وبينه في ظِلّ العيش، وبَرد الرَّوح، وقُرة الأعين، ونضرة السُّرور، وبهجة النعيم؛ فإنا نشهد أنه قد بلّغ الرِّسالة، وأدّى الأمانة والنَّصيحة، واجتهد للأمّة، وجاهد في سَبيلك، وأُوذي في جَنبك، ولم يَخف لَومة لائم في دِينك، وعَبدك حتى أتاه اليقين. إمام المُتقين، وسيّد المُرسلين، وتَمام النبيين، وخاتَم المُرسلين، ورسولُ ربّ العالمين. اللّهمِ. ربَّ البيت الحرام، ورب البلد الحرام، وربَّ الركن والمَقام، ورب المَشْعر الحرام، بَلغ محمداً منّا السلام. اللَّهم صلِّ على ملائكتك المُقربين، وعلى أنبيائك المُرسلين، وعلى الحَفظة الكرام الكاتبين، وصلّى اللّه عليه أهل السموات وأهل الأرضين، من المُؤمنين.

خطبة الزهراء

الحمد اللهّ الذي هو أوّل كُلّ شيء وبَدِيّه، ومُنتهى كل شيء ووليّه، وكُلّ شيء خاشعٌ له، وكلّ شيء قائم به، وكلّ شيء ضارعٌ إليه، وكل شيء مُستكين له. خَشعت له الأصوات، وكَلت دونه الصِّفات؛ وضَلت دونه الأوهام، وحارت دونه الأحلام، وانحسرت دونه الأبصار. لا يَقْضي في الأمور غيرُه، ولا يَتمّ شيء منها دونه، سُبحانه ما أجلَ شَأنَه، وأعظمَ سُلْطانه! تُسبِّح له السمواتُ العُلَى، ومَن في الأرض السفلى؛ له التَّسبِيح والعَظَمة، والمُلك والقُدْرة، والحَوْل والقوَّة؛ يَقْضي بِعْلم، ويَعْفو بحِلْم، قُوُة كل ضعيف ومَفْزع كلّ مَلْهُوف، وعِزّ كل ذليل، ووليُ كل نِعْمة، وصاحبُ كلّ حَسَنة، وكاشفُ كل كُربة؛ المًطلع على كل خَفِيَّة، المُحْصي لكل سَرِيرة، يَعلم ما تُكن الصُدور، وما تُرْخَى عليه الستور؛ الرًحيم بخَلقه، الرَّؤوف بعباده، مَن تكلّم منهم سَمع كلامَه، ومَن سكت منهم علِمَ ما في نفسه، ومَن عاش منهم فعليه رِزْقُه، ومَن مات منهم فإليه مَصيره، أحاط بكل شيء عِلْمُه، وأَحْصىَ كل شيء حِفْظُه. اللهم لك الحمد عَدَد ما تُحيي وتميت، وعَدَد أنفاس خَلْقك ولَفْظهم ولحَظ أبصارهم، وعَدد ما تَجري به الريحُ، وتَحمله السحاب، ويختلف به الليلُ والنهار، ويسير به الشمسُ والقمر والنجومُ، حمداً لا يَنْقضي عَدده، ولا يَفني أَمدُه. اللهم أنت قبلَ كل شيء، وإليك مصير كل شيء، وتكون بعد هلاك كل شيء، وتَبقى ويَفنى كل شيَء، وأنت وارث كل شيء، أحاط عِلْمك بكل شيء، وليس يُعجزك شيء، ولا يَتوارى عنك شيء، ولا يَقْدر أحدٌ قُدْرتك، ولا يَشْكرك أحذ حقّ شُكرك، ولا تَهتدي العُقول لصِفَتك، ولا تَبْلغ الأوهام حَدَّك. حارت الأبصار دون النَظر إليك، فلم تَرك عينٌ فتُخْبر َعنك كيف أنت وكيف كُنت، لا نَعلم اللهم كيف عَظمتُك، غير أنّا نعلم أنك حيَّ قيّوم، تأخذك سِنة ولا نَوْم، لم يَنْته إليك نَظر، ولم يُدركك بَصر، ولا يقدر قُدرتَك مَلَك ولا بَشر؛ أدركت الأبصار، وكَتبت الآجال، وأحْصَيت الأعمال، وأخذت بالنَواصي والأقدام؛ لم تَخْلُق الخلق لحاجة ولا لوَحْشة؛ ملأت كل شيء عَظمةً، فلا يُردّ ما أردت، ولا يُعطى ما مَنعت، ولا يَنْقصِ سُلطانك مَن عصاك، ولا يَزيد في مُلْكك مَن أطاعك. كل سرّ عندك عِلْمُهُ، وكلّ غيب عندك شاهدُه، فلم يستتر عنك شيء، ولم يَشْغلك شيء عن شيء، وقُدْرتك على مَا تَقْضي كقُدرتك على ما قَضيت، وقدرتك على القويّ كقُدرتك على الضَّعيف، وقُدرتك على الأحياء كقُدرتك على الأموات. فإليك المُنتهى، وأنت المَوْعد، لا منجى إلا إليك، بيدك ناصيةُ كل دابة، وبإذنك تَسْقط كلّ ورقة، لا يَعْزْبُ عنك مثقالُ ذَرّة، أنت الحي القيومُ. سبحانك! ما أعظم ما يُرى من خَلقك! وما أعظم ما يُرى من ملكوتك! وما أقلًهما فيما غاب عنّا منه! وما أسبغ نعمتَك في الدُنيا وأحقرها في نَعيم الآخرًة! وما أشد عقوبتَك في الدُّنيا وما أيسرها في عُقوبة الآخرًة! وما الذي نَرى من خَلْقك، ونَعْتبر من قُدرتك ونَصِف من سُلطانك فيما يَغيب عنَّا منه، مما قَصرُت أبصارُنا عنه، وكَلت عقولنا دونه، وحالت الغُيوب بيننا وبينه! فمَن قَرع سنَّه، وأعمل فِكْره: كيف أقمتَ عرْشك؟ وكيف ذَرأت خلقك؟ وكيف عَلَّقت في الهواء سَمواتِك؟ وكيف مَددت أرضك؟ يَرجع طرفُه حاسراً، وعقْله مَبهوراً، وسَمعُه والها، وفِكره متحيراً. فكيف يطلْب عِلْم ما قَبْل ذلك مِن شأنك، إذ أنت وحدك في الغُيوب التي لم يكن فيها غيرُك، ولم يكن لها سواك، لا أحد شَهِدك حين فطرت الخَلق، ولا أحدَ حَضرك حينَ ذرأت النُفوس، فكيف لا يَعْظم شأنُك عند مَن عرفك، وهو يرى مِن خلقك ما تَرتاع به عقولُهم، ويملأ قلوبهم، من رَعْد تَفزع له القُلوِب، وبَرْق يَخْطِف الأبصار، وملائكةً خَلقتَهم وأسكنتهم سمواتِك، وليست فيهم فتْرة، ولا عَندهم غَفْلة، ولا بهم مَعْصية. هم أعلم خَلقك بك، وأخوفهم لك، وأقومُهم بطاعتك، ليس يَغشاهم نوم العُيون، ولا سَهْو العقود؛ لم يَسْكنُوا الأصلاب، ولم تضمهم الأرحام؛ أنشأتَهم، إنشاء، وأسكنتهم سمواتِك، وأكرمتهم بجوارك، وائتمنتهبم على وَحْيك؟ وَجنَبتهم الأفات، ووَقَيتهم السيآت، وطَهّرتهم من الذنوب؛ فلولا تقويتك لم يَقْوَوِا، ولولا تَثْبيتك لم يَثْبتوا، ولولا رَهْبتك لم يطيعوا، ولولاك لم يكونوا.

أمّا إنهم على مكانتهم منك، ومنزلتهم عندك، وطُول طاعتهم إياك، لو يُعاينون ما يَخفىِ عليهمٍ لاحتقروا أعمالهم، ولعلموا أنهم لم يَعْبدوك حقَّ عبادتك. فسُبحانك حالقاً ومعبوداً ومَحموداً بحُسن بلائك عند خَلقك! أنت خلقت ما دبَّرته مَطْعماً ومَشرباً، ثم أرسلت داعياً إلينا، فلا الدَّاعي أَجبنا، ولا فيما رَغّبْتنا فيه رغِبنا، ولا إلى ما شوَّقتنا إليه اشتقنا. أقبلنا كُلنا على جِيفة نأكل منها ولا نَشبع، وقد زاد بعضُنا على بعض حرصاً، لما يرى بعضُنا من بعض؛ فافتضحنا بأكلها، واصطلحنا على حُبها، فأعمت أبصارَ صُلاَّحنا وفُقهائنا، فهم ينظرون بأعين غير صحيحة، ويسمعون بآذان غير سَميعة، فحيثما زالت زالوا معها، وحيثما مالت أقبلوا إليها؛ وقد عاينوا المأخوذين على الغِرّة كيف فجأتهم الأمور، ونزل بهم المحذور، وجاءهم من فراق الأحبّة ما كانوا يتوقعون، وقَدموا من الآخرًة إلى، ما كانوا يُوعدون. فارقوا الدُّنيا وصاروا إلى القُبور وعَرفوا ما كانوا فيه من الغُرور؛ فاجتمعت عليه حَسْرتان؛ حَسْرة الفَوت، وحَسْرة الموت، فاغبرت لها وُجوههم، وتَغيّرت بها ألوانهم، وعَرِقت بها جباهُهم، وشَخَصت أبصارهم، وبَردت أطرافُهم، وحِيل بينهم وبين المنطق؛ وإنّ أحدَهمِ لَبينْ أهله يَنْظر ببصره، ويسمع بأُذنه. ثم زاد الموتُ في جسده حتى خالط بَصره، فذهبت من الدنيا مَعرفته، وهَلكت عند ذلك حُجته، وعاين هولَ أمر كان مُغطَىً عليه، فأحدّ لذلك بَصره. ثم زاد الموتُ في جَسده، حتىِ بلغت نَفسه الحُلقوم، ثم خَرج روحه من جسده فصار جسداً مُلقى لا يُجيب داعياَ، ولا يَسمع باكياً، فنزعوا ثيابه وخاتَمه، ثم وَضئوه وضوء الصلاة، ثم غَسلوه وكَفنوه أدراجاً في أكفانه، وحَنَطوه ثم حملوه إلى قبره، فدلَوه في حُفرته، وتركوه مُخلى بمقطعات من الأمور، وتحت مسألة مُنكر ونكير، مع ظُلمة وضِيق، ووَحشة قبر؛ فذاك مَثواه حتى يَبْلى جسدُه ويَصيرَ تُراباً. حتى إذا بلغ الأمر إلى مِقداره، وأُلحق آخرً الخَلق بأوله، وجاءه أمرٌ من خالقه، أراد به تجديد خَلقه، فأمر بصوت من سمواته، فمارت السمواتُ مَوْراً، وفَرخ مَن فيها، وبقي ملائكتُها على أرجائها، ثم وَصل الأمر إلى الأرضٍ - والخلق رُفات لا يَشْعرون - فأرج أرضَهم وأرجفها وزَلزلها، وقَلع جبالَها ونَسفها وسيرها، ورَكِبَ بعضُها بعضاً من هَيبته وجلاله، وأخرج من فيها، فجددهم بعد بلائهم، وجَمعهم بعد تفرّقهم، يُريد أن يُحصيهم ويُميزهم: فريقاً في ثوابه، وفريقاً في عِقابه، فخَلَد الأمرُلأبده دائماً، خيْرُه وشره ثم لم يَنْس الطاعة من المُطيعِين، ولا المَعصية من العاصين، فأراد عز وجل أن يجازي هؤلاء، ويَنتقم من هؤلاء، فأثَاب أهل الطاعة بجواره، وحُلول داره، وعَيْش رَغَد، وخُلود أَبَد، ومجاورة الرّب، ومُوافقة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث لا ظَعْن ولا تَغيّر، وحيث لا تُصيبهم الأحزان، ولا تَعْتَرضهم الأخطار، ولا تشخِصهم الأسفار. وأما أهل المعصية، فخلَّدهم في النار، وأَوْثق منهم الأقدام، وغُلَت منهم الأيدي إلى الأعناق، في لَهَب قد اشتد حرّه، ونار مُطْبَقة على أهلها، لا يدخل عليهم بها رَوْح، همهم شديد، وعَذابهم يَزيد، ولا مُدَّة للدار تَنْقَضي، ولا أَجَل للقوم ينتهي. اللهم إني أسألك بأن لك الفضل، والرحمةَ بيدك، فأنت وليّهما، لا يليهما أحدٌ غيرك، وأسألك باسمك المَخْزون المَكْنون، الذي قال به عرْشُك وكرسيّك وسمواتُك وأرضُك، وبه ابتدعت خَلْقك، الصلاةَ على محمد، والنَجاةَ من النار برحمتك، آمين، إنك وليّ كريم. إنهم على مكانتهم منك، ومنزلتهم عندك، وطُول طاعتهم إياك، لو يُعاينون ما يَخفىِ عليهمٍ لاحتقروا أعمالهم، ولعلموا أنهم لم يَعْبدوك حقَّ عبادتك. فسُبحانك حالقاً ومعبوداً ومَحموداً بحُسن بلائك عند خَلقك! أنت خلقت ما دبَّرته مَطْعماً ومَشرباً، ثم أرسلت داعياً إلينا، فلا الدَّاعي أَجبنا، ولا فيما رَغّبْتنا فيه رغِبنا، ولا إلى ما شوَّقتنا إليه اشتقنا. أقبلنا كُلنا على جِيفة نأكل منها ولا نَشبع، وقد زاد بعضُنا على بعض حرصاً، لما يرى بعضُنا من بعض؛ فافتضحنا بأكلها، واصطلحنا على حُبها، فأعمت أبصارَ صُلاَّحنا وفُقهائنا، فهم ينظرون بأعين غير صحيحة، ويسمعون بآذان غير سَميعة، فحيثما زالت زالوا معها، وحيثما مالت أقبلوا إليها؛ وقد عاينوا المأخوذين على الغِرّة كيف فجأتهم الأمور، ونزل بهم المحذور، وجاءهم من فراق الأحبّة ما كانوا يتوقعون، وقَدموا من الآخرًة إلى، ما كانوا يُوعدون. فارقوا الدُّنيا وصاروا إلى القُبور وعَرفوا ما كانوا فيه من الغُرور؛ فاجتمعت عليه حَسْرتان؛ حَسْرة الفَوت، وحَسْرة الموت، فاغبرت لها وُجوههم، وتَغيّرت بها ألوانهم، وعَرِقت بها جباهُهم، وشَخَصت أبصارهم، وبَردت أطرافُهم، وحِيل بينهم وبين المنطق؛ وإنّ أحدَهمِ لَبينْ أهله يَنْظر ببصره، ويسمع بأُذنه. ثم زاد الموتُ في جسده حتى خالط بَصره، فذهبت من الدنيا مَعرفته، وهَلكت عند ذلك حُجته، وعاين هولَ أمر كان مُغطَىً عليه، فأحدّ لذلك بَصره. ثم زاد الموتُ في جَسده، حتىِ بلغت نَفسه الحُلقوم، ثم خَرج روحه من جسده فصار جسداً مُلقى لا يُجيب داعياَ، ولا يَسمع باكياً، فنزعوا ثيابه وخاتَمه، ثم وَضئوه وضوء الصلاة، ثم غَسلوه وكَفنوه أدراجاً في أكفانه، وحَنَطوه ثم حملوه إلى قبره، فدلَوه في حُفرته، وتركوه مُخلى بمقطعات من الأمور، وتحت مسألة مُنكر ونكير، مع ظُلمة وضِيق، ووَحشة قبر؛ فذاك مَثواه حتى يَبْلى جسدُه ويَصيرَ تُراباً. حتى إذا بلغ الأمر إلى مِقداره، وأُلحق آخرً الخَلق بأوله، وجاءه أمرٌ من خالقه، أراد به تجديد خَلقه، فأمر بصوت من سمواته، فمارت السمواتُ مَوْراً، وفَرخ مَن فيها، وبقي ملائكتُها على أرجائها، ثم وَصل الأمر إلى الأرضٍ - والخلق رُفات لا يَشْعرون - فأرج أرضَهم وأرجفها وزَلزلها، وقَلع جبالَها ونَسفها وسيرها، ورَكِبَ بعضُها بعضاً من هَيبته وجلاله، وأخرج من فيها، فجددهم بعد بلائهم، وجَمعهم بعد تفرّقهم، يُريد أن يُحصيهم ويُميزهم: فريقاً في ثوابه، وفريقاً في عِقابه، فخَلَد الأمرُلأبده دائماً، خيْرُه وشره ثم لم يَنْس الطاعة من المُطيعِين، ولا المَعصية من العاصين، فأراد عز وجل أن يجازي هؤلاء، ويَنتقم من هؤلاء، فأثَاب أهل الطاعة بجواره، وحُلول داره، وعَيْش رَغَد، وخُلود أَبَد، ومجاورة الرّب، ومُوافقة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث لا ظَعْن ولا تَغيّر، وحيث لا تُصيبهم الأحزان، ولا تَعْتَرضهم الأخطار، ولا تشخِصهم الأسفار. وأما أهل المعصية، فخلَّدهم في النار، وأَوْثق منهم الأقدام، وغُلَت منهم الأيدي إلى الأعناق، في لَهَب قد اشتد حرّه، ونار مُطْبَقة على أهلها، لا يدخل عليهم بها رَوْح، همهم شديد، وعَذابهم يَزيد، ولا مُدَّة للدار تَنْقَضي، ولا أَجَل للقوم ينتهي. اللهم إني أسألك بأن لك الفضل، والرحمةَ بيدك، فأنت وليّهما، لا يليهما أحدٌ غيرك، وأسألك باسمك المَخْزون المَكْنون، الذي قال به عرْشُك وكرسيّك وسمواتُك وأرضُك، وبه ابتدعت خَلْقك، الصلاةَ على محمد، والنَجاةَ من النار برحمتك، آمين، إنك وليّ كريم.

وخطب أيضاًً فقال
أيها الناس، احفظوا عنّى خمساً، فلو شَددتم إليها المَطايا حتى تُنضوها لم تَظفروا بمثلها: إلا لا يرجونِّ أحَدُكم إلا ربّه، ولا يخَافن إلا ذَنبَه، ولا يَسْتَحي أخدُكم إذا لم يعلم أن يتعلم، وإذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم؛ أي وإن الخامسةَ الصَبر؛ فإن الصبرَ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجَسَد. مَن لا صَبْر له لا إيمان له، ومَن لا رأسَ له لا جَسد له. ولا خير في قراءة إلاَّ بتدبّر، ولا في عبادة إلا بتفكر، ولا في حِلْم إلا بعلم. ألا أنبئكم بالعاِلم كُلِّ العالم، مَن لم يُزيَن لعباد اللّه معاصيَ الله، ولم يؤمنهم مَكْرَه، ولم يُؤْيسهم من رَوْحه. ولا تُنْزلوا المُطِيعين الجَنَّة، ولا المُذْنبين المُوَحدين النار، حتى يَقْضيَ اللّه فيهم بأمره. لا تأمنوا على خير هذه الأمة عذابَ اللهّ، فإنه يقول: فَلاَ يَأمن مَكْر َاللهّ إلا القومُ الخاسِرُون. ولا تُقْنِطوا شر هذه الأمة من رحمة اللهّ، فإنّه لا ييأس من رَوْح اللّهِ إلا القومُ الكافرون.

من كلامه
رضوان الله عليه:
قال ابن عباس: لما فرغ علي بن أبي طالب من وقعة الجمل، دعا بأجرتين فعلاهما، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أنصار المرأة، وأصحابَ البهيمة، رَغا فَجِئْتم، وعُقِر فانهزمتم. دخلتُ شرَ بلاد، أبعدها من السماء، بها يَغيض كل ماء، ولها شر أسماء، هي البصرة والبُصَيرة والمُؤتفكة وتَدْمر أين ابن عباس؟ فدُعيت، فقال لي: مُرْ هذه المرأة فَلترجع إلى بيتها الذي أُمرت أن تَقَر فيه. وتمثل عليّ بن أبي طالب رضيِ اللّه عنه بعد الحَكَمين:
زَلَلْت فيكم زلَةً فأعْتذِرْ ... سوف أكيسُ بعدها وأنشمِرْ
وأجْمَعُ الأمرَ الشتيت المنتِشرْ
خطب معاوية
قال القَحْذَميّ: لمَّا قَدِمَ مُعاويةُ المدينة عامَ الجماعة تلقّاه رجالُ قريش، فقالوا: الحمد اللهّ الذي أعزَ نَصْرَكَ، وأَعْلى كَعْبك. قال: فواللّه ما ردّ عليهم شيئاً حتى صَعِد المِنْبر فَحَمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإِني واللّه وَليتُها بمحبة علمتُها منكم، ولا مَسَزَة بولايتي، ولكني جالدتُكم بسيفي هذا مُجالدة، ولقد رُضْتُ لكم نفسي على عمل ابن أبي قُحَافة، وأردتُها على عمل عُمر، فنفرتْ من ذلك نِفَاراً شديداً، وأردتُها على مثل، ثَنِيَّات عثمان، فأبت عليَ فسلكتُ بها طريقاً لي ولكم فيه منفعةً، مواكلة حَسنة، ومُشاربة جميلة، فإن لم تَجدوني خيركم فإني خيرٌ لكم ولايةً. واللّه لا أحملً السيفَ على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يَسْتَشفي به القائلُ بلسانه، فقد جعلتُ له ذلك دَبْرَ أُذني وتحت قدمي، وإن لم تجدوني أقوا بحقّكم كُلَّه فاقبلوا منّي بعضَه، فإنْ أتاكم منّي خيرٌ فاقبلوه، فإن السيل إذا يزاد عَنى، وإذا قلّ أَغنى؛ وإياكم والفتنةَ، فإنها تُفسد المَعيشة، وتكدّر النّعمة، ثم نزل.
خطبة أيضاًً لمعاوية
حمد اللّه وأثنى عليه ثم صلى على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، إنا قدِمْنا عليكم، وإنما قَدِمنا على صَدِيق مُستبشر، أو على عدوِّ مُستتر، وناسٍ بين ذلك يَنْظرون ويَنْتظرون، فإِنْ أُعْطوا منها رَضُوا، وإنْ لم يُعْطَوْا منها إذا همِ يَسْخُطون. ولستُ واسعاً كُلّ الناس، فإن كانت مَحْمَدة فلا بدّ من مَذمَة، فلوْماَ هوناً إذا ذُكِرَ غُفِر، وإياكم والتي إن أُخْفِيت أوْ بقت. وإن ذُكِرَت أوْثَقَت، ثم نزل.
خطبته أيضاًً لمعاوية
صَعِد مِنْبر المَدينة. فحمد اللهّ وأثنى عليه، ثم قال: يأهل المدينة، إنّي لست أُحِب أن تكونوا خَلْقاً كَخَلْق العِراق، يَعيبون الشيء وهم فيه، كلّ امرىء منهم شِيعةُ نَفْسه، فاقبلونا بما فينا، فإن ما وراءنا شر لكم، وإنَّ معروف زماننا هذا مُنكَر زمان مَضى، ومُنْكَرَ زماننا معروفُ زمان لم يأت، ولو قد أتى، فالرَّتْق خَيْرٌ من الفَتْق، وفي كلًّ بلاغ، ولا مُقام على الرزيّة.
خطبة لمعاوية أيضا
ً

قال العُتْبي: خَطَب معاويةُ الجمعة في يوم صائف شديد الحرّ، فحمد اللّه وأثنى عليه، وصلّى على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الله عز وجلّ خَلقكم فلم يَنْسكم، ووَعظكم فلم يُهملكم، فمال: يأيها الذين آمنُوا اتّقوا الله حَقّ تُقاته ولا تَمُوتُنّ إلا وأنتم مُسْلمون. قوموا إلى صلاتكم.
ذكر لعبيد اللّه بن زياد عند معاوية

قال ابن دأب: لما قَدِمَ عبيدُ الله بن زياد على معاوية بعد هلاك زياد فوجده لاهياً عنه، أنكره، فجعل يَتصدى له بخَلوة لَيسْبُر من رأيه ما كُرِهَ أن يُشرك به في عمله، فاستأذن عليه بعد انصداع الطُلاب، وإشعال الخاصة، وافتراق العامة، وهو يوم معاوية الذي كان يَخْلو فيه بنفسه. ففَطِن معاوية لما أراد، فَبعث إلى ابنه يزيد، وإلى مْرْوَان بن الحكم، وإلى سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحكم، وعمرو بن العاص. فلما أخذوا مجالسهم آذنَ له، فسلم ووقف واجماً يتصفح وجُوه القوم، ثم قالت: صَريح العُقوق مُكاتمة الأدْنين، ولا خَيْرَ في اختصاص إن وَفر، أحْمَد الله إليكم على الآلاء، وأستعينه على الَلأوَاء، وأسْتَهْدِيه من عَمىً مُجْهِد، وأسْتَعينه على عدوٍّ مُرْصِد، وأشْهدَ أن لا إله إلا الله، المنقِذ بالأمين الصادق، من شقاء هاوٍ، ومن غَواية غاوٍ؛ وصلواتُ الله على الزكيّ نبيِّ الرحمة، وِنذير الأمَة، وقائد الهُدى. أما بعد، يا أميرَ المؤمنين، فقد عَسَف بنا ظَنّ فرَّع، وفرَع صَدَّع؛ حتى طَمِع السحيق، ويئس الرّفيق؛ ودَث الوُشاة بموت زياد، فكلُّهم مُتحفّز للعداوة، وقد قَلَّص الإزْرة، وشَمَّرَ عن عِطافه، ليقول: مضى زِياد بما استُلْحقِ به، وولّى على الدَّنية من مُسْتلحقه. فليت أمير المؤمنين لسَم في دَعَتِه، وأسْلم زياداً في ضَعَته، فكان تِرْبَ عامّة، وواحد رعيّة، فلا تَشْخصِ إليه عين ناظر، ولا إصبْع مُشير، ولا تذلَقُ عليه أَلْسُن. كَلَمته حيّا، ونَبَشته مَيْتاً، فإن تكن يا أميرَ المؤمنين حابيتَ زياداً بولاء رُفات، ودَعْوة أموات، فقد حاباك زِياد بجِدّ هَصُور، وعزْم جَسُور، حتى لانت شكائمُ الشَرِس، وذلَت صَعْبة الأشوَس، وبَذل لك أمير المؤمنين يمينَه ويساره، تأخذ بهما المَنيع، وتَقْهر بهما البزيع، حتى مضى، والله يَغْفِر له. فإنْ يكن زيادٌ أخذ بحقّ فأنْزِلنا مَنازلَ الأقْرِبين، فإنّ لنا بعدَه ما كان له، بدالة الرَّحِم، وقرَابة الحَمِيم، ومالنا يا أمير المؤمنين نمشي الضراء، وندِبّ الخَفاء، وٍ لنا من خَيْرك أكمله، وعليك من حَوبنا أثقلُه، وقد شَهِد القوِم، وما ساءني قرْبُهم، ليُقرّوا حقّاً، ويردُوا باطلاً، فإنَ الحق مَناراً واضحاً، وسبيلاً قَصْداً، فقل يا أمير المؤمنين بأيّ أمْرَيْك شِئْت، فما نأْرِز إلى غير جُحرنا، ولا نَسْتكثر بغير حقِّنا، واستغفر اللّه لي ولكم. قال: فنظر مُعاوية في وجوه القوم كالمُتعجب، فتصفّحهم بلحظه رجلاً، رجلاً، وهو مُبْتسم. ثم اتجه تِلْقاءه، وعَقد حُبْوته، وحسر عن يده، وجعل يُومىء بها نحوَه، ثم قال مُعاوية: الحمد للّه على ما نحنُ فيه، فكُل خير منه، وأشهد أن لا إله إلا اللهّ، فكُلّ شيء خاضع له، وأن محمداً عبدُه ورسولُه، دل على نفسه بما بان عن عَجْز الخَلْق أن يؤتوا بمثله، فهو خاتم النبيّين، ومُصدِّق المُرسلين، وحُجَّة ربّ العالمين، وصلواتُ اللّه عليه وسلامُه وبركاته. أما بعد، فربّ خير مَستور، وشرّ مَذْكور، وما هو إلا السهم الأخْيَب لمن طارَ به، والحَط المُرْغِب لمن فاز به، فيهما التفاضُل وفيهما التغابنُ، وقد صَفَقت يداي من أبيك صَفْقة ذي الجُلْبة من ضوارع الفُصْلان، عامل اصطناعي له بالكُفر لما أَوْليتُه، فما رَميت به إلا انتصل، ولا انتضيتُه إلا غُلِّق جَفْنه، وَزلَّت شفرته؛ ولا قلتُ إلا عاندَ، ولاقُمْت إلا قَعد، حتِى اخترمه الموت؛ وقد أُوقع بخَتْره، ودلَّ على حِقد،. وقد كنتُ رأيتُ في أَبيك رأياَ حَضَرَه الخَطَل، والتبس به الزَّلل، فأخذ مني بحظّ الغَفْلة، وما أُبرِّىءُ نَفْسي إن النَّفس لأمِّارة بالسُّوء، فما بَرِحت هناة أبيك تَحْطِبُ في حَبْل القطيعة، حتى انتكث المُبْرَم، وانحل عِقد الوِداد. فيالها توبةً تُؤْتنف، من حَوْبة أوْرَثَت ندما؛ اسْمَع بها الهاتف، وشاعَت للشَامت، فليهنأ الواصِم ما به احتقر. وأراك تَحْمد من أبيك جدّاً وجُسوراً، هما أوْفيا به على سَرف التَقَحُّم، وغَمْط النِّعمة، فَدَعْهما، فقد أذكَرَتْنا منه ما زهَدَنا فيك من بَعْدَه، وبهما مَشَيْتَ الضَرَاء، ودببت الخفاء، فاذهب إليك، فأنت نَجْل الدّغَل، وعِتْرة النَّغل، والآخرً شرِّ.

فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إن للشاهد غير حَكم الغائب، وقد حَضرك زِياد وله مَواطن مَعْدودة بخير، لا يُفْسدها التظنِّي، ولا تُغيّرها التُّهم، وأهلوه أهلوك، التحقوا بك، وتوَسطوا شأنك، فسافرت به الرُّكبان، وسَمِعت به أهلُ البُلدان، حتى اعتقده الجاهل، وشَكّ فيه العالم، فلا تتحجَّر يا أمير المؤمنين ما قد اتسع، وكَثُرت فيه الشهادات وأعانك عليه قومٌ آخرًون. فانحرف مِعاويةُ إلى مَن معه، هذا، وقد نَفِس عليه ببيعته، وطَعن في إمرته، يعلم ذلك كاحما اعلمه، يا للرِّجال من آل أبي سُفيان! لقد حَكَموا وبذّهم يزيد وحدَه. ثم نظر إلى عُبَيد اللهّ فقال: يا بن أخي، إنّي لأعرَفُ بك من أبيك، وكأني بك في غَمْرَة لا يَخْطُوها السابح، فالزم ابنَ عمِّك، فإنّ ما قال حق. فخرجوا، ولَزم عُبَيد اللهّ يزيد، يَرِد مجلسه، ويَطأ عَقِبه أياماً، حتى رَمى به معاويةُ إلى البَصرة والياً عليها. ثم لم تَزل تُوكِسه أفعالُه حتى قتَله الله بالجازر.

خطبة لمعاوية
أيضا
ً
قال بهيثم بن عديّ: لما حضرَت مُعاويةَ الوفاةُ ويزيد غائب، دعا بمُسلم ابن عُقبة المر والضحَّاك بن قيس القهريّ، وقال لهما: أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر أهل الحجاز، فهم عصابُتك اعترتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومَن قعَدَ عنك فتعاهده؟ وانظُر أهل العراق، فإن سألوك عَزْل عامل في كل يوم، فأعز له عنهم، فإن عزل عامل واحد أهونُ عليك من سَلّ مائة ألف سيف، ثم لا تدري عَلام أنت عليه منهم ثم انظُر أهلَ الشام فاجعلهم الشِّعار دون الدَثار، فإنْ رابك من عدو رَيب فارْمه بهم، فإن أظفرك اللهّ فارْدُد أهل الشام إلى بلادهم، لا يُقيموا في غير بلادهم في فيتأدّبوا بغير أدابهم. لست أخاف عليك غير عبد اللّه بن عمر، وعَبدِ اللّه بن الزبير، والحُسين بن علي. فأما عبد اللّه بن عمر، فرجل قد وَقَذَه الوَرع وأما الحُسين، فأرجو أن يَكفيكه اللهّ بمنِ قَتلِ أباه، وخَذَل أخاه؛ وأما ابن الزُّبير، فإنه خَبّ ضَبّ. فإِنْ ظَفِرْت به فقطعه إرْباً إرْباً. ومات معاوية. فقام الضَّحَّاك بن قَيس خَطيبَاَ فقال: إن أمير المؤمنين كان أنْفَ العرب، وهذه أكفانه، ونحن مُدْرِجوه فيها ومُخْلون بينه وبين ربّه، فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضُر. فصلّى عليه الضحَّاك. ثم قَدِم يزيد فلم يَقْدَم أحدٌ عك تعزيته، حتى دخل عليه عبدُ اللّه ابن همَام فأنشأ يقول:
اصْبِر يزيد فقد فارقتَ ذا مِقَةٍ ... واشكُر حِبَاء الذي بالمُلك حاباكا
لا رّزْءَ أعظمُ في الأقوام قد عَلِموا ... مما رُزِئتَ ولا عُقْبى كعًقْبَاكا
أصبحتَ راعِيَ أهل الدِّين كلِّهم ... فانْتَ ترعاهم واللّه يَرْعاكا
وَفي مُعاوية الباقي لنا خَلف ... إذا بَقيت فلا نسمع بمَنْعاكا
قال: فانفتح الخطباء بالكلام.
خطبة أيضاًً لمعاوية

ولما مرض معاويةُ مرَضَ وفاته قال لمولى له: مَن بالباب؟ قال: نفر من قُريشَ يتباشرون بموتك. قال: وَيحك!ِ لمَ؟ فواللّه ما لهم بعدي إلا الذي يَسُوءهم. وأذِن للناس فَدَخلوا، فحمد اللّه وأثنى عليه وأوْجز، ثمٍ قال: أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دَهْر عنود، وزمن شديد، يُعدّ فيه المُحْسن مُسِيئاً، ويزداد الظالم فيه عُتواً، لا نَنْتفع بما عَلِمنا، ولا نسأل عما جَهِلنا، ولا نتخوّف قارعة حتى تَحُلّ بنا؛ فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمْنعه مِن الفساد في الأرض إلا مهانة نَفْسه، وكلال حدِّه، ونَضِيض وَفْرِه؛ ومنهم المُصْلِت لسَيْفه، المُجْلِب برَجْله، المُعْلن بشرِّه، وقد أَشْرَط نفسَه، وأوْبق دِينَه، لحُطام يَنْتهزه، أو مِقْنب يَقوده، أو مِنْبر يَفْرعه، وليس المَتْجران تراهما لنفسك ثمناً، وبمالكَ عند اللّه عِوَضاً؟ ومنهم من يَطْلب الدنيا بعمل الآخرًة، ولا يطلب الآخرًة بعمل الدنيا، قد طامَن من شَخْصه، وقارب من خَطْوه. وشمَر عن ثَوْبه، وزَخْرَف نَفْسه بِالأمانة، واتّخذ سِتْر اللّه ذَرِيعة إلى المَعْصية، ومنهم مَن أَقعده عن طلب المُلْك ضآلة نفسه، وانقطاع سَبَبِه، فَقصِّرَت به الحال عن حاله، فتحلِّى باسم القَناعة، وتزيّا بلباس الزَّهادة، وليس من، ذلك في مَرَاح ولا مَغْدى. وبِقي رجالٌ أغضّ أبصارَهم ذِكْرُ المرْجع، وأراق دُموعَهم خوفُ المَضْجَع، فهم بين شريد بادٍ، وبين خائف مُنْقمع، وساكت مَكْعوم، وداعٍ مُحلص، ومُوجع ثَكْلان، قد أخْمَلتهم التقيّة، وشَملتهم الذلة، فهم في بحر أجَاج، أفواهُهم ضامرة، وقلوبهم قَرِحَة، قد وُعظوا حتى مَلّوا، وقهروا حتى ذَلّوا، وقتُلوا حتى قلّوا. فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حُثالة القَرَظ، وقُرَاِدة الحَلَم؛ واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتّعِظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمةَ، فقد رَفَضَت مَن كان أشفقَ بها منكم.

ليزيد بن معاوية بعد موت أبيه
الحمد اللّه الذي ما شاء صَنع، ومَن شاء أعطى ومَن شاء مَنَع، ومن شاء خَفَض ومن شاء رَفع. إن أميرَ المؤمنين كان حَبْلاً من حِبال اللّه، مدَّه ما شاء أن يَمدَّه، ثم قَطعه حين أراد أن يَقْطعه، وكان. دون مَنِ قبلَه، وخيراً ممن يأتي بعدَه، ولا أزَكِّيه عند ربّه، وقد صار إليه، فإن يَعْفُ عنه فَبِرَحْمته، وإنْ يُعاقبه فَبِذَنبه، وقد وُلِّيتُ بعدَه الأمرَ، ولستُ أعتذر من جَهل، ولا آسىَ على طَلَب عِلْم، وعلى رِسْلكم، إذا كَرِهَ اللّه شيئاً غيَّرَه، وإذا أحبَّ شيئاً يسَّره.
وخطبة أيضاًً ليزيد
الحمدُ للّه أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكّل عليه، ونَعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيّات أعمالنا، مَن يَهْد اللّه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحدًه لا شريك له، وأن محمداً عبدُه ورسولُه، اصطفاه لوَحْيه. واختاره لرسالته، بكتاب فَصَّله وفَضِّله، وأعزَّه وأكرَمه، ونَصره وحَفِظه، ضرَب فيه الأمثال، وحلّل فيه الحلال، وحرَّم فيه الحرام، وشَرَع فيه الدِّين إعذاراً وإنذاراً، لئلا يكونَ للناس على اللّه حُجَّة بعد الرُّسل، ويكونَ بلاغاً لقوم عابدين. أوصيكم عبادَ اللّه بتقوى اللّه العظيم، الذي ابتدأ الأمور بِعِلْمه، وإليه يَصير مَعادُها، وانقطاع مُدًتها، وتَصرُّم دارها. ثم إني أحَذِّرَكم الدُنْيا، فإنها حُلْوَة خَضِرَة، حُفّت بالشَّهوات، ورَاقتْ بالقليل، وأينعت بالفاني، وتحبَّبت بالعاجل، لا يَدومُ نَعيمُها، ولا يؤْمَن فجيعُها، أكَّالة غَوَّالة، غرَّارة، لا تُبْقي على حال، ولا يَبقى لها حال، ولن تَعْدُو الدنيا إذا تناهت إلى أمْنية أهل الرغبة فيها، والرِّضا بها، أن تكون كما قال اللّه عزَّ وجلَّ: " واضْرب لهم مَثَل الحَيَاة الدُّنيا كماءٍ أنْزَلناه من السمِاء " ، إلى قوله ومُقْتَدِراً نسأل اللّه ربنَّا وإلهنا وخالِقنا ومولانا أنْ يجعلنا وإياكم من فزَع يومئذ آمنين. إنَّ أحسَن الحديثِ وأبلغَ الموعظة كتابُ اللّه، يقول اللّه: ما له " وإذا قُرِئ القُرآن فاسْتَمِعُوا لهُ وأنْصِتُوا لعلكم ترحَمُون " . أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، بسم اللّه الرحمن الرحيم لَقَدْ جَاءَكم رَسُولٌ من أنْفِسِكم إلى آخرً السورة.
خطب بني مروان
خطبة عبد الملك بن مروان

وكان عبد الملك بن مروان يقول في آخرً خطبته: اللّهم إنَ ذُنوبي قد عَظُمَت وجلَّت عن أن تُحْمى، وهي صَغِيرَة في جَنْب عَفْوك، فاعْفُ عني. وخطب بمكة شَرَّفها اللّه تعالى، فقال في خُطبته: إنّي الله ما أنا بالخليفة المُسْتَضْعف، يعني عثمان، ولا بالخليفة المُدَاهن، يعني معاوية، ولا بالخليفة المأفون، يعني يزيد. قال أبَو إسحق النظام: أما واللّه لولا نَسبَك من هذا المُسْتَضعف، وسَبَبك من هذا المُذَاهن، لكُنتَ منها أبعد من العِيوق. واللّه ما أخذتها بوراثة، ولا سابقة، ولا قَرابة، ولا بدعوى شورى، ولا بوصيّة.

خطبة الوليد بن عبد الملك
لما مات عبد الملك بن مروان ورجع الوليد من دَفنه، لم يدخل منزله حتى دخل المسجدَ، ونُودي في الناس: الصلاةُ جامعة. فَصَعِد المِنْبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه لا مُؤَخِّر لما قَدّمَ اللّه، ولا مُقَدِّم لما آخرً اللّه، وقد كان من قضاء اللّه وسابق عِلْمه، وما كَتب على أنبيائه، وحَمَلَة عرْشِه من الموت، مَوْتُ وليّ هذه الأمَّة، ونحن نرجو أنْ يصيرَ إلى منازل الأبرار، للذي كان عليه من الشدّة على المُريب، واللِّين على أهل الفَضْل والدِّين، مع ما أقام من مَنار الإسلام وأعلاَمِه، وحَجَ هذا البيت، وغَزْو هذه الثغور، وشَنّ الغارات على أعداء اللّه، فلم يكن فيها عاجزاً، ولا وانياً، ولا مُفَرِّطاً. فعليكم أيها الناس بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الفَذّ، وهو من الجماعة أبعد. واعلموا أنه من أبْدَى لنا ذاتَ نَفسه ضَرَبْنا الذي فيه عيناه، ومَن سكت مات بدائه. ثم نزل.
خطب سليمان بن عبد الملك
فقال: الحمد للّه، ألا إن الدُّنيا دار غُرور، ومنزل باطل، تُضْحِك باكياً، وتُبْكي ضاحكاً، وتُخِيف أمِناً، وتُؤمِّن خائفاً، وتُفقِر مثرْياً، وتثري مُقْتِراً، مَيَّالة غرَّارة، لعَّابة بأهلها. عبادَ الله، فاتّحذوا كِتاب اللّه إماَماً، وارَتضُوا به حَكماً، واجعلوه لكم قائداً، فإنه ناسخٌ لما كان قبلَه، ولم يَنْسخه كتاب بعده. واعلموا عبادَ اللّه أن هذا القران يَجْلو كيْدَ الشِّيطان، كما يجلو ضوءُ الصُّبح إذا تنفّس، ظلام الليل إذا عَسْعَس.
خطب عمر بن عبد العزيز
رحمه اللّه ورضي عنه:
قالت العُتبي: أول خُطبة خَطبها عمرُ بن عبد العزيز رحمه اللّه قوله: أيها الناس، أصْلحوا سرائركم تَصْلُح لكم عِلانِيَتُكم، وأصْلِحُوا أخرتكم تَصْلح دُنْياكم؛ وإنَ امرئ ليس بينه وبين آدمَ أبٌ حيٌّ لَمُعْرِقٌ في المَوْت.
وخطبة له رحمه اللّه
إن لكل سَفْر زاداً لا محالة، فتزوَّدُوا مِن دُنياكم لأخرتكم التَقْوى، وكُونوا كمن عايَن ما أعدَّ اللّه له من ثَوابه وعقابه، فتَرهبوا وتَرْغَبوا، ولا يَطولَنَّ عليكم الأمد فَتَقْسُو قلوبُكم، وتَنْقادوا لعدوّكُم، فإنه واللّه، ما بُسِط أملُ مَن لا يدري لعلّه لا يُصبح بعد إمسائه، أو يمسي بعد إصباحه، وربما كانت بين ذلك خَطرات المَنايا، وإنما يطمئن إلى الدًّنيا مَن أمِن عواقبها، فإنّ من يداوي من الدنيا كَلْماً أصابت جِراحةً من ناحية أخرى، فكيف يَطْمئنُّ إليها، أعوذ باللّه إن أمرُكم بما أنْهى عنه نَفسى فَتَخْسَر صَفْقتي، وتَظْهَر عَيْلَتي، وتبدو مَسْكَنتي، في يوم لا يَنفع فيه إلا الحقّ والصِّدق. ثم بَكى وبَكى الناس معه.
خطبة لعمر بن عبد العزيز أيضا
ً

شبيب بن شيبة عن أبي عبد الملك قال: كنت من حَرس الخُلفاء قَبْل عمر، فكنا نقوم لهم ونَبْدؤهم بالسّلاح. فخرج علينا عمر رضي اللّه عنه في يوم عِيد وعليه قَميص كَتَّان وعِمامة على قَلَنْسوة لاطِئة، فَمَثلنا بين يديه وسَلّمنا عليه، فقال: مه، أنتم جماعة وأنا واحد، السلامُ عليّ والردّ عليكم؟ وسَلّم، فَرَدَدْنا، وقُرِّبت له دابّته فأعرض عنها ومَشى، ومَشينا، حتى صَعِد المِنْبر، فحمد الله وأثنى عليه وصَلّى عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وَددْت أن أغنياء النّاس اجتمعوا فردُّوا على فُقرائهم، حتى نَسْتَويَ نحن بهم، وأكونَ أنا أوّلَهم. ثم قال: ما لي وللدُّنيا؛ أم مالها ومالي؛ وتكلم فأرَقّ حتى بكى الناسُ جميعاً، يميناً وشمالاً. ثم قَطع كلامه ونَزق! فدنا منه رجاءً بن حَيْوة، فقال له: يا أمير المؤمنين، كَلِّمتَ الناسَ بما أرقّ قُلويهم وأبكاهم، ثم قَطعته أحوجَ ما كانوا إليه. فقال: يا رجاء، إني أكره المُباهاة.

خطبة ابن الأهتم
بين يدي عمر بن عبد العزيز
ودَخل عبدُ اللّه بن الأهتم على عُمَم بن عبد العزيز مع العامّة، فلم يُفجأ إلا وهو قائم بين يديه يتكلّم؛ فحمد اللّه وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإن اللّه خَلق الخَلْق غنيّاً عن طاعتِهم، آمِنا من مَعْصيتهم، والناس يومئذ في المنازل والرأي مُختلفون، والعَرب بشرّ تلك المَنازل، أهل الوَبر وأهل المَدر، تُحتَاز دونهم طَيّبات الدُّنيا ورَفاهة عَيْشها، ميّتهم في النار، وحَيُّهم أعْمى، مع ما لا يُحصىِ من المَرْغوب عنه، المَزْهود فيه. فلما أراد اللِّه أن ينشر فيهم رَحْمته، بَعث إليهم رسولاَ منهم، عزيزاً عليه ما عَنِتُوا حريصاً عليهم بالمؤمنين رؤوف رَحيم، فلم يَمنعهم ذلك أن جَرّحوه في جِسْمه، ولَقّبوه في اسمه، ومعه كتابٌ من اللّه ناطق، لا يَرحل إلا بأمره، ولا يَنْزل إلا بإذنه، واضطرّوه إلى بطن غار. فلما أمر بالعزيمة، أسْفر لأمر اللّه لونُه، فأبلج اللّه حُجته، وأعلى كَلِمته، وأظهر دَعْوته، وفارق الدُّنيا تقيّاً صلى الله عليه وسلم ثم قام من عده أبو بكر رضي اللّه عنه، فسلك سُنَّته، وأخذ سبيله؛ فارتدّت العربُ، فلم يَقبل منهم إلا الذي كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يقبله؛ فانتضىَ السُّيوف مِن أغمادها، وأوقد النِّيران في شًعَلها، ثم رَكب بأهل الحق أهلَ الباطل، فلم يبرح يَفْصِل أو صالَهم، ويَسقي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الباب الذي خَرجوا منه، وقرّرهم بالأمر الذي نَفروا عنه. وقد كان أصاب من مال اللّه بَكْراً يرتوي عليه، وحَبشية تُرضع ولداً له، فرأى ذلك غُصّة في حَلْقه عند موته، وثقْلا على كاهله، فأداه إلى الخليفة مِن بعده، وبَرِئ إليهم منه، وفارق الدُّنيا نقيّاً نقيّاً على مِنْهاج صاحبه. ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. فمصَّر الأمصار، وخَلط الشدّة باللِّين، وحَسَر عن ذِراعيه، وشَمّر عن ساقَيه، وأعدّ للأمور أقرانها، وللحرب آلتها. فلما أصابه قِنّ المُغيرة بن شُعبة أمر ابنَ عباس أن يسأل الناس: هل يُثبتون قاتَله. فلما قيل له: قن المغيرة استهل بحمد اللّه أن لا يكون أصابه مَن له حق في الفَيء فيستحلّ دمَه بما استحل من حقّه. وقد كان أصاب من مال اللّه بِضْعة وثمانين ألفاً. فكسر بها رباعه، وكره فيها كَفالة أهله وولده، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وفارق الدُّنيا تقيّاً على مِنهاج صاحبه. ثم إنّا واللّه ما اجْتمعنا بعدهما إلا على ضِلَع أعوج. ثم إنك يا عُمر ابنُ الدنيا، ولدتْك مُلوكُها، وألقمتك ثَدْيها، فلما وَليتَها ألغَيتها وأجببتَ لقاء اللّه وما عنده، فالحمدً لله الذي جَلاَ بك حَوْبتنا، وكَشف بك كُرْبتنا، امْض ولا تلتفت، فإنه لا يُغْني عن الحق شيء، أقول قولي هذا واسْتغفر اللّه لي ولكم وللمُؤمنين وللمُؤمنات. ولما قال: ثم إنّا واللّه ما اجتمعنا بعدَهما إلا على ضِلَع أعْوج. سَكت الناسُ كلّهم غيرَ هِشَام، فإنه قال: كَذبت.
وخطبة أيضاًً لعمر نجن عبد العزيز

قال أبو الحسن: خَطب عمرُ بن عبد العزيز بخُناصرة خُطبة لم يَخْطب بعدها حتى مات رحمه اللّه، حَمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم لم تُخْلقوا عَبَثاً، ولم تُتركوا سُدًى، وإن لكم معاداً يحكم اللّه بينكم فيه، فخاب وخَسِر مَن خَرج من رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيء، وحُرم جَنَة عرضمها السمواتُ والأرض. واعلموا أن الأمان غداً لمن يخاف اليوم، وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق؛ ألا تَرَوْن أنكم في أصلاب الهالكين، وسَيخلفها مِن بعدكم الباقون، حتى تُردّوا إلى خير الم الورثين، ثم إنّكم في كُل يوم تْشِّيعون غادياً ورائحاً إلى اللّه، قد قَضى نَحْبَه، وبَلغ أجَلَه، ثم تغيِّبونه في صَدْع في الأرض، ثم تَدْعونه غير مًوَسَّد ولا مُمَهّد، قد خَلَع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب، غنيّاً عما تَرك: فقيراً إلى ما قَدّم، وايم اللّه، إني لأقول لكم هذْه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب، أكثرَ مما عندي، فاستغفر اللّه لي ولكم، وما تَبْلُغنا حاجةٌ يتّسبع لها ما عِنْدنا إلا سَدَدْناها، ولا أحدٌ مِنكم إلا وَدِدْت أن يَده مع يديَ ولحُمتي الذين يلونني، حتى يَسْتوى عيشُنا وعيشُكم، وايم اللّه إني لو أردتُ غير هذا من عيش أو غِضارة لكان اللسانُ به ناطقاً ذَلُولاً عالماً بأسبابه، ولكنه مَضى من اللّه كتابٌ ناطق وسُنّة عادلة، دلّ فيهما على طاعته، ونَهى عن مَعْصيته؛ ثم بَكى، فتلّقى دُموع عَينيه بردائه ونَزل. فلم يعد بعدَها على تلك الأعواد حتى قَبضه اللّه تعالى.

خطبة يزيد بن الوليد
حين قتل الوليد بن يزيد
بَقِيُ بن مخْلَد قال: حَدَّثني خَليفة بن خَيَّاط قال: حَدّثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدّثني إبراهيم بن إسحاق، أن يزيد بن الوليد بن عبد الملك لما قتل الوليد بن يزيد قام خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، إني ما خرجتُ أشرا ولا بَطراً، ولا حِرْصاً على الدنيا، ولا رَغبة في المُلك، وما بي إطراءُ نَفْسي، ولاَ تَزْكية عَمَلي، وإنّي لظَلُوم لنفسي إن لم يَرْحمني ربِّي، ولكني خرجتُ غضَباً للّه ودينه، وداعياً إلى كِتابه وسُنِّة نبيّه، حين دَرَسَتْ معالم الهُدى، وأطفيء نُور أهل التّقوى، وظَهر الجبار العَنيد، المُستحل الْحُرمة، والرَّاكب البِدْعة، والمغيِّر السُّنة. فلما رأيتُ ذلك أشفقتُ إذ غَشِيَتْكم ظُلمة لا تُقْلع، على كثير من ذُنوبكم، وقَسْوة من قُلوبكم، وأشفقت أن يَدْعم كثيراً من الناس إلى ما هو عليه، فيُجيبه من أجابه منكم، فاستخرتُ اللِّه في أمري، وسألتُه أن لا يَكلني إلى نفسي، وهو ابن عمي في نَسبي، وكَفِيء في حَسَبي، فأراح اللّه منه العِباد، وطَهّر منه البِلاد، ولايةً من اللّه وعَزْماً، بلا حَول منّا ولا قُوة، ولكنْ بحول اللّه وقوته، وولايته وعِزّته. أيها الناس، إنّ لكم عليّ إن وَليتُ أموركم ألا أضع لَبِنَة على لَبِنة، ولا حَجَراً على حَجَر، ولا أنْقُل مالاً من بلد إلى بلد، حتى أسُدِّ ثُغَرَه، وأُقيم مَصالحه، مما تَحْتاجون إليه، وتَقْوَون به، فإن فضَلَ شيء رَدَدْته إلى البلد الذي يليه، وهم من أحوج البُلْدان إليه، حتى تَسْتقيم المعيشةُ بين المُسلمين وتكونوا فيه سواءً، ولا أجَمِّركم في بعوثكم فُتفتتنوا وتُفْتن أهاليكم. فإن أردتم بَيْعتيِ على الذي بذلتُ لكم فأنا لكم به، وإن مِلْتُ فلا بَيْعة لي عليكم، وإن رأيتم أحداً أقوى عليها منّي فأردتم بيعتَه فانا أول من يُبايعه، ويَدْخل في طاعته، أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم.
خطب بني العباس
العُتبي قال: قيل لمسلمة بن هِلال العَبْديّ، خَطبنا جعفر بن سُليمان الهاشميّ خُطبة لم يُسْمع أحسنُ منها، وما دَرينا أَوَجْهُه كان أَحْسنَ أَمْ كلامه. قال: أولئك قوم بنُور الخلافة يُشرقون، وبلسان النبوّة يَنْطقون.
خطبة أبي العباس السفاح بالشام

خطب أبو العباس عبدُ اللّه بن محمد عليّ، لمّا قُتل مَروان بن محمد، فقال: ألم تَر إلى الذين بَدّلوا نعمة الله كفْراً وأَحَلًوا قومهم دار البوار، جَهَنِّم يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرار، نَكَصَ بكم يا أهل الشام آل حَرْب، وآل مَرْوان، يَتَسكّعون بكم الظُّلم، ويتهوَّرون بكم مَداحض الزَّلق، يطؤون بكم حُرم الله وحرم رسوله، ماذا يقول زُعماؤكم غداً؟ يقولون: ربّنا هؤلاء أَضلونا فاتهم عذاباً ضِعْفاً من النار. إذاً يقول اللّه عزَّ وجلّ لكُلّ ضِعْف ولكن لا تَعْلمون. أمّا أميرُ المؤمنين، فقد ائتنف بكم التّوبة، واغتفر لكم الزِّلة، وبسط لكم الإقالة، وعاد بفَضْلِه على نَقْصكم، وبِحِلْمه على جَهْلكم، فلْيُفرح رُوعكم، ولتطمئنّ به دارُكم، ولْتعظكم مصارعُ أَوائلكم، فتلك بيوتهم خاوية بما ظَلَموا.

خطب المنصور
خطب أبو جعفر المنصور، واسمه عبد الله بن محمد بن عليّ، لمَا قُتل الأمويين فقال: أَحرز لسانٌ رأْسَه، انتبه امرؤ لحظّه، نَظَر امرؤ في يومه لغده، فمشى القَصْد، وقال الفَصْل، وجانب الهُجْر. ثم أخذ بقائم سيفه فقال: أيها الناس، إنَ بكم داء هذا داؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه، فلَيعتبر عبد قبل أن يُعْتبر به، فإنما بعد الوعيد الإيقاع وإنما يفتري الكَذِب الذين لا يؤمنون بآيات الله.
خطبة المنصور حين خروجه إلى الشام
شنشنة أعرفها من أخزم ... مَن يَلقَ أبطال الرجال يُكْلم
مهلاً مهلًا، روايا الإرجاف، وكُهوفَ النفاق، عن الخَوْض فيما كُفيتم، والتَّخَطِّي إلى ما حُذِّرْتُم. قبل أن تَتْلف نفوس، ويقلّ عدد، ويدول عزّ، وما أنتم وذاك، ألم تَجدُوا ما وَعَد ربكم من إيراث المُسْتَضعفين من مَشارق الأرض ومَغاربها حقَاً والجَحْد الجحد. ولكن حِبِّ كامن، وحَسدٌ مُكْمِد، فبُعداً للقوم الظالمين.
وخطب أيضا
ً
قال يعقوب بن السِّكِّيت: خطب أبو جعفر المنصور يوم جُمعة، فحمد اللّه وأثنى عليه وقال: أيها الناس، اتقوا اللّه. فقام إليه رجلٌ فقال: أُذكّرك مَن ذَكّرتنا به يا أمير المؤمنين. قال أبو جعفر، سمْعاً سَمعاً لمَن فهم عنِ اللّه وذَكّر به، وأعوذ باللّه أن أُذَكِّرَ به وأنساه، فتأخذَني العِزّة بالإثم، لقد ضَلَلْت إذاً، وما أنا من المُهْتدين. وأمّا أنت، والتفت إلى الرّجل، فقال: والله ما اللّه أَرَدْتَ بها، ولكنْ ليُقال قام فقال فعوقِبَ فَصَبَر، وأَهْون بها لو كانت العُقوبة، وأنا أُنذركم أيها الناس أُخْتها، فإن الموعظةَ علينا نَزلت، وفيناأُنبِتت، ثم رجع إلى موضعه من الخطبة.
خطبة للمنصور بمكة
وخطب بمكة فقال: أيها الناس، إنما أنا سلطان اللهّ في أرضه، أَسُوسكم بتوْفيقه، وتَسْدِيده وتأييده، وحارسُه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأُعطيه بإذنه، فقد جَعلني اللهّ عليه قُفلاً، إذ شاء أن يَفتحني فَتَحَني لإعطائكم، وقَسْم أَرزاقكم، وإذا شاء أَنْ يُقْفِلني عليها أَقْفَلني، فارغبوا إلى اللّه وسَلوه في هذا اليومَ الشَّريف الذي وَهب لكم من فَضْله ما أَعْلَمكم به في كتابه إذ يقول: " اليومَ أكْمَلتُ لكم دِينَكم وأتمَمْتُ عليْكمْ نِعْمَتي ورَضِيتُ لكم الإسلام ديناً " أن يُوَفِّقني للرَّشاد والصواب، وأن يُلْهمني الرأفة بكمَ والإحسان إليكم، أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم.
خطبة لسليمان بن علي
ّ
" ولقَدْ كَتَبْنَا في الزَّبورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْر أَنَّ الأرْضَ يَرثُهَا عِبَادي الصَّالِحُون إنَ في هذا لبَلاكاً لِقومٍ عابدين. " قَضَاء مُبْرم، وقولٌ فَصْل ما هو بالهَزْل. الحمد للّه الذي صَدَقَ عَبْدَه، وأَنجَز وعْده، وبُعداً للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبةَ عرضاً، والفيء إرْثاً، والدَّين هُزؤا، وجعلوا القرآن عِضِين، لقد حاق بهم ما كانوا به يَسْتَهْزئون، فكأَيِّن ترى من بئْر مُعًطّلة وقَصْر مَشِيد، ذلك ما قَدّمَتْ أَيْدِيكم وأن الله ليس بظلاّم للعبيد. أُمْهلوا حتى نبذوا الكِتَابَ، واضطهدوا العِتْرَة، ونَبَذوا السنَة، واعتدَوْا واستِكبروا وخَاب كلُّ جبَّار عَنِيد، ثم أَخَذَهم، فهل تُحِس منهم من أحد أو تَسْمع لهم ركزاً.
خطبة عبد الملك بن صالح بن علي
ّ

أعوذ بالته السّميع العليم من الشًيطان الرَّجيم، أفلا يَتدبَّرون القرآن أم على قَلوب أقفالها، يأهل الشام، إنَّ الله وصف إخوانَكم في الدِّين، وأشباهكم في الأجسّامِ، فحذَّرَهم نبيّهِ محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: " وإذا رأيْتهُمْ تُعْجبُكَ أجسَامُهم وإن يَقُولوا تسْمَع لِقولهم كأَنّهُمْ خُشُبٌ مُسًنّدَة. يَحْسَبُون كُل صَيْحَة عليهم هُمُ العَدُوّ فاحْذَرْهمِ قاتَلُهم الله أنيَ يُؤْفكون " فقاتَلكم اللّه أنيَّ تُصرْفون، جُثَث مائلة، وقلوبٌ طائرة، تشُبُّون الفِتَن، وتُولُونَ الدُّبُر، إلا عن حُرَم الله، فإنها دَرِيئتكم وحُرَم رسوله، فإنها مَغْزاكم، أمَا وحُرمة النبوّة، والخلافة لتَنفِرُنَّ خِفَافاً وتقالاً أو لاوسعنَّكم إرغاماً ونَكالاً.

خطب صالح بن علي
ّ
يا أعضاد النِّفاق، وعَمَد الضلالة، أغرّكم لين إبساسي وطولُ إيناسي، حتى ظن جاهِلُكم أن ذلك لفُلول حَدّ، وفُتورِ جِدّ، وخَوَر قناة، كَذَبَت الظنون. إنها العِتْرَة بعضُهَا من بعض، فإذ قد استمر أتم العافية، فعندي فِصَال وفِطام، وسَيفٌ يَقُدُ الهام،! وإنّي أقول:
أغرِّكم أنِّي بأَكْرَم شيمةٍ ... رَفِيقٌ وإنِّي بالفَوَاحش آخرًقُ
ومِثْلي إذا لم يُجْزَأَحْسَنَ سَعْيه ... تَكلَمُ نُعماه بِفِيها فتَنْطِق
لَعَمْرَي لقد فاحَشْتَنِي فغلَبتني ... هنيئاً مريئاً أنت بالفُحْش أَرْفَق
خطب داود بن علي بالمدينة
فقال: أيها الناس، حَتّام يَهْتف بكم صَريخُكم، أمَا آنَ لراقدكم أن يَهُبّ من نومه، كلا بل رانَ على قُلوبهم ما كانوا يَكْسِبون، أغرّكم الإمْهال حتى حَسبتموه الإهمال، هيهات منكم وكيف بكم والسوطُ في، كَفّي والسيفُ مُشَهَّر:
حتى يُبيد قَبيلةً فَقبيلةً ... وَيَعَضَّ كُلُّ مُثقَّف بالهام
ويُقِمْن رَبَّاتِ الخُدور حَوَاسراً ... يَمْسَحن عُرض ذَوائب الأيتام
خطبة داود بن علي بمكة وخطب داود بن علي بمكة: شُكْراً شُكراً، واللّه ما خَرجنا لنَحْفِر فيكمم نهراً، ولا لنَبْني فيكم قَصْراً، أظنَ عدوُّ اللّه أنْ لن نَظفر إذ مُدّ له في عِنانه، حتّى عثر في فَضْل زِمامه، فالآنَ عاد الأمر في نِصابه، وأُطلعت الشمسُ من مَشرقها، والآن حيث تولّى القوسَ باريها، وعادت النَبْلُ إلى النِّزعة، ورَجع الأمر إلى مُستقرّه، في أهل بيت نبيّكم، أهل الرِّأفة والرّحمة، فاتقوا اللّه واسمعوا وأطيعوا، ولا تَجعلوا النِّعم التي أنعم اللّه عليكم سَبباً إلى أن تُبيح هَلَكتكم، وتُزيل النَعم عنكم.
خطبة للمهدي
ّ

الحمد للّه الذي ارتضى الحمدَ لنفسه، ورَضي به من خَلقه، أحمده على الآئه، وأُمجده لبلائه، وأَستعينه وأومن به وأتوكل عليه، توكّل راضِ بقَضائه، وصابر لبلائه، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحدَه لا شريك له، وأنّ محمدّاً عبدُه المُصطفى، ونبيُّه المُجتبى، ورسولُه إلى خلقه، وأَمينه على وَحْيه، أَرْسله بعد انقطاع الرجاء، وطُموس العِلم، واقتراب من الساعة، إلى أُمة جاهليّة، مُختلفة أُمية، أهل عَداوة وتَضاغن، وفُرقة وتَباين، قد استهوتهم شياطينُهم، وغَلب عليهم قُرناؤهم، فاستشعروا الرَّدى، وسَلكوا العَمى، يُبشَر مَن أطاعه بالجنّة وكريم ثَوابها، وينذّر مَن عصاه بالنار وأَليم عِقابها، ليَهلك مَن هَلك عن بيّنة، ويحيا من حَيّ عن بيِّنة، وإن اللّه لسميع عليم، أوصيكم عباد اللّه بتَقوى اللّه، فإنّ الاقتصار عليها سَلامة، والتركَ لها ندامة، وأَحثّكم على إجلال عَظمته، وتوقير كِبربائه وقدُرته، والانتهاء إلى ما يُقَرب من رَحمته، وُينخي، من سُخطه، وُينال به ما لديه من كريم الثواب، وجزيل المآب. فاجتنبوا ما خوّقكم الله من شديد، لعِقاب، وأليم العذاب، ووَعيد الحساب، يوم تُوقفون بي يدي الجَبَّار، وتعرضون فيه على النار، يومَ لا تَكَلّم نفس إلا بإذنه، فمنهم شَقِيّ وسَعيد، يومَ يَفِرّ المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبَنيه، لكُل امرئ منهم يومئذ شأنٌ يغنيه، يوم لا تَجزِي نفسٌ عن نفس شيئاً ولا يُقبل منها عدْل ولا تنفعها شفاعة ولا هم يُنصرون، يوم لا يَجزِي والد عن ولده ولا مَولود هو جازٍ عن والده شيئاً، إنّ وَعْدَ اللّه حق، فلا تغرّنكم الحياة الدنيا ولا يغُرنكم بالله الغَرور، فإن الدُّنيا دارُ غُرور، وبلاءٌ وشُرور، واضمحلال وزَوال، وتقلّب وانتقال، قد أَفنت مَن كان قبلكم، وهي عائدة عليكم وعلى مَن بعدكم. مَن رَكنَ إليها صَرَعَتْه، ومَن وثق بها خانته، ومن أَمَّلها كَذَبته، ومن رجاها خَذلته، عِزُّها ذُلٌّ، وغِنَاها فَقْر، والسّعيد مَن تركها، والشَّقِيّ فيها من آثرها، والمَغبون فيها مَن باع حَظّه من دار أخرته بها، فاللّه اللهّ عبادَ اللّه، والتوبة مَقْبولة، والرحمة مَبْسوطة، وبادِرُوا بالأعمال الزاكية في هذه الأيام الخالية، قبل أن يُؤخذ بالكَظم، وتدموا فلا تقالون بالنَّدم، في يوم حَسْرة وتأسّف، وكابة وتلهّف، يوم ليس كالأيام، وموقف ضَنْك المَقام. إن أحسنَ الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ اللّه، يقول اللّه تبارك وتعالى: " وإذا قًرِئ القُرآن فاسْتَمِعوا له وأَنْصِتوا لَعلّكم تُرَحمون " . أعوذ باللّه العظيم من الشَيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم: أَلْهَاكم التَّكاثُر حتى زُرْتًم المَقابر إلى آخر السورة، أُوصيكم عبادَ اللّه بما أوصاكم اللهّ به، وأَنهاكم عما نهاكم اللّه عنه، وأرضى لكم طاعة اللهّ، وأستغفر اللّه لي ولكم.

خطبة هارون الرشيد

الحمدُ للّه نَحْمده على نِعمه، ونَسْتعينه على طاعته، ونَسْتنصره على أعدائه نؤمن به حقّاً، ونتوكّلِ عليه مُفوِّضين إليه، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمداَ عبدُه ورسولُه، بعثَه على فَتْرة من الرُّسل، ودرُوس من العِلْم، وإدْبار من الدنيا، وإقبال من الآخرة، بَشيراً بالنَعيم المُقيم، ونَذيراً بين يدي عذاب أليم، فَبلّغ الرِّسالة، ونَصح الأمة، وجاهد في اللّه، فأدّى عن اللّه وعدَه ووعيده، حتى أتاه اليَقين، فعلى النبيّ من الله صلاة ورحمة وسلام. أُوصيكم عبادَ اللهّ بتقوى اللّه، فإن في التَقوى تَكْفيرَ السيّآت، وتَضْعيف الْحَسنات، وفوزاً بالجنّة، ونَجاةً من النار. وأُحذّركم يوماً تَشْخص فيه الأبصار، وتُبلى فيه الأسرار، يومَ البعث ويومَ التغابن ويومَ التلاق ويوم التناد، يومَ لا يُستعتب من سيئة، ولا يُزداد في حسنة، يوم الآزفة، إذا القُلوب لَدَى الحَناجر كاظِمين، ما للظّالمين من حَمِيم ولا شَفيع يُطاع، يُعلم فيه خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، واتّقوا يوما تُرجعون فيه إلى الله ثُم توفّى كل نفس ما كَسبت وهم لا يظلمون. عبادَ اللّه، إنكم لم تُخلقوا عَبثا، ولن تتركوا سُدَى، حَصّنوا إيمانكم بالأمانة، ودِينَكم بالوَرع، وصَلاتكم بالزِّكاة، فَقد جاء في الخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا إيمانَ لمن لا أمانة له، ولا دِين لمَن لا عهد له، ولا صَلاة لمن لا زكاة له. إنكم سَفر مُجتازون، وأنتم عنِ قَرِيب تَنتقلون من دار فَناء إلى دار بقاء، فَسارِعوا إلى المغفرة بالتَّوبة، وإلى الرَّحمة بالتّقوى، إلى الهُدى بالإنابة؛ فإن اللّه تعالى ذِكْره أوْجب رَحْمته للمُتَّقين، ومَغْفرته للتائبين، وهُداه للمُنيبين. قالت الله عزَّ وجلّ وقولُه الحق: " ورَحْمتي وَسِعتْ كُلّ شيء فسأكْتُبها للذين يَتَّقُون وَيؤدون الزَّكاة " وقال: " وإني لغفّار لمن تاب وآمَن وعَمل صالِحاً ثم اهْتدَى " وإياكم والأمانيَ، فقد غَرّت وأرْدت وأوبقت كثيراً، حتى أكذبتهم مُناياهم، فتناوشُوا التوبةَ من مكان بعيد، وحِيل بينهم وبين ما يَشْتهون، فأخبركم ربكم عن المَثُلات فيهم، وصَرّف الآياتِ، وضَرَب الأمثال، فرغّب بالوَعْد، وقَدّم إليكم الوعيد، وقد رأيتُم وقَائعه بالقرُون الخوالي جيلاً فجيلاً، وعَهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بُيوتكم ومن بين ظهركم، لا تَدْفعون عنهم ولا تَحُولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا، وانقطعت بهم الأسباب، فاسلمتْهم إلى أعمالهم عند المَواقف والحساب والعقاب، ليُجْزى الذين أساءوا بما عملوا، ويُجزي الذين احسنوا بالحُسنى. إن أحسن الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ الله، يقول الله عزّ وجلّ: " وإذا قُرِىء القُرْان فاسْتَمِعوا له وأنْصتوا لعلَّكم ترحَمون " أعوذ بالله العظيم من الشَيطان الرجيم، إنه هو السّميع العليم. بسم الله الرحمن الرحيم " قُل هُو اللّهُ أحد. اللّهُ الصَمَد. لَم يلد. ولم يُولَد. ولم يَكن له كفُواً أحد " أمرُكم بما أمَركم اللّهُ به، وأنهاكم عما نَهاكم اللّه عنه. وأستغفر اللّه لي ولكم.

خطبة المأمون في يوم الجمعة

الحمد للّه مُستخلِص الحمدِ لنفسه، ومُستوجِبه على خَلْقه أحمده وأستعينه، وأُومنِ به، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمداً عبدُه ورسولُه، أرسله بالهُدى ودِين الحق ليُظهره على الدِّين كلِّه ولو كَره المشركون، أُوصيكم عبادَ اللهّ ونَفْسي بتَقْوى اللّه وحدَه، والعمل لما عنده، والتنجّز لِوَعْده، والخوفِ لوَعِيده، فإنه لا يَسلم إلا مَن اتقاه ورَجاه، وعَمل لَه وأرضاه. فاتقُوا اللّهَ عباد اللهّ، وبادِرُوا آجالَكم بأعمالكم، وابتاعًوا ما يَبقى بما يَزُول عنكم ويَفْنى، وترَحَّلوا عن الدُّنيا، فقد جَدَّبكم، واستعدُّوا للموت فقد اظلَّكم، وكُونوا كقوم صِيح فيهم فانتبهوِا، وعلموا أنّ الدُّنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فإنّ اللهّ عزّ وجلّ لم يَخْلُقكم عَبَثاً، ولم يترككم سُدًى، وما بَينْ أحدكم وبيني الجَنَة والنار إلا الموتُ أنْ ينْزلى به؛ وإنَّ غايةً تَنْقُصها اللحظةُ، وتَهْدِمها الساعةُ الواحدةُ، لجديرة بقِصَر المُدة؛ وإنّ غائباً يَحْدوه الجديدان الليلُ والنهار؛ لجديرٌ بسُرعة الأوبة، وإنّ قادماً يَحُل بالفَوْز أو بالشِّقوة لمُستحق لأفضل العُدّة. فاتقى عبدٌ ربّه، ونصح نفسه، وقدّم توبته، وغلب شَهْوته؛ فإنَّ أجلَه مستور عنه، وأملَه خادع له، والشيطان مُوَكَلٌ به، يُزَيِّن له المعصية ليركَبَها، وُيمَنِّيه التَّوْبة ليًسَوِّفها، حتى تَهْجُم عليه منيتَه، أغفَلَ ما يكون عنها. فيالها حَسْرَةً على كلّ ذي غَفلة، أن يكون عُمْره عليه حُجَّة، أو تؤدّيه منيّته إلى شَقْوَة. نَسْأل اللهّ أن يَجعلنا وإيّاكم ممن لا تُبطره نِعْمة، ولا تُقَصِّر به عن طاعة ربه غَفْلة، ولا تَحُل به بعد الموت فَزْعة، إنَّه سَمِيع الدعاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فعّال لما يريد.
خطبة المأمون يوم الأضحى قالت بعد التكبير والتَحميد: إنَّ يومَكم هذا يومُ أبان اللّه فَضْلَه، وأوْجَبَ تَشْريفَه، وعَظَّم حًرْمَته، ووفِّى له من خلقه صَفْوَته، وابتلى فيه خليله. وفَدَى فيه بالذِّبح العظيم نبيَّه، وجعله خاتَم الأيام المعلومات من العَشْر، ومُقَدّم الأيام المعدودات من النَّفْر، يومٌ حَرام، من أيام عِظَام، في شهر حرام، يومُ الحجّ الأكبر، يومٌ دعا الله فيه إلى مَشْهده، ونزل القرآن العظيم بتَعْظيمه، قال اللّه عزّ وجلّ: " وأذِّنْ في النَّاس بالحَجّ يأتُوكَ رِجَالاً وعَلَى كُل ضامِرٍ يأتِينَ مِنْ كُل فَجٍٍّ عَمِيق " فتقرّبوا إلى اللّه في هذا اليوم بذَبائحكم، وعَظّموا شعائر اللهّ، واجعلوها من طيِّب أموالكم، وبصحِّة التَّقوى من قُلوبكم، فإنه يقول: " لَنْ يَنَال اللّه لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُه التَّقوى مِنْكم " ثم التَّكبير والتّحميد. والصلاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم، والوصية بالتَقوى. ثم ذكر الموت، ثم قال: وما من بعده إلا الجنَّة أو النار، عظمَ قدْرُ الدارين، وارتفع جزاء العَمَلين، وطالت مُدَة الفَريقَيْن. اللّه؛ فواللّهِ إنه الجدّ لا الّلعِب، والحقّ لا الكَذِب، وما هو إلا الموتُ والبعثُ والمِيزان والحِساب والصِّرَاط والقِصاص والثواب والعِقاب. فَمَن نجا يومئذٍ فقد فاز، ومَن هَوَى يومئذ فقد خاب، الخيْر كلّهُ في الجنة. والشرّ كله في النار.
خطبة للمأمون في الفطر

قال بعد التَّكبير والتَحميد: ألاَ وإنَ يومَكم هذا يوم عيد وسُنة، وابتهال ورَغبة، يومٌ خَتَم اللّه به صِيَام شهر رمضان، وافتتح به حَجّ بيته الحرام، فجلعه أول أيام شُهور الحجّ، وجعله مُعَقِّبا لِمَفروض صيامكم، ومُتَنَقِّل قيامكم، أحلَّ الله لكم فيه الطَّعام، وحرّم عليكم فيه الصّيامَ، فاطلبُوا إلى اللّه حوائجكم، واستغفروه لتَفريطكم، فإنه يُقال: لا كثيرَ مع نَدَم واستغفار، ولا قَليل مع تَمَادٍ وإصرار. ثم كبَرَ وحَمّد، وذكرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأوصى بالبرّ وّالتَّقوى، ثم قال: اتقوا اللّه عباد الله، وبادرُوا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم، ولم يَحْضر الشد فيه أحداً منكم، وهو الموتُ المكتوب عليكم، فإنه لا تُسْتقال بعده عَثْرة، ولا تُحْظر قبله توبة، واعلموا أنه لا شيء قبله إلا دونه، ولا شيء، بعدَه إلاّ فوقَه، ولا يُعين على جَزَعه وعَلَزه وكُرَبه، وعلى القبر وظُلْمته، وضِيقه ووَحْشَته، وهَول مطلعه، ومسألة ملكَيْه، إلا العمل الصالح الذي أمر اللّه به؛ فمن زَلْت عند الموت قدَمُه، فقد ظهرت ندامتُه، وفاتته استقالتُه، ودَعا من الرّجعة إلى مالا يُجاب إليه؛ وبَذَل من الفِدْية مالا يُقْبَل منه. فاللّه اللّه عباد اللّه، كُونوا قوماً سألوا الرَّجعة فأُعطوها إذ مُنعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المُتقدّمون قبلَكم إلا هذا الأجل المَبْسوط لكم، فاحذَروا ما حَذّركم اللّه، واتقوا اليوم الذي يَجْمعكم اللهّ فيه، لوَضْع موازِينكم، ونشر صًحفكم، الحافظة لأعمالكم. فلينظر عبدٌ ما يَضع في ميزانه مما يَثْقل به، وما يُمْلى في صحيفته الحافظة لما عليه وله؛ ألا فَقد حكى اللهّ لكم ما قالَ المُفرطون عندها، إذ طال إعراضّهم عنها، قال جلّ ذكره: " ووُضِع الكِتابُ فَتَرَى المُجْرمين مُشْفِقِين مما فيه ويقولون يا وَيْلَتَنا ما لهِذا الكِتاب لا يُغَادِرُ صَغيرَةً ولا كَبيرَةً إلاّ أحْصَاها ووَجَدُوا ما عَمِلوا ضِراً ولا يَظْلمُ رَبًّكَ أحَداً " قال: " ونَضَع المَوَازِين القِسْطَ لِيَوْم القِيَامة فَلاَ تُظْلم نَفْسٌ شيئَاَ. وإنْ كان مثقالَ حًبّة من خرْدَلٍ أتينا بها وكَفى بنا حَاسِبين " ولستُ أنها كم عن الدُنيا بأكثر مما نهتكم به الدُّنيا عن نَفْسها، فإنّ كل ما بها يُحَذِّر منها، وينهى عنها، وكلّ ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذَمُّ كتاب اللهّ لها والنهيُ عنها، فإنّه يقول تبارك وتعالى: " فلا تَغرَّنكم الحياةُ الدُّنيا ولا يَغُرَّنكم بالله الغَرُور " وقال: " اعلَموا أنما الحَيَاة الدُّنيا لَعب ولَهْوٌ وزِينَة وتفَاخُز بينكم وتَكاثر في الأموال والأولاد " فانتفعوا بمَعرفتكم بها. وبإخبار اللهّ عنها. واعلموا أنَّ قوماً مِن عباد اللّه أدركتهم عِصْمَةُ اللهّ فَحَذِروا مَصَارعها، وجانبوا خَذائعها، واثروا طاعةَ اللهّ فيها، وأدركوا الجنة بما يَتْركون منها.

خطبة عبد الله بن الزبير
حين قام بفتح افريقية:
قَدِم عبدُ اللهّ بن الزُّبير علي عثمان بن عفّان بفتح إفريقية، فأخبره مُشافهة

وقَص عليه كيف كانت الوقعة. فأعجب عثمانَ ما سمع منه، فقال له: يا بني، أتقوم بمثل هذا الكلام في الناس؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أنا أهْيب لك مني لهم. فقام عثمانُ في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله قد فَتح عليكم إفريقية، وهذا عبدُ اللهّ بن الزبير يُخبركم خبرَها إن شاء الله. وكان عبدُ الله بن الزُبير إلى جانب المِنبر، فقام خطيباً، وكان أولَ من خطب إلى جانب المنبر، فقال: الحمدُ للهّ الذي ألَف بين قُلوبنا، وجعلنا متحابين بعد البِغْضة، الذي لا تُجحد نَعماؤه، ولا يزول مُلْكه، له الحَمْد كما حَمدَ نفسه، وكما هو أهلُه، انتخب محمداً صلى الله عليه وسلم، فاختاره بعِلْمه، وائتمنه على وَحْيه، واختار له من الناس أعواناً، قَذف في قُلويهم تصديقَه ومحبته، فآمنوا به وعَز روه ووَقروه، وجاهدوا في الله حَق جِهاده، فاستُشهد لله منهم مَن استشهد، على المِنْهاج الواضح، والبَيْع الرابح، وبقي منهم مَن بَقي، ولا تأخذُهم في اللّه لومةُ لائم. أيها الناس: رَحمكم اللّه؛ إنا خرجنا للوجه الذي عَلمتم، فكُنا مع والٍ حافظ، حَفِظ وصيةَ أمير المؤمنين، كان يسير بنا الابْردين، ويَخْفض بنافي الظهائر، ويتخذ الليل جملًا، يعُجل الرِّحلة من المَنزل الجَدْب، ويُطيل اللبث في المنزل الخِصْب، فلم نزل على أحسن حالة نعرفها من ربّنا، حتى انتهينا إلى إفريقية، فنزلنا منها بحيثُ يسمعون صَهيل الخيل، ورُغاء الإبل، وقَعقعة السلاح. فأقمنا أياماً نُجِمّ كُراعنا، ونُصْلح سِلاحنا، ثم دعوناهم إلى الإسلام والدخولِ فيه، فأبعدوا منه؛ فَسألناهم الجزية عن صَغار، أو الصلحَ، فكانت هذه أبعدَ، فأقمنا عليهم ثلاثَ عشرَة ليلة نَتأنّاهم، وتَختلف رُسُلنا إليهم. فلما يَئِس منهم، قام خطيباً فحمد الله، وأثنى عليه، وذَكر فضلَ الجهاد، وما لصاحبه إذا صَبر واحتسب ثم نَهضنا إلى عدوّنا وقاتلناهم أشدَّ القتال، يومَنا ذلك، وصَبر فيه الفريقان، فكانت بيننا وبينهم قَتْلى كثيرة، واستشهد للهّ فيهم رجال من المُسلمين؛ فبِتْنا وباتوا، وللمُسلمين دويّ بالقرآن كدويّ النحل، وبات المشركون في خُمورهم وملاعبهم، فلما أصبحنا أخذنا مصاّفَنا الذي كُنا عليه بالأمس، فزحف بعضُنا على بعض، فأفرغ اللّه علينا صَبْره، وأنزل علينا نَصْره؛ ففتحناها منِ آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، وفيئاً واسعاً، بلغ فيه الخُمس خَسمائة ألف، فصفق عليها مروان بن الحكم، فتركتُ المسلمين قد قرَّت أعينُهم وأغناهم النّفل، وأنا رسولُهم إلى أمير المؤمنين أُبشره وإياكم بما فَتح الله من البلاد، وأذلِّ من الشرك. فاحمدوا الله عبادَ الله على آلائه، وما أحل بأعدائه، من بأسه الذي لا يردّه عن القوم اْلمُجْرمين، ثم سكت. فنهض إليه أبوه الزُّبير فَقَبِّل بين عينيه وقالت: ذُرِّية بعضُها من بعض والله سميع عليم، يا بني: ما زِالْتَ تنطق بلسان أبي بكر حتى صَمَت.
خطبة عبد الله بن الزبير لمّا بلغه قتل مصعب

صَعِد المنبر فحمد الله وأَثنى عليه ثم سكت، فجعل لونُه يحمر مرة ويصفر مرة، فقال؛ رجلٌ من قُريش لرجل إلى جانبه: ما له لا يتكلًم، فواللّه إنه للبيب الخُطباء قال: لعله يريد أن يذكر مَقتل سيد العرب فيشتدّ ذلك عليه، وغير ملوم. ثم تكلًم، فقال: الحمد للّه له الخَلْق والأمر، والدُّنيا والآخرة، يُؤتي الملك مَن يشاء، ويَنزع الملك ممّن يَشاء، ويُعز مَن يشاء، ويُذل مَن يشاء. أمّا بعد: فإنه لم يُعزّ اللهّ مَن كان الباطلُ معه، وإن كان معه الأنامُ طُرّاً، ولم يُذل مَن كان الحقُّ معه، وإن كان فَرْداً. ألاَ وإن خبراً من العراق أتانا فأَحْزننا وأَفْرحنا، فأمّا الذي أَحزننا، فإن لفراق الحَميم لوعةً يجدها حميمه، ثم يرعوي ذوو الألباب إلى الصَّبر وكريم العَزاء؛ وأمّا الذي أفرحنا، فإنّ قَتْل مُصعب، له شهادة، ولنا ذخيرة، أَسلمه النّعام المًصلَّم؛ الآذان. ألاَ وإن أهل العِراق باعوه بأقلّ من الثَمن الذي كانوا يأخذون منه، فإن يُقتل فقد قُتل أخوه وأبوه وابنُ عمه، وكانوا الخيارَ الصالحين. إنا واللّه لا يموت حَتْفَاً ولكن قَعصاً بالرِّماح، ومَوْتا تحت ظلال السُّيوف، ليس كما تموت بنو مَرْوان، ألا إنما الدُنيا عاريّة من المليك الأعلى الذي لا يَبيد ذِكْره، ولا يَذِل سُلطانه، فإنْ تُقبِل الدنيا عليّ، لم آخُذها أَخْذ الأشِر البَطر؛ وإنْ تُدْبر عني، لم أَبْك عليها بُكاء الخَرِق المهين، ثم نزل.

خطبة زياد البتراء

قال أبو الحسن المدائني عن مَسْلمة بن مُحارب بن أبي بَكْر الهُذليّ قال: قَدِم زيادٌ البَصْرَة والياً لمُعاوية بن أبي سُفيان، وضم إليه خراسان وسجستان، والفِسْقُ بالبَصرة ظاهرٌ فاش، فخَطب خُطبة بتراء لم يَحمد الله فيها. وقال غيرُه بل قال: الحمدُ للهّ على إفضاله وإحسانه، ونَسأله المزيدَ مَن نِعَمه وإكْرامه، اللَّهم كما زِدْتنا نِعماً فأَلْهمنا شُكراً، أمّا بعد: فإن الجهالة الجَهْلاء، والضًلالة العَمْياء، والعَمَى المُوفي بأَهله على النَار، ما فيه سُفهاؤكم، ويَشتمل عليه حُلماؤكم، من الأمُور العِظام؛ يَنبُت فيها الصغير، ولا يَتحاشى عنها الكبير. كأنكم لم تَقْرءوا كِتاب الله، ولم تَسمعوا ما أَعدَّ الله من الثواب بالكريم لأهل طاعته، والعذَاب العَظيم لأهل مَعْصيته، في الزَمن السرمديّ الذي لا يزول؟ أتكونون كمَن طَرفَتْ عَيْنَه الدنيا، وسدت مسامَعه الشهوات، واختار الفانيةَ على الباقية، ولا تَذْكُرون أنكم أَحدثتم في الإسلام الحَدَث الذي لم تُسسبقوا إليه، مَن تَرككم هذه المَواخير المنصوبة، والضعيفة المَسْلوبة، في النّهار المُبصر، والعدَدُ غيرُ قليل. ألم يكن منكم نُهاة تَمنع الغُواة عن دَلجَ الليل وغارة النهار! قَربتم القرابة، وباعدتم الذَين، تَعتذرون بغير العُذر، وتَغُضّون على المُخّتَلس كُلّ امرئ يَذُب عن سَفِيهه، صَنِيعَ مَن لا يخاف عاقبةً ولا يرجو مَعاداً. ما أنتم بالحُلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يَزل بكم ما تَرَوْن من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حُرم الإسلام، ثمّ أَطْرقوا وراءكم، كُنُوساً في مكانس الرِّيَب. حرامٌ عليّ الطعامُ والشّراب حتى أُسويها بالأرض هَدْماً وإحراقاً. إني رأيتُ آخرَ هذا الأمر لا يَصْلح إلّا بما صَلَح به أولُه؛ لِينٌ يا غير ضَعْف، وشِدّة في غير عُنْف؛ وإني أُقسم باللّه لآخُذنَ الوليّ بالمولى، والمُقيم بالظّاعن، والمُقْبل بالمُدبر، والصحيحَ بالسَّقيم، حتى يَلْقى الرحلُ منكم أخاه فيقول: انْجُ سَعْد فَقد هلك سُعيد، أو تَسْتقيم لي قَناتُكم. إن كِذْبَة الأمير بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذْبة فقد حَلَّت لكم مَعْصيتي. من نُقِب منكم عليه فأنا ضامن لما ذَهب منه، فإيّاَيَ ودَلَجَ اللَّيل، فإنّي لا أُوتيَ بمُدْلِج إلّا سَفكت دَمَه، وقد أُجِّلتم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكُوفةَ ويَرجعِ إليكم، وإيّاي ودَعْوي الجاهليّة، فإني لا أَجد أحداً دعا بها إلّا قطعتُ لسانه، وقد أحْدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أَحدثنا لكُلّ ذَنب عُقوبةً، فمَن غرق قوماً غرقناه، ومَن أَحرق قوماً أحرقناه، ومَن نَقَبَ بيتاً نَقَبنا عن قَلْبه، ومَن نَبَش قَبْراً دفنّاه فيه حيّاً، فكُفُّوا عني ألسنَتكم وأيدَيكم أكف عنكم يدي ولساني، ولا يَظهرنّ من أحد منكم ريبةٌ بخلاف ما عليه عامَّتكم إلّا ضربتُ عُنقه، وقد كانت بيني وبين قومِ إحَنٌ، فجعلتُ ذلك دَبْر أُذني وتحت قدمي، فمَن كان مُحسِناً فَلْيَزْدد في إحسانه، ومن كان مُسِيئاً فَلْيَنزع عن إساءته، إنيِ لو علمتُ أنَّ أَحدَكم قد قَتله السُّلّ من بُغضي لم أَكْشف له قناعاً، ولم أَهْتك له سِتْراً حتى يُبدِي لي صَفْحته، فإنْ فعل ذلك لم أنظره. فاستأنفوا أموركم، واستعينوا على أَنفسكم، فرب مُبتئس بقُدومنا سيُسر، ومَسرور بقَدومنا سيَبْتَئس. أيها الناس، إنّا أصبحنا لكم ساسةً، وعنكم ذادة، نَسُوسكم بسُلطان اللّه الذي أَعطانا، ونَذُود عنكم بفَيء اللّه الذي خوَلنا؟ فَلَنا عليكم السَّمع والطاعة فما أَحببنا، ولكم علينا العدلُ فما وَلينا، فاستوجبوا عَدْلَنا وفَيْئنا بمُناصحتكم لنا. واعلموا أني مهما أُقصّر فلن أُقصر عن ثلاث: لستُ مُحْتجباً عن طالب حاجة ولو أَتاني طارقاً بليل، ولا حابساً عَطاءً ولا رزْقاً عن إبانه، ولا مُجَمِّراً لكم بَعْثاً. فادعوا الله بالصَّلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساسُتكم المؤدِّبون، وكَهْفُكم الذي إليه تَأْوون، ومتى يَصْلحوا تَصْلحوا. ولا تُشربوا قلوبَكم بُغْضهُم فَيَشْتَد لذلك أسَفكُم، ويطول له حزنكم ولا تُدْرِكوا له حاجتكم، مع أنَّه لو اسْتُجيب لكمٍ فيهم لكان شرِّاً لكم: أسأل اللهّ أن يُعين كُلأ على كُلّ. وإذا رأيتُموني أُنَفِّذ فيكم أمرا فأَنْفِدُوه على أذلاله وايم للّه إن لي فيكم لصَرْعى كثيرة، فَلْيحذر كل امرئ منكم أن

يكون مِنْ صَرعاي، ثم نزل. مِنْ صَرعاي، ثم نزل.
فقام إليه عبدُ اللهّ بن الأهتم، فقال: أَشهد أيها الأمير لقد أُوتيت الحِكمة وفَصْل الخِطاب. فقال له كذَبْتَ، ذاك داودُ صلى الله عليه وسلم. فقام الأحنف بن قيس، فقال: إنما الثّناء بعد البَلاء، والحمدُ بعد العَطاء، وإنا لن نُئْنى حتى نَبْتلي. قال له زياد: صَدَلْت. فقام أبو بلال، وهو يَهْمس، ويقول: أنبأنا اللّه تعالى بخلاف ما قلتَ، قال اللّه تعالى: " وإبراهيمَ الذي وَفَى. أَلّا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى. وأنْ ليس للإنسان إلّا ما سَعى " وأَنت تزعم أنك تأخذ الصحيح بالسَّقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، فَسَمِعَها زياد، فقال: إنّا لا نبلغ ما نرِيد فيك وفي أصحابك حتى نَخُوض إليكم الباطل خَوْضاً.

خطبة لزياد
استوصوا بثلاث منكم خيراً: الشريف والعالم والشَّيخ، فوالله لا يأتيني شيخٌ بحدَث استَخَفَّ به إلّا أَوْجَعته، ولا يأتينِي عالمٌ بجاهل استخف به إلاّ نَكَلْتُ به، ولا يأتيني شريف بوَضيع استخف به إلاضربته.
خطبة لزياد
خَطب زياد على المِنبر فقال: أيها الناس، لا يَمنعكم سُوء ما تَعْلَمون عنّا أنْ تَنْتفعوا بأَحْسن ما تَستمعون منّا، فإن الشاعر يقول:
اعمل بقَوْلي وإن قصَّرتُ في عملي ... يَنْفَعك قولي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيري
وخطبة لزياد
العُتبيّ قال: لما شهدتْ الشُّهود لزياد، قام في أَعقابهم فَحَمِد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: هذا أمر له أشهد أوّلَه، ولا عِلْم لي بآخره، وقد قاد أميرُ المؤمنين ما بَلغكم، وشهدتْ الشهود بما سَمِعتم. فالحمد للّه الذي رَفع منّا ما وَضع الناس، وحَفِظ منّا ضَيّعوا. فأمّا عُبيد، فإنما هو والد مبرور، أو كافل مشكور.
خطبة الجامع المحاربي
وكان شيخاً صالحاً خَطِيباً لسناً، وهو الذي قال للحجاج حين بنى مدينة واسط: بَنَيتَها في غير بلدك، وأَوْرَثتها غيرَ وَلدك شَكا الحجّاج سُوء طاعة أهل العِراق، وَنقَمَ مَذْهَبهم، وَتَسَخطَ طريقتهم، فقال جامع: أما إنهمِ لو أحبُّوك لأطاعوك، على أنهم ما شَنَؤوك لِنَسبك، ولا لبلدك، ولا لذات نَفْسك؛ فدَعِ عنك ما يُبْعدهم منك إلى ما يُقرّبهم إليك، والتمسى العافية ممن دُونك تُعْطَها ممن فوقك، وليكُن إيقاعك بعد وَعيك، ووَعيدُك بعد وَعْدك. قال الحجَّاج: إنّي واللّه ما أَرى أن أَردَ بني اللَّكيعة إلى طاعتي إلّا بالسيف. قال له: أيها الأمير، إنّ السَّيف إذ لاقَى السيف ذَهَب الخيار. قال الحجاج: الخَيارُ يومئذ لله. قال: أجل، ولكن لا تَدْرِي لمَن يَجْعله اللّه. وغضب الحجاج فقال: يا هناهُ إنك من مُحارب. فقال جامع:
وللحَرْب سمَينا وكُنّا مُحارِباً ... إذا ما القنا أَمْسى من الطّعن أَحْمَرَا
والبيت للخُضْرِي قال الحَجَّاج: واللهّ لقد هَمْمتُ أن أقطع لسانَك فأضرب به وجهك. قال جامعِ: إن صَدقناك أَغْضبناك، وإن غَششْناك أغضبنا اللّه، فغضَبُ الأمير أَهْونُ علينا من غضب اللهّ. قال: أجل. وشُغل الحجاج ببعض الأمر، فانسلَّ جامع، فمرّ بين صُفوف خَيْل الشام حتى جاوزَهم إلى خَيْل أهل العراق - وكان الحجَّاج لا يَخْلطهم - فأبصرَ كَبْكبة فيها جماعةٌ من بكر العِراق وقَيس العراق وتميم العراق وأزد العراق، فلمّا رأَوْه اشرَأَبُّوا إليه وبلغهم خُروجُه، فقالوا له: ما عندك؟ دافع اللّه لنا عن نفسك. فقال: ويحكم! عُمّوه بالخلع كما يُعمكم بالعداوة، ودَعُوا التَعادي ما عاداكم، فإذا ظَفرْتم تَرَاجعتم وتعاديتم. أيها التميمي، هو أَعْدَى لك من الأزدي، وأيها القيسي، هو أعدى لك من التَّغلبي، وليس يظفر بمَن نَاوَأَه منكم إلّا بِمَن بَقِيَ معه. وهرب جامع من فَوْره ذلك إلى الشام، فاستجار بزُفْر بن الحارث.
خطبة للحجاج
بن يوسف
خَطب الحجًاج فقال: اللَّهم أَرِني الغَيّ غيّاً فأجتنبَه، وأَرِني الهُدَى هُدىً فأتبعَه، ولا تَكْلني إلى نَفسي فأضلّ ضلالاً بعيداً. واللّه ما أُحِبّ أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، ولمَا بَقِيَ منها أَشبهُ بما مَضى من الماء بالماء.
خطبة للحجاج

قال الهيثم بن عديّ: خرج الحجّاج بن يوسف يوماً من القصر بالكوفة، فسمع تكبيراً في السُوق، فراعه ذلك، فَصَعِد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأهل العراق، يأهل الشَقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق، وبني اللًكيعة، وعَبيد العصا، وأولاد الإماء، والفَقْع بالقرقرة، إني سمعتُ تكبيراً لا يُراد به اللهّ، وإنما يُراد به الشيطان، وإنما مَثلي ومَثلكم ما قال ابن براق الهَمْداني:
وكنتُ إذا قوم غَزَوْني غزوْتهمٍ ... فهل أنا في ذا يا لهَمْدان ظالمُ
متَى تَجْمَع القَلْبَ الذَكيّ وصارماً ... وأَنفاً حَمياً تَجْتَنِبْك المظالم
أما والله لا تُقرع عصاً بعصاي إلا جعلتُها كأمس الدابر.

خطبة للحجاج بعد دير الجماجم
خطب أهلَ العراق فقال: يأهل العراق، إنّ الشّيطان قد اسْتَبطنكم فخالَط اللحمَ، الدَّم والعَصب والمِسامع والأطراف والأعضاد والشَغاف، ثم أفضىَ إلى المِخاخ والصَّمائخ، ثم ارتفعِ فَعَشّش، ثم باض وفَرّخ، فحشاكم شِقاقا ونفاقاً، وأشعركم خلافاً؛ اتخذتموه دَليلا تَتّبعونه، وقائداً تُطيعونه، ومُؤامراً تَسْتَشيرونه. وكيف تنفعكم تجربة، أو تَعِظكم وَقعة، أو يحْجًزكم إسلام، أو يَردّكم إيمان! ألستم أصحابي بالأهواز حيث رُمتم المكر، وسَعَيتم بالغَدْر، واستجمعتمِ للكُفر وظَننتم أنَ اللّه يَخْذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطَرْفي وأنتم تَتَسلّلون لِو إذا وتنهزمون سراعاً، ثم يومَ الزاوية وما يوم الزاوية! بها كان فَشَلكم وتنازُعكم وتخاذلكم، وبراءة اللّه منكم، ونُكوص وليّه عنكم؛ إذ وَلّيتم كالإبل الشَوارد إلى أَوْطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المَرء منكم عن أخيه، ولا يُلوي الشيخ على بنيه، حتى عَضّكم السلاح، وقَصَمتكم الرّماح؛ ثم يوم دَيْر الجماجم، وما دَيْر الجماجم! بها كانت المعارك والملاحم، بضرب يُزيل الهام عن مَقِيله، ويذهل الخَلِيل عن خليله. يأهل العراق، والكَفَرات بعد الفَجَرات، والغَدَرات بعد الخَتَرَات، والنزوات بعد النزوات، إن بعثتكم إلى ثُغوركم غَلَلتم وخُنتم، وإن أمِنتم أَرْجفتم، وإن خِفتم نافَقتم، لا تَذْكرُون حسنة ولا تَشكرون نِعْمة. يأهل العراق، هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزّكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع، إلّا وَثقْتموه واويتُموه وعزّرتموه ونصرتموه ورَضيتموه؛ يأهل العراق، هل شَغَب شاغِب، أو نعب ناعب، أو ذَمَق ناعق، أو زفر زافر، إلاكنتم أتباعَه وأنصاره؟ يأهل العراق، ألم تَنهكم المواعظ، ألم تزجركم الوقائع؟ ثم التفت إلى أهل الشام فقال: يأهل الشام، إنما أنا لكم كالظَليم الذابّ عن فِرَاخه، يَنْفي عنها المَدَر، ويُباعد عنها الحَجر، ويُكِنّها عن المطر، ويَحميها من الضباب، ويَحرُسها من الذئاب. يأهل الشام، أنتم الجُنة والرداء، وأنتم الغدة والحِذاء.
خطبة للحجاج
قال مالك بن دينار: غدوت لجُمعة فجلست قريباً من المِنبر، فصعد الحجاج، ثم قال: امرؤ حَاسب نَفْسه، امرؤ راقب ربه، امرؤ زَوَّر عمله، امرؤ فكَر فيما يقرؤه غداً في صحيفته، ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند همّه ذاكراً، وعند هواه زاجراً، امرؤ أخذ بِعِنان قلبه كما يأخذ الرجل بخِطام جَمَله، فإن قاده إلى حق تبعه، وإن قاده إلى معصية اللّه كفه. إننا واللّه ما خُلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننتقل من دار إلى دار.
خطبة للحجاج بالبصرة
اتّقوا الله ما استطعتم، فهذه للّه وفيها مَثُوبة. ثم قال: واسْمعوا واطيعوا، فهذه لعبد اللّه وخَليفة اللّه وحَبيب اللّه عبد الملك بن مَرْوان. واللّه لو أمرتُ الناس ان يأخذُوا في باب واحد وأخذُوا في باب غَيْرِه لكانتْ دماؤُهم لي حلالاً من آلفه، ولو قُتل ربيعُة ومُضر لكان لي حلالَاً. عَذيري من هذِه الحَمْراء، يَرْمي أحدُهم بالحَجَر إلى السماء ويقول: يكونُ إلى أن يَقَع هذا خَيْر. واللّه لأجعلنهم كأمْس الدّابر. عَذِيري من عَبْد، هُذَيل، إنه زَعم أنه آمِن عند اللّه، يقرأ القرآن كأنه رَجَز الأعراب واللّه لو أدركتُه لقتلُته.
خطبة للحجاح بالبصرة

حِمَد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ الله كفانا مَئُونة الدنيا، وأمرنا بطَلب الآخرة، فليت اللّه كفانا مؤونة الآخرة، وأمرنا بطلب الدنيا. ما لي أرى عُلماءكم يُدهنون، وجُهالكم لا يَتعلمون، وشِرارَكم لا يَتُوبون! ما لي أراكم تَحْرِصون على ما كُفِيتم، تُضيَعون ما به أمِرْتم! إنَّ العِلْم يُوشك أن يُرفع، ورَفْعه ذهابُ العلماء. ألَا وإنَي أعلم بِشراركم من البَيْطار بالفَرس: الذين لا يَقْرءون القرآن إلا هُجْراً، ولا يأتونِ الصلاة إلا دًبْراً. ألا وإنّ الدُّنيا عَرَض حاضر، يأكل منها البَرّ والفاجِر. ألَا وإنَ الآخرةَ أجَلٌ مُستأخر، يَحكم فيه مَلِك قادر. ألاَ فاعملوا وأنتم من اللِّه على حَذَر، واعلموا أنّكم مُلاقوه، ليَجْزي الذين أساءووا بما عَمِلوا، ويجزِي الذين أحسنوا بالحُسنى. ألَا وإِنَّ الخيرَ كلَّه بحذافيره في الجَنَّة، ألاَ وإنَ الشر كفَه بحذافيرهِ في النار، ألاَ وإن مَن يَعمل مِثْقال ذَرّة خيراً يَرَه، ومَن يَعملْ مِثْقال ذَرّة شراً يَرَه، وأستغفر الله لي ولكم.

خطبة للحجاج
خَطب الحجّاج أهلَ العراق فقال: يأهل العِراق، إنّي لم أجد لكم دواءً أدوى لدائكم من هذه المَغازى والبُعوث، لولا طِيبُ لَيْلة الإياب، وفَرْحة القَفل، فإنها تُعقب راحة؛ وإني لا أريد أن أرى الفَرَح عندكم ولا الرًّاحة بكم. وما أراكم إلا كارهين لمَقالتي، وإني واللّه لرُؤيتكم أكره. ولولا ما أريد من تَنْفيذ طاعةِ أمير المُؤمنين فيكم ما حَمّلت نفسي مُقاساتَكم، والصبرَ عليى النَّظر إليكم، واللّهَ أسألُ حُسن العوْن عليكم، ثم نَزَل.
خطبة للحجاج حين أراد الحج
يأهل العِراق، إنِّي أردت الحج، وقد استخلفتُ عليكم ابني محمداً، وما كنتم له بأهل، وأوْصيتُه فِيكم بخلاف ما أوصى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الانْصار؛ فإنه أوْصى أنْ يَقْبل من مُحسنهم ويتجاوز عن مُسيئهم؟ وأنا أوْصيتُه أن لا يَقْبل من مُحسنكم ولا يَتجاوز عن مُسيئكم. ألَا وإنكم قائلون بعدي مَقالةً لا يَمْنعكم من إظهارها إلا خَوْفي، تَقولون: لا أحْسن الله له الصحابةَ. وإنِّي أعجٌل لكم الجواب: فلا أحْسن الله عليكم الخِلاَفه، ثم نزل.
خطبة للحجاج
قال: خَرج الحجّاج يريد العراق والياً عليها في اثني عشر راكباً على النَّجائب، حتى دَخل الكوفة حين انتشر النهار، وقد كان بِشْر بن مَرْوان بَعث المُهلَّب إلى الحَرُوريِّة، فبدأ الحجّاج بالمسجد فدخله، ثم صَعِد المِنْبر وهو مُلَثَّم بعمامة حمراء، فقال: عليّ بالناس، فحَسبوه وأصحابَه خوارج، فَهموا به، حتى إذا اجتمع الناس في المَسجد قام، ثم كَشف عن وجهه، ثم قال:
أنا ابن جَل أو طَلاَعُ الثَّنَايَا ... متى أضَع العِمامةَ تَعْرِفُوني
صَليب العُود مِن سَلَفي رباحٍ ... كنَصْل السَّيف وضحاح الجَبِينَ
وماذا يَبتغي الشُّعراءُ منّي ... وقد جَاوزتُ حَدِّ الأرْبعين
أخو خَمْسين مُجْتمع أشُدِّي ... ونَجَّذني مُداورةُ الشُّئون
وإني لا يَعود إليّ قِرْني ... غداةَ العَبْءِ إلّا في قَرِين
أمَا واللّه إني لا حمل الشرّ بَحْملَه، وأحذوه بنَعْله، وأجْزيه بمثله، وإنّي لأرى رءوساً قد أيْنعَت وحان قِطافها، وإني لصاحبها، وإنِّي؛ أنْظر إلى، الدِّماء بين العمائم واللَحى تَتَرقرق:
قد شَمَّرت عن ساقها فشَمِّرى
ثم قال:
هذا أوانُ الشَّد فاشتدِّي زِيَم ... قد لَفها الليلُ بسَوَّاق حُطَمْ
ليس براعِي إبلٍ ولا غَنم ... ولابجزّار على ظَهَر وَضَم
ثم قال:
قد لَفّها الليلُ بعَصْلبي ... أروَع خَرّاج مِن الدَوي
مُهاجِر ليس بأعْرابيّ
قد شَمَّرتْ عن ساقها فَشُدوا ... ما عِلَّتي وأنا شَيْخ إدّ
والقَوْس فيها وَتر عُردُ ... مثلُ ذِراع البَكْر أو أشَدُّ

إنّي واللّه يأهل العِراق، ومَعْدِنَ الشِّقاقْ والنِّفاق، ومَسَاوِي الأخلاق، لا يُغْمَز جانبي كَتغْماز التّين، ولا يُقَعْقع لي بالشِّنان، ولقد فُرِزْتُ عِن ذكاء، وفُتشت عن تَجْربة، وأجْرِيت إلى الغاية القُصْوِى، وإنّ أميرَ المُؤمنين نثر كِنَانته بين يديه، ثم عَجَم عِيدانَها، فَوَجدني أمرَّها عُوداً، وأشدَّها مَكْسِراً، فَوَجهني إليكم، ورَماكم بي، فإنّه قد طالما أوضعتم في الفتن، وسنَنْتم سُنَن الغَي، وايم اللّه لألْحونكم لَحْو العصا، ولأقرعنّكم قَرْع المَرْوَة، ولأعْصِبنّكم عَصْب السَّلَمة، ولأضْربنَكم ضَرْب غَرائب الإبل. أمَا واللّه لا أعد إلّا وَفَّيت، ولا أخلُق إلّا فَريْت. وإياي وهذه الشفعاء والزًرافات والجماعات، وقالًا وقيلاً، وما يقولون، وفيم أنتم وذاك؛ الله لتَسْتقيمُن على طريق الحق أو لأدعنّ لكُل رجل منكم شُغلاً في جَسده، مَن وجدتُه بعد ثالثة من بَعْث المُهلّب سفكتُ دمَه، وانتهبت مالَه، وهدمتُ منزله، فشمًر الناس بالخُروج إلى المهلَّب. فلما رأي المُهلّب ذلك قال: لقد وَلِي العراق خيرُ ذكر

خطبة الحجاج فلما مات عبد الملك
قام خطيباً فَحَمِد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنَّ اللّه تبارك وتعالى نَعى نبيّكم صلى الله عليه وسلم إلى نفسه فقال: " إنك مَيَتٌ وإنَهم مَيِّتون " وقال: " وما مُحمّد إلا رَسُولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبله الرُّسُل أفإنْ ماتَ أوْ قُتل أنقلبتم على أعْقابكم " فمات رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، ومات الخلفاء الراشدون المُهتدون المَهديُون، منهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان الشهيد المَظلوم، ثم تَبعهم مُعاوية، ثم وَليكم البازل الذِّكر، الذي جَربَته الأمور، وأحكمته التًجارب، مع الفِقْه، وقراءة القرآن، والمُروءة الظاهرة، واللِّين لأهل الحقّ، والْوطء لأهل الزًيغ، فكان رابعاً من الوُلاء المُهذيين الراشدين، فاختار الله له مما عنده، وألحقه بهم، وعَهد إلى شِهه في العقل والمروءة والحَزم والجَلَدٍ والقيام بأمر اللّه وخلافته، فاسمعوا له وأطيعوه أيها الناس. وإيّاكم والزَّيغ، فإن الزّيغ لا يحَيق إلا بأهله. ورأيتُمِ سِيرتي فيكم، وعرفتُ خِلافَكم، وقَبِلتُكم على معرفتي بكم، ولو علمِتُ أنَ أحداَ أقوى عليكم منّي أو أعرفَ بكم ما وَليتكم، فإياي وإياكم، من تكلّم قَتلناه، ومن سَكت مات بدائه غمّاً، ثم نزل.
خطبة الحجاج لما أصيب بولده محمد
وأخيه محمد:
أيها الناس، محمّدان في يوم واحد، أما الله لقد كنتً أحِبًّ أنهما معي فِي الدنيا، مع ما أرجو لهما من ثواب اللّه يا الآخرة، وايم اللّه، ليُوشكنَّ الباقي منَا ومنكم أن يَفْني، والجديدُ منَّا ومنكم أن يَبلى، والحيّ منَّا ومنكم أن يموت، وأن تُدال الأرض منّا كما أدِلنا منها؛ فتأكل من لحومنا، وتَشْرب من دمائنا، كما مَشَينا على ظَهرها، وأكلْنا من ثمارها، وشربنا من مائها، ثم يكون كما قال اللّه: " ونُفِخ في الصُور فإذا هم مِن الأجداث إلى ربهم يَنْسِلون " ثم تَمثل بهذين البيتين:
عَزَائي نبي اللّه مِنْ كْل مَيتٍ ... وحَسْبي ثوابُ الله مِن كُلّ هالِكِ
إذا ما لقيتُ الله عنِّيَ راضِياً ... فإن سرُورَ النًفس فيما هُنالِك
خَطب الحجاج في يوم جمعة فأطال الجمعة، فقام إليه رجل فقال: إنَ الوقتَ لا ينتظرك، والربّ لا يَعذرك. فأمر به إلى الحَبس. فأتاه آلُ الرجل وقالوا: إنه مَجنون، فقال: إن أقَرَ على نفسه بما ذكرتم خليت سبيلَه. فقال الرجل: لا واللّه، لا أزْعُم أنه ابْتَلاني وقد عافاني.
خطبة للحجاج
ذكروا أن الحجّاج مَرض ففرح أهلُ العراق، وقالوا: مات الحجاج. فلما بلغه، تحاملَ حتى صَعِد المنبر فقال: يأهل الشِّقاق والنَفاق، نَفخ إبليسُ في مَناخِركم فقُلتم: مات الحجَّاج، مات الحجاج. فَمَهْ، واللّه ما أحب ألاّ أموت، وما أرْجو الخَيْر كُلّه إلاّ بعد الموت، وما رأيتُ اللّه عزّ وجل كتب الخلود لأحدٍ من خَلقه إلا لأهونهم عليه، إبليس. ولقد رأيتُ العَبْد الصالح سأل ربه وقال: ربِّ أغْفِر لي وَهَبْ لي مُلكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدِ مِن بَعْدِي إنّك أنتَ الوَهاب. فَفَعل، ثم اضمحل كأنْ لم يكن.
وخطبة للحجاج

خطب فقال في خُطبته: سَوْطى سَيْفيِ، ونجاده في عُنقي، وقائمُه في يَدي، وذُبابه قِلادة لمن اغترِّ بي. فقال الحسن: بُؤساَ لهذا، ما أغَرِّه بالله! وحلف رجل بالطلاق: إن الحجّاج في النار، ثم أتي زوجتَه، فمنعتهُ نفسها، فأتى ابن شُبرمة يَستفتيه، فقال: يا بن أخي، امض فكُن مع أهلك، فإنّ الحجاج إن لم يكن من أهل النار، فلا يَضرُك أن تَزْني. هذا ما ذكرنا في كِتابنا من الخًطب للحجّاج، وما بقي منها فهي مستقصاة في كتاب اليتيمة الثانية، حيث ذكرت أخبارَ زياد والحجَّاج، وإنما مَذْهبنا في كِتابنا هذا أنْ نأخذ من كل شىِء أحْسَنه، ونَحْذف الكثيرَ الذي يُجتزأ منه بالقليل.

خطبة لطاهر بن الحسين
لمّا افتتح مدينة السًلام صَعِد المْنبر، وأُحضر جماعةُ من بني هاشم والقُواد وغيرهم فقال: الحمدُ لله مالكِ الملك يُؤْتي المُلْك مَن يشاء، وَينزع المُلك ممن يشاء، ويُعز من يشاء، ويُذل مَن يشاء، ولا يُصلحِ عَمل المُفسدين، ولا يَهْدي كَيْدَ الخائنين. إنً ظُهور غَلَبتنا لم يكن عن أيْدنا ولا كيدنا، بل اختار الله لخِلافته، إذ جعلها عَموداً لدينه وقَواما لِعباده، من يستقل بأعبائها، ويَضطلع بحمْلها.
خطبة لعبد الله بن طاهر
خطب الناسَ وقد تَيسر لقتال الخوارج، فقال: إنكم فئةُ الله المُجاهدون عن حقّه، الذابّون عن ديِنه، الذائدون عن مَحارمه، الدّاعون إلى ما أمر به من الاعتصام بَحبْله، والطاعةِ لوُلاة أمْره، الذيغي جَعلهم رعاة الذين، ونظامَ المُسلمين، فاستنجِزُوا مَوْعود اللّه ونَصره بِمُجاهدة عدوَه وأهْل مَعْصيته، الذين أشِروا وتَمَرِّدوا، وشَقُّوا العصا، وفارقوا الجماعة، ومَرَقوا من الدين، وسَعَوْا في الأرض فساداً، فإنه يقول تبارك وتعالى: " إنْ تَنْصرُوا اللّه يَنْصُرْكم ويُثَبت أقدامَكم " عفلْيكن الصَبرُ معقِلَكم الذي إليه تَلْجئون، وعُدَتكم التي بها تَسْتظهرون، فإنه الوزر المَنيع، الذي دَلَّكم اللّه عليه، والجُنة الحَصِينة التي أمرِكم اللّه بلباسها. غُضُّوا أبصاركم، واخفتوا أصواتَكم في مَصافكم، وامضُوا قُدُماً على بصائركمٍ، فارِغين إلى ذِكْر اللّه، والاستعانة به، كما أمركم الله، فإنه يقوك: " إذا لَقِيتُم فئةً فاثبتُوا وأذكروا اللّه كَثِيراً لعلّكم تُفْلحون. أيْدكم اللّه بعزّ الصَّبر، وَوَليكم بالحِياطة والنّصر.
خطبة لقتيبة بن مسلم
قام بِخُراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك، فَصَعِد المنبر فَحَمد اللهّ وأثنى عليه، ثم قال: أتَدْرون مَن تُبايعون؟ إنما تُبايعون يزيدَ بن مَرْوان - يعني هَبنقّة القَيْسي - كأني بكم، وحَكَم جائر قد أتاكم يَحْكُم في أموالكم ودِمَائكم وفُروجكم وأبْشاركم. ثم قال: الأعْراب! وما الأعراب! لعن اللّه الأعْراب! جَمعتُهم كما يُجمع فَرْخ الخَرْبَق من مَنابت الشِّيح والقَيْصوم والفلفل، يَرْكبون البَقَر ويَأكلون الهَبِيد. فحملتُهم على الخيل وألبستهمٍ السّلاخ، حتى مَنع الله بهم البلاد، وجُبي بهيم الفيء. قالُوا: مُرنا بأمرك. قال: غُرّوا غيري.
خطبة لقتيبة بن مسلم
يأهل العِراق، ألستُ أعْلمَ الناس بكم. أمّا هذا الحيّ من أهل العالية فَنَعمُ الصًدقة؛ وأمّا هذا الحيُّ من بكر بنِ وائِل، فعِلَجة بَظراء لا تَمنع رِجْلَيها؛ وأما هذا الحيّ من عبد القَبس، فما ضرَب العَيْر بذَنبه؛ وأما هذا الحيّ من الأزْد، فعُلُوج خَلْق اللهّ وأنْباطه. وايم الله، لو ملكتُ أمر الناس لنَقَشْتُ أيدِيهَم؛ وأمّا هذا الحيّ من تميم، فإنهم كانوا يُسمّون الغَدْرَ في الجاهليِّة كَيْسان.
وقال الشاعر:
إذا كنتَ من سَعْد وخالُك منهمُ ... بعيداً فلا يَغْرُرْك خالُك من سَعْدِ
إذا ما دَعَوْا كَيْسان كانت كُهولُهمْ ... إلى الغَدر أدنى من شَبابهم المُرْد
وخطبة لقتيبة بن مسلم
يأهل خُراسان، قد جَربكم الوُلاة قبلي، أتاكم أُميّة فكان كاَسمه، أُميّةَ

الرأي، وأُميّة الدين، فكتب إلى خَليفته: إنّ خراج خُراسان لو كان في مَطْبخه لم يَكْفه. ثم أتاكم بعده، أبو سعيد ثلاثاً، لا تدرون أفي طاعة اللهّ أنتم أم في مَعْصيته! ثم لم يجْب فيئا، ولم يَبْل عَدوًّا، ثم أتاكم بنوه بعده مثلَ أطْباء الكَلْبة، منهم ابن دَحْمة؛ حِصان يَضرب في عانة؛ لقد كان أبوه يخافه على أُمّهات أولاده. ثم أصْبحتم وقد فَتح اللّه عليكم البلاد، حتى إنَ الظَّعينة لتخرج من مَرْو إلى سَمَرْقند في غير جوار.
قوله: أبو سعيد، يريد المُهلّب بن أبي صُفْرة، وقوله: ابن دَحْمة، يريد يزيد بن المُهلب.

خطبة ليزيد بن المهلب
حمد الله وأثْنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، إني أسْمع قول الرًعاع: قد جاء العَبّاس، قد جاء مَسْلمة، قد جاء أهلُ الشام. وما أهل الشام إلاّ تِسْعة أسْيَاف، منها سَبْعة مَعِي، واثنان عَليّ؛ وما مَسْلمة إلا جرادة صَفْراء؛ وأما العبَّاس، فبسطوس بن بسطوس، أتاكم في بَرابرة، وصَقالبة وجَرَامقة وأقْباط وأنباط وأخلاط، أقبل إليكم الفَلاّحون والأوباش كأشلاء اللحم، واللهّ ما لَقُوا قطُّ حدًّا كحدّكم، ولا حديداً كحَديدكم. أعيرُوني سواعَدكم ساعةَ من نهار، تصفقون بها خراطيمَهم، فإنما هي غَدْوة أو رَوْحة، حتى يحكم اللهّ بيننا وهو خيرُ الحاكمين.
خطبة لقس بن ساعدة الأيادي
ابن عبّاس قال: قَدِيم وَفْد إياد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: أيكم يعرف قُسي بن ساعدة الإياديّ؛ قالوا: كُلنا يعرفه. قال: فما فَعل؟ قالوا: هَلَك. قال: ما أنْساه بسُوق عُكاظ في الشهر الحَرام على جَمَل له أحْمر وهو يَخْطُب الناس، ويقول؛ اسمعوا وعُوا، مَن عاش مات، ومَن مات فات، وكلّ ما هو آت آت، إنّ في السماء لخبراً، وإنّ في الأرْض لَعِبَرا، سَحَائِبُ تَمُور، ونُجُوم تَغُور، لا فلك يَدور، ويُقْسم قُسقٌ قَسَماً، إن للّه لدينا هو أرضى من دِينكم هذا. ثم قال: مالي أرى الناس يَذْهبون ولا يَرْجِعون، أَرَضُوا بالإقامة فأقاموا، أم تُركوا فناموا، أيُّكم يَرْوي من شِعره؟ فأنشد بعضهم:
في الذَّاهبين الأوَّلي ... ن مِنَ القُرون لنا بَصَائرْ
لما رأيتُ موارداً ... للمَوْتِ ليس لها مَصادر
ورأيتُ قَوْمي نَحْوَها ... يَمْضي الأكابر والأصَاغر
لا يَرْجِع الماضي ولا ... يَبقى من الباقِين غابِر
أيقنتُ أنِّي لا مَحا ... لةَ حيثُ صار القومُ صائر
خطبة لعائشة أم المؤمنين
رحمها الله يوم الجمل:
قالت: أيها الناس، صَهْ صَه، إنّ لي عليكم حُرْمَة الأمومة، وحق المَوْعظة، لا يتّهمني إلا مَنْ عَمى ربّه، مات رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري، فأنا إحدَى نسائه في الجَنّة، له ادّخَرَني ربِّي، وخلصني من كل بُضْع، وبي مَيّز مُؤمنكم من مُنافقكم، وبي أرْخَصِ اللّه لكم في صَعِيد الأبْوَاء، ثم أبِي ثاني اثنين اللهّ ثالثهما، وأوَّل من سُمِّي صِدِّيقاً. مَضى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم راضياً عنه، وطَوَقه أعباء الإمامة، ثم اضطرب حَبْل الدِّين بعده فَمَسَك أبي بطَرَفَيه، وَرتَقَ لكم فَتْق النِّفاق، وأغاض نَبْع الرِّدّة، وأطفأ ما حَشِّت يهود، وأنتم يومئذ جُحْظ العيون، تَنْظرون العَدْوة، وتَسْمعون الصَّيْحة، فرأب الثّأْي، وأوَدَ من الغِلْظَة، واِمتاح من الهُوّة، حتى اجْتَحى دفينَ الداء، وحتى أَعْطن الوارد، وأوْرد الصادر، وعَلّ الناهل، فقبضه اللهّ إليه واطئاً على هامات النّفاق، مُذْكِيَاً نار الحَرْب علىِ المشركين، فانتظمت طاعتُكم بحَبْلهِ، فَوَلّى أمركم رجلاً مُرْعِيَاً إذ رًكِنَ إليه، بعيداً ما بين الَّلابتين إذا ضُلّ، عُرَكَة للأذاة بجَنبه، صَفُوحاً عن أذى الجاهلين، يقظان الليل في نُصْرَة الإسلام، فسلك مَسْلك السابقيه، ففرّق شَمْل الفِتْنَة، وجَمَع أعضاد ما جَمَّع القرآن، وأنا نُصْب المسألة عنِ مَسِيري هذا، لم ألتمس إثماً، ولم أُؤَرِّث فتنة أُوطئكموها. أقول قولي هذا صِدْقاَ وعَدْلاً، وإعذاراً وإنذاراً، وأسأل اللهّ أن يصلّي على محمد وأن يُخَلِّفه فيكم بأفضل خِلافة المُرسلين.
خطبة لعبد الله بن مسعود

أصدق الحديث كتاب اللّه، وأوثق العُرى كلمة التقوى أكرم الملل مِلَّة إبراهيم صلى الله عليه وسلم. خَيْر السُّنن سنةُ محمد صلى الله عليه وسلم، شَرُّ الُأمور مُحْدَثاتُها، وخيرُ الأمور أوْساطًها. ما قلَّ وكَفى، خَيْرٌ مما كَثُرَ وألهى. لَنفس تُحييها خير من إمارة لا تُحْصيها. خيْرُ الغِنى غنى النَّفس. خيْرُ ما أُلْقِيَ في القلْب اليَقين. الخمرُ جماع الآثام. النساء حبائلُ الشيطان. الشِّباب شُعبة من الجنون. حُبًّ الكِفاية مِفْتاح الَمَعْجزة. شرّ الناس مَن لا يأتي الجماعة إلا دُبْراً، ولا يذكر اللهّ إلا هُجْراً سِباب المؤمن فُسُوق، وقِتاله كُفر، وأكل لَحْمه معصية. من يَتأالِّ على اللّه يُكْذِبه، ومَن يغفر يغفرْ له. مَكتوب في ديوان المُحْسنين: مَن عفا عُفِيَ عنه. الشقيَ شَقِىّ في بَطْن أُمِّه. السَّعيد مَن وُعظ بغيره. الُأمور بعواقبها. مِلَاك الأمْر خواتُمه. أحسنُ الهُدى هُدى الأنبياء. أقبح الضَّلالة الضلالة بعد الهُدَى. أشرَفُ الموْت الشَّهادة. مَن يَعرف البلاء ويَصْبر عليه، ومن لا يعرف البلاء يُنكره.

خطبة لعتبة بن غزوان بعد فتح الأبلة
حِمدَ الله وأثنى عليه، ثم صلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: إنّ الدنيا قد تولَّت وقد أذنَت أهلَها منها بصرم، وإنما بَقي منها صُبَابة كصُبابة الإناء يَصْطَبُها صاحبُها. ألَا وإنكم مُفارقوها لا محالةَ، فارقوها بأحسن ما يَحْضُركم. أَلا وإن من العجب أَني سمعت رسولَ اللهّ صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الحَجَر الضَّخْم يُرمى به في شَفِير جهنَّم فَيَهْوي قي النار سبعين خريفاً، ولجهنم سبعة أبواب، بين كل بابين منها مَسِيرةُ خَمْسُمائة عام، وليأتينّ عليها ساعة ولها كَظيظ بالزحام. ولقد كنتُ مع رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم سابعَ سبعة، ما لنا طَعام إلّا وَرق البَشام، حتى قرِحت أَشداقُنا، فوجدتُ أنا وسعد بن مالك تمرة فشققتًها بيني وبينه نِصْفين، وما منّا أحد اليوم إلّا وهو أمير على مِصْر. انه لم تكن نَبْوة قط إلّا تناسخت، وأنا أَعوذ باللّه أن أكون في نفسي عظيماً، وفي أعين الناس صغيراً.
خطبة لعمرو بن سعيد الأشرق
لمّا عقد مُعاويةُ ليزيد البَيعة قام الناس يَخْطُبون، فقال لعمرو بن سَعيد: قُم يا أبا أُمية. فقام فَحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنّ يزيدَ بنَ مُعاوية أَملٌ تأملونه، وأجل تأمنونه، إن استَضَفْتم إلى حِلمه وسَعكم، وإن احتجتم إلى رأيه أَرْشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أَغناكم؛ جَذَع قارِح، سُوبق فَسَبق، ومُوجد فَمَجُد، وقورع فَقَرع، فهو خَلف أمير المؤمنين ولا خَلَف منه. فقال له له معاوية: أَوْسعتَ أبا أُمية، فاجلس.
خطبة لعمرو بن سعيد بالمدينة
قال أبو الفَضل، العبّاس بن الفَرج الرِّياشي: حَدّثنا ابن عائشة قال: قدِم عمرو بن سعيد بن العاص الَأشدق المدينة أميراً، فخرجِ إلى مِنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَعد عليه وغَمَّضَ عينيه، وعليه جُبَّة خَزّ قِرْمِز، ومُطْرَف خزّ قِرْمِز، وعِمامة خَزّ قِرْمِز. فجعل أهلُ المدينة يَنْظرون إلى ثيابه إعجاباً بها. ففتح عَينيه فإذا الناسُ يَنْظرون إليه، فقال: ما بالُكُها بأهل المدينة تَرفَعون إليّ أبصارَكم، كأنكم تُريدون أن تَضْربونا بسيُوفكم! أغركم أنكمِ فَعلتم ما فَعلتم فَعَفَونا عنكم! أما إنّه لو أُثبتمِ بالأولى ما كانت الثانية. أَغرّكم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرَنا منّا رفيقاً، قد فني غضَبهُ، وبَقي حِلْمُه! اغتنموأ أنفسَكم فقد واللّه مَلكناكم بالشَباب المُقْتَبل، البعيد الَأمل، الطويل الأجل، حين فَرغ من الصِّغر، ودَخل في الكبر، حليم حديد، ليّن شديد؛ رقيق كثيف، رفيقِ عنيف، حين اشتدّ عَطمه، واعتدل جِسْمه؛ ورمى الدّهرَ ببمره، واستقبله بأَشره؛ فهو إن عَضّ نَهس، وإن سَطا فَرس؛ لا يُقَلْقل له الحَصى، ولا تقرع له العَصا، رلا يَمْشي السُمَّهى. قال: فما بَقِي بعد ذلك إلّا ثلاثَ سنين وثمانيةَ أشهر حتى قَصَمه اللهّ.
خطبة لعمرو بمكة

العُتبيّ قال؟ استَعمل سعيدُ بن العاص وهو والٍ على المدينة ابنه عمرِو بن سَعيد والياً على مكة، فلمّا قَدِم لم يَلْقه قُرشيّ ولا أُمويّ إلاّ أن يكون الحارث بن نَوْفل، فلمّا لَقيه قال له: يا حار، ما الذي مَنع قومَك أن يَلقَوْني كما لقَيتَني؟ قال: ما مَنعهم من ذلك إلّا ما استقبلتنى به، واللهّ ما كَنَّيتني ولا أئمَمْتَ اسمي، وإنما أَنْهاك عن التّكبر على أَكْفائك، فإنَ ذلك لا يَرْفعك عليهم ولا يَضَعهم لك. قال، واللّه ما أَسأتَ المَوْعظة ولا أَتهمكُ على النَّصيحة، وإنّ الذي رأيتَ منِّي لَخُلُق. فلمّا دَخل مكةَ قام على المِنْبر فَحَمِد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد، مَعْشَر أهل مكة، فإنّا سكنَاها حِقْبة، وخَرجنا عنها رَغبة، وكذاسك كُنَّا إذا رُفعت لنا لُهْوة بعد لُهوة أَخَذْنا أَسْناها ونَزَلِنا أعلاها؛ ثمٍ شَدَخِ أَمْر أمرين، فَقَتلنا وقُتلدنا؛ فوالله ما نَزعْنا ولا نُزع عَنَّا، حتى شرب الدَّم دماً، وأكل اللحم لحماً، وقَرع العَظْم عَظْماً، فَوَلي رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم برسالة اللّه إيّاه، واختياره له؟ ثم وَلِي أبو بكر لسابقتِه وفَضْله؛ ثم ولَي عُمر، ثم أُجيلت قِداح نُزعن من شُعب حول نبعة، ففاز بحَظها أَصْلَبُها وأَعْتقها، فكُنّا بعضَ قداحها، ثم شَدَخ أَمر بين أمرين، فقتَلنا وقُتلنا، فوالله ما نَزعنا ولا نُزع عنا حتى شرَب الدم دماً، وأكل اللحم لحماً، وقَرعٍ العظم عظماً، وعاد الْحَرامُ حلالاً، وُأسْكت كلُّ ذِي حِسّ عنِ ضرْب مُهنَّد، عَرْكا عَرْكاً، وعَسْفاً عَسْفاً، ووَخْزاً ونَهْساً، حتى طابوا عن حَقّنا نَفْساً. واللّه ما أَعْطَوْه عن هَوادة، ولا رَضُوا فيه بالقضاء، أُصْبحوا يقولون: حَقُّنا غُلبنا عليه، فَجَزينا هذا بهذا وهذا في هذا. يأهلِ مكة، أنفسَكم أنفسكم، وسُفهاءكم سُفهاءكم، فإن معي سوطاً نكالاً، وسَيفاً وَبالاً، وكل مصبوب على أهله، ثم نزل.

خطبة للأحنف بن قيس
قال بعد حَمْد اللّه والثَّناء عليه: يا مَعْشر الأزْد ورَبيعة، أنتم! إخوانُنا في الدِّين، وشُركاؤنا في الصِّهْر، وأَشقّاؤنا في النَّسب، وجيرانُنا في الدار، ويَدُنا على العدوّ. واللّه لأزْد البَصْرة أَحَبّ إلينا من تميم الكوفة، ولأزْد الكوفة أحبًّ إلينا من تميم الشام، فإن استشرى شنانكم، وأَبَى، حَسَد صُدوركم، ففي أحلامنا وأَمْوالنا سَعة لنا ولكم.
خطبة ليوسف بن عمر
قام خطيباً فقال: اْتقوا اللهّ عباد اللّه، فكم مُؤمِّل أملاً لا يَبْلغه، وجامع مالاً لا يأكله، ومانع، عمّا سوف يَتركه، ولعلّه من باطل جمعه، ومن حق مَنَعه. أصابه حرِاماً، وأَوْرثهً عدوِّاً حلالاً بم فاحتمل إصرَه، وباء بوِزْره، ووردَ على ربِّه أسفاً لَهِفاً، خَسِرَ الدُّنيا والآخرة، ذلك هو الخُسران المُبين.
خطبة لشداد بن أوس الطائي
حَمد اللّه وأثنى عليه وقال: ألَا إنّ الدُّنيا عَرَض حاضر، يأكل منها البَرّ والفاجِر.
ألَا إن الآخِرَة وَعْد صادق، يحكم فيها مَلك قادر. ألَا إنّ الخَيْر كُلَّه بحذافيره في الجنّة، ألا إن الشر كُلَّه بحذافيره في النار. فاعْملوا ما عَمِلتم وأنتم في يقين من اللّه، واعلموا أنكم مَعْروضة أعمالكمِ على اللهّ، فمَن يَعْمل مِثْقالَ ذَرَّة خيراً يَرَه، ومَن يَعْمَل مِثْقال ذرّة شرّاً يَرَه، وغفَر اللّه لنا ولكم.
خطبة لخالد بن عبد الله القسري
ّ
صَعِد المِنْبر يوم جُمعة وهو والي مكّة فذكر الحجّاج فأحمد طاعته وأثنى عليه خيراً. فلمّا كان في الجمعة الثانية وَرد عليه كتابُ سُليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشَتْم الحجّاج وذِكْر عيوبه وإظهار البَراءة منه. فَصعد المِنْبر فَحَمد اللّه وأثنى عليه ثمِ قال؟ إن إبليس كان مَلَكاً من الملائكة، وكان يُظهر من طاعةِ اللّه ما كانت الملائكة ترى له به فَضْلاً، وكان اللهّ قد عَلِم من غِشّه وخًبثه ما خَفِي على ملائكته فلمّا أَراد الله فضيحته ابتلاه بالسًّجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فَلعنوه؟ وإنّ الحجّاج كان يُظهر من طاعة أمير المًؤمنينِ ما كُنا نرى له به فَضْلاً، وكان اللّه قد أَطْلع أميرَ المُؤمنين من غِشّه وخُبثه على مَا خفِي عنَا، فلمّا أراد فَضيحته أَجرى ذلك على يد أَمير المُؤمنين، فالعنوه، لَعنه الله.

خطبة لمصعب بن الزبير
قَدِم العِراق فَصَعد المِنْبر ثم قال: بِسم اللّه الرحمن الرحيم: طَسِم، تِلْكَ آياتُ الكِتاب المُبين، نَتلو عليكَ مِن نَبَأ مُوسى وفِرْعَوْنَ بالحقِّ لِقَوْم يُؤمِنُون. إنّ فِرْعوِن عَلاَ في الأرضْ وجَعَل أَهْلَها شِيَعاً يستضعف، طائفةً منهم، يُذبحُ أَبناءَهم ويَسْتحْي نِسَاءَهم إنه كان من المُفْسِدين - وأشار بيده نحو الشام ونُرِيد أَنْ نَمُنَّ على الذين اسْتُضْعِفُوا في الأرض ونَجْعَلَهم أَئَمةً ونَجْعَلَهم الوارثين - وأشار بيده نحو الحجاز - ونُمَكِّن لهم في الأرض ونُرِيَ فِرْعون وهامانَ وجنُودهما منهم ما كانوا يَحْذَرون - وأشار بيده نحو العراق.
خطبة للنعمان بن بشير بالكوفة
قال: إنّي واللهّ ما وجدتُ مَثَلي ومَثَلَكم إلّا الضّبُعِ والثّعلب، أتيا الضّبّ في حُجْره، فقالا: أبا حِسْل؟ قال؟ أَجَبتكما؟ قالا: جئْناك نخْتصم؛ قال: في بيته يُؤتىَ الحَكَم؛ قالت الضبعُ: فتحتُ عيْني؛ قال: فِعْل النًساء فَعَلْت؛ قالت: فلقطتُ تَمْرة؛ قال: حُلْواً اجتنيتِ؟ قالت: فاختطَفها ثُعالةَ؛ قال: لنفسه بَغى الخَيْر؛ قالت: فلطمتُه لَطْمة؛ قال: حقَّاً قَضَيْتِ؛ قالت: فَلَطَمني أخرى، قال: كان حُرِّاً فانتصر؛ قالت: فاقض الآن بيننا؛ قالت: حَدِّث امرأة حَدِيثين، فإن أَبت فاربعْ، أي اسكتْ.
خطبة شبيب بن شيبة
قيل لبعض الخُلفاء إن شَبيب بن شيبة يَستعمل الكلام ويَسْتعدّ له، فإنْ أمرتَه أن يَصْعد المِنبر لرجوتَ أن يَفْتضِح. قال: فأمر رسولَاً فأخذ بيده إلى المَسجد فلم يُفارقه حتى صَعد المنبر، فحَمَد للّه وأَثنىِ عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم حقّ الصلاة عليه، ثم قال: ألا إن لأميرِ المُؤمنين أشباهاَ أَرْبعة: الأسَد الخادِر، والبَحْر الزاخر، والقَمر الباهر، والرَّبيع الناضر. فأمّا الأسد الخادر، فأَشبهَ منه صَوْلَتَه ومَضاءه؛ وأمِّا البحر الزاخر، فأشبهَ منه جُودَه وعطاءه؛ وأمّا القَمِر الباهر، فأشبَه منه نُورَه وضِياءه؛ وأمّا الرَّبيع الناضر، فأشبَه منه حُسْنه وبهاءه، ثم نزل عن المنبر، وأنشأ يقول:
ومَوْقف مثل حَدّ السَّيف قمت به ... أُحْمِي الذِّمَار وتَرْمِيني به الحَدَقُ
فما زَلِقْتُ وما ألقيتُ كاذبةً ... إذا الرجالُ على أَمْثاله زَلِقوا
خطبة لعتبة بن أبي سفيان
بلغه عن أهل مِصْر شيءٌ فأَغضبه، فقام فيهم فقال بعد أنْ حَمِد الله وأثنى عليه: يأهل مصر، إيّاكم أن تَكُونوا للسيف حَصِيداً، فإنّ اللّه فيكم ذَبِيحاً بِعُثمان، أرجو أن يُولِّيني الله نُسكه. إنّ اللهّ جَمعكم بأمير المُؤمنين بعد الفرقة، فأعْطى كُل ذي حَقّ حقَّه، وكانَ واللّه أَذْكَرَكم إذا ذُكِّر بخُطة، وأَصْفَحكِم بعد المَقْدرة عن حقّه، نعمةً من الله فيكم، ومِنّة منه عليكم. وقد بَلغنا عنكم نجْمُ قَوْل أَظْهره تَقدّمُ عَفْو مِنَا، فلا تَصِيروا إلى وَحْشة الباطل بعد أُنْس الحق، بإحياء الفتن، وإماتة السُّنَن، فَأَطَأَكم واللّه وَطْأَةً لا رَمَق معها، حتى تُنْكروا منّي ما كنتم تَعْرفون، وتَسْتخشنوا ما كُنتم تَسْتلينون، وأَنا أُشهد عليكم الذي يعلم خائنةَ الأعْين وما تُخفي الصُدور.
خطبة لعتبة بن أبي سفيان
يا حامِلي الأم أُنوف رُكّبت بين أعين، إنّما قَلَمت أَظْفاري عنكم لِيلينَ مَسيِّ إياكم، وسألتُكم صلاحَكم إذ كان فَسادُك! راجعاً عليكم، فأمّا إذ أبيتُم إلّا الطّعنَ على الوُلاة، والتّنقّص للسَّلف، فواللهّ لاقطعن على ظُهوركم بُطون السياط، فإن حَسمتْ داءكم، وإلّا فالسيفُ من ورائكم. ولستُ أَبخل عليكم بالعقُوبة إذا جُدْتم لنا بالمَعْصية، ولا أُؤْيسكم من مُراجعة الحُسنى إن صِرْتم إلى التي هي أبرُّ وأَتْقى.
خطبة لعتبة بن أبي سفيان

لمّا اشْتكى شَكاتَه التِي مات فيها تَحامل إلى المِنْبَر، فقال: يأهل مِصرْ، لا غِنَى عن الربّ، ولا مَهْرَب من ذنْب! إنِّه قد تَقَدَّمت منّي إليكم عُقوبات كُنْت أَرْجو يومئذ الأجرَ فيها، وأنا أخافُ اليوم الوِزْر منها، فليتَني لا أكونُ اخترتُ دُنياي على مَعادي، فأَصْلحتكم بِفَسادي. وأنا أستغفرالله منكم، وأتوب إليه فيكمِ؛ فقد خِفْتُ ما كنتُ أرجو نفعاً عليه، ورجوتُ ما كنتُ أخاف اغتيالاً به، وقد شقي مَن هلك بين رحمة اللّه وعقوبته، والسلامُ عليكم سلامَ مَن لا تَرَوْنه عائداً إليكم. قال: فلم يَعُد.

وخطبة لعتبة
العُتبيّ: قال سعد القَصر: احتبستْ عنَا كُتبُ معاوية بن أبي سُفْيان حتى أرجف أهلُ مِصْر بموتِه، ثم قَدِم علينا كتابُه بسلامته، فَصَعِد عُتبةُ المِنْبر والكتابُ في يده، فَحَمِد اللّه وأَثنى عليه، ثم قال: يأهل مصرْ، قد طالت مُعاتبتنا إيّاكم بأطْراف الرِّماح، وظُبات السُيوف، حتى صِرْنا شَجىً في لَهَوَاتكم ما تُسيغه حُلوقُكم، وأقْذَاءً في أعينكم ما تَطْرِف عليها جُفونُكم. أفحِين اشتدَت عُرَى الحقّ عليكم عَقْداً، واسترخت عُقَد الباطِل عنكم حَلّا، أرجفتم بالخَلِيفة، وأردْتم تَهْوين الخِلافة، وخُضْتم الحقَّ إلى الباطل، وأقْدَمُ عَهْدكم به حديث، فارْبحوا أَنْفُسَكم إذ خَسِرْتمِ دِينَكم، فهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخَبر السارّ عنه والعَهْد القَريب منه، واعلموا أن سُلطاننا على أَبْدَانكم دون قلوبكم، فأَصْلحوا لنا ما ظَهر ونَكِلُكم إلى اللّه فيما بَطَن، واظهروا خَيْراً وإن أضمَرتم شَرّاً، فإنكم حاصدُون ما أنتم زارعُون، وعلى اللّه أَتوكّل وبه أستعين. ثم نزل.
خطبة لعتبة
في الموسم
سعد القَصر مولى عُتبة بن أبي سُفيان قالت: دَفع عُتبة بن أبي سُفيان بالمَوْسم سنة إحدى وأربعين، والناسُ حديثٌ عهدُهم بالفِتْنة، فقال بعد أن حَمد اللّه وأثنى عليه: إنّا قد وَلينا هذا المَقامِ الذي يضاعف اللّه فِيه للمُحسنين الأجر، وللمُسيئين الوِزْر، ونحن على طريق ما قصدْنا له، فلاَ تَمُدُّوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تَنْقطع مِن دُوننا، ورُبّ مُتَمنِّ، حَتْفُه في أمْنِيّته. اقبلونا ما قَبِلْنا العافيةَ فيكم وقَبِلْناها منكم، وإياكم ولَوْ، فإن لو قد أتعبت مَن قَبلكم ولم تُرح مَن بعدكم، فأسأل اللّهَ أن يُعين كلاً على كل.
فناداه أعرابيّ من ناحية المسجد: أيها الخليفة، قال: لستُ به ولم تُبْعِد؛ فقال: يا أخاه؛ فقال: سمعتُ فقُل؛ فقال: واللّه لأن تُحسنوا وقد أسأنا خيرٌ لكم من أن تُسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم فما أحقَّكم بإستتمامه، وإن كان لنا فما أحقَّكم بمًكافأتنا؛ رجل من بنىِ عامر بن صَعْصة يتلقَّاكم بالعُمومة، ويَخْتص إليكم بالخُؤولة، وقد كَثًر عياله، ووَطئه زمانُه، وبه فَقْر، وفيه أجر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستغفر اللّه منكم، وأسأله العون عليكم، ولد أمرت لك بغِناك، فليتَ إسراعَنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.
وخطبة لعتبة بن أبي سفيان
سعد القَصر قال: وَجّه عُتبة بن أبي سُفيان ابن أخي أبي الأعور السُلميّ إلى مصر، فمنعوه الخراج، فَقدم عليه عُتبة فقام خطيباً فقال: يأهل مصْر، قد كنتم تَعْتذرون لبعض المنع منكم ببَعْض الجَوْر عليكم، فقد وَليكم مَن يقول ويَفعل، ويَفْعل ويقول، فإن رَدَدْتم رَدّكم بيده، وإن استصعبتم رَدّكم بسَيفه، ثم رجا في الأخِر ما أمل في الأوَّل. إن البَيْعة مُشَايعة، فلنا عليكم السَّمْع والطاعةُ، ولكم علينا العَدْل، فأينا غَدر فلا ذِمّة له عند صاحبه، واللّهِ ما انطلقتْ بها ألسنُتنا حتى عقدت عليها قلوبنُا، ولا طَلبناها منكم حتى بذَلناها لكمِ ناجزاً بناجز، ومن حَذر كمن بَشّر. قال: فَنادوه: سَمْعاً وطاعة، فناداهم. عَدْلاً عَدْلاً.
خطبة لعتبة

قَدِم كتابُ معاوية إلى عُتبة بمصر: إنّ قِبَلك قوماً يَطْعنون على الوُلاة، ويَعِيبون السَّلف. فَخَطبهم فقال: يأهل مصر، خَفّ علِى ألسنتكم مَدْحُ الحقّ ولا تَفْعلونه، وذَمّ الباطل وأنتم تَأْتونه، كالحِمار يَحْمل أسفاراً، وأثْقلَه حَمْلُها، ولم يَنْفعه عِلْمُها، وايم اللّه، لا أداويكم بالسيّف ما صَلَحتم على السَّوط، ولا أبلغ بالسوط ما كَفَتْني الدِّرة، ولا أبطى عن الأولى ما لم تُسْرعوا إلى الأخرى، فالزموا ما أمركم اللّه به تَسْتَوجِبوا ما فَرض اللّه لكم علينا، وإيّاكم وقال ويقول، قبل أن يُقال فَعل ويَفْعل، وكونوا خَيْر قَوْس سَهْماً، فهذا اليوم الذي ليس قَبله عِقاب، ولا بعده عِتاب.

خطب الخوارج
خطبة قطري بن الفجاءة في ذم الدنيا
صَعِد قطريّ بن الفُجَاءة مِنْبر الأزارقة، وهم أحد بني مازن بن عمرو بنِ تميم، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أحَذِّركم الدُّنيا، فإنها حُلوة خضِرة، حُفت بالشَّهوات، وراقت بالقليل، وتحبّبت بالعاجلة، وغُمِرت بالآمال، وتَحَلت بالأماني، وأزّيّنت بالغُرور، لا تَدُوم خضرتها، ولا تُؤْمَن فَجْعَتها، غَدَّارة ضَرَّارة، وحائلة زائلة، ونافدة بائدة، لا تَعْدو إذا هي تَنَاهت إلى أمنية أهل الرغْبة فيها والرِّضا عنها أن تكون كما قال اللّه عز وجلَّ: " كماءٍ أنْزَلناه من السَّماء فاخْتَلط به نبات الأرْض فأصْبَحَ هَشِيماً تَذْروه الرِّياح وكانَ اللّه عَلَى كلِّ شيءٍ مُقْتَدرأ " مع أنَّ أمرأً لم يكن منها في حَبْرة إلا أعْقبته بعدها عَبْرة، ولم يَلْق من سَرِّائها بَطْناً إلا مَنَحته من ضَرَائها ظَهْراً، ولم تَطُلّه منها دِيمة رَخاء، إلا هَطلت عليه مُزْنة بَلاء؛ وحَرِيّ إذا أصبحتْ له مُنتصرة أنْ تُمْسي له خاذلة مُتَنَكِّرة، وإنْ جانبٌ منها اعذوذب واحلولى، أمرّ عليه منها جانب فأوْبى، وإن لَبِس امرؤ من غَضَارتها ورفاهِيتها نِعماً، أرْهَقَتْه من نوائبها غمّاً، ولم يُمْس امرؤ منها في جَناح أمْن، إلا أصْبح منها على قوادم خَوْف. غرارة عُرُور ما فيها، فانية فانٍ ما عليها، لا خيْرَ في شيء من زادها إلاّ التّقوى، مَن أقل منها اسَتكثر مما يؤمّنه، ومن استكثر منها استكثر مما يُوبقه. كم واثق بها قد فَجَعَته، وذي طُمائينة إليها قد صَرَعَته، وكم من ذي، اختيال فيها قد خَدَعَته، وكم من، ذي أبهه فيها قد صيَرَّته حَقيراً، وذي نخْوَة فيها قد ردَّته ذليلاً، وذي تاجٍ قد كَبَّتْه لليدين والفم. سُلطانها دُوَل، وعيشها رَنْق، وعذْبُها أجَاج، وحُلْوًها مُرّ

وغِذاؤها سِمَام، وأسبابها رِمَام، وقِطَافها سَلَع. حَيُّها بعَرَض مَوْت، وصَحيحها بعَرَض سُقْم، ومَنيعها بعَرَض اهتضام. مَلِيكها مَسْلوب، وعزيزها مَغْلوب، وصحيحها وسَليمها مَنْكوب، وحائزها وجامعُها مَحْروب، مع أنَ مِن وَرَاء ذلك سَكراتِ الموت وزَفَرَاته، وهَوْل المُطّلع، والوُقوف بين يَدَي الحَكَم العَدْل، ليَجْزِيَ الذين أساءوا بما عملوا ويجْزيَ الذين أحسنوا بالحُسنى. ألستُم في مساكن منْ كان منكم أطولَ أعماراً، وأوْضَح آثاراً، وأعدَ عديداً، وأكْثَفَ جُنُوداً، وأعمَد عَتَاداً، وأصول عِمَاداً! تُعَبِّدُوا للدُّنيا أيِّ تَعَبُّد، وأثروها أفيَ إيثار، وظَعنوا عنها بالكُرْه والصَغار! فهل بَلَغكم أنَّ الدُّنيا سَمَحَتْ لهم نَفْساً بِفِدْية، وأغنَتْ عنهم فيما قد أملتهم به بخَطْب! بل أثقلتهم بالفَوَادح، وضعْضَعتهم بالنوائب، وعَفرتهم للمناخر، وأعانَت عليهم رَيْبَ المَنون، وأرهَقَتهم بالمصائب. وقد رأيتم تنكُّرها لمن دانَ لها وأثرها وأَخْلَد إليها، حتى ظَعَنوا عنها لِفِراق الأبد، إلى آخِر الأمَد. هل زؤَدَتهم إلا الشقاء، وأَحَفَتهم إلا الضَّنْك، أو نوَّرَت لهم إلا بالظلمة، وأعْقَبتهم إلا النَّدامة! أفهذه تؤْثِرون، أو على هذه تَحْرصون، أو إليها تَطْمَئِنّون! يقوله اللّه تبارك وتعالى: " مَنْ كان يُرِيد الحياة الدُّنيا وزينَتها نُوَفِّ إليهم أعمالَهم فيها وهُم فيها لا يُبْخَسُون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرًة إلا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يَعْمَلون " فبئست الدَّار لمن لم يتَهمْها، ولم يكن فيها على وَجَل منها. اعلموا، وأنتم تعلمون، أنكم تاركوها لا بُدَّ، فإنما هي كما نَعَتَ اللّه عزِّ وجلَّ: " لعب ولَهْوٌ وزينةٌ وتَفَاخُرٌ بينكم وتَكاثُرٌ في الأمْوَال والأولَاد " فاتَّعِظُوا فيها بالذين قال اللّه تعالى فيهم: أتْبنون بكل رِيعٍ آيةً تَعبثُون. وتَتَّخِذون مَصانع لَعلَّكم تَخْلُدُون وبالذين قالوا: مَنْ أشَدُّ مِناقوة. واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حُمِلُوا إلى قُبورهم، فلا يُدْعون رُكْباناً، وانْزلوا الأجداث فلا يُدْعون ضِيفاناً، وجُعِل لهم من الضريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرًّفات جِيران، فهم جيرة لا يُجيبون داعِياً، ولا يمنعون ضَيماً. إن أخصَبوا لم يَفْرحوا، وإن قَحِطوا لم يَقْنَطوا، جَمْعٌ وهُمْ آحاد، جيرَة وهم أبعاد، مُتَناءون يُزارون ولا يزورون، حُلماء قد ذَهَبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادُهم، لا يُخْشى فَجْعهم، ولا يُرْجي دَفْعهم، وهم! كمن لم يكن. قال اللّه تعالى: " فَتِلْك مَسَاكنُهم لم تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهم إلّاَ قَليلاً وكُنا نَحْنُ الوارثين " استبدلوا بظَهْر الأرْض بَطْناً، وبالسَّعة ضيقاً، وبالآل غُرْبة، وبالنُّور ظُلْمة، فجاءوها حُفاةً عُراةً فرَادى، غير أنْ ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، إلى خُلُود الأبد. يقول اللّه تبارك وتعالى: كما بَدَأْنَا أوِّلَ خَلْق نعِيدُه وَعْداً عَلَيْنا إنّا كًنّا فاعِلين. فاحذروا ما حَذّرَكم اللّه، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بِحَبْلِهِ، عَصَمنا اللّه وإياكم بطاعته، ورَزَقنا وإياكم أداء حقه، ثم نزل.

خطبة لأبي حمزة بمكة

خطبهم أبو حمزة الشَّارِي بمكة. فَصعِدَ المِنْبَر مًتَوكِّئاً على قوس عربية، فَخَطب خُطْبة طويلة، ثم قال: يأهل مكة، تُعيِّرُونني بأصحابي، تَزْعمون أنهم شَبَاب، وهل كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلاّ شبَاباً! نعم الشباب مُكْتَهلين، عَمِيَة عن الشرّ أعيُنهم، بَطِيئة عن الباطل أرجُلُهم. قد نظر اللّه إليهم في آناء الليل مُنْثنِيَة أصلابهم بمثَاني القرآن، إذا مرّ أحدُهم بآية فيها ذِكر الجنّة بكي شوقاً إليها، وإذا مرّ بآية فيها ذكر النار شَهَق شهقة كأن زَفير جهنَّم في أُذُنيه. قد وَصَلُوا كَلالَ ليلهم بكلال نهارهم، أنْضَاء عِبادة، قد أكلَت الأرضُ جباهَهم وأيديَهم ورُكَبهم. مُصْفَرّة ألوَانُهم، ناحلة أجسامهم، من كثرة الصِّيام، وطُول القِيَام، مُسْتَقِلّون لذلك فٍي جَنْبِ اللّه، مُوفون بعهد اللّه، مستنجزون لوعد اللهّ. إذا رأوا سِهام العدوّ قد فوِّقَت، ورِمَاحه قد أُشْرِعَت، وسُيُوفه قد انتضيَت، وبَرَقَت الكتيبة ورَعدت بصواعق الموت، استهانوا بوَعيد الكَتِيبة لوعد اللّه، فَمضي الشاب منهم قُدماً حتى تَخْتَلِف رجلاًه على عُنق فرسه، قد رُمِّلت محاسنُ وجهه بالدِّماء، وعُفِّر جَبِينُه بالثرى، وأسَرع إليه سِبَاعُ الأرْض، وانْحَطت عليه طَيْرُ السّماء، فكم من مُقْلة في مِنْقار طائر، طالما بَكى صاحبُها من خَشْيَة اللّه؛ وكم من كَفٍّ بانت عن مِعْصَمها، طالما اعتمد عليها صاحبُها في سُجوده؛ وكم من خَدّ عَتيق، وَجبين رَقيق، قد فُلِق بعَمَد الحديد. رحمة اللّه على تلك الأبدان، وأدْخل أرْواحها في الجنان. ثم قال: الناس منّا ونحن منهم إلاّ عابدَ وَثَن، أو كفرة أهْل الكتاب، أو إماماً جائراً، أو شادًّا على عَضُده.
خطبة لأبي حمزة بالمدينة

قال مالك بن أنس رحمه الله: خَطبنا أبو حمزة خطبة شكّك فيها المُستبصر وردَت المًرتاب، قال: أُوصيكم بتَقْوى الله وطاعته، والعَمل بكتابه وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وصِلة الرَّحم، وتَعْظيم ما صَغّرت الجبابرة من حق الله، وتَصْغير ما عَظَّمت من الباطل، وإماتة ما أحيوا من الجَوْر، وإحياء ما أماتوا من الحُقوق، وأَنْ يُطاع اللهّ ويُعمى العبادُ في طاعته، فالطاعةُ لله ولأهل طاعة اللهّ، ولا طاعةَ لمخلوق في مَعْصية الخالق. نَدْعوكم إلى كتاب اللّه وسُنة نبيّه، والقَسْم بالسويّة، والعَدْل في الرَّعية، ووَضْع الأخماس في مواضعها التي أمر اللّه بها. وإنا واللّه ما خرجنا أَشَراً ولا بَطراً ولا لَهْواً ولا لَعِباً، ولا لدُولة مُلْك نريد أن نَخُوض فيه، ولا لثأرٍ قد نِيل منَّا؛ ولكن لما رأينا الأرض قد أظلمت، ومعالم الجَوْر قد ظهرت، وكثر الادعاء في الدِّين، وعُمل بالهوى، وعُطِّلت الأحكام، وقتل القائم بالقِسط، وعُنَف القائل بالحق، وسمعنا مُنادياً ينادي إلى الحق وإلى طِريق مُستقيم، فأَجَبْنا داعيَ اللّه، فأَقْبلنا من قبائل شَتَّى، قليلين مُسْتضعفين في الأرْض، فآوانا اللّه وأيَّدَنا بنَصْره، فأصبحنا بنعمته إخواناً، وعلى الدِّين أعواناً. يأهْل المدينة، أوَّلُكم خير أوَّل، وأخركم شرّ آخر، إنكم أطعتم قًرَّاءكم وفُقهاءكم فاختانوكم عن كِتاب غير ذي عِوَج، بتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، فأصبحتم عن الحق ناكبين، أمواتاً غيرَ أحياء وما تَشْعرون. يأهل المدينة، يا أَبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ما أصح أَصْلَكم، وأسْقم فَرْعَكم! كان آباؤكم أهلَ اليَقين وأهل المَعرفة بالدين، والبصائر النافذة، والقُلوب الواعية، وأنتم أهلً الضلالة والجهالة، استعبدتكم الدُّنيا فأذَلّتكمِ، والأَماني فأَضَفَتكم، فتح الله لكم بابَ الدين فأفْسَدتموه، وأغلَق عنكم باب الدُّنيا ففَتَحتموه، سِرَاع إلى الفِتْنةِ، بِطَاء عن السُّنّة، عُمْيٌ عن البرهان، صُم عن العِرْفان، عَبيد الطَّمع، حُلفاء الجَزَع. نِعْم ما ورثكم آباؤكم لو حَفِظتموه، وبئس ما تُوَرِّثون أبناءَكم إنْ تَمَسَّكوا به. نصرَ اللّه آباءكم على الحق، وخَذَلكم على الباطِل. كان عدد آبائكم قليلاً طَيباً، وعددكم كثيرٌ خبيث. اتبعتمُ الهوَى فأرْدَاكم، والَّلهْو فأسْهاكم، ومواعظُ القرآن تزجركم فلا تزْدجرون، وتُعبِّركم فلا تَعتَبرون. سألناكم عن وُلاتكم هؤلاء فقلتم: واللّه ما فيهم الذي يَعْدل، أخذوا المال من غير حلقه فوضعوه في غير حَقه، وجازوا في الحكم فحَكموا بغير ما أنْزَلَ اللهّ، واستأثروا بفَيئنا فجَعَلوه دولةً بين الأغنياء منهم، وجعلوا مَقَاسِمَنا وحقوقنا في مُهُور النساء، وفروج الإماء. وقلنا لكم تعالوا إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظَلموكم وجاروا في الحُكم فَحَكموا بغير ما أنزل اللهّ؛ فقلتم لا نقْوَى على ذلك وَوَدِدْنا أنّا أصَبنا مَن يكفينا؛ فقُلنا: نحنُ نَكفيكم، ثم الله راع علينا وعليكم، إِن ظَفِرْنا لنُعطين كلَّ ذي حقَّه. فَجئْنا فاتقينا الرِّمَاح بصُدورنا، والسًّيوف بوُجوهنا، فعرَضتم لنا دونهم، فقاتلتمونا، فأبعدكم الله! فواللّه لو قلتم لا نَعرف الذي تقول ولا نَعلْمه لكان أعذرَ، مع أنه لا عُذْرَ للجاهل؛ ولكنْ أبى اللّه إلّا أن يَنطق بالحق علىِ ألْسِنتكم وَيأخُذَكم به في الآخرِة. ثم قال: النّاس منّا ونحن منهم إلا ثلاثة: حاكماً جاء بغير ما أنْزَل اللّه، أو مُتّبعاً له، أو راضياً بعمله.
أسقطنا من هذه الخطبة ما كان من طَعْنه على الخلفاء؛ فإنه طعن فيها على عثمان وعليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليهما، وعمر بن عبد العزيز. ولم يترك من جميع الخلفاء إلا أبا بكر وعمر، وكفَّر مَنْ بعدهما، فلعنةُ الله عليه. إلا أنه ذكر من الخُلفاء رجلاً أصغى إلى المَلاهي والمعازف، وأضاع أمر الرعيَّة، فقال: كان فلان بن فلان من عدد الخُلفاء عندكم، وهو مُضَيِّع للدين والدنيا. اشترى له بُرْدَين بألف دينار، اتزَزَ بأحدهما والتحف بالآخر، وأقعَدَ حَبابة عن يمينه وسَلاّمة عن يساره! فقال: يا حَبَابة غَنّيني ويا سلامة اسقيني، فإذا امتلأ سُكراً أو ازدهى طَرباً شَقّ ثوْبيه وقال: ألا أطير؟ فطُيّر إلى النار وبئس المَصير. فهذه صفة خلفاء اللّه تعالى!

وخطبة لأبي حمزة
أما بعد، فإنك في ناشيء فِتنة، وقائم ضلالة، قد طال جُثومها، واشتدت عليك هُمومها، وتلوَّت مصايد عدوّ اللّه منها وما نَصَبَ من الشِّرَك لأهل الغَفْلة عمّا في عواقبها. يَهُدّ عمودَها، ولن يَنزع أوتادها، إلا الذي بيده مُلْك الأشياء، وهو الرّحمن الرحيم. ألا وإن للهّ بقايا من عباده لم يتَحَيّروا في ظلَمها، ولم يُشايعُوا أهلها على شبهها، مصابيحُ النّور في أفواهِهم تزهو، وألسنتُهم بحُجَج الكتاب تَنْطق، رَكِبوا مَنهج السّبيل، وقاموا على العلَم الأعظم. هم خصما الشيطان الرّجيم، بهم يًصْلح اللهّ البلاد، ويَدْفع عن العباد. طُوبى لهم وللمستصبحين بنورهم، وأسأل الله أن يجعلنا منهم.
من أرتج عليه في خطبته
أَول خُطبة خطبها عثمان بن عفان أُرتج عليه، فقال: أيها الناس، إنّ أوّلَ كُلِّ مَرْكب صعب، وإنْ أعشْ تأتكم الخًطب على وَجهها، وسَيَجْعَلُ اللّهُ بعد عُسْرً يسراً إن شاء اللهّ. ولما قَدِم يزيد بن أبي سفيان الشام والياً عليها لأبي بكر، خَطب الناس فأُرتج عليه، فعاد إلى حمد للهّ، ثمِ أُرتج عليه، فعاد إلى الحمد، ثم ارتج عليه، فقال: يأهل الشام، عسى اللّه أن يجعل بعد عسر يُسْراً، وبعد عِيٍّ بياناً، وأنتم إلى إمام فاعل أحْوَجُ منكم إلى إمام قائل، ثم نزل. فبلغ ذلك عمرَو بن العاص فاستحسنه. صعد ثابت قُطْنة مِنْبَر سجِسْتان، فقال: الحمد لله، ثم أُرتج عليه، فنزل وهو يقول:
فإن لا أكنْ فيهم خَطِيباً فإنني ... بسَيفي إذَا جدّ الوَغى لَخَطيبُ
فقيل له: لو قُلتَها فوق المِنْبر لكنتَ أخطبَ الناس.
وخطب معاوية بن أبيِ سفيان لما وَليَ فَحَصِر، فقال: أيها الناس، إنّي كنتُ أعْددتُ مقالاً أقوم به فيكم فحُجبت عنه، فإن الله يحول بين المرء وقَلْبه، كما قال في كتابه، وأنتم إلى إمام عَدْل أحوجُ منكم إلى إمام خَطيب، وإني أمركم بما أمر الله به ورسولُه، أنهاكم عما نهاكم اللّه ورسوله، وأستغفر الله لي ولكم. وصعدَ خالد بن عبد الله القَسَري المِنْبَر: فأُرتج عليه، فمكثَ مليّاً لا يتكلًم، ثم تهَيّأ له الكلام، فتكلم فقال: أما بعد، فإن هذا الكلام يجيء أحياناً، ويَعْزُب أحياناً، فيسيح عند مجيئه سَيْبُه، ويعز عند عزُوبه طَلبه، ولربما كوبر فأبي، وعُولج فَنَأى، فالتأنَي لمجيئه خير من التعاطي لأبيه، وترْكهُ عند تنكره أفضلُ من طَلبه عند تعذره، وقد يرْتَج على البليغ لسانُه، ويَخْتَلج من الجَريء جَنانُه، وسأعود فأقول إنْ شاء الله.
صَعِدَ أبو العَنْبَس مِنْبَراً من مَنابراً الطائف، فَحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فاُرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: لا؛ قال: فما يَنْفعكم ما أريد أن أقول لكم، ثم نزل. فلما كان في الجُمعة الثانية صَعِد المنبر وقال: أما بعد، فأُرتج عليه، فقال: أتدرون ما أُريد أن أقول لكم؟ قالوا: نعم؛ قال: فما حاجتُكم إلى أن أقول لكم ما عَلِمتم، ثم نزل. فلما كانت الجُمعة الثالثة قال: أما بعد، فأُرتج عليه، قال: أتدرون ما أُريد أن أقول لكم؟ قالوا: بعضُنا يدري وبعضنا لا يدري؛ قال: فَليُخبر الذي يدري منكم الذي لا يدري، ثم نزل. وأتى رجلٌ من بني هاشم اليمامةَ، فلما صَعِد المِنْبر أُرتج عليه، فقال: حيّا الله هذه الوُجوهَ وجَعلني فِدَاها، قد أمرتُ طائفي بالليل أن لا يرى أحداً إلا أتاني به، وإن كنتُ أنا هو، ثم نزل.
وكان خالدُ بن عبد اللهّ إذا تكلّم يَظُنّ الناس أنه يَصْنع الكلام لعُذوبة لفظه وبلاغة مَنْطقه، فبينا هو يخطُب يوماً إذ وَقعت جرادة على ثوبه، فقال: سُبحان مَن الجرادُ مِن خلقه، أدمج قوائمها وطَرْفها وجَنَاحيها، وسَلطها على مَن هو أعظم منها. خَطبَ عبد الله بن عامر بالبَصرة في يوم أضحى، فأُرتج عليه، فمكث ساعة ثم قال: واللهّ لا أجمع عليكم عِيًّا ولُؤْما، من أخذ شاةً من السوق فهي له وثمنها عليِّ. قيل لعبد الملك بن مَروان: عَجّل عليك المَشيب يا أميرَ المؤمنين. فقال: كيف لا يُعَجل وأنا أعْرِض عقلي على الناس في كل جُمعة مرةً أو مرتين.
خطب النكاح

خَطب عثمانُ بنِ عَنْبَسة بني أبي سُفيان إلى عُتبة بن أبي سفيان ابنته. فأقعده على فَخذه، وكان حَدَثاً، فقال: أقرَبُ قريب خَطب أحب حبيب، لا أستطيع له ردًا، ولا أجِد من إسعافه بداً، قد زَوجتكها وأنت أعزُّ علي منها، وهي ألصَق بقلبي منك، فأكْرِمها يَعْذُب على لساني ذِكْرُك، ولا تُهنْها فيَصْغُرَ عندي قَدْرُك، وقد قَرَّبتُك مع قُرْبك، فلا تبعد قلبي مِن قلبك.

خطبة نكاح
العُتبي قال: زوج شبيب بن شَيبة ابنه بنتَ سًوّار القاضي، فقلنا: اليومَ يَعُب عُبابه. فلما اجتمعوا، تكلّم فقال: الحمد لله، وصلى الله على رسول الله. أما بعد، فإن المَعرفة منا ومنكم وبنا وبكم تَمْنعنا من الإكثار، وإن فلاناً ذكر فلانة.
وخطبة نكاح
العُتبي قال: كان الحَسَن البَصري يقول في خُطبة النِّكاح بعد الحمد للّه والثناء عليه: أما بعد، فإِنّ اللّه جَمع بهذا النّكاح الأرحام المُنقطعة، والأنساب المتفرّقة، وجَعَل ذلك في سُنّة من دينه، ومنهاج من أمرِه. وقد خَطب إليكم فلان، وعليه من اللّه نِعْمة، وهو يَبْذل من الصداق كذا، فاستخيروا اللّه ورُدّوا خيراً يرحمكم اللّه.
خطبة نكاح
العُتبي قال: حَضَرْت ابن الفقَيَر خَطب على نفسه امرأةً من باهلة فقال:
وما حسنٌ أن يمْدَحَ المرْءُ نفسَه ... ولكنَ أخلاقاً تُذَمُ وتُمْدَحُ
وإن فلانة ذُكِرت لي.
وخطبة نكاح
العُتبي قال: يُستَحَب للخاطب إطالة الكلام، وللْمخطوب إليه تَقْصيره. فَخَطب محمدُ بن الوليد إلى عمر بن العزيز أختَه، فتكلّم محمد بكلام طويل. فأجابه عمر: الحمد لله ذي الكِبْرياء، وصلى اللّه على محمد خاتم الأنبياء. أما بعد، فإنّ الرّغْبة منك دَعَتْك إلينا، والرّغبةَ فيك أجابتك منّا، وقد أحسنَ بك ظنّا مَن أودعك كريمتَه، واختارك ولم يخْتر عليك، وقد زَوَّجتكها على كتاب الله، إمساكاً بمعروف أو تَسْريحاً بإحسان.
خطبة نكاح
خطب بلالٌ إلى قوم من خَثْعم لنفسه ولأخيه، فَحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: أنا بلال وهذا أخي: كنا ضالّين فهدانا الله، عَبْدَين فأعتقنا اللّه، فقيرين فأغنانا الله، فإن تُزوَجونا فالحمد لله، وإن تَرُدُونا فالمُستعان اللّه. وقال عبدُ الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: قد زَوَجَك أمير المؤمنين ابنتَه فاطمة. قال: جزاك الله يا أمير المؤمنين خَيراً، فقد أجْزلت العطية، وكفَيت المسألة.
نكاح العبد
الأصمعي قال: زوج خالدُ بن صفوان عبدَه من أمته، فقال له العبد: لو دَعوتَ الناس وخَطبت! قال: ادعهم أنت. فدعاهم العبد، فلما اجتمعوا تكلَّم خالد بن صَفوان، فقال: إنَّ الله أعظم وأجلُّ من أن يُذْكر في نِكاح هذين الكلبين، وأنا أشهدكم أني زَوَّجت هذه الزانية من هذا ابن الزانية.
خطب الأعراب
الأصمعي قال: خطَبَ أعرابيّ فقال: أما بعد، فإنَّ الدُنيا دَار مَمَرَّ، والآخرة دار مَقَرّ، فخُذوا من مَمَرِّكم لمَقَركم، ولا تَهْتِكوا أستارَكم عند من لا تخفى عليه أسرارُكم، واخرِجوا من الدنيا قُلوبَكم قبل أن تَخْرُج منها أبدانُكم، ففيها حَيِيتم، ولغيرها خُلقتم؛ اليومَ عمل بلا حِساب، وغداً حسابٌ بلا عَمل. إنَّ الرجل إذا هَلك قال الناس: ما تَرك؟ وقالت المَلَائكة: ما قدَم؟ فقدِّموا بعضاً، يكون لكم قَرْضاً، ولا تَتْركوا كُلَاً فيكون عليكم كَلّاً. أقول قولي هذا والمَحمود اللّه، والمُصلى عليه محمد، والمَدْعو له الخليفة، ثم إمامُكم جعفر، قُوموا إلى صلاتكم.
خطبة لأعرابي
الحمد للّه الحميد المُستحمد، وصَلّى اللّه علي النبيّ محمد، أما بعد، فإن التعمّق في ارتجال الخًطب لَمُمكن، والكلامَ لا يَنثني حتى يُنْثنى عنه، واللّه تبارك وتعالى لا يُدرك واصفٌ كُنْه صِفته، ولا يبلغ خَطِيب مُنْتهى مِدْحته، له الحمدُ كما مَدح نفسه، فانهضوا إلى صلاتكم، ثم نزل فصلى.
خطبة أعرابي لقومه
الحمد لله، وصلى اللّه علي النبيْ المصطفى وعلى جميع الأنبياء. ما أَقبحَ بمثلي أن يَنْهَى عن أمر ويَرْتكبه، ويَأمر بشيء ويَجْتنبه، وقد قال الأول:
وَدع ما لُمت صاحبَه عليه ... فَذَم أن يَلُومك مَن تَلُومُ
ألهمنا الله وإياكم تَقواه، والعملَ برضاه.

وفي الأم زيادة من غير أَصلها، فأوردتُها كهيئتها، وهي خُطبة لعلي كرم الله وجهه أوردت في هذه المُجنّبة تِلْو خُطبة المأمون يوم عيد الفطر: جاء رجل إلى عليّ كرم الله وجهه فقال: يا أمير المؤمنين، صِفْ لنا رَبنا لنزداد له مَحبَّة، وبه مَعْرفة. فغضب علي كرم الله وجهه، ثم نادَى: الصلاةً جامعة. فاجتمع الناسُ إليه حتى غصَ المَسجد بأهله، ثم صَعِد المنبر وهو مُغْضَب مُتغير اللون، فَحَمد اللهّ وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: الحمدُ لله الذي لا يَعُزه المنع، ولا يُكديه الإعطاء، بل كلّ مُعْطٍ يَنْقص سِواه، هو المنَّان بفرائد النِّعم، وعَوائد المَزيد، وبجُوده ضَمِنت عيالَةُ الخلق، ونُهج سَبيلُ الطلب للراغبين إليه. وليس بما يُسأل أجودَ منه بما لا يُسأل، وما اختلف عليه دَهْر فتختلفَ فيه حال، ولو وَهَب ما انشقَّت عنه معادنُ الجبال، وضَحِكت عنه أصدافُ البحار، من فِلَذ اللَّجين، وسبائك العِقْيان، وشَذْر الدرّ، وحَصيد المَرْجان، لبعض عباده، ما أَثر ذلك في مُلكه ولا في جُوده، ولا أَنفد ذلك سَعَةَ ما عنده. فعندَه من الأفضال ما لا يُنْفِده مَطْلَب وسؤال، ولا يَخْطِر لكم على بال؛ لأنه الجوادُ الذي لا تَنْقصه المواهب، ولا يُبرمه إلحاحُ الملحَين بالحوائج، إنّما أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيكُون. فما ظَنًّكم بمَن هو هكذا ولا هكذا غيرُه؟ سبحانَه وبحمده! أيها السائل، اعقل ما سألَتني عنه، ولا تسأَل أحداً بعدي، فإني أكْفيك مؤونة الطٌلب، وشِدّة التّعمق في المَذْهب. وكيف يُوصف الذي سألَتني عنه، وهو الذي عَجزت عنه الملائكة، علىِ قُربهم من كرسيّ كرامته، وطُول وَلَهم إليه، وتَعْظيمهم جلالَ عِزته، وقُربهم من غيْب ملكوته، أن يَعْلَموا من عِلْمه إلا ما علّمهم، وهم من ملكوت العرش بحيثُ هم، ومن مَعرفته على ما فَطرهم عليه، فقالوا: سُبحانك لا عِلْم لنا إلا ما عَلمتنا إنك أنت العليم الحكيم. فمدح الله اعترافهم بالعَجْز عما لم يُحيطوا به عِلْماً، وسَمّى تَرْكَهم التعمّق فيما لم يُكلفهم البحثَ عنه رُسوخاً. فاقتِصرْ على هذا، ولا تَقْدِرُ عظمةَ الله على قَدْر عقلك، فتكونَ من الهالكين. واعلم أَنّ الله الذي لم يَحْدُث فيُمِكنَ فيه التغيّرُ والانتقال، ولم يَتغيَّر في ذاته بمرور الأحوال، ولم يَختلف عليه تعاقبُ الأيّام والليالي، هو الذي خلق الخلقَ على غير مِثال أمتثله، ولا مِقدار احتذى عليه مِن خالقِ كان قبلَه؛ بلى أرَانا من مَلكوت قُدرته، وعجائب ربُوبيّته، مما نَطقت به آثار حِكْمتهَ، واضطرارِ الحاجة من الخَلق إلى أن يُفَهِّمهم مَبلغ قوَّته، ما دَلِّنا بقيام الحُجة له بذلك علينا على مَعْرفته. ولم تُحِط به الصِّفات بإدراكها إيّاه بالحدُود مُتناهياً، وما زال، إذ هو اللّه الذي لسِر كمثله شيء، عن صِفَة المَخلوقين مُتعالياً، انحسرت العُيون عَن أن تَنالَه، فيكونَ بالعِيان مَوْصوفاً، وبالذات التي لا يَعْلمها إلّا هو عند خَلْقه مَعْروفاً. وفات لعلوّه عن الأشياء مواقِعَ وَهْم المُتوهِّمين، وليسِ له مِثْل فيكونَ بالخلق مُشَبَّهاً، وما زال عند أهل المَعرفة به عن الأشباه والأنداد منزَّهاً. وكيف يكون مَن لا يُقْدَر قَدْره مُقدَّراً في روايات الأوهام، وقد ضَلّت في إدراك كيفيته حواسُّ الأنام؛ لأنه أجلُّ من أن تَحُدَّه ألبابُ البَشر بنَظير. فسبحانه وتعالى عن جَهلِ المخلوقين، وسُبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين. ألَا وإن للّه ملائِكةً صلى الله عليه وسلم لو أَنّ مَلَكاً هَبط منهم إلى الأرض لما وَسِعَتْه، لِعظم خَلْقه وكَزْة أجنْحته؛ ومن ملائكته مَن سَدّ الآفاق بجنَاح من أَجْنحته دون سائر بَدَنه؟ ومنِ ملائكته مَن السمواتُ إلى حُجْزَته وسائرُ بدنه في جِرْم الهواء الأسفل، والأرضون إلى رُكبته؛ ومِن ملائكته مَن لو اجتمعت الإنسُ والجنّ على أن يَصِفوه ما وَصفوه، لبُعدِ ما بين مَفاصِلِه، ولحُسن تركيب صورته؛ وكيف يُوصف مَنْ سَبْعُمائة عام مِقدار ما بين مَنْكِبيه إلى شَحْمة أُذنيه؛ ومِن ملائكته مَن لو أُلقيت السُفن لا دموع عينيه لَجَرَت دَهْرَ الدَاهرين. فأين أين بأحدكم! وأين أين أن، يدرِك ما لا يُدْرَك!

كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول

والصدور وأخبار الكتبة
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مَضى قولنا في الخُطب وفضائلها، وذِكْر طِوالها وقِصارها، ومَقامات أَهْلها؛ ونحن قائلون بعون الله وتَوفيقه في التَوقيعات والفُصَول والصُّدور وأَدَوات الكِتابة وأَخبار الكًتَاب وفَضْلِ الإيجاز؛ إذ كان أشرفُ الكلام كُلَه حُسْناً، وأَرفعُه قَدْراً، وأَعظمُه مِن القلوب مَوْقعاً، وأقلُه على اللسان عَملاً، ما دَلّ بعضُه على كُلّه، وكَفى قليلُه عن كَثيرة، شَهِد ظاهرُه على باطنه، وذلك أن تَقِلَّ حُروفه، وتَكْثَر معانيه. ومنه قولُهم: رُبّ إشارة أبلغُ من لَفظ. ليس أَن الإشارة تُبيّنَ ما لا يُبينه الكلامُ، وتَبْلغُ ما يَقْصُر عنه اللسان، ولكنّها إذا قامت مَقام اللَّفظ، وسَدّت مَسد الكلام، كانت أبلغَ، لقلّة مؤونتها وخِفّة محملها. قال أَبرْويز لكاتبه: اجْمَع الكَثِيرَ ممّا تُريد من المعنى، في القليل ممّا تقول.
يحُضُّه على الإيجاز ويَنهاه عن الإكثار في كًتبه. أَلَا تَراهم كيف طَعنوا على الإسهاب والإكثار حتى كان بعضُ الصحابة يقول: أعوذ باللّه من الإسهاب! قيل له: وما الإسهاب؟ قال: المُسْهَب الذي يتخلل بلسانه تَخلّل الباقر، ويَشول به شَوَلان الروْق. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أَبغضُكم إليّ الثّرثارون المُشتدَقون. يُريد أهل الأكثار والتّقْعير في الكلام.
ولم أجد أحداً من الألف يَذُم الإيجاز ويَقْدح فيهِ ويَعيبه ويَطْعن عليه. وتحب العربُ التخْفيف والحَذْف، ولهَربها مات التثْقيل والتطويل كان قَصْرُ المَمْدود أحبَّ إليها من مدّ المَقْصور، وتَسْكينُ المُتحرّك أخف عليها من تَحْريك الساكن، لأنّ الحَركة عَمَل والسُّكون راحة. وفي كلام العرب الاختصار والإطناب، والاختصار عندهم أحمد في الجُملة، وإن كان للإطناب مَوْضع لا يَصْلح إلا له. وقد تُومِىء إلى الشيء فَتَستغني عن التَّفسير بالإيماءة، كما قالوا: لمحةٌ دالّة.
كتب عمرو بنُ مَسْعدة إلى ضَمْرة الحَرُوريّ كتاباً، فنظر فيه جعفر بن يحيى فَوقَّع في ظهره: إذا كان الإكثار أبلغَ كان الإيجاز مُقَصِّراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عيَّاً. وبَعث إلى مَروانَ بن محمد قائدٌ مِن قُوَاده بغلام أَسْود، فأَمر عبدَ الحميد الكاتبَ أن يكتبَ إليه يَلْحاه وُيعنِّفه، فكَتب وأَكثر، فاستثقل ذلك مَروانُ، وأَخذ الكتاب فوقّع في أسفله: أَمَا إنك لو عَلِمْت عدداً أقل من واحد ولوناً شرَّاً من أسود لبعثتَ به. وتكلّم ربيعةُ الرّأي فأَكْثر وأَعْجبه إكثارُه، فالتفت إلى أعرابيّ إلى جنبه، فقال له: ما تَعدّون البلاغة عندكم يا أعرابيّ؟ قال له: حَذْف الكلام، وإيجاز الصواب. قال: فما تَعدّون العِيّ؟ قال: ما كُنتَ فيه منذُ اليوم. فكأنما أَلقمه حَجراً.
أول مَن وضع الكتابة
أوّل من وضع الخطّ العربيّ والسّرياني وسائرَ الكُتُب آدمُ صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلثمائة سَنة، كَتبه في الطين ثم طَبخه، فلمّا انقضى ما كان أصاب الأرضَ من الغَرق وَجد كُلُّ قوم كتابهم، فكتبوا به. فكان إسماعيل عليه الصلاةُ والسلامُ وجد كتابَ العرب.
ورُوي عن أبي ذَرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ إدريس أولُ مَن خَط بالقلم بعد آدم صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس أَنً أولَ من وَضع الكتابةَ العربيّة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكان، أَوَّلَ مَن نطق بها، فوُضعت على لفظه ومَنطقه. وعن عمرَ بن شَبة بأسانيده: أن أولَ مَن وضع الخطّ العربي: أبجد وهَوًز وحُطي وكَلمن وسعفص وقرشت، هم قوم من الجبلة الآخرة، وكانوا نزولا عند عَدْنان بن أُدد، وهم من طَسْم وجديس. وحُكي أنًهم وضعوا الكُتب على أسمائهم، فلما وجدوا حُروفاً في الألفاظ ليست في أسمائهم أَلْحقوها بها وسموها الروادف، وهي: الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين، على حَسب ما يلحق في حروف الجُمل. وعنه أن أول مَن وضع الخط

نفيس ونصر وتَيْما، بنو إسماعيل بن إبراهيم، ووضعوه مُتَّصل الحروف بعضها ببعض، حتى فَرّقه نَبْت وهَمَيْسَع وقَيذر. وحكوا أيضاً أن ثلاثة نفر من طيىء اجتمعوا ببقعة، وهم: مُرامِر بن مُرّة وأسْلم بن سِدْرة وعامر بن جَدَرة، فوضعوا الخط وقاسُوا هجاء العربيّة على هجاء السّريانية، فتعلّمه قوِم من الأنبار. وجاء الإسلامُ وليس أحد يكتب بالعربيّة غيرَ سبعة عشر إنساناً، وهم؛ عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعُمرُ بن الخطّاب، وطَلحة بن عبيد اللّه، وعثمان، وأبو عُبيدة بن الجَرّاح، وأبان بن سعيد بن العاص، وخالد بن سعيد أخوه، وأبو حُذيفة بن عُتبة، ويزيد بن أبي سفيان، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، والعلاء بن الحَضْرمي، وأبو سَلمة ابن عبد الأسد، وعبد اللّه بن سعد بن أبي سَرح، وحُويطب بن عبد العُزّى، وأبو سُفيان بن حَرْب، ومعاوية ولده، وجُهيم بن الصلت بن مخرَمة.

استفتاح الكتب
إبراهيم بن محمد الشَّيباني قال: لم تزل الكتب تُستفتح باسمك اللهم حتى أنزلت سورة هود وفيها: بسم الله مَجْراها ومُرْساها، فكتب: بسم اللّه؛ ثم نزلت سورة بني إسرائيل: قل أدعوا اللّه أو أدعوا الرَّحمَن فكتب، بسم اللّه الرحمن، ثم نَزلت سورة النمل: " إنّهٍ من سُليمان وإنه بسم الله الرَحمن الرحيم " فاستفتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت سُنة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أصحابه وأمراء جُنوده: مِن محمد رسول اللّه إلى فلان. وكذلك كانوا يَكتبون إليه، يبدءون بأنفسهم، فممن كَتب إليه وبدأ بنفسه: أبو بَكْر والعلاء بن الحَضْرمي وغيرُهما، وكذلك كُتُب الصحابة والتابعين، ثم لم تَزل حتى وَلي الوليد بنِ عبد الملك، فعظم الكِتَابَ وأَمر أن لا يُكاتبه الناسُ بمثل ما يُكاتِب به بعضهمِ بعضاً، فَجَرت به سُنّة الوليد إلى يومنا هذا، إلّا ما كان من عُمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل، فإنهما عَمِلا بسنة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، ثم رجع الأمر إلى رأي الوليد، والقومّ عليه إلى اليوم.
ختم الكتاب وعنوانه
وأمّا خَتْم الكتاب وعنوانه: فإن الكتب لم تزل مَشهورةً، غيرَ مُعنونة ولا مختومة، حتى كُتبت صحيفة المُتلمِّس، فلما قرأها خُتمت الكتب، وعُنونت. وكان يُؤتىَ بالكتاب فيقال: مَن عُنِيَ به، فسُمّى عُنْواناً.
وقال حسَّان بن ثابت في قتل عثمان:
صَحِّوا بِأَشْمَط عُنْوانُ السجود به ... يُقَطِّع الليلَ تَسْبيحاً وقُرآنَا
وقال آخر:
وحاجةٍ دون أخرى قد سَمَحْتُ بها ... جعلتُها للذي أحببتُ عُنوانَا
وقال أهلُ التفسير في قول اللهّ تعالى: إني أُلْقِي إليّ كِتَابٌ كَرِيم أي مختوم، إذ كانت كَرامة الكتاب خَتمه.
تأريخ الكتاب
لا بد من تأريخ الكتاب، لأنه لا يُدَلّ على تحقيق الأخبار وقُرْب عهد الكِتاب وبُعْده إلا بالتأريخ. فإذا أردتَ أن تُؤَرّخ كتابَك فانْظُر إلى ما مَضى منِ الشَهر وما بِقِي منه، فإن كان ما بَقي أكثر من نصف الشهر، كتبت: لكذا وكذا ليلةً مضت من شهر كذا؛ وإن كان الباقي أقلَّ من النصف، جعلتَ مكان: مَضت، بقيت. وقد قال بعضُ الكتاب: لا تكتب إذا أرّخت إلا بما مَضى من الشهر، لأنه معروف، وما بقي منه مجهول؛ لأنك لا تدري أيتمّ الشَّهر أم لا.
ولا تَجعل سِحاءة كتابك غليظة، إلا في كُتب العُهود والسجلاّت التي يُحتاج إلى بقاء خواتيمها وطَوابعها؛ فإنَّ عبد اللّه بن طاهر كتب إليه بعضُ عمّاله على العراق كتاباً، وجعل سِحَائته غليظة، فأمر بأشخاص الكاتب إليه، فلما ورَد عليه، قال عبدُ الله بن طاهر: إن كانت معك فأس فاقطع خَتم كتابك ثم ارجعِ إلى عملك، وإن عُدت إلى مثلها عُدنا إلى إشخاصك لقطعها. ولا تُعظِّم الطَينة جداً، وطِنْ كُتُبكَ بعد كَتْبك عناوينها، فإن ذلك من أدب الكاتب، فإن طِينت قبل العُنوان فأدب مُنتحل.
تفسير الأمي
فأما الأمي فمجازُه على ثلاثة وجوه: قولهم أمي، منسوب إلى أُمّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16