كتاب :الذخيرة

كتاب :الذخيرة
المؤلف : شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة الأولى في فضيلة العلم وآدابه
وفيها فصلان
الفصل الأول في فضيلته من الكتاب والسنة والمعنى
أما الكتاب فمن وجوه الأول أن تقول خير البرية من يخشى الله تعالى وكل من يخشى الله تعالى فهو عالم فخير البرية عالم بيان الأولى قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصاحات أولئك هم خير البرية ) إلى قوله ( ذلك لمن خشي ربه ) فأثبت الخشية لخير البرية وهو المطلوب وبيان الثانية قوله تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) أضاف سبحانه الخشية إلى كل عالم على وجه الحصر فيكون كل من يخشى الله تعالى فهو عالم وهو المطلوب الثاني قوله تعالى ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ) بدأ بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالعلماء دون سائر خلقه فيكون من عداهم دونهم وهو المطلوب الثالث قوله تعالى ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) وعادة العرب في سياق الامتنان تأخير الأفضل وتقديم المفضول على الأفضل فتكون موهبته عليه الصلاة والسلام من العلم أفضل من موهبته من الإنزال المتضمن للنبوة والرسالة وهذا شرف عظيم شب فيه عمرو عن الطوق الرابع في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام في أمر الهدهد ( لأعذبنه عذابا شديدا ) فلما جاء الهدهد قال ( أحطت بما لم تحط به ) فاشتدت نفسه واستعلت همته بما علمه على سيد أهل الزمان ورسول الملك الديان مع عظم ملكه وهيبة مجلسه وعلم الهدهد بحقارة نفسه وما تقرر عند سليمان عليه السلام من جريمته والعزم على عقوبته فلولا أن العلم يرفع من الثرى إلى الثريا لما عظم الهدهد بعد أن كان يود أن لو كان نسيا منسيا فلا جرم أبدل له العقوبة بالإكرام النفيس وأسبغ عليه خلع الرسالة إلى بلقيس وأما السنة فمن وجوه الأول ما في الموطأ من يرد الله خيرا يفقه في الدين والقاعدة أن المبتدأ محصور في الخبر والشرط اللغوي محصور في مشروطه لأنه سبب فيكون المراد الخير محصور في المتفقه فمن ليس بمتفقه لا خير فيه الثاني ما في أبي داود قال صلى الله عليه وسلم
من سلك طريقا يطلب فيها علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة
وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر فأما الطريق التي يسلك به فيها إلى الجنة فمعناه أن هذه الحالة سبب موصل إلى الجنة وأما وضع الملائكة أجنحتها فقيل تكف عن الطيران فتجلس إليه لتستمع منه وقيل تكف عن الطيران توقيرا له وقيل تكف عن الطيران لتبسط أجنحتها له بالدعاء ولو لم تعلم الملائكة أن منزلته عند الله تستحق ذلك لما فعلته فينبغي لكل أحد من الملوك فمن دونهم أن يتواضعوا لطلبة العلم اتباعا لملائكة الله تعالى وخاصة ملكه وأما استغفارهم له فهو طلب ودعاء له بالمغفرة وأحدنا يسافر البلاد البعيدة للرجل الصالح لعله يدعو له فما ظنك بدعاء قوم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فيا حبذا هذه النعمة وأما التشبيه بالبدر ففيه فوائد إحداها أن العالم يكمل بقدر اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي عليه السلام هو الشمس لقوله تعالى ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ) والسراج هو الشمس لقوله تعالى ( وجعلناك سراجا وهاجا ) ولما كان القمر يستفيد ضوءه من الشمس وكلما كثر توجهه إليها كثر ضوؤه حتى يصير بدرا فكذلك العالم كلما كثر توجهه للنبي وإقباله عليه توفر كماله وثانيهما أن العالم متى أعرض عن النبي بكليته كسف باله وفسد حاله كما أن القمر إذا حيل بينه وبين الشمس كسف خلافا لمن يزعم أن العلوم تتلقى بالتوجه ولا يحتاج فيها إلى النبوة وثالثهما أن الكوكب مع البدر كالمطموس الذي لا أثر له وضوء البدر عظيم المنفعة منتشر الأضواء منبعث الأشعة في الأقطار برا وبحرا وهذا هو شأن العالم وأما العابد فالكوكب حينئذ لا يتعدى نوره محله ولا يصل نفعه إلى غيره الثالث ما في الترمذي أنه عليه السلام ذكر له رجلان عالم وعابد فقال عليه السلام
فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم قال عليه السلام
وإن الله تبارك وتعالى وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها يصلون على معلمي الناس خيرا وهذا الحديث أبلغ من الأول بكثير جدا فإن فضله صلى الله عليه وسلم على أدناهم أعظم من فضل القمر على الكواكب أضعافا مضاعفة الرابع ما روى ابن أبي زيد في جامع المختصر عن ابن القاسم أنه قال روي أنه عليه السلام قال
ما جميع أعمال البر في الجهاد إلا كنقطة في بحر وما جميع أعمال البر والجهاد في طلب العلم وفضله إلا كنقطة في بحر ويؤيده ما في الخبر
يوزن مداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء
ومعلوم أن أعلى ما للشهيد دمه وأدنى ما للعالم مداده فإذا رجح الأدنى على الأعلى فما الظن بالأعلى مع الأدنى الخامس ما في الترمذي أنه عليه السلام قال
ما عند الله شيء أفضل من الفقه في الدين ولفقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد ولكل شيء قوام وقوام الدين الفقه ولكل شيء دعامة ودعامة الدين الفقه
السادس أنه عليه السلام قال
قليل الفقه خير من كثير العبادة
السابع أنه عليه السلام قال
إن الله يجمع العلماء في صعيد واحد فيقول يا معشر العلماء إني لم أوتكم علمي وحكمتي إلا لخير أردته بكم أشهدكم أني قد غفرت لكم ما كان منكم
وأما المعنى فمن وجوه الأول أن العلم معتبر في الإلهية وكفى بذلك شرفا عند كل عاقل على العبادات وغيرها وثانيها أن كل خير مكتسب في العالم فهو بسبب العلم وكل شر يكتسب في العالم فهو بسبب الجهل والاستقراء يحقق ذلك ثالثها أن الله تعالى لما أراد بيان فضل آدم على الملائكة وإقامة الحجة عليهم علمه أسماء الأشياء أو علاماتها على خلاف في ذلك ثم سألهم فلم يعلموا وسأله فعلم وعلم فاعترفوا حينئذ بفضيلته وأمرهم بالسجود له في وقت واحد تعظيما لمنزلته وخالف إبليس في ذلك فباء من الله تعالى بقبيح لعنته وهذا حال العلم بأسماء الأشياء أو علاماتها فكيف بالعلم بحدود الدين وما يتوصل به إلى رب العالمين ورابعها أن الكلب أخس الأشياء لقذراته وأذيته وسوء حالته فإذا اتصف بعلم الاصطياد شرفه الشرع وعظمه وجعل صيده حينئذ قوام الأجساد ومحترما عن الإفساد وخامسها أن العالم ينقل عن الحق للخلق فيقول إن الله تعالى حرم عليكم كذا وأوجب عليكم كذا وأذن لكم في كذا وأمركم بتقديم كذا وتأخير كذا فهو القائم بأمر الله تعالى في خلقه وموصله إلى مستحقه والدافع عنه تحريف المحرفين وتبديل المبدلين وشبه المبطلين وهذا هو معنى مقام المرسلين ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يتصور نفسه في هذا المقام ويعاملها بما يليق بها من الاحترام فإن الرسول إذا ورد من عند ملك عظيم قبح عليه أن يمشي إلى بيوت الأمراء وفي الأسواق أو يتقاصر عن مكارم الأخلاق صونا لتعظيم مرسله وهذا معلوم في العوائد فكذلك طالب العلم ينبغي له أن يبعد نفسه عن الدناءات بل عن كثير من المباحات صونا لشرف منصبه وتعزيزا لثمرات مطلبه وسادسها أن قيمة الإنسان ما يعلمه لا ما يعلمه لقول علي رضي الله عنه المرء مخبوء تحت لسانه وما قال تحت ثيابه ومعنى هذا الاختباء أنه إن نطق بشر ظهرت خسته ودناءته وبخير ظهر شرفه وإن لم ينطق بشيء فهو عدم محض عند مشاهده وقال علي رضي الله عنه
المرء بأصغريه قلبه ولسانه
ولم يقل بيديه أي هو معتبر بهما فإن رفعاه ارتفع وإن وضعاه اتضع فالقلب معدن الحكم واللسان ترجمانه وما عداه في حكم الأعوان البعيدة التي لا اعتداد بها وأنشد علي رضي الله عنه في هذا المعنى ( الناس من جهة التمثيل أكفاء ** أبوهم آدم والأم حواء ) ( فإن أتيت بفخر من ذوي نسب ** فإن نسبتنا الطين والماء ) ( ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ** على الهدى لمن استهدى أدلاء ) ( وقيمة المرء ما قد كان يحسنه ** والجاهلون لأهل العلم أعداء ) ( فاطلب لنفسك علما واكتسب أدبا ** فالناس موتى وأهل العلم أحياء ) وسابعها أن العلم على عظيم قدره وشريف معناه يزيد بكثرة الإنفاق وينقص مع الإشفاق وهذه فضيلة جليلة آخذة بآفاق الشرف جعلنا الله تعالى من أهله القائمين بحقوقه بمنه وكرمه وثامنها أن العلماء وصلوا بحقيقة العلم إلى عين اليقين فشاهدوا الأخطار والأوطار بالأفق المبين فاستلانوا ما استوعره المترفون واستأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وفازوا بما قعد عند المقصرون فهم مع جلسائهم بأشباحهم وفي الملأ الأعلى بأرواحهم فلا جرم هم أحياء وإن ماتت الأبدان على ممر الدهور والأزمان غابت أعيانهم عن العيان وصورهم مشاهدة في الجنان والجنان جعلنا الله تبارك وتعالى ممن أخذ من هداهم بأوثق نصيب ونافس في نفائسهم إنه قريب مجيب
الفصل الثاني في آدابه
اعلم أن أعظمها الإخلاص لله سبحانه وتعالى فإنه إذا فقد انتقل العلم من أفضل الطاعات إلى أقبح المخالفات قال الله تعالى ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون ) وروى ابن زيد في جامع المختصر أنه عليه السلام قال
ويل لمن علم ولم ينفعه علمه
سبع مرات ثم قال
ويل لمن لم يعلم ولو شاء الله لعلمه
ثلاث مرات ويروى عنه عليه السلام
يأمر الله تعالى بطائفة من العلماء والقراء والمجاهدين إلى النار ويقول لكل طائفة منهم إنما عملت ليقال وقد قيل
الحديث بطوله وروى ابن أبي زيد أنه صلى الله عليه وسلم قال
من تعلم العلم ليماري به أو ليباهي به أو ليرائي به أوقفه الله موقف الذل الصغار وجعله عليه حجة يوم القيامة يوم يكون العلم زينا لأهله
وروى أيضل عنه عليه السلام
من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة وحقيقة الرياء أن يعمل الطاعة لله وللناس ويسمى رياء الشرك أو للناس خاصة ويسمى رياء الإخلاص وكلاهما يصير الطاعة معصية وأغراض الرياء الباعثة عليه منحصرة في ثلاثة جلب الخيور ودفع الشرور والتعظيم ويلحق بالرياء التسميع وهو أن يقول علمت كذا أو حفظت كذا أو غير ذلك من أعمال البر والتسميع يكون بعد انعقاد العبادة معصية على الرياء وبعد انعقادها طاعة مع الإخلاص لكن في الأول يكون جامعا بين معصيتي الرياء والتسميع وفي الثاني هو عاص بالتسميع فقط فتقابل سيئة التسميع حسنة الطاعة المسمع بها في الموازنة فربما استويا وربما رجحت إحداهما على حسب مقادير الطاعات والتسميع والأصل في التسميع قول عليه السلام من سمع سمع الله به أسامع خلقه يوم القيامة
أي ينادي مناد من قبل الله تعالى عبدي فلان عمل عملا لي ثم تقرب به لغيري نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة . واعلم يا أخي أن هذا مقام تشيب منه النواصي ولا يعتصم منه بالصياصي فينبغي لك أن توفر العناية عليه والجد فيه مستعينا بالله تعالى فمن لم يساعده القدر ولم ينفعه الحذر ولقد قطع الكبر من استكبر ( إذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده ) ولكني أدلك على أعظم الوسائل مع بذل الاجتهاد وهو أن تكون مع بذل جهدك شديد الخوف عظيم الافتقار ملقيا للسلاح معتمدا على ذي الجلال مخرجا لنفسك من التدبير فإن هذه الوسيلة هي العروة الوثقي لماسكها وطريق السلامة لسالكها والله تعالى هو المسئول المبتهل لجلاله في السلامة من عذابه ( فما لجلدي بحر النار من جلد ** ولا لقلبي بهول الحشر من قبل ) واعلم أنه ليس من الرياء قصد اشتهار النفس بالعلم لطلب الاقتداء بل هو من أعظم القربات فإنه سعي في تكثير الطاعات وتقليل المخالفات وكذلك قال إبراهيم عليه السلام ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) قال العلماء معناه يقتدي بي من بعدي ولهذا المعنى أشار عليه السلام
بقوله إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به
حضا على نشر العلم ليبقى بعد الإنسان لتكثير النفع ومنه قوله تعالى ( ورفعنا لك ذكرك ) على أحد الأقوال وقال العلماء بالله ينبغي للعابد السعي في الخمول والعزلة لأنهما أقرب إلى السلامة وللعالم السعي في الشهرة والظهور تحصيلا للإفادة ولكنه مقام كثير الخطر فربما غلبت النفس وانتقل الإنسان من هذا المعنى إلى طلب الرئاسة وتحصيل أغراض الرياء والله المستعان وهو حسبنا في الأمر كله الثاني ينبغي لطالب العلم أن يحسن ظاهره وباطنه وسره وعلانيته وأفعاله وأقواله فلقد أحسن من قال ( فالعيب في الجاهل المغمور مغمور ** وعيب ذي الشرف المذكور مذكور ) ( قلامة الظفر تخفى من حقارتها ** ومثلها في سواد العين مشهور ) ولهذا المعنى قال الله تعالى لنبيه عليه السلام ( إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) أي لو فعلت ذلك لعذبناك مثل عذاب غيرك في الدنيا مرتين ومثل عذابه في الآخرة مرتين وكذلك في قوله تعالى ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) وهذه عادة الله تعالى في خلقه من عظمت عليه نعمته اشتدت عليه نقمته ولذلك رجم المحصن في الزنا وجلد البكر ولأن اشتهاره بالخير يبعث على الاقتداء به فيحصل له كمال السعادة الدنياوية ووقور السمت ويصير للمتقين إماما واشتهاره بالدناءة ينفر النفوس منه فتفوته هذه المنزلة بل ينبغي له أن يكتم من الحق ما تنفر منه عقول جلسائه وأهل زمانه وأن يخاطب الناس على قدر عقولهم فإنه إن يفعل ذلك لم يحصل مقصوده من إظهار ذلك الحق ولا من غيره ففي الحديث من خاطب قوما بما لم تصل إليه عقولهم كان عليهم فتنة اللهم إلا أن يكون مما أوجب الله تعالى إظهاره كقواعد الدين وإبطال شبه الضالين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيعتمد على قوله تعالى ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر ) ومن رضي الله تعالى عنه فلا يضره غضب غيره ( إذا رضيت عني كرام عشيرتي ** فلا زال غضبانا علي شرارها ) قال مالك رحمه الله في المختصر حق على طالب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية واتباع لأثر من مضى قبله . وقال الحسن رحمه الله كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في وجهه وتخشعه ولسانه ويده وصلواته وقال عليه السلام ما ضم شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم وقال عمر رضي الله عنه تعلموا للعلم السكينة والوقار وتواضعوا لمن تتعلمون منه ولمن تعلمونه وإياكم أن تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم وقال أبو حازم رحمه الله كان العالم فيما مضى إذا لقي من هو فوقه في العلم كان يوم غنيمة أو من هو مثله ذاكرة أو من هو دونه لم يزه عليه ثم كان هذا الزمان أن صار الرجل إذا لقي من فوقه انقطع عنه حتى لا يرى الناس أن به حاجة إليه وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره ويزهو على من هو دونه وقال أبن أبي ليلى أدركت عشرين ومائة من الصحابة والأنصار ما منهم أحد يسأل عن شيء إلا ود أن صاحبه كفاه الفتيا وقال مالك جنة العالم لا أدري فإذا أخطأ أصيبت مقاتله وقال كان الصديق يسأل عن الشيء فيقول لا أدري وأحدكم اليوم يأنف أن يقول لا أدري قال مطرف رحمه الله ما رأيت أكثر قولا من مالك لا أدري وقال بعض الفضلاء إذا قلت لا أدري علمت حتى تدري وإذا قلت أدري سئلت حتى لا تدري فصار لا أدري وسيلة إلى العلم وأدري وسيلة للجهل ولذلك قال أبو الدرداء قول الرجل فيما لا يعلم لا أعلم نصف العلم ولما تعلم الحسن رضي الله عنه العلم أقام أربعين سنة لم يتكلم به وأفتى مالك رحمه الله بعد أربعين سنة وحلق ابن سبع عشرة سنة وكان يقول لا يفتي العالم حتى يراه الناس أهلا للفتوى قال سحنون يريد العلماء قال ابن هرمز ويرى هو نفسه أهلا لذلك الثالث أن يوفي الأمانة في العلم فلا يعطيه لغير أهله ولا يمنعه أهله فإن العلم يزيد النفس الشريرة شرا والخيرة خيرا قال المحاسبي رحمه الله العلم كالغيث ينزل من السماء كله حلو يزيد الحلو حلاوة والمر مرارة وقال الغزالي رحمه الله تعليم العلم لأهل الشر كبيع السيف من قاطع الطريق وبعث الشافعي لمحمد بن الحسن رضي الله عنهما يستعير منه كتبا فتوقف عليه فكتب إليه ( قل للذي لم تر عين من رآه مثله ** حتى كان من رآه قد رأى من قبله ) ( العلم ينهي أهله أن يمنعوه أهله ** لعله يبذله لأهله لعله ) فبعث إليه بوقر بعير فقوله ينهي أهله أن يمنعوه أهله يفيد الدفع للأهل والمنع من غير الأهل والأصل في هذه القاعدة قوله عليه السلام لا تعطوا الحكمة لغير أهلها فتظلموها
سؤال إذ كان الغالب على الناس اليوم في طلب العلم الرياء والمباهاة وسوء الحالة فالمعلم لهم معين لهم على هذه المعاصي والإعانة على المعصية معصية فيحرم التعليم حينئذ على الإطلاق نظرا إلى الغالب جوابه هذا سؤال مشكل وقد اضطربت فيه فتاوى العلماء فمنهم من يقول لو اعتبرنا لانحسمت مادة التعليم والإقراء فينقطع الشرع ويفسد النظام فيؤدي ذلك إلى إطفاء نور الحق وإضلال الخلق حتى يطبق الأرض الكفر ومعلوم أن هذه المفاسد أعظم من الرياء الذي قد يقع وقد لا يقع فإنا وإن قطعنا بوقوعه في الجملة لكنا لا نعلم حال كل أحد على انفراده فإن الله تعالى متولي السرائر فما استوى الأمران ولا وقوعهما ولأن العلم قربة محققة وهذه المعاصي أمور عارضة الأصل عدمها في كل شخص معين ومنهم من يقول بل يتعين ذلك ولا يجوز التعليم إلا لمن يغلب على الظن سلامته من هذه المعاصي طردا لقاعدة إلحاق الوسائل بالمقاصد وأما قول الأولين إن اعتبار ذلك يؤدي إلى انقطاع الشرع وتطبيق الكفر فأجاب الغزالي عنه فقال لا نسلم أنه يلزم من تحريم التعليم انقطاع الشرع لأن الطباع مجبولة على حب الرئاسة ولا سيما بألقاب العلوم ومناصب النبوة بل ناب الطبع مناب الشرع في النظر فإن الطباع مجبولة على رؤية المستغربات والفكرة فيها وكذلك لم يلزم من تحريم الرياء وغيره من المحرمات عدمها الرابع ينبغي لطالب العلم إذا تعلم مسألة أن ينوي تعليمها كل من هو من أهلها وكذلك إذا علمها أن ينوي التوسل إلى تعليم كل من يتعلم ممن علمه فيكون المنوي في الحالين عددا لا يعد ولا يحصى وله بكل واحد من ذلك العدد حسنة فإن وقع منويه كان له عشر لقوله صلى الله عليه وسلم من هم بحسنة فلم يعلمها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشر وهذا متجر لا غاية لربحه أعاننا الله تعالى على الخير كله . صفحه فارغه
المقدمة الثانية
فيما يتعين أن يكون على خاطر الفقيه من أصول الفقه وقواعد الشرع واصطلاحات العلماء حتى تخرج الفروع على القواعد والأصول فإن كل فقه لم يخرج على القواعد فليس بشيء ولم أتعرض فيها لبيان مدارك الأصول فإن ذلك من وظيفة الأصولي لا من وظائف الفقيه فإن مقدمات كل علم توجد فيه مسلمة فمن أراد ذلك فعليه بكتبه واعتمدت في هذه المقدمة على أخذ جملة كتاب الإفادة للقاضي عبد الوهاب وهو مجلدان في أصول الفقه وجملة الإشارة للباجي وكلام ابن القصار في أول تعليقه في الخلاف وكتاب المحصول للإمام فخر الدين بحيث أني لم أترك من هذه الكتب الأربعة إلا المآخذ والتقسيم والشيء اليسير من مسائل الأصول مما لا يكاد الفقيه يحتاجه مع أني زدت مباحث وقواعد وتلخيصات ليست في المحصول ولا في سائر الكتب الثلاثة ولخصت جميع ذلك في مائة فصل وفصلين في عشرين بابا وسميتها تنقيح الفصول في علم الأصول لمن أراد أن يكتبها وحدها خارجة عن هذا الكتاب
الباب الأول في الاصطلاحات وفيه عشرون فصلا
الفصل الأول في الحد
وهو شرح ما دل عليه اللفظ بطريق الإجمال وهو غير المحدود إن أريد به اللفظ ونفسه إن أريد به المعنى وشرطه أن يكون جامعا لجملة أفراد المحدود مانعا من دخول غيره معه ويحترز فيه من التحديد بالمساوي والأخفى وما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود والإجمال في اللفظ والمعرفات خمسة الحد التام والحد الناقص والرسم التام والرسم الناقص وتبديل لفظ بلفظ مرادف له أشهر منه عند السامع فالأول التعريف بجملة الأجزاء نحو قولنا الإنسان هو الحيوان الناطق والثاني التعريف بالفصل وحده وهو الناطق والثالث التعريف بالجنس والخاصة كقولنا الحيوان الضاحك والرابع بالخاصة وحدها نحو قولنا هو الضاحك والخامس وضع أحد المترادفين موضع الآخر نحو ما هو البر فتقول القمح
الفصل الثاني في تفسير أصول الفقه
فأصل الشيء ما منه الشيء لغة ورجحانه أو دليله اصطلاحا فمن الأول أصل السنبلة البرة ومن الثاني الأصل براءة الذمة والأصل عدم المجاز والأصل بقاء ما كان على ما كان ومن الثالث أصول الفقه أي أدلته والفقه هو الفهم والعلم والشعر والطب لغة وإنما اختص بعض هذه الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف والفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال ويقال فقه بكسر القاف إذا فهم وبفتحها إذا سبق غيره للفهم وبضمها إذا صار الفقه له سجية
الفصل الثالث الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل فإنها تلتبس على كثير من الناس
فالوضع يقال بالاشتراك على جعل اللفظ دليلا على المعنى كتسمية الولد زيدا وهذا هو الوضع اللغوي وعلى غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره وهذا هو وضع المنقولات الثلاثة الشرعي نحو الصلاة والعرفي العام نحو الدأبة والعرفي الخاص نحو الجوهر والعرض عند المتكلمين والاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة عين مسماة بالحكم وهو الحقيقية أو غير مسماة لعلاقة بينهما وهو المجاز والحمل اعتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه أو ما اشتمل على مراده فالمراد كاعتقاد المالكي أن الله سبحانه وتعالى أراد بالقرء الطهر والحنفي أن الله تبارك وتعالى أراد الحيض والمشتمل نحو حمل الشافعي رحمه الله اللفظ المشترك على جملة معانية عند تجرده عن القرائن لاشتماله على مراد المتكلم احتياطا
الفصل الرابع في الدلالة وأقسامها
فدلالة اللفظ فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى أو جزءه أو لازمه ولها ثلاثة أنواع دلالة المطابقة وهي فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى ودلالة التضمن وهي فهم السامع من كلام المتكلم جزء المسمى ودلالة الالتزام وهي فهم السامع من كلام المتكلم لازم المسمى البين وهو اللازم في الذهن فالأول كفهم مجموع الخمستين من لفظ العشرة والثاني كفهم الخمسة وحدها من اللفظ والثالث كفهم الزوجية من اللفظ والدلالة باللفظ هي استعمال اللفظ إما في موضوعه وهو الحقيقة أو في غير موضوعه لعلاقة بينهما وهو المجاز والفرق بينهما أن هذه صفة للمتكلم وألفاظ قائمة باللسان وقصبة الرئة وتلك صفة السامع وعلم أو ظن قائم بالقلب ولهذا نوعان وهما الحقيقة والمجاز لا يعرضان لتلك وأنواع تلك ثلاثة لا تعرض لهذه
الفصل الخامس الفرق بين الكلي والجزئي
فالكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه سواء امتنع وجوده كالمستحيل أو أمكن ولم يوجد كبحر من زئبق أو وجد ولم يتعدد كالشمس أو تعدد كالإنسان وقد تركت قسمين أحدهما محال والثاني أدب والجزئي هو الذي يمنع تصوره من الشركة فيه
الفصل السادس في أسماء الألفاظ
المشترك هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر كالعين وقولنا لكل واحد احترازا من أسماء الأعداد فإنها لمجموع المعاني لا لكل واحد ولا حاجة لقولنا مختلفين فإن الوضع مستحيل للمثلين فإن التعين إن اعتبر في التسمية كانا مختلفين وإن لم يعتبر كانا واحدا والواحد ليس بمثلين والمتواطئ هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مستو في محاله كالرجل والمشكك هو الموضع لمعنى كلي مختلف في محاله إما بالكثرة والقلة كالنور بالنسبة إلى السراج والشمس أو بإمكان التغير واستحالته كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن أو بالاستغناء والافتقار كالموجود بالنسبة إلى الجوهر والعرض والمترادفة هي الألفاظ الكثيرة لمعنى واحد كالقمح والبر والحنطة والمتباينة هي الألفاظ الموضوع لكل واحد منها لمعنى كالإنسان والفرس والطير ولو كانت للذات والصفة وصفة الصفة نحو زيد متكلم فصيح والمنقول هو اللفظ الذي غلب استعماله في غير موضوعه الأول حتى صار اشهر من الأول والمرتجل هو اللفظ الموضوع لمعنى لم يسبق بوضع آخر والعلم هو الموضوع لجزئي كزيد والمضمر هو اللفظ المحتاج في تفسيره إلى لفظ منفصل عنه إن كان غائبا أو قرينة تكلم أو خطاب فقولنا إلى لفظ احترازا من ألفاظ الإشارة وقولنا منفصل عنه احترازا من الموصولات وقولنا قرينة تكلم أو خطاب ليدخل ضمير المتكلم المخاطب والنص فيه ثلاثة اصطلاحات قيل هو ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء الأعداد وقيل ما دل على معنى قطعا وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعا وتحتمل الاستغراق وقيل ما دل على معنى كيف كان وهو غالب استعمال الفقهاء والظاهر هو المتردد بين احتمالين فأكثر هو في أحدهما أرجح والمجمل هو المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء ثم التردد قد يكون من جهة الوضع كالمشترك وقد يكون من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى أشخاص مسماة نحو قوله تعالى ( وآتوا حقه يوم حصاده ) فهو ظاهر بالنسبة إلى الحق مجمل بالنسبة إلى مقاديره والمبين هو ما أفاد معناه إما بسبب الوضع أو بضميمة بيان إليه والعام هو الموضوع لمعنى كلي بقيد تتبعه في محاله نحو المشركين والمطلق هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي نحو رجل والمقيد هو اللفظ الذي أضيف إلى مسماة معنى زائد عليها نحو رجل صالح والأمر هو اللفظ الموضوع لطلب الفعل طلبا جازما على سبيل الاستعلاء نحو قم والنهي هو الموضوع لطلب الترك طلبا جازما والاستفهام هو طلب حقيقة الشيء والخبر هو الموضوع للفظين فأكثر أسند مسمى أحدهما إلى مسمى الآخر إسنادا يقبل الصدق والكذب لذاته نحو زيد قائم
الفصل السابع الفرق بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما
فالحقيقة هي استعمال اللفظ فيما وضع له في العرف الذي وقع به التخاطب وهي أربعة لغوية كاستعمال الإنسان في الحيوان الناطق وشرعية كاستعمال لفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة وعرفية عامة كاستعمال لفظ الدابة في الحمار وخاصة نحو استعمال لفظ الجوهر في المتحيز الذي لا يقبل القسمة والمجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له في العرف الذي وقع به التخاطب لعلاقة بينهما وهو ينقسم بحسب الواضع إلى أربعة حجاز لغوي كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع وشرعي كاستعمال لفظ الصلاة في الدعاء وعرفي عام كاستعمال لفظ الدابة في مطلق ما اتصف بالدبيب وخاص كاستعمال لفظ الجوهر في النفيس وبحسب الموضوع له إلى مفرد نحو قولنا أسد للرجل الشجاع وإلى مركب كقوله ( أشاب الصغير وأفنى الكبير ** كر الغداة ومر العشي ) فالمفردات حقيقة وإسناد الإشابة والإفناء إلى الكر والمر مجاز في التركيب وإلى مفرد ومركب نحو قولهم أحياني اكتحالي بطلعتك فاستعمال الإحياء والاكتحال في السرور والرؤية مجاز في الإفراد وإضافة الإحياء إلى الاكتحال مجاز في التركيب فإنه مضاف إلى الله تعالى وبحسب هيئته إلى الخفي كالأسد للرجل الشجاع والجلي الراجح كالدابة للحمار وههنا دقيقة وهي أن كل مجاز راجح منقول وليس كل منقول مجازا راجحا فالمنقول أعم مطلقا والمجاز الراجح أخص مطلقا فرع كل محل قام به معنى وجب أن يشتق له من لفظ ذلك المعنى لفظ ويمتنع الاشتقاق لغيره خلافا للمعتزلة في الأمرين فإن كان الاشتقاق باعتبار قيامه في الاستقبال فهو مجاز إجماعا نحو تسمية العنب بالخمر أو باعتبار قيامه في الحال فهو حقيقة إجماعا نحو تسمية الخمر خمرا أو باعتبار الماضي ففي كونه حقيقة أو مجازا مذهبان أصحهما المجاز هذا إذا كان محكوما به أما إذا كان متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقا نحو ( فاقتلوا المشركين )
الفصل الثامن التخصيص
وهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ العام أو ما يقوم مقامه بدليل منفصل في الزمان إن كان المخصص لفظيا أو بالجنس إن كان عقليا قبل تقرر حكمه فقولنا أو ما يقوم مقامه احتراز من المفهوم فإنه يدخله التخصيص وقولنا في الزمان احتراز من الاستثناء وقولنا بالجنس لأن المخصص العقلي مقارن وقولنا قبل تقرر حكمه احترازا من أن يعمل بالعام فإن الإخراج بعد هذا يكون نسخا
الفصل التاسع في لحن الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه
فلحن الخطاب هو دلالة الاقتضاء وهو دلالة اللفظ التزاما على ما لا يستقل الحكم إلا به وإن كان اللفظ لا يقتضيه وضعا نحو قوله تعالى ( وأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق ) تقديره فضرب فانفلق وقوله تعالى ( فأتيا فرعون ) إلى قوله ( قال ألم نربك فينا وليدا ) تقديره فأتياه وقيل هو فحوى الخطاب وهو خلاف لفظي قال القاضي عبد الوهاب واللغة تقتضي الاصطلاحين وقال الباجي هو دليل الخطاب وهو مفهوم المخالفة وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه وهو عشرة أنواع مفهوم العلة نحو ما أسكر فهو حرام ومفهوم الصفة نحو قوله عليه السلام
في سائمة الغنم الزكاة
والفرق بينهما أن العلة في الثاني الغنى والسوم مكمل له وفي الأول العلة عين المذكور ومفهوم الشرط نحو من تطهر صحت صلاته ومفهوم الاستثناء نحو قام القوم إلا زيدا ومفهوم الغاية نحو ( أتموا الصيام إلى الليل ) ومفهوم الحصر نحو إنما الماء من الماء ومفهوم الزمان نحو سافرت يوم الجمعة ومفهوم المكان نحو جلست أمام زيد ومفهوم العدد نحو قوله تعالى ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) ومفهوم اللقب وهو تعليق الحكم على مجرد أسماء الذوات نحو في الغنم الزكاة وهو أضعفها وتنبيه الخطاب وهو مفهوم الموافقة عند القاضي عبد الوهاب أو المخالفة عند غيره وكلاهما فحوى الخطاب عند الباجي فترادف تنبيه الخطاب وفحواه ومفهوم الموافقة لمعنى واحد وهو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى كما يترادف مفهوم المخالفة ودليل الخطاب وتنبيهه ومفهوم الموافقة نوعان أحدهما إثباته في الأكثر نحو قوله تعالى ( فلا تقل لهما أف ) فإنه يقتضي تحريم الضرب بطريق الأولى وثانيهما إثباته في الأقل نحو قوله تعالى ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) فإنه يقتضي ثبوت الأمانة في الدرهم بطريق الأولى
الفصل العاشر في الحصر
وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه بصيغة إنما ونحوها وأدواته أربع إنما نحو إنما الماء من الماء وتقدم النفي قبل إلا نحو لا يقبل صلاة إلا بطهور والمبتدأ مع الخبر نحو قوله عليه السلام تحريمها التكبير وتحليلها التسليم فالتحريم محصور في التكبير والتحليل محصورا في التسليم وكذلك ذكاة الجنين ذكاة أمه وتقديم المعمولات نحو قوله تعالى ( إياك نعبد ) ( وهم بأمره يعملون ) أي لا نعبد إلا إياك وهم لا يعملون إلا بأمره وهو منقسم إلى حصر الموصوفات في الصفات نحو إنما زيد عالم وإلى حصر الصفات في الموصوفات نحو إنما العالم زيد وعلى التقديرين فقد يكون عاما في المتعلق نحو ما تقدم وقد يكون خاصا نحو قوله تعالى ( إنما أنت منذر ) أي باعتبار من لا يؤمن فإن حظه منه الإنذار ليس إلا فهو محصور في إنذاره ولا وصف له غير الإنذار باعتبار هذه الطائفة وإلا فهذه الصيغة تقتضي حصره في النذارة فلا يوصف بالبشارة ولا بالعلم ولا بالشجاعة ولا بصفة أخرى ومن هذا الباب قولهم زيد صديقي وصديقي زيد فالأول يقتضي حصر زيد في صداقتك فلا يصادق غيرك وأنت يجوز أن تصادق غيره والثاني يقتضي حصر صداقتك فيه وهو غير منحصر في صداقتك بل يجوز أن يصادق غيرك على عكس الأول الفصل الحادي عشر خمس حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان وبالمعدوم وهي الأمر والنهي والدعاء والشرط وجزاؤه الفصل الثاني عشر حكم العقل بأمر على أمر إما غير جازم أو جازم والاحتمالات إما مستوية فهو الشك أو بعضها راجح وهو الظن والمرجوح وهم والجازم إما غير مطابق وهو الجهل المركب أو مطابق وهو إما لغير موجب وهو التقليد أو لموجب وهو إما عقل وحده فإن استغنى عن الكسب فهو البديهي وإلا فهو النظري أو حس وحده وهو المحسوسات الخمس أو مركب منهما وهو المتواترات والتجريبيات والحدسيات والوجدانيات أشبه بالمحسوسات فتندرج معها
الفصل الثالث عشر في الحكم وأقسامه
الحكم الشرعي هو خطاب الله القديم المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير فالقديم احترازا من نصوص أدلة الحكم فإنها خطاب الله وليست حكما وإلا اتحد الدليل والمدلول وهي محدثة والمكلفين احترازا من المتعلق بالجماد وغيره والاقتضاء احترازا من الخبر وقولنا أو التخيير ليدخل المباح واختلف في أقسامه فقيل خمسة الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة وقيل أربعة والمباح ليس من الشرع وقيل اثنان التحريم والإباحة وفسرت بجواز الإقدام الذي يشمل الوجوب والندب والكراهة والإباحة وعلى هذا المذهب يتخرج قوله صلى الله عليه وسلم
أبغض المباح إلى الله الطلاق
فإن البغضة تقتضي رجحان طرف الترك والرجحان مع التساوي محال والواجب ما ذم تاركه شرعا والمحرم ما ذم فاعله شرعا وقيد الشرع احترازا من العرف والمندوب ما رجح فعله على تركه شرعا من غير ذم والمكروه ما رجح على فعله شرعا من غير ذم والمباح ما استوى طرفاه في نظر الشرع تنبيه ليس كل واجب يثاب على فعله ولا كل محرم يثاب على تركه أما الأول فكنفقات الزوجات والأقارب والدواب ورد المغضوب والودائع والديون والعواري فإنها واجبة وإذا فعلها الإنسان غافلا عن امتثال أمر الله تعالى فيها وقعت واجبة مجزئة مبرئة للذمة ولا ثواب وأما الثاني فلأن المحرمات يخرج الإنسان عن عهدتها بمجرد تركها وإن لم يشعر بها فضلا عن القصد إليها حتى ينوي امتثال أمر الله تعالى فيها فلا ثواب حينئذ نعم متى اقترن قصد الامتثال في الجميع حصل الثواب
الفصل الرابع عشر في أوصاف العبادة وهي خمسة
الأول الأداء وهو إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعا لمصلحة اشتمل عليها الوقت فقولنا في وقتها احترازا من القضاء وقولنا شرعا احترازا من العرف وقولنا لمصلحة اشتمل عليها الوقت احترازا من تعيين الوقت لمصلحة المأمور به لا لمصلحة في الوقت كما إذا قلنا الأمر للفور فإنه يتعين الزمن الذي يلي ورود الأمر ولا يوصف بكونه أداء في وقته ولا قضاء بعد وقته كمن بادر لإزالة منكر أو إنقاذ غريق فإن المصلحة ههنا في الإنقاذ سواء كان في هذا الزمان أو غيره وأما تعيين أوقات العبادات فنحن نعتقد أنها لمصالح في نفس الأمر اشتملت عليها هذه الأوقات وإن كنا لا نعلمها وهكذا كل تعبدي معناه أنا لا نعلم مصلحة لا أنه ليس فيه مصلحة طردا لقاعدة الشرع في عادته في رعاية مصالح العباد على سبيل التفضيل فقد تلخص أن التعييين في الفوريات لتكميل مصلحة المأمور به وفي العبادات لمصالح في الأوقات فظهر الفرق الثاني القضاء وهو إيقاع العبادة خارج وقتها الذي عينه الشرع لمصلحة فيه تنبيه لا يشترط في القضاء تقدم الوجوب بل تقدم سببه عند الإمام والمازري وغيرهما من المحققين خلافا للقاضي عبد الوهاب وجماعة من الفقهاء لأن الحائض تقضي ما حرم عليها فعله في زمن الحيض والحرام لا يتصف بالوجوب وبسط ذلك في الطهارة في موانع الحيض مذكور ثم تقدم السبب قد يكون مع الإثم كالمتعمد المتمكن وقد لا يكون كالنائم والحائض والمزيل للإثم قد يكون من جهة العبد كالسفر وقد لا يكون كالحيض وقد يصح معه الأداء كالمرض وقد لا يصح إما شرعا كالحيض أو عقلا كالنوم فائدة العبادة قد توصف بالأداء والقضاء كالصلوات الخمس وقد لا توصف بهما كالنوافل وقد توصف بالأداء وحده كالجمعة والعيدين الثالث الإعادة وهي إيقاع العبادة في وقتها بعد تقدم إيقاعها على نوع من الخلل ثم الخلل قد يكون في الصحة كمن صلى بدون شرط أو ركن وقد يكون في الكمال كالمنفرد بالصلاة الرابع الصحة وهي عند المتكلمين ما وافق الأمر وعند الفقهاء ما أسقط القضاء والبطلان يتخرج على المذهبين فصلاة من ظن الطهارة وهو محدث صحيحة عند المتكلمين لأن الله تعالى أمره أن يصلي صلاة يغلب على ظنه طهارته وقد فعل فهو موافق للأمر وباطلة عند الفقهاء لكونها لم تمنع من ترتب القضاء وأما فساد العقود فهو خلل يوجب عدم ترتب آثارها عليها إلا أن تلحق بها عوارض على أصولنا يأتي في كتاب البيوع وغيره إن شاء الله تعالى الخامس الإجزاء وهو كون الفعل كافيا في الخروج عن عهدة التكليف وقيل ما أسقط القضاء
الفصل الخامس عشر فيما تتوقف عليه الأحكام
وهو ثلاثة السبب والشرط وانتفاء المانع فإن الله تعالى شرع الأحكام وشرع لها أسبابا وشروطا وموانع وورد خطابه على قسمين خطاب تكليف يشترط فيه علم المكلف وقدرته وغير ذلك كالعبادات وخطاب وضع لا يشترط فيه شيء من ذلك وهو الخطاب بكثير من الأسباب والشروط والموانع وليس ذلك عاما فيها فلذلك توجب الضمان على المجانين والغافلين بسبب الإتلاف لكونه من باب الوضع الذي معناه أن الله تعالى قال إذا وقع هذا في الوجود فاعلموا أني حكمت بكذا ومن ذلك الطلاق بالإضرار والإعسار والتوريث بالأنساب وقد يشترط في السبب العلم كإيجاب الزنا للحد والقتل للقصاص إذا تقرر هذا فنقول السبب ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته فالأول احتراز من الشرط والثاني احتراز من المانع والثالث احتراز من مقارنته فقدان الشرط أو وجود المانع فلا يلزم من وجود الوجود أو اخلافه بسبب آخر فلا يلزم من عدمه العدم والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ولا العدم لذاته فالأول احتراز من المانع والثاني احتراز من السبب والمانع أيضا والثالث احتراز من مقارنته لوجود السبب فيلزم الوجود عند وجوده أو قيام المانع فيقارن العدم والمانع ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته فالأول احتراز من السبب والثاني احتراز من الشرط والثالث احتراز من مقارنة عدمه لوجود السبب فالمعتبر من المانع وجوده ومن الشرط عدمه ومن السبب وجوده وعدمه
فوائد خمس
الأول الشرط وجزء العلة كلاهما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم فهما يلتبسان والفرق بينهما أن جزء العلة مناسب في ذاته والشرط مناسب في غيره كجزء النصاب فإنه مشتمل على بعض الغنى في ذاته ودوران الحول ليس فيه شيء من الغنى وإنما هو مكمل للغني الكائن في النصاب الثانية إذا اجتمعت أجزاء العلة ترتب الحكم وإذا اجتمعت العلل المستقلة ترتب الحكم أيضا فما الفرق بين الوصف الذي هو جزء علة وبين الوصف الذي هو علة مستقلة ؟ والفرق بينهما أن جزء العلة إذا انفرد لا يثبت معه الحكم كأحد أوصاف القتل العمد والعدوان فإن المجموع يسبب القصاص وإذا انفرد جزؤه لا يترتب عليه قصاص والوصف الذي هو علة مستقلة إذا اجتمع مع غيره ترتب الحكم وإذا انفرد ترتب معه الحكم أيضا كإيجاب الوضوء على من لامس وبال ونام وإذا انفرد أحدهما وجب الوضوء أيضا الثالثة الحكم كما يتوقف على وجود سببه يتوقف على وجود شرطه فبم يعلم كل واحد منهما ؟ يعلم بأن السبب مناسب في ذاته والشرط مناسب في غيره كالنصاب مشتمل على الغنى في ذاته والحول مكمل لحكمة الغنى في النصاب بالتمكن من التنمية الرابعة الموانع الشرعية على ثلاثة أقسام منها ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره ومنها ما يمنع ابتداء فقط ومنها ما اختلف فيه هل يلحق بالأول أو بالثاني فالأول كالرضاع يمنع ابتداء النكاح واستمراره إذا طرأ عليه والثاني كالاستبراء يمنع ابتداء النكاح ولا يبطل استمراره إذا طرأ عليه والثالث كالإحرام بالنسبة إلى وضع اليد على الصيد فإنه يمنع من وضع اليد على الصيد ابتداء فإن طرأ على الصيد فهل تجب إزالة اليد عنه ؟ خلاف بين العلماء وكالطول يمنع من نكاح الأمة ابتداء فإن طرأ عليه فهل يبطله ؟ فيه خلاف وكوجود الماء يمنع التيمم ابتداء فلو طرأ بعده فهل يبطله ؟ فيه خلاف الخامسة الشروط اللغوية أسباب لأنه يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم بخلاف الشروط العقلية كالحياة مع العلم والشرعية كالطهارة مع الصلاة والعادية كالغذاء مع الحياة في بعض الحيوان
السادس عشر الرخصة
جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعا والعزيمة طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي ثم الرخصة قد تنتهي للوجوب كأكل المضطر للميتة وقد لا تنتهي كإفطار المسافر وقد يباح سببها كالسفر وقد لا يباح كالغصة لشرب الخمر
السابع عشر في الحسن والقبح
حسن الشيء وقبحه يراد بهما ما لاءم الطبع او نافره نحو إنقاذ الغرقى واتهام الأبرياء أو كونه صفة كمال أو نقص نحو العلم حسن والجهل قبيح أو كونه موجبا للمدح أو الذم الشرعيين والأولان عقليان إجماعا والثالث شرعي عندنا لا يعلم ولا يثبت إلا بالشرع فالقبيح ما نهى الله تعالى عنه والحسن ما لم ينه سبحانه عنه وعند المعتزلة هو عقلي لا يفتقر الى ورود الشرائع بل العقل اقتضى ثبوته قبل الرسل وإنما الشرائع مؤكدة لحكم العقل فيما علمه ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار أو نظرا كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع أو مظهرة لما لم يعلمه العقل ضرورة ولا نظرا كوجوب آخر يوم من رمضان وتحريم أول يوم من شوال وعندنا الشرع الوارد منشىء للجميع فعلى رأينا لا يثبت حكم قبل الشرع خلافا للمعتزلة في قولهم إن كل ما يثبت بعد الشرع فهو ثابت قبله وخلافا للأبهري من أصحابنا القائل بالحظر مطلقا ولأبي الفرج القائل بالإباحة مطلقا وكذلك قال بقولهما جماعة من المعتزلة فيما لم يطلع العقل على حاله كآخر يوم من رمضان لنا قوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) نفي التعذيب قبل البعثة فينتفي ملزومه وهو الحكم فإن قيل بأنا نعلم بالضرورة حسن الإحسان وقبح الإساءة قلنا محل الضرورة مورد الطباع وليس محل النزاع
الثامن عشر في بيان الحقوق
فحق الله تعالى أمره ونهيه وحق العبد مصالحه والتكاليف على ثلاثة أقسام حق لله تعالى فقط كالإيمان وحق للعباد فقط كالديون والأثمان وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله تعالى أو حق العبد كحد القذف ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه
التاسع عشر في بيان الخصوص والعموم والمساواة والمباينة وأحكامها
الحقائق كلها أربعة أقسام إما متساويان وهما اللذان يلزم من وجود كل واحد منهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه كالرجم وزنا المحصن وإما متباينان وهما اللذان لا يجتمع أحدهما مع الآخر في محل كالإسلام والجزية وإما أعم مطلقا أو أخص مطلقا وهما اللذان يوجد أحدهما مع وجود كل أفراد الآخر من غير عكس كالغسل والإنزال المعتبر فإن الغسل أعم مطلقا والإنزال أخص مطلقا أو يكون كل واحد منهما أعم من وجه وأخص من وجه وهما اللذان يوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه كحل النكاح مع ملك اليمين فيوجد حل النكاح بدون المالك في الحرائر ويوجد الملك بدون حل النكاح في موطوءات الآباء من الإماء ويجتمعان معا في الأمة التي ليس فيها مانع فيستدل بوجود المساوي على وجود مساويه وبعدمه على عدمه وبوجود الأخص على وجود الأعم وينفي الأعم على نفي الأخص وبوجود المباين على عدم مباينه ولا دلاله في الأعم من وجه مطلقا ولا في عدم الأخص ولا وجود الأعم العشرون المعلومات كلها أربعة أقسام نقيضان وهما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان كوجود زيد وعدمه وخلافان وهما اللذان يجتمعان ويرتفعان كالحركة والسكون وضدان وهما اللذان لا يجتمعان ويمكن ارتفاعهما مع الخلاف في الحقيقة كالسواد والبياض ومثلان وهما اللذان لا يجتمعان ويمكن ارتفاعهما مع تساوي الحقيقة كالبياض والبياض
الباب الثاني في معاني حروف يحتاج اليها الفقيه
الواو لمطلق الجمع في الفعل دون الترتيب في الزمان والفاء للتعقيب والترتيب نحو سها فسجد ثم للتراخي وحتى وإلى للغاية وفي للظرفية والسببية نحو قوله صلى الله عليه وسلم
في النفس المؤمنة مائة من الإبل
واللام للتمليك نحو المال لزيد والاختصاص نحو هذا ابن لزيد والاستحقاق نحو هذا السرج للدابة والتعليل نحوه هذه العقوبة للتأديب والتأكيد نحو إن زيدا لقائم والقسم نحو قوله تعالى ( لنسفعا بالناصية ) والباء للإلصاق نحو مررت بزيد والاستعانة نحو كتبت بالقلم والتعليل نحو سعدت بطاعة الله والتبعيض عند بعضهم وهو منكر عند أئمة اللغة أو إما للتخيير نحو قوله تعالى ( هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) أو للإباحة نحو أصحب العلماء أو الزهاد فله الجمع بينهما بخلاف الأول أو للشك نحو جاءني زيد أو عمرو أو للإبهام نحو جاءني زيدا أو عمرو وكنت عالما بالآتي منهما وإنما أردت التلبيس على السامع بخلاف الشك أو للتنويع نحو العدد إما زوج أو فرد أي هو متنوع إلى هذين النوعين وإن وكل ما تضمن معناه للشرط نحو إن جاء زيد جاء عمرو ومن دخل داري فله درهم وما تصنع أصنع وأي شيء يفعل أفعل ومتى قدمت سعدت وأين تجلس أجلس ولو مثل هذه الكلمات في الشرط نحو لو جاء زيد أكرمته وهي تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فمتى دخلت على ثبوتين فهما منفيان ومتى دخلت على نفيين فهما ثابتان ومتى دخلت على نفي وثبوت فالثابت منفي والمنفي ثابت ولولا تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره لأجل أن لا يثبت النفي الكائن مع لو فصار ثبوتا وإلا فحكم لو لم ينتقض فقوله صلى الله عليه وسلم
لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك
يدل على انتفاء الأمر لأجل وجود المشقة المترتبة على تقدير ورود الأمر وبل لإبطال الحكم عن الأول وإثباته للثاني نحو جاء زيد بل عمرو وعكسها لا نحو زيد لا عمرو ولكن للاستدراك بعد النفي نحو ما جاء زيد لكن عمرو ولا بد أن يتقدمها نفي في المفردات أو يحصل تناقض بين المركبات والعدد يذكر فيه المؤنث ويؤنث فيه المذكر ولذلك قلنا إن المراد بقوله تعالى ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) الأطهار دون الحيض لأن الطهر مذكر والحيضة مؤنثة وقد ورد النص بصيغة التأنيث فيكون المعدود مذكرا لا مؤنثا
الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ
يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز والعموم دون الخصوص والأفراد دون الاشتراك والاستقلال دون الاضمار وعلى الإطلاق دون التقييد وعلى التأصيل دون الزيادة وعلى الترتيب دون التقديم والتأخير وعلى التأسيس دون التأكيد وعلى البقاء دون النسخ وعلى الشرعي دون العقلي وعلى العرفي دون اللغوي إلا أن يدل على خلاف ذلك
فروع أربعة
الأول يجوز عند المالكية استعمال اللفظ في حقائقه إن كان مشتركا أو مجازاته أو مجازه وحقيقته وبذلك قال الشافعي رحمه الله وجماعة من أصحابه خلافا لقوم وهذا يشترط فيه دليل يدل على وقوعه وهذا الفرع يبني على قاعدة وهي أن المجاز على ثلاثة أقسام جائز إجماعا وهو ما اتحد محمله وقربت علاقته وممتنع إجماعا وهو مجاز التعقيد وهو ما افتقر الى علاقات كثيرة نحو قول القائل تزوجت بنت الأمير ويفسر ذلك برؤيته لوالد عاقد الأنكحة بالمدينة معتمدا على أن النكاح ملازم للعقد الذي هو ملازم للعاقد الذي هو ملازم لأبيه ومجاز مختلف فيه وهو الجمع بين حقيقتين أو مجازين أو مجاز وحقيقة فإن الجمع بين الحقيقتين مجاز وكذلك الباقي لأن اللفظ لم يوضع للمجموع فهو مجاز فيه فنحن والشافعي نقول بهذا المجاز وغيرنا لا يقول به لنا قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) والصلاة من الملائكة الدعاء ومن الله تعالى الاحسان فقد استعمل في المعنيين بأنه يمتنع استعماله حقيقة لعدم الوضع ومجازا لأن العرب لم تجزه والجواب منع الثاني الثاني إذا تجرد المشترك عن القرائن كان مجملا لا يتصرف فيه إلا بدليل يعين أحد مسمياته وقال الشافعي حمله على الجميع احتياطا الثالث إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح كلفظ الدابة حقيقة مرجوحة في مطلق الدابة مجاز راجح في الحمار فيحمل على الحقيقة عند أبي حنيفة ترجيحا للحقيقة على المجاز وعلى المجاز الراجح عند أبي يوسف نظرا لرجحانه وتوقف الإمام فخر الدين في ذلك نظرا للتعارض والأظهر مذهب أبي يوسف فإن كل شيء قدم من الألفاظ إنما قدم لرجحانه والتقدير رجحان المجاز فيجب المصير إليه وها هنا دقيقة وهو أن الكلام إذا كان في سياق النفي والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة كالدابة والطلاق يتعين أن الكلام نص في نفي المجاز الراجح بالضرورة فلا يتأتى توقف الإمام رحمه الله وإذا كان في سياق الاثبات والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة فهو نص في اثبات الحقيقة بالضرورة فلا يأتي توقفه أيضا وإنما يتأتى له ذلك إن سلم له في نفي الحقيقة والكلام في سياق النفي أو في إثبات المجاز والكلام في سياق الإثبات أو يكون المجاز الراجح ليس بعض أفراد الحقيقة كالرواية والنجو الرابع إذا دار اللفظ بين احتمالين مرجوحين فيقدم التخصيص والمجاز والإضمار والنقل والاشتراك على النسخ والأربعة الأولى على الاشتراك والثلاثة الأولى على النقل والأولان على الإضمار والأول على الثاني لأن النسخ يحتاط فيه أكثر لكونه يصير اللفظ باطلا فتكون مقدماته أكثر فيكون مرجوحا فتقدم لرجحانها عليه والاشتراك محمل حاله القريبة بخلاف الأربعة والنقل يحتاج إلى اتفاق على إبطال وإنشاء وضع بعد وضع والثلاثة يكفي فيها مجرد القرينة فتقدم عليه ولأن الإضمار أقل فيكون مرجوحا ولأن التخصيص في بعض الحقيقة بخلاف المجاز
الباب الرابع في الأوامر
وفيه ثمانية فصول
الفصل الأول في مسماه ما هو
أما لفظ الأمر فالصحيح أنه اسم لمطلق الصيغة الدالة على الطلب من سائر اللغات لأنه المتبادر إلى الذهن هذا هو مذهب الجمهور وعند بعض الفقهاء مشتركة بين القول والفعل وعند أبي الحسين مشتركة بينهما وبين الشأن والشيء والصفة وقيل هو موضوع للكلام النفساني دون اللساني وقيل منزل بينهما وأما اللفظ الذي هو مدلول الأمر فهو موضوع عند مالك رحمه الله وعند أصحابه للوجوب وعند أبي هاشم للندب وللقدر المشترك بينهما عند قوم وعند آخرين لا يعلم حاله وهو عنده أيضا للفور وعند الحنفية خلافا لأصحابنا المغاربة والشافعية وقيل بالوقف وهو عنده للتكرار قاله ابن القصار من استقراء كلامه وخالفه أصحابه وقيل بالوقف لنا قوله تعالى لإبليس ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) رتب الذم على ترك المأمور به في الحال وذلك دليل الوجوب والفور وأما التكرار فلصحة الاستثناء من كل زمان من الفعل فإن علق على شرط فهو عنده وعند جمهور أصحابه والشافعية للتكرار خلافا للحنفية وهو يدل على الإجزاء عند أصحابه خلافا لأبي هاشم لأنه لو بقيت الذمة مشغولة بعد الفعل لم يكن أتى بما أمر به والمقرر خلافه وعلى النهي عن أضداد المأمور به عند أكثر أصحابه من المعنى لا من اللفظ خلافا لجمهور المعتزلة وكثير من السنة ولا يشترط فيه علو الأمر خلافا للمعتزلة ونص الباجي من أصحاب مالك وأبو الحسن من المعتزلة على الاستعلاء واختاره الامام فخر الدين ولم يشترط غيرهم الاستعلاء ولا العلو والاستعلاء في الأمر من الترفع وإظهار القهر والعلو يرجع إلى هيبة الآمر وشرفه وعلو منزلته بالنسبة للمأمور ولا يشترط فيه أيضا إرادة المأمور به ولا إرادة الطلب خلافا لأبي علي وأبي هاشم من المعتزلة لنا أنها معنى خفي يتوقف العلم به على اللفظ فلو توقف اللفظ عليها لزم الدور
الثاني إذا ورد بعد الحظر
اقتضى الوجوب عند الباجي ومتقدمي أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والامام فخر الدين وعند جماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي الإباحة كقوله تعالى ( وإذا حللتم فاصطادوا ) بعد قوله تعالى ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم )
الثالث في عوارضه
مذهب الباجي وجماعة من أصحابنا أنه إذا نسخ يحتج به على الجواز وبه قال الامام فخر الدين ومنع من ذلك بعض الشافعية وبعض أصحابنا ويجوز أن يرد خبرا لا طلب فيه كقوله تعالى ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) وأن يرد الخبر بمعناه كقوله تعالى ( والوالدات يرضعن ) وهو كثير
الرابع يجوز تكليف ما لا يطاق
خلافا للمعتزلة والغزالي وإن كان لم يقع في الشرع خلافا للامام فخر الدين لنا قوله تعالى ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) فسؤال دفعه يدل على جوازه وقوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) يدل على عدم وقوعه وها هنا دقيقة وهي أن ما لا يطاق قد يكون عاديا فقط نحو الطيران في الهواء أو عقليا فقط كإيمان الكافر الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن أو عاديا وعقليا معا كالجمع بين الضدين فالأول والثالث هما المرادان دون الثاني
الخامس فيما ليس من مقتضاة لا يوجب القضاء عند احتلال المأمور به عملا بالأصل
بل القضاء بأمر جديد خلافا لأبي بكر الرازي وإذا تعلق بحقيقة كلية لا يكون متعلقا بشيء من جزئياتها ولا يشترط مقارنته للمأمور بل يتعلق في الأول بالشخص الحادث خلافا لسائر الفرق ولكنه لا يعتبر مأمورا إلا حالة الملابسة خلافا للمعتزلة والحاصل قبل ذلك إعلام بأنه سيصير مأمورا لأن كلام الله تعالى قديم والأمر متعلق لذاته فلا يوجد غير متعلق والأمر بالشيء حالة عدمه محال للجمع بين النقيضين وحالة بقائه محال لتحصيل الحاصل فيتعين نص الحدوث والأمر بالأمر بالشيء لا يكون أمرا بذلك الشيء إلا أن ينص الأمر على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم
مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر
وليس من شرطه تحقق العقاب على الترك عند القاضي أبي بكر الامام فخر الدين خلافا للغزالي لقوله تعالى ( ويعفو عن كثير )
السادس في متعلقه بالواجب الموسع
وهو أن يكون زمان الفعل يسع أكثر منه وقد لا يكون محدودا بل مغيا بالعمر وقد يكون محدودا كأوقات الصلوات وهذا يعزي للشافعية منعه بناء على تعلق الوجوب بأول الوقت والواقع بعد ذلك قضاء يسد مسد الأداء وللحنفية منعه بناء على تعلق الوجوب بآخر الوقت والواقع قبله نافلة تسد مسد الواجب وللكرخي منعه بناء على أن الواقع من الفعل موقوف فإن كان الفاعل في آخر الوقت من المكلفين فالواقع فرض وإلا فهو نقل ومذهبنا جوازه والخطاب عندنا متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء الزمان الكائنة بين الحدين فلا حرج في أول الوقت لوجود المشترك ولم يأثم بالتأخير لبقاء المشترك في آخره وأثم إذا فوت جملة الوقت لتعطيل المشترك الذي هو متعلق الوجوب فلا ترد علينا مخالفة قاعدة البتة بخلاف غيرنا وكذلك الواجب المخير قالت المعتزلة الوجوب متعلق بجملة الخصال وعندنا وعند أهل السنة أنه متعلق بواحد لا بعينه ويحكى عن المعتزلة أيضا أنه متعلق بواحد معين عند الله تعالى وهو ما علم أن المكلف سيوقعه وهم ينقلون أيضا هذا المذهب عنا والمخير عندنا كالموسع والوجوب فيه متعلق بمفهوم أحد الخصال الذي هو قدر مشترك بينها وخصوصياتها متعلق التخيير فما هو واجب لا تخيير فيه وما هو مخير فيه لا وجوب فيه فلا جرم يجزيه كل معين منها لتضمنه للقدر المشترك وفاعل الأخص فاعل الأعم ولا يأثم بترك بعضها إذا فعل البعض لأنه تارك للخصوص المباح فاعل للمشترك الواجب ويأثم بترك الجميع لتعطيل المشترك بينها وكذلك فرض الكفاية المقصود بالطلب لغة إنما هو إحدى الطوائف التي هي قدر مشترك بينها غير أن الخطاب يتعلق بالجميع أول الأمر لتعذر خطاب المجهول فلا جرم سقط الوجوب بفعل طائفة معينة من الطوائف لوجود المشترك فيها ولا تأثم طائفة معينة إذا غلب الظن فعل غيرها لتحقق الفعل من المشترك بينها ظنا ويأثم الجميع إذا تواطؤوا على الترك لتحقق تعطيل المشترك بينها إذا تقرر تعلق الخطاب في الأبواب الثلاثة بالقدر المشترك فالفرق بينها أن المشترك في الموسع هو الواجب فيه وفي الكفاية الواجب عليه وفي الخير الواجب نفسه فائدة لا يشترط في فرض الكفاية تحقق الفعل بل ظنه فإذا غلب على ظن هذه الطائفة أن تلك فعلت سقط عن هذه وإذا غلب على ظن تلك الطائفة أن هذه فعلت سقط عنها وإذا غلب على ظن الطائفتين فعل كل واحدة منهما سقط عنهما سؤال إذا تقرر الوجوب على جملة الطوائف في فرض الكفاية فكيف يسقط عمن لم يفعل بفعل غيره مع أن الفعل البدني كصلاة الجنازة مثلا ان الجهاد لا يجزي فيه أحد عن أحد وكيف يساوي الشرع بين من فعل ومن لم يفعل جوابه أن الفاعل ساوى غير الفاعل في سقوط التكليف واختلف السبب فسبب سقوطها عن الفاعل فعله وعن غير الفاعل تعذر تحصيل تلك المصلحة التي لأجلها وجب الفعل فلا جرم انتفى الوجوب لتعذر حكمته قاعدة الفعل على قسمين منه ما تتكرر مصلحته بتكرره كالصلوات الخمس فإن مصلحتها الخضوع لذي الجلال وهو متكرر بتكرر الصلاة ومنه ما لا تتكرر مصلحته بتكرره كإنقاذ الغريق فإن الغريق إذا شيل من البحر فالنازل بعد ذلك الى البحر لا تحصل مصلحته وكذلك إطعام الجوعان وإكساء العريان وقتل الكفار فالقسم الأول جعله الشرع على الأعيان تكثيرا لمصلحة والقسم الثاني على الكفاية لعدم الفائدة في الأعيان
فوائد ثلاث
الأولى الكفاية والأعيان كما يتصوران في الواجبات يتصوران في المندوبات كالأذان والإقامة والتسليم والتشميت وما يفعل بالأموات من المندوبات فهذه على الكفاية وعلى الأعيان كالوتر والفجر وصيام الأيام الفاضلة وصلاة العيدين والطواف في غير النسك والصدقات الثانية نقل صاحب الطراز وغيره على أن اللاحق من المجاهدين ومن كان سقط الفرض عنه يقع فعله فرضا بعد ما لم يكن واجبا عليه وطرده غيره من العلماء في سائر فروض الكفاية كمن يلتحق بمجهز الأموات من الأحياء أو بالساعين في تحصيل العلم من العلماء فإن ذلك الطالب للعلم يقع فعله واجبا معللا لذلك بأن مصلحة الوجوب لم تتحقق بعد ولم تقع إلا بفعل الجميع فوجب أن يكون فعل الجميع واجبا ويختلف ثوابهم بحسب مساعيهم الثالثة الأشياء المأمور بها على الترتيب أو على البدل قد يحرم الجمع بينها كالمباح والميتة من المرتبات وتزويج المرأة من أحد الكفأين من المشروع على سبيل البدل وقد يباح كالوضوء والتيمم من المرتبات والسترة بالثوبين من باب البدل وقد تستجب كخصال الكفارة في الظهار من المرتبات وخصال كفارة الحنت مما شرع على البدل
فرع
اختار القاضي عبد الوهاب أن الأمر المعلق على الأسم يقتضي الاقتصار على أوله والزائد على ذلك إما مندوب أو ساقط
السابع في وسيلته
وهي عندنا وعند جمهور العلماء ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب لتوقف الواجب عليه فالقيد الأول احترازا من أسباب الوجوب وشروطه لأنها لا تحب إجماعا مع التوقف وإنما الخلاف فيما تتوقف عليه الصحة بعد الوجوب والقيد الثاني احترازا من توقفه على فعل العبد بعد وجوبه على تعلق علم الله تعالى وارادته وقدرته بإيجاده ولا يجب على المكلف تحصيل ذلك إجماعا وقالت الواقفية إن كانت الوسيلة سبب المأمور به وجبت وإلا فلا ثم الوسيلة إما أن يتوقف عليها المقصد في ذاته أو لا يتوقف والأول إما شرعي كالصلاة على الطهارة أو عرفي كنصب السلم لصعود السطح أو عقلي كترك الاستدبار لفعل الاستقبال والثاني يجعله وسيلة إما بسبب الاشتباه كإيجاب خمس صلوات لتحصيل صلاة منسية أو كاختلاط النجس بالطاهر والمذكاة بالميتة والمنكوحة بالأخت أو لتيقن الاستيفاء كغسل جزء من الرأس مع الوجه أو إمساك جزء من الليل مع نهار الصوم
الثامن في خطاب الكفار
أجمعت الأمة على أنهم مخاطبون بالإيمان واختلفوا في خطابهم بالفروع قال الباجي وظاهر مذهب مالك رحمه الله خطابهم بها خلافا لجمهور الحنفية وأبي حامد الاسفرايني لقوله تعالى حكاية عنهم ( قالوا لم نك من المصلين ) ولأن العمومات تتناولهم وقيل مخاطبون بالنواهي دون الأوامر وفائدة الخلاف ترجع إلى مضاعفة العقاب في الدار الآخرة أو إلى غير ذلك وبسطه في غير هذه المقدمه
الباب الخامس في النواهي وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في مسمى النهي
وهو عندنا التحريم وفيه من الخلاف ما سبق في الأمر واختلف العلماء في إفادته التكرار وهو المشهور من مذاهب العلماء وعلى القول بعدم إفادته وهو مذهب الإمام فخر الدين لا يفيد الفور عنده ومتعلقة فعل ضد المنهي عنه لأن العدم غير مقدور وعند أبي هاشم عدم المنهي عنه
الثاني في أقسامه
وإذا تعلق بأشياء فإما على الجميع نحو الخمر والخنزير وإما على الجمع نحو الأختين أو على البدل نحو إن فعلت ذا فلا تفعل ذلك كنكاح الأم بعد ابنتها أو على البدل كجعل الصلاة بدلا من الصوم
الثالث في لازمه
وهو عندنا يقتضي الفساد خلافا لأكثر الشافعية والقاضي أبي بكر منا وفرق أبو الحسين البصري والإمام بين العبادات فيقتضي وبين المعاملات فلا يقتضي لنا أن النهي إنما يكون لدرء المفاسد الكائنة في المنهي عنه والمتضمن للمفسدة فاسد ومعنى الفساد في العبادات وقوعها على نوع من الخلل يوجب بقاء الذمة مشغولة بها وفي المعاملات عدم ترتب آثارها عليها إلا أن يتصل بها ما يقرر آثارها من التصرفات على تفضيل يأتي في البيع وغيره إن شاء الله تعالى وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا يدل على الفساد مطلقا ويدل على الصحة لاستحالة النهي عن المستحيل ويقتضي الأمر بضد من أضداد المنهي عنه
الباب السادس في العمومات وفيه سبعة فصول
الفصل الأول أدوات العموم
وهي نحو عشرين صيغة قال الإمام وهي إما أن تكون موضوعة للعموم بذاتها نحول كل أو بلفظ يضاف إليها كالنفي ولام التعريف والإضافة وفيه نظر فمنها كل وجميع ومن وما والمعرف باللام جمعا ومفردا والذي والتي وتثنيتهما وجمعهما وأي ومتى في الزمان وأين وحيث في المكان قاله عبد الوهاب واسم الجنس إذا أضيف والنكرة في سياق النفي فهذه عندنا للعموم واختلف في الفعل في سياق النفي نحو قوله والله لا آكل فعند الشافعي هو للعموم في المواكيل وله تخصيصه بنيته في بعضها وهذا هو الظاهر من مذهبنا وقال أبو حنيفة لا يصح لأن الفعل يدل على المصدر وهو لا واحد ولا كثير فلا تعميم ولا تخصيص واتفق الإمامان على قوله لا أكلت أكلا أنه عام يصح تخصيصه وعلى عدم تخصيص الأول ببعض الأزمنة أو البقاع لنا إن كان عاما صح التخصيص وإلا فمطلق يصح تقييده ببعض حاله وهو المطلوب وقال الشافعي رحمه الله ترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في المقال نحو قوله صلى الله عليه وسلم لابن غيلان حين أسلم على عشر نسوة أمسك أربعا وفارق سائرهن من غير كشف عن تقدم عقودهن أو تأخرها أو اتحادها أو تعددها وخطاب المشافهة لا يتناول من يحدث بعد إلا بدليل وقول الصحابي نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر أو قضى بالشفعة أو حكم بالشاهد واليمين قال الامام فخر الدين رحمه الله تعالى لا عموم له لأن الحجة في المحكى لا في الحكاية وكذلك قوله كان يفعل كذا وقيل يفيده عرفا وقال القاضي عبد الوهاب إن سائر ليست للعموم فإن معناها باقي الشيء لا جملته وقال صاحب الصحاح وغيره من الأدباء إنها بمعنى جملة الشيء وهي مأخوذة من سور المدينة المحيط لا من السؤر الذي هو البقية فعلى هذا تكون للعموم والأول عليه الجمهور والاستعمال وقال الجبائي الجمع المنكر للعموم خلافا للجميع في حملهم له على أقل الجمع والعطف على العام لا يقتضي العموم نحو قوله تعالى ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاث قروء ) ثم قال تعالى ( وبعولتهن أحق بردهن ) فهذا الضمير لا يلزم أن يكون عاما في جملة ما تقدم لأن العطف مقتضاه التشريك في الحكم الذي سبق الكلام لأجله فقط وقال الغزالي المفهوم لا عموم له قال الإمام إن عنى أنه لا يسمى عاما لفظا فقريب وإن عنى أنه لا يفيد عموم انتفاء الحكم فدليل كون المفهوم حجة بنفيه وخالف القاضي أبو بكر في جميع هذه الصيغ وقال بالوقف مع الواقفية وقال أكثر الواقفية إن الصيغ مشتركة بين العموم والخصوص وقيل تحمل على أقل الجمع وخالف أبو هاشم مع الواقفية في المجمع المعرف باللام وخالف الامام فخر الدين مع الواقفية في الفرد المعرف باللام لنا أن العموم هو المتبادر فيكون مسمى اللفظ كسائر الألفاظ ولصحة الاستثناء في كل فرد وما صح استثناؤه وجب اندراجه تنبيه النكرة في سياق النفي يستثنى منها صورتان إحداهما لا رجل في الدار بالرفع فإن المنقول عن العلماء أنها لا تعم وهي تبطل على الحقيقة ما ادعوه من أن النكرة عمت لضرورة نفي المشترك وعند غيرهم عمت لأنها موضوعة لغة لإثبات السلب لكل واحد من أفرادها وثانيتهما سلب الحكم عن العمومات نحو ليس كل بيع حلالا فإنه وإن كان نكرة في سياق النفي فإنه لا يعم لأن سلب للحكم عن العموم لا حكم بالسلب على العموم فائدة النكرة في سياق النفي تعم سواء دخل النفي عليها نحو لا رجل في الدار أو دخل على ما هو متعلق بها نحو ما جاءني أحد
الفصل الثاني في مدلوله
وهو كل واحد واحد لا الكل من حيث هو كل فهو كلية لا كل وإلا لتعذر الاستدلال به في حالة النفي والنهي ويندرج العبيد عندنا وعند الشافعية في صيغة الناس والدين آمنوا ويندرج النبي صلى الله عليه وسلم في العموم عندنا وعند الشافعية وقيل علو منصبه يأبى ذلك وقال الصير في إن صدر الخطاب بالأمر بالتبليغ لم يتناوله وإلا تناوله وكذلك يندرج المخاطب في العموم الذي يتناوله لأن شمول اللفظ يقتضي جميع ذلك والصحيح عندنا اندراج النساء في خطاب التذكير قاله القاضي عبد الوهاب وقال الامام فخر الدين إن اختص الجمع بالذكور لا يتناول الإناث وبالعكس كشواكر وشكر وإن لم يختص كصيغة من تناولهما قال وقيل لا يتناولهما وإن لم يكن مختصا فإن كان متقيدا بعلامة الإناث لا يتناول الذكور كمسلمات وإن تميز بعلامة الذكور كمسلمين لا يتناول الاناث وقيل يتناولهن
الفصل الثالث في مخصصاته
وهي خمسة عشر ويجوز عند مالك رحمه الله وعند أصحابه تخصيصه بالعقل خلافا لقوم كقوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) خصص العقل ذات الله وصفاته وبالإجماع والكتاب بالكتاب خلافا لبعض أهل الظاهر وبالقياس الجلي والخفي للكتاب والسنة المتواترة ووافقنا الشافعي وأبو حنيفة والأشعري وأبو الحسين البصري وخالفنا الجبائي وأبو هاشم مطلقا وقال عيسى بن أبان إن خص قبله بدليل مقطوع جاز وإلا فلا وقال الكرخي إن خصب قبله بدليل منفصل جاز وإلا فلا وقال ابن سريج وكثير من الشافعية يجوز بالجلي دون الخفي واختلف في الجلي والخفي فقيل الجلي قياس المعنى والخفي قياس الشبه وقيل الجلي ما تفهم علته كقوله صلى الله عليه وسلم لا يقض القاضي وهو غضبان وقيل ما ينقض القضاء بخلافه وقال الغزالي إن استويا توقفنا وإلا طلبنا الترجيح وتوقف القاضي أبو بكر وإمام الحرمين وهذا إذا كان أصل القياس متواترا فإن كان خبر واحد كان الخلاف أقوى لنا اقتضاء النصوص تابع للحكم والقياس مشتمل على الحكم فيقدم ويجوز عندنا تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة وتخصيص الكتاب بالسنة المتواترة كانت قولا أو فعلا خلافا لبعض الشافعية ويجوز عندنا وعند الشافعي وأبي حنيفة تخصيص الكتاب بخبر الواحد وفصل ابن أبان والكرخي كما تقدم وقيل لا يجوز مطلقا وتوقف القاضي فيه وعندنا يخصص فعله صلى الله عليه وسلم وإقراره الكتاب والسنة وفصل الإمام فخر الدين فقال إن تناوله العام كان الفعل مخصصا له ولغيره إن علم بدليل أن حكمه كحكمه لكن المخصص فعله مع ذلك الدليل وكذلك إذا كان العام متناولا لأمته فقط وعلم بدليل أن حكمه حكم أمته وكذلك الإقرار مخصص للشخص المسكوت عنه لما خالف العموم ومخصص لغيره إن علم أن حكمه على الواحد حكم على الكل وعندنا العوائد مخصصة للعموم قال الإمام إن علم وجودها في زمن الخطاب وهو متجه وعندنا يخصص الشرط والاستثناء العموم مطلقا ونص الإمام على الغاية والصفة وقال إن تعقبت الصفة حملا جرى فيها الخلاف الجاري في الاستثناء والغاية حتى وإلى فإن اجتمع غايتان كما لو قال لا تقربوهن حتى يطهرن حتى يغتسلن قال الإمام فالغاية هي في الحقيقة الثانية والأولى سميت غاية لقربها منها ونص على الحس قوله تعالى ( تدمر كل شيء ) قال وفي المفهوم نظر وإن قلنا إنه حجة لكونه أضعف من المنطوق لنا في سائر صور النزاع أن ما يدعى أنه مخصص لا بد وأن يكون منافيا وأخص من المخصص فإن أعملا أو ألغيا اجتمع النقيضان وإن أعمل مطلقا بطلت جملة الخاص بخلاف العكس فيتعين وهو المطلوب الفصل الرابع وفيما ليس من مخصصاته للعموم سببه بل يحمل عندنا على عمومه إذا كان مستقلا خلافا للشافعي والمزني رضي الله عنهما وإن كان السبب يندرج في العموم أولى من وعلى غيره ذلك أكثر أصحابنا وعن مالك فيه روايتان والضمير الخاص لا يخصص عموم ظاهره كقوله تعالى ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ) وهذا عام ثم قال ( وبعولتهن أحق بردهن ) وهذا خاص بالرجعيات نقله الباجي منا خلافا للشافعي والمزني ومذهب الراوي لا يخصص عند مالك والشافعي رحمهما الله خلافا لبعض أصحابنا وبعض الشافعية وذكر بعض العموم لا يخصصه خلافا لأبي ثور وكونه مخاطبا لا يخصص العام إن كان خبرا وإن كان أمرا جعل جزاء قال الإمام يشبه أن يكون مخصصا وذكر العام في معرض المدح أو الذم لا يخصص خلافا لبعض الفقهاء وعطف الخاص على العام يقتضى تخصيصه خلافا للحنفية كقوله صلى الله عليه وسلم لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده فإن الثاني خاص بالحربي فيكون الأول كذلك عندهم ولا يخصص العام بتعقيبه باستثناء أو صفه أو حكم لا يأتي إلا في البعض لا يخصصه عند القاضي عبد الجبار وقيل يخصصه وقيل بالوقف واختاره الإمام فخر الدين فالاستثناء كقوله تعالى ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ) إلى قوله تعالى ( إلا أن يعفون ) فإنه خاص بالرشيدات والصفة كقوله تعالى ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) إلى قوله تعالى ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) أي الرغبة في الرجعة والحكم كقوله تعالى ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ) إلى قوله ( وبعولتهن أحق بردهن ) فإنه خاص بالرجعيات فتبقى العمومات على عمومها وتختص هذه الأمور بمن تصلح له ولنا في سياقها صور النزاع أن الأصل بقاء العموم على عمومه فمهما أمكن ذلك لا يعدل عنه تغليبا للأصل ( الفصل الخامس ) فيما يجوز التخصيص إليه ويجوز عندنا للواحد هذا إطلاق القاضي عبد الوهاب من الأصحاب وأما الإمام فحكي إجماع أهل السنة على ذلك في من وما ونحوهما قال وقال القفال يجب أيضا أقل الجمع في الجموع المعرفة وقيل يجوز إلى الواحد فيها وقال أبو الحسين لا بد من الكثرة في الكل إلا إذا استعمل للواحد المعظم نفسه ( الفصل السادس ) في حكمه بعد التخصيص ولنا وللشافعية وللحنفية في كونه بعد التخصيص حقيقة أو مجازا قولان واختار الإمام فخر الدين وأبو الحسين التفصيل بين تخصيصه بقرينة مستقلة عقلية أو سمعية فيكون مجازا أو تخصيصه بالمتصل كالشرط والاستثناء والصفة فيكون حقيقة وهو حجة عند الجمع إلا عيسى ابن أبان وأبا ثور وخصص الكرخي التمسك به إذا خصص بالمتصل وقال الإمام إن خصص تخصيصا إجماليا نحو قوله هذا العام مخصوص فليس بحجة وما أظنه يخالف في هذا التفصيل لنا أنه وضع للاستغراق ولم يستعمل فيه فيكون مجازا ومقتضيا ثبوت الحكم لكل أفراده وليس البعض شرطا في البعض وإلا لزم الدور فيبقى حجة في الباقي بعد التخصيص والقياس على الصورة المخصوصة إذا علمت جائز عند القاضي إسماعيل منا وعند جماعة من الفقهاء ( الفصل السابع ) في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء أن التخصيص لا يكون إلا فيما تناوله اللفظ بخلاف النسخ ولا يكون إلا قبل العمل بخلاف النسخ فإنه يجوز قبل العمل وبعده ويجوز نسخ شريعة بأخرى ولا يجوز تخصيصها بها والاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شيء واحد ولا يثبت بالقرينة الحالية ولا يجوز تأخيره بخلاف التخصيص قال الإمام فخر الدين والتخصيص كالجنس للثلاثة لاشتراكها في الإخراج فالتخصيص والاستثناء إخراج الأشخاص والنسخ إخراج الأزمان .
الباب السابع في أقل الجمع
قال القاضي أبو بكر مذهب مالك رحمه الله أن أقل الجمع اثنان ووافقه القاضي على ذلك والأستاذ أبو إسحاق وعبد الملك ابن الماجشون من أصحابه وعند الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله ثلاثة وحكاه القاضي عبد الوهاب عن مالك رحمهما الله وعندي أن محل الخلاف مشكل فإنه إن كان الخلاف في صيغة الجمع التي هي الجيم والميم والعين لم يحسن إثبات الحكم لغيرها من الصيغ وقد اتفقوا على ذلك وإن كان في غيرها من صيغ الجموع فهي على قسمين جمع قلة وهو جمع السلامة مذكرا أو مؤنثا ومن جمع التكسير القلة ما في قول الشاعر ( بأفعل وبأفعال وأفعلة ** وفعلة يعرف الأدنى من العدد ) وجمع كثرة وهي ما عدا ذلك فجموع القلة للعشرة فيما دون ذلك وجموع الكثرة للأحد عشر فأكثر هذا هو نقل العلماء ثم قد يستعار كل واحد منهما للآخر مجازا والخلاف في هذه المسألة إنما هو في الحقيقة اللغوية فإن كان الخلاف في جموع الكثرة فأقل مراتبها أحد عشر فلا معنى للقول بالاثنين ولا بالثلاثة وإن كان في جموع القلة فهو يستقيم لكنهم لما اثبتوا الأحكام والاستدلال في جموع الكثرة علمنا أنهم غير مقتصرين عليها وأن محل الخلاف ما هو أعم منها ولا هي
الباب الثامن في الاستثناء
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في حده
وهو عبارة عن إخراج بعض ما دل اللفظ عليه ذاتا كان أو عددا أو ما لم يدل عليه وهو إما محل المدلول أو أمر عام بلفظ إلا أو ما يقوم مقامها فالذات نحو رأيت زيدا إلا يده والعدد إما متناه نحو قوله عندي عشرة إلا اثنين أو غير متناه نحو اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة ومحل المدلول نحو أعتق رقبة إلا الكفار وصل إلا عند الزوال إذا قلنا بأن الأمر ليس للتكرار فإن الرقبة أمر مشترك عام تقبل أن تعين في محال كثيرة من الأشخاص فإن كل شخص هو محل لأعمه وكذلك الفعل حقيقة كلية تقبل أن تقع في أي زمان كان فالأزمنة محال الأفعال والأشخاص محال الحقائق والأمر العام نحو قوله سبحانه ( لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ) أي لتأتنني به في كل حالة من الحالات إلا في حالة الإحاطة بكم فالحالة أمر عام لم يدل عليها اللفظ وكذلك محال المدلول ليست مدلولة اللفظ فإن فرعت على أن الاستثناء المنقطع مجاز فقد كمل الحد فإنا إنما نحد الحقيقة وإن قلت هو حقيقة ردت بعد قولك أو أمر عام أو ما يعرض في نفس المتكلم وتكون أو للتنويع كأنك قلت أي شيء وقع على وجه من هذه الوجوه فهو استثناء
الفصل الثاني في أقسامه
وهو ينقسم إلى الإثبات والنفي والمتصل والمنقطع وضبطهما مشكل فينبغي أن تتأمله فإن كثيرا من الفضلاء يعتقدون أن المنقطع عبارة عن الاستثناء من غير الجنس وليس كذلك فإن قوله تعالى ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) منقطع على الأصح مع أن المحكوم عليه بعد إلا هو بعض المحكوم عليه أولا ومن جنسه وكذلك قوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة ) منقطع مع أن المحكوم عليه بعد إلا هو عين الأموال التي حكم عليها قبل إلا بل ينبغي أن تعلم أن المتصل عبارة عن أن تحكم على جنس ما حكمت عليه أولا بنقيض ما حكمت عليه به أولا فمتى انحرم قيد من هذين القيدين كان منقطعا فيكون المنقطع هو أن تحكم على غير جنس ما حكمت عليه أولا أو بغير نقيض ما حكمت به أولا وعلى هذا يكون الاستثناء في الآيتين منقطعا للحكم فيهما بغير النقيض فإن نقيض ( لا يذوقون فيها الموت ) يذوقون فيها الموت ولم يحكم به بل بالذوق في الدنيا ونقيض لا ( تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) كلوها بالباطل ولم يحكم به وعلى هذا الضابط تخرج جميع أقوال العلماء في الكتاب والسنة ولسان العرب
الفصل الثالث في أحكامه
اختار الإمام فخر الدين أن المنقطع مجاز وفيه خلاف ووافقه القاضي عبد الوهاب وذكر أن قول القائل له عندي مائة دينار إلا ثوبا من هذا الباب وأنه جائز على المجاز وأنه يرجع إلى المعنى بطريق القيمة خلافا لمن قال إنه مقدر بلكن ولمن قال إنه كالمتصل ويجب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه عادة خلافا لابن عباس رضي الله عنه قال الإمام فخر الدين إن صح النقل عنه يحمل على ما إذا نوى عند التلفظ ثم أظهره بعد ذلك واختار القاضي عبد الوهاب جواز استثناء الأكثر ووافقه الإمام فخر الدين واختار القاضي أبو بكر أنه يجب أن يكون أقل وقيل قد يجوز المساوي دون الأكثر لقوله تعالى ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك ) ومعلوم أنه أكثر والاستثناء من الإثبات نفي اتفاقا ومن النفي إثبات خلافا لأبي حنيفة رحمه الله ومن أصحابه المتأخرين من يحكي التسوية بينهما في عدم إثبات نفيض المحكوم به بعد إلا لنا انه المتبادر عرفا فيكون لغة لأن الأصل عدم النقل والتغيير واعلم أن الكل اتفقوا على إثبات نقيض ما قبل الاستثناء لما بعده ولكنهم اختلفوا فنحن نثبت نقيض المحكوم به والحنفية يثبتون نقيض الحكم فيصير ما بعد الاستثناء غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات وإذا تعقب الاستثناء الجمل يرجع إلى جملتها عند مالك والشافعي رحمهما الله وعند أصحابهما وإلى الأخيرة عند أبي حنيفة ومشترك بين الأمرين عند الشريف المرتضى ومنهم من فصل فقال إن تنوعت الجملتان بأن تكون إحداهما خبرا والأخرى أمرا عاد إلى الأخيرة فقط وإن لم تتنوع الجملتان ولا كان حكم إحداهما في الأخرى ولا أضمر اسم إحداهما في الأخرى فكذلك أيضا وإلا عاد إلى الكل واختاره الإمام فخر الدين وتوقف القاضي أبو بكر منا في الجميع وإذا عطف استثناء على استثناء فإن كان الثاني بحرف عطف أو هو أكثر من الاستثناء الأول أو مساويا له عاد إلى أصل الكلام الاستحالة العطف في الاستثناء وإخراج الأكثر أو المساوي وإلا عاد إلى الاستثناء الأول ترجيحا للقرب ونفيا للغو الكلام
فائدتان
الأولى قد يكون الاستثناء عبارة عما لولاه لعلم دخوله أو ما لولاه لظن دخوله أو ما لولاه لجاز دخوله أو ما لولاه لقطع بعدم دخوله فهذه أربعة أقسام فالأول الاستثناء من النصوص نحو له عندي عشرة إلا اثنين والثاني الاستثناء من الظواهر نحو اقتلوا المشركين إلا زيدا والثالث الاستثناء من المحال والأزمان والأحوال نحو أكرم رجلا إلا زيدا أو مروا وصل إلا عند الزول ( لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ) والرابع الاستثناء المنقطع نحو رأيت القوم إلا حمارا الثانية أن إطلاق العلماء أن الاستثناء من النفي إثبات يجب أن يكون مخصصا فإن الاستثناء يرد على الإثبات والشروط والموانع والأحكام والأمور العامة التي لم ينطق بها فالأول نحو لا عقوبة إلا بجناية والثاني نحو لا صلاة إلا بطهارة والثالث نحو لا تسقط الصلاة عن امرأة إلا بالحيض والرابع نحو قام القوم إلا زيدا والخامس نحو قوله تعالى ( لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ) ولما كانت الشروط لا يلزم من وجودها الوجود ولا العدم لم يلزم من الحكم بالنفي قبل الاستثناء لعدم الشرط الحكم بالوجود بعد الاستثناء لأجل وجوده فيكون مطردا فيما عدا الشرط
الباب التاسع في الشرط
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في أدواته
وهي إن وإذا ولو وما تضمن معنى إن فإن تختص بالمشكوك فيه وإذا تدخل على المعلوم والمشكوك ولو تدخل على الماضي بخلافهما
الفصل الثاني في حقيقته
وهو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر ويلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ثم هو قد لا يوجد إلا متدرجا كدوران الحول وقد يوجد دفعة كالنية وقد يقبل الأمرين كالسترة فيعتبر من الأول آخر جزء منه ومن الثاني جملته وكذلك الثالث لإمكان تحققه فإن كان الشرط عدمه اعتبر أول أزمنة عدمه في الثلاثة
الفصل الثالث في حكمه
إذا رتب مشروط على شرطين لا يحصل إلا عند حصولهما إن كانا على الجمع وإن كانا على البدل حصل عند أحدهما وإلى المعلق تعيينه لأن الحاصل أن الشرط هو المشترك بينهما وإذا دخل الشرط على جمل رجع إليها عند إمام الحرمين والحنابلة وإلى ما يليه عند بعض الأدباء واختار الإمام فخر الدين التوقف واتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام وعلى حسن التقييد به وإن كان الخارج به أكثر من الباقي ويجوز تقديمه في اللفظ وتأخيره واختار الإمام تقديمه خلافا للقراء جمعا بين التقدم الطبعي والوضعي
الباب العاشر في المطلق والمقيد
التقييد والإطلاق أمران اعتباريان فقد يكون المقيد مطلقا بالنسبة إلى قيد آخر كالرقبة المملوكة هي مقيدة بالملك وهي مطلقة بالنسبة إلى الإيمان وقد يكون المطلق مقيدا كالرقبة مطلقة وهي مقيدة بالرق والحاصل أن كل حقيقة إن اعتبرت من حيث هي هي فهي مطلقة وإن اعتبرت مضافة إلى غيرها فهي مقيدة ووقوعه في الشرع على أربعة أقسام متفق الحكم والسبب كإطلاق الغنم في حديث وتقييدها في حديث آخر بالسوم ومختلف الحكم والسبب كتقييد الشهادة بالعدالة وإطلاق الرقبة في الظهار ومتحد الحكم مختلف السبب كالعتق مقيد في القتل مطلق في الظهار ومختلف الحكم متحد السبب كتقييد الوضوء بالمرافق وإطلاق التيمم والسبب واحد وهو الحدث فالأول لا يحمل فيه المطلق على المقيد على الخلاف في دلالة المفهوم وهو حجة عند مالك رحمه الله والثاني لا يحمل فيه إجماعا والثالث لا يحمل فيه المطلق على المقيد عند أكثر أصحابنا وعند الحنفية خلافا لأكثر الشافعية لأن الأصل في اختلاف الأسباب اختلاف الأحكام فيقتضي أحدهما التقييد والآخر الإطلاق والرابع فيه خلاف فإن قيد بقيدين مختلفين في موضعين حمل على الأقيس منهما عند الإمام فخر الدين ويبقى على إطلاقه عند الحنفية ومتقدمي الشافعية
الباب الحادي عشر في دليل الخطاب
وهو مفهوم المخالفة وقد تقدمت حقيقته وأنواعه العشرة وهو حجة عند مالك وجماعة من أصحابه وأصحاب الشافعي وخالف في مفهوم الشرط القاضي أبو بكر من أصحابنا وأكثر المعتزلة وليس معنى ذلك أن المشروط لا يجب انتفاؤه عند انتفاء الشرط فإنه متفق عليه بل معناه أن هذا الانتفاء ليس مدلولا للفظ وخالف في مفهوم الصفة أبو حنيفة وابن سريج والقاضي وإمام الحرمين وجمهور المعتزلة ووافقنا الشافعي والأشعري وحكى الإمام أن مفهوم اللقب لم يقل به إلا الدقاق لنا أن التخصيص لو لم يقتض سلب الحكم عن المسكوت عنه للزم الترجيح من غير مرجح وهو محال فرعان الأول أن المفهوم متى خرج مخرج الغالب فليس بحجة إجماعا نحو قوله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) ولذلك يرد على الشافعية في قوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة أنه خرج مخرج الغالب فإن غالب أغنام الحجاز وغيرها السوم الثاني أن التقييد بالصفة في جنس هل يقتضي نفي ذلك الحكم عن سائر الأجناس فيقتضي الحديث مثلا نفي وجوب الزكاة عن سائر الأنعام وغيرها أو لا يقتضي نفيه إلا عن ذلك الجنس خاصة وهو اختيار الإمام فخر الدين
الباب الثاني عشر في المجمل والمبين وفيه ستة فصول
الفصل الأول في معنى ألفاظه
فالمبين هو اللفظ الدال بالوضع على معنى إما بالأصالة وإما بعد البيان والمجمل هو الدائر بين احتمالين فصاعدا إما بسبب الوضع وهو المشترك أو من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته فكل مشترك مجمل وليس كل مجمل مشتركا وقد يكون اللفظ مبينا من وجه مجملا من وجه كقوله تعالى ( وآتوا حقه يوم حصاده ) فإنه مبين في الحق مجمل في مقداره والمؤول هو الاحتمال الخفي مع الظاهر مأخوذ من المآل إما لأنه يؤول إلى الظهور بسبب الدليل العاضد أو لأن العقل يؤول إلى فهمه بعد فهم الظاهر وهذا وصف له بما هو موصوف به في الوقت الحاضر فيكون حقيقة وفي الأول باعتبار ما يصير إليه وقد لا يقع فيكون مجازا مطلقا
الفصل الثاني فيما ليس مجملا
إضافة التحريم والتحليل إلى الأعيان ليس مجملا فيحمل على ما يدل العرف عليه في كل عين خلافا للكرخي فيحمل في الميتة على الأكل وفي الأمهات على وجوه الاستمتاع وإذا دخل النفي على الفعل كان مجملا عند أبي عبد الله البصري نحو قوله عليه السلام لا صلاة إلا بطهور و لا نكاح إلا بولي لدوران النفي بين الكمال والصحة وقيل إن كان المسمى شرعيا انتفى ولا إجمال وقولنا هذه صلاة فاسدة محمول على اللغوي وإن كان حقيقياً نحو الخطأ والنسيان وله حكم واحد انتفى ولا إجمال وإلا تحقق الإجمال وهو قول الأكثرين
الفصل الثالث في أقسامه
المبين إما بنفسه كالنصوص والظواهر وإما بالتعليل كفحوى الخطاب أو باللزوم كالدلالة على الشروط والأسباب والبيان إما بالقول أو بالفعل كالكتابة والإشارة أو بالدليل العقلي أو بالترك فيعلم أنه ليس واجبا أو بالسكوت بعد السؤال فيعلم عدم الحكم للشرع في تلك الحادثة
الفصل الرابع في حكمه
ويجوز ورود الجمل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم خلافا لقوم لنا أن آية الجمعة وآية الزكاة مجملتان وهما في كتاب الله تعالى ويجوز البيان بالفعل خلافا لقوم وإذا تطابق القول والفعل فالبيان القول والفعل مؤكد له وإن تنافيا نحو قوله عليه السلام من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا وطاف عليه الصلاة والسلام لهما طوافين فالقول مقدم لكونه يدل بنفسه ويجوز بيان المعلوم بالمظنون خلافا للكرخي
الفصل الخامس في وقته
من جوز تكليف ما لا يطاق جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وتأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز عندنا سواء كان للخطاب ظاهر أريد خلافه أو لم يكن خلافا لجمهور المعتزلة إلا في النسخ ومنع أبو الحسين منه فيما له ظاهر أريد خلافه وأوجب تقديم البيان الإجمالي دون التفصيلي بأن يقول هذا الظاهر ليس مرادا ويجوز له عليه الصلاة والسلام تأخير ما يوحى إليه إلى وقت الحاجة لنا قوله تعالى ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) وكلمة ثم للتراخي فيجوز التأخير وهو المطلوب
الفصل السادس في المبين له
يجب البيان لمن أريد إفهامه فقط دون غيره ثم المطلوب قد يكون علما فقط كالعلماء بالنسبة إلى الحيض أو عملا فقط كالنساء بالنسبة إلى أحكام الحيض وفقهه أو العلم والعمل كالعلماء بالنسبة إلى أحوالهم أو لا علم ولا عمل كالعلماء بالنسبة إلى الكتب السالفة ويجوز إسماع المخصوص بالعقل من غير التنبيه عليه وفاقا والمخصوص بالسمع بدون بيان مخصصه عند النظام وأبي هاشم واختاره الإمام خلافا للجبائي وأبي الهذيل
الباب الثالث عشر في فعله عليه السلام
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في دلالة فعله عليه السلام
إن كان بيانا لمجمل فحكمه حكم ذلك المجمل في الوجوب أو الندب أو الإباحة وإن لم يكن بيانا وفيه قربة فهو عند مالك رحمه الله وابن القصار والأبهري والباجي وبعض الشافعية للوجوب وعند الشافعي للندب وعند القاضي أبي بكر والإمام فخر الدين وأكثر المعتزلة على الوقف وما لا قربة فيه كالأكل والشرب واللباس فهو عند الباجي للإباحة وعند بعض أصحابنا للندب وأما إقراره على الفعل فيدل على جوازه
الفصل الثاني في اتباعه
قال جماهير الفقهاء والمعتزلة يجب اتباعه في فعله إذا علم وجهه وجب اتباعه في ذلك الوجه لقوله تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) والأمر ظاهر في الوجوب وقال أبو علي بن خلاد به في العبادات فقط وإذا وجب التأسي به وجب معرفة وجه فعله من الوجوب والندب والإباحة إما بالنص أو بالتخيير بينه وبين غيره مما علم فيه وجه ثبوته فيسوى به أو بما يدل على نفي قسمين فيتعين الثالث أو بالاستصحاب في عدم الوجوب أو بالقربة على نفي الإباحة فيتعين الندب وبالقضاء على الوجوب وبالإدامة مع الترك في بعض الأوقات على الندب وبعلامة الوجوب عليه كالأذان وبكونه جزءا لسبب الوجوب كالنذر تفريع إذا وجب الاتباع وعارض فعله قوله فإن تقدم القول وتأخر الفعل نسخ الفعل القول كان القول خاصا به أو بأمته أو عمهما وإن تأخر القول وهو عام له ولأمته عليه السلام أسقط حكم الفعل عن الكل وإن اختص بأحدهما خصصه عن عموم حكم الفعل وإن تعقب الفعل القول من غير تراخ وعم القول له الأمته عليه السلام خصصه عن عموم القول وإن اختص بالأمة ترجح القول على الفعل وإن اختص به جاز أن يكون نسخ الشيء قبل وقته وإلا فلا وإن لم يتقدم واحد منهما صحح القول لاستغنائه بدلالته عن غيره من غير عكس فإن عارض الفعل الفعل بأن يقر شخصا على فعل فعل عليه السلام ضده فيعلم خروجه عنه أو يفعل عليه السلام ضده في وقت يعلم لزوم مثله له فيه فيكون نسخا للأول
الفصل الثالث في تأسيه عليه السلام
مذهب مالك رحمه الله وأصحابه أنه لم يكن متعبدا بشرع من قبله قبل نبوته وقيل كان متعبدا لنا أنه لو كان كذلك لافتخرت به أهل تلك الملة وليس فليس وأما بعد نبوته فمذهب مالك وجمهور أصحابه وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة أنه كان متعبدا بشرع من قبله وكذلك أمته إلا ما خصه الدليل ومنع منه القاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا لنا قوله تعالى ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) وهو عام لأنه اسم جنس أضيف
الباب الرابع عشر في النسخ وفيه خمسة فصول
الفصل الأول في حقيقته
قال القاضي منا والغزالي من الشافعية هو خطاب دل على ارتفاع حكم ثابت بخطاب متقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وقال الإمام فخر الدين الناسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الثابت بطريق لا يوجد بعده متراخيا عنه بحيث لولاه لكان ثابتا ورأى أن الطريق أعم من الخطاب ليشمل سائل المدارك لأن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته للأثنين وهما في القرآن وقوله مثل الحكم لأن الثابت قبل النسخ غير المعدوم بعده وقوله متراخيا لئلا يتهافت الخطاب وقوله لكان ثابتا احترازا من المغيات نحو الخطاب بالأفطار بعد غروب الشمس فإنه ليس ناسخا لوجوب الصوم وقال القاضي منا والغزالي الحكم المتأخر يزيل المتقدم وقال الإمام والأستاذ وجماعة هو بيان انتهاء مدة الحكم وهو الحق لأنه لو كان دائما في نفس الأمر لعلمه الله تعالى دائما فكان يستحيل نسخة لاستحالة انقلاب العلم وكذلك الكلام القديم الذي هو خبر عنه
الفصل الثاني في حكمه
وهو واقع وأنكره بعض اليهود عقلا وبعضهم سمعا وبعض المسلمين مؤولا لما وقع من ذلك بالتخصيص لنا ما اتفقت عليه الأمم من أن الله تعالى شرع لآدم تزويج الأخ بأخته غير توءمته وقد نسخ ذلك ويجوز عندنا وعند الكافة نسخ القرآن خلافا لأبي مسلمة الأصفهاني لأن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته للاثنين وهما في القرآن ويجوز نسخ الشيء قبل وقوعه عندنا خلافاً لأكثر الشافعية والحنفية كنسخ ذبح إسحاق قبل وقوعه ويجوز نسخ الحكم لا إلى بدل خلافا لقوم كنسخ الصدقة في قوله تعالى ( فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) لغير بدل ونسخ الحكم إلى الأثقل خلافا لبعض أهل الظاهر كنسخ عاشوراء برمضان ونسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس كنسخ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله مع بقاء الرجم والحكم دون تلاوة كما تقدم في الجهاد وهما معا لاستلزام إمكان المفردات إمكان المركب ونسخ الخبر إذا كان متضمنا لحكم عندنا خلافا لمن جوز مطلقا أو منع مطلقا وهو أبو علي وأبو هاشم وأكثر المتقدمين لنا أن نسخ الخبر يوجب عدم المطابقة وهو محال فإذا تضمن الحكم جاز نسخه لأنه مستعار له ونسخ الحكم جائز كما لو عبرنا عنه بالأمر ويجوز نسخ ما قال فيه افعلوا أبدا خلافا لقوم لأن صيغة أبدا بمنزلة العموم في الأزمان والعموم قابل للتخصيص والنسخ
الفصل الثالث في الناسخ والمنسوخ
يجوز عندنا نسخ الكتاب بالكتاب وعند الأكثرين والسنة المتواترة بمثلها والآحاد بمثلها وبالكتاب وبالسنة المتواترة إجماعا وأما جواز نسخ الكتاب بالآحاد فجائز عقلا غير واقع سمعا خلافا لبعض أهل الظاهر والباجي منا مستدلا بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة لنا أن الكتاب متواتر قطعي فلا يرفع بالآحاد المظنونة لتقدم العلم على الظن ويجوز نسخ السنة بالكتاب عندنا خلافا للشافعي وبعض أصحابه لنا نسخ القبلة بقوله تعالى ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ولم يكن التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالكتاب عملا بالاستقراء ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة لمساواتها له في الطريق العلمي عند أكثر الأصحاب وواقع كنسخ الوصية للوارث بقوله عليه السلام لا وصية لوارث ونسخ الحبس في البيوت بالرجم وقال الشافعي رضي الله عنه لم يقع لأن آية الحبس في البيوت نسخت بالجلد والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ويجوز نسخ الفحوى الذي هو مفهوم الموافقة تبعا للأصل ومنع أبو الحسين من نسخه مع بقاء الأصل دفعا للتناقض بين تحريم التأفيف مثلا وحل الضرب ويجوز النسخ به وفاقا لفظية كانت دلالته أو عقلية على الخلاف والعقل يكون ناسخا في حق من سقطت رجلاه فإن الوجوب ساقط عنه قاله الإمام فخر الدين
الفصل الرابع فيما يتوهم أنه ناسخ
زيادة صلاة على الصلوات أو عبادة على العبادات ليست نسخا وفاقا وإنما جعل أهل العراق الوتر ناسخا لما فيه من رفع قوله تعالى ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) فإن المحافظة على الوسطى تذهب لصيرورتها غير وسطى والزيادة على العبادة الواحدة ليست نسخا عند مالك رحمه الله وعند أكثر أصحابه والشافعي خلافا للحنفية وقيل إن نفت الزيادة ما دل عليه المفهوم الذي هو دليل الخطاب أو الشرط كانت نسخا وإلا فلا وقيل إن لم يجز الأصل بعدها فهي نسخ وإلا فلا فعلى مذهبنا زيادة التغريب على الجلد ليست نسخا وكذلك تقييد الرقبة بالإيمان وإباحة قطع السارق في الثانية والتخيير بين الواجب وغيره لأن المنع من إقامة الغير مقامه عقلي لا شرعي وكذلك لو وجب الصوم إلى الشفق ونقصان العبادة نسخ لما سقط دون الباقي إن لم يتوقف وإن توقف قال القاضي عبد الجبار هو نسخ في الجزء دون الشرط واختار فخر الدين والكرخي عدم النسخ
الفصل الخامس فيما يعرف به النسخ
يعرف بالنص على الرفع أو على ثبوت النقيض أو الضد ويعلم التاريخ بالنص على التأخير أو السنة أو الغزوة أو الهجرة ويعلم نسبة ذلك إلى زمان الحكم أو برواية من مات قبل رواية الحكم الآخر قال القاضي عبد الجبار قول الصحابي في الخبرين المتواترين وهذا قبل ذاك مقبول وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم كثبوت الإحصان بشهادة اثنين بخلاف الرجم وشهادة النساء في الولادة دون النسب وقال الإمام فخر الدين قول الصحابي هذا منسوخ لا يقبل لجواز أن يكون اجتهادا منه وقال الكرخي إن قال ذا نسخ ذاك لم يقبل وان قال هذا منسوخ قبل لأنه لم يخل للاجتهاد مجالا فيكون قاطعا به وضعفه الإمام
الباب الخامس عشر في الإجماع وفيه خمسة فصول
الفصل الأول في حقيقته
وهو اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة على أمر من الأمور ونعني بالاتفاق الاشتراك إما في القول أو في الفعل أو الاعتقاد وبأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية وبأمر من الأمور الشرعيات والعقليات والعرفيات
الفصل الثاني في حكمه
وهو عند الكافة حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج لقوله تعالى ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ) الآية وثبوت الوعيد على المخالفة يدل على وجوب المتابعة وقوله عليه السلام
لا تجتمع أمتي على خطأ
يدل على ذلك وعلى منع القول الثالث وعدم افصل فيما جمعوه فإن جميع ما خالفهم يكون خطأ لتعيين الحق في جهتهم وإذا اختلف أهل العصر الأول على قولين فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث عند الأكثرين وجوزه أهل الظاهر وفصل الإمام فخر الدين فقال إن لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه امتنع وإلا فلا كما قيل للجد كل المال وقيل يقاسم الأخ فالقول بجعل المال كله للأخ مناقض للأول وإذا أجمعت الأمة على عدم الفصل بين مسألتين لا يجوز لمن بعدهم الفصل بينهما ويجوز حصول الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الواحد خلافا للصيرفي وفي العصر الثاني لنا وللشافعية والحنفية فيه قولان مبنيان على أن إجماعهم على الخلاف يقتضي أنه الحق فيمتنع الاتفاق أو هو مشروط بعدم الاتفاق وهو الصحيح وانقراض العصر ليس شرطا خلافا لقوم من الفقهاء والمتكلمين لتجدد الولادة في كل يوم فيتعذر الإجماع وإذا حكم بعض الأمة وسكت الباقون فعند الشافعي والإمام فخر الدين أنه ليس بحجة ولا إجماع وعند الجبائي إجماع وحجة بعد انقراض العصر وعند أبي هاشم ليس بإجماع وهو حجة وعند أبي علي بن أبي هبيرة إن كان القائل حاكما لم يكن إجماعا ولا حجة وإن كان غيره فهو إجماع وحجة فإن قال بعض الصحابة قولا ولم يعرف له مخالف قال الإمام فخر الدين إن كان مما تعم به البلوى ولم ينتشر ذلك القول فيهم فيحتمل أن يكون فيهم مخالف لم يظهر فيجري مجرى قول البعض وسكوت البعض وإن كان مما لا تعم به البلوى فليس بإجماع ولا حجة وإذا جوزنا الإجماع السكوتي فكثير ممن لم يعتبرانقراض العصر في القولي اعتبره في السكوتي والإجماع المروي بالآحاد حجة خلافا لأكثر الناس لأن هذه الإجماعات وإن لم تفد القطع فهي تفيد الظن والظن معتبر في الأحكام كالقياس وخبر الواحد غير أنا لا نكفر مخالفها قاله الإمام قال وإذا استدل أهل العصر الأول بدليل وذكروا تأويلا واستدل العصر الثاني بدليل آخر وذكروا تأويلا آخر فلا يجوز إبطال التأويل القديم وأما الجديد فإن لزم منه إبطال القديم بطل وإلا فلا وإجماع أهل المدينة عند مالك رحمه الله فيما طريقه التوقيف حجة خلافا للجميع ومن الناس من اعتبر إجماع أهل الكوفة وإجماع العترة عند الإمامية وإجماع الخلفاء الأربعة حجة عند أبي حازم ولم يعتد بخلاف زيد في توريث ذوي الأرحام قال الإمام فخر الدين وإجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة خلافا لقوم قال ومخالفة من خالفنا في الأصول إن كفرناهم لم نعتبرهم ولا يثبت تكفيرهم بإجماعنا لأنه فرع تكفيرهم وإن لم نكفرهم اعتبرناهم ويعتبر عند أصحاب مالك رحمه الله مخالفة الواحد في إبطال الإجماع خلافا لقوم وهو مقدم على الكتاب والسنة والقياس واختلف في تكفير مخالفة بناء على أنه قطعي وهو الصحيح ولذلك قدم على الكتاب والسنة وقيل ظني
الفصل الثالث في مستنده
ويجوز عند مالك رحمه الله انعقاده عن القياس والدلالة والأمارة وجوزه قوم بغير ذلك بمجرد الشبهة والبحث ومنهم من قال لا ينعقد عن الأمارة بل لا بد من الدلالة ومنهم من فصل بين الأمارة الجلية وغيرها
الفصل الرابع في المجمعين
فلا يعتبر فيه جملة الأمة إلى يوم القيامة لانتفاء فائدة الإجماع ولا العوام عند مالك رحمه الله وعند غيره خلافا للقاضي لأن الاعتبار فرع الأهلية ولا أهلية فلا اعتبار والمعتبر في كل فن أهل الاجتهاد في ذلك الفن وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره فيعتبر في الكلام المتكلمون وفي الفقه الفقهاء قاله الإمام فخر الدين وقال لا عبرة بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن مجتهدا والأصولي المتمكن من الاجتهاد غير الحافظ للأحكام خلافه معتبر على الأصح ولا يشترط بلوغ المجمعين إلى حد التواتر بل لو لم يبق والعياذ بالله إلا واحد كان قوله حجة وإجماع غير الصحابة حجة خلافا لأهل الظاهر
الفصل الخامس في المجمع عليه
كل ما يتوقف العلم بكون الإجماع حجة عليه لا يثبت بالإجماع كوجود الصانع وقدرته وعلمه والنبوة وما لا يتوقف عليه كحدوث العالم والوحدانية فيثبت واختلفوا في كونه حجة في الحروب والآراء ويجوز اشتراكهم في عدم العلم بما لم يكلفوا به
الباب السادس عشر في الخبر وفيه عشرة فصول
الفصل الأول في حقيقته
وهو المحتمل للصدق والكذب لذاته احترازا من خبر المعصوم والخبر عن خلاف الضرورة وقال الجاحظ ويجوز عروه عن الصدق والكذب والخلاف لفظي واختلفوا في اشتراط الإرادة في حقيقته كونه خبرا وعند أبي علي وأبي هاشم الخبرية معللة بتلك الإرادة وأنكره الإمام لخفائها فكان يلزم أن لا يعلم خبر البتة ولاستحالة قيام الخبرية بمجموع الحروف لعدمه ولا ببعضه وإلا لكان خبرا وليس فليس
الفصل الثاني في التواتر
وهو مأخوذ من مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما وفي الاصطلاح خبر أقوام عن أمر محسوس يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة وأكثر العقلاء على أنه مفيد للعلم في الماضيات والحاضرات والسمنية أنكروا العلم واعترفوا بالظن ومنهم من اعترف به في الحاضرات فقط والعلم الحاصل منه ضروري عند الجمهور خلافا لأبي الحسين البصري وإمام الحرمين والغزالي والمرتضي والأربعة لا تفيد العلم قاله القاضي أبو بكر وتوقف في الخمسة قال الإمام فخر الدين والحق أن عددهم غير محصور خلافا لمن حصرهم في اثني عشر عدة نقباء موسى عليه السلام أو عشرين عند أبي الهذيل لقوله تعالى ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) أو أربعين لقوله تعالى ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) وكانوا حينئذ أربعين أو سبعين عدد المختارين من قوم موسى عليه السلام أو ثلاثمائة عدد أهل بدر أو عشرة عدد بيعة الرضوان وهو ينقسم إلى اللفظي وهو أن تقع الشركة بين ذلك العدد في اللفظ المروي والمعنوي وهو وقوع الاشتراك في معنى عام كشجاعة علي وسخاء حاتم وشرطه على الإطلاق إن كان المخبر لنا غير المباشر استواء الطرفين والواسطة وإن كان المباشر فيكون المخبر عنه محسوسا فإن الإخبار عن العقليات لا يحصل العلم
الفصل الثالث في الطرق المحصلة للعلم غير التواتر
وهي سبعة كون المخبر عنه معلوما بالضرورة أو الاستدلال أو خبر الله تعالى أو خبر الرسول عليه السلام أو خبر مجموع الأمة أو الجمع العظيم عن الوجدانيات في نفوسهم أو القرائن عند إمام الحرمين والغزالي والنظام خلافا للباقين
الفصل الرابع في الدال على كذب الخبر
وهو خمسة منافاته لما علم بالضرورة أو النظر أو الدليل القاطع أو فيما شأنه أن يكون متواترا ولم يتواتر كسقوط المؤذن يوم الجمعة ولم يخبر إلا واحد وكقواعد الشرع أولهما جميعا كالمعجزات أو طلب في صدور الرواة أو كتبهم بعد استقراء الأحاديث فلم يوجد
الفصل الخامس في خبر الواحد
وهو خبر العدل أو العدول المفيد للظن وهو عند مالك رحمه الله وعند أصحابه حجة واتفقوا على جواز العمل به في الدنيويات والفتوى والشهادات والخلاف إنما هو في كونه حجة في حق المجتهدين فالأكثرون على أنه حجة لمبادرة الصحابة رضى الله عنهم إلى العمل به ويشترط في المخبر العقل والتكليف وإن كان تحمل الصبي صحيحا والإسلام والضبط واختلف في المبتدعة إذا كفرناهم فعند القاضي أبي بكر منا والقاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم وفصل الإمام فخر الدين وأبو الحسين بين من يبيح الكذب وغيره والصحابة رضوان الله عليهم عدول إلا عند قيام المعارض والعدالة اجتناب الكبائر وبعض الصغائر والإصرار عليها والمباحات القادحة في المروءة ثم الفاسق إن كان فسقه مظنونا قبلت روايته بالاتفاق وإن كان مقطوعا به قبل الشافعي رواية أرباب الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لتجويزهم الكذب لموافقة مذهبهم ومنع القاضي أبو بكر من قبولها واختلف العلماء في شارب النبيذ من غير سكر فقال الشافعي أحده وأقبل شهادته بناء على أن فسقه مظنون وقال مالك رحمه الله أحده ولا أقبل شهادته كأنه قطع بفسقه وقال الحنفية يقبل قول المجهول وتثبت العدالة إما بالاختبار أو بالتزكية واختلف الناس في اشتراط العدد في التزكية والتجريح فشرطه بعض المحدثين في التزكية والتجريح في الرواية والشهادة واشترطه القاضي أبو بكر في تزكية الشهادة فقط واختاره الإمام فخر الدين وقال الشافعي يشترط إبداء سبب التجريح دون التعديل لاختلاف المذاهب في ذلك والعدالة شيء واحد وعكس قوم لوقوع الاكتفاء بالظاهر في العدالة دون التجريح ونفى ذلك القاضي أبو بكر فيهما ويقدم الجرح على التعديل إلا أن يجرحه بقتل إنسان فيقول المعدل رأيته حيا وقيل يقدم المعدل إذا زاد عدده
الفصل السادس في مستند الراوي
فأعلاه أن يعلم قراءته على شيخه أو إخباره به أو بتفكر ألفاظ قراءته وثانيها أن يعلم قراءة جميع الكتاب ولا يذكر الألفاظ ولا الوقت وثالثها أن يشك في سماعه فلا يجوز له روايته يخلاف الأولين ورابعها أن يعتمد على خطه فيجوز عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد خلافا لأبي حنيفة
الفصل السابع في عدده
والواحد عندنا وعند جمهور الفقهاء يكفي خلافا للجبائي في اشتراطه اثنين أو يعضد الواحد ظاهر أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو يكون منتشرا فيهم ولم يقبل في الزنا إلا أربعة لنا أن الصحابة قبلوا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين وحدها وهو مما تعم به البلوى
الفصل الثامن فيما اختلف فيه من الشروط في القبول
قال الحنفية إذا لم يقبل راوي الأصل الحديث لا تقبل رواية الفرع قال الإمام إن جزم كل واحد منهما لم تقبل وإلا عمل بالراجح وقال أكثر أصحابنا والشافعية والحنفية إذا شك الأصل في الحديث لا يضر ذلك خلافا للكرخي والمنقول عن مالك رحمه الله أن الراوي إذا لم يكن فقيها فإنه كان يترك روايته ووافقه أبو حنيفة وخالفه الإمام وجماعة قال الإمام فخر الدين ولا يخل بالراوي تساهله في غير الحديث ولا جهله بالعربية ولا الجهل بنسبة ولا خلاف أكثر الأمة لروايته وقد اتفقوا على أن مخالفة الحفاظ لا تمنع من القبول ولا كونه على خلاف الكتاب خلافا لعيسى بن أبان ولا كون مذهبه بخلاف روايته وهو مذهب أكثر أصحابنا وفيه أربعة مذاهب قال الحنفية إن خصصه زجع إلى مذهب الراوي لأنه أعلم وقال الكرخي ظاهر الخبر أولى وقال الشافعي إن خالف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث وإن كان أحد الاحتمالين رجع إليه وقال القاضي عبد الجبار إن كان تأويله على خلاف الضرورة ترك وإلا وجب النظر في ذلك وإذا ورد الخبر في مسألة علمية وليس في الأدلة القطعية ما يعضده رد لأن الظن لا يكفي في القطعيات وإلا قبل وإن اقتضى عملا تعم به البلوى قبل عند المالكية والشافعية خلافا للحنفية لنا حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم في التقاء الختانين
الفصل التاسع في كيفية الرواية
إذا قال الصحابي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أو أخبرني أو شافهني فهذا أعلى المراتب وثانيها أن يقول قال عليه السلام وثالثها أمر عليه السلام بكذا أو نهى عن كذا وهذا كله محمول عند المالكية على أمر النبي عليه الصلاة والسلام خلافا لقوم ورابعها أن يقول أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فعندنا وعند الشافعي يحمل على أمره عليه السلام خلافا للكرخي وخامسها أن يقول السنة كذا فعندنا يحمل على سنته عليه السلام خلافا لقوم وسادسها أن يقول عن النبي عليه السلام قيل يحمل على سماعه هو وقيل لا وسابعها كنا نفعل كذا وهو يقتضي كونه شرعا وأما غير الصحابي فأعلى مراتبه أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته وللسامع منه أن يقول حدثني وأخبرني وسمعته يحدث عن فلان إن قصد إسماعه خاصة أو في جماعة وإلا فيقول سمعته يحدث وثانيها أن يقال له أسمعت هذا من فلان فيقول نعم أو يقول بعد الفراغ الأمر كما قرئ فالحكم فيه مثل الأول في وجوب العمل ورواية السامع وثالثها أن يكتب إلى غيره سماعه فللمكتوب إليه أن يعمل بكتابه إذا تحققه أو ظنه ولا يقول سمعت ولا حدثني ويقول أخبرني ورابعها أن يقال له هل سمعت هذا فيشير بأصبعه أو برأسه فيجب العمل به ولا يقول المشار إليه أخبرني ولا حدثني ولا سمعته وخامسها أن يقرأ عليه فلا ينكر بإشارة ولا عبارة ولا يعترف فإن غلب على الظن اعترافه لزم العمل وعامة الفقهاء جوزوا روايته وأنكرها المتكلمون وقال بعض المحدثين ليس له أن يقول إلا أخبرني قراءة عليه وكذلك الخلاف لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث أرويه عنك قال نعم وهو السادس وفي مثل هذا اصطلاح للمحدثين وهو من مجاز التشبيه شبه السكوت بالإخبار وسابعها إذا قال له حدث عني ما في هذا الكتاب ولم يقل له سمعته فإنه لا يكون محدثا له به وإنما أذن له في التحدث عنه وثامنها الإجازة تقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث به وذلك إباحة للكذب لكنه في عرف المحدثين معناه أن ما صح عندك أني سمعته فاروه عني والعمل عندنا بالإجازة جائز خلافا لأهل الظاهر في إشتراطهم المناولة وكذلك إذا كتب إليه أن الكتاب الفلاني رويته فاروه عني إذا صح عندك فإذا صح عنده جازت له الرواية وكذلك إذا قال له مشافهة ما صح عندك من حديثي فاروه عني
الفصل العاشر في مسائل شتى
فالأولى المراسيل عند مالك وأبي حنيفة وجمهور المعتزلة حجة خلافا للشافعي لأنه إنما أرسل حيث جزم بالعدالة فتكون حجة . ونقل الخبر بالمعنى عند أبي الحسين والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم جائز خلافا لأبن سيرين وبعض المحدثين بثلاثة شروط ألا تزيد الترجمة ولا تنقص ولا تكون أخفى لأن المقصود إنما هو إيصال المعاني فلا يضر فوات غيرها وإذا زادت إحدى الروايتين على الأخرى والمجلس مختلف قبلت وإن كان واحدا ويتأتى الذهول عن تلك الزيادة فيه قبلت وإلا لم تقبل
الباب السابع عشر في القياس وفيه سبعة فصول
الفصل الأول في حقيقته
وهو إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتراكهما في علة الحكم عند المثبت فالإثبات المراد به المشترك بين العلم والاعتقاد والظن ونعني بالمعلوم المشترك بين المظنون والمعلوم وقولنا عند المثبت ليدخل فيه القياس الفاسد
الفصل الثاني في حكمه
وهو حجة عند مالك وجماهير العلماء رضي الله عنهم خلافا لأهل الظاهر لقوله تعالى ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) ولقول معاذ رضي الله عنه أجتهد رأيي بعد ذكره الكتاب والسنة وهو مقدم على خبر الواحد عند مالك رحمه الله لأن الخبر إنما يرد لتحصيل الحكم والقياس متضمن للحكمة فيقدم على الخبر وهو حجة في الدنيويات اتفاقا وهو إن كان بإلغاء الفارق فهو تنقيح المناط عند الغزالي أو باستخراج الجامع من الأصل ثم تحقيقه في الفرع فالأول تخريج المناط والثاني تحقيقه
الفصل الثالث في الدال على العلة
وهو ثمانية النص والإيماء والمناسبة والشبه والدوران والسبر والطرد وتنقيح المناط فالأول النص على العلة وهو ظاهر والثاني الإيماء وهو خمسة الفاء نحو قوله تعالى ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد ) وترتيب الحكم على الوصف نحو ترتيب الكفارة على قوله واقعت أهلي في شهر رمضان قال الإمام فخر الدين سواء كان مناسبا أو لم يكن وسؤاله عليه السلام عن وصف المحكوم عليه نحو قوله عليه السلام أينقص الرطب إذا جف وتفريق الشارع بين شيئين في الحكم نحو قوله عليه السلام القاتل لا يرث أو ورود النهي عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه الثالث المناسب ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة فالأول كالغني علة لوجوب الزكاة والثاني كالإسكار علة لتحريم الخمر والمناسب ينقسم إلى ما هو في محل الضرورات وإلى ما هو في محل الحاجات وإلى ما هو في محل التتمات فيقدم الأول على الثاني والثاني على الثالث عند التعارض فالأول نحو الكليات الخمس وهي حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال وقيل والأعراض والثاني مثل تزويج الولي الصغيرة فإن النكاح غير ضروري لكن الحاجة تدعو إليه في تحصيل الكفء لئلا يفوت والثالث ما كان حثا على مكارم الأخلاق كتحريم تناول القاذورات وسلب أهلية الشهادات عن الأرقاء ونحو الكتابات ونفقات القرابات وتقع أوصاف مترددة بين هذه المراتب كقطع الأيدي باليد الواحدة فإن شرعيته ضرورية صونا للأطراف وللأعضاء وإن أمكن أن يقال ليس منه لأنه يحتاج الجاني فيه إلى الاستعانة بالغير وقد يتعذر ومثال اجتماعها كلها في وصف واحد أن نفقة النفس ضرورية والزوجات حاجية والأقارب تتمة واشتراط العدالة في الشهادة ضروري صونا للنفوس والأموال وفي الإمامة على الخلاف حاجة لأنها شفاعة والحاجة داعية لإصلاح حال الشفيع وفي النكاح تتمة لأن الولي قريب يزعه طبعه عن الوقوع في العار والسعي في الإضرار وقيل حاجية على الخلاف ولا تشترط في الإقرار لقوة الوازع الطبعي ودفع المشقة عن النفوس مصلحة ولو أفضت إلى مخالفة القواعد وهي ضرورية مؤثرة في الترخيص كالبلد الذي يتعذر فيه العدول قال ابن زيد في النوادر تقبل شهادة أمثلهم حالا لأنه ضرورة وكذلك يلزم في القضاة وولاة الأمور وحاجية في الأوصياء على الخلاف في عدم اشتراط العدالة وتمامية في السلم والمساقاة وبيع الغائب فإن في منعها مشقة على الناس وهي من تتمات معاشهم على الناس وهي من تتمات معاشهم وهو أيضا ينقسم إلى ما اعتبره الشرع وإلى ما ألغاه وإلى ما جهل حاله والأول ينقسم إلى ما اعتبر نوعه في نوع لحكم كاعتبار نوع الإسكار في نوع التحريم وإلى ما اعتبر جنسه في جنسه كالتعليل بمطلق المصلحة كإقامة الشرب مقام القذف لأنه مظنته وإلى ما اعتبر نوعه في جنسه كاعتبار الأخوة في التقديم في الميراث فتقدم في النكاح وإلى ما اعتبر جنسه في نوع الحكم كإسقاط الصلاة عن الحائض بالمشقة فإن المشقة جنس وهو أي الإسقاط نوع من الرخص فتأثير النوع في مقدم على تأثير النوع في الجنس وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في النوع وهو مقدم على تأثير الجنس في الجنس والملغى نحو المنع من زراعة العنب خشية الخمر والذي جهل أمره هو المصلحة المرسلة التي نحن نقول بها وعند التحقيق هي عامة في المذاهب الرابع الشبه قال القاضي أبو بكر هو الوصف الذي لا يناسب بذاته ويستلزم المناسب لذاته وقد شهد الشرع لتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب والشبه يقع في الحكم كشبه العبد المقتول بالحر وشبهه بسائر المملوكات وعند ابن علية يقع الشبه في الصورة كرد الجلسة الثانية إلى الجلسة الأولى في الحكم وعند الإمام التسوية بين الأمرين إذا غلب على الظن أنه مستلزم للحكم أو لما هو علة للحكم صح القياس وهو ليس بحجة عند القاضي منا الخامس الدوران وهو عبارة عن اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف وعدمه مع عدمه وفيه خلاف والأكثرون من أصحابنا وغيرهم يقولون بكونه حجة السادس البر والتقسيم وهو أن يقول إما أن يكون الحكم معللا بكذا أو بكذا أو بكذا والكل باطل إلا كذا فيتعين السابع الطرد وهو عبارة عن اقتران الحكم بسائر صور الوصف وليس مناسبا ولا مستلزما للمناسب وفيه خلاف الثامن تنقيح المناط وهو إلغاء الفارق فيشتركان في الحكم
الفصل الرابع في الدال على عدم اعتبار العلة وهو خمسة
الأول النقض وهو وجود الوصف بدون الحكم وفيه أربعة مذاهب ثالثها إن وجد المانع في صورة النقض فلا يقدح وإلا قدح ورابعها إن نص عليها لم يقدح وإلا قدح وجواب النقض إما بمنع وجود الوصف في صورة النقض أو بالتزام الحكم فيها الثاني عدم التأثير وهو أن يكون الحكم موجودا مع وصف ثم يعدم ذلك الوصف ويبقى الحكم فيقدح ذلك في غلبته بخلاف العكس وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى فلا يقدح لأن العلل الشرعية يخلف بعضها بعضا الثالث القلب وهو إثبات نقيض الحكم بعين العلة كقولنا في الاعتكاف لبث في مكان مخصوص فلا يستقل بنفسه قياسا على الوقوف بعرفة فيكون الصوم شرطا فيه فيقول السائل لبث في مكان مخصوص فلا يكون الصوم شرطا فيه كالوقوف بعرفة وهو إما أن يقصد به إثبات مذهب السائل أو إبطال مذهب المستدل فالأول كما سبق والثاني كما يقول الحنفي المسح ركن من أركان الوضوء فلا يكفي فيه أقل ما يمكن أصله الوجه فيقول الشافعي ركن من أركان الوضوء فلا يقدر بالربع أصله الوجه الرابع القول بالموجب وهو تسليم ما ادعاه المستدل موجب علته مع بقاء الخلاف في صورة النزاع الخامس الفرق وهو إبداء معنى مناسب للحكم في إحدى الصورتين مفقود في الأخرى وقدحه مبني على أن الحكم لا يعلل بعلتين لاحتمال أن يكون الفارق إحداهما فلا يلزم من عدمه عدم الحكم لاستقلال الحكم بإحدى العلنين
الفصل الخامس في تعدد العلل
يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافا لبعضهم كوجوب الوضوء على من بال ولامس ولا يجوز بمستنطتين لأن الأصل عدم الاستقلال فيجعلان علة واحدة
الفصل السادس في أنواعها وهي أحد عشر نوعا
الأول التعليل بالمحل فيه خلاف قال الإمام فخر الدين إن جوزنا أن تكون العلة قاصرة جوزناه كتعليل الخمر بكونه خمرا والبر يحرم الربا فيه لكونه برا الثاني الوصف إن لم يكن منضبطا جاز التعليل بالحكمة وفيه خلاف والحكمة هي التي لأجلها صار الوصف علة كذهاب العقل الموجب لجعل الإسكار علة الثالث يجوز التعليل بالعدم خلافا لبعض الفقهاء فإن عدم العلة علة لعدم المعلول الرابع المانعون من التعليل بالعدم امتنعوا من التعليل بالإضافات لأنها عدم الخامس يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي خلافا لقوم كقولنا نجس فيحرم السادس يجوز التعليل بالأوصاف العرفية كالشرف والخسة بشرط اطرادها وتمييزها عن غيرها السابع يجوز التعليل بالعلة المركبة عند الأكثرين كالقتل العمد العدوان الثامن يجوز التعليل عند أصحابنا بالعلة القاصرة وعند الشافعي وأكثر المتكلمين خلافا لأبي حنيفة وأصحابه إلا أن تكون منصوصة لأن فائدة التعليل عند الحنفية التعدية للفرع وقد انتفت وجوابهم نفي سكون النفس للحكم والاطلاع على مقصود الشرع فيه التاسع اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم العاشر اختار الإمام أنه لايجوز التعليل بالأوصاف المقدرة خلافا لبعض الفقهاء كتعليل العتق عن الغير بتقدير الملك الحادي عشر يجوز تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي ولا يتوقف على وجود المقتضى عند الإمام خلافا للأكثرين في التوقف وهذا هو تعليل انتفاء الحكم بالمانع فهو يقول المانع هو ضد علة الثبوت والشيء لا يتوقف على ضده وجوابه أنه لا يحسن في العادة أن يقال للأعمى إنه لا يبصر زيدا للجدار الذي بينهما وإنما يحسن ذلك في البصير
الفصل السابع فيما يدخله القياس وهو ثمانية أنواع
الأول اتفق أكثر المتكلمين على جوازه في العقليات ويسمونه إلحاق الغائب بالشاهد الثاني أجاز الإمام فخر الدين وجماعة القياس في اللغات وقال ابن جني هو قول أكثر الأدباء خلافا للحنفية وجماعة من الفقهاء الثالث المشهور أنه لا يجوز إجراء القياس في الأسباب كقياس اللواط على الزنا في وجوب الحد به لأنه لا يحسن أن يقال في طلوع الشمس إنه موجب للعبادة كغروبها الرابع اختلفوا في دخول القياس في العدم الأصلي قال الإمام والحق أنه يدخله قياس الاستدلال بعدم خواص الشيء على عدمه دون قياس العلة وهذا بخلاف الإعدام فإنه حكم شرعي الخامس قال الجبائي والكرخي لا يجوز إثبات أصول العبادات بالقياس السادس يجوز عند ابن القصار والباجي والشافعي جريان القياس في المقدرات والحدود والكفارات خلافا لأبي حنيفة وأصحابه لأنها أحكام شرعية السابع يجوز القياس عند الشافعي على الرخص خلافا لأبي حنيفة وأصحابه الثامن لا يدخل القياس فيما طريقه الخلقة والعادة كالحيض ولا فيما لا يتعلق به عمل كفتح مكة عنوة ونحوه
الباب الثامن عشر في التعارض والترجيح وفيه خمسة فصول
الفصل الأول اختلفوا هل يجوز تساوي الأمارتين
فمنعه الكرخي وجوزه الباقون والمجوزون اختلفوا فقال القاضي أبو بكر منا وأبو علي وأبو هاشم وبعض الشافعية وبعض الحنفية يتخير ويتساقطان عند بعض الفقهاء قال الإمام فخر الدين رحمه الله إن وقع التعارض في فعل واحد باعتبار حكمين فهذا متعذر وإن وقع في فعلين والحكم واحد كالتوجه إلى جهتين للكعبة فيتخير وقال الباجي في القسم الأول إذا تعارضا في الحظر والإباحة تخير وقال الأبهري يتعين الحظر بناء على أصله أن الأشياء على الحظر وقال أبو الفرج يتعين الإباحة بناء على أصله أن الأشياء على الإباحة فالثلاثة رجعوا إلى حكم العقل على أصولهم وإذا نقل عن مجتهد قولان فإن كانا موضعين وعلم التاريخ عد الثاني رجوعا عن الأول وإن لم يعلم حكي عنه القولان ولا يحكم عليه برجوع وإن كانا في موضع واحد بأن يقول في المسألة قولان فإن أشار إلى تقوية أحدهما فهو قوله وإن لم يعلم فقيل يتخير السامع بينهما
الفصل الثاني في الترجيح
والأكثرون اتفقوا على التمسك به وأنكره بعضهم وقال يلزم التخيير أو التوقف ويمتنع الترجيح في العقليات لتعذر التفاوت بين القطعتين ومذهبنا ومذهب الشافعي الترجيح بكثرة الأدلة خلافا لقوم وإذا تعارض دليلان فالعمل بكل واحد منهما من وجه أولى من العمل بأحدهما دون الآخر وهما إن كانا عامين معلومين والتاريخ معلوم نسخ المتأخر المتقدم وإن كان مجهولا سقطا وإن علمت المقارنة خير بينهما وإن كانا مظنونين فإن علم المتأخر نسخ المتقدم وإلا رجع إلى الترجيح وإن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا والمتأخر المعلوم نسخ أو المظنون لم ينسخ وإن جهل الحال تعين المعلوم وإن كانا خاصين فحكمهما حكم العامين وإن كان أحدهما عاما والآخر خاصا قدم الخاص على العام لأنه لا يقتضي عدم إلغاء أحدهما بخلاف العكس وإن كان أحدهما عاما من وجه كما في قوله تعالى ( وأن تجمعوا بين الأختين ) مع قوله تعالى ( أو ما ملكت أيمانكم ) وجب الترجيح إن كانا مظنونين
الفصل الثالث في ترجيحات الأخبار
وهي إما في الإسناد أو في المتن فالأول قال الباجي رحمه الله يترجح بأنه في قضية مشهورة والآخر ليس كذلك أو رواته أحفظ أو أكثر أو مسموع منه عليه السلام والآخر مكتوب به أو متفق على رفعه إليه عليه السلام أو اتفق رواته عند إثبات الحكم به أو رواية صاحب القضية أو إجماع أهل المدينة على العمل به أو روايته أحسن نسقا أو سالم من الاضطرابات أو موافق لظاهر الكتاب والآخر ليس كذلك قال الإمام فخر الدين رحمه الله أو يكون روايه فقيها أو عالما بالعربية أو عرفت عدالته بالاختبار أو علمت بالعدد الكثير أو ذكر سبب عدالته أو لم يختلط عقله في بعض الأوقات أو كونه من أكابر الصحابة أو له اسم واحد أو لم تعرف له رواية في زمن الصبا والآخر ليس كذلك أو يكون مدنيا والآخر مكيا أو رواية متأخر الإسلام وأما ترجيح المتن قال الباجي رحمه الله يترجح السالم من الاضطرابات والنص في المراد أو غير متفق على تخصيصه أو ورد على غير سبب أو قضى به على الآخر في موضع أو ورد بعبارات مختلفة أو يتضمن نفي النقص عن الصحابة رضوان الله عليهم والآخر ليس كذلك قال الإمام فخر الدين رحمه الله أو يكون فصيح اللفظ أو لفظه حقيقة أو يدل على المراد من وجهين أو يؤكد لفظه بالتكرار أو يكون ناقلا عن حكم العقل أو لم يعمل بعض الصحابة أو السلف على خلافه مع الاطلاع عليه أو كان فيما لا تعم به البلوى والآخر ليس كذلك
الفصل الرابع في ترجيح الأقيسة
قال الباجي رحمه الله يترجح أحد القياسين على الآخر بالنص على علته أو لأنه يعود على أصله بالتخصيص أو علته مطردة منعكسة أو تشهد لها أصول كثيرة والآخر على خلافها في جميع ذلك أو يكون أحد القياسين فرعه من جنس أصله أو علته متعدية أو تعم فروعها أو هي أعم أو هي منتزعة من أصل منصوص عليه أو أقل أوصافا والقياس الآخر ليس كذلك قال الإمام فخر الدين رحمه الله أو يكون أحد القياسين متفقا على علته أو أقل خلافا أو بعض مقدماته بقينية أو علته وصف حقيقي ويترجح التعليل بالحكمة على العدم والإضافي والحكم الشرعي والتقديري والتعليل بالعدم أولى من التقديري وتعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي أولى من العدمي بالعدمي ومن العدمي بالوجودي والوجودي بالعدمي لأن التعليل بالعدم يستدعي تقدير الوجود وبالحكم الشرعي أولى من التقديري لكون التقدير على خلاف الأصل والقياس الذي يكون ثبوت الحكم في أصله أقوى أو بالإجماع أو بالتواتر أقوى مما ليس كذلك
الفصل الخامس في ترجيح طرق العلة
قال الإمام فخر الدين رحمه الله المناسبة أقوى من الدوران خلافا لقوم ومن التأثير والسبر المظنون والشبه والطرد ويترجح المناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم على ما اعتبر جنسه في نوعه أو نوع الحكم في جنسه أو جنسه في جنسه لأن الأخص بالشيء أرجح وأولى به والثاني والثالث متعارضان والثلاثة راجحة على الرابع ثم الأجناس عالية وسافلة ومتوسطة وكلما قرب كان أرجح والدوران في صورة أرجح منه في صورتين والشبه في الصفة أقوى منه في الحكم وفيه خلاف
الباب التاسع عشر في الاجتهاد
وهو استفراغ الوسع في المطلوب لغة واستفراغ الوسع في النظر فيما يلحقه فيه لوم شرعي اصطلاحا وفيه تسعة فصول
الفصل الأول في النظر
وهو الفكر وقيل تردد الذهن بين أنحاء الضروريات وقيل تحديق العقل إلى جهة الضروريات وقيل ترتيب تصديقات يتوصل بها الى علم أو ظن وقيل ترتيب تصديقين وقيل ترتيب معلومات وقيل ترتيب معلومين فهذه سبعة مذاهب وأصحها الثلاثة الأول و هو يكون في التصورات لتحصيل الحدود الكاشفة عن الحقائق المفردة على ترتيب خاص كما تقدم أول الكتاب وفي التصديقات لتحصيل المطالب التصديقية على ترتيب خاص وشروط خاصة حررت في علم المنطق ومتى كان في الدليل مقدمة سالبة أو جزئية أو مظنونة كانت النتيجة كذلك لأنها تتبع أخس المقدمات ولا يلتفت إلى ما صحبها من أشرفها
الفصل الثاني في حكمه
ومذهب مالك وجمهور العلماء رضوان الله عليهم وجوبه وإبطال التقليد لقوله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وقد استثنى مالك رحمه الله أربع عشرة صورة لأجل الضرورة الأولى قال ابن القصار قال مالك يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام ويجب عليهم الاجتهاد في أعيان المجتهدين كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة وهو قول جمهور العلماء خلافا لمعتزلة بغداد وقال الجبائي يجوز في مسائل الاجتهاد فقط
فروع ثلاثة
الأول قال ابن القصار إذا استفتى العامي في نازلة ثم عادت له يحتمل أن يعتمد على تلك الفتوى لأنها حق ويحتمل أن يعيد الاستفتاء لاحتمال تغير الاجتهاد الثاني قال الزناتي يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب الى مذهب بثلاثة شروط ألا يجمع بينها على وجه يخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلده رميا في عماية وألا يتتبع رخص المذاهب قال والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة وطرق إلى السعادة فمن سلك منها طريقا وصله تنبيه قال غيره يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم وهو أربعة ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فإن أراد رحمه الله بالرخص هذه الأربعة فهو حسن متعين فإن ما لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم فأولى أن لا نقره قبل ذلك وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيف كان يلزمه أن يكون من قلد مالكا في المياه والأرواث وترك الألفاظ في العقود مخالفا لتقوى الله تعالى وليس كذلك قاعدة انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أو قلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهما من غير نكير فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل الثالث إذا فعل المكلف فعلا مختلفا في تحريمه غير مقلد لأحد فهل نؤثمه بناء على القول بالتحريم أو لا نؤثمه بناء على القول بالتحليل مع أنه ليس إضافته إلى أحد المذهبين أولى من الآخر ولم يسألنا عن مذهبنا فنجيبه ولم أر لأصحابنا فيه نصا وكان الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام من الشافعية قدس الله روحه يقول في هذا الفرع إنه آثم من جهة أن كل أحد يجب عليه ألا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه وهذا أقدم غير عالم فهو آثم بترك التعلم وأما تأثيمه بالفعل نفسه فإن كان مما علم من الشرع قبحه أثمناه وإلا فلا الثانية قال ابن القصار ويقلد القائف العدل عند مالك رحمه الله وروي لا بد من اثنين الثالثة قال يجوز عنده تقليد التاجر في قيم المتلفات إلا أن تتعلق القيمة بحد من حدود الله تعالى فلا بد من اثنين لدربه التاجر بالقيم وروي عنه أنه لا بد من اثنين في كل موضع الرابعة قال ويجوز تقليد القاسم بين اثنين عنده وابن القاسم لا يقبل قول القاسم لأنه شاهد على فعل نفسه الخامسة قال يقلد المقوم لأرش الجنايات عنده السادسة قال يقلد الخارص الواحد فيما يخرصه عند مالك رحمه الله السابعة قال يقلد عنده الراوي فيما يرويه الثامنة قال يقلد الطبيب عنده فيما يدعيه التاسعة قال يقلد الملاح في القبلة إذا خفيت أدلتها وكان عدلا دريا بالسير في البحر وكذلك كل من كانت صناعته في الصحراء وهو عدل العاشر قال ولا يجوز عنده أن يقلد عامي عاميا إلا في رؤية الهلال لضبط التاريخ دون العبادة الحادية عشرة قال ويجوز عنده تقليد الصبي والأنثى والكافر والواحد في الهدية والاستئذان الثانية عشرة قال يقلد القصاب في الذكاة ذكرا كان أو أنثى مسلما أو كتابيا ومن مثله يذبح الثالثة عشرة قال يقلد محاريب البلاد العامرة التي تتكرر الصلاة فيها ويعلم أن إمام المسلمين بناها ونصبها أو اجتمع أهل البلدة على بنائها قال لأنه قد علم أنها لم تنصب إلا بعد اجتهاد العلماء في ذلك ويقلدها العالم والجاهل وأما غير تلك فعلى العالم الاجتهاد فإن تعذرت عليه الأدلة صلى إلى المحراب إذا كان البلد عامرا لأنه أقوى من الاجتهاد بغير دليل وأما العامي فيصلي في سائر المساجد الرابعة عشرة قال يقلد العامي في ترجمة الفتوى باللسان العربي أو العجمي وفي قراءاتها أيضا ولا يجوز لعالم ولا لجاهل التقليد في زوال الشمس لأنه مشاهد
الفصل الثالث فيمن يتعين عليه الاجتهاد
أفتي أصحابنا رضي الله عنهم بأن العلم على قسمين فرض عين وفرض كفاية وحكي الشافعي في رسالته والغزالي في إحياء علوم الدين الإجماع على ذلك ففرض العين الواجب على كل أحد هو علمه بحالته التي هو فيها مثاله رجل أسلم ودخل في وقت الصلاة فيجب عليه أن يتعلم الوضوء والصلاة فإن أراد أن يشتري طعاما لغذائه قلنا يجب عليه أن يتعلم ما يعتمده في ذلك أو أراد الزواج وجب عليه أن يتعلم ما يعتمده في ذلك أو إن أراد أن يؤدي شهادة فيجب عليه أن يتعلم شروط التحمل والأداء فإن أراد أن يصرف ذهبا فيجب عليه أن يتعلم حكم الصرف فكل حالة يتصف بها يجب عليه أن يعلم حكم الله تعالى عليه فيها فعلى هذا لا ينحصر فرض العين في العبادات ولا في باب من أبواب الفقه كما يعتقد كثير من الأغبياء وعلى هذا القسم يحمل قوله صلى الله عليه وسلم
طلب العلم فريضة على كل مسلم
فمن توجهت عليه حالة فعلم وعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله تعالى طاعتين ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين ومن علم ولم يعمل فقد أطاع الله طاعة وعصى الله معصية ففي هذا المقام يكون العالم خيرا من الجاهل والمقام الذي يكون الجاهل فيه خيرا من العالم من شرب خمرا يعلمه وشربه آخر يجهله فإن العالم يأثم بخلاف الجاهل فهو أحسن حالا من العالم وكذلك من اتسع في العلم باعه تعظم مؤاخذته لعلو منزلته بخلاف الجاهل فهو أسعد حالا من العالم في هذين الوجهين وأما فرض الكفاية فهو العلم الذي لا يتعلق بحالة الإنسان فيجب على الأمة أن يكون منهم طائفة يتفقهون في الدين ليكونوا قدوة للمسلمين حفظا للشرع من الضياع والذي يتعين لهذا من الناس من جاد حفظه وحسن إدراكه وطابت سجيته وسريرته ومن لا فلا
الفصل الرابع في زمانه
اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد وفاته عليه السلام وأما في زمنه فوقوعه منه عليه السلام قال به الشافعي وأبو يوسف وقال أبو علي وأبو هاشم لم يكن متعبدا به ولقوله تعالى ( إن هو إلا وحي يوحى ) وقال بعضهم كان له أن يجتهد في الحروب دون الأحكام قال الإمام فخر الدين وتوقف أكثر المحققين في الكل وأما وقوع الاجتهاد في زمنه عليه السلام ومن غيره فقليل وهو جائز عقلا في الحاضر عنده عليه السلام والغائب عنه وقد قال له معاذ رضي الله عنه أجتهد رأيي
الفصل الخامس في شرائطه
وهي أن يكون عالما بمعاني الألفاظ وعوارضها من التخصيص والنسخ وأصول الفقه ومن كتاب الله تعالى ما يتضمن الأحكام وهو خمسمائة آية ولا يشترط الحفظ بل العلم بمواضعها لينظرها عند الحاجة إليها ومن السنة مواضع أحاديث الأحكام دون حفظها ومواضع الإجماع والاختلاف والبراءة الأصلية وشرائط الحد والبرهان والنحو واللغة والتصريف وأحوال الرواة ويقلد من تقدم في ذلك . ولا يشترط عموم النظر بل يجوز أن يحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن وفي مسألة دون مسألة خلافا لبعضهم .
الفصل السادس في التصويب
. قال الجاحظ وعبد الله بن الحسين العنبري بتصويب المجتهدين في أصول الدين بمعنى نفي الإثم لا بمعنى مطابقة الاعتقاد واتفق سائر العلماء على فساده . وأما في الأحكام الشرعية فاختلفوا هل لله تعالى في نفس الأمر حكم معين في الواقع أم لا ؟ والثاني قول من قال كل مجتهد مصيب وهو قول جمهور المتكلمين ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر منا وأبو علي وأبو هاشم من المعتزلة . وإذا لم يكن لله تعالى حكم معين فهل في الواقعة حكم لو كان لله تعالى حكم معين لحكم به أم لا ؟ والأول هو القول بالأشبه وهو قول جماعة من المصوبين . والثاني قول بعضهم وإذا قلنا بالمعين فإما أن يكون عليه دليل ظني أو قطعي أو ليس عليه واحد منهما والثاني هو قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين ونقل عن الشافعي وهو عندهم كدفين يعثر عليه بالاتفاق وعلى القول بأن عليه دليلا ظنيا فهل كلف الإنسان بطلب ذلك الدليل فإن أخطأه تعين التكليف إلى ما غلب على ظنه وهو قول أو لم يكلف بطلبه لخفائه وهو قول كافة الفقهاء منهم الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهم والقائلون بأن عليه دليلا قطعيا اتفقوا على أن المكلف مأمور بطلبه وقال بشر المريسي إن أخطأه استحق العقاب وقال غيره لا يستحق العقاب واختلفوا أيضا هل ينقض قضاء القاضي إذا خالفه قال الأصم ينقض وقال الباقون لا ينقض والمنقول عن مالك رحمه الله أن المصيب واحد واختاره الإمام فخر الدين وقال عليه دليل ظني ومخالفه معذور والقضاء لا ينقض لنا أن الله تعالى شرع الشرائع لتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة أو درء المفاسد الخالصة أو الراجحة ويستحيل وجودها في النقيضين فيتحد الحكم احتجوا بانعقاد الإجماع على أن المجتهد يجب عليه أن يتبع ما غلب على ظنه ولو خالف الإجماع وكذلك من قلده ولا نعني بحكم الله إلا ذلك فكل مجتهد مصيب وتكون ظنون المجتهدين تتبعها الأحكام كأحوال المضطرين والمختارين بالنسبة إلى الميتة فيكون الفعل الواحد حلالا حراما بالنسبة إلى شخصين كالميتة
الفصل السابع في نقض الاجتهاد
أما في المجتهد في نفسه فلو تزوج امرأة علق طلاقها الثلاث على الملك بالاجتهاد فإن حكم به حاكم ثم تغير اجتهاده لم ينقض وإن لم يحكم نقض ولم يجز له إمساك المرأة وأما العامي إذا فعل ذلك بقول المفتي ثم تغير اجتهاده فالصحيح أنه تجب المفارقة قاله الإمام وكل حكم اتصل به قضاء القاضي استقر إلا أن يكون ذلك القضاء مما ينقض في نفسه
الفصل الثامن في الاستفتاء
إذا استفتي مجتهد فأفتى ثم سئل ثانية عن تلك الحادثة فإن كان ذاكرا لاجتهاده الأول أفتى وإن نسي استأنف الاجتهاد فإن أداه إلى خلاف الأول أفتى بالثاني قال الإمام والأحسن أن يعرف العامي ليرجع عن ذلك القول ولا يجوز لأحد الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن الذي يستفتيه من أهل العلم والدين والورع فإن اختلف عليه العلماء في الفتوى فقال قوم يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لتمكنه من ذلك وقال قوم لا يجب ذلك لأن الكل طرق إلى الله تعالى ولم ينكر أحد على العوام في عصر ترك النظر في أحوال العلماء وإذا فرعنا على الأول فإن حصل ظن الاستواء مطلقا فأمكن أن يقال ذلك متعذر كما قيل في الأمارات وأمكن أن يقال يسقط عنه التكليف ويفعل ما يشاء وإن حصل ظن الرجحان مطلقا تعين العمل بالراجح وإن حصل من وجه فإن كان في العلم والاستواء في الدين فمنهم من خير ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم قال الإمام وهو الأقرب ولذلك قدم في إمامة الصلاة وإن كان في الدين والاستواء في العلم فيتعين الأدين فإن رجح أحدهما في دينه والآخر في علمه فقيل يتعين الأدين وقيل الأعلم قال وهو الأرجح كما مر
الفصل التاسع فيمن يتعين عليه الاستفتاء
الذي تنزل به الواقعة إن كان عاميا وجب عليه الاستفتاء وإن كان عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد قال فالأقرب أنه يجوز له الاستفتاء وإن بلغ درجة الاجتهاد وكان قد اجتهد وغلب على ظنه حكم فاتفقوا على تعينه في حقه وإن كان لم يجتهد فأكثر أهل السنة على أنه لا يجوز له التقليد وهو مذهب مالك رحمه الله وقال ابن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري رحمهم الله يجوز مطلقا وقيل يجوز للعالم تقليد الأعلم وهو قول محمد بن الحسن وقيل يجوز فيما يخصه دون ما يفتى به وقال ابن سريج إن ضاق وقته عن الاجتهاد جاز وإلا فلا فهذه خمسة أقوال لنا قوله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ولا يجوز التقليد في أصول الدين لمجتهد ولا للعوام عند الجمهور لقوله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ولعظم الخطر في الخطأ في جانب الربوبية بخلاف الفروع فإنه ربما كفر في الأول ويثاب في الثاني جزما
الباب العشرون في جميع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين
وفيه فصلان
الفصل الأول في الأدلة
وهي على قسمين أدلة مشروعيتها وأدلة وقوعها فأما أدلة مشروعيتها فتسعة عشر بالاستقراء وأما أدلة وقوعها فلا يحصرها عدد فلنتكلم أولا على أدلة مشروعيتها فنقول هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة والقياس وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والاستصحاب والبراءة الأصلية والعوائد والاستقراء وسد الذرائع والاستدلال والاستحسان والأخذ بالأخف والعصمة وإجماع أهل الكوفة وإجماع العشرة وإجماع الخلفاء الأربعة فأما الخمسة الأولى فقد تقدم الكلام عليها وأما قول الصحابي فهو حجة عند مالك والشافعي في قوله القديم مطلقا لقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ومنهم من قال إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا ومنهم من قال قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما وقيل قول الخلفاء الأربعة حجة إذا اتفقوا
المصلحة المرسلة
والمصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار على ثلاثة أقسام ما شهد الشرع باعتباره وهو القياس الذي تقدم وما شهد الشرع بعدم اعتباره نحو المنع من زراعة العنب لئلا يعصر منه الخمر وما لم يشهد له باعتبار ولا بإلغاء وهو المصلحة المرسلة وهي عند مالك رحمه الله حجة وقال الغزالي إن وقعت في محل الحاجة أو التتمة فلا تعتبر وإن وقعت في محل الضرورة فيجوز أن يؤدي إليها اجتهاد مجتهد ومثاله تترس الكفار بجماعة من المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا واستولوا علينا وقتلوا المسلمين كافة ولو رميناهم لقتلنا الترس معهم قال فيشترط في هذه المصلحة أن تكون كلية قطعية ضرورية فالكلية احتراز عما إذا تترسوا في قلعة بمسلمين فلا يحل رمي المسلمين إذ لا يلزم من ترك تلك القلعة فساد عام والقطعية احتراز عما إذا لم يقطع باستيلاء الكفار علينا إذا لم نقصد الترس وعن المضطر يأكل قطعة من فخذه والضرورية احتراز عن المناسب الكائن في محل الحاجة والتتمة لنا أن الله تعالى إنما بعث الرسل لتحصيل مصالح العباد عملا بالاستقراء فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع
الاستصحاب
ومعناه أن اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال وهذا الظن عند مالك والإمام فخر الدين والمزني وأبي بكر الصيرفي رحمه الله عليهم حجة خلافا لجمهور الحنفية والمتكلمين لنا أنه قضاء بالطرف الراجح فيصح كأروش الجنايات واتباع الشهادات
البراءة الأصلية
وهي استصحاب حكم العقل في عدم الأحكام خلافا للمعتزلة والأبهري وأبي الفرج منا وثبوت عدم الحكم في الماضي يوجب ظن عدمه في الحال فيجب الاعتماد على هذا الظن بعد الفحص عن رافعه وعدم وجوده عندنا وعند طائفة من الفقهاء
العوائد
والعادة غلبة معنى من المعاني على الناس وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالأذان للإسلام والناقوس للنصارى فهذه العادة يقضى بها عندنا لما تقدم في الاستصحاب
الاستقراء
وهو تتبع الحكم في جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في صورة النزاع على تلك الحالة كاستقرائنا الفرض في جزئياته بأنه لا يؤدي على الرحلة فيغلب على الظن أن الوتر لو كان فرضا لما أدي على الراحلة وهذا الظن حجة عندنا وعند الفقهاء
سد الذرائع
الذريعة الوسيلة للشيء ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد دفعا له فمتى كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل وهو مذهب مالك رحمه الله عليه تنبيه ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وليس كذلك أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها وأما المصلحة المرسلة فغيرنا يصرح بإنكارها ولكنهم عند التفريع تجدهم يعللون بمطلق المصلحة ولا يطالبون أنفسهم عند الفوارق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار بل يعتمدون على مجرد المناسبة وهذا هو المصلحة المرسلة وأما الذرائع فقد أجمعت الأمة على أنها على ثلاثة أقسام أحدها معتبر إجماعا كحفر الآبار في طرق المسلمين وإلقاء السم في أطعمتهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ وثانيها ملغى إجماعا كزراعة العنب فإنه لا يمنع خشية الخمر والشركة في سكنى الآدر خشية الزنا وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال اعتبرنا نحن الذريعة فيها وخالفنا غيرنا فحاصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للمجمعة والحج وموارد الأحكام على قسمين مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل وإلى ما هو متوسط متوسطه وينبه على اعتبار الوسائل قوله تعالى ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ) فأثابهم على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم لأنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة
قاعدة
كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة فإنها تبع وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس من لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر فيحتاج إلى ما يدل على أنه مقصود في نفسه وإلا فهو مشكل تنبيه قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال إلى العدو الذي حرم عليهم الانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا وكدفع مال لرجل يأكله حراما حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن ذلك إلا به وكدفع المال للمحارب حتى لا يقتتل هو وصاحب المال واشترط مالك فيه اليسارة ومما يشنع به على مالك رحمه الله عليه مخالفته لحديث بيع الخيار مع روايته له وهو مهيع متسع ومسلك غير ممتنع فلا يوجد عالم إلا وقد خالف من كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أدلة كثيرة ولكن لمعارض راجح عليها عند مخالفها وكذلك ترك مالك هذا الحديث لمعارض راجح عنده وهو عمل أهل المدينة فليس هذا بابا اخترعه ولا بدعا ابتدعه ومن هذا الباب ما يروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي أو فاضربوا بمذهبي عرض الحائط فإن كان مراده مع عدم المعارض فهذا مذهب العلماء كافة وليس خاصا به وإن كان مع وجود المعارض فهو خلاف الإجماع وليس هذا القول خاصا بمذهبه كما ظنه بعضهم
الاستدلال
وهو محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي من جهة القواعد لا من الأدلة المنصوبة وفيه قاعدتان
القاعدة الأولى في الملازمات
وضابط الملزوم ما يحسن فيه لو واللازم ما يحسن فيه اللام نحو قوله تعالى ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) وكقولنا إن كان هذا الطعام مهلكا فهو حرام تقديره لو كان مهلكا لكان حراما فالاستدلال إما بوجود الملزوم أو بعدمه أو بوجود اللازم أو بعدمه فهذه الأربعة منها اثنان منتجان واثنان عقيمان فالمنتجان الاستدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم وبعدم اللازم على عدم الملزوم فكل ما أنتج وجوده فعدمه عقيم وكل ما أنتج عدمه فوجوده عقيم إلا أن يكون اللازم مساويا للملزوم فتنتج الأربعة نحو قولنا لو كان هذا أنسانا لكان ضاحكا بالقوة ثم الملازمة قد تكون قطعية كالعشرة مع الزوجية وظنية كالنجاسة مع كأس الحجام وقد تكون كلية كالتكليف مع العقل فكل مكلف عاقل في سائر الأزمان والأحوال فكليتها باعتبار ذلك لا باعتبار الأشخاص وجزئية كالوضوء مع الغسل فالوضوء لازم للغسل إذا سلم من النواقض حال إيقاعه فقط فلا جرم لم يلزم من انتفاء اللازم الذي هو الوضوء انتفاء الملزوم الذي هو الغسل لأنه ليس كليا بخلاف انتفاء العقل فإنه يوجب انتفاء التكليف في سائر الصور
القاعدة الثانية
أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع بأدلة السمع لا بالعقل خلافا للمعتزلة وقد تعظم المنفعة فيصحبها الندب أو الوجوب مع الإذن وقد تعظم المضرة فيصحبها التحريم على قدر رتبتها فيستدل على الأحكام بهذه القاعدة
الاستحسان
قال الباجي هو القول بأقوى الدليلين وعلى هذا يكون حجة إجماعا وليس كذلك وقيل هو الحكم بغير دليل وهذا اتباع للهوى فيكون حراما إجماعا وقال الكرخي هو العدول عما حكم به في نظائر مسألة إلى خلافه لوجه أقوى منه وهذا يقتضي أن يكون العدول عن العموم إلى الخصوص استحسانا ومن الناسخ إلى المنسوخ وقال أبو الحسين هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول فبالأول خرج العموم وبالثاني خرج ترك القياس المرجوح للقياس الراجح لعدم طريانه عليه وهو حجة عند الحنفية وبعض البصريين منا وأنكره العراقيون
الأخذ بالأخف
هو عند الشافعي رحمه الله حجة كما قيل في دية اليهودي إنها مساوية لدية المسلم ومنهم من قال نصف دية المسلم وهو قولنا ومنهم من قال ثلثها أخذا بالأقل فأوجب الثلث فقط لأنه مجمع عليه وما زاد منفي بالبراءة الأصلية
العصمة
وهي أن العلماء اختلفوا هل يجوز أن يقول الله تعالى لنبي أو لعالم أحكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فقطع بوقوع ذلك موسى بن عمران من العلماء وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه وتوقف الشافعي في امتناعه وجوازه ووافقه الإمام فخر الدين رحمه الله
إجماع أهل الكوفة
ذهب قوم إلى أنه حجة لكثرة من وردها من الصحابة رضي الله عنهم كما قال مالك في إجماع المدينة فهذه أدلة مشروعية الأحكام
قاعدة
يقع التعارض في الشرع بين الدليلين والبينتين والأصلين والظاهرين والأصل والظاهر ويختلف العلماء في جميع ذلك . فالدليلان نحو قوله تعالى ( إلا ما ملكت أيمانكم ) وهو يتناول الجمع بين الأختين في الملك وقوله ( وأن تجمعوا بين الأختين ) يقتضي تحريم الجمع مطلقا ولذلك قال علي رضي الله عنه حرمتهما آية وأحلتهما آية وذلك كثير في الكتاب والسنة واختلف العلماء هل يخبر بينهما أو يسقطان ؟ والبينتان نحو شهادة بينة بأن هذه الدار لزيد وشهادة أخرى بأنها لعمرو فهل تترجح إحدى البينتين ؟ خلاف والأصلان نحو رجل قطع رجلا ملفوفا نصفين ثم نازع أولياؤه في أنه كان حيا حالة القطع فالأصل براءة الذمة من القصاص والأصل بقاء الحياة فاختلف العلماء في نفي القصاص وثبوته أو التفرقة بين أن يكون ملفوفا في ثياب الأموات أو الأحياء ونحو العبد إذا انقطع خبره فهل تجب زكاة فطره لأن الأصل بقاء حياته أو لا تجب لأن الأصل براءة الذمة خلاف والظاهران نحو اختلاف الزوجين في متاع البيت فإن اليد ظاهرة في الملك ولكل واحد منهما يد فسوى الشافعي بينهما ورجحنا نحن أحدهما بالعادة ونحو شهادة عدلين منفردين برؤية الهلال والسماء مصحية فظاهر العدالة الصدق وظاهر الصحو اشتراك الناس في الرؤية فرجح مالك العدالة ورجح سحنون الصحو والأصل والظاهر كالمقبرة القديمة الظاهر تنجيسها فتحرم الصلاة فيها والأصل عدم النجاسة وكذلك اختلاف الزوجين في النفقة ظاهر العادة دفعها والأصل بقاؤها فغلبنا نحن الأول والشافعي الثاني ونحو اختلاف الجاني مع المجني عليه في سلامة العضو أو وجوده الظاهر سلامة أعضاء الناس ووجودها والأصل براءة الذمة فاختلف العلماء في جميع ذلك واتفقوا على تغليب الأصل على الغالب في الدعاوى فإن الأصل براءة الذمة والغالب المعاملات لا سيما إذا كان المدعي من أهل الدين والورع واتفقوا على تغليب الغالب على الأصل في البينة فإن الغالب صدقها والأصل براءة الذمة فائدة الأصل أن يحكم الشرع بالاستصحاب أو بالظهور إذا انفرد عن المعارض وقد استثني من ذلك أمور لا يحكم فيها إلا بمزيد ترجيح يضم إليه أحدها ضم اليمين إلى النكول فيجتمع الظاهران وثانيها تحليف المدعى عليه فيجتمع استصحاب البراءة مع ظهور اليمين وثالثها اشتباه الأواني والأثواب يجتهد فيها على الخلاف فيجتمع الأصل مع ظهور الاجتهاد ويكتفى في القبلة بمجرد الاجتهاد لتعذر انحصار القبلة في جهة حتى يستصحب فيها فهذه أدلة مشروعية الأحكام وتفاصيل أحوالها وأما أدلة وقوع الأحكام بعد مشروعيتها فلا تعد ولا تقف عند حد فهي أدلة وقوع أسبابها وحصول شروطها وانتفاء موانعها وهي غير محصورة وهي إما معلومة بالضرورة كدلالة زيادة الظل على الزوال أو كمال العدة على الهلال وإما مظنونة كالأقارير والبينات والأيمان والنكولات والأيدي على الأملاك وشعائر الإسلام عليه الذي هو شرط في الميراث وشعائر الكفر عليه وهو مانع من الميراث وهذا باب لا يعد ولا يحصى
الفصل الثاني في تصرفات المكلفين في الأعيان
وهي إما نقل أو إسقاط أو قبض أو إقباض أو التزام أو خلط أو إنشاء ملك أو اختصاص أو إذن أو إتلاف أو تأديب وزجر
النقل
ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان كالبيع والقرض أو في المنافع كالإجارة وتندرج فيها المساقاة والقراض والمزارعة والجعالة وإلى ما هو بغير عوض كالهدايا والوصايا والعمري والهبات والصدقات والكفارات والزكوات والغنيمة والمسروق من أموال الكفار
الاسقاط
إما بعوض كالخلع والعفو على مال والكتابة وبيع العبد من نفسه والصلح على الدين والتعزير فجميع هذه تسقط الثابت ولا تنقله إلى الباذل أو بغير عوض كالإبراء من الديون والقصاص والتعزيز وحد القذف والطلاق والعناق وإيقاف المساجد فجميع هذه تسقط الثابت ولا تنقله
القبض
وهو إما بإذن الشرع وحده كاللقطة والثوب إذا ألقته الريح في دار إنسان ومال اللقيط وقبض الإمام المغصوب من الغاصب وأموال الغائبين وأموال بيت المال والمحجور عليهم والزكوات أو بإذن غير الشرع كقبض المبيع بإذن البائع والمستام والبيع الفاسد والرهون والهبات والصدقات والعوارى والودائع أو بغير إذن لا من الشرع ولا من غيره كالغصب الإقباض كالمناولة في العروض والنقود وبالوزن والكيل في الموزونات والمكيلات وبالتمكين في العقار والأشجار وبالنية فقط كقبض الوالد وإقباضه لنفسه من نفسه لولده الالتزام بغير عوض كالنذور والضمان بالوجه أو بالمال الخلط إما بشائع وإما بين الأمثال وكلاهما شركة انشاء الأملاك في غير مملوك كإرقاق الكفار وإحياء الموات والاصطياد والحيازة في الحشيش ونحوه الاختصاص بالمنافع كالإقطاع والسبق إلى المباحثات ومقاعد الأسواق والمساجد ومواضع النسك كالمطاف والمسعى وعرفة ومزدلفة ومنى ومرمي الجمار والمدارس والربط والأوقاف الإذن إما في الأعيان كالضيافات أو في المنائح أو في المنافع كالعواري والاصطناع بالحلق والحجامة أو في التصرف كالتوكيل والإيصاء الإتلاف إما للإصلاح في الأجساد والأرواح كالأطعمة والأدوية والذبائح وقطع الأعضاء المتآكلة أو للدفع كقتل الصوال والمؤذي من الحيوان أو لتعظيم الله تعالى كقتل الكفار لمحو الكفر من قلوبهم وإفساد الصلبان أو لنظم الكلمة كقتال البغاة أو للزجر كرجم الزناة وقتل الجناة . التأديب والزجر إما مقدر كالحدود أو غير مقدر كالتعزيز وهو مع الإثم في المكلفين أو بدونه في الصبيان والمجانين والدواب . فهذه أبواب مختلفة الحقائق والأحكام فينبغي للفقيه الإحاطة بها لتنشأ له الفروق والمدارك في الفروع . وهذا تمام المقدمة وحسبنا الله ونعم الوكيل . صفحه فارغه
كتاب الطهارة
الباب الأول في الطهارة
الطهارة في اللغة التبرئة من الأدناس ويقال طهر بضم الهاء وفتحها طهارة فيهما والطهر وهو أيضا ضد الحيض والمرأة طاهرة من الدنس والعيوب وطاهر من الحيض بالتاء في الأول دون الثاني والمطهرة الإداوات بفتح الميم وكسرها والفتح أفصح وتستعمل الطهارة مجازا في التنزه عن العيوب فيقال قلب طاهر وعرض طاهر تشبيها للدنس المعلوم بالدنس المحسوس . وأما الطهارة في الشرع فليست شيئا من أنواع العلاج بالماء ولا بغيره لجزمنا بطهارة بطون الجبال وتخوم الأرض بل هي حكم شرعي قديم وهي إباحة فالمعنى بطهارة العين إباحة الله تعالى لعباده ملابستها في صلواتهم وأغذيتهم ونحو ذلك وتطلق على العلاج بالماء وغيره مجازا وهي على قسمين طهارة حدث وطهارة خبث والنجاسة في اللغة ملابسة الأدناس وتستعمل مجازا في العيوب كقوله تعالى ( إنما المشركون نجس ) تشبيها للدنس المعلوم بالمحسوس ويقال نجس الشيء بكسر الجيم ينجس بفتحها نجسا بفتحها أيضا فهو نجس بكسرها . وهي في الشرع حكم شرعي قديم وهي تحريم فمعنى نجاسة العين تحريم الله تعالى على عباده ملابستها في صلواتهم وأغذيتهم ونحوها ثم يطلق على المعفو عنه أنه نجس نحو دم الجراح السائلة وبول السلس تغليبا لحكم جنسها عليها مجازا ولأجل هذا التحديد لا تكون العذرة قبل ورود الشرع نجسة ولا طاهرة لعدم الأحكام الشرعية في الأفعال قبل ورود الشرع . تتميم كل حكم شرعي لا بد له من سبب شرعي وسبب الطهارة عدم سبب النجاسة لأن عدم العلة علة لعدم المعلول ولما كانت علة النجاسة الاستقذار عملا بالمناسبة والاستقراء والدوران وكانت النجاسة تحريما كان عدم الاستقذار علة لعدم ذلك التحريم وإذا عدم التحريم ثبتت الإباحة وهي الطهارة كما تقدم وهذه قاعدة مطردة في الشرع وغيره فكل علة لتحريم يكون عدمها علة للإباحة كالإسكار لما كان علة لتحريم الخمر كان عدمه علة لإباحتها . فإن قيل تعليل النجاسة بالاستقذار غير مطرد ولا منعكس أما الأول فبدليل المخاط والبصاق والعرق المنتن ونحو ذلك فإنها مستقذرة وليست نجسة وأما الثاني فلنجاسة الخمر وليست مستقذرة . قلنا أما الأول فمستثنى لضرورة الملابسة وأما الثاني فالعكس غير لازم في العلل الشرعية لأن بعضها يخلف بعضا ونجاسة الخمر معللة بالإسكار وبطلب الإبعاد والقول بنجاستها يفضي إلى إبعادها وما أفضى إلى المطلوب فهو مطلوب فيكون التنجيس مطلوبا . وقدمت هذه المقدمة تكميلا لفائدة الكلام على لفظ الطهارة والاكتفاء به عند الكلام على النجاسة . وهذا الكتاب مشتمل على مقاصد ووسائل لتلك المقاصد والوسائل يتقدم فعلها شرعا فيجب تقدم الكلام عليها وضعا . فأول الوسائل محل الماء ولما كان استعمال الماء في الأعضاء يتوقف على طهارتها حتى يلاقي الماء الطهور الأعضاء الطاهرة وجب بيان الأعيان النجسة ما هي ثم كيفية إزالتها فهذه أربع وسائل . الوسيلة الأولى محل الماء وهو الإناء وهو في اللغة مشتق من أنى يأنى إنا وهو التناهي قال الله تعالى ( غير ناظرين إناه ) أي انتهاءه ( عين آنية ) أي متناه حدها و ( حميم آن ) أي متناه حره ولما كان الإناء لا بد أن يتناهى خرطه أو حرزه أو سبكه على حسب جوهره في نفسه سمي إناء لذلك وفيه ثلاثة فصول : الفصل الأول في الجلود وفي الجواهر ولا بد في استعمالها من طهارتها ولطهارتها سببان : السبب الأول الذكاة مطهرة لسائر أجزاء الحيوان لحمه وعظمه وجلده وإن كان مختلفا في إباحة أكله كالحمر والكلاب والسباع على روايتي الإباحة والمنع لإزالة الذكاة الفضلات المستقذرة الموجبة للتنجيس على سائر الوجوه على الحيوان إلا الخنزير لقوله تعالى ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس ) والرجس في اللغة القذر فكما أن العذرة لا تقبل التطهير فكذلك الخنزير لأنه سوى بينه وبين الدم ولحم الميتة وهما لا يقبلان التطهير فكذلك هو . ولأن الذكاة في الشرع سبب لحكمين إباحة الأكل والطهارة والذكاة لا تفيد الإباحة فيه إجماعا فكذلك الطهارة ولهذا المدرك منع ابن حبيب تطهيرالذكاة لما لم يؤكل لحمه ووافقه الشافعي ولأبن حبيب أيضا التفرقة بين العادية وغيرها وزاد أبو حنيفة علينا بطهارة اللحم مع الجلد وإن قال بتحريم أكله . ومنع مالك رحمه الله الصلاة على جلود الحمر الأهلية وإن ذكيت وتوقف في الكيمخت في الكتاب قال صاحب الطراز وروي عنه الجواز ومنشأ الخلاف هل هي محرمة فلا تؤثر الذكاة فيها كالخنزير أو مكروهة فتؤثر كالسباع والكيمخت يكون من جلود الحمر ومن جلود البغال قال وقد أباحه مرة وأجاز الصلاة فيه على ما في العتبية . السبب الثاني الدباغ في الجواهر وهو استعمال ما فيه قبض وقوة على نزع الفضلات وهو مختلف بحسب غلظ الجلد ورقته ولينه وصلابته قال ابن نافع ولا يكفي التشميس وهو مطهر لجملة الجلود إلا الخنزير للآية المتقدمة ولأن الذكاة أقوى من الدباغ لاقتضائها إباحة الأكل مع التطهير ولنزعها الفضلات من معادنها قبل تشبثها بأجزاء الحيوان وغلظها وقد سقط اعتبارها في الخنزير فكذلك الدباغ . وطهارة غير الخنزير مخصوصة عنده بالماء واليابسات دون المائعات والصلاة والبيع لأن قوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقد طهر مطلق في الطهارة وإن كان عاما في الأهب والأصل في الميتة النجاسة فيتعين الماء لمطلق الطهارة لقوته واليابسات لعدم مخالطها وبقي ما عدا ذلك على الأصل . وعنه أنها عامة لزوال السبب المنجس وهو الفضلات المستقذرة ولأن الدباغ يرد الأشياء إلى أصولها قبل الموت والحيوانات عندنا طاهرة قبله فكذلك بعده بالدباغ ولهذا المدرك قال الشافعي رضي الله عنه لا يطهر الكلب والخنزير بالدباغ لأنهما نجسان قبل الموت عنده وقال أبو يوسف وداود يؤثر الدباغ في جلد الخنزير وقال الأوزاعي وأبو ثور لا يؤثر إلا فيما يؤكل لحمه ومنشأ الخلاف هل يشبه الدباغ بالحياة أو بالذكاة وهو مذهبنا . قاعدة إزالة النجاسة تارة تكون بالإزالة كالغسل بالماء وتارة بالإحالة كالخمر إذا صار خلا أو العذرة إذا صارت لحم كبش وتارة بهما كالدباغ فإنه يزيل الفضلات ويحيل الهيئات أو لأنه يمنعه من الفساد كالحياة . الفصل الثاني العظام وكل عظم طاهر يجوز استعماله وبيان ذلك في الوسيلة الثالثة . الفصل الثالث أواني الذهب والفضة وفي الجواهر محرمة الاستعمال للرجال والنساء لقوله عليه السلام الذي يشرب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم وعلته السرف أو الخيلاء على الفقراء أو الأمران ويتخرج على ذلك القولان في الذهب المموه بالرصاص أو غيره وإلحاق القاضي أبي بكر أواني الياقوت واللؤلؤ والمرجان بالذهب والفضة بطريق الأولى وعدم إلحاق أبي الوليد لها لأن المفاخرة بها خاصة بالخواص وكراهة ابن سابق لذلك لوجود جزء العلة . فرعان : الأول قال استعمال المضبب والشعوب والذي فيه حلقة فضة أو ذهب من مرآة أو آنية مكروه عنده وممنوع عند أبي الوليد وغير ممنوع عند القاضي أبي بكر نظرا إلى وجود المحرم فيمنع أو إلى اليسارة فلا يمنع أو إليهما فيكره . الثاني قال تحريم اقتناء أواني الذهب والفضة عن ابن الجلاب لأنه وسيلة لاستعمالها قال القاضي أبو الوليد لو لم يجز الاتخاذ لفسخ بيعها وقد أجازه في المدونة في مسائل قال أبو بكر بن سابق هذا الاستدلال باطل لجواز ملكها إجماعا بخلاف اتخاذها وإنما يظهر الخلاف في الإجارة على عملها والضمان على مفسد صنعتها والمخالف يجيز ذلك أيضا . الوسيلة الثانية الماء وهو إما مطهر أو منجس أو لا مطهر ولا منجس أو مختلط من هذه الأقسام فهذه أربعة أقسام . القسم الأول المطهر وهو الباقي على أصل خلقته على أي صفة كان من السماء أو الأرض أو البحر لقوله تعالى ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) وقوله ( ليطهركم به ) وقوله عليه السلام في الموطأ لما سأله رجل إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا منه عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر قال عليه السلام هو الطهور ماؤه الحل ميتته . قاعدة فعول عند العرب يكون صفة نحو غفور وشكور ويكون للذي يفعل به الفعل نحو الحنوط والسحور والبخور لما يتحنط به ويتسحر به ويبتخر به فالطهور عندنا للذي يتطهر به متعد خلافا ح فإن معناه عنده طاهر وفائدة الخلاف كونه سبب الطهارة عندنا فينحصر المطهر فيه بسبب تخصيص الشرع له بالذكر ومنع القياس في الأسباب ولو سلم المنع ههنا لكونه ذرع الجامع الذي هو علة في الأصل والأصل ههنا ليس معللا لوجوب تطهير ما هو في غاية النظافة فيسقط اعتبار النبيذ وغيره عن مقام التطهير أو ليس سببا فيشاركه في الطاهرية غيره فلا يختص التطهير به لنا قوله تعالى ( ليطهركم به ) وهو نص في الباب ولو صح ما ذكروه لما صح جوابه عليه السلام في ماء البحر لعدم الفائدة ولبطل معنى قوله عليه السلام جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا لأن طهارة التراب لم تختص به عليه السلام وإنما الذي اختص به المطهر به . احتجوا بقوله تعالى ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) وليس في الجنة ما يتطهر به وبقول جرير : . . . . . . . . . . . . ( عذاب الثنايا ريقهن طهور ** ) والريق لا يطهر ولأن الأصل في فعول أن يجري على فاعل في تعديته وقصره وطاهر قاصر فطهور مثله . والجواب عن الأول أنه مجاز للمبالغة لأن الذي يتطهر به أفضل أنواع الماء فاستعير لشراب الجنة ترغيبا فيه وهذا هو الجواب عن الثاني وعن الثالث لا نسلم أن الطهور ههنا جار على طاهر بل معزل عنه ويوضحه استحالة قبول الطهارة للزيادة في المطر والبحر فلا يمكن إلحاقه بصبور وشكور ثم إنا لو سلمنا إمكان القياس على الماء بناء على أنه بمعنى طاهر لاندفع القياس بالفارق وهو ما اشتمل عليه الماء من الرقة واللطافة . فإن قالوا الخل وماء الليمون ألطف منه . قلنا لا نسلم ويدل على خلاف ذلك أن الإنسان إذا أدخل يده فيهما أحس من الممانعة ليده ما لا يحس في الماء ولأن أجزاء الخبز لا يفرقها واحد منهما بخلافه ولأن ماء الليمون إذا استعمل لزوال العرق سد المسام ومنع انبعاث العرق وأما إحالة الألوان فليس لرقته وإنما هو بإحالته لها . إذا تقرر هذا البحث فيلحق بالطهور لأجل الحاجة والأصالة المتغير بجريه على المعادن أو بطول المكث والطحلب والطين الكائن فيه وكل ما هو من قراره من التبصرة وما يكون عن البرد والجليد والندى ولا فرق بين ما تغير بالمعادن الجاري عليها والآنية المصنوعة منها وقد فرق أهل العلم بينهما ولا فرق وقد كان عليه السلام يتوضأ من الصفر ولم يكره أحد الوضوء من الحديد مع سرعة التغيير فيهما لا سيما في البلاد الحارة وكان عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنهما يسخن له الماء في الصفر . فروع أحد عشر : الأول في الجواهر التراب المطروح عمدا في الماء لا يسلبه الطهورية إلحاقا للطارئ بالأصلي وقيل لا يلحق به لفارق الضرورة . الثاني الملح ملحق بالتراب عند ابن أبي زيد وبالأطعمة عن الشيخ أبي الحسن وقيل المعدني كالتراب نظرا إلى الأصل والمصنوع كالطعام لإضافة غيره إليه غالبا . الثالث قال الملازم للماء إذا اختص ببعض المياه قيل ليس يطهر لعدم العموم وقيل مطهر لعدم الإنفكاك . الرابع قال الماء القليل إذا وقع فيه طاهر لم يغيره قال أبو الحسن القابسي يسلبه التطهير كما قال ابن القاسم في النجاسة مع الماء القليل والمذهب خلافه . الخامس من الطراز المسخن بالشمس مكروه وقاله ش خلافا ح وذلك من وجهة الطب لما رواه مالك رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام دخل عليها وقد سخنت ماء في الشمس فقال عليه السلام لا تفعلي هذا يا حميراء فإنه يورث البرص ونحوه عن عمر رضي الله عنه قال عبد الحق ولم يصح فيه حديث قال الغزالي يخرج من الإناء في الشمس مثل الهباء بسبب التشميس في النحاس والرصاص فيعلق بالأجسام فيورث البرص ولا يكون ذلك في الذهب والفضة لصفائهما وقال ابن الحاجب والمسخن بالنار والشمس كغيره . السادس قال في الكتاب يجوز الوضوء بما يقع البصاق فيه والمخاط وخشاش الأرض مثل الزنبور والعقرب والصرار وبنات وردان من التنبيهات الخشاش بفتح الخاء وكسرها وضمها وتخفيف الشين المعجمة وهو صغار دواب الأرض والزنبور بضم الزاي والخنفساء بضم الخاء ممدودة والصرار بالصاد المهملة وتشديد الراء الأولى سمى بذلك لما يسمع من صوته فإن لم تفرق أجزاء ذلك أو يطول مكثه فما وقع فيه طاهر فإن تفرق أو طال مكثه فالماء مضاف وقال أشهب ينجس . وأما الطعام فإن تفرق فيه أو غلب فلا يؤكل لاحتياجه إلى الذكاة وقيل يؤكل لعدم احتياجه إليها على الخلاف . السابع قال المازري في شرح التلقين إذا شك فيما يفسد الماء فالأصل بقاؤه على الطهورية وقد نهى مالك رحمه الله عن استعمال البئر القريبة من المراحيض فقال تترك يومين أو ثلاثة فإن طابت وإلا تركت ووجهه أن الظاهر إضافة التغير إلى المراحيض . الثامن من الطراز إذا راعينا وصف الماء دون مخالطه وكان معه دون الماء الكافي فكلمه بماء ريحان أو نحوه مما لا يتغير به فهل يتطهر به لعدم التغير أو لا يتطهر به لكونه متطهرا بغير الماء المطلق جزما وهو الطاهر وفرق بعض الشافعية بين هذه وبين ما إذا خلط بما يكفيه مائعا لم يغيره وتوضأ به وفضل قدر ذلك المائع أنه يجزيه وقال بعضهم لا يجزئ قال صاحب تهذيب الطالب قال الشيخ أبو الحسن إذا دهن الدلو الجديد بالزيت واستنجى منه لا يجزيه فيغسل ما أصاب من ثيابه لأن المضاف عنده لا يجزئ في غسل النجاسات وقال ابن أبي زيد يعيد الاستنجاء دون غسل ثيابه لاختلاف الناس في المضاف قال واختلف الأصحاب هل يزيل المضاف حكم النجاسة أو عينها فقط وهو الصواب لأنه لا يتوضأ به ومن أزال به حكم النجاسة فلضعفها لإزالتها بغير نية والاختلاف في وجوبها مع الاختلاف في المضاف هل يرفع الحدث أم لا وأما قول من ينجس الثياب ببل موضع النجاسة إذا زال عينها فبعيد لأن الباقي في الموضع حكم ليس لعين فلا ينجس إنما تنجس الأعيان . التاسع منه أيضا القطران تبقى رائحته في الوعاء وليس له جسم يخالط الماء لا بأس به للحاجة إليه في البوادي . العاشر منه أيضا الحشيش وورق الشجر يتساقط في الماء فيغيره لا بأس به عند العراقيين منا . الحادي عشر قال إذا وقعت في الماء الكثير نجاسة أو عين طاهرة وبقى على أصل خلقته فهو مطهر ولا يشترط وصوله القلتين خلافا ش لأن الاستدلال بحديث القلتين وإن صححناه فهو بالمفهوم واستدلالنا بظاهر القرآن وحديث بئر بضاعة استدلال بالمنطوق وهو مقدم على المفهوم إجماعا وإذا ظهر بطلان مذهب الشافعي فمذهب أبي حنيفة بطريق الأولى في قوله إن الماء وإن كان فوق القلتين ويمكن وصول النجاسة إلى أجزائه بالحركة فهو نجس لأن أدلتنا وأدلة الشافعي ترد عليه رضي الله عنهم أجمعين . القسم الثاني المنجس وهو ما تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجس وفي الجواهر خالف عبد الملك في الرائحة وقيل قوله منزل على المجاورة دون الحلول لما في الترمذي قيل له عليه السلام أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال عليه السلام
( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )
يعني إلا ما غيره وقال فيه حديث حسن وروى فيه البغداديون إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه وجه قول عبد الملك أن الثياب لا تنجس بروائح النجاسات فكذلك الماء لأنه أقوى في الدفع عن نفسه ولأن الرائحة لو كان تغيرها معتبرا لذكر في الحديث من التبصرة إن كانت الرائحة عن المجاورة لم يخرج عن الطهورية وإن كانت عما حل فيه من الطيب كان مضافا وكذلك البخور لأن النار تصعد بأجزائه ويوجد طعمه فيه ولهذا قيل لا يؤكل المطبوخ بالميتة ووافقه صاحب الطراز على ذلك . فرعان : الأول من شرح التلقين تثبت النجاسة بخبر الواحد إذا بينها أو كان مذهبه كمذهبه لاحتمال أن يعتقد ما ليس نجسا نجسا ولا تشترط الشهادة لما في الموطأ أن عمرو بن العاص رضي الله عنه سأل صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع فلولا أن خبره يقبل لما سأله . الثاني في الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة أربعة أقوال قال مالك رحمه الله في الكتاب مطهر لحديث الترمذي السابق وقال ابن القاسم في الكتاب يتيمم ويتركه وإن توضأ وصلى ولم يعلم أعاد في القوت فحمل أبو الحسن قوله على التنجيس لإباحته التيمم والإعادة في الوقت مراعاة للخلاف وحمله ابن رشد في المقدمات على الكراهة لتخصيصه الإعادة بالوقت والتيمم مراعاة للخلاف وقال مالك في المجموعة يجتنب وفي السنن سئل عليه السلام عن الماء وما يؤثر فيه من الدواب والسباع فقال عليه السلام إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث مفهومه أن ما دون ذلك يحمل الخبث ولأن النفوس تعاف القليل إذا وقعت فيه النجاسة وما لم يرضه الإنسان لنفسه أولى ألا يرضاه لربه والكراهة لابن الحاجب والمدنيين وقال ابن مسلمة هو مشكوك فيه لا يعلم أنه طهور ولا نجس لتعارض المآخذ فيجمع بينه وبين التيمم ليخرج عن العهدة إجماعا . فرع في الجواهر على هذا قال محمد بن سحنون وأبو الحسن يتيمم ويصلي أولا ثم يتوضأ ويصلي صلاة أخرى ليسلم أولا من النجاسة المتوهمة وقيل يجمع بينهما ويصلي صلاة واحدة لعدم تحقق النجاسة فإن أحدث جمع بينهما وصلى واحدة على القولين لحصول ملاقاة الماء للأعضاء أولا . من التبصرة وإن لم يحدث وفرعنا على أنه يصلي صلاتين ثم حضرت صلاة أخرى تيمم وصلى صلاة واحدة . والماء القليل كالجرة والإناء والبئر القليلة الماء . القسم الثالث الماء الذي لا يطهر ولا ينجس وهو ما تغير أحد أوصافه بطاهر غير لازم له وخالف عبد الملك في الرائحة وكذلك مياه النبات كماء الورد ونحوه . فرعان : الأول الماء المستعمل في الحدث إذا لم يكن على الأعضاء نجاسة ولا وسخ قال مالك رحمه الله في الكتاب لا يتوضأ بماء توضئ به مرة قال ابن القاسم إن لم يجد غيره توضأ . من التنبيهات حمل قول مالك غير واحد من شيوخنا على وجود غيره فإذا لم يجد غيره فما قاله ابن القاسم فهما متفقان وعلى ذلك أكثر المختصرين وقال ابن رشد هما مختلفان وقال في كتاب ابن القصار يتيمم من لم يجد سواه قال ابن بشير المشهور أنه مطهر مكروه للخلاف فيه وقيل طاهر غير مطهر لثلاثة أوجه الأول عدم سلامته من الأوساخ ودهنية البدن الثاني أنه أديت به عبادة فلا تؤدي به عبادة كالرقبة في الكفارة ولا يلزم الثوب الذي صلى به فإن مصلحته ستر العورة وهي باقية الثالث أن الأولين لم يجمعوا ما سقط عن أعضائهم في أسفارهم مع شدة ضروراتهم لقلة الماء وذلك يدل على عدم جواز استعماله . القول الثالث أنه مشكوك فيه يجمع بينه وبين التيمم قال ابن شاس ويصلي صلاة واحدة . واعلم أن المتنازع فيه إنما هو المجموع عن الأعضاء لا الذي يفضل في الإناء بعد الطهارة ولا المستعمل في بعض العضو إذا جرى للبعض الآخر تحرير إذا قلنا بسقوط الطهورية قال بعض العلماء سببه أمران أحدهما كونه أديت به عبادة والثاني إزالته المانع فإن انتفيا معا كالرابعة في الوضوء فلا منع وإن وجد أحدهما دون الآخر احتمل الخلاف كالمستعمل في المرة الثانية والثالثة أو في التجديد فإنه لم يزل مانعا وإن أديت به عبادة وغسل الذمية من الحيض أزال مانع وطئها لزوجها المسلم ولم تؤدبه عبادة وفي قول مالك رحمه الله نص صريح بهذا المعنى في قوله ولا يتوضأ بما توضىء به مرة إشارة للعبادة وإزالة المانع معا ونقل صاحب الطراز عند التفرقة بين الحدث والتجديد قال وسوى أبو حنيفة في المنع ويرد على من قال بنجاسته أن السلف الصالح كانوا يتوضؤن والغالب تطاير البلل على ثيابهم والتصاق ثيابهم بأعضائهم وهي مبلولة وما نقل عنهم التحرز عنه فدل ذلك على طهارته الفرع الثاني من التبصرة قال مالك في البئر يقع فيها سعف النخل وورق الزيتون فيتغير لون الماء إن توضأ به أعاد في الوقت لأنه لا يتغير إلا وقد تغير طعمه وكذلك قال في الغدير ترده الماشية فتغيره بروثها ما يعجبني ولا أحرمه والمعروف من المذهب أنه غير مطهر القسم الرابع المختلط من الطهور وغيره ويتصور ذلك وإن قلنا إن الباقي على خلقته طهور وغير الباقي غير طهور بأن يكون متغيرا بقراره أو لازمه إلى لون نجاسة وقعت في بعضه فالتبس بالبعض الآخر أو بصيرورة ماء بعض النبات كماء الورد أو غيره على صفة الطهور ثم يلتبس بالطهور وفي الجواهر فإن وجد ما يتيقن طهوريته لم يجتهد وإن لم يجد فللأصحاب أربعة أقوال قال محمد بن مسلمة يتوضأ بالإناءين وضوءين ويصلي صلاتين ويغسل أعضاء وضوئه من الإناء الثاني قبل وضوئه منه إن كان أحدهما نجسا لإمكان الوصول إلى اليقين كمن نسي صلاة من خمس قال الأصحاب وهو الأشبه بقول مالك رحمه الله وقال عبد الملك مثله إلا الغسل من الإناء الثاني قبل الوضوء لعدم تيقن النجاسة وقال ابن المواز يتحرى أحدهما فيتوضأ به كما يصلي إلى جهة من الجهات عند التباس جهة الكعبة فرع على هذا قال بعض العلماء الاجتهاد في الأواني يختص بالبصير وقيل لا يختص بل يصح من الأعمى لإدراكه الطعم والرائحة وزيادة الإناء بعد نقصه وقال سحنون أيضا يتيمم ويتركها ولا يشرع له التحري كأخته من الرضاع إذا اختلط بأجنبية قال الطرطوشي في تعليقه بخلاف الثياب المشتبهة فإنه لا بدل لها وههنا بدل وهو التيمم وقال صاحب الطراز إذا أصابت النجاسة أحد الثوبين وجهل لا يصلي فيهما حتى يغسلهما وإنما يتحرى فيهما عند الضرورة فلو شك في موضع من الثوب وتيقن الإصابة في موضع آخر غسل المتيقن ونضح المشكوك وإذا قلنا بالتحري في الثوبين فلا يتحرى في جهات الثوب إذا اختلط عليه النجس بالطاهر من الجهتين والفرق أن التحري في الثوبين يوجب الصلاة في أحدهما بغير غسل ولا بد من الغسل في الثوب نعم لو لم يجد من الماء ما يعم الثوب ولم يجد غير الثوب وضاق الوقت تحرى وفي الجواهر يتحرى بين الثوبين ولم يشترط الضرورة قال وقيل إنه يصلي بكل واحد صلاة قال وقال القاضي أبو بكر والصحيح الأول قال فلو أصاب بعض ثوبه نجاسة لم يجز التحري ولو قسمه بنصفين لم يجز التحري بينهما لجواز انقسام النجاسة فيهما ولو أصابت أحد الكمين قال القاضي أبو بكر جاز الاجتهاد كالثوبين باختلاف بين العلماء قال فإن فصلهما جاز الاجتهاد إجماعا بيان النضح بالحاء المهملة ينطلق على الغسل ومنه سمي البعير الذي يستقي ناضحا وينطلق على الرش وبالخاء المعجمة على ما يكثر صب الماء فيه ومنه قوله تعالى ( عينان نضاختان ) وقيل ينطلق على ما يفور من السفل كالفوران فرع إذا قلنا يصلي بكل إناء صلاة فهل يفرق بين ما قل وبين ما كثر كما فرقنا في ترتيب الصلوات أشار الطرطوشي إلى الفرق قاعدة الأصل ألا تبني الأحكام إلا على العلم لقوله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) لكن دعت الضرورة للعمل بالظن لتعذر العلم في أكثر الصور فتثبت عليه الأحكام لندرة خطئه وغلبة إصابته والغالب لا يترك للنادر وبقي الشك غير معتبر إجماعا ثم شرط العمل بالظن اقتباسه من الأمارات المعتبرة شرعا ثم حيث ظفرنا بالعلم لا نعدل عنه إلى الظن كتحصيل صلاة من خمس بفعل الخمس وحيث لم نظفر به اتبعنا الظن ثم الظن قد ينشأ عن أمارة شرعية وتتعدد موارده فيتخير كإخبار بينات متعددة بما يستفاد من الشهادة وقد لا تتعدد موارده بل تنحصر جهة الظن الناشىء عن الأمارة في مورد فيتعين علينا اتباع ذلك المورد كجهة الكعبة فإن المظنون عن الأمارة فيها ليس إلا جهة واحدة وما عدا تلك الجهة يغلب على الظن عدم كون الكعبة فيها وقد لا ينشأ عن أمارة شرعية فلا يعتبر شرعا وإن كان أرجح في النفس من الناشىء عن الأمارة الشرعية كشهادة ألف من عباد أهل الكتاب بفلس فإنا لا نتبع هذا الظن ولا يثبت الفلس وإن قوي في أنفسنا صدقهم وكذلك الأخت مع الأجنبية لما لم ينصب الشرع عليها أمارة وجب التوقف وعلى هذه القاعدة تتخرج مسألة الأواني وكثير من مسائل المذهب فروع أربعة الأول لو صلى بما يغلب على طنه طهوريته ثم تيقن نجاسته غسل أعضاءه وتوضأ وأعاد وإن ظن ذلك فقولان مبينان على نقض الظن بالظن كالمصلي إلى القبلة يظن خطأ فعله الثاني قال يترتب على قول محمد بن مسلمة إذا توضأ بالإناءين وصلى وحضر صلاة أخرى وطهارته باقية والذي توضأ به ثانيا معلوم صلى بطهارته وغسل أعضاءه من الذي توضأ به أولا وتوضأ منه وصلى وإن لم تكن طهارته باقية أو كانت لكنه لا يعلم الذي توضأ به آخرا توضأ بالإناءين كما تقدم الثالث قال الإمام أبو عبد الله لا تصح صلاة من صلى خلف من يعتقد أنه توضأ بنجس ولو كثرت الأواني والمجتهدون قال صاحب القبس إذا اختلف ثلاثة في ثلاثة أوان نجس وطاهرين توضأ كل واحد مما يراه طاهرا ويؤم أحدهم ثم الثاني ولا يؤمهم الثالث لأن إمامة الأول يحتمل أن يكون النجس مع أحد المأمومين أو معه والثاني يحتمل أن يقول الثالث يجوز أن يكون النجس وقع في حقي فصلاة إمامي صحيحة وإمامة الثالث تتعين النجاسة له فلم تجز ومتى زاد عدد الأواني أو عدد الرجال إذا بقي واحد طاهر جازت الإمامة أبدا حتى يبقى واحد منها فيمتنع فإن كانت الأواني اثنتين وأم أحدهما الآخر فلا يجوز أن يؤم الثاني عند علماء الأمصار إلا أباثور لعدم تيقن الخطأ ولأن المأموم يرى أن صلاة الإمام صحيحة في حقه فيجوز له اتباعها وهذه المسألة مبنية على تصويب المجتهدين كما قال فقد قال أصحاب الشافعي في هذه المسألة الأولى ثلاثة أقوال قال صاحب التلخيص لا يصح الاقتداء مطلقا لأجل الشك في صلاة الإمام وقال أبو إسحاق الصلاة الأولى صحيحة لكل واحد في اقتدائه وفي الاقتداء الثاني تبطل إحدى صلاتيه فيلزمه قضاؤهما ليخرج عن الصلاة بيقين وقال ابن الحداد الاقتداء الثاني في حق كل واحد باطل لأن فيه يتعين تقدير النجاسة الرابع قال حيث قلنا بالاجتهاد بين الماءين فقد خرج القاضي أبو محمد عليه جواز الاجتهاد بين الماء والبول خلافا ش وح لأن حقيقة الاجتهاد تميز الحق عن الباطل وههنا كذلك قال القاضي أبو بكر هو الذي تقتضيه أصولنا وبه أقول الوسيلة الثانية تمييز النجس من غيره والعالم إما جماد أو نبات أو حيوان وفي الجواهر والأولان طاهران إلا المسكرات للإسكار لأنها مطلوبة الإبعاد والقول بتنجيسها يفضي إلى إبعادها والمفضي إلى المطلوب مطلوب والحيوان فيه أربعة فصول الأول في أقسامه والثاني في أجزائه والثالث فيما ينفصل عنه والرابع فيما يلابسة الفصل الأول في أقسامة وهي خمسة الأول وفي الجواهر الحي كله طاهر عملا بالأصل ولأن الحياة علة الطهارة عملا بالدوران في الأنعام فإنها حال حياتها حية ظاهرة وحال موتها ليست حية ولا طاهرة والدوران دليل عليه المدار الدائر فيلحق به محل النزاع كالكلب والخنزير ونحوهما فإن قيل الأنعام المذكاة طاهرة فبطل الدوران قلنا علل الشرع تخلف بعضها والذكاة علة مطهرة إجماعا الثاني قال الميتة حتف أنفها كلها نجسة لاشتمالها على الفضلات المستقذرة إلا ميتة البحر لقوله عليه السلام في الموطأ
هو الطهور ماؤه الحل ميتته
والحل دليل الطهارة الثالث قال ميتة ما ليست له نفس سائلة طاهرة لعدم الدم منه الذي هو علة الاستقذار لقوله عليه السلام في البخاري
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه
ولو كان ينجس بالموت مع أن الغالب موته لكان عليه السلام أمر بإفساد الطعام وقال أشهب والشافعي رحمهما الله ينجس لأن الموت عندهما علة التنجيس دون احتقان الدم لقلته ووافقناهم على أن الأنعام إذا قطعت من أوساطها وخرجت دماؤها أنها نجست بالموت مع انتفاء الدم فإذا استدللنا نحن بالذكاة احتجوا بهذه الصورة وجوابنا عنه أن الشرع لم يسلطنا على الحيوان إلا بشرط انتفاعنا به وأن نسلك أقرب الطرق في ذلك وأقرب الطرق هو الذكاة في الموضع المخصوص فمن عدل عنه لم يرتب الشرع على فعله أثرا فسوى بين هذه الصورة وبين التي احتقنت فيها الفضلات زجرا له فرعان الأول للمازري في شرح التلقين ألحق ابن القصار البرغوث بما له نفس سائلة لوجود الدم فيه وألحقه سحنون بما لا نفس له وألحق أبو حنيفة البعوض بالجراد مع وجود الدم فيه ومنشأ الخلاف النظر إلى أصالة الدم أو طروه الثاني من الطراز إذا مات البرغوث أو القملة في الطعام ألحقه ابن القصار بما له نفس وخالفه سحنون وابن عبد البر هذا إذا لم يكن فيهما دم فإن كان وافق ابن عبد البر ابن القصار في التنجيس وأكثر أصحابنا يقولون لا يؤكل طعام مات فيه أحدهما لأن عيشهما من دم الحيوان ومنهم من قضى بنجاسة القملة لكونها من الإنسان تخلق بخلاف البرغوث فإنه من التراب ولأنه وثاب فيعسر الاحتراز منه كشف للنفس ثلاثة معان يقال لذات الشيء نحو جاء زيد نفسه وللروح كقوله تعالى ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) وللدم كقول ابن دريد ( خير النفوس السائلات جهرة ** على ظباة المرهفات والقنا ) ومنه سميت النفساء لخروج الدم منها فقول العلماء ما ليست له نفس سائلة احتراز من الأولين وإلا فكل دم يسيل فلا معنى للتقييد حينئذ الرابع الآدمي إذا مات طاهر على أحد القولين لأن الأمر بغسله وإكرامه يأبى تنجيسه إذ لا معنى لغسل الميتة التي هي بمنزلة العذرة ولما في الموطأ أنه عليه السلام صلى على سهل بن بيضاء في المسجد ولو كان نجسا ما فعل عليه السلام ذلك الخامس الكلب في الجواهر أطلق سحنون وعبد الملك عليه التنجيس وكذلك الخنزير إما لنجاسة عينهما وإما لملابستهما النجاسة فيرجع إلى نجاسة السؤر وقد قال عليه السلام في الموطأ
إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا
ومن هذا الحديث تتخرج فروع المذهب فنذكرها في أثناء فقهه و الكرم على ألفاظه فنقول قوله إذا ولغ هل يختص بالماء علا بالغالب أو يعم الماء والطعام لحصول السبب في الجميع قولان وقوله الكلب هل يختص بالمنهي عن اتخاذه فتكون اللام للعهد أو يعم الكلاب لعموم السبب قولان وإذا قلنا بالعموم فولغ في الإناء جماعة كلاب أو كلب مرارا هل تتداخل مسببات الأسباب كالأحداث أو يغسل لكل كلب سبعا وللكلب كذلك قولان وقوله فليغسله هل يحمل على الندب أو الوجوب قولان إما لأن الأمر للوجوب لكن ههنا قرائن صرفته عنه وإما للخلاف في صيغة الأمر وهل هذا الأمر تعبد لتقييده بالعدد كغسل الميت ودلالة الدليل على طهارة الحيوان كما تقدم أو هو معلل بدفع مفسدة الكلب عن بني آدم لأن الكلب في أول مباشرة الماء يعلق لعابه بالإناء وهو سم ويؤكد ذلك أمره عليه السلام في بعض الطرق باستعمال التراب لزوال اللزوجة الحاملة للسم وأما عدد لسبع فمناسب بخصوصية لدفع السموم والأسقام قال عليه السلام في مرضه
أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن
وقال عليه السلام
من تصبح بسبع تمرات عجوة يضره ذلك اليوم سم ولا سحر
ولذلك أمر بالرقي سبعا في قوله
أعوذ بعزة الله وعظمته وقدرته من شر ما نجد
وإذا جاء أمر الله سلام من الله والحمد لله أو هو معلل بنجاسته لقوله عليه السلام
طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا
والطهارة ظاهرة في النجاسة ويخرج على هذا هل يغسل بالماء الذي في الإناء لطهارته أو لا يغسل لنجاسته قولان وهل يؤكل الطعام أو يطرح قولان وهل يمتنع القياس على الكلب لأنه تعبد أو يلحق به الخنزير بجامع الاستقذار قولان وهل هذا الأمر على الفور لأنه تعبد والعبادات لا تؤخر أو لا يتعيين غسله إلا عند إرادته استعماله بناء على نجاسته قولان ؟ واختار عبد الحق وسند التأخير فروع أربعة من الطراز الأول الأمر بالغسل مختص بالإناء فلو ولغ من حوض أو نهر لا يتعدى الحكم إليه لأنه تعبد الثاني الحكم مختص بولوغه فلو أدخل يده أو رجله فلا أثر لذلك خلافا ش الثالث إذا استعمل الإناء في الماء القليل قبل غسله هل يعتد به أو يغسل سبعا بعد ذلك يتخرج على اشتراط النية في غسله قال الباجي لا تشترط ويحتمل أن تشترط قياسا على اشتراطها في النضح ويحتمل الفرق فإن الغسل مما يزيل اللعاب والنضح لا يزيل شيئا فكان تعبدا بخلاف إناء الكلب الرابع هل يشترط الدلك قياسا على الوضوء لجامع التعبد به أو لا يشترط ويكفي إمرار الماء عليه ؟ ليس في ذلك نص ويحتمل ألا يشترط لأن غسله خرج عن المتعارف وإمرار الماء قد يسمى غسلا وقد قدمت المشهور عن مالك رحمه الله في حكاية الخلاف على العادة في الكتاب تحقيق قال في الكتاب وقد كان يضعفه وقال قد جاء هذا الحديث وما أدري ما حقيقته من التنبيهات قيل يضعف العمل به تقديما للكتاب والقياس عليه لأن الله تعالى أباح أكل ما أمسك الكلاب عليه ولم يشترط غسلا والقياس على سائر الحيوان وقيل يضعف العدد وقيل إيجابه للغسل وهو معنى قوله وما أدرى ما حقيقته أي ما المراد به من الحكم ويقال ولغ يلغ بالفتح فيهما من الطراز يضعف علة الحكم حتى يقاس عليه الخنزير الفصل الثاني في أجزاء الحيوان وقد تقدم حكم لحمه في الجواهر والعظم والقرن والظلف والسن كاللحم لحلول الحياة فيها وانحصار فضلاتها فيها بعد الموت فتكون نجسة وقال ابن وهب لا تنجس بالموت لقلة فضلاتها بخلاف اللحم وهل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعور لعدم حلول الحياة فيها قولان والأصواف والأوبار والشعور طاهرة قاله في الكتاب ووافقه أبو حنيفة وتردد قول الشافعي حجتنا أنها طاهرة قبل الموت فتكون طاهرة بعده عملا بالاستصحاب واستحسن في الكتاب غسلها لأن الجلد قد يعرق بعد الموت قال صاحب الطراز قال ابن المواز ما نتف منها فهو غير طاهر لما يتعلق به من أجزاء الميتة وفي شعر الخنزير خلاف فمذهب ابن القاسم أنه كشعور الميتة ومذهب أصبغ أنه كالميتة وناب الفيل نجس لتعذر ذكاة الفيل غالبا فيكون كعظام الميتة وقيل طاهر لشبهه بالقرن والأظلاف وقال مطرف إن صلق فهو طاهر كالمدبوغ من الجلود الميتة وإلا فلا وشعر الريش كالصوف وعظمه إن حل فيه الدم كالعظم وإن لم يحل فيه الدم فعلى القولين في طرف القرن والظلف والجلد بخلاف اللحم في تطهير الذكاة له في السباع إما بناء على القول بالكراهة وإما لأن الدباغ يعمل في جلد الميتة دون لحمها فكان أخف وكل شيء أبين عن حي مما تحله الحياة فهو ميت لأنه عليه السلام قدم المدينة وهم يحتذون أسنمة الإبل وأليات الغنم فقال ما أبين عن الحي فهو ميت الفصل الثالث في المنفصل عن الحيوان وفي الجواهر ما ليس له مقر كالدمع والعرق فطاهر لما في البخاري أنه عليه السلام استقبلهم على فرس عري وفي الدارقطني أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال عليه السلام نعم وبما أفضلت السباع ولأن الحياة علة الطهارة فتكون أجزاء الحي طاهرة إلا ما أخرجه الدليل والمسك وفأرته طاهران لأنه عليه السلام كان يتطيب به والدم المسفوح نجس إجماعا وغير المسفوح طاهر على الأصح بقوله تعالى ( أو دما مسفوحا ) فمفهومه أن ما ليس بمسفوح مباح الأكل فيكون طاهرا والأعيان النجسة كالبول والدم ونحوهما لا يقضي عليها بنجاسة في باطن الحيوان لصحة صلاة حامل الحيوان الحي كما وردت السنة صلي بصبي ولو حمل الإنسان عصفورا وصلى به لم أعلم في صحة صلاته خلافا والدماء كلها سواء حتى دم الحيتان طردا للعلة وخصصه الشيخ أبو الحسن لعدم اشتراطه ذكاته ولمالك في دم الذباب والقراد قولان كما سبق وعفا مالك رحمه الله مرة عن يسير القيح والصديد كيسير الدم وألحقه مرة بالبول لمزيد استقذاره على الدم وفي الطراز القيء والقلس طاهران إن خرجا على هيئة طعام والمعدة عندنا طاهرة لعلة الحياة والبلغم والصفراء ومرائر ما يؤكل لحمه والدم والسوداء نجسان فإذا خالط القيء أو القلس أحدهما أو عذرة تنقلب إلى جهة المعدة تنجس والبول والعذرة نجسان من بني آدم وقيل إلا ممن لم يأكل الطعام لما في الموطأ أن أم قيس أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إليه عليه السلام فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا عليه السلام بماء فنضحه ولم يغسله وقيل ذلك في الذكر دون الأنثى لأنه تميل النفوس إليه فيحمل بخلافها والمشهور الأول لأن غذاء الجنين من دم الحيض وهو نجس إجماعا وأما الحديث فالنضح فيه محمول على إتباعه بالماء وهو طري فذهبت أجزاء الماء بأجزاء النجاسة وهو المقصود من التطهير من التبصرة ولا خلاف في نجاسة ثفلهما وإن لم يأكلا في الجواهر وهما طاهران من كل حيوان مباح الأكل مكروهان من المكروه نجسان من المحرم لما في مسلم
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عكل أو عرنة فاجتووا المدينة فأمر لهم عليه السلام بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالهم وألبانها
الحديث مع قوله عليه السلام
إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها
والمراد بالجعل المشروعية فدل ذلك على طهارتها وإلا لما أمرهم بذلك ولأن غذاء المباح طاهر وأمعاءه طاهرة وإلا لما كانت مباحة وتغير الطاهر في الطاهر لا ينجسه كالمتغير في الآنية وأما المحرم فتختلط رطوبات الأمعاء وهي محرمة نجسة فينجس الطعام وقد ظهر بذلك المكروه وقيل هما نجسان من الجميع طردا لعلة الاستقذار وفرق للمشهور بأن الاستقذار في البول والعذرة أتم منه في مأكول اللحم والقاصر عن محل الإجماع لا يلحق به فلا ينجس أرواث المأكول وهو المطلوب والمذي وكل رطوبة أو بلل يخرج من السبيلين فهو نجس ومنه المني خلافا ش إما لأن أصله دم أو لمروره في مجرى البول ويتخرج على ذلك طهارة مني ما بوله طاهر من الحيوان وقد ورد على الأول أن الفضلات في باطن الحيوان لا يقضي عليها بالنجاسة كما تقدم وليس أصله نجسا فينبغي أن يقال علة التنجيس الاستقذار بشرط الانفصال وقد حصلت العلة بشرطها فيتعين التنجيس لأنا نتكلم بعد الانفصال ويحقق ذلك ما في مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه ومنه أن رجلا نزل ضيفا بعائشة رضي الله عنها فأصبح يغسل ثوبه فقالت له إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه وإن لم تر نضحت حوله لقد رأيتني أفركه من ثوبه عليه السلام فركا فيصلي والألبان طاهرة من مأكول اللحم وكذلك لبن بنات آدم لأن تحريمهن لحرمتهن ولأن الرضاع جائز وبعد إنقضاء زمن الضرورة إليه فلو لم يكن مباحا لمنع ولبن الخنزير نجس وما عدا ذلك فمختلف فيه فقيل طاهر قياسيا على لبن بنات آدم ولبعد الاستحالة وضعف الاستقذار وقيل تابعة للحوم لأنها فضلاتها وقيل مكروهة من المحرم الأكل والبيض طاهر مطلقا لأنه من الطير وهو طاهر الرابع فيما يلابسه وفيه فروع ثمانية الأول في الجواهر ما غذاؤه النجاسة أو غالب غذائه فروثه نجس لكون المنفصل أجزاء المتناول وقيل طاهر لبعد الاستحالة الثاني قال الأعراق طاهرة وإن كان صاحبها يتناول النجاسة وكذلك البيض واللبن لبعد الاستحالة وقيل نجسة نظرا للتولد الثالث قال رماد الميتة والمتحجر في أواني الخمر نجس لأنه جزء النجاسة وقيل طاهر للاستحالة الرابع قال الحيوان الذي شأنه أكل النجاسة الملازم لنا كالهر والفأرة يقضي بطهارته حتى تتعين نجاسته وغير الملازم كالطير إن تعينت نجاسته قضي بها فإن لم تتعين فمكروه في الماء ليسارته ويؤكل الطعام لحرمته وقيل ينجس عملا بالغالب وقيل طاهر عملا بالأصل الخامس مرتب على الرابع من التبصرة إن توضأ بهذا الماء وصلى قال في المدونة يعيد في الوقت مراعاة للخلاف وإن كان قد أمره بالتيمم مع وجوده لنجاسته السادس في الجواهر سؤر أهل الذمة وشاربي الخمر كسؤر الجلالة ولا يصلي بثيابهم حتى تغسل وثوب غير المصلي كذلك إلا ما كان على رأسه ويصلي في ثياب المصلين إلا في الوسط الذي يقابل الفرج من غير حائل لقلة معرفة الاستبراء في الناس من غير العلماء السابع من التبصرة إذا طبخ اللحم بماء نجس قال مالك يغسل ويؤكل وقال أيضا لا يؤكل وهو أحسن لقبول أجزاء اللحم النجاسة وكذلك الزيتون يطرح في ماء نجس والبيض يطبخ فيه أو يوجد بعضه فاسدا نجسا وقد طبخ مع غيره قولان الثامن منها أيضا أجرى مالك رحمه الله الماء النجس مجرى الميتة لا يسقى لبهيمة ولا نبات وقال أيضا يجوز وقال ابن مصعب لا يسقى ما يؤكل لحمه بخلاف الزرع والنخل فعلى القول الأول لا يؤكل الحيوان أو النبات الذي شربه حتى تطول مدته وتتغير أعراضه وفي المدونة لا بأس أن يعلف النحل العسل النجس وفي الترمذي أنه عليه السلام
نهى عن أكل لحوم الجلالة وألبانها
قاعدة تبين ما تقدم وهي أن الله تعالى إنما حكم بالنجاسة في أجسام مخصوصة بشرط أن تكون موصوفة بأعراض مخصوصة مستقذرة وإلا فالأجسام كلها متماثلة واختلافها إنما وقع بالأعراض فإذا ذهبت تلك الأعراض ذهابا كليا ارتفع الحكم بالنجاسة إجماعا كالدم يصير منيا ثم آدميا وإن انتقلت تلك الأعراض الى ما هو أشد استقذارا منها ثبت الحكم فيها بطريق الأولى كالدم يصير قيحا أو دم حيض أو ميتة وإن انتقلت إلى أعراض أخف منها في الاستقذار فهل يقال هذه الصورة قاصرة عن محل الإجماع في العلة فيقصر عنها في الحكم أو يلاحظ أصل العلة لا كمالها فيسوى بمحل الإجماع ؟ هذا موضع النظر بين العلماء في جملة هذه الفروع المتقدمة ولذلك فرق علماؤنا رحمة الله عليهم بين استحالة الخمر إلى الخل قضوا فيه بالطهارة وبين استحالة العظام النجسة إلى الرماد لما فيه من بقية الاستقذار وعدم الانتفاع بخلاف الأول وبهذا التقرير يظهر بطلان قول القائل إزالة النجاسة من باب الرخص محتجا بأن سبب تنجيس الماء وغيره ملاقاته للنجاسة فما من ماء يصل إلى المحل إلا ويتنجس والثاني يتنجس بالأول وهلم جرا حتى لو فرض صب الماء من أعلى جبل بإبريق نجس ما في الإبريق فوق الجبل بالنجاسة الكائنة أسفله بسبب ملاقاة كل جزء لجزء تنجس قبله بأن تجيب عن ذلك بأن الأعراض المخصوصة المستقذرة التي حكم الشرع لأجلها بالنجاسة منفية بالضرورة فيما بعد عن النجاسة فلا يكون نجسا الوسيلة الرابعة إزالة النجاسة والكلام في حقيقتها وحكمها والمستثنيات من أجناسها فهذه ثلاثة فصول الفصل الأول في حقيقتها ويتعلق الغرض بنفس الفعل وبماذا يكون وفي أي محل يكون فهذه ثلاثة أقسام القسم الأول نفس الفعل وفي الجواهر ولا بد من إذهاب عينها وأثرها فإن بقي الطعم فهي باقية وأما اللون والريح فإن كان زوالهما متيسرا أزيلا وإلا تركا كما يعفي عن الرائحة في الاستنجاء إذا عسر زوالها من اليد أو المحل فروع أربعة الأول في الجواهر إذا انفصلت الغسالة عن المحل متغيرة فهما نجسان وإلا فطاهران الثاني لا يضر بقاء بعض الغسالة في المحل إذا كانت متغيرة ولا يشترط العصر الثالث قال إذا لم يتيقن محل النجاسة غسل الثوب أو الجسد كله لتحصيل يقين الطهارة الرابع قال صاحب التلخيص لا تشترط النية في إزالتها وقيل تشترط قاعدة التكاليف على قسمين أوامر ونواه فالنواهي بجملتها يخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها ولا شعر بها نحو خروجنا عن عهدة شرب كل خمر لم نعلمه وقتل كل إنسان لم نعرفه ونحو ذلك والأوامر على قسمين منها ما تكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحة بغير نية كرد المغصوب وأداء الديون والودائع ونفقات الزوجات والأقارب والرقيق والبهائم فإن الإنسان إذا فعل ذلك بغير نية خرج عن عهدتها لأن المصالح المفصودة منها الانتفاع بتلك الأعيان وقد حصلت فلا يضر فقد النية ومنها ما لا تكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحة كالصلاة والحج والصيام فإن المقصود منها تعظيم الرب تعالى وإجلاله والخضوع له بها وذلك إنما يحصل إذا قصد الله سبحانه وتعالى بها كمن عظم إنسانا بصنع طعام له فأكله غير من قصده فإن التعظيم للأول دون الثاني فمنشأ الخلاف في إزالة النجاسة هل الله سبحانه وتعالى حرم على عباده المثول بين يديه ملابسين للنجاسات فتكون من باب المحرمات فيستغنى عن النية أو أوجب عليهم أن يتطهروا من الخبث كما يتطهرون من الحدث فتكون من باب المأمورات التي لا تكفي صورتها في تحصيل مصلحتها فتحتاج إلى النية ؟ تتمة في الجواهر إذا شك في إصابة النجاسة المحل نضحه لما في مسلم أنه عليه السلام أتي بحصير قد اسود من طول ما قد لبث فنضحه صلى الله عليه وسلم فصلى عليه فإن تحقق الإصابة وشك في النجاسة فقولان والفرق أن الاستقذار سبب والإصابة شرط وتعلق الحكم بسببه أقوى من تعلقه بشرطه لأنه يلزم من وجود السبب وجود الحكم بخلاف الشرط فإن شك فيهما فلا ينضح لأن الأصل عدمها ثم هل يفتقر النضح إلى نية لكونه تعبدا لنشره النجاسة من غير إزالة فأشبه العبادات أو لا يفتقر لكونها طهارة نجاسة ؟ والنضح عام لما شك فيه الجسد فيتعين غسله لقول عليه السلام
إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده منه
فأمره بالغسل للشك وقيل ينضح طردا للعلة والقولان في المدونة لأنه أمر بغسل الأنثيين إن خشي أن يصيبهما مذى وهذا يقتضي استثناء الجسد من قاعدة النضح وقال أيضا فيها النضح طهور لما شك فيه وهذا عام والأول هو الظاهر من كلام صاحب الطراز وصاحب النكت والقاضي في التنبيهات نقله عن العراقيين وهو الأظهر من كلام المدونة فإنه لما نص على خصوص الجسد أمر بالغسل وحيث عمم أدرجه مع غيره فيحتمل التخصيص وحكى ابن شعبان وجماعة القول الثاني وقال صاحب الجواهر هو المشهور وفيه نظر لما ذكرته من قول المغاربة والعراقيين وظاهر المدونة فرع في الجواهر مرتب على من أمر بالنضح فصلى بلا نضح قال ابن القاسم وسحنون يعيد الصلاة لتركه فرضا وقال أشهب وابن نافع وعبد الملك لا إعادة عليه وعلله القاضي أبو محمد بأن النضح مستحب على الخلاف في ذلك قال القاضي أبو بكر النضح واجب ولما لم يكن مزيلاً لمستقذر لم يكن شرطا في الصلاة بخلاف إزالة النجاسة وقال ابن حبيب يعيد أبدا في العمد والجهل إلا أنه قد خفف فيمن احتلم في ثوبه فلم ينضح ما لم يره لخفة ذلك قال بعض المتأخرين ولم يقل أحد من الأصحاب بالإعادة من النسيان نظائر خمسة الأصل أن الواجب لا يسقط مع النسيان وأسقطه مالك رحمه الله في خمسة مواضع في النضح وغسل النجاسة والموالاة في الوضوء والترتيب في المنسيات والتسمية في الذكاة على القول بالوجوب في هذه الخمسة لضعف مدرك الوجوب بسبب تعارض المآخذ فقوي الإسقاط بعذر النسيان القسم الثاني بماذا يكون التطهير وهو إما إحالة كالخمر يصير خلا أو إزالة كالغسل بالماء أو بهما كالدباغ فروع الأول في الجواهر لا يجوز التطهير بغير الماء لقوله تعالى ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) والطهور هو الذي يتطهر به كما سلف أول الكتاب فيكون ذلك نصا على سببيته والأصل عدم سببية غيره فإن قاس الحنفية غيره عليه بجامع المائعية منعنا صحة القياس في الأسباب وإذا سلمت صحته فرقنا باليسر والرقة واللطافة فإن قالوا الخل وماء الليمون ألطف منه قلنا لا نسلم بدليل أن الخبز لا يفرق أجزاءه الخل ولا الليمون بخلافه وأن الليمون إذا وضع في مواضع العرق سدها للزوجته ومنعها من الخروج بخلاف الماء وإما إزالته لألوان المطبوع فذلك لإحالته اللون لا للطافته الثاني إذا مسح السيف أو المدية الصقلين أجزأ عن الغسل لما في الغسل من إفسادهما وقيل لأنه لم يبق من النجاسة شيء ولو مسح البدن مسحا بليغا حتى تذهب النجاسة في الحس لم يطهر لبقاء بعض أجزائها غالبا وقيل يطهر الثالث قال في الكتاب يغسل مواضع المحاجم فإن مسح أعاد ما دام في الوقت قال القاضي أبو بكر الصحيح أنه لا إعادة عليه ليسارة دم المحل الرابع إذا مسح الدم من فمه بالريق حتى ذهب ففي افتقاره للغسل قولان قال القاضي أبو بكر والصحيح تطهيره بالماء إن كان كثيرا وإلا عفي عنه ولا يطهر الريق شيئا القسم الثالث في أي محل يكون التطهير والأعيان ثلاثة أقسام منها ما لا يقبل التطهير كلحم الميتة والدم والبول والعذرة ومنها ما يقبل التطهير كالجسد والثوب ومنها ما اختلف فيه وفيه صور ثلاث والثوب ومنها اختلف فيه وفيه صور ثلاث الأولى جلد الميتة هل يطهر بالدباغ ؟ وقد تقدم الثانية تطهير الخمر بوضع الملح فيها ونحوه حتى تصير خلا قال ابن رشد في المقدمات فيها ثلاثة أقوال يجوز على كراهية أو يمنع والقولان لمالك رحمه الله ولسحنون إن إقتناها امتنع وإن عمل عصيرا فصار خلا جاز الثالثة الزيت النجس وفي الجواهر روي ابن القاسم طهارته بالغسل وقيل لا يطهر لأن لزوجة الزيت تمنع إخراج الماء لنجاسة أما إذا كانت النجاسة لا تخرج مع الماء كميتة أو شحم خنزير فلا خلاف أنها لا تطهر وصورة الغسل أن يجعل في قربة أو جرة ويلقى عليه مثله ماء أو نحوه ويخضخض ثم يقلب فم الإناء إلى أسفل وهو مسدود ساعة فيصير الدهن إلى القعر ويبقى الماء عند الفم فيفتح فيخرج الماء ويمسك الدهن ثم يسكب عليه ماء آخر قال المازري ثلاث مرات ونحوها الفصل الثاني في حكمها في الجواهر قال القاضيان ابن القصار وعبد الوهاب المذهب كله على وجوب الإزالة وإنما الخلاف في إعادة من صلى بها بناء على كونها شرطا في الصلاة أم لا وقال المازري وقع الاتفاق على تأثيم المصلي بها ومعنى قول بعض العلماء إنها سنة أن حكمها علم بالسنة وقال القاضي أيضا في شرح الرسالة وجماعة هي سنة والخلاف في إعادة من صلى بها مبني على الخلاف فيمن ترك السنن متعمدا واللخمي وغيره من المتأخرين المغاربة يقولون في المذهب ثلاثة أقوال الوجوب وهو رواية ابن وهب لإلزامه الإعادة بعد الوقت ناسيا أو عامدا والاستحباب لأشهب لاستحبابه الإعادة في الوقت عامدا أو ناسيا والوجوب مع الذكر والقدرة دون النسيان والعجز وهو ظاهر الكتاب لإيجابه الإعادة على غير المعذور بعد الوقت وأمر المعذور بالإعادة في الوقت فروع أربعة من الطراز الأول إذا ذكر النجاسة وهو في الصلاة قطع صلاته أمكنه طرحه أو لم يمكن على ظاهر الكتاب وقيل لا يقطع إذا طرح ما عليه لتوه لأنه خلع نعله ولم يعد وقيل لا يقطع في الحالين إما لأن إزالة النجاسة أخف أو قياسا على الرعاف والفرق أن التحرز من النجاسة ممكن بخلاف الرعاف زاد ابن الجلاب في هذا الفرع إن لم يمكنه طرحه قال عبد الملك يمضي على صلاته ويعيدها في الوقت فإن لم يذكر ذلك حتى فرغ أعاد في الوقت استحبابا فإن تعمد خروج الوقت فلا إعادة عليه عند ابن القاسم وقال محمد وعبد الملك يعيد بعد الوقت فرع مرتب إذا قلنا يقطع وقد بقي من الوقت ما لا يسع بعد إزالة النجاسة ركعة فيتخرج على الخلاف فيمن إذا تشاغل برفع الماء من البئر حتى خرج الوقت وهذا أولى بالتمادى لأن الصلاة بالنجاسة أخف من الصلاة بالحدث لوجوب رفعه إجماعا الثاني إن قلنا بالقطع فنسي بعد رؤيتها وأتم الصلاة قال ابن حبيب يعيد وإن ذهب الوقت لبطلان صلاته برؤيته وهذا ظاهر على القول بأنه يقطع وإن قلنا بأنه ينزع ولا يقطع فالصلاة صحيحة ولو كان ذاهبا قبل الصلاة ونسيها ففي الجواهر قال القاضي أبو بكر عن بعض العلماء إن عليه الإعادة وإنه مفرط واستضعفه بناء على اختصاص الوجوب بوقت الصلاة الثالث إذا كانت النجاسة تحت قدميه فرآها فتحول عنها خرجت على الخلاف في الثوب إذا أمكنه طرحه وإن كانت حول رجليه فلا شيء عليه الرابع قال أبو العباس الإيباني إذا كان أسفل نعله نجاسة فنزعه ووقف عليه جاز كظهر حصير الخامس من البيان قال مالك إذا علم في ثوب إمامه نجاسه إن أمكنه إعلامه فليفعل وإن لم يمكنه وصلى أعاد في الوقت قال يحي بن يحي الإعادة في الوقت وبعده أحب إلي وإنما خصصها مالك بالوقت مراعاة لقول من يقول كل مصل يصلي لنفسه وكذلك من علم أن الإمام غير متوضىء فليعلمه بذلك وليستأنف عند سحنون والذي يأتي على مذهب ابن قاسم أن الكلام لإصلاح الصلاة لا يبطل البناء وعدم الاستئناف وقيل في الملتبس إن أمكنه إعلامه بقراءة آية المدثر أو آية الوضوء فعل وتمادى على صلاته مع المستخلف الإمام وهو قول الأوزاعي وقال يحي ابن يحي وسحنون له أن يخرق الصفوف ويعلمه ولا يستدبر القبلة وبقية أحكام النجاسة تأتي في شروط الصلاة حجة الوجوب قوله تعالى ( وثيابك فطهر ) وقوله عليه السلام في الصحيح في صاحبي القبر
إن هذين ليعذبان وما يعذبان بكبير كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر لا يستبرىء من البول
ومن سنن الدارقطني عنه عليه السلام
استبرئوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه
ولأن البول تتعلق به طهارة حدث وطهارة خبث والأولى واجبة إجماعا فيكون الآخر كذلك عملا باتحاد السبب حجة الندب ما في الصحيح أنه عليه السلام خلع نعله فخلع الصحابة رضوان الله عليهم نعالهم فلما سلم قال ما بالكم خلعتم نعالكم قالوا رأيناك خلعت فخلعنا قال عليه السلام إن جبريل أخبرني أن فيها قذرا ويرى أذى ولم يعد صلاته ولا أبطل ما مضى منها وفي الموطأ أنه عليه السلام كان يصلي وهو يحمل أمامة بنت زينب ابنته رضي الله عنها فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها والغالب على ثياب الصبيان النجاسة وقد ألقت قريش على ظهره عليه السلام سلى جزور بدمها ولم يقطع صلاته ولا نقل أنه أعادها ولما تعارضت المآخذ كان النسيان مسقطا للوجوب لضعف مأخذه على المشهور الفصل الثالث في المستثنيات من أجناسها وتقدم قبل ذلك قاعدة وهي أن كل مأمور يشق على العباد فعله سقط الأمر به وكل منهي شق عليهم اجتنابه سقط النهي عنه والمشاق ثلاثة أقسام مشقة في المرتبة العليا فيعفى عنها إجماعا كما لو كانت طهارة الحدث أو الخبث تذهب النفس أو الأعضاء ومشقة في المرتبة الدنيا فلا يعفى عنها إجماعا كطهارة الحدث والخبث بالماء البارد في الشتاء ومشقة مترددة بين المرتبتين فمختلف في إلحاقها بالمرتبة العليا فتؤثر في الإسقاط أو بالمرتبة الدنيا فلا تؤثر وعلى هذه القاعدة يتخرج الخلاف في فروع هذا الفصل نظرا إلى أن هذه النجاسة هل يشق اجتنابها أم لا وفي هذا الفصل تسع عشرة صورة الصورة الأولى قال في الكتاب إذا رأى في ثوبه يسيرا من الدم وهو في الصلاة مضى على صلاته كان دم حيض أو غيره وإن نزعه فلا بأس من الطراز قال ابن حبيب وإن رآه قبل الدخول في الصلاة نزعه وإنما الرخصة في الصلاة أو بعدها وهذا خلاف ظاهر المذهب وقال صاحب الغرائب إن صلى به عامدا أعاد بخلاف الساهي والعلة في العفو عنه تكرره لاخفاؤه واختلف في اليسير قال مالك رحمه الله قدر الدرهم قال ابن عبد الحكم قدر المخرج لأنه معفو عنه وأنكر مالك رحمه الله في العتيبة التحديد وقال أبو طاهر الخنصر يسير والخلاف فيما فوقه إلى الدرهم من الطراز سوى مالك رحمه الله بين الدماء في العفو في المدونة وألحق في المبسوط دم الحيض بالبول وإذا قلنا بالعفو عنه فظاهر المذهب التسوية بين إضافته للحائض أو لغيرها وقال اللخمي يختلف في الدم اليسير يكون في ثوب الغير ثم يلبسه الإنسان لإمكان الانفكاك عنه وإذا قلنا لا يعفى عن دم الحيض فدم الميتة مثله عند ابن وهب ويعفى عنه عند ابي حبيب كدم المذكاة استصحابا لحكمة قبل الموت وإذا قلنا يعفى عن يسير دم الميتة فهل يعفى عن يسير دم الخنزير على ظاهر التسوية بين الدماء في الكتاب أو بفرق بينه وبين دم الميتة بأنه كان معفوا عنه في حالة الحياة ومباح الأكل إذا لم يسفح وبين دم الحيض بأنه دم إنسان والإنسان لا يتميز عن دمه وإذا قلنا يعفى عن دم الخنزير والميتة فهل يعفى عن اليسير من لحم الميتة لأنه على حكم الدم أو لا يعفى عنه ؟ وهو الظاهر لإمكان الاحتراز منه الصورة الثانية من البيان سئل مالك رحمه الله عما ينسجه النصارى ويسقونه بالخبز المبلول ويحركونه بأيديهم وهم أهل نجاسة قال لا بأس بذلك ولم يزل الناس يلبسونها قديما قال ابن رشد ولا فرق في القياس بين منسوجهم وملبوسهم في الانتفاع الصورة الثالثة من التبصرة قال مالك رحمه الله إذا وقعت قطرة من بول أو خمر في طعام أو دهن لا ينجس إلا أن يكون قليلا وقاله ابن نافع في حباب الزيت تقع فيها الفأرة وأمكن أن يقال إن هذا له أصل في الشرع يرجع إليه فلا يكون رخصة وهو أن القاعدة المجمع عليها إذا تعارضت المفسدة المرجوحة والمصلحة الراجحة اغتفرت المفسدة في جنب المصلحة كقطع اليد المتآكلة لبقاء النفس ونظائر ذلك كثير في الشرع والنقطة النجسة مشتملة على المفسدة وكل نقطة من المائع مشتملة على مصلحة فنقطة معارضة بنقطة وبقية المائع سالم من المعارض فيكون المائع طاهرا فإن قيل يشكل ذلك بالقليل من المائع قلنا الجواب من وجهين الأول أن أعظم المفسدة في إراقة المائع الكثير أتم الثاني أن هذه المفسدة يندر وجودها فغلبت في القليل طلبا للاحتياط الصورة الرابعة قال في الكتاب لا بأس بطين المطر وماء المطر المنتفع وفيه العذرة والبول والروث وما زالت الطرق كذلك وهم يصلون به قال الشيخ أبو محمد ما لم تكن النجاسة غالبة أو عينا قائمة قال أبو طاهر ولو كانت كذلك وافتقر إلى المشي فيه لم يجب غسله كثوب المرضعة الصورة الخامسة في الجواهر الجرح بمصل الدم وغيره يعفى عنه ما لم يتفاحش الصورة السادسة الدمل يسيل يعفى عنه ما لم يتفاحش الصورة السابعة قال ثوب المرضع يعفى عن بول الصبي فيه مالم يتفاحش قال في الكتاب وأستحب لها ثوبا آخر لصلاتها الصورة الثامنة قال الأحداث تستنكح ويكثر قطرها وإصابتها الثوب فيعفى عنها ما لم يتفاحش فرع إذا عفي عن الأحداث في حق صاحبها عفي عنها في حق غيره لسقوط اعتبارها شرعيا وقيل لا يعفى عنها في حق غيره لأن سبب العفو الضرورة ولم يوجد في حق الغير وفائدة الخلاف صلاة صاحبها بغيره إماما الصورة التاسعة قال بول الخيل بالنسبة إلى الغازي في أرض الحرب وقيل مطلقا يعفى عنه ما لم يتفاحش الصورة العاشرة قال دم على السيف أو المدية الصقيلين يعفى عن أثره دون عينه الصورة الحادية عشرة الخف يمشى به على أبوال الدواب وأرواثها يكفي فيه المسح وقيل الغسل فروع الأول من الطراز قال سحنون مسح الخف بالأمصار والمواضع التي تكثر فيها الدواب وما لا تكثر فيه الدواب لا يعفى عنه الثاني من الطراز حد المسح أن لا يخرج المسح شيئا مثل الاستجمار في خروج الحجر نقيا وقال أبو ثور يشترط انقطاع الريح وليس شرطا كما في الاستنجاء الثالث منه أيضا قال ابن القاسم في النوادر يغسل الخف من بول الكلب ولا يمسح ويشبه أن يلحق به الدجاج المخلاة لندرتها في الطرقات الرابع منه لو مشى بخفة على نجاسة ولا ماء معه فليخلعه ويتيمم لأن التيمم بدل من الوضوء والنجاسة لا بدل لها الصورة الثانية عشرة في الجواهر النعل إذا مشى به على أرواث الدواب وأبوالها دلكه وصلى لما في أبي داود عنه عليه السلام أنه قال إذا وطىء أحدكم بنعله الأذى كان التراب له طهوراً وفي رواية إذا وطئ أحدكم الأذى بخفه فطهورها التراب وقال ابن حبيب لا يجزيه لخفة النزع بخلاف الخف الثالثة عشرة قال بول من لم يأكل الطعام يغسل على المذهب وقيل يستثنى وقيل الذكر فقط وقد تقدم تقريره الرابعة عشرة قال إذا مشى برجله على نجاسة هل يجب غسلها لخفته أو يلحق بالنعل لتكرر ذلك والتفرقة للقاضي أبي بكر بن العربي ثلاثة أقوال الخامسة عشرة المرأة لما كانت مأمورة بإطالة ذيلها للستر جعل الشرع ما بعده طهورا له لما في الموطأ عن عبد الرحمن بن عوف عن إمرأة أنها قالت لأم سلمة إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقالت قال لها النبي عليه السلام
يطهره ما بعده
وقيل هذا حديث مجهول لأنه عن إمرأة لا تعرف حالها وحمله مالك رحمه الله عليه في الكتاب على القشب اليابس والقشب بسكون الشين المعجمة هو الرجيع اليابس وأصله الخلط بما يفسد وقشب الشيء إذا خلطه بما يفسد وهو رجيع مخلوط بغيره وقال التونسي الأشبه أن ذلك مما لا تنفك عنه الطرق من أرواث الدواب وأبوالها وإن كانت رطبة كما قال مالك في الخف وهذا تخريج حسن بجامع المشقة وهي في الثواب أعظم لأن كل أحد يمكنه نزع خفه ليجف بعد الغسل وليس كل أحد يجد ثوبا غير ثوبه حتى ينزعه وفي أبي داود في إمرأة من بني عبد الأشهل قالت قلت يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد مبنية فكيف نفعل إذا مطرنا فقال عليه السلام أليس بعدها طريق أطيب منها قالت بلى قال فهذه بهذه فقيل يطهر الخف ما بعده رطبا أو يابسا لهذه الأحاديث والمذهب الأول وهو مذهب الكتاب وخرج الأصحاب عليه من مشى برجله مبلولة على نجاسة ثم على موضع جاف السادسة عشرة قال ودم الفم يمجه بالريق حتى يذهب لم ير طهارته بذلك في الكتاب وقيل يطهر وقد تقدم تحريره السابعة عشرة قال دم المحاجم على ما تقدم في الخلاف في إزالة النجاسة الثامنة عشرة من الطراز يسير البول والعذرة يعلق بالذباب ثم يجلس على المحل يعفى عنه التاسعة عشرة في الجواهر الأحداث على المخرجين معفو عن أثرها ويتعلق الغرض ههنا بأربعة أطراف الأول بآداب قضاء الحاجة وهي ثلاثة عشر أدبا الأول من الجواهر طلب مكان بعيد لما في أبي داود كان عليه السلام إذا ذهب أبعد الثاني قال يستصحب ما يزيل به الأذى الثالث قال أن يتقي الملاعن لقوله عليه السلام
اتقوا اللاعنين قالوا يا رسول الله وما اللاعنان قال الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم
ويلحق بذلك مجالسهم والشجر لصيانة الثمر والأنهار لصيانة الموارد وسميت هذه ملاعن من باب تسمية المكان بما يقع فيه كتسمية الحرم حراما والبلد آمنا لما حل فيهما من تحريم الصيد وأمنه ولما كانت هذه المواضع يقع فيها لعن الفاعل الغائط من الناس سميت ملاعن الرابع قال يجتنب الموضع الصلب حذرا من الرشاش الخامس قال يجتنب المياه الدائمة المحبوسة لقوله عليه السلام في مسلم
لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه
ومحمله عند علمائنا على سد الذريعة عن فساده لئلا يتوالى ذلك فيفسد الماء على الناس السادس قال تقديم الذكر قبل دخول محل الخلاء لما في أبي داود إن هذه الحشوش مختصرة فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث قال الخطابي المحدثون يروون الخبث بإسكان الباء والصواب ضمها قال القاضي عياض والحشوش بالحاء المهلمة المضمومة وشينين معجمتين المراحيض واحدها الحش وهو النخل المجتمع بضم الحاء وفتحها وكانوا يستترون بها قبل اتخاذ الكنف وأصلها من الحش بالفتح وهو الزبر يكتنف الكنف أو يبرز منه فيها ومعنى محتضرة أي تحضرها الشياطين قال غيره الخبث جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة فأمر عليه السلام بالاستعاذة من ذكور الجن وإناثها قال ابن الأعرابي والخبث بالضم لغة المكروه يقول ذلك قبل دخوله الى موضع الحدث أو بعد وصوله إن كان الموضع غير معد للحدث وقيل يجوز وإن كان معدا له كما جرى الخلاف في جواز الاستنجاء بالخاتم مكتوبا فيه ذكر الله تعالى قال صاحب الطراز جوز مالك رحمه الله أن يدخل الخلاء ومعه الدينار والدرهم مكتوبا عليه اسم الله تعالى وجوز الاستنجاء بالخاتم وفيه اسم الله تعالى وقال لم يكن من مضى يتحرز منه قال ابن القاسم وأنا أستنجي به وفيه ذكر الله تعالى قال صاحب البيان وهذا محمول من ابن القاسم على أنه كان يعسر قلعه وإلا فاللائق بورعه غير هذا وكره ذلك ابن حبيب وهذا أحسن لكراهة مالك رحمه الله معاملة أهل الذمة بالدراهم والدنانير فيها اسم الله تعالى لنجاستهم وفي الترمذي كان عليه السلام إذا دخل الخلاء وضع خاتمه وصححه الترمذي وضعفه أبو داود وفي الصحيحين النهي عن مس الذكر باليمنى وذكر الله تعالى أعظم من ذلك السابع قال يديم الستر حتى يدنو من الأرض لما في الترمذي أنه عليه السلام
كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض
ويروى أن الله تعالى أوحى لإبراهيم عليه السلام إن استطعت ألا تنظر الأرض عورتك فافعل فاتخذ السراويل الثامن قال يبول جالسا إن كان المكان طاهرا لما في الترمذي قالت عائشة رضي الله عنها من حدثكم أنه عليه السلام كان يبول قائما فلا تصدقوه وما كان عليه السلام يبول إلا قاعدا ولأنه أبعد عن التنجيس فإن كان المكان رخوا نجسا فله أن يبول قائما لما في مسلم أنه عليه السلام أتى سباطة قوم خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم فبال والسباطة موضع الزبالة ورمي القاذورات فلذلك بال عليه السلام قائما التاسع الصمت لما في أبي داود لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله تعالى يمقت على ذلك ولا يرد سلاما لما في الترمذي أنه عليه السلام مر عليه رجل وهو يبول فسلم فلم يرد عليه قال صاحب الطراز وهذا يقتضي ألا يشمت عاطسا ولا يحمد إن عطس ولا يحاكي مؤذنا العاشر قال يجتنب البول في الحجر لما في أبي داود نهى عليه السلام أن يبال في الحجر قيل لأنها مساكن الجن وقيل خشية أذية الهوام الخارجة منها إما بسمها وإما بتنفيرها إياه فيتنجس الحادي عشر قال يجتنب المستحم لما في الترمذي أنه عليه السلام قال لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه أو يغتسل منه فإن عامة الوسواس منه الثاني عشر قال صاحب الطراز كان عليه السلام إذا خرج من الخلاء قال الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني وربما قال غفرانك رواه أبو داود قيل استغفاره لترك الذكر حالة الحاجة وعادته الذكر دائما وقيل إظهارا للعجز عن شكر النعم وقيل لأن عادته الاستغفار حتى كان يحفظ عنه في المجلس الواحد مائة مرة فجرى على عادته وورد على الأول أن ترك الذكر في تلك الحالة طاعة تأبى الاستغفار وعلى الثاني أن النعم في كل وقت معجوز عن شكرها فما وجه الاختصاص والصحيح الثالث الثالث عشر في الجواهر يجتنب القبلة لما في الموطأ من قوله عليه السلام إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول أو غائط ولكن شرقوا أو غربوا فإن كان الموضع لا ساتر فيه ولا مراحيض فلا يجوز استقبالها ولا استدبارها وإن وجد الساتر والمراحيض جاز ذلك لما في الموطأ أن ابن عمر رضي الله عنهما رآه عليه السلام في بيت حفصة مستدبرا الكعبة مستقبلا بيت المقدس فإن وجد المرحاض بغير سترة كمرحاض السطوح لما فيه من الحاجة قال مالك رحمه الله ولم تعن هذه المراحيض بالحديث ويسمى مرحاض السطوح كرياسا وما كان في الأرض كنيفا وإن وجد الساتر بغير مرحاض جاز أيضا لما في أبي داود أن ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها فقيل له أليس قد نهي عن هذا فقال لا إنما نهي عن ذلك في الفضاء فإن كان بينك وبين القبلة شيء يستر فلا بأس وقيل لا يجوز والخلاف يخرج على علة هذا الحكم فقيل إجلالا لجهة الكعبة لما روى البراز عنه عليه السلام من جلس يبول قبالة القبلة فذكر فينحرف عنها إجلالا لها لم يقم من مجلسه حتى يغفر له وقال الشعبي ذلك لحرمة المصلين والحشوش لا يصلي فيها وهذا أولى لجمعه بين الحديثين كشف إباحة استقبال المشرق والمغرب بالبول مخصوص ببلاد الشام واليمن وكل ما هو شمال البيت أو جنوبه فإن الشام شماله واليمن جنوبه فيكون البائل حينئذ يقابل البيت والمصلين بجنبه لا بعورته وهو المطلوب أما من كان المشرق والمغرب قبلته فينهي عن استقبالهما واستدبارهما ويباح الجنوب والشمال صونا لما أشار الشرع لصونه من الكعبة أو المصلين ومن قبلته النكباء التي بين الجنوب والصبا كبلاد مصر يستقبل النكباء التي بين المغرب والجنوب أو يستدبرها وقس على ذلك سائر الجهات وصمم على أن الحديث خاص منبه وليس عاما للأقطار فإنه عليه الصلاة والسلام خاطب به أهل المدينة وهم من أهل الشمال فكان الحديث موافقا لهم تتميم الرياح ثمانية الصبا وهي الشرقية والدبور وهي الغربية والجنوب وهي القبلية وتسمى اليمانية والشمالية وهي التي تقابلها وتسمى بمصر البحرية لكونها تأتي من جهة بحر الروم وتسمى الجنوبية المريسية لكونها تمر على مريسة من بلاد السودان وكل ريح بين ريحين فهي نكباء لكونها نكبت عن مجرى جاريتها فالأصول أربعة والنواكب أربعة وتأتي تتمة ذلك في استقبال القبلة في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى فرعان الأول قال صاحب الطراز لا يكره استقبال بيت المقدس لأنه ليس قبلة الثاني قال اللخمي الجماع كالبول يجامع كشف العورة وقيل يجوز في الفلوات لعدم الفصلة وهي جزء العلة وقيل إن كانا مكشوفين منع في الصحارى ويختلف في البيوت وإن كانا مستورين جاز في الموضعين الطرف الثاني فيما يستنجى منه والاستنجاء طلب إزالة النجو وقيل إزالة الشيء عن موضعه وتخليصه منه استنجت الرطب ونجوته وأجنيته والنجو الفضلة المستقذرة سميت بذلك لأن النجو جمع نجوة وهي المكان المرتفع فلما كان الناس يستترون بها غالبا سميت بها لتلازمها وقيل من نجوت العود أي قشرته وقيل من النجاء وهو الخلاص من الشيء وكذلك سميت غائطا لأن الغائط هو المكان المطمئن والغالب إلقاؤها فيه فلما لا زمها سمي بها وكذلك سمي برازا بفتح الباء لأن البراز هو المتسع من الأرض كانوا يذهبون إليه لقضاء الحاجة فسميت به لذلك وسمي خلاء لأنه يذهب بسببها إلى المكان الخالي والاستجمار طلب استعمال الجمار وهي الحجارة جمع جمرة وهي الحصاة ومنه الجمار في الحج وقيل من الاستجمار بالبخور والحجر يطيب الموضع كما يطيبه البخور ولذلك سمي استطابة لما فيه من تطييب الموضع والاستبراء طلب البراءة من الحدث لأن الاستفعال في لغة العرب غالبا لطلب الفعل كالاستسقاء لطلب السقي والاستفهام لطلب الفهم إذا تقررت معاني هذه الألفاظ ففي الجواهر الاستنجاء يكون عما يخرج من المخرجين معتادا سوى الريح فإن المقصود إزالة عين النجاسة وهي زائلة في الريح ولقوله عليه السلام
ليس منا من استنجى من الريح
ويجوز الاستجمار فيما عدا المني وكذلك المذي على المشهور ولما في أبي داود عنه عليه السلام
إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزىء عنه
قال الشيخ أبو بكر وغيره ويجزىء أيضا في النادر كالحصى والدم والدود وأما المني والمذي فلا يستنجي منهما لما فيهما من التخيط الذي يوجب نشرهما بالحجر ونحوه ولأن الحديث إنما جاء فيما يذهب فيه إلى الغائط وهذان لا يذهب فيهما إلى الغائط قال صاحب الطراز جوز القاضي الاستجمار من الدم والقيح وشبهه ويحتمل المنع لأن الأصل في النجاسة الغسل وترك ذلك في البول والغائط للضرورة ولا ضرورة ها هنا وأما الحصي والدود يخرجان جافين فعند الباجي هو طاهر كالريح لا يستنجي منه ولأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة عين النجاسة وليس ها هنا عين وإن وجد فيه أدنى بلة عفي عنها كأثر الاستجمار وإن كانت البلة كثيرة استجمر منها لأنها من جنس ما يستجمر منه بخلاف الدم فرعان له أيضا الأول المرأة لا يجزيها المسح بالحجر من البول لتعديه مخرجه إلى جهة المقعدة وكذلك الخصي الثاني يجب على الثيب أن تغسل من فرجها ما تغسل البكر لأن مخرج البول قبل مخرج البكارة والثوبة وإنما تختلفان في الغسل من الحيض فتغسل الثيب كل شيء ظهر من فرجها حالة جلوسها والبكر ما دون العذرة ويحتمل أن يقال إن البول يجري عليه وإليه فيغسل والأول أظهر لأن الشرع جعله من حكم الباطن بدليل أنه لا يستجيب غسله في الجنابة كالفم والأنف وفي الجواهر ويجب غسل الذكر كله من المذي خلافا ح و ش لما في الموطأ أن المقداد سأله عليه السلام عن الرجل يدنو من أهله فيخرج منه المذي فقال عليه السلام
إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءة للصلاة والفرج ظاهر في جملة الذكر وقال السيخ أبو بكر ابن المنتاب يغسل موضع الأذى خاصا قياسا على البول فعلى القول الأول تجب النية في الغسل لأنه عبادة لتعدية الغسل محل الأذى وقيل لا تحب لأنه من باب إزالة النجاسة وتعدية محله معلل بقطع أصل المذي والمذي بالذال المعجمة الساكنة وتخفيف الياء والذال المتحركة وتشديد الياء الطرف الثالث فيما يستنجى به وفي الجواهر هو الماء والأحجار وجمعها أفضل لإزالة العين والأثر ولأن أهل قباء كانوا يجمعون بين الماء والأحجار فمدحهم الله تعالى بقوله ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) والاقتصار على الماء أفضل من الاقتصار على الأحجار والاقتصار على الأحجار مجزىء لقوله عليه السلام في الحديث السابق
تجزىء عنه
وقال بعض أهل العلم يكره الماء لأنه مطعوم وقال ابن حبيب لا يجزىء مع القدرة على الماء وخصص الأحاديث بالسفر وعدم الماء ويقوم مقام الأحجار كل جامد طاهر منق ليس بمطعوم ولا ذي حرمة ولا شرف سواء أكان من نوع الأرض كالكبريت ونحوه أو غير نوعها كالخزف والحشيش ونحوهما خلافا لأصبغ لقوله عليه السلام في البخاري
ائتني بثلاثة أحجار ولا تأتيني بعظم ولا روث
واستثناء هذين يدل على أنه أراد الأحجار وما في معناها ولأصبغ إن طهارة الحدث والخبث اشتراكا في التطهير بالماء والجماد فكما لا يعدل بغير الماء من المائع فلا يعدل بغير جنس الأرض من الجماد والفرق بين التيمم والاستنجاء أن مقصود الاستنجاء إزالة العين فكل ما أزالها حصل المقصود والتيمم تعبد فلا يتعدى محل النص واشترطنا الطهارة لأنها طهارة والطهارة لا تحصل بالنجاسة ولقوله عليه السلام فيما تقدم
لا تأتيني بعظم ولا روث
واشترطنا ألا يكون مطعوما صونا له عن القذر وقد نهي عن الروث لأنه طعام للجان فأولى طعامنا واشترطنا ألا يكون ذا حرمة حذرا من أوراق العلم وحيطان المساجد ونحو ذلك واشترطنا عدم الشرف احترازا من الجواهر النفيسة واشترطنا المنقي احترازا من الزجاج والبلور ونحوهما لنشره النجاسة من غير إزالة فرع قال فإن استنجى بعظم أو روث أو طعام ونحو ذلك أجزأه خلافا ش لحصول المقصود وهو إزالة العين وفي الإعادة في الوقت خلاف لمراعاة الخلاف فرع مرتب عليه قال صاحب الطراز لو علقت به رطوبة الميتة أو تعلقت الروثة على المحل تعين الغسل فروع الأول قال ظاهر قول مالك رحمه الله جواز الاستجمار بالحمم لأنه لم يذكره عليه السلام في استثنائه ومنعه مرة لما في البخاري قدم وفد الجن عليه صلوات الله عليه فقالوا يا رسول الله إنه أمتك أن يستجمروا بعظم أو روث أو حممة فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقا فنهى عليه السلام عن ذلك الثاني لو استجمر بأصابعه أو ذنب دأبة أو شيء متصل بحيوان وأنقى أجزأ خلافا ش فإن الأمر بالأحجار إن كان تعبدا فينبغي أن يمنع الصوف والخرق وإن كان المقصود الإزالة فينبغي أن يصح بالجميع وما الفرق بين قلع صوف من ذنب دابة فيستنجى به أو يستنجى به متصلا فلا هو أعطى التعميم حكمه ولا هو أعطى التخصيص حكمه الثالث إذا انفتح مخرج للحدث وصار معتادا استجمر منه ولا يلحق بالجسد وما قارب المخرج مما لا انفكاك عنه غالبا قال ابن القاسم حكمه حكم المخرج لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستنجون مع اختلاف حالاتهم ولا يستعملون الماء والغالب وقوع مثل ذلك منهم وخالف ابن عبد الحكم لأن الأصل في النجاسة الغسل الطرف الرابع في كيفية الاستنجاء يكره الاستنجاء باليمين إلا لضرورة لما في البخاري عنه عليه السلام أنه قال
لا يمسك أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء
فيبدأ بغسل يده اليسرى قبل الملاقاة لأنه أبعد عن علوق النجاسة بيده ثم يغسل محل البول أولا لئلا تتنجس يده بالبول قال صاحب الطراز إلا أن تكون عادته إدرار البول عند غسل محل الغائط فلا فائدة حينئذ بتعجيله ثم ينتقل إلى محل الغائط ويرسل الماء ويوالي الصب على يده غاسلا بها المحل ويسترخي قليلا ليتمكن من الإنقاء ويجيد العرك حتى تزول اللزوجة ولا يضره بقاء الرائحة بيده وأما الأحجار فيستنجى بثلاثة أحجار لكل مخرج لما في البخاري
من استجمر فليوتر
ويبدأ بمخرج البول كما تقدم وإن أنقى بدونها أجزأه خلافا ش لأن الواحد وتر فيخرج به عن العهدة وقال أبو الفرج والشيخ إسحاق يلزمه طلبها لما في مسلم
لا يستجمر أحدكم بدون ثلاثة أحجار
ولأنها حكم شرعي فيتوقف على سببه كسائر الأحكام والحجر الذي له ثلاثة شعب يجزىء وقال ابن شعبان لا بد من ثلاثة أحجار وتتعين الزيادة على الثلاثة إن لم يحصل الإنقاء قال صاحب الطراز في صفة الاستجمار ثلاثة مذاهب أحدهما أن يمسح بكل حجر من الثلاث جملة المخرج وهو قول أكثر العلماء وثانيها يمسح بالأول الجهة اليمنى ثم يديره حتى يتناهى إلى مؤخر اليسرى ويبدأ بالحجر الثاني من مقدم اليسرى حتى ينتهي إلى مؤخر اليمين ثم يديره حتى ينتهي إلى مقدمها ويدير الثالث على جميعها لما روى في ذلك مالك أنه عليه السلام قال
يقبل بحجر ويدبر بحجر ويحلق بثالث
وهذا خلاف ما عهد في الزمن القديم وفيه الأعراب الجلف ولم يلزموا بتحديد مع عمومه وعموم البلوي فروع أربعة الأول الاستبراء واجب لما في البخاري أنه عليه السلام مر بحائط من حيطان مكة أو المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال عليه السلام
إن هذين يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى كان أحدهما لا يستنثر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة بين الناس
ورواه أبو داود
لايستتر
قال الهروي في الغريبين
الرواية لايستنثر
من الاستنثاروهو الجذب والنثر ومعنى ذلك أنه يشرع في الوضوء قبل خروج جميع البول فيخرج البول بعده فيصلي بغير وضوء فيلحقه العذاب لكن ليس عليه أن يقوم ويقعد ويتنحنح لكن يفعل ما يراه كافيا في حاله ويستبرىء ذلك بالنفض والسلت الخفيف وروى ابن المنذر مسندا أنه عليه السلام قال
إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثا ويجعله بين أصبعين السبابة والإبهام فيمرها من أصله إلى كمرته
الثاني لو ترك الاستنجاء والاستجمار وصلى بالنجاسة أعاد الصلاة أبدا إذا كان عامدا قادرا أو يعيد في الوقت على قاعدة إزالة النجاسة ولمالك رحمه الله في العتبية لا إعادة عليه لما في البخاري
من استجمر فليوتر
ورواية أبي داود
من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج
والوتر يتناول المرة الواحدة فإذا نفاها لم يبق شيء ولأنه محل تعم به البلوى فيعفى عنه كدم البراغيث قال اللخمي يتخرج على الخلاف في إزالة النجاسة قال ابن الجلاب في هذه الصورة أستحب له أن يعيد وضوءه وصلاته في الوقت قال صاحب الطراز كأن ابن الجلاب راعى في ذلك استخراج النجاسة من غضون الشرج فيكون محدثا فلذلك أمر بإعادة الوضوء الثالث إذا عرق في الثوب بعد الاستجمار قال صاحب الطراز وابن رشد يعفى عنه لعموم البلوى وقد عفي عن ذيل المرأة تصيبه النجاسة مع إمكان شيله فهذا أولى ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يستجمرون ويعرقون وقال ابن القصار ينجس لتعدى النجاسة محل العفو الرابع قال صاحب الطراز لو لم يذكر الاستجمار حتى فرغ من تيممه قبل الصلاة استجمر وأعاد التيمم فإن صلى قبل إعادة التيمم فلا يجزئه لأن التيمم لا بد أن يتصل بالصلاة وقد فرقه بإزالة النجو ويحتمل أن يجزئه كمن تيمم ثم وطىء نعله على روث فإنه يمسحه ويصلي الكلام على المقاصد وفيه ستة أبواب الأول في موجبات الوضوء وهي ثلاثة وعشرون موجبا وهي على قسمين أسباب ومظنات لتلك الأسباب القسم الأول السبب والسبب في اللغة الحبل ومنه قوله تعالى ( فليمدد بسبب إلى السماء ) أي فليمدد بحبل إلى سقف بيته فإن السقف يسمى سماء أيضا لعلوه ثم يستعمل في العلل لكون العلة موصلة للمعلول كما يوصل الحبل إلى الماء في البئر وفي العلم أيضا لكونه موصلا للهداية ومنه قوله تعالى ( وآتيناه من كل شيء سببا ) أي علما يهتدى به السبب الأول الفضلة الخارجة من الدبر وتسمى غائطا ونجوا وبرازا وخلاء فالغائط أصله المكان المطمئن من الأرض والنجو جمع نجوة وهي المكان المرتفع والبراز بفتح الباء ما بعد عن العمارة من المواضع ومنه برز الفارس لقرنه وبرزت الثمرة من أكمامها والخلاء الموضع الخالي من الناس ولما كانت الفضلة توضع في الأول ويستتر بها بالثاني ويذهب بسببها للثالث والرابع استتارا عن أعين الناس سميت بجميع ذلك للملازمة ومن تسميتها بالرابع قوله عليه السلام
اتقوا اللاعنين قالوا يا رسول الله وما اللاعنان قال الذي يتخلى في طرق الناس وظلالهم
الثاني البول الثالث الريح الخارج من الدبر خلافا ش في اعتباره الخارج من الذكر وفرج المرأة وإن كان نادرا الرابع الودي بالذال المعجمة والمهملة وسكونها وتخفيف الياء وكسرها وتشديد الياء ويقال ودى وأودى وهو الماء الأبيض الخارج عقيب البول بغير لذة والأصل في هذه الأربعة قوله تعالى ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) ومعناه أو جاء أحدكم من المكان المطمئن فجعل تعالى الإتيان منه كناية عما يخرج فيه عدولا عن الفحش من القول والخارج غالبا في ذلك المكان هو هذه الأربعة فوجب أن تكون أسبابا الخامس المذي بالذال المعجمة وسكونها وتخفيف الياء وكسر الذال وتشديد الياء ويقال مذي وأمذى وهو الماء الأصفر الخارج مع اللذة القليلة والأصل فيه ما في الموطأ وغيره أن علي بن أبي طالب أمر المقداد أن يسأل رسول الله عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج المذي منه ماذا عليه ؟ قال علي رضي الله عنه فإن عندي ابنة رسول الله وإني أستحي أن أسأله قال المقداد فسألت رسول الله عن ذلك فقال
إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة
والمراد بالنضح ههنا الغسل فيجب غسل الذكر قبل الوضوء وهل يفتقر إلى النية لأنه عبادة لوجوب غسل ما لم تمسه نجاسة أو لا يفتقر إلى النية لكون الغسل معللا بقطع أصل المذي ؟ قولان
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29