كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

ومفعول « شاء » محذوف ، لأن الجواب يدل عليه . والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ، وهذا الحذف في « شاء » و « أراد » كثير لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كقوله :
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وقال عز من قائل { لو أرذنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه } [ الأنبياء : 17 ] وكلمة « لو » تفيد انتفاء الثاني لانتفاء الأول . وقد تجيء للمبالغة كقوله « نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه » والمراد أن عدم العصيان ثابت على كل حال لأنه على تقدير عدم الخوف ثابت ، فعلى تقدير الخوف أولى . والشيء أعم العام كما أن الله أخص الخاص ، يجري على الجوهر والعرض والقديم والحادث بل على المعدوم والمحال . وهذا العام مخصوص بدليل العقل ، فمن الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل والواجب وجوده لذاته ، وأما الممكن فإبقاؤه على العدم وكذا إيجاده وإبقاؤه على وجوده ، لأن جميع ذلك بقدرة القادر فلا يستغنى آناً من الآنات ولحظة من اللحظات عن تأثير القادر فيه . وقدرة كل قادر على مقدار قوته واستطاعته ، ونقضيها العجز . فلا قادر بالحق إلا هو سبحانه وتعالى .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

القراآت : « خلقكم » مدغماً : أبو عمرو وكذلك كل ما كان قبلها متحرك . وازاد عباس كل ما كان قبلها ساكن مثل { ما خلقكم } { وصديقكم } و { بورقكم } و { ميثاقكم } وأشباه ذلك . قال ابن مجاهد : يدغمها بإظهار صوت القاف . وقال غيره - وهو ابن مهران - لا يظهر ذلك وكل صواب .
الوقوف : « تتقون » ( 5 ) لأن « الذي » صفة الرب تعالى . « بناء » ( ص ) لعطف الجملتين المتفقتين « لكم » ( ج ) لانقطاع النظم مع فاء التعيب . « تعلمون » ( 5 ) .
التفسير : لما قدم الله تعالى أحكام فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم ومجاري أمورهم عاجلاً وآجلاً ، أقبل عليهم بالخطاب وهو من جملة الالتفات الذي يورث الكلام رونقاً وبهاء ويزيد السامع هزة ونشاطاً . ومن لطائف المقام أنه تعالى كأنه يقول : جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولاً ، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة ، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة . وفيه إشعار بأن العبد مهما اشتغل بالعبودية زاد قرباً وحضوراً . وأيضاً الآيات المتقدمة حكايات أحوالهم وهذه أمر وتكليف وفيه كلفة ومشقة ، فلا بد من راحة وهي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته ، فيستطاب التكليف بالتكليم حينئذ ويستلذ هذا . وقد صح الإسناد عن علقمة أن كل شيء نزل فيه « يا أيها الناس » فهو مكي و « يا أيها الذين آمنوا » فهو مدني فقوله { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } خطاب لمشركي مكة بحسب هذا النقل ، وإن كان من الجائز أن يخاطب المؤمنون باسم جنسهم ويؤمروا بالاستمرار على العبادة والازدياد منها . « ويا » حرف وضع لأجل التخفيف مقام أنادي الإنشائية لا الإخبارية . وههنا نكتة وهي أن أقوى المراتب الاسم ، وأضعفها الحرف ، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف ، فكذا أقوى الموجودات هو الحق سبحانه وأضعفها البشر { وخلق الإنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] فقالت الملائكة : ما للتراب ورب الأرباب { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] فقيل لهم : قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء ، فكذا البشر يصلح لحضرة الرب حال التضرع والدعاء { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [ البقرة : 186 ] { فاذكروني أذكركم } [ البقرة : 152 ] و « يا » وضع في أصله لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديراً لكونه ساهياً أو غافلاً أو نائماً ، أو لتبعيد المنادي نفسه عن ساحة عزة المنادى هضماً واستقصاراً كقول الداعي في جؤاره : يا رب يا الله . مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد ، ليتحقق الإجابة بمقتضى قوله « أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي » وقد ينادي القريب .

( 3 ) المقاطن في غير هذه الصورة بيا ويكون المراد به أن الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جداً نحو { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 183 ] { يا عبادي } [ الزمر : 53 ] { يا أيها النبي } [ الأحزاب : 45 ] لأن ما يعقبها أمور عظام وخطوب جسام من الأوامر والنواهي والعظات ، عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها . وأي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ، وهو اسم مبهم يوصف باسم جنس ليصح المقصود بالنداء مع ضرب من التأكيد المستفاد من الإبهام ثم التوضيح . وفي حرف التنبيه المقحم فائدتان : معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه ووقوعها عوضاً مما يستحقه أي من الإضافة . ثم إن قلنا : إن الخطاب عام لجميع المكلفين لأن الجمع المعرف باللام يفيد العموم بدليل صحة تأكيده « بكل » و « أجمعون » في مثل قوله { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } [ ص : 73 ] ، بدليل صحة الاستثناء ، فالأقرب أنه لا يتناول إلا الموجودين في ذلك العصر ، وإنما يتناول الذين سيوجدون بدليل منفصل هو ما عرف بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، أن حكم الموجودين في عصره حكم من سيوجد إلى قيام الساعة . وإن قلنا : إن الخطاب لمشركي مكة فيدخل سائر الناس بالتبعية على قياس ما قلنا .
والمراد من قوله « اعبدوا » صححوا نسبة العبادة ، وذلك بأن يعرف نفسه بالإمكان ليعرف ربه بالوجوب ، ويعرف نفسه بالمملوكية ليعرف ربه بالمالكية ، ويعرف نفسه بالمقهورية والمقدورية ليعرف ربه بالقاهرية والقادرية ، ويعرف نفسه بالمأمورية والذلة ليعرف ربه بالآمرية والعزة ، فلا يتجاوز حده ولا يعكس هذه القضايا فلا يرى لنفسه تصرفاً بوجه من الوجوه ولا قدرة بنوع من الأنواع ، وإنما يكون عبداً ذليلاً ماثلاً بين يدي مولاه ، طائعاً له بكل ما يأمره وينهاه ، لأنه إذا تصور كونه عبداً فلا بد أن يطلب لنفسه سيداً ، وإذا وجد السيد فلا محالة يوطن نفسه لطاعته وانقياده ، ولا يرى مخالفته في شيء أصلاً { إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وإلا لم تصح نسبة عبوديته . عن الأصمعي أنه أتى بغلام ليشتريه فقال له : ما اسمك؟ قال : ما تسميني قال : أي شيء تأكل؟ قال : ما تطعمني . قال : ما تشرب؟ قال : ما تسقيني قال : تريد أن أشتريك؟ قال : العبد لا يكون له إرادة والأمر بالعبادة بهذا المعنى يشمل الكافر والمؤمن وكل من فيه أهلية الخطاب ، ويندرج فيه المبادي والنهايات والأصول والفروع . ثم إنه تعالى لما علم القصور البشري وضعف قواهم الفطرية والفكرية أرشدهم إليه ونبههم عليه بقوله { ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } واعلم أن الطريق إلى معرفة الواجب سبحانه وتعالى بعد ما قلنا من الرجوع إلى النفس والتنبه لسمة العبودية ، إما الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما ، وكل منهما في الجواهر أو في الأعراض أما الاستدلال بإمكان الذوات فإليه الإشارة بقوله تعالى

{ والله الغني وأنتم الفقراء } [ محمد : 38 ] { وأن إلى ربك المنتهى } [ النجم : 42 ] وأما الاستدلال بإمكان الصفات فإليه الإشارة بقوله { خلق الله السموات والأرض } [ العنكبوت : 44 ] { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } وبحدوث الأجسام قول إبراهيم عليه السلام { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] وبحدوث الأعراض دلائل الأنفس ودلائل الآفاق ، فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه كان معدوماً قبل ذلك ، والموجود بعد العدم له موجد وليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس لعجز الكل ، ولا طبائع الفصول والأفلاك الآفلات في أفق الإمكان فهو شيء غير متسم بسمة الحدوث والنقصان ، وهذا الطريق هو أقرب الطرق إلى الأفهام ، فلهذا أورده الله تعالى في فاتحة كتابه لينتفع به الخاص والعام مع أن فيه تذكيراً لنعمه السابقة وعطيته السابغة عليهم وعلى آبائهم ، وتذكير النعم مما يوجب المحبة والميل إلى الإنصاف وترك الجدال .
وأما قوله « لعلكم تتقون » ففيه بحثان : الأول : كلمة « لعل » للترجي أو الإشفاق ولا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وهو على الله محال والجواب أن الترجي راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى كقوله { لعله يتذكر أو يخشى } أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، ثم الله عالم بما يؤول إليه أمره . وأيضاً فمن ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم لإنجازها على أن يقولوا « عسى » و « لعل » ، وحينئذ لا يبقى لطالب ما عندهم شك في الفوز والنجاح بالمطلوب ، أو جاء على طريق الأطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد مثل { توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيآتكم } [ التحريم : 8 ] وقع « لعل » موقع المجاز لا الحقيقة لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات وأزاح العلة في إقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المترجي بين أن يفعل وبين أن لا يفعل ، ونظيره { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } [ الملك : 2 ] وهذا الجواب مبني على أن قوله « لعلكم » متعلق « بخلفكم » مثل { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لا ب « اعبدوا » وقيل : « لعل » بمعنى « كي » ووجه بأنها للأطماع والكريم الرحيم إذا أطمع فعل ، فجرى إطماعه مجرى وعده المحتوم فلهذا قيل : إنها بمعنى « كي » قال القفال : في « لعل » معنى التكرير والتأكيد إذ اللام للإبتداء نحو « لقد » ، ولقولهم علك أن تفعل كذا و « عل » يفيد التكرير ومنه العلل بعد النهل . فقول القاتل « افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك » معناه افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه .

( البحث الثاني ) : إذا كانت العبادة تقوى فقوله « لعلكم تتقون » جار مجرى قوله : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون واتقوا ربكم لعلكم تتقون . والجواب المنع من اتحاد مفهوميهما وخصوصاً على ما فسرنا إذ المعنى يعود إلى قولنا صححوا نسبة العبودية لتتصفوا بصفة التقوى وهي الاجتناب عن المعاصي فقط ، أو هو مع الإتيان بالأوامر ، وأما قوله : { هو الذي جعل لكم الأرض فراشاً } الآية . فنقول : فيه لفظ « الذي » مع صلته ، إما أن يكون في محل النصب بدلاً من « الذي خلقكم » أو على المدح والتعظيم ، وإما أن يكون رفعاً على المدح أيضاً أي « هو الذي » ، وكلمة « الذي » موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة . فقوله « جعل لكم الأرض فراشاً » قضية معلومة فأدخل عليها « الذي » كي ينتبهوا للجاعل ويعترفوا به . والحاصل أنه تعالى عدد في هذا المقام عليهم خمسة دلائل : اثنين من الأنفس وهما خلقهم وخلق أصولهم ، وثلاثة من الآفاق جعل الأرض فراشاً والسماء بناء والأمور الحاصلة من مجموعهما وهي إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات بسببه ، وسبب هذا الترتيب ظاهر لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه ، ثم ما منه منشؤه وأصله ، ثم الأرض التي هي مكانة ومستقره ، يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه ، ثم السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المبنيّة على هذا القرار ، ثم ما يحصل من شبه الازدواج بين المقلة والمظلة من إنزال الماء عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الحيوان من ألوان الغذاء وأنواع الثمار رزقاً لبني آدم . وأيضاً خلق المكلفين أحياء قادرين ، أصل لجميع النعم . وأما خلق الأرض والسماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة ، وذكر الأصول مقدم على ذكر الفروع . وأيضاً كل ما في السماء والأرض من الدلائل على وجود الصانع فهو حاصل في الإنسان بزيادة الحياة والقدرة والشهوة والعقل ، ولما كانت وجوه الدلالة فيه أتم كان تقديمه في الذكر أهم .
( وههنا مسائل ) :
الأولى في منافع الأرض : الفراش اسم لما يفرش كالمهاد لما يمهد والبساط لما يبسط ، وليس من ضرورات الافتراش أن يكون سطحها مستوياً كالفراش على ما ظن ، فسواء كانت كذلك أو على شكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع لعظم جرمها وتباعد أطرافها . ولكنه لا يتم الافتراش عليها ما لم تكن ساكنة في حيزها الطبيعي وهو وسط الأفلاك ، لأن الثقال بالطبع تميل إلى تحت كما أن الخفاف بالطبع تميل إلى فوق ، والفوق من جميع الجوانب ما يلي السماء ، والتحت ما يلي المركز ، فكما أنه يستبعد صعود الأرض فيما يلينا إلى جهة السماء ، فليستبعد هبوطها في مقابلة ذلك ، لأن ذلك الهبوط سعود أيضاً إلى السماء ، فإذن لا حاجة في سكون الأرض وقرارها في حيزها إلى علاقة من فوقها ، ولا إلى دعامة من تحتها ، بل يكفي في ذلك ما أعطاها خالقها وركز فيها من الميل الطبيعي إلى الوسط الحقيقي بقدرته واختياره

{ إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } [ فاطر : 41 ] ومما منَّ الله تعالى به على عباده في خلق الأرض أنها لم تجعل في غاية الصلابة كالحجر ، ولا في غاية اللين والانغمار كالماء ، ليسهل النوم والمشي عليها ، وأمكنت الزراعة واتخاذ الأبنية منها ويتأتى حفر الآبار وإجراء الأنهار . ومنها أنها لم تخلق في نهاية اللطافة والشفيف لتستقر الأنوار عليها وتسخن منها فيمكن جوارها . ومنها أن جعلت بارزة بعضها من الماء مع أن طبعها الغوص فيه لتصلح لتعيش الحيوانات البرية عليها ، وسبب انكشاف ما برز منها وهو قريب من ربعها أنها لم تخلق صحيحة الاستدارة بل خلقت هي والماء بحيث إذا انجذب الماء بطبعه إلى المواضع الغائرة والمنخفضة منها بقي شيء منها مكشوفاً ، وصار مجموع الأرض والماء بمنزلة كرة واحدة يدل على ذلك فيما بين الخافقين . تقدم طلوع الكواكب وغروبها للمشرقين على طلوعها وغروبها للمغربين ، وفيما بين الشمال والجنوب ازدياد ارتفاع القطب الظاهر وانحطاط الخفي للواغلين في الشمال ، وبالعكس للواغلين في الجنوب ، وتركب الاختلافين لمن يسير على سمت بين السمتين إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة يستوي في ذلك راكب البر وراكب البحر . ونتوء الجبال وإن شمخت لا يخرجها عن أصل الاستدارة لأنها بمنزلة الخشونة القادحة في ملاسة الكرة لا في استدارتها . ومنها الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية ، ولا يعلم تفاصيلها إلا موجدها . ومنها أن يتخمر الرطب به فيحصل التماسك في أبدان المركبات . ومنها اختلاف بقاعها في الرخاوة والصلابة والدماثة والوعورة بحسب اختلاف الأعراض والحاجات { وفي الأرض قطع متجاورات } [ الرعد : 4 ] ومنها اختلاف ألوانها { ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود } [ فاطر : 27 ] ومنها انصداعها بالنبات { والأرض ذات الصدع } [ الطارق : 12 ] ومنها جذبها للماء المنزل من السماء { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } [ المؤمنون : 18 ] ومنها العيون والأنهار العظام التي فيها { والأرض مددناها } [ ق : 7 ] ومنها أن لها طبع الكرم والسماحة تأخذ واحدة وترد سبعمائة { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } [ البقرة : 261 ] ومنها حياتها وموتها { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } [ يس : 33 ] ومنها الدواب المختلفة { وبث فيها من كل دابة } [ البقرة : 164 ] ومنها النباتات المتنوعة { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } [ ق : 7 ] فاختلاف ألوانها دلالة ، واختلاف طعومها دلالة ، واختلاف روائحها دلالة ، فمنها قوت البشر ، ومنها قوت البهائم { كلوا وارعوا أنعامكم } [ طه : 54 ] ومنها الطعام ، ومنها الإدام ، ومنها الدواء ، ومنها الفواكه ، ومنها كسوة البشر نباتية كالقطن والكتان ، وحيوانية كالشعر والصوف والإبريسم والجلود .

ومنها الأحجار المختلفة بعضها للزينة وبعضها للأبنية ، فانظر إلى الحجر الذي يستخرج منه النار مع كثرته ، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته ، وانظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير وقلة النفع بهذا الخطير . ومنها ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضة ، ثم تأمل أن البشر استنبطوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمك من قعر البحر ، واستنزلوا الطير من أوج الهواء ، لكن عجزوا عن اتخاذ الذهب والفضة . والسبب فيه أن معظم فائدتهما ترجع إلى الثمنية ، وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة والقدرة على اتخاذهما تبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب الله دونهما باباً مسدوداً ، ومن ههنا اشتهر في الألسنة « من طلب المال بالكيمياء أفلس » . ومنها ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار الصالحة للبناء والسقف ثم الحطب ، وما أشد الحاجة إليه في الخبز والطبخ . ولعل ما تركنا من المنافع أكثر مما عددنا ، فإذا تأمل العاقل في هذه الغرائب والعجائب اعترف بمدبر حكيم ومقدر عليم إن كان ممن يسمع ويعي ويبصر ويعتبر .
الثانية في منافع السماء : البناء مصدر سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ، وأبنية العرب أخبيتهم ، ومنه بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديداً . ثم إن الله تعالى زين السماء الدنيا بالمصابيح { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] وبالقمر { وجعل القمر فيهن نوراً } [ نوح : 16 ] وبالشمس { وجعل الشمس سراجاً } [ نوح : 16 ] وبالعرش { رب العرش العظيم } [ التوبة : 129 ] وبالكرسي { وسع كرسيه السموات والأرض } [ البقرة : 255 ] وباللوح { في لوح محفوظ } [ البروج : 22 ] وبالقلم { ن والقلم } [ القلم : 1 ] وسماها سقفاً محفوظاً وسبعاً طباقاً وسبعاً شداداً . وذكر أن خلقها مشتمل على حكم بليغة وغايات صحيحة { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } [ آل عمران : 191 ] { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا } [ ص : 27 ] وجعلها مصعد الأعمال ومهبط الأنوار وقبلة الدعاء ومحل الضياء والصفاء ، وجعل لونها أنفع الألوان وهو المستنير ، وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير ، ونجومها رجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وقيض للشمس طلوعاً يسهل معه التقلب لقضاء الأوطار في الأطراف ، وغروباً يصلح معه الهدوء والقرار في الأكنان لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ، وأيضاً لولا الطلوع لانجمدت المياه وغلبت البرودة والكثافة وأفضت غلى خمود الحرارة الغريزية وانكسار سورتها ، ولولا الغروب لحميت الأرض حتى يحترق كل من عليها من حيوان ونبات ، فهي بمنزلة سراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا . فصار النور والظلمة على تضادّهما متظاهرين على ما فيه صلاح قطان الأرض ، وههنا نكتة ، كأن الله تعالى يقول : لو وقفت الشمس في جانب من السماء فالغني قد يرفع بناءه على كوة الفقير الجار فلا يصل النور إلى الفقير ، لكني أدير الفلك وأسيرها حتى يجد الفقير نصيبه كما وجد الغني نصيبه .

أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله سبباً لإقامة الفصول الأربعة . ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ، ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر وتقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن . وفي الربيع تتحرك الطباع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء ، وينوّر الشجر ويهيج الحيوان للفساد . وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض ويتهيأ للعمارة والزراعة . وفي الخريف يظهر البرد واليبس فتدرك الثمار وتستعد الأبدان قليلاً قليلاً للشتاء . وأما القمر فهو تلو الشمس وخليفتها وبه يعلم عدد السنين والحساب ويضبط المواقيت الشرعية ، ومنه تحصيل النماء والرواء ، وقد جعل الله تعالى في طلوعه مصلحة وفي غيبته مصلحة . يحكى أن أعرابياً نام عن جمله ليلاً ففقده ، فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر فقال : إن الله صوّرك ونوّرك وعلى البروج دوّرك ، فإذا شاء نورك وإذا شاء كوّرك ، فلا أعلم مزيداً أساله لك ، ولئن أهديت إليّ سروراً لقد أهدى الله إليك نوراً ثم أنشأ يقول :
ماذا أقول وقولي فيك ذو قصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعاً فأنت كذا ... أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
وقد كان في العرب من يذم القمر ويقول : القمر يدرك الهارب ، ويهتك العاشق ، ويبلي الكتاب ، ويهرم الشاب ، وينسي ذكر الأحباب ، ويقرب الدين ، ويدني الحين . وكيفية ارتباط القمر وسائر الكواكب بالشمس وكمية حركتها وبيان اختلافات أوضاعها وعلل كل منها ، فن برأسه لا يحتمل إيراده ههنا . قال الجاحظ : إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعدّ فيه كل ما يحتاج إليه . فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه ، وضروب النبات مهيآت لمنافعه ، وصنوف الحيوان متصرفة في مصالحه ، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية .
الثالثة في أن السماء أفضل أم الأرض : قال بعضهم : السماء أفضل لأنها متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصي الله فيها ، ولما أتى آدم عليه السلام بتلك المعصية أهبط من الجنة وقال الله تعالى : لا يسكن في جواري من عصاني . وقال تعالى : { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } [ الأنبياء : 32 ] وقال : { تبارك الذي جعل في السماء بروجا } [ الفرقان : 61 ] وورد في الأكثر ذكر السماء مقدماً على ذكر الأرض . والسماويات مؤثرة والأرضيات متأثرة ، والمؤثر أشرف من المتأثر . وقال آخرون : بل الأرض أفضل لأنه تعالى وصف بقاعاً من الأرض بالبركة { إن أوّل بيت وضع للناس الذي ببكة مباركاً } [ آل عمران : 96 ] { في البقعة المباركة } [ القصص : 3 ] { إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } [ الإسراء : 1 ] { مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } [ الأعراف : 137 ] يعني أرض الشام . ووصف جملة الأرض بالبركة

{ وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام } [ فصلت : 10 ] فإن قيل : وأيّ بركة في المفاوز المهلكة؟ قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها ، ومساكن الناس إذا احتاجوا إليها ، ومساكن خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى ، فلهذه البركات قال تعالى : { وفي الأرض آيات للموقنين } [ الذاريات : 20 ] تشريفاً لهم لأنهم هم المنتفعون بها كما قال : { هدى للمتقين } وخلق الأنبياء من الأرض { منها خلقناكم } [ طه : 55 ] وأودعهم فيها { وفيها نعيدكم } [ طه : 55 ] وأكرم نبيه المصطفى فجعل الأرض كلها له مسجداً وطهوراً . ولما خلق الله الأرض وكانت كالصدفة والدرة المودعة فيها آدم عليه السلام وأولاده ، ثم علم الله أصناف حاجاتهم قال : يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال : { أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً } [ عبس : 25 ، 26 ] { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم } [ إبراهيم : 32 ] ياعبدي إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منها هذه المنافع؟ ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك ، فكيف الحال في الجنة؟ فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم ، لأن الأم تسقيك نوعاً واحداً من اللبن ، والأرض تطعمك ألواناً من الأطعمة . ثم قال : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } [ طه : 55 ] معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد ، لأن المرء لا يتوعد بأمه وذلك لأن مقامك من الأم التي ولدتك أضيق من مقامك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم الصغرى تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش ، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى؟ ولكن الشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى ، ما كانت لك زلة فضلاً من أن يكون لك كبيرة ، بل كنت مطيعاً لله ، فحيث دعاك مرة بالخروج إلى الدنيا خرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك ، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك .
الرابعة : معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرة الله ومشيئته أنه جعل الماء سبباً في خروجها ومادة لها كالنطفة في خلق الولد وهو قادر على إنشاء الأشياء بلا أسباب ومواد كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في هذا التدريج والتسبب حكماً يتبصر بها من يستبصر ، ويتفطن بها من يعتبر و « من » في « من الثمرات » للتبعيض . كما أنه قصد بتنكير « ماء » و « رزقاً » معنى البعضية لأنه مفرد في سياق الإثبات ، فكأنه قيل : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم وهذا معنى صحيح ، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات ، ولا جعل الرزق كله في الثمرات فيكون كل الثمرات بعض الرزق فضلاً عن بعضها . ويجوز أن تكون للبيان كقولك « أنفقت من الدراهم ألفاً » .

ثم إن كانت « من » للتبعيض كان انتصاب « رزقا » بأنه مفعول له ، وإن كانت للبيان كان مفعولاً لا « خرج » و « لكم » صفة جارية على الرزق إن أريد به العين ، وإن جعل مصدراً فهو مفعول به ، كأنه قيل : رزقاً إياكم . وإنما قيل : « الثمرات » على لفظ القلة وإن كان الثمر المخرج بماء السماء جماً كثيراً لأنه قصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك « فلان أدركت ثمرة بستانه » تريد ثماره كقولهم للقصيدة « كلمة » وللقرية « مدرة » ، أو لأن القلة وضعت موضع الكثرة نحو { ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] أو تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا في جنب ثمار الآخرة .
الخامسة : قوله « فلا تجعلوا » إما أن يتعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أنداداً ، لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل لله ند ولا شريك ، أو ب « لعل » فتنصب « تجعلوا » بعده مثل { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع } [ غافر : 37 ] في رواية حفص عن عاصم . أو « بالذي جعل لكم » إذا رفعته على الابتداء ، أي هو الذي نصب لكم هذه الأدلة القاطعة والآيات الناطقة بالوحدانية فلا تتخذوا له تعالى شركاء . والند المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف المنادّ من ناددت الرجل خالفته ونافرته ، وندّ ندوداً إذا نفر . ومعنى قول الموحد « ليس لله ند ولا ضد » نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه . وقوله « وأنتم تعلمون » بترك المفعول معناه وأنتم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال . وهكذا كانت العرب خصوصاً قطان الحرم من قريش وكنانة ، لا يشق غبارهم في الدهاء والفطنة . والتوبيخ فيه آكد أي أنتم العرافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل . ويجوز أن يقدر : وأنتم تعلمون أنه لا يماثل ، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } [ الروم : 4 ] واعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجوب والعلم والقدرة والحكمة ، ولكن الثنوية يثبتون إلهين : حكيم يفعل الخير ، وسفيه يفعل الشر . أما اتخاذ معبود سوى الله ففي الذاهبين إليه كثرة : الفريق الأول : عبدة الكواكب وهم الصابئة فإنهم يقولون : إن الله تعالى خلق هذه الكواكب وهي المدبرات في هذا العلم ، فيجب علينا أن نعبد الكواكب والكواكب تعبد الله تعالى . والفريق الثاني : عبدة المسيح عليه السلام . والفريق الثالث : عبدة الأوثان . فنقول : لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام ، وهو إنما جاء بالرد عليهم

{ وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسراً } [ نوح : 23 ] ودينهم باقٍ إلى الآن . والدين الذي هذا شأنه يستحيل أن يعرف فساده بالضرورة ، ولكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري ، فيمتنع إطباق الجمع العظيم عليه ، فوجب أن يكون لهم غرض آخر سوى ذلك . و العلماء ذكروا فيه وجوهاً : أحدها : ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي أن كثيراً من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ، ويعتقدون أنه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وكذا الملائكة ، وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء ، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته ، فعلى هذا السبب في عبادة الأوثان هو اعتقاد الشبه . وثانيها : ما ذكره أكثر العلماء ، وهو أن الناس لما رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب ، واعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس ، بالغوا في تعظيمها . فمنهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم ، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة لله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم ، وأنها الوسائط بين الله والبشر ، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها . ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار ، اتخذوا لها أصناماً وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادة تلك الأجرام العالية ، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة . ولما طالت المدة تركوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل ، فهؤلاء بالحقيقة عبدة الكواكب . وثالثها : أن أصحاب الأحكام كانوا يرتقبون أوقاتاً في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ، ويزعمون أن من اتخذ طلسماً في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات ، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به ، فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ، ثم نسوا مبدأ الأمر بتطاول المدة واشتغلوا بعبادتها . ورابعها : أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مستجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى ، اتخذوا صنماً على صورته وعبدوها على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله تعالى { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وخامسها : لعلهم اتخذوها قبلة لصلاتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ، ولما استمرت هذه الحالة ظن جهال القوم أنه يجب عبادتها . وسادسها : لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل .

فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل مذهبهم عليها حتى لا يصير بحيث يعلم بطلانه بالضرورة . فإن قيل : لما رجع حاصل مذاهب عبدة الأوثان إلى الوجوه التي ذكرت ، فما وجه المنع عنها؟ قلنا : لما تقربوا إليها وعظموها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم ، وكما تهكم بهم بلفظ الند ، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط ، ولا يفيد في طريق عبادته إلا الحنيفية والإخلاص ورفع الوسائط من البين . واعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة ، واتخذوها معبودة لهم على حدة . وقد كان هيكل العلة الأولى وهي عندهم الأمر الإلهي ، وهيكل العقل الصريح ، وهيكل السياسة المطلقة ، وهيكل النفس والصور مدورات كلها ، وكان هيكل زحل مسدساً ، وهيكل المشتري مثلثاً ، وهيكل المريخ مستطيلاً ، وهيكل الشمس مربعاً ، وهيكل الزهرة مثلثاً في جوفه مربع ، وهيكل عطارد مثلثاً في جوفه مستطيل ، وهيكل القمر مثمناً . وزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحيّ لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام ، اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا : هذه أوثان نستنصر بها فننصر ، ونستسقي بها فنسقي ، فالتمس منهم أن يأتوا بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل ، فصار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ، ودعا الناس إلى تعظيمه ، وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف . ومن بيوت الأصنام المشهورة ( غمدان ) الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان . ومنها ( نوبهار ) الذي بناه منوجهير الملك على اسم القمر . ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل ( ود ) بدومة الجندل لكلب ، و ( سواع ) لبني هذيل ، و ( يغوث ) لمذحج ، و ( يعوق ) لهمدان ، و ( نسر ) بأرض حمير لذي الكلاع ، و ( اللات ) بالطائف لثقيف ، و ( منات ) بيثرب للخزرج ، و ( العزى ) لكنانة بنواحي مكة ، و ( أساف ) و ( نائلة ) على الصفا والمروة . وكان قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه وهو الذي يقول :
أرباً واحداً أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الرجل البصير

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

القراآت : ما يتعلق بها من ضم ميم الجمع ومن إمالة الناس يعرف مما مر .
الوقوف : « من مثله » ( ص ) « صادقين » « والحجارة » ( ج ) على تقدير هي أعدت للكافرين ، والوصل أجود لأن قوله « أعدت » بدل الجملة الأولى في كونها صلة للتي « للكافرين » ( 5 ) .
التفسير : لما نبه بالآيتين السابقتين على طريق الاعتراف بوجود الصانع ووحدانيته ، أعقبهما بما يدل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحقية ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر في كون القرآن معجزاً طريقان :
الأول : أنه إما أن يكون مساوياً لكلام سائر الفصحاء أو زائداً عليه بما لا ينقض العادة أو بما ينقضها . والأولان باطلان لأنهم - وهم زعماء وملوك الكلام - تحدّوا بسورة منه مجتمعين أو منفردين ثم لم يأتوا بها مع أنهم كانوا متهالكين في إبطال أمره حتى بذلوا النفوس والأموال ، وارتكبوا المخاوف والمحن ، وكانوا في الحمية والأنفة إلى حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل؟ فتعين القسم الثالث .
الطريق الثاني : أن يقال : إن بلغت السورة المتحدى بها في الفصاحة إلى حد الإعجاز فقد حصل المقصود وإلا فامتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجز ، فعلى التقديرين يحصل الإعجاز . فإن قيل : وما يدريك أنه لن يعارض في مستأنف الزمان وإن لم يعارض إلى الآن؟ قلت : لأنه لا احتياج إلى المعارضة أشد مما في وقت التحدي ، وإلا لزم تقرير المبطل المشبه للحق . وحيث لم تقع المعارضة وقتئذ علم أن لا معارضة ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله « ولن تفعلوا » كما يجيء .
واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة فمدرك الإعجاز هو الذوق . ومن فسر الإعجاز بأنه صرف الله تعالى البشر عن معارضته ، أو بأنه هو كون أسلوبه مخالفاً لأساليب الكلام ، أو بأنه هو كونه مبرأ عن التناقض ، أو بكونه مشتملاً على الأخبار بالغيوب وبما ينخرط في سلك هذه الآراء ، فقد كذب ابن أخت خالته . فإنا نقطع أن الاستغراب من سماع القرآن إنما هو من أسلوبه ، ونظمه المؤثر في القلوب تأثيراً لا يمكن إنكاره لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، لا من صرف الله تعالى البشر عن الإتيان بمثله ، كما لو قال أحد : معجزتي أن أضع الساعة يدي على رأسي ويتعذر ذلك عليكم . وكان كما قال ، جاء الاستغراب من التعذر لا من نفس الفعل . وأيضاً تسمية كل أسلوب غريب معجزاً باطل ، وكذا تسمية كل كلام مبرإ عن التناقض أو مشتملاً على الغيب ككلام الكهان ونحوهم . فإن قيل : كيف نعتقد إعجاز القرآن بحيث يعجز عنه الثقلان فقط والزائد غير معلوم الحال ، أو بحيث يعجز عنه المخلوقات بأسرها؟ قلنا : لا ريب أن الحق هو القسم الثاني ، إلا أن التحدي لم يقع إلا بالقدر الأول وبه يثبت صحة النبوة .

لكن النبي صادق وقد أخبر بأنه كلام الله تعالى ، ونحن نعلم أن كلام صفته وصفته يجب أن تكون في غاية الكمال ونهاية الجلال . فالقرآن إذاً في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة . والبلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها ، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها ، وهي فينا كأنها هيئة اجتماعية حاصلة من معرفة قوانين علمي المعاني والبيان . والفصاحة إما معنوية وهي خلوص الكلام عن التعقيد ، والتعقيد أن يعثر صاحبه فكرك في متصرفه ويشيك طريقك إلى المعنى ويوعر مذهبك نحوه ، حتى يقسم فكرك ويشعب ظنك فلا تدري من أين تتوصل وبأي طريق معناه يتحصل . وإما لفظية وهي أن تكون الكلمة عربية أصلية ، وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدرب ، واستعمالهم لها أكثر ، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة العربية ، وأن تكون سليمة عن التنافر ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسلات . والحاكم في ذلك هو الذوق السليم والطبع المستقيم ، فقلما ينجع هنالك إلا ذلك . ثم إنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان الفصاحة ، ومع ذلك فإنه بلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية وراءها ، فدل ذلك على كونه معجزاً . منها أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات كبعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة ، وليس في القرآن من هذه الأشياء مقدار كثير . ومنها أنه تعالى راعى طريق الصدق وتبرأ عن الكذب ، وقد قيل : أحسن الشعر أكذبه . ولهذا كان لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما وتركا سلوك سبيل الكذب والتخيل ترك شعرهما . ومنها أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في بيت أو في بيتين من قصيدة ، والقرآن كله فصيح ككل جزء منه . ومنها أن الشاعر الفصيح إذا كرر كلامه لم يكن الثاني في الفصاحة بمنزلة الأول ، وكل مكرر في القرآن فهو في نهاية الفصاحة وغاية الملاحة .
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوّع
ومنها أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم المنكرات والحث على مكارم الأخلاق والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة ، ولا يخفى ضيق عطن البلاغة في هذه المواد . ومنها أنهم قالوا : إن شعر امرئ القيس يحسن في النساء وصفة الخيل ، وشعر النابغة عند الخوف ، وشعر الأعشى عند الطرب ووصف الخمر ، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء والقرآن جاء فصيحاً في كل فن من فنون الكلام .

فانظر في الترغيب إلى قوله : { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين } [ السجدة : 17 ] وفي الترهيب { وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } [ إبراهيم : 15-17 ] وفي الزجر { فكلاًّ أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا } [ العنكبوت : 40 ] وفي الوعظ { أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } [ الشعراء : 205 ] وفي الإلهيات { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال } [ الرعد : 8 ، 9 ] . ومنها أن القرآن أصل العلوم كلها كعلم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الفقه واللغة والنحو والصرف والنجوم والمعاني والبيان وعلم الأحوال وعلم الأخلاق وما شئت ، ومن يطيق وصف القرآن وبلاغته فإنه كما أن الإتيان بأقصر سورة منه فوق حد البشر فوصفه كما هو فوق طاقة البشر .
« فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح » ... وإنما قيل : « وإن كنتم » دون إذ كنتم لما عرفت في تفسير { لا ريب فيه } . وإنما اختير « نزلنا » على لفظ التنزيل دون الإنزال ، لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي ، وذلك أنهم كانوا يقولون : لو أنزله الله لأنزله جملة واحدة { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] أي على خلاف ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً شيئاً فشيئاً وحيناً فحيناً حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة ، فقيل لهم : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج ، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه ، وهلموا نجماً من نجومه أصغر سورة وهي الكوثر ، ومعنى السورة مذكور في المقدمة الرابعة . وإنما قيل : « على عبدنا » دون أن يقال على محمد كقوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } [ محمد : 2 ] تشريفاً له صلى الله عليه وسلم وإعلاماً بأنه صلى الله عليه وسلم ممن صحح نسبة العبودية المأمور بها في قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا } وإضافة العبد إلى الضمير أيضاً تؤيد ذلك كقوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الإسراء : 65 ] . وفيه أن السعادة كل السعادة في نسبة العبدية ، فهي التي توصل إلى العندية { في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر } [ القمر : 55 ] « وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي » وكمال العندية في كمال الحرية عما سوى الله . وأما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً ، فمن ذلك أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتملت الأنواع على الأصناف ، كان إفراز كل من صاحبه أحسن ، ولهذا وضع المصنفون كتبهم على الأبواب والفصول ونحوها .

ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر ، كان أنشط له كالمسافر إذا قطع ميلاً أو طوى فرسخاً ، ومن ثم جزأوا القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً ، ومنها أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيحل في نفسه ، ومنه حديث أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا . ولهذا كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل . و « من مثله » متعلق بمحذوف أي بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا أو لعبدنا . ويجوز أن يتعلق بقوله « فأتوا » والضمير للعبد معناه ، فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب والنظم الأنيق ، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يقصد إلى مثل ونظير معين ، ولكنه كقول من قال للحجاج وقد توعده بقوله « لأحملنك على الأدهم مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب » أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد ، ولم يقصد أحداً يجعله مثل الحجاج . وردّ الضمير على المنزل أوجه وعليه المحققون . ويروى عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن ، ولأن ذلك يطابق الآيات الأخر { فأتو بسورة مثله } [ البقرة : 23 ] { فأتوا بعشر سور مثله } [ هود : 13 ] ، ولأن البحث إنما وقع في المنزل لا في المنزل عليه ، إذ المعنى وإن ارتبتم أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله . ولو كان الضمير مردوداً إلى الرسول اقتضى الترتيب أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمداً صلى الله عليه وسلم منزل عليه ، فأتوا بسورة ممن يماثله . وأيضاً لو كان عائداً إلى القرآن اقتضى أن يكونوا عاجزين عن الإتيان بمثله ، مجتمعين أو متفرقين ، أميين أو قارئين . ولو عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى أن يكون الشخص الواحد الأمي الذي هو مثله عاجزاً ، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى ، ولا سيما فإنه يلزم من الوجه الثاني تقرير نقص للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإيهام أنّ الإتيان بالقرآن ممن يكون قارئاً ممكن . وأيضاً الأول هو الملائم لقوله « وادعوا شهداءكم » إذ لو كان المراد فليأت واحد آخر أمي بنحو ما أتى به هذا الواحد ، لم يحتج أن يستظهر بالشهداء وهي جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادات . والمراد بها إما آلهتهم كأنه قيل : إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد إلى فاقة شديدة فتعجلوا الاستعانة بها ، وإلا فاعلموا أنكم مبطلون فيكون في الكلام محاجة من جهتين : من جهة إبطال كونها آلهة ، ومن جهة إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن .

وإما أكابرهم ورؤساؤهم أي ادعوهم ليعينوكم على المعارضة ، أو ليحكموا لكم وعليكم . ومعنى « دون » أدنى مكان من الشيء ، ومنه الشيء الدون وهو الحقير ، ودوّن الكتب إذا جمعها بتقليل المسافة بينها . ويقال هذا دون ذلك إذا كان أحط منه قليلاً ، ودونك هذا أي خذه من دونك أي من أدنى مكان منك ، فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب . وقيل : زيد دون عمرو في الشرف والعلم ، ومنه قول من قال لعدوّه وقد كان يثني عليه رياء : أنا دون هذا وفوق ما في نفسك . واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطى حكم إلى حكم . قال الله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين .
و « من دون الله » متعلق ب « شهداءكم » أو ب « ادعوا » وعلى الأول يحتمل ثلاثة معان : ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق ، أو ادعوا الذين زعمتم أنهم يشهدون لكم بين يدي الله من قول الأعشى :
تريك القذى من دونها وهي دونه ... أي تريك القذى قدام الزجاجة والحال أن الخمر قدام القذى لرقتها وصفائها ، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم ، أو ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله ، وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأن شهداءهم - وهم فرسان البلاغة - تأبى بهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد . وعلى الثاني يحتمل معنيين : ادعوا من دون الله شهداءكم يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه ، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم ظاهرة تصحح بها الدعاوى عند الحكام ، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخزالهم ، وأن الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثاً غير قولهم « الله يشهد إنا لصادقون » . سئل بعض العرب عن نسبه فقال : قرشي والحمد لله ، فقيل له : قولك : « الحمد لله » في هذا المقام ريبة . أو المراد بالشهداء ، الله تعالى ، وكل من له أهلية الحضور من الجن والإنس . فكأنه قيل لهم ادعوا غير الله من الجن والإنس من أردتم كقوله { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } [ الإسراء : 88 ] الآية وإنما استثنى الله لأنه القادر وحده على أن يأتي بمثله دون كل شاهد . واعلم أن التحقيق في التحدي هو أن النبي يقول : إني مخصوص من الله تعالى بمزيد الكرامة والنور ، وجعلني واسطة بينكم وبين هدايتكم فاتبعون أهدكم سبيل الخير والرشاد ، وإن كنتم في ريب مما أقول ، فانظروا إلى هذا الذي أقدر عليه بإظهار الله تعالى إياه على يدي وأنتم لا تقدرون عليه لعدم إقداره ، لتعرفوا أني خصصت بمزيد فضل من عنده وأني صادق فيما أقول ، فإن أنصفوا من أنفسهم بمشيئة الله تعالى ونور هدايته اتبعوه واهتدوا ، وإلا بقوا في الضلالة خائبين .

وكل هذا من عالم الأسباب التي ربط الله تعالى بها الوقائع والحوادث حسب ما أراد ، ولا يلزم من هذا أن يكون للعبد قدرة مستقلة يقع التحدي عليها ، بل الله يهدي من يشاء وكل بقدر . وقوله « إن كنتم صادقين » قيد لقوله « فأتوا » ولقوله « وادعوا » المعطوف عليه . ويجوز أن يكون قيداً لقوله « وادعوا » لأن قوله « فأتوا » مقيد بقوله و « إن كنتم » وجواب الشرط الثاني محذوف لدلالة ما قبله وهو مثله عليه التقدير : وإن كنتم في ريب فأتوا ، وإن كنتم صادقين في أن أصنامكم تعينكم ، أو في أن القرآن غير معجز ، فادعوا شهداءكم . وإنما قلنا : الجواب محذوف ، لأن الجزاء لا يتقدم على الشرط ، فإن للشرط صدر الكلام كالاستفهام ، ولهذا لم يلزم الفاء في قولك « أنت مكرم إن جئتني » وإنما تقدم ما يدل عليه ومثله في القرآن كثير فاعتبره في كل موضع . وأما قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } الآية . فأقول أولاً : إنها تدل على إعجاز القرآن وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه :
أحدها : أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا يعادونه صلى الله عليه وسلم أشد المعاداة ، ويتهالكون في إبطال أمره وفراق الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج منهم من أقوى ما يدل على ذلك . فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فلو أمكنهم الإتيان بمثله لأتوا به ، وحيث لم يأتوا به ظهر كونه معجزاً . وثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم إن كان متهماً عندهم فيما يتعلق بالنبوة ، فقد كان معلوم الحال في وفور العقل . فلو خاف صلى الله عليه وسلم عاقبة أمره لتهمة فيه صلى الله عليه وسلم - حاشاه عن ذلك - لم يبالغ في التحدي إلى هذه الغاية . وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم لو لم يكن قاطعاً بنبوته لكان يجوز خلافه ، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه ، فالمبطل المزوّر لا يقطع في الكلام قطعاً ، وحيث جزم دل على صدقه . ورابعها : أن قوله « ولن تفعلوا » وفي « لن » ، تأكيد بليغ في نفي المستقبل إلى يوم الدين ، إخبار بالغيب . وقد وقع كما قال صلى الله عليه وسلم ، لأن أحداً لو عارضه صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه عادة ، لا سيما والطاعنون فيه صلى الله عليه وسلم أكثف عدداً من الذابين عنه صلى الله عليه وسلم .

وإذا لم تقع المعارضة إلى الآن غلب على الظن ، بل حصل الجزم أنها لا تقع أبداً لاستقرار الإسلام وقلة شوكة الطاعنين . وإنما جيء ب « إن » الذي للشك دون « إذا » الذي للوجوب والقطع ، مع أن انتفاء إتيانهم بالسورة واجب بناء على حسبانهم وطمعهم ، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على بلاغتهم . وأيضاً فيه تهكم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه : إن غلبتك لم أبق عليك . وإنما اختير قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } على قوله { فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله } ، طلباً للوجازة ، فإن الإتيان فعل من الأفعال ، وحذف مفعول فعل كثير دون مفعول أتى فهو جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً يغنيك عن طول المكنى عنه ، كما لو قلت : أتيت فلاناً وأعطيته درهماً . فيقال لك : نعم ما فعلت . وقوله « ولن تفعلوا » جملة معترضة لا محل لها . وليس الواو للحال وإنما هو للاستئناف . والمعترضة تجيء بالواو وبدون الواو ، وقد اجتمعتا في قوله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } [ الواقعة : 76 ] وإنما لم يقل فإن لم تفعلوا فاتركوا العناد كما هو الظاهر ، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، فوضع موضعه من حيث إنه من نتائجه ، لأن من اتقى النار ترك المعاندة ، ونظيره قول الملك لجيشه : إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطي . يريد فاتبعون وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط ، فهو من باب الكناية . وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد بأنه الموجب للنار ، ولهذا شنع يتفظيع أمرها . والوقود ما ترفع به النار ، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح . فإن قلت : صلة « الذي » و « التي » يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلنا : لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب ، أو سمعوه من رسول الله ، أو يكون إشارة إلى ما نزلت بمكة قبل نزول هذه بالمدينة وذلك في سورة التحريم { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] ولهذا عرّفت ههنا مشاراً بها إلى ما عرفوه ثمة أوّلاً ، والمعنى : اتقوا ناراً ممتازة عن غيرها من النيران بأنها لا تتقّد إلا بالناس والحجارة ، أو بأنها توقد بنفس ما يراد إحراقه وإحماؤه ، أو بأنها لإفراط حرها إذا اتصلت بما لا يشتعل به نار اشتعلت وارتفع لهبها . ولعل لكفار الجن وشياطينهم ناراً وقودها الشياطين جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب . والحجارة قيل : هي حجارة الكبريت . وقيل : هي ما نحتوها أصناماً

{ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] لأنهم لما اعتقدوا فيها أنها شفعاؤهم عند الله ، وأنهم ينتفعون بها ويدفعون المضارّ عن أنفسهم ، جعلها الله عذابهم إبلاغاً في إيلامهم وتوريثاً لنقيض مطلوبهم ، ونحوه ما يفعله بالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، أي يمنعون حقوقها حيث { يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } [ التوبة : 35 ] والتاء في الحجارة لتأكيد التأنيث في الجماعة نحو : صقورة . وقد يدور في الخلد من هذه الآية ، ومن قوله { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة } [ البقرة : 74 ] ومن قوله { نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة } [ الهمزة : 6 ، 7 ] أن المراد بالحجارة هي الأفئدة أي وقودها الناس وقلوبهم . وتخصيص القلب بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وأولى بالإحراق إن كان مقصراً في درك ما خلق الإنسان لأجله . ومعنى أعدت هيئت وجعلت عدّة لعذابهم ، وإنما فقد العاطف لأنها بدل من الصلة أو استئناف ، كأنه قيل لمن أعدّت هذه النار؟ فقيل أعدت للكافرين .

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

الوقوف : « الأنهار » ( ط ) « رزقاً » ( لا ) لأن « قالوا » جواب « كلما » . « متشابهاً » ( ط ) « مطهرة » ( ج ) « خالدون » ( 5 ) .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة وانجر الكلام إلى ذكر عقاب الكافرين ، شفع ذلك بذكر ثواب المؤمنين جرياً على سننه المعهود من ذكر الترغيب مع الترهيب ، وضم البشارة إلى الإنذار والجمع بين الوعد والوعيد والجنة والنار . وهل هما الآن مخلوقتان أم لا؟ ظاهر الآية من نحو قوله { أعدت للمتقين } { أعدت للكافرين } والأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صلاة الخسوف « إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط يدل على وجودهما » وكذا سكنى آدم وحواء الجنة ، وقد جمع الله في الآية جوامع اللذات من المسكن وهو الجنات ، ومن المطعم وهو الثمرات ، ومن المنكح وهو الأزواج المطهرات ، ثم زال عنهم نقص الزوال بقوله { وهم فيها خالدون } إتماماً للنعمة والحبور وتكميلاً للبهجة والسرور . والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ، ولهذا قال العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى ، عتق أوّلهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره ولو قال : مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعاً لأنهم جميعاً أخبروه . ومنه البشرة لظاهر الجلد ، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه . فأما قوله { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] فمن باب التهكم والاستهزاء ، فإن قيل : علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلنا : ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي ، إنما المتعمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين على جملة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق ، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق ، ولك أن تقول معطوف على { فاتقوا } كقولك : يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم . وقال بعض المحققين : إنه معطوف على قل مقدراً قبل { يا أيها الناس } فإن تقدير القول في القرآن مع وجود القرينة غير عزيز كقوله تعالى { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا } أي يقولان : ربنا . ثم المأمور في قوله { وبشر } إما الرسول ، وإما كل من له استئهال أن يبشر . والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم . قال الحطيئة :
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
واللام للجنس . والمراد بالصالحات جملة الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف . واستدل بهذه الآية من قال : إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان ، وإلا لزم التكرار ، ولمن زعم أن الإيمان هو المجموع أن يقول عطف بعض الأجزاء على الكل جائز لغرض من الأغراض كقوله تعالى

{ وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل } [ البقرة : 98 ] ثم ههنا مذاهب : منهم من قال : إن العبد لا يستحق على الطاعة ثواباً ولا على المعصية عقاباً استحقاقاً عقلياً واجباً وهو قول أهل السنة ولا يرد عليه إشكال . ومنهم من زعم أنه يستحق الثواب بالإيمان والعمل الصالح بشرط أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر ، وبالندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية بدليل قوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] . وإنما طوي ذكر هذا الشرط في الآية للعلم به فإنه قد ركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه ، وهذا قول المعتزلة ومن يجري مجراهم . ومنهم من أحال القول بالإحباط ، لأن من آمن وعمل صالحاً استحق الثواب الدائم فلو فرض إحباط بكفره لاستحق العقاب الدائم والجميع بينهما محال ، ولا يخفى ضعف هذا المذهب ، فإن الأمور بخواتيمها قال صلى الله عليه وسلم : « إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار » وإنما الأعمال بالخواتيم . والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر كأنها فعلة من جنة إذا ستره . وسميت دار الثواب كلها جنة فيها من الجنان على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان ، فلهذا نكرت . والنهر : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر . يقال لبردى نهر دمشق ، وللنيل نهر مصر . واللغة العالية الغالبة النهر بفتح الهاء ومدار التركيب على السعة . وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازي ، لأن الجاري هو الماء وكذا من تحتها أي من تحت أشجارها . وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجارها مظللة والأنهار في خلالها مطردة ، ولولاها كانت كتماثيل لا أرواح فيها ، وصور لا حياة لها . وإنما عرفت الأنهار لأن المراد بها الجنس كما تقول لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة مثل { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم : 4 ] أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله { فيها أنهار من ماء غير آسن } [ محمد : 15 ] الآية . و { كلما رزقوا } إما صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم كلما رزقوا ، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس ، فقيل : إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله .

و « من » في { منها } وفي { من ثمرة } لابتداء الغاية كما لو قلت : رزقني فلان فيقال : من أين؟ فتقول : من بستانه . فيقال : من أي ثمرة؟ فتقول : من الرمان . فالرزق قد ابتدئ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة والرمانة الفذة على هذا التفسير ، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار ، ووجه اخر وهو أن يكون { من ثمرة } بياناً على منهاج قولك « رأيت منك أسداً » تريد أنت أسد . وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار والجناة الواحدة ، لأن التفاحة الواحدة مثلاً يصدق عليها أنها رزق ، كما أن نوع التفاح يصدق عليه ذلك ، بخلاف ابتداء الرزق من الجنات فإن ذلك إنما يكون بنوع التفاح أولاً ، وبالذات وبشخصه ثانياً ، وبالعرص لأن التشخص أمر زائد على حقيقة الشيء فاعلم . وانتصاب { رزقاً } على أنه مفعول ثانٍ { رزقوا } ومعنى { هذا الذي } أي هذا مثل الذي رزقنا من قبل نحو « أبو يوسف أبو حنيفة » لأن ذات الذي رزقوه في الجنة لا تكون هي ذات الذي رزقوه في الدنيا . والضمير في قوله { وأتوا به } يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً ، لأن قوله { هذا الذي رزقنا من قبل } انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين . والغرض في تشابه ثمر الدنيا وثمر الآخرة أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ، ورأى فيه مزية ظاهرة أفرط ابتهاجه وطال استعجابه وتبين كنه النعمة فيه . فإذا أبصروا الرمانة والنبقة في الدنيا وحجمها ، ثم أبصروا رمانة الجنة تشبع السكن ، والنبقة كقلال هجر ، كما يرون الشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه ، كان ذلك أبين للفضل وأزيد في التعجب من أن يفاجؤا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما . وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها ، دليل على تناهي الأمر في ظهور المزية وكمال الاستغراب في كل أوان . عن مسروق : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال القلال ، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وأنهارها تجري في غير أخدود ، والعنقود اثنا عشر ذراعاً . ويجوز أن يرجع الضمير في { أتوا به } إلى الرزق ، كما أن هذا إشارة إليه . ويكون المعنى : إن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه ، إما لتساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص ، وإما لأن الإنسان إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق نفسه إلا بمثله فإذا جاءوه بما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة . وعن الحسن أن الاشتباه في اللون فقط قال : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل .

فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها ، فإذا أبصروها والهيئة هيئتها الأولى قالوا ذلك » ويحتمل أن يقال : إن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات الأرواح وعالم السموات ، بحيث يصير روح الإنسان كالمرآة المحاذية لعالم القدس ، ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ، ولكن لا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج لمكان العلائق البدنية ، وإذا زال العائق بعد الموت وشاهد تلك المعارف قال : هذه هي التي كانت حاصلة لي في الدنيا ، ووجد كمال اللذة والسرور . وقال أهل التحقيق : الجنة جنة الوصول ، وأشجارها هي الملكات الحميدة والأخلاق الفاضلة ، والثمرات ثمرات المكاشفات والمشاهدات والأسرار والإشارات والإلهامات وغيرها من المواهب ، وإنهم يشاهدون أحوالاً شتى في صورة واحدة من ثمرات مجاهداتهم ، فيقول بعض المتوسطين منهم : إن هذا المشهد هو الذي شاهدته قبل هذا ، فتكون الصورة تلك الصورة ولكن المعنى حقيقة أخرى ، كما أن موسى شاهد نور الهداية في صورة نار فتكون تارة تلك النار نار صفة غضبية كما كان لموسى ، إذا اشتد غضبه اشتعلت قلنسوته ناراً ، وتارة تكون نار المحبة تقع في محبوبات النفس فتحرقها ، وتارة تكون نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فتحرق عليهم بيت وجودهم فافهم . وأيضاً ، كل شيء له صورة في الدنيا فله في الآخرة معنى آخر غيبي كقوله صلى الله عليه وسلم في دماء الشهداء « اللون لون الدم والريح ريح المسك » فاعلم . وقوله { وأتوا به متشابهاً } جملة معترضة تفيد زيادة التقرير كقولك « فلان أحسن إلى فلان ونعم ما فعل » والمراد بتطهير الأزواج تطهيرهن من الأقذار والأدناس لا سيما التي تختص بالنساء ، وكذا من الأخلاق الذميمة وعادات السوء . وهما لغتان فصيحتان « النساء فعلن » و « هن فاعلات » و « النساء فعلت » و « هي فاعلة » والمعنى : ولهم جماعة أزواج مطهرة . وفي { مطهرة } فخامة لصفتهن ليست فيما لو قيل طاهرة وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهن وليس ذلك إلا الله عز وجل المريد لعباده أن يخولهم كل مزية فيما أعد لهم . وههنا نكتة وهي ، أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى يمنع من مباشرتها قال : { فاعتزلوا النساء في المحيض } [ البقرة : 222 ] مع أنها معذورة في تنجسها . فإذا كانت اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن ، إذا كانت نجساً بالمعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى . وأيضاً من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع من الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر ، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون؟ وكفى دليلاً على ذلك بإخراج آدم منها بسبب الزلة الصادرة عنه .

وأيضاً من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تجوز صلاته أو تستكره ، فكيف بمن صلى وعلى قلبه جبال من نجاسات الذنوب والمعاصي؟ والخلد عند المعتزلة الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع بدليل قوله تعالى { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } [ الأنبياء : 34 ] نفى الخلد عن البشر مع تعمير بعضهم { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } [ الحج : 5 ] وعند الأشاعرة : الخلد هو الثبات الطويل ، دام أو لم يدم . ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد كان قوله { خالدين فيها أبداً } تكراراً . ويقال في العرف : حبسه حبساً مخلداً ، أو وقف وقفاً مخلداً . والحق أن خوف الانقطاع ينغص النعمة وذلك لا يليق بأكرم الأكرمين .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

الوقوف : { فما فوقها } ( ط ) { من ربهم } ( ج ) لأن الجملتين وإن اتفقتا فكلمة « أما للتفصيل بين الجمل { مثلاً } ( م ) لأنه لو وصل صار ما بعده صفة له وليس بصفة إنما هو ابتداء إخبار من الله عز وجل جواباً لهم . { ويهدي به كثيراً } ( ط ) { الفاسقين } ( لا ) لأن { الذين } صفتهم { ميثاقه } ( ص ) لعطف المتفقتين { في الأرض } ( ص ) { الخاسرون } ( 5 ) .
التفسير : لما بين كون القرآن معجزاً أورد شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها . عن ابن عباس : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] وقوله { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] قالوا : الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية . وعن الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله فنزلت . والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض؟ وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا : » أجرأ من الذباب « و » أضعف من بعوضة « و » كلفتني مخ البعوض « . ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة كالزوان حب يخالط البر ، وكحبة خردل ، والمنخل والحصاة والأرضة والدود والزنابير . قال : مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة ، فلما نبت الزرع واشتد غلب عليه الزوان . فقال عبيد الزارع : يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟ فقال : بلى قالوا : فمن أين هذا الزوان؟ قال : لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان تقلعوا معه حنطة ، دعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد . فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرين ، وأفسر لكم ، ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة وهو أبو البشر ، والقرية هي العالم ، والحنطة الجيدة النقية هي أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله ، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس ، والزوان المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه ، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله ، وأهل الشر إلى الهاوية ، وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار فكذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان ، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم ، من كانت له أذن تسمع فليسمع . وأضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء ، رجل آخر أخذ حبة الخردل وهي أصغر الحبوب فزرعها في قرية ، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول ، وجاء طير السماء فعشش في فروعها ، فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله تعالى أجره وعظمه ورفع ذكره ونجا به من اهتدى .

وقال : لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الطيب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم ، وقال : قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الرياح . وقال : لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسد ، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله . وقال : نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يغزلن ولا يشخصن ، ومنهن ما هو في جوف الحجر الأصم وفي جوف العود ، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون؟! وقال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم . هذا ونحن نرى أن الإنسان يذكر معنى فلا يلوح كما ينبغي ، فإذا ذكر المثال اتضح وانكشف . وذلك أن من طبع الخيال حب المحاكاة ، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، وإذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شك أن الثاني يكون أكمل ، وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي أنزل تبياناً لكل شيء . ثم إن الله تعالى هو الذي خلق الكبير والصغير ، وحكمته في كل ما خلق وبرأ عامة بالغة ، وليس الصغير أخف عليه من الكبير ، ولا الكبير أصعب عليه من الصغير . فالمعتبر إذن ما يليق بالقصة ، فإذا كان اللائق بها الذباب والعنكبوت لخسة مضرب المثل ووهنه ، فكيف يضرب بالفيل وبشيء مستحكم النسج والصفاقة؟ وهذا مما لا يخفى على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم ،
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ، ويذم واشتقاقه من الحياة ، يقال : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي إذا اشتكى النسا والحشا ، وكأن الحيي صار منتقص القوة منتكس الحياة وقد عرفت في الأسماء الحسنى ، أن أمثال هذه الصفات إنما يجوز أن تطلق على الله تعالى بعد الإذن الشرعي باعتبار النهايات لا باعتبار المبادئ . فحديث سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً » إنما جاء على سبيل التمثيل لأنه مثل تركه تخييب العبد بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه . ومعنى قوله { إن الله لا يستحيي } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها . ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة والطباق ، وهو فن بديع قال أبو تمام :

من مبلغ أفناء يعرب كلها ... أني بنيت الجار قبل المنزل
فلولا بناء الدار لم يصح بناء الجار ، وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبت في إناء من الورد
فيصف كثرة مياه الأمطار في طريقه ، وأنه أينما ذهب رأى الماء وكأنه يعرض نفسه على النوق فتستحيي فتكرع فيه مشافر كأنها السبت وهو الجلد المدبوغ بالقرظ ، وشبه الأرض وفيها الماء وحواليه الأزهار بإناء من الورد . وفيه لغتان : استحييت منه واستحييته وهما محتملتان ههنا . وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم ، وفي الحديث : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب . و « ما » هذه إبهامية ، إذا اقترنت باسم نكرة زادته شياعاً وعموماً كقولك « أعطني كتاباً ما » تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله { فيما نقضهم } [ النساء : 155 ] أي مثلاً حقاً أو ألبتة . وانتصب { بعوضة } بأنها عطف بيان و { مثلاً } وذلك أن ما يضرب به المثل قد يسمى مثلاً كما يقال : حاتم مثل في الجود . أو مفعول ل { يضرب } و { مثلاً } حال عن النكرة مقدمة عليها ، أو انتصبا مفعولين فجرى « ضرب » مجرى « جعل » . والبعوض في أصله صفة على فعول من البعض القطع فغلبت ، ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه وفي معناه البضع والعضب . ومن غرائب خلقه أنه مع صغره أعطي كل ما أعطي الفيل مع كبره ، ففيه إشارة إلى أن خلق أحدهما ليس أصعب من خلق الآخر ، وإشارة إلى حالة الإنسان وكمال استعداده كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله خلق آدم على صورته » أي على صفته فأعطاه على ضعفه من كل صفة من صفات جماله وجلاله أنموذجاً ليشاهد في مرآة نفسه جمال صفات ربه . ومن العجائب أن خرطومه في غاية الصغر ، ومع ذلك مجوف . ومع فرط صغره وكونه مجوفاً يغوص في جلد الجاموس والفيل على ثخانته كما يضرب الرجل أصبعه في الخبيص ، وذلك لما ركب الله تعالى في رأس خرطومه من السم .
وقوله { فما فوقها } أي فالذي هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب ، فإن القوم أنكروا تمثيل الله بكل هذه الأشياء ، أو أراد فما فوقها في الصغر كجناح البعوضة حيث ضربه صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا ، وهذا أولى لأن الآية نزلت في بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير ، فيجب أن يكون المذكور ثانياً أحقر من الأول . والفاء ههنا تفيد الترتيب في الذكر لأنه يذكر في هذا المقام الأخس فالأخس كقوله :

« يا دار مية بالعلياء فالسند » ... لأنه يذكر في تعريف الأمكنة الأخص بعد الأعم ، فكأن العلياء موضع وسيع يشتمل على مواضيع منها السند . { وأما } حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء ، وفائدته التوكيد . تقول : زيد ذاهب . فإذا قصدت التوكيد وأن الذهاب منه عزيمة قلت : أما زيد فذاهب ولذلك قال سيبويه في تفسيره . « مهما يكن من شيء فزيد ذاهب » وليس مراده من هذا التفسير أن « أما » بمعنى « مهما » « كيف » - وهذه حرف ومهما اسم - بل قصده إلى المعنى البحث أي أن يكن في الدنيا شيء يوجد ذهاب زيد فهذا ، جزم بوقوع ذهابه لأنك جعلت حصول ذهابه لازماً لحصول أي شيء في الدنيا ، وما دامت الدنيا باقية فلا بد من حصول شيء فيها . ففي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم أنه الحق ، ونعي على الكافرين ورميهم بالكلمة الحمقاء . والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وحق الأمر ثبت ووجب . والضمير في { أنه الحق } للمثل ، أو ل { أن يضرب } و { ماذا } فيه وجهان : أن يكون « ذا » اسماً موصولاً بمعنى الذي ، فيكون كلمتين : « ما » مبتدأ وخبره « ذا » مع صلته ، وأن تكون « ذا » مركبة مع « ما » مجعولتين اسماً واحداً ، فيكون منصوب المحل في حكم « ما » وحده لو قلت : ما أراد الله ، وجوابه على الأول مرفوع وعلى الثاني منصوب . وقد يجيء على العكس كما تقول في جواب من قال : ما رأيت خير « أي المرئي خير » . وفي جواب : ما الذي رأيت خيراً « أي رأيت خيراً » . والإرادة نقيض الكراهة ، قال الإمام الرازي : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته . والمتكلمون أنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر ، لا في الوقوع بل في الإيقاع . واحترز بهذا القيد الأخير عن القدرة . واختلفوا في كونه تعالى مريداً مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى . فزعم النجار أنه معنى سلبي ومعناه أنه غير ساهٍ ولا مكره . ومنهم من قال : إنه أمر ثبوتي . ثم اختلفوا فالجاحظ والكعبي وأبو الحسين البصري : معناه علمه تعالى باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة ، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف . والأشاعرة وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم : أنه صفة زائدة على العلم . ثم القسمة في تلك الصفة أنها إما أن تكون ذاتية وهو القول الآخر للنجار ، وإما أن تكون معنوية ، وذلك المعنى إما أن يكون قديماً وهو قول الأشعري ، أو محدثاً وذلك المحدث إما أن يكون قائماً بالله تعالى وهو قول الكرّامية ، أو قائماً بجسمٍ آخر ولم يقل به أحد ، أو موجوداً لا في محل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما .

وفي قوله { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } استرذال واستحقار كما قالت عائشة في عبد الله بن عمرو بن العاص حين أفتى بنقض ذوائب النساء في الاغتسال « يا عجباً لابن عمرو هذا » محقرة له . و { مثلاً } نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث « ماذا أردت بهذا جواباً » ولمن حمل سلاحاً رديئاً « كيف تنتفع بهذا سلاحاً » أو على الحال نحو { هذه ناقة الله لكم آية } [ هود : 64 ] وقوله { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين ب { أما } وأهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] { وقليل ما هم } [ ص : 64 ] إنما يوصفون به بالقياس إلى أهل الضلال . وأيضاً فإن المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة .
إن الكرام كثير في البلاد وإن ... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب البعيد ، لأنه لما ضرب المثل ازداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم فتسبب لهديهم ، وازدادت الكفرة رجساً إلى رجسهم فتسبب لضلالهم عن الحق . والفسق الخروج عن القصد قال رؤبة :
فواسقاً عن قصدها جوائر ... يذهبن في نجد وغوراً غائراً
والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو عند أهل السنة من أهل الإيمان إلا أنه عاصٍ ، وعند الخوارج كافر ، وعند المعتزلة نازل بين المنزلتين ، لأن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة . ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزئ خلفه . ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ الحجرات : 11 ] يعني اللمز والتنابز { إن المنافقين هم الفاسقون } [ التوبة : 67 ] والنقض : افسخ وفك التركيب . وإنما ساغ استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا كقولك « عالم يغترف منه الناس » فتنبه بالاغتراف من العالم بأنه بحر ، وتسكت عن المستعار لأنك رمزت إليه بذكر شيء من لوازمه . والعهد : الموثق . عهد إليه في كذا إذا أوصاه به ووثقه عليه . والمراد بالناقضين إما كل من ضل وكفر لأنهم نقضوا عهداً أبرمه الله بإراءة آياته في الآفاق وفي أنفسهم وبما ركز في عقولهم من إقامة البينة على الصانع وعلى توحيده وعلى حقية شريعته بعد إزاحة العلات وإزالة الشبهات ، وإما قوم من أهل الكتاب وقد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وبيّن لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته .

وقيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود : العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم { وإذ أخذ ربك } [ الأعراف : 172 ] الآية . وعهد خص به النبيين أن يبلغو الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } [ الأحزاب : 7 ] وعهد خص به العلماء { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [ آل عمران : 187 ] والضمير في { ميثاقه } للعهد . والميثاق إما مصدر بمعنى التوثقة كالميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة ، أو اسم لما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله اي من بعد توثقته عليهم ، أو من بعد ما وثق الله تعالى به عهده من آياته وكتبه ورسله . ومعنى قطعهم ما أمر الله به أن يوصل ، إما قطعهم ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرابة والرحم ، أو قطعهم موالاة المؤمنين إلى موالاة الكافرين ، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض . والأمر طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور ، لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به . وللأمر حرف واحد وهو اللام الجازم نحو « ليفعل » وصيغ مخصوصة للمخاطب نحو « انزل » و « نزال » و « صه » . وقد يستعمل في الدعاء والالتماس بمعونة القرينة وظاهره للوجوب ، وغيره من الندب أو الإباحة يتوقف على القرينة . وقوله { أن يوصل } بدل الاشتمال من الضمير المجرور ، والجار الذي ينبغي أن يعاد مقدر تقديره بأن يوصل أي بوصله . والإفساد في الأرض إما إظهار المعاصي ، وإما التنازع وإثارة الفتن . { أولئك هم الخاسرون } لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقاب هذه الأمور بثوابها { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ العصر : 2 ، 3 ] الآية .

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

القراآت : { فأحياكم } وبابه بالإمالة : علي . { ترجعون } بفتح التاء وكسر الجيم كل القرآن : يعقوب . وهو بابه بسكون الهاء : أبو جعفر ونافع غير ورش وعلي وأبو عمرو .
الوقوف : { فأحياكم } ( ج ) للعدول أي ثم هو يميتكم مع اتحاد مقصود الكلام { ترجعون } ( ط ) { سموات } ( ط ) { عليم } ( 5 ) .
التفسير : هذه الآية مسوقة لبيان التعجب من حال الكفرة ، وذلك أن الاستفهام من علام الغيوب يمتنع إجراؤه على أصله ، فيتولد بمعونة قرائن الأحوال ما ذكرنا . ووجهه هو أن الكفار حين صدور الكفر منهم لا بد من أن يكونوا على أحد الحالين : إما عالمين بالله وإما جاهلين به فلا ثالثة . فإذا قيل لهم : كيف تكفرون بالله؟ ومن المعلوم أن « كيف » للسؤال عن الحال وللكفر مزيد اختصاص من بين سائر أحوال الكافر بالعلم بالصانع أو الجهل به ، لأنه لا يمكن تصور كفر الكافر بالصانع مع الذهول عن كونه عالماً بالله أو جاهلاً به ، بخلاف سائر أحواله المتقابلة كالقعود والقيام والسكون والحركة ، فإنه يمكن تصور كفره مع الذهول عنها وإن كان لا ينفك الكافر في الوجود عنها كما لا ينفك من العلم بالصانع أو الجهل به في الوجود . وتوجه الاستفهام إلى ذلك الذي له مزيد اختصاص فأفاد الاستفهام ، أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل به؟ لكن الجهل بعيد عن العاقل ، لأن الحال حال علم بهذه القصة وهي أن كانوا أمواتاً فصاروا أحياء ، وسيكون كذا والحال كذا من الإماتة ، ثم الإحياء ثم الرجع إليه ، فبقي أن يكون الحال حال العلم بالصانع الموجبة للصرف عن الكفر . فصدور الفعل عمن له صورة اختيار في الترك مع الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب وإنكار وتوبيخ فكأنه قيل : ما أعجب كفركم والحال أنكم عالمون بهذه القصة وهي أن كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة! وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات ، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور أو حين تسألون في القبور ، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب والعقاب أو من قبوركم . وهذه القضايا أيضاً مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة العلة . والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله { بلدة ميتاً } [ ق : 11 ] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس . ويحتمل أن يقال : المراد به خمول الذكر كقوله { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } [ الدهر : 1 ] قال أبو نخيلة السعدي :
وأحييت لي ذكري وما كنت خاملاً ... ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض
ولا يخفى أن الآية بالنسبة إلى العامة ، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات

{ فأماته الله مائة عام ثم بعثه } [ البقرة : 259 ] { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } [ البقرة : 242 ] { ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } [ البقرة : 56 ] { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم } [ الكهف : 19 ] { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } [ الأنبياء : 84 ] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها : اشتمالها على وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه . ومنها الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياة والإماتة إلا الله ، فيبطل قول الدهري { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل القطعي الدال عليه ، لأن الإعادة أهون من الإبداء . ومنها الدلالة على التكليف والترغيب والترهيب ، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال : { فأحياكم } أي بعقب كونكم نطفاً من غير تخلل حالة أخرى بينهما ، ثم يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة ، ثم بيّن أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بد من حياة ثانية للسؤال أو للحشر ، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب . فبين سبحانه أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوّره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وبصره بأنواع المضار والمنافع ، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور . ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، ويبقى مدة مديدة في اللحد { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } [ المؤمنون : 100 ] ينادي فلا يجيب ، ويستنطق فلا يتكلم ، ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون .
يمرّ أقاربي بحذاء قبري ... كأن أقاربي لم يعرفوني
الهي إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا شاحبة وجوهنا جائعة بطوننا مثقلة من حمل الأوزار ظهورنا بادية لأهل القيامة سوآتنا ، فلا تضغف مصائبنا بإعراضك عنا ، يا واسع المغفرة ، ويا باسط اليدين بالرحمة . ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى أصل جميع النعم وهو الإحياء الذي من حقه أن يشكر ولا يكفر ، أعقبها بذكر ما هو كالأصل لسائر النعم وهو خلق الأرض بما فيها ، وخلق السماء . ومعنى { لكم } لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم وذلك ظاهر ، وفي دينكم من النظر في عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم ، ومن التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الإنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية ، وعلى أسباب الوحشة والألم من النيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف . فظاهر الآية لا يدل إلا على خلق ما في الأرض لأجلهم دون الأرض . فإن أريد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما يذكر السماء ويراد به الجهات العلوية جاز أن يراد خلق لكم الأرض وما فيها . و { جميعاً } نصب على الحال من الموصول الثاني وهو « ما » أي مجموعة ، والمجموع الذي جمع من ههنا وههنا وإن لم يجعل كالشيء الواحد ويندرج فيها جميع البسائط من الماء والهواء والنار وجميع المواليد من المعادن والنبات والحيوان وجميع الصنائع والحرف .

وبعضهم يستدل بهذا على أن الأصل في الأشياء الإباحة عقلاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها ويمكن أن يقال بل بهذه الآية وإلا كان تصرفاً في ملك الغير من غير إذنه . ولا يلزم من أنه تعالى خلق ما في الأرض لأجل المكلفين أن يكون فعله معللاً بغرض ، وإن كان لا يخلو من فائدة وغاية ، وإلا كان عبثاً لأنه لا يلزم من استتباع الفعل الغاية أن تكون تلك الغاية علة لعلية فاعلة ، لأن هذا فيما إذا كانت فاعليته ناقصة لتتكمل بتلك الغاية ، أما إذا كانت فاعليته تامة فإنه يوجد الشيء ذا الغاية من غير أن تكون تلك الغاية حاملة له على ذلك ، وهذا فرق دقيق يتنبه له من يسر عليه قيل : إنه تعالى خلق الكل للكل ، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلاً ، قلنا : قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد للفرد ، والتعيين يستفاد من دليل منفصل . والاستواء بمعنى الانتصاب ضد الاعوجاج من صفات الأجسام ، وإنه تعالى منزه عن ذلك . وأيضاً « ثم » تقتضي التراخي ، فلو كان المراد بهذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلاً أزلاً ولم يكن متأخراً عن خلق ما في الأرض ، فيجب التأويل . وتقريره أن يقال : استوى العود إذا اعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه استعير قوله { ثم استوى إلى السماء } [ فصلت : 11 ] أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر . والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق ، أو هذا كقولك لآخر « اعمل هذا الثوب » وإنما معه غزل . على أنها كانت دخاناً ثم سواها سبع سموات . و « ثم » ههنا إما للتراخي في الوقت والمراد أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقاً آخر كما قلنا ، أو للتفاوت بين الخلقين . وفضل خلق السموات على خلق الأرض كقوله { فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر } [ المؤمنون : 14 ] وكقوله { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] وتفسير هذه الآية في قوله { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } [ فصلت : 9 ، 10 ] يعني تقدير الأرض في يومين ، وتقدير الأقوات في يومين ، كما يقول القائل : من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً ، وإلى مكة ثلاثون يوماً ، يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر .

ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ، ومجموع ذلك ستة أيام كما قال { خلق السموات والأرض في ستة أيام } [ يونس : 3 ] فإن قيل : أما يناقض هذا قوله { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] قلنا : أجاب في الكشاف لا ، لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء ، وأما دحوها فمتأخر . وعن الحسن : خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله { كانتا رتقاً } [ الأنبياء : 30 ] وهو الالتزاق ، وزيف بأن الأرض جسم عظيم يمتنع انفكاك خلقها عن التدحية . وأيضاً قوله تعالى { خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } يدل على أن خلق الأرض وخلق ما فيها مقدم على خلق السماء ، لأن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوّة . وقال بعض العلماء في دفع التناقض قوله { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] يقتضي تقدم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض ، وزيف أيضاً بأن قوله { أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسوّاها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 27-30 ] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدماً على تدحية الأرض ، بل على خلقها لأنهما متلازمان . وحينئذ يعود التناقض والمعتمد عند بعضهم في دفعه أن يقال « ثم » ليس للترتيب ههنا ، وإنما هو على جهة تعديد النعم . مثاله : أن تقول لغيرك : ألست قد أعطيتك نعماً عظيمة ، ثم رفعت قدرك ، ثم دفعت عنك الخصوم؟ ولعل بعض ما أخرته في الذكر مقدم في الوقوع . ( قلت ) : وهذا صحيح معقول من حيث ابتداء الوجود من الأشرف فالأشرف والألطف فالألطف إن ساعده النقل وإلا فلا إحالة في أنه تعالى خلق الأرض أولاً في غاية الصغر وجعل فيها أصول الجبال ووضع فيها البركة وقدر الأقوات ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعاً ثم دحا الأرض بأن جعلها أعظم مما كانت عليه كهيئتها الآن والله تعالى أعلم . والضمير في { سوّاهن } ضمير مبهم ، و { سبع سموات } تفسيره نحو : ربه رجلاً . وفائدة الإبهام أولاً ثم البيان ثانياً أن الكلام هكذا أوقع في النفس ، لأن المحصول بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب . وقيل : الضمير راجع إلى السماء ، والسماء في معنى الجنس . وقيل : جمع سماءة والوجه العربي هو الأول . ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وهو بكل شيء عليم ، فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب الحاجات وكفاء المصالح ، ومقتضى الحكمة والتدبير . وهذا عام لم يدخله التخصيص قط ، وبه يهدم بناء من زعم أنه غير عالم بالجزئيات ، لأنه تعالى لو لم يعرف تفاصيلها لم تكن مخلوقاته على غاية الإتقان والإحكام ، فسبحانه من خبير يعلم الذرة في الأجواف ، والدرة في الأصداف ، والقطرة في البحر ، والخطرة في النحر ، وعلى هذا يدور نظام العالم وبه يحصل قوام مناهج بني آدم .

ثم إن العقل قد يدل على وجود سبع سموات ، وتخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد ، فأثبت أهل الأرصاد تسعة أفلاك على ما استقر عليه رأيهم ، أولها من الجانب الأعلى للحركة اليومية ، لأن هذه الحركة تشمل جميع الأجرام ، فيجب أن يكون فلكها حاوياً للكل . وثانيها للثوابت جميعها تحديداً لأدنى الدرجات لاتحاد الحركات وإن كان كونها على أفلاك شتى جائزاً . والسبعة الباقية للسيارات السبعة جميع ذلك بوجود اختلاف المنظر وعدمه . وعلى ترتيب خسف بعضها بعضاً ، أولها مما يلينا للقمر وفوقه لعطارد ثم للزهرة ثم للشمس ثم للمريخ ثم للمشتري ثم لزحل . ونازعهم بعض الناس في زيادة الفلكين الثامن والتاسع فقال : من المحتمل أن تتصل نفس بمجموع السبعة فتحركها حركة الكل ، ثم يكون لكل فلك نفس على حدة تحركه حركته الخاصة به ، وتكون الثوابت على محدب ممثل زحل مثلاً . وبالجملة فلم يتبين لأحد من الأوائل والأواخر كمية أعداد السموات على ما هي عليه لا عقلاً ولا سمعاً { وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } [ المدثر : 31 ] .

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

القراآت : { خليفة } وأشباهها بالإمالة عند الوقف : أبو عمرو وحمزة وعلي والأعشى والبرجمي إلا أن يكون قبلها من الحروف الموانع السبع وهي : الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والخاء والقاف نحو : خاصة ، وفريضة ، وحطة ، وغلظة ، وصبغة ، وصاخة ، وشقة . وأما العين والحاء والراء فعلى الاختلاف عند أهل المدينة ، فأشدهم إمالة حمزة وعلي ، فأما أبو عمرو والأعشى والبرجمي فإنهم يميلون بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب { إني أعلم } بفتح الياء : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
الوقوف : { خليفة } ( ط ) بناء على أن عامل « إذ » محذوف أي اذكر . ومن جعل { قالوا } عامل « إذ » وصل . { الدماء } ( ج ) لأن انتهاء الاستفهام على قوله { ويسفك الدماء } يقتضي الفصل ، واحتمال الواو لمعنى الحال في قوله { ونحن نسبح بحمدك } يقتضي الوصل { ونقدس لك } ( ط ) { ما لا تعلمون } ( 5 ) .
التفسير : هذا ابتداء الإخبار عن كيفية خلق آدم عليه السلام وعن كيفية تعظيمه إياه ، فينخرط في سلك ما تقدمه من النعم ، فإن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء ، وإذ ههنا مجرد لمعنى الظرفية أي أذكر وقت قول ربك كقوله { واذكر أخا عاد إذ أنذر } [ الأحقاف : 21 ] أي وقت إنذاره على أنه بدل من أخا عاد لأن الذكر في ذلك الوقت ممتنع . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واحد من بني آدم ، ويجوز أن ينتصب ب { قالوا } فيكون للمجازاة . والملائكة جمع ملأك وأصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة هي الرسالة ، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل : ملأك ، وجمع على فعائل مثل شمأل وشمائل ، ثم تركت همزة المفرد لكثرة الاستعمال وألقيت حركتها على اللام . وإلحاق التاء لتأنيث الجمع نحو حجارة وقد لا تلحق . واعلم أن الملك قبل النبي صلى الله عليه وسلم بالشرف والعلية وإن كان بعده في عقولنا وأذهاننا ، وقد جعله الله واسطة بينه وبين رسله في تبليغ الوحي والشريعة . وقدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالأنبياء { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } [ البقرة : 285 ] ولا خلاف بين العقلاء في أن شرف العالم العلوي بالملائكة كما أن شرف العالم السفلي بوجود الأنبياء فيه . وللناس في حقيقة الملائكة مذاهب : منهم من زعم أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السموات وهو قول أكثر المسلمين ، ومنهم عبدة الأوثان القائلون إن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والإنحاس وأنها أحياء ناطقة ، فالمسعدات ملائكة الرحمة والمنحسات ملائكة العذاب . ومنهم معظم المجوس والثنوية القائلون بالنور والظلمة وإنهما عندهم جوهران حساسان مختاران قادران ، متضادا النفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير . فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر وينفع ولا يمنع ويحيى ولا يبلى ، وجوهر الظلمة ضد ذلك ، فالنور يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل كتولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة يولد الأعداء وهم الشياطين كتولد السفه من السفيه .

ومنهم القائلون بأنها جواهر غير متحيزة ، ثم اختلفوا فقال بعضهم وهم طوائف من النصارى - إنها هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها ، فإن كانت صافية خيرة فالملائكة ، وإن كانت خبيثة كثيفة فالشياطين . وقال آخرون - وهم الفلاسفة - إنها مخالفة لنوع النفوس الناطقة البشرية ، وإنها أكمل قوة وأكثر علماً ، ونسبتها إلى النفوس البشرية كنسبة الشمس إلى الأضواء ، فمنها نفوس ناطقة فلكية ، ومنها عقول مجردة ومنهم من أثبت أنواعاً أخر من الملائكة وهي الأرضية المدبرة لأحوال العالم السفلي ، خيرها الملائكة وشريرها الشياطين ولكل من الفرق دلائل على ما ذهب إليه يطول ذكرها ههنا . وقد يستدل عليها أصحاب المجاهدات من جهة المكاشفة وأصحاب الحاجات والضرورات من جهة مشاهدة الآثار العجيبة والهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة الترياقات ، كما يحكى أنه كان لجالينوس وجع في الكبد فرأى في المنام كأن امرأ يأمره أن يفصد الشريان الذي على ظهر كفه اليمنى بين السبابة والإبهام ففعل فعوفي ، ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة . ولا نزاع ألبتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة وذلك كالأمر المجمع عليه بينهم ، وأما شرح كثرتهم فقد قال صلى الله عليه وسلم « أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع » وروي « إن بني آدم عشر الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر ، وهؤلاء كلهم عشر الطيور ، وهؤلاء عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية ، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيها ، فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً قليلاً ، وما مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعرف عددهم إلا الله ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل صلى الله عليه وسلم والملائكة الذين هم جنود جبريل وهم كلهم سامعون مطيعون لا يستكبرون عن عبادته ولا يسأمون » وأما أصنافهم فمنهم حملة العرش { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ومنهم أكابر الملائكة جبرائيل صاحب الوحي والعلم ، وميكائيل صاحب الرزق والغذاء ، وإسرافيل صاحب الصور ، وعزرائيل ملك الموت ، ومنهم ملائكة الجنة

{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } [ الرعد : 23 ] ومنهم ملائكة النار { عليها تسعة عشر } [ المدثر : 30 ] ومنهم لموكلون ببني آدم عن اليمين وعن الشمال قعيد . ومنهم الموكلون بأحوال هذا العالم { والصافات صفا } [ الصافات : 1 ] وأما أوصافهم فكما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره . منهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار ركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر . ثم إنه روى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس ، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً ، بعث الله إبليس في جند من الملائكة فأخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر ، فقال تعالى لهم { إني جاعل في الأرض خليفة } وقال الأكثرون من الصحابة والتابعين : إنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ، لأن لفظ الملائكة يفيد العموم والتخصيص خلاف الأصل .
و { جاعل } من جعل الذي له مفعولان ، معناه مصير في الأرض خليفة ، وإنما لم يقل إني خالق كما قال { إني خالق بشراً من طين } لأنه باعتبار الخلافة من عالم الأمر لا من عالم الخلق . والظاهر أن الأرض يراد بها ما بين الخافقين ، وقد يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض ههنا أرض مكة التي دحيت الأرض من تحتها . والخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه ، والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وجمعه خلائف مثل : كريمة وكرائم . وجاء خلفاء لأنهم جمعوه على إسقاط الهاء مثل : ظريف وظرفاء . والمراد به آدم صلى الله عليه وسلم إما لأنه صار خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وإما لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه كقوله { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } [ ص : 26 ] وهو المروي عن ابن مسعود والسدي . وعن الحسن ، أن المراد بالخليفة أبناء آدم لأنه يخلف بعضهم بعضاً ويؤيده قوله { هو الذي جعلكم خلائف الأرض } [ فاطر : 39 ] وإنما وحد بتأويل من يخلف أو خلفاً يخلف ، وبالحقيقة الإنسان يخلف جميع المكونات من الروحانيات والجسمانيات والسماويات والأرضيات ، ولا يخلفه شيء منها إذ لم يجتمع في شيء منها ما اجتمع فيه .

وليس للعالم مصباح يضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته خلافة عنه إلا مصباح الإنسان ، لأنه أعطى مصباح السر في زجاجة القلب ، والزجاجة في مشكاة الجسد ، وفي زجاجة القلب زيت الروح { يكاد زيتها يضيء } [ النور : 35 ] من صفاء العقل ولو لم تمسسه نار النور ، وفي مصباح السر فتيلة الخفاء ، فإذا استنار مصباحه بنار نور الله كان خليفة الله في أرضه ، فيظهر أنوار صفاته في هذا العالم بالعدل والإحسان والرأفة والرحمة واللطف والقهر ، ولا تظهر هذه الصفات لا على الحيوان ولا على الملك فاعلم . والفائدة في إخبار الملائكة بذلك ، إما تعليم العباد المشاورة في أمورهم وإن كان هو بحكمته البالغة غنياً عن ذلك ، وإما ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا . واعلم أن الجمهور من علماء الدين على أن الملائكة كلهم معصومون عن جميع الذنوب لقوله تعالى { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } [ النحل : 50 ] فلا شيء من المأمورات بل ومن المنهيات - لأن المنهي مأمور بتركه - إلا ويدخل فيه بدليل صحة الاستثناء وأيضاً لقوله { بل عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 26 ، 27 ] { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وطعن فيهم بعض الحشوية بأنهم قالوا أتجعل ، والاعتراض على الله من أعظم الذنوب . وأيضاً نسبوا بني آدم إلى القتل والفساد وهذا غيبة وهي من أعظم الكبائر . وأيضاً مدحوا أنفسهم بقولهم { ونحن نسبح بحمدك } وهو عجب . وأيضاً قولهم { لا علم لنا إلا ما علمتنا } اعتذار والعذر دليل الذنب . وأيضاً قوله تعالى { إن كنتم صادقين } دل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه . وأيضاً قوله { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض } يدل على أنهم كانوا مرتابين في أنه تعالى عالم بكل المعلومات . وأيضاً علمهم بالإفساد وسفك الدماء إما بالوحي وهو بعيد وإلا لم يكن لإعادة الكلام فائدة ، وإما بالاستنباط والظن وهو منهي { ولا تقْفُ ما ليس لك به علم } [ الإسراء : 36 ] وأيضاً قصة هاروت وماروت وأن إبليس كان من الملائكة المقربين ثم عصى الله وكفر . والجواب عن اعتراضهم على الله أن غرضهم من ذلك السؤال لم يكن هو الإنكار ولا تنبيه الله على شيء لا يعلمه فإن هذا الاعتقاد كفر ، وإنما المقصود من ذلك أمور منها : أن الإنسان إذا كان قاطعاً بحكمة غيره ثم رآه يفعل فعلاً لا يهتدي ذلك الإنسان إلى وجه الحكمة فيه ، استفهم عن ذلك متعجباً . فكأنهم قالوا إعطاء هذه النعم العظام من يفسد ويسفك لا تفعله إلا لوجه دقيق وسر غامض فما أبلغ حكمتك ، ومنها أن إبداء الإشكال طلباً للجواب غير محذور ، فكأنه قيل : إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه ألبتة ، وتمكين السفيه من السفه قبيح من الحكيم ، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين؟ وهذا جواب المعتزلة ، واستدلوا به على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى فكانوا على مذهب أهل العدل قالوا : ومما يؤكد ذلك أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق .

وأيضاً قالوا { ونحن نسبح بحمدك } والتسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام { ونقدس لك } والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه ، ومنها أن الخيرات في هذا العالم غالبة على شرورها ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير . فالملائكة نظروا إلى الشرور فأجابهم الله تعالى بقوله { إني أعلم ما لا تعلمون } أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجل الشر القليل وهذا جواب الحكيم . ومنها أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى ، فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه . ومنها أن قولهم { أتجعل } مسألة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحاً نحو قول موسى { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } [ الأعراف : 155 ] أي لا تهلك ، فقال تعالى { إني أعلم ما لا تعلمون } من صلاحكم وصلاح هؤلاء فبين أن الاختيار لهم السماء ولهؤلاء الأرض ، ليرضى كل فريق بما أختار الله له . ومنها أن هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير : ألستم خير من ركب المطايا؟ أي أنتم كذلك وإلا لم يكن مدحاً ، فكأنهم قالوا : إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك لأنا نعلم في الجملة أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فقال تعالى { إني أعلم ما لا تعلمون } فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل ، وأنا أعلم ظاهرهم وما في باطنهم من الأسرار الخفية التي تقتضي إيجادهم . وفيه أن استحقاق تلك الخلافة ليس بكثرة الطاعة ولكنه بسابق العناية ، وأنه تعالى غني عن طاعة المطيعين كما أنه لا تضره معصية المذنبين .
والجواب عن الغيبة أن من أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال ، فلذلك ذكروا الفساد والسفك لا للغيبة . وعن العجب أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقاً { وأما بنعمة ربك فحدث } [ الضحى : 11 ] فكأنهم قالوا ما سألناك للقدح في حكمتك يا رب فإنا نعترف لك بالإلهية والحكمة ، بل لطلب وجه الحكمة . وعن الاعتذار ، إنه لم يكن للذنب بل لأن ترك السؤال كان أولى . وروي عن الحسن وقتادة أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينهم وقالوا : ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقاً إلا كنا خلقاً أعظم منه وأكرم عليه ، فلما خلق آدم عليه السلام وفضله عليهم وعلمه الأسماء كلها قال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في أنه لا يخلق خلقاً إلا وأنتم أفضل منه ، ففزعوا إلى التوبة وقالوا { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } ثم إن العلماء ذكروا في إخبار الملائكة عن الفساد والسفك وجوهاً منها : أنهم قالوا ذلك ظناً إما لأنهم قاسوهم على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض وهو مروي عن ابن عباس والكلبي ، وإما لأنهم عرفوا خلقته وعلموا أنه مركب من الأركان المتخالفة والأخلاط المتنافية الموجبة للشهوة التي منها الفساد وللغضب الذي منه سفك الدماء .

ومنها أنهم قالوا ذلك عن اليقين ، ويروى عن ابن مسعود وناس من الصحابة ، وذلك أنه تعالى لما قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : ربنا وما يكون الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً . فعند ذلك قالوا : ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ أو أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، أو لأنه لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك ، أو لأن معنى الخليفة إذا كان النائب لله في الحكم والقضاء والاحتياج إلى الحاكم إنما يكون عند التنازع والتظالم ، كان الإخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام وقيل : لما خلق الله النار خافت الملائكة خوفاً شديداً فقالوا : لم خلقت هذه النار؟ قال : لمن عصاني من خلقي . ولم يكن يومئذ لله خلق إلا الملائكة ، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة . فلما قال : إني جاعل في الأرض خليفة ، عرفوا أن المعصية منهم تظهر . وأما قصة إبليس وهاروت وماروت فسيجيء الكلام فيها . واختلف الناس في أن الملائكة لهم قدرة على المعاصي والشرور أم لا . فالفلاسفة وكثير من أهل الجبر قالوا : إنهم خير محض ولا قدرة لهم على الشر . والمعتزلة أثبتوا لهم قدرة على الأمرين ، لأن قولهم { أتجعل } إما معصية أو ترك الأولى ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، وأيضاً قال تعالى { ومن يقل منهم إني إلّه من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] وهذا يقتضي كونهم مزجورين . وقال { لا يستكبرون عن عبادته } [ الأنبياء : 19 ] والمدح بترك الاستكبار إنما يحسن لو كان قدراً على الاستكبار . ويمكن إلزامهم بأن الثواب عندهم واجب على الله فيمتنع عليه تركه مع أنه يستحق المدح على الثواب . والواو في { ونحن نسبح } للحال كقولك « أتحسن إلى فلان وأنا أحق بالإحسان » والتسبيح تبعيد الله من السوء وكذا التقديس ، من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها أو أبعد . والتبعيد عن السوء إما في الذات ويحصل بنفي الإمكان المستلزم لنفي الكثرة المستلزمة لنفي الجسمية والعرضية والضد والند ، وإما في الصفات بأن يكون مبرءاً عن العجز والجهل والتغيرات محيطاً بكل المعلومات قادراً على كل المقدورات ، وإما في الأفعال بأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار ، يقول الله تعالى : أنا المنزه عن النظير والشريك سبحانه هو الواحد القهار ، أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات والأرض ، أنا المدبر لكل العالمين ، سبحان الله رب العالمين أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، أنا الغني عن الكل سبحانه هو الغني ، أنا السلطان الذي كل شيء سواي فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ، أنا المنزه عن الصاحبة والولد سبحانه أنى يكون له ولد ، أنا الذي أخلق الولد من غير أب سبحانه

{ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [ آل عمران : 47 ] ، أنا الذي سخرت الأنعام القوية للبشر الضعيف { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } [ الزخرف : 13 ] أنا الذي أعلم لا بعلم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] أنا الذي أغفر معصية سبعين سنة بتوبة ساعة { فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس } [ طه : 130 ] فإن أردت رضوان الله فسبح { ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى } [ طه : 130 ] وإن أردت الخلاص من النار فسبح { سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران : 191 ] وإن أردت الفرج من البلاء فسبح { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] أيها العبد ، واظب على تسبيحي { وسبحوه بكرة وأصيلاً } [ الأحزاب : 42 ] وإلا فالضرر يعود إليك { فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون } [ فصلت : 38 ] يسبح لي الحجر والمجر والرمال والجبال والشجر والدواب والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام { سبح لله ما في السموات والأرض } [ الحديد : 1 ] { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] أيها العبد ، أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء ، وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا التسبيح ، ولا أضيع ثواب هذه التسبيحات ، فإن ذلك لا يليق بي { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } [ ص : 27 ] لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك لتعرف أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته « وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء » أيها العبد أذكرني بالعبودية لتنتفع به لا أنا { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] فإنك إذا ذكرتني في الخلوات ذكرتك في الفلوات { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } [ الأحزاب : 35 ] أقرضني وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عليك عشرة { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم } [ التغابن : 17 ] لا حاجة لي إلى العسكر { ولو يشاء الله لانتصر منهم } [ محمد : 4 ] ولكن إذا نصرتني نصرتك { إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] اخدمني { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] لا لأني أحتاج إلى خدمتك فإني أنا الملك { ولله ملك السموات والأرض } [ آل عمران : 189 ] ولكن أصرف في خدمتي عمراً قصيراً لتنال ملكاً كبيراً وخيراً كثيراً

{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } [ التوبة : 72 ] .
قوله { بحمدك } في موضع الحال أي نسبحك ملتبسين بحمدك ، فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل؟ فقال : ما اصطفاه الله لملائكته : سبحان الله وبحمده . ويروى أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحي الذي لا ينام ولا يموت . وعن ابن عباس وابن مسعود : نسبح أي نصلي ، والتسبيح الصلاة . وعن مجاهد : نقدس لك نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك . وقيل : ظهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك { إني أعلم ما لا تعلمون } معناه لا تعجبوا ولا تغتموا بأن فيهم من يفسد ويسفك فإني أعلم أن فيهم من لو أقسم على الله لأبرَّه ، وأعلم أن معكم إبليس وفي قلبه من الحسد والكبر والنفاق ما فيه ، أو أنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فأنتم في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي . اصبروا حتى أخلق البشر فيكون فيهم من يعبدونني ثم يخشونني ، يودون حق العبادات ثم لا يتكلمون على تلك الطاعات { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] { والذين هم من خشية ربهم مشفقون } [ المؤمنون : 57 ] { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 82 ] { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } [ النمل : 19 ] أو أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم ، ولكم في هذا الإجمال ما يغنيكم عن التفصيل ، فإن أفعالي كلها حكمة ومصلحة ، وإن خفي عليكم وجه كل واحد على أنه قد بين لهم بعض ذلك في قوله : { وعلم ءدم الأسماء . . . . . . . . . }

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

القراآت : { أنبؤني } وكذلك { خاطئون } و { خاسئين } و { فمالئون } و { نحن المنشئون } و { ليطفؤا } و { ليواطؤا } و { متكئين } و { قل استهزؤا } و { متكئاً } و { يستنبؤك } وبابه { بريأ } و { بريؤن } وبابه ، وكهيئة وأشباه ذلك ، ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو . { هؤلاء } ها بغير المد ، أولاء بالمد : يزيد ويعقوب وأوقية ومصعب عن قالون . قال أبو إسحق : هما كلمتان لا بمدها ويمد أولاء . { هؤلاءان } بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . وقرأ أبو عمرو والبزي من طريق الهاشمي بترك الهمزة الأولى وإثبات الثانية ، وكذلك في المفتوحتين والمضمومتين . وقرأ يزيد وورش والقواص وسهل ويعقوب بإثبات الهمزة الأولى وتليين الثانية . وعن نافع : تليين الأولى وإثبات الثانية ، وكذلك في المضمومتين . وأما في المفتوحتين فكأبي عمرو . { أنبئهم } عن ابن عامر روايتان : مهموزة مكسورة الهاء ، وغير مهموزة مكسورة الهاء .
الوقوف : { صادقين } ( 5 ) { علمتنا } ( ط ) { الحكيم } ( 5 ) { أنبئهم } ( ج ) { بأسمائهم } ( ج ) لمكان فاء التعقيب . { بأسمائهم } ( لا ) لأن « قال » جواب « فلما » { تكتمون } .
التفسير : وفيه أبحاث :
الأول : الأشعري والجبائي والكعبي على أن اللغات كلها توقيفية بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني ، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني بدليل قوله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } { لا علم لنا إلا ما علمتنا } وهذا يدل على أن الملائكة وآدم لا يعلمون إلا بتعليم الله تعالى إياهم . وخالفهم أصحاب أبي هاشم الذاهبون إلى أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد أو جماعة . وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال فقالوا : المراد ألهمه وبعث داعيته على الوضع مثل { وعلمناه صنعة لبوس لكم } [ الأنبياء : 80 ] . أي ألهمناه ، أو المراد علمه ما سبق من اصطلاحات قوم كانوا قبل آدم . وأجيب بأن الأصل عدم العدول عن الظاهر : قالوا { ثم عرضهم } يدل على أن المراد بالأسماء المسميات ، فإن عرض الأسماء غير معقول . فإذن المراد أسماء المسميات فعوض الألف واللام عن المضاف إليه كما في قوله { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم : 4 ] أي علمه أسماء كل ما خلق من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولده اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها ، وكان ولد آدم يتكلمون بهذه اللغات ، فلما مات وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد بلغة واحدة معينة من تلك اللغات ، فلما مات و تفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد بلغة واحدة معينة من تلك اللغات ، فلما طالت المدة ومضت القرون نسوا سائر اللغات . ثم لا يبعد بل ينبغي أن يكون الله تعالى قد علمه مع ذلك صفات الأشياء ونعوتها وخواصها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ، لأن اشتقاق الاسم إما من السمة أو من السمو .

فإن كان من السمة فالاسم هو العلامة وصفات الأشياء وخواصها دالة على ماهياتها وعلامة عليها ، وإن كان من السمو فدليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء ، فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول . وإنما قلنا ينبغي ذلك لأن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها . ثم من الحقائق ما يتوقف إدراكها على آلة تدرك بها كالمبصرات والمسموعات وغيرها ، فإذا كان لآدم تلك الآلات وقد عرفها بها ، ولم يكن للملائكة ذلك لزم عجزهم . وأيضاً العربي لا يحسن منه أن يقول لغيره تكلم بلغتي ، لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات ، بل إن حصل التعليم حصل العلم بها وإلا فلا . أما العلم بحقائق الأشياء ، فالعقل يتمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي به . وإنما قيل { ثم عرضهم } بلفظ الذكور ، لأن في جملة المسميات الملائكة والثقلين وهم العقلاء ، فغلب الكامل على الناقص ، والتذكير على التأنيث . ومن الناس من تمسك بقوله { أنبؤني بأسماء هؤلاء } على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف ، لأنه إنما استنبأهم مع علمه بعجزهم تبكيتاً لهم بدليل قوله { إن كنتم صادقين } أي في أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منهم . وقيل : أي في قولكم إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود . وقيل : أعلموني بأسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الإعلام . وقيل : أخبروني ولا تقولوا إلا حقاً وصدقاً ، فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل ، لم يجترءوا على الجواب . ثم إن الذين اعتقدوا معصية الملائكة في قولهم { أتجعل } قالوا : إنهم لما عرفوا خطأهم تابوا واعتذروا بقولهم { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } والذين أنكروا معصيتهم قالوا : إنهم قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز التسليم كأنهم قالوا : لا نعلم إلا ما علمتنا ، فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه؟ أو أنهم إنما قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] لأن الله تعالى أعلمهم ذلك . فكأنهم قالوا : إنك علمتنا أنهم يفسدون في الأرض فقلنا لك : أتجعل . وأما هذه الأسماء فإنك ما علمتنا فكيف نعلمها؟ ومعنى سبحانك نسبحك تسبيحاً أي ننزهك تنزيهاً وهو مصدر غير متصرف أي لا يستعمل إلا محذوف الفعل منصوباً على المصدرية ، فإذا استعمل غير مضاف كان « سبحان » علماً للتسبيح ، فإن العلمية كما تجري في الأعيان تجري في المعاني . قالت المعتزلة ههنا : المراد أنه لا علم لنا إلا من جهتك إما بالتعليم وإما بنصب الأدلة . وقالت الأشاعرة : بل الجميع بالتعليم لأن المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل ، وأنه يستند إلى توفيق الله تعالى وتسهيله .

ثم احتج أهل الإسلام بالآية ، أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله ، وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة . وللمنجم أن يقول للمعتزلي : إذا فسرت التعليم بوضع الدليل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم ، فيكون من جملة ما علمه الله تعالى أنك أنت العليم بكل المعلومات ، فأمكنك تعليم آدم الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه . وعن ابن عباس : أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض . وقوله { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض } استحضار لقوله تعالى لهم { إني أعلم ما لا تعلمون } إلا أنه تعالى جاء به على وجه أبسط وأشرح ، فيندرج فيه علمه بأحوال آدم قبل أن خلقه . وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها ، فيبطل مذهب هشام ابن الحكم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها . وقد روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود أنه يريد بقوله { ما تبدون } قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } وبقوله { وما كنتم تكتمون } ما أسر إبليس في نفسه من الكفر والكبر وأن لا يسجد . وقيل : لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً فقالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه ، فهذا هو الذي كتموه . ويجوز أن يكون هذا القول منهم سراً أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم ، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان . والظاهر أنه عام كقوله { إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون } [ الأنبياء : 11 ] { إنه يعلم الجهر وما يخفى } [ الأعلى : 7 ] .
البحث الثاني : قالت المعتزلة : ما ظهر من آدم معجز دل على نبوته في ذلك الوقت فكان مبعوثاً إلى حواء أو إلى من توجه التحدي إليهم ، لأنهم كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسل كبعثة إبراهيم إلى لوط صلى الله عليه وسلم واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقض العادة ومنع بأن حصول العلم بالأسماء لمن علمه الله ، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقض للعادة . وأيضاً أهم علموا أن تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو لا؟ فإن علموا فقد قدروا على المعارضة وإلا فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر ، اللهم إلا أن يقال : إن لكل صنف منهم لغة من تلك اللغات ، ثم إن جميع الأصناف حضروا وإن آدم عرض عليهم جميع تلك اللغات فكان معجزاً ، أو يقال : إنه تعالى عرفهم قبل أن يسمعوا من آدم تلك الأسماء فاستدلوا به على صدق آدم . والظاهر أنهم قد عرفوا صدقه بتصديق الله تعالى إياه ، ولئن سلم أنه ظهر منه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان؟ القاطعون بأنه عليه السلام ما كان نبياً في ذلك الوقت قالوا : صدرت الكبيرة منه بعد ذلك ، والإقدام عليها يوجب الطرد والتحقير ، فوجب أن تكون النبوة متأخرة عنها ، كيف وقد قال عز من قائل

{ ثم اجتباه ربه } [ طه : 122 ] والرسالة هي الاجتباء ، فيكون بعد الزلة . وأيضاً لو كان رسولاً ، فإن لم يكن مبعوثاً إلى أحد فلا فائدة ، وإن كان مبعوثاً فإما إلى الملائكة - وهم أفضل من البشر عند المعتزلة - ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف ، وإن المرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] وإما إلى الأنس ، ولا إنسان إلا حواء ، وإنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل { ولا تقربا هذه الشجرة } [ البقرة : 35 ] وإما إلى الجن ، وما كان في السماء أحد من الجن .
البحث الثالث : في فضل العلم : لو كان في الإمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء ، ومما يدل على فضيلته الكتاب والسنة والمعقول . أما الكتاب فمن ذلك ما يروى عن مقاتل ، أن الحكمة في القرآن على أربعة أوجه : أحدها مواعظ القرآن { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } [ البقرة : 231 ] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم { وآتيناه الحكم صبيا } [ مريم : 12 ] { ولقد آتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } [ النساء : 54 ] ورابعها القرآن { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثير } [ البقرة : 269 ] وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم . ومن ذلك أنه تعالى فرق بين سبعة نفر في كتابه { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] { قل لا يستوي الخبيث والطيب } [ المائدة : 100 ] { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر : 20 ] { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات } [ فاطر : 19-22 ] فإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذاً من الفرق بين العالم والجاهل . ومن ذلك قوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ] أي العلماء في أصح الأقوال ، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء . ولا ينعكس { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] جعلهم في الآيتين في المرتبة الثالثة ، ثم زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الثانية { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [ آل عمران : 70 ] { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } [ الرعد : 43 ] ومن ذلك قوله تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] ومن ذلك وصفهم بالإيمان { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } [ آل عمران : 7 ] وبشهادة التوحيد { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] وبالبكاء والسجود والخشوع { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً }

[ الإسراء : 107-109 ] وبالخشية { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] . وأما الأخبار فمنها ما رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم « من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين ، فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة ، وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ، ويمسي ويصبح مغفوراً له ، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار » وعن أنس أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله ، ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره والقائم ليله ، وإن باباً من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن يكون له أبو قبيس ذهباً فينفقه في سبيل الله » وعن الحسن مرفوعاً « من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة في الجنة » وعنه صلى الله عليه وسلم « رحمة الله على خلفائي فقيل : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله » وعن أبي موسى الأشعري مرفوعاً « يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم ، انطلقوا فقد غفرت لكم » وقال صلى الله عليه وسلم « معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحر » وعن أبي هريرة مرفوعاً « من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء » وعن ابن عمر مرفوعاً « فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة حضر الفرس سبعين عاماً » وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم ويزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه إليها ولا يتعرف لها . وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن : « لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب » وعن ابن مسعود مرفوعاً « من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه الله أجر سبعين نبياً » وعن عامر الجهني مرفوعاً « يؤتى بمداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر » وفي رواية « فيرجح مداد العلماء » وعن أبي واقد الليثي « أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر . فأما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فإنه رجع وفر . فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من كلامه قال : ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ فأما الأول فأوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه » .

وعنه صلى الله عليه وسلم « يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » قال الراوي : فأعظم بمرتبة هي الواسطة بين النبوة والشهادة . وعن أبي هريرة مرفوعاً « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له بالخير » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس . قيل : يا رسول الله ومن الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم : أهل القرآن . قيل : ثم من؟ قال : أهل العلم . قيل : ثم من؟ قال صلى الله عليه وسلم : صباح الوجوه » قال الراوي : والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه . وقال صلى الله عليه وسلم « كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك » قال الراوي : وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى « الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيه » أن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم ، وما أحسن قول بعض الأعراب لولده : كن سبعاً خالساً ، أو ذئباً خانساً ، أو كلباً حارساً ، وإياك أن تكون إنساناً ناقصاً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحدث إنساناً فأوحى الله تعالى إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة - وكان هذا وقت العصر - فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال : يا رسول الله دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة . قال صلى الله عليه وسلم اشتغل بالتعلم . فاشتغل بالتعلم وقبض قبل المغرب قال الراوي : فلو كان شيء أفضل من العلم لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك الوقت . وأما الآثار ، فإن مصعب بن الزبير قال لابنه : تعلم العلم فإنه إن يك لك مال كان لك جمالاً ، وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالاً . وقال علي بن أبي طالب : لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل . وقيل : مثل العالم بالله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص . وهو الجالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات ، فهو تارة مع الله بالحب له ، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة ، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار كواحد منهم كأنه لم يعرف الله ، وإذا خلا بربه مشتغلاً بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق ، فهذا سبيل المرسلين والصديقين .

ومثل العالم بالله فقط كمثل القمر يكمل تارة وينقص أخرى ، وهو المستغرق في المعارف الالهية غير متفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بد منه ، ومثل العالم بأمر الله فقط وهو العارف بالحلال والحرام دون أسرار جلال الله ، كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره . وقال شقيق البلخي : الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف ، وذلك أني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول ، فمن لا يصدقني فهو كافر محض ، ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض ، ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمناً محضاً . وقال أيضاً : ثلاثة من النوم يبغضها الله ، وثلاثة من الضحك : النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة ، والنوم في الصلاة ، والنوم عند مجلس الذكر . والضحك خلف الجنازة ، والضحك في المقابر ، والضحك في مجلس الذكر . وقيل : العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم ، لأن الآباء والأمهات يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها ، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وشدائدها . وقيل لابن مسعود : بم وجدت هذا العلم؟ قال : بلسان سؤل وقلب عقول . وقال بعضهم : سل مسألة الحمقى و احفظ حفظ الأكياس . وقيل : الدنيا بستان تزينت بخمسة أشياء : علم العلماء ، وعدل الأمراء ، وعبادة العباد ، وأمانة التجار ، ونصيحة المحترفين . فجاء إبليس بخمسة أعلام وأقامها بجنب هذه الخمس . فجاء بالحسد فركزه في جنب العلم ، وجاء بالجور فركزه بجنب العدل ، وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة ، وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة ، وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : العلم أفضل من المال لسبعة أوجه : العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة ، العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص ، المال يحتاج إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه ، إذا مات الرجل خلف ماله والعلم يدخل معه قبره ، المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن ، جميع الناس محتاجون إلى العالم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال ، العلم يقوي الرجل عند المرور على الصراط والمال يمنعه منه . قال الفقيه أبو الليث : من جلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئاً فله سبع كرامات : ينال فضل المتعلمين ، وكان محبوساً من الذنوب ما دام جالساً عنده ، وإذا خرج من منزله طلباً للعلم نزلت الرحمة عليه ، وإذا جلس في حلقة العلم فنزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب ، وما دام يكون في الاستماع تكتب له طاعة ، إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه وانكسر فيكون في زمرة « أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي » ، إذا رأى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق نفر عن الفسق ومال إلى طلب العلم . وقيل : ثلاثة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميراً : قيامه من مجلسه لأبيه ، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه ، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه .

( واعلم ) أن الله تعالى علم سبعة نفر سبعة أشياء : علم آدم الأسماء كلها ، وعلم الخضر علم الفراسة { وعلمناه من لدنا علماً } [ الكهف : 65 ] وعلم يوسف علم التعبير { وعلمتني من تأويل الأحاديث } [ يوسف : 101 ] وعلم داود صنعة الدرع { وعلمناه صنعة لبوس لكم } وعلم سليمان منطق الطير { علمنا منطق الطير } [ النمل : 16 ] وعلم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل { ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } [ آل عمران : 48 ] وعلم محمداً صلى الله عليه وسلم الشرع والتوحيد { وعلمك ما لم تكن تعلم } [ النساء : 113 ] فعلم آدم كان سبباً لحصول السجدة والتحية ، وعلم الخضر كان سبباً لوجود تلميذ مثل موسى ويوشع ، وعلم يوسف لوجود الأهل والمملكة ، وعلم سليمان لوجدان بلقيس والغلبة ، وعلم داود للرياسة والملك ، وعلم عيسى لزوال التهمة عن أمه ، وعلم محمد صلى الله عليه وسلم لوجدان الشفاعة . ثم نقول : من علم أسماء المخلوقات وجد تحية الملائكة ، فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة بل تحية ربه { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى ، فأمة محمد بعلم الحقيقة يجدون صحبة محمد صلى الله عليه وسلم { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } [ النساء : 69 ] ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا ، فمن كان عالماً بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشبهات { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ يونس : 25 ] وأيضاً فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال { وعلمتني من تأويل الأحاديث } [ يوسف : 101 ] فأنت يا عالم ، أما تذكر نعمة الله على نفسك حيث جعلك مفسراً لكلامه ، وسمياً لنفسه ووارثاً لنبيه وداعياً لخلقه وواعظاً لعباده وسراجاً لأهل بلاده وقائداً للخلق إلى جنته وثوابه ، وزاجراً لهم عن ناره وعقابه ، كما جاء في الحديث « العلماء سادة ، والفقهاء قادة ، ومجالستهم زيادة » وإن سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه بالماء . ( وروي ) عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس : كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء؟ قال : لأن الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها . فقال نافع : الفخ يغطى له بأصبع من التراب فلا يراه فيقع فيه! فقال ابن عباس : إذا جاء القضاء عمي البصر . وقال لولده : يا بني عليك بالأدب ، فإنه دليل على المروءة ، وأنس في الوحشة ، وصاحب في الغربة ، وقرين في الحضر ، وصدر في المجلس ، ووسيلة عند انقضاء الوسائل ، وغني عند العدم ، ورفعه للخسيس ، وكمال للشريف ، وجلال للملك . ( وقال ) سقراط : من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحد كما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك ، ولا يقدر أحد على سلبه عنك . وقيل لبعض الحكماء : لا تنظر فغمض عينيه وقيل له : لا تسمع فسد أذنيه ، وقيل له : لا تتكلم فوضع يده على فيه ، وقيل له : لا تعلم فقال : لا أقدر عليه .

وعن بعض الحكماء : عظم العلم في ذاتك ، وصغر الدنيا في عينك ، وكن ضعيفاً عند الهزل ، قوياً عند الجد ، ولا تلم أحداً على فعل يمكن أن يعتذر منه ، ولا ترفع شكايتك إلا إلى من ترى نفعه عندك حتى تكون حكيماً فاضلاً . ولبعضهم : آفة الزعماء ضعف السياسة ، وآفة العلماء حب الرياسة . ( وأما النكت ) فالمعصية عند الجهل لا يرجى زوالها ، وعند السهو يرجى زوالها انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر ، والشيطان عصى وبقي في الغي أبداً ، لأن ذلك كان بسبب الجهل ، وإن يوسف عليه السلام لما صار ملكاً احتاج إلى وزير فسأل جبريل عن ذلك فقال : إن ربك يقول لا تختر إلا فلاناً ، فرآه في أسوأ الأحوال . فقال لجبريل : كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله؟ فقال له جبريل : إن ربه عينه لذلك لأنه ذب عنك بعلمه حين قال { وإن كان قميصه قُدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين } [ يوسف : 27 ] والنكتة أن من ذب عن يوسف استحق الشركة في مملكته ، فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم فكيف لا يستحق من الله الخير والإحسان؟ وقيل : أراد واحد خدمة ملك فقال الملك : اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم ، بعث الملك إليه وقال : اترك التعلم فقد صرت أهلاً لخدمتي . فقال كنت أهلاً لخدمتك حين لم ترني أهلاً لخدمتك ، وحين رأيتني أهلاً لخدمتك رأيت نفسي أهلاً لخدمة الله ، وذلك لأني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب . ( وقال الحكيم : ) القلب ميت وحياته بالعلم ، والعلم ميت وحياته بالطلب ، والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة ، فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب ، وإظهاره بالمناظر وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ، ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكاً أبدياً لا آخر له . وإن نملة واحدة نالت الرياسة بمسألة واحدة علمتها وذلك قولها { وهم لا يشعرون } [ النمل : 18 ] كأنها إشارة إلى تنزيه الأنبياء عن المعصية وإيذاء البريء من غير جرم فقالت : لو حطمكم فإنما يصدر ذلك على سبيل السهو . فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات ، كيف لا يستحق الرياسة في الدين والدنيا؟ وإن الكلب المعلم يكون صيده ماهراً ببركة العلم مع أنه نجس في الأصل ، فالنفس الطاهرة في الفطرة إذا تلوثت بأوزار المعصية ، كيف لا تطهر ببركة العلم بالله وبصفاته؟ وإذا كان السارق عالماً لا تقطع يده لأنه يقول : كان المال وديعة لي ، وكذا الشارب يقول : حسبته حلالاً ، وكذا الزاني يقول : تزوجتها فإنه لا يحد . وأما الحكايات ، ( يحكى ) أن هارون الرشيد كان بحضرته فقهاء فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيتي مالاً بالليل ، ثم أقر الآخذ بذلك في المجلس ، فاتفق العلماء على أنه تقطع يده ، فقال أبو يوسف : لا قطع عليه لأنه أقر بالأخذ ، وإنه لا يوجب القطع بل لا بد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في ذلك ثم قالوا للآخذ : أسرقتها؟ فقال : نعم .

فأجمعوا على القطع لأنه أقر بالسرقة . فقال أبو يوسف : لا قطع عليه لأنه وإن أقر بالسرقة ، لكن بعدما أوجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ ، وإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل .
( وعن الشعبي ) كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر - فقيه خراسان - من بلخ مكبلاً في الحديد . فقال الحجاج : أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية الرسول؟ فقال : بلى . فقال الحجاج : لتأتيني ببينة واضحة من كتاب الله أو لأقطعنك عضواً عضواً . فقال : آتيك ببينة واضحة من كتاب الله يا حجاج؟ قال : فتعجب من جرأته بقوله يا حجاج فقال له : ولا تأتيني بهذه الآية { ندع أبناءنا وأبناءكم } [ آل عمران : 61 ] فقال : آتيك بها واضحة من كتاب الله . قال تعالى : { ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان } [ الأنعام : 84 ] إلى قوله { وزكريا ويحيى وعيسى } [ الأنعام : 85 ] فمن أبو عيسى فقد ألحق تعالى عيسى بذرية نوح قال : فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال : كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله ، حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا . ( ويحكى ) أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويسفهوا عليه ، فقال لهم : لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره ، فأشاروا إلى واحد فقال : هذا أعلمكم؟ قالوا : نعم قال : والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا : نعم . قال : والإلزام عليه كالإلزام عليكم؟ قالوا : نعم . قال : وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد ألزمتكم الحجة؟ قالوا : نعم . قال : وكيف قالوا لأنا رضينا به إماماً فكان قوله قولاً لنا ، قال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة فقراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالعلم . ويحكى أن المنصور دعا أبا حنيفة يوماً فقال الربيع وهو يعاديه : يا أمير المؤمنين ، هذا يخالف جدك حيث يقول الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره ، فقال أبو حنيفة : هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس . فقال : كيف قال إنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم؟ فضحك المنصور وقال : إياك يا ربيع وأبا حنيفة ، فلما خرج الربيع قال : سعيت في دمي قال : كنت البادي . ويحكى أنه دخل اللصوص على رجل وأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثاً أن لا يعلم أحداً . فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه ، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة ، فقال : أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأدخلهم جميعاً في دار واحدة وأخرج واحداً واحداً .

فقال للرجل : إن لم يكن لصك فقل : لا ، وإن كان فاسكت . فلما سكت قبض على اللص ورد الله تعالى عليه جميع ما سرق منه . ويحكى أنه كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة ، فقال يوماً له : إني أريد التزوج من آل فلان وقد خطبتها إليهم فطلبوا مني من المهر فوق طاقتي . قال : استقرض وادخل عليها فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك . فأقرضه أبو حنيفة ذلك القدر ثم قال له بعد الدخول : أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد ، وأنك تسافر بأهلك معك . فأظهر الرجل ذلك فاشتد على أهل المرأة وجاءوا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه فقال لهم : له ذلك ، والطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه فأجابوا إليه ، فقال الزوج : إني أريد شيئاً آخر فوق ذلك . فقال له أبو حنيفة : ترضى بهذا وإلا أقرت لرجل بدين فلا يمكن المسافرة بها حتى تقضي ما عليها ، فقال الرجل : الله الله ، لا يسمعوا بهذا ، فرضي بذلك وحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين . وسئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته في نهار رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب . فقال : يسافر بامرأته فيطؤها نهاراً في رمضان . وقال بشر المريسي للشافعي : كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أهل المشرق والمغرب على شيء واحد - وكانت هذه المناظرة عند الرشيد - فقال الشافعي : هل تعرف إجماع الناس على خلاف هذا الجالس؟ فأقر به خوفاً وانقطع . ويحكى أن أعرابياً سأل الحسين بن علي رضي الله عنه حاجة وقال : « سمعت جدك يقول : إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة : إما عربياً شريفاً ، أو مولى كريماً ، أو حامل القرآن ، أو صاحب الوجه الصبيح » فأما العرب فشرفت بجدك ، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم ، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل ، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين » رضي الله عنهما . فقال الحسين رضي الله عنه : ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض . فقال الحسين رضي الله عنه : سمعت أبي علياً رضي الله عنه يقول : قيمة كل امرئ ما يحسنه . وسمعت جدي يقول : المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل ، إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي ، وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي ، وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي . وقد حمل إلى الحسين صرة مختومة من العراق فقال : سل ولا قوة إلا بالله . فقال رضي الله عنه : أي الأعمال أفضل؟ قال الأعرابي : الإيمان بالله . قال : فما نجاة العبد من الهلكة؟ قال : الثقة بالله ، قال : فما يزين المرء؟ قال : علم معه حلم .

قال رضي الله عنه : فإن أخطأ ذلك؟ قال : فمال معه كرم . قال رضي الله عنه : فإن أخطأ ذلك؟ قال : ففقر معه صبر . قال رضي الله عنه : فإن أخطأ ذلك؟ قال : فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه . فضحك الحسين رضي الله عنه ورمى بالصرة إليه .
وأما الوجوه العقلية فمنها أن الأمور أربعة أقسام : قسم يرضاه العقل دون الشهوة كمكاره الدنيا ، وقسم عكس ذلك كالمعاصي ، وقسم ترضاه الشهوة والعقل وهو العلم والجنة ، وقسم لا ترضاه الشهوة والعقل وهو الجهل والنار . فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة ، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة ، وكما يعيش يموت وكما يموت يبعث . ومنها أن اللذة إدراك المحبوب ، وكلما كان المدرك أكمل وأشرف كانت اللذة أكمل وأتم . ومدرك العقل هو الله تعالى وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والمواليد وجميع أحكامه وأوامره وأي معلوم أشرف من ذلك؟ فلا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذته ، ولا ألم ولا نقصان مثل ألم الجهل ونقصانه ، ولهذا قال عز من قائل { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . إقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق : 1-5 ] كأنه قال : كنت في أول حالك علقة هي الغاية في الخساسة ، ثم صرت في آخر حالك في غاية الشرف . وأيضاً ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، وهذا يدل على أنه إنما يستحق الأكرمية لأنه أعطى العلم ، فالعلم أشرف عطية وأعظم موهبة . ومنها أنه تعالى قال { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] فالعلماء من أهل الخشية ، وأهل الخشية أهل الجنة لقوله تعالى { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن } إلى قوله { ذلك لمن خشي ربه } [ البينة : 8 ] فالعلماء من أهل الجنة بل ليس أهل الجنة إلا العلماء وذلك لكلمة إنما المفيدة للحصر ولا جل لام الاختصاص في قوله { لمن خشي } والسبب في أن العلماء هم أهل الخشية ، أن من لم يكن عالماً بالشيء استحال أن يكون خائفاً منه . ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف بل لا بد معه من العلم بأمور ثلاثة : أحدها العلم بالقدرة لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعه ، وثانيها العلم بكونه عالماً لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته لكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه ، وثالثها العلم بكونه حكيماً فإن المسخرة عند السلطان عالم بكون السلطان قادراً على منعه عالماً بقبائح أفعاله لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، قادراً على كل المقدورات ، غير راضٍ بالمنكرات والمحرمات ، فإذن الخوف من لوازم العلم بالله ، وبهذا يعرف نباهة قدر العلم .

ومن هنا أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بالازدياد منه حيث قال { وقل رب زدني علماً } [ طه : 114 ] . ولم يكتف نبي الله موسى عليه السلام بما علم بل قال للخضر { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً } [ الكهف : 66 ] ولم يفتخر سليمان بالمملكة العظيمة بل افتخر بالعلم { علمنا منطق الطير } [ النمل : 16 ] ولولا شرف العلم لم يكن للهدهد مع ضعفه أن يتكلم بحضرة سليمان بقوله { أحطت بما لم تحط به } [ النمل : 22 ] وهكذا الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول على السلاطين ، وما ذاك إلا ببركة العلم . ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال « تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة » وذلك أن التفكر يوصلك إلى الله ، والعبادة توصلك إلى ثواب الله . وأيضاً التفكر عمل القلب والعبادة عمل الجوارح . ومنها أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم ، أما التوراة فقال لموسى : عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له . فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة . وأما الزبور فقال سبحانه لداود : قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء ، فإن لم تجدوا فيهم تقياً فحادثوا العلماء ، فإن لم تجدوا عالماً فحادثوا العقلاء ، فإن التقي والعلم والعقل ثلاث مراتب ، ما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد هلاكه ، وإنما قدم سبحانه التقى على العلم ، لأن التقى لا يوجد بدون العلم كما بينا من أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم ، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد ، ولهذا السر أيضاً قدم العالم على العاقل لأن العالم لا بد وأن يكون عاقلاً ، وأما العاقل فقد لا يكون عالماً ، فالعقل كالبذر والعلم كالشجر والتقوى كالثمر . وأما الإنجيل فقد قال عز من قائل في السورة السابعة عشرة منه : ويل لمن سمع العلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار؟ اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم ، وإن لم يرفعكم لم يضعكم ، وإن لم يغنكم لم يفقركم ، وإن لم ينفعكم لم يضركم . ولا تقولوا نخاف أن تعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجو أن نعلم فنعمل ، إذ العلم شفيع لصاحبه ، وحق على الله أن لا يخزيه ، وإن الله تعالى يقول يوم القيامة : يا معشر العلماء ، ما ظنكم بربكم؟ فيقولون : ظننا أن ترحمنا وتغفر لنا فيقول : وإني قد فعلت ، إني استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم ، فادخلوا في صالحي عبادي إلى جنتي برحمتي .
وبالجملة ، فكون العلم صفة شرف وكمال ، وكون الجهل صفة نقصان ، أمر معلوم للعقلاء بالضرورة ، ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل تأذى بذلك وإن كان يعلم أنه كاذب ، ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك ، والعلم أينما وجد كان صاحبه محترماً معظماً حتى إن غير الإنسان من الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان .

والعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم في العلم ، وأن كثيراً ممن كانوا يعاندون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون قتله كانوا إذا وقع بصرهم عليه ألقى الله في قلوبهم الرعب منه فهابوه وانقادوا له .
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تغنيك عن خبر
وما فضل الإنسان على سائر الحيوان إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعداً لإدراك حقائق الأشياء والاشتغال بعبادة الله تعالى ، والجاهل كأنه في ظلمة شديدة إذا أخرج يده لم يكد يراها ، والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات ، فيطالع الموجودات والمعدوم والواجب والممكن والمحال ، ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض ، والجوهر إلى البسيط والمركب ، ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره ، والجزء الذي به يمتاز عن غيره ، ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليته وجزئيته ، فيصير كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها ، وأنه في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام كاملاً ومكملاً ، واسطة بين الله وعباده ، ولأمر ما لم يجعل الله سبحانه سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والحيز جواباً للملائكة وموجباً لسكوتهم ، وإنما جعل تعالى صفة العلم جواباً لهم ثم قال { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] وهكذا أظهر فضيلة آدم بالعلم بعد افتخارهم بالتسبيح والتقديس . وإن إبراهيم اشتغل في أول أمره بطلب العلم متنقلاً بفكره من الكوكب إلى القمر ، ومن القمر إلى الشمس ، إلى أن وصل إلى الدليل الباهر والبرهان الظاهر إلى المقصود وهو الملة الحنيفية . وإن الله تعالى سمى العلم تارة بالحياة { أوَ من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] وتارة بالروح { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] وتارة بالنور { يهدي الله لنوره من يشاء } [ النور : 35 ] وضرب المثل العلم بالماء { أنزل من السماء ماء } [ الرعد : 17 ] فعلم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر ، كذلك لا ينبغي طلب كيفية الله كيلا يفضي إلى الكفر ، وعلم الفقه كماء القناة يزداد بالاستنباط والحفر ، وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافياً ويتكدر بغبار الهواء ، وكذلك علم الزهد صافٍ ويتكدر بالطبع ، وعلم البدع كماء السيل يهلك الأحياء ويميت الخلق .
وأما الأخبار والآثار الدالة على وعيد من لم يعمل بعلمه أو طلب العلم لغير ذات الله فمنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال :

« لا تجالسوا العلماء إلا إن دعوكم من خمس إلى خمس : من الشك إلى اليقين ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن العداوة إلى النصيحة ، ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد » وقال صلى الله عليه وسلم « الناس كلهم هلكى إلا العالمون ، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون ، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم » عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنو منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها ، فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فتودوا ذاك أردت بكم ، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم ، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ، تراؤون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم . هبتم الناس ولم تهابوني ، أجللتم الناس ولم تجلوني ، تركتم المعاصي ولم تتركوها لي ، أكنت أهون الناظرين عليكم؟ فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من النعيم » وقيل : أطلب أربعة في أربعة : من الموضع السلامة ، ومن الصاحب الكرامة ، ومن المال الفراغة ، ومن العلم المنفعة ، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه ، وإذا لم تجد من الصاحب الكرامة فالكلب خير منه ، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه ، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه ، وقيل : لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء : لا يتم الدين إلا بالتقوى ، ولا يتم القول إلا بالفعل ، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع ، ولا يتم العلم إلا بالعمل ، فالدين بلا تقوى على الخطر ، والقول بلا فعل كالهذر ، والمروءة بلا تواضع كالشجر بلا ثمر ، والعلم بلا عمل كالغيم بلا مطر ، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لجابر بن عبد الله الأنصاري : قوام الدنيا بأربعة : بعالم يعمل بعلمه ، وجاهل لا يستنكف عن تعلمه ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه . فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه ، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه ، فالويل لهم والثبور سبعين مرة . وقيل : إذا وضعت على سواد عينك جزءاً من الدنيا لا ترى شيئاً ، فإذا وضعت على سويداء قلبك كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئاً؟ .
البحث الرابع : في حد العلم الأشعري : العلم ما يعلم به . وربما قال : ما يصير الذات به عالماً . القاضي : العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه . القفال : إثبات المعلوم على ما هو به والكل دائر .

المعتزلة : هو الاعتقاد المقتضي لسكون النفس . الفلاسفة : صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم ، ولا يخفى خروج علم الله تعالى عنهما فإنه لا يطلق هناك النفس ، وفيه مفاسد أخر يطول ذكرها ههنا ، وعند كثير من المحققين : هو بديهي . وقيل : أصح الحدود ، صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض . والحق في هذا المقام هو أن نسبة البصيرة إلى مدركاتها كنسبة البصر إلى مدركاته ، فكما أن للبصر نوراً كل ما يقع في ذلك النور فهو مدركه ، فكذا للبصيرة نور كل ما يقع فيه فهو مدركها . ولا يدرك حقيقة هذا النور ، إلا من له نور { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] وهكذا إدراكات جميع الأنوار حتى نور الأنوار ، وكلما ازدادت النفس نورية وشروقاً ازداد انبساطها فيقع فيها المعلومات أكثر ، وهكذا يكون الحال في كل مستكمل . أما إذا كان العالم بحيت تكون كمالاته الممكنة له موجودة معه بالفعل ، فلا تزداد نوريته ، ولا يتجاوز مرتبته في العلم { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] ثم إن كان التكمال والنور بحيث لا يمكن أكمل منه ولا أنور ، كان جميع الأشياء واقعة في نوره ، بل يكون نوره نافذاً في الكل متصرفاً فيها محيطاً بها أزلاً وأبداً { ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء } [ سبأ : 3 ] وههنا أسرار أخر لا يجوز التعبير عنها لعزتها يتفطن لبعضها من وفق لها من أهلها .
البحث الخامس في ألفاظ تقرب من العلم . الأول : الإدراك ، وهو الوصول لأن القوة العاقلة تصل إلى حقيقة المعقول . الثاني : وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعقول إلى القوة العاقلة ولهذا لا يوصف به الله تعالى . الثالث : التصور مشتق من الصورة ، فكأن حقيقة المعقول حلت في العاقلة حلول الشكل في المادة . الرابع : الحفظ وذلك إذا استحكمت الصورة في العاقلة بحيث لو زالت لتمكنت من استرجاعها . الخامس : التذكر وهو محاولة استرجاع الصورة المحفوظة ، وإنه بالحقيقة التفات النفس إلى عالمها . السادس : الذكر وهو وجدان الصورة بعد محاولة استرجاعها ، ولا محالة يكون مسبوقاً بالزوال : قال الشاعر :
الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف أذكره إذ لست أنساه
ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حضور المعنى في النفس قال عز من قائل { إنا نحن نزلنا الذكر } [ الحجر : 9 ] . السابع : المعرفة وقد اختلفوا في تفسيرها . فمن قائل إنها إدراك الجزئيات ، والعلم إدراك الكليات . ومن قائل إنها التصور والعلم هو التصديق ، وجعل العرفان أشرف من العلم لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة ، وأما تصور حقيقته فأمر وراء الطاقة البشرية ، وقال بعضهم : من أدرك شيئاً وانحفظ أثره في نفسه ، ثم أدرك ذلك الشيء ثانياً وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانياً هو الذي كان قد أدركه أولاً ، فهذا هو المعرفة .

والنفس قبل البدن كانت معترفة بالربوبية إلا أنها في ظلمة العلاقة البدنية قد نسيت مولاها ، فإذا تخلصت من قيد العلاقة عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة . الثامن : الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب ، والإفهام هو إيصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع . التاسع : الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه قال تعالى { لا يكادون يفقهون حديثاً } [ النساء : 78 ] أي لا يقفون على المقصود الأصلي من التكاليف . العاشر : العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها ونفعها وضرها حتى يصير مانعاً من الفعل مرة ، ومن الترك أخرى ، فيجري ذلك مجرى عقال الناقة . ومن هنا قيل : هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ، والعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه . الحادي عشر : الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيلة ، وهي ترتيب المقدمات فلا يصح إطلاقها عليه تعالى . الثاني عشر : الحكمة وهي اسم لكل علم حسن وعمل صالح ، وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري ، وفي العمل أكثر استعمالاً منه في العلم ، وقيل : هي الاقتداء بالخالق سبحانه بقدر القوة البشرية ، وذلك أن يجتهد أن ينزه علمه عن الجهل ، وعدله عن الجور ، وجوده عن البخل وحلمه عن السفه . الثالث عشر : علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين . فعلم اليقين ما كان من طريق النظر والاستدلال ، وعين اليقين ما كان من طريق الكشوف والنوال ، وحق اليقين ما كان متحقق الانفصال عن لوث الصلصال بوروده رائد الوصال . الرابع عشر : الذهن وهو قوة النفس على اكتساب الحدود والآراء . الخامس عشر : الفكر وهو انتقال النفس من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة . وقيل : إنه يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلم من عنده . السادس عشر : الحدس وهو قوة للنفس بها يهتدي بسرعة إلى الحد الأوسط في كل قياس . السابع عشر : الذكاء وهو شدة هذا الحدس وبلوغه الغاية القصوى ، من ذكت النار اشتعلت . الثامن عشر : الفطنة وهي التنبه لشيء قصد تعريضه كالأحاجي والرموز . التاسع عشر : الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل حق أو حظ . العشرون : الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال : إنه الحكم بأمور جزئية غير محسوسة لأشخاص جزئية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة الذئب . الحادي والعشرون : الظن وهو الاعتقاد الراجح فإن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال العالم ، وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم { إن بعض الظن إثم } [ الحجرات : 12 ] . الثاني والعشرون : الخيال وهو عبارة عن الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته ، وما كان من ذلك في النوم قد يخص باسم الطيف . الثالث والعشرون : البديهة وهي المعرفة الحاصلة للنفس ابتداء لا بتوسط الفكر مثل : الكل أعظم من الجزء ، وقد يقال لها الأوليات ، الرابع والعشرون : الروية وهي ما كان من المعارف بعد فكر كثير .

الخامس والعشرون : الكياسة وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت » السادس والعشرون : الخبر وهو معرفة تحصل بطريق التجربة وجدت الناس اخبر تقله . السابع والعشرون : الرأي وهو إجالة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب ، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي ، والرأي للفكرة كالآلة للصانع ، ولهذا قيل : إياك والرأي الفطير . الثامن والعشرون : الفراسة وهي اختلاس المعارف من فرس السبع الشاة . فضرب منها يحصل للإنسان من باطنه ، ولا يعرف له سبب الإصغاء جوهر الروح وهو شبه الإلهام ، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « إن في أمتي لمحدثين وإن عمر منهم » وقد يسمى النفث في الروع ، وضرب يحصل بالاستدلال من الأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة . وقيل : { أفمن كان على بينة من ربه } [ هود : 17 ] إشارة إلى الأول { ويتلوه شاهد منه } [ هود : 17 ] إلى الثاني والله أعلم .
التأويل : عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله خلق آدم فتجلى فيه » فبالتجلي علمه التخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته وهذا هو سر الخلافة بالحقيقة ، لأن المرأة تكون خليفة المتجلي فيها { أنبئوني بأسماء هؤلاء } أي بأسماء هؤلاء المخلوقات دون أسماء الله وصفاته { إن كنتم صادقين } في دعوى الفضيلة ، فإن الفضيلة ليست بمجرد الطاعة ، فإن ذرات الموجودات مسبحات بحمدي ، وإنما الأفضلية بالعلم لأن الطاعة من صفات الخلق ، والعلم من صفات الخالق ، والفضل لمن له صفة الحق والخلق جميعاً فيخلف عن الحق بصفاته وعن الخلق بصفاتهم . وإنما قال { أنبئهم } ولم يقل علمهم كقوله تعالى { وعلم آدم } لأن الملائكة ليس لهم الترقي في الدرجات والملكوتيات ، لهم شهادة كالجسمانيات لنا ، ولا يتجاوزون ما فوق سدرة المنتهى كما قال جبريل : لو دنوت أنملة لاحترقت . والجسمانيات مرتبة دون مرتبتهم فيمكن إنباؤهم بها لأن الجسمانيات لهم كالحيوانيات بالنسبة إلينا . وأما الالهيات فليس لهم استعداد الترقي إليها ، فلهذا لم يقل أنبئهم بأسمائهم كلها كما قال { وعلم آدم الأسماء كلها } لئلا يكون تكليفاً بما لا يطاق ، وإنما كان آدم مخصوصاً بعلم الأسماء واحتاجت الملائكة إليه في إنباء أسمائهم وأسماء غيرهم ، لأنه كان خلاصة العالم ، ولهذا خلق شخصه بعد تمام العالم بما فيه كخلق الثمرة بعد تمام الشجرة . فكما أن الثمرة تعبر على أجزاء الشجرة كلها حتى تظهر على أعلى الشجرة ، كذلك آدم عبر على أجزاء شجرة الوجود وكان في كل جزء من أجزائها له منفعة ومضرة ومصلحة ومفسدة ، فحصل له من كل من ذلك اسم يلائمه حتى إن أسماء الله تعالى جاءت على وفقه فضلاً عن أسماء غيره ، وذلك أنه لما كان مخلوقاً كان الله خالقاً ، ولما كان مرزوقاً كان الله رازقاً ، ولما كان عبداً كان الله معبوداً ، ولما كان معيوباً كان ستاراً ، ولما كان مذنباً كان غفاراً ، ولما كان تائباً كان تواباً ، ولما كان منتفعاً ومتضرراً كان نافعاً وضاراً ، ولما كان ظالماً كان عادلاً ، ولما كان عليه السلام مظلوماً كان منتقماً وعلى هذا فقس .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

القراآت : { للملائكة اسجدوا } برفع الهاء للإتباع : يزيد وقتيبة . وروى ابن مهران عنهما أنهما يشمان الكاف الكسر ويرفعان الهاء . وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة : الملايكة بغير همز ، وكذلك كل كلمة في وسطها همزة مكسورة إلا قوله { السائلين } و { السائل } و { البائس } فإنهما بالهمز { شئتما } وبابه بغير همز : أبو عمر ويزيد والأعشى وورش ، ومن طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف { فأزالهما } حمزة { آدم } نصب { كلمات } رفع ابن كثير { فلا خوف عليهم } بالفتح حيث كان : يعقوب { هداي } و { محياي } و { مثواي } بالإمالة كل القرآن على غير ليث . { النار } بالإمالة كل القرآن ، وكذلك كل كلمة في آخرها راء مكسورة بعد الألف في موضع اللام من الكلمة قرأها على غير ليث وأبي حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وحمزة في رواية ابن سعدان وأبو عمرو إلا أنه لا يميل { الجار } و { الغار } في بعض الروايات . فروى إبراهيم بن حماد عن اليزيدي { الجار } بالإمالة . وروى ابن مجاهد عن اليزيدي { الغار } بالإمالة ، وسائر الروايات عنه بالتفخيم لقلة دورهما . واختلفوا في وقف أبي عمرو في مثل { النار } وأشباه ذلك . فروى ابن مجاهد والحسن بن عبد الله عن النقاش وكثير من أهل العراق أنه يقف كما يصل ، وروى سلمة بن عاصم أنه يقف بالتفخيم والأول أكثر .
الوقوف : { إبليس } ( ط ) لأنه معرف والجملة بعده لا تكون صفة له إلا بواسطة الذي ولا عامل فتجعل الجملة حالاً { الكافرين } ( 5 ) { شئتما } ( ص ) لاتفاق الجملتين { الظالمين } ( 5 ) { كانا فيه } ( ص ) لعطف الجملتين المتفقتين . { عدو } ( ج ) لاختلاف الجملتين { حين } ( 5 ) { فتاب عليه } ( ط ) { الرحيم } ( ج ) { جميعاً } ( ج ) لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { يحزنون } ( 5 ) { النار } ( ج ) لأن ما بعدها مبتدأ وخبر . وقيل : الجملة خبر بعد خبر لأولئك ، لأن تمام المقصود بوعيد هو الخلود مثل : الرمان حلو حامض { خالدون } ( 5 ) .
التفسير : لما خصص الله تعالى أبانا آدم بالخلافة ثم علمه من العلوم ما ظهر بذلك مزيته على جميع الملائكة ، اقتضت حكمته البالغة أن جعله مسجوداً لهم وهذا مقتضى النسق ههنا ظاهر إلا أن قوله تعالى في موضع آخر { فإذا سويته فيه من روحي فقعوا له ساجدين } [ ص : 72 ] يقتضي أن يكون الأمر بالسجود قبل تسوية خلقه ، وأنه كما صار حياً صار مسجوداً لهم . وتعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد سجدتهم . والله أعلم بذلك . ثم إن المسلمين أجمعوا على أن ذلك السجود لم يكن للعبادة لأنه تعالى لا يأمر بالكفر والعبادة لغيره كفر ، فزعم بعض أن السجود كان لله تعالى وآدم كالقبلة . فقوله { اسجدوا لآدم } مثل قولك « صل للقبلة » قال حسان بن ثابت :

ما كنت أعرف أن الأمر منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن؟
وهو ضعيف لأن المقصود من هذه القسة شرح تعظيم آدم ، وجعله مجرد القبلة لا يفيد كونه أعظم حالاً من الساجد . وزعم آخرون أن المراد بالسجود الانقياد والخضوع كما هو مقتضى أصل اللغة مثل { والنجم والشجر يسجدان } [ الرحمن : 6 ] وزيف بأنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض ، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك ، لأن الأصل عدم التغيير . وأصح الأقوال أن السجود كان بمعنى وضع الجبهة ولكن لا عبادة بل تكرمة وتحية كالسلام منهم عليه ، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك بدل التسليم . قال قتادة في قوله { وخروا له سجداً } [ يوسف : 100 ] كان تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض ، ويجوز أن تختلف الرسوم والعادات باختلاف الأزمنة والأوقات . واختلف في أن إبليس من الملائكة أم لا . فقال أكثر المتكلمين لا سيما المعتزلة : إنه لم يكن منهم . وقال كثير من الفقهاء : إنه كان منهم حجة الأولين أنه من الجن لقوله تعالى في الكهف { إلا إبليس كان من الجن } [ الآية : 50 ] فلا يكون من الملائكة . وأيضاً قال { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } [ سبأ : 40 ] ورد الأول بأن الجن قد يطلق على الملك لاستتاره عن العيون ، وبأن كان يحتمل أن تكون بمعنى صار . والثاني بأنه لا يلزم من كون الجن في هذه الآية نوعاً مغايراً للملائكة أن يكون في الآية الأولى أيضاً مغايراً ، لاحتمال كونه على مقتضى أصل اللغة وهو الاستتار . وقالوا : إن إبليس له ذرية لقوله تعالى { أتتخذونه وذريته أولياء من دوني } [ الكهف : 50 ] والملائكة لا ذرية لها لأنها تحصل من الذكر والأنثى ولا إناث فيهم لقوله { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } [ الزخرف : 19 ] منكراً عليهم وأيضاً الملائكة معصومون لما سلف ، وإبليس لم يكن كذلك . وأيضاً إنه من النار { خلقتني من نار } [ ص : 76 ] وأنهم من نور لقوله صلى الله عليه وسلم « خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار » رواه الزهري عن عروة عن عائشة . ومن المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون ، فقيل سموا بذلك لأنهم من الريح أو من الروح . وأيضاً الملائكة رسل { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] ورسل الله معصومون { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] حجة الآخرين أنه استثناه من الملائكة ، وحمله على المتصل أولى ، لأن تخصيص العمومات في كتاب الله أكثر من الاستثناء المنقطع . قيل : إنه جني واحد مغمور بين ظهراني ألوف من الملائكة فغلبوا عليه ، وهذا لا ينافي كون الاستثناء متصلاً . وأجيب بأن التغليب إنما يصار إليه إذا كان المغلوب ساقطاً عن درجة الاعتبار ، أما إذا كان معظم الحديث فيه فلا يصار إلى التغليب .

وأيضاً لو لم يكن من الملائكة لم يتناوله الخطاب ب { اسجدوا } وحينئذ لم يستحق بترك السجود لوماً وتعنيفاً ، ولا يمكن أن يقال إنه نشأ معهم والتصق بهم فتناوله الأمر لما بين في أصول الفقه أن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين ، ولا أن يقال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر إلا أنه تعالى أمره بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] لأن قوله { أبى واستكبر } عقيب قوله { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا } مشعر بأن المخالفة بسبب هذا الأمر ، هذا ما قيل عن الجانبين . ومما يناسب تفسير الآية الكلام في أن الأنبياء أفضل من الملائكة أم بالعكس ، قال أكثر أهل السنة بالأول ، ومالت المعتزلة والشيعة إلى الثاني ، واختاره الباقلاني وأبو عبد الله الحليمي من فقهاء أهل السنة .
المعتزلة احتجوا بأمور : أحدها { ومن عنده لا يستكبرون } [ الأنبياء : 19 ] وليس المراد عندية المكان والجهة بل عندية القرب والشرف . وعورض بما حكى عنه سبحانه « أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي » بل هذا أبلغ لأن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عنده . قالوا : الآية تدل على أنه تعالى يقول الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض والآفات ، لا يتركون العبودية لحظة واحدة ، فالبشر مع غاية ضعفهم وقصورهم أولى بذلك . وأجيب بأنه لا نزاع في ذلك ، وإنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب .
الثانية : عباداتهم من عبادات البشر فيكون ثوابهم أكثر لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة « أجرك على قدر نصيبك » ولقوله « أفضل العبادات أجزها » أي أشقها . وأما بيان أن عباداتهم أشق فمن وجهين : أحدهما أنهم سكان السموات وهي جنان ومنتزهات وهم مع ذلك لا يلتفتون إلى نعيمها ويقبلون على طاعاتهم خائفين وجلين وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً فضلاً عن تلك الأعصار المتطاولة { إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] ويؤكده قصة آدم فإنه أطلق له في الجنة جميعها إلا شجرة واحدة ومع ذلك لم يملك نفسه ، والثاني أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من طعام إلى طعام ، والإقامة على نوع واحد تورث السآمة وهذا شأن الملائكة { وإنا لنحن الصافون . وإنا لنحن المسبحون } [ الصافات : 165 ، 166 ] ومنهم ركوع ومنهم سجود منذ خلقوا . وعورض الوجه الأول بأن أسباب البلاء مجتمعة على البشر ، ثم إنهم راضون بقضاء الله مواظبون على تكاليفهم ، ولذلك كان العبيد والخدم تطيب قلوبهم بالخدمة حال الرفاهية ، ولا يصبر أحد منهم على مشقة الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص .

والثاني بأن العادة طبيعية خامسة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً » الثالثة : عباداتهم أدوم { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وخير الأعمال أدومها ، مع أن أعمارهم أكثر . وعلى الآية سؤال . روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله عز وجل { لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] ثم قال { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] أولئك عليهم لعنة الله والملائكة ، أفلا تكون الرسالة واللعن مانعين عن التسبيح؟ فأجاب بأن التنفس لا يمنعنا من الاشتغال بشيء آخر ، فكذلك التسبيح لهم . وزيف بأن آلة النفس فينا غير آلة الكلام ، وأما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام ، فاجتماعهما في آلة واحدة محال . وأجيب باحتمال أن يكون لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداءه ببعض آخر ، وبأن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي ، أو المراد لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال : فلان يواظب على الجماعات . يعنون أنه عازم على أدائها في أوقاتها . ونوقضت الحجة بأن الطاعة القليلة من الإنسان قد تقع على وجه يستحق بها ثواباً من ثواب طاعاتهم .
الرابعة : أنهم أسبق السابقين في كل العبادات { والسابقون السابقون . أولئك المقربون } [ الواقعة : 10 ، 11 ] « من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها » .
الخامسة : الملائكة رسل إلى الأنبياء { علمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] { نزل به الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] والرسول أفضل من الأمة قياساً على الشاهد . ومنع بأن هذا إذا كان الرسول حاكماً على المرسل إليهم ومتولياً لأمورهم كالأنبياء المبعوثين إلى أممهم ، أما في مطلق الرسول فلم قلتم إنه كذلك كما لو أرسل الملك عبداً من عبيده إلى وزيره أو إلى ملك آخر .
السادسة : أنهم أتقى من البشر لدوام خوفهم { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] مع وجود شهوة الترفع والرياسة فيهم ولهذا قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } وإن لم يكن لهم شهوة الأكل والوقاع ، فوجب أن يكونوا أفضل { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] ورد بأن تقوى الإنسان أكمل فإن لهم مع شهوة الرياسة شهوة البطن والفرج أيضاً .
السابعة : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ] خرج الثاني مخرج التأكيد للأول . ومثل هذا إنما يكون بذكر الأفضل بعد الفاضل . كقولك : هذا العالم لا يستنكف عن خدمة الوزير ولا الملك . فيفيد أفضلية الملائكة المقربين في المعاني المصححة للعبودية من نهاية الخضوع والخشوع ما يتبعها مع شدة بطشهم وقوة حالهم . وعورض بأنه قد يقال هذا العالم لا يستنكف عن خدمة القاضي ولا السلطان ، ولا يفيد إلا أن السلطان أكل من القاضي في بعض الأمور كالقوة والقدرة ، ولا يدل على كونه أكمل من القاضي في سائر الدرجات كالعلم والزهد .

فلم قلتم : إنهم أفضل من البشر في كثرة الثواب؟ قلت : والحق أن جميع الدرجات مندرجة تحت العبودية كما أشرنا إليه فيما مر ، فيفيد أفضلية الملائكة . لكن المقربين منهم فقط دون غيرهم ومفضولية المسيح فقط دون غيرهم كمحمد صلى الله عليه وسلم .
الثامنة : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [ الأعراف : 20 ] فهذا وإن كان حكاية قول إبليس ، إلا أن آدم وحواء لو لم يعتقدا أفضلية الملك لم يغترا بذلك واعتقادهما حجة . ورد بأن آدم لعله أخطأ في ذلك الاعتقاد ، إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء ، أو لأنه ما كان نبياً في ذلك الوقت ، وأيضاً هب أنه حجة لكنه قبل الزلة لم يكن نبياً فلا يلزم من مفضوليته وقتئذ مفضوليته وقت نبوته ، وإن سلم مفضوليته ونبوته وقتئذ فلا نسلم أن ذلك في باب الثواب بل في باب القدرة والقوة والحسن والجمال . ونحو ذلك فإنهم خلقوا من الأنوار وآدم خلق من التراب ، فاغتر رغبة فيما لهم من هذه الأمور . وأيضاً يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فيصح استدلالكم ، وأن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة الخالدين دونكما كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلاناً . ويكون المعنى أن المنهي عنه هو فلان دونك ، فكان غرض إبليس إيهام أنهما لم ينهيا . وأيضاً غاية ما في الباب أن الآية تدل على مفضولية آدم ولا يلزم منه مفضولية جميع الأنبياء كمحمد صلى الله عليه وسلم .
التاسعة : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك } [ هود : 31 ] أي لا أدعي القدرة على كل المقدورات والعلم بكل المعلومات ، ولا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علماً مثل علمهم ، وذلك أنه لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض ، وإنما نفي أن يكون له مثل ما لهم من الصفات الجسمية والقوى العظيمة . ورد بأنه لا يلزم من عدم الاستواء في كل الصفات حصول الاختلاف في جميعها .
العاشرة : { ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم } [ يوسف : 31 ] ولا يخفى أن التشبيه في السيرة من غض البصر وقمع النفس عن المحرمات بدلالة وصفه بالكرم لا في الصورة . ورد بأن قولها { فذلكن الذي لمتني فيه } [ يوسف : 32 ] كالتصريح بأن مراد النساء تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال ، فذلك يظهر عذرها في عشقها . ولئن سلمنا أن التشبيه في الأخلاق المرضية فذلك لا يوجب مفضوليته من جميع الجهات ، على أن قول النساء لا يصلح لأن يكون حجة .
الحادية عشرة : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } [ الإسراء : 70 ] وذلك أن المخلوقات إما غير المكلفين والإنسان أفضل منهم ، وإما المكلفون وهم الملائكة والإنس والجن والشياطين .

ولا ريب أن الإنس أفضل من الجن والشياطين ، فلو كانوا أفضل من الملك أيضاً لزم كون البشر أفضل من أكل المخلوقات ، فينبغي أن يقال : وفضلناهم على جميع من خلقنا . ورد بأن كونه أفضل من كثير لا يدل على أنه ليس بأفضل من الباقي إلا بدليل الخطاب وهو غير حجة . وأيضاً ثبت أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الآخر أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني . وأيضاً الكلام في التفضيل الحاصل بسبب الكرامة المذكورة في أول الآية { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] ولا يلزم من كون الملك أفضل من البشر في تلك الكرامات وهو حسن الصورة والطهارة واستخراج الأعمال العجيبة أن يكونوا أفضل منهم في الأشياء الموجبة للثواب .
الثانية عشرة : الأنبياء ما استغفروا إلا بدأوا بأنفسهم قال نوح { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً } وقال إبراهيم { رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين } [ الشعراء : 83 ] ثم قال { واغفر لأبي } [ الشعراء : 86 ] وقال لمحمد { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } [ محمد : 19 ] والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ولكن طلبوا المغفرة للمؤمنين { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } [ غافر : 7 ] ورد بأن هذا لا يدل إلا على صدور الزلة من البشر وعدم صدورها عنهم ، وهذا لا يوجب أفضليتهم في القرب والثواب على الإطلاق ومن الناس من قال : استغفارهم للبشر كالعذر عما طعنوا فيهم بقولهم { أتجعل فيها } [ البقرة : 30 ] .
الثالثة عشرة : { وإن عليكم لحافظين } [ الانفطار : 10 ] ويدخل فيه الأنبياء وغيرهم ، والحافظ للمكلف عن المعصية أفضل من المحفوظ . وأيضاً جعل كتابتهم حجة للبشر وعليهم فيكونون أفضل . ورد بأن الحافظ والشاهد قد يكون أدود حالاً من المحفوظ والمشهود .
الرابعة عشرة : { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } [ النبأ : 38 ] والمقصود بيان عظمة الله وجلاله . ورد بأن هذا يفيد قوتهم وبطشهم فقط كما يقال : إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك الأطراف . وهذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده .
الخامسة عشرة : { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } [ البقرة : 285 ] والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ولهذا لما قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً ... قال عمر بن الخطاب : لو قدمت الإسلام لأجزتك . ولما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ، وقع التنازع في تقديم الاسم ، وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية . ومنع من أن الواو لا تفيد الترتيب ، وعورض بتقديم { تبت } على « الإخلاص » .
السادسة عشرة : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [ الأحزاب : 56 ] جعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وعورض بقوله { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } [ الأحزاب : 56 ] ولا تشريف بل تتشرف الأمة بذلك .
السابعة عشرة : إن جبرائيل أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى وصفه بست من صفات الكمال

{ إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين } [ التكوير : 19-21 ] ثم وصف محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله { وما صاحبكم بمجنون } [ التكوير : 22 ] وشتان بين الوصفين . ورد بأنه وإن وصفه ههنا بهذا القدر لاقتضاء المقام ذلك فقط ، فقد وصفه في مواضع أخر بما يليق به { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 45 ، 46 ] .
الثامنة عشرة : إن جبريل كان معلماً للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء ، لا في العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالعقل . كالعلم بذات الله تعالى ، بل في العلم بكيفية مخلوقاته وما فيها من العجائب ، والعلم بأحوال العرش والكرسي والجنة والنار وأطباق السموات وأصناف الموجودات وأحوال الأمم الخالية والقرون الماضية ، والمعلم أفضل { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] ومنع من كون الملائكة أعلم بدليل قصة آدم ، ولأن تعليم جبريل كان بالحقيقة تعليم الله تعالى ولم يكن جبريل إلا واسطة ، ولئن سلم مزيد علمهم منع كثرة ثوابهم .
التاسعة عشرة : { ومن يقل منهم إني له من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] وهذه تدل على أنهم بلغوا في الترفع إلى حد لو خالفوا أمر الله لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية . ورد بأن مزيد قدرتهم لا يوجب مزيد ثوابهم .
العشرون : قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الرب تعالى « إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه » وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف . ورد بعد قبول خبر الواحد أنه لا يلزم منه إلا أن الملأ الأعلى خير من ملأ عوام البشر ، ولا يلزم من ذلك كونهم أفضل من الأنبياء .
واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة عندهم أفضل من الأرواح الناطقة البشرية لوجوه :
الأول : الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة ، والبشر مركب من النفس والبدن ، ولكل منهما قوى وأجزاء ، والبسيط خير من المركب ، لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط . وعورض بأن المستجمع للروحاني والجسماني ينبغي أن يكون أفضل مما له طرف الروحاني فقط ، ولهذا جعل أبو البشر مسجوداً للملائكة ، وبأن الملائكة ليس لها إلا الاستغراق في مقاماتها النورية . والنفوس البشرية قواها وافية بكلا الطرفين ، ومحيطة بضبط أحوال العالمين فتكون أفضل .
الثاني : الجواهر الروحانية بريئة عن الشهوة والغضب المستلزمين للفساد وسفك الدماء بخلاف البشر . ورد بأن الخدمة مع كثرة العلائق أدل على الإخلاص . وأيضاً من البين أن درجتهم حين قالوا { لا علم لنا إلا ما علمتنا } أعلى منها حين قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة ، وهذا في البشر أكثر ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه

« أنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين » .
الثالث : أنها بريئة من طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكناً لها بحسب أنواعها المنحصرة في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة » ولا خفاء أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة . ورد بأن بعض الأمور فيها لعلها بالقوة ، ولهذا قيل : إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعلقات من القوة إلى الفعل كالتحريكات العارضة لأرواحنا الحاملة لقوى الفكر والتخيل ، إلا أن هذا المنع لا يجري في الملائكة المقربين المسماة عندهم بالعقول المجردة ، وإنما يجري في النفوس الفلكية .
الرابع : الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن التغير والفناء ، والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك . ورد بأنه لا قديم في الوجود إلا الله . ولئن سلم أنها ممكنة الوجود لذاتها فهي واجبة الوجود بمباديها . وعورض بما عليه كثير من المحققين أن النفوس البشرية أيضاً أزلية بمباديها وكانت كالظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم ، إلا أن المبدئ الأول أمرها بالنزول إلى عالم الأجساد وشبكات المواد ، فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها واستحكم إلفها بها ، فبعث من تلك الظلال أشرفها وأكملها لتخليص تلك الأرواح عن تلك الشبكات ، وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة .
الخامس : الروحانيات نورانية علوية لطيفة ، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة . فأين أحدهما من الآخر؟ ورد بأن الشرف عندنا ليس بالمادة وإنما هو بالانقياد لرب العالمين .
السادس : الأرواح السماوية تفضل الأرضية بقوى العلم والعمل ، أما الأول فبالاتفاق على إحاطة الأرواح السماوية بالمغيبات ، ولأن علومهم فعلية فطرية كلية دائمة تامة ، وعلوم البشر بالضد من ذلك . وأما العمل فلقوله { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] واعترض بأن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع . فلا تكون لذة الملائكة من العلم والعمل كلذة البشر لعروض الفترات لهم في أكثر الأوقات بسبب العلائق الجسمانية والحجب الظلمانية ، فهذه المزية من اللذة مما يختص به البشر ، ولعل هذا هو المراد من قوله { إنا عرضنا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] الآية . ولذلك قالت الأطباء : إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب . لكن الحرارة في الدق لما دامت واستقرت بطل الشعور بها ، فهذه الحالة ليست للملائكة لأجل الاستمرار ولا لغير الانسان لعدم الاستعداد فكان الإنسان لها بالمرصاد .
السابع : الروحانيات لها قوة على تقليب الأجسام وتصريف الأجرام ، وقواهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب . وإنك ترى الخامة اللطيفة تشق الصخرة الصماء ، وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من الجواهر العلوية ، فما ظنك بتلك الجواهر أنفسها والأرواح السفلية ليست كذلك؟ وما يحكى من قوة الشياطين على الأمور الصعاب ممنوع ، ولئن سلم فالأرواح العلوية أقدر على ذلك مع أنهم يصرفون قواها إلى منازل العالم السفلي لا فيما هو شر لهم .

واعترض بأنه لا مانع من أن تتفق نفس ناطقة بشرية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف .
الثامن : الملائكة لهم اختيارات فائضة من أنوار جلال الله متوجهة إلى الخيرات ، واختيارات البشر مترددة بين جهتي العلو والسفل والخير والشر ، وإنما يتوجه إلى الخير بإعانة الملك على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكاً يسدده ويهديه ، ويحتمل أن يقال فتكون إذن أعمالهم أشق فيكون ثوابهم أكثر .
التاسع : الأفلاك كالأبدان ، والكواكب كالقلوب ، والملائكة كالأرواح . فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان . وكما أن اختلافات أحوال الأفلاك مباد لحصول الاختلافات في هذا العالم ، فكل أرواح العالم العلوي يجب أن تكون مستولية على أرواح العالم السفلي ، بل تكون عللاً ومبادي لها ، فهذه هي الآبار وهناك المنابع والمعادن ، فكيف يليق بالعقل ادعاء المساواة فضلاً عن الزيادة . وأجيب بأنه لا مؤثر عندنا إلا الله تعالى .
العاشر : الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها ، منها نزلت فتوسخت بأوضار الجسمانيات ، ثم تطهرت بالأخلاق الزكية وصعدت إلى عالمها ، ومصدر الشيء ومصعده أشرف ، منه المبدأ وإليه المنتهى . واعترض بأن هذا مبني على عدم حشر الأجساد ودون ذاك خرط القتاد .
الحادي عشر : أليس أن الأنبياء لا ينطقون إلا عن الوحي؟ أليس أن الملائكة يعينونهم في المضايق ويهدونهم إلى المصالح كما في قصة لوط وكيوم بدر وحنين ، وكما في قصة نوح في نجر السفينة؟ فمن أين لكم تفضيل الأنبياء مع افتقارهم إلى الملائكة في كل الأمور؟ وأجيب بأن أول الفكر آخر العمل ولا يلزم من كون الشيء واسطة أفضليته .
الثاني عشر : القسمة العقلية بأن الأحياء إما خيرة محضة وهم الملائكة ، أو شريرة محضة وهم الشياطين ، أو خيرة من وجه شريرة من وجه آخر وهم البشر ، تحكم بأفضلية الملك . وكذا التقسيم بالناطق المائت وهو الإنسان ، والناطق غير المائت وهو الملك ، والمائت غير الناطق وهي البهائم ، يرشد إلى أن الإنسان متوسط الرتبة بين الكمال والنقصان . فالقول : بأنه أفضل قلب للقسمة العقلية ونزاع في ترتيب الوجود . وأجيب بما مر غير مرة من أن النزاع في كثرة الثواب .
حجة القائلين بفضل الأنبياء على الملائكة؛ الأول : أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة ، وأمر الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح ، والجواب أن القبح العقلي غير ثابت .
الثاني : جعله خليفة له خلافة الولاية كما مر ، وخلق الدنيا متعة لبقائه ، والآخرة مملكة لجزائه ، ولعن إبليس لسبب التكبر عليه ، وجعل الملائكة حفظة أولاده ومنزلين لأرزاقهم ومستغفرين لزلاتهم ، ومع جميع هذه المناصب يقول « ولدينا مزيد » فإذن لا نهاية لهذا الشرف والكمال .

الثالث : أنه كان أعلم لقوله { أنبئهم بأسمائهم } والأعلم أفضل .
الرابع : { أن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } [ آل عمران : 33 ] والعالم كل ما سوى الله تعالى ، فيلزم اصطفاؤهم على الملائكة . ولا يشكل هذا بقوله { يا بني إسرائيل } إلى قوله { فضلتكم على العالمين } [ البقرة : 47 ] لأن تلك الآية دخلها التخصيص لما يعلم أنهم غير مفضلين على محمد صلى الله عليه وسلم ، وههنا لا دليل فوجب إجراؤه على الظاهر من العموم .
الخامس : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] والملائكة من العالمين والتقرير ظاهر .
السادس : عبادة البشر أشق لأن الآدمي له شهوة تدعوه إلى المعصية بخلاف الملائكة ، ولأن الآدمي مأمور بالاستنباط والقياس { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] ولا يخفى ما فيه من المشقة ، والملائكة لا يعلمون إلا بالنص { لا علم لنا إلا ما علمتنا } ولما يعرض للآدمي من الشبهات ككون الأفلاك والأنجم أسباباً للحوادث اليومية فيحتاجون إلى دفعها ، والملائكة حيث إنهم يشاهدون عالم الملكوت آمنون من ذلك ، ولأن الشيطان مسلط على الآدمي دون الملك ، وإذا كانت طاعتهم أشق فيكون ثوابهم أكثر .
السابع : خلق للملائكة عقولاً بلا شهوة ، وللبهائم شهوة بلا عقل ، وجمع الأمرين للآدمي . ثم إذا غلب هواه عقله صار أدون من البهيمة أولئك { كالأنعام بل هم أضل } [ الفرقان : 44 ] . فإذا غلب عقله هواه وجب أن يصير أشرف من الملك اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر .
الثامن : الملائكة حفظة بني آدم والمحفوظ أعز من الحافظ .
التاسع : روي أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أركبه على البراق ليلة المعراج ، ولما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت .
العاشر : قوله صلى الله عليه وسلم « إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض . أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل ، وأما اللذان في الأرض فابو بكر وعمر » فدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كالملك وجبريل وميكائيل وزيران ، فهذا تمام الكلام في حجج الفريقين ، وعليك الاختيار بعقلك دون هواك . ثم إنه تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين وكان من الجائز أن يظن أن به عذراً بيَّن أنه غير ذي عذر بقوله { أبى } لأن الإباء هو الامتناع مع الاختيار ولهذا فقد العاطف نحو قولك « أبشر بما يسرك عيني تختلج » لا تقول « فعيني » لأنها بيان ، ثم إنه جاز أن لا يكون الإباء مع الكبر فعطف عليه { واستكبر } ليعرف أن الإباء منضم إلى الاستكبار ، وكان من الجائز أن يظن أن كبره لم يوجب الكفر فأزيل الظن بقوله { وكان من الكافرين } .

وللعقلاء ههنا قولان : أحدهما أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقاً كافراً ، أما عند من يمنع الإحباط فلأن ختمه لما كان على الكفر علم أنه ما كان مؤمناً قط . وأما عند غيرهم فلما حكاه الشهرستاني في أول الملل والنحل عن شارح الأناجيل الأربعة على شبه منظرة بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس لعنه الله : إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر حكيم ، إلا أن لي على مساق حكمه أسئلة؛ الأول : إنه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عني فلم خلقني؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟ الثاني : إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته ، فلم كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف مع أنه لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟ الثالث : إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فأطعت وعرفت ، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي؟ والرابع : إذ خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص فإذا لم أسجد ، فلم لعنني وأخرجني من الجنة وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له في ذلك ولي فيه أعظم الضرر؟ والخامس : ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ومن وسوسة آدم بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح مني آدم وبقي خالداً في الجنة؟ والسادس : إذ خلقني وكلفني عموماً وخصوصاً ولعنني ثم طرقني إلى الجنة ، وكانت الخصومة بيني وبين آدم ، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني ويؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر فيّ حولهم وقوتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة وأبقاهم على ذلك فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى بالحكمة؟ والسابع : سلمت هذا كله ، فلم إن استمهلته أمهلني ، وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني وما بقي شر في العالم؟ ليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من امتزاجه بالشر؟
فقال شارح الإنجيل : فأوحى الله تعالى إلى الملائكة قولوا له : أما تسليمك الأول أني الهك وإله الخلق فغير صادق ولا مخلص ، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي وأنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل والخلق مسؤولون هذا مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل ، وهذه الشبهات بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور وليس يعدوها عقائد فرق الزيغ والكفر وإن اختلفت العبارات وتباينت الطرق ، ويرجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالخلق ، وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص ، ولا جواب عنها بالتحقيق إلا الذي ذكره الله تعالى .

فاللعين لما أن حكم العقل على من لا يحتكم عليه العقل ، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق ، أو حكم الخالق في الخالق . فالأول غلو كالحلولية وكالغلاة من الشيعة ، والثاني تقصير كالمشبهة وصفوا الخالق بصفات الأجسام ، وكالخوارج نفوا تحكيم الرجال وقالوا : لا حكم إلا لله كقوله { أأسجد لبشر خلقته من صلصال } [ الحجر : 33 ] لا أسجد إلا لك . فالشبهات كلها ناشئة من اللعين ، وتلك في الأول مصدرها ، وهذه في الأخير مظهرها ، ولهذا قال تعالى { ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين } [ البقرة : 208 ] وشبه النبي صلى الله عليه وسلم كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة فقال « القدرية مجوس هذه الأمة والمشبهة يهود هذه الأمة ، والرافضة - يعني الغلاة - نصارها » وقال صلى الله عليه وسلم : « لتسلكن سبيل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » القول الثاني أن إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك ثم اختلفوا . فمن قائل معناه « وكان من الكافرين في علم الله » أي كان الله عالماً في الأزل بأنه سيكفر . فصيغة « كان » متعلقة بالعلم لا بالمعلوم . ومن قائل إن « كان » بمعنى « صار » . وقيل : لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمناً فبعد لحظة يصدق عليه أنه كان من الكافرين . وإنما حكم بكفره على هذا القول الثاني لاستكباره واعتقاده كونه محقاً في ذلك التمرد بدليل قوله { أنا خير منه } [ ص : 76 ] وإلا فمجرد المعصية لا يوجب الكفر عندنا وإن كانت كبيرة ، وكذا عند المعتزلة لأنه وإن خرج عن الإيمان لم يدخل في الكفر . نعم عند الخوارج الكبيرة موجبة للكفر على الإطلاق . ثم إن قوله { من الكافرين } هل يدل على وجود جمع من الكفرة قبله حتى يكون هو واحداً منهم؟ قال قوم : إنه يدل على ذلك لأن كلمة « من » للتبعيض . وإنما يذكر البعض الموجود بالإضافة إلى كل موجود لا إلى كل من سيوجد . ومما يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال : إنه تعالى خلق خلقاً من الملائكة ثم قال لهم { إني خالق بشراً من طين } [ ص : 71 ] قالوا : لا تفعل ذلك . فبعث الله ناراً فأحرقتهم . وكان إبليس من أولئك . وقال آخرون : معنى الآية إنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك ، لأن الكفر كان ظاهراً عند نزول الآية ، أو لأن الإفراد الذهنية تكفي في صحة الجمع . فإن الحيوان المخلوق أوّلاً يصح أن يقال إنه فرد من أفراد هذا الحيوان أي من أفراد هذه الماهية ، وعلى هذا يكون إبليس أول من سن الكفر وهو قول الأكثرين .

واعلم أن الملائكة المأمورين بالسجود هم كل الملائكة عند أكثر الأئمة ، لأن الجمع المعرف للعموم ويؤكده قوله { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } [ ص : 73 ] . وأيضاً استثناء الشخص الواحد يدل على أن ما عداه داخل في ذلك الحكم . ومن الناس أنكر ذلك وقال : هم ملائكة الأرض استعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك ، وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية ، واستحالوا انقياد الأرواح السماوية للنفوس الناطقة . وقالوا : المأمورون بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة . قوله تعالى { وقلنا يا آدم اسكن } الآية الأصح أن هذا الأمر يشتمل على ما هو إباحة لأنه كان مأذوناً في الانتفاع بجميع الجنة ، وعلى ما هو تكليف وتعبد ، فإن المنهي عنه كان حاضراً . روي عن قتادة أنه قال : إن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود ، وذلك لأنه كلفه أن يكون في الجنة يأكل منها حيث يشاء ، ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها ، فما زال به البلاء حتى وقع فيما نهي عنه . فإسكانه موضعاً يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع منعه عن تناوله من أشد التكاليف . وإنما لم يقل وهبت منك الجنة لأنه خلق لخلافة الأرض وكان إسكان الجنة كالتقدمة لذلك . فلو قال رجل لغيره أسكنتك داري . لا تصير الدار ملكاً له . وأجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة . ففي سائر القرآن ما يدل على ذلك وإنها مخلوقة منه { خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] وقال صلى الله عليه وسلم « إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها » وذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة حل فيها وحده وما كان معه من يستأنس به ، فألقى الله تعالى عليه النوم ، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحماً وخلق حواء منه ، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة . فسألها من أنت؟ قالت امرأة . قال : ولم خلقت؟ قالت : لتسكن إليّ . فقالت له الملائكة امتحاناً لعلمه : ما اسمها؟ فقال : حواء . قالوا : ولم؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي . قيل : فلما أراد آدم مد يده إليها منعته الملائكة وقالوا : أمهرها . قال : فما صداقها؟ قالوا : أن تصلي على محمد وآله . قال : ومن محمد؟ قالوا : من أولادك خاتم النبيين ولولاه لما خلقت . وعن ابن عباس قال : بعث الله جنداً من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ولباسهما النور ، على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ ، وعلى آدم منطقة مكللة بالدرّ والياقوت حتى أدخل الجنة .

فهذا الخبر يدل على أ ن حواء خلقت قبل إدخاله الجنة ، والخبر الأول دل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بحقيقة الحال . ثم هذه الجنة كانت في الأرض أو في السماء؟ وعلى تقدير كونها في السماء هي دار الثواب أم جنة أخرى؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني : هي في الأرض وحملا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى { اهبطوا مصراً } [ البقرة : 61 ] قالا : لأن دار الثواب للخلد ولو كان في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [ طه : 12 ] ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى { وما هم منها بمخرجين } [ الحجر : 48 ] ولأن إبليس بعد أن غضب الله عليه كيف يقدر أن يصل إلى جنة الخلد ، ولأن دار الجزاء يدخل المكلف فيها بعد العمل ولا عمل لآدم وقتئذ ، ولأنه تعالى خلقه في الأرض ولم يذكر نقله إلى السماء ولو كان قد نقله لكان ذكره أولى ، لأن ذلك النقل من أعظم النعم . وقال الجبائي : هي في السماء السابعة ، اهبط منها إلى السماء الدنيا ، ثم منها إلى الأرض . وقال الجمهور : هي دار الثواب والدليل عليه أن اللام في الجنة ليست للعموم ، لأن السكنى في جميع الجنان محال فهي للعهد ، ولا معهود بين المسلمين إلا دار الثواب ، فوجب صرف اللفظ إليها . واسكن أمر من السكنى ، والسكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار . و « أنت » تأكيد للمستكنّ في « اسكن » ليصح العطف عليه . و { رغداً } وصف للمصدر أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً و { حيث } للمكان المبهم أي أيُّ مكان من الجنة شئتما ، أو أيّ زمان شئتما ، فإن « حيث » قد يعبر به عن زمان مجهول . وإنما قيل ههنا { وكلا } بالواو وفي الأعراف { فكلا } لأن كلّ فعل عطف عليه شيء وكان بينهما رابطة السببية يعطف الثاني على الأول بالفاء وإلا فبالواو كقوله تعالى في البقرة { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا } [ البقرة : 58 ] بالفاء ، لأن الدخول سبب الوصول إلى الأكل ، وكأنه قال : وإن دخلتموها أكلتم . وفي الأعراف { وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا } [ الأعراف : 161 ] بالواو لأن السكنى وهي طول اللبث لا يختص وجوده بوجود الأكل ، لأن المجتاز قد يأكل أيضاً ، فلهذا لم يعطف ههنا بالفاء إذ المراد اسكن من السكنى ، وأما في الأعراف فالمراد اسكن بمعنى الدخول ثم السكون فصح العطف بالفاء . والنهي في { لا تقربا } للتنزيه أو للتحريم ، الأصح الأول لأن الصيغة وردت في كليهما والأصل عدم الاشتراك فيجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح لجانب الترك على الفعل من غير دلالة على المنع من الفعل ، أو الجواز .

لكن الجواز ثابت بحكم الأصل ، فإن الأصل في الأشياء الإباحة ، فإذا ضممنا هذا الأصل إلى مدلول اللفظ صار المجموع دليلاً ع لى التنزيه وهذا أولى ، ليرجع حاصل معصيته إلى ترك الأولى فيكون أقرب إلى عصمة الأنبياء . وقيل : نهي تحريم قياساً على قوله { ولا تقربوهن حتى يطهرن } [ البقرة : 222 ] وقوله { ولا تقربوا مال اليتيم } [ الأنعام : 152 ] ولقوله { فتكونا من الظالمين } ولأنه استحق الإخراج من الجنة والرجوع إلى التوبة . والجواب أن التحريم في { ولا تقربوهن } [ البقرة : 2 ] بدليل منفصل ، والظلم قد يراد به ترك الأولى ، والإخراج لم يكن بهذا السبب بل لما سيأتي إن شاء الله تعالى . ثم النهي عن القرب يفيد النهي عن الإكل بطريق الكناية ، فإن القرب إليها من أسباب الأكل منها ، ومما يدل على النهي عن الأكل صريحاً قوله { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } [ الأعراف : 22 ] . وروي عن ابن عباس أن الشجرة هي البر والسنبلة ، وفي رواية عنه وعن ابن مسعود أنها الكرم ، وعن مجاهد وقتادة أنها التين ، وعن الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث . قال المبرد : وأحسب أن كل ما له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجراً ، وقد لا يختص بما له ساق قال تعالى { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } [ الصافات : 146 ] وأصل هذا أنه اسم لكل ما شجر أي أخذ يمنة ويسرة والتشاجر الاختلاف . واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين ، ولا حاجة أيضاً إلى بيانه . فليس المقصود تعريف الشجرة ، وما لم يكن مقصوداً فذكره لا يجب على الحكيم بل يكون عبثاً ، كما لو أراد أحدنا أن يقيم عذره في التخلف فقال : اشتغلت بضرب غلماني لإساءتهم الأدب . كان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين الغلام واسمه وصفاته ، فلا يظنن أحد أن ههنا تقصيراً في البيان . { فتكونا } جزم عطفاً على { تقربا } ونصب جواباً للنهي . { من الظالمين } من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله . قوله { فأزلهما الشيطان } الآية . تحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنهما ولفظة { عن } في هذه الآية ك { هي } في قوله { وما فعلته عن أمري } [ الكهف : 482 ] فالضمير للشجرة . وقيل : أذهبهما وأبعدهما كما تقول : زل عن مرتبته وزلت قدمه . فالضمير للجنة ، ومن قرأ { أزالهما } فهو من الزوال عن المكارم مما كانا فيه أي من النعيم والكرامة ، أو من المكان الذي هو الجنة إن كان الضمير في { عنها } الشجرة .
واعلم أن الناس اختلفوا في عصمة الأنبياء عليهم السلام ، والنزاع إما في باب الاعتقاد ، أو في باب التبليغ ، أو في باب الأحكام والفتيا ، أو في أفعالهم وسيرتهم . أما اعتقادهم الكفر والضلال فغير جائز عند أكثر الأئمة . وقالت الفضيلية : إنه قد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كفر وشرك ، فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم . وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية ، وأما ما يتعلق بالتبليغ فاجتمعت الأمة على عصمتهم عن الكذب والتحريف في ذلك لا عمداً ولا سهواً وإلا ارتفع الوثوق .

ومنهم من جوز ذلك سهواً لأن الاحتراز غير ممكن ، وأما المتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز الخطأ فيه عمداً ، وأما السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون . وأما المتعلق بأفعالهم فالحشوية جوّزوا الكبائر عنهم عمداً ، وأكثر المعتزلة جوّزوا الصغائر عنهم عمداً إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف ، والجبائي لا يجوّز صغيرة ولا كبيرة على جهة العمد بل على التأويل . وقيل : لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ، ولكنهم يؤاخذون به وإن كان ذلك موضوعاً عن أمتهم ، لأن معرفتهم أقوى وهم على التحفظ أقدر . والشيعة لم يجوّزوا صغيرة ولا كبيرة منهم لا عمداً ولا سهواً ولا على سبيل التأويل والخطأ . وفي وقت عصمتهم ثلاثة أقوال : فمذهب الشيعة أنهم معصومون من وقت مولدهم ، والمعتزلة من وقت بلوغهم ولم يجوزوا الكفر والكبيرة منهم قبل النبوة ، وبعضهم وأكثر أصحابنا على تجويز ذلك قبل النبوة ، والمختار أنهم لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة لا الكبيرة ولا الصغيرة لوجوه :
الأول : لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة مصداقه قوله عز وجل من قائل { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ]
وصغائر الرجل الكبير كبائر ... ولا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة بالإجماع .
والثاني : وبتقدير إقدامه على الفسق لا يكون مقبول الشهادة لقوله { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } [ الحجرات : 6 ] لكنه شاهد عدل من الله بأنه شرع الدين وكذا يوم القيامة { ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] .
الثالث : وبتقدير إقدامه على الكبيرة . يجب زجره وإيذاؤه ، لكنه محرّم { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } [ الأحزاب : 57 ] .
الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم لو أتى بمعصية لوجب علينا الاقتداء به لقوله { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] والجمع بين الوجوب والحرمة محال .
الخامس : نعلم بالبديهة أنه قبيح لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وجعله خليفة في عباده وبلاده ، ثم إنه يقدم على ما نهاه عنه ترجيحا لهواه حتى يستحق اللعن والعذاب . السادس : { أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم } [ البقرة : 44 ] يكون حينئذ منزلاً في شأنه ، { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } [ هود : 88 ] .
السابع : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } [ الأنبياء : 90 ] واللفظ للعموم فيشمل فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي .
الثامن : { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } [ ص : 47 ] { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } [ الحج : 75 ] والوصف بالاصطفاء ينافي الذنب .
التاسع : أنه تعالى حكى عن إبليس { لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين } [ ص : 82 ، 83 ] والأنبياء من المخلصين لقوله تعالى في حق يوسف { إنه من عبادنا المخلصين }

[ يوسف : 24 ] وفي حق موسى { إنه كان مخلصاً } [ مريم : 51 ] فكذا غيرهما .
العاشر : { ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } [ سبأ : 20 ] ولا يخفى وجوب كون الأنبياء منهم وإلا كان غير النبي أفضل من النبي .
الحادي عشر : الخلق قسمان : حزب الله { ألا إن حزب الله هم المفلحون } [ المجادلة : 22 ] وحزب الشيطان { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } [ المجادلة : 19 ] والعصاة حزب الشيطان ، فلا يجوز أن يكون النبي عاصياً .
الثاني عشر : النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملك كما مر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، فالنبي أولى .
الثالث عشر : { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] والإمام من يؤتم به والمذنب لا يجوز الاقتداء به في ذنبه .
الرابع عشر : { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] فإن كان عهد النبوة ثبت المطلوب ، وإن كان عهد الإمامة فالنبي أولى به ، « روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه فقال صلى الله عليه وسلم : كيف شهدت لي فقال : يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات ، أفلا أصدقك في هذا القدر؟ فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وسماه بذي الشهادتين » ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة .
المخالف تمسك في باب الاعتقاد بقوله { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } [ الأعراف : 189 ] إلى قوله { جعلا له شركاء } [ الأعراف : 190 ] وهذا يقتضي صدور الشرك عنهما . والجواب ما سيجيء في الأعراف إن شاء الله تعالى ، من أن الخطاب لقريش والمعنى : خلقكم من نفس قضى وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي . قالوا : إن إبراهيم لم يكن عالماً بالله ولا باليوم الآخر لقوله { هذا ربي } [ الأنعام : 77 ] { ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] والجواب : هذا ربي استفهام منه بطريق الإنكار وقوله { ليطمئن قلبي } أراد به أن يؤكد علم اليقين بعين اليقين فليس الخبر كالمعاينة . قالوا : { فإن كنت في شك } [ يونس : 94 ] { فلا تكونن من الممترين } [ البقرة : 147 ] يدل على أنه كان شاكاً في الوحي قلنا : الخطاب له والمراد الأمة مثل { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] . قالوا في باب التبليغ { سنقرئك فلا تنسى . إلاّ ما شاء الله } [ الأعلى : 6 ، 7 ] هذا الاستثناء يدل على النسيان . والجواب عنه أن هذا النسيان نوع من النسخ كما يجيء في تفسير قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها } [ البقرة : 106 ] . قالوا { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } [ الحج : 52 ] والجواب سوف يجيء في سورة الحج إن شاء الله تعالى : قالوا : { عالم الغيب فلا يظهر } إلى قوله { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } [ الجن : 26-28 ] ولولا الخوف من وقوع التخبيط في الوحي لم يستظهر بالرصد ، قلنا هذا عليكم لا لكم لدلالته على كونهم محفوظين عن التخبط .

قالوا في باب الفتيا { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } [ الأنبياء : 78 ] { وما كان لنبي أن يكون له أسرى } [ الأنفال : 67 ] { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] قلنا : الجميع محمول على ترك الأولى ، وسوف يجيء قصة كل في موضعها على أنا نقول شعراً :
يا سائلي عن رسول الله كيف سها ... والسهو من كل قلب غافل لا هي
قد غاب عن كل شيء سره فسها ... عما سوى الله فالتعظيم لله .
فشغل الأدبي عن الأرفع هو المذموم ، وأما الشغل بالأرفع عن الأدنى فمحمود . قالوا في الأفعال { وعصى آدم ربه فغوى } [ طه : 121 ] والعصيان يوجب الوعيد { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم } [ الجن : 23 ] والغي ضد الرشد { قد تبين الرشد من الغي } [ البقرة : 256 ] ، ثم إنه تاب والتوبة دليل الذنب ، وإنه ظالم لقوله { فتكونا من الظالمين } والظالم ملعون { ألا لعنة الله على الظالمين } [ هود : 18 ] وأنه أخرج من الجنة ، وكل هذه دليل ارتكاب الكبيرة . والجواب ، المنع من أن هذه الأمور كانت بعد النبوة . ثم لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم بعد النبوة ، فإقدامه عليه إما أن يكون في حال كونه ناسياً ، أو في حال كونه ذاكراً ، الذاهبون إلى الأول وهم طائفة من المتكلمين احتجوا بقوله { فنسي ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] ومثلوه بالصائم يغفل عن صومه فيأكل في أثناء ذلك السهو عن قصد . قيل عليه إن قوله { ما نهاكما وبكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [ الأعراف : 20 ] وقوله { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } [ الأعراف : 21 ] يدل على أنه ما نسي وروي عن ابن عباس أنهما لما أكلا منها وبدت لهما سوآتهما ، خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فحبسته فناداه الله تعالى : أفراراً مني؟ فقال : بل حياء منك . فقال له : أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة مما حرمت عليك؟ قال : بلى يا رب ، ولكن وعزتك بما كنت أرى أحداً يحلف بك كاذباً ، فقال : وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا نكداً . وأيضاً لو كان ناسياً لما عوتب عليه لأنه قادر على تركه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، رفع القلم عن ثلاث . وأجيب بالمنع من أن إقدامه على ذلك الفعل إنما وقع عقيب قول إبليس ، لأنه كان عالماً بتمرد إبليس عن سجوده وكونه عدواً له ولزوجه ، ولأنهما لو صدقاه لكانت المعصية في تصديقه أعظم من أكل الشجرة ، لأنه ألقى إليهما سوء الظن بالله وأنه ناصح والرب غاش . وما روي عن ابن عباس فهو من باب الآحاد ولا يلزم من رفع النسيان عن هذه الأمة رفعه عن غيرهم ، بل لا يلزم من رفعه عن الأمة رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم

« أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل » « إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم » وقيل : إن حواء سقته الخمر فسكر ثم أقدم على ذلك الفعل ، وهذا إنما يصح إذا حملت الشجرة على غير الكرمة حتى يكون مأذوناً في تناول غيرها ، إلا أنه يرد عليه أن خمر الجنة لا تسكر { لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] .
الذاهبون إلى أنه فعله عامداً أربع فرق : منهم من قال : النهي نهي تنزيه لا تحريم وقد سبق . ومنهم من قال : كان عمداً من آدم وكان كبيرة مع أن آدم في ذلك الوقت كان نبياً ، وقد عرفت فساده . ومنهم من قال : فعله عمداً لكن كان معه من أعمال القلب من الإخلاص والوجل والإشفاق ما صيره صغيرة ، وزيف بأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمداً لا يعذر بدعوى الخوف ، فلا يصح وصف الأنبياء بذلك . ومنهم - وهو اختيار أكثر المعتزلة - من قال : إنه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة ، بيان الاجتهاد أنه لما قيل له { ولا تقربا هذه الشجرة } فلفظ { هذه } قد يشار بها إلى الشخص ، وقد يشار بها إلى النوع كما روي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً وذهباً بيده وقال « هذان حرامان على ذكور أمتي » وتوضأ ثم قال « هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به » وأراد نوع الحرير والذهب ، ونوع الوضوء . فمراد الله تعالى من كلمة { هذا } ذلك النوع لا الشخص . وكان آدم ظن أن النهي قد ورد على الشجرة المعينة فتركها ، وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع . واعترض بأن هذا في أصل اللغة للإشارة الشخصية ، وإذا حمل آدم اللفظ على موضوعه فكيف يعد مخطئاً؟ وأيضاً هب أن لفظ { هذا } متردد بين الشخص والنوع ، فإن كان مع قرينة الإشارة النوعية وقد قصر في معرفتها فيكون مذنباً ، وإن عرفها ومع ذلك أقدم على التناول فكذلك ، وإن لم يكن فيه قرينة فلا يعد مخطئاً . وأيضاً الأنبياء لا يجوز لهم الاجتهاد لأنهم قادرون على تحصيل اليقين بالوحي ، فالإقدام على الاجتهاد عين المعصية . وأيضاً هذه المسألة إن كانت قطعية فالخطأ فيها كبيرة ، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا : كل مجتهد مصيب . فلا خطأ ، وإن قلنا المصيب واحد فالمخطئ فيها معذور بالاتفاق . وأجيب بأن لفظ { هذا } يستعمل في الإشارة النوعية أيضاً كما مر ، وبأن آدم لعله قصر في معرفة القرينة أو عرفها ثم نسي لطول المدة ، فلهذا عوتب . وبأن المسألة القطعية لما نسيها صار النسيان عذراً حتى لا يصير الذنب كبيراً ، وقد تكون ظنية وترتب التشديدات على الخطأ فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به الأمة .

قيل : وقد يحمل الخطأ في الاجتهاد من جهة أن آدم ظن أن المنهي في قوله { لا تقربا } تناولهما معاً ، فيجوز لكل واحد على الانفراد أكله .
فإن قيل : كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم فيها؟ قلت : إما لأنه دخل فم الحية خافياً عن الخزنة ولهذا سقطت قوائم الحية عقوبة لها على ما يروى - وإن كان بعيداً - عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما سالمناهم منذ حاربناهم ، ومن ترك منهم شيئاً خيفة فليس منا . يعني الحيات . وإما لأنه دخل الجنة في صورة دابة ، وإما لأنهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان يقرب من الباب ويوسوس ، وإما لأنه كان يدنو من السماء فيكلمهما . وقيل وسوس لهما على لسان بعض أتباعه لأنهما كانا يعرفان ما عنده من الحسد والبغضاء فيستحيل أن يقبلا قوله عادة . وإسناد الإذلال والإخراج إلى الشيطان لأنه حصل بسبب منه ، وعن بعض العرفاء أن زلة آدم هب أنها كانت وسوسة إبليس ، فمعصية إبليس بوسوسة من؟ ولا بد من الانتهاء إلى الذي لا يسأل عما يفعل . فإن قيل : كيف كانت الوسوسة؟ قلنا : هي التي حكاها الله تعالى { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [ الأعراف : 20 ] فلما لم يفد عدل إلى اليمين { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } [ الأعراف : 21 ] ولكم من شياطين الإنس تراهم يوسوسون إليك على هذا الترتيب أعاذنا الله منهم . ثم بعد ذلك يحتمل أنهما لم يصدقاه فعدل إلى شغلهما باللذات المباحة حتى استغرقا فيها ونسيا النهي فوقعا فيما وقعا والله أعلم بحقائق الأمور .
{ اهبطوا } خطاب لآدم وحواء وإبليس إما في وقت واحد بناء على أن إبليس قد عاد إلى الجنة لأجل الوسوسة ، وإما لآدم وحواء في وقت وله في آخر قبل ذلك ، وقيل : خطاب لهما وللحية . وقيل : الصحيح أن الخطاب لهما وذريتهما مرادة أيضاً لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الناس كلهم ، والدليل عليه ما جاء في طه { اهبطا منها } [ طه : 123 ] وقوله { فإما يأتينكم } [ طه : 123 ] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم . و { اهبطوا } أمر أو إباحة . والأشبه الأول لأن مفارقة ما كانا فيه من النعيم إلى دار الهوان أشق التكاليف . وإنما قيل : إنه تكليف لا عقوبة لما ترتب عليه من الثواب العظيم . ويمكن أن يقال : نفس الإهباط عقوبة ولا ثواب عليه ، وإنما الثواب على حسب العمل بعد ذلك . ومعنى { بعضكم لبعض عدو } [ طه : 123 ] ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض . وليست هذه هي العداوة المأمور بها في قوله { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } [ فاطر : 6 ] فلا يدخل تحت الأمر ، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم كذا ، لأن عالم التضاد والتنافي ليس كعالم الأنوار الذي لا تعاند فيه ولا تمانع { مستقر } استقرار أو موضع استقرار حالتي الحياة والموت .

{ ومتاع } تمتع بالعيش { إلى حين } هو يوم القيامة ، أو حين انقضاء آجالكم . والحين المدة طويلة أو قصيرة ، ولهذا لو قال : أنت طالق إلى حين . فمضت لحظة طلقت . وفي قصة آدم وما جرى عليه بسبب الزلة معتبر عجيب وموعظة بليغة بينة كافية في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم ، ولله در القائل :
يا ناظراً يرنو بعيني راقد ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان ودرك فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدماً ... منها إلى الدنيا بذنب واحد؟
وعن فتح الموصلي : كنا قوماً من أهل الجنة فساقنا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها .
تطلب الراحة في دار العنا ... خاب من يطلب شيئاً لا يكون
قوله { فتلقى } الآية . أصل التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع الاستقبال للشيء الجائي ، ثم يوضع موضع القبول ، والأخذ { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } [ النمل : 6 ] أي تلقنه ، ثم بعض الأفعال قد يشترك فاعله ومفعوله في صلاحية وصف كل منهما بالفعل فيتعاوضان عمله فيهما . تقول : بلغني ذاك وبلغته ، وأصابني خير أو نالني وأصبته أو نلته { وتلقى آدم من ربه كلمات } أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وتلقى آدم كلمات أي جاءته واتصلت به ، ولا يجوز أن يكون معنى التلقي من الرب ، أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد أن يعرف ماهية التوبة ، ويتمكن بعقله من تدارك الذنوب فضلاً عن الأنبياء فإذن المراد أنه نبهه على المعصية على وجه آل أمره إلى التوبة ، أو عرّفه وجوب التوبة وكونها مقبولة ، أو ذكره نعمته العظيمة عليه حتى صار من الدواعي القريبة إلى التوبة ، أو علمه كلمات لو حصلت التوبة معهن كمل حالها من قوله تعالى { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] الآية . وفي رواية ابن عباس أن آدم قال : يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى . قال : ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى . قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال : نعم . وقال النخعي : أتيت ابن عباس فقلت : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال : علم الله آدم وحوّاء أمر الحج فحجا ، فهي الكلمات التي تقال في الحج ، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما إني قبلت توبتكما . وعن ابن مسعود : إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة « سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » .

وقالت عائشة : لما أراد تعالى أن يتوب على آدم عليه السلام طاف بالبيت سبعاً ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فلما صلى الركعتين استقبل البيت وقال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي . فأوحى الله تعالى إلى آدم : يا آدم ، قد غفرت لك ذنبك ، ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها . وفي كلام الغزالي : أن التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة : أولها علم ، وثانيها حال ، وثالثها عمل . فالعلم هو معرفة ما في الذنب من الضرر ، وكونه حجاباً بين العبد ورحمة الرب ، فإذا استحكمت هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات محبوبه ، وتأسف على الفعل الذي كان سبباً لذلك الفوات . ويسمى ذلك التأسف ندماً ، وهذه الحالة لها تعلق بالماضي وهو تلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر ، وتعلق بالحال وهو ترك الذنب الذي كان ملابساً له ، وتعلق بالمستقبل وهو العزم على أن لا يعود إليه أبداً . وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ، ويجعل العلم السابق كالمقدمة ، والترك اللاحق كالثمرة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « الندم توبة » وجميع هذه الأمور بتوفيق الله ولطفه إنه هو التوّاب الرحيم . والتوبة لغة الرجوع فيشترك فيه الرب والعبد ، فإذا وصف بها العبد فالمعنى راجع إلى ربه لأن العاصي هارب عن ربه ، وقد يفارق الرجل خدمة سيده فيقطع السيد معروفه عنه ، فإذا عاد إلى السيد عاد السيد عليه بإحسانه ومعروفه ، وهذا معنى قبول التوبة من الله وغفران ذنوب العباد « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » ومعنى المبالغة في الثواب أن واحداً من ملوك الدنيا إذا عصاه إنسان ثم تاب قبل توبته ، ثم إذا عاد إلى المعصية وإلى الاعتذار فربما لم يقبل عذره لأن طبعه يمنعه من قبول العذر ، والله تعالى بخلاف ذلك لأنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضر ، بل لمحض الإحسان واللطف والرحمة والجود ، فإن فيضه لا ينقطع ولا تقصير إلا من القابل ، فكلما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض إليه لا محالة . وأيضاً يستحق المبالغة من جهة أخرى وهي كثرة عدد المذنبين المستلزمة لكثرة التائبين المستتبعة لكثرة قبول التوبة ووصفه بالرحمة . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر ، وإذا آل حال أبينا إلى هذا من خطيئة واحدة فمن أحاطت به خطاياه أحق بالبكاء »

ولذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم « إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة » فنحن أحق بالاستغفار ، فإن الغين يكاد يكون بالنسبة إلينا ريناً ، وذلك أن الغين شيء يغين أي يغشى القلب ويغطيه بعض التغطية كالغيم الرقيق لا يحجب الشمس ، ولكن يمنع كمال ضوئها . والرين ما استحكم من ذلك حتى صار القلب ممتنعاً بالكلية عن قبول الحق وذلك صفة الكفار { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين : 14 ] . قيل في تأويل الحديث : إن الله تعالى أطلع نبيه على ما سيكون في أمته من الخلاف والشقاق ، وكان إذا ذكر ذلك وجد غيناً في قلبه فاستغفر لأمته . قيل : كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فيستغفر مما كان . وقيل : الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانياً عن نفسه بالكلية ، فإذا عاد إلى الصحو استغفر من ذلك الصحو ، وهذا تأويل أرباب الحقيقة . وقال أهل الظاهر : إن القلب لا ينفك عن الخطرات والشهوات وأنواع الإرادات ، فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر . وعن ثابت البناني : بلغنا أن إبليس قال : يا رب ، إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه . فقال سبحانه : جعلت صدورهم مساكن لك . فقال : رب زدني . فقال : لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة . قال : رب زدني . قال : تجري منه مجرى الدم . قال : رب زدني . قال : اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد . قال : فشكا آدم إلى ربه فقال : يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطته علي وأنا لا أطيقه إلا بك . فقال الله تعالى : لا يولد ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء . قال : رب زدني . قال : الحسنة بعشر أمثالها . قال : رب زدني . قال : لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر ، والغرغرة تردد الروح في الحلق . وسئل ذو النون عن التوبة فقال : إنها اسم جامع لمعان ستة : أولها الندم على ما مضى ، وثانيها العزم على ترك الذنوب في المستقبل ، وثالثها أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله ، والرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم ، والخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرام ، والسادس إذاقة البدن مرارة الطاعات كما ذاق حلاوة المعاصي . وكان أحمد ابن الحرث يقول : يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب ، يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب ، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب ، يا صاحب الذنوب أنت غداً بالذنوب مطلوب .

وإنما اكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعاً له كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك على أنها قد ذكرت في موضع آخر { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] الآية .
( قوله ) { قلنا اهبطوا } الآية . قيل : فائدة تكرير الأمر بالهبوط أنهما هبوطان : الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض . وضعف بأنه لو كان كذلك لكان ذكر قوله { ولكم في الأرض مستقر } عقيب الهبوط الثاني أولى . وأيضاً قوله { منها } يدل على أن الهبوط الثاني أيضاً من الجنة والأوجه أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة وتابا بعد الأمر بالهبوط ، وقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط يرتفع بزوال الزلة ، فأعيد الأمر مرة ثانية ليعلما أن حكمه باقٍ تحقيقاً للوعد المتقدم في قوله تعالى { إني جاعل في الأرض خليفة } ووجه ثالث وهو أن يكون التكرير للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قوله { فإما يأتينكم } روي في الأخبار أن آدم هبط بجزيرة سرنديب من الهند ، وحواء بجدة من أرض الحجاز ، وإبليس بالأيلة من نواحي البصرة ، والحية بأصفهان ، فلم يتلاقيا مائة سنة ، ثم ازدلفا أي تقاربا بالمزدلفة ، واجتمعا بجمع وتعارفا بعرفات يوم عرفة ، وتمنيا على الله تعالى المغفرة والتوبة بمنى ، فحصلت أسماء هذه المواضع من هذه المعاني . وما في { إما } مزيدة لتأكيد الشرط ويؤيده لحوق النون المؤكدة والشرط الثاني وجزاؤه مجموعين جواب الشرط الأول . تبع واتبع بمعنى ، وإنما جاء في طه { فمن اتبع } [ طه : 123 ] موافقة لقوله فيها { يتبعون الداعي } [ طه : 108 ] وفي الهدى وجهان : أحدهما المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي ، وفيه تنبيه على نعمة أخرى عظيمة فكأنه قال : وإذ قد أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى : إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع . عن الحسن : لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه : يا آدم ، أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك : واحدة لي ، وواحدة لولدك ، وواحدة بيني وبينك ، وواحدة بينك وبين الناس . أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فإذا عملت آجرتك ، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلى الإجابة ، وأما التي بينك وبين الناس فأن تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به . وقيل : هو رسول وكتاب بدليل { والذين كفروا كذبوا بآياتنا } [ البقرة : 39 ] في مقابلة { فمن تبع هداي } في الإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه سيصير إلى حالة لا خوف فيها ولا حزن . وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني ، لأن قوله { فإما يأتينكم مني هدى } دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادة البيان ، وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكين .

وجمع قوله { فمن تبع هداي } تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ، وجمع قوله { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه ، لأن الخوف ألم يحصل للنفس من توقع مكروه ، أو انتظار محذور ، وزواله يتضمن السلامة من جميع الآفات . والحزن ألم يعرض للنفس لفقد محبوب أو فوات مطلوب ، ونفيه يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات . وإنما قدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على حصول ما ينبغي ، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف عند الموت ، ولا في القبر ، ولا عند البعث ، ولا عند حضور الموقف ، ولا عند تطاير الكتب ، ولا عند نصب الميزان ، ولا عند الصراط { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } [ فصلت : 30 ] وقال قوم من المتكلمين : إن أهوال يوم القيامة تعم الكفار والفساق والمؤمنين بدليل قوله تعالى { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } [ الحج : 2 ] { فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً } [ المزمل : 17 ] { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } [ المائدة : 109 ] { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] وفي الحديث « تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه » وحديث الشفاعة وقول كل نبي « نفسي نفسي » إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه يقول : « أمتي أمتي » مشهور . قلت : لا ريب أن وعد الله حق ، فمن وعده الأمن يكون آمناً لا محالة ، إلا أن الإنسان خلق ضعيفاً لا يستيقن الأمن الكلي ما لم يصل إلى الجنة ، لأنه لا يطمئن قلبه ما لم ينضم له إلى علم اليقين عين اليقين ، وأيضاً إن جلال الله وعظمته يدهش الإنسان براً كان أو فاجراً . وأيضاً ظاهر العمل الصالح لا يفيد اليقين بالجنة ، فلا عمل إلا بالإخلاص ، ولا حكم بالإخلاص إلا لله تعالى ، لأنه من عمل القلب وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء . ولهذا جاء « والمخلصون على خطر عظيم » وكان دأب الصدّيقين أن يخلطوا الطمع بالخوف ، والرغبة بالرهية ، { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [ السجدة : 16 ] { ويدعوننا رغباً ورهباً } [ الأنبياء : 90 ] وقيل : { لا خوف عليهم } [ يونس : 62 ] أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فآمنهم الله تعالى ثم سلاهم فقال لهم

{ ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا . ثم إن الأئمة خصصوا نفي الخوف والحزن بالآخرة ، لأن مجاري الأمور في الدنيا لا تخلو من مواجب الخوف والحزن . وقال صلى الله عليه وسلم « خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل » قلنا : المؤمن الراضي بقضاء الله وقدره لا يرى شيئاً من المكاره مكروهاً ، وإنما مراده مراد حبيبه { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } [ النساء : 65 ] فبترك الإرادة يصح نسبة العبودية ، وبالرضوان يحصل مفاتيح الجنان ، وتنكشف الهموم والأحزان ، ويتساوى الفقر والوجدان ، وتثبت حقيقة الإيمان { والذين كفروا } لجحدهم مولاهم { وكذبوا بآياتنا } لإثباتهم حكماً لهم بحسب مشتهاهم وهواهم { أولئك أصحاب النار } وملازموها دائماً سرمداً سواء كانوا من الإنس أو من الجن ، أعاذنا الله منها بعميم فضله وجسيم طوله .
التأويل : إنكم تسجدون لله بالطبيعة الملكية الروحانية { اسجدوا لآدم } بخلاف الطبيعة تعبداً ورقاً وانقياداً للأمر وامتثالاً للحكم ، اسجدوا له تعظيماً لشأن خلافته وتكريماً لفضيلته المخصوصة به ، فمن سجد له فقد سجد لله تعالى كما قال { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } اسجدوا لآدم لأجل آدم فإن عبادتكم وطاعتكم لا توجب ثواباً لكم ولا تزيد في درجاتكم ، ولكن فائدتها تعود إلى الإنسان لقوله { يسبحون بمحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } ولأن الإنسان يقتدي بهم في الطاعة ويتأدب بآدابهم في امتثال الأوامر والانزجار عن الإباء والاستكبار ، كيلا يلحقه من اللعن والبعد ما لحق إبليس { فسجدوا إلا إبليس } لأنهم خلقوا من نور ، والنور من شأنه الانقياد والإفاضة ، وأنه خلق من نار والنار من شأنها الاستعلاء طبعاً { وكان من الكافرين } لأنه ستر الحق على آدم كما سمي إبليس لأنه أبلس الحق . { ولا تقربا هذه الشجرة } أي أبحت لك نعيم الجنة بما فيها وما كان لك فيها حق لأنك ما عملت بعد عملاً تستحق به الجنة فأعطني هذه الشجرة الواحدة منها وهي كلها لي وأنا خلقتها ، فإن طمعت فيها أيضاً فاعلم أن الإنسان له همة عالية وحرص شديد لا يزال تقول جهنم حرصه « هل من مزيد » ولا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه أي سابقة رحمته وعنايته « سبقت رحمتي غضبي » ثم إنه أبيح له ولزوجه مشتهيات النفس كلها { فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين } وقيل لهما اقتنعا بها ولا توقدا نار الفتنة على أنفسكما ، ولا تصبا من قربة المحبة ماء المحنة على رأسكما ، ولا تقربا شجرة المحبة وقد غرست لأجله في الحقيقة { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] . ولكن سبب النهي هو الدلال الذي يقتضيه غاية الجمال . وأيضاً لو لم ينه عنها فلعله ما فرغ لها لكثرة أنواع المرادات النفسانية وكانت المحبة غذاء روحانياً فذكرها كان كالتحريض عليها فإن الإنسان حريص على ما منع وأيضاً إنه تعالى وسع أسباب الانبساط أولاً ثم ضيق عليه الأمر آخراً .

وأدنيتني حتى إذا ما فتنتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح .
تجافيت عني حين لالي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح .
خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه الجنة في جواره وزوجه حواء حتى شاهد جمال الحق في مرآة وجهه ، وأنبت شجرة المحبة بين يديه ثم منعه عنها وكان في ذلك المنع تذكير وتحريض . أيضاً كما مر ثم عاتبه بقوله { فتكونا من الظالمين } وهذا كما أسكر موسى بأقداح الكلام وأذاقه لذة شراب السماع وقربه نجياً حتى اشتاق إلى جماله وطمع في وصاله وقال { ربي أرني } [ الأعراف : 143 ] عاتبه بسطوة { لن تراني } [ الأعراف : 143 ] وذلك أن البلاء والولاء توأمان والمحبة والمحنة رضيعا لبان ، والمطلوب كلما كان أرفع كان أعز وأمنع والجمال لا بد له من الدلال ، وبه يتميز العاشق الصادق من المدعي المختال . { فلما ذاقا } شجرة الغرام خرجا من دار السلام فما لأهل الغرام ودار السلام؟ وأين الفارغ السالي من المحب الغالي؟
فبتنا على رغم الحسود وبيننا ... حديث كطيب المسك شيب به الخمر .
فلما أضاء الصبح فرق بيننا ... وأي نعيم لا يكدره الدهر؟ .
وبالجملة ، فلما جاء القضاء ضاق الفضاء ، فلم يمس بعد أن كان مسجود الملك مرفوع السماك إلى السماك مشمول الرعاية موفور العناية حتى نزع عنه لباس الأمن والفراغ ، وبدل باستئناسه الاستيحاش ، تدفعه الملائكة بعنف أن اخرج من غير مكث ولا بحث ، فأزلتهما يد التقدير بحسن التدبير ، وكان الشيطان المسكين كذئب يوسف لطخ خرطومه بدم نصح ، فلما وقعا من القربة في الغربة ، ومن الألفة في الكلفة لما ذاقا من شجرة المحبة المورثة للمحنة استوحشا من كل شيء ، واتخذا عدوّاً بعضكم لبعض عدو ، وهكذا شرط المحبة عداوة ما سوى المحبوب . فكما أن ذاته لا تقبل الشركة في التعبد ، كذلك لا تقبل الشركة في المحبة . فلما استقرت حبة المحبة في أرض قلب آدم جعل الأرض مستقر شخصه ليتمتع بتربية بذر المحبة بماء الطاعة والتكليف إلى حين إدراك ثمرة المعرفة { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] وقال صلى الله عليه وسلم « إن داود قال : يا رب لم خلقت الخلق؟ فقال : كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف » ثم إنه بعدما ابتلي بالهبوط بشره بأن وحيه لا ينقطع وهدايته لا ترتفع ، وإن من ربى بذر المحبة بماء الطاعة والطباعة { فلا خوف عليهم } في المستقبل { ولا هم يحزنون } على ما مضى من الهبوط إلى الأرض ، لأنهم يرجعون بجذبات العناية والهداية إلى ذرى حظائر القدس وبالله التوفيق .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

القراآت : { إسرائيل } بغير همزة حيث كان : يزيد وحمزة في الوقف { نعمتي } وكذلك ما بعدها ساكنة الياء : أبو زيد عن المفضل { فارهبوني } { فاتقوني } بالياء في الحالين : يعقوب ، وكذلك كل ياء محذوفة في الخط عند رأس الآية . وروى مسبح بن حاتم وابن دريد عن سهل وعباس بالياء في الوصل . { أول كافر به } ممالة : قتيبة وأحمد بن فرج .
الوقوف : { فارهبون } ( 5 ) ربع الجزء . { كافر به } ( ص ) لاتفاق الجملتين وعلى { قليلاً } أجوز لاختلاف النظم بتقديم المفعول . { فاتقون } ( 5 ) { تعلمون } ( 5 ) { الراكعين } ( 5 ) { الكتاب } ( ط ) { تعقلون } ( 5 ) { الصلاة } ( ط ) { خاشعين } ( لا ) لأن « الذين » صفتهم . { راجعون } .
التفسير : أنه تعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، ثم ذكر الإنعامات العامة للبشر ومن جملتها خلق آدم إلى تمام قصته ، أردفها الإنعامات . الخاصة على أسلاف اليهود ، إلانة لشكيمتهم واستمالة لقلوبهم وتنبيهاً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث كونه إخباراً بالغيب مدرجاً في مطاوي ذلك ما يرشدهم إلى أصول الأديان ومكارم الأخلاق ، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم غير منصرف للغلمية والعجمية المعتبرة لقب له ، ومعناه صفوة الله . وقيل : عبد الله ، لأن « إسر » بالعبرية هو العبد ، « وإيل » الله . وقوله { يا بني إسرائيل } خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب في أيام محمد صلى الله عليه وسلم . وحد النعمة وما يتعلق بها قد سبق في تفسير الفاتحة . والعائد من الصلة محذوف أي أنعمت بها عليكم . قال بعض العارفين : عبيد النعم كثيرة ، وعبيد المنعم قليلون ، فإن الله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم ، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم المنعم فقال { اذكرني أذكركم } [ البقرة : 152 ] عن ابن عباس أنه قال : من نعمه تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون ، وظلل عليهم في التيه الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأعطاهم الحجر الذي كان يسقيهم ما شاءوا ، وأعطاهم عموداً من النور أضاء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعت وثيابهم لا تبلى ، وفي تذكير هذه النعم فوائد : منها أن فيها ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل والزبور . ومنها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكرهم إياها ليحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . ومنها أن تذكر النعم الكثيرة يوجب الحياء من إظهار المخالفة . ومنها أن كثرة النعم تفيد أن المنعم خصهم بها من بين سائر الناس ، ومن خص أحداً بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم كما قيل : إتمام المعروف خير من ابتدائه . فتذكير النعم السالفة مطمع في النعم الآتية ، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة والمخاصمة .

والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء إذ لولاها لم يبق نسلهم ، ولأن الانتساب إلى آباء خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، ولأنهم إذا علموا أن آباءهم إنما خصوا بهذه النعم لمكان طاعتهم والإعراض عن الكفر والجحود ، رغبوا في هذه الطريقة لأن الابن مجبول على اتباع الأب « من أشبه أباه فما ظلم » . والعهد يضاف إلى المعاهد جميعاً . يقال : أوفيت بعهدي أي بما عاهدتك عليه ، وأوفيت بعهدك أي بما عاهدتك عليه . والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي أوف بعهدكم أي أرض عنكم وأدخلكم الجنة حكاه الضحاك عن ابن عباس . وتحقيقه في قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله } [ التوبة : 111 ] وقيل : المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيبعثه ، وإليه الإشارة في قوله { ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيباً } [ المائدة : 12 ] إلى قوله { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } [ المائدة : 12 ] وفي الأعراف { فسأكتبها للذين يتقون } [ الأعراف : 156 ] الآية . وفي آل عمران { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم } [ آل عمران : 81 ] وفي الصف { وإذ قال عيسى بن مريم } [ الصف : 6 ] وعن ابن عباس : إن الله كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً ، فمن تبعه وصدق بالتوراة الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين ، أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل ، وأجراً باتباع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في القرآن { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } [ الحديد : 28 ] . وعن أبي موسى الأشعري مرفوعاً « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران ، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ، ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران » فإن قيل : لو كان الأمر كما قلتم ، فكيف يجوز من جماعتهم جحده صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : إما لأن هذا العلم به صلى الله عليه وسلم كان حاصلاً عند العلماء بكتبهم ولم يكن لهم عدد كثير فجاز منهم كتمانه صلى الله عليه وسلم ، وإما لأن ذلك النص كان نصاً خفياً لعدم تعيين الزمان والمكان بحيث يعرفه كل أحد ، فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه . جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة : أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك لله تعالى .

فقال لها : يا هاجر أين تريدين؟ قالت : أهرب من سيدتي سارة . فقال : ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك ، وستحبلين وتلدين ابناً تسميه إسماعيل ، من أجل أن الله سمع خشوعك ، وهو يكون عيناً بين الناس وتكون يده فوق الجميع ، ويد بجميع مبسوطة إليه بالخضوع . فقيل : هذا الكلام خرج مخرج البشارة لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف ، فلما جاء الإسلام استولوا على الخافقين بالإسلام ومازجوا الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة .
{ وإياي فارهبون } فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك : زيد أرهبته أي زيداً رهبت رهبته بتقديم المفعول للاختصاص . فتقديره : وإياي ارهبوا فارهبون . وهو أوكد في إفادة الاختصاص من { إياك نعبد } [ الفاتحة : 4 ] لمكان الفاء المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها . أي إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون . ومن قبل التكرير ولأجل الإضمار والتفسير . والرهبة هي الخوف ، والخوف إما من العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وإما من الجلال وهو وظيفة أرباب القلوب ، والأول يزول ، والثاني لا يزول . ومن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس . يروى أنه ينادي مناد يوم القيامة : وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة . قوله { وآمنوا } معطوف على { اذكروا } والمراد { بما أنزلت } القرآن و { مصدقاً } حال مؤكدة من الراجع المحذوف وفيه تفسيران : أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق ، والتوراة والإنجيل حق ، والتوراة أنزل على موسى ، والإنجيل على عيسى ، فكان الإيمان بالقرآن مؤكداً للإيمان بالتوراة والانجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل ، والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن تكذيباً لهما ، وفي هذا التفسير دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أن شهادة كتب الأنبياء لا تكون إلا حقاً ، ومن جهة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن كتبهم ولم يكن له صلى الله عليه وسلم معرفة بذلك الأمر قبل الوحي { ولا تكونوا أول كافر به } صلى الله عليه وسلم أي أوّل من كفر به صلى الله عليه وسلم ، أو أوّل فريق أو فوج كافر به صلى الله عليه وسلم ، أو ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقوله « كسانا حلة » أي كل واحد منا .
( وهنا سؤالان ) الأول : كيف جعلوا أوّل من كفر به صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلى الكفر به صلى الله عليه وسلم مشركو العرب؟ وفي الجواب وجوه : الأوّل : أنه تعريض وأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به صلى الله عليه وسلم لمعرفتهم به صلى الله عليه وسلم وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد صلى الله عليه وسلم والمستفتحين به على الذين كفروا ، وكانوا يعدّون أتباعه أولى الناس كلهم .

فلما بعث كان أمرهم على العكس { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] . والثاني : ولا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا - وأنتم تعرفونه صلى الله عليه وسلم موصوفاً في التوراة - مثل من لم يعرفه صلى الله عليه وسلم لأنه لا كتاب له . الثالث : { ولا تكونوا أول كافر به } من أهل الكتاب ، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر به وبالقرآن من بني إسرائيل . الرابع { ولا تكونوا أوّل كافر به } يعني بكتابكم . يقول ذلك لعلمائهم ، لأن تكذيبكم بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم . الخامس : المراد بيان تغليظ كفرهم ، وذلك أن السابق إلى الكفر كفره غليظ « من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها » والكافر عن دليل ومعرفة بما يوجب الإيمان كفره أغلظ ممن كفر ولا دليل له على الإيمان ، فاشتركا من هذا الوجه ، فصح إطلاق أحدهما على الآخر . السادس : ولا تكونوا أوّل من جحد مع المعرفة . السابع : أوّل فريق كفر من اليهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبها قريظة والنضير ، فكفروا ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر . الثامن : ولا تكونوا أول الكافرين به صلى الله عليه وسلم عند سماعكم بذكره صلى الله عليه وسلم ، بل تثبتوا وراجعوا عقولكم فيه صلى الله عليه وسلم .
السؤال الثاني : كأنه يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أوّل الجواب ليس في ذكر الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه . وأيضاً في قوله { وآمنوا } دلالة على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور . وأيضاً قوله { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير . وقوله { رفع السموات بغير عمد ترونها } [ الرعد : 2 ] لا يدل على وجود عمد لا نراها فكذلك ههنا . قال المبرد : هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم ، فقيل لهم : لا تكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه سيكون بعدكم كفار ، فلا تكونوا أنتم أول الكفار فإنه يكون عليكم وزر من كفر إلى يوم القيامة . والاشتراء استعارة للاستبدال كما قلنا في { اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً ، وإلا فالثمن هو المشترى به ، والثمن القليل هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم . خافوا عليها لفوات لو تبعوا دين الإسلام . وقيل : الثمن هو الرشا التي يأخذها علماؤهم على تحريف الكلم عن مواضعه وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع { وإياي فاتقون } مثل { وإياي فارهبون } وقيل : الاتقاء إنما يكون عند الجزم بحصول ما يتقى عنه ، فكأنه أمرهم بالرهبة .

على أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى على أن يقين العقاب قائم .
قوله { ولا تلبسوا } أمر بترك الإغواء والإضلال كما أن قوله { وآمنوا } أمر بترك الكفر والضلال . ولإضلال الغير طريقان : لأنه إن سمع الدلائل فإضلاله بتشويشها عليه ، وإن لم يسمعها فإضلاله بكتمانها ومنعه من الوصول إليها . فقوله { ولا تلبسوا } إشارة إلى القسم الأول ، وقوله { وتكتموا } المجزوم بلا المقدرة للنهي عطفاً على المنهي قبله إشارة إلى القسم الثاني . والباء التي في { بالباطل } إما للوصل كما في قولك « لبست الشيء بالشيء » خلطته به ، فكان المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم حتى لا يميز بينهما . وإما للاستعانة كما في « كتبت بالقلم » فالمعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبساً بباطلكم وهو الشبهات التي توردونها على السامعين . وذلك أن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد صلى الله عليه وسلم كانت نصوصاً خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوّشون وجه الدلالة على المتأملين كقوله { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ غافر : 5 ] قيل : ويجوز أن يكون { وتكتموا } منصوباً بإضمار « أن » ، والواو بمعنى الجمع أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق نحو « لا تأكل السمك وتشرب اللبن » . قلت : هذا التقدير يوهم أن يكون المحظور هو الجمع بين الأمرين كالجمع بين أكل السمك وشرب اللبن حتى لو أتى بكل منهما منفرداً عن الآخر جاز ، اللهم إلا أن يحال ذلك على القرينة كما في قوله { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الدهر : 24 ] إذ لا يجوز أن يريد أطع أحدهما لقرينة الإثم والكفر . { وأنتم تعلمون } ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة « من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها » والنهي عن اللبس والكتمان وإن قيد بالعلم لم يدل على جوازهما حال عدم العلم ، لأن السبب في ذكره أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضاراً أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضاراً ، والنهي وإن كان خاصاً لكنه عام ، فكل عالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه . ثم لما أمرهم بذكر نعمته وبالإيمان برسوله وكتابه ونهاهم عن اللبس والكتمان ، بين لهم ما لزمهم من أصول الشرائع فقال { وأقيموا الصلاة } أي التي عرفتموها بوصف النبي ، بناء على أنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب . وأما القائلون بجواز التأخير فقد جوزوا ورود الأمر بالصلاة وإن لم يعرف حقيقتها ، ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما لو قال السيد لعبده : إني آمرك غداً بشيء فلا بد أن تفعله .

ويكون الغرض أن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني . ومعنى الصلاة لغة وشرعاً قد تقدم في أول البقرة . وأما الزكاة فهي في اللغة ، الزيادة والنماء ، وفي الشرع القدر المخرج من النصاب لأنها تزيد في بركة المخرج عنه ، ويمكن أن يقال : مأخوذة من التطهير من زكى نفسه تزكية إذا مدحها وطهرها من العيوب . قال تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] فإن المخرج يطهر ما بقي من المال . قال صلى الله عليه وسلم « عليك بالصدقة فإن فيها ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة . فأما التي في الدنيا فتزيد في الرزق ، وتكثر المال ، وتعمر الدار . وأما التي في الآخرة فتستر العورة ، وتصير ظلاً فوق الرأس ، وتكون ستراً من النار » وفي هذا الخطاب مع اليهود دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع .
وفي قوله { واركعوا مع الراكعين } وجوه : أحدها أن اليهود لا ركوع في صلاتهم ، فخص الركوع بالذكر تحريضاً لهم على الإتيان بصلاة المسلمين . وثانيها صلوا مع المصلين فلا تكرار لأن الأول أمر بإقامتها ، والثاني أمر بالجماعة . وثالثها الركوع والخضوع لغة سواء ، فيكون نهياً عن الاستكبار المذموم وأمراً بالتذلل للمؤمنين ، ثم إنه سبحانه لما أمرهم بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم رغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر ، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول . والهمزة في { أتأمرون } للتقرير مع التقريع ، والتعجيب من حالهم . والبر اسم جامع لأعمال الخير ، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وعمل مبرور مرضي . واختلف في البر ههنا . قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله ثم يتركونها وينهونهم عن معصية الله ويرتكبونها . وقال ابن جريج . تأمرون الناس بالصلاة والزكاة وتتركونهما . أبو مسلم : كانوا قبل مبعث النبي يخبرون مشركي العرب أن رسولاً سيظهر منكم ويدعو إلى الحق ويرغبونهم في أتباعه ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسدوه وأعرضوا عن دينه . الزجاج : يأمرون الناس بالصدقة ويشحون بها . وقيل : يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه . وقيل : يأمرون غيرهم باتباع التوراة وهم يخالفونها لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ثم ما آمنوا به . وقيل : لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباعه في الظاهر وينكرونه صلى الله عليه وسلم في الباطن ، فوبخهم الله على ذلك . والنسيان هو السهو الحادث بعد حصول العلم ، والناسي غير مكلف فكيف يتوجه الذم على ما صدر عنه؟ فإذن المراد وتغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع { وأنتم تتلون الكتاب } أي التوراة وتدرسونها وتعلمون ما فيها من أعمال البر ومن نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومن الوعيد على ترك البر ومخالفة القول العمل { أفلا تعقلون } ؟ وهو تعجيب للعقلاء من أفعالهم .

وكثيراً ما يحذف الفعل بعد همزة الاستفهام للعلم به والتقدير : أفعلتم ذلك فلا تعقلون . وقس على هذا نظائره في القرآن فإنها كثيرة . وللتعجيب وجوه : منها أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى المصالح وتحذيره عن المفاسد ، وإرشاد النفس إليها وتحذيرها منها أهم بشواهد العقل والنقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بما لا يقبله العقل الصحيح . ومنها أن مثل هذا الوعظ يصير سبباً للمعصية لأن الناس يقولون لولا أن هذا الواعظ مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المناهي ، فيكون داعياً لهم إلى التهاون بالدين والجرأة على المعاصي ، وهذا مناف للغرض من الوعظ فلا يليق بالعقلاء . ومنها أن غرض الواعظ ترويج كلامه وتنفيذ مرامه ، فلا خالف إلى ما نهى عنه صار كلامه بمعزل عن القبول وهذا خلاف المعقول . قال بعضهم : ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استدلالاً بهذه الآية ، وبقوله تعالى { لم تقولون ما لا تفعلون } [ الصف : 2 ] وبأن الزاني بامرأة يقبح منه أن ينكر عليها ، وأجيب بأن المكلف مأمور بشيئين : ترك المعصية ، ومنع الغير عنها ، والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر . والذم في الآية مترتب على الشق الثاني وهو نسيان النفس لا على مجموع الأمرين ، قالوا : وحديث القبح ممنوع . قلت : والحق أنه مكابرة ، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار . فقلت : يا أخي يا جبريل من هؤلاء؟ فقال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم » وقال صلى الله عليه وسلم « إن في النار رجلاً يتأذى أهل النار بريحه » فقيل : من هو يا رسول الله؟ قال : « عالم لا ينتفع بعلمه » وقال صلى الله عليه وسلم « مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه » وعن الشعبي : يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون : لم دخلتم النار فإنا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم؟ فقالوا : إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله . وقيل : من وعظ بقوله ضاع كلامه ، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه . وقيل : عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل . روي أن يزيد بن هارون مات - وكان واعظاً زاهداً مات - فرؤي في المنام فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لي ، وأوّل ما سألني منكر ونكير فقالا : من ربك؟ فقلت : أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك .

وقيل للشبلي عند النزع : قل لا إله إلا الله . فقال :
إن بيتاً أنت ساكنه ... غير محتاج إلى سرج
ولما أمرهم الله تعالى بالإيمان وترك الإضلال وبالتزام الشرائع وموافقة القول للفعل وكان ذلك شاقاً عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه ، عالج الله تعالى هذا المرض بقوله { واستعينوا بالصبر والصلاة } فكأنه قيل : واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر أي حبس النفس عن اللذات ، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها . ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك كمل الأمر ، لأن المشتغل بالصلاة مشتغل بذكر لطفه وقهره ، فإذا تذكر لطفه مال إلى الطاعة ، وإذا تذكر قهره انتهى عن المعصية . وقيل : الصبر الصوم لأنه حبس النفس عن المفطرات ومنه يقال : شهر الصبر لشهر رمضان . ومن حبس نفسه عن قضاء شهوتي البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا ، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله . وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات . ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء أي استعينوا على البلاء بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال في دفعه إلى فاطر الأرض والسماء . وهذا الخطاب وإن كان خاصاً ببني إسرائيل وإلا لزم تفكك النظم ، لكن المعنى على العموم فعلى كل مكلف أن يستعين على حوائجه إلى الله بالصلاة والصبر على تكاليفها مراعياً في ذلك ما يجب من الإخلاص وحسن الأدب واستحضار العلم بأنها انتصاب بين يدي الجبار العالم بالطويات والأسرار ومنه قوله { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } [ طه : 132 ] . ومن خواص الصلاة اندفاع البلايا وانكشاف الغموم والرزايا . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة . وإنها أي الصلاة أو الاستعانة أو جميع المأمورات والمنهيات في هذه الآيات لكبيرة لشاقة ثقيلة { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] { إلا على الخاشعين الذين يظنون } يعلمون أنهم ملاقو جزاء ربهم وأنهم إلى حكمه راجعون ، فتصدر عنهم الأعمال مع طيب نفس وانشراح صدر ، وهذا بخلاف حال المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً . فالملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة لا يواتيه طبعه في الاشتغال بها وإن كان زماناً يسيراً فتثقل عليه ، والموحد حيث اعتقد في فعلها أعظم المنافع وهو الفوز بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم يهون عليه تزجية الأوقات بوظائف العبادات . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تورّمت قدماه ، ومع ذلك يقول :

« يا بلال روّحنا » « وجعلت قرة عيني في الصلاة » والخشوع والخضوع أخوان وهما التطامن والتواضع ، ومنه الخشعة للأكمة المتواضعة . وفي الحديث « كانت الأرض خاشعة على الماء ثم دحيت » وللظن ههنا تفسيران : أحدهما أنه بمعنى العلم تجوّزاً لأن الظن هو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض ، وتجويز نقيض لقاء الرب أي البعث والنشور كفر فكيف يمدح به؟ وسبب هذا التجوز أنهما يشتركان في رجحان الاعتقاد ، وإن افترقا بتجويز النقيض وعدمه فصح إطلاق أحدهما على الآخر ، ولا سيما إذا كان الظن عن أمارة قوية تقرّبه من العلم . وثانيهما أن الظن بمعناه الحقيقي والمراد بملاقاة الرب ، إما لقاء ثوابه وذلك مظنون لا معلوم ، وإما الموت الذي هو سبب اللقاء ووقته غير معلوم إلا أنه متوقع كل لحظة وقوعاً راجحاً عند المؤمن ، لأنه قطع أمله أو لأنه يحب لقاء ربه { إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت } [ الجمعة : 6 ] . ويحتمل أن يقال : معناه على هذا التفسير الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم ، فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله بذنوبه ، فعند ذلك يتسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح .
وبقي ههنا بحثان : الأول : استدل أهل السنة بالآية على جواز رؤية الله تعالى ، وأنكرها المعتزلة قالوا : اللقاء لا يفيد الرؤية لقوله تعالى { فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه } [ التوبة : 77 ] والمنافق لا يرى ربه ، ولقوله { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] ويشمل الكافر والمؤمن . وقال صلى الله عليه وسلم « من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان » وأجيب بأن اللقاء في اللغة وصول أحد الجسمين إلى الآخر اتصال التماس ، وهذا اللقاء سبب الإدراك . فحيث يمتنع حمله على أصله وجب حمله على الإدراك ، لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز . فإن منع من ذلك أيضاً مانع أضمر بحسب ذلك ، فإن الإضمار خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لمانع . ففي قوله { إلى يوم يلقونه } [ التوبة : 77 ] دعت الضرورة إلى إضمار الجزاء ونحوه ، وفي الآية لا ضرورة ، فحمله على الإدراك أولى .
البحث الثاني : المراد من الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه حيث لا مالك لهم سواه { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] كما كانوا كذلك في أول الخلق بخلاف أيام حياتهم في الدنيا ، فإنه قد يملك الحكم عليهم ظاهراً غير الله تعالى . قال المجسمة : الرجوع إلى غير الجسم محال فدل ذلك على كونه تعالى جسماً . وقال أهل التناسخ : الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده فدلت الآية على كون الأرواح قديمة ولا يخفى جوابهما والله أعلم .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

القراآت : { ولا تقبل } بالتاء الفوقانية ، ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
الوقوف : { العالمين } ( 5 ) { ينصرون } ( 5 )
التفسير : إنما أعاد سبحانه هذا الكلام مرة أخرى توكيداً للحجة وتحذيراً من ترك اتباع صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل . والمراد بالعالمين ههنا الجم الغفير من الناس كقوله { باركنا فيها للعالمين } [ الأنبياء : 71 ] . ويقال : رأيت عالماً من الناس . يراد الكثرة بقرينة العلم بأنه لم ير كل الناس ، ويمكن أن يكون المراد فضلتكم على عالمي زمانكم ، لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك لا يكون من جملة العالمين . ويحتمل أن يكون لفظ { العالمين } عاماً للموجودين ولمن سيوجد لكنه مطلق في الفضل ، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة . فالآية تدل على أنهم فضلوا على كل العالمين في أمر ما ، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور ، فلعل غيرهم يكون أفضل منهم في أكثرها . وقيل : الخطاب لمؤمني بني إسرائيل لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير ، وفي جميع ما يخاطب الله تعالى بني إسرائيل تنبيه للعرب لأن الفضيلة بالنبي قد لحقتهم . وجميع أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف : 111 ] . روي عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : قد مضى والله بنو إسرائيل وما يعني بما تسمعون غيركم . واتقاء اليوم هو اتقاء ما يحصل في ذلك اليوم من الشدائد والأهوال ، لأن نفس اليوم لا يتقى . وقوله { لا تجزي } إلى آخر الآية . الجمل منصوبات المحل صفات متعاقبة لليوم ، والراجع منها إلى الموصوف محذوف تقديره : لا تجزي فيه . ومنهم من يقول : اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار وهو « في » فبقي لا تجزيه ، ثم حذف الضمير كما حذف في قوله « أم مال أصابوا » قال :
فما أدري أغيرهم تناء ... وطول العهد أم مال أصابوا
أي أصابوه . ولا يخفى أن هذا التكلف لا يتمشى في سائر الجمل ، بل يتعين تقدير الجار والمجرور العائد . ومعنى لا تجزي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق ، ومنه الحديث في الجذعة ا لتي ضحاها ابن نيار قبل الوقت « تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك » و { شيئاً } مفعول به ، ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلاً من الجزاء مثل « ولا تظلمون شيئاً » . ومعنى تنكير النفس أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئاً من الأشياء وهو الإقناط الكلي القاطع للمطامع . وكذلك قوله { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } أي فدية لأنها معمادلة للمفدى .

وفي الحديث « ولا يقبل منه صرف ولا عدل » أي توبة ، لأنها تصرف من الحال الذميمة إلى الحال الحميدة ولا فداء . والضمير في { ولا يقبل منها } يرجع إلى النفس الثانية العاصية غير المجزي عنها وهي التي لا يؤخذ منها عدل . ومعنى لا تقبل منها شفاعة أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم يقبل منها ، ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها ، كما لا تجزي عنها شيئاً ولو أعطت عدلاً منها لم يؤخذ منها ولا هم ينصرون ، الضمير عائد إلى ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة ، والتذكير بمعنى العباد أو الأناسي مثل ثلاثة أنفس . وفي وصف اليوم بهذه الصفات تهويل عظيم تنبيه على أن الخطب شديد ، لأنه إذا وقع أحد في كريهة وحاولت أعزته دفاع ذلك عنه ، بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية ، فتحمل عنه ما يلزمه وتذب عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوّته ونهاية بطشه . فإن رأى من لا طاقة له بممانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة وبذل المال والمنال ، فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة ، فإن لم تغن هذه الأمور تعلل بما أمكنه من نصر الإخوان ومدد الأخدان ، فأخبر الله تعالى أن شيئاً من هذه لا يدفع يومئذ عن عذابه . وفي هذا تحذير من المعاصي وترغيب في تلافي ما فات بالتوبة ، لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية ، علم أنه لا ينفعه إلا الطاعة وتلافي البوادر . فالآية وإن كانت في بني إسرائيل إلا أنها تعم كل من يحضر ذلك اليوم . فإن قيل : قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الدية ، وفي موضع آخر من هذه السورة عكست القضية ، فما الحكمة في ذلك؟ قلنا : من الناس من ميله إلى حب المال أشدّ من ميله إلى علو النفس فيتمسك أوّلاً بالشفيع ثم يستروح إلى بذل المال ، ومنهم من على العكس فيقدم الفدية على الشفاعة ، فتغيير الترتيب إشارة إلى الصنفين والله أعلم .
واعلم أن الشفاعة هي أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ويطلب له حاجة من الشفع ضد الوتر ، كأن صاحب الحاجة كان فرداً فصار بالشفيع شفعاً . ثم إن الأمة أجمعت على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم رتبة الشفاعة في الآخرة ، وعليه يحمل قوله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً } [ الإسراء : 79 ] { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] . وأجمعوا على أنه لا شفاعة للكفار . بقي الخلاف فيمن عداهم . فأهل السنة أثبتوا الشفاعة لغير الكفار ، والمعتزلة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب بقي خالداً في النار ولا شفاعة له وسائر الناس لهم الشفاعة . قالوا : إن هذه الآية تدل على نفي الشفاعة مطلقاً ، والآيات والأحاديث الدالة على وجود الشفاعة كثيرة ، فعرفنا أن الآية ليست على عمومها ، لكن الآيات الواردة في وعيد صاحب الكبيرة كثيرة كقوله تعالى

{ ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها } [ الجن : 23 ] فخرج غير صاحب الكبيرة وبقيت الآية حجة في الكفار وفي صاحب الكبيرة . وزعم أهل السنة أن اليهود كانوا يدعون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا من ذلك . وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وسوف يجيء سائر حجج الفريقين في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى . وقالت الفلاسفة في تحقيق الشفاعة : إن واجب الوجود عام الفيض والنقصان من القابل ، وجائز أن لا يكون الشيء مستعداً لقبول الفيض من واجب الوجود إلا أن يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود ، فيكون ذلك الشيء متوسطاً بين الواجب . وذلك الشيء مثاله في المحسوس الشمس ، فإنها لا تضيء إلا القابل المقابل ، والسقف لما لم يكن مقابلاً لم يكن مستعداً لقبول النور منها ، لكنه لو وضع طست مملوء من الماء الصافي انعكس منه الضوء إلى السقف . فأرواح الأنبياء كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق كالماء بين الشمس وبين السقف ، وهذا يدل على أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين عباده أشرف من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث إنه لا شفاعة إلا له .

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

القراآت : { سوء العذاب } و { سوء الحساب } بغير همز حيث وقعتا مفتوحتين : الأصبهاني عن ورش . { وعدنا } حيث كان أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد . { موسى } بالإمالة المفرطة كل القرآن : حمزة وعلي وخلف وعن أبي عمرو وجهان : إن جعلته « فعلى » فبالإمالة بين الفتح والكسر ، وإن جعلته على « مفعل » فبالفتح لا غير { ثم اتخذتم } وبابه بالإظهار : ابن كثير وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي . { والفرقان لعلكم } مدغماً : عباس ، وكذلك يدغم إذا كان قبل النون حرف من حروف المد واللين وهي الواو والمضموم ما قبلها مثل { وتكون لكما الكبرياء } والياء المكسور ما قبلها مثل { ميثاق النبيين لما } والألف المفتوح ما قبلها مثل { وما كان لمؤمن } وما أشبه ذلك .
الوقوف : { نساءكم } ( ط ) { عظيم } ( 5 ) { تنظرون } ( 5 ) { ظالمون } ( 5 ) { تشكرون } ( 5 ) { تهتدون } ( 5 )
التفسير : إنه سبحانه لما قدّم ذكر النعمة على بني إسرائيل إجمالاً أخذ في تفصيلها واحدة فواحدة ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة كأنه قال : اذكروا نعمتي ، واذكروا إذ نجيناكم ، وإذ فرقنا ، وإذ كان كذا وكذا . « وإذ » في جميع هذه القصص بمعنى مجرد الوقت مفعول به ل « اذكروا » وأصل الإنجاء والتنجية التخليص ، ومنه النجوة للمكان العالي لأن من صار إليه نجا أي تخلص من أن يعلوه سيل ، أو لأن الموضع تخلص مما انحط عنه . وأصل آل أهل بدليل أهيل وأهال في تحقيره وتكسيره على الأعرف ، فأبدلت إلى « أءل » على خلاف القياس ، ثم إلى « آل » وجوباً فالألف فيه بدل عن همزة بدل عن هاء . ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر . يقال « آل النبي » « وآل الملك » ولا يقال : آل الحائك . وإنما يقال أهله ، وهكذا لا يقال : آل البلد وآل العلم ، وإنما يقال أهلهما . وعند الكسائي ، أصله أول بدليل تصغيره على أويل ، كأنهم يؤلون إلى أصل قلبت الواو ألفاً على القياس . و { فرعون } علم لمن ملك العمالقة أولاد عمليق ابن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح كقيصر لملك الروم ، وكسرى لملك الفرس ، وخاقان للترك ، وتبع لليمن . واختلف في اسمه . فابن جريج : أن اسمه مصعب بن ريان . وابن إسحق : أنه الوليد بن مصعب . ولم يكن من الفراعنة أغلظ وأقسى قلباً منه . وعن وهب بن منبه : أن أهل الكتابين قالوا : إن اسمه قابوس وكان من القبط . وقيل : إن فرعون يوسف هو فرعون موسى . وضعف إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين دخول موسى أكثر من أربعمائة سنة . وقال محمد بن إسحق : هو غير فرعون يوسف وإن اسم فرعون يوسف ا لريان بن الوليد . والمراد بآل فرعون أتباعه وأعوانه الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل بأمره .

ولعتوّ الفراعنة اشتقوا « تفرعن » فلان إذا عتا وتجبر . و { يسومونكم } من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً . قال عمرو بن كلثوم :
إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الخسف فينا
وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه . والسوء مصدر السيء يقال : أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفجور يراد قبحهما . ومعنى سوء العذاب والعذاب كله سيئ أشده وأفظعه ، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره ، أو المراد عذاب من غير استحقاق ، لأن العذاب بالاستحقاق حسن واختلف في سوء العذاب فابن إسحق : إنه جعلهم خدماً وخولاً وصنفهم في أعماله ، فمن بان وحارث وزارع ومن لم يكن ذا عمل وضع عليه جزية يؤديها . السدي : كان يجعلهم في الأعمال القذرة ككنس الكنيف ونحوه ، ولا ريب أن كون الإنسان تحت تصرف الغير كيف شاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة القذرة من غير أن يأخذه بهم رأفة وإشفاق ، من أشدّ العذاب ، حتى إن من هذه حاله ربما يتمنى الموت . سئل حكيم : أي شيء أصعب من الموت؟ فقال : ما يتمنى فيه الموت . فبين تعالى عظيم نعمته عليهم بأن نجاهم من ذلك ، ثم أتبع نعمة أخرى فقال { يذبحون أبناءكم } ومعناه هم يقتلون الذكور من أولادكم دون الإناث . والذي دعاهم إلى ذلك أمور منها : أن ذبح الأبناء يقتضي إفناء الرجال وانقطاع النسل بالآخرة . ومنها أن هلاك الرجال يقتضي فساد معيشة النساء حتى يتمنين الموت من النكد والضر . ومنها أن قتل الولد عقيب الحمل والكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب . ومنها أن الأبناء أحب وأرغب من البنات ولهذا قيل :
سروران مالهما ثالث ... حياة البنين وموت البنات
لقول النبي صلى الله عليه وسلم « دفن البنات من المكرمات » ومنها أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات للأعداء ، وذلك نهاية الذل والهوان . قال بعضهم : المراد بالأبناء الرجال ليطابق النساء ، إذ النساء اسم للبالغات وهو جمع المرأة من غير لفظها . قالوا : وإنما كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره . والأكثرون على أن المراد بالأبناء الأطفال لظاهر اللفظ ، ولأنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم ، ولأنهم كانوا محتاجين إليهم في الأعمال الشاقة ، ولأنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى في اليم معنى . وإنما لم يقل البنات في مقابلة الأبناء لأنهن لما لم يقتلن كن بصدد أن يبلغن ، فحسن إطلاق اسم النساء عليهن مثل { إني أراني أعصر خمراً } [ يوسف : 36 ] عن ابن عباس : أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على أعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه ، فلما رأوا أن كبارهم يموتون ، والصغار يذبحون ، خافوا فناءهم وأن لا يجدوا من يباشر الأعمال الشاقة ، فصاروا يقتلون عاماً دون عام .

وعن السدي : أن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى استولت على بيوت مصر وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا : يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده . وقيل : إن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة ، فلهذا كان يقتل أبناءهم من تلك السنة . قيل : والأقرب هو الأول ، لأن المستفاد من علم النجوم والتعبير لا يكون أمراً مفصلاً ، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزاً ، بل يكون أمراً جميلاً ، والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على هذا الأمر العظيم بسببه ( قلت ) كون فرعون عاقلاً ممنوع ، فإن من شك في أجلى البديهيات وهو أنه ممكن الوجود ، فعدّه من العقلاء لا يكون من العقل . ثم قال ذلك القائل : لعل فرعون كان عارفاً بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافراً كفر الجحود والعناد ، أو يقال إنه كان شاكاً متحيراً في دينه وكان يجوّز صدق إبراهيم عليه السلام ، وأقدم على ذلك الفعل احتياطاً . ( قلت ) : إذا أخبر الله تعالى عنه بأنه قال { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] و { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] فلا ضرورة بنا إلى تجويز كونه عارفاً بالله وبصدق الأنبياء وجعل كفره كفر جحود { ومن أصدق من الله قيلا } [ النساء : 122 ] { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] فإن قلت : لم ذكر { يذبحون } ههنا بلا « واو » ، وفي سورة إبراهيم بواو؟ فالوجه فيه أنه إذا جعل { يسومونكم سوء العذاب } مفسراً بقوله { يذبحون } فلا حاجة إلى الواو ، وإذا جعل { يسومونكم } مفسراً بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح ، وجعل الذبح شيئاً آخر احتيج إلى الواو . وإنما جاء ههنا { يذبحون } وفي الأعراف { يقتلون } بغير واو لأنهما من كلام الله فلم يرد تعداد المحن عليهم . والذي في إبراهيم من كلام موسى فعدّ المحن عليهم وكان مأموراً بذلك في قوله { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] وقال بعضهم : إن معنى يستحيون يفتشون حياء المرأة أي فرجها ، هل بها حمل أم لا؟ وفيه تعسف . والبلاء المحنة إن أشير بذلك إلى صنيع فرعون ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، والحمل على النعمة أولى لأنها هي التي يحسن إضافتها إلى الرب تعالى ، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم حيث عاينوا إهلاك من حاول إهلاكهم وإذلال من بالغ في إذلالهم . وههنا نكتة ، وهي أنهم كانوا في نهاية الذل ، وخصمهم في غاية الاستيلاء والغلبة ، إلا أنهم كانوا محقين وخصومهم مبطلين ، فانقلب المحق غالباً والمبطل مغلوباً ، فكأنه قيل : لا تغتروا بفقر محمد صلى الله عليه وسلم وقلة أنصاره في الحال ، فإنه سينقلب العز إلى جانبه صلى الله عليه وسلم ، والذل إلى جانب أعدائه .

وفيه تنبيه على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء ، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا وينسى أمر الآخرة . قال أهل الإشارة : النفس الأمارة وصفاتها الذميمة وأخلاقها الرديئة تسوم الروح الشريف ذبح أبناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في الأعمال القذرة الحيوانية ولا ينجيه من ذلك إلا الله تعالى .
قوله { وإذ فرقنا } نعمة أخرى في نعمة أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه سالك لكم على عدد الأسباط وكانوا اثني عشر . ومعنى بكم أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما ، أو يراد فرقناه بسبب إنجائكم ، أو يكون حالاً أي ملتبساً بكم . روي أنه تعالى لما أراد غرق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله تعالى أنه لا يؤمن أحد منهم ، أمر موسى بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ، إما ليخرجوا خلفهم لأجل المال ، وإما لتبقى أموالهم في أيديهم . ثم نزل جبريل وقال : أخرج ليلاً كما قال تعالى { وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } [ الشعراء : 52 ] وكانوا ستمائة ألف ، وكل سبط خمسون ألفاً . فلما خرجوا وبلغ الخبر فرعون قال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك . قال الراوي : فوالله ما صاح الليلة ديك . فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال : لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط . قال قتادة : فاجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف ، كل واحدٍ منهم على فرس حصان فتبعوهم نهاراً وهو قوله { فاتبعوهم مشرقين } [ الشعراء : 60 ] أي بعد طلوع الشمس . فلما سار بهم موسى إلى البحر قال له يوشع : أين أمرك ربك؟ فقال له موسى : إلى أمامك . وأشار إلى البحر - فأقحم يوشع فرسه في البحر وكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر ، فسبح الفرس وهو عليه ، ثم رجع وقال له يا موسى : أين أمرك ربك؟ فقال : البحر . فقال : والله ما كذبت وما كذب . ففعل ذلك ثلاث مرات فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر ، فانشق البحر اثني عشر طريقاً . فقال له : ادخل ، وكان فيه وحل فهب الصبا نحو البحر حتى صار طريقاً يبساً ، فاتخذ كل سبط منهم طريقاً ودخلوا فيه ، فقالوا لنبيهم : أين أصحابنا لا نراهم؟ فقال موسى : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم . قالوا : لا نرضى حتى نراهم . فقال : اللهم أعني على أخلاقهم السيئة . فأوحى إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على حيطان المياه فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم . ثم اتبعهم فرعون فلما بلغ شاطئ البحر رأى إبليس واقفاً فنهاه عن الدخول فهمّ بأن لا يدخل البحر ، فجاء جبريل على مهرة فتقدم وهو كان على فحل ، فتبعه فرس فرعون ودخل البحر ، فصاح ميكائيل بهم ألحقوا آخركم بأوّلكم ، فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله تعالى الماء حتى نزل عليهم فذلك قوله تعالى { وأغرقنا آل فرعون } قيل : ذلك اليوم كان يوم عاشوراء ، فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكراً لله تعالى ، ومعنى قوله { وأنتم تنظرون } أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه .

وقيل : إن قوم موسى سألوا أن يريهم الله تعالى حالهم ، فسأل موسى ربه فلفظهم البحر ألف ألف ومائة ألف نفس فنظروا إليهم طافين . وقيل : المراد وأنتم بالقرب منهم . قال الفراء : وهو مثل قولك « لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك » تقول ذلك إذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم . قال أهل الإشارة : البحر هو الدنيا ، وماؤه شهواتها ولذاتها ، وموسى القلب ، وقومه صفات القلب ، وفرعون النفس الأمارة ، وقومه صفات النفس ، والعصا عصا الذكر ، فينفلق بحر الدنيا بتفليق لا إله إلا الله ، وينشبك ماء شهواته يميناً وشمالاً ، ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابساً من ماء الشهوات ، فيخوض موسى القلب وصفاته فيعبرونه وتنجيهم عناية الله إلى ساحل { وإن إلى ربك المنتهى } [ النجم : 42 ] ويغرق فرعون النفس وقومه والله تعالى أعلم . ولما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله موسى .
ونسبه : موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليه السلام . أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، وإنما قيل أربعين ليلة لأن الشهور غررها بالليالي . وقال أهل التحقيق : لأن الليلة وقت العبادة والخلوة فخصت بالذكر لشرفها . ولعدد الأربعين خاصية لن ينكرها أهل الذوق ، ولهذا جاء في الحديث « من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه » والجنين يتقلب في الأطوار في الأربعينات ، قال أبو العالية : وبلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور . ولا بد من تقدير مضاف أي انقضاء أربعين كقولك « اليوم أربعون يوماً منذ خرج فلان » أي تمام الأربعين . ومن قرأ { واعدنا } من المواعدة فمعناه أن الله تعالى وعده الوحي ووعد هو المجيء للميقات إلى الطور . وذكر الأربعين ههنا مجمل وتفصيله في الأعراف كقوله : { ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] فصل أولاً ثم أجمل . ومعنى « ثم » في قوله { ثم اتخذتم } استبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له ، لأنه تعالى لما وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين تنبيهاً للحاضرين وتعريفاً للغائبين وإظهاراً لدرجة موسى وسائر بني إسرائيل ، وأتوا عقيب ذلك بأشنع أنواع الجهل والكفر ، كان ذلك في محل التبعيد والتعجيب كما تقول : إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء .

والاتخاذ افتعال من الأخذ إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء ، ثم لما كثر استعماله على لفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه « فعل » « يفعل » وقالوا : يخذ يتخذ ، وقد أجرى اتخذ مجرى الأفعال القلبية في الدخول على المبتدأ والخبر نحو « جعل » و « صير » والتقدير : اتخذتم العجل إلهاً إلا أنه حذف الثاني للعلم به ولذكره في مواضع أخر منها في طه { فقالوا هذا الهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] وقوله من بعده من بعد مضيه إلى الطور . قال أهل السير : لما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي التي استعاروها من القبط ، قال لهم هارون : إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها ، فجمعوا ناراً وأحرقوها . وكان السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل حين تقدّم في البحر ، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة . ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب وصوّر منه عجلاً وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت كأنه الخوار { فقالوا هذا الهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] فاتخذه إلهاً لأنفسهم ، ولهذا وصفهم الله تعالى بالظلم في قوله { وأنتم ظالمون } كما قال { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وذلك أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، والمشرك وضع أخس الأشياء مكان أشرف الموجودات . والواو في { وأنتم } إما للحال وإما للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الظلم ، وقال أهل التحقيق : إن لكل قوم عجلاً يعبدونه . قال صلى الله عليه وسلم « تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة » وقال « ما عبد إله أبغض إلى الله من الهوى » وفيه تقريع لليهود الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوه كأنه قال : هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم ، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد ، فكيف بهؤلاء الأخلاف؟ وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى من الخلاف والمشاقة { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وتحذير للعقلاء من الجهل والتقليد إلى هذه الغاية . ما أفظع شأن الجهلة المقلدة ، رضوا بأن يكون العجل إلهاً ، وما رضوا بأن يكون البشر نبياً وقد تمعل بعضهم لتصحيح واقعة عبدة العجل حيث استبعد وقوعها منهم مع أنهم شاهدوا تلك المعجزات الباهرة التي تكاد تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق النبي صلى الله عليه وسلم .

إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى صلى الله عليه وسلم إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية فقال للقوم : أنا أتخذ لكم طلسماً مثل طلسمه ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب ، وأطمعهم في صيرورتهم مثل موسى في إتيان الخوارق ، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في الأجسام فوقعوا في تلك الشبهة الركيكة ، وههنا يظهر التفاوت بين أ مة موسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم بعد مشاهدة الآيات العظام القريبة من الأفهام عبدوا الأصنام بل الأنعام ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أن معجزتهم القرآن الذي لا يعرف إعجازه إلا بالنظر الدقيق والبحث العميق لم يخالفوا نبيهم طرفة عين { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } [ النور : 37 ] لا يزيغون عن سواء السبيل ولا يميلون إلى معتقدات أهل الأباطيل { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } [ الفتح : 29 ] .
قوله : { ثم عفونا عنكم } أي حين تبتم بأن قتلتم أنفسكم { من بعد ذلك } الأمر العظيم الذي ارتكبتموه من اتخاذ العجل { لعلكم تشكرون } نعمة العفو . ومعنى الترجي في كلام الله تعالى قد مر في قوله { لعلكم تتقون } الكتاب والفرقان يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل يعني التوراة نحو : رأيت الغيث والليث ، يريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة . أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان العصا واليد وغيرهما من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام . وقيل : الفرقان انفراق البحر ، ولا يلزم التكرار لأنه لم يبين هناك أن ذلك لأجل موسى وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص . وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى { يوم الفرقان } [ الأنفال : 41 ] يعني يوم بدر . وقيل : آتينا موسى التوراة ومحمداً الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وفيه تعسف .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

القراآت : { بارئكم } بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو من طريق أبي الزعراء ، وعبد الرحمن بن عبدوس . وقرأ أبو عمرو بالاختلاس { أنه هو } مدغماً : أبو عمرو غير عباس ، وكذلك كل ما كان بينهما ياء أو واو ملفوظة مثل { ومن دونه هو } { وأنه هو } وأشباه ذلك . { حتى } حيث كان بالإمالة : نصير والعجلي { نرى الله } مكسورة الراء : روى ابن رومي عن عباس وأبو شعيب عن اليزيدي ، وكذلك كل راء بعدها ياء استقبلها ألف ولام مثل { ولو يرى الذين } { والنصارى المسيح } { جهرة } مفتوحة الهاء : قتيبة { السلوى } بالإمالة الشديدة : حمزة وعلي وخلف . وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على مثال « فعلى » .
الوقوف : { فاقتلوا أنفسكم } ( ط ) { عند بارئكم } ( ط ) لأن التقدير ففعلتم { فتاب عليكم } ( ط ) { الرحيم } ( 5 ) { تنظرون } ( 5 ) { تشكرون } ( 5 ) { السلوى } ( ط ) { ما رزقناكم ( ط ) { يظلمون } 5
التفسير : إنه سبحان نبههم على عظم ذنبهم ثم على ما به يتخلصون منه ، وذلك من أعظم النعم في الدين وأيضاً لما أمرهم بالقتل ورفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية ، كان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين وفي أعقابهم إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل ، ظهر أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لهم نعمة ورحمة لأنه لا يأمرهم بشيء من ذلك متى رجعوا عن كفرهم . وفيه ترغيب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة ، فإن أمة موسى لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب أحدنا في مجرد الندم كان أولى . هذا وقد مر أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه إلا أنه لا بد فيه من تعدي ضرر ، فبين ههنا أن الضرر إنما يعود على أنفسهم فبذلك استحقوا العذاب الأبدي . والفرق بين الفاءات الثلاثة في الآية ، أن الأولى للتسبيب لا غير لأن الظلم سبب التوبة . والثانية للتعقيب إما لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم على أن التوبة مفسرة بقتل النفس في شرعهم لا بالندم ، وإما لأن القتل تمام توبة المرتد في شرعهم ، والمعنى فتوبوا فاتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم كما أن القاتل عمداً لا تتم توبته في شرعنا إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلونه . ومعنى { إلى بارئكم } النهي عن الرياء في التوبة كأنه قيل : لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله وإنما تبتم إلى الناس . وقوله { ذلكم } أي القتل { خير لكم عند بارئكم } جملة معترضة تفيد التنبيه على أن ضرر الدنيا أهون من عذاب الآخرة إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي .

والموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقديم والتأخير . والثالثة هي الفاء الفصيحة أي المفصحة عن محذوف تقديره : فامتثلتم فتاب عليكم . وعلى هذا يكون الكلام خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، ويمكن أن يقال : المحذوف شرط منتظم في جملة قول موسى كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم ، وإنما اختص هذا الموضع بذكر البارئ لأن معناه كما مر في الأسماء الذين خلق الخلق على الوجوه الموافقة للمصالح والأغراض ، ففيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العليم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة برآء من التنافر مناسبة للحكم والمقاصد إلى عبادة العجل الذي هو مثل في البلادة والغباوة ، فلا جرم كان جزاؤهم تفكيك ما ركب من خلقهم وتبديل . من أشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها باتخاذ من لا يقدر على شيء منها . والمراد بقتل الأنفس إما ما يقتضيه ظاهر اللفظ وهو أن يقتل كل واحد نفسه ، والقتل اسم للفعل المؤدي إلى زهوق الروح في الحال أو في المآل . وإما قتل بعضهم بعضاً وعليه المفسرون لقوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات : 11 ] { فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وذلك أن المؤمنين كنفس واحدة . ثم اختلفوا فقيل : إنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم . وقيل : لما أمرهم موسى عليه السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبرن على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة ، وأتاهم هارون بالاثني عشر ألفاً الذين ما عبدوا العجل وبأيديهم السيوف فقال : إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين للسيوف فاجلسوا بأفنية بيوتكم واتقوا الله واصبروا ، فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل ويقولون آمين . روي أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه فلم يمكنه المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء . وقام موسى وهارون يدعوان الله ويقولان : هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية يا الهنا . فكشفت الضبابة والسحابة ، وأوحى الله تعالى إليه : قد غفرت لمن قتل ، وتبت على من لم يقتل . قالوا : وكانت القتلى سبعين ألفاً . وقيل : كانوا قسمين : منهم من عبد العجل ، ومنهم من لم يعبد . ولكن لم ينكر على من عبده فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة . والقائلون بأن العجل عجل الهوى قالوا : معنى قتل الأنفس هو قمع الهوى لأن الهوى حياة النفس .
قوله : { وإذا قلتم يا موسى } ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الواقعة كانت قبل أن كلف الله عبدة العجل بالقتل . قال محمد بن إسحق : لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وأحرق العجل ونسفه في اليم ، اختار سبعين رجلاً من خيارهم .

فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : سل ربك حتى نسمع كلامه . فسأل موسى ذلك فأجابه الله إليه ، فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ، ودنا موسى عليه السلام من ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم : ادخلوا وعوا . وكان موسى متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل النظر إليه . وسمع القوم كلام الله مع موسى يقول له : افعل ولا تفعل . ومن جملة الكلام « إني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة ، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري » . فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك { لن نؤمن لك } أي لن نصدقك ولن نقر بنبوتك { حتى نرى الله جهرة } عياناً ، وهي مصدر قولك جهر بالقراءة والدعاء ، كأن الذي يرى بالعين يجاهر بالرؤية ، والذي يرى بالقلب يخافت بها . وانتصابها على نحو انتصاب « قعد القرفصاء » لأن هذه نوع من الرؤية كما أن تلك نوع من القعود ، ويحتمل أن يكون نصبها على الحال بمعنى ذوي جهرة . ومن قرأ { جهرة } بفتح الهاء فإما لأنه مصدر كالغلبة ، وإما لأنه جمع جاهر . وإنما أكدوا بهذا لئلا يتوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على ما يراه النائم { فأخذتكم الصاعقة } وهي ما صعقهم أي أماتهم . فقيل : نار وقعت من السماء فأحرقتهم ، وقيل : صيحة جاءت من السماء ، وقيل : أرسل الله جنوداً سمعوا بحسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة . وصعقة موسى في قوله { وخر موسى صعقاً } [ الأعراف : 143 ] لم تكن موتاً ولكن غشية بدليل { فلما أفاق } [ الأعراف : 143 ] والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله { وأنتم تنظرون } فرفع موسى يديه إلى السماء يدعو ويقول : إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع إليهم وليس معي أحد ، فما الذي يقولون فيّ؟ فلم يزل يدعو حتى رد الله إليهم أرواحهم وذلك قولهم { ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } نعمة البعث بعد الموت ، أو نعمة الله بعدما كفرتموها فطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم . وقيل : إن هذه الواقعة كانت بعد القتل . قال السدي : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم ، أمر الله أن يأتيه موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل ، فاختار موسى سبعين رجلاً . فلما أتوا الطور قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا ، فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بينهم هؤلاء ، فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي أحد منهم فماذا أقول لهم؟ فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلهاً .

فقال موسى : إن هي إلا فتنتك . فأحياهم الله تعالى فقاموا ونظر كل واحد إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى . فقالوا : يا موسى إنك لا تسأل الله شيئاً ، إلا أعطاك ، فادعه يجعلنا أنبياء . فدعا بذلك فأجاب الله دعوته . هذا ما قاله المفسرون ، وليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر ، ولا على أن الذين سألوا الرؤية عبدة العجل أم لا ، والصحيح أن موسى لم يكن من جملة الصعقين في هذه الواقعة لأنه خطاب مشافهة ، ولأنه لو تناوله لوجب تخصيصه بقوله في حق موسى { فلما أفاق } [ الأعراف : 143 ] مع أن لفظة « الإفاقة » لا تستعمل في الموت .
ثم في الآية فوائد منها : التحذير لمن كان في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك . ومنها تشبيه جحودهم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بجحود أسلافهم نبوة موسى عليه السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات ليتنبهوا أنه إنما لا يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها ، ولو جحدوها لاستحقوا العقاب كما استحقه أسلافهم . ومنها التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده كي يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل .
ومنها إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب ، حيث إنهم عرفوا خبره ، وذلك أنه تعالى بيَّن أن أسلافهم بعد مشاهدة تلك الآيات كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ، فكيف يتعجب من مخالفتهم محمداً صلى الله عليه وسلم وإن وجدوا في كتبهم أخبار نبوته صلى الله عليه وسلم . و منها لما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه القصة مع كونه أمياً ، تبين أن ذلك من الوحي .
بقي ههنا بحث وهو أن المعتزلة استدلوا بالآية على امتناع رؤية الله تعالى لأنها لو كانت أمراً جائز الوقوع لم تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم حين التمسوا النقل من قوت إلى قوت في قولهم { لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 61 ] . وأجيب بأن امتناع رؤيته في الدنيا لا يستلزم امتناع رؤيته في الآخرة الذي هو محل النزاع ، فعل رؤيته تقتضي زوال التكليف عن العبد والدنيا مقام التكليف ، وأيضاً اقتراح دليل زائد على صدق المدعي بعد ثبوته تعنت . وأيضاً لا يمتنع أن الله تعالى علم أن فيه مفسدة كما علم في إنزال الكتاب من السماء { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة }

[ النساء : 153 ] فلهذا جاز الاستنكار لأن مطالبة الرؤية جهرة مطالعة الذات غفلة ، وفيه من سوء الأدب وترك الحرمة ما لا يستحسنه قضية العزة والحشمة .
قوله تعالى { وظللنا } أي جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه كما سيجيء في المائدة ، سخر الله لهم السحاب فيسير بسيرهم يظلهم من الشمس والظل ضوء ثان ، وينزل عليه ثوب كالظفر يطول بطوله كما كان لآدم قبل الزلة ، وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لكل إنسان صاع لا أزيد ، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني ، فيذبح الرجل منها ما يكفيه لا أزيد . مجاهد : المن صمغ حلو . وهب : هو الخبز السميذ . الزجاج : هو ما منّ الله تعالى به عليهم ، وهذا كما يروى مرفوعاً « الكمأة من المن وفيها شفاء للعين » وقيل : السلوى العسل . وقيل : طائر أحمر { كلوا } على إرادة القول أي وقلنا لهم كلوا { من طيبات } من حلالات { ما رزقناكم } وهذا للإباحة . { وما ظلمونا } يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم فجعلوا موضع الشكر كفراً ، وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } لأن وبال الظلم عائد عليهم لا إلى غيرهم ولا إلى الله تعالى . وإنما قال ههنا وفي الأعراف والتوبة والروم بزيادة لفظة « كانوا » لأنها إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا بخلاف قوله في آل عمران { ولكن أنفسهم يظلمون } [ آل عمران : 117 ] لأنه مثل ، والله أعلم .

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

القراآت : { يغفر لكم } بضم الياء التحتانية وفتح الفاء : أبو جعفر ونافع وجبلة . { تغفر لكم } بضم التاء الفوقانية وفتح الفاء : ابن عامر وأبو زيد عن المفضل . الباقون { نغفر } بالنون وكسر الفاء { يغفر لكم } مدغماً كل القرآن : أبو عمرو . { خطاياكم } وبابه بالإمالة : علي { قولاً غير } بالإخفاء : يزيد وأبو نشيط عن قالون ، وكذلك يخفيان النون والتنوين عند الخاء والغين سواء وسط الكلمة أو أولها .
الوقوف : { خطاياكم } ( ط ) { المحسنين } ( 5 ) { يفسقون } ( 5 ) .
التفسير : القرية مجتمع الناس من قرأت الماء في الحوض أي جمعت . وبهذا الاعتبار كثيراً ما تطلق القرية على البلدة ، والجمع القرى على غير قياس . وإنما قياسه من المعتل اللام « فعال » نحو : ركوة وركاء ، وظبية وظباء ، والنسبة إليها قروي . وهو على القياس عند يونس حيث قال : ظبوي في النسبة إلى ظبية ، وعلى خلاف القياس عند الخليل وسيبويه حيث يقولان : ظبي على مثال الصحيح . والقرية بيت المقدس ، وقيل : أريحاء من قرى الشام . أمروا بدخولها بعد التيه . والباب باب القرية ، وقيل : باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى ، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب تواضعاً وشكراً لله تعالى . وقيل : السجود أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين ليكون دخولهم بإخبات وخشوع . وقيل : طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوا ودخلوا متزحفين على أوراكهم من الزحف وهو المشي على الأوراك . و { حطة } فعلة من الحط كالجلسة خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة ، أو أمرك وأصله النصب معناه : اللهم حط عنا ذنوبنا حطة ، فرفعت لإفادة الثبوت كقوله :
شكا إليّ جملي طول السرى ... يا جملي ليس إليّ المشتكى
صبر جميل فكلانا مبتلى ... الأصل صبراً أي أصبر صبراً . كان القوم أمروا أن يدخلوا الباب على وجه الخضوع ، وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان ، وذلك أن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب ، لا لأن التوبة لا تتم إلا به إذ الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام ، بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ولإزالة التهمة عن نفسه ، وكذا من عرف بمذهب خطأ ثم تبين له الحق ، فإنه يلزمه أن يعرّف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه لتزول التهمة عنه في الثبات على الباطل ، وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته ويحسنوا الظن به . وعن أبي مسلم الأصفهاني : أن معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها . وأصل الغفر الستر والتغطية . ومعنى القراآت في { نغفر لكم } واحد ، لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت ، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله .

والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث . والخطء الذنب قال تعالى { إن قتلهم كان خطأ كبيراً } [ الإسراء : 31 ] تقول منه خطئ يخطأ خطأً وخطأة على فعلة . والاسم الخطيئة على « فعيلة » وجمعها خطايا وأصله خطايء بياء ثم همز ، أبدلت الهمزة ألفاً فانفتحت الياء لأجلها .
{ وسنزيد المحسنين } المفعول الثاني محذوف للعلم به ولمكان الفاصلة أي سنزيدهم إحساناً أو ثواباً أو سعة ، وذلك أن المراد من المحسنين إما من هو محسن بالطاعة في هذا التكليف ، وإما من هو محسن بطاعات أخرى في سائر التكاليف . وعلى الأول فالزيادة الموجودة إما منفعة دنيوية ، فالمعنى أن المحسن بهذه الطاعة نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية ، وإما منفعة دينية أي المحسن بهذا نزيده على غفران الذنوب ثواباً جزيلاً . وعلى الثاني فالمعنى أنّا نجعل دخولكم الباب سجداً وقولكم { حطة } مؤثراً في غفران الذنوب ، ثم إن أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى زدناكم ثواباً . ويحتمل أن يكون المراد أنهم صنفان : فمن مخطئ تصير الكلمة سبباً لغفرانه ، ومن محسن تصير سبباً لزيادة ثوابه قوله تعالى { فبدل الذين ظلموا } قال أبو البقاء : التقدير فبدلوا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم . يتعدى إلى مفعولين : واحد بنفسه والآخر بالباء . والذي مع الباء يكون هو المتروك ، والذي بغير باء هو الموجود . ويجوز أن يكون « بدل » بمعنى « قال » ، لأن تبديل القول يكون بقول . والمعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله . وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ معين وهو لفظ حطة فجاءوا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به لم يأخذوا به ، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك ، أو اللهم اعف عنا ونحو ذلك . وقيل : قالوا مكان حطة حنطة . وقيل : قالوا بالنبطية والنبط قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين حطاً سمقاثاً أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم ، وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة » وفي تكرير { الذين ظلموا } ووضع المظهر موضع المضمر ، زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم ، وهو أن وضعوا غير ما أمروا به مكان ما أمروا به . والرجز العذاب . عن ابن عباس : مات بالفجأة منهم أربعة وعشرون ألفاً في ساعة واحدة .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32