كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

وكان أهل السجن يقصون عليه رؤياهم فيؤوّلها لهم ، أو نراك من العلماء عرفا ذلك بالقرائن أو من المحسنين إلى أهل السجن كان يعود مرضاهم ويوسع عليهم ويراعي دقائق مكارم الأخلاق معهم ، أو من المحسنين في طاعة الله وطلب مرضاته ففرج عنا الغمة بتأويل ما رأينا وإن كانت لك يد في تأويل الرؤيا . وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : أبشروا اصبرا تؤجروا . فقالوا : ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت يا فتى؟ فقال : أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل إبراهيم . فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت . وعن الشعبي ومجاهد أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي : أراني في بستان فإذا بأصل كرم عليه ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته . وقال الخباز : إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة ، وإذا سباع الطير تنهش منها { قال لا يأتيكما طعام } إلى آخره هذا ليس بجواب لهما ظاهراً وإنما قدم هذا الكلام لوجوه منها : أن أحد التعبيرين لما كان هو الصلب وكان في إسماعه كراهة ونفرة أراد أن يقدم قبل ذلك ما يؤثق بقوله ويخرجه عن معرض التهمة والعداوة . أو أراد أن يبين علوّ مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون عن ظن وتخمين ، ولهذا قال السدي : أراد لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم . بين بذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس مقصوراً على شيء دون غيره وقيل : إنه محمول على اليقظة وإنه ادعى معرفة الغيب كقول عيسى عليه السلام { وأنبئكم بما تأكلون } [ آل عمران : 49 ] أي أخبركما { قبل أن يأتيكما } أنه أي طعام هو وأيّ لون هو وكيف تكون عاقبته أهو ضار أم نافع وأن فيه سماً أم لا . فقد روي أن الملك كان إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً مسموماً فأرسله إليه . ثم قال : { ذلكما } أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات من قبيل الوحي والإلهام لا من التكهن والتنجيم الذي يكثر فيهما وقوع الخطأ . ثم بيّن سيرته وملته مشيراً فيه إلى أنه رسول من عند الله ومنبهاً على أن الاشتغال بمصالح الدين أهم من الاشتغال بمصالح الدنيا حتى إن الرجل الذي سيصلب لعله يسلم فلا يموت على الكفر فقال : { إني تركت } أي رفضت بل ما كنت قط ، ويجوز أن يكون قبل ذلك غير مظهر للتوحيد خوفاً منهم لأنه كان تحت أيديهم . وإنما كررت لفظة « هم » تنبيهاً على أنهم مختصون في ذلك الزمان بإنكار المعاد وتعريضاً بأن إيداعه السجن بعد معاينة الآيات الشاهدة على براءته لا يصدر إلا عمن ينكر الجزاء أشد الإنكار .

والمراد باتباع ملة آبائه الاتباع في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الشرائع ، ومعنى التنكير في قوله : { من شيء } الرد على كل طائفة خالفت الملة الحنيفية من عبدة الأصنام والكواكب وغيرهم { ذلك } التوحيد { من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } نعمة الإيمان أو نعمة إعطاء القدرة والاختيار على الإيمان فلا ينظرون في الدلائل ، وهذا يناسب أصول المعتزلة . وعن بعضهم إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] { يا صاحبي السجن } أراد يا صاحبي السجن كقوله « يا سارق الليلة » خصمهما بهذا النداء لأنهما دخلا السجن معه أو أراد يا ساكني السجن كقوله : { أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] فسبب التعييين أنهما استفتياه في بين الساكنين . ثم أنكر عليهم عبارة الأصنام فقال : { أأرباب متفرقون } في العدد وفي الحجمية وفيما يتبعها من اختلاف الأعراض والأبعاض { خير } إن فرض فيهم خير { أم الله الواحد القهار } لأن وحدة المعبود تستدعي توحيد المطلب وتفريد المقصد ، وكونه قهاراً غالباً غير مغلوب من وجه يوجب حصول كل ما يرجى منه من ثواب وصلاح إذا تعلقت إرادته بذلك فلا يصلح للمعبودية إلا هو ولا تصلح حقيقة الإلهية في غيره فلذلك قال : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } أي سميتم الآلهة بتلك الأسماء { أنتم وآباؤكم } والخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر فكأنهم لا يعبدون إلا أسماء فارغة عن المسميات { ما أنزل الله بها } بتسميتها { من سلطان } أي حجة . ثم لما نفى معبودية الغير بين أن لا حكم في أمر الدين والعبادة إلا له فقال : { إن الحكم إلا لله } ثم ذكر ما حكم به فقال : { أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم } الثابت بالبراهين { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنه مبدأ المبادىء والمعاد الحقيقي فيتخذون غيره معبوداً ويجعلون لغيره من الأصنام والأجرام بالاستقلال فعلاً وتأثيراً . ثم شرع في إجابة مقترحهما وهو تأويل رؤياهما فقال : { أما أحدكما } يعني الشرابي { فيسقي ربه } سيده { خمرا } يروى أنه قال له : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده ، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه . وقال للثاني : ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب فتأكل الطير من رأسك . قوله : { قضي الأمر } قال في الكشاف : إنما وحد الأمر وهما أمران مختلفان استفتيا فيهما ، لأن المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا لأجله فكأنهما استفتياه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك استدلالاً برؤياهما فقال : إن ذلك الذي ذكرت من أمر التأويل كائن لا محالة صدقتما أو كذبتما .

وقيل : جحدا رؤياهما . وقيل : عكسا رؤياهما ، فلما علم الخباز أن تأويل رؤياه شر أنكر كونه صاحب تلك الرؤيا فقال يوسف : إن الذي حكمت به لكل منكما واقع لا بد منه ومن هنا قالت الحكماء : ينبغي أن لا يتصرف في الرؤيا ولا تغير عن وجهها فإن الفأل على ما جرى .
{ وقال } يوسف { للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك } أي اذكر عند الملك أني مظلوم من جهة إخوتي أخرجوني وباعوني ، ثم إني مظلوم من جهة النسوة اللاتي حسبتني . والضمير في { ظن } إن كان للرجل الناجي فلا إشكال لأنهما ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف بل كانا حسني الاعتقاد فيه وكأن قوله لم يفد في حقهما إلا مجرد الظن ، وإن عاد إلى يوسف فيرد عليه أنه كان قاطعاً بنجاته فما المعنى للظن؟ وأجيب بأنه إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الأصول المقررة في ذلك العلم فكان كالمسائل الاجتهادية . والأصح أنه قضي بذلك على سبيل ألبت والقطع لقوله : { لا يأتيكما طعام } إلى قوله : { ذلكما مما علمني ربي } فالظن على هذا بمعنى اليقين كقوله : { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } [ البقرة : 46 ] أما الضمير في قوله : { فأنساه الشيطان } فمن الناس من قال : إنه يعود إلى الرجل الناجي أي أنساه الشيطان ذكر يوسف لسيده أو عند سيده فإضافة الذكر إلى الرب للملابسة لا لأجل أنه فاعل أو مفعول ، أو المضاف محذوف تقديره فأنساه ذكر إخبار ربه وإسناد الإنساء إلى الشيطان مجاز لأن الإنساء عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان قدرة له على ذلك وإلا لأزال معرفة الله من قلوب بني آدم ، وإنما فعله إلقاء الوسوسة وأخطار الهواجس التي هي من أسباب النسيان . ومنهم من قال : الضمير راجع إلى يوسف ، والمراد بالرب هو الله تعالى أي الشيطان أنسى يوسف أن يذكر الله تعالى ، وعلى القولين عوتب باللبث في السجن بضع سنين . والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة لأنه القطعة من العدد والبضع القطع ومثله العضب . والأكثرون على أن المراد في الآية سبع سنين . وعن ابن عباس : كان قد لبث خمس سنين وقد اقترب خروجه ، فلما تضرع إلى ذلك الرجل لبث بعد ذلك سبع سنين . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن » وعن مالك أنه لما قال له اذكرني عند ربك قيل له : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً ، لأطيلن حبسك . فبكى يوسف وقال : طول البلاء أنساني ذكر المولى فويل لإخوتي . قال المحققون : الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة . فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي وكان يطلب من يحرسه على جاء سعد بن أبي وقاص فنام .

وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام : { من أنصاري إلى الله } [ الصف : 14 ] ولا خلاف في جواز الاستعانة بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق إلا أن يوسف عليه السلام عوتب على قوله : { اذكرني عند ربك } لوجوه منها : أنه لم يقتد بالخليل جده حين وضع في المنجنيق فلقيه جبرائيل في الهواء وقال : هل من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا مع أنه زعم أنه اتبع ملة آبائه . ومنها أنه قال : { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } وهذا يقتضي نفي الشرك على الإطلاق وتفويض الأمر بالكلية إلى الله سبحانه . فقوله : { اذكرني عند ربك } كالمناقض لهذا الكلام . ومنها أنه قال : { عند ربك } ومعاذ الله أنه زعم أنه الرب بمعنى الإله إلا أن إطلاق هذا اللفظ على الله لا يليق بمثله وإن كان رب الدار ورب الغلام متسعملاً في كلامهم . ومنها أنه لم يقرن بكلامه إن شاء الله ، ولما دنا فرج يوسف أرى الله الملك في المنام سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فاضطرب الملك بسببه لأن فطرته قد شهدت بأن استيلاء الضعيف على القوي ينذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه لم يعرف تفصيله ، والشيء إذا علم من بعض الوجوه عظم الشوق إلى تكميل تلك المعرفة ولا سيما إذا كان صاحبه ذا قدرة وتمكين ، فبهذا الطريق أمر الملك بجمع الكهنة والمعبرين وقال : { يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي } ثم إنه تعالى إذا أراد أمراً هيأ أسبابه فأعجز الله أولئك الملأ عن جواب المسألة وعماه عليهم حتى { قالوا } إنها { أضغاث أحلام } ونفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بتأويلها . واعلم أن الله سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ إلا أن المانع لها عن ذلك في اليقظة هو اشتغالها بتدبير البدن وبما يرد عليها من طريق الحواس ، وفي وقت النوم تقل تلك الشواغل فتقوى النفس على تلك المطالعة ، فإذا وقفت الروح على حالة من تلك الأحوال فإن بقيت في الخيال كما شوهدت لم يحتج إلى التأويل ، وإن نزلت آثار مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إل عالم الخيال فهناك يفتقر إلى المعبر . ثم منها ما هي منتسقة منتظمة يسهل على المعبر الانتقال من تلك المتخيلات إلى الحقائق الروحانيات ، ومنها ما تكون مختلطة مضطربة لا يضبط تحليلها وتركيبها لتشويش وقع في ترتيبها وتأليفها فهي المسماة بالأضغاث . وبالحقيقة ، الأضغاث ما يكون مبدؤها تشويش القوة المتخيلة لفساد وقع في القوى البدنية ، أو لورود أمر غريب عليه من خارج ، لكن القسم المذكور قد يعد من الأضغاث من حيث إنها أعيت المعبرين عن تأويلها .

ولنشتغل بتفسير الألفاظ ، أما الملك فريان بن الوليد ملك مصر ، وقوله : { إني أرى } حكاية حال ماضية . وسمان جمع سمينة وسمين وسمينة يجمع على سمان كما يقال : رجال كرام ونسوة كرام قال النحويون : إذا وصف المميز فالأولى أن يوقع الوصف وصفاً للمميز كما في الآية دون العدد ، لأنه ليس بمقصود بالذات فلهذا قيل سمان بالجر ليكون وصفاً لبقرات ، ويحصل التمييز لسبع بنوع من البقرات وهي السماء منهن ، ولو نصب جعل تمييز السبع بجنس البقرات أولاً ثم يعلم من الوصف أن المميز بالجنس موصوف بالسمن . والعجف هو الهزال الذل الذي ليس بعده هزال ، والنعت أعجف وعجفاء وهما لا يجمعان على فعال ولكنه حمل على سمان لأنه نقيضه . وقوله سبع عجاف تقديره بقرات سبع عجاف فحذف للعلم به كما في قوله : { وأخر يابسات } التقدير وسبعاً أخر لانصباب المعنى إلى هذا العدد . وإنما لم يقال سبع عجاف على الإضافة لأن البيان لا يقع بالوصف وحده . وقولهم « ثلاثة فرسان » و « خمسة أصحاب » لأنه وصف جرى مجرى الاسم ، ولا يجوز أن يكون قوله { وأخر } مجروراً عطفاً على { سنبلات } لأن لفظ الأخر يأباه ويبطل مقابلة السبع بالسبع ، وأراد بالملأ الأعيان من العلماء والحكماء ، واللام في { للرؤيا } للبيان كما قلنا في { وكانوا فيه من الزاهدين } [ يوسف : 20 ] أو لأن عمل العامل فيما تقدم عليه يضعف فيعضد باللام كما يعضد اسم الفاعل بها وإن تأخر معموله ، أو لأن قوله : { للرؤيا } خبر « كان » كقوله هو لهذا الأمر أي متمكن من مستقل به و { تعبرون } خبر آخر أو حال أو لتضمن { تعبرون } معنى تنتدبون لعبارة الرؤيا والفصيح عبرت الرؤيا بالتخفيف ، وقد يشدد واشتقاقه من العبر بالكسر فالسكون وهو جانب النهر فيقال : عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه ، وعبرت الرؤيا إذا تأملت ناحيتها فانتقلت من أحد الطرفين إلى الآخر . والأضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش مما طال ولم يقم على ساق ، والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام والصيغة للجمع ولكن الواحد قد يوصف به كما قال : رمح أقصاد وبرمة أعشار . فالمراد هي حلم أضغاث أحلام . وقد يطلق الجمع ويراد به الواحد كقولهم « فلان يركب الخيل ويلبس العمائم » وإن لم يركب إلا فرساً واحداً ولم يلبس إلا عمامة واحدة . ويجوز أن يكون قد قص عليهم أحلاماً أخر . واللام في { الأحلام } اما للعهد كأنهم أرادوا المنامات الباطلة ، أو للجنس وأرادوا أنهم غير متبحرين في علم تأويل الرؤيا . ولما أعضل على الملأ تأويل رؤيا الملك تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه المصلوب ، وتذكر قوله : { اذكرني عند ربك } وذلك قوله سبحانه : { واذكر } وأصله « اذتكر » قلبت التاء والذال كلاهما دالاً مهملة وأدغمت .

{ بعد أمة } أي بعد حين كأنها حصلت من اجتماع أيام كثيرة . وقرىء بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة . وقرىء { بعد أمه } بوزن عمه . ومعنى { أنا أنبئكم بتأويله } أخبركم به عمن عنده علمه { فأرسلون } إليه لأسلأله والخطاب للملك والجمع للتعظيم أو له وللملأ حوله . والمعنى مروني باستعباره . وعن ابن عباس : لم يكن السجن في المدينة . وههنا إضمار والمراد فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال { يوسف } أي يا يوسف { أيها الصديق } البليغ الكامل في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه تعرف أحواله من قبل . وفيه أنه يجب على المتعلم تقديم ما يفيد المدح لمعلمه . وإنما أعاد عبارة الملك بعينها لأن التعبير يختلف باختلاف العبارات . وقوله : { لعلي أرجع } فيه نوع من حسن الأدب لأنه لم يقطع بأنه يعيش إلى أن يعود إليهم ، وعلى تقدير أن يعيش فربما عرض له ما يمنعه عن الوصول إليهم من الموانع التي لا تحصى كثرة . وكذا في قوله : { لعلهم يعلمون } فضلك ومكانك من العلم فيخلصوك أو يعلمون فتواك فيكون فيه نوع شك لأنه رأى عجز سائر المعبرين وقيل : كرر لعل مراعاة لفواصل الآي وإلا كان مقتضى النسق لعلي أرجع إلى الناس فيعلموا ، و مثله في هذه السورة { لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون } [ يوسف : 62 ] .
{ قال } يوسف في جواب الفتوى { تزرعون سبع سنين } وهو خبر في معنى الأمر يفيد المبالغة في إيجاب أيجاد المأمور به . قال في الكشاف : والدليل على كونه في معنى الأمر قوله : { فذروه في سنبله } وأقول : يمكن أن يكون قوله : { تزرعون } إخباراً عما سيوجد منهم في زمن الغيث والمطر ، لأن الزرع يلزم بنزول الأمطار عادة ، وقوله : { فما حصدتم } إرشاد لهم إلى الأصلح لهم في ذلك الوقت . و { دأباً } بتسكين الهمزة وتحريكها مصدر دأب في العمل إذا استمر عليه . وانتصابه على الحال أي تزرعون ذوي دأب ، أو على المصدر والعامل فعله أي تدأبون دأباً . وإنما أمرهم بأن يتركوه في السنابل إلا القدر الذي يأكلونه في الحال لئلا يقع فيه السوس { ثم يأتي من بعد ذلك } فيه دليل على أن { تزرعون } إخبار لا أمر { سبع } سنين { شداد } على الناس { يأكلن ما قدمتم لهن } من الإسناد المجازي لأن الآكلين أهل تلك السنين لا السنون { إلا قليلاً مما تحصنون } تحرزون وتخبؤن . والإحصان جعل الشيء في الحصن كالإحراز جعل الشيء في الحرز أخبر أنه يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس من الغوث ، أو من الغيث يقال : غيثت البلاد إذا مطرت { وفيه يعصرون } العنب والزيتون والسمسم . وقيل : يحلبون الضروع ، تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بالسنين . ثم بشرهم بالبركة في العام الثامن .

فقال المفسرون : إنه قد عرف ذلك بالوحي . عن قتادة : زاده الله علم سنة . وقيل : عرف استدلالاً فليس بعد انتهاء الجدب ، إلا الخصب . والجواب أنه لا يلزم من انتهاء الجدب الخصب والخير الكثير فقد يكون توسط الحال . وأيضاً في قوله : { وفيه يعصرون } نوع تفصيل لا يعرف إلا بالوحي . ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير استحسنه وقال : { ائتوني به } فجعل الله سبحانه علمه مبدأ لخلاصه من المحنة الدنيوية فيعلم منه أن العلم سبب للخلاص في المحن الأخروية أيضاً . { فلما جاءه الرسول } وهو الشرابي فقال : أجب الملك { قال } يوسف { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ما شأنهن وما حالهن { إن ربي } أي الله العالم بخفيات الأمور أو العزيز الذي رباه { بكيدهن عليم } وعلى الأول أراد إنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله لعبد غوره ، أو استشهد بعلم الله على أنهن كذبة ، أو أراد الوعيد أي هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه . وكيدهن ترغيبهن إياه في مواقعة سيدته أو تقبيح صورته عند العزيز حتى يرضى بسجنه . ومن لطائف الآية أنه أراد فسأل الملك أن يسأل ما بالهن إلا أنه راعى الأدب فاقتصر على سؤال الملك عن كيفية الواقعة فإن ذلك مما يهيجه على البحث والتفتيش . ومنها أنه لم يذكر سيدته بسوء بل ذكر النسوة على التعميم ومع ذلك راعى جانبهن أيضاً فوصفهن بتقطيع الأيدي فقط لا بالترغيب في الخيانة . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني . ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر إن كان لحليماً ذا أناة » قال العلماء : الذي عمله يوسف هو اللائق بالحزم والعقل ، لأنه لو خرج في الحال فربما بقي في قلب الملك من تلك التهمة أثر ، ولعل الحساد يتسلقون بذلك إلى تقبيح أمره عنده ، وفي هذا التأني والتثبت تلاف لما صدر منه في قوله للشرابي : { اذكرني عند ربك } . { قال } الملك بعد إحضار النسوة { ما خطبكن } ما شأنكن العظيم { إذ راودتن يوسف } هل وجدتن منه ميلاً إليكن أو إلى زليخا؟ قيل : الخطاب لزليخا والجمع للتعظيم . وقيل : خاطبهن جميعاً لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لنفسها أو لأجل امرأة العزيز . { قلن حاش لله } تعجباً من عفته ونزاهته { قالت امرأت العزيز } حين عرفت أن لا بد من الاعتراف { الآن حصحص الحق } وضح وانكشف وتمكن في القلوب من قولهم حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة والاستقرار على الأرض . وقال الزجاج : اشتقاقه من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل .

أما قوله سبحانه : { ذلك ليعلم } إلى تمام الآيتين ففيه قولان : الأول - وعليه الأكثرون - أنه حكاية قول يوسف . قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به . والإشارة إلى الحداثة الحاضرة بقوله : { ذلك } لأجل التعظيم والمراد ما ذكر من رد الرسول والتثبت وإظهار البراءة . وعن ابن عباس : أنه لما دخل على الملك قال ذلك ، والأظهر أنه قال ذلك في السجن عند عود الرسول إليه . ومحل { بالغيب } نصب على الحال من الفاعل أي وأنا غائب عنه ، أو من المفعول أي وهو غائب عني ، أو على الظرف أي بمكان الغيب وهو الاستتار وراء الأبواب المغلقة . وقيل : هذه الخيانة قد وقعت في حق العزيز فكيف قال ذلك ليعلم الملك؟ وأجيب بأنه إذا خان وزيره فقد خان الملك من بعض الوجوه ، أو أراد ليعلم الله لأن المعصية خيانة ، أو المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز ، أو ليعلم العزيز أني لم أخنه وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده ، وفي تعريض بامرأته الخائنة وبالعزيز حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه فكأنه خان حكم لله ، وفيه تأكيد لأمانته وأنه لو كان خائناً لم يهد الله كيده . ولا يخفى أن هذه الكلمات من يوسف مع الشهادة الجازمة والاعتراف الصريح من المرأة دليل على نزاهة يوسف عليه السلام من كل سوء . قال أهل التحقيق : إنه لما راعى حرمة سيدته في قوله : { ما بال النسوة اللاتي } دون أن يقول « ما بال زليخا » أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء واعترفت بأن الذنب كله منها ، فنظيره ما يحكى أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من أداء الشهادة . فقال الزوج : لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها . فقالت المرأة : لما أكرمني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمته من كل حق لي عليه . ولما كان قول يوسف عليه السلام ذلك ليعلم جارياً مجرى تزكية النفس على الإطلاق أو في هذه الواقعة وقد قال تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } [ النجم : 32 ] أتبع ذلك قوله : { وما أبرىء نفسي إن النفس } أي هذا الجنس { لأمارة بالسوء } ميالة إلى القبائح راغبة في المعاصي . وفيه أن ترك تلك الخيانة ما كان حظ النفس وشربها ولكن كان بتوفيق الله تعالى وتسهيله وصرفه { إلا ما رحم ربي } إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة ، أو المراد أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان إلا وقت رحمة ربي ، أو الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة : القول الثاني أنه حكاية قول المرأة لأن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس والمعنى ، وإن كنت أحلت عليه الذنب عند حضوره ولكني ما أحلته عليه في غيبته حين كان في السجن { وأن الله لا يهدي } فيه تعريض فأنها لما أقدمت على المكر فلا جرم افتضحت ، وأنه لما كان بريئاً من الذنب لا جرم طهره الله منه { وما أبرىء نفسي } من الخيانة مطلقاً فإني قد خنته حين قلت { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } أو حين أودعته السجن .

ثم إنها اعتذرت عما كان منها فقالت : { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } كنفس يوسف { إن ربي غفور رحيم } أو استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت . قال المحققون . النفس الإنسانية شيء واحد فإذا مالت إلى العالم العلوي كانت مطمئنة ، وإذا مالت إلى العالم السفلي وإلى الشهوة والغضب سميت أمارة وهذا في أغلب أحوالها لإلفها إلى العالم الحسي وقرارها فيه فلا جرم إذا خليت وطباعها انجذبت إلى هذه الحالة فلهذا قيل : إنها من حيث هي أمارة بالسوء . وإذا كانت منجذبة مرة إلى العالم العلوي ومرة إلى العالم السفلي سميت لوامة . ومنهم من زعم أن النفس المطمئنة هي الناطقة العلوية ، والنفس الأمارة منطبعة في البدن تحمله على الشهوة والغضب وسائر الأخلاق الرذيلة . وتمسكت الأشاعرة بقوله : { إلا ما رحم } ظاهراً لأنه دل على أن صرف النفس عن السوء بخلق الله وتكوينه . وحملته المعتزلة على منح الألطاف والله أعلم بالحقائق .
التأويل : لما أدخل يوسف القلب سجن الشريعة دخل معه غلامان لملك الروح هما النفس والبدن ، فإن الروح العلوي لا يعمل عملاً في السفل الدنيوي إلا من مشرب النفس فهي صاحب شرابه . والبدن يهيء من الأعمال الصالحة ما يصلح لغذاء الروح ، فإن الروح لا يبقى إلا بغذاء روحاني كما أن الجسم لا يبقى إلا بغذاء جسماني . وإنما حبسا في سجن الشريعة لأنهما متهمان بجعل سم الهوى والمعصية في شراب ملك الروح وطعامه ، وفي رؤياهما دلالة على أنهما من الدنيا ، وأهل الدنيا نيام فإذا ماتوا انتبهوا { إنا نراك من المحسنين } الذين يعبدون الله عياناً وشهوداً { إني تركت ملة قوم } فيه إشارة إلى أن القلب مهما ترك ملة النفس والهوى والطبيعة علمه الله علم الحقيقة { أما أحدكما فيسقي ربه } أي سيده بأقداح المعاملات والمجاهدات شراب الكشوف والمشاهدات وهي باقية في خدمة ملك الروح أبداً { وأما الآخر } وهو البدن { فيصلب } بنخيل الموت { فيأكل } طير أعوان ملك الموت من رأسه الخيالات الفاسدة { قضي } في الأزل هذا { الأمر } { اذكرني عند ربك } يعني أن القلب المسجون في بدء أمره يلهم النفس بأن تذكره المعاملات المستحسنة الشرعية عند الروح ليتقوى بها الروح وينتبه عن نوم الغفلة الناشئة من الحواس الخمس ويسعى في استخلاص القلب عن أثر الصفات البشرية بالمعاملات الروحانية مستمداً من الألطاف الربانية .

ثم إن الشيطان بوساوسه محا عن النفس أثر إلهامات القلب ، أو الشيطان أنسى القلب ذكر الله حين استغاث النفس لتذكره عند الروح ، ولو استغاث بالله لخلصه في الحال { فلبث في السجن بضع سنين } إشارة إلى الصفات البشرية السبع التي بها القلب محبوس وهي : الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر { إني أرى سبع بقرات سمان } هن الصفات المذكورة { يأكلهن سبع عجاف } هن أضدادها وهي : القناعة والسخاوة والعفة والغبطة والشفقة والحلم والتواضع { يا أيها الملأ } يعني الأعضاء والجوارح والحواس والقوى { أفتوني } فيما رأيت في غيب الملكوت { وما نحن بتأويل الأحلام } أي ليس التصرف في الملكوت وشواهدها من شأننا { فأرسلون } فيه أن النفس إذا أرادت أن تعلم شيئاً مما يجري في الملكوت ترجع بقوة التفكر إلى القلب فتستخبر عنه ، فالقلب ترجمان بين الروحانيات ولانفس فيما يفهم من لسان الغيب { أيها الصديق } لأنه مصدق فيما يرى من شواهد الحق ، ويصدق فيما يروي للخلق { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] « حدثني قلبي عن ربي » قال في الكشاف : أرجع إلى الناس أي إلى الأجزاء الإنسانية { تزرعون سبع سنين } إشارة إلى تربية الصفات البشرية السبع بالعادة والطبيعة في أوان الطفولية { فذروه في سنبله } أي ما حصلتم من هذه الصفات فذروه في أماكنه ولا تستعملوه { إلا قليلاً } مما تعيشون به إلى أوان البلوغ وظهور نور العقل في مصباح السر في زجاجة القلب كأنه كوكب دري . ثم إذا أيد نور العقل بأنوار تكاليف الشرع وشرف بإلهام الحق في إظهار فجور النفس وتقواها فيزكيها عن هذه الصفات ويجليها بالصفات الروحانية السبع ، فكأن السبع العجاف أكلن السبع السمان . وإنما سمى ما هو من عالم الأرواح عجافاً للطافتها ، وما هو من عالم الأجسام سماناً لكثافتها كثيراً إلا قليلاً مما يحسن به الإنسان حياة قالبه { ثم يأتي من بعد ذلك عام } أي بعد غلبات الصفات الروحانية واضمحلال الصفات البشرية يظهر مقام فيه يتدارك السالك جذبات العناية ، وفي يبرأ العبد من معاملاته وينجو من حبس وجوده وحجب أنانيته . ولما أخبر القلب بنور الله رآه الروح في عالم الملكوت وتأوله استحق قرب الروح وصحبته فاستدعى حضوره على لسان رسول النفس فرده إليه وقال سله { ما بال النسوة } لأن الأوصاف الإنسانية لما رأين جمال القلب المنور بنور الله { قطعن أيديهن } من ملاذ الدنيا وشهواتها وآثرن السعادة الأخروية على الشهوات الفانية { ليعلم أني لم أخنه بالغيب } أي القلب المنظور بنظر العناية لما غاب عن حضرة الروح لاشتغاله بتربية النفس والقالب ما خانه بالالتفات إلى الدنيا ونعيمها { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } الذين يبيعون الدين بالدنيا . ثم قال إظهاراً للعجز عن نفسه وللفضل من ربه { وما أبرىء نفسي إن النفس } جبلت على الأمارية ، ولكن إذا رحمها ربها يقلبها ويغيرها فإذا تنفس صبح الهداية صارت لوامة نادمة على فعلها ، والندم توبة وإذا طلعت شمس العناية وصارت ملهمة { فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 8 ] وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية أشرقت الأرض بنور ربها وصارت النفس مطمئنة مستعدة لجذبة { ارجعي إلى ربك راضية مرضية } [ الفجر : 28 ] { إن ربي غفور } لنفس تابت ورجعت إليه { رحيم } لمن أحسن طاعته وعبادته والله حسبنا ونعم الوكيل .

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)

القراآت { حيث نشاء } بالنون : ابن كثير . الآخرون بياء الغيبة { أني أوف } بفتح ياء المتكلم : نافع غير إسماعيل : { لفتيانه } { خير حافظاً } حمزة وعلي وخلف غير أبي بكر وحماد . الباقون { لفتيته } { خير حافظاً } { يكتل } بيان الغيبة : حمزة علي وخلف . الباقون بالنون . { تؤتوني } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو يزيد وإسماعيل في الوصل .
الوقوف : { لنفسي } ج { أمين } 5 { الأرض } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { عليم } 5 { في الأرض } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال { حيث نشاء } ط { المحسنين } 5 { يتقون } 5 { منكرون } 5 { من أبيكم } ج لحق الاستفهام مع اتحاد القائل { المنزلين } 5 { ولا تقربون } 5 { لفاعلون } 5 { يرجعون } 5 { لحافظون } 5 { من قبل } ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار { حافظاً } ص { الراحمين } 5 { إليهم } ط لتمام جواب « لما » { ما نبغي } ط لأن ما بعده جملة مستأنفة موضحة للاستفهامية أو المنفية قبلها { إلينا } ج لاحتمال الاستئناف والعطف على ونحن نمير { كيل بعير } 5 ط { يسير } 5 { بكم } ط { قال الله } قيل : يسكت بين الفعل والاسم لأن القائل يعقوب لا الله سبحانه ، والأحسن أن يفرق بينهما بقوة النغمة فقط لئلا يلزم الفصل بين القائل والمقول { وكيل } 5 { متفرقة } ط { من شيء } ط { الله } ط { توكلت } ط { المتوكلون } 5 { أبوهم } ط لأن جواب « لما » محذوف أي سلموا بإذن الله { قضاها } ط { لا يعلمون } 5 .
التفسير : الأظهر أن هذا الملك هو الريان لا العزيز لأن قوله { أستخلصه لنفسي } يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً له وقد كان يوسف قبل ذلك خالصاً للعزيز . وفي قول يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض } دلالة أيضاً على ما قلنا . والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك ، ومن عادة الملوك أن يتفردوا بالأشياء النفسية . روي أن جبريل دخل على يوسف في السجن وقال : قل اللَّهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث لا أحتسب . فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه فجاءه الرسول وقال : أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله وكتب على باب السجن : « هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء » ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثياباً جدداً ، فما دخل على الملك قال : اللَّهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه . { فلما كلمه } احتمل أن يكون ضمير الفاعل ليوسف وللملك . وهذا أولى لأن مجالس الملوك لا يحسن ابتداء الكلام فيها لغيرهم . يروى أن الملك قال له : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك . قال : رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن .

ومكان خروجهن ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك بعينها ، فتعجب من وفور علمه وحدسه - وكان قد علم من حاله ما علم من نزاهة ساحته وعدم مسارعته في الخروج من السجن - وقد وصف له الشرابي من جده في الطاعة والإحسان إلى سكان السجن ما وصف فعظم اعتقاده فيه فعند ذلك { قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } ويندرج في المكان كمال القدرة والعلم . أما القدرة فظاهرة ، وأما العلم فلأن كونه متمكناً من أفعال الخير يتوقف على العلم بأفعال الخير وبأضدادها ، وكونه أميناً متفرع عن كونه حكيماً لأن لا يفعل لداعي الشهوة وإنما يفعله لداعي الحكمة . قال المفسرون : لما حكى يوسف رؤيا الملك وعبرها بين يديه قال له الملك : فما ترى أيها الصديق؟ قال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن والأهراء وتجمع الطعام فيها فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد من قبلك ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشغل؟ فقال يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض } اللام للعهد أي ولني خزائن أرض مصر . والخزائن جمع الخزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ { إني حفيظ } للأمانات وأموال الخزائن { عليم } بوجوه التصرف فيها على وجه الغبطة والمصلحة . وقيل : حفيظ لوجوه أياديكم عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والشفقة . قال الواحدي : هذا الطلب خطيئة منه فكانت عقوبته أن أخر عنه المقصود سنة . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكن لما قال ذلك أخره الله تعالى عنه سنة » وقال آخرون : إن التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه لأن النبي يجب عليه رعاية الأصلح لأمته بقدر الإمكان ، وقد علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضنك فأراد السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم ، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى دفع الظلم والضر عن الناس إلا بالاستعانة من كافر أو فاسق فله أن يستظهر به ، على أن مجاهداً قد زعم أن الملك كان قد أسلم . وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه فكان في حكم التابع لا المتبوع . ووصف نفسه عليه السلام بالحفظ والعلم على سبيل المبالغة لم يكن لأجل التمدح ولكن للتوصل إلى الغرض المذكور . { وكذلك } أي مثل ذلك التقريب والإنجاء من السجن { مكنا ليوسف في الأرض } أرض مصر وهي أربعون فرسخاً في أربعين . { يتبؤّأ منها حيث يشاء } هو أو نشاء نحن على القراءتين والمراد بيان استقلاله بالتقلب والتصرف فيها بحيث لا ينازعه أحد . { نصيب برحمتنا من نشاء } فيه أن الكل من الله وبتيسيره .

وقالت المعتزلة : تلك المملكة لما لم تتم إلا بأمور فعلها الله صارت كأنها من قبل الله تعالى ، وعلقوا أيضاً المشيئة بالحكمة ورعاية الأصلح . والأشاعرة ناقشوا في هذا القيد . { ولا نضيع أجر المحسنين } لأن إضاعة الأجر تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حقه تعالى . { ولأجر الآخرة خير } من أجر الدنيا أو خير في نفسه . وفي قوله المحسنين وقوله : { للذين آمنوا وكانوا يتقون } إشارة إلى أن يوسف كان في الزمان السابق من المحسنين ومن المتقين ففيه دلالة على نزاهة يوسف عن كل سوء . قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق . يروى . أن الملك توجه وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال له : أما السرير فأشدّ به ملكك ، وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي . فقال : قد وضعته إجلالاً لك وإقراراً بفضلك . فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعد فزوّجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين : افراثيم وميشا . وأقام العدل بمصر وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً فقالوا : والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني مما ترى؟ قال : الرأي رأيك . قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم . وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس . وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا فذلك قوله سبحانه : { وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } لم يعرفوه لأن طول العهد ينسي ولاعتقادهم أنه قد هلك أو لذهابه عن أوهامهم حين فارقوه مبيعاً بدراهم معدودة ثم رأوه ملكاً مهيباً جالساً على السرير في زي الفراعنة ، ويحتمل أن يكون بينه وبينهم مسافة وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج . وإنما عرفهم لأن أثر تغيير الهيئات عليهم كان أقل لأنه فارقهم وهم رجال ولم يغيروا زيهم عما هو عادتهم ، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم ، ويحتمل أن يكون عرفهم بالوحي . وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا له . { ولما جهزهم بجهازهم } هو ما يحتاج إليه في كل باب ومنه جهاز العروس والميت . قال الليث : جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازاً للسفر .

قال : وسمعت أهل البصرة يحكون الجهاز بالكسر . وقال الأزهري : القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة جيدة { قال ائتنوني بأخ لكم من أبيكم } قال العلماء : لا بد من كلام يجر هذا الكلام فروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : ما أنتم؟ وما شأنكم فإني أنكركم . قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد وجئنا نمتار . فقال : لعلكم جئتم عيوناً؟ قالوا : معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب . قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحد . فقال : فكم أنتم ههنا؟ قالوا : عشرة قال : فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك . قال : فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون؟ قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا أحد . قال : فدعوا بعضكم عندي رهيناً وأتوني بأخيكم من أبيكم يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم . فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف فخلفوه عنده . وقيل : كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا : إن لنا شيخاً كبيراً وأخاً آخر فبقي معه ولا بد لهما من حملين آخرين . فاستدل الملك ببقائه عند أبيه على زيادة محبته إياه وكونه فائقاً في الجمال والأدب فاستدعى منهم إحضاره . وقيل : لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف : فلم تركتموه وحيداً فريداً؟ فقالوا : بل بقي عنده واحد . فقال لهم : لم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ قالوا : لا بل لزيادة محبته . فقال : إن أباكم رجل عالم حكيم . ثم إنه خصه بمزيد المحبة مع أنكم فضلاء أدباء فلا بد أن يكون هو زائداً عليكم في الكمال والجمال فائتوني به لأشاهده . والأوّل قول المفسرين ، والآخران محتملان . ولما طلب منهم إحضار الأخ جمع لهم بين الترغيب والترهيب فالأوّل قوله : { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } المضيفين وكان قد أحسن ضيافتهم أو زاد لكل من الأب والأخ الغائب حملاً ، والثاني { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } مجزوم على النهي أو لأنه داخل في حكم الجزاء كأنه قيل : فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا { قالوا سنراود عنه أباه } سنخادعه عنه ونجتهد حتى ننتزعه من يده { وإنا لفاعلون } كل ما في وسعنا في هذا الباب أو لقادرون على ذلك . { وقال لفتيانه } أو { لفتيته } قراءتان وهما جمع فتى كالأخوان والإخوة في أخ ففعلة للقلة ووجهه أن هذا العمل من الأسرار فوجب كتمانه عن العدد الكثير ، وفعلان للكثرة ووجهه أنه قال : { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } والرحال عدد كثير ويناسبه الجم الغفير من الغلمان الكيالين ، والبضاعة ما قطع من المال للتجارة ، والرحال جمع رحل والمراد به ههنا ما يستصبحه الرجل معه من الأثاث .

والأكثرون على أنه أمر بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجه لا يعرفون بدليل قوله : { لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم } وفرغوا ظروفهم { لعلهم يرجعون } لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا وكانت بضاعتهم النعل والأدم . وقيل : أمر بوصفها على وجه عرفوها ، والمعنى لعلهم يعرفون حق ردّها . أما السبب الذي لأجله أمر يوسف بذلك فقيل : ليعلموا كرم يوسف فيبعثهم ذلك على المعاودة . وقيل : خاف أن لا يكون عند أبيه من البضاعة ما يدعوهم إلى الرجوع ، أو أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان قحط ، أو لأن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم ، أو أراد أن يرجعوا ليعرفوا سبب الرد لأنهم أولاد الأنبياء فيحترزوا أن يكون ذلك على سبيل السهو ، أو أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم عيب ولا منة فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه . وقيل : { يرجعون } متعدٍ أي لعلهم يردونها . { قالوا : يا أبانا منع منا الكيل } أرادوا قول يوسف { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم } لأن إنذار المنع بمنزلة المنع يؤيده قراءة من قرأ { نكتل } بالنون أي نرفع المانع ونأخذ من الطعام ما نحتاج إليه ، ويحتمل أن يراد بالمنع أنهم إذا طلبوا الطعام لأبيهم والأخ المخلف فلعله منع من ذلك ، ويقوّي هذا الاحتمال قراءة الغيبة أي { يكتل } أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا . { قال هل آمنكم عليه } ضمنوا كونهم حافظين له فقال يعقوب : إنك ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف فهل يكون أماني الآن إلا كأماني فيما قبل يعني كما لم يحصل الأمان وقتئذ فكذا الآن . والظاهر أن ههنا إضماراً والتقدير فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وقال : { فالله خير حافظاً } و { حافظاً } نصب على التمييز واحتمل الثاني الحال نحو « لله درّه فارساً » وهو أرحم الراحمين } أرجوا أن لا يجمع عليّ مصيبتين . وقيل : إنه تذكر يوسف فقال : فالله خير حافظاً أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي { ولما فتحوا متاعهم } هو عام في كل ما يستمتع به ويجوز أن يراد به ههنا الطعام أو الأوعية . أما قوله { ما نبغي } فالبغي بمعنى الطلب و « ما » نافية أو استفهامية . المعنى ما نطلب شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان أو ما نريد منك بضاعة أخرى أو أيّ شيء نطلب وراء هذا نستظهر بالبضاعة المردودة إلينا . { ونمير أهلنا } في رجوعنا إلى الملك { ونحفظ أخانا } فما يصيبه شيء مما يخافه { ونزداد } باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أوساق أباعرنا فأيّ شيء نبغي وراء هذه المباغي؟! . ويجوز أن يكون البغي بمعنى الكذب والتزيد في القول على أن « ما » نافية أي ما نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه ، وكانوا قالوا له : إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا تلك الكرامة .

قال في الكشاف : فعلى هذا التفسير لا يكون قوله : { ونمير } معطوفاً على معنى قوله : { هذه بضاعتنا } وإنما يكون قوله : { هذه بضاعتنا } بياناً لصدقهم ، وقوله : { ونمير } معطوفاً على { ما نبغي } أو يكون كلاماً مبتدأ أي ونبغي أن نمير كما تقول : سعيت في حاجة فلان ويجب أو ينبغي أن أسعى ويجوز أن يراد ما نبغي ما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا . ثم بينوا كونهم مصيبين في رأيهم بقولهم : { هذه بضاعتنا } نستظهر بها ونميرأهلنا إلى آخره . يقال : ماره يميره إذا أتاه بميرة أي بطعام { ذلك كيل يسير } أي ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه ما يكال لأجل أخينا . وقال مقاتل . ذلك إشارة إلى كيل بعير أي ذلك القدر سهل على الملك لا يضايقنا فيه ولا يطول مقامنا بسببه . واختاره الزجاج . وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام يعقوب يعني أن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد . { قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً } تعطوني ما أثق به من عند الله وهو الحلف { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } استثناء من أعم العام في المفعول وقد يقع مثل هذا الاستثناء في الإثبات إذا استقام المعنى نحو « قرأت إلا يوم كذا » وإن شئت فأوّله بالنفي أي لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا بعلة واحدة هي أن يحاط بكم أي تهلكوا جميعاً قاله مجاهد ، أو تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به قاله قتادة : { على ما نقول } من طلب الموثق وإعطائه { وكيل } مطلع رقيب . قال جمهور المفسرين : إنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد خوفاً عليهم من إصابة العين . وههنا مقامان : الأوّل أن الإصابة بالعين حق لإطباق كثير من الأمة ولما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : « أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة . » أي جامعة لشر من لمه إذا جمعه أو المراد ملمة والتغيير للمزاوجة . وعن عبادة بن الصامت قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار فرأيته شديد الوجع ، ثم عدت إليه آخر النهار فرءَته معافى . فقال : إن جبرائيل عليه السلام أتاني فرقاني وقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك . قال : فأفقت . « وروي أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا : يا رسول الله أصابته العين . قال : أفلا تسترقون له من العين؟ وعنه صلى الله عليه وسلم : » العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر «

وقالت عائشة : كان يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين . المقام الثاني في الكشف عن حقيقته . قال الجاحظ : يمتد من العين أجزاء فتتصل بالشخص المستحسن فتوثر وتسري فيه كتأثير اللسع والسم . واعترض الجبائي وغيره بأنه لو كان كذلك لأثر في غير المستحسن كتأثيره في المستحسن . وأجيب بأن المستحسن إن كان صديقاً للعائن عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله ، وإن كان عدواً حصل له خوف شديد من حصوله ، وعلى التقديرين يسخن الروح وينحصر في داخل القلب ويحصل في الروح الباصرة كيفية مسخنة مؤثرة ، فلهذا السبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم العائن بالوضوء من أصابته العين بالاغتسال منه . وقال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي : لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن غير الله ذلك الشخص حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقاً به . وقال الحكماء : ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً أو وهمياً كما للماشي على الجذع ، أو تصوّرياً كما في الحركات البدنية ، وقد يكون للنفوس خواص عجيبة تتصرف غير أبدانها بحسبها فمنها المعجز ومنها السحر ومنها الإصابة بالعين . أما الجبائي وغيره ممن أنكر العين فقد قالوا : إن أولاد يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بكمالهم وجمالهم وهيئتهم فلم يأمن يعقوب أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم . وقيل : إنه كان عالماً بأن الملك ولده إلا أن الله تعالى لم يأمره بإظهاره وكان غرضه أن يصل بنيامين إليه في غيبتهم قاله إبراهيم النخعي . واعلم أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة ولكنه بعد السعي البليغ يجب أن يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فهو بقضاء الله وقدره وأن الحذر لا يغني عن القدر فلهذا قال يعقوب : { وما أغني عنكم من الله من شيء } فقوله الأوّل مبني على رعاية الأسباب والوسائط ، وقوله الثاني إلى آخر الآية إشارة إلى الحقيقة وتفويض الأمر بالكلية إلى مسبب الأسباب . وقد صدقه الله تعالى في ذلك بقوله : { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } قال ابن عباس : ما كان ذلك التفرق يردّ قضاء الله تعالى . وقال الزجاج وابن الأنباري : لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم . وقال آخرون : ما كان يغني عنهم رأي يعقوب شيئاً قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وأخذ الأخ وتضاعف المصيبة على الأب { إلا حاجة } استثناء منقطع أي ولكن حاجة { في نفس يعقوب قضاها } وهي إظهار الشفقة والنصيحة ، أو الخوف من إصابة العين ، أو من حسد أهل مصر ، أو من قصد الملك .

ثم مدحه الله تعالى بقوله : { وإنه لذو علم } يعنى علمه بأن الحذر لا يدفع القدر { لما علمناه } « ما » مصدرية أو موصولة أي لتعليمنا إياه ، أو للذي علمناه . وقيل : العلم الحفظ والمراقبة . وقيل : المضاف محذوف أي لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وإشارة إلى كونه عاملاً بعلمه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } مثل علم يعقوب أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة في العلم . وقيل : المراد بأكثر الناس المشركون لا يعلمون أنالله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة . التأويل : لما تبين لملك الروح قدر يوسف القلب وأمانته وصدقه وحسن استعداده سعى في خلاصه من سجن صفات البشرية ليكون خالصاً له في كشف حقائق الأشياء ، ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعايا ممكلة روحانية وجسمانية . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن في جسد بني آدم مضغة ، إن صلحت صلح بها سائر الجسد وإن فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب » وللقلب اختصاص آخر بالله دون سائر المخلوقات قال سبحانه : « لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن » { اجعلني على خزائن } أرض الجسد فإن الله تعالى في كل عضو من الأعضاء خزانة من اللطف إن استعمله الإنسان فيما خلق ذلك العضو لأجله ، وخزانة من القهر إن استعمله في ضده { إني حفيظ } للخزائن { عليم } باستعمالها فيما ينفعها دون ما يضرها { نصيب برحمتنا } فيه أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكولة إلى مشيئة الله تعالى . { وجاء إخوة يوسف } وهم الأوصاف البشرية { فعرفهم } يوسف القلب لأنه ينظر بنور الله { وهم له منكرون } لبقائهم في الظلمة حرمانهم عن النور . { ولما جهزهم } يشير إلى أن يوسف القلب لما التجأت إليه الأوصاف البشرية بدل صفاتها الذميمة النفسانية بالصفات الحميدة الروحانية ، فاستدعى منهم إحضار بنيامين السر لأن السر لا يحضر مع القلب إلا بعد التبديل المذكور ، وإذا حضر معه يوفى بأوفى الكيل ما لم يوف إلى الأوصاف البشرية { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } فيه أن البضاعة كل عمل من الأعمال البدنية التي تحيا بها الأوصاف البشرية إلى حضرة يوسف مردودة إليها ، لأن القلب مستغن عنها . وإنما الأوصاف البشرية محتاجة إليها لأن النفس تتأدب وتتزكى بها كما قال تعالى { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } [ الإسراء : 7 ] وأن تربية القلب بالأعمال القلبية كالنيات الصالحة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « نية المؤمن خير من عمله » وكالعزائم الخالصة والأخلاق الحميدة والتوكل والإخلاص . ثم قال : كمال تربية القلب بالتخلية وتجلي صفات الحق وصفات ذاته { لعلهم يرجعون } من صفة الأمارية إلا المأمورية والاطمئنان فيستحق بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { ردّت إلينا } فوائده ما ترجع إلى يوسف القلب { ونمير أهلنا } الأعضاء والجوارح نحصل لهم قوّة زائدة على الطاعة بواسطة رسوخ الملكة له { ونحفظ أخانا } من الحوادث النفسانية والوساوس الشيطانية { ونزداد } بواسطة حضور السر عند القلب { كيل بعير } من الفوائد الربانية { وذلك كيل يسير } لمن يسره الله { لتأتنني به } مع الفوائد الربانية { إلا أن يحاط بكم } إلا أن يغالب عليكم الأحكام الأزلية { لا تدخلوا من باب واحد } لا تتقربوا إلى القلب بنوع واحد من المعاملات فللأسباب مدخل في التقريب إلا أن الكل موكل إلى مسبب الأسباب .

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)

القراآت : { أني أنا أخوك } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع . { نرفع درجات من نشاء } بالإضافة وبياء الغيبة في الفعلين : سهل ويعقوب . بالنون وبالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون وعلى الإضافة . { فلما استيأسوا } وبابه بالألف ثم الياء : أبو ربيعة عن البزي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة الباقون : بياء ثم همزة على الأصل { لي أبي } بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وافق ابن كثير في أبي .
الوقوف : { يعملون } 5 { لسارقون } 5 { تفقدون } 5 { زعيم } 5 { سارقين } 5 { كاذبين } 5 { فهو جزاؤه } ط { الظالمين } 5 { من وعاء أخيه } ط { ليوسف } ط { يشاء الله } ط لأن ما بعده مستأنف { نشاء } ط { عليم } 5 { من قبل } ط { مكاناً } ج { تصفون } 5 { مكانه } ج الثلاثة لانقطاع النظم مع اتصال المعنى المحسنين } 5 عنده لا لتعلق « إذا » بما قبلها { لظالمون } 5 { نجيا } ط { يوسف } ط للابتداء بالنفي مع فاء التعقيب { يحكم الله لي } ج لاحتمال ما بعده الابتداء أو الحال { الحاكمين } 5 { سرق } ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل { حافظين } 5 { أقبلنا فيها } ط لاختلاف الجملتين والابتداء بأنّ : { لصادقون } 5 { أمراً } ط { جميل } ط { جميعاً } ط { الحكيم } 5 .
التفسير : روي أنهم لما أتوه بأخيهم بنيامين أنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه . فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدته . ثم أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً وقال : هذا لا ثاني له فارتكوه معى فآواه إليه أي أنزله في المنزل الذي كان يأوي إليه : فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح . ولما رأى تأسفه لأخ هلك قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل : فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و { قال إني أنا أخوك } قال وهب : أراد إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس وعدم التوحش . وقال ابن عباس وسائر المفسرين : أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة { فلا تبتئس } افتعال من البؤس الشدّة والضر أراد نهيه عن اجتلاب الحزن { بما كانوا يعملون } من دواعي الحسد والأعمال المنكرة التي أقدموا عليها . يروى أن بنيامين قال ليوسف : أنا لا أفارقك . فقال له يوسف : قد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن أنسبك إلى ما ليس يحسن . قال : أنا راض بما رضيت . قال : فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك أنك قد سرقته فذلك قوله سبحانه { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه } والسقاية مشربة يسقى بها وهي الصواع كان يسقى بها الملك أو الدواب ثم جعلت صاعاً يكال به .

وكان مستطيلاً من ذهب أو فضة مموهة بالذهب أو مرصعاً بالجواهر أقوال { ثم أذن مؤذن } نادى منادٍ ومعناه راجع إلى الإيذان والإعلام إلا أن التشديد يفيد التكثير أو التصويب بالنداء { أيتها العير } أراد أصحاب العير كقوله صلى الله عليه وسلم : « يا خيل الله اركبي » والعير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء . وقيل : هي قافلة الحمير كأنها جمع عير وأصلها « فعل » بالضم كسقف فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء كما في « بيض » ثم كثر في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير وههنا سؤال وهو أنه كيف جاز لنبي الله أن يرضى بنسبة قومه إلى السرقة وهم برآء؟ وأجاب العلماء بأنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا السقاية غلب على ظنونهم أنهم أخذوها ، أو المؤذن ذكر ما ذكر على سبيل الاستفهام ، أو المراد أنهم سرقوا يوسف عليه السلام من أبيهم ، أو المراد أن فيكم سارقاً وهو الأخ الذي رضي بذلك البهتان فلا ذنب لأن الخصم رضي بأن يقال في حقه ذلك . ثم إن إخوة يوسف { قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك } قيل : صواع اسم للصاع والسقاية وصف { ولمن جاء به } أي بالصواع { حمل بعير } من طعام جعلاً لمن حصله { وأنا به زعيم } كفيل هو من قول المؤذن وفيه أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم أيضاً إذا كان معلوماً فكأن حمل بعير كان عندهم شيئاً معلوماً كوسق مثلاً إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهو كفالة ما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم { قالوا تالله } التاء مبدلة من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل . حلفوا على أمرين معجبين : أحدهما أنهم علموا أن إخوة يوسف ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض بالنهب والغصب ونحو ذلك حتى روي أنهم دخلوا وأفواه دوابهم مشدودة خوفاً من أن تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد في الطرق والأسواق ، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ورد المظالم حتى حكي أنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم . وثانيهما أنهم ما وصفوا قط بالسرقة . { قالوا } أي أصحاب يوسف : { فما جزاؤه } قال في الكشاف : الضمير للصواع والمضاف محذوف أي فما جزاء سرقته إن كنتم من الكاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة؟ قلت : ويحتمل أن يعود إلى السارق ، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في الجزاء حتى { قالوا جزاؤه من وجد في رحله } أي جزاؤه الرق .

قال الزجاج : وقوله { فهو جزاؤه } زيادة في البيان أي فأخد السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كما يقال حق السارق القطع جزاؤه لتقرر ما ذكر من استحقاقه ، ويجوز أن يكون مبتدأ وباقي الكلام جملة شرطية مرفوعة المحل بالخبرية على أن الأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ليكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ والأول إلى « من » ولكنه وضع المظهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة . وجوز في الكشاف أن يكون { جزاؤه } خبر مبتدأ محذوف أي المسؤول عنه جزاؤه ، ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه . أما قوله : { كذلك } أي مثل ذلك الجزاء { نجزي الظالمين } فيحتمل أن يكون من بقية كلام إخوة يوسف وأن يكون من كلام أصحاب يوسف والله أعلم .
ثم قال لهم المؤذن ومن معه : لا بد من تفتيش أوعيتكم فانصرف بهم إلى يوسف { فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه } لنفي التهمة والوعاء كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به . قال قتاة : كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثماً مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا أخوه قال : ما أظن هذا أخذ شيئاً . فقالوا : والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فنظر . { ثم استخرجها } أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث . { من وعاء أخيه } فأخذوا برقبته وحكموا برقيته . ثم قال سبحانه { كذلك } أي مثل ذلك الكيد العظيم { كدنا ليوسف } يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه . والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر به في أمر مكروه ولا سبيل إلى دفعه ، وقد سبق فيما تقدم أن أمثال هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات لا على البدايات . وما هذا الكيد؟ قيل : هو أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمره والله تعالى نصره وقواه . وقيل : الكيد يستعمل في الخير أيضاً والمعنى كفعلنا بيوسف من الإحسان إليه ابتداء فعلنا به انتهاء وقيل : تفسير هذا الكيد هو قوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } لأن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم مثلي ما سرق فما كان يوسف قادراً على حبس أخيه بناء على دين الملك وحكمه . ومعنى { إلا أن يشاء الله } هو أن الله كاد له فأجرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق حتى توصل بذلك إلى أخذ أخيه ، وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى بعض الأغراض الدينية والدنيوية . ثم مدحه على الهداية إلى هذه الحيلة كما مدح إبراهيم على ما حكى عنه من دلائل التوحيد والبراءة من إلهية الكوكب ثم القمر ثم الشمس فقال : { نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم } فوقه أرفع درجة منه في علمه .

ثم إن أطلق على الله تعالى أنه ذو علم كان هذا العام مخصوصاً لأنه لا عليم فوقه ، وإن قيل : إنه عالم بلا علم كما يقوله بعض المعتزلة كان النص باقياً على عمومه ، وإن قلنا إن الكل بمعنى المجموع كان المعنى وفوق جميع العلماء عليم هم دونه في العلم وهو الله تعالى والميل إلى هذا التفسير لأن قوله : { ذو علم } مشعر بكون علمه زائداً على حقيقته ووصفه تعالى عين ذاته ، وفي هذا البحث طول وفي الرمز كفاية . يروى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء وأقبلوا عليه وقالوا له : ما الذي صنعت ففضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ، ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصاع؟ فقال : بنو راحيل هم الذين لا يزال منكم عليهم البلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكتموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم فعند ذلك { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } عنوا به يوسف . واختلف في تلك السرقة فعن سعيد بن جبير أن جده أبا أمه كان يبعد الوثن فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادتها . وقيل : سرق عناقاً من أبيه أو دجاجة ودفعها إلى مسكين . وقيل : كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته عمة يوسف فحضنت يوسف إلى أن شب فأراد يعقوب أن ينتزعه منها وكانت تحبه حباً شديداً فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابه ثم زعمت أنه قد سرقها ، وكان في شرعهم استرقاق السارق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها . وقيل إنهم كذبوا عليه وبهتوه حسداً وغيظاً . { فأسرّها يوسف } قال الزجاج وغيره : الضمير يعود إلى الكلمة أو الجملة كأنه قيل : فأسر الجملة في نفسه ولم يبدها لهم ، ثم فسرها بقوله : { قال أنتم شر مكاناً } والمعنى أنه قال هذه الجملة على سبيل الخفية . وطعن الفارسي في هذا الوجه فقال : إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل ، والحق أن القرآن حجة على غيره . وقيل : الضمير : عائد على الإجابة أي أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر . وقيل : يعود إلى المقالة أو السرقة أي لم يبين يوسف أن تلك السرقة كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والعار . وعن ابن عباس أنه قال : عوقب يوسف ثلاث مرات : عوقب بالحبس لأجل همه بها ، وبالحبس الطويل لقوله : { اذكرني عند ربك } وبقولهم : { فقد سرق أخ له من قبل } لقوله : { إنكم لسارقون } ومعنى { شر مكاناً } شر منزلة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم على التحقيق وقلتم أكله الذئب { والله أعلم بما تصفون } المراد أنه يعلم أني لست بسارق في التحقيق ولا أخي ، أو الله أعلم بأن الذي وصفتموه هل يوجب ذماً أم لا .

قال ابن عباس : لما قال يوسف هذا القول غضب يهوذا وكان إذا غضب وصاح لم تسمع صوته حامل إلا وضعت وقام شعره على جلده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه . فقال لبعض إخوته : اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف لابن صغير له : مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف رجله على الأرض ليريه أن شديد وجذبه فسقط فعند ذلك { قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً } في السن أو في القدر وهو أحب إليه منا { فخذ أحدنا مكانه } استعباداً أو رهناً حتى نبعث الفداء إليك فلعل العفو أو الفداء كان جائزاً أيضاً عندهم { إنا نراك من المحسنين } لو فعلت ذلك أو من المحسنين إلينا بأنواع الكرامة ورد البضاعة إلى رحالنا أو أرادوا الإحسان إلى أهل مصر حيث أعتقهم بعدما اشترى رقابهم بالطعام { قال } يوسف { معاذ الله } من { أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً } أي إذا أخذنا غيره { لظالمون } في مذهبكم لأن استعباد غير من وجد الصواع في رحله ظلم عندكم ، أو أراد إن الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملاً بخلاف الوحي { فلما استيأسوا منه } حيث لم يقبل الشفاعة أي يئسوا والزيادة للبالغة . { خلصوا } اعتزلوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم { نجياً } مصدر والمضاف محذوف أي ذوي نجوى ، أو المراد أنهم التناجي في أنفسهم لاستجماعهم بذلك واندفاعهم فيه بجد واهتمام كما يقال : رجل جور ورجال عدل ، أو صفة لموصوف محذوف أي فوجاً نجياً بمعنى مناجياً بعضهم لبعض كالعشير بمعنى المعاشر . وفيم كان تناجيهم؟ الجواب في تدبير أمرهم على أيّ وجه يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم فعند ذلك { قال كبيرهم } في السن وهو روبيل ، أو في القدر وهو شمعون لأنه كان رئيسهم ، أو في العقل والرأي وهو يهوذا . وقوله : { ما فرطتم } إما أن تكون « ما » صلة أي ومن قبل هذا قصرتم { في } شأن { يوسف } ولم توفوا بعهدكم أباكم ، وإما أن تكون مصدرية محله الرفع على الابتداء وخبره بالظرف تقديره ومن قبل تفريطكم أي وقع من قبل تقصيركم في حقه ، أو النصب عطفاً على مفعول ألم تعلموا كأنه ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل ، وإما أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في شأن يوسف من الجناية والخيانة ومحل الموصول الرفع أو النصب على الوجهين . { فلن أبرح الأرض } فلن أفارق أرض مصر { حتى يأذن لي أبي } في الانصراف { أو يحكم الله لي } بالخروج منها أو بالانتصاف من أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب .

ثم إنه بقي ذلك الكبير في مصر وقال لغيره من الإخوة . { ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق } قاله بناء على ما شاهد من استخراج الصواع من وعائه ، أو أراد أنه سرق في قول الملك وأصحابه كقول قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] أي في زعمك واعتقادك ، أو المراد إن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة . وإطلاق اسم أحد الشبيهين على الآخر جائز أو القوم ما كانوا حينئذ أنبياء فلا يبعد منهم الذنب . وعن ابن عباس أنه قرأ { سرق } مشدداً مبنياً للمفعول أي نسب إلى السرقة . وعلى هذا فلا إشكال ، ومما يدل على أنهم بنوا الأمر على الظاهر قوله { وما شهنا إلا بما علمنا } أي إلا بقدر ما تيقناه من رؤية الصواع في وعائه { وما كنا للغيب } للأمر الخفي { حافظين } فإن الغيب لا يعلمه إلا الله . وعن عكرمة أن الغيب الليل معناه لعل الصواع دس في رحله بالليل من حيث لا يشعر ، أو ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق قاله مجاهد والحسن وقتادة ، أو ما علمنا أنا إذا قلنا إن شرع بني إسرائيل هو استرقاق السارق أخذ أخونا بتلك الحيلة . ثم بالغوا في إزالة التهمة فقالوا : { واسأل القرية التي كنا فيها } الأكثرون على أنها مصر . وقيل : قرية على باب مصر وقع فيها التفتيش أي أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة { و } اسأل أصحاب { العير التي أقبلنا فيها } وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب . وقيل : قوماً من أهل صنعاء . وقال ابن الأنباري : إن يعقوب كان من أكابر الأنبياء فلا يبعد أن يحمل سؤال القرية على الحقيقة بأن ينطق الله الجمادات لأجله معجزة ، فالمراد اسأل القرية والعير والجدران والحيطان فإنها تجبيك بصحة ما ذكرنا . وقيل : إن الشيء إذا ظهر ظهوراً تاماً فقد يقال سل عنه السماء والأرض وجميع الأشياء ويراد إنه ليس للشك فيه مجال . ثم زادوا في تأكيد نفي التهمة قائلين { وإنا لصادقون } وليس غرضهم إثبات صدقهم فإن ذلك يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ولكن الإنسان إذا ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده أنا صادق فتأمل فيما ذكرته ليزول عنك الشك . وههنا إضمار التقدير فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم فعند ذلك : { قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل } وقد مر تفسيره في أول السورة . ولكن المفسرين زادوا شيئاً آخر فقيل : المراد أنه خيل إليكم أنه سرق وما سرق . وقيل : أراد سوّلت لكم أنفسكم إخراج بنيامين والمصير به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم عليّ في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله ربما جاء على خلاف تقديركم .

وقيل : أراد فتواهم وتعليمهم وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته . واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز على يعقوب السعي في إخفاء حكم الله تعالى؟ وأجيب بأن ذلك الحكم لعله كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق له مسلماً وكان الملك في ظن يعقوب كافراً ، ولما طال بلاؤه ومحنته علم بحسن الظن والرجاء أنه سبحانه سيجعل له فرجاً ومخرجاً عما قريب ، أو لعله علم بالوحي أن يوسف حي وكان بنيامين والكبير الذي قال : { فلن أبرح الأرض } قد بقيا في مصر فلذلك قال : { عسى الله أن يأتيني بهم } أي بالثلاثة الغائبين { جميعاً إنه هو العليم } بحالي { الحكيم } في كل ما يفعله من الابتلاء والإبلاء .
التأويل : لما دخل الأوصاف البشرية ومعهم السر { على يوسف } القلب { آوى } القلب السر { إليه } لأنه أخوه الحقيقي بالمناسبة الروحانية { فلا تبتئس } إذا وصلت بي { بما كانوا يعملون } معك في مفارقتي لأن السر مهما كان مفارقاً من قلب مقارناً للأوصاف كان محروماً عن كمالات هو مستعد لها { فلما جهزهم } جهز القلب الأوصاف بما يلائم أحوالها { جعل السقاية } وهي مشربة كان منها شربه { في رحل أخيه } لأنهما رضيعا لبان واحد { إنكم لسارقون } سرقتم في الأول يوسف القلب وشريتموه بثمن بخس من متاع الدنيا وشهواتها ، وسرقتم في الآخر مشربة ليست من مشاربكم ، وفيه أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واستردت منه { ولمن جاء به حمل بعير } من علف الدواب ومراتع الحيوانات لأنه ليس مستحقاً للشرب من مشارب الملوك { لقد علمتم } أن المقبولين المقبلين على يوسف القلب لا نريد الإفساد في أرض الدنيا كما قالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] { وما كنا سارقين } إذ أخذنا يوسف القلب وألقيناه في غيابة الجب البشرية بل سعينا في أن ينال مملكة مصر العبودية ليكون عزيزاً فيها ونحن أذلاء له { جزاؤه من وجد في رحله } أي لكل شارب مشرب ولكل شرب فدية . ففدية الشارب من مشرب الدنيا صنعته وحرفته وكسبه ، وفدية الشارب من مشرب الآخرة الدنيا وشهواتها ، وفدية الشارب من شرب المحبة بذل الوجود { كذلك نجزي الظالمين } الذين وضعوا صواع الملك في غير موضعه طمعاً في أن يكونوا حريف الملك وشريبه { كذلك كدنا ليوسف } أي كما كاد الأوصاف البشرية في الابتداء بيوسف القلب إذ ألقوه في جب البشرية كدنا بهم عند قسمة الأقوات من خزانة الملك فجعلنا قسمتهم من مراتع الحيوانات يأكلون كما تأكل الأنعام ، وقسمة بنيامين السر من مشربة الملك . { وفوق كل ذي علم } آتيناه علم الصعود { عليم } بجذبه من المصعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم وهو السير في الله بالله إلى الله ، وهذا صواع لا تسعه أوعية الإنسانية { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } فيه إشارة إلى السر والقلب مع أنهما مخصوصان بالحظوظ الأخروية والروحانية فإنهم قابلان للاسترقاق من الشهوات الدنياوية والنفسانية ولما رأت الأوصاف البشرية عزة القلب وعرفت اختصاص البشرية أرادت أن تفدي نفسها وسيلة إلى يعقوب الروح فقالت : { فخذ أحدنا مكانه } { قال معاذ الله } أن نقبل بالصحبة والمخالطة { إلا من وجدنا متاعنا } من الصدق والمحبة والإخلاص عنده أي لا تكون صحبتنا بالكراهية والنفاق وإنما تكون بعلة الجنسية { فلما استيأسوا } من صحبة القلب { خلصوا } عن الأوصاف الذميمة للتناجي { قال كبيرهم } هو العقل ألم تعلموا أن أباكم وهو الروح { قد أخذ عليكم موثقاً من الله } يوم الميثاق أن لا تعبدوا إلا الله { فلن أبرح } أرض فناء القلب وهي الصدر .

والحاصل أن صفة العقل لما تخلصت عن الأوصاف البشرية خرجت عن أوامر النفس وتصرفاتها وصارت محكومة لأوامر الروح مستسلمة لأحكام الحق . { ارجعوا إلى أبيكم } الروح على أقدام العبودية وتبديل الأخلاق { إن ابنك سرق } لأنه وجد في رحله مشربة المحبة التي بها يكال الحب على وفده . { وما كنا للغيب } عند ارتحالنا من الغيب إلى الشهادة { حافظين } لأنه جعل السقاية في رحله في غيبتنا . { واسأل } أهل مصر الملكوت وأرواح الأنبياء والأولياء { قال بل سولت } فيه أن للنفس تزيينات وللأوصاف البشرية خيالات يتأذى بها يعقوب الروح لكن عليه أن يصبر على إمضاء أحكام الله وتنفيذ قضائه { عسى الله أن يأتيني } فيه أن متولدات الروح من القلب والأوصاف وغيرها وإن تفرقوا وتباعدوا عن الروح في الجسد للاستكمال فإن الله بجذبات العناية يجمعهم في مقعد صدق عنده مليك مقتدر { إنه هو العليم } بافتراقهم { الحكيم } بما في التفريق والجمع من الفوائد .

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)

القراآت : { مزجاة } بالإمالة : حمزة وعلي وخلف { حزني } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو . { قالوا إنك } على الخبر أو على حذف حرف الاستفهام : ابن كثير ويزيد . { أئنك } بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام يدخل بينهما مدة . { أينك } بهمز ثم ياء : نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد { آينك } بهمزة ممدودة ثم ياء : أبو عمرو وزيد وقالون . { من يتقي } بالياء في الحالين : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل . الباقون بغير ياء { إني أعلم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { ربي إنه } بالفتح أيضاً : أبو جعفر وأبو عمرو { أبي إذ } بالفتح أيضاً عندهم { إخوتي } { ربي } بفتح الياء أيضاً : يزيد والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني والله أعلم .
الوقوف : { كظيم } 5 { الهالكين } 5 { لا تعلمون } 5 { ولا تيأسوا من روح الله } ط { الكافرون } 5 { وتصدق علينا } ط { المتصدقين } 5 { جاهلون } 5 { لأنت يوسف } ط { أخي } ز لتعجيل الشكر مع اختلاف الجملتين . { علينا } ط لاحتمال أنه ابتداء إخبار من الله ، وإن كان من قول يوسف جاز الوقوف أيضاً لاتحاد القائل مع الابتداء بأن { المحسنين } 5 { الخاطئين } 5 { اليوم } ط لاختلاف الجملتين نفياً وإثباتاً أو خبراً ودعاء { لكم } ط لاحتمال الاستئناف والحال أوضح { الراحمين } 5 { يأتي بصيراً } ج لطول الكلام واعتراض الجواب مع اتفاق الجملتين { أجمعين } 5 { تفندون } 5 { القديم } 5 { بصيراً } ج لاحتمال أن يكون ما بعده جواب « لما » وقوله { ألقاه } حالاً بإضمار « قد » { ما لا تعلمون } 5 { خاطئين } 5 { ربي } ط { الرحيم } 5 { آمنين } 5 { سجداً } ج { من قبل } ز لتمام الجملة لفظاً دون المعنى . { حقاً } ط لتمام بيان الجملة الأولى وابتداء جملة عظمى { إخوتي } ط { لما يشاء } ط { الحكيم } 5 { الأحاديث } ج لحق حذف حرف النداء مع اتصال الكلام { والآخرة } ج لانقطاع النظم مع اتصال الثناء بالدعاء { الصالحين } 5 .
التفسير : لما سمع يعقوب ما سمع من حال ابنه ضاق قلبه جداً { وتولى عنهم } أي أعرض عن بنيه الذين جاءوا بالخبر وفارقهم { وقال يا أسفي على يوسف } الأسف أشد الحزن . والألف فيه مبدل من ياء الإضافة ونداء الأسف كنداء الويل وقد مر في المائدة . والتجانس بين لفظي الأسف ويوسف لا يخفى حسنه وهو من الفصاحة اللفظية . وكيف تأسف على يوسف دون أخيه الآخر الذي أقام بمصر والرزء الأحدث أشد؟ الجواب لأن الحزن الجديد يذكر العتيق والأسى يجلب الأسى ، ولأن رزء يوسف كان أصل تلك الرزايا فكان الأسف عليه أسفاً على الكل ولأنه كان عالماً بحياة الآخرين دون حياة يوسف { وابيضت عيناه من الحزن } أي من البكاء الذي كان سببه الحزن .

قال الحكماء : إذا كثر الاستعبار أوجب كدورة في سواد العين مائلة فيكون منها العمى لإيلام الطبقات ولا سيما القرنية وانصباب الفضول الردية إليها . قال مقاتل : لم يبصر ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف . وقال آخرون : لم يبلغ حد العمى وكان يدرك إدراكاً ضعيفاً ، أو المراد بالبياض غلبة البكاء كأن العين ابيضت من بياض ذلك الماء . روي أنه لم تجف عين يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ وجد سبعين ثكلى . قال : فما كان له من الأجر؟ قال : أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط . ونقل أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف حين ما كان في السجن فقال : إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك . فوضع يوسف يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني فلم أكن حزناً على أبي ، قال أكثر أهل اللغة : الحزن والحزن لغتان بمعنى . وقال بعضهم : الحزن بالضم فالسكون البكاء ، والحزن بفتحتين ضد الفرح ، وقد روى يونس عن أبي عمروا قال : إذا كان في موضع النصب فتحوا كقوله { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً } [ التوبة : 92 ] وإذا كان في موضع الجر أو الرفع ضموا كقوله من الحزن . وقوله : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } قال : هو في موضع رفع بالابتداء قيل : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ وأجيب بأن المنهي من الجزع هو الصياح والنياحة وضرب الخد وشق الثوب لا البكاء ونفثة المصدور ، فلقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون . ومما يدل على أن يعقوب عليه السلام أمسك لسانه عن النياحة وعما لا ينبغي قوله : { فهو كظيم } « فعيل » بمعنى « مفعول » أي مملوء من الغيظ على أولاده من غير إظهار ما يسوءهم ، أو مملوء من الحزن مع سد طريق نفثة المصدور من كظم السقاء إذا شده على ملئه ، أو بمعنى الفاعل أي الممسك لحزنه غير مظهر إياه . والحاصل أنه غرق ثلاثة أعضاء شريفة منه في بحر المحنة : فاللسان كان مشغولاً بذكر { يا أسفا } والعين كانت مستغرقة في البكاء ، والقلب كان مملوءاً من الحزن . ومثل هذا إذا لم يكن بالاختيار لم يدخل تحت التكليف فلا يوجب العقاب . يروى أن ملك الموت دخل على يعقوب فقال له : جئتني لتقبضني قبل أن أرى حبيبي؟ قال : لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك . عن النبي صلى الله عليه وسلم :

« لم تعط أمة من الأمم { إنا لله وإنا إليه راجعون } عند المصيبة إلا أمة محمد ، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وإنما قال يا أسفا » وضعف هذه الرواية فخر الدين الرازي في تفسيره وقال : من المحال أن لا تعرف أمة من الأمم أن الكل من الله وأن الرجوع لا محالة إليه . وأقول : هذا نوع من المكابرة فإن منكري المبدأ والمعاد أكثر من حصباء الوادي ، على أن المراد من الإعطاء الإرشاد إلى هذا الذكر وخصوصاً عند المصيبة وقد أخبر الصادق عليه السلام أن هذا مما خصت هذه الأمة به والله أعلم ، { قالوا } الأظهر أنهم ليسوا أولاه الذين تولى عنهم وإنما هم جماعة كانوا في الدار من خدمه وأولاد أولاده . { تالله تفتؤ } أراد « لا تفتؤ » فحذف حرف النفي لعدم الإلباس إذ لو كان إثباتاً لم يكن بد من اللام والنون . قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة أي لا تزال تذكر . وعن مجاهد : لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين . قال أبو زيد : ما فتئت أذكره أي ما زلت لا يتكلم به إلا مع الجحد { حتى تكون حرضاً } وصف بالمصدر للمبالغة . والحرض فساد في الجسم والعقل للحزن والحب حتى لا يكون كالأحياء ولا كالأموات ، أرادوا أنك تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تشفى على الهلاك أو تهلك فأجابهم بقوله : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } قالت العلماء : إذا أسر الإنسان حزنه كان هماً ، وإذا لم يقدر على إسراره فذكر لغيره كان بثاً . فالبث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس . فمعنى الآية إني لا أذكر الحزن الشديد ولا القليل إلا مع الله ملتجئاً إليه وداعياً له فخلوني وشكايتي . وهذا مقام العارفين الصديقين كقول نبينا صلى الله عليه وسلم « أعوذ بك منك » ويحتمل أن يكون هذا معنى توليه عنهم أي تولى عنهم إلى الله والشكاية إليه .
يحكى أنه دخل على يعقوب رجل وقال له : ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سناً عالياً . فقال : الذي بي لكثرة غمومي . فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفر له . فكان بعد ذلك إذا سأل قال : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } وروي أنه أوحي إلى يعقوب إنما وجدت - أي غضبت - عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاماً وادع عليه المساكين . وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت . واعلم أن حال يعقوب في تلك الواقعة كانت مختلفة؛ فتارة كان مستغرقاً في بحار معرفة الله ، وتارة كان يستولى عليه الحزن والأسف فلهذا كانت هذه الحادثة بالنسبة إليه كإلقاء إبراهيم في النار ، وكابتلاء إسحق بالذبح ، وكان شغل همه بيوسف بغير اختيار منه ، وكذا تأسفه عليه ، وما روي أنه عوتب على ذلك فلأن حسنات الأبرار سيئات المقربين .

وبالحقيقة كانت واقعة يعقوب أمراً خارق العادة أراد الله تعالى بذلك ابتلاءه وتمادي أسفه وحزنه وإلا فمع غاية شهرته وشدة محبته وقرب المسافة بينه وبين ابنه كيف خفي حال يوسف ولم لم يبعث يوسف إليه رسولاً بعد تملكه وقدرته ، ولم زاد في حزن أبيه بحبس أخيه عنده؟! أما قوله : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } فمعناه أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون ، فأرجو أن يأتيني الفرج من حيث لا أحتسب . وقيل : إنه رأى ملك الموت في المنام فقال له : يا ملك المو هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال : لا يا نبي الله . ثم أشار إلى جانب مصر وقال : اطلبه ههنا . وقيل : إنه كان قد رأى أمارات الرشد والكمال في يوسف علم أن رؤياه صادقة لا تخطىء . وقال السدي : أخبره بنوه بسيرة الملك وكماله حاله في أقواله وأفعاله أنه ابنه ، أو علم أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه فغلب على ظنه أن الملك هو يوسف . وقيل : أوحى الله تعالى إليه أنه سيلقى ابنه ولكنه ما عين الوقت فلذلك قال ما قال . ثم دعا بنيه على سبيل التطلف فقال : { يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف } وهو طلب الشيء بالحاسة كالتسمع والتبصر ومثله التجسس بالجيم . وقد قرىء بهما وربما يخص الجيم بطلب الخبر في ضد الخير { ولا تيأسوا من روح الله } من فرجه وتنفيسه وقرىء بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد . قال الأصمعي : الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه ، والتركيب يدل على الحركة والهزة فكل ما تهتز بوجوده وتلتذ به فهو روح { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } لأن هذا اليأس دليل على أنه اعتقد أن الله تعالى غير قادر على كل المقدورات ، أو غير عالم بجميع المعلومات ، أو ليس بجواد مطلق ولا حكيم لا يفعل العبث ، وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلاً عن جميعها اللَّهم إني لا أيأس من روحك فافعل بي ما أنت أهله . ثم ههنا إضمار والتقدير فقبلوا وصية أبيهم وعادوا إلى مصر { فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز } أي الملك القادر المنيع { مسنا وأهلنا الضر } الفقر والحاجة إلى الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم { وجئنا ببضاعة مزجاة } مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها من أزجيته إذا دفعته قال سبحانه { ألم تر أن الله يزجي سحاباً } [ النور : 43 ] ومنه قوله : « فلان يزجي العيش » أي يدفع الزمان بالقليل . قال الكلبي . هي من لغة العجم .

وقيل : لغة القبط . والأصح أنها عربية لوضوح اشتقاقها . قيل : كانت بضاعتهم الصوف والسمن . وقيل : الصنوبر والحبة الخضراء . وقيل : سويق المقل والأقط . وقيل : دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بنقص لأنها لم يكن عليها صورة يوسف وكانت دراهم مصر ينقش عليها صورته . { فأوف لنا الكيل } الذي هو حقنا . { وتصدق علينا } واعلم أنهم طلبوا المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسعر بالجيد . واختلف العلماء في أنه هل كان ذلك منهم طلب الصدقة؟ فقال سفيان بن عيينة : إن الصدقة كانت حلالاً على الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : أرادوا بالصدقة التفضل بالإغماض عن رداءة البضاعة وبإيفاء الكيل والصدقات محظورة على الأنبياء كلهم . وقوله : { إن الله يجزي المتصدقين } يمكن تنزيله على القولين لأن كل إحسان يبتغى به وجه الله فإن ذلك لا يضيع عنده والصدقة العطية التي ترجى بها المثوبة عند الله ومن ثم لم يجوز العلماء أن يقال : الله تعالى متصدق أو اللَّهم تصدق علي بل يجب أن يقال : اللَّهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني .
كان يعقوب أمرهم بالتحسس من يوسف وأخيه والمتحسس يجب عليه أن يتوسل إلى مطلوبه بجميع الطرق كما قيل : الغريق يتعلق بكل شيء . فبدأوا بالعجز والاعتراف بضيق اليد وإظهار الفاقة فرقق الله تعالى قلبه وارفضت عيناه فعند ذلك قال : { هل علمتم ما فعلتم بيوسف } وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد ، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء . أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه برداً وسلاماً ، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله ، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهب عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته لذلك ، وإما أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام . فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك . وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : « اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا » . وقوله : { هل علمتم } استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه كما يقال للمذنب : هل تدري من عصيت . وفيه تصديق لقوله سبحانه : { لتنبئهم بأمرهم هذا } [ يوسف : 15 ] وأما فعلهم بأخيه فتعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بالاحتقار والامتهان .

وقوله : { إذ أنتم جاهلون } جارٍ مجرى الاعتذار عنهم كأنه قال : إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في أوان الصبا وزمان الجهالة : والغرة إزالة للخجالة عنهم فإن مطية الجهل الشباب وتنصحاً لهم في الدين أي هل علمتم قبحه فتبتم لأن العلم بالقبح يدعو إلى التوبة غالباً فآثر كما هو عادة الأنبياء حق الله على نفسه في المقام الذي يتشفى المغيظ وينفث المصدور ويدرك ثأره الموتور . وقيل : إنما نفى العلم عنهم لأنهم لم يعملوا بعلمهم . ولما كلمهم بذلك { قالوا أئنك لأنت يوسف } عرفوه بالخطاب الذي لا يصدر إلا عن حنيف مسلم عن سنخ إبراهيم ، أو تبسم عليه السلام فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم ، أو رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء كان ليعقوب وسارة مثلها { قال أنا يوسف } صرح بالاسم تعظيماً لما جرى عليه من ظلم إخوته كأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أشنع الوجوه والله أوصلني إلى أعظم المناصب ، أنا ذلك الأخ الذي قصدتم قتله ثم صرت كما ترون ولهذا قال : { وهذا أخي } مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت صار منعماً عليه من الله وذلك قوله : { قد منَّ الله علينا } أي بكل خير دنيوي وأخروي أو بالجمع بعد التفرقة { إنه } أي الشأن { من يتق } عقاب الله { ويصبر } عن معاصيه وعلى طاعته { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } أراد أجرهم فاكتفى من الربط بالعموم . ومن قرأ { يتقي } بإثبات الياء فوجهه أن يجعل « من » بمعنى « الذي » ، ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله : { ويصبر } في موضع الرفع إلا أنه حذفت الحركة للتخفيف أو المشاكلة . وفي الآية دليل على براءة ساحة يوسف ونزاهة جانبه من كل سوء وإلا لم يكن من المتقين الصابرين .
{ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا } اعتراف منهم بتفضيله عليهم بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين وصورة الأحسنين . ولا يلزم من ذلك أن لا يكون أنبياء وإن احتج به بعضهم لأن الأنبياء متفاوتون في الدرجات { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [ البقرة : 253 ] { وإن كنا } وإن شأننا أنا كنا خاطئين . قال أبو عبيدة : خطىء وأخطأ بمعنى واحد . وقال الأموي : المخطىء من أراد الصواب فصار إلى غيره ومنه قولهم : « المجتهد يخطىء ويصيب » . والخاطىء من تعمد ما لا ينبغي . قال أبو علي الجبائي : إنهم لم يعتذروا عن ذلك الذي فعلوا بيوسف لأنه وقع منهم قبل البلوغ ومثل ذلك لا يعد ذنباً ، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطئوا بعد ذلك حين لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله . واعترض عليه فخر الدين الرازي بأنه يبعد من مثل يعقوب أن يبعث جمعاً من الصبيان من غير أن يبعث معهم رجلاً بالغاً عاقلاً ، فالظاهر أنه وقع ذلك منهم بعد البلوغ .

سلمنا لكن ليس كل ما لا يجب الاعتذار عنه لا يحسن الاعتذار عنه ، ولما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم متعمدين للإثم { قال } يوسف { لا تثريب عليكم } لا تأنيب ولا توبيخ . وقيل : لا أذكر لكم ذنبكم . وقيل : لا مجازاة لكم عندي على ما فعلتهم . وقيل : لا تخليط ولا إفساد عليكم واشتقاقه من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كالتجليد والتقريد لإزالة الجلد والقراد وذلك لأنه إذا ذهب منه الثرب كان في غاية الهزال والعجف فصار مثلاً للتقريع المدنف المضني . وقوله : { اليوم } إما أن يتعلق بالتثريب أو بالاستقرار المقدر على عليكم أي لا أثربكم اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره . ثم ابتدأ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم ليكون عقاب الدارين مزالاً عنهم . وأصل الدعاء أن يقع على لفظ المستقبل فإذا أوقعوه لفظ الماضي فذلك للتفاؤل ، ويحتمل أن يكون { اليوم } متعلقاً بالدعاء فيكون فيه بشارة بعاجل غفران الله لتجدد توبتهم وحدوثها في ذلك اليوم . يروى أن إخوته لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشياً ونحن نستحيي منك لما فرط منا فيك . فقال يوسف : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظرون إليّ شزراً ويقولون : سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخذ يوم الفتح بعضادتي باب الكعبة فقال لقريش : ما ترونني فاعلاً بكم؟ قالوا : نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت . فقال صلى الله عليه وسلم : أقول ما قال أخي يوسف { لا تثريب عليكم اليوم } . قال عطاء الخراساني : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته { لا تثريب عليكم اليوم } وقول يعقوب : { سوف أستغفر لكم } ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيهم فقالوا ذهبت عيناه فقال : { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } كقولك جاء البنيان محكماً ومثله { فارتد بصيراً } أو المراد يأت إلى وهو بصير دليله قوله : { وأتوني بأهلكم أجمعين } قيل : هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف . وكان من الجنة أوحى الله إليه أن فيه عافية كل مبتلي وشفاء كل سقيم . وقالت الحكماء : لعله علم أن أباه ما كان أعمى وإنما صار ضعيف البصر من كثرة البكاء فإذا ألقى عليه قميصه صار منشرح الصدر فتقوى روحه ويزول ضعفه . روي أن يهوذا حمل القميص وقال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم فأفرحه كما أحزنته ، فحمله وهو حافٍ حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً .

عن الكلبي : كان أهله نحواً من سبعين إنساناً . وقال مسروق : دخل قوم يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم نحو من ستمائة ألف .
{ ولما فصلت العير } خرجت من عريش مصر فصل من البلد فصولاً انفصل منه وجاوز حيطانه ، وفصل مني إليه كتاب إذا نفذ وإذا كان فصل متعدياً كان مصدره الفصل { قال أبوهم } لمن حوله من قومه { إن لأجد } بحاسة الشم { ريح يوسف } قال مجاهد : هبت ريح فصفقت القميص ففاحت رائحة الجنة في الدنيا فعلم يعقوب أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من من ذلك القميص . قال أهل التحقيق : إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عند انقضاء مدة المحنة ومجيء أوان الروح والفرح من مسيرة ثمان ، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب البلدين في مدة ثمانين سنة أو أربعين عند الأكثرين وكلاهما معجزة ليعقوب خارقة للعادة ، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فإنه في زمان الإقبال سهل . وقوله : { لولا أن تفندون } جوابه محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدّقتموني . والتفنيد النسبة إلى الفند وهو الخرف وتغير العقل من هرم يقال : شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن ذات رأي فتفند في الكبر . { قالوا } يعني الحاضرين عنده { تالله إنك لفي ضلالك القديم } أي فيما كنت فيه قدماً من البعد عن الصواب في إفراط محبة يوسف كما قال بنوه { إن أبانا لفي ضلال مبين } [ يوسف : 8 ] . وقيل : لفي شقائك القديم بما تكابد على يوسف من الأحزان . قال الحسن : إنما قالوا هذه الكلمة الغليظة لاعتقادهم أن يوسف قد مات . { فلما أن جاء } « أن صلة » أي فملا جاء مثل { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } [ هود : 74 ] وقيل : هي مع الفعل في محل الرفع بفعل مضمر أي فلما ظهر أن جاء البشير وهو يهوذا { ألقاه } طرحه البشير أو يعقوب على وجهه { فارتد بصيراً } أي انقلب من العمى إلى البصر أو من الضعف إلى القوة { قال ألم أقل لكم } جوز في الكشاف أن يكون مفعوله محذوفاً وهو قوله : { إني لأجد ريح يوسف } أو قوله : { ولا تيأسوا من روح الله } ويكون قوله : { إني أعلم } كلاماً مستأنفاً . والظاهر أن مفعوله قوله : { إني أعلم من الله ما لا تعلمون } وذلك أنه كان قال لهم : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون } وروي أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال : هو ملك مصر . قال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام . قال : الآن تمت النعمة . ثم إن أولاده أخذوا يعتذرون إليه فوعدهم الاستغفار .

قال ابن عباس والأكثرون : أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأنه أرجى الأوقات إجابة . وعن ابن عباس في رواية أخرى أخر إلى ليلة الجمعة تحرياً لوقت الإجابة . وقيل : أخر لتعرف حالهم في الإخلاص . وقيل : استغفر لهم في الحال ووعدهم دوام الاستغفار في الاستقبال . فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة . روي أنه قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه وقال : اللَّهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحي إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين . وروي أنهم قالوا له - وقد علتهم الكآبة - وما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرت لنا عين أبداً . فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى جهدوا وظنوا أنهم هلكوا نزل جبريل فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة . واختلاف الناس في نبوتهم مشهور ، يحكى أنه وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب وهو يمشي ويتوكأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر؟ قال : لا هذا ولدك : فلما لقيه قال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان . فأجابه يوسف وقال : يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال : بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك . ومعنى { آوى إليه أبويه } ضمهما إليه واعتنقهما . قال ابن إسحق : كانت أمة باقية إلى ذلك الوقت أو ماتت إلى أن الله تعالى أحياها ونشرها من قبرها تحقيقاً لرؤيا يوسف . وقيل : المراد بأوبويه أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين حتى قيل إن بنيامين بالعبرية ابن الوجع ، ولما توفيت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى أحد الأبوين لأن الخالة تدعى أماً لقيامها مقام الأم ، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب فيكف وقد اجتمع ههنا الأمران . قال السدي : كان دخولهم على يوسف قبل دخولهم على مصر كأنه حين استقبلهم نزل لأجلهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضم إليه أبويه { وقال ادخلوا مصر } فعلى هذا جاز أن يكون الاستثناء عائداً إلى الدخول . وعن ابن عباس : ادخلوا مصر أي أقيموا بها . وقوله : { إن شاء الله آمنين } تعلق بالدخول المكيف بالأمن فكأنه قيل : اسلموا وأمنوا في دخولكم وإقامتكم إن شاء الله وجواب الشرط بالحقيقة محذوف والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين ، أراد الأمن على أنفسهم وأموالهم وأهليهم بحيث لا يخافون أحداً وكانوا فيما سلف يخافون ملك مصر ، أو أراد الأمن من القحط والشدة أو من تعييره إياهم بالجرم السالف .

{ ورفع أبويه على العرش } السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه { وخروا له سجداً } لسائل أن يقول : السجود لا يجوز لغير الله فكيف سجدوا ليوسف؟ وأيضاً تعظيم الأبوين تالي تعظيم الله سبحانه فمن أين جاز سجدة أبويه له؟ والجواب عن ابن عباس في رواية عطاء أن المراد خرّوا لأجل وجدانه سجداً لله فكانت سجدة الشكر لله سبحانه ، وكذا التأويل في قوله : { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] أي أنها سجدت لله تعالى لأجل طلب مصلحتي وإعلاء منصبي . وأحسن من هذا أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً على لقائه ، أو يراد بالسجدة التواضع التام على ما كانت عادتهم في ذلك الزمان من التحية ، ولعلها ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجبهة . واعترض على هذا الوجه بأن لفظ الخرور يأباه . بأن الخرور قد يعني به المرور قال تعالى . { لم يخروا عليها صماً وعمياناً } [ الفرقان : 73 ] أي لم يمروا . وقيل : الضمير عائد إلى إخوته فقط . ورد بأن قوله : { هذا تأويل رؤياي } من قبل ينبو عنه . وأجيب بأن التعبير لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه فيحتمل أن تكون السجدة في حق الإخوة التواضع التام ، وفي حق أبويه مجرد ذهابهما من كنعان إلى مصر ، ففيه تعظيم تام للولد . وقيل : إنما سجد الأبوان لئلا تحمل الأنفة إخوته على عدم السجود فيصير سبباً لثوران الفتن وإحياء الأحقاد والضغائن ، أو لعله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا الله تعالى ، ورضي بذلك يوسف موافقة لأمر الله ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن يوسف لما رأى سجودهم له اقشعر جلده ولكن لم يقل شيئاً وكأن الأمر بتلك السجدة كان من تمام التشديد والبلية والله أعلم . { وقد أحسن بي } يقال : أحسن به وإليه بمعنى . { إذ أخرجني من السجن } لم يذكر إخراجه من البئر لأنه نوع تثريب للإخوة وقد قال : { لا تثريب عليكم } ولأنه لم يكن نعمة لأنه حينئذ صار عبداً وصار . مبتلى بالمرأة ولأن هذا الإخراج أقرب وأشمل { وجاء بكم من البدو } أي من البادية سمى المكان باسم المصدر لظهور الشخص فيه من بعيد ، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش يتنقلون في المياه والصحارى . قال ابن الأنباري . بدا موضع معروف هنالك . روي عن ابن عباس أن يعقوب كان قد تحول إليه وسكن فيه ومنه قدم إلى يوسف ، على هذا كان يعقوب وولده أهل الحضر والبدو قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا والمعنى جاء بكم من قصد بدا ذكره الواحدي في البسيط . قال الجبائي والكعبي والقاضي : إنه تعالى أخبر عن يوسف أنه أضاف الإحسان إلى الله ونسب النزغ إلى الشيطان وهو الإفساد والإغراء ، ففيه دليل على أن الخير من الله دون الشر .

وأجيب بأنه إنما راعى الأدب وإلا فليس فعل الشيطان إلا الوسوسة ، وأما صرف الداعية إلى الشر فلا يقدر عليه إلا الله فإن العاقل لا يريد ضرر نفسه . { إن ربي لطيف لما يشاء } فإذا أراد حصول أمر هيأ أسبابه وإن كان في غاية البعد عن الأوهام . { إنه هو العليم } بالوجه الذي تسهل به الصعاب { الحكيم } في أفعاله حتى تجيء على الوجه الأصوب والنحو الأصلح . يحكى أن يوسف أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الورق والذهب وخزائن الحلي والثياب والسلاح وغير ذلك ، فلما أدخله خزائن القراطيس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل! قال : أمرني جبريل . قال : أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط إليه مني فسأله قال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك : { وأخاف أن يأكله الذئب } [ يوسف : 13 ] قال : فهلا خفتني . ثم إن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة . فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له قال : { رب آتيتني من الملك } شيئاً من ملك الدنيا أو من ملك مصر لأنه كان دون ملك فوقه { وعلمتني من تأويل الأحاديث } بعضاً من ذلك لأنه لا يمكن أن يحصل للإنسان في العمر المتناهي والاستعداد المعين المحصور سوى المتناهي من السعادات الدنيوية والكمالات الأخروية { فاطر السموات والأرض } منادى ثان أو صفة النداء الأول أي مبدعهما على النحو الأفضل من مادة سابقة كالدخان أو من عدم محض { أنت وليي في الدنيا والآخرة } لا يتولى إصلاح مهماتي في الدارين غيرك . ولما قدم النداء والثناء كما هو شرط الأدب الحسن ذكر المسألة فقال { توفني مسلماً } أراد الوفاة على حال الإسلام والختم بالحسنى كقول يعقوب لولده : { ولا تموتن إلى وأنتم مسلمون } [ آل عمران : 102 ] { وألحقني بالصالحين } من آبائي أو على العموم .
قيل : الصلاح أول درجات المؤمنين الصالحين فالواصل إلى الغاية وهي النبوة كيف يليق به أن يطلب البداية؟ والجواب إن أراد الإلحاق بالآباء فظاهر ، وإن أراد العموم فكذلك لأن طلب الصلاح غير الإلحاق بأهل الصلاح فإن اجتماع النفوس المشرقة بالأنوار الإلهية له أثر عظيم وفوائد جمة كالمرآة المستنيرة المتقابلة التي يتعاكس أضواؤها ويتكامل أنوارها إلى حيث لا تطيقها الضعيفة ، هذا مع أن الختم على الصلاح نهاية مراتب الصديقين . وههنا بحث للأشاعرة وهو أن التوفي على الإسلام والإلحاق بأهل الصلاة لو لم يكن من فعل الله تعالى كان طلبه من الله جارياً مجرى قول القائل : افعل يا من لا يفعل .

وهل هذا إلا كتشنيع المعتزلة علينا إذ كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقول للمكلف افعل مع أنه ليس بفاعل؟ أجاب الجبائي والكعبي بأن المراد ألطف بي بالإقامة على الإسلام إلى أن أموت فألحق بالصلحاء . ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن كل ما في مقدور الله من الألطاف فقد فعله في حق الكل . سؤال آخر : الأنبياء يعلمون أنهم يموتون على الإسلام ألبتة . فما الفائدة في الطلب؟ الجواب : العلم الإجمالي لا يغني عن العلم التفصيلي ولا سيما في مقام الخشية والرهبة . وقال في التفسير الكبير : المطلوب ههنا حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر وهي الاستسلام لحكم الله والرضا بقضائه . وعن قتادة وكثير من المفسرين أنه تمنى الموت واللحوق بدار البقاء في زمرة الصلحاء ولم يتمن الموت نبي قبله ولا بعده .
قال أهل التحقيق : لا يبعد من الرجل العاقل إذا كما عقله أن تعظم رغبته في الموت لوجوه منها : أن مراتب الموجودات ثلاث : المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس ، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجساد فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة ، ويتوسطهما قسم ثالث هو عالم الأرواح لأنها تقبل الأثر والتصرف من العالم الإلهي ، ثم إذا أقبلت على عالم الأجساد تصرفت فيه وأثرت . وللنفوس في التأثير والتأثر مراتب غير متناهية لأن تأثيرها بحسب تأثرها مما فوقها والكمال الإلهي غير متناه فإذن لا تنفك النفس من نقصان ما ، والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وقد ذاق لذة الكمال بقي في القلق وألم الطلب ولا سبيل له إلى دفع هذا القلق والألم إلا الموت فحينئذ يتمنى الموت . ومنها أن سعادات الدنيا ولذاتها سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها ، ثم إنها مخلوطة بالمنغصات والأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كانت حصة الأراذل أكثر فلا جرم يتمنى العاقل موته ليتخلص من هذه الآفات . ومنها أن اللذات الجسمانية لا حقيقة لها لأن حاصلها يرجع إلى دفع الآلام . وقد قررنا هذا المعنى فيما سلف . ومنها أن مداخل اللذات الدنيوية ثلاثة : لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل منها عيوب؛ فلذة الأكل مع أنها غير باقية بعد البلع فإن المأكول يتخلط بالبصاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر ، ثم لما يصل إلى المعدة يستحيل إلى ما ذكره منفر فكيف به ومن هنا قالت العقلاء : من كانت همته ما يدخل في جوفه كانت قيمته ما يخرج من بطنه ، هذا مع اشتراك الحيوانات الخسيسة فيها . وأيضاً اشتداد الجوع حاجة والحاجة نقص وآفة وكذا الكلام في لذة النكاح وعيوبها مع أن فيها احتياجاً إلى زيادة المال ، والنفقة للزوج والولد وما يلزمهما ، والاحتياج إلى المال يلقي المرء في مهالك الاكتساب ومهاوي الانتجاع ، ولذة الرياسة أدنى عيوبها أن كل واحد يكره بالطبع أن يكون خادماً مأموراً ويحب أن يكون مخدوماً ، فسعي الإنسان في الرياسة سعي في مخالفة كل من سواه .

ولا ريب أن هذا أمر صعب الحصول منيع المرام وإذا ناله كان على شرف الزوال في كل حين وأوان لأن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر فيكون دائماً في الحزن والخوف . فإذا تأمل العاقل في هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح في اللذات العاجلة ولكن النفس جبلت على طلبها والرغبة فيها فيكون دائماً في بحر الآفات وغمرات الحسرات فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة . وقد سبق منا في تمني الموت كلام آخر في سورة البقرة في تفسير قوله : { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } [ الجمعة : 6 ] فليتذكر . قال أهل السير : لما توفي يوسف تخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال ، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقاً من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا فيه شرعاً . وولد له إفراثيم وميشا وولد لإفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى ، ثم بقي يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .
التأويل : إن يعقوب الروح لا يتأسف على فوات شيء من المخلوقات إلا على يوسف القلب لأنه مرآة جمال الحق لا يشاهد الحق إلا فيها فلذلك أبيضت عيناه في انتظارها فلامه على ذلك الأوصاف البشرية بقولهم { تفتؤ تذكر يوسف } وأين أهل السلوة من أهل العشق ، أين الخلي من الشجي ، ولا بد للمحب من ملامة الخلق فأول ملامتي آدم عليه السلام حين قالت الملائكة لأجله { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] بل أول ملامتي هو الله تعالى حين قالوا له : { أتجعل فيها } وذلك أنه أول محب ادعى المحبة وهو قوله { يحبهم } { وأعلم من الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 62 ] من جماله وكماله { اذهبوا فتحسسوا } فيه أن الواجب على كل مسلم أن يطلب يوسف قلبه وبنيامين سره ، وإن ترك لطف الله واليأس عن وجدانه كفر . فلما رأت الأوصاف البشرية آثار العزة من رب العزة على صفحات أحوال يوسف القلب حين وصلوا بتيسير أحكام الشريعة وتدبير آداب الطريقة إلى سرداقات حضرة القلب { قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا } وهم القوى الإنسانية { ضر } البعد عن الحضرة الربانية { وجئنا ببضاعة مزجاة } من الأعمال البدنية { فأوف لنا الكيل } بإفاضة سجال العوارف وإسباغ ظلال العواطف { إذ أنتم جاهلون } إذ كنتم على صفة الظلومية والجهولية { لقد آثرك الله علينا } بالطلب والصدق والشوق والمحبة والوصول والوصال { وإن كنا لخاطئين } في الإقبال على استيفاء الحظوظ الحيوانية التي تضر القلب والسر والروح { لا تثريب عليكم اليوم } لأنه صدر منها ما صدر بحكمة من الله تعالى وتربية القلب وإن كان مضراً له ظاهراً كما أن صنيع إخوة يوسف في البداية صار سبباً لرفعة منزلته في النهاية { اذهبوا بقميصي } وهو نور جمال الله { ولما فصلت } عير واردات القلب وهبت نفحات ألطاف الحق { إنك لفي ضلالك القديم } .

يا عاذل العاشقين دع فئة ... أضلها الله كيف ترشدها
{ فارتد بصيراً } لأن الروح كان بصيراً في بدو الفطرة ثم عمي لتعلقه بالدنيا وتصرفه فيها ثم صار بصيراً بوارد من القلب :
ورد البشير بما أقر الأعينا ... وشفى النفوس فنلن غايات المنى
والقلب في بدو الأمر كان محتاجاً إلى الروح في الاستكمال ، فلما كمل وصلح لقبول فيضان الحق بين إصبعين ونال مملكة الخلافة بمصر القربة في النهاية صار الروح محتاجاً إليه لاستنارته بأنوار الحق ، وذلك أن القلب بمثابة المصباح في قبول نار النور الإلهي والروح كالزيت فيحتاج المصباح في البداية إلى الزيت في قبول النار ، ولكن الزيت يحتاج إلى المصباح في البداية وتزكيته في النهاية لتقبل بواسطة النار { ادخلوا مصر إن شاء الله } لأنه لا يصل إلى الحضرة الأحدية إلا بجذبة المشيئة آمنين من الانقطاع والانفصال { وخروا له سجداً } لما رأوه وعرفوه أنه عرش الحق تعالى ، فالسجدة كانت في الحقيقة لرب العرش لا للعرش { هذا تأويل رؤياي من قبل } إن كنت نائماً في نوم العدم { إذ أخرجني من السجن } سجن الوجود ولم يقل من الجب لأنه لا يخرج من جب البشرية ما دام في الدنيا { من البدو } بدو الطبيعة { آتيتني من الملك } ملك الوصال والوصول { فاطر سموات } عالم الأرواح وأرض البشرية { توفني مسلماً } أخرجني من قيد الوجود المجازي وأبقني ببقائك مع الباقين بك بفضلك وكرمك .

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

القراآت : { سبيلي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع { نوحي } بالنون وكسر الحاء : حفص . الآخرون بالياء وفتح الحاء { يعقلون } على الغيبة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وابن كثير والأعشى والبرجمي . والباقون بتاء الخطاب . { كذبوا } مخففاً : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويزيد . الباقون بالتشديد . { فنجي } بضم النون وكسر الجيم المشددة وفتح الياء : ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب . فعلى هذا يكون فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول . وعن الكسائي مثل هذا ولكن بسكون الياء . وخطأه علي بن عيسى بناء على أنه فعل مستقب من الإنجاء والنون لا يدغم في الجيم ، أو من التنجية والنون المتحركة لا تدغم في الساكن . وأقول : إن كان فعلاً ماضياً من التنجية والنون المتحركة لا تدغم كما في القراءة الأولى ولكن سكن الياء للتخفيف لم يلزم منه خطأ . الآخرون : قرأوا بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء فعلاً مضارعاً من الإنجاء على حكاية الحال الماضية .
الوقوف : { إليك } ج لابتداء النفي مع واو العطف { يمكرون } 5 { بمؤمنين } 5 { أجر } ط { للعالمين } 5 { معرضون } 5 { مشركون } 5 { لا يشعرون } 5 { ومن اتبعن } ط { المشركين } 5 { القرى } ط { من قبلهم } ط { اتقوا } ط { تعقلون } 5 { نصرنا } ط رمن قرأ { فننجي } بالتخفيف ولا وقف على { من نشاء } ومن قرأ { فنجي } مشددة وصله بما قبله ووقف على { من نشاء } { المجرمين } 5 { الألباب } ط { يؤمنون } 5 .
التفسير : { ذلك } الذي ذكر من نبأ يوسف هو من أخبار الغيب وقد مر تفسير مثل هذا في آخر قصة زكريا في سورة آل عمران . ومعنى إجماع الأمر العزم عليه كما مر في سورة يونس في قصة نوح . وأراد عزمهم على إلقاء يوسف في البئر وهو المكر بعينه وذلك مع سائر الغوائل من المجيء على قميصه بدم كذب ومن شراهم إياه بثمن بخس . قال أهل النظم : إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التعنت ، فاعتقد رسول الله أنه إذا ذكرها فربما أمنوا فلما ذكرها لهم أصروا على كفرهم فنزل : { وما أكثر الناس } أي أكثر خلق الله المكلفين أو أكثر أهل مكة قاله ابن عباس . { ولو حرصت } جوابه مثل ما تقدم أي ولو حرصت فما هم { بمؤمنين } والحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد ونظير الآية قوله : { إنك لا تهدي من أحببت } [ القصص : 56 ] { وما تسألهم عليه } على ما تحدثهم به { من أجر } كما سأل القاص { إن هو إلا ذكر } عظة من الله { للعالمين } عامة على لسان رسوله . { وكأين من آية } الأكثرون على أنه لفظ مركت بمن كاف التشبيه وأيّ التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى « كم » الخبرية .

والتمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلاً ، والأكثر إدخال « من » في تمييزه وقد مر في سورة البقرة في تفسير قوله سبحانه : { إن في خلق السموات والأرض } { الآية : 164 ] وفي مواضع أخر تفصيل بعض الآيات السماوية والأرضية الدالة على توحيد الصانع وصفات جلاله . ومن جلمة الآيات قصص الأوّلين وأحوال الأقدمين . ومعنى { يمرون عليها } أشياء يشاهدونها { وهم عنها معرضون } لا يعتبرون بها . وقرىء { والأرض } بالرفع على الابتداء خبره { يمرون } والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر . والحاصل أن جملة العالم العلوي والعالم السفلي محتوية على الدلائل والبينات على وجود الصانع ونعوت كماله ولكن الغافل يتعامى عن ذلك . { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وذلك أنهم كانوا مقرين بإلاله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] لكنهم كانوا يثبتون له شريكاً في المعبودية هو الأصنام ويقولون : هم الشفعاء . وكان أهل مكة يقولون : الملائكة بنات الله . وعن الحسن : هم أهل الكتاب يقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله . وعن ابن عباس : هم الذين يشبهون الله بخلقه . احتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار . والجواب أن مجرد الإقرار لو كان كافياً لما اجتمع مع الشرك غاشية عقوبة تغشاهم وتغمرهم . { قل } يا محمد لهم { هذه } السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان { سبيلي } وسيرتي وقوله { أدعو إلى الله } تفسير ل { سبيلي } و { على بصيرة } يتعلق بأدعوا و { أنا } تأكيد للمستتر في أدعو { ومن اتبعن } عطف عليه ويجوز أن يكون { على بصيرة } حالاً من أدعو عاملة في { أنا ومن اتبعن } ، ويجوز أن يكون { أنا } مبتدأ معطوفاً عليه و { من اتبعن } و { على بصيرة } خبراً مقدماً فيكون ابتداء إخبار بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى وتشهٍ { و } قل { سبحان الله } تنزيهاً له عما أشركوا { وما أنا من المشركين } لا شركاً جلياً ولا شركاً خفياً .
قال : { وما أرسلنا من قبلك } وفي « الأنبياء » { قبلك } [ الأنبياء : 7 ] بغير « من » لأن قبلاً اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و « من » تفيد استيعاب الطرفين ، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب . قوله : { إلا رجالاً } ردّ على من زعم أن الرسول ينبغي أن يكون ملكاً أو يمكن أن يكون امرأة مثل سجاح المتنبئة . وقوله : { من أهل القرى } خصهم بالاستنباء لما في أهل البادية في الغلظ والجفاء { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] قال صلى الله عليه وسلم : « من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل » { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا } إلى مصارع الأمم المكذبة إنما قال : { أفلم يسيروا } بالفاء بخلاف ما في « الروم » والملائكة لاتصاله بقوله : { وما أرسلنا من قبلك } فكان الفاء أنسب من الواو { ولدار الآخرة } موصوفه محذوف أي ولدار الساعة والحال الآخرة لأن للناس حالين : حال الدنيا وحال الآخرة .

وبيان الخيرية قد مر في « الأنعام » . وإنما خصت ههنا بالحذف لتقدم ذكر الساعة . قال في الكشاف : حتى غاية لمحذوف دل عليه الكلام والتقدير فتراخى نصر أولئك الرجال حتى إذا استيأسوا عن النصر أو عن إيمان القوم { وظنوا أنهم قد كذبوا } فيه وجوه لقراءتي التخفيف والتشديد ولإمكان عود الضمير في الفعلين إلى الرسل أو إلى المرسل إليهم الدال عليهم ذكر الرسل أو السابق ذكرهم { أفلم يسيروا } وأما وجوه التخفيف فمنها : وظن الرسل أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذب رجاؤهم لقولهم رجاء صادق وكاذب . والمراد أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله قد تطاولت وتمادت حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا . قال ابن عباس : ظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر . قال : وكانوا بشراً ألا تراً إلى قوله : { وزلزلوا } والعلماء حملوا قول ابن عباس على ما يخطر بالبال شبه الوسواس وحديث النفس من عالم البشرية . وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فلا ، لأن الرسل أعرف الناس بالله وبأن ميعاده مبرأ عن وصمة الأخلاف . ومنها وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر . ومنها وظن المرسل إليهم أنهم قد كذبوا من جهة الرسل أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليه ولم يصدقوهم فيه . وأما قراءة التشديد فإن كان الظن بمعنى اليقين فمعناه أيقن الرسل أن الأمم كذبوهم تكذيباً لا يصدر عنهم الإيمان بعد فحينئذ دعوا عليهم فهناك نزل عذاب الاستئصال ، أو كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم . وإن كان بمعنى الحسبان فالمعنى توهم الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا تأويل عائشة قالت : ما وعد الله محمداً شيئاً إلا وعلم أنه سيوفيه ، ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم .
{ لقد كان في قصصهم } قصص الرسل إضافة للمصدر إلى الفاعل ، ويحسن أن يقال : الضمير لإخوة يوسف وله لاختصاص هذه السورة بهم . والعبرة نوع من الاعتبار وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول ، ووجه الاعتبار على العموم أن يعلم أنه لا خير إلا في العمل الصالح والتزوّد بزاد التقوى فإن الملوك الذي عمروا البلاد وقهروا العباد ثم لم يراعوا حق الله في شيء من ذلك ماتوا وانقرضوا وبقي الوزر والوبال عليهم . وعلى الخصوص أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلاء شأنه بعد حبسه في السجن واجتماعه بأهله بعد طول البعاد قادر على إظهار محمد وإعلاء كلمته .

والكل مشترك في الدلالة على صدق محمد لأن هذا النوع من القصص الذي أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء دليل ظاهر وبرهان باهر على أنه بطريق الوحي والتنزيل ، وإنما يكون دليلاً واعتباراً { لأولي الألباب } وأصحاب العقول الذين يتأملون ويتفكرون لا الذين يمرون ويعرضون على أن الدليل دليل في نفسه للعقلاء وإن لم ينظر فيه مستدل قط كما أن الرئيس الحقيقي من له أهلية الرياسة وإن كان في نهاية الخمول { ما كان } مدلول القصص وهو المقصوص أو القرآن { حديثاً يفترى } لظهور إعجازه { ولكن } كان { تصديق الذي بين يديه } من الكتب السماوية { وتفصيل كل شيء } يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس . وقيل : تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته قال الواحدي : وعلى التفسيرين فهو ليس على عمومه لأن المراد به الأصول والقوانين وما يؤل إليها { وهدى } في الدنيا { ورحمه } في الآخرة { لقوم يؤمنون } لأنهم هم المنتفعون بذلك .
التأويل : { من أنباء الغيب } لأن هذا الترتيب في السلوك لا يعلمه إلا الوالجون ملكوت السماء الغوّاصون في بحر بطن القرآن { وما كنت لديهم } بالصورة ولكن كنت حاضراً بالمعنى { وما أكثر الناس } وهم صفات الناسوتية { وما تسألهم عليه من أجر } لأن اللاهوتية غير محتاجة إلى الناسوتية وإن دعتها إلى الاستكمال لأنها كاملة في ذاتها مكملة لغيرها { وكأين من آية } في سموات القلوب وأرض النفوس تمر الأوصاف الإنسانية عليها { وهم عنها معرضون } لإقبالها على الدنيا وشهواتها { وما يؤمن } أكثر الصفات الإنسانية بطلب الله وتبدل صفاته { إلا وهم مشركون } في طلب الدنيا وشهواتها ، أو طلب الآخرة ونعمها ، أو وما يؤمن أكثر الخلق بالله وطلبه إلا وهم مشركون برؤية الإيمان والطلب أنها منهم لا من الله ، فكل من يرى السبب فهو مشرك ، وكل من يرى المسبب فهو موحد كل شيء هالك في نظر الموحد إلا وجهه ، أو وما يؤمن أكثر الناس بالله وبقدرته وإيجاده إلا وهم مشركون في طلب الحاجة من غير الله { غاشية } جذبة تقهر إرادتهم . وتسلب اختيارهم كما قيل : العشق عذاب الله { أو تأتيهم الساعة } ساعة الانجذاب إلى الله { هذه سبيلي } لأن طريق السير والسلوك مختص به وبأمته { إلا رجالاً من أهل قرى } الملكوت دون مدن الملك والأجساد ، والرجال من القرى ويشبه أن يعبر عن عالم الأرواح بالقرى لبساطتها . والقرى أقل أجزاء من المدن { أفلم يسيروا في } أرض البشرية على قدمي الشريعة والطريقة ليصلوا إلى فضاء عالم الحقيقة { وظنوا أنهم قد كذبوا } ففي إبطاء النصر ابتلاء للرسل؛ الله حسبي ونعم الوكيل .

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)

القراآت : { وزرع ونخيل صنوان وغير } بالرفع فيهن : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص والمفضل . الآخرون بالجر فيهن عطفاً على { أعناب } . { يسقي } بالياء المثناة من تحت على تقدير يسقى كله أو للتغليب : ابن عامر وعاصم ويزيد ورويس . الباقون بتاء التأنيث لقوله : { جنات } { ويفضل } على الغيبة : حمزة وعلي وخلف . الباقون بالنون على ونحن نفضل { أئذا } بهمزتين { إنا } بهمزة واحدة على أيذا بقلب الثانية ياء والباقي كما مر : نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد { آئذا إنا } بالمد والباقي مثله : زيد وقالون إذا بهمزة واحدة أئنا بهمزتين : ابن عامر . هشام يدخل بينهما مدة إذا بهمزة واحدة { آينا } بهمزة ممدودة ثم ياء : يزيد { أيذا أينا } بهمزة ثم ياء فيهما : ابن كثير مثله ولكن بالمد أو عمرو { أئذا آئنا } بهمزتين فيهما : عاصم وحمزة وخلف { هادي } { وافى } { وإلى } { باقي } في الوقف : يعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة ، وروى ابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الوقف وعن البزي بغير ياء { المتعالي } في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق سهل وعباس في الوصل .
الوقوف : { المر } كوفي { آيات الكتاب } ط { لا يؤمنون } 5 { والقمر } ط { مسمى } ط { يوقنون } 5 { وأنهارا } ط { النهار } ط { يتفكرون } 5 { بماء واحد } ز قف لمن قرأ { ونفضل } بالنون { في الأكل } ط { يعقلون } 5 { جديد } ط { بربهم } ط { في أعناقهم } ج { النار } ج { خالدون } 5 { المثلات } ط { على ظلمهم } ج لتنافي الجملتين { العقاب } 5 { من ربه } ط { هاد } 5 { وما تزداد } ط { بمقدار } 5 { المتعال } 5 { بالنهار } 5 { من أمر الله } ط { ما بأنفسهم } ط { فلا مرد له } ج لاختلاف الجملتين { وال } 5 .
التفسير : { تلك } الآيات التي في هذه السورة آيات السورة العجيبة الكاملة في بابها { والذي أنزل إليك من ربك } أي القرآن كله هو { الحق } الذي لا محيد عنه والمراد أنه لا تنحصر الحقية في هذه السورة وحدها . ثم أخذ في تفصيل الحق فبدأ بالدلالة على صحة المبدأ والمعاد فقال : { الله } وهو مبتدأ خبره { الذي } أو الموصول صفة المبتدأ ، وقوله : { يدبر الأمر يفصل الآيات } خبر بعد خبر . والعمد بفتحتين جمع عمود وهو ما يعمد به الشيء شبه الأسطوانة . وقوله : { ترونها } كلام مستأنف على سبيل الاستشهاد أي وأنتم ترونها مرفوعة بلا عماد . وقال الحسن : في الآية تقديم وتأخير تقديره رفع السموات ترونها مرفوعة بغير عمد وفيه تكلف . وقيل : ترونها صفة للعمد . ثم زعم من تمسك بالمفهوم أن للسموات عمدا لكنا لا نراها وما تلك العمد؟ قال بعض الظاهريين : هي جبل من زبرجد محيط بالدنيا يمسى جبل قاف . ولا يخفى سقوط هذا القول لأن كل جسم لو كان يلزم أن يكون معتمداً على شيء فذلك الجبل أيضاً كان متعمداً على شيء فذلك الجبل أيضا كان معتمداً على شيء وتسلسل .

وقال بعض من ترقى في حضيض الصورة إلى ذروة عالم المعقول : إن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه الذي أوقفها في الجوّ العالي . ونحن لا نرى ذلك التدبير ولا نعرف كيفية ذلك الإمساك . أما قوله : { كل يجري لأجل مسمى } فعن ابن عباس أن للشمس مائة وثمانين منزلاً في مائة وثمانين يوماً ، إنها تعود مرة أخرى إلى واحد واحد منها في أمثال تلك الأيام ومجموع تلك الأيام سنة تامة . أقول : إن صح عنه فلعله أراد تصاعدها في دائرة نصف النهار وتنازلها عنها في أيام السنة ، وأراد نزولها في فلكها الخارج المركز من الأوج إلى الحضيض ، ثم صعودها من الحضيض إلى الأوج فإن لها بحسب كل جزء من تلك الأجزاء في كل يوم من أيام السنة تعديلاً خاصاً زائداً أو ناقصاً كما برهن عليه أهل النجوم . وأما القمر فسيره في منازله مشهور . وقال سائر المفسرين : المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وبعد ذلك تنقطع الحركات وتنتهي المسيرات كقوله : { وأجل مسمى عنده } [ الأنعام : 2 ] واللام للتاريخ كما تقول : كتبت لثلاث خلون . وإنما قال في سورة لقمان { إلى أجل مسمى } [ لقمان : 29 ] موافقة لقبيل ذلك ومن يسلم وجهه إلى الله والقياس لله كما في قوله : { أسلمت وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] { يدبر الأمر } إجمال بعد التفصيل أي أمر العالم العلوي والعالم السفلي من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن ، لأن تدبيره لعالم الأرواح كتدبيره لعالم الأشباح ، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير لا يختلف بالنسبة إلى قدرته أحوال شيء من ذلك في الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وتبديل الصور والأعراض وتغيير الأشكال والأوضاع { يفصل الآيات } الدالة على وحدانيته وقدرته ، ويحتمل أن يراد بتدبير الأمر تدبير عالم الملكوت ، ويكون معنى تفصيل الآيات إنزال الكتب وبعث الرسل وتكليف العباد الذي هو أثر ذلك العالم في العالم السفلي . ويجوز أن يكون تدبير الأمر إشارة إلى القضاء ، وتفضيل الآيات إشارة إلى القدر . وقوله : { لعلكم بلقاء ربكم توقنون } على كل التفاسير إشارة إلى إثبات المعاد لأن المقر بتبيره وتقديره على الأنهاج المذكور لا بد أن يعترف باقتداره على الإعادة والجزاء .
ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها الدلائل الأرضية فقال : { وهو الذي مد الأرض } قال الأصم : أي بسطها إلى ما لا يدرك منتهاه ، وهذا الامتداد الظاهر لحس البصر لا ينافي كريتها لتباعد أطرافها { وجعل فيها رواسي } أي جبالاً ثوابت في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها . وكيفية تكوّن الجبال على بسيط الأرض لا يعلم تفصيلها إلا موجدها . وزعمت الفلاسفة أنها من تأثير المسوات في الأجزاء الأرضية القابلة لذلك الأثر بعد امتزاجها بالأجزاء المائية وغيرها ، وقد يعين على ذلك نزول الأمطال وهبوب الرياح وهذا إن صح فعلم إجمالي .

وزعم بعضهم أن البحار كانت في جانب الشمال مدة كون حضيض الشمس هناك ، وحين انتقل الحضيض إلى الجنوب انجذبت المياه إلى ذلك الجانب لأن الشمس تصير في الحضيض أقرب إلى الأرض فتوجب شدة السخونة الجاذبة للرطوبات فصار الطين اللزج حجراً وحدثت الجبال والأغوار بحسب المواضع المرتفعة والمنخفضة وبإعانة من السموات والآثار العلوية . وبالجملة فالأسباب تنتهي لا محالة إلى مسبب لا سبب له وهو الله سبحانه . ومن الدلائل الدالة على وجود الصانع ووحدانيته جريان الأنهار العظيمة على وجه الأرض الكائنة فيها من احتباس الأبخرة ، وأكثر ذلك أنما يتكّون في الجبال فلذا قرن الجبال بالأنهار في القرآن كثيراً كقوله : { وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتاً } [ المرسلات : 27 ] وقد يحصل فيها معادن الفلزات ومواضع الجواهر ومكامن الأجسام المائعة من النفظ والقير والكبريت وغيرها ، وكل ذلك دليل على وجود فاعل مختار ومدبر قهار . ثم يحدث على الأرض بتربية المياه وتغذيتها أنواع النبات فللك قال : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } وللمفسرين فيه قولان : الأول أنه حين مد الأرض خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوّعت فيكون كل زوجين بالنسبة إلى ذلك النوع كآدم وحواء بالإضافة إلى الإنسان . القول الثاني : إنه أراد بالزوجين الأسود والأبيض والحلو والحامض والصغير والكبير وما أشبه ذلك من الاختلاف الصنفي . ووصف الزوجين بالاثنين للتأكيد مثل نفخة واحدة . أما قوله : { يغشي الليل النهار } فقد مر تفسيره في « الأعراف » وإنما ذكر هذا الإنعام في أثناء الدلائل الأرضية لأن النور والظلمة إنما يحدثان في الجوّ الذي يسميه الحكماء كرة النسيم وكرة البحار وليس فيما وراء ذلك ضياء ولا ظلام . فتعاقب الليل والنهار من جملة الأحداث السفلية وإن كان سببها طلوع الشمس وغروبها في الأفق . ويحتمل أن يقال : إن هذا دليل سماوي وإنه سبحانه عاد مرة أخرى إلى الدليل السماوي ثم إلى الدليل الأرضي وذلك قوله : { وفي الأرض قطع متجاورات } أي بقاع مختلفة مع كونها متجاورة ومتلاصقة طيبة إلى سبخة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على خلافها ، وفي هذا دلالة ظاهرة على أنها بجعل فاعل مختار موقع لأفعاله على حسب إرادته ، وكذا الكروم والزروع والنخيل الكائنة في هذه القطع مختلفة الطباع متخالفة الثمار في اللون والطعم والشكل وهي تسقى بماء واحد ، فدل ذلك على أن هذه الاختلافات لا تستند إلى الطبيعة فقط ولكنها بتقدير العزيز العليم . وإنما ذكر الزرع بين الأعناب والنخيل لأنها كثيراً ما تكون كذلك في الوجود كقوله { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً } [ الكهف : 32 ] والصنوان جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلهما واحد .

وعن ابن الأعرابي : الصنو المثل ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « عم الرجل صنو أبيه » فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون ، والأكل الثمر الذي يؤكل . قاله الزجاج . وعن غيره أنه عام في جميع المطعومات . وإنما ختم الآية السابقة بقوله : { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } وهذه بقوله : { لقوم يعقلون } لأن المقام الأوّل يحتاج إلى التفكر لأن الفلاسفة يسندون الحوادث السفلية إلى الآباء الأثيرية والأمهات العنصرية ، لكن العاقل إذا تفكر في اختصاص كل ممتزج بحيز معين وشكل معين وطبيعة وخاصية مخالفتين لغيره علم أن كل هذه الاختلافات لا تستند إلى أشعة كواكب معدودة ولا إلى طبائع عناصر محصورة كما أشير إلى ذلك بقوله : { وفي الأرض قطع } الآية . ولئن سلم أن الاتصالات الفلكية واختلافات الفواعل والقوابل قد ترتقي إلى حد يظهر منها هذه الآثار فلا بد لكل سبب من الانتهاء إلى مسبب لا سبب فوقه وليس ذلك إلا الله وحده ، فهذا مقام لا يجحده إلا عادم عقل بل فاقد حس . والحاصل أن التفكر في الآيات يوجب عقلية ما جعلت الآيات دليلاً عليه فهو الأوّل المؤدي إلى الثاني والله ولي التوفيق .
ثم عاد سبحانه إلى ذكر المعاد فقال : { وإن تعجب } قال ابن عباس : إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا أنك من الصادقين ، فهذا أعجب . أو إن تعجب من عبادتهم الأصنام بعد الدلائل الدالة على التوحيد ، أو إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم اعترفوا بأنه تعالى رفع السموات بغير عمد وسخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وأظهر الغرائب والعجائب في عالم الخلق ، ثم أنكروا الإعادة التي هي أهون وأسهل . قال المتكلمون : موضع العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حقه تعالى محال ، فالمراد وإن تعجب { فعجب } عندك { قولهم } وإن سلم أن المراد عجب عند الله كما قرىء في الصافات { بل عجبت } [ الصافات : 12 ] بضم التاء فتأويله أنه محمول على النهاية لا على البداية أي منكر عند الله ما قالوه فإن الإنسان إذا تعجب من شيء أنكره . قال في الكشاف { أئذا كنا } إلى آخر قولهم ، يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم ، وأن يكون منصوباً بالقول . وإذا نصب بما دل عليه قوله : { أئنا لفي خلق جديد } وهو نبعث أو نحشر . ثم حكم عليهم بأمور ثلاثة : الأول { أولئك الذي كفروا بربهم } يعني أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وذلك أن إنكار البعث لا يكون إلا عن إنكار القدرة أو عن إنكار كمالها بأن يقال : إنه موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثير الطبائع والأفلاك او إنكار العلم بأن يقال : إنه غير عالم بالجزيئات فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي ، أو تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ، أو إنكار الصدق كما إذا قيل : إنه أخبر عنه ولكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه كما لا يكذب أحدنا بناء على مصلحة عامة أو خاصة وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلاً عن جميعها .

والثاني : { وأولئك الأغلال في أعناقهم } قال الأصم : المراد بذلك كفرهم . وذلتهم وانقيادهم للأصنام . يقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء إذا كان لازماً له وهو مصر على فعله . وقال آخرون : هو من جملة الوعيد . ولا بد من تجوّز على القولين : أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن المراد أنه سيحصل هذا المعنى . والظاهر أنه حاصل في الحال ويؤيد القول الثاني قوله : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } والأول قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } [ يس : 8 ] والثالث : { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وربما يستدل الأشاعرة به أن الصيغة للحصر فيدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار ، ويمكن أن يناقش في إفادتها الحصر .
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب الآخرة وكانوا ينكرون البعث لذلك كما تقدم ، ويخوفهم تارة أخرى بعذاب الدنيا فيستعجلونه به زعماً منهم أنه كلام لا أصل له وإلى هذا أشير بقوله : { ويستعجلونك بالسيئة } بالعذاب والعقوبة التي تسوءهم . { قيل } تمام { الحسنة } وهي العافية والإحسان إليهم بالإهمال والتأخير { وقد خلت من قبلهم المثلات } أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها؟ وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه لأن العقاب مماثل للمعاقب عليه ومنه « المثلة » بالضم والسكون لتقبيح الصورة بقطع الأنف والأذن وسمل العين ونحو ذلك ، وذلك أنه ليس تغييراً كلياً لا يماثل الصورة الأولى وإنما ذلك تغيير تبقى الصورة معه قبيحة . { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } قالت الأشاعرة : فيه دلالة على جواز العفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن قوله : { على ظلمهم } حال منهم ، ومن المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائباً لكن الآية دلت على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل الاشتغال بالتوبة ترك العمل بها في حق الكافر فيبقى معمولاً بها في حق أهل الكبائر . لا يقال : إن المراد من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة ليقع جواباً عن استعجالهم . أو ألمراد غفران الصغائر لمجتنب الكبائر ، أو غفران الكبائر بشرط التوبة فإن تاب وإلا فهو شديد العقاب لأنا نقول : تأخير العقاب إلى الآخرة لا يسمى مغفرة وإلا كان غافراً للكفار . وأيضاً إنه تعالى مدح نفسه بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل لا بأداء الواجب . وعندكم يجب غفران الصغائر لمن اجتنب الكبائر . . وجواب الباقي ما مر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد »

قال أهل النظم : إن الكفار طعنوا في نبوته بسبب الطعن في الحشر والنشور ، ثم طعنوا في نبوّته بسبب استبطاء نزول العذاب ، ثم طعنوا في نبوّته بسبب عدم الاعتداد بمعجزاته وذلك قوله : { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } وقد تقدم مثل هذا في « الأنعام » في تفسير قوله : { وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه } [ الأنعام : 8 ] ويجيء مثل هذه بعينها في هذه السورة . قيل : وليس بتكرار محض لأن المراد بالأول آية مما اقترحوا نحو ما في قوله : { لن نؤمن لك حتى تفجر } [ الإسراء : 90 ] الآيات وبالثاني آية ما لأنهم لم يهتدوا إلى أن القرآن آية فوق كل آية وأنكروا سائر آياته صلى الله عليه وسلم ، أو لعلهم ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات فأجاب سبحانه تسلية لرسوله { إنما أنت منذر } ما عليك إلا الإتيان بما يصح به دعوى إنذارك ورسالتك { ولكل قوم هاد } من الأنبياء يدعوهم إلى الله بوجه من الهداية والإرشاد يليق بزمانه وبأمته . ولم يجعل الأنبياء شرعاً في المعجزات فعلى هذا التقدير المنذر النبي والهادي نبي إلا أن الأول محمد والثاني نبي كل زمان . وقيل : المنذر محمد والهادي هو الله تعالى قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك . والمعنى أنهم إن جحدوا كون القرآن معجزاً فلا يضيقن قلبك بسببه فما عليك إلا الإنذار . وأما الهداية فمن الله . وقيل : المنذر النبي والهادي هو علي . روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فقال : أنا المنذر وأومأ إلى منكب علي فقال : وأنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون بعدي قاله في التفسير الكبير .
ثم أكد المعاني المذكورة في الآيات السابقة بقوله : { الله يعلم } لأنه إذا كان عالماً بجميع المعلومات قدر على تمييز أجزاء بدن كل مكلف من غيره فلا يستنكر منه البعث ، ويكون نزول العذاب مفوّضاً إلى عمله فلا يجوز استعجاله به ، وكذا إنزال الآيات يكون موكولاً إلى تدبيره فإن علم أن المكلفين اقترحوها لأجل الاسترشاد ومزيد البيان أظهرها الله تعالى لهم وإلا فلا ، وفيه أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره أمر مدبر بالعلم النافذ مقدر بالحكمة الربانية . وعلى القول الثاني فيه أن من هذه قدرته وهذاعلمه وهو القادر وحده على هدايتهم بأي طريق شاء ، وعلى هذا احتمل أن يكون { الله } خبر مبتدأ محذوف والجملة مفسرة ل { هاد } أي هو الله . ثم ابتدأ فقيل : { يعلم } { ما تحمل كل أنثى } قال في الكشاف : لفظة « ما » في { ما تحمل } و { ما تغيض } و { ما تزداد } إما أن تكون مصدرية والمعنى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها أو غيوض ما فيها وزيادته على أن الفعلين غير متعديين فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها .

والازدياد « افتعال » من زاد فأبدلت التاء دالاً ، وإنه يتعدى ولا يتعدى كثلاثيه . أو موصولة والمراد يعلم ما تحمله من الولد ذكورته وأنوثته وتخاطيط أعضائه وسائر أحواله من السعادة وضدها ومن العلم وضده إلى غير ذلك ، ويعلم ما تغيضه الأرحام أي تنقصه كقوله : { وغيض الماء } [ هود : 44 ] وما تزداده من العدد فقد يكون واحداً وأكثر ، ومن الخلقة فقد يكون تماماً أو مخدجاً ، ومن المدة فقد يكون أقل من تسعة أشهر أو أزيد إلى سنتين عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك ، ومن دم الحيض . قال ابن عباس : كلما سال الحيض يوماً زاد في مدة الحمل يوماً ليحصل الجبر ويعتدل الأمر . ثم بين كمال علمه ونفاذ أمره بقوله : { وكل شيء عنده بمقدار } واحد لا يتجاوزه في طرفي التفريط والإفراط ، والمراد بالعندية العلم كما يقال : هذه المسألة عند الشافعي كذا . وذلك أنه سبحانه خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة حسب مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية . وقال حكماء الإسلام : وضع أسباباً كلية وأودع فيها قوى وخواص وحرك الأجرام بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات معلومة مقدّرة ، ومن جملتها أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم ولذلك ختم الآية بقوله : { عالم الغيب والشهادة } أي هو عالم بما غاب عن الحسن وبما حضر له ، أو بما غاب عن ا لخلق وبما شهدوه أو بالمعدومات وبالموجودات { الكبير } في ذاته لا بحسب الحجمية بل بالرتبة والشرف لأنه أجل الموجودات { المتعال } المنزه عن كل ما يجوزعليه في ذاته في صفاته وفي أفعاله .
ثم زاد في التأكيد فقال : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به } أي مستوفى علمه هذان لأنه يعلم السر كما يعلم الجهر لا يتفاوت في علمه أحد الحالين { و } سواء عنده { من هو مستخف بالليل وسارب } على أن { سارب } معطوف على { من } لا على { متسخف } ليتناول معنى الاستواء شخصين : أحدهما مستخف والآخر سارب . وإلا فلم يتناول إلا واحداً هو مستخف وسارب إلا أن يكون « من » في معنى الاثنين حتى كأنه قيل : سواء منكم اثنان متسخف بالليل وسارب { بالنهار } وفي المستخفي والسارب قولان : أحدهما أن المستخفي هو المستتر الطالب للخفاء في ظلمة الليل ، والسارب من يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد . يقال : سرب في الأرض سروباً أي ذهب في سربه بالفتح والسكون وهو الطريق ويؤديه قول مجاهد : معناه سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي . وثانيهما نقل الواحدي عن الأخفش وقطرب : المستخفي الظاهر من قولهم : « اختفيت الشيء » أي استخرجته ، والسارب المتواري الداخل سرباً بفتحتين ومنه انسرب الوحش إذا دخل في كناسه .

وهذا وإن صح من حيث اللغة لكن قرينتي الليل والنهار إنما تساعدان القول الأول ، ولهذا أطبق أكثر المفسرين عليه . ثم ذكر ما يجري في الظاهر مجرى السبب لاستواء علمه بحال المسر والمعلن فقال : { له } أي لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب { معقبات } جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته . والأصل معتقبات فأدغمت ، أو هو على أصله من عقبه بالتشديد إذا جاء على عقبه لأن بعضهم يعقب بعضاً ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه . والتأنيث للمبالغة نحو « نسابة » و « علامة » ، أو لأنه جمع معقبة أي ملائكة معقبة أو جماعة معقبة . وقوله : { من أمر الله } ليس من صلة الحفظ لأنه قدرة للملك ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحداً من قضاء الله وإنما هو صفة أخرى كأنه قيل : له معقبات من أمر الله يحفظونه ، أو له معقبات يحفظونه ، ثم بين سبب الحفظ فقال : { من أمر الله } أي من أجل أن الله أمرهم بحفظه فمن بمعنى الباء وقرأ به عليّ وابن عباس وغيرهما ، ويجوز أن يكون صلة على معنى يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب . قال ابن جريج : هو مثل قوله تعالى : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق : 17 ] صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات . وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته . وقيل : المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه لأن كلاّ من المستخفي والسارب إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من الجهتين .
وما الفائدة في تسليط هؤلاء على ابن آدم؟ قال علماء الشريعة : إن الشياطين يدعون إلى المعاصي والشرور وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات بالإلهامات الحسنة والإخطارات الشريفة . وإذا علم ابن آدم أن معه ملائكة يحصون عليه أفعاله وأقواله استحيا منهم وكان ذلك له رادعاً قوياً ، وقد مر في هذا الباب كلام في « الأنعام » في قوله : { ويرسل عليكم حفظةً } فليتذكر { الآية : 61 ] . وللآية تفسير آخر منقول عن ابن عباس وختاره أبو مسلم الأصفهاني قال : المعقبات الحرس وأعوان الملوك ، والجملة وهي قوله : { له معقبات } صفة للمستخفي والسارب أو حال منه لكونه نكرة موصوفة أي يستوي في علم الله السر والجهر ، والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار مستظهراً بالمعاونين والأنصار . والمقصود بعث الأمراء والسلاطين على أن يطلبوا الخلاص عن المكاره بعصمة الله لا بالحرس والأعوان ولذلك ختم الآية بقوله : { وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم .

قالت الأشاعرة : في هذا الكلام دلالة على أن العبد غير مستقل في الفعل لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى حكم بكونه مستحقاً للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، فلو كان العبد مستقلاً لحصل الإيمان وكان راداً لقضاء الله تعالى . وقالت المعتزلة : هذا معارض بما تقدم عليه من كلام الله وهو قوله : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } لأنه لو ابتدأ بالعبد أول ما يبلغ بالضلال والخذلان كان ذلك من أعظم العقاب مع أنه ما كان منه تغيير . قالوا : وفيه دليل على أنه لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله ما بهم من النعمة إلى العقاب . أجابت الأشاعرة بأن هذا راجع إلى قوله : { ويستعجلونك } بين الله سبحانه بذلك أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر حتى قالوا : إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في أعقابهم من يؤمن فإنه لا يستأصلهم . ورد بأن هذا خلاف الظاهر وقد صرح بذلك في سورة الأنفال في قوله : { ذلك بأن لله لم يك مغيراً } [ الآية : 53 ] الآية . والحق أن ترتب النقمة على تغيير النعمة لا ينافي استناد تغيير النعمة إليه فإنه مبدأ المبادىء وانتهاء الوسائط وسبب الأسباب .
التأويل : { المر } الألف الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، اللام له مقاليد السموات والأرض ، الميم مالك يوم الدين ، الراء رب العالمين من الأزل إلى الأبد أقسم بهذه الأمور أن الذي أنزل على عبده محمد هو الحق ، وأنه حبل الله الذي به يوصل المؤمن من هبوط عالم الطبيعة إلى ذروة عالم الحقيقة لأنه { الله الذي رفع السموات } المحسوسة { بغير عمد } فكما أنه رفع السموات بقدرته فكذلك رفع الدرجات برحمته ، أو كما أنه رفع السموات المحسوسة بعمد القدرة كذلك يرفع سموات القلوب بجذبة العناية ، وسخر شمس الروح وقمر القلب أو النفس لتدبير مصالح العالم الصغير . وإنما تظهر هذه الغرائب والعجائب لحصول كمال الإيقان بالرجوع إلى الله والفناء فيه بل البقاء به . ومن حسن تدبيره أنه مد أرض البشرية وجعل فيها رواسي من الأوصاف الروحانية وأنهاراً من منابع العناية ، { ومن كل الثمرات } وهي الملكات والأخلاق { جعل فيها زوجين اثنين } ملكة روحانية حميدة وأخرى نفسانية وذميمة . فالأولى نورانية كالنهار والأخرى ظلمانية كالليل ، يغلب هذه تارة وتلك أخرى وهذا معنى قوله : { يغشي الليل النهار } وفي أرض الإنسانية { قطع متجاورات } هي النفس والقلب والروح السر والخفي حيوانية وملكوتية روحانية وجبروتية وعظموتية { وجنات } هي هذه الأعيان المتسعدة لقبول الفيض عند بلوغها { من أعناب } هي ثمرة النفس من الصفات التي هي أصل الإسكار كالغفلة والحمق والسهو واللهو { وزرع } هو ثمرة القلب فإن القلب كالأرض الطيبة التي منها غذاء الروح { ونخيل } هو الروح ذو الأخلاق الحميدة كالكرم والجود والشجاعة والقناعة والحياء والتواضع والشفقة { صنوان } هو السر الجبروتي الكاشف عن أسرار الجبروت بين الرب والعبد فإنه إذا حكى السر للعبد كان المحكى مثالاً لما عليه الوجود { وغير صنوان } هو الخفي الواقف على أسرار العظموت التي لا مثل لها ولا أمثال ولا تحكى لعبده كما قال

{ فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] وكما قال :
بين المحبين سر ليس يفشيه ... { يسقى بماء واحد } هو ماء القدرة والحكمة { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } أي ما في استعداد كل مستعد من الفضائل ، أو ما في كل ذرّة من ذرّات المكونات من الخواص والطبائع ، أو ما في كل منها من الآيات الدالة على موجدها { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] { وما تغيض الأرحام وما تزداد } أي ما يظهر من تلك الآيات الاستعدادات في جانبي التفريط والإفراط ، والمراد ما ينقص من أرحام الموجودات أو المعدومات فمهما أوجد شيء نقص من رحم العدم واحد وزاد في رحم الوجود واحد وبالعكس في جانب الإعدام . مستخف بليل العدم وظاهر النهار الوجود له أي لله معقبات من العلم والقدرة من بين يدي المعلوم ومن خلفه أي في حالتي عدمه ووجوده من أزله إلى أبده { يحفظونه من أمر الله } أي لأجل أمره حتى لا يخرج من قبضة تدبيره { إن الله لا يغير ما بقوم } من الوجود والعدم { حتى يغيروا ما بأنفسهم } من استدعاء الوجود أو العدم بلسان استحقاق الوجود أو العدم كما تقتضيه حكمته وتدبيره .

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)

القراآت : { كباسط } مثل { بسطة } [ البقرة : 247 ] وقد مر في البقرة { أم هل يستوي } بيان تحتانية : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل : الآخرون بتاء التأنيث . { يوقدون } على الغيبة : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون : على الخطاب إما للكفرة في قوله : { قل أفاتخذتم } وإما للمكلفين على العموم كما في القراءة الأخرى والضمير يعود إلى الناس المعلوم من سياق الكلام . الوقوف : { الثقال } 5 ج لاختلاف الفاعل مع اتفاق اللفظ { من خيفته } ج لذلك { في الله } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { المحال } 5 ط للآية وانقطاع النظم { دعوة الحق } ط { يبالغه } ط { ضلال } 5 { والآصال } 5 { والأرض } ط { قل الله } ط { ولا ضراً } ط { والبصير } 5 ط للعطف { والنور } ج لاحتمال أن يكون هذا الاستفهام بدلاً عن الأوّل { عليهم } ط { القهار } 5 { رابياً } ط { مثله } ط { والباطل } ط { جفاء } ج لاتفاق الجملتين مع كون « أما » للتفصيل { في الأرض } ط { الأمثال } 5 ط { الحسنى } ط { لافتدوا به } ط { الحساب } 5 لا { جهنم } ج { المهاد } 5 { هو أعمى } ط { الألباب } 5 لا { الميثاق } ط للعطف { سوء الحساب } 5 ط { الدار } ه لأن قوله : { جنات عدن } بدل من { عقبى } { من كل باب } 5 ج لحق المحذوف أي قائلين . { عقبى الدار } ط { في الأرض } لا { سوء الدار } 5 { ويقدر } ط { الدنيا } ط { متاع } ز { من ربه } ط { أناب } 5 { بذكر الله } الأوّل ط { القلوب } 5 { مآب } 5 .
التفسير : لما خوّف عباده بإنزال ما لا مردَّ له أتبعه دلائل تشبه اللطف من بعض الوجوه والقهر من بعضها وهي أربعة : البرق والسحاب والرعد والصاعقة . وقد مر في أوّل سورة البقرة تفسير هذه الألفاظ وقول الحكماء في أسباب حدوثها . وانتصاب { خوفاً وطعماً } إما على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وطمع ، أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين ، وإما على أنه مفعول له على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع . وإنما وجب تقدير المضاف ليكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل كما هو شرط نصب المفعول له . ومعنى الخوف والطمع من وقوع الصواعق والطمع في نزول الغيث . وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر إما بحسب الزمان وإما بحسب المكان ، فمن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ويطمع فيه من له فيه نفع . وعن ابن عباس أن اليهود سألت النبي عن الرعد فقال : ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب . فعلى هذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك الموكل المسمى بالرعد . وعن الحسن . خلق الله ليس بملك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

« إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق » وهذا غير مستبعد من قدرة الله وخصوصاً عند من لا يجعل البنية شرطاً في الحياة . وقيل : المضاف محذوف أي يسبح سامعو الرعد من العباد الراجلين للمطر حامدين له أو متلبسين بسبحان الله والحمد لله . وعن علي رضي الله عنه : سبحان من سبحت له . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا اشتد الرعد : « اللَّهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك » وقيل : معنى تسبيح الرعد أن هذا الصوت المخصوص لهوله ومهابته يدل على وجود إله قهار كقوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] . قال في الكشاف : ومن بدع المتصوّفة الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم . والمطر بكاؤهم . أما قوله : { والملائكة من خيفته } أي ويسبح الملائكة من هيبته وجلاله فقد ذكر جمع من المفسرين أنه عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعواناً . قال ابن عباس : إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من على يمينه ومن على يساره ولم يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء . وقالت الحكماء : إنما تتم الآثار العلوية بقوى روحانية فلكية ، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار فهذا هو المراد بالملائكة في الآية . قوله : { ويرسل الصواعق } قد عرفت أنها نار تتولد من السحاب وتنزل بقوّة شديدة فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان . ووجه الاستدلال بها على الصانع أن النار حارة يابسة وطبيعة السحاب يغلب عليها الرطوبة والبرودة للأجزاء المائية فيه ، وحصول الضد من الضد لا يكون بالطبع وإنما يكون بتدبير القادر المختار وتسخيره .
ولما بين دلائل كمال العلم في قوله : { والله يعلم } ودلائل كمال القدرة في هذه الآية قال : { وهم يجادلون في الله } لأن إنكار المدلول بعد وضوح الدليل جدال بالباطل وعناد محض ، ويحتمل أن تكون الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم ويؤكده ما روي عن ابن عباس في رواية أبي صالح وابن جريج وابن زيد أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد بن ربيعة أقبلا يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من أصحابه . يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك . فقال : دعه فإن يردِ الله به خيراً يهده . فأقبل حتى قام عليه فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت . فقال : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم . قال تجعل لي الأمر بعدك . قال : لا ليس ذلك إليّ إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء قال : فتجعلني على الوبر وأنت على المدر . قال : لا .

قال : فماذا تجعل لي؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها . قال : أوليس ذلك إليّ اليوم؟ وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر عليه من خلفه فاضربه بالسيف . فجعل يخاصم رسول الله ويراجعه ويجادل في الله يقول أخبرني عن ربك أمن نحاس هو أم من حديد ، فدار أربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه فاخترط من سيفه شبراً ثم حبسه الله فلم يقدر على سله ، وجعل عامر يومىء إليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه فقال : اللَّهم أكنفيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته وولى عامر هارباً وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً وفرساناً مرداً . فقال رسول الله : يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة - يريد الأوس والخزرج - فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحه وخرج وهو يقول : واللات لئن أصحر إليّ محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنهما برمحي فأرسل الله إليه ملكاً فلطمه بجناحه فأذراه في التراب وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : أغدّة كغدة البعير وموت في بيت السلولية؟ ثم مات على ظهر فرسه وأنزل الله الآية في هذه القصة . قوله : { وهو شديد المحال } معناه شديد المكر والكيد لأعدائه ، والمماحلة شدة المماكرة ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان ومنه الحديث : « اللَّهم اجعله - أي القرآن - لنا شافعاً مشفعاً ولا تجعله علينا ماحلاً مصدّقاً » ومن سنة المحل لشدتها وصعوبة أمرها . وأما عبارات المفسرين فقال مجاهد وقتادة : شديد القوّة . أبو عبيدة : شديد العقوبة . الحسن : شديد النقمة . وقيل : شديد الحقد ومعناه راجع إلى إرادة إيصال الشر إلى مستحقه مع إخفاء تلك الإرادة عنه ثم أثنى على نفسه بالحقية وشهد على الأصنام بالبطلان فقال : { له دعوة الحق } فأضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إلى الحق والمراد أنه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة إذا أراد فهو حقيق بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا فائدة في دعائه . وعن الحسن : الحق هو الله والمعنى له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في الكافرين حين دعا عليهما . وعن ابن عباس : دعوة الحق قوله لا إله إلا الله . وقيل : الدعوة العبادة فإن عبادته هي الحق والصدق وقد سلف تحقيق الحق في أوّل هذا الكتاب في تفسير البسملة . { والذين يدعون من دونه } أي الآلهة الذين يدعوهم أو يعبدهم الكفار من دون الله . { لا يستجيبون لهم بشيء } إلا استجابة كاستجابة الماء من بسط يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر به .

والحاصل أن الكفار وذلك الطالب كليهما مشترك في الخيبة لاشتراكهما في دعاء الجماد . وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشراً أصابعه فلا جرم لا يبلغ طلبته . ثم أكد خيبتهم بقوله : { وما دعاء الكافرين إلى في ضلال } في ضياع وذهاب عن المنفعة لأنهم إن دعوا الله لا يجيبهم لحقارة أمرهم عنده ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع أجابتهم .
ثم زاد في الثناء فقال : { ولله يسجد من في السموات والأرض } فإن كان السجود بمعنى وضع الجبهة فذلك ظاهر في المؤمنين لأنهم يسجدون له { طوعاً } أي بسهولة ونشاط { وكرهاً } أي على تعب واصطبار ومجاهدة . وأما في حق الكفار فمشكل ووجهه أن يقال : المراد حق له أن يسجد لأجله جميع المكلفين من الملائكة والثقلين فعبر عن الوجوب بالوقوع ، وإن كان بمعنى الانقياد والخضوع والاعتراف بالإلهية وترك الامتناع عن نفوذ مشيئته فيهم فلا إشكال نظيره قوله : { وله أسلم من في السموات والأرض } [ آل عمران : 83 ] وقد مر في « آل عمران » أما قوله : { وظلالهم } فقد قال جمع المفسرين . كمجاهد والزجاج وابن الأنباري : لا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاماً تسجد بها لله وتخضع له كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه فظل المؤمن يسجد لله طوعاً وهو طائع وظل الكافر يسجد لغير الله كرهاً ويسجد لله طوعاً . وقال آخرون : المراد من سجود الظلال تقلصها وامتدادها بحسب ارتفاع الشمس وانحطاطها فهي منقادة مستسلمة لما أتاح لله لها في الأحوال . وتخصيص الغدوّ والآصال بالذكر لغاية ظهورها وازديادها في الوقتين . ومعنى الغدّو والآصال قد مر في آخر « الأعراف » . واعلم أنه سبحانه ذكر آية السجدة في النحل بعبارة أخرى فقال : { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة } [ الآية : 49 ] لأنه تقدم ذكر ما خلق الله على العموم ولم يكن فيه ذكر الملائكة ولا الإنس بالصريح فعمم ليشمل الإنس وصرح بالملائكة . وقال في « الحج » { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض } [ الحج : 18 ] بتكرير « من » لأنه تقدم ذكر المؤمنين وسائر الأديان فقدم ذكر { من في السموات } تعظيماً لهم ولها وذكر { من في الأرض } لأنهم هم الذين تقدم ذكرهم . وأما في هذه السورة فقد تقدم ذكر العلويات من الرعد والبرق ، ثم ذكر الملائكة وتسبيحهم ، ثم انجر الكلام إلى ذكر الأصنام والكفار فبدأ في آية السجدة بذكر من في السموات والأرض وذكر الأرض تبعاً ولم يذكر من فيها استخفافاً بالكفرة وأصنافهم فتبين أنه أورد كل آية بما لاق بمقامها والله تعالى أعلم بمراده .

ثم أخبر عن التسخير بسؤال التقرير ردّاً على عبدة الأصنام فقال : { قل من رب السموات والأرض قل الله } وهذه حكاية لاعترافهم لأنهم كانوا يعترفون بأنه الإله الأعظم وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك؟ فإذا قال هذا قولي قال هذا قولك فيحكي إقراره استئنافاً منه يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت وذلك قوله : { قل أفاتخذتم } ويجوز أن يكون تلقيناً لما ليسوا منكرين له . والهمزة في { أفاتخذتم } للإنكار والمعنى أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم { من دونه أولياء } جمادات عجزة عن تحصيل المنافع والمضارّ لأنفسهم فضلاً عن غيرهم . وموضع الإنكار أنهم جعلوا ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من العلم والإقرار سبب الإشراك ، ثم جعلوا مع ذلك أخس الأشياء مكان أشرف الذوات وهذا جهل لا مزيد عليه فلهذا شبههم بالأعمى وشبه جهالتهم بالظلمات وأنكر أن يكون شيء منهما مساوياً لنقيضه فقال : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } جمع الظلمات ووحد النور لأن السبل المنحرفة غير محصورة والصراط المستقيم واحد . ثم أكد الإنكار المذكور بقوله : { أم جعلوا } والمراد بل جعلوا { لله شركاء } خالقين مثل خلقه { فتشابه الخلق } أي خلق الله وخلقهم { عليهم } أي ليس لهذه الشركاء خلق مثل خلق الله حتى يشتبه الأمر عليهم بل ليس لهم خلق أصلاً بل كان ما سوى الله عاجز عن الخلق بدليل قوله : { قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } المتوحد بالربوبية الذي لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور . قالت المعتزلة : للعبد فعل وتأثير ولكنا لا نقول إنه يخلق كخلق الله لأن العبد يفعل لجلب منفعة أو دفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك . وأجيب بأن المخالفة من بعض الوجوه لا تقدح في المماثلة من وجه آخر ، فلو كان فعل العبد كالتحريك مثلاً واقعاً بقدرته لكان مثلاً للتحريك الواقع بقدرة الله تعالى وهذا الإشكال وارد أيضاً على من يثبت للعبد كسباً . ثم ضرب مثلاً آخر للحق وذويه والباطل ومنتحليه فقال : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية أي مياهها والوادي الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل . وقيل : الوادي اسم للماء من ودى إذا سال ، والمعنى سالت مياه . قال الفارسي : لا نعلم فاعلاً جمع على « أفعلة » إلا هذا وكأنه حمل على « فعيل » فجمع على « أفعلة » كجريب وأجربة كما أن فعيلاً حمل على فاعل فجمع على « أفعال » مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر . وقال غيره : نظير وادٍ وأودية نادٍ وأندية . ومعنى التنكير في أودية أن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوية بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض . قال في الكشاف : معنى { بقدرها } بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم بدليل قوله : { وأما ما ينفع الناس } وقال الواحدي : معناه سالت مياه الأودية بقدر الأودية فإن صغر الوادي قل الماء وإن استع كثر الماء .

والزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ونحوه . ومعنى { رابياً } قال الزجاج : طافياً فوق الماء . وقال غيره : زائداً بسبب انتفاخه من ربا يربو إذا زاد . ثم قال سبحانه إظهاراً للكبرياء كما هو ديدن الملوك { ومما يوقدون عليه } « من » لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء . أو للتبعيض بمعنى بعضه زبد مثله أراد به الأجسام المتطرقة المتفرقة الرابية . والإيقاد على الشيء قسمان : أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار كالآجر في قوله : { أوقد لي ياهامان على الطين } [ القصص : 38 ] والثاني أن يكون في النار كأنواع الفلز ولهذا قال ههنا بزيادة لفظة { في النار } قال في الكشاف : فائدة قوله { ابتغاء حلية أو متاع } مثل فائدة قوله { بقدرها } لأنه جميع بين لماء والفلز في النفع في قوله : { وأما ما ينفع الناس } أي وأما ما ينفعهم به من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع بالفلز وهو اتخاذ الحلي من الذهب والفضة واتخاذ سائر أثاث البيت وأمتعته من الحديد والنحاس والرصاص والأسرب وما يتركب منها والمتاع كل ما تمتع به . { وكذلك يضرب الله الحق والباطل } أي يضرب الأمثال للحق والباطل ومثله في آخر الآية فاختصر الكلام بأن حذف الأمثال من الأوّل والحق والباطل من الثاني تأكيداً للمقصود مع رعاية الاختصار . ثم شرع في تتميم المثل قائلاً { فأما الزبد فيذهب جفاء } نصب على الحال وهو اسم لما ينفيه السيل . يقال : جفأ الوادي بالهمزة جفأ إذا رمى بالقذر والزبد ، وكذلك القدر إذا رمت بزبدها عند الغليان { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } حاصل المثل أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء النافع في العيون والآبار والأنهار ، وكذا الأجساد المتطرقة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويتلاشى ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به أزمنة متطاولة . وتطبيق المثل على الحق والباطل أنه سبحانه أنزل من سماء الوحي ماء بيان القرآن فسالت أودية القلوب بقدرها فإن كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علم القرآن ما يليق بذلك القلب على قدر استعداده . ثم إنه يختلط بذلك البيان شكوك وشبهات ولكنها بالآخرة تضمحل ويبقى العلم واليقين ، فزبد السيل والفلز مثل للباطل في سرعة اضمحلاله وانسلاخه من المنفعة ، والماء والفلز الصافي مثل للحق في البقاء والانتفاع به .
ثم ذكر أحوال السعداء وتبعات الأشقياء فقال { للذين استجابوا لربهم } أي فيما دعاهم إليه من التوحيد والنبوة والتكاليف { الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة { والذين لم يستجيبوا له } مبتدأ آخر خبره الجملة الشرطية بعده .

وقيل : إن الكلام متصل بما قبله أي يضرب الله الأمثال لهذين الفريقين . وقوله : { الحسنى } صفة لمصدر استجابوا أي الاستجابة الحسنى . وقوله : { لو أن لهم } كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين ومن ذلك قوله { أولئك لهم سوء الحساب } قال الزجاج : لأن كفرهم أحبط أعمالهم . وقال غيره : سوء الحساب المناقشة فيه . وعن النخعي : هو أن يحاسب الرجال بذنبه كله لا يغفر منه شيء . وقال الحكماء : هو ظهور آثار الملكات الردية والهيئات الذميمة على النفس ولم يكن قبل ذلك له شعور بها لاشتغاله بعالم الحس . { ومأواهم جهنم } لأنهم أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن المولى فلا جرم إذا ماتوا فارقوا معشوقهم فأورثهم الحرمان والخسران والاحتراق بنار الفراق . ثم أنكر بعد هذه البيانات أن يسوّى بين الناقد والبصير والجاهل الضرير فقال { أفمن يعلم أنما } أي أن الذي { أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } القلب { إنما يتذكر } أي لا ينتفع بالأمثال إلا { أولوا الألباب } الذي يعبرون من القشر إلى الباب . ثم وصفهم بقوله : { الذين يوفون بعهد الله } ويجوز أن يكون نصباً على الندح وأن يكون مبتدأ خبره { أولئك } أما عهد الله فعن ابن عباس : هو المذكور في قوله : { وإذا أخذ ربك من بني آدم } [ الأعراف : 172 ] وقيل : هو كل ما قام عليه دليل عقلي أو سمعي من الأفعال والتروك ولا عهد أوكد من الحجة بدليل أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به إذا ثبت بالدليل جوازه { ولا ينقضون الميثاق } تأكيد للوفاء بالعهد بعبارة أخرى تلزم الأولى كقولك : لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه . وقيل : الوفاء بعهد الله إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء ، وعدم نقض الميثاق أراد به ما التزمه العبد بالنذر . وقيل : الوفاء بالعهد عهد الربوبية والعبودية والميثاق أعم لشموله كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله ومن سائر المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد ، والوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع كلها قال صلى الله عليه وسلم : « من عاهد الله فغدر كانت فيه خصلة من النفاق » { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } إفراد لما بينه وبين العباد بالذكر فقيل : المراد صلة الرحم . وقيل : هو مؤازة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته ونصرته في الجهاد . وقيل : رعاية جميع حقوق الناس بالشفقة عليهم والنصيحة في كل حال وكل حين ومن ذلك عيادة المريض وشهود الجنائز ومراعاة الرفقاء والجيران والخدم ومن يطيف به حتى الهرة والدجاج { ويخشون ربهم } وإن أتوا بكل ما قدروا عليه في باب التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله خوفاً من وعيده كله { ويخافون } خصوصاً { سوء الحساب } ويلزم ذلك أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا .

وقيل : الخشية نوعان : خشية الجلال كالعبد إذا حضر بين يدي السلطان ومن ذلك خشية الملائكة { يخافون ربهم من فوقهم } { النحل : 50 ] وإلى هذا أشار بقوله : { ويخشون ربهم } وخشية أن يقع في العبادة خلل أو نقص يوجب فسادها أو نقصان ثوابها . وإليه الإشارة بقوله : { ويخافون سوء الحساب } .
{ والذين صبروا } عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى المصائب { ابتغاء وجه ربهم } لا لأجل أن يقال ما أورعه وما أزهده وما أصبره وغير ذلك من الأغراض الفاسدة ، وإنما يصبر على التكاليف لأنها أحكام المعبود الحق ويصبر على الرزايا لأنها قسمة قسام متصرف في ملكه كيف يشاء ، أو لأنه مشغول بالمقدر والقاضي لا بالقدر والقضاء . وقد يرضى العاشق بالضرب والإيلام لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه فهكذا العارف يصبر على البلايا والمحن لاستغراقه في بحر العرفان وفيضان أنوار المعروف عليه . { وأقاموا الصلاة } ولا يمتنع دخول النوافل فيها لقوله : « ما زال العبد يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحببته » { وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية } يتناول النفل لأنه في السر أفضل ، والفرض لأنه في الجهر أفضل كما مر في أواخر سورة البقرة { ويدرءُون بالحسنة السيئة } أي يدفعون بالتوبة وهي الخصلة الحسنة المعصية . قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل « إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها » وقيل لا يقابلون الشر بالشر وإنما يقابلونه بالخير كما روي عن الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا قطعوا وصلوا . وعن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيىء غيرهم . يروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متفكراً فقال : من أين أتيت؟ قال : من بلخ . فقال : وهل تعرف شقيقاً؟ فقال : نعم . فقال : كيف طريقة أصحابه؟ فقال : إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا فقال عبد الله : هكذا طريقة كلابنا ، وإنما الكاملون الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا . وقيل مراد الآية أنهم إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره { أولئك لهم عقبى الدار } عاقبة الدنيا وهي الجنة التي أرادها الله تعالى أن تكون مرجع أهلها . والعقبى مصدر كالعاقبة ومثله البشرى والقربى ، ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل والمعنى أولئك لهم أن يعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة . ومعنى { جنات عدن } تقدم في سورة براءة { ومن صلح } معطوف على فاعل { يدخلونها } ويجوز أن يكون مفعولاً معه . قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم . وقال الزجاج : بين أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة . قال الواحدي : والأول أصح لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة فلو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ، ويمكن أن يوجه قول الزجاج بأن المقصود بشارة المؤمن بأن أهل الصلاح من أصوله وفصوله وأزواجه يجتمعون به في دار الثواب فقد يمكن أن يكونوا جميعاً في الجنة ولا يجتمعون في موضع .

ولقائل أن يقول : الدخول أعم من الاجتماع ولا دلالة للعام على الخاص فصح اعتراض الواحدي . والآباء جميع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل : من آبائهم وأمهاتهم . وليس في الآية ما يدل على التمييز بين زوجه وزوجة ولعل من مات عنها أو ماتت عنه ويؤيده ما روي عن سودة أنه لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك .
قال ابن عباس : لهم خيمة من درة مجوّفة فرسخ وعرضها فرسخ لها أبواب مصاريعها من ذهب يدخل عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم عليكم بما صبرتم على أمر الله . وقال أبو بكر الأصم : من كل باب من أبوب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون : نعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى . وهذا يناسب قول حكماء الإسلام إن لكل مرتبة من مراتب الكمالات جوهراً قدسياً وروحاً علوياً يختص بتلك الصفة ، فبعد المفارقة يفيض على النفس الكاملة من ملك الصبر كمال مخصوص ، ومن ملك الشكر كذلك وعلى هذا القياس . وقد يستدل بالآية على أن الملك أفضل من البشر وإلا فلم يكن دخولهم على المؤمنين موجباً لتحيتهم وإكرامهم . ويمكن أن يجاب بأن وجه التكريم هو مجيئهم بإذن الله ومن عنده لا مجرد المجيء : والباء في قوله : { بما صبرتم } يتعلق بالسلام . والمعنى إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات وعن المحرمات . وقيل : يتعلق بمحذوف أي هذا الثواب بسبب صبركم أو بدل صبركم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار . ثم أتبع أحوال السعداء أحوال الأشقياء وقد مر تفسيره في أوّل « البقرة » على أن الضد قد يعلم من الضد بسهولة وقد مر آنفاً . وقوله : { سوء الدار } في مقابلة { عقبى الدار } كأن العاقبة لا تطلق إلا على العاقبة الحميدة كقوله { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] لأن غير الحميدة ل تستأهل لأن تكون عاقبة .
وقال في الكشاف : المراد سوء عاقبة الدنيا ولا حاجة إلى هذا ا لإضمار بناء على ما قلنا . قال : ويجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها ذكر أهل النظم أنه لما بين سوء حال الناقصين كان لقائل أن يقول : فما بالهم قد فتح الله عليهم أبواب الرزق في الدنيا فأجاب بقوله : { الله يبسط الرزق } والمراد أن الدنيا دار امتحان لا دار جزاء ، فقد يتفق أن يكون الجاهل الكافر خليّ البال والعالم المؤمن رديّ الحال ولا تعلق لهذا المعنى بالكفر والإيمان .

والتركيب للحصر أي هو وحده يوسع الرزق على من يشاء كأهل مكة و { يقدر } أي يضيق ومعناه أنه يعطيه بقدر الضرورة وسد الرمق لا يفضل منه شيء { وفرحوا } يعني أهل مكة وأضرابهم بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح تحدث بنعمة الله وإظهاراً لفضله عليهم { وما الحياة الدنيا } ونعيمها في جنب نعيم الآخرة { إلا متاع } شيء نزر يتمتع به أياماً قلائل ثم بعد ذلك حسرات لا نهاية لها ، ومثل هذا لا يوجب الفرح بل لا يجوّزه . ثم حكى نوعاً آخر من قبائح الكفرة فقال : { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } وقد مر مثله في هذه السورة وذكرنا أنه ليس بتكرار محض إلا أن قوله في جوابهم { قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } أقبل على الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير فيه غموض . وأجيب بأنه يجري مجرى التعجب كأنه قيل : ما أعظم عنادكم بعدما أنزلت من الآيات الباهرة أن الإضلال والهداية من الله ، أو المراد لا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهدايات فإن الذي أضله الله يرى الآية سحراً ، والذي هداه يراها معجزة . وقال الجبائي : المعنى إن الله يضل من يشاء عن طريق الصواب ويهدي إليه أقواماً آخرين فلولا أنكم تستحقون العقاب لهداكم لهداكم إلى الصواب بإنزال ما اقترحتموه . وقيل : المراد أنه تعالى أنزل آيات ظاهرة ولكن الإضلال والهداية من الله فلو شاء لهداكم فلا فائدة في تكثير المعجزات { الذين آمنوا } بدل ممن أناب { وتطمئن قلوبهم } عن ابن عباس : يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت . والاطمئنان بآيات الوعد لا ينافي الوجل من آيات الوعيد حيث قال { إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] أو المراد أن علمهم بكون القرآن معجزاً يوجب حصول الطمأنينة لهم بأنه سبحانه واحد لا شريك له صادق في وعده ووعيده وبأن محمداً نبي حق { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } التحقيق فيه أن الإنسان متوسط الرتبة بين عالم الأرواح وعالم الأجساد ، فإذا توجه إلى عالم الجسد اشتاق إلى التصرف فيه فيظهر له هناك أمور ضرورية في التعيش أدونها ليس بأهون من خرط القتاد فيتوزع فكره وتضطرب أحواله ، أما إذا توجه إلى عالم الروح فإنه يزول الاضطراب ويتوحد المطلب ويحصل الاستغراق في بحر العرفان والاستنارة بنور الإيقان ، ومن وقع في لجة البحر لا يبالي أين وقع :
أنا الغريق فما خوفي من البلل ... وقيل : إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على النحاس انقلب ذهباً صافياً باقياً على كر الدهور ، فإكسير جلال الله إذا وقع في القلب السليم كيف لا يقلبه جوهراً صافياً نورانياً آمناً من التغير والزوال { الذين آمنوا } مبتدأ خبره { طوبى لهم } وجوّز في الكشاف أن يكون بدلاً على حذف المضاف أي قلوب الذين آمنوا .

و { طوبى } مصدر من طاب يطيب كبشرى وواو منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها واللام للبيان مثل « سقيا لك » . والمعنى طيب لهم على الدعاء أو الخبر . عن ابن عباس : فرح وقرة عين . الضحاك : غبطة لهم . قتادة : حسنى لهم . الأصم : خير وكرامة . الزجاج : عيش طيب . والكل متقارب والعبارة الجامعة أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم . وقيل : طوبى شجرة في الجنة . حكى الأصم أن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم وفي دار كل مؤمن منها غصن . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « طوبى شجرة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة » وعن بعضهم أن طوبى هي الجنة بالحبشية والمآب المرجع .
التأويل : { هو الذي يريكم } برق أنوار الجلال فيغلب عليكم خوف الانقطاع واليأس ، ويريكم برق أضواء الجمال فيغلب عليكم طمع الوصل ورجاء الاستئناس { وينشىء السحاب } النوال والأفضال { الثقال } بمطر القبول والإقبال { ويسبح الرعد } وهو الملك المخلوق من نور الهيبة والجلال فتع الهيبة في قلوب الخلق كلهم حتى الملائكة فيسبحون من خيفته ، ويرسل صواعق القهر { فيصيب بها من يشاء } من أهل الخذلان فيحرق حسن استعدادهم في قبول الإيمان . ومن نتائج ذلك أنهم يجادلون في ذات الله وفي صفاته كالفلاسفة الذين لا يتابعون الأنبياء والشرئع ، وكبعض المتكلمين من أهل الأهواء والبدع { له دعوة الحق } أي دعوته حق لمن دعاه فيستجيبه كما قالت السموات والأرض أتينا طائعين له دعاة يدعون الخلق بالحق إلى الحق { والذين يدعون من دونه } أي بغير الحق { لا يستجيبون لهم بشيء } إذ لا يؤثر في الخلق نصحهم كمن يبسط يده إلى الماء إراءة إلى الحق أنه يريد شربه { وما هو ببالغه } فلا يستجابون على الحقيقة وإن استجيبوا في الظاهر لأنهم استجابوا لهم على الهوى كما دعوا إلى الحق بالهوى يدل عليه قوله : { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولله يسجد من في السموات والأرض } من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والصلحاء { طوعاً } ومن أرواح الكافرين والمنافقين والشياطين { كرهاً } بالتذليل والتسخير تحت الأحكام والتقدير { وظلالهم } أي نفوسهم فإن النفوس ظلال الأرواح ، وليس السجود ن شأنها لأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الرب فإنها تسجد بتبعية الروح . معنى آخر : ولله يسجد من في سموات القلوب من صفات القلوب والأرواح والعقول ، طوعاً ومن في أرض النفوس من صفات النفس والقوى الحيوانية والسبعية والشيطانية كرهاً ، وظلالهم وهي آثارها ونتائجها . آخر : ولله يسجد الأرواح في الحقيقة وظلالهم وهي أجسادهم بالتبعية ، وهذا السجود بمعنى وضع الجبهة ، وخص الوقتان بالذكر لأن آثار القدرة فيهما أكثر ، وإن أريد الانقياد والتسخير احتمل أن يراد بالوقتين وقتا الانتباه والنوم ، ففي الأول تطلع شمس الروح من أفق الجسد ، وفي الثاني تغرب فيه أنزل من سماء القلوب ماء المحبة .

{ فسالت أودية } النفوس { فاحتمل السيل زبداً رابياً } من الأخلاق الذميمة النفسانية والحيوانية ، أو أنزل من سماء الأرواح ماء مشاهدة أنواع الجمال { فسالت أودية } القلوب { فاحتمل السيل زبداً رابياً } من الأوصاف البشرية ، أو أنزل من سماء الأسرار ماء كشوف الجمال { فسالت أودية } الأرواح { فاحتمل السيل زبداً رابياً } من أنانية الروحانية ، أو أنزل من سماء الجبروت ماء تجلي صفات الألوهية { فسالت أودية } الأسرار بقدرها { فاحتمل السيل } زبد الوجود المجازي { ومما توقدون عليه } من البقاء في نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فلا تبقي ولا تذر وهي التذكية بالفناء { ابتغاء حلية } وهي التحلية بالبقاء الحقيقي { أو متاع } وهو التمتع به { زبد مثله } مثل زبد البشرية وهو زبد المعرفة والتوحيد { فأما الزبد } في الأحوال كلها { فيذهب جفاء } بالفناء { وأما ما ينفع الناس } من البقاء بالله { فيمكث في } أرض الوحدة المستعدة لقبول الفيض الإلهي . { للذين استجابوا لربهم الحسنى } وهي العناية الأزلية التي الاستجابة من نتائجها كقوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] { والذين لم يستجيبوا له } حين دعاهم للوصول والوصال لو حصل لهم ما في أرض البشرية من أنواع اللذات والحظوظ وأضعافها لجعلوه فداء ألم عذاب القطيعة { وأنفقوا مما رزقناهم } أي انفصلوا عما سواه ليتصلوا به { سراً } بالانقطاع عما يشغل بواطنهم { وعلانية } بالانفصال عما يشغل ظواهرهم { ويدرءُون } بالأعمال والأحوال الحسنة في صدق الطلب الأحوال السيئة من الوقائع والفترات { والملائكة يدخلون عليهم } تبركاً وتيمناً بهم تبعاً لهم من كل باب دخلوه بالاستقلال على أقدام السير بالله إلى الله { سلام عليكم بما صبرتم } عن غير الله وعلى صدق الطلب { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } القلوب أربعة : قلب قاس كقلوب الكفار والمنافقين فاطمئنانه بالدنيا وشهواتها رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، وقلب ناس وهو قلب المسلم المذنب كقوله : { فنسي ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] فاطمئنانه بالتوبة فتاب عليه وهدى ، وقلب مشتاق وهو قلب المؤمن فاطمئنانه بذكر الله كما في الآية . وقلب وحداني وهو قلب الأنبياء وخواص الأولياء فاطمئنانه بالله وصفاته كقول الخليل صلى الله عليه وسلم { ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] أي بتجلي صفات الأحياء ، وإذا صار القلب مطمئناً انعكس نور الاطمئنان من مرآة قلبه على نفسه فتصير مطمئنة أيضاً فيستحق بجذبات العناية لخطاب { ارجعي } [ الفجر : 28 ] ثم أشار إلى أنّ الاطمئنان ثمرة غرس شجرة الإيمان والعمل الصالح في أرض القلب فقال : { الذين آمنوا } الآية . فالإشارة بطوبى إلى حقيقة شجرة « لا إله إلا الله » مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ولم يكن إلا في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وبتبعيته في قلوب المؤمنين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « طوبى شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة » فافهم .

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)

القراآت : { متابي } و { عقابي } و { مآبي } بالياء في الحالين : يعقوب والسرنديبي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل { بل زين } ونحوه بالإدغام : علي وهشام { وصدوا } بضم الصاد وكذا في « حم المؤمن » : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب . الباقون بفتحها . { ويثبت } مخففاً من الإثبات : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم . الآخرون بالتشديد من التثبيت { الكافر لمن } على التوحيد : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير . الباقون { الكفار } على الجمع .
الوقوف : { بالرحمن } ط { إلا هو } ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل : { متاب } 5 { الموتى } ط لأن جواب « لو » محذوف أي لكان هذا القرآن . { جميعاً } ط في الموضعين { وعد الله } ط { الميعاد } 5 { أخذتهم } ج للاستفهام مع الفاء { عقاب } 5 { بما كسبت } ج لحق الخبر المحذوف التقدير كمن ينفع ولا يضر ، ولأن قوله : { وجعلوا } يصلح استئنافاً أو حالاً بإضمار « قد » { شركاء } ط { سموهم } ط لحق الاستفهام { من القول } ط { عن السبيل } 5 { هاد } 5 { أشق } ج لاتفاق الجملتين مع النفي في الثانية { واق } 5 { المتقون } 5 ط لأن التقدير فما يتلى عليك مثل الجنة وللوصول وجه يذكر في التفسير . { الأنهار } ط { وظلها } ط { اتقوا } ق قد قيل : والوصل أجوز لأن الجمع بين بيان الحالين أدل على الانتباه { النار } 5 { بعضه } ط { ولا أشرك به } ط { مآب } 5 { عربياً } ط { العلم } لا لأن ما بعده جواب . { واق } 5 { وذرية } ط { بإذن الله } ط { كتاب } 5 { ويثبت } ج والوصل أجوز لتمام مقصود الكلام { الكتاب } 5 { الحساب } 5 { أطرافها } ط { لحكمه } ط { الحساب } 5 { جميعاً } ط { كل نفس } ط { الدار } 5 { مرسلاً } ط { وبينكم } ط للعطف { الكتاب } 5 .
التفسير : عن ابن عباس والحسن { أرسلناك } كما أرسلنا الأنبياء قبلك { في أمة قد خلت من قبلها أمم } وقال آخرون : معنى التشبيه كما أرسلنا إلى أمم وآتيناهم كتباً تتلى عليهم كذلك آتيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فلم اقترحوا غيره؟ وقال في الكشاف : معناه مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات . ثم فسر كيف أرسله فقال : { في أمة قد خلت من قبلها أمم } كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء . ثم ذكر مقصود الإرسال فقال { لتتلو } أي لتقرأ { عليهم } الكتاب العظيم { الذي أوحينا إليك وهم يكفرون } وحال هؤلاء أنهم يكفرون { بالرحمن } للمفسيرين خلاف في تخصيص لفظ الرحمن بالمقام فقال جار الله : المراد كفرهم بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء وما بهم من نعمة فمنه ، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال مثل هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم .

وعن ابن عباس في رواية الضحاك : نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : اسجدوا للرحمن فقالوا وما الرحمن؟ فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : { قل } لهم إن الرحمن الذين أنكرتم معرفته { هو ربي لا إله إلا هو } الواحد القهار المتعالي عن الشركاء . { عليه توكلت } في نصرتي عليكم { وإليه متاب } رجوعي فيثيبني على مصابرتكم . وقيل : نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا كتاب الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل بن عمرو والمشركون : ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة - يعنون مسيلمة الكذاب - اكتب باسمك اللَّهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون . فأنزل الله الآية . فعلى هاتين الروايتين كان الذم متوجهاً على كفرهم بإطلاق هذا الاسم على غير الله تعالى لا على جحودهم أو إِشراكهم . روي أن أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام فقال له رؤساؤهم - كأبي جهل وعبد الله بن أمية المخزومي - سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا واجعل لنا فيها أنهاراً نزرع فيها ، وأحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقوله أم باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى ، أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان ولست بأهون على ربك منه فنزل قوله : { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } عن مقارها وأزيلت عن مراكزها { أو قطعت به الأرض } أي وقع به السير في البلاد فوق المعتاد شبه طي الأرض أو شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً { أو كلم به الموتى } بعد إحيائهم به لكن هذا القرآن . قال الراوي : لما سري عن رسول الله عليه وسلم بعد نزول هذا الوحي قال : والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم ثم إن كفرتم يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فاخترت باب الرحمة . وقال الزجاج : معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى أي تنبيههم لما آمنوا به كقوله : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } [ الأنعام : 111 ] الآية . وقال في الكشاف : هذه الآية لبيان تعظيم شأن القرآن . ومعنى تقطيع الأرض تصدعها كقوله { ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً } [ الحشر : 21 ] ونقل في الكشاف عن الفراء أن الآية تتعلق بما قبلها والمعنى وهم يكفرون بالرحمن . وبمدلول هذا الكلام وهو قوله : { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } وما بينهما اعتراض . ثم قال رداً عليهم { بل لله الأمر جميعاً } قال أهل السنة : يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه .

وقالت المعتزلة : له القدرة على الآيات التي اقترحتموها إلا أن علمه بأن إظهار مفسدة يصرفه ، أوله أن يلجئهم إلى الإيمان إلا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار . قالوا : ويعضده قوله : { أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله } مشيئة الإلجاء { لهدى الناس جميعاً } أولو يشاء لهداهم إلى الجنة ، أو المراد نفي العموم لا عموم النفي وذلك أنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين . أجاب أهل السنة بأن كل هذا خلاف الظاهر .
ومعنى { أفلم ييأس } أفلم يعلم . وهذا لغة قوم من النخع . وقال الزجاج : إنه مجاز لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمنهما إياهما ، ويؤيده قراءة علي عليه السلام وابن عباس وجماعة { أفلم يتبين } وهو تفسير { أفلم ييأس } . وقيل : إن قراءتهم أصل والمشهورة تصحيف وقع من جهة أن الكاتب كتبه مستوي السينات . وهذا القول سخيف جداً والظن بأولئك الثقات الحفظة غير ذلك ولهذا قال في الكشاف : هذه والله فرية ما فيها مرية . وجوز أن يتعلق { أن لو يشاء } ب { آمنوا } معناه أفلم يقنط من إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً . ثم أوعد الكافرين بقوله : { ولا يزال الذين كفروا } يعني عامة الكفار { تصيبهم بما صنعوا } من كفرهم وسوء أعمالهم { قارعة } داهية تقرعهم من السبي والقتل { أو تحل } القارعة { قريباً من دارهم } فيتطاير إليهم شررها . { حتى يأتي وعد الله } وهو إسلامهم أو موتهم أو القيامة . وقيل : خاصة في أهل مكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يبعث السرايا حول مكة فتغير عليهم وتختطف منهم ، وعلى هذا احتمل أن يكون قوله : { أو تحل } خطاباً أي تحل أنت يا محد قريباً من دراهم بجيشك كما في يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة ، وكان قد وعده الله الفتح عموماً وخصوصاً وكان كما وعد وكان معجزاً { إن الله لا يخلف الميعاد } قد مر البحث في أول سورة آل عمران ثم ازداد في الوعيد فقال : { ولقد استهزىء } الآية . والإملاء الإمهال وقد مر هناك . والاستفهام في قوله : { فكيف كان عقاب } للتقرير والتهديد . ثم أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج والتوبيخ والتعجب من عقولهم فقال : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } ومعنى القائم الحفيظ والرقيب أي الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات كمن ليس كذلك . وجوز في الكشاف أن يقدر الخبر بحيث يمكن عطف وجعلوا عليه التقدير : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له شركاء فيكون قوله : « لله » من وضع الظاهر مقام الضمير ، وذكر السيد صاحب حل القعد أنه يجوز أن يجعل الواو في قوله : { وجعلوا لله } للحال ويضمر للمبتدأ خبر يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإنكار ما يقارنها من الحال والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس موجود والحال أنهم جعلوا له { شركاء } فأقيم الظاهر مقام المضمر كما قلنا تقريراً للإلهية وتصريحاً بها وإنه هو الذي يستحق العبادة وحده وهذا كما تقول معطي الناس ومغنيهم موجود ويحرم مثلي .

ثم زاد في المحاجة فقال : { قل سموهم } أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم وأنبئوه بأسمائهم . وإنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه فيقال : سمه إن شئت يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسماً فافعل . وقيل : المراد سموهم بالآلهة على سبيل التهديد .
قال في الشكاف : « أم » في قوله { أم تنبئونه } منقطعة كقولك للرجل قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف . أقول : وذلك لأنه لا شيء محض إذ لو كان الشريك موجوداً وهو أرضيّ لتعلق به علم العالم بالذات المحيط بجميع السفليات ونحوه { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } [ يونس : 18 ] وقد مر في أول « يونس » . ثم أكد هذا المعنى بقوله : { أم بظاهر من القول } أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من الكلام من غير أن يكون له حقيقة كقوله : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } [ يوسف : 40 ] وهذا الاحتجاج من أعاجيب الأساليب التي اختص بها القرآن الكريم المعجز فللَّه در شأن التنزيل . ثم بين سوء طريقتهم فقال : { بل للذين كفروا مكرهم } قال الواحدي : معنى « بل » ههنا كما يقال دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه إنه كذا وكذا . والكلام في أن المزين هو الله تعالى أو غيره قد مر في أول سورة آل عمران ، وكذا البحث فيمن قرأ { وصدوا } بضم الصاد ، وأما من قرأ بالفتح فيحتمل أن يكون لازماً أي أعرضوا عنه ، ويحتمل أن يكون متعدياً أي صرفوا غيرهم ، والخلاف في قوله : { ومن يضلل الله } تقدم في مواضع منها آخر الأعراف ثم عاد إلى الإيعاد فقال : { لهم عذاب في الحياة الدنيا } من القتل والقتال واللعن والذم لا المصائب والأمراض لأنها قد تصيب المؤمنين أيضاً ، ولأنها مأمور بالصبر عليها والعقاب لا يكون كذلك { ولعذاب الآخرة أشق } لأنه أشد وأدوم { وما لهم من الله } أي من عذابه { من واق } من حافظ أو ما لهم من جهة الله واق أي دافع ومانع من رحمته بل إنما يمنع رحمته منهم باختياره وحكمه . ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : { مثل الجنة } وتقديره عند سيبويه فيما قصصنا عليكم في الجنة . وقال غيره : الخبر { تجري } كما تقول صفة زيد أسمر . وقال الزجاج : إنه تمثيل للغائب بالشاهد ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار .

وقيل : إن فائدة الخبر ترجع إلى قوله : { أكلها دائم } كأنه قال مثل الجنة { التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار } كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه { أكلها دائم } كقوله : { لا مقطوعة ولا ممنوعة } [ الواقعة : 33 ] { وظلها } دائم أيضاً . والمراد أنه لا حر هناك ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ، وقد مر هذا البحث في سورة النساء في قوله : { وندخله ظلاً ظليلاً } [ الآية : 57 ] قيل : في الآية دلالة على أن حركات الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه . قال القاضي : وفيها دليل على أن الجنة لم تخلق بعد وإلا انقطع أكلها لقوله تعالى : { كل من عليها فان } [ الرحمن : 26 ] ، { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] قال : ولم ننكر أن تحصل الآن في السموات جنات تتمتع بها الملائكة ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة . وأجيب بأننا نخصص عموم كل شيء هالك بالدليل الدال على أن الجنة مخلوقة وهو قوله : { أعدت للمتقين } [ آل عمران : 133 ] .
ثم ذكر عقائد الفرق في شأن القرآن المتلو فقال : { والذين آتيناهم الكتاب } قيل : أراد بالكتاب القرآن يعني أن المسلمين { يفرحون بما أنزل إليك } من الشرائع والعلوم { ومن الأحزاب } الجماعات من اليهود والنصارى وغيرهم { من ينكر بعضه } لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام المطابقة لشرائعهم وعقائدهم . وإنما أنكروا ما يختص به الإسلام من نعت الرسول وغيره قاله الحسن وقتادة . واعترض عليه بأن أهل الإسلام فرحهم بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره . ويمكن أن يقال : المراد زيادة الفرح والاستبشار بما فيه من العلوم والفوائد وأنهم يتلقون نزول الوحي بالبشر والطلاقة لا بالتثاقل والجهالة . وقيل : الكتاب التوراة والإنجيل ، والمراد من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون بنجران ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، وثمانية من أهل اليمن ، فرحوا بالقرآن لأنهم آمنوا به وصدقوه ، والأحزاب بقية أهل الكتاب والمشركون قاله ابن عباس . وقال مجاهد : أراد أن اليهود والنصارى كلهم يفرحون بما أنزل إليك لأنه مصدق لما معهم ، ومن سائر الكفرة من ينكر بعضه . واعترض بأنهم كلهم لا يفرحون بكل ما أنزل رسولنا . وقوله : { بما أنزل } يفيد العموم . وأجيب بالمنع من أن ما يفيد العموم لصحة الاستثناء ولصحة إدخال كل عليه ولا تكرير وإدخال بعض ولا نقص . ثم لما بين عقائد الفرق أمر نبيه بأن يصرح بطريقته فقال : { قال إنما أمرت أن أعبد الله } ما أمرت إلا بعبادته وعدم الإشراك به ويندرج فيه جميع وظائف العبودية . ثم ذكر أنه مع كماله مكمل فقال : { إليه أدعو } خصه بالدعاء إلى عبوديته دون غيره كائناً من كان . ثم ختم بذكر المعاد فقال : { وإليه أدعو } لا مرجع لي إلا إليه .

ومن تأمل في هذه الألفاظ عرف أنها مع قلتها مشتملة على حاصل علوم المبدأ والوسط والمعاد . ثم ذكر بعض فضائل القرآن وأوعد على الإعراض عن اتباعه فقال : { وكذلك أنزلناه } الضمير يعود إلى ما في قوله : { بما أنزل إليك } أو إلى القرآن في قوله : { ولو أن قرآنا } ووجه التشبيه كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم كذلك أنزلنا إليك هذا القرآن . وقال في الكشاف : معناه ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه والإنذار بدار الجزاء { حكماً عربياً } نصب على الحال أي حكمة مترجمة بلسان العرب . وقيل : سمي حكماً لأنه حكم على جميع المكلفين بقبوله والعمل به ، أو لأنه اشتمل على أصول الأحكام والشرائع فجعل نفس الحكم للمبالغة . روي أن الكفار كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور ليوافقهم فيها منها : أن يصلي إلى قبلتهم بعدما حوله الله عنها فأوعد على ذلك . وعن ابن عباس : الخطاب له والمراد أمته وقد مر الوجوه في مثله في أوائل سورة البقرة .
قال الكلبي : عيرت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح . ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فأنزل الله تعالى : { ولقد أرسلنا } الآية . وفيه أن الرسل كانوا من جنس البشر لا من جنس الملك وما كان لهم نقص من قبل الزواج والولاد فقد كان لسليمان ثلثمائة امرأة منكوحة وسبعمائة سرية ، ولداود مائة ، وذراري يعقوب أكثر من أن تحصى ، وكانوا يقترحون الآيات فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } ولا بد لكل نبي من معجز واحد والزائد على ذلك بل أصل النبوة وتعيين المعجز الواحد مفوض إلى مشيئته سبحانه ولا حكم لأحد عليه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخوفهم بنزول العذاب وظهور نصرة الإسلام وذويه فكانوا يكذبونه ويستبطئون موعده فأجيبوا بقوله : { لكل أجل كتاب } أي لكل وقت حكم مكتوب وحادث معين لا يتأخر ذلك الحكم والحادث عنه ولا يتقدم عليه . وقيل : هذا على القلب أي لكل مكتوب وقت معين . والتحقيق أنه لا حاجة إلى ارتكاب القلب لأن المعية تقتضي التلازم وكانوا ينكرون النسخ في الشرائع وفي التكاليف فنزل : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } أي يثبته فاستغنى بالصريح عن الكناية . والمحو ذهاب أثر الكتابة ونحوها . وفي الآية قولان : الأول أنها عامة وأنه سبحانه يمحو من الرزق ويزيد فيه كذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود ، وقد رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والذاهبون إليه يدعون ويتضرعون إلى الله في أن يجعلهم سعداء إن كانوا أشقياء وهذا لا ينافي قوله : « جف القلم » لأن المحو والإثبات أيضاً من جملة ما قضى به .

الثاني أنها خاصة في بعض الأشياء فقيل : أراد نسخ حكم وإثبات آخر مكانه وقد مر تمام البحث في النسخ في « البقرة » في قوله : { ما ننسخ من آية } [ الآية : 106 ] وقيل : يمحو من دويان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت غيره . واعترض الأصم عليه بأنه ينافي قوله تعالى { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها } [ الكهف : 49 ] وأجاب القاضي بأن المراد صغائر الذنوب وكبائرها . ورد بأن هذا اصطلاح المتكلمين والمفهوم اللغوي أعم فيتناول المباحات أيضاً . وقيل : يمحو بالتوبة ما يشاء من الكفر والمعاصي ويثبت بدلها الحسنة كقوله : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } [ الفرقان : 70 ] . وقيل : يثبت في أول السنة أحكام تلك السنة فإذا مضت السنة محيت ويثبت كتاب آخر للمستقبل . وقيل : يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس أو يمحو الدنيا ويثبت الآخرة . أما قوله : { وعنده أم الكتاب } أي أصله فقيل : هو اللوح المحفوظ . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح المحفوظ وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى يوم القيامة » فعلى هذا عند الله كتابان : أحدهما اللوح المحفوظ وإنه لا يتغير ، وثانيهما الذي تكتبه الملائكة على الخلق وهو محل المحو والإثبات . روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله سبحانه في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء » وقيل : هو علم الله تعالى المتعلق بجميع الموجودات والمعلومات وإنه لا يتغير ولا يتبدل بتغير المتزمنات وتبدلها ، وقد مر تحقيقه في مواضع .
ولما بين كيفية انطباق الحوادث على أوقاتها قال : { وإما نرينك } يعني كيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من العذاب أو توفيناك قبل ذلك ، فليس يجب عليك إلا التبليغ وما حسابهم وما جزاؤهم إلا علينا . والبلاغ بمعنى التبليغ كالسلام والكلام . ثم ذكر أن آثار حصول تلك المواعيد وأماراتها قد ظهرت وقربت وأن تباشير الظفر قد طلعت ولاحت فقال : { أو لم يروا أنا نأتي الأرض } يعني إتيان القهر والغلبة بدليل { ننقصها من أطرافها } والأرض أرض مكة كان المسلمون ينالون من أهاليها ونواحيها في البعوث والسرايا والجيوش ، والآن صارت الأرض أعم وأشمل ولله الحمد على إعلاء شأن المسلمين زاده الله علواً ، فلا يزال ينقص شيء من ديار الكفر ويريد في بلاد الإسلام . ونقل عن ابن عباس أن المراد بنقص أطراف الأرض موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وصلحائها . قال الواحدي . الأليق بالمقام هو القول الأول . وقد يوجه الثاني بأنه أراد أنهم إذا شاهدوا هذه التغيرات فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله عليهم الأمر فيجعلهم أذلة مغلوبين بعد أن كانوا أعزة غالبين .

ثم أكد هذا المعنى بقوله : { والله يحكم } ومحل { لا معقب لحكمه } نصب على الحال والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وذلك أنه يعقبه بالرد والإبطال فكأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه . { وهو سريع الحساب } عن ابن عباس : هو سريع الانتقام فيعاقبهم في الدنيا ثم في الآخرة . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وقد مكر الذين من قبلهم } برسلهم كنمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى . { فللَّه المكر جميعاً } . قال الواحدي : لأن مكر جميع الماكرين بتخليقه وإرادته ولأنه لا يضر إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره . وقالت المعتزلة : إنه جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره . وقيل : أراد فللَّهَ جزاء مكر الماكرين . قال الواحدي : والقول الأوّل أظهر بدليل قوله : { يعلم ما تكسب كل نفس } يريد أن أكسابها بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف معلومه ممتنع الوقوع فلا يقدر العبد على خلاف معلومه . وناقضت المعتزلة بأنه أثبت لكل نفس كسباً فدل على أنه مقدور العبد . وأجيب بأن المقتضي للفعل عندنا هو مجموع القدرة والداعي وهذا معنى قولهم الكسب حاصل للعبد . ثم ختم الآية بوعيد آخر إجمالي فقال : { وسيعلم الكفار } من قرأ على الجمع فظاهر ، ومن قرأ على الواحدة فالمراد الجنس . وعن ابن عباس أن المراد أبو جهل . وعن عطاء أراد المستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون .
ثم ذكر حاصل شبههم مع الجواب القاطع فقال : { ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً } والمراد من هذه الشهادة أنه أظهر المعجزات على وفق دعواه ولا شهادة أعلى من هذه الشهادة القولية منا لا تفيد إلا غلبة الظن وهذه تفيد القطع بصحة نبوته . ثم عطف على اسم الله قوله : { ومن عنده علم الكتاب } أي الذي حصل عنده علم القرآن وفهم معانية واشتماله على دلائل الإعجاز من النظم الأنيق والأسلوب العجيب الفائت لقوى البشر . فمن علم هذا الكتاب على هذا الوجه شهد بأنه معجز قاهر وأن الذي ظهر هذا المعجز عليه نبي حق ورسول صدق . وعن الحسن وسعيد بن جبير والزجاج : أن الكتاب هو اللوح المحفوظ . والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح المحفوظ إلا هو يعني الله جل وعلا شهيداً . ويعضده قراءة من قرأ ومن عنده على من الجارة . واعترض على هذا القول بأن عطف الصفة على الموصوف بعيد لا يقال : شهد بهذا زيد والفقيه ، وإنما يقال : زيد الفقيه . وقيل : المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري لأنهم يشهدون بنعمته في كتبهم . والاعتراض بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع جواز الكذب على أمثالهما لكونهم غير معصومين لا يجوز .

وقال الزجاج : الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره . وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله . وعن سعيد بن جبير أن السورة مكية وابن سلام وأصحابه آمنوا بالمدينة بعد الهجرة والله أعلم بمراده .
التأويل : { وهم يكفرون بالرحمن } يعنى أن الصفة الرحمانية اقتضت إيجاد جميع الموجودات وإفاضة جميع النعم كما أن صفة القهارية كانت مقتضية للوحدة بأن لا يكون معه شيء ولا نعمة أجل من بعث الرسل ، ففيه صلاح حال الدارين لهم ، فإذا جحدوا الرسول فقد جحدوا الرحمن وهذا سبب تخصيص هذا الاسم بالمقام كقوله : { إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } [ مريم : 93 ] ولذلك أمر بأن يقول في الجواب : { هو ربي } الذي رباني { لا إله إلا هو } لا يستحق العبادة إلا هو ولا أفوض أمري إلا إليه وإليه مرجعي كما كان منه مبدئي { سيرت به } جبال النفوس { أو قطعت به } أرض البشرية { أو كلم به } القلوب الميتة بتلاوته عليهم { تصيبهم بما صنعوا } من كفرهم بالرحمن { قارعة } من الأحكام الأزلية تقرعهم في أنواع المعاملات التي تصدر عنهم موجبة للشقاوة { أو تحل قريباً من دراهم } قالبهم بأن تصدر تلك المعاملة ممن يصحبهم :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... { حتى يأتي وعد الله } يدرك الشقاء الأزلي . ومن أمارات الشقاوة الاستهزاء بالأنبياء والأولياء { ثم أخذتهم } أي أمسكتهم لئلا يرجعوا عن مقام الشقاوة { لهم عذاب في الحياة الدنيا } بالبعد والحجاب وعبودية النفس والهوى { ولعذاب الآخرة } بأنواع الحسرات والشعور بالهيئات والملكات الموجبة للدركات { أكلها دائم } هي مشاهدات الجمال ومكاشفات الجلال { وظلها } أي إنهم في ظل معاملاتهم وأحوالهم التابعة لشمس وجودهم على الدوام { والذين آتيناهم الكتاب } هم السر والروح والقلب الذين فهموا أسرار القرآن { ومن الأحزاب } النفس والهوى والقوى { من ينكر بعضه } لثقل التكليف عليهم وللجهل بفوائده { ولئن اتبعت أهواء } المخالفين بالشرك في الطلب { من بعد ما جاءك من العلم } وهو طلب الوحدانية ببذل الأنانية { وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } فيه أن ارسل جذبتهم العناية في البداية فترقوا من حضيض الحيوانية إلى أوج الروحانية ثم إلى معارج النبوة والرسالة في النهاية قلم يبق فيهم من دواعي البشرية ما يزعجهم إلى طلب الأزواج بالطبيعة والركون إلأى الأولاد بخصائص الحيوانية بل رغبهم الله سبحانه في ذلك على وفق الشريعة بخصوصية الخلافة بإظهار صفة الخالقية ومثله { وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام } [ الأنبياء : 8 ] { يمحوا الله ما يشاء } لأهل السعادة من أفاعيل أهل الشقاوة { ويثبت } لهم من خصال أهل السعادة وبالعكس لأهل الشقاوة { وعنده أم الكتاب } الذي قدر فيه خاتمة كل من الفريقين { وإما نرينك } بالكشف بعض مقاماتهم كما أخبر عن العشرة المبشرة بأنهم في الجنة وعن غيرهم بأنه في النار . { أنا نأتي الأرض } أرض البشرية فننقص منا بالازدياد في الأوصاف الروحانية .

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)

القراآت : { الله الذي } بالرفع على الابتداء في الحالين : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل ، وقرأ يعقوب والخزاعي عن ابن فليح بالرفع إذا ابتدأ وبالخفض إذا وصل . الباقون بالجر مطلقاً { وعيدي } بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل .
الوقوف : { الر } قف كوفي { الحميد } 5 ط لمن قرأ { الله } بالرفع . { وما في الأرض } ط { شديد } 5 لا بناء على أن { الذين } صفة الكافرين { عوجاً } ط بناء على ما قلنا أو على أن { الذين } منصوب أو مرفوع على الذم أي أعني الذين أوهم الذين ، وإن جعل { الذين } مبتدأ خبره { أولئك في ضلال } فلا وقف على { عوجاً } ولك أن تقف على { شديد } للآية { بعيد } 5 { ليبين لهم } ط لأن قوله : { فيضل } حكم مبتدأ خارج عن تعليل الإرسال { ويهدي من يشاء } ط { الحكيم } 5 { بأيام الله } ط { شكور } 5 ط { نساءكم } ط { عظيم } 5 { لشديد } 5 { جميعاً } لا لأن ما بعده جزاء { حميد } 5 { وثمود } ط لمن لم يعطف وجعله مستأنفاً ومن عطف فوقه على { من بعدهم } ط { إلا الله } ط { مريب } 5 { والأرض } ط فصلاً بين الاستخبار والإخبار { مسمى } ط لتقدير همزة الاستفهام في { تريدون } . { مبين } 5 { من عباده } ط { وبإذن الله } ط { المؤمنون } 5 { سبلنا } ط { آذيتمونا } ط { المتوكلون } 5 { في ملتنا } ط { من بعدهم } ط { وعيد } 5 { عنيد } 5 لا لأن ما بعده وصف { صديد } 5 لا لذلك { يميت } ط { غليظ } 5 .
التفسير : كون السورة مكية أو مدنية إنما يفيد في الأحكام لتعرف المنسوخ من الناسخ وفي غير ذلك المكية والمدنية سيان . قوله : { ألر كتاب } أي السورة المسماة ب { ألر } كتاب { أنزلناه إليك } لغرض كذا وإن كان { الر } مذكوراً على جهة التعديد فقوله : { كتاب } خبر مبتدأ محذوف أي هذا القرآن أو هذه السورة كتاب . والظلمات استعارة لطرق الضلال ومظانه والنور مستعار للحق . واللام في { لتخرج } للغرض عند المعتزلة ، وللغاية عند الحكيم ، وإن شئت فقل : للعاقبة . واللام في { الناس } للجنس المتسغرق ظاهراً ففيه دليل على أن دعوته صلى الله عليه وسلم عامة . ومعنى إخراج النبي صلى الله عليه وسلم { من الظلمات إلى النور } أنه سبحانه جعل إنزال الكتاب عليه ودعوته صلى الله عليه وسلم إياهم به إلى الحق واسطة لهدايتهم لا مطلقاً ولكن { بإذن ربهم } أي بتسهيله وتيسيره وكل ميسر لما خلق له . والحاصل أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ومتى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب عند المحققين ، ولك أن تعبر عن ذلك المعنى بداعية الإيمان . احتج بالآية من قال : إن معرفة الله تعالى لا تمكن إلا بالتعليم الذي عبر عنه بالإخراج من الظلمة إلى النور : وأجيب بأن معنى الإخراج التنبيه ، وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل وقوله { إلى صراط العزيز الحميد } بدل من قوله : { إلى النور } بتكرير العامل الجار .

وجوز في الكشاف أن يكون على جهة الاستئناف كأنه قيل : إلى أي نور؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد . وفي ذكر الوصفين تأكيد لحقية الصراط واستنارته لأن العزيز هو القادر الغالب ، والحميد هو الكامل في خصائص الحمد من العلم والغنى وغير ذلك . ولا ريب أن من هذه صفته كان سبيله الذي نهج لعباده مفضياً إلى صلاح حالهم ديناً ودنيا ، إذ لا حاجة له إلى ارتكاب عبث أو قبيح . قال بعض العلماء : إنما قدم ذكر العزيز لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه قادراً غالباً وهو معنى العزيز ، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً والعلم بكونه غنياً عن الحاجات والنقائص وهذا معنى الحميد ، ثم أثنى على نفسه تحقيقاً لحقية صراطه وبياناً لتنزهه عن العبث فقال : { الله الذي } مبتدأ وخبر والمبتدأ محذوف تقديره هو الله . ومن قرأ بالجر فعلى أنه عطف بيان للوصفين بناء على أن لفظ { الله } جار مجرى اسم العلم ، وقد سبق هذا البحث مشبعاً في تفسير البسملة من سورة الفاتحة . ثم ختم الآية بوعيد من لا يعترف بربوبيته ولا يقر بوحدانيته ذلك قوله : { وويل للكافرين } وهو دعاء عليهم بالهلاك والثبور وكل سوء . قال في الكشاف : وجه اتصال قوله : { من عذاب شديد } بالويل أنهم يولولون من العذاب ويقولون يا ويلاه . { الذين يستحبون } أي يؤثرون ويختارون لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون ذلك الشيء عنده أحب من الآخر وذلك أن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه يكره كونه محباً له ، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محباً له وأحب تلك المحبة فتلك نهاية المحبة وهذا شأن محبة أهل الدنيا للدنيا ولكنها أدنى مراتب الضلال . وقوله : { ويصدون عن سبيل الله } إشارة إلى الضلال . وقوله : { ويبغونها عوجاً } أراد به الإضلال بإلقاء الشكوك والشبهات ، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال فلهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق لأنه وقع عنه في الطرف الآخر فبينهما غاية الخلاف ويمكن أن يكون إسناداً مجازياً باعتبار أن صاحبه بعيد عن طريق الحق .
ثم لما مَنَّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسول ذكر أن من كمال تلك النعمة أن يكون ذلك الكتاب بلسان المرسل إليهم . احتج أصحاب أبي هاشم بالآية على أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد وجماعة وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال . قالوا : إن كانت توقيفية والتوقيف إنما يكون بالوحي والوحي موقوف على لغة سابقة لقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } أي بلغتهم لزم الدور . أجيب بأن الآية تختص برسول له قوم ولا قوم لآدم فينتهي التوقيف إليه فيندفع الدور .

وتمسك طائفة من اليهود - يقال لهم العيسوية - بهذه الآية في أن محمداً رسول الله ولكن إلى العرب لأنهم قومه وهم الذين عرفوا فصاحة القرآن وإعجازه ، فيكون القرآن حجة عليهم لا على غيرهم . والجواب سلمنا أن قومه هم العرب ولكن قوم النبي أخص من أهل دعوته فقد يكون أهل دعوته الناس كافة بل الثقلين كما في حق نبينا صلى الله عليه وسلم لأن التحديث وقع بالفريقين في قوله : { قل لئن اجتمع الإنس والجن } [ الإسراء : 88 ] وإنما يكون أولى الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم أقرب إليه فيرسل الرسول أوّلاً إليهم ليبين لهم فيفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، ثم ينوب التراجم في كل أمة من أمم دعوته مقام الأصل ويكفي التطول ويؤمن اللبس والتخليط ويوجب للمفسرين الثواب الجزيل في التعلم والتعليم والإرشاد والاجتهاد . وقالت المعتزلة : إن مقدمة هذه الآيات وهي قوله : { لتخرج الناس } ووسطها وهو قوله : { ليبين لهم } فإن فائدة النبيين إنما تظهر إذا كان للمكلف قدرة واختيار ، وآخرها وهو قوله { الحكيم } فإن الحكمة تنافي خلق الكفر ، والقبائح تدل على صحة مذهب الاعتزال . وقالت الأشاعرة . قوله : { بإذن ربهم } وقوله : { فيضل الله من يشاء } وقوله : { العزيز } فإن العزة لا تجامع أن يكون لغيره قدرة وتصرف يؤيد مذهبنا . أقول : نحن قد حققنا مسألة الجب مراراً فتذكر . ومما يخص هذا الموضع قول الفراء إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لميكن النسق مشاكلاً للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه كقوله : { لنبين لكم ونقر } [ الحج : 5 ] بالرفع نظيره في الآية قوله : { فيضل } بالرفع على الاستئناف كأنه قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلغة ألفوها واعتادوها . ومع ذلك فإن المضل والهادي هو الله والبيان لا يوجب حصول الهداية إلا إذا جعله الله واسطة وسبباً لما بين أن المقصود من بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، أرد أن يبين أن الغرض من إرسال جميع الأنبياء لم يكن إلا ذلك وذكر لذلك مثالاً . وخص موسى بالذكر لأنه أمته أكثر الأمم سوى أمة محمد كما جاء في الحديث ولكثرة معجزاته الباهرة . ومعنى { أن أخرج } أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول : ويجوز أن تكون أن ناصبة والتقدير بأن أخرج . ومعنى التذكير بأيام الله الإنذار بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم . ويقال : أيام العرب لحروبها وملاحمها . وعن ابن عباس : أيام الله نعماؤه من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وبلاؤه إهلاك القرون ، أو الأيام التي كانوا فيها تحت تسخير فرعون ، أو المراد عظهم بالترغيب والترهيب { إن في ذلك } التذكير والتنبيه دلائل { لكل صبار } على الضراء { شكور } على السراء . وذلك أن فائدة الآيات إنما تعود عليهم حيث ينتفعون بها .

ولما أمر الله موسى بالتذكير حكى عنه أنه ذكرهم ولم يقل ههنا « يا قوم » كما ذكر في المائدة اقتصاراً على ما ذكره هناك . وقوله : { عليكم } إن كان صلة للنعمة بمعنى الإنعام فقوله : { إذ أنجاكم } ظرف للإنعام أيضاً ، وإن كان مستقراً بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم جاز أن ينتصب { إذ أنجاكم } ب { عليكم } وفي الوجهين جاز أن يكون « إذ » بدلاً من النعمة أي اذكروا وقت إنجائكم وهو بدل الاشتمال ، وباقي الآية قد مر في أول البقرة . ومن جملة النعم قوله : { وإذ تأذن } أي واذكروا حين آذن { ربكم } إيذاناً بليغاً ينتفي عنده الشكوك وتنزاح معه الشبهات . وقد تقدم في أواخر « الأعراف » أن فيه معنى القسم ولذلك دخلت اللام الموطئة في الشرط والنون المؤكدة في الجزاء ، وقد سلف منا في هذا الكتاب أن الشكر بالحقيقة عبارة عن صرف العبد جميع أقسام ما أنعم الله تعالى به عليه فيما أعطاه لأجله . ولا شك أن المكلف إذا سلك هذا الطريق كان دائماً في مطالعة أقسام نعم الله وفي ملاحظة دقائق لطفه وصنعه وفي إعمال الجوارح في الأعمال الصالحة الكاسبة لأنوار الملكات الحميدة ، وشغل النفس بمطالعة النعم يوجب مزيد محبة المنعم ، وقد يترقى العبد من هذه الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن رؤية النعم ، ويصدر منه الأعمال الصالحة بطريق الاعتياد حتى يصير التطبع طباعاً والتكلف خلقاً ، وهذا معنى اقتضاء الشكر مزيد الإنعام وقد يفيض عليه بحكم وعد الله الذي هو الحق والصدق سجال مواهبه الدينية والدنيوية لأنه مهما صار مطيعاً منقاداً لواجب الوجود سبحانه تجلى فيه نور الوجود ، فلا غرو - أي لا عجب - أن ينقاد لذلك النور كثير من الممكنات وينفتح عليه باب التصرف في الخلق بالحق للحق ، وإن كان حال المكلف بضد ما قلنا ظهر عليه أضداد تلك الآثار لا محالة وذلك قوله : { ولئن كفرتم } يعني كفران النعم { إن عذابي لشديد } ثم بين أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحبه أو عليه والله تعالى غني عن ذلك كله فقال : { إن تكفروا أنتم } الآية . وذلك أن واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في جميع صفاته ولن يكون كذلك إلا إذا كان غنياً عن الحاجات متصفاً بكل الكمالات أهلاً للحمد وإن لم يكن حامداً .
وقوله : { ألم يأتكم } يحتمل أن يكون خطاباً من موسى لقومه والغرض تخويفهم بمثل هلاك من تقدم من القرون فيكون داخلاً تحت التذكير بأيام الله ، واحتمل أن يكون مخاطبة من الله على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى قاله أبو مسلم . والأكثرون على أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم تحذيراً لهم عن مخالفته .

وقوله : { والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } إن كان جملة من مبتدأ وخبره فالمجموع اعتراض وإن كان قوله : { والذين من بعدهم } معطوفاً على قوم نوح فقوله : { لا يعلمهم إلا الله } وحده اعتراض . ثم إن عدم العلم إما أن يكون راجعاً إلى صفاتهم بأن تكون أحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم غير معلومة ، وإما أن يكون عائداً إلى ذواتهم بأن يكون فيما بين القرون أقوام ما بلغنا أخبارهم كما روي عن ابن عباس : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون . وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد . ونظير الآية قوله : { وقروناً بين ذلك كثيراً } [ الفرقان : 38 ] { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] قال القاضي : وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع بمقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت لأنه لو أمكن ذلك لم يبعد تحصيل العلم بالأنساب الموصولة . ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام أنهم لما { جاءتهم رسلهم بالبينات } أتوا بأمور أحدها { فردوا أيديهم في أفواههم } وفيه قولان : أحدهما أن المراد باليد والفم الجارحتان ، وعلى هذا فيه احمالان : الأول أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل كقوله : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [ آل عمران : 119 ] . قاله ابن عباس وابن مسعود وهو الأظهر ، أو وضعوا الأيدي على الأفواه ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك ، أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن قفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث قاله الكلبي ، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم { إنا كفرنا بما أرسلتم به } أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق ، وهذا قول قويّ لعطف قوله : { وقالوا } على قوله : { فردّوا } الاحتمال الثاني : أن تكون الضمائر راجعة إلى الرسل والمراد أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم أرادوا أنهم لا يعودون إلى ذلك الكلام ألبتة . أو يكون الضميران الأخيران راجعين إلى الرسل ، والمعنى أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ، أو يكون الضمير الأخير فقد عائداً على الرسل والمراد أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء ونصائحهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيباً لهم وردّاً عليهم ، أو وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء منعاً لهم من الكلام فهذه جملة الاحتمالات على القول الأول . القول الثاني : أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز . عن أبي مسلم : أن المراد باليد ما نطقت به الرسل بأفواههم من الحجج لأن دلائل الوحي من أجل النعم لأنهم إذا كذبوا الآيات ولم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل .

ونقل محمد بن جرير عن بعضهم أنه يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب ردّ يده في فيه . فمعنى الآية أنهم سكتوا عن الجواب ، وزيف بأنهم قد أجابوا بالتكذيب وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به . والمراد بما زعمتهم أن الله أرسلكم به وكأنهم في أوّل الأمر حاولوا إسكات الأنبياء ، وفي المرتبة الثانية صرحوا بتكذيبهم ، وفي الثالثة قالوا : { وإنا لفي شك } وقد مر مثله في سورة هود . فإن قلت : كيف صرحوا بالكفر ثم بنوا أمرهم على الشك؟ قلنا : أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوتكم ، ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم . ثم إنه سبحانه حكى جواب الرسل وذلك قولهم : { أفي الله شك فاطر السموات والأرض } أدخل همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه وأن وجود الله لا يحتمل الشك .
قال الضعيف المذنب المفتقر إلى عفو ربه الكريم مؤلف الكتاب الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في الدارين . إنه كان من عقيدتي أن العلم بوجود الواجب في الخارج من جملة البديهيات وكان يستبعد ذلك كثير من أقراني وأصحابي لما رأوا أن الأقدمين ما زالوا يبرهنون على ذلك في الكتب الكلامية والحكمية ، فكنت قد كتبت لأجلهم رسالة في الإلهيات مشتملة على دلائل تجري مجرى المنبهات على ذلك المعنى ، فإن الضروريات قد ينبه عليها وإن لم تحتج في الاقتناص إلى البراهين . والآن أرى أن أذكر بعض تلك المنهبات في هذا المقام لأنها مقررة لقوله سبحانه : { أفي الله شك } فأقول وبالله التوفيق : المفهوم بالنظر إلى ذاته وإلى الخارج إما أن يكون واجب الوجود فقط ، أو واجب العدم فقط ، أو ممكن الوجود والعدم معاً ، أو واجب العدم وممكن الوجود والعدم معاً ، أو واجب الوجود وواجب العدم وممكن الوجود والعدم جميعاً . فهذه أقسام سبعة والعقل الصريح لا يشك في استحالة خمسة أقسام منها في الخارج : الأول واجب العدم لذاته فقط ، الثاني واجب الوجود لذاته وواجب العدم في ذاته معاً ، الثالث واجب الوجود لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته ، والرابع واجب العدم لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته . الخامس واجب الوجود لذاته وواجب العدم لذاته وممكن الوجود والعدم في ذاته . ثم نقول : إن العقل كما لا يشك في استحالة الوجود الخارجي لهذه الأقسام الخمسة ينبغي أن لا يشك في وجود الواجب لذاته فقط في الخارج ، لأنه لو لم يكن موجوداً في الخارج كان معدوماً في الخارج . فإن كان عدمه لذاته كان من القسم الثاني من الممتنعات ، وإن كان لغيره كان من القسم الثالث منها وكلاهما محال إذ المفروض خلاف ذلك فثبت كونه موجوداً في الخارج بالضرورة وهو المطلوب ، فهذه طريقة عذراء تيسرت لنا من غير احتياج إلى دور وتسلسل يرد عليها المنوع المشهورة .

وجه ثانٍ : الموجود في الخارج إما واجب أو ممكن ، وهذه قضية اتفقوا على ضروريتها لأنها إن كان مستغنياً عن المؤثر في وجوده الخارجي فواجب وإلا فممكن فنقول : إن كانت القمسة قسمة تنويع حتى يكون المعنى أن الموجود في الخارج هذان النوعان فقد ثبت وجود الواجب في الخارج بالضرورة وهو المطلوب ، وإن كانت القسمة قسمة انفصال ولا محالة تكون مانعة الخلو فقط . أما كونها مانعة الخلو فلاستحالة العقل رفعهما معاً في الخارج ضرورة ثبوت موجود ما في الخارج بالضرورة ، وأما أنها ليست بمانعة الجمع فلأن الممكن موجود بالضرورة ولا منافاة بين وجود الواجب ووجود الممكن بالضرورة وإلا لم يستدل العقلاء من وجود الممكن على إثبات الواجب ، بل يستدلون منه على نفيه . وإذا كان الجمع بين الواجب والممكن ممكناً في الوجود والممكن موجود بالضرورة مع أنه مفتقر في وجوده إلى مؤثر موجود ، فلأن يكون الواجب موجوداً يكون أولى بالضرورة لاستغنائه عن المؤثر وكون ذاته كافية في إيجاب الوجو له وهذه مقدمة جلية مكشوفة لمن تأمل في مفهوم واجب الوجود إذا لا معنى لوجوب الوجود إلا أنه وجود يوجد ألبته من تلقاء نفسه ومع قطع النظر عما سواه ولهذا قال المحققون : إن الوجود يقع على الواجب وعلى الممكن بالتشكيك بمعنى أنه في الواجب أولى وأولى منه في الممكن .
وجه ثالث : طبيعة الواجب وطبيعة الممكن من حيث ذاتاهما يشتركان في صحة وجودهما الخارجي بالضرورة ، ويفترقان في أن الواجب ذاته كافية في إيجاب الوجود له ، والممكن لا يكفي فيه ذلك بل يحتاج في إيجاب وجوده الخارجي إلى الغير ، ولا ريب أن الأوّل أقرب إلى طبيعة الوجود من الثاني لأن الموقوف على مقدمات أكثر أعسر وجوداً والثاني واقع بالضرورة فالأولى أولى بكونه ضروري الوقوع .
وجه رابع : نسبة كل محمول إلى موضعه لا تخلو في نفس الأمر من أن تكون بالوجوب أو بالإمكان أو بالامتناع . فنسبة الوجود الخارجي إلى الماهيات الخارجية من حيث ذواتها لا تخلو من أحد الأمور الثلاثة ، لكن نسبته إليها بالامتناع ظاهرة الاستحالة ، فهي إما بالإمكان أو بالوجوب ، ولا شك أن نسبة الوجود إلى ذات الموجود أولى من نسبته إلى غيره إذ الأصل عدم الغير ، فكل ما دل البرهان على أن وجوده من غيره لتغير فيه أو نقص يحكم عليه بأنه ممكن الوجود ، وما لم يدل البرهان فيه على ذلك بل يدل على وجوب وجوده بجميع صفاته الكمالية فو واجب الوجود . ومن شك في وجود ما وجوده من تلقاء نفسه ويكون متصفاً بجميع الكمالات بعد مشاهدة ما وجوده من غيره وهو عرضة للنقائص والرذائل كان أهلاً لأن يهجر الحكمة .

وجه خامس : نفس الإمكان نقص لا نقص فوقه لاستتباعه العجز والافتقار وصحة العدم عليه الذي لا ضعف مثله ، والوجود المتصف به متحقق بالضرورة . فالوجود الذي يجوّزه العقل الصريح متصفاً بصفة الوجوب كيف لا يكون متحققاً ، ومن استبهم عليه مثل هذا الجلي فلا يلومن إلا نفسه .
وجه سادس : مقتضى ذات الشيء أقرب إيجاباً له عند العقل من مقتضى كل ما يغايره ، لكن الوجود الذي مقتضاه الإمكان ثابت في الخارج مع أن ثبوته في الخارج مقتضي الغير ، فالوجود ثابت بالطريقة الأولى .
وجه سابع : الوجود الممكن ثابت بالضرورة وليس ثبوت ذلك الوجود من تلقاء نفسه وإلا كان وجوداً واجباً لأنا لا نعني بالوجود الواجب إلا هذا . فإما أن يكون من وجود واجب وهو المطلوب ، أو من وجود مثله وحينئذ ما لم يكن ثابتاً في نفسه لم بتصوّر منه إفادة مثله ، فإذا حصل لنا وجود ممكن موصوف الثبوت في نفسه وموصوفاً بكونه مفيداً لوجود مثله . فإذا صح هذان الوصفان للوجود الممكن المفتقر فكيف لا يصحان للوجود الواجب الغني بل نسبتهما إلى الثاني أولى من نسبتهما إلى الأوّل بحكم الفهم الصحيح .
وجه ثامن : كون الشيء موجوداً في نفسه أقرب وأقبل عند العقل من كونه موجداً لغيره ، إذ ليس كل من له وجود في نفسه يكون موجداً لغيره ، وكل موجد لغيره موجود في نفسه . وإذا كان اتصاف الوجود الممكن مع ضعفه بأبعد الأمرين عن القبول واقعاً ، فكيف لا يكون اتصاف الوجود الواجب مع قوّته بأقربهما من القبول واقعاً؟
وجه تاسع : انجذاب النفوس السليمة وغير السليمة من الأنبياء والأولياء والحكماء وسائر العقلاء من إخوان الصفاء وأخدان الوفاء وأرباب البدع والأهواء إلى وجود واجب متى رجعوا إلى أنفسهم وطالعوا ملكوت السموات والأرض وتأملوا في الأحوال الواردة عليهم من كشف كرب أو هجوم نعمة ، أجلى دليل على وجود رب جليل منزه عن سمات النقص والأفول في حيز الإمكان ، مفيض للخيرات مدبر للممكنات ولهذا قال رب السموات والأرضين عن الظلمة والمعاندين { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] ثم أخبر أنهم يعتذرون عن أصنامهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، إذ لم يكن جحدهم وعنادهم عن تحقيق وصدق وإنما كانوا مكابرين في الظاهر ابتلاء من الله وشقاء منهم فالحاصل أن المؤمن والمشرك والمقر والجاحد سيان في أنه تشهد فطرته بوجود صانع للعالم واجب في ذاته وصفاته ، ولا أدل من ذلك على أنه ضروري الوجود .
وجه عاشر : وهو الاستدلال بالآفاق كل موجود سوى الواجب فله ظهور في الخارج ، لكنه إذا اعتبر في نفسه لم يكن له ذلك من تلقاء نفسه فكان فقيراً في نفسه وذلك أفول له في أفق الإمكان ، وإذا كان ما مقتضى ذاته الأفوال طالعاً فما مقتضى ذاته الطلوع أولى بأن يكون طالعاً .

وجه حادي عشر : وهو الاستدلال بالأنفس . من تأمل في ذاته وفرض شخصه في هواء طلق لا يحس فيه بمتضاد وأغفل الحواس عن أفعالها وجد شيئاً هو به هو ، وبذلك يصح أنيته وهو نفسه الناطقة التي نسبتها إلى بدنه نسبة الملك إلى المدينة يتصرف فيها كيف يشاء . ومهما انقطعت علاقته عن البدن مات صاحبه وانخرط في سلك الجمادات ، فكما أن البدن لضعفه وخسته مفتقر في قوامه وقيامه إلى مدبر يديمه ويقيمه ، فجميع العالم الجسماني بل الممكنات بأسرها لخستها وفقرها تستند لا محالة إلى ما هو أشرف منها وذلك ما وجوده من تلقاء نفسه وهو الواجب الحق تعالى شأنه ، ولولاه لتبدد نظام العالم ولم يكن من الوجود عين ولا أثر .
وجه ثاني عشر : وهو أنور الوجوه وأظهرها وهو الاستدلال بالنور على النور . لا شك أنه نور ونعني به ما هو ظاهر في نفسه مظهر لغيره فنقول : إن كان ظهوره في نفسه بنفسه فهو المطلوب وإلا فيحتاج إلى ما يظهره ، وما يظهره لا يمكن أن لا يكون ظاهراً في نفسه لأن ما لا يكون له ظهور في نفسه لا يفيد ظهوراً لغيره فننقل الكلام إلى ذلك الظاهر بأن نقول : إن كان ظهوره في نفسه بنفسه فذاك وإلا احتاج إلى ما يظهره ، ولا بد أن ينتهي في طرف الصعود إلى ما يكون ظهوره في نفسه بنفسه وإلا لم ينته الأمر في طرف النزول إلى الظاهر المفروض أوّلاً . فنهاية ما لا نهاية له محال من أي جانب فرض ، ولا تنتهض العودة اليومية نقضاً علينا بناء على أنها مسبوقة بعودات ما لا تتناهى ، فإن لا تناهيها في جانب الأزل محال عندنا . وكنا قد كتبنا في بعض كتبنا بيان استحالة ذلك ، فإن نقلت الكلام إلى فيض الواجب وقلت الفيض الواقع في زمان الحال مسبوق بإفاضات غير متناهية لا محالة ، قلنا : قلنا : لو سلمنا ذلك لكنه لا يتسحيل في الواجب لأن وجوده وأوصافه المعتبرة كلها مقتضيات ذاته ، ومقتضى ذات الشيء يدوم بدوام الشيء ومستحيل انفكاكه عنه ، فلا نهاية فيضانه تابعة للامسبوقة بغيره وكون وجوده من ذاته . ولا يلزم من كون مطلق الفيض أزلياً أن يكون الفيض المخصوص أزلياً ، وإذا ثبت وجوب انتهاء الظاهر المفروض إلى ما هو ظاهر في نفسه بنفسه ثبت المطلوب وهو وجود نور الأنوار تعالى شأنه وبهر برهانه ، وهو نهاية الممكنات في جانب الأزل وبدايتها في جانب الأبد ، فهو قديم أزلي ، ولأن وجوده مقتضى ذاته وما بالذات لا يزول فهو الباقي الدائم . هذا ما سنح من المنبهات لهذا الضعيف أثبتها في هذا الكتاب الشريف ليبقى إن شاء الله على وجه الدهر ، وينظر فيها من هو من أهلها في كل عصر والله المستعان .

قال بعض العقلاء : من لطم على وجه صبي فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار ، وعلى حصول التكليف ، وعلى ثبوت دار الجزاء ، وعلى ضرورة بعثه النبي . أما الأوّل فلأن الصبي يصيح ويقول : من الذي ضربني وما ذاك إلا بشهادة فطرته على أن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل مختار أدخلها في الوجود ، وإذا كان حال هذا الحادث مع حقارته هكذا فما ظنك بجميع الحوادث الكائنة في العالم العلوي والعالم السفلي؟! وأما دلالتها على وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول : لم ضربي ذلك الضارب؟ وفيه دلالة على أن الأفعال الإنسانية داخلة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي شيء اشتهى . وأما دلالتها على الجزاء فلأنه يطلب الجزاء على تلك اللطمة ولا يتركه ما أمكنه . وإذا كان الحال في هذا العمل القليل كذلك فكيف يكون الحال في جميع الأعمال؟! وأما وجوب النبوّة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ، ولا فائدة في بعثة النبي إلا تبيين الشرائع والأحكام ، ومما يدعو العاقل إلى الاعتراف بالمبدأ والمعاد أنه لو قرأ بهما ثم بان أن الأمر على خلافه فلا ضرر فيه ألبته ، أما إذا أنكر الصانع والتكليف والجزاء وكانت هذه الأمور في الخارج ثابتة حقة ففي إنكارها أعظم المضار ، فيلزم على العاقل أن يعترف بهذه الأمور أخذاً بالأحوط .
ثم إن الرسل بعد التنبيه على وجود الصانع ذكروا فائدة الدعوة وغايتها وذلك ثنتان : الأولى قوله : { يدعوكم } أي إلى الإيمان { ليغفر لكم من ذنوبكم } استدل بالآية من جوّز زيادة « من » في الإثبات وذلك لقوله تعالى في موضع آخر : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } { الزمر : 53 ] . وأجيب بأنه لا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غفران جميع الذنوب لغيرهم ، فالوجه أن تكون « من » للتبعيض تمييزاً بين الفريقين ، ويؤيد ما ذكرنا استقراء الآيات فإنها ما جاءت في خطاب الكافرين إلا مقرونة ب « من » كما في هذه الآية ، وفي سورة نوح وسورة الأحقاف . وقال في خطاب المؤمنين في سورة الصف { يغفر لكم ذنوبكم } [ الآية : 12 ] بغير « من » . وقيل : أراد أن يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم . وقيل : « من » للبدل أي لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب . وضعف بأنه لم يوجد له في اللغة نظير . وعن الأصم : أنه أراد إذا تبتم يغفر لكم بعض الذنوب التي هي الكبائر . فأما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة . وزيفه القاضي بأن الصغيرة إنما تكون مغفورة من الموحدين حيث يزيد ثوابهم على عقابهم ، فأما من لا ثواب له أصلاً فلا يكون شيء من ذنوبه صغيراً ولا كبيراً مغفوراً .

وقيل : المراد أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه . وقال الإمام فخر الدين الرازي : في الآية دلالة على أنه تعالى قد يغفر ذنب أهل الإيمان من غير توبة لأنه وعد بغفران بعض الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة ، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان ، فوجب أن يكون ذلك البعض هو ما عدا الكفر من الذنوب . ولقائل أن يقول : لانسلم أنه لم يشترط التوبة في الآية ، لأن قوله : { يدعوكم } أي إلى الإيمان معناه آمنوا ليغفر لكم فكأنه قيل : إن الإيمان شرط غفران بعض الذنب فلم لا يجوز أن يكون ذلك البعض هو الكفر؟ . الغاية الثانية قوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } عن ابن عباس : أي يمتعكم في الدنيا باللذات والطيبات إلى الموت الطبيعي وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال . وقد مر تحقيق الأجل في أوّل « الأنعام » .
ثم شرع في حكاية شبه الكفار وأنها ثلاث : الأولى قولهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } وذلك لاعتقادهم أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية ، فيمتنع أن يبلغ التفاوت بينهم إلى هذا الحد مع اشتراك الكل في الضروريات البشرية من الحاجة إلى الأكل والشرب والوقاع وغير ذلك . الثانية التمسك بطريقة التقليد وذلك قوله : { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } الثالثة إنكارهم دلالة المعجزة على الصدق . وعلى تقدير التسليم زعموا أنهم ما أتوا بحجة أصلاً لاعتقادهم أن معجزاتهم من جنس الأمور المعتادة ، فاقترحوا سلطاناً مبيناً أي برهاناً باهراً وحجة قاهرة . ثم إن الأنبياء سلموا أنهم بشر مثلهم ولكنهم وصفوا أنفسهم بمزية من عند الله بطريق المنة والعطية ، وبهذا استدل من جعل النبوّة محض العطاء من الله . أجاب المخالف بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسمانية تواضعاً منهم ، ولأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لها لخصائص فيها . وأما الشبهة الثانية فإنما لم يذكروا الجواب عنها لأن صحة النبوّة تهدم قاعدة التقليد ، وأما الشبهة الثالثة فجوابها { وما كان لنا } أي ما صح منا { أن نأتي بآية } اقترحتموها من تلقاء أنفسنا وإنما ذلك أمر يتعلق بمشيئة الله . والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بما أجابوا فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف وعند ذلك قالت الأنبياء { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } إلى قوله : { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } قال علماء المعاني : الأول لاستحداث التوكل ، والثاني للسعي في إبقائه وإدامته . وقيل : معنى الأول أن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله لا علينا ، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها .

ومعنى الثاني إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم . وفي قولهم : { وقد هدانا سبلنا } إشارة إلى ما سهل الله عليهم من طريقة التكميل والإرشاد وتحمل أعباء الرسالة والصبر على متاعبها ، فإن تأثير نفوسهم في عالم الأرواح كتأثير الشمس في عالم الشمس في عالم الأجسام بالإضاءة والإنارة ، وقد عرفوا بالنفوس المشرقة والأنوار الإلهية أو بالوحي الصريح أنه تعالى يعصمهم من كيد الأعداء ومكر الحساد . وفي قولهم . { ولنصبرن على ما آذيتمونا } دليل على أن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات ومثمر السعادات . أما قول الكفار للرسل : { أو لتعودن في ملتنا } فقد مر البحث عليه في سورة الأعراف في قصة شعيب . وقال صاحب الكشاف : العود ههنا بمعنى الصيرورة ، حلفوا أن يخرجوهم ألبتة إلا أن يصيروا كافرين مثلهم { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين } أجرى الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه أو أضمر القول . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من آذى جاره ورّثه الله داره »
{ ذلك } الذي قضى الله به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم حق { لمن خاف مقامي } يريد موقف الله الذي يقف به عباده يوم القيامة وهو موقف الحساب ، أو المقام مصدر أي خاف قيامي عليه بالحفظ والمراقبة كقوله : { أفمن هو قائم على كل نفس } [ الرعد : 33 ] أو قيامي بالعدل والصواب مثل { قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] أو المقام مقحم أي خافني مثل سلام الله على المجلس العالي : { وخاف وعيد } قال الواحدي : هو اسم من الإيعاد وهو التهديد . قال المحققون : إن الخوف من الله مغاير للخوف من وعيد كما أن حب الله مغاير لحب ثواب الله ، وهذه فائدة عطف أحد الخوفين على الآخر . قوله : { واستفتحوا } الضمير إما للرسل والمعنى استنصروا الله على أعدائهم أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة ، وإما للكفرة بناء على ظنهم أنهم على الحق والرسل على الباطل . وعلى الأول يكون في الكلام إضمار التقدير : فنصروا وفازوا بالمقصود . { وخاب كل جبار عنيد } معاند . وأصل العنود الميل من العند الناحية والجانب كأن كلاً من المتعاندين في جانب آخر . قيل : الجبار وهو المتكبر إشارة إلى أن فيه خلق الاستكبار ، والعنيد إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانباً للحق منحرفاً عنه وأصل الكلام على الأول : واستفتح الرسل وخاب الكفرة ، وعلى الثاني : استفتحوا وخابوا . فوضع الأعم موضع الأخص . والظاهر مقام الضمير تنصيصاً على الكفرة بأن سبب خيبتهم عن السعادة الحقيقية تجبرهم وعنادهم { من ورائه } أي من بين يديه . يقال : الموت وراء كل أحد . وذلك أن قدام وخلف كلاهما متوارٍ عن الشخص فصح إطلاق لفظ وراء على كل واحد منهما . وقال أبو عبيدة : هو من الأضداد لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر .

وهذا وصف حاله في الدنيا أو في الآخرة حين يبعث ويوقف . قال جار الله : قوله : { ويسقى } معطوف على محذوف تقديره يلقى في جهنم ما يلقى { ويسقى من ماء صديد } أي من ماء بيانه أو صفته هذا . والصديد ما يسيل من جلود أهل النار واشتقاقه من الصد لأنه يصد الناظر عن رؤيته أو تناوله . وقيل : يخلق الله في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة . { يتجرعه } يتكلف جرعه { ولا يكاد يسيغه } أي لم يقارب الإساغة فضلاً عن الإساغة قيل : ليس المراد بالإساغة مجرد حصول المشروب في الجوف لأن هذا المعنى حاصل لأهل النار بدليل قوله : { يصهر به ما في بطونهم } [ الحج : 20 ] وإنما المراد جريان المشروب في الحلق في الاستطابة وقبول النفس لا بالكراهية والتأذي . قلت : يحتمل أن يراد بالإساغة مجرد الحصول ، والآية - أعني قوله : { ويصهر } - لا تدل على الحصول لقوله قبله : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } [ الحج : 19 ] . { ويأتيه الموت من كل مكان } من جسده حتى من إبهام رجله . وقيل : من أصل كل شعرة . وقيل : المراد أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ومع ذلك فإنه لا يموت فيها ولا يحيا . ثم أخبر - والعياذ بالله- أن العذاب في كل وقت يفرض من الأوقات المستقبلة يكون أشد وأنكى مما قبله فقال : { ومن ورائه عذاب غليظ } عن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد . قال في الكشاف : يحتمل أن يكون أهل مكة استفتحوا أي استمطروا . والفتح المطر في سني القحط التي سلطت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء أحرّ وهو صديد أهل النار . وعلى هذا الفسير يكون قوله : { واستفتحوا } كلاماً مستأنفاً منقطعاً عن حديث الرسل وأممهم .
التأويل : بسم الله أي باسم الذات وهو الاسم الأعظم ابتدأت بخلق عالم الدنيا . إظهار الصفات الرحمانية التي هي للمبالغة لاشتراك الحيوان والجماد والمؤمن والكافر في الرحمة ، وبخلق عالم الآخرة إظهار الصفة الرحيمية لاختصاصها بالمؤمنين خاصة . قوله : { الر } أي بآلائي وبلطفي إن القرآن أنزلناه إليك لتخرج الناس بدلالة نوره من ظلمات عالم الطبيعة والكثرة إلى نور عالم الروح والوحدة . { بإذن ربهم } الذي يربيهم هو لا أنت . وفي قوله : { إلى صراط } إشارة إلى أن القرآن هو طريق الوصول إلى من احتجب بحجب العزة والمحمدة واستتر بأستار مظاهر القهر واللطف . وفي الاختتام بقوله : { الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } إشارة إلى أن من بقي في أفعاله وهي المكونات لم يصل إلى صفاته ، ومن بقي في صفاته لم يصل إلى ذاته ، ومن وصل إلى ذاته بالخروج عن أنانيته إلى هويته انتفع بصفاته وأفعاله .

{ وويل للكافرين } من شدة ألم الانقطاع عن الله . ثم أخبر أن الكافر الحقيقي هو الذي قنع بالإيمان التقليدي فأقبل على الدنيا وأعرض عن المولى فضل وأضل . { إلا بلسان قومه } أي يتكلم معهم بلسان عقولهم . { ولقد أرسلنا } بواسطة جبريل الجذبة { موسى } القلب بآيات عصا الذكر واليد البيضاء من الصدق والإخلاص . { أن أخرج قومك } وهم الروح والسر والخفي من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي { وذكرهم بأيام الله } التي كان الله ولم يكن معه شيء وهو بحبهم بلاهم { إن في ذلك } التذكير { لآيات } في نفي الوجود { لكل صبار } بالله مع الله من غير الله { شكور } لنعمة الوجود الحقيق ببذل الوجود المجازي { ولئن شكرتم } بالطاعة { لأزيدنكم } في تقربي إليكم ، لأزيدنكم في محبتي لكم ، ولئن شكرتم في محبتي لكم لأزيدنكم في الخدمة ، ولئن شكرتم في الخدمة لأزيدنكم في الوصول ، ولئن شكرتم في الوصول لأزيدنكم في التجلي ، ولئن شكرتم في التجلي لأزيدنكم في الفناء عنكم ، ولئن شكرتم في الفناء لأزيدنكم في البقاء ، ولئن شكرتم في البقاء لأزيدنكم في الوحدة ، { ولئن كفرتم } نعمتي في المعاملات كلها { إن عذابي } قطيعتي { لشديد } { وقال موسى } القلب { إن تكفروا أنتم } أيها الروح والسر والخفى بالإعراض عن الحق والإقبال على الدنيا بتبعية النفس ومن في أرض البشرية من النفس والهوى والطبيعة . { يدعوكم } من المكونات إلى الملكوت { ليغفر لكم } بصفة الغفارية { من ذنوبكم } التي أصابتكم من حجب عالم الخلق { ويؤخركم } في التخلق بأخلاقه { إلى أجل مسمى } هو وقت الفناء في الذات { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } للتوكل مقامات : فتوكل المبتدىء قطع النظر عن الأسباب في طلب المرام ثقة بالمسبب ، وتوكل المتوسط قطع تعلق الأسباب بالمسبب ، وتوكل المنتهي قطع تعلق ما سوى الله والاعتصام ببابه . { لمن خاف مقامي } وهو مقام الوصول إليّ فإن هذا مقام الأخص ، وأما خوف الخواص فعن مقام الجنة ، وخوف العوام عن مقام النار { وخاف وعيد } القطيعة واستنصر القلب والروح من أمر الله على النفس والهوى . { من وراثه } أي قدام النفس في متابعة الهوى { جهنم } الصفات الذميمة { ويسقى من ماء صديد } هو ما يتولد من الصفات والأخلاق من الأفعال الرذيلة ، يسقى منه صاحب النفس الأمارة { يتجرعه } بالتكلف { ولا يكاد يسيغه } لأنه ليس من شربه { يأتيه } أسباب { الموت من كل مكان } من كل فعل مذموم { ومن ورائه عذاب غليظ } هو عذاب القطيعة والبعد والله أعلم بالصواب .

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

القراآت : { الرياح } على الجمع : أبو جعفر ونافع . الباقون على التوحيد { خالق السموات والأرض } بلفظ اسم الفاعل : حمزة وعلي وخلف . الباقون بلفظ الفعل . { سبلنا } بإسكان الباء حيث كان : أبو عمرو { لي عليكم } بفتح الياء : حفص . { بمصرخي } بكسر الياء : حمزة . الآخرون بالفتح { أشركتموني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق عمرو ويزيد وقتيبة وإسماعيل في الوصل { البوار } ممالة : أبو عمرو وعلي : { ليضلوا } بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . الباقون بضمها . { لعبادي الذين } مرسلة : الياء : ابن عامر وحمزة وعلي ويعقوب والأعشى . الباقون بالفتح . { من كل } بالتنوين : يزيد وعباس . الباقون بالإضافة .
الوقوف : { عاصف } ط بناء أن ما بعده مستأنف كأن سائلاً سأل هل يقدرون من أعمالهم { على شيء } ط { البعيد } 5 { بالحق } ط { جديد } 5 لا لأن ما بعده يتم معنى الكلام { بعزيز } 5 { من شيء } ط { لهديناكم } ط { محيص } 5 { فأخلفتكم } ط { فاستجبتم لي } ج لاختلاف الجملتين { أنفسكم } ط لابتداء النفي { بمصرخي } ط الحق أن من قال إن الابتداء بقوله : { إني كفرت } قبيح فجوابه أن الكفر بالإشراك واجب كالإيمان { من قبل } ط { أليم } 5 { بإذن ربهم } ط { سلام } 5 { في السماء } 5 لا { ربها } ط { يتذكرون } 5 { من قرار } ط { وفي الآخرة } ج لتكرار اسم الله تعالى في الفعلين مع أن كليهما مستقل بخلاف قوله : { ويفعل الله } لأنه في المعنى بيان قوله : { ويضل الله } { وما يشاء } 5 { البوار } لا { جهنم } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً أو حالاً من فاعل { أحلوا } أو م مفعوله أو من كليهما { يصلونها } ط { القرار } 5 { عن سبيله } ط { إلى النار } 5 { ولا خلال } 5 { رزقاً لكم } ط { بأمره } ج { الأنهار } ج { دائبين } ج { والنهار } ج لحسن هذه الوقوف مع العطف لتفصيل النعم تنبيهاً على الشكر { سألتموه } ط لابتداء الشرط مع تمام الكلام { لا تحصوها } ط { كفار } 5 .
التفسير : لما ذكر في الآيات المتقدمة أنواع عذاب الكفار أراد أن يبين غيابة حسرتهم ونهاية خيبتهم . فقال : { مثل الذين } وارتفاعه عند سيبويه على الابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى أو يقص عليكم مثلهم . وقوله : { أعمالهم كرماد } جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم . وقال الفراء : المضاف محذوف أي مثل أعمال الذين كفروا . وإنما جاز حذفه استغاء بذكره ثانياً . وقيل : المثل صفة فيها غرابة فأخبر عنها بالجملة المراد صفة الذين كفروا { أعمالهم كرماد } كقولك « صفة زيد عرضه مصون وماله غير مخزون » ويجوز أن يكون { أعاملهم } بدلاً والخبر { كرماد } وحده . والمراد بأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسارى وعقر الإبل للأضياف وإغاثة الملهوفين وإعانة المظلومين ، شبهها في حبوطها - لبنائها على غير أساس التوحيد والإيمان - برماد طيرته الريح في يوم عاصف .

قال الزجاج : جعل العصف لليوم وهو لما فيه يعني الريح مجازواً كقولك « يوم ماطر » . قال الفراء : وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف أو في يوم عاصف الريح فحذف لذكره مرة . وقيل : المراد من أعمالهم عباداتهم للأصنام . ووجه حسرتهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها دهراً طويلاً . ثم لم ينتفعوا بذلك بل استضروا به . وقوله : { مما كسبوا على شيء } القياس عكسه كما في « البقرة » لأن « على » من صلة القدرة ولأن مما كسبوا صفة لشيء ولكنه قدم في هذه السورة لأن الكسب - أعني العمل الذي ضرب له المثل - هو المقصود بالذكر ولهذا أشار إليه بقوله : { ذلك هو الضلال البعيد } أي عن الحق والثواب . ثم كان لسائل أن يسأل : كيف يليق بحكمته إضاعة أفعال المكلفين؟ فقال : { ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق } مستتبعة للفوائد والحكم دالة على وجود الصانع القدير ، فحبوط الأعمال إنما يلزم من كفر المكلفين وكونها غير مبنية على قاعدة الإيمان والإخلاص لا من أنه سبحانه يمكن أن يوجد في أفعاله عبث أو خلل أو سهو . ثم بين كمال قدرته واستغنائه عن الظلم والقبائح وعن عمل كل عامل فقال : { إن يشأ يذهبكم } وقد مر مثله في سورة النساء . { وما ذلك على الله بعزيز } بمتعذر لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور . فإن قيل : الغرض من الآية إظهار القدرة وزجر المكلفين عن المعصية وذلك إنما يتم بقوله : { إن يشأ يذهبكم } فما فائدة قوله : { ويأت بخلق جديد } وهل فيه دليل على أن الفياض لا يوجد بدون الفيض؟ قلنا : على تقدير تسليمه لا تنحصر الفائدة فيه بل لعل الفائدة هي تأكيد التخويف فإن التألم من تصور العدم المجرد ليس كالتألم من تصور عدمه مع إقامة غيره مقامه ، على أن الإذهاب لا يلزم منه الإعدام فيكون شبيهاً بعزل شخص ونصب غيره مقامه . وللحكيم أن يستدل بقوله : { يذهبكم } على أن مادة الجوهر لا تعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض . والجواب أن الإذهاب ههنا بمعنى الإعدام ، ولو سلم فلا يلزم من عدم وقوع الإعدام ههنا امتناعه في جميع الصور . وفيه أنه الحقيق بأن يخشى عقابه ويرجى ثوابه فلذلك أتبعه أحوال الآخرة فقال : { وبرزوا } بلفظ الماضي تحقيقاً للوقوع مثل { وسيق } [ الزمر : 73 ] { ونادى } [ الأعراف : 48 ] والتركيب يدل على الظهور بعد الخفاء ومنه « امرأة برزة » إذا كانت تظهر للناس « وبرز فلان على أقرانه » إذا فاقهم . ومعنى بروزهم لله وهو سبحانه لا يخفى عليه شيء أنهم كانوا يستترون عن العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خافٍ على الله .

فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية ، أو المضاف محذوف أي برزوا لحساب الله وحكمه . قال أبو بكر الأصم : قوله : { وبرزوا لله } هو المراد من قوله : { ومن ورائه عذاب غليظ } وعلى قواعد الحكماء : النفس إذا فارقت الجسد زال الغطاء وكشف الوطاء وظهرت عليه آثار الملكات والهيئات التي كان يمنعها عن الشعور بها اشتغالها بعالم الحس فذلك هو البروز لله ، فإن كانوا من السعداء برزوا لموقف الجمال بصفاتهم القدسية وهيئاتهم النورية ، فما أجل تلك الأحوال ويا طوبى لأهل النوال . وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف الجلال بأوصافهم الذميمة وهيئاتهم المظلمة ، فما أعظم تلك الفضيحة وما أشنع تلك المهانة .
كتب { الضعفواء } بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ومثله : { علمواء بني إسرائيل } [ الشعراء : 197 ] والضعفاء العوام الأراذل ، والذين استكبروا سادتهم وأشرافهم الذين استنكفوا عن عبادته تعالى فضلوا وأضلوا . قال الفراء : أكثر أهل اللغة على أن التبع جمع تابع كخدم وخادم وحرس وحارس . وجوز الزجاج أن يكون التبع مصدراً أي ذوي أتباع إما في الكفر أو في الأمور الدنيوية { فهل أنتم مغنون } هل يمكنكم دفع عذاب الله { عنا } ومن في { من عذاب الله } للتبيين وفي { من شيء } للتبعيض . والمعنى هل تدفعون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو كلاهما للتبعيض بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله { قالوا لو هدانا الله لهديناكم } . عن ابن عباس : لو أرشدنا الله لأرشدناكم قال الواحدي : معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله أضلهم ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى . وقال في الكشاف : لعلهم قالوا ذلك مع أنه كذبوا فيه كقوله : { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم } [ المجادلة : 18 ] واعترض عليه بأن هذا خلاف مذهبه لأنهم لا يجوّزون صدور الكذب عن أهل القيامة كما مر في أوائل « الأنعام » في قوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الآية : 23 ] وجوز أيضاً أن يكون المراد لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان . وزيف بأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله . وقيل : لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة ، ويؤكد هذا التفسير قوله : { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } وإعرابه كقوله : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } [ البقرة : 6 ] أرادوا إقناطهم من دفع العذاب بالكلية ، أو أرادوا أن عتاب الضعفاء لهم وتوبيخهم إياهم نوع من الجزع ولا فائدة فيه ولا في الصبر . وجوز في الكشاف أن يكون قوله : { سواء علينا } الخ من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً نظيره في وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر ، قوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه } { يوسف : 52 ] والمحيص المنجي والمهرب مصدر كالمغيب والمحيص ، أو مكان كالمبيت والمضيف .

ولما ذكر مناظرة شياطين الإنس أتبعها مناظرة شيطان الجن . ومعنى { قضي الأمر } قطع وفرغ منه وذلك حين انقضاء المحاسبة . والأكثرون على أنه بعد الحساب ودخول الأشقياء النار والسعداء الجنة . وعند أهل السنة هو بعد خروج الفساق من النار فليس بعد ذلك إلا الدوام في الجنة أو في النار . يروى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً في النار فيقول : { إن الله وعدكم وعد الحق } وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافرون قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول » ووعد الحق من إضافة الموصوف إلى صفته مثل « مسجد الجامع » ، أو تأويله وعد اليوم الحق ، أو الأمر الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال . وفي الآية إضماران : الأول وعدكم وعد الحق فوفى لكم بما وعدكم . الثاني ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم الوعد . ووجه الإضمار الأول دلالة الحال عليه لأنهم كانوا يشاهدون وليس وراء العيان بيان ، ولأن ذكر نقيضه وهو إخلاف الوعد من الشيطان يغني عنه ، ووجه الثاني أيضاً مثل ذلك . ثم ذكر طريق وسوسته اعتذاراً منهم فقال : { وما كان لي عليكم من سلطان } من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي { إلا أن دعوتكم } قال النحويون : هذا الاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السطان فالمراد لكن دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوسة ، ويمكن أن يوجه الاستثناء بالاتصال لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقسر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاءه الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط .
{ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } لأنكم ما سمعتم مني إلا الدعاء والتزيين وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبيائه فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إليّ . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ، وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين ، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال : « فلا تلوموني ولا أنفسكم » فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه ، وقول الشيطان وإن لم يصلح للحجة إلا عدم إنكار الله تعالى عليه حجة . هذا مع أن أول كلام اللعين مبني على الإنصاف والصدق فكذا ينبغي أن يكون آخره . قال المحققون : الشيطان الأصلي هو النفس وذلك أن الإنسان إذا أحس بشيء أو أدركه ترتب عليه شعوره بكونه ملائماً له ، أو بكونه منافراً له ويتبع هذا الشعور الميل الجازم إلى الفعل أو إلى الترك ، وكل هذه الأشياء من شأن النفس ولا مدخل للشيطان في شيء من هذه المقامات إلا بأن يذكره شيئاً من أن الإنسان كان غافلاً عن صورة امرأة فيلقى الشيطان حديثها في خاطره .

وكيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه؟ جوابه أن الشيطان إذا كان جسماً لطيفاً والله سبحانه ركبه تركيباً عجيباً لا يقبل التفرق والتمزق مع لطافته فلا يستبعد نفوذه في الأجرام الكثيفة كالنار تسري في الفحم وكالدهن في السمسم وإن كان جوهراً نورانياً مجبولاً على الشر ، والنفس الإنسانية أيضاً جوهر علوي مجرد فلا يبعد وصول أثر أحدهما إلى الآخر . وذهب بعض الحكماء إلى أن كل روح من الأرواح البشرية فإنه ينتسب إلى روح معين من الأرواح السماوية ، وأنها تتولى إرشاد الأرواح الإنسانية إلى مصالحها بالإلهامات الحسنة في حالتي النوم واليقظة . هذا إذا كانت خيرة ، وأما إذا كانت شريرة فإنها توسوسها بالخواطر والأعمال القبيحة ، والقدماء كانوا يسمون كلاً من تلك الأرواح بالطباع التام . وذكر بعض العلماء احتمالاً آخر وهو أن النفوس البشرية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها ، فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق ، فتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن وتعضدها على أحوالها وأفعالها ، فإذا كان هذا المعنى في أبواب الخير كان إلهاماً ، وإن كان في باب الشر كان وسوسة .
ثم حكى الله سبحانه عن الشيطان أنه قال : { ما أنا بمصرخكم } قال ابن عباس : يريد بمعينكم ولا منقذكم . قال ابن الأعرابي : الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث . صرخ فلان إذا استغاث . وقال واغوثاه ، وأصرخته أي أغثته . وعاب النحويون على حمزة أنه قرأ : { وما أنتم بمصرخيّ } لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف في نحو « عصاي » فما بالها وقبلها ياء . وحاصل ما عابوا عليه أنه لم يوجد له نظير في استعمال العرب ، لكنك تعلم أن القرآن حجة على غيره . قوله : { إني كفرت بما أشركتموني } إن كانت « ما » مصدرية فالمعنى إني كفرت أي أنا جاحد وما كان لي رضا بإشراككم لي في الدنيا مع الله في الطاعة وفي أن لي تدبيراً وتصرفاً في هذا العالم ، وإن كانت موصولة على ما قاله الفراء من أن « ما » في معنى « من » كقوله : « سبحان ما سخركن لنا » فالمراد إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالله الذي أشركتمونيه . ووجه نظم الكلام على هذا التفسير أن إبليس كأنه يقول : لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت بالله قبل أن كفرتم ، وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة ، وهذا التقرير يناسب أصول الأشاعرة .

أما قوله : { إن الظالمين لهم عذاب أليم } فالأظهر أنه كلام الله ، ويشمل إبليس ومن تابعه من الثقلين وليس ببعيد أن يكون من بقية كلام إبليس قطعاً لأطماع أولئك الكفار عن إغاثته . ثم شرع في أحوال السعداء وقال : { وأدخل } على لفظ الماضي تحقيقاً للوقوع ، وقوله : { بإذن ربهم } متعلق ب { أدخل } أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره . وقرأ الحسن { وأدخل } على لفظ المتكلم . قال في الكشاف : فعلى هذا يتعلق قوله : { بإذن ربهم } بما بعده يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم . وقد تقدم معنى قوله : { تحيتهم فيها سلام } في أول سورة يونس . ثم لما بين أحوال السعداء وكان قد ذكر أحوال أضدادهم ، أراد أن يذكر لكل من الفريقين مثلاً . قال في الكشاف { كلمة طيبة } نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة { كشجرة طيبة } وهو تفسير لقوله : { ضرب الله مثلاً } أو ضرب بمعنى جعل أي جعل الله كلمة طيبة مثلاً . ثم قال كشجرة طيبة أي هي كشجرة . وقال صاحب حل العقد : أظن أن الوجه أن يجعل قوله : { كلمة } عطف بيان ، وقوله : { كشجرة } مفعول ثانٍ . عن ابن عباس : الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله . والشجرة الطيبة شجرة في الجنة . وعن ابن عمر : هي النخلة . وقيل : الكلمة الطيبة كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة . والشجرة كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك . وقيل : لا حاجة بنا إلى تعيين تلك الشجرة ، والمراد أن الشجرة الموصوفة ينبغي لكل عاقل يسعى في تحصيلها وادّخارها لنفسه سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن .
أما صفات الشجرة فالأولى كونها طيبة ويشمل طيب المنظر والشكل والرائحة وطيب الفاكهة المتولدة منها وطيب منافعها والثانية : { أصلها ثابت } راسخ آمن من الانقطاع . ولا شك أن الشيء الطيب إنما يكمل الفرح بحصوله إذا أمن انقراضه وزواله . والثالثة { وفرعها في السماء } أي في جهة العلو وهذا تأكيد لرسوخ أصله فإن الأصل كلما كان أقوى وأرسخ كان الفرع أعلى وأشمخ . ومن فوائد ارتفاع الأغصان بعدها عن عفونات الأرض ونقاؤها عن القاذورات . قال في الكشاف : فرعها أعلاها ورأسها ، ويجوز أن يريد وفروعها على الاكتفاء بلفظ الجنس . الصفة الرابعة { تؤتي أُكلها كل حين } أي تعطي ثمرها كل وقت وقَّته الله لأثمارها . وعن ابن عباس : الحين ستة أشهر لأن من حملها إلى صرامها ستة أشهر . وقال مجاهد وابن زيد : سنة لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة ولا سيما النخلة إذا تركوا عليها التمر بقي من السنة إلى السنة . وقال الزجاج : الحين الوقت طال أم قصر . والمراد أنه ينتفع بها في وقت يفرض ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاءً { بإذن ربها } بتيسير خالقها وتكوينه .

قال المحققون : معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وطاعته هي الشجرة الطيبة بل لا طيب ولا لذيذ إلا هي ، لأن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة لملاقاة شيء من المحسوس شيئاً من الحاس . أما نور معرفة الله وإشراقها فإنما ينفذ ويسري في جميع جواهر النفس حتى إنه يكاد يتحد به . ثم إن سائر اللذات منقطعة متناهية ، ولذة المعرفة لا تكاد تنتهي إلى حد . وإن عروق هذه الشجرة ثابتة راسخة في جوهر النفس الناطقة ولها شعب وأغصان صاعدة في هواء العالم الروحاني يجمعها التعظيم لأمر الله ، ومنشؤها القوة النظرية ، وغايتها الحكمة العملية بأقسامها وأصولها وفروعها ، وأغصان نابتة في فضاء العالم الجسماني ومنبتها القوة العملية وفائدتها الحكمة الخلقية التي يجمعها الشفقة على خلق الله عموماً وخصوصاً . وأثر رسوخ شجرة المعرفة في القلب أن يكون نظره للاعتبار { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] وسمعه للحكمة { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 18 ] ونطقه بالصدق والصواب { وقولوا قولاً سديداً } [ الأحزاب : 70 ] وكذا الكلام في سائر القوى والأعضاء . وهنالك مراتب لا تكاد تنحصر بحسب مراتب الاستعدادات . وإذا صار جوهر النفس كاملاً بحسب هذه الفضائل فقد يكون مكملاً لغيره وذلك قوله : { تؤتي أكلها كل حين } .
وفي قوله : { بإذن ربها } إشارة إلى أن النظر في جميع هذه المراتب يجب ان يكون على المفيض لا على الفيض ، وعلى المنعم لا على النعمة . و { ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون } المبدأ وعرفانه والمعاد وإتيانه فيختار الكمال على النقصان . وأثر العرفان للمعروف لا للعرفان فيكون حينئذ جوهر النفي كلمة طيبة كما قال في حق عيسى { كلمة من الله } [ آل عمران : 39 ] . وإذا عرفت الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة سهل عليك معرفة ضديهما . فالكلمة الخبيثة كلمة الشرك أو كل كلمة قبيحة أو كل نفس شريرة ، والشجرة الخبيثة الباطل أو كل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والثوم ونحو ذلك . ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها { ما لها من قرار } أي من استقرار مصدر كالثبات والنبات . وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً ولا في السماء مصعداً إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة . قلت : وذلك أن الباطل لا قائل به ولا يوافقه فيه من هو بصدد الاعتبار فهو مضمحل زائل . والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد مضمحل زائل . والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد اليقين . وكذا النفس الخبيثة لا تكون لها طمأنينة ولا وقار ، تراها أبداً تسعى في الطرق المضلة والسبل المنحرفة كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران .

ولما شبه حال الفريقين بما شبه بين مآل حالهما فقال : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } أي الذي ثبت بالحجة والبرهان وتمكن في قلب صاحبه بحيث لم يكن للتشكيك فيه مجال . هذا في الحياة الدنيا فلا جرم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كأصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا في القبول لم يتلعثموا ، وإذا وقفوا بين يدي الجبار لم يبهتوا . عن ابن عباس : من دوام على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها . وقد ورد في حديث سؤال القبر عن البراء بن عازب مثل ذلك . والسبب العقلي فيه أن المواظبة على الفعل توجب رسوخ الملكة بحيث لا تزول بتبدل الأحوال وتقلب الأطوار . وإنما فسرت الآخرة ههنا بالقبر لأن الميت ينقطع بالموت عن أحكام الدنيا ويدخل في أحكام الآخرة . فمعنى الآية يثبت الله الذين آمنوا بالله وبما يجب الإيمان به على ما آمنوا به في الدارين ، أو يثبتهم الله فيهما بسبب القول الثابت على القول الثابت . وقيل : معنى الآية يثبتهم الله على الثواب والكرامة سببب القول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا ، وسيصدر عنهم حال ما يكونون في الآخرة . ويرد عليه أن الآخرة ليست دار عمل وإن كان قوله : { في الحياة الدنيا } متعلقاً بقوله : { ويثبت } أي ثبتهم على الثواب في الدارين بسبب القول ، ورد عليه أن الدنيا ليست دار ثواب ، ويمكن أن يناقش في هذا الإيراد لقوله سبحانه : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] { ويضل الله الظالمين } الذين وضعوا الباطل موضع الحق والشرك بدل التوحيد في الدارين ، فلا جرم إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري . { ويفعل الله ما يشاء } من التثبيت والإضلال . ولا اعتراض لأحد عليه أو من منح الألطاف ومنعها كما تقتضيه الحكمة .
ثم عجب من ظالمي مكة بقوله : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله } أي شكر نعمته { كفراً } أي وضعوا مكان الشكر الكفر أو بدلوا نفس النعمة كفراً أي سلبوا النعمة فلم يبق معهم إلا الكفر . وذلك أنه تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم معايشهم وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم يقوموا بشكر تلك النعم فضربهم بالقحط سبع سنين وقتلوا يوم بدر وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم وأعناق من تابعهم وذلك قوله : { وأحلوا قومهم دار البوار } أي الهلاك . وقوله { جهنم } عطف بيان { وبئس القرار } أي المقر مصدر سمى به . قوله : { ليضلوا } من قرأ بضم الياء فاللام للغرض أو للعاقبة ، ومن قرأ بفتحها فاللام للعاقبة لأن العاقل لا يريد ضلال نسه ولكنه قد يريد إضلال الغير لمصلحة دنيوية . وإنما حسن استعمال اللام لأجل العاقبة من حيث إنها تشبه الغاية والغرض من قبل حصولها في آخر المراتب والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز .

{ قل تمتعوا } أمر وعيد وتهديد . قال جار الله : فيه إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع هو آمر الشهوة . والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة { فإن مصيركم إلى النار } وإنما سمى عيش الكفار تمتعاً لأن إمهالهم في الدنيا على أيّ وجه يفرض يكون أسهل مما أعد لهم في الآخرة من العقاب . ومن الذين نزل فيهم؟ روي عن عمر أنه قال : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية . فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين . وقيل : هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه . ولما أمر الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا تهديداً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بحث المؤمنين على خلاف ذلك وهو الإقبال على ما ينفعهم في الآخرة فقال : { قل لعبادي الذين } المقول محذوف لأن جواب « قل » يدل عليه التقدير : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا . وجوز بعضهم أن يكون المذكور هو المقول بناء على أنه أمر غائب محذوف اللام . وإنما حسن الحذف لأن الأمر الذي هو « قل » عوض منه ، ولول قيل : « يقيموا الصلاة وينفقوا » ابتداء بحذف اللام لم يجز . والخلال المخالة أراد أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في هذا اليوم الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مصادقة ، وإنما ينتفع بالإنفاق لوجه الله . ونفي المخالة في هذه الآية وفي قوله في البقرة : { لا بيع فيه ولا خلة } [ الآية : 254 ] لا ينافي إثباتها في قوله : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ ولا المتقين } [ الزخرف : 67 ] لأن المنفية هي التي سببها ميل الطبيعة ورغبة النفس ، والمثبتة هي التي يوجبها الاشتراك في الإيمان العمل الصالح .
ولما ختم أحوال المعاد عاد الى المبدإ فقال : { الله } وهو مبتدأ خبره { الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم } وقد مر في أول « البقرة » والمراد من السماء جهة العلو . وقيل : نفس السماء ، وزيف بأن الإنسان ربما كان واقفاً على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه ، وإذا نزل من ذلك الجبل يرى الغيم ماظراً عليه . { وسخر لكم الفلك } كقوله في أواسط البقرة { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } { الآية : 164 ] وقد مر . ومعنى { بأمره } بتيسيره وتسييره لأنه خلق موادها وألهم صنعتها وجعل الماء بحيث يسهل على وجهه جريها ، ولأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال إنه أمر بكذا . ومنهم من حمل الأمر على الظاهر أي بقوله : « كن » . { وسخر لكم الأنهار } وجه المنة فيها أن البحر قلما ينتفع به في العمارة والزراعة لعمقه ولملوحته ففجر الله الأنهار والعيون والآبار الصالحة للانتفاع بها كما لا يخفى { وسخر لكم الشمس والقمر } أي صيرهما تحت تصرفه وتسخيره بحيث يعود انتفاع ذلك عليكم من التسخين والترطيب والإضاءة والإنارة لأنهما مذللان للإنس .

وقوله : { دائبين } نصب على الحال . والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة مطردة أي يدأبان في مسيرهما وإنارتهما وسائر منافعهما وخواصهما ، وهكذا معنى التسخير في قوله : { وسخر لكم الليل والنهار } أي قدر هذين العرضين المتعاقبين لراحة الإنسان ولمعاشه . ولما فصل طرفاً من النعم أجمل الباقية منها بقوله : { وآتاكم من كل ما سألتموه } أي بعض جميع ما سألتموه . ومن قرأ بالتنوين ف « ما » إما نافية والجملة نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، أو موصولة بمعنى وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه وطلبتموه بلسان الحال . ثم بين أن نعم الله على عبيده غير متناهية فقال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } أي لا تقدرون على تعدادها لكثرتها بل لعدم تناهيها . قال الواحدي : النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر كالنفقة بمعنى الإنفاق ولهذا لم تجمع . ومن تأمل في تشريح الأبدان وفي أعضاء الحيوان وأجزائها من العروق الدقاق والأوردة والشرايين وفي كل واحد من الأعضاء البيسطة والمركبة ووقف على منافعها ، عرف بعض دقائق نعم الله تعالى على عباده . وإذا جاوز النفس إلى الآفاق وسير فكره في أحوال الأجسام السفلية والعلوية ، وقف من بديع صنعتها وعظيم منفعتها على ما يقضى منه العجب . وإذا عبر الملك إلى الملكوت تاه في أودية الحيرة والدهشة وتلاشى عقله عند أدنى سرادقات العزة والهيبة . قال الحكيم : إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها . أما الذي قبلها فكالخبز والطحن والزرع وغير ذلك من الآلات المعينة والأسباب الفاعلية والقابلية حتى تنتهي إلى الأفلاك والعناصر ، وأما الذي بعده فكالقوى المعينة على الجذب والإمساك والهضم والدفع وكالأعضاء الحاملة لتلك القوى وكسائر الأمور النافعة في ذلك الباب خارجة من البدن أو داخلة فيه ، فإنها لا تكاد تنحصر . وإذا كانت نعم الله تعالى في تناول لقمة واحدة تبلغ هذا المبلغ فكيف فيما جاوز ذلك؟ إذا كنت في عالم الأجساد ، فإذا تخطيت إلى عالم الأرواح وأجلت طرف عقلك في ميادين القدس وحظائر الأنس وصادفت بعض ما هنالك من الكرامات واللذات فلعلك تعرف حق النعمة إذ تغرق في لجة المنة أو تغرف من نهر المنحة والنعم هنالك على وفق الاستعداد وإدراك النعم بمقدار الفهم والرشاد ، فإن كنت أهلاً لها فذاك وإلا فلا تلم إلا نفسك { إن الإنسان } أي هذا الجنس { لظلوم } يظلم النعمة بإغفال شكرها { كفار } شديد الكفران لها وذلك أنه مجبول على النسيان والملالة فلا بد أن يقع في إغفال شكر النعمة إن نسيها ، أو في كفران النعمة إذا ملها .

وقيل : ظلوم في الشدائد بالشكاية والجزع كفار في السعة يجمع ويمنع . واعلم أنه ختم الآية في هذه السورة بما ختم وختمها في النحل بقوله : { إن الله لغفور رحيم } وكأنه قال : إن كنت ظلوماً فأنا غفور ، وإن كنت كفاراً فأنا رحيم فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء ، تلك صفتك في الأخذ وهذه صفتي في الإعطاء .
التأويل : { وبرزوا } من القشور الفانية { لله جميعاً } من القويّ والضعيف { فقال الضعفاء } وهم المقلدة { للذين استكبروا } من المبتدعين { إني كفرت بما أشكرتموني } آمن اللعين حين لا ينفع نفساً إيمانها { وأدخل } فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا خلى وطباعه لا يدخل الجنة لأنه خلق ظلوماً جهولاً سفلي الطبع ، وإنما يدخله الله بفضله وعنايته { جنات } القلوب { تجري من تحتها } أنهار الحكمة { خالدين فيها بإذن ربهم } أي بعنايته وإلا لم يبق فيها ساعة كما لم يبق آدم . تحية أهل القلوب على أهل القلوب لسلامة قلوبهم ، وتحيتهم على أهل النفوس لمرض قلوبهم ليسلموا من شر نفوسهم { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] { ألم تر } أي ألم تشاهد بنور النبوّة { كيف ضرب الله مثلاً } للاستعداد الإنساني القابل للفيض الإلهي دون سائر مخلوقاته { كلمة طيبة } هي كلمة التوحيد { كشجرة طيبة } عن لوث الحدوث مثمر إثمار شواهد أنوار القدم { أصلها ثابت } في الحضرة الإلهية فإنها صفة قائمة بذاتها { وفرعها } في سماء القلوب { تؤتي أكلها } من أنوار المشاهدات والمكاشفات { كل حين } يتقرب العبد إلى ربه يتقرب الرب تعالى إليه { ويضرب الله الأمثال للناس } لمن نسي العهد الأوّل { لعلهم يتذكرون } الحالة الأولى فيسعون في إدراكها { ومثل كلمة } تتولد من خباثة النفس { اجتثت من فوق } أرض البشرية { ما لها من قرار } لأنها من الأعمال الفانيات لا من الباقيات الصالحات . { يثبت الله الذين آمنوا } يمكنهم في مقام الإيمان بملازمة كلمة لا إله إلا الله والسير في حقائقها { في الحياة الدنيا وفي الآخرة } لأن سير أصحاب الأعمال ينقطع بالموت وسير أرباب الأحوال لا ينقطع أبداً . { وأحلوا قومهم } أرواحهم وقلوبهم ونفوسهم وأبدانهم ، أنزلوا أبدانهم جهنم البعد ونفوسهم الدركات وقلوبهم العمى والصمم والجهل ، وأرواحهم العلوية أسفل سافلين الطبيعة فبدلوا نعم الأخلاق الحميدة كفراً لأوصاف الذميمة { الله الذي خلق } سموات القلوب وأرض النفوس { وأنزل من } سماء القلوب { ماء } الحكمة { فأخرج به } ثمرات الطاعات { رزقاً } لأرواحكم { وسخر لكم } فلك الشريعة { لتجري في } بحر الطريقة بأمر الحق لا بالهوى والطبع . وكم لأرباب الطلب من سفن انكسرت بنكباء الهوى { وسخر لكم } أنهار العلوم الدينية وشمس الكشوف وقمر المشاهدات وليل البشرية ونهار الروحانية . ومعنى التسخير في الكل جعلها أسباباً لاستكمال النفس الإنسانية { وآتاكم من كل ما سألتموه } من سائر الأسباب المعينة على ذلك ، فجميع العالم بالحقيقة تبع لوجود الإنسان وسبب لكماليته وهو ثمرة شجرة المكونات فلذلك قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } لأن مخلوقاته غير منحصرة ولكها مخلوق لاستكماله { إن الإنسان لظلوم } بإفساد استعداده { كفار } لا يعرف قدر نعمة الله في حقه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . قوله تعالى :

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)

القراآت : { إبراهام } بالألف : هشام والأخفش عن ابن ذكوان { إني أسكنت } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { ومن عصاني } بالإمالة : علي { دعائي } بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب . وقرأ أبو عمرو ويزيد وورش وحمزة وسهل والبرجمي والخزاز عن هبيرة وأحمد بن فرج عن أبي عمرو عن إسماعيل بالياء في الوصل . والباقون والهاشمي عن ابن فليح بغير ياء في الحالين . { نؤخرهم } بالنون : عباس والمفضل في رواية أبي زيد . الآخرون بالياء . { لتزول } بفتح الأول ورفع الآخر : عليّ . الباقون بكسر الأول ونصب الآخر . { القهار } مثل { البوار } { قطر } بكسر القاف وسكون الطاء والراء مكسورة منونة . { آن } على أنه اسم فاعل : يزيد عن يعقوب والوقف على قراءته { آني } بالياء .
الوقوف : { الأصنام } ط { من الناس } ج { مني } ج فصلاً بين النقيضين مع اتحاد الكلام { رحيم } 5 { المحرم } لا لأن قوله : { ليقيموا } يتعلق بقوله : { أسكنت } وكلمة { ربنا } تكرار { يشكرون } 5 { ما نعلن } ط { ولا في السماء } 5 لا { وإسحاق } ط { الدعاء } 5 { ومن ذريتي } ز قد قيل : { والوصل أولى للعطف { وربنا } تكرار { دعاء } 5 { الحساب } ط { الظالمون } 5 ط { الأبصار } 5 لا لأن ما بعده حال { طرفهم } ج لاحتمال أن قوله : { وأفئدتهم } يكون من صفات أهل المحشر وأن يكون من صفة الكفار في الدنيا { هواء } 5 ط { قريب } لا لأن قوله : { نجب } جواب { أخرنا } { الرسل } ط { زوال } 5 لا للعطف على { أقسمتم } { الأمثال } 5 { وعند الله مكرهم } ط { الجبال } 5 { رسله } ط { انتقام } 5 ط فإن انتقامه لا يختص بوقت والتقدير اذكر يوم { القهار } 5 { في الأصفاد } 5 ج للآية ولأن الجملة بعد من صفات المجرمين { النار } 5 لا لتعلق لام كي { ما كسبت } ط { الحساب } 5 { الألباب } 5 .
التفسير : إن قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم يحتمل أن تكون مثالاً للكلمة الطيبة وأن تكون دعاء إلى التوحيد وإنكار لعبادة الأصنام ، وأن تكون تعديداً لبعض نعمه على عبيده فإن وجود الصالحين ولا سيما الأنبياء والمرسلين رحمة فيما بين العالمين كما قال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً } [ آل عمران : 164 ] . وذلك بدعاء إبراهيم ومن نسله صلى الله عليه وسلم نبينا صلى الله عليه وسلم . حكى الله سبحانه عنه طلب أمور منها : قوله : { رب اجعل هذا البلد آمناً } وقد مر في « البقرة » الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك . ولا ريب أن في مكة مزيد أمن ببركة دعائه حتى إن الناس مع شدة العداوة بينهم كانوا يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً ، وكان الخائف إذا التجأ بمكة أمن ، وللوحوش هناك استئناس ليس في غيرها ، وإنما قدم طلب الأمن على سائر المطالب لأنه لولاه لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من مهمات الدين والدنيا ومن هنا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه .

وسئل بعض الحكماء أن الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال : الأمن دليله أن شاء لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل وإنها لو ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناول شيئاً إلى أن تموت ، فدل ذلك على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الألم الحاصل للجسد . ومنها قوله : { واجنبني ونبيّ أن نعبد الأصنام } قال جار الله : أهل الحجاز يقولون : جنبني شره بالتشديد . وأهل نجد : جنبني وأجنبني . وفائدة الطلب - والاجتناب حاصل - التثبت والإدامة ولا أقل من هضم النفس وإظهار الفقر والحاجة والتماس العصمة من الشرك الخفي . أما قوله : { وبني } فقيل : أراد بنيه من صلبه وأنهم ما عبدوا صنماً ببركة دعائه . وقيل : أولاده وأولاد أولاده ممن كانوا موجودين حال دعوته . وقال مجاهد وابن عيينة : لم يبعد أحد من ولد إبراهيم صنماً وهو التمثال المصور ، وإنما عبدت العرب الأوثان يعني أحجاراً مخصوصة كانت لكل قوم زعموا أن البيت حجر فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت ، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ولذلك استحب أن يقال : طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت . وضعف هذا الجواب بأنه إذا عبد غير الله فالوثن والصنم سيان ، على أنه سبحانه وصف آلهتهم بما ينبىء عن كونهم مصورين كقوله : { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } [ الأعراف : 198 ] الآيات إلى قوله : { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } [ الأعراف : 198 ] . وقيل : إن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده بدليل قوله : { فمن تبعني فإنه مني } أي من أهلي فإنه يفهم منه أن من لم يتبعه في دينه فإنه ليس من أهله كقوله لابن نوح { إنه ليس من أهلك } [ هود : 46 ] وقيل : إنه وإن عمم الدعاء إلا أنه أجيب في البعض كقوله : { ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] . قالت الأشاعرة : لو لم يكن الإيمان والكفر بخلق الله تعالى لم يكن لالتماس التبعيد عن الكفر معنى . وحمله المعتزلة على منح الألطاف .
أما قوله : { رب إنهن أضللن كثيراً } فاتفقوا على أن نسبة الإضلال إليهن مجاز لأنهن جمادات فهو كقولهم « فتنتهم الدنيا وغرتهم » أي صارت سبباً للفتنة والاغترار بها { فمن تبعني } بقي على الملة الحنيفة { فإنه مني } أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } قال السدي : معناه ومن عصاني ثم تاب . وقيل : إن هذا الدعاء كان قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك . وقيل : المراد أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإسلام . وقيل : أراد أن يمهلهم حتى يتوبوا وقيل : ومن عصاني فيما دون الشرك فاستدل الأشاعرة بإطلاقه من غير اشتراط التوبة على أنه شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر ، وإذا ثبت هذا في حق إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثبت في حق نبينا بالطريق الأولى .

ثم أراد أن يعطف الله بدعائه قلوب الناس كلهم أو جلهم على إسماعيل ومن ولد منه بمكة وأن يرزقهم من الثمرات فمهد لذلك مقدمة فقال : { ربنا إني أسكنت من ذريتي } أي بعضهم { بواد غير ذي زرع } أي لم يكن فيه شيء من زرع قط كقوله : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } [ الزمر : 28 ] أي لا اعوجاج فيه أصلاً ولم يوجد ذلك فيه في زمن من الأزمان . وقد سبق في سورة البقرة قصة مجيء إبراهيم صلى الله عليه وسلم بإسماعيل وأمه هاجر إلى هنالك . وفي قوله : { عند بيتك الحرام } دليل على أنه دعا هذه الدعوة بعد بناء البيت لا في حين مجيئه بهما . ومعنى كون البيت محرماً أن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لأجل حرمته ، وأنه لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب . وقيل : سمي محرماً لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو حرم على المكلفين أن يقربوه بالدماء والأقذار ، أو لأنه أمر الصائرون إليه يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل { ربنا ليقيموا الصلاة } أي ما أسكنتهم بهذا الوادي القفر إلا لإقامة الصلاة عند البيت وعمارته بالذكر والطواف . { فاجعل أفئدة من الناس } « من » للتبعيض أي أفئدة من أفئدة الناس . قال مجاهد . لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند . وعن سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس لحجة اليهود والنصارى والمجوس ولكنه أراد أفئدة المسلمين . وجوز في الكشاف أن يكون « من » للابتداء كقولك « القلب مني سقيم » . وعلى هذا فإنما يحصل التبعيض من تنكير أفئدة فكأنه قيل : أفئدة ناس . ومعنى { تهوي } تسرع { إليهم } وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً . وقيل : تنحط وتنحدر . الأصمعي : هوى يهوي هوياً بفتح الهاء إذا سقط من علو إلى سفل وفي هذا الدعاء فائدتان : إحداهما ميل الناس إلى تلك البلدة للنسك والطاعة ، والأخرى نقل الأقمشة إليه للتجارة ، وفي ضمن ذلك تتسع معايشهم وتكثر أرزاقهم ومع ذلك قد صرح بها فقال : { وارزقهم من الثمرات } فلا جرم أجاب الله دعاءه فجعله حراماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء . وقيل : أراد أن يحصل حواليها القرى والمزارع والبساتين . ثم ختم الآية بقوله : { لعلهم يشركون } ليعلم أن المقصود الأصلي من منافع الدنيا وسعة الرزق هو التفرغ لأداء العبادات وإقامة والوظائف الشرعية .
ثم أثنى على الله سبحانه تمهيداً لدعوة أخرى وتعريضاً ببقية الحاجات فقال : { ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } على الإطلاق لأن الغيب والشهادة بالإضافة إلى العالم بالذات سيان .

وقيل : ما نخفي من الوجد بسبب الفرقة بيني وبين إسماعيل ، وما نعلن من البكاء والدعاء ، أو أراد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله أكلكم . قال المفسررون : { وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء } من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون من كلام إبراهيم . و « من » للاستغراق أي لا يخفى على الذين يستحق العبادة لذاته شيء ما في أيّ مكان يفرض . { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر } أي مع كبر السن وفي حال الشيخوخة { إسماعيل وإسحاق } ذكر أوّلاً كونه تعالى عالماً بالضمائر والسرائر ، ثم حمده على هذه الموهبة لأن المنة بهبة الولد في حال وقوع اليأس من الولادة أعظم لأنها تنتهي إلى حد الخوارق فكأنه رمز إلى أنه يطلب من الله سبحانه أن يبقيهما بعده ولهذا ختم الآية بقوله : { إن ربي لسيمع الدعاء } وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي مجيب الدعاء ، أو إلى فاعلها بأن يجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي ، والمراد سماع الله تعالى ، ويحتمل أن يكون قوله : { إن ربي لسميع الدعاء } رمزاً إلى ما كان قد دعا ربه وسأله الولد بقوله : { رب هب لي من الصالحين } [ الصافات : 100 ] روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة . وقيل : إسماعيل لأربع وستين ، وإسحق لتسعين . وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة .
ثم ختم الأدعية بقوله : { رب اجعلني مقيم الصلاة } أي مديمها { ومن ذريتي } أي واجعل بعض ذريتي كذلك لم يدع للكل لأنه علم بإعلام والله تعالى أنه يكون في ذريته كفار وذلك قوله سبحانه { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] { ربنا وتقبل دعائي } عن ابن عباس : أي عبادتي ، وحمله على تقبله الأدعية السابقة في الآية غير بعيد { ربنا اغفر لي } طلب المغفرة لا يوجب سابقة الذنب لأن مثل هذا إنما يصدر عن الأنبياء والأولياء في مقام الخوف والدهشة على أن ترك الأولى لا يمتنع منهم وحسنات الأبرار سيئات المقربين . أما قوله : { ولوالدي } فاعترض عليه بأنه كيف استغفر لأبويه وهما كافران؟ وأجيب بأنه قال ذلك بشرط الإسلام ، وزيف بأن قوله تعالى : { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } [ الممتحنة : 4 ] مستثنى من الأشياء التي يؤتسى فيها بإبراهيم ، ولو كان استغفاره مشروطاً بإسلام أبيه لكان استغفاراً صحيحاً فلم يحتج إلى الاستثناء . وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء والصحيح في الجواب أنه استغفر له بناء على الجواز العقلي والمنع التوفيقي بعد ذلك لا ينافيه { يوم يقوم الحساب } أي يثبت مستعار من قيام القائم على الرجل ومثله قولهم « قامت الحرب على ساقها » أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً ، أو المضاف محذوف مثل

{ واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . ثم عاد إلى بيان الجزاء والمعاد لأن دعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد انجر إلى ذكر الحساب فقال : { ولا تحسبن الله غافلاً } إن كان الخطاب لكل مكلف أو للنبي والمراد أمته فلا إشكال ، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فمعناه التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله إلا عالماً بجميع المعلومات ، أو المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يقولون ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير . وعن ابن عيينة : تسلية للمظلوم وتهديد للظالم . قالت : لأنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون غافلاً عن الظلم أو عاجزاً عن الانتقام أو راضياً بالظلم وكل ذلك مناف لوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } أي أبصارهم كقوله : { واشتعل الرأس } [ مريم : 4 ] شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا تطرف وذلك إنما يكون عند غاية الحيرة وسقوط القوة { مهطعين } مسرعين قاله أبو عبيدة . والغالب من حال من يبقى بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً ، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد لأنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مسرعين نحو ذلك البلاء . وقال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع . وقيل : هو الساكت { مقنعي رؤوسهم } رافعيها وهذا أيضاً بخلاف المعتاد لأن الغالب ممن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه لكيلا يراه { لا يرتد إليهم طرفهم } الطرف تحريك الأجفان على الوجه الذي خلق وجبل عليه . وسمى العين بالطرف تسمية بفعلها أي لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم . والمراد دوام الشخوص المذكور . وقيل : أي لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم { وأفئدتهم هواء } والهواء الخلاء الذي يشغله الأجرام . وصف قلب الجبان به لأنه لا قوة فيه ، ويقال للأحمق أيضاً قلبه هواء . والمعنى . أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخوطر والأفكار لعظم ما نالهم ، وعن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العذاب . والأظهر أن هذه الحالة لهم عند المحاسبة لتقدم قوله : { يوم يقوم الحساب } وقيل : هي عندما يتميز السعداء من الأشقياء . وقيل : عند إجابة الداعي والقيام من القبور . وعن ابن جريج : أراد أن أفئدة الكفار في الدنيا صفر من الخير خاوية منه . قال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم { وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب } مفعول ثان لأنذروا اليوم يوم القيامة ، واللام في العذاب للمعهود السابق من شخوص الأبصار وغيره ، أو للمعلوم وهو عذاب النار . ومعنى { أخرنا } أمهلنا { إلى } أمد وحد من الزمان { قريب } أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى { أو لم تكونوا } على إضمار القول أي فيقال لهم ذلك .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32