كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

وثانيهما أن من له كمال عزة الأمانة يلزم كمال ذلة المؤتمن في الظاهر بصلاح كتمان أمر الأمانة . وقد يختص غير المؤتمن بحسن الثناء عليه ليكون عزته في الظاهر وذلته في الحقيقة يدلك على حقيقة حفظ السر خطاب ، { اسجدوا لآدم } [ البقرة : 34 ] وعتاب { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] { فإن أمن بعضكم بعضاً } كما اخترتك من بين الخليقة واصطفيتك على البرية بحمل الأمانة { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } ولا تكتموا الشهادة ، أشهدتكم على أنفسكم يوم الميثاق بإقرار قبول الأمانة فقلتم : بلى شهدنا . فاليوم أطالبكم بأداء حقها فأدوها لي ملفوفة بلفاف التقوى « الإيمان عريان ولباسه التقوى » وكتمان الشهادة أن يكون شهودك مع غير شواهد ربك ، وهذا من نتائج خيانة قلبك في أمانة ربك ، فلا يشاهد قلبك إلا شواهد ربك ، ولا يؤدي سرك حقيقة أمانة ربك إلا إلى ربك بربك لربك .

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

القراآت : { فيغفر لمن يشاء } بإدغام الراء في اللام : أبو عمرو . وجملة أهل العلم على الإخفاء لا على الإدغام التام { فيغفر } و { يعذب } برفع الراء والباء : يزيد وابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب . وقرأ حمزة غير أبي عمرو والحلواني عن قالون وابن مجاهد وأبو عون وأبو ربيعة عن البزي وخلف لنفسه يعذب من بالإظهار ، أبو عمرو يدغم { ويعذب من يشاء } كل القرآن . { وكتابه } حمزة وعلي وخلف الباقون { وكتبه } جمعاً لا يفرق بياء الغيبة يعقوب . الباقون بالنون { أخطأنا } مثل { فادارأتم } [ البقرة : 72 ] .
الوقوف : { وما في الأرض } ط { به الله } ط لمن قرأ { فيغفر } بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر ، ومن جزم العطف لم يقف . { من يشاء } ط . { قدير } ه { والمؤمنون } ه ، لمن لم يقف على من ربه . { المصير } ه ، { وسعها } ط { ما اكتسبت } ط { أو أخطأنا } ج { من قبلنا } ج لأن النداء للابتداء ولكن الواو لعطف السؤال على السؤال { لنا به } ج { واعف عنه } وقفة { واغفر لنا } كذلك { واحمنا } كذلك للتفصيل بين أنواع المقاصد والاعتراف بأن أطماعنا غير واحد { الكافرين } ه .
التفسير : إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول وهي دلائل التوحيد والنبوة والمعاد وأشياء كثيرة من بيان الشرائع والتكاليف كالصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والصداق والخلع والإيلاء والإرضاع والبيع والربا والمداينة ، ختم السورة بكلام دل على كماله ملكه وهو قوله : { لله ما في السموات وما في الأرض } وعلى كمال علمه وهو قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } وعلى كمال قدرته وهو قوله { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } وفي ذلك غاية الوعد للمطيعين ونهاية الوعيد للمذنبين . وعن أبي مسلم أنه لما قال : والله بما تعملون عليم . ذكر عليه دليلاً عقلياً فإن من كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع الفاخرة لا بد أن يكون محيطاً بأجزائها وجزئياتها . وقيل : لما أمر بالوثائق من الكتبة والأشهاد والرهن ، ذكر ما علم منه أن المقصود يرجع إلى الخلق وأنه منزه على الانتفاع به . وقال الشعبي وعكرمة ومجاهد : إنه لما أوعد على كتمان الشهادة ذكر أن له ما في السموات وما في الأرض فيجازي على الكتمان والإظهار . عن ابن عباس وأبي هريرة واللفظ له : « لما نزل { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والصدقة . وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »

فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله عزّ وجل : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال : نعم { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } قال : نعم ، { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال نعم { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال نعم .
واعلم أن العلماء اتفقوا على أن الأمور التي تخطر بالبال مما يكرهها الإنسان ولا يمكنه إزالتها عن النفس ، لا يؤاخذ بها لأنها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق ، وأما الخواطر التي يوطن الإنسان نفسه عليها ويعزم على إدخالها في الوجود فقد قيل : إنه يؤاخذ بها لقوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } [ البقرة : 225 ] وكما يؤاخذ باعتقاد الكفر والبدع وأنه من أفعال القلوب ، ثم قال بعضهم : إنما يؤاخذ بها الدنيا لما روى الضحاك عن عائشة أنها قالت : ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه . نعم يبتليه في الدنيا أو حزن أو أذى ، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب . وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه . وقيل : إن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فإنه في محل العفو لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول قوله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } « إن الله تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا » وقيل : معنى قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } أن يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية ، وعلى هذا فلا حاجة الى التزام النسخ . وكذا لو قيل : إن معنى كونه حسيباً ومحاسباً كونه عالماً بما في الضمائر والسرائر فيغفر لمن يشاء وإن كان من أصحاب الكبائر لعموم اللفظ . وعند المعتزلة لمن استوجب المغفرة بالتوبة وهو تخصيص من غير دليل { ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } مستولِ على كل الممكنات بالقهر والغبة والإيجاد والإعدام . فعلى كل عاقل أن يكون له عبداً منقاداً خاضعاً لأوامره ومراضيه ، محترزاً عن مساخطه ومناهيه ليستحق المدح والثناء بقوله { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } فإن كمال الربوبية في الواجب يستلزم كمال العبودية في الممكن ، وكمال العبودية في الممكن يستتبع كمال الرحمة عليه وذلك قوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } إلى آخر السورة .

أو نقول : إنه بدأ السورة بذكر المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، فبيّن في آخرها أن الذين مدحتهم في أول السورة هم أمة محمد { والمؤمنون كل آمن بالله } ثم قال ههنا { وقالوا سمعنا وأطعنا } كما قال هناك { ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } [ البقرة : 3 ] وقال ههنا { غفرانك ربنا وإليك المصير } كما قال هنالك { وبالآخرة هم يوقنون } [ البقرة : 4 ] ثم حكى عنهم كيفية تضرعهم إلى ربهم بقوله : { ربنا لا تؤاخذنا } إلى آخر السورة كما قال هناك { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } [ البقرة : 5 ] أو نقول : إنه سبحانه لما ذكر في هذه السورة أنواع الشرائع والأحكام ، بيّن أن الرسول اعترف لمعجزة دلت على صدق الملك أن ذلك وحي من الله وصل إليه ، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله معصوم من التحريف وليس بشيطان مضل . ثم ذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك لمعجزات أظهرها الله تعالى على يد الرسول حتى استدلت الأمة بها على أنه صادق في دعواه وهو المرتبة المتأخرة . ومن تأمل في نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه ، فهو أيضا معجز بحسب ترتيبه ونظم مبانيه . ولعل الذين قالوا إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك . ثم ههنا احتمالان : أحدهما أن يكون تمام الكلام عند قوله : { المؤمنون } فيكون المعنى { آمن الرسول . . . والمؤمنون . . . بما أنزل إليه من ربه } ثم ابتدأ بقول { كل آمن } فيكون الضمير الذي التنوين نائب عنه في كل عائداً إلى الرسول والمؤمنين أي كلهم آمن بل كل واحد ممن تقدم ذكره من الرسول والمؤمنين آمن ، ولهذا وحد . ومثل هذا الضمير يجوز أن يفرد بمعنى كل واحد ، ويجوز أن يجمع كقوله { وكل أتوه داخرين } [ النمل : 87 ] وهذا الاحتمال يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان مؤمناً بربه ثم آمن ، فيحمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال وذلك أنه عرف بما ظهر من المعجزات على يد جبريل عليه السلام أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزل من عند الله تعالى وليس من باب إلقاء الشياطين ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة . والاحتمال الثاني أن يتم الكلام عند قوله { من ربه } ثم ابتدأ من قوله { والمؤمنون كل آمن بالله } وفي هذا الاحتمال إشعار بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي نزلت عليه كما قال { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] أما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال فقد كان حاصلاً منذ خلق من أول الأمر بل كان نبياً وآدم بين الماء والطين ، كما أن عيسى خلق كامل العقل حتى قال في المهد

{ إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً } [ مريم : 30 ] وعلى هذا فإنما خص الرسول بذلك لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون متلواً يسمعه الغير ويعرفه فيمكنه أن يؤمن به ، وقد يكون وحياً لا يعلمه سواه . فيكون هو صلى الله عليه وسلم مختصاً بالإيمان به ولا يتمكن الغير من الإيمان به .
واعلم أن الآية دلت على أن معرفة هذه المراتب الأربع من ضروريات الإيمان :
المرتبة الأولى هي الإيمان بالله سبحانه فإن صدق المبلغ والرسول يتوقف على وجود المبلغ والمرسل .
والثانية الإيمان بالملائكة فإنهم وسائط بين الله وبين البشر . { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } [ النحل : 2 ] { علمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] .
والثالثة الكتب فإنه الوحي الذي يتلقفه الملك ويوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فمثال الملك في عالم الصورة جرم القمر ، ومثال الوحي نور القمر . فكما أن القمر يستفيد من نور الشمس ويوصله إلينا فكذا الملك يأخذ الوحي من الله تعالى ويلقيه على الأنبياء فلا جرم وقع الرسل في المرتبة الرابعة . وهذا الترتيب مما تقتضيه حكمة عالم التكليف والوسائط وإلا فمقام لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل معلوم لنبينا صلى الله عليه وسلم ، وهذا سر تطلع منه على أسرار أخرى إن كنت من أهلها ، ثم الإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده وبصفاته وبأفعاله بأحكامه وبأسمائه . أما الإيمان بوجوده فهو أن تعلم أن وراء المتحيزات موجوداً خالقاً لها ، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقراً بوجود الإله تعالى فيكون الخلاف معهم في ذات الله تعالى . وأما الفلاسفة والمعتزلة فالخلاف معهم في الصفات لا في الذات ، لأنهم مقرون بوجود موجود غير متحيز ولا حال في المتحيز ، وأما الإيمان بصفاته فالصفات إما ثبوتية أو سلبية أو إضافية . وقد عرفت في تفسير البسملة ما يصح وصفه تعالى بها وما لا يصح ، وكذا في تفسير آية الكرسي . وأما الإيمان بأفعاله فأن تعلم أن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وتكوينه حتى الأفعال التي تسمى اختيارية للحيوانات ، وذلك أن مشيئة الإنسان محدثة منتهية إلى الله سبحانه فهو مضطر في صورة مختار . وقد حققنا هذه المسألة في تفسير قوله { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] وأما الإيمان بأحكامه فإن تعلم أنها غير معللة بغرض وإن كان يترتب عليها الفوائد ، وأن تعلم أن المقصود من شرعها منافع عائدة إلى العباد لا إلى الله فإنه منزه عن جلب المنافع ودفع المضار ، وأن تعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد ، وأن تعلم أنه لا يجب على الحق بسبب الأعمال شيء ، وأنه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله ولا يقبح منه شيء ، لأن الكل ملكه وملكه .

وأما الإيمان بأسمائه فهي الأسماء الواردة في كتب الله المنزلة وفي كلمات أنيبائه المرسلة ، وقد مر في تفسير البسملة فهذا هو الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله . وأما الايمان بالملائكة فهو الإيمان بوجودها . فأما البحث عن أنها روحانية محضة ، أو جسمانية محضة ، أو مركبة من القسمين ، وبتقدير كونها جسمانية فلطيفة أو كثيفة ، وإن كانت لطيفة فنورانية أو هوائية فذاك مقام العلماء الراسخين في العلوم القرآنية والبُرهانية ويدخل في الإيمان بالملائكة اعتقاد أنهم معصومون ، وأن لذتهم بذكر الله ، وحياتهم بمعرفته وطاعته ، وأنهم وسائط بين الله وبين البشر ، وبهم وصلت الكتب إلى الأنبياء ، ولكل طائفة منهم مقام معلوم وجزء مقسوم من أقسام هذا العالم . وأما الإيمان بالكتب فإن تعلم أن كلها وحي من عند الله وليس لأحد من المخلوقات أن يلقي فيها شيئاً من ضلالاتهم ولا سيما في القرآن العظيم . وإن من قال : إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان ، فقد أخرج القرآن عن كونه حجة وطرق إليه التغيير والتحريف . وأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، ومحكمه يكشف عن متشابهه . وأما الإيمان بالرسل فإن تعلم كونهم معصومين عن الذنوب في باب الاعتقاد في أمر التبيلغ وفي الفتيا وفي الأخلاق وفي الأفعال كما مر في قصة آدم ، وأن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن ليس بني خلافاً لبعض الصوفية ، وأن بعض الأنبياء أفضل من بعض كما قال تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [ البقرة : 253 ] وأما فضلهم على الملائكة فقد قال بعضهم : إن الأنبياء أفضل من الملائكة . وقال كثير من العلماء : إن الملائكة السماوية أفضل منهم وإنهم أفضل من الملائكة الأرضية . وقد مر تحقيق ذلك في قصة آدم أيضاً . وأن تعلم أن شرعهم وإن صار منسوخاً إلا أن نبوتهم لم تصر منسوخة . وإنهم الآن أنبياء ورسل كما كانوا ، وناقش بعض المتكلمين في ذلك . فهذه إشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله . وأما من قرأ { وكتابه } على الوحدة فإما أن يراد به القرآن ، ثم الإيمان به يتضمن الإيمان بمجموع الكتب والرسل . وإما أن يراد به جنس الكتب السماوية فإن اسم الجنس المضاف قد يفيد العموم كقوله : { وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] وقال { احل لكم ليلة الصيام الرفث } [ البقرة : 187 ] وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام . قال العلماء : قراءة الجمع أولى لمشاكلة ما قبله وما بعده . وقيل : قراءة الإفراد أولى لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع . ومن هنا قال ابن عباس : الكتاب أكثر من الكبت . ومن قرأ { لا نفرق } بالنون فلا بد من إضمار أي يقولون لا نفرق . ومن قرأ بالياء على أن الفعل لكل فلا حاجة إلى الإضمار ، ثم إن الجملة خبر أو حال واحد في معنى الجمع .

أي بين كل منهم وبين آخر منهم ، فإن النكرة في سياق النفي تعم ولذلك صلحت لدخول « بين » عليها . وليس المراد بعدم التفريق عدم التفضيل لقوله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [ البقرة : 253 ] بل المراد عدم التفريق في الإيمان بهم وفي اعتقاد بنوتهم لظهور المعجزات على أيديهم حسب دعاويهم . والغرض منه تزييف معتقد اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى دون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وعن أبي مسلم : لا نفرق ما جمعوا كقوله { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } [ آل عمران : 103 ] واعلم أن قوله { آمن الرسول } إلى قوله { بين أحد من رسله } إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة { وقالوا سمعنا وأطعنا } إشارة إلى استكمال القوة العملية بالأعمال الفاضلة الكاملة . أو نقول : إن للإنسان إياماً ثلاثة الأمس والبحث عنه يسمى معرفة المبدأ ، واليوم والبحث عنه يسمى بالوسط ، والغد والفحص عنه يسمى بعلم المعاد . فقوله : { آمن الرسول } إلى قوله { من رسله } إشارة إلى معرفة المبدأ { وقالوا سمعنا وأطعنا } إشارة إلى الوسط و { غفرانك ربنا وإليك المصير } علم المعاد ومثله في آخر سورة هود { ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله } [ هود : 123 ] وهو معرفة المبدأ لأن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة . وقوله : { ولله غيب السموات والأرض } [ هود : 123 ] فيه بيان كمال العلم ، وقوله { وإليه يرجع الأمر } فيه كمال القدرة . وأما علم الوسط وهو علم ما يجب أن يشتغل به اليوم فبدايته الاشتغال بالعبودية وهو قوله : { فاعبده } [ هود : 123 ] ونهايته قطع النظر عن الأسباب ، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب وهو قوله { وتوكل عليه } [ هود : 123 ] وأما علم المعاد فقوله : { وما ربك بغافل عما تعملون } [ هود : 123 ] أي ليومك غد سيصل إليك فيه نتائج أعمالك ومثله { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] وهو معرفة المبدأ { وسلام على المرسلين } [ الصافات : 181 ] وفيه إشارة إلى عالم الوسط { والحمد لله رب العالمين } [ الصافات : 182 ] إشارة إلى علم المعاد كقوله { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] والوقوف على هذه الأسرار إنما يكون بجذبة من ضيق عالم الأسرار إلى فسحة عالم الأنوار . أو نقول { والمؤمنون كل آمن بالله } إشارة إلى الأحكام العقليات { وقالوا سمعنا وأطعنا } إشارة إلى الأحكام السمعيات . قال الواحدي : أي سمعنا قوله وأطعنا أمره . وقيل : حذف المفعول صورة . ومعنى ههنا أولى ليفيد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله ، ولا أمر تجب إطاعته إلا أمره . والسماع ههنا بمعنى القبول أي سمعناه بآذان عقولنا وعرفنا صحته وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم السلام ، فهو حق صحيح واجب قبوله ، ثم قال { وأطعنا } فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها ، فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكاليف علماً وعملاً .

{ غفرانك } مصدر منصوب بإضمار فعله أي اغفر . ويقال : غفرانك اللهم لا كفرانك . من قوله { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } [ آل عمران : 115 ] أي لن تعدموا جزاءه . وفي الكشاف : أي نستغفرك ولا نكفرك . وقيل : معناه نسألك غفرانك فيكون مفعولاً به . والأشهر أنه مصدر حذف فعله وجوباً لكثرة الاستعمال وللاستغناء به عن فعله نحو : سقياً ورعياً . وههنا سؤال وهو أن القوم لما قبلوا التكليف وعملوا به فأي حاجة بهم إلى طلب المغفرة؟ والجواب لعلهم خافوا أن يكون قد فرط منهم تقصير فيما يأتون ويذرون ، أو لعلهم كانوا يرتقون في درجات العبودية فيستغفرون مما قد خلفوها ، ومن ههنا قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين . وقد حمل قوله صلى الله عليه وسلم : « وإني لأستغفر الله في اليوم سعبين مرة » على مثل هذا . ولأن جميع الطاعات في جنب مواجب حقوق الإلهية جنايات وتقصير وقصور ، ولهذا حكى عن أهل الجنة { دعواهم فيها سبحانك اللهم } [ يونس : 10 ] أي أنت منزه عن تسبيحنا وتقديسنا { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] أي كل الحمد له ، وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا . ثم إن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين : أحدهما بالإضافة إليه ، والثاني بقوله : { ربنا } أما القيد الأول فمعناه أطلب المغفرة منك وأنت الكامل في هذه الصفة والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة ، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب ويبدّلها حسنات . أو تكون الإضافة إشارة إلى ما ورد في الحديث : « إن لله تعالى مائة جزء من الرحمة قسم جزءاً منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات فبها يتراحمون ويتعاطفون . وأخر تسعة وتسعين جزءاً ليوم القيامة » أو لعل العبد يقول : كل صفة من صفاتك فإنما يظهر أثرها في محل معين . فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك ، ولولا جرم العبد وجنايته وعجزه وحاجته لم يظهر آثار مغفرتك ورأفتك . فأنا أطلب الغفران الذي لا يمكن ظهوره إلا في حقي وفي حق أمثالي من المذنبين . وأما القيد الثاني فمعناه ربيتني إذ أوجدتني مع أنك لو لم تربني في ذلك الوقت لم أتضرر به لأني كنت أبقى في العدم ، والآن لو لم تربني أتضرر به فأسألك أن لا تهملني . أو ربيتني حين لم أذكرك بالتوحيد فكيف يليق بكرمك أن لا تربيني وقد أفنيت عمري في توحيدك؟ أو ربيتني في الماضي فاجعل تربيتك لي في الماضي شفيعاً إليك في أن تربيني في المستقبل ، أو ربيتني فيما مضى فأتمم هذه التربية فيما يستقبل فإن إتمام المعروف خير من ابتدائه ، { وإليك المصير } حيث لا حكم إلا حكمك ولا يشفع أحد إلا بإذنك .

وفيه اعتراف بأنه تعالى عالم بالجزئيات قادر على كل الممكنات ، له المحيا وله الممات . قوله سبحانه { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } إن قلنا إنه من تمام كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع وإنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا . وإن قلنا إنه من كلام الله تعالى مستأنفاً فالوجه أنهم لما قالوا سمعنا وأطعنا ثم طلبوا المغفرة ، دل ذلك على أنه لا يصدر عنهم زلة إلا على سبيل السهو والنسيان ، فلا جرم خفف الله تعالى عنهم إجابة لدعائهم . والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه كالصلوات الخمس وصوم رمضان والحج ، فإنه كان من إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة . ولكنه تعالى ما جعل في الدين من حرج لكمال رحمته وشمول رأفته . واعلم أن المعتزلة عولوا في نفي تكليف ما لا يطاق على هذه الآية ، ثم استنبطوا منها أصلين : الأول أن العبد موجد لأفعال نفسه إذ لو كان بتخليق الله تعالى لم يكن للعبد قدرة على دفعها لضعف قدرته ، ولا على فعلها إذ الموجود لا يوجد . ثانياً ، فتكليف العبد بالفعل يكون تكليف ما لا يطاق . الثاني أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان المأمور بالإيمان غير قادر عليه ، فيلزم تكليف ما لا يطاق . أما الأشاعرة فقالوا : تكليف من مات على الكفر كأبي لهب مع العلم بعدم إيمانه تكليف بالجمع بين النقيضين . والجواب أن العلم بعدم الإيمان ليس تكليفاً بعدم الإيمان حتى يلزم التكليف بالنقيضين ، والتكليف بأمر ممكن لذاته ممتنع لغيره غير التكليف بأمر مستحيل لذاته الذي هو محل النزاع . لكن الأشعري لما كانت حجته قوية عنده خصص الآية بأنها إنما وردت في التكاليف الممكنة ، إذ التكليف بالممتنع ليس تكليفاً بالحقيقة وإنما هو إعلام وإشعار بأنه خلق من أهل النار . على أنه لو جعلت من قول المؤمنين لم يبق فيها حجة ، ويحتمل أن يقال : لما حكاه عنهم في معرض المدح وجب أن يكونوا صادقين فيه { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } قال الواحدي : إن الكسب والاكتساب واحد . قال تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } [ الأنعام : 164 ] وقيل : الاكتساب أخص لأن الكسب لنفسه ولغيره ، والاكتساب ما يكتسب لنفسه خاصة . وقيل : في الاكتساب مزيد اعتمال وتصرف لهذا خص بجانب الشر دلالة على أن العبد لا يؤاخذ من السيئات إلا بما عقد الهمة عليه وربط القلب به بخلاف الخير فإنه يثاب عليه كيفما صدر عنه . قالت المعتزلة : في الآية دليل على أن الخير والشر كلاهما مضاف إلى العبد ، ولو كانا بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة وجرى صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله مما لا قدرة له عليه ألبتة ، ولانتفت فائدة التكليف وقد سبق تحقيق المسألة مراراً ، وكذا تفسير الكسب وبيان المذاهب فيه في تفسير وبيان المذاهب فيه في تفسير قوله

{ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } [ البقرة : 134 ] . واحتج الأصحاب بالآية على فساد القول بالمخاطبة لأنه تعالى بيّن أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت ، وهذا صريح في أن الاستحقاقين يجتمعان ، وأنه لا يلزم من طرّو أحدهما زوال الآخر . وقال الجبائي : تقدير الآية لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم يبطله ، وعليها ما اكتسبت إذا لم يكفر بالتوبة وإنما أضمرنا هذا الشرط لأن الثواب منفعة دائمة والعقاب مضرة دائمة ، والجمع بينهما محال . واحتج كثير من المتكلمين بالآية في أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم ، والفقهاء تمسكوا بها في إثبات أن الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار . وفرعوا لعيه مسائل منها : أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان ، لأن المقتضى لبقاء الملك قائم وهو قوله { لها ما كسبت } والعارض الموجود إما الغصب وإما الضمان وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبر . ومنها أنه لا شفعة للجار لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله { لها ما كسبت } عدلنا عن الدليل في الشريك لكثرة تضرره بالشركة فيبقى في الجار على الأصل . ومنها أن القطع لا يسقط الضمان لوجود المقتضي ، والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقياً وجب رده على المالك . ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به ، والجواب أن دلائل وجوب الزكاة أخص والخاص مقدم على العام .
ثم إنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء :
الأول { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ومعنى لا تؤاخذنا لا تعاقبنا . وقد يكون فاعل بمعنى فعل نحو : سافرت وعاقبت اللص . وقيل : معنى المشاركة ههنا أن الناسي قد أمكن من نفسه وطرّق السبيل إليها بفعله فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه . وفي التفسير الكبير : إن الله يأخذ المذنب بالذنب والمذنب يأخذ ربه بالعفو والكرم أي يتمسك عند الخوف من عذابه برحمته ، وهذا معنى المؤاخذة بين العبد والرب . والمراد بالنسيان إما الترك وهو أن يترك الفعل لتأويل فاسد كما أن الخطأ هو أنه يفعل الفعل لتأويل فاسد ومنه قوله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة : 67 ] أي تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم ، وإما ضد الذكر . وأورد عليه أن النسيان والخطأ متجاوز عنهما في قوله صلى الله عليه وسلم : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » فما معنى الدعاء؟ والجواب من وجوه : الأول أن النسيان منه ما يعذر صاحبه فيه ومنه ما لا يعذر . فمن رأى دماً في ثوبه وأخر إزالته إلى أن نسي فصلى وهو على ثوبه عد مقصراً إذا كان يلزمه المبادرة إلى إزالته .

وكذا إذا تغافل عن تعاهد القرآن حتى نسي فإنه يكون ملوماً بخلاف ما لو واظب على القراة ومع ذلك نسي فإنه يكون معذوراً . وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطاً في أصبعه فثبت أن الناسي قد لا يكون معذوراً وذلك إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر ، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء . والحاصل أنه ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنهما من التفريط والإغفال . الثاني أن هذا على سبيل الفرض والتقدير وذلك أنهم كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه الخطأ والنسيان ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به فكأنه قيل : إن كان النسيان مما يجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به . الثالث أن العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه بالدعاء ، فربما يدعو الإنسان بما يعلم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله إما لاستدامته وإما لاعتداد تلك النعمة أو لغير ذلك كقوله { قل رب احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] وقالت الملائكة : { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } [ غافر : 7 ] . الرابع أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلاً وإنما عرف عدم المؤاخذة بالآية والحديث ، فلما كان ذلك جائزاً في العقل حسن طلب المغفرة منه بالدعاء . وقد يتمسك به من يجوّز تكليف ما لا يطاق فيقول الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل ، فلولا أنه جائز من الله تعالى عقلاً لما أرشد الله تعالى إلى طلب ترك المؤاخذة عليه . وقد يستدل به على حصول العفو لأهل الكبائر قالوا : إن النسيان والخطأ لا بد أن يفسرا بما فيه العمد والقصد إلى فعل ما لا ينبغي . إذ لو فسرا بما لا عمد فيه فالمؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم ، وما يقبح من الله فعله يمتنع طلب تركه بالدعاء . وإذا فسرا بما ذكرنا وقد أمر الله المسلمين أن أن يدعوه بترك المؤاخذة عل تعمد المعصية دل ذلك على أنه يعطيهم هذا المطلوب فيكون العفو لصاحب الكبيرة مرجواً .
النوع الثاني : من الدعاء { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } الإصر الثقل والشدة ثم يسمى العهد إصراً لأنه ثقيل . والإصر العطف لأن من عطفت عليه ثقل على قلبك ما يصل إليه من المكاره . يقال : ما تأصرني على فلان آصرة أي ما تعطفني عليه قرابة ولا منة ، والمعنى لا تشدد علينا في التكاليف كما شدّدت على من قبلنا من الهيود ، قال المفسرون : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، وكان عذابهم معجلاً في الدنيا .

فأجاب الله تعالى دعاءهم كما قال : { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } [ الأعراف : 157 ] وقال صلى الله عليه وسلم « رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق » وإنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير والتقصير موجب العقوبة . وقيل : معناه لا تحمل علينا عهداً أو ميثاقاً يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة وهو قريب من الأول . قال بعض العلماء : اليهود لما كانت الفظاظة وغلظ القلب غالبة عليهم كانت مصالحهم في التكاليف الشديدة الشاقة ، وهذه الأمة الرقة وكرم الخلق غالبة عليهم فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ . وأما أن اليهود لم خصت بغلظ الطبع وهذه الأمة باللطافة والكرم فليس إلينا أن نعلم تفاصيل جميع الكائنات وما لا يدرك كله لا يترك كله .
النوع الثالث : الدعاء { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } ومن الأصحاب من تمسك به في جواز تكليف ما لا يطاق إذ لو لم يكن جائزاً لما حسن طلب تركه بالدعاء . وأجاب المعتزلة عنه بأن معنى قوله : { لا طاقة لنا } أي ما يشق فعله لا الذي لا قدرة لنا عليه . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك : « له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق » أي لا يشق عليه . وزيف بأن معناه ومعنى الآية المتقدمة يكون حينئذٍ واحداً فعدلوا عن ذلك وقالوا : المراد منه العذاب أي لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله . سلمنا أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم ما لا قدرة لهم عليه ، لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلاف ذلك كما أن قوله { رب احكم بالحق } لا يدل على جواز أن يحكم بباطل . وكذا قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم { ولا تخزني يوم يبعثون } [ الشعراء : 87 ] لا يدل على أن خزي الأنبياء جائز . قيل : لم خص التكليف الشاق بالحمل والتكليف الذي لا قدرة عليه بالتحميل؟ وأجيب بأن الحاصل فيما لا يطاق هو التحميل دون الحمل . قيل : لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق كان من لوازمه أن لا يكلفه بما لا يطاق فكان المناسب طرح هذا الدعاء لا أقل من عكس الترتيب . والجواب على تفسير المعتزلة ظاهر أي لا تحملنا عذابك فإنهم طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم ، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها . وأما على تفسير الأشاعرة فهو أنهم سألوا أن لا يكلفهم تكليفاً شاقاً مقيداً وهو التكليف بما كلف من قبلهم . ثم سألوا أن لا يكلفهم التكليف الشاق الذي لا قدرة لهم عليه مطلقاً سواء كلف بذلك من قبلهم أم لا . وقيل : الأول طلب ترك التشديد في مقام القيام بظاهر الشريعة ، والثاني طلب ذلك في مقام الحقيقة وهو مقام الاشتغال بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمه أي لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك ولا شكراً يليق بآلائك ونعمائك ، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك وكمالك .

وأما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بصيغة الجمع في { لا تؤاخذنا } { ولا تحمل علينا } فذلك أنه إذا اجتمعت النفوس والهمم على كل شيء كان حصوله أرجى . النوع الرابع من الدعاء { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } وإنما حذف النداء وهو قوله « ربنا » ههنا لأن النداء يشعر بالبعد . فترك النداء يؤذن بأن العبد إذا واظب على التضرع والدعاء نال مقام القربة والزلفى من الله . والفرق بين العفو والمغفرة والرحمة أن العفو إسقاط العذاب ، والمغفرة أن يستر عليه بعد ذلك جرمه صوناً له عن عذاب التخجيل والفضيحة فإن الخلاص من عذاب النار إنما يطيب إذا حصل عقيبة الخلاص من عذاب الفضيحة . فالأول هو العذاب الجسماني والثاني هو العذاب الروحاني . وبعد التخلص منهما أقبل على طلب الثواب وهو أيضاً قسمان : جسماني هو نعيم الجنة وطيباتها وهو قوله { وارحمنا } وروحاني هو إقبال العبد بكليته على مولاه وهو قوله { أنت مولانا } ففيه الاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة ينالونها ، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها ، وأنهم بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه ، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه . وبهذا الاعتراف يحق الوصول إلى الحق « من عرف نفسه » أي بالإمكان والنقصان « عرف ربه » أي بالوجوب والتمام . ثم إذا وصل إلى الحق أعرض بالكلية عما سواه وهو قوله { فانصرنا على القوم الكافرين } أعنا على قهر كل من خالفك وناواك وعلى غلبة القوى الجسمانية الداعية إلى ما سواك .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة قيل : وما البطلة؟ قال : السحرة » وعنه صلى الله عليه وسلم « من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه » وعنه صلى الله عليه وسلم « أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي » وعنه صلى الله عليه وسلم « أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل » وروى الواحدي عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أعطي خواتيم سورة البقرة فقالت الملائكة له : إن الله عز وجل أكرمك بحسن الثناء بقوله { آمن الرسول } فاسأله وارغب إليه . فعلّمه جبريل عليه السلام كيف يدعو فقال النبي صلى الله عليه وسلم { غفرانك ربنا } فقال الله : قد غفرت لكم .

فقال : { لا تؤاخذنا } فقال الله : لا أؤاخذكم . فقال : لا تحمل علينا إصراً . فقال : لا أشدد عليكم . فقال : لا تحملنا ما لا طاقة لنا به . فقال : لا أحملكم ذلك . فقال : { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } فقال الله : قد عفوت عنكم وغفرت لكم وانصركم على القوم الكافرين . وفي بعض الروايات أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذه الدعوات والملائكة كانوا يقولون آمين .
التأويل : الإنسان مركب من عالمي الأمر والخلق . له روح نوراني من عالم الأمر والملكوت ، وله نفس ظلمانية من عالم الخلق والملك ، ولكل منهما نزاع وشوق إلى عالمه . فغاية بعثة الأنبياء تزكية النفوس عن ظلمة أوصافها وتحليتها بأنوار الأرواح ، وحاصل تسويل الشيطان عكس هذه القضية وإليه الإشارة في قوله { إن تبدوا ما في أنفسكم } مودع من أنوار الأخلاق الروحانية في الظاهر بأعمال الشريعة في الباطن بأحوال الحقيقة { أو تخفوه } بإبراز ظلمات الأوصاف النفسية في الظاهر بمخالفات الشريعة ، وفي الباطن بموافقات الطبيعة { يحاسبكم به الله } بطهارة النفس لقبول أنوار الروح أو بتلوث الروح لقبول ظلمات النفس { فيغفر لمن يشاء } فينور نفسه بأنوار الروح وروحه بأنوار الحق { ويعذب من يشاء } فيعاقب نفسه بنار دركات السعير وروحه بنار فرقة العلي الكبير { والله على كل شيء } من إظهار اللطف والقهر على تركيب عالمي الأمر والخلق { قدير } لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى وبلغ المقصد الأعلى { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } [ النجم : 9 ] أكرم بالسلام قبل الكلام فقيل : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . فأجاب صلى الله عليه وسلم بقوله : « السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » فقيل له { آمن الرسول } عباناً { بما أنزل إليه من ربه } فقال من كمال رأفته بأمته { والمؤمنون كل آمن بالله } إلى قوله { سمعنا وأطعنا } فقال الله تعالى : ما يطلبون مني في جزاء السمع والطاعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم { غفرانك ربنا وإليك المصير } ما يطلبون إلا أن تسترهم بسربال فضلك ويكون مصيرهم إليك لا إلى غيرك كما كان مصيري إليك لا إلى من سواك . قال الله في جوابه { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } إنك في مقام لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولهذا قال لك جبريل : لو دنوت أنملة لاحترقت . وإن الأنبياء والمرسلين الذين اصطفيناهم على العالمين وكل طائفة منهم في سماء واقفون حبستهم رحمتي كيلا تحرقهم سبحات وجهي وسطوات قهري ، فكيف أكلف أمتك المذنبة المرحومة بهذا المصير وأنا بضعف حالهم بصير؟ وإنما بلغك هذا المقام حتى جاوزت الرسل الكرام أن اتخذتك حبيباً قبل أن أخلقك وخلقت الكائنات لمحبتك ولأن أمتك أكرم الأمم ، ولهم بسبب شفاعتك اختصاص بمحبتي إياهم ما داموا في متابعتك فقل لهم

{ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] فبقدر ما كسبت أمتك من أنوار متابعتك تستحق المصير إلى حضرة جلالنا وشواهد جمالنا ، وعل قدر ما اكتسبت بالتواني عن ظل متابعتك تستأهل المصير إلى دركات السعير . فتارة أسكره لذة هذا الخطاب وأخرى أقحمته سطوة هذا العتاب . فقال { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } أي لا تعاقب أمتي إن نسيت عهدك الذي عاهدتهم أن يحبوك ولا يحبوا غيرك ، أو أخطأت طريق طلبك ولكن ما أخطأت طريق عبوديتك فلم يعبدوا غيرك وأنت قلت : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } بأن تجعلنا أسرى النفس الأمارة فنعبد عجل الهوى ونار الشهوات كما عبد الذين من قبلنا { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا } بالصبر عن شهود جمالك { واعف عنا } حجب أنانيتنا { واغفر لنا } بشواهد هويتك { وارحمنا } برفع البينونة من بيننا { أنت مولانا } وولينا في رفع وجودنا وناصرنا في نيل مقصودنا { فانصرنا على القوم الكافرين } بجذبات عنايتك وأعنا في المصير إليك على قمع كفار الأثنينية التي تمنعنا من وحدتك .
بيني وبينك إنيَّ يزاحمني ... فارفع بجودك إنّي من البين

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

القراآت : { آلم الله } مقطوعة الألف والميم ساكنة : يزيد والمفضل والأعشى والبرجمي الباقون موصولاً بفتح الميم . { التوراة } ممالة حيث كان : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف والنجاري عن ورش ، والخزاز عن هبيرة ، وابن ذكوان غير ابن مجاهد { كدأب } حيث كان بغير همزة : أبو عمرو وغيره شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش والخزاز عن هبيرة وحمزة عن الوقف .
الوقوف : { آلم } ج كوفي مختلف فإن غير الأعشى والبرجمي ويزيد والمفضل يصلون . { إلا هو } ج { القيوم } ط { والإنجيل } ط { الفرقان } ط { شديد } ط { انتقام } ه ، { في السماء } ط { كيف يشاء } ط { الحكيم } ه ، { متشابهات } ط لاستئناف تفصيل { وابتغاء تأويله } ج لأن الواو تصلح استئنافاً والحال أليق { إلا الله } م عند أهل السنة لأنه لو وصل فهم أن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه كما يعلم الله ، ومن لم يحترز عن هذا وجعل المتشابه غير صفة الله ذاتاً وفعلاً من الأحكام التي يدخلها القياس والتأويل وجعل المحكمات الأصول النصوص المجمع عليها فعطف قوله { والراسخون } على اسم الله وجعل { يقولون } حالاً لهم ساغ له أن لا يقف على { إلا الله } . { آمنا به } ( لا ) لأن قوله { كل من عند ربنا } من مقولهم فإن التسليم من تمام الإيمان . { من عند ربنا } ج لاحتمال أن ما بعده مقولهم { الألباب } ه ، { رحمة } ج للابتداء بأن ولاحتمال لام التعليل أو فاء التعقيب للتسبب { الوهاب } ه ، { فيه } ط { الميعاد } ه ، { شيئاً } ط { النار } ( لا ) لتعلق كاف التشبيه { فرعون } ( لا ) للعطف ، { من قبلهم } ط ، { بآياتنا } ج للعدول مع فاء التعقيب { بذنوبهم } ط { العقاب } ه .
التفسير : أما قراءة عاصم فلها وجهان : الأول نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء . الثاني أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل . وأما من فتح الميم ففيه قولان : أحدهما قول الفراء واختيار كثير من البصريين وصاحب الكشاف أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر تقول : ألف ، لام ، ميم كما تقول : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، وعلى هذا وجب الابتداء بقوله { الله } فإذا ابتدأنا به تثبت الهمزة متحركة إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف وألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها ، فكأن الهمزة ساقطة بصروتها باقية بمعناها . وثانيهما قول سيبويه وهو أنه لما وصل { الله } ب { آلم } التقى ساكنان بل سواكن ضرورة سقوط الهمزة في الدرج ، فوجب تحريك الأول أعني الوسطاني منها وهو الميم وكان الأصل هو الكسر إلا أنهم فتحوا الميم محافظة على التفخيم . فالفتحة على هذا القول ليست هي المنقولة من همزة الوصل فلا يرد عليه ما يرد على القول الأول من أن الهمزة حيث لا وجود لها في الوصل أصلاً فكيف تنقل حركتها .

قال الواحدي : نقل المفسرون أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكباً فبهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم ، أحدهم أميرهم واسمه عبد المسيح والثاني مشيرهم ووزيرهم ، وكانوا يقولون له السيد واسمه الأيهم ، والثالث حبرهم وأسقفهم وصاحب مدراسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل . وكان ملوك الروم شرفوه وموّلوه فأكرموه لما بلغهم عنه عن علمه واجتهاده في دينهم ، فلما قدموا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة فبينما بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز أخوه : تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال أبو حارثة : بل تعست أمك . فقال : ولم يا أخي؟ فقال : إنه والله النبي صلى الله عليه وسلم الذي ننتظره . فقال له أخوه كرز : فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا . فلو آمنا بمحمد لأخذوا منا كل هذه الأشياء . فوقع ذلك في قلب أخيه كرز وكان يضمره إلى أن أسلم ، وكان يحدث بذلك ، ثم تكلم أولئك الثلاثة - الأمير والسيد والحبر - مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختلاف من أديانهم . فتارة يقولون عيسى هو الله ، وتارة ابن الله ، وتارة ثالث ثلاثة ، ويحتجون لقولهم هو « الله » بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ، ويحتجون في قولهم « إنه ولد الله » بأنه لم يكن له أب يعلم ، ويحتجون على « ثالث ثلاثة » بقول الله تعالى : « فعلنا وفعلنا » ولو كان واحداً لقال « فعلت » . وقد حان وقت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوهم . فصلوا إلى المشرق ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلموا فقالوا : قد أسلمنا قبلك . فقال صلى الله عليه وسلم : كذبتم . كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولداً ، وتعبدون الصليب وتأكلون الخنزير؟ قالوا : فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها آية المباهلة . ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يناظر معهم فقال : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا : بلى . قال : ألستم تعلمون أنه حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى . قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ فهل يملك عيسى شيئا من ذلك؟ قالوا : لا . قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم؟ قالوا : لا .

قال : فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ، وتعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة وغذي كما يغذى الصبي ، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا : بلى . فقال صلى الله عليه وسلم : فكيف يكون هو كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا حجوداً ثم قالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال : بلى ، قالوا : فحسبنا . ففي ذلك نزل { فأما الذين في قلوبهم زيغ } الآية . وتمام القصة سيجيء في آية المباهلة إن شاء الله تعالى .
واعلم أن مطلع هذه السورة له نظم عجيب ونسق أنيق . وذلك أن أولئك النصارى كأنه قيل لهم : إما أن تنازعوه في شأن الإله أو في أمر النبوة . أما الأول فالحق فيه معه لأنه تعالى حيّ قيوم كما مر في تفسير آية الكرسي ، وأن عيسى ليس كذلك لأنه ولد وكان يأكل ويشرب ويحدث . والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه . وهذه الكلمة أعني قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } جامعة لجيمع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى بالتثليث . وأما الثاني فقوله { نزل عليك الكتاب بالحق } كالدعوى . وقوله { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل } كالدليل عليها . وتقريره أنكم وافقتمونا على أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قولهما وبين أقوال الكاذبين . ثم إن المعجز قائم في كون القرآن نازلاً من عند الله كما قام في الكتابين . وإذا كان الطريق مشتركاً فالواجب تصديق الكل كالمسلمين . أما قبول البعض ورد البعض فجهل وتقليد ، وإذا لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم ختم بالتهديد والوعيد فقال { إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد } وإنما خص القرآن بالتنزيل والكتابين بالإنزال لأنه نزل منجماً ، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه ، وأنهما نزلا جملة . وأما قوله { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } [ الكهف : 1 ] فالمراد هناك نزوله مطلقاً من غير اعتبار التنجيم . قال أبو مسلم : قوله { بالحق } أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم ، و أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل ، وأنه قول فصل وليس بالهزل . وقال الأصم : أي بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية ، ولبعضهم على بعض من سلوك سبيل العدالة والإنصاف في المعاملات . وقيل : مصوناً من المعاني الفاسدة المتناقضة كقوله

{ ولم يجعل له عوجاً قيماً } [ الكهف : 1 ، 2 ] { لوجدوا فيه اختلافا كثيراً } [ النساء : 82 ] وفي قوله { مصدقاً لما بين يديه } إنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقاً لسائر الكتب المتقدمة ، لأن من هو على مثل حاله من كونه أمياً لم يخالط أهل الدرس والقراءة إن كان مفترياً استحال أن يسلم من التحريف والجزاف . وفيه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان . فإن قيل : كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه؟ فالجواب أن هذا اللفظ صار مطلقاً في معنى التقدم ، أو لغاية ظهور تلك الأخبار جعلها كالحاضر عنده . فإن قلت : كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أنه ناسخ لأحكامها أكثرها؟ قلنا : إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثته ثم تصير منسوخة عند نزول القرآن ، كانت موافقة للقرآن ، وكان القرآن مصدقاً لها . فأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها لأن المباحث الإلهية والقصص والمواعظ لا تختلف . والتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية . فالاشتغال باشتقاقهما لا يفيد إلا أن بعض الأدباء قد تكلف ذلك فقال الفراء : التوراة معناها الضياء والنور من ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت النار . قال : وأصلها تورية بفتح التاء والراء ولهذا قلبت الياء ألفاً . أو تورية بكسر الراء « تفعلة » مثل « توفية » إلا أن الراء فتحت على لغة طي فإنهم يقولون في بادية « باداة » . وزعم الخليل والبصريون أن أصلها « وورية » « فوعلة » كصومعة فقلبت الواو الأولى تاء كتجاه وتراث . وأما الإنجيل فالزجاج : إفعيل من النجل الأصل أي هو الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين . وقيل : من نجلت الشيء استخرجته أي إنه تعالى أظهر الحق بسببه . أبو عمرو الشيباني : التناجل التنازع سمي بذلك لأن القوم تنازعوا فيه . ومعنى قوله { من قبل } أي من قبل أن ينزل القرآن . و { هدى للناس } إما أن يكون عائداً إلى الكتابين فقط فيكون قد وصف القرآن بأنه حق ، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى . وإنما لم يوصف القرآن بأنه هدى مع أنه قال في أول البقرة { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] لأن المناظرة ههنا مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن ، فذكر أنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما الكتابان فهم قائلون بصحتهما فخصهما بالهداية لذلك ، وإما أن يكون راجعاً إلى الكتب الثلاثة وهو قول الأكثرين . { وأنزل الفرقان } قيل : أي جنس الكتب السماوية لأنها كلها تفرق بين الحق والباطل . وقيل : أي الكتب التي ذكرها كأنه وصفها بوصف آخر فيكون كما قال :
الى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم

وقيل : أي الكتاب الرابع وهو الزبور ، وزيف بأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام وإنما هو مواعظ ، ويحتمل أن يجاب بأن غاية المواعظ هي التزام الأحكام المعلومة فيؤل إلى ذلك . وقيل : كرر ذكر القرآن بما هو مدح له ونعت بعد ذكره باسم الجنس تفخيماً لشأنه وإظهاراً لفضله . وفي التفسير الكبير : إنه تعالى لما ذكر الكتب الثلاثة بيّن أنه أنزل معها ما هو الفرقان الحق وهو المعجز الباهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين كلام المخلوقين . ثم إنه تعالى بعد ذكر الإلهيات والنبوات زجراً لمعرضين عن هذه الدلائل وهم أولئك النصارة أو كل من أعرض عن دلائله فإن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ فقال { إن الذين كفروا بآيات الله } من كتبه المنزلة وغيرها من دلائله { لهم عذاب شديد والله عزيز } لا يغالب إذ لا حد لقدرته { ذو انتقام } عقاب شديد لا يقدر على مثله منتقم . فالتنكير للتعظيم . وانتقمت منه إذا كافأته عقوبة بما صنع . فالعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب ، وذو انتقام إشارة إل كونه فاعلاً للعقاب . فالأول صفة الذات ، والثاني صفة الفعل .
قوله سبحانه { إن الله لا يخفى عليه شيء } لما ذكر أنه حيّ قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ، وكونه كذلك يتوقف على مجموع أمرين : أن يكون عالماً بكميات حاجاتهم وكيفياتها وكلياتها وجزئياتها ، ثم أن يكون قادراً على ترتيبها . والأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات أشار إلى ذلك بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } والثاني لا يتأتى إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات فأشار إليه بقوله { هو الذي يصوركم } ثم فيه لطيفة أخرى وهي أنه لما ادعى كمال عمله بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع ، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، بل الطريق إلى ذلك ليس إلا الدليل العقلي فلا جرم قال « هو الذي يصوركم في ظلمات الأرحام » بهذه البنية العجيبة والتركيب الغريب من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، بعضها عظام ، وبعضها أوردة ، وبعضها شرايين ، وبعضها عضلات . ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل ، وذلك يدل على كمال علمه لأن التركيب المحكم المتقن لا يصدر إلا عن العالم بتفاصيله . ثم إنه تعالى لما كان قيوماً بمصالح الخلق ومصالحهم قسمان : جسمانية وأشرفها تعديل المزاج وأشار إليها بقوله { هو الذي يصوركم } وروحانية وأشرفها إلى العلم فلا جرم أشار إلى ذلك بقوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } . ويحتمل أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها . وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى وعولوا في ذلك على نوعين من الشبهة : أحدهما يتعلق بالعلم وهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وذلك قوله تعالى :

{ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [ آل عمران : 49 ] والثاني يتعلق بالقدرة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وليس للنصارى شبهة غير هاتين . فأزال شبهتهم الأولى بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } فمن المعلوم بالضرورة من أحوال عيسى أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات . فعدم إحاطته بجميع الأشياء فيه دلالة قاطعة على أنه ليس بإله ، ولكن إحاطته ببعض المغيبات لا تدل على كونه إلهاً لاحتمال أنه علم ذلك بالوحي أو الإلهام . وأزال شبهتهم الثانية بقوله { هو الذي يصوركم } وذلك أن الإله هو الذي يقدر على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب ، ومعلوم أن عيسى لم يكن قادراً على الإحياء والإماتة بهذا الوجه . كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه . فإماتة بعض الأشخاص أو إحياؤه لا يدل على الإلهية لجواز كونه بإظهار الله تعالى المعجزة على يده ، والعجز على إماتة البعض أو إحيائه يدل على عدم الإلهية قطعاً ، وأما الإحياء والإماتة لجميع الحيوانات فيدل على الإلهية قطعاً . ثم إنّهم عدلوا عن المقدمات المشاهدية إلى مقدمات إلزامية وهو أنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فيكون ابناً لله . والجواب عنه بقوله أيضاً { هو الذي يصوركم } لأن هذا التصوير لما كان منه صفة فإن شاء صوره من نطفة الأب ، وإن شاء صوره ابتداء من غير أب . وأيضاً قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروحه؟ وهذا يدل على أنه ابن لله . فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي ، محتمل للحقيقة والمجاز . وإذا ورد اللفظ بحيث يخالف الدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل ، أو تفويضه إلى علم الله وذلك قوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } الآية . فظهر أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة إلا وقد اشتملت هذه الآيات على دفعها والجواب عنها ، فإن قيل : ما الفائدة في قوله { في الأرض ولا في السماء } مع أنه لو أطلق كان أبلغ؟ قلت : الغرض تفهيم العباد كمال علمه وذلك عند ذكر السموات والأرض أقوى لعظمتهما في الحس ، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ، وهذه فائدة ضرب الأمثلة في العلوم . قال الواحدي : التصوير جعل الشيء على صورة ، والصورة هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه ، وأصله من صاره إذا أماله . وذلك أن الصورة مائلة إلى شكل أبويه . والأرحام جمع الرحم ، والتركيب يدل على الرقة والعطف كما سلف . وقيل : سمي رحماً لاشتراك الرحم فيما بوجب الرحمة والعطف .

وقرىء { تصوركم } أي صوركم لنفسه ولتعبده . و « كيف » في موضع الحال أي على أي حال أراد طويلاً أو قصيراً ، أسود أو أبيض ، حسناً أو قبيحاً إلى غير ذلك من الأحوال المختلفة . ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد رداً على النصارى القائلين بالتثليث فقال { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إلى كمال العلم . وفيه رد على من زعم إلهية عيسى فإن العلم ببعض الغيوب وإحياء بعض الأشخاص لا يكفي في كونه إلهاً .
ولنذكر ههنا مسائل : الأولى : القرآن دل على أنه بكليته محكم وذلك قوله : { الر كتاب أحكمت آياته } [ هود : 1 ] { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } [ يوسف : 1 ] والمراد كون كله كلاماً ملحقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني ، وأنه بحيث لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله لوثاقة مبانية وبلاغة معانيه . ودل على أنه بتمامه متشابه { كتاباً متشابهاً مثاني } [ الزمر : 23 ] والمراد أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإعجاز والبراءة من التناقض والتناقض . ثم إن هذه الآية { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } دلت على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه . فيعني ههنا بالمحكم ما هو المشترك بين النص والظاهر ، وبالمتشابه القدر المشترك بين المجمل والمؤول كما تقرر في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا الكتاب . والإحكام في اللغة المنع وكذا سائر تراكيبه . فالحاكم يمنع الظالم من الظلم ، وحكمة اللجام تمنع الفرس من الاضطراب ، وفي حديث النخعي « حكم اليتيم كما تحكم ولدك » أي امنعه من الفساد . وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما التشابه فهو كون الشيئين بحيث يعجز الذهن عن التمييز بينهما . ثم يقال لكل ما لا يهتدي الإنسان إليه متشابه إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، ونظيره المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره ، ثم إن كل أحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، ولقول خصمه متشابهة . فالمعتزلي يقول : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] محكم { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } [ التكوير : 29 ] متشابه . والسني يقلب الأمر في ذلك . وكذا المعتزلي يقول : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] محكم وقوله { وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ، 23 ] متشابه . والسني بالعكس . فلا بد من قانون يرجع إليه فنقول : صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل . وهو إما لفظي أو عقلي . والدليل اللفظي لا يكون قاطعاً ألبتة لتوقفه على نقل اللغات ، وعلى وجوه التصريف والإعراب ، وعلى عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي ، وكل ذلك مظنون ، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً فلا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية ، فإذن لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بالدلالة القطعية العقلية ، على أن معناه الراجح محال عقلاً فإذا قامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذه اللفظ ما أشعر به الظاهر ، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا ، لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز ، وترجيح تأويل على تأويل ، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية وهي ظنية كما بينا ولا سيما المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر ، فإذن الخوض في تعيين التأويل غير جائز والله أعلم .

المسألة الثانية في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه . عن ابن عباس أن المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الأنعام { قل تعالوا } [ آية : 151 ] إلى آخرها ، وعلى هذا فالمحكم عنده ما لا يتغير باختلاف الشرائع ، لأن هذه الآية كذلك . والمتشابهات هي التي اشتبهت على اليهود كأوائل السور ، أوّلوها على حساب الجمل ليستخرجوا بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه . وعنه أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ . وقال الأصم : المحكم هو الذي يكون دلائله واضحة لائحة كإنشاء الخلق في قوله : { فخلقنا النطفة علقة } [ المؤمنون : 14 ] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل كآيات البعث ، فإن التأمل يجعلها محكمة ، فإن من قدر على الإنشاء قدر على الإعادة . فإن عنى الأصم بوضوح الدلائل رجحانها ، وبالخفاء خلاف ذلك ، فهذا هو الذي ذكرنا من أن المحكم عبارة عن النص والظاهر ، والمتشابه المجمل والمؤول . وإن عنى بالواضح ما تعلم صحته بضرورة العقل ، وبالخفي ما تعرف صحته بدليل العقل ، فكل القرآن متشابه . فإن إنشاء الخلق أيضاً يفتقر إلى دليل عقلي ، فإن الدهري ينسب ذلك إلى الطبيعة ، والمنجم إلى تأثير الكواكب . ولعل الأصم يسمي ما هو الأبعد عن الغلط لقلة مقدماته وضبطها محكماً ، والذي هو غير ذلك متشابهاً . وقيل : كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو دليل خفي فهو المحكم ، وكل ما لا سبيل إلى معرفته كالعلم بوقت القيامة وبمقادير الثواب والعقاب في حق كل مكلف فذاك متشابه .
المسألة الثالثة في أنه لم جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً . من الملحدة من طعن فيه وقال : كيف يليق بالحكيم أن يجعل كتابه المرجوع إليه في دينه ، الموضوع إلى يوم القيامة بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب ، فمثبت الرؤية يتمسك بقوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ، 23 ] ونافيها يتشبث بقوله { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ومثبت الجهة { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] والنافي { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] فكل منهم يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والمخالفة متشابهة ، وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى وجوه ضعيفة وتراجيح خفية ، وهذا لا يليق بالحكمة مع أنه لو جعل كله ظاهراً جلياً خالصاً عن المتشابه نفياً كان أقرب إلى حصول الغرض .

والجواب أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب . وأيضاً لو كان كله محكماً كان مطابقاً لمذهب واحد فقط فكان ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه والانتفاع به ، وإذا كان مشتملاً على القسمين فحينئذٍ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مقالته فيجتهد في فهم معانيه ، وبعد الفحص والاستكشاف ، صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، ويتخلص المبطل عن باطلة ويصل إلى الحق . وأيضاً إذا كان فيه محكم ومتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بالدلائل العقلية ، فيتخلص من ظلمة التقليد إلى ضياء البينة والاستدلال والطمأنينة ، وافتقر أيضاً إلى تحصيل علوم أخر كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه وأصول الكلام إلى غير ذلك ، ولما في المشابهة من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه . وههنا سبب أقوى وهو أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام ، وطباع العامة تنبو في الأغلب عن إدراك الحقائق ، فمن سمع منهم في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما توهموه وتخيلوه مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح . فالأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابهات ، والثاني وهو الذي يكشف لهم آخر الحال من قبيل المحكمات .
قوله { هن أم الكتاب } الأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء . فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها ، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات ، فلا جرم صارت المحكمات أصولاً للمتشابهات . وإنما لم يقل أمهات الكتاب ليطابق المبتدأ لأن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد هو الأصل لمجموع المتشابهات ، وهذا كقوله { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } [ المؤمنون : 50 ] على معنى أن مجموعها آية واحدة . { وأخر } أي ومنه آيات آخر { متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق { فيتبعون ما تشابه منه } لا يتمسكون إلا بالمتشابه . قال الربيع : هم وفد نجران حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروحاً منه؟ قال صلى الله عليه وسلم : بلى . قالوا : حسبنا . وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة من الحروف المقطعة في أوائل السور . وقال قتادة والزجاج : هم منكرو البعث لأنه قال في آخره { وما يعلم تأويله إلا الله } وما ذاك إلا وقت القيامة فإنه تعالى أخفاها عن الخلائق حتى الملائكة والأنبياء . والتحقيق أنه عام لكل مبطل متشبث بأهداب المتشابهات ، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عن عموم اللفظ . ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه .

ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة والكفار من النقمة فكانوا يقولون ائتنا بعذاب الله ، ومتى الساعة ، ولو ما تأتينا بالملائكة ، فموهوا الأمر على الضعفة . قال أهل السنة : ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] فإنه لما ثبت بصريح العقل امتناع كون الإله في مكان وإلا لزم انقسامه ، وكل منقسم مركب ، وكل مركب ممكن . فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات . ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وأنه من الله تعالى وإلا تسلسل ، فيكون حصول الفعل مع تلك الداعية وعدمه عند عدمها واجباً فيبطل التفويض ويثبت أن الكل بقضاء الله وقدره . وإذا لاحت الدلائل العقلية يجوز للعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه؟ بناء على ما اشتهر بين الجمهور من أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة ، وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة . والإنصاف أن الآيات ثلاثة أقسام : أحدها ما يتأكد ظواهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقاً . وثانيها التي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله غير ظاهره . وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فهو المتشابه بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر . لكن ههنا عقدة أخرى وهي أن الدليل العقلي مختلف فيه أيضاً بحسب ما رتبه كل فريق وتخيله صادقاً في ظنه مادة وصورة . فكل فريق يدعي بمقتضى فكره أن الدليل العقلي قد قام على ما يوافق مذهبه وتأكد به الظاهر الذي تعلق به ، فلا خلاص من البين إلا بتأييد سماوي ونور إلهي { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] ثم إنه تعالى بين أن للزائغين غرضين : أحدهما { ابتغاء الفتنة } وهي في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، والرجل مفتون بابنه وبشعره . فكان التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً به عاشقاً لا ينقطع عنه تخيله ألبتة . وقيل : الفتنة في الدين هو الضلال عنه أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم . وعن الأصم : إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في البين صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة . الغرض الثاني { ابتغاء تأويله } أي طلب المعنى الذي يرجع إليه اللفظ بحسب ما يشتهونه من غير أن يكون قد وجد له في كتاب الله بيان . قال القاضي أبو بكر : هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله { ابتغاء الفتنة } والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو قوله { وابتغاء تأويله } ثم قال عز من قائل { وما يعلم تأويله إلا الله } والعلماء اختلفوا في هذا الموضع .

منهم من يقف ههنا ، فعلى هذا لا يعلم المتشابه إلا الله وهو قول ابن عباس وعائشة والحسن ومالك بن أنس والكسائي والفراء ، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي . ومنهم من لم يجعل الواو في { والراسخون } للابتداء وإنما يجعله للعطف حتى يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله وعند الراسخين ، لأن وصفهم بالرسوخ في العلم - وهو الثبوت والتعمق وبعد الغور فيه - يناسب ذلك . وهذا قول مجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين ، وقد يروى عن ابن عباس أيضاً . والمختار هو الأول لوجوه منها : ما ذهب إليه كثير من العلماء أن « أما » فيه معنى التفصيل ألبتة ، وهذا إنما يستقيم لو قدر و « أما الراسخون في العلم فيقولون » . ومنها أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد ، علم أن مراد الله بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة . وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية الظنية ، ومثل ذلك لا يصح الاستدلال به في المسائل القطعية مثاله { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] فإنه دل الدليل على أن الإله يمتنع أن يكون في المكان ، فعرفنا أنه ليس مراداً لله من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذا اللفظ كثرة لا يتعين أحدها إلا بدليل لغوي ظني ، والقول بالظن في ذات الله وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين ، ولهذا قال مالك بن أنس : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . ومنها ما قيل إن هذه الآية ذم لطالب تأويل المتشابه حيث قال { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه } وتخصيص بعض المتشابهات بذلك كطلب وقت الساعة ونحوه ترجيح من غير مرجح ، فالذم يتوجه على الكل وهو المطلوب . ومنها أنه تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم { يقولون آمنا به } وقال تعالى في أول البقرة : { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } [ البقرة : 26 ] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح ، ولا في قولهم { كل من عند ربنا } لأن كل من عرف شيئاً على التفصيل فإنه لا بد أن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها ، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى ، وأنه لا يتكلم بالباطل والعبث ، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القاطعة على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراداً لله تعالى عرفوا أن مراد الله تعالى منه شيء غير ذلك الظاهر ، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب .

فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله بحيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن ، ولم يصر كون ظاهره مردوداً شبهة لهم في الطعن في كلام الله تعالى . ثم إن جعل قوله { والراسخون } عطفاً على اسم { الله } فقوله { يقولون آمنا به } كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هم يقولون آمنا بالمتشابه كل من عند ربنا أي كل واحد من المحكم والمتشابه من عنده . وفي زيادة { عند } مزيد توضيح وتأكيد وتفخيم لشأن القرآن ، ويحتمل أن يعود الضمير في { آمنا به } إلى الكتاب أي يقولون ، آمنا بالكتاب كل من محكمه ومتشابهه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه ، ويحتمل أن يكون قوله { يقولون } حالاً إلا أن فيه إشكالاً وهو أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وههنا قد تقدم ذكر الله وذكر الراسخين ، والحال لا يمكن إلا من الراسخين فيلزم ترك الظاهر . { وما يذكر إلا أولوا الألباب } ما يتعظ إلا ذوو العقول الكاملة الذين يستعملون أذهانهم في فهم القرآن فيعلمون ما الذي يطابق ظاهره دلائل العقل فيكون محكماً ، وما الذي هو بالعكس فيكون متشابهاً ، ثم يعتقدون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض ، فيحكمون بأن ذلك المتشابه لا بد أن يكون له معنى صحيح عند الله وإن دق عن فهومنا . وقيل : هو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل حتى علموا من التأويل ما علموا . ثم إنه تعالى حكى عن الراسخين نوعين من الدعاء : الأول قولهم { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } أي بعد وقت هدايتنا ، والثاني قولهم { وهب لنا من لدنك رحمة } سألوا ربهم أوّلاً أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الأباطيل والعقائد الفاسدة ، ثم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة ويزين جوارحهم وأعضاءهم بزينة الطاعة والعبودية والخدمة . ونكر رحمة ليشمل جميع أنواعها . فأوّلها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة ، وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة ، وثالثها أن يحصل له في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ، ورابعها أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت ، وخامسها سهولة السؤال والظلمة والوحشة في القبر ، وسادسها في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وتبديلها بالحسنات ، وسابعها في الجنة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وثامنها في الحضرة رفع الأستار ورؤية الملك الجبار . وفي قولهم { من لدنك } تنبيه على أن هذا المقصود لا يحصل إلا من عنده ويؤكده قوله { إنك أنت الوهاب } فالمطالب وإن كانت عظيمة فإنها تكون حقيرة بالنسبة إلى غاية كرمك ونهاية وجودك وموهبتك .

ولنعد إلى ما يتعلق بالدعاء الأول قال أهل السنة : القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان ، وصالح لأن يميل إلى الكفر ، وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه ، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع . فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين وغيرها مما ورد في القرآن ، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن » يعني الداعيتين . ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى مدح هؤلاء الراسخين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال ويتركون الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه ، فتكون هذه الآية من أقوى المحكمات وهو ظاهر في أن الإزاغة والهداية كلتيهما من الله تعالى . أما المعتزلة فقد قالوا : لما دلت الدلائل على أن الإزاغة لا يجوز أن تصدر من الله تعالى لأن ذلك ظلم وقبيح ، وجب صرف الآية إلى التأويل فقال الجبائي واختاره القاضي : المراد أن لا يمنع قلوبهم الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان ، وزيف بأن اللطف إن صح في حقهم وجب عندكم على الله أن يفعل ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلهيته ولصار جاهلاً أو محتاجاً . وقال الأصم : لا تبلنا ببلوى يزيغ عندها قلوبنا . والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ . وقد يقول القائل : لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذياً لك . وزيف بأن التشديد في التكليف قبيح إن علم الله تعالى أن له أثراً في حمل المكلف على القبيح وإلا فوجوده كعدمه فلا فائدة في صرف الدعاء إليه . وقال الكعبى : لا تسمنا باسم الزائغ كما يقال : فلان يكفر فلاناً أي يقول إنه كافر . وزيف بأن التسمية دائرة مع الفعل ، وفعل الزيغ باختيار العبد عندكم فالتسمية أيضاً بسببه ، وقال الجبائي أيضاً : لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك وهو كالأول إلا أن يحمل على شيء اخر وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال ، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر أماته في هذه السنة . ويرد عليه أنه لو كان علمه بأنه يكفر في السنة الثانية يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأنه لا يؤمن قط ويبقى على الكفر طول عمره يوجب أن لا يخلقه . وعن الأصم أيضاً : لا تزغ قلوبنا عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل . ولا يخفى تعِسفه وعدم مناسبته لقوله { فأما الذين في قلوبهم زيغ } . وقال أبو مسلم : احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ . ثم إنهم لما طلبوا أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة فكأنهم قالوا ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية ، ولكن الغرض ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه أي في وقوعه .

فاللام للوقت ، أو جامع الناس لجزاء يوم فحذف المضاف { إن الله لا يخلف الميعاد } قيل : هو كلام الله تعالى كأنه يصدقهم فيما قالوه ، ولو كان من تمام قول المؤمنين لقيل : إنك لا تخلف . إلا أن يحمل على الالتفات ومعناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله . ولا سيما وعد الحشر والجزاء لينتصف للمظلومين من الظالمين . والميعاد المواعدة والوقت والموضع قاله في الصحاح .
واعلم أنه لا يلزم من أنه تعالى لا يخلف الوعد القطع بوعيد الفساق كما زعم المعتزلة ، لأن كل ما ورد في وعيد الفساق فهو عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة بدليل منفصل . قال الواحدي : ولم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب . قال بعضهم :
إذا وعد السراء أنجز وعده ... وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وناظر أبو عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد فقال : ما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال : إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً . فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده . فقال أبو عمرو إنك أعجم لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب ، لأن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤماً وعن الايعاد كرماً وأنشد :
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
وذلك أن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم فهذا هو الفرق بين الوعد والوعيد . على أنا لا نسلم أن الوعيد ثابت جزماً من غير شرط بل هو مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى . ثم إنه سبحانه لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدة عذابهم فقال : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } وقيل : المراد وفد نجران وذلك أنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن عقلمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ، ولكي إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال . فالله تعالى بيَّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة ، لكن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ .
واعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعاً به ويجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة . أما الأول فإليه أشار بقوله : { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها المرء عند الخطوب .

وإذا لم يفد أقرب الطرق إلى دفع المضار في ذلك اليوم فما عداه بالتعذر أولى ومثله { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [ الصافات : 149 ] { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير } [ الكهف : 46 ] . وأما الثاني فإليه أشار بقوله : { وأولئك هم وقود النار } فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس : و « من » في قوله { من الله } للبدل مثله في قوله { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } [ النجم : 28 ] أي بدله والمضاف محذوف تقديره لن تغني عنهم بدل رحمة الله أو طاعته شيئاً . أو في الحديث « ولا ينفع ذا الجد منك الجد » أي لا ينفعه جده وحظه في الدنيا بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وأنشد أبو علي :
فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت عليها طهيان
وطهيان من بلاد الأزد . قلت : يجوز أن يقال « من » للابتداء تقديره من عذاب الله ، والجار والمجرور مقدم حالاً من شيء أو « من » زائدة لتأكيد النفي التقدير : لن تغني عنهم عذاب الله شيئاً من الغناء أي لن تدفع . وقال أبو عبيدة « من » بمعنى « عند » والمعنى : لن تغني عند الله شيئاً .
قوله تعالى : { كدأب آل فرعون } يقال : دأب فلانٍ في عمله أي جدّ وتعب دأبا دؤباً فهو دئيب . وأدأبته أنا ، والدائبان الليل والنهار ، والدأب العادة والشان ، وكل ما عليه الإنسان من صنيع وحالة ، وقد يحرّك وأصله من دأبت إطلاقاً لاسم الخاص على العام أي جد هؤلاء الكفار واجتهادهم أو شأنهم أو صنيعهم في تكذيب محمد وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام . ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم فكذلك نهلك هؤلاء . فقوله : { كذبوا بآياتنا } تفسير لدأبهم على أنه جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما فعلوا وما فعل بهم؟ فقيل : كذبوا بآياتنا بالمعجزات الدالة على صدق رسلنا . { فأخذهم الله بذنوبهم } أي صاروا عند نزول العذاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على وجه الخلاص ألبتة . وقيل : المعنى كدأب الله في آل فرعون أي يجعلهم الله وقود النار كعادته وصنيعه في آل فرعون والمصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول . وقال القفال : يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى وللعادة المضافة إلى الكفار كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد كعادة من قبلهم في إيذاء الرسل ، وعادتنا أيضاً في إهلاك هؤلاء كعادتنا في إهلاك أولئك الكفرة . وقيل : الدؤب والدأب اللبث والدوام والتقدير : دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون . وقيل : مشقتهم وتعبهم في النار كمشقة آل فرعون بالعذاب { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }

[ غافر : 46 ] . وقيل : المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب والمعنى : إنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد ، فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد فينزل بكم مثل ما نزل بهم ولا تغني عنكم الأموال والأولاد . ويحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال وهو قوله { فأخذهم الله بذنوبهم } ثم صاروا إلى دوام العذاب وهو قوله { والله شديد العقاب } فسينزل بمن كذب بمحمد أمران : أحدهما المحن المعجلة من القتل والسبي والإذلال وسلب الأموال وإليه الإشارة بقوله فيما بعد { قل للذين كفروا ستغلبون } والثاني المصير إلى العذاب الدائم وذلك قوله { وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } .
التأويل : { آلم } الألف إظهار الوحدة مطلقاً ذاتاً وصفة . فإن الألف واحد في ذاته وصفاته في وضع الحساب ، ومتفرد بالأولية والانقطاع عن غيره في وضع الحروف ، ويشير باستقامته وعدم تغيره في جميع الأحوال إلى عدم تغيره عن الوجود الوحداني أزلاً وأبداً . فإن الألف مصدر جميع الحروف ، فإن من استقامته يخرج كل حرف معوج . ثم في اللام والميم المتصل كل حرف منهما بالآخر إثبات أن كل موجود سوى الوحدة موصوفة بالإثنينية وذلك قسمان : قسم لم يكن فكان ثم يزول ، وقسم ما كان فكان ولا يزول . وهذان قسمان محدثان وموجدهما الواحد القديم الذي لا زال كان ولا يزال يكون وإليه الإشارة بالألف . وأما اللام فإشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يكون باقياً وهو عالم الصورة والملك والأجساد . فوقوعه في المرتبة الثانية ، من الألف إشارة إلى أنه مسبوق بالوجود والألف سابق عليه ، والانكسار فيه يشير إلى تغيره وزواله . والميم إشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يزال يبقى وهو عالم المعنى والملكوت والأرواح . وذلك أن الميم أول حرف من اسمه المبدىء وآخر حرف من اسمه القيوم ، فيشير إلى أنه كما أبدأه المبدىء حين لم يكن يقيمه القيوم حين كان لا يزال . وبوجه آخر الألف إشارة إلى وجود حقيقي قائم بذاته ، واللام يشير إلى إثبات ونفي . فالإثبات في لام التمليك { له ما في السموات وما في الأرض } والنفي في « لا » النافية أي لا وجود لشيء بالحقيقة سواه ، والميم يشير أيضاً إلى إثبات ونفي . فالإثبات ميم اسمه القيوم والنفي « ما » النافية أي ما في الوجود حقيقة إلا هو . ودليل الوجهين في { آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ف { الله } إثبات ذات القديم ، { لا إله إلا هو } نفى الشرك عن وجوده وإثبات وحدته في وجوده و { الحي القيوم } إثبات جميع صفات كماله ونفي جميع سمات النقص عن ذاته .

وقد أودع مجموع معاني هذه الآية في قوله { آلم } فمعنى قوله { الله } أودع في أول حرف من حروفه وهو الألف ، ومعنى قوله { لا إله إلا هو } أودع في أول حرف من حروفه وهو اللام . ومعنى قوله { الحي القيوم } أودع في آخر حرف من حروفه وهو الميم . وإنما أودع في آخر حروفه ههنا ليكون السر مودعاً في الآية من أول حرفها إلى آخر حرفها مكتوماً فيما بينهما . والحروف الثلاثة من قوله { آلم } يكون الألف من أولها دالاً على المعنى الذي هو في الكلمة الأولى وهي { الله } واللام من أوسطها دالاً على المعنى الذي في الكلمة الثانية وهي { لا إله إلا هو } والميم من آخرها دالاً على المعنى الذي هو مودع في الثالثة وهو { الحي القيوم } فيكون الاسم الأعظم مودعاً في { آلم } كما روي عن سعيد بن جبير وغيره ، وهو سر القرآن وصفوته كما روي عن أبي بكر وعلي عليه السلام . ثم إنه تعالى بعد أن أظهر أسرار ألوهيته المودعة في { آلم } بقوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } أظهر ألطاف ربوبيته المكنونة في أستار العزة مع حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فقال { نزل عليك الكتاب بالحق } أي نزل حقائق القرآن وأنواره على قلبك بالحقيقة متجلية لسرك ، مخيفة عن زورك ، فصرت مشاهداً لسر الله المودع في { آلم } وهو الذي بين يدي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فصرت مصدقاً له تصديق تحقيق لا تصديق تقليد فأفهم إذ لم تتعلم ، ولا تعلم أنك لا تفهم لأنه منطق الطير وأنت بعد بيضة لا من الطيارين ولا من السيارين . { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس } فلا تظنن يا محمد أن إنزال الكتب على الأنبياء كان كتنزيل القرآن بالحقيقة على قلبك كما قال : { ولكن جعلناه نوراً } [ الشورى : 52 ] حتى صرت مكاشفاً عند تجلي أنواره بأسراره ، وحقائق بيني وبينك لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وإنما إنزال الكتب على الأنبياء كان بالصورة مكتوبة في صحائف وألواح يقرؤها كل قاريء ، ويستوي في هداها الأنبياء والأمم قاطبة { هدى للناس } وكنت مخصوصاً بالهداية عند تجلي أنوار القرآن بالتنزيل على قلبك كما قال : { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [ الشورى : 52 ] { وأنزل الفرقان } الذي يفرق بين تنزيله على قلبك وبين إنزال الكتب على صورة الأنبياء ، ويفرق بين تعليمك القرآن وبين تعليمهم الكتب . فإن كانوا يتدارسون الكتب فأنت تتخلق بالقرآن ، فشتان بين نبي يجيء وهو بذاته نور ومعه كتاب { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } [ المائدة : 15 ] وبين نبى يجىء ومعه نور من الكتاب { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس } [ الأنعام : 91 ] وشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح

{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة } [ الأعراف : 145 ] وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] { إن الذين كفروا بآيات الله } يسترون بحجب الغفلات وتتبع الشهوات قلوبهم فتعمى عن مشاهدة هذه الآيات البينات { لهم عذاب شديد } من هذا العمى والحرمان وهم في خسران من الركون إلى هذا النقصان { والله عزيز ذو انتقام } يعز أهل الغرام بنيل المرام وينتقم من أهل السلوة بحجاب العزة . ثم أخبر تعالى عن كمال علمه بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } وكيف يخفى وإنه { هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز } عن نقص الأحكام { الحكيم } فيما يجري من الأزل إلى الأبد وجفت به الأقلام . وفي الآية إشارة إلى أنه إذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجال الحق نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهو بمثابة ملك الأرحام ، ويضبط المريد أحواله الظاهرة والباطنة على وفق أمر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة لئلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة يلزم منه سقوط النطفة وفسادها ، ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره فالله تعالى بتصرف ولاية الشيخ المؤيد بتأييد الحق بمرور كل أربعين عليه بشرائطها يحوّلها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام إلى أن يرجع إلى حظائر القدس ورياض الأنس التي منها صدر إلى عالم الإنس ، فيتكون الجنين في رحم القلب وهو طفل خليفة الله في أرضه فيستحق الآن أن ينفخ فيه الروح المخصوص بأنبيائه وأوليائه { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } [ النحل : 2 ] { كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } [ المجادلة : 22 ] فإذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم أجمعون . الآيات المحكمات تنزيلها شرب الخواص والعوام لبسط الشرع والاهتداء ، والمتشابهات تأويلها شرب الخواص وخواص الخواص لإخفاء الأسرار عن الأغيار والابتلاء { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ألبست قلوبهم غطاء الريب وحرموا أنوار الغيب وهم أهل الأهواء والبدع { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } ليضلوا بأهوائهم { وابتغاء تأويله } ليضلوا الناس بآرائهم { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } بما شاهدوا من أنوار الحق في تحقيق التأويل { كل من عند ربنا } بتوفيقه وإعلامه وتعريفه { وما يذكر إلا أولوا الألباب } الذين خرجوا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم من ظلمات قشور وجودهم النفساني إلى نور لباب وجودهم الروحاني ، وهم الراسخون في قشور العلوم الكسبية الواصلون إلى حقائق لباب العلوم اللدنية من لدن حكيم خبير . وفي الآية إشارة إلى أن علوم الراسخين كلها بتعليم الله تعالى إياهم في الميثاق إذ تجلى بصفة الربوبية للذرّات ، وأشهدهم على أنفسهم بشواهد الربوبية ألست بربكم؟ فبشهود تلك الشواهد ركز في جبلة الذرّات علم التوحيد فقالوا : بلى .

ويندرج في علم التوحيد كل العلوم كما قال : { وعلم ادم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] فلما ردّت الذرّات إلى الأصلاب واحتجبت بصفات البشرية ، ثم نقلت إلى الأرحام وتنقلت بقدم الأربعينات من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام من مقامات البعد عن الحضرة إلى أن وضع الحمل ، وردت النفس العالمة بعلم التوحيد الناطقة به إلى أسفل سافلين القالب محتجبة بحجب البشرية ناسية تلك العلوم والتنطق بها . ثم أبواه يذكرانه تلك العلوم بالرموز والقرائن حتى يتذكر بعض تلك العلوم من وراء حجب البشرية وأستار الأطوار ، وينطق بلسان الأبوين لا بلسانه الذي أجاب به الرب وقال بلى ، فإن ذلك اللسان كان لب هذا اللسان وهذا قشر ذلك . وكذلك جميع وجود ظاهر الإنسان وباطنه قشور لباب ذلك الوجود المستمع المجيب في الميثاق . فسمعه قشر ذلك السمع الذي استمع خطاب الحق ، وبصره قشر ذلك البصر الذي أبصر جمال الحق ، وقلبه قشر ذلك القلب الذي فقه خطاب الحق ، وعلومه قشر تلك العلوم التي تعلمت من الحق . فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليذكره حقيقة تلك العلوم التي كان أبواه يذكرانه قشرها كما قال { فذكر إنما أنت مذكر } [ الغاشية : 21 ] فالتذكير عام ولكن التذكر خاص فلهذا قال { وما يذكر إلا أولوا الألباب } إنما يتذكر أولوا الألباب { ربنا لا تزغ قلوبنا } عن صراطك بغلبات ظلمات طبائعنا وطباعنا { بعد إذ هديتنا } إلى حضرة جلالك ونور جمالك حتى سمعنا بلب سمعنا لب التنزيل ، وشاهدنا بلب أبصارنا لب التأويل ، وتذكرنا بلب عقولنا علومنا { وهب لنا من لدنك رحمة } تجذبنا من لدنا إلى لدنك وتغنينا عنا بك { إنك أنت الوهاب } . وفيه إشارة إلى أن وظيفة الطالب أن لا يسكن في مقام ولا يقف مع حال بل يكون إلى الأبد طلاباً كما كان الله من الأزل إلى الأبد وهاباً . وكما أنه لا نهاية لمواهبه فلا غاية لمطالب طالبه ، وأن بعد هذه الدار داراً هي دار القرار يوفى فيها جزاء الأبرار والفجار . فحصول الأرب بقدر رعاية الأدب في الطلب . ومقاساة التعب والنصب ، وإن التقوى خير زاد للمعاد { إن الله لا يخلف الميعاد } { إن الذين كفروا } استروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات نفسانيتهم { لن تغنى عنهم } طاغوت { أموالهم وأولادهم من } أنوار الله التي حجبوا عنها { وأولئك هم وقود النار } نار الفرقة والقطيعة { نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة } [ الهمزة : 6 ، 7 ] لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا قشور الجلود ولا تخلص إلى لب القلوب . وإن عذاب حرقة لجلود بالنسبة إلى عذاب فرقة القلوب وحرقة القطيعة عن الله كنسيم الحياة إلى سموم لممات .
في فؤاد المحب نار هوى ... أحر نار الجحيم أبردها
وكذلك دأب جميع الكفار الذين ستروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات النفس فعموا وصموا عن مشاهدة أنوارنا ومحافظة أسرارنا ، فأخذهم الله فعاقبهم بحجاب ذنبوبهم وحرقة قلوبهم { والله شديد العقاب } أليم نار فراقه عظيم عذاب بعده وإشراقه .
بالنار خوّفني قومي فقلت لهم ... النار ترحم من في قلبه نار

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)

القراآت : { سيغلبون ويحشرون } بياء الغيبة : حمزة وعليّ وخلف وعباس مخير . الباقون بتاء الخطاب { ترونهم } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب . الباقون بالياء { مثليهم } بضم الهاء : سهل ويعقوب وكذلك ما انفتح قبل الياء مثل { بجنتيهم } [ سبأ : 16 ] { رأى العين } بغير همز : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف . الباقون بهمزة ساكنة { أونبئكم } بهمزة غير ممدودة بعدها واو مضمومة : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب غير عباس وأوقية وأبي شعيب ونافع غير قالون . { آونبئكم } بالمد والواو المضمومة : يزيد وقالون وعباس وأوقية وأبو شعيب . الباقون بهمزتين هشام يدخل بينهما مدة . { ورضوان } بضم الراء حيث كان : الأعشى والبرجمي وافقا يحيى وحماداً إلا في { من اتبع رضوانه } [ المائدة : 16 ] في المائدة { أن الدين } بفتح « إن » علي . الباقون بالكسر . { وجهي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر غير النجاري عن هشام وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي . { ومن اتبعني } بإثبات الياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمر وأبا جعفر ونافع غير قالون في الوصل . { ويقاتلون الذين } : حمزة ونصير في رواية علي بن نصير . الباقون { ويقتلون } . { ليحكم } بضم الياء وفتح الكاف : أبو جعفر . الباقون بالعكس .
الوقوف : { جهنم } ط ، { المهاد } ه ، { التقتا } ط لأن التقدير منهما فئة أو إحداهما . { العين } ط { من يشاء } ط { الأبصار } ه ، { والحرث } ط { الدنيا } ج للفصل بين النقيضين مع اتفاق الجملتين . { المآب } ج { من ذلكم } ط لتناهي الاستفهام . { من الله } ط { بالعباد } ج للاية على جعل « الذين » خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ، أو مدحاً على « أعني الذين » ولجواز أنه نعت للعباد أو للمتقين . { النار } ج لأن « الصابرين » يصلح بدلاً من « الذين » والوقف أجود نصباً على المدح . { بالأسحار } ط { إلا هو } ط للعطف ، ولو وقف احترازاً عن وهم دخول الملائكة وأولو العلم في الاستثناء والمشاركة في الألوهية كان جيداً . { بالقسط } ط ، { الحكيم } ط إلا لمن قرأ « إن » بالفتح على البدل من « أنه » { الإسلام } ه ، { بينهم } ط لإطلاق حكم غير مخصوص بما قبله . { الحساب } ه { ومن اتبعن } ط لابتداء أمر يشمل أهل الكتاب والعرب ، والأول مختص بأهل الكتاب فلم يكن الثاني من جملة جزاء الشرط ، { أأسلمتم } ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط { اهتدوا } ج لابتداء شرط آخر مع العطف . { البلاغ } ط ، { بالعباد } ه ، { بغير حق } ز لمن قرأ { ويقاتلون } لعدول المعنى من قوله { يقتلون } { أليم } ه ، { والآخرة } ز للابتداء بالنفي مع اتحاد المقصود . { من ناصرين } ه ، { معرضون } ه ، { معدودات } ص لأن الواو للعطف أو الحال . { يفترون } ه ، { يظلمون } ه .

التفسير : عن ابن عباس في رواية أبي صالح عنه قال : لما هزم الله المشركين يوم بدر قالت يهود المدينة : هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا ترد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه . ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى . فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا فقالوا : لا والله ما هو به . وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا . وكان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد . وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا : لتكونن كلمتنا واحدة . ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية . وقال محمد بن إسحق بن يسار في رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم . فقالوا : يا محمد ، لا يغرّنك أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة . أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله { قل للذين كفروا } يعني اليهود { ستغلبون } تهزمون { وتحشرون إلى جهنم } في الآخرة . ومعنى جهنم قد مر في البقرة في قوله : { فحسبه جهنم ولبئس المهاد } [ البقرة : 206 ] وقيل : هم مشركو مكة { ستغلبون } يعني يوم بدر من قرأ بتاء الخطاب فمعناه الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر بأي لفظ أراد صلى الله عليه وسلم ، ومن قرأ بالياء فالأمر متوجه إلى حكاية هذا اللفظ أي قل لهم قولي لك : { سيغلبون } . وفي الآية حجاج للقائل بتكليف ما لا يطاق ، فإنه تعالى أخبر عنهم بأنهم يحشرون إلى جهنم ، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب الخبر كذباً . وفيها دليل على صحة البعث والحشر بإخبار الصادق وفي قوله { ستغلبون } وقد وقع كما أخبر إخبار عن الغيب فيكون معجزاً دالاً على صدق النبي صلى الله عليه وسلم . نظيره في حق عيسى عليه السلام { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [ آل عمران : 49 ] ثم إنه تعالى ذكر ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك الحكم فقال { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } يوم بدر { فئة } إحداهما جماعة { تقاتل في سبيل الله } وهم المسلمون لأنهم يقاتلون لنصرة دين الله وإعلاء كلمته { وفئة } أخرى { كافرة } هم كفار قريش . وبيان كون تلك الواقعة آية من وجوه : أحدها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور منها : قلة العدد والعدد ، كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً مع كل أربع منهم بعير ، ومعهم من الدروع ستة ومن الخيل فرسان .

ومنها أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا . ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها من أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد حصل في المشركين أضداد هذه المعاني . كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير ، وأهل الخيل كلهم دارعون ، وكان معهم دروع سوى ذلك ، وكانوا قد مرنوا على الحرب والغارات . وإذا كان كذلك كانت غلبة المسلمين خارقة للعادة فكانت معجزة . وثانيها أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أخبر عن ذلك بإخبار الله في قوله تعالى { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } [ الأنفال : 7 ] يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان . وكان أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان والإخبار عن الغيب معجز . وثالثها إمداد الملائكة كما سيجيء في هذه السورة . ورابعها قوله { يرونهم مثليهم } وفيه أربعة احتمالات لأن الضمير في « يرون » إما أن يعود إلى الفئة الكافرة أو إلى الفئة المسلمة ، وعلى كلا التقديرين يجوز عود الضمير في { مثليهم } إلى كل منهما فهذه أربعة : الأول أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين . الثاني أنها رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين ، ودليل هذا الاحتمال قراءة من قرأ { ترونهم } بتاء الخطاب أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي أنفسهم . ودليل الاحتمالين جميعاً أن عود الضمير في « يرون » إلى الأقرب وهو الفئة الكافرة أولى ، ولأنه سبحانه جعل هذه الحالة آية للكفار حيث خاطبهم بقوله { قد كان لكم آية } فوجب أن يكون الراؤون هم الكفار حتى تكون حجة عليهم ، ولو كانت الآية مما شاهدها المؤمنون لم يصلح جعلها حجة على الكفرة . والحكمة في ذلك أن يهابهم المشركون ويجبنوا عن قتالهم وهذا لا يناقض قوله في سورة الأنفال { ويقللكم في أعينهم } [ الآية : 44 ] لاختلاف الوقتين فكأنهم قللوا أوّلاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا . على أن تقليلهم تارة في أعينهم وتكثيرهم أخرى أبلغ في القدرة وإظهار الآية . الاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون . فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين والسبب فيه ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] والكافرون كانوا قريباً من ثلاثة أمثالهم ، فلو رأوهم كما هم لجبنوا وضعفوا . الاحتمال الرابع أن يكون الراؤون هم المسلمين ، ثم إنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين وهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة الكفار وإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين ، والآية تنافي ذلك .

وفي الآية احتمال خامس وهو أن أول الآية قد بينا أنه خطاب مع اليهود فيكون المراد : ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة . وههنا بحث وهو أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً ، والاحتمال الثالث يوجب أن يكون الموجود والحاضر غير مرئي . أما الأول فهو محال عقلاً والقول به سفسطة فلهذا قيل : لعل الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيراً . وعلى هذا تكون الرؤية البصر ، ويكون { مثليهم } نصباً على الحال ، أو تحمل الرؤية على الظن والحسبان فإن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنه في غاية الكثرة ، لكن قوله : { رأى العين } لا يجاوب ذلك إذ معناه رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات . وأما الثاني فهو جائز عند الأشاعرة إذ عند حصول الشرائط وصحة الحاسة لا يكون الإدراك واجب الحصول بل يكون عندهم جائزاً لا واجباً والزمان زمان خوارق العادات . وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند استجماع الشروط وسلامة الحس ، فاعتذروا عن ذلك بأن الإنسان عند الخوف لا يتفرغ للتأمل البالغ ، فقد يرى البعض دون البعض . أو لعل الغبار صار مانعاً عن إدراك البعض ، أو خلق الله تعالى في الهواء ما صار مانعاً عن رؤية ثلث العسكر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقل به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين وكل ذلك محتمل . { والله يؤيد بنصره من يشاء } إما بالغلبة كيوم بدر ، وإما بالحجة والعاقبة كيوم أحد . { إن في ذلك } الذي ذكره من الآية { لعبرة } نوع عبور وهو المجاوزة من منزل الجهل إلى مقام العلم { لأولي الأبصار } ذوي العقول التي تصير القضايا معها كالمشاهد المعاين . ثم ذكر ما هو كالشرح والبيان لمعتبر الإنسان وهو أنه { زين للناس } اللذات الجسمانية والآخرة . وهي عالم الروحانيات - خير وأبقى ، وأنها معدة لمن واظب على العبودية واتصف بالخصال الحميدة . وأما ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه يمنعه من اتباعه حب المال والجاه . وروينا أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالعدة والعدد ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن تلك الأشياء متاع الدنيا وزينتها ، والآخرة خير . والمزين هو الله تعالى . أما عند الأشاعرة فلأنه خالق أفعال العباد كلها ، ولو كان المزين هو الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان؟ وأما عند جمهور المعتزلة فلحكمة الابتلاء { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } [ الكهف : 7 ] ولأنها وسائل إلى منافع الآخرة وهو أن يتصدق بها أو يتقوى بها على طاعة الله أو يشتغل بشكرها .

كان الصاحب بن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد لله من أقصى القلب . ولأن القادر على وجوه اللذات إذا تركها وأقبل على أداء وظائف الخدمة كان أشق له وأكثر ثواباً . وعن الجبائي واختاره القاضي ، أن كل ما كان واجباً أو مندوباً أو مباحاً فالتزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان . وحكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك . واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات ، وإن تزيينها وظيفة الشيطان . وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده . وقال في معرض الذم { ذلك متاع الحياة الدنيا } والذام للشيء لا يكون مزيناً له . وقال { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } والغرض تقبيح الدنيا فكيف يكون مزيناً لها؟ . ثم إنه تعالى جعل الأعيان المشتهاة شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها وذلك للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور « قدرة » وللمرجو « رجاء » . وفيه فائدة أخرى هي أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية . فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ تخسيسها والتنفير عنها . قال المتكلمون : في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايراً للمضاف إليه . فالشهوة من فعل الله تعالى ، والمحبة من أفعال العباد ، وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات . واعلم أن الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه ، وقد يحبه ويحب أن يحبه ويعتقد مع ذلك أن تلك المحبة حسنة وفضيلة وهذا هو كمال المحبة ، ومنه قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام { إني أحببت حب الخير } [ ص : 32 ] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير . فقوله : { حب الشهوات } قريب من ذلك لأن الشهوة نوع محبة . ولفظ { الناس } عام فظاهره يقتضي أن هذا المعنى عام لجميع الناس ولا شك أنه موجود في الأغلب وفي أكثر الأوقات فلا يبعد التعميم ، فطالما أعطى للأغلب حكم الكل . على أن من همته بجوامعها مقصورة على طلب اللذات الروحانية في غاية الندرة ، وبقاء ذلك النادر في جميع الأحيان على ذلك الخاطر أعز وأمنع . ثم شرع في بيان تلك الأعيان المشتهيات فذكر منها ما هي الأمهات ورتبها في سبع مراتب : الأولى النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم { خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة } [ الروم : 21 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « إن أخوف ما أخاف على متي النساء » الثانية الأولاد ولا سيما البنين ولهذا خصوا بالذكر ، ومحبة النساء والأولاد كأنها حالة غريزية ولولاها لم يتصور بقاء النسل للحيوانات .

الثالثة والرابعة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة . قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ومنه القنطرة . والمال الكثير قنطار لأن الإنسان يتوثق بها في دفع النوائب . أبو عبيد : إنه وزن لا يحد . روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « القنطار اثنا عشر ألف أوقية » وروى أنس عنه هو ألف دينار . وروى أبي بن كعب عنه هو ألف ومائتا أوقية . وقال ابن عباس : ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية . وبه قال الحسن . وزعم الكلبي أن القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة . وعن سعيد بن جبير أنه مائة ألف دينار . والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم « ألف مؤلفة وبدرة مبدّرة وإبل مؤبلة » . قال الكلبي : القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة . وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء .
وكل الصيد يوجد في الفرا ... ولولا التقى لقلت جلت قدرته
وصفة المالكية هي القدرة ، وأنها صفة كمال والكمال محبوب لذاته . والخامسة الخيل المسوّمة قال الواحدي : الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط ، وسميت الأفراس خيلاً لاختيالها وهو جولانها في مشيتها . ويسمى الخيال خيالاً لجولان هذه القوة في استحضار الصور . والمسومة قيل المرعية . أسمت الدابة وسوّمتها إذا أرسلتها في مرجها للرعي . ولا شك أنها إذا رعت ازدادت حسناً وبهاء . وقيل : هي المعلمة من السومة العلامة . ثم اختلفوا في تلك العلامة فعن أبي مسلم : الغرة والتحجيل ، وقال الأصم : هي البلق . وقال قتادة : الشية - وقيل : الكي . وقال مجاهد وعكرمة : المسومة المطهمة أي الحسان . قال الأصمعي : رجل مطهم وفرس مطهم وفرس مطهم أي تام ، كل شيء على حدته فهو بارع الجمال . السادسة الأنعام وهو جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم . ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها . السابعة الحرث وهو الزراعة ذلك الذي ذكر متاع الحياة الدنيا لأن وجوه الانتفاعات الدنيوية للإنسان إما أن تكون من بني نوعه أو من غيره . والأول أصل وهو المرأة وفرع وهو الولد ، وإنما فرض الكلام في الذكور لشرفهم . والثاني إما أن تكون من المعدنيات وأكثرها فائدة وأعمها عائدة الجوهران الثمينان فخصا بالذكر ، وإما أن تكون من الحيوانات للركوب والكر والفر وهو الخيل ، أو للحمل واللحم وهو الأنعام ، وإما أن تكون من النباتات وهو الحاصل من الزراعة وإنما لم يتعرض للدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب ، والقرآن يخاطب أولاً معهم . { والله عنده حسن المآب } أي المرجع . وإنما لم يذكر المآب القبيح وهو النار لأنها غير مقصودة بالذات لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ولهذا قال :

« سبقت رحمتي غضبي » ثم بيّن أن ذلك المرجع كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا . والمقصود أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أفسح وأوسع من الدنيا ، أو لأنه لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها فقال مستفهماً على سبيل التقرير { قل أؤنبئكم بخير } أي بشيء هو خير { من ذلكم } الذي عددنا . ثم استأنف بيانه وتقريره فقال : { للذين اتقوا عند ربهم جنات } كما تقول : هل أدلكم على حبر خير من فلان؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت . وبيان الخيرية ظاهر من وصف الجنات والأزواج مع قيد الخلود ، فإن النعمة وإن عظمت ، فتوهم الانقطاع والزوال ينغص صفوها وينقص لذتها ، وبعد زوال هذا الوهم لن يتكامل طيبها إلا بالنساء فبهن يحصل الأنس . ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة فقال : { مطهرة } أي من الأقذار والمنفرات . وبعد ذكر تمام النعمة ذكر ماهو فوق التمام فقال : { ورضوان من الله } ويندرج فيه جميع المطالب والمقاصد لأن العبد إذا رضي عنه المولى لم يتصور منصب أجل منه وأعلى ، وكأن المولى وما يملكه للعبد ، كنما أن العبد وما يملكه للمولى { ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } [ التوبة : 72 ] ويحتمل أن يكون اللام في قوله : { للذين اتقوا } متعلقاً بخير . واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به ويرتفع { جنات } على الخبر أي هو جنات ويعضده قراءة بعضهم { جنات } بالجر على البدل من { خير } وذلك أن اللام في هذه القراءة يتعين أن يكون متعلقاً بخير . وقوله : { عند ربهم } يحتمل أن يتعلق بما يتعلق بما تعلق به قوله : { للذين } أي ثبت لهم عند ربهم . ويحتمل أن يكون صفة لخير ، ويحتمل أن يكون من تمام قوله : { اتقوا } فيكون إشارة إلى أن هذا الثواب لا يحصل إلا لمن كان متقياً عند الله تعالى فلا يدخل فيه إلا من كان مؤمناً في علم الله { والله بصير بالعباد } عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختار لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا ، أو بصير بهم يثيب ويعاقب بحسب الاستحقاق ، أو بصير بالذين اتقوا ربهم وبأحوالهم فلذلك أعدّ لهم الجنات { الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا } توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة . وقد حكى الله تعالى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فقيل : دل ذلك على أن الإيمان هو التصديق فقط ، فإن العمل الصالح لو كان داخلاً فيه كما زعموا كان إدخاله في النار قبيحاً عندهم فيكون ممتنع الوقوع من الله تعالى ، وضده واجب الوقوع ، وسؤال الواجب وقوعه عبث فلا يصلح للمدح . ويمكن أن يجاب عنه بأن العبد قد يدعو بما يعلم أنه حاصل له إظهار الذل العبودية وإبداء للاستكانة والخشوع .

وأيضاً صورة العمل الصالح لا تفيد ما لم تقع في حيز القبول . فعلى المتقي أن لا يتكل عليها ويبتهل إلى الله في مواجب الغفران . ثم عدد من أوصاف عباده خمسة ووسط العاطف بينها دلالة على كمالهم في كل واحد منها ، أو إشارة إلى أن كل واحد منها يكفي في استحقاق المدح والثواب فقال : { الصابرين } أي في أداء الطاعات وعلى ترك المحظورات وعند المحن والشدائد . وقف رجل على الشبلي فقال : أيّ صبر أشد على الصابرين؟ فقال : الصبر في الله تعالى . فقال : لا . فقال : الصبر لله . فقال : لا . فقال : الصبر مع الله . قال : لا . قال : فأي شيء؟ قال : الصبر عن الله . فصرخ الشبلي صرخة كاد يتلف روحه . { والصادقين } أي في الأقوال وفي الأفعال بأن لا ينصرف عنها قبل تمامها ، وفي النيات بأن يمضي العزم على الخيرات . { والقانتين } والمقيمين على الطاعات والمواظبين عليها { والمنفقين } ما تيسر على من تيسر بشروطه ومصارفه وجوباً وندباً { والمستغفرين بالأسحار } أي فيها . والسحر قبل طلوع الفجر . وخص هذا الوقت لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار هذا ليلهم وذلك نهارهم . وللاستغفار بالأسحار مزيد آثار وأنوار لأن السحر وقت النوم والغفلة ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة عرض الذلة على حضرة العزة لا يبعد أن يفيض عليه سجال المغفرة وأن يطلع صبح العالم الصغير عند طلوع صبح العالم الكبير فيستنير قلب المؤمن بأنوار المعارف وآثار اللطائف . أما بيان ترتيب الأوصاف ، فالصبر يشمل أداء جميل التكاليف . ثم الإنسان قد يلتزم من نفسه ما هو غير واجب عليه ، فالصادق من يخرج عن عهدة ذلك { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] ثم المواظبة على سلوك سبيل الخيرات أمر محمود فأشير إلى ذلك بقوله : { والقانتين } ثم إن ههنا أمرين يعينان على الطاعة : الخدمة بالمال والابتهال والتضرع إلى حصرة القدس والجلال وذلك قوله : { والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } فقوله : { والمنفقين } معناه الشفقة على خلق الله وباقي الأوصاف حاصله التعظيم لأمر الله . قال الكلبي : لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا : أنت محمد؟ قال : نعم . قالا : وأنت أحمد؟ قال : نعم . قالا : إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك . فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلاني . قالا : أخبرنا من أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله على نبيه { شهد الله أنه لا إله إلا هو } فأسلم الرجلان وصدقا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ووجه النظم أنه مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله : { ربنا إننا آمنا } ثم بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية .
واعلم أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم يحتمل أن تكون بمعنى واحد ، ويحتمل أن لا تكون كذلك . أما الأول فتقريره من وجهين : أحدهما أن الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم ، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم . أما من الله فذلك أنه أخبر في القرآن أنه إله واحد لا إله إلا هو وذلك في مواضع كثيرة كالإخلاص وآية الكرسي وغيرهما ، التمسك بالدلائل السمعية في هذه المسألة جائز لأن العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بها . وأما من الملائكة وأولي العلم وهم الذين عرفوا وحداينة الله تعالى بالدلائل القاطعة ، فكلهم أخبروا أيضاً أن الله واحد لا شريك له . وثاني الوجهين أن تجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان . فالله تعالى أظهر ذلك وبيّن بأن خلق ما يدل على ذلك ، والملائكة وأولو العلم أظهروا ذلك وبينوه . أيضاً الملائكة للرسل والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق . فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان . فأما مفهوم الإظهار والبيان فشيء واحد في حق الكل ، فكأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ، ومثل هذا الدين المبين والمنهج القويم لا يضعف بمخالفة بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان ، فأثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك ، فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام . وأما الثاني فهو قول من يقول شهادة الله تعالى على توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده ، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ونظيره قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [ الأحزاب : 56 ] فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة . فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله . فكيف يكون المدعي شاهداً؟ فالجواب أنه ليس الشاهد بالحقيقة إلا الله لأنه خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ثم وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل والتوصل بها إلى معرفة الوحدانية ، ثم وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى ذلك ولهذا قال : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } [ الأنعام : 19 ] وفي انتصاب { قائماً بالقسط } وجوه : الأول أنه حال مؤكدة والتقدير : شهد الله قائماً بالقسط ، أو لا إله إلا هو قائماً بالقسط . وهذا أوجه لكون الإلهية والتفرد بها مقتضياً للعدالة مثل : هذا أبوك عطوفاً . أو لا رجل إلا عبد الله شجاعاً . ويحتمل أن يكون حالاً من « أولي العلم » أي حال كون كل واحد منهم قائماً بالقسط في أداء هذه الشهادة .

الثاني أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو . وقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف . الثالث أن يكون نصباً على المدح وإن كان نكرة كقوله :
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثاً مراضيع مثل السعالى
ومعنى كونه قائماً بالقسط قائماً بالعدل كما يقال : فلان قائم بالتدبير أي يجريه على سن الاستقامة ، أو مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآحال ، ويثيب ويعاقب وفيما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم . واعلم أن وجوب الوجود يلزمه الغنى المطلق والعلم التام والفيض العام والحكمة الكاملة والرحمة الشاملة وعدم الانقسام بجهة من الجهات وعدم الافتقار بوجه من الوجوه إلى شيء من الأشياء وعدم النقص والنقض في شيء من الأفعال والأحكام إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العليا . ومركوز في العقل السليم أن من هذا شأنه لا يصدر منه شيء إلا على وفق العدالة وقضية التسوية ورعاية الأصلح عموماً أو خصوصاً . فكل ما يخيل إلى المكلف أنه خارج عن قانون العدالة أو يشبه الجور أو القبح ، وجب أن ينسب ذلك إلى قصور فهمه وعدم إحاطته التامة بسلسلة الأسباب والمسببات والمبادىء والغايات ، فانظر في كيفية خلقه أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله وحكمته فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والألم ، واقطع بأن كل ذلك عدل وصواب . ثم انظر في كيفية خلقه العناصر وأجرام الأفلاك والكواكب وتقدير كل منها بقدر معين وخاصية معينة ، فكلها حكمة وعدالة . وانظر إلى تفاوت الخلائق في العلم والجهل والفطانة والبلادة والهداية والغواية واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ، فإن الإنسان بل كل ما سوى الله تعالى لم يخلق مستعداً لإدراك تفاصيل كلمات الله . فالخوض في ذلك خوض فيما لا يعنيه بل لا يسعه ولا ينفعه إلا العلم الإجمالي بأنه تعالى واحد في ملكه ، وملكه لا منازع له فيه ولا مضاد ولا مانع لقضائه ولا راد ، وأن الكل بقضائه وقدره ، وفي كل واحد من مصنوعاته ولكل شيء من أفعاله حكم ومصالح لا يحيط بذلك علماً إلا موجده وخالقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . هذا هو الدين القويم والاعتقاد المستقيم ، والعدول عنه مراء ، والجدال فيه هراء . فمن نسبه إلى الجور في فعل من الأفعال فهو الجائر لا على غيره بل على نفسه إذ لا يعترف بجهله وقصوره ، ولكن ينسب ذلك إلى علام الخفيات والمطلع على الكليات والجزئيات من أزل الآزال إلى أبد الآباد . ومن زعم أن شيئاً من الأشياء خيراً أو شراً في اعتقاده حسناً أو قبيحاً بحسب نظره خارج عن مشيئته وإرادته فقد كذب ابن أخت خالته ، لأنه يدعي التوحيد ثم يثبت قادراً آخر أو خالقاً غير الله تعالى ، ولا خالق إلا هو ، فلهذا كرر مضمون الشهادة وقال : { لا إله إلا هو } والتقدير : شهد الله أنه لا إله إلا هو .

وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو كقولك : الدليل دل على وحدانية الله ، ومتى كان كذلك فقد صح القول بوحدانية الله . وفيه إيقاظ لأمة محمد أن يقولوا على وفق شهادة الله والملائكة وأولي العلم { لا إله إلا هو } وإعلام بأن هذه الكلمة يجب أن يكررها المسلم ما أمكنه
هو المسك ما كررته يتضوّع ... ثم أكد كونه منفرداً بالألوهية وقائماً بالعدل بقوله : { الغزيز الحكيم } فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى كمال العلم . ولا تتم القدرة إلا بالتفرد والاستقلال ، ولا العدالة إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال { إن الدين عند الله الإسلام } جملة مستأنفة مؤكدة للأولى . والدين في اللغة الجزاء ثم الطاعة . سميت ديناً لأنها سبب الجزاء . والإسلام في اللغة الانقياد والدخول في السلم أو في السلامة أو في إخلاص العبادة من قولهم : « سلم له الشيء » أي خلص له . والإسلام في عرف الشرع يطلق تارة على الإقرار باللسان في الظاهر ومنه قوله تعالى : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 17 ] ويطلق أخرى على الانقياد الكلي وهو المراد ههنا . وفيه إيذان بأن الدين هو العدل والتوحيد . أما التوحيد فأن يعلم أن الله تعالى لا شريك له ولا نظير في الذات ولا في صفة من الصفات كما شهد هو به ، وأما العدل فهو أن يعلم أن كل ما خلق وأمر المكلف به ونهاه عنه فإنه عدل وصواب وفيه حكم ومصالح ، فيأتمر بذلك وينتهي عنه ليكون عبداً منقاداً معترفاً بأنه تعالى قائم بالقسط . ومن قرأ بفتح « أن » فتقديره عند البصريين ذلك بدل من الأول ، بدل الكل فكأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام فيكون من باب وضع الظاهر موضع المضمر كقوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... وقيل : تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام . وقيل : شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام . لأن كونه تعالى واحداً يوجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام ، لأن دين الإسلام مشتمل على هذه الواحدانية . وقرىء الأول بالكسر والثاني بالفتح على أن الفعل واقع على الثاني وما بينهما اعتراض . ثم ذكر أنه أوضح الدلائل وأزل الشبهات ، والقوم ما كفروا إلا لقصورهم وتقصيرهم فقال : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } قيل : هم اليهود واختلافهم أن موسى عليه موسى عليه السلام لما قرب وفاته سلم التوراة إلى سبعين رجلاً من الأحبار وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع ، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين بعد ما جاءهم التوراة بغياً بينهم وتحاسداً على طلب الدنيا .

وقيل : المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله . وقيل : المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله . وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش لأنهم أميون ونحن أهل كتاب . { إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم . لأنا لو حملناه على العلم لزم نسبة العناد إلى جمع عظيم وهو بعيد قاله في التفسير الكبير . { ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } لا يصعب عليه عدة أفعاله ومعاصيه وإن كانت كثيرة ، أو المراد أنه سيصل إلى الله سريعاً فيحاسبه أي يجازيه على كفره . ثم بين للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم فقال : { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله } قال الفراء : أي أخلصت عملي لله . فعلى هذا « الوجه » في معنى العمل . وقيل : أي أسلمت وجه عملي لله . فحذف المضاف والمعنى كل ما يصدر مني من الأعمال . فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله والانقياد لإلهيته وحكمه . وقيل : الوجه مقحم ، والتقدير : أسلمت نفسي لله ، وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس كأنه موقوف على عبادته معرض عن كل ما سواه ، وقوله : { ومن اتبعن } معطوف على الضمير المرفوع في { أسلمت } وحسن للفصل . أو مفعول معه والواو بمعنى « مع » . ثم في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : أحدهما أن هذا إعراض عن المحاجة لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر المعجزات كالقرآن ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وقد مر في هذه السورة إبطال إلهية عيسى وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . ثم بيّن نفي الضد والند والصاحبة والولد بقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } وذكر أن اختلاف هؤلاء اليهود والنصارى إنما هو لأجل البغي والحسد فلم يبق إلا أن يقول : أما أنا ومن اتبعن فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى . وهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه . وثانيهما أن قوله : { أسلمت } محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقاً للعبادة ، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه وداعي الخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك . فاليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى ، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان . فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ونظير هذه الآية { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً }

[ آل عمران : 64 ] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } [ الأنعام : 79 ] كأنه قيل : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأنه كان محقاً في قوله صادقاً في دينه ، فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلاً تحت قوله : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] { وقل للذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى { والأميين } وهم مشركو العرب الذين لا كتاب لهم { أأسلمتم } ومعناه الأمر وفائدته التعيير بالعناد وقلة الإنصاف كقولك لمن لخصت له المسئلة ولم تأل جهداً في سلوك طريقة الكشف والبيان له : هل فهمتها؟ فإنه يكون توبيخاً له بالبلادة وكلال الذهن ومثله في آية تحريم الخمر { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء . { فإن أسلموا فقد اهتدوا } إلى ما يهدي الله إليه أو إلى الفوز والنجاة في الآخرة { وإن تولوا } أعرضوا عن الإسلام لي والاتباع لك { فإنما عليك البلاغ } . ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الرشاد { والله بصير بالعباد } يوفق للصلاح من شاء ويترك على الضلالة من أراد . ثم وصف المتولي بصفات ثلاث وأردفه بوعيده فقال : { إن الذين يكفرون بآيات الله } أي ببعضها المعهود لأن اليهود كانوا مقرين ببعض الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته وعلمه وشيء من المعاد أو بكلها كما هو ظاهر الجمع المضاف ، وتوجيهه أن المكذب ببعض آيات الله كالكافر بجميعها { ويقتلون النبيين } أي المعهودين لأنهم ما قتلوا كلهم ولا أكثرهم { بغير حق } من غير ما شبهة عندهم { ويقتلون } أو يقاتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس . عن الحسن أن في الآية دلالة على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلته عند الله منزل الأنبياء فلهذا ذكرهم عقيبهم . « وروي أن رجلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيّ الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أفضل الجهاد كلمة حق عند سطان جائر » فإن قيل : إذا كان قوله : { إن الذين يكفرون } في حكم المستقبل لا أقل من الحال لأنه وعيد لمن هو في زمن رسول الله ، ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط ، فكيف يصح الكلام؟ قلنا : إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعاً ، إلا أنه تعالى عصمهم منهم فصح إطلاق القاتل عليهم كما يقال : السم قاتل أي ذلك من شأنه إن وجد القابل . أو نقول : وصفوا بسيرة أسلافهم لأنهم راضون بذلك . عن أبي عبيدة بن الجراح قلت : يا رسول الله أيّ الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ هذه الآية .

ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة . فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار { فبشرهم بعذاب أليم } إنما دخلت الفاء لتضمن اسم « إن » معنى الشرط ، فإن لا يغير معنى الابتداء بخلاف « ليت » و « لعل » .
واعلم أنه تعالى قسم وعيدهم إلى ثلاثة أقسام : الأول اجتماع أسباب الآلام والمكاره عليهم وهو العذاب الأليم ، واستعارة البشارة ههنا للتهكم . الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وهو قوله : { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } أما في الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن وأسباب الاحترام والاحتشام بأصناف الذل والهوان من السبي والقتل والجزية ، وأما في الآخرة فكما قال عز من قائل { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } [ الفرقان : 23 ] الثالث لزوم ذلك في حقهم وهو قوله : { وما لهم من ناصرين } ثم ذكر غاية عناد أهل الكتاب فقال : { ألم تر إلى الذين } عن ابن عباس قال : « دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال : على ملة إبراهيم . فقالا : إن إبراهيم كان يهودياً . فقال رسول الله : فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا » فنزلت . وقال الكلبي : نزلت في اللذين زنيا من خيبر وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما بالرجم وأنكر اليهود عليه صلى الله عليه وسلم وسوف تجيء القصة في سورة المائدة مفصلة . وقيل : دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم أو إياهم والنصارى إلى الآيات الدالة على صحة نبوته من التوراة أو منها ومن الإنجيل فأبوا فنزلت . ومعنى قوله : { أوتوا نصيباً } أي حظاً وافراً من علم الكتاب يريد أحبار اليهود . و « من » إما للتبعيض وإما للبيان . والكتاب يراد به غير القرآن من الكتب التي كانوا مقرين بحقيتها . وقيل : أي حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوراة وهي نصيب عظيم . ثم بين سبب التعجيب بقوله : { يدعون إلى كتاب الله } وهو التوراة كما مر في أسباب النزول ، ولأنه تعالى عجب رسوله من تمردهم وإعراضهم ، وإنما يتوده التعجيب إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته . وعن ابن عباس أنه القرآن وليس ببعيد لأنهم دعوا إليه بعد قيام الحجج على أنه كتاب من عند الله ليحكم أي الكتاب بينهم أي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحذف الثاني للعلم به . أو يراد الحكم في الاختلاف الواقع بينهم كما في قصة الزانيين ، ولهذا راجعوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم ، قال في الكشاف : والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراة ليحكم بين المحق والمبطل منهم { ثم يتولى فريق منهم } وهم الرؤساء والأحبار أو الذين لم يسلموا من أحبارهم ومعنى « ثم » استبعاد ما بين رتبتي الدعاء والتولي { وهم معرضون } قوم لا يزال الإعراض ديدنهم وهجيراهم .

والضمير في « هم » إما أن يرجع إلى الفريق أي هم جامعون بين التولي والإعراض لا عن استماعهم الحجة في ذلك المقام فقط ، بل عنه وعن سائر المقامات . وإما أن يرجع إلى الباقين منهم فيكون قد وصف العلماء والرؤساء بالتولي والباقين بالإعراض لأجل إعراض علمائهم ومتقدميهم . وإما أن يرجع إلى كل أهل الكتاب أي هم قوم عادتهم الإعراض عن قبول الحق ذلك التولي والإعراض ، أو ذلك العقاب أو الوعيد بسبب أنهم كانوا يتساهلون في أمر العقاب ولا يفرقون بين ما يتعلق بأصول الدين وبين ما يتعلق بفروعها فقالوا : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات } [ البقرة : 8 ] هي أيام عبادة العجل فاستوجبوا الذم من وجوه : أحدها استقصار مدة العذاب ومن أين لهم العلم بذلك؟ وثانيها أن عبادة العجل كفر والكفر يستحق به الكافر عذاباً دائماً . وثالثها أن استثناء الأيام المعدودات فقط فيه دليل على أنهم استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وذلك كفر صريح . { وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون } من قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] أو من قولهم : { لن تمسنا النار إلا إياماً } [ البقرة : 8 ] أو من قولهم « نحن أولى بالنبوة من قريش » أو من زعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم . { فكيف } يصنعون؟ أو فكيف حالهم؟ وفي هذا الحذف فخامة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من العذاب { إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } قال الفراء : إذا قلت جمعوا اليوم الخميس معناه جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس . أما إذا قلت : جمعوا في يوم الخميس فلا تضمر فعلاً . وأيضاً من المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة والفرق بين المثاب والمعاقب . { ووفيت كل نفس ما كسبت } من ثواب أو عقاب أو جزاء ما عملت { وهم لا يظلمون } يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس كما تقول : ثلاثة أنفس تريد ثلاثة أناسي . روي أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس الإشهاد ثم يأمر بهم إلى النار .
التأويل : { ستغلبون } إشارة إلى أن المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الأزلي بالشقاوة { ربنا غلبت علينا شقوتنا }

[ المؤمنون : 106 ] ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا . فبغلبات النفس والهوى يرد إلى أسفل سافلي الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه في قعر جهنم وبئس المهاد ، مهاد مهده في معاشه . { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } إن لله تعالى فئتين في الظاهر من المؤمن والكافر ، وفئتين في الباطن من القلب وصفاته والنفس وصفاتها الذميمة ، ولهما الحرب والالتقاء على الدوام وهو الجهاد الأكبر { والله يؤيد بنصره من يشاء } من القلب وجنوده وهم الروح والسر والأوصاف الحميدة والملائكة ، ومن النفس وأعوانها وهم الهوى والدنيا والأوصاف الذميمة والشياطين ثم أخبر عن جنود الفئتين وأعوان الفرقتين بقوله : { زين للناس } . واعلم أن الله خلق الخلق على طبقات ثلاث : العوام ويعبر عنهم بلفظ الناس والغالب عليهم الهوى وهم أصحاب النفوس ، والخواص ويعبر عنهم بلفظ المؤمن وهم أرباب الأرواح والغالب عليهم التقوى ، وخواص الخواص ويذكرهم بلفظ الولي { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] والغالب فهيم المحبة والشوق . ثم إن لجهنم سبع دركات محفوفة بالشهوات . فأشار بالنساء إلى شهوة الفرج ، وبالبنين إلى شهوة الطبيعة الحيوانية المائلة إلى الولد ، وبالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى شهوة الحرص على المال ، وبالخيل المسوّمة إلى شهوة الجاه والخيلاء بالركوب عليها ، وبالأنعام إلى شهوة الجمال والاقتناء { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] وبالحرث إلى شهوة الحكم والرياسة على الرعايا وأهل القرى . ثم ذكر درجات الجنات الثمانية للخواص منها التقوى للذين اتقوا والرضا بالقضاء { ورضوان من الله } والإيمان { ربنا إننا آمنا } والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار بالأسحار هذه جنات عاجلة تجري من تحتها الأنهار الألطاف والواردات . والأزواج المطهرة الأخلاق الفاضلة التي تتولد منها ، فإذا عاش في الجنات مات وحشر كذلك . ثم أشار إلى أحوال خواص الخواص مستورة من نظر الخواص محفوظة عن فهم العوام بقوله : { والله عنده حسن المآب } ما احلولى لهم الدنيا يا دنيا مري على أوليائي ولا وقفوا عند جنة المأوى { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] وإنما طلبوا قرب المولى { للذين أحسنوا الحسنى } [ يونس : 26 ] { شهد الله } بكلامه الأزلي عن عمله السرمدي على ذاته الأحدي وكونه الصمدي { أنه لا إله إلا هو } وهي شهادة الحق للحق بالحق أنه الحق ، وهو متفرد بهذه الشهادة الأزلية الأبدية لا يشاركه فيها أحد ، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات ، فشهادته لا تشبه الشهادات . شهد بجلال قدره على كمال عزه حين لا حين ولا أين ولا عقل ولا جهل ولا غير ولا شرك ولا عرش ولا فرش ولا الجنة ولا النار ولا الليل ولا النهار ولا الجن ولا الإنس ولا الملائكة ولا أولو العلم ولا الإنكار ولا الإقرار ، فأخبر الذي كان عما كان كما كان وهو أنه لا إله إلا هو ، ثم أبدع الموجودات كما شاء على ما شاء لما شاء .

فكل جزء من أجزائها ، وكل ذرة من ذراتها ، بوجوده مفصح ، ولربوبيته موضح ، وعلى قدمه شاهد ، ولكن ينبوع ماء التوحيد هو القدم فجرى في مجاري أنهار المحدثات إلى أن ظهر من عيون الملائكة وأولي العلم . ثم الملائكة وإن كانوا مظهر ماء التوحيد كما كان أولو العلم ، ولكن اختص أولو العلم منهم بمشربية { وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها } [ الفتح : 26 ] .
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
فحقيقة معنى الآية : شهد الله أنه لا إله إلا هو وهو قائم بالقسط على أمور عباده حتى يشهد على شهادته الملائكة وأولو العلم . ثم فائدة التكرار بقوله { لا إله إلا هو } عائدة إلى أولي العلم الذين لهم شركة مع الملائكة في مظهرية ماء التوحيد بالشهادة ، ولهم اختصاص بالمشربية لماء التوحيد فشاهدوا حقيقة { لا إله إلا هو العزيز } الذي لا يشاهد عزته إلا أعزته من بين البرية { الحكيم } الذي بحكمته اختارهم لهذه العزة من جملة الخليقة . { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } الاختلاف في الصورة من نتائج تناكر الأرواح في عالم المعنى والأرواح فما تعارف منها في الميثاق لتقاربهم في الصف أو لتقابلهم في المنزل ائتلف ، وما تناكر منها لتباعدهم في الصف أو لتدابرهم في المنزل اختلف . { إلا من بعد ما جاءهم العلم } فيه أن العلم مظنة الحسد ، ولكن المحمود منه ما يخص باسم الغبطة . { ويقتلون النبيين } الإنسان خلق مستعداً لقبول فيض صفات لطف الحق وقهره ، فكما أن كمال الإنسان في قبول فيض اللطف أن يفدي نفسه في متابعة الأنبياء حتى يكون خير البرية ، فنقصانه في قبول فيض القهر أن يقتل الأنبياء حتى يكون شر البرية ، فلهذا تحبط أعماله ولا ترجى توبته وترجى توبة إبليس { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } فيه إشارة إلى أن من أوتي حظاً من العلم فعليه إذا دعي إلى حكم من أحكام الله أو إلى ترك الدنيا ومخالفة الهوى أن يمتثل وينقاد وإلا كان مغروراً بالدنيا مفترياً في الدعوى ، وهذه حال أكثر من أوتي نصيباً من علم الظاهر ولم يؤت حظاً من علم الباطن ، فهم أهل العزة بالله فكيف حال المغرورين إذا جمعهم الله؟

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

القراآت : { الحي من الميت والميت من الحي } بالتشديد على « فيعل » حيث كان : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون بالتخفيف على « فيل » . { منهم تقية } بكسر القاف وفتح الياء وتشديدها : أبو زيد عن المفضل وسهل ويعقوب . الباقون { تقاة } بضم التاء . وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة .
الوقوف : { ممن تشاء } ط لتناهي الجملتين المتضايفتين معنى إلى جملتين مثلهما { ونذل من تشاء } ط { الخير } ط { قدير } ه ، { في الليل } ز للفصل بين الجملتين المتضادتين { من الحي } ز لعطف المتفقتين { حساب } ه ، { المؤمنين } ج { تقاة } ط { نفسه } ط { المصير } ه ، { يعلمه الله } ط { وما في الأرض } ط { قدير } ه ، { محضرا } ج والأجوز أن يوقف على { سوء } تقديره وما عملت من سوء كذلك . { بعيداً } ط { نفسه } ط { بالعباد } ه { ذنوبكم } ط { رحيم } ه { والرسول } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب . { الكافرين } ه ، { العالمين } ( لا ) لأن { ذرّية } بدل . { من بعض } ج { عليم } ( لا ) لاحتمال أن « إذ » متعلق بالوصفين أي سمع دعاءها وعلم رجاءها حين قالت ، أو اصطفى آل عمران وقت قولها ولاحتمال نصب « إذ » بإضمار « اذكر » .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من طريقة المعاندين ما ذكر ، علم نبيه صلى الله عليه وسلم طريقة مباينة لطريقتهم من كيفية التمجيد والتعظيم فقال : { قل اللهم } ومعناه عند سيبويه يا الله والميم المشددة عوض عن الياء . وإنما أخرت تبركاً باسم الله تعالى وهذا من خصائص اسم الله . كما اختص بدخول تاء القسم ، وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف ، وبقطع همزته في يا الله . وعند الكوفيين أصله يا الله أمنا بخير أي أقصدنا ، فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء . وخففت الهمزة من أمّ . وزيف بأن التقدير لو كان كذلك لزم أن يذكر الدعاء بعده بالعطف مثل : اللهم واغفر لنا . ولجاز أن يتكلم به على أصله من غير تخفيف الهمزة وبإثبات حرف النداء وأجيب بأنه إنما لم يوسط العاطف لئلا يصير السؤال سؤالين ضرورة مغايرة المعطوف للمعطوف عليه بخلاف ما لو جعل الثاني تفسيراً للأول فيكون آكد . وبأن الأصل كثيراً ما يصير متروكاً مثل : ما أكرمه فإنه لا يقال : شيء ما أكرمه في التعجب . { ومالك الملك } نداء مستأنف عند سيبويه . فإن النداء باللهم لا يوصف كما لا توصف أخواته من الأسماء المختصة بالنداء نحو : يا هناه ويا نومان ويا ملكعان وفل . وأجاز المبرد نصبه على النعت كما جاز في « يا ألله » . عن ابن عباس وأنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك فنزلت الآية .

وعن عمرو بن عون « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون ، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخبره صلى الله عليه وسلم ، فأخذ المعول من سلمان فضربها صلى الله عليه وسلم ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كالمصباح في جوف بيت مظلم ، وكبر صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون وقال صلى الله عليه وسلم : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال صلى الله عليه وسلم : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب صلى الله عليه وسلم الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء ، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا . فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا » فنزلت . وقال الحسن : إن الله تعالى أمر نبيه أنيسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما . وأمره بذلك دليل على أن يستجيب له صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء وهكذا منازل الأنبياء إذا أمروا بدعاء استجيب دعاؤهم . { مالك الملك } أي تملك جنس الملاك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، وفيه أن قدرة الخلق في كل ما يقدرون عليه ليست إلا بأقدار الله تعالى . ثم لما بين كونه مالك الملك وأنه هو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ويملك كل مالك على مملوكه فصل ذلك بقوله : { تؤتى الملك من تشاء } أي النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك . فالأول عام شامل والآخر بعض من الكل . وهذا الملك قيل : ملك النبوة لأنها أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر على بواطن الخلق ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق . والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر ، فعلى كل أحد أن يقبل شريعتهم ولهم أن يقتلوا من أرادوا من المتمردين . ولهذا استبعد بعض الجهلة أن يكون النبي بشراً { أبعث الله بشراً رسولاً } [ الإسراء : 94 ] ومن المجوّزين من كان يقول إن محمداً صلى الله عليه وسلم فقير يتيم فكيف يليق به هذا المنصب العظيم؟ { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] وكانت اليهود تقول : النبوة في أسلافنا فنحن أحق بها . وقد روينا في تفسير قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون } [ آل عمران : 12 ] أن اليهود تكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة عددهم وعددهم فرد الله تعالى على جميع هؤلاء الطوائف بأنه سبحانه مالك الملك يؤتي الملك - وهو النبوة - من يشاء ، وينزع الملك - النبوة - ممن يشاء لا بمعنى أنه يعزله عن النبوة فإن ذلك غير جائز بالإجماع بل بمعنى أنه ينقلها من نسل إلى نسل كما نزع عن بني إسرائيل ووضع في العرب ، أو بمعنى أنه لا يعطيه النبوة ابتداء كقوله :

{ الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] فإنه يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط . ومثله { أو لتعودنّ في ملتنا } [ الأعراف : 88 ] مع أن الأنبياء لم يكونوا في ملتهم قط حتى يتصور العود إليها . وقيل : المراد من الملك التسلط الظاهر وهو الاقتدار على المال بأنواعه وعلى الجاه ، وهو أن يكون مهيباً عند الناس وجيهاً غالباً مظفراً مطاعاً . ومن المعلوم أن كل ذلك بإيتاء الله تعالى . فكم من عاقل قليل المال ، ورب جاهل غافل رخي البال ، وقد رأينا كثيراً من الملوك بذلوا الأموال لتحصيل الحشمة والجاه وما ازدادوا إلا حقارة وخمولاً ، فعلمنا أن الكل بإيتاء الله تعالى سواء في ذلك ملوك العدل وملوك الجور ، لأن حصول الملك للجائر إن لم يقع بفاعل ففيه سد باب إثبات الصانع ، وإن حصل بفعل المتغلب فكل أحد يتمنى حصول الملك والدولة لنفسه ولا يتيسر له . فلم يبق إلا أن يكون من مسبب الأسباب وفاعل الكل ومدبر الأمور وناظم مصالح الجمهور .
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بتخوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان أيّ تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وكذا الكلام في نزع الملك فإنه كما ينزع الملك من الظالم فقد ينزعه من العادل لمصلحة تقتضي ذلك . والنزع يكون بالموت وبإزالة العقل والقوى والقدرة والحواس وبتلف الأموال وغير ذلك . في بعض الكتب « أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة . وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم » وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « كما تكونوا يولى عليكم » والصحيح أن الملك عام يدخل فيه النبوة والولاية والعلم والعقل والصحة والأخلاق الحسنة وملك النفاذ والقدرة وملك محبة القلوب وملك الأموال والأولاد إلى غير ذلك ، فإن اللفظ عام ولا دليل على التخصيص { وتعز من تشاء وتذل من تشاء } كل من الإعزاز والإذلال في الدين أو في الدنيا ، ولا عزة في الدين كعزة الإيمان { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] وفي ضده لا ذلة كذلة الكفر وعزة الدنيا كإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت ، وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق ، وكل ذلك بتيسير الله تعالى وتقديره { بيدك الخير } أي بقدرتك يحصل كل الخيرات وليس في يد غيرك منها شيء .

وإنما خص الخير بالذكر وإن كان بيده الخير والشر والنفع والضرّ ، لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة ، أي بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، أو لأن جميع أفعاله من نافع وضار لا يخلو عن حكمة ومصلحة وإن كنا لا نعلم تفصيلها فكلها خير ، أو لأن القادر على إيصال الخير أقدر على إيصال الشر فاكتفى بالأول عن الثاني . وللاحتراز عن لفظ الشر مع أن ذلك صار مذكورا بالتضمن في قوله : { إنك على كل شيء قدير } ولأن الخير يصدر عن الحكم بالذات والشر بالعرض فاقتصر على الخير . { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } وذلك بأن يجعل الليل قصيراً ويدخل ذلك القدر في النهار وبالعكس . ففي كل منهما قوام العالم ونظامه . أو يأتي بالليل عقيب النهار فيلبس الدنيا ظلمته بعد أن كان فيها ضوء النهار ، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوأه . فالمراد بالإيلاج إيجاد كل منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ ، فإن الإيلاج الإدخال فإذا زاد من هذا في ذلك فقد أدخله فيه { وتخرج الحي من الميت } المؤمن من الكافر { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 22 ] أي كافراً فهديناه ، أو الطيب من الخبيث ، أو الحيوان من النطفة ، أو الطير من البيضة وبالعكس . والنطفة تسمى ميتاً { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاًَ فأحياكم } [ البقرة : 28 ] أو يخرج السنبلة من الحبة ، والنخلة من النواة وبالعكس . فإخراج النبات من الأرض يسمى إحياء { يحيي الأرض بعد موتها } [ الحديد : 17 ] { وترزق من تشاء بغير حساب } تقدم مثله في البقرة . وإذا كان كذلك فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم . ثم لما علم كيفية التعظيم لأمر الله أردفه بشريطة الشفقة على خلق الله ، أو نقول : لما ذكر أنه مالك الملك وبيده العزة والذلة والخير كله . بيّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه فقال : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين } بالجزم ، ولكن كسر الذال للساكنين . قال الزجاج : ولو رفع على الخبر جاز ، ولكنه لم يقرأ . والخبر والطلب يقام كل منهما مقام الآخر . وقوله : { من دون المؤمنين } يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم على المؤمنين . عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وهؤلا كانوا من اليهود يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم عن دينهم . فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود . فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فنزلت هذه الآية . وعن ابن عباس أيضاً في رواية الضحاك : نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدرياً نقيباً ، وكان له حلفاء من اليهود .

فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله ، إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فنزلت . وقال الكلبي : نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيّ وأصحابه - كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم . وقد كرر ذلك في آيات أخر كثيرة { لا تتخذوا بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } [ المائدة : 51 ] { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } [ المجادلة : 22 ] وكون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون راضياً بكفره والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يصدر عن المؤمن فلا يدخل تحت الآية لقوله : { يا أيها الذين آمنوا } وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه والثالث كالمتوسط بين القسمين وهو الركون إليهم والمعونة والمظاهرة لقرابة أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك ، ولهذا قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يظهرون المودّة لكفار مكة مع اعتقاد أن دينهم باطل ، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه حذراً من أن يجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه حتى يخصه بالموالاة دون المؤمنين ، فلا جرم هدد فقال : { من يفعل ذلك فليس من الله } أي من ولايته أو من دينه { في شيء } يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ عن ولاية الله رأساً ، وهذا كالبيان لقوله : { من دون المؤمنين } ليعلم أن الاشتراك بينهم وبين المؤمنين في الموالاة غير متصوّر وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال :
تود عدوّي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب
قال بعض الحكماء : هذا ليس بكلي فإنه قد يكون المشفق على العدوّ مشفقاً على العدو الآخر كالملك العادل فإنه محب لهما ، فإن أراد أحد أن يعم الحكم لا بد له أن يزيد عليه إذا كانوا في مرتبة واحدة { إلا أن تتقوا منهم تقاة } قال الجوهري : يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة ، وفاؤها واو كتراث . فالتقاة اسم وضع موضع المصدر . قال الواحدي : ويجوز أن يجعل « تقاة » ههنا مثل « دعاة » و « رماة » فيكون حالاً مؤكدة ، وعلى هذين الوجهين يكون تتقوا مضمناً معنى تحذروا أو تخافوا ولذا عدي ب « من » . ويحتمل أن يكون التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل : ضرب الأمير لمضروبه ، فالمعنى إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه . رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار الطوية كقول عيسى عليه السلام : كن وسطاً وامش جانباً أي ليكن جسدك بين الناس وقلبك مع الله .

وللتقية عند العلماء أحكام منها : إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويعرّض في كل ما يقول ما أمكن ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب . ومنه أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما « روى الحسن أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم . - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش - فتركه ودعا الآخر وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فقال : نعم نعم نعم . فقال : أتشهد أني رسول الله؟ فقال : إني أصم ثلاثاً ، فقدمه وقتله . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيأ له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه » ونظير هذه الآية { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] ومنها أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة . وقد يجوز أن تكون أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين ، فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز ألبتة . ومنها أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوّزها بين الكافر محاماة على النفس . ومنها أنها جائزة لصون المال على الأصح كما أنها جائزة لصون النفس لقوله صلى الله عليه وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » و « من قتل دون ماله فهو شهيد » ولأن الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على التيمم إذا بيع الماء بالغبن . قال مجاهد : كان هذا في أول الإسلام فقط لضعف المؤمنين . وروى عوف عن الحسن أنه قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة . وهذا أرجح عند الأئمة . { ويحذركم الله نفسه } قيل : أي عقاب نفسه . وفيه تهديد عظيم لمن تعرّض لسخطه بموالاة أعدائه لأن شدة العقاب على حسب قدرة المعاقب . وفائدة ذكر النفس تصريح بأن الذي حذر منه هو عقاب يصدر من الله لا من غيره . وقيل : الضمير يعود إلى اتخاذ الأولياء أي ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل . ثم حذر عن جعل الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية فقال : { قل إن تخفوا ما في صدوركم } أي قلوبكم وضمائركم لأن القلب في الصدر فجاز إقامة الظرف مقام المظروف { أو تبدوه يعلمه الله } يتعلق به علمه الأزلي .

ثم استأنف بياناً أشفى وتحذيراً أوفى فقال : { ويعلم ما في السموات وما في الأرض } ثم قال إتماماً للتحذير { والله على كل شيء قدير } ثم خلط الوعيد بالوعد والترهيب بالترغيب فقال : { يوم تجد } وفي عامله وجوه قال ابن الأنباري : وإلى الله المصير يوم تجد . وقيل : والله على كل شيء قدير يوم تجد ، وخص ذلك اليوم بالذكر وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تعظيماً لشأنه مثل { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] وقيل : انتصابه بمضمر أي اذكر . والأظهر أن العامل فيه { تود } والضمير في { بينه } لليوم أي تود كل نفس يوم تجد ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء محضراً أيضاً لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً . والأمد الغاية التي ينتهي إليها مكاناً كانت أو زماناً . والمقصود تمني بعده كقوله : { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } [ الزخرف : 38 ] ومعنى كون العمل محضراً هو أن يكون ما كتب فيه العمل من الصحائف حاضراً ، أو يكون جزاؤه حاضراً إذ العمل عرض لا يبقى . ثم إن لم يكن يوم متعلقاً ب { تود } احتمل أن يكون { تود } صفة { سوء } والضمير في { بينه } يعود إليه ، واحتمل أن يكون حالاً ، واحتمل أن يكون { ما عملت } مبتدأ من الصلة والموصول و { تود } خبره وهو الأكثر ، واحتمل أن يكون « ما » شرطية و { تود } جزاء له وهو قليل كقوله :
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب ما لي ولا حرم
وقراءة عبد الله { ودت } يحتملها على السواء إلا أن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم { ويحذركم الله نفسه } تأكيد للوعيد { والله رؤوف بالعباد } قال الحسن : ومن رأفته أن حذرهم نفسه وعرّفهم كمال علمه وقدرته ، وأنه يمهل ولا يهمل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذرهم من استحقاق غضبه . ويجوز أن يراد أنه رؤوف بهم حيث أمهلهم للتوبة والتلافي ، أو هو وعد كما أن التحذير وعيد ، أو المراد بالعباد عباده المخلصون كقوله : { عيناً يشرب بها عباد الله } [ الدهر : 6 ] كما هو منتقم من الفساق ومحذرهم نفسه فهو رؤوف بالعباد المطيعين والمحسنين . ثم إنه تعالى دعا القوم إلى الإيمان به ورسوله من طريق آخر سوى طريق التهديد والتحذير فقال : { قل إن كنتم تحبون الله } قال الحسن وابن جريج : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فقالوا : يا محمد إنا نحب ربنا فأنزل الله هذه الآية . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : « وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال : يا معشر قريش ، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام . فقالت قريش : يا محمد إنا نعبد هذه حباً لله ليقربونا إلى الله زلفى »

فأنزل الله { قل إن كنتم تحبون الله } وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه { فاتبعوني يحببكم الله } فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت حين زعمت اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه . وقيل : نزلت في نصارى نجران زعموا أنهم يعظمون المسيح ويعبدونه حباً لله وتعظيماً له . والحاصل أن كل من يدعي محبة الله تعالى من فرق العقلاء فلا بد أن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه ، فإذا قامت الدلائل العقلية والمعجزات الحسية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبت متابعته . فليس في متابعته إلا أنه يدعوهم إلى طاعة الله وتعظيمه وترك تعظيم غيره . فمن أحب الله كان راغباً فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غيره ، وقد مر في تفسير قوله : { والذين آمنوا أشد حباً لله } [ البقرة : 165 ] تحقيق المحبة وأنها من الله تعالى عبارة عن إعطاء الثواب . وقال : { ويغفر لكم ذنوبكم } ليدل مع إيفاء الثواب على إزالة العقاب وهذه غاية ما يطلبه كل عاقل . { والله غفور } في الدنيا يستر على عبده أنواع المعاصي { رحيم } في الآخرة يثيبه على مثقال الذرة من الطاعة والحسنة . يروى أنه لما نزل { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } قال عبد الله بن أبيّ إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزلت { قل أطيعوا الله والرسول } وذلك أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في البين أمره الله تعالى أن يقول : إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا لما يقوله النصارى في عيسى بل لكوني رسولاً من عند الله ومبلغ تكاليفه { فإن تولوا } أعرضوا أو تعرضوا على أن يكون التاء الأولى محذوفة ويدخل في جملة ما يقوله الرسول لهم ، فإنه لا يحصل للكافرين محبة الله لأنها عبارة عن الثناء لهم وإيصال الثواب إليهم ، والكافر يستحق الذم واللعن وهذا ضد المحبة . ثم إنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو درجات الرسل وسموّ طبقاتهم فقال : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً } الآية أي جعلهم صفوة خلقه والمختارين من بينهم تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة ، وذلك باستخلاصهم من الصفات الذميمة وتحليتهم بالخصال الحميدة كقوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] وقيل : المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح ولكن الأصل عدم الإضمار . وذكر الحليمي في كتاب المنهاج أن الأنبياء عليهم السلام مخالفون لغيرهم في القوى الجسمانية والقوى الروحانية . أما القوى الجسمانية فهي إما مدركة أو محركة .

أما المدركة فهي الحواس الظاهرة أو الباطنة أما الظاهرة فقوله صلى الله عليه وسلم « زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها » وقوله : « أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري » وهذا يدل على كمال القوة الباصرة ونظيرها ما حصل لإبراهيم عليه السلام { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض } [ الأنعام : 75 ] ذكروا في تفسيره أن الله تعالى قوّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت وليس بمستبعد ، فإنه يروى أن زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام . ويقال : إن النسر وغيره من عظام الجوارح يرتفع فيرى صيده من مائة فرسخ . وقال صلى الله عليه وسلم : « أطت السماء وحق لها أن تئط » فسمع أطيط السماء . ومثله ما زعمت الفلاسفة أن فيثاغورس راض نفسه حتى سمع حفيف الفلك . وقد سمع سليمان كلام النمل وفهمه . ومثله ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم مع الذئب ومع البعير ، وقد وجد يعقوب صلى الله عليه وسلم ريح يوسف من مسيرة أيام . وقال صلى الله عليه وسلم « إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم » وهو دليل كمال قوة الذوق . وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم ، قيل : وهو دليل قوة اللمس كما في النعامة والسمندل وفيه نظر ، إذ لا إدراك ههنا فكيف يستدل به على قوة الإدراك؟ بل يجب أن يحمل هذا على معنى آخر وهو أنه تعالى لا يبعد أن يجعل المنافي ملائماً للإعجاز أو لخاصية أودعها في المنافي حتى يصير ملائماً . وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] ومنها قوة الذكاء قال علي رضي الله عنه : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم فاستنبطت من كل باب ألف باب . وإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي؟ وأما القوة المحركة فكعروج النبي صلى الله عليه وسلم وعروج عيسى عليه السلام إلى السماء ، وكرفع إدريس وإلياس على ما ورد في الأخبار . وأما القوة الروحانية العقلية فنقول : إن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس ، أو كالمخالفة صفاء ونورية وانجذاباً إلى عالم الأرواح ، فلا جرم تجري عليها الأنوار الفائضة من المبادىء العالية أتم من سائر النفوس وأكمل ، ولهذا بعثت مكملة للناقصين ومعلمة للجاهلين ومرشدة للطالبين مصطفاة على العالمين من جميع سكان الأرضين عند من يقول الملك أفضل من البشر ، أو من سكان السموات أيضاً عند من يرى البشر أفضل المخلوقات . ثم إن القرآن دل على أن أول الأنبياء اصفطاء آدم صفي الله وخليفته . ثم إنه وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم وهم : شيث وأولاده إلى إدريس ، ثم إلى نوح ثم إلى إبرهيم ثم انشعب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم شعبتان : إسماعيل وإسحق .

فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجعل إسحق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيص . فوضع النبوة في نسل يعقوب ، ووضع الملك في نسل عيص ، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم . فلما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم نقل نور النبوة ونور الملك إليه صلى الله عليه وسلم وبقي الدين والملك في أمته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، فالمراد بآل إبراهيم أولاده عليهم الصلاة والسلام وهو المطلوب بقوله : { ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] بعد قوله : { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] وأما آل عمران فقيل : أولاد عمران بن يصهر والدموسي وهارون . وقيل : المراد بعمران والد مريم وهو عمران بن ماثان بدليل قوله عقيبه { إذ قالت امرأة عمران } [ آل عمران : 35 ] ولا شك أنه عمران بن ماثان جد عيسى من قبل الأم ، ولأن الكلام سيق للناصرى الذين يحتجون على إلهية عيسى عليه السلام بالخوارق التي ظهرت على يده . فالله تعالى يقول : إن ذلك باصطفاء الله إياه لا لكونه شريكاً للإله ولأن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى : { وجعلناها وابنها آية للعالمين } [ الأنبياء : 91 ] . { ذرية } بدل ممن سوى آدم { بعضها من بعض } قيل : أي في التوحيد والإخلاص والطاعة كقوله : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } [ التوبة : 67 ] وذلك لاشتراكهم في النفاق . وقيل : معناه أن غير آدم كانوا متوالدين من آدم . وقيل : يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض ، موسى وهارون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوي من يعقوب ، ويعقوب من إسحق . وكذلك عيسى من مريم ، ومريم بنت عمران بن ماثان . ثم قال في الكشاف : ماثان بن سليمان بن داود بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق وفيه نظر ، لأن بين ماثان وسليمان قوماً آخرين ، وكذلك بين ايشا ويهوذا . { والله سميع } لأقوال العباد { عليم } بضمائرهم وأفعالهم فيصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً . ويحتمل أن يكون الكلام مع اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه تغريراً للعوام مع علمهم ببطلان هذا الكلام ، فيكون أول الكلام تشريفاً للمرسلين وآخره تهديداً للمبطلين كأنه قيل : والله سميع لأقوالهم الباطلة ، عليم بأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بحسب ذلك . ويحتمل أن يتعلق بما بعده كما في الوقوف .
التأويل : مالك هو ملك الوجود فلا وجود بالحقيقة إلا له ، تؤتي الوجود من تشاء وتنزع الوجود ممن تشاء ، فتخلق بعض الموجودات مستعداً للبقاء كالملائكة والإنسان ، توجد بعضها قابلاً للفناء كالنبات والحيوان غير الإنسان . { وتعز من تشاء } بعزة الوجود النوري ، { وتذل من تشاء } بذل القبض القهري ، بيدك الخير . { إنك على كل شيء قدير } تضمين للدعاء بذكر السبب كما يقال للجواد إنك الذي يقدر على إعطاء كل خير فأتنا وأعزنا يا مفيض كل خير ، ويا كاشف كل ضير .

تولج ليل ظلمات الصفات البشرية النفسانية في نهار أنوار الصفات الروحانية وبالعكس ، تخرج القلب الحي بالحياة الحقيقية من النفس الميتة ، وتخرج القلب الميت عن الحياة الحقيقية من النفس الحية بالحياة المجازية الحيوانية . لا يتخذ القلب المؤمن والروح والسر وصفاتها الكافرين من النفس الأمّارة والشيطان والهوى والدنيا أولياء من دون المؤمنين من القلب والروح والسر ، ومن يفعل ذلك من القلوب فليس من أنوار الله وألطافه في شيء إلا أن تخافوا من هلاك النفوس . فالنفس مركب الروح فتواسوها كيلا تعجز عن السير في الرجوع وتهلك في الطريق من شدة الرياضات وكثرة المجاهدات . { ويحذركم الله نفسه } أي من صفات قهره { قل إن تخفوا ما في صدوركم } من معاداة الحق في ضمن موالاة النفس { ويعلم ما في السموات } قلوبكم { وما في الأرض } نفوسكم { يوم تجد كل نفس ما عملت } أثر الخير والشر ظاهر في ذات المرء وصفاته ، وبحسب ذلك يبيض وجه قلبه أو يسود ولكنه في غفلة من هذا محجوب عنه بحجاب النفس والجسم كمثل نائم لدغته حية كحية الكفر والخصال الذميمة فلا يحس بها ما دام نائماً نوم الغفلة ، فإذا مات انتبه وأحس ، ثم أخبر عن طريق الوصول أنه في متابعة الرسول . واعلم أن للاتباع ثلاث درجات ، ولمحبة المحب ثلاث درجات ، ولمحبة الله للمحب التابع على حسب الاتباع ثلاث درجات . أما درجات الاتباع فالأولى درجة عوام المؤمنين وهي متابعة أعماله صلى الله عليه وسلم ، والثانية درجة الخواص وهي متابعة أخلاقه ، والثالثة درجة أخص الخواص وهي متابعة أحواله . وأما درجات محبة المحب فالأولى محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن « جبلت القلوب على حب من أحسن إليها » وهذا حب يتغير بتغير الإحسان وهو لمتابعي الأعمال الذين يطمعون في الأجر على ما يعملون وفيه قال أبو الطيب :
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
والثانية محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إعظاماً وإجلالاً له ، ولأنه أهل لذلك كما قالت رابعة :
أحبك حبين حب الهوى ... وحب لأنك أهل لذاكا
ويضطر هذا المحب في هذه الدرجة إلى إيثار الحق على غيره ، وهذا الحب يبقى على الأبد بقاء الكمال والجلال على السرمد وفيه قال :
سأعبد الله لا أرجو مثوبته ... لكن تعبد إعظام وإجلال
والثالثة محبة أخص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكان من « كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف » وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة بسبق العناية ،
غذينا بالمحبة يوم قالت ... له الدنيا أتينا طائعينا
وحقيقة هذه المحبة أن يفنى المحب بسطوتها وتبقى المحبة فيه بلا هو كما أن النار تفني الحطب بسطوتها وتبقى النار منه بلا هو .

وحقيقة هذه المحبة نار لا تبقي ولا تذر . وأما درجات محبة الله للعبد فاعلم أن كل صفة من صفات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة وغيرها فإنها لا تشبه في الحقيقة صفات المخلوقين ، حتى الوجود فإنه وإن عم الخالق والمخلوق إلا أن وجوده واجب بنفسه ووجود غيره ممكن في ذاته واجب به ، فليس في الكون إلا الله وأفعاله . قرأ القارى بين يدي الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير رحمه الله قوله : { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] فقال : بحق يحبهم لأنه لا يحب إلا نفسه فليس في الوجود إلا هو ، وما سواه فهو من صنعه . والصانع إذا مدح صنعه فقد مدح نفسه . والغرض أن محبة الله للخلق عائدة إليه حقيقة إلا أنه لما كان مرورها على الخلق فبحسب ذلك اختلفت مراتبها ، مع أنها صدرت عن محل واحد هو محل « كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف » فما تعلقت إلا بأهل المعرفة وذلك قوله : « فخلقت الخلق لأعرف » لكنها تعلقت بالعوام من أهل المعرفة بالرحمة ومشربهم الأعمال فقيل لهم { فاتبعوني } بالأعمال الصالحة { يحببكم الله } يخصكم بالرحمة { ويغفر لكم } ذنوبكم التي صدرت منكم على خلاف المتابعة . وتعلقت بالخاص من أهل المعرفة بالفضل ومشربهم الأخلاق فقيل لهم : { فاتبعوني } بمكارم الأخلاق يحببكم بالفضل يخصكم بتجلي صفات الجمال { ويغفر لكم ذنوبكم } يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته . وتعلقت بالأخص من أهل المعرفة بالجذبات ومشربهم الأحوال فقيل لهم { فاتبعوني } ببذل الوجود { يحببكم الله } يخصكم بجذبكم إلى نفسه { ويغفر لكم } ذنوب وجودكم فيمحوكم عنكم ويثبتكم به كما قال : « فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً » فهم بين روضة المحو وغدير الإثبات أحياء غير أموات ، ويكون في هذا المقام المحب والمحبوب والمحبة واحداً كما أن الرائي في المرآة يشاهد ذاته بذاته وصفاته بصفاته فيكون الرائي والمرئي والرؤية واحداً . { قل أطيعوا الله والرسول } فإن متابعته صورة جذبة الحق وصدف درّة محبته لكم . { إن الله اصطفى آدم } وذلك أن الله تعالى خلق العالمين سبعة أنواع : الجماد والمعدن والنبات والحيوان والنفوس والعقول والأرواح ، وجمع في آدم جميع الأنواع وخصه بتشريف ثامن هو تشريف { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] فهو المظهر لجميع آياته وصفاته وذاته وهو معنى جعله خليفة ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم « وإن الله خلق آدم على صورته » ثم ذكر خواص أولاد آدم نوحاً وآل إبراهيم وآل عمران والمراد بالآل كل مؤمن تقي { بعضها من بعض } بالوراثة الدينية « العلماء ورثة الأنبياء » فالعالم كشجرة وثمرتها أهل المعرفة { والله سميع } لدعائهم { عليم } بأحوالهم وخصالهم .

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

القراآت : { مني إنك } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . { بما وضعت } على الحكاية : ابن عامر ويعقوب وأبو بكر وحماد . الباقون { وضعت } على الغيبة . { وإني أعيذها } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع . { وكفلها } مشددة : عاصم وحمزة وعلي وخلف . الباقون خفيفاً { زكريا } مقصوراً كل القرآن : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . وقرأ أبو بكر وحماد بالمد والنصب ههنا . الباقون بالمد والرفع . { فناديه } بالياء والإمالة : علي وحمزة وخلف . الباقون { فنادته } بتاء التأنيث { في المحراب } بالإمالة حيث كان مخفوضاً . قتيبة وابن ذكوان { إن الله } بكسر « إن » : ابن عامر وحمزة . الباقون بالفتح . { يبشرك } وما بعده من البشارة خفيفاً : حمزة وعلي . الباقون بالتشديد { لي آية } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن ابن كثير .
الوقوف : { مني } ج للابتداء ولاحتمال لأنك { العليم } ه { أنثى } ط لمن قرأ { بما وضعت } بتاء التأنيث الساكنة ، ومن قرأ على الحكاية لم يقف لأنه يجعلها من كلامها . { بما وضعت } ط { كالأنثى } ج للابتداء بأن ، ولاحتمال أن المجموع كلام واحد من قولها على قراءة من قرأ { وضعت } بالضم { الرجيم } ه { حسناً } ص لمن قرأ { وكفلها } مخففاً لتبدل فاعله ، فإن فاعل المخفف { زكريا } وفاعل المشدد الرب . وقد يعدى إلى مفعولين كقوله : { أكفلنيها } [ ص : 23 ] { المحراب } ( لا ) لأن { وجد } جواب { كلما } { رزقاً } ج لاتحاد فاعل الفعلين مع عدم العاطف { هذا } ط { من عند الله } ط { حساب } ه { ربه } ج لما قلنا في { رزقاً } { طيبة } ج للابتداء ولجواز لأنك { الدعاء } ه { في المحراب } ( لا ) وإن كسر « إن » لأن من كسر جعل النداء في معنى القول { الصالحين } ه { عاقر } ط { ما يشاء } ه { آية } ط { والإبكار } ه .
التفسير : إنه سبحانه ذكر في هذا المقام قصصاً . القصة الأولى حنة أم مريم البتول زوجة ابن عمران بن ماثان بنت فاقوذ أخت إيشاع التي كانت تحت زكريا بن أذن . روي أن حنة كانت عاقراً لم تلد إلى أن كبرت وعجزت . فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخاً له ، فتحركت نفسها للولد وتمنته فقالت : اللهم إن لك عليّ نذراً شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمته . فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل . قال الحسن : إنما فعلت ذلك بإلهام الله تعالى كما ألهم أم موسى فقذفته في أليم . عن الشعبي : محرراً مخلصاً للعبادة . وتحرير العبد تخليصه من الرق ، وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلص من الغلط ، ورجل حر إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه يد وتصرف . قال الأصم : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي ، وكان في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين .

فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع عن الانتفاع ويجعلون الأولاد محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى ، حتى إذا بلغ الحلم كان مخيراً . فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فلا خيار له بعد ذلك . ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس ، وما كان هذا التحرير إلا في الغلمان . لأن الجارية يصيبها الحيض والقذر ، ثم إنها نذرت مطلقاً إما لبناء الأمر على الفرض والتقدير ، وإما لأنها جعلت النذر وسيلة إلى طلب الولد الذكر . { محرراً } حال من « ما » . وعن ابن قتيبة : المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محرراً . فلما وضعتها يعني ما في بطنها لأنها كانت أنثى في علم الله ، أو على تأويل النفس أو النسمة أو الحبلة . والحبل بفتح الباء مصدر بمعنى المحبول ، كما سمي بالحمل ، ثم أدخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه ، ومنه الحديث « نهى عن حبل الحبلة » ومعناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أنه يكون أنثى . { قالت رب إني وضعتها } حال كونها { أنثى } ثم من قرأ { والله أعلم بما وضعت } على الحكاية فمجموع الكلام إلى آخر الآية من قولها ، ويكون فائدة قولها { إني وضعتها أنثى } الاعتذار عن إطلاق النذر الذي تقدم منها ، والخوف من أنها لا تقع الموقع الذي يعتد به والتحزن إلى ربها والتحسر على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها . ثم خافت أن يظن بها أنها قالت ذلك لإعلام الله تعالى فقالت : { والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى } ليس جنس الذكور كجنس الإناث لا سيما في باب السدانة ، فإن تحرير غير الذكور لم يكن جائزاً في شرعهم ، والذكر يمكن له الاستمرار على الخدمة دون الأنثى لعوارض النسوان ، ولأن الأنثى لا تقوى على الخدمة لأنها محل التهمة عند الاختلاط ، ويحتمل أن تكون عارفة بالله واثقة بأن كل ما صدر عنه فإنه يكون خيراً وصواباً فقالت : { رب إني وضعتها أنثى } ولكنك أعرف وأعلم بحال ما وضعت فلعل لك فيه سراً { وليس الذكر } الذي طلبت { كالأنثى } التي وهبت لي لأنك لا تفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة ، فعلى هذا اللام في الذكر وفي الأنثى لمعهود حاضر ذهني لكنها في الذكر لحاضر ذهني تقديراً لدلالة ما في بطني عليه ضمناً ، وفي الأنثى لحاضر ذهني حقيقة لتقدم لفظة أنثى . ومن قرأ { بما وضعت } بسكون التاء للتأنيث فالجملتان أعني قوله { والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى } معترضتان . ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت لما علق به من عظائم الأمور وجعلها وولدها آية للعالمين وهي جاهلة بذلك . ثم زاده بياناً وإيضاحاً فقال : { وليس الذكر } الذي طلبت { كالأنثى } التي وهبت لها .

{ وإني سميتها مريم } وذلك أن أباها قد مات عند وضعها فلهذا تولت الأم تسميتها . ومريم في لغتهم العابدة . فأرادت بقولها ذلك التقرب والطلب إلى الله أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها ، ولهذا أردف ذلك بطلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان { فتقبلها ربها } الضمير يعود إلى امرأة عمران ظاهراً بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها { رب إني وضعتها } ويحتمل أن يعود إلى مريم فيكون فيه إشارة إلى أنه كما رباها في بطن أمها فسيربيها بعد ذلك { بقبول حسن } تقبلت الشيء وقبلته إذا رضيته لنفسك . قبولاً بفتح القاف وهو مصدر شاذ حتى حكي أنه لم يسمع غيره . وأجاز الفراء والزجاج قبولاً بالضم . والباء في قوله { بقبول } بمنزلة الباء في قولك « كتب بالقلم وضربته بالسوط » . وفي التقبل نوع تكلف فكأنه إنما حكم بالتقبل بواسطة القبول الحسن . قال في الكشاف : معناه فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول وهو اختصاصها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى في النذر ، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة . قال : ويجوز أن يكون القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلدّ وهو الاختصاص ، ويجوز أن يكون معناه فاستقبلها مثل تعجل بمعنى استعجل وذلك من قولهم « استقبل الأمر » إذا أخذه بأوله أي فأخذها من أول أمرها حين ولدت بقبول حسن . { وأنبتها نباتاً حسناً } قيل : كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام . وقيل : المراد نماؤها في الطاعة والعفة والصلاح والسداد { وكفلها زكريا } روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة . فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم . فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فقالوا : لا حتى نقترع عليها . فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة والوحي ، على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح . فألقوا ثلاث مرات وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريا . فعلى هذه الرواية تكون كفالة زكريا إياها من أول أمرها وهو قول الأكثرين . وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن على ترتيب الذكور . والأرجح أنها لم ترضع ثدياً قط ، وكانت تتكلم في الصغر ، وكان رزقها من الجنة ، وأن زكريا بنى لها محراباً وهي غرفة يصعد إليها بسلم . وقيل : هو أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس .

وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب . والتركيب يدل على الطلب فكان صدر المجلس يسمى محراباً لطلب الناس إياه . وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، وذلك قوله عز من قائل { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا } من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه والأبواب مغلقة؟ قالت { هو من عند الله } فلا تستبعد { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم ، وأن يكون معترضاً من كلام الله تعالى . واعلم أن الأمور الخارقة للعادة في حق مريم كثيرة فمنها : أنه روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها » قلت : وذلك لدعاء حنة { وإني أعيذها } ومنه تكلمها في الصغر . ومنها حصول الرزق لها من عند الله كما « روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم جاع في زمن قحط فأهدّت له صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع صلى الله عليه وسلم بها إليها وقال : هلمي يا بنية . فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها : أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . فقال صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل . ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته صلى الله عليه وسلم حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو ، فأوسعت فاطمة رضي الله عنها على جيرانها » وفي أمثال هذه الخوارق من غير الأنبياء دليل على صحة الكرامات من الأولياء . والفرق بين المعجزة والكرامة أن صاحب الفعل الخارق في الأول يدعي النبوة ، وفي الثاني يدعي الولاية ، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعي المعجز ويقطع به ، والولي لا يمكنه أن يقطع به ، والمعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة بخلافها . وقال بعضهم : الأنبياء مأمورون بإظهار المعجزة ، والأولياء مأمورون بإخفاء الكرامات أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات . بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي كما أن الفعل المحكم لما كان دليلاً على أن فاعله عالم فلا جرم لا يوجد في غير العالم . وأجابوا عن حديث أبي هريرة بعد تسليم صحته أن استهلال المولود صارخاً من مس الشيطان تخييل وتصوير لطمعه فيه ، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه .

فمعنى الحديث أن كل مولود فإنه يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها . وهذا المعنى يعم جميع من كان في صفتهما من عباد الله المخلصين . قال في الكشاف : وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلون به من نخسه . قلت : وعجيب من مثله مثل هذا هذا الكلام فإنه لا يلزم من الإحساس بمس الشيطان والصراخ منه في وقت الولادة وإنه قريب العهد بعالم الأرواح وبزمان المكاشفة بعيد العهد من عالم الغفلة والإلف بالمحسوسات أن يحس به في وقت آخر ويصرخ على أن أثر مس الشيطان ونخسه يظهر في هيئات النفس وأحوالها ، وأنها أمور لا يحس بها إلا بعد المفارقة أو قطع العلائق البدنية ، والكلام فيه يستدعي فهمه استعداداً آخر غير العلوم الظاهرية . قال الجبائي : لم لا يجوز أن تكون تلك الخوارق من معجزات زكريا؟ وبيانه أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وربما كان غافلاً عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله . فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها : أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله لا من عند غيره . فعند ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة . ويحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً لأنه كان يأتيها من السماء وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون من عند إنسان يبعثه إليها فقالت : هو من عند الله ، لا من عند غيره . على أنا لا نسلم أنه قد ظهر لها شيء من الخوارق ، بل كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات . فكان زكريا إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أن ذلك الرزق أتاها من حيث لا ينبغي ، وكان يسألها عن كيفية الحال . قلت : أمثال هذه الشبهات يوجبها الشك في القرآن وفي الحديث أو العصبية المحضة . على أنا نقول : لو كان معجزاً لزكريا لكان مأذوناً من عند الله في طلبه فكان عالماً بحصوله ، وإذا علم امتنع أن يطلب كيفية الحال . وأيضاً كيف قنع بمجرد إخبارها في زوال الشبهة؟ وكيف مدح الله تعالى مريم بحصول هذا الرزق عندها؟ وكيف يستبعد هذا القدر ممن أخبر الله تعالى بأنه اصطفاها على نساء العالمين وقال : { وجعلناها وابنها آية للعالمين } [ الأنبياء : 91 ] .
القصة الثانية : واقعة زكريا عليه السلام وذلك قوله سبحانه { هنالك } أي في ذلك المكان الذي كانا فيه في المحراب ، أو في ذلك الوقت ذلك الوقت الذي شاهد تلك الكرامات فقد يستعار « هنا » و « ثمة » و « حيث » للزمان { دعا زكريا ربه } وهذا يقتضي أن يكون قد عرف في ذلك الزمان أو المكان أمراً له تعلق بهذا الدعاء ، فالجمهور من العلماء المحققين على أن زكريا رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء وبالعكس وأن ذلك خارق للعادة ، فطمع هو أيضاً في أمر خارق هو حصول الولد من شيخ كبير ومن امرأة عاقر .

وهذا لا يقتضي أن يكون زكريا قبل ذلك شاكاً في قدرة الله تعالى غير مجوّز وقوع الخوارق ، فإن من حسن الأدب رعاية الوقت الأنسب في الطلب . وأما المعتزلة فحين أنكروا كرامات الأولياء وإرهاص الأنبياء قالوا : إن زكريا لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم تمنى أن يكون له ولد مثلها . قال المتكلمون : إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بعد الإذن لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة فحينئذٍ تصير دعوته مردودة وذلك نقص في منصبه . وقول إن دعا النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بمجرد التشهي فلا حاجة له في كل دعاء إلى إذن مخصوص ، بل يكفي له الإذن في الدعاء على الاطلاق والغالب في دعوته الإجابة ، ثم إن وقع الأمر بالندرة على خلاف دعوته فذلك بالحقيقة مطلوبه لأنه يريد الأصلح ، ويضمر في دعائه أنه لو لم يكن أصلح لم يبعثه الله عليه ويصرفه عنه . ومعنى قوله : { من لدنك } أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة وكانت مفقودة في حقه . فكأنه قال : أريد منك يا رب أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وتخلق هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسيط الأسباب . والذرية النسل يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد ههنا ولد واحد كما قال : { فهب لي من لدنك ولياً } [ مريم : 5 ] قال الفراء : وأنث الطيبة لتأنيث لفظ الذرية في الظاهر . فالتذكير والتأنيث تارة يجيء على اللفظ وأخرىعلى المعنى ، وهذا في أسماء الأجناس بخلاف الأسماء الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال : جاءت طلحة ، لأن اسم العلم لا يفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان مذكراً لم يجز فيه إلا التذكير . { إنك سميع الدعاء } يعني سماع إجابة . وذلك لما عهد من الإجابة في غير هذه الواقعة كما قال في سورة مريم { ولم أكن بدعائك رب شقياً } [ مريم : 4 ] . { فنادته الملائكة } ظاهر اللفظ للجمع وهذا في باب التشريف أعظم . ثم ما روي أن المنادي كان جبريل فالوجه فيه أنه كقولهم « فلان يركب الخيل ويأكل الأطعمة النفيسة » أي يركب من هذا الجنس ويأكل منه . أو لأن جبريل كان رئيس الملائكة وقلما يبعث إلا ومعه آخرون . { يبشرك بيحيى } يحتمل أن يكون زكريا قد عرف أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله درجة عالية . فإذا قيل له : إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان بشارة له ، ويحتمل أن يكون المعنى يبشرك بولد اسمه يحيى كما يجيء في سورة مريم

{ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } [ مريم : 7 ] وإنه اسم أعجمي كموسى وعيسى ، ومن جوز أن يكون عربياً فمنع صرفه للعلمية ووزن الفعل كيعمر . ثم إنه تعالى وصف يحيى بصفات منها : قوله { مصدقاً بكلمة من الله } وهو نصب على الحال لأنه نكرة و « يحيى » معرفة . قال أبو عبيدة : أي مؤمناً بكتاب الله . وسمي الكتاب كلمة كما قيل : « كلمة الحويدرة » لقصيدته . والجمهور على أن المراد بكلمة من الله هو عيسى . قال السدي : لقيت أم يحيى أم عيسى وهما حاملان بهما . فقالت : يا مريم أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم : وأنا أيضاً حبلى . قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذاك قوله : { مصدقاً بكلمة من الله } وقال ابن عباس : إن يحيى أكبر سناً من عيسى بستة أشهر ، وكان يحيى أول من آمن به وصدّق بأنه كلمة الله وروحه ، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى . وسمي عيسى كلمة الله لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وهي « كن » من غير واسطة أب وزرع كما يسمى المخلوق خلقاً والمرجو رجاء ، أو لكونه متكلماً في أوان الطفولية ، أو لأنه منشأ الحاقئق والأسرار كالكلمة ، ولهذا سمي روحاً أيضاً لأنه سبب حياة الأرواح . وقد يقال للسلطان العادل ظل الله ونور الله لأنه سبب ظهور ظل العدل ونور الإحسان ، أو لأنه وردت البشارة به في كلمات الأنبياء وكتبهم كما لو أخبرت عن حدوث أمر ، ثم إذا حدث قلت قد جاء قولي أو كلامي أي ما كنت أقول أو أتكلم به . ومنها قوله : { وسيداً } والسيد الذي يفوق قومه في الشرف . وكان يحيى فائقاً لقومه بل للناس كلهم في الخصال الحميدة . وقال ابن عباس : السيد الحليم . وقال ابن المسيب : الفقيه العالم . وقال عكرمة : الذي لا يغلبه الغضب . ومنها قوله : { وحصوراً } قيل : أي محصوراً عن النساء لضعف في الآلة ، وزيف بأنه من صفات النقص فلا يليق في معرض المدح . والمحققون على أنه فعول بمعنى فاعل وهو الذي لا يأتي النسوان لا للعجز بل للعفة والزهد وحبس النفس عنهن ، وفيه دليل على أن ترك النكاح كان أفضل من تلك الشريعة ، فلولا أن الأمر بالنكاح والحث عليه وارد في شرعنا كان الأصل بقاء الأمر على ما كان . ومنها قوله : { ونبياً } واعلم أن السيادة لا تتم إلا بالقدرة على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى الدين والدنيا . والحصور إشارة إلى الزهد التام وهو منع النفس عما لا يعنيه . روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت . فقوله : { ونبياً } أشار به إلى ما عدا مجموع الأمرين فإنه ليس بعدهما إلا النبوة .

ثم قال : { ومن الصالحين } أي من أولادهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين كقوله : { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ البقرة : 130 ] أو لأن صلاحه كان أتم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « ما من نبي إلا وقد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا فإنه لم يعص ولم يهم » وفيه أن الختم على الصلاح هو الغرض الأعظم والغاية القصوى وإن كان نبياً ، ولهذا قال سليمان بعد حصول النبوة { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } [ النمل : 19 ] وقال يوسف : { توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } [ يوسف : 101 ] . ثم إن الملائكة لما نادوه بما نادوه قال زكريا مخاطباً لله تعالى ومناجياً إياه { رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر } أدركتني السنون العالية وأثر فيّ طول العمر وأضعفني . قال أهل اللغة : كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك وذلك إذا أمكن تصور الطلب من الجانبين . فيجوز بلغت الكبر وبلغني الكبر لأن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه . والإنسان أيضاً يأتيه بمرور العمر عليه . ولا يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد لأن البلد ليس كالطالب للإنسان الذاهب . { وامرأتي عاقر } هي من الصفات الخاصة بالنساء . ويقال : رمل عاقر لا ينبت شيئاً . فإن قيل : لما كان زكريا هو الذي سأل الولد ثم أجابه الله تعالى إلى ذلك فما وجه تعجبه واستبعاده بقوله : { أنى يكون } من أين يحصل لي غلام؟ فالجواب على ما في الكشاف أن الاستبعاد إنما جاء من حيث العادة . وقيل : إنه دهش من شدة الفرح فسبق لسانه . ونقل عن سفيان بن عيينة أن دعاءه كان قبل البشارة بستين سنة ، فكان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة ، فلما سمع البشارة في زمان الشيخوخة استغرب وكان له يؤمئذٍ مائة وعشرون سنة أو تسع وتسعون ولامرأته ثمان وتسعون ، وعن السدي أن الشيطان جاءه عند سماع البشارة قال : إن هذا النداء من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه عليه الأمر ولا سيما أنه كان من مصالح الدنيا ولم يتأكد بالمعجزة فرجع إلى إزالة ذلك الخاطر فسأل ما سأل . والجواب المعتمد أن زكريا لم يسأل عما سأل استبعاداً وتشككاً في قدرة الله تعالى ، وإنما أراد تعيين الجهة التي بها يحصل الولد ، فإن الجهة المعتادة كانت متعذرة عادة لكبره وعقارتها فأجيب بقوله : { كذلك الله يفعل ما يشاء } وهو إما جملة واحدة أي الله يفعل ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر ، أو جملتان فيكون { كذلك الله } مبتدأ وخبراً أي على نحو هذه الصفة الله و { يفعل ما يشاء } بياناً له أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات . ثم إنه صلى الله عليه وسلم لفرط سروره وثقته بكرم ربه وإنعامه سأل عن تعيين الوقت فقال : { رب اجعل لي آية } علامة أعرف بها العلوق فإن ذلك لا يظهر من أوّل الأمر فقال تعالى : { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي بلياليها ولهذا ذكر في سورة مريم

{ ثلاث ليال } [ مريم : 10 ] ومعنى قوله : { ألا تكلم الناس } قال المفسرون : أي لا تقدر على التكلم . حبس لسانه عن أمور الدنيا وأقدره على الذكر والتسبيح ليكون في تلك المدة مشتغلاً بذكر الله وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة الجسمية ، فيصير الشيء الواحد علامة على المقصود وأداء لشكر النعمة فيكون جامعاً للمقاصد . وفي هذه الآية إعجاز من وجوه منها : القدر على التكلم بالتسبيح والذكر مع العجز عن التكلم بكلام البشر . ومنها العجز مع سلامة البنية واعتدال المزاج . ومنها الإخبار بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد . ثم إن الأمر وقع على وفق هذا الخبر . وعن قتادة أنه صلى الله عليه وسلم عوتب بذلك حيث سأل بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصبر بحيث لا يقدر على الكلام . قلت : وأحسن العتاب ما كانت منتزعاً من نفس الواقعة ومناسباً لها . وفيه لطيفة أخرى وهي أنه طلب الآية على الإطلاق فاحتمل أن يكون قد طلب علامة للعلوق ، واحتمل أن يكون قد طلب دلالة على إحداث الخوارق ليصير علم اليقين عين اليقين ، فصار حبس لسانه آية العلوق ودلالة على الفعل الخارق جميعاً مع مناسبته للواقعة حيث سأل ما كان من حقه أن لا يسأل . وزعم أبو مسلم أن المعنى : آيتك أن تصير مأموراً بعدم التكلم ولكن بالاشتغال بالذكر والتسبيح { إلا رمزاً } إشارة بيد أو رأس أو بالشفتين ونحوها . وأصل التركيب للتحرك يقال : ارتمز إذا تحرك ومنه الراموز للبحر ، وهو استثناء من قوله : { ألا تكلم } وجاز وإن لم يكن الرمز من جنس الكلام لأن مؤدّاه مؤدى الكلام ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً . وقيل : الرمز الكلام الخفي . وعلى هذا فالاستثناء متصل من غير تكلف . وقرأ يحيى بن وثاب { إلا رمزاً } بضمتين جميع رموز كرسول ورسل وقرىء { رمزاً } بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم وهو حال منه ومن الناس دفعة بمعنى إلا مترامزين كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم { واذكر ربك كثيراً } قيل : إنه لم يكن عاجزاً إلا عن تكليم البشر . وقيل : المراد الذكر بالقلب وإنه كان عاجزاً عن التكلم مطلقاً { وسبح } حمله بعضهم على صلّ كيلا يكون تكراراً للذكر . وقد تسمى الصلاة تسبيحاً { فسبحان الله حين تمسون } [ الروم : 17 ] لاشتمالها عليه . والعشيّ مصدر على « فعيل » وهو من وقت زوال الشمس إلى غروبها . والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى وهو مصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر من أول النهار ، ومنه الباكورة لأول الثمار . وقرىء بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار .
التأويل : إن لله تعالى في كل ذرة من ذرات الموجودات وحركة من حركاتها أسراراً لا يعلمها إلا الله .

فانظر ماذا أخرج الله من الأسرار عن إطعام طائر فرخه ، وماذا أظهر من الآيات والمعجزات من تلك الساعة إلى يوم القيامة بواسطة مريم وعيسى { فتقبل مني } راجع إلى المحرر لا إلى التحرير أي تقبلها مني أن تتكفلها وتربيها تربية المحررين { فتقبلها ربها } أي تقبلها ربها أن يربيها { بقبول حسن } كقبول ذكر أو قبولاً أخرج منها مثل عيسى { وكفلها زكريا } من كمال رأفته أنه جعل كفالتها إلى زكريا حيث أراد أن يخرج عيسى منها بلا أب لئلا يدخل عليها غيره فتكون أبعد من التهمة . { وجد عندها رزقاً } أي من فتوحات الغيب الذي يطعم الله به خواص عباده الذين يبيتون عنده لا عند أنفسهم ولا عند الخلق كقوله صلى الله عليه وسلم : « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } ما لم يكن في حسابها من الولد بلا أب ، ومن الفاكهة بلا شجرة ، ومن المعجزات بلا نبوة ، ومن العلوم اللدنية بلا واسطة { هنالك دعا زكريا ربه } كما أنه تعالى جعل إطعام الطائر فرخه سبب تحريك قلب حنة لطلب الولد ، فكذلك جعل حالة مريم وما كان يأتيها من الرزق خارقاً للعادة سبب تحريك قلب زكريا { قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } أي ولداً يكون روحه من الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة ، وهو المطهر من لوث الحجاب والوسط الصالح للنبوة والولاية بخلاف الصف الثاني الذي هو لأرواح الأولياء وبينه وبين الله تعالى حجاب الصف الأول ، وبخلاف الصف الثالث الذي هو لأرواح المؤمنين ، وبخلاف الصف الرابع الذي هو لأرواح المنافقين والمشركين { فنادته الملائكة وهو قائم } بالله { يصلي } بسائر سره في الملكوت يحارب نفسه وهواه { في المحراب إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى } لأنه منذ خلق ما ابتلى بالموت لا بموت القلب بالمعاصي ولا بموت الصورة لأنه استشهد والشهداء لا يموتون بل أحياء عند ربهم يرزقون . { مصدقاً بكلمة من الله } وهي قوله : { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } [ مريم : 12 ] { وسيداً } أي حراً من رق الكونين بل سيداً لرقيقي الكونين { وحصوراً } نفسه عن التعليق بالكونين { ونبياً من الصالحين } من أهل الصف الأول { رب أنى يكون لي غلام } لم يكن استبعاده من قبل القدرة الإلهية ولكن من جهة استحقاقه لهذه الكرامة { آيتك ألا تكلم الناس } لغلبات الصفات الروحانية عليك واستيلاء سلطان الحقيقة على قلبك ، فإن النفس الناطقة تكون مغلوبة في تلك الحالة بشواهد الحق في الغيب ، فلا تفرغ لإجراء عادتها في الشهادة بالكلام { إلا رمزاً } ولهذا يقوى الروح الحيواني وتستمد منه القوة البشرية فيحيى الله تعالى به الشهوة الميتة فسمى ما تولد من الشهوة الميتة التي أحياها الله يحيى . ولاستمرار هذه الحالة في الأيام الثلاثة أمر بالمراقبة ليلاً ونهاراً وعشياً وإبكاراً حسبي الله .

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)

القراآت : { ويعلمه } بياء الغيبة : أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل ويعقوب . الباقون بالنون . { أني أخلق } بكسر الهمزة بفتح الياء : نافع { أني أخلق } بالفتح فيهما : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد { كهيئة } بتشديد الياء : يزيد وحمزة في الوقف . وكان ابن مقسم يقول : بلغني أن خلفاً يقول : إن حمزة كان يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها . الباقون بالياء والهمزة . { الطائر } يزيد . الباقون { الطير } { فتكون } بتاء التأنيث . المفضل . الباقون : بياء الغيبة { طائر } أبو جعفر ونافع ويعقوب وكذلك في المائدة . الباقون { طيراً } { أنصاري إلى } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع . وقرأ قتيبة وأبو عمرو وطريق أبي الزعراء بالإمالة { فيوفيهم } بياء الغيبة : حفص ورويس ، وزاد رويس ضم الهاء . الباقون بالنون .
الوقوف : { العالمين } ه { الراكعين } ه { إليك } ط { يكفل مريم } ص لعطف المتفقتين . { يختصمون } ه { منه } ج قد قي لتذكير الضمير وتأنيث الكلمة في اسمه ، ولكن المراد من الكلمة الولد فلم يكن تأنيثاً حقيقياً . فالوجه أن لا يوقف إلى { الصالحين } لأن { وجيهاً } حال وما بعده معطوف عليه على تقدير وكائناً من المقربين ومكلماً وكائناً من الصالحين المقربين . { الصالحين } ه { بشر } ( ط ) { يشاء } ط { فيكون } ه { والإنجيل } ج لأن { ورسولاً } يجوز أن يكون معطوفاً على { ومن الصالحين } أو منصوباً بمحذوف أي ويجعله رسولاً ، والوقف أجوز لتباعد العطف . { من ربكم } ج لمن قرأ { إني أخلق } بالكسر { بإذن الله } ج والثاني كذلك للتفصيل بين المعجزات . { في بيوتكم } ط { مؤمنين } ج للعطف { وأطيعون } ه { فاعبدوه } ط { مستقيم } ه { إلى الله } ط { أنصار الله } ج لأن { آمناً } في نظم الاستئناف مع إمكان الحال أي وقد آمنا بالله ، كذلك لانقطاع النظم مع اتحاد مقصود الكلام { مسلمون } ه { الشاهدين } ه { ومكر الله } ط { الماكرين } ه { القيامة } ج لأن « ثم » لترتيب الإخبار . { والآخرة } ز للابتداء بالنفي مع أن النفي تمام المقصود . { ناصرين } ه { أجورهم } ط { الظالمين } ه { الحكيم } ه { آدم } ط لأن الجملة لا يتصف بها المعرّف . { فيكون } ط { الممترين } ه .
التفسير : القصة الثالثة قصة مريم . والعامل في « إذ » ههنا هو ما ذكر في قوله : { إذ قالت امرأة عمران } [ آل عمران : 35 ] لمكان العطف . والمراد بالملائكة ههنا جبريل كما يجيء ، في سورة مريم { فأرسلنا إليها روحنا } [ مريم : 17 ] . واعلم أن مريم ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم } [ الأنبياء : 7 ] فإرسال جبريل إليها إما أن يكون كرامة لها عند من يجوّز كرامات الأولياء ، وإما أن يكون إرهاصاً لعيسى وهو جائز عندنا وعند الكعبي من المعتزلة ، أو معجزة لزكريا وهو قول جمهور المعتزلة . ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام كما في حق أم موسى

{ وأوحينا إلى أم موسى } [ القصص : 7 ] . ثم إنه تعالى مدحها بالاصطفاء ثم بالتطهير ثم بالاصطفاء ولا يجوز أن يكون الاصفطاآن بمعنى واحد للتكرار والصرف ، فحمل المفسرون الاصطفاء الأول على ما اتفق لها من الأمور في أول عمرها منها قبول تحريرها مع كونها أنثى ، ومنها قال الحسن : ما غذتها أمها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها من عند الله ، ومنها تفريغها للعبادة ، ومنها إسماعها كلام الملائكة شفاهاً ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها إلى غير ذلك من أنواع اللطف والهداية والعصمة في حقها . وأما التطهير فتطهيرها عن الكفر والمعصية كما قال في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته { ويطهركم تطهيراً } [ الأحزاب : 33 ] . وعن مسيس الرجال وعن الحيض والنفاس قالوا : كانت لا تحيض وعن الأفعال الذميمة والأقوال القبيحة . وأما الاصطفاء الثاني فهو ما اتفق لها في آخر عمرها من ولادة عيسى بغير أب وشهادته ببراءتها عما قذفها اليهود . قيل : المراد اصطفاؤها على نساء عالمي زمانها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « كمل من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة » ثم لما بيّن اختصاصها بمزيد المواهب والعطايا أوجب عليها مزيد الطاعة شكراً لتلك النعم . فقوله : { اقنتي } أمر بالعبادة على العموم { واسجدي } أمر بالصلاة تسمية للشيء بمعظم أركانه كما في قوله { وأدبار السجود } [ ق : 4 ] وفي الخبر « إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين » ولا ريب أن السجود أشرف الأركان لقوله صلى الله عليه وسلم « أقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ساجد » ثم قال : { واركعي مع الراكعين } فالأول أمر بالصلاة مطلقاً ، والثاني أمر بالصلاة في الجماعة . وإنما عبر عن الصلاة ههنا بالركوع إما لتغيير العبارة وقد يسمى الشيء بأحد أركانه ، وإما تسمية للشيء بمعظم أركانه بناء على ما قيل إن الركوع أفضل من السجود ، لأن الراكع حامل نفسه في الركوع فالمشقة فيه أكثر ، وللتمييز عن صلاة اليهود . وقيل : اركعي مع الراكعين أمر بالخضوع والخشوع بالقلب ، ويحتمل أن يراد بقوله : { اقنتي } الأمر بالصلاة لأن القنوت أحد أجزائها ، وأن يراد بقوله : { واسجدي واركعي } استعمال كل منهما في وقته اللائق به ، والواو تفيد التشريك لا الترتيب ، أو المراد انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم لا في عداد غيرهم . وإنما لم يقل مع الراكعات إما للتغليب وإما لأن الاقتداء بالرجل حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء . روي أن مريم بعد ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح منهما . اللهم لا تؤاخذنا باسم الرجولية ونحن أقل في خدمتك من إحدى النساء { ذلك } الذي سبق من أنباء حنة وزكريا ويحيى ومريم من أخبار الغيب { نوحيه إليك } قد ورد الكتاب بالإيحاء على معان مختلفة يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرها .

وبهذا التفسير يعد الإلهام وحياً كقوله : { وأوحى ربك إلى النحل } [ النحل : 68 ] وقال : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } [ الأنعام : 121 ] وقال : { فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً } [ مريم : 11 ] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأنباء إلى النبي بواسطة جبريل بحيث تخفى على غيره سماه وحياً { وما كنت لديهم } نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم ، وترك نفي استماع الأنباء حفظتها وهو موهوم لأنه كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة الممتنعة في حقه صلى الله عليه وسلم فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، ومثله في القرآن غير عزيز { وما كنت بجانب الغربي } [ القصص : 44 ] { وما كنت بجانب الطور } [ القصص : 46 ] { إذ يلقون أقلامهم } ينظرون أو ليعلموا أو يقولوا { أيهم يكفل مريم } حذف متعلق الاستفهام لدلالة الإلقاء عليه . وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون الأقلام في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب ، وليس فيها دلالة على كيفية ذلك الإلقاء إلا إنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له . ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا فصار أولى بكفالتها . وقيل : عرف برسوب الأقلام وارتفاعها كما مر . وعن الربيع أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري فجرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم . وقال أبو مسلم : المراد بإلقاء الأقلام ما كانت تفعله الأمم من المساهمة عند التنازع ، فيطرحون سهاماً يكتبون عليها أسماءهم . فمن خرج له السهم سلم له الأمر . قال تعالى : { فساهم فكان من المدحضين } [ الصافات : 141 ] وهو شبيه بالقداح التي يتقاسم بها العرب لحم الجزور . وإنما سميت تلك السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى . قال القاضي : وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق إلا أن العرف الظاهر يوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل اللفظ عليه . { وما كنت لديهم إذ يختصمون } يتنازعون على التكفل . قيل : هم خزنة البيت . وقيل : بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي . ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في طريق الخير . ثم المراد بهذا الاختصام يحتمل أن يكون ما كان قبل الاقتراع وأن يكون اختصاماً آخر حصل بعد الاقتراع . وبالجملة فالمقصود شدة رغبتهم في التكفل بشأنها والقيام بإصلاح مهامها ، إما لأن عمران كان رئيساً لهم فأرادوا قضاء حقوقه ، وإما لأجل الدين حيث كانت محررة لخدمة بيت العبادة وإما لأنهم وجدوا في الكتب الإلهية أن لها ولابنها شأناً .
القصة الرابعة حكاية ولادة عيسى وذكر طرف من معجزاته { إذ قالت الملائكة } يعني جبريل كما مر . ومتعلق « إذ » هو متعلق { وإذ قالت } لأن هذا بدل من ذاك ، ويجوز أن يكون بدلاً من قوله : { إذ يختصمون } .

قال في الكشاف : هذا على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع كما تقول : لقيته سنة كذا يعني وإنما لقيته في ساعة منها . فيكون الزمان الواسع زماناً لكل منهما ، فيكون الثاني بدل الكل من الأول . ويجوز أن يتعلق ب { يختصمون } ولا يحتاج إلى زمان واسع بناء على ما روي عن الحسن أنها كانت عاقلة في حال الصغر ، وأن ذلك كان من كراماتها ، فجاز أن ترد عليها البشرى في حالة الصغر ولا يفتقر إلى أن يؤخر إلى حين العقل . واعلم أن حدوث الشخص من غير نطفة الأب أمر ممكن في نفسه ، وكيف لا وقد يشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كتولد الفأر عن المدر ، والحيات عن الشعر العفن ، والعقارب عن الباذروج غايته الاستبعاد عرفاً وعادة وهذا لا يوجب عند الحكماء ظناً قوياً فضلاً عن العلم . ثم إن الصادق أخبر عن وجود ذلك الممكن فيجب القطع بصحته . ومما يزيده في العقل بياناً أن التخيلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث . كتصور حضور المنافي للغضب ، وكتصور السقوط لحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلاف ما لو كان على قرار من الأرض . وقد جعلت الفلاسفة هذا كأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات . فما المانع أن يقال إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها ، فإن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد ، فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد . قوله : { بكلمة منه } لفظة « من » ههنا ليست للتبعيض كما توهمت النصارى والحلولية لأنه تعالى غير متبعض بوجه من الوجوه ، ولكنها لابتداء الغاية أي بكلمة حاصلة من الله . وذلك أن عيسى لما خلق من غير واسطة أب صار تأثير كلمة « كن » في حقه أظهر وأكمل فكان كأنه نفس الكلمة ، كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال إنه محض الجود ونفس الكرم وصريح الإقبال . وللمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق . وأصله « مشيحا » بالعبرانية ومعناه المبارك { وجعلني مباركاً أينما كنت } [ مريم : 31 ] وكذلك عيسى معرب « إيشوع » . أما احتمال اشتقاق عيسى من العيس البياض الذي تعلوه حمرة فبعيد ، وأما احتمال المسيح من المسح فقريب وعليه الأكثرون . عن ابن عباس : سمي بذلك لأنه ما كان يمسح ذا عاهة إلا يبرأ . وقال أحمد بن يحيى : لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها . وعلى هذا فيجوز أن يقال له مسيح بالتشديد كشريب . وقيل : لأنه مسح من الأوزار والآثام . وقيل : لأنه لم يكن في قدمه خمص وكان ممسوح القدمين . وقيل : لأنه ممسوح بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم .

قالوا : ويجوز أن يكون هذا الدهن جعله الله علامة للملائكة يعرفون بها الأنبياء حين يولدون . وقيل : لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت ولادته صيانة له عن مس الشيطان . وقيل : لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن . وأمالمسيح الدجال فسمي بذلك لأنه مسح إحدى عينيه ، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة . قالوا : ومثله الدجال دجل في الأرض أي قطعها . وقيل : الدجال من دجل الرجل إذا موّه ولبس . وتقديم المسيح - وهو اللقب - على الاسم - وهو عيسى - للتشريف والتنبيه على علو درجته . وإنما نسب إلى مريم والخطاب لمريم تنبيهاً على أنه لا أب له حتى ينسب إليه كما في سائر الأبناء فلا ينسب إلا إلى أمه . وذلك من جملة ما اصطفيت به . وإنما ذكر ضمير الكلمة في اسمه لأنه المسمى بها مذكر . وإنما قيل : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } والاسم من المجموع عيسى والمسيح لقب والابن صفة ، لأن المراد التعريف والتمييز والذي يتميز به عن غيره هو مجموع الثلاثة . { وجيهاً } ذا الجاه والشرف والقدر . وقيل : الكريم لأن أشرف أعضاء الإنسان هو الوجه { في الدنيا } بالنبوة والمعجزات الباهرة وبالبراءة عن العيوب { والآخرة } بشفاعة الأمة المحقين وعلو الدرجة في الجنة . ونصبه على الحال من النكرة الموصوفة وهي كلمة . وكذا انتصاب ما بعده كما مر في الوقوف أي يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات . وكونه من المقربين هو رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة . والمهد قيل : حجر أمه . وقيل : الآلة المعروفة لإضجاع الصبي . وكيف كان فالمراد أنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد { وكهلاً } عطف على الظرف أي يكلم الناس في الصغر وفي الكهولة . والكهل في اللغة الذي اجتمع قوته وكمل شبابه من قولهم : « اكتهل النبات » أي قوي . روي أن عمره بلغ ثلاثاً وثلاثين ثم رفع إلى السماء . ولا ريب أن أكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين والأربعين ، فيكون عيسى قد بلغ سن الكهولة . وعن الحسين بن الفضل : المراد أن يكون كهلاً بعد نزوله من السماء وأنه حينئذٍ يكلم الناس ويقتل الدجال . فإن قيل : إن تكلمه في المهد من المعجزات ، ولكن تكلمه في حالة الكهولة ليس من المعجزات ، فما الفائدة في ذكره؟ فالجواب من وجوه . قال أبو مسلم : معناه أنه يتكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة ، ولا شك أنه غاية في الإعجاز ، وقيل : المراد الرد على نصارى نجران وبيان كونه متقلباً في الأحوال من الصبا إلى الكهولة؛ فإن التغير على الإله محال . وقيل : المراد أنه يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة . وقال الأصم : المراد أنه يبلغ حال الكهولة .

ويخرج من قول الحسين بن الفضل جواب آخر . وههنا بحث للنصارى قالوا : إن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ولا شك أن مثل هذه الواقعة يكون بمحضر جمع عظيم وتتوفر الدواعي على نقلها فيبلغ حد التواتر . فلو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى لأنهم أفرطوا في محبته حتى ادّعوا إلهيته ، لكنهم أطبقوا على إنكاره فعلمنا أنها لم توجد أصلاً . والجواب أن إطباق النصارى على إنكاره ممنوع . ولو سلم فإن كلام عيسى في المهد إنما كان للدلالة على براءة مريم مما نسب إليها من السوء وكان الحاضرون حينئذٍ جمعاً قليلاً ولا يبعد في مثلهم التواطؤ على الإخفاء . وبتقدير أن يذكروا ذلك فإن غيرهم كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت . فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة . فلهذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً إلى أن نطق القرآن بذلك . ثم ختم أوصاف عيسى بقوله : { ومن الصالحين } كما ختم بذلك أوصاف يحيى . وفيه أن الدخول في زمرة الصالحين والانتظام في سلكهم هو المقصد الأسني والأمر الأقصى . { قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } لم تقل ذلك استبعاداً وتشككاً وإنما أرادت تعيين الجهة كما مر في قصة زكريا فأجيبت بقوله : { كذلك الله يخلق ما يشاء } وقد سبق نظيره إلا أنه عبر عن الفعل ههنا بالخلق لأن القدرة ههنا أتم وهو تخليق المولود بغير أب ولهذا أكده بقوله : { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } وقد تقدم تفسيره في السورة التي تذكر فيها البقرة { ويعلمه } بالياء عطف على { يبشرك } أو على { وجيهاً } أو على { يخلق } لأن قوله : { يخلق ما يشاء } وهو عام يتضمن قوله : « يخلقه » ، ويحتمل أن يكون كلاماً مبتدأ . وكذا من قرأ بالنون لأن المذكورات في قوة { إنا نبشرك } ونحن نخلقه . ثم الذي علمه أمور أربعة : أولها الكتاب وكان المراد به الخط . وثانيها الحكمة وهو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به . وثالثها التوراة لأن البحث عن أسرار الكتب الإلهية لا يمكن إلا بعد الاطلاع على العلوم الخمسة . ورابعها الإنجيل وفيه العلوم التي خصه الله تعالى بها وشرفه بإنزالها عليه . وهذه هي الغاية القصوى والرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالحقائق والاطلاع على الدقائق . ثم قال : { ورسولاً } عطفاً على { وجيهاً } وما بعده . { إلى بني إسرائيل } أي إلى كلهم لأنه جمع مضاف . وفيه رد على اليهود القائلين بأنه مبعوث إلى قوم مخصوصين منهم { أني قد جئتكم } يتعلق بمحذوف يدل عليه لفظ الرسول أي ناطقاً بأني قد جئتكم . وإنما وجب هذا الإضمار للعدول عن الغيبة إلى التكلم . وأما قوله : { ومصدقاً لما بين يديّ } فمعطوف على قوله : { بآية } أي مع آية والتقدير : جئتكم مصاحباً لآية من ربكم ومصدقاً لمن بين يديّ ، وجئتكم { لأحل لكم } وفي الكشاف تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ويقول أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم ومصدقاً لما بين يدي .

أو الرسول والمصدق فيهما معنى النطق فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، وناطقاً بأني أصدق ما بين يديّ . وعن الزجاج : إن التقدير ويكلم الناس رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم . والمراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه عدد أنواعاً من الآيات ، ثم أبدل على الآية قوله : { أني أخلق } فيمن قرأ بفتح { أني } ويحتمل أن يكون « أن » مع ما بعده مرفوعاً أي هي أني أخلق . ومن قرأ { إني أخلق } فللاستئناف أو للبيان كقوله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } [ آل عمران : 59 ] ثم فسر المثل بقوله : { خلقه من تراب } [ آل عمران : 59 ] وهذا أحسن ليوافق قراءة الفتح . والمعنى أقدّر لكم شيئاً مثل صورة الطير من هيئات الشيء أصلحته . { فأنفخ فيه } أي في ذلك الطير المصور أو الشيء المماثل لهيئة الطير { فيكون طيراً } وهو اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع . يروى أنه خلق أنواعاً من الطير . وقيل : لم يخلق غير الخفاش وعليه قراءة من قرأ { طائراً } وذلك أنه لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتفننون عليه وطالبوه بخلق خفاش ، فأخذ طيناً وصوّره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض . قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن عيونهم سقط ميتاً بإذن الله . وبتكوينه وتخليقه قال بعض المتكلمين : دلت الآية على أن الروح جسم رقيق كالريح ولذلك وصفها بالنفخ . وههنا بحث وهو أنه هل يجوز أن يقال إنه تعالى أودع في نفس عيسى خاصية بحيث إنه متى نفخ في شيء كان نفخه موجباً لصيرورة ذلك الشيء حياً ، وذلك أنه تولد من نفخ جبريل في مريم روح محض ، فكانت نفخة عيسى سبباً لحصول الأرواح في الأجساد؟ أو يقال : ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات؟ وهذا هو الحق لقوله تعالى { الذي خلق الموت والحياة } [ الملك : 2 ] ولقوله حكاية عن إبراهيم في المناظرة { ربي الذي يحيي ويميت } [ البقرة : 258 ] فلو حصل لغيره هذه الصفة بطل ذلك الاستدلال { وأبرىء الأكمه والأبرص } ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي يولد أعمى . وقيل : هو الممسوح العين . ويقال : لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير . وقيل : الأكمه من عمي بعد أن كان بصيراً ، رواه الخليل . وعن مجاهد أنه الذي لا يبصر بالليل . وأما البرص فإنه بياض يظهر في ظاهر البدن ، وقد لا يعم البدن . وسببه سوء مزاج العضو إلى البرودة وغلبة البلغم على الدم الذي يغذوه ، فتضعف القوة المغيرة عن تمام التشبيه .

وقد يغلب البرد والرطوبة حتى يصير لحمه كلحم الأصداف فيحيل الدم الصائر إليه إلى مزاجه ولونه . وإن كان ذلك الدم جيداً في جوهره نقياً من البلغم حاراً هو داء عياء عسر البرء لا يكاد يبرأ - وخاصة المزمن - منه . والآخذ في الازدياد والذي يرجى برؤه من البرص ما إذا دلك احمرّ بالدلك ويكون معه خشونة ما . والشعر الذي ينبت عليه لا يكون شديد البياض ، وإذا أخذ جلدة بالإبهام والسبابة وأشيل عن اللحم وغرزت فيه الإبرة خرج منه دم أو رطوبة مورّدة ، ولا شك إن إبراءه مثل هذه المرض من قبيل الإعجاز . يروى : ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتا عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده { وأحيي الموتى } أحيا عاذراً وكان صديقاً له ، ودعا سام بن نوح من قبره وهم ينظرون فخرج حياً ، ومر على ابن ميت لعجوز فدعا الله عيسى فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وبقي وولد له . قال الكلبي : كان عيسى عليه السلام يحيي الموتى ب « يا حي يا قيوم » وكرر قوله : { بإذن الله } رفعاً لوهم من توهم فيه الألوهية { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } قيل : إنه كان من أول أمره يخبر بالغيوب . روى السدي أنه كان يلعب مع الصبيان ثم كان عليه السلام يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم . كان عليه السلام يخبرهم بأن أمك خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء . فقالوا لصبيانهم : لا تلعبوا مع الساحر وجمعوهم في بيت . فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا : ليسوا في البيت . فقال عليه السلام : فمن في هذا البيت؟ فقالوا : خنازير . فقال عيسى عليه السلام : كذلك يكونون فإذا هم خنازير . وقيل : إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر من وقت نزول المائدة . وذلك أن القوم نهوا عن الادّخار فكانوا يخونون ويدخرون وكان عيسى يخبرهم بذلك . والادخار افتعال من اذتخر قلبت كل من التاء والذال « دالاً » ثم أدغم . واعلم أن الإخبار عما غاب معجز دال على أن ذلك الخبر صار معلوماً بالوحي ما لم يستعن فيه بآلة ولا تقديم مسألة بخلاف ما يقوله المنجمون والكهان فإن ذلك استعانة من أحوال الكواكب أو الجن ، ولهذا يتفق لهم الغلط كثيراً . ثم إنه لما قرر المعجزات الباهرة وبين بها كونه رسولاً من عند الله ذكر أنه لماذا أرسل فقال : { ومصدقاً لما بين يدي من التوراة } وذلك أنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقاً لمن تقدمه من الأنيباء لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجز ، فكل من حصل على يده المعجز وجب الاعتراف بنبوته .

ولعل من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام تقرير أحكام التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات المعاندين الجاهلين . ثم ذكر غرضاً آخر في بعثته فقال : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } وهذا لا يناقض تصديقه لما في التوراة إذ المعنى بالتصديق هو اعتقاد أن كل ما فيه حكمة وصواب ، وإذا لم يكن التأبيد مذكوراً فالناسخ والمنسوخ كلاهما حق في وقته ، وإذا كانت البشارة بعيسى موجودة في التوراة فمجيء عيسى يكون تصديقاً لما في التوراة . وعن وهب بن منبه أن عيسى ما غير شيئاً من أحكام التوراة وأنه ما وضع الأحد بل كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس . ثم فسر الإحلال بأمرين : أحدهما أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى فجاء عيسى ورفعها وأعاد الأمر إلى ما كان . والثاني أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم كما قال : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] واستمر ذلك التحريم فجاء عيسى ورفع تلك التشديدات عنهم . كانوا قد حرم عليهم الشحوم والثروب ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر ، فأحل لهم عيسى من السمك والطير ما لا صيصية له . { وجئتكم بآية من ربكم } شاهدة على صحة رسالتي وهي قوله : { إن الله ربي وربكم } لأن جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه . وقوله : { فاتقوا الله وأطيعون } اعتراض وإنما جعل القول آية من ربه لأن الله تعالى جعله له علامة يعرف بها أنه رسول كسائر الرسل . ويجوز أن يكون تكريراً لقوله : { إني قد جئتكم بآية من ربكم } أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من المعجزات ومن ولادتي بغير أب . { فاتقوا الله } لما جئتكم به من الآيات { وأطيعون } فإن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله . ثم ختم كلامه بقوله : { إن الله ربي وربكم } إظهاراً للخضوع واعترافاً بالعبودية ورداً لما يدعيه عليه الجهلة من النصارى الضالين المنحرفين عن الصراط المستقيم .
القصة الخامسة ذكر عاقبة أمر عيسى ثم شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات فهم بماذا عاملوه فقال : { فلما أحس } أي علم { عيسى منهم الكفر } علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ، أو أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك بأذنه . قال السدي : لما بعثه الله تعالى رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم ، وكان أمر عيسى في قومه كأمر محمد صلى الله عليه وسلم بمكة ، وكان مستضعفاً فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض ، فاتفق أنه نزل على رجل في قرية فأحسن ذلك الرجل ضيافته . وكان في تلك المدينة رجل جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً فسأله عيسى عن السبب فقال : إن من عادة هذا الملك أنه جعل على كل رجل منا يوماً نطعمه ونسقيه مع جنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر عليّ .

فلما سمعت مريم ذلك قالت : يا ولدي ادع الله ليكفي ذلك . فقال عليه السلام : يا أمي إني إن فعلت ذلك كان فيه شر . فقالت : قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه . فقال عيسى عليه السلام : إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ثم أعلمني . فلما فعل دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً ، وما في الخوابي خمراً . فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذه الخمر؟ فتوقف الرجل في الجواب وتعلل ، فلم يزل يطالبه حتى أخبره بالواقعة فقال : إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعاه حتى يحيي ولدي أجابه - وكان ابنه قد مات في تلك الأيام - فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك فقال له عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش كان شراً عليه - فقال : ما أبالي ما كان فدعا الله فعاش الغلام لكلام عيسى عليه السلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً وقصد اليهود قتله صلى الله عليه وسلم وأظهروا الطعن فيه . وقيل : إن اليهود كانوا عارفين أنه هو المسيح المبشر به في التوراة أنه ينسخ دينهم فكانوا طاعنين فيه من أول الأمر طالبين قتله { قال من أنصاري إلى الله } قيل : إنه لما دعا عليه السلام بني إسرائيل إلى الدين وتمردوا عليه السلام فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بطائفة صيادي السمك - منهم شمعون ويعقوب من جملة الحواريين الاثني عشر - فقال عيسى عليه السلام : إنكم تصيدون السمك فهل لكم أن تسيروا بحيث تصيدون الناس لحياة الأبد؟ فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى عليه السلام بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى . وقيل : إن اليهود لما طلبوه في آخر أمره للقتل وكان هو في الهرب منهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم . ومما يذكره النصارى في إنجيلهم أن اليهود لما أخذوا عيسى ، سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بأذنه فقال له عيسى : حسبك ثم أدنى عليه السلام أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت . والحاصل أن المراد بطلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه عليه السلام . وقيل : إنه دعاهم إلى القتال مع القوم كما قال في موضع آخر

{ فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين } [ الصف : 14 ] ومعنى { إلى الله } قيل : من يضيف نصرته إياي إلى نصر الله عز وجل إياي؟ وقيل : من أنصاري إلى أن أظهر دين الله . فالجار على القولين من صلة { أنصاري } مضمناً معنى الإضافة . وقيل : من أنصاري حال ذهابي إلى الله؟ أو حال التجائي إليه؟ وقيل : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إلى رحمته؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ضحى : « اللهم منك وإليك » أي تقرباً إليك . فالجار على هذين القولين يتعلق بالمحذوف . وقيل : « إلى » بمعنى اللام . وقيل : بمعنى « في » أي في سبيل الله . وهذا قول الحسن . { قال الحواريون نحن أنصار الله } أعوان دينه ورسوله . وحواري الرجل صفيه وخالصته ومنه يقال للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونقاء بشرتهن . والحور نقاء بياض العين ، وحوّرت الثياب بيضتها ، والحواريّ واحد ونظيره الحوالي وهو الكثير الحيلة .
عن سعيد بن جبير : سموا بذلك لبياض ثيابهم . وعن مقاتل بن سليمان لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب . وقيل : لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم ومنه قولهم « فلان نقيّ الجيب طاهر الذيل » للكريم و « دنس الثياب » للئيم . وعن الضحاك : الذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري فعرّب . وأما أن الحواريين من هم فقيل : هم الذين يصطادون السمك فاتبعوا عيسى وآمنوا كما حكينا . وقيل : إن أمه دفعته إلى صبّاغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه فغاب الصبّاغ يوماً لبعض مهماته فقال : ههنا ثياب مختلفة وقد علمت على كل واحد علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان . فطبخ عيسى عليه السلام حباً واحداً وجعل الجميع فيه . وقال : كوني بإذن الله كما أريد . فرجع الصباغ وسأله فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت عليّ الثياب قال : قم فانظر . فكان يخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر وثوباً أصفر كما يريد . فتعجب الحاضرون منه وآمنوا فهم الحواريون . وقيل : كانوا اثني عشر اتبعوا عيسى وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئتنا سقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه . قال : فصاروا يغسلون الثياب فسموا حواريين . وقيل : إن واحداً من الملوك صنع طعاماً وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلام على قصعة . فكانت القصعة لا تنقص . فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال : تعرفونه؟ قالوا : نعم . فذهبوا إليه بعيسى فقال : من أنت؟ قال : عيسى ابن مريم . قال : فإني أترك ملكي فأتبعك . فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هو الحواريون .

قال القفال : يجوز أن يكون بعضهم من الملوك وبعضهم من الصيادين وبعضهم من القصارين ، وسموا جميعاً بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى والمخلصين في محبته وطاعته . { آمنا بالله } يجري مجرى السبب لقولهم : { نحن أنصار الله } فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه { واشهد بأنا مسلمون } منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه . أو هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء عليهم السلام ، وإنما طلبوا شهادته لأن الرسل يشهدون للأمم يوم القيامة . ثم تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم : { ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين . فقال ابن عباس : أي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم مخصوصون بأداء الشهادة { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] وعنه أيضاً اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه { ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] وقيل : اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق فقرنت ذكرهم بذكرك في قولك : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] وقيل : اجعلنا ممن هو مستغرق في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك ، أو اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } [ المطففين : 18 ] { ومكروا } يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر { ومكر الله } المكر في اللغة السعي في خفية ومداجاة . قال الزجاج : يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم . وقيل : أصله من إجماع الأمر وإحكامه ، ومنه امرأة ممكورة مجتمعة الخلق . فلما كان المكرر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقض والفتور لا جرم سمي مكراً . أما مكرهم بعيسى عليه السلام فهو أنهم هموا بقتله ، وأما مكر الله بهم فهو أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال السوء إليه ، روي أن ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام وكان جبريل لا يفارقه ساعة ، فأمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه روزنة . فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره ممن وكل به ليقتله غيلة فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق : فرقة قالت : كان الله فينا فذهب . وأخرى قالت : كان ابن الله . وأخرى قالت : كان عبد الله ورسوله . وقيل : إن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحد منهم ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى عليه السلام . وذكر محمد بن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى فشمسوهم ولقوا منهم الجهد .

فسمع بذلك ملك الروم . وكان ملك اليهود من رعيته فقيل : إنه قتل رجلاً من بني إسرائيل ممن يحب أمرك ، وكان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفعل ما فعل فقال : لو علمت ذلك ما خليت بينه وبينهم . ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه ، فتابعهم على دنيهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم . وكان اسم هذا الملك « طباريس » ، وهو صار نصرانياً إلا أنه ما أظهر ذلك . ثم إنه جاء بعده ملك آخر يقال له « ملطيس » وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ولم يترك في حاشية بيت المقدس حجراً على حجر ، فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله . وقيل : إنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه ، ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل أعداءه وهم اليهود { والله خير الماكرين } أقواهم مكراً وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب .
واعلم أن المكر إن كان عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر فهو في حق الله تعالى محال ، فاللفظ إذن من المتشابهات فيجب أن يؤول بأن جزاء المكر يسمى مكراً كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] أو بأنه تعالى عاملهم معاملة من يمكر وهو عذابهم على سبيل الاستدراج . وإن كان المكر عبارة عن التدبير المحكم الكامل لم يكن اللفظ متشابهاً لأنه غير ممتنع في حق الله إلا أنه قد اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير . { إذ قال الله } ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو مفعول اذكر { يا عيسى إني متوفيك } أي متمم عمرك وعاصمك من أن يقتلك الكفار الآن بل أرفعك إلى سمائي وأصونك من أن يتمكنوا من قتلك . وقيل : متوفيك أي مميتك كيلا يصل أعداؤك من اليهود إلى قتلك ثم رافعك إليّ . وهذا القول مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحق . ثم قال وهب : توفي ثلاث ساعات ثم رفع وأحيي . وقال محمد بن إسحق . توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه . وقال الربيع بن أنس : إنه نومه ورفعه إلى السماء نائماً حتى لا يلحقه خوف ورعب . أخذه من قوله { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } [ الزمر : 42 ] . وقيل : التوفي أخذ الشيء وافياً أي آخذك بروحك وبجسدك جميعاً فرافعك إلي دفعاً لوهم من يتوهم أنه أخذ بروحه دون جسده . وقيل : متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان أي استوفيته . وقيل : أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء انقطع خبره وأثره عن الأرض فيكون من باب إطلاق الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته .

وقيل : المضاف محذوف أي متوفى عملك ورافع طاعتك فكأنه بشره بقبول طاعته وأن ما وصل إليه من المتاعب في تمشية دينه وإظهار شريعته فهو لا يضيع أجره ، فهذا كقوله : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] وقيل : في نسق الكلام تقديم وتأخير . فإن الواو لا تقتضي الترتيب . والمعنى إني رافعك إلي ومتوفيك بعد إنزالك إلى الدنيا . ويؤيده ما ورد في الخبر أنه سينزل ويقتل الدجال ، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك . أما قوله { ورافعك إليّ } فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان لله تعالى وأنه في السماء ، لكن الدلائل القاطعة دلت على أنه متعال عن الحيز والجهة فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل بأن المراد إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ومثله قول إبراهيم : { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] وإنما ذهب من العراق إلى الشام ، وقد سمي الحجاج زوّار الله ، والمجاورون جيران الله . والمراد التفخيم والتعظيم ، أو المراد إلى مكان لا يملك الحكم عليه هناك غير الله فإن في الأرض ملوكاً مجازية . ولئن سلم أنه تعالى يمكن أن يكون في مكان فليس رفع عيسى عليه السلام إلى ذلك المكان سبباً لبشارته ما لم يتيقن الثواب والكرامة والروح والراحة ، فلا بد من صرف اللفظ عن ظاهره وهو أن يقال : المراد رفعه إلى محل كرامته ، وإذا لم يكن بد من الإضمار فلم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان له تعالى . ثم إنه كما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه ، عبر لذلك عن معنى التخليص بلفظ التطهير فقال : { ومطهرك من الذين كفروا } أي من خبث جوارهم وسوء عشرتهم { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } وليس هذا فوقية المكان بالاتفاق . فالمراد إما الفوقية بالحجة والدليل ، وإما الفوقية بالقهر والاستيلاء . وفيه إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة . ولعمري إنه كذلك فلا يرى ملك يهودي في الدنيا ولا بلد لهم مستقل بخلاف النصارى . على أنا نقول : المراد بمتبعي المسيح هم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعده فصدقوه في قوله : { ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } [ الصف : 6 ] أو المتبعون هم المسلمون الذين اتبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى .
واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره قال : { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } [ النساء : 157 ] فأورد بعض الملحدة عليه إشكالات : الأول أنه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذٍ أجوز أن هذا الذي رأيته ثانياً ليس ولدي بل هو إنسان آخر ألقى شبهه عليه ، وكذا الصحابة الذين رأوا محمداً يأمرهم وينهاهم احتمل أن يكون محمد إنساناً آخر ألقى شبهه عليه وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وكذا إلى إبطال التواتر ، لأن مدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس وأنتم جوزتم وقوع الغلط في المبصرات ، ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات .

الثاني أن جبريل كان معه حيث سار . ثم إن طرف جناح واحد منه يكفي لأهل الأرض . فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود؟ وأنه صلى الله عليه وسلم كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء والقاء الفلج والزمانة عليهم حتى لا يتعرضوا له؟ الثالث أنه تعالى كان قادراً على تخليصه من الأعداء بأن يرفعه إلى السماء ، فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟ وهل فيه إلا إيقاع مسكين في القتل من غير فائدة مع أن ذلك يوجب تلبيس الأمر عليهم حتى اعتقدوا أن المصلوب هو عيسى وأنه لم يكن عيسى ، والتمويه والتخليط لا يليق بحكمة الله تعالى؟ الرابع أن النصارى على كثرتهم في المشارق والمغارب وإفراطهم في محبة عيسى أخبروا أنهم شاهدوه مصلوباً ، فإنكار ذلك إنكار المتواتر ، والطعن في المتواتر يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء . الخامس ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً . فلو كان هو غير عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ، ولو فعل ذلك اشتهر وتواتر . والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على خلق مثل زيد . وهذا التجويز لا يوجب الشك في وجود زيد فكذا فيما ذكرتم . وعن الثاني والثالث أن ذلك يفضي إلى بلوغ الإعجاز حد الإلجاء ، وأنه ينافي التكليف . والتلبيس المذكور قد أزاله تلامذة عيسى الحاضرون منه العالمون بالواقعة . وعن الرابع أنه تواتر منقطع الأول لأنهم كانوا قليلين في ذلك الوقت فلا يفيد العلم . إذ شرط التواتر استواء الطرفين والوسط . وعن الخامس ما روي أن الذي ألقي عليه الشبه كان من خواص أصحابه ، فلهذا صبر . على أنا نقول : قد ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه ، فهذه الاحتمالات تمتنع أن تصير معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية . قال : { ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } وفيه بشارة لعيسى بأنه سيحكم بين المؤمنين وبين الجاحدين . وتفسيره قوله : { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا } بالقتل والسبي والذلة وأنواع المصائب والرزايا التي لا ثواب عليها { والآخرة } بدخول النار خالدين فيها { وما لهم من ناصرين } { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين } الواضعين الشيء في غير موضعه ، التكذيب في مقام التصديق ، والعمل السيء مكان العمل الصالح ، وذلك أن المحبة عبارة عن إيصال الخير إليه .

وهو وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لم يوصل الثواب إليه ، وقالت المعتزلة : المحبة والإرادة واحدة ، فالمعنى أنه لا يريد ظلم الظالمين . { ذلك } الذي سبق من نبأ عيسى عليه السلام وغيره وهو مبتدأ خبره { نتلوه عليك } والتلاوة والقصص كلاهما يؤل إلى معنى واحد وهو ذكر الشيء بعضه على إثر بعض . جعل تلاوة الملك لما كانت بأمره كتلاوته . { من الآيات } خبر بعد خبر أو خبر بعد مبتدأ محذوف والمراد بها آيات القرآن ، ويحتمل أن يراد أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارىء من كتاب أو من يوحى إليه ، وظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ فبقي أن يكون من الوحي . ويجوز أن يكون ذلك بمعنى « الذي » و { نتلوه } صلته و { من الآيات } الخبر . ويجوز أن ينتصب ذلك بمضمر يفسره { نتلوه } . والذكر الحكيم القرآن . وصف بصفة من هو سببه ، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه ، أو هو بمعنى الحاكم كالعليم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه ، أو بمعنى المحكم أحكمت آياته أي عن تطرق وجوه الخلل إليه . وقيل : الذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء ، أخبر أنه تعالى أنزل هذه القصص مما كتب هناك . قال المفسرون : إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا؟ قال صلى الله عليه وسلم : وما أقول؟ قالوا : تقول إنه عبد . قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب؟ فإن كنت صادقاً فأرنا مثله فأنزل الله عز وجل { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } أي حاله الغريبة كحاله . ووجه الشبه أن كلاً منهما وجد وجوداً خارجا عن العادة المستمرة ، بل الوجود من غير أب وأم أغرب ، فشبه الغريب بالأغرب . لأن المشبه به ينبغي أن يكون أقوى حالاً من المشبه في وجه الشبه . ثم فسر كيفية خلق آدم بقوله : { خلقه من تراب } أي قدّره جسداً من طين . قيل : اشتقاق آدم من الأدمة ، وقال ابن عباس : سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها طيبها وخبيثها ، فلذلك كان في ولده الأسود والأحمر والطيب والخبيث . وقيل : إنه اسم أعجمي كآزر ووزنه « فاعل » لا « أفعل » . والضمير عائد إلى آدم الموجود كقولك : « هذا الكون أصله من الطين » { ثم قال له } أي لذلك المقدّر { كن فيكون } وهذا كقوله : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } [ المؤمنون : 14 ] وإنما لم يقل « فكان » إما لأنه حكاية حال ماضية ، وإما تصوير لتلك الحالة العجيبة كقوله :
فأصر بها بلا دهش فخرت ...

أو المراد اعلم يا محمد أن ما قال له ربك « كن » فإنه يكون لا محالة . وقيل : معنى « ثم » تراخي الخبر عن الخبر لا تراخي المخبر عن المخبر كقول القائل « أعطيت زيداً ألفاً اليوم ثم أنا أعطيته أمس ألفين » أي ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله : { خلقه من تراب } أي صيره بشراً سوياً . ثم إنه يخبركم أنه إنما خلقه بأن قال له « كن » . وقيل : إن معنى الخلق يرجع إلى علمه تعالى بكيفية وقوعه وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص . والمراد ب « كن » إدخاله في الوجود . قالت الحكماء : إنما خلق آدم من التراب لوجوه : ليكون متواضعاً وليكون ستاراً وليكون أشد التصاقاً بالأرض فيصلح للخلافة فيها ، ولما فيه من إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام السفلية وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو أرق الأجرام وأعطاهم كمال القوة والقدرة ، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الفضاء ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام فآتاه النور والهداية ، وكل ذلك برهان باهر ودليل ظاهر على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج والخالق بلا مزاج . وعلاج خلق البشر من التراب لإطفاء نيران الشهوة والحرص والغضب ، وخلقه من الماء { خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً } [ الفرقان : 54 ] ليكون صافياً تتجلى فيه صور الأشياء . ثم مزج بين التراب والماء لامتزاج اللطيف بالكثيف فصار طيناً { إني خالق بشراً من طين } [ ص : 71 ] ثم إنه سل من ألطف أجزاء الطين { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 13 ] ثم جعله طيناً لازباً { إنا خلقناهم من طين لازب } [ الصافات : 11 ] ثم سنه وغير رائحته { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإٍ مسنون } [ الحجر : 26 ] .
عن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى عليه السلام؟ قالوا : لأنه لا أب له . قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى . قال : فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وأحيا حزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص . قال : فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً . { الحق من ربك } خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق يعني الذي أنبأتك من شأن عيسى لا الذي اعتقد النصارى فيه أنه إله ، ولا الذي يزعم اليهود من رميها بيوسف النجار ، أو { الحق } مبتدأ و { من ربك } خبره كما يقال : الحق من الله والباطل من الشيطان . { فلا تكن من الممترين } الشاكين . قال ابن الأنباري : أصله من مريت الناقة والشاة حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه شراً . وفي هذا النهي ترغيب له في زيادة الثبات والطمأنينة ولطف للأمة وقد مر نظائره في سورة البقرة .
التأويل : الاصطفاء ثلاثة أنواع : اصطفاء على غير الجنس

{ إن الله اصطفى آدم } [ آل عمران : 33 ] ولم يكن له جنس حين خلقه وأسجد له ملائكته ، واصطفاء على الجنس وعلى غير الجنس كاصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم على الكائنات كقوله : لولاك لما خلقت الأفلاك . وقال صلى الله عليه وسلم : « آدم فمن دونه تحت لوائي » ، واصطفاء على الجنس كقوله : { يا موسى إني اصطفيتك على الناس } [ الأعراف : 144 ] ولمريم { إن الله اصطفاك } لاصطفائك إياه { وطهرك } عن الالتفات لغيره { واصطفاك على نساء العالمين } لنيل درجة الكمال وإن لم يكن ذلك من شأن النساء . { إن الله يبشرك بكلمة منه } كل صنف من أصناف الخلق حرف من حروف كلمة معرفة الله تعالى . والعالم بما فيه كلمة المعرفة كقوله : « كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف » والإنسان وإن كان صنفاً من أصناف العالم وهو حرف من حروف كلمة المعرفة لكنه خلق نسخة العالم بما فيه فهو أيضاً كلمة المعرفة كالعالم ، لكنه خص من العالم بما فيه بكرامة معرفة نفسه ومعرفة ربه ومعرفة العالم بما فيه ، وهذا مقام مخصوص بالإنسان الكامل المزكى بتزكيه الشريعة المربى بتربية أرباب الطريقة . وإنما خص عيسى علية السلام بهذا الاسم - أعنى الكلمة - من بين سائر الأنبياء والأولياء لأنه خلق مستعداً لهذا الكمال في بدء أمره . قد فهم من كلمة نفسه معرفة ربه كما قال صلى الله عليه وسلم « من عرف نفسه فقد عرف ربه » وكان من اختصاصه بالكلمة أنه قال في المهد : { إني عبد الله آتاني الكتاب } [ مريم : 30 ] روى مجاهد قال : قالت مريم بنت عمران : كنت إذا خلوت أنا وجنيني حدثته وحدثني ، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع . وسمي المسيح لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم فاستخرج منه ذرّات ذرّياته لم يردّه إلى مقامه كما جاء في الخبر « إن الله تعالى أذن للذرّات بالرجوع إلى ظهر آدم وحفظ ذرة عيسى وروحه عنده حتى ألقاها إلى مريم » فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح . { وكهلاً } أي حالة النبوة لأن بلوغ الأنبياء عند كهولتهم { ومن الصالحين } يعني صلاحية قبول الفيض بلا واسطة كما هو حال جميع الأنبياء عليهم السلام . { ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } الروح الإنساني الذي هو خليفة الله في أرضه قابل لجميع أنوار الصفات خلافة عنه حتى القدرة على الخلق والإحياء والإبراء والإنباء وغير ذلك من الآيات التي هي من نتاج القدرة ، لكنه لتعلقه بالجسد الكائن من العناصر ولاحتجابه بظلمات شهوات الأبوين امتنع عن قبول أنوار الصفات إلى أن يخرجه مدد العناية بطريق الهداية ، وقوة استعداد الروحية والجسمية من تلك الظلمات فيظهر على النبي صلى الله عليه وسلم آيات المعجزات وعلى الولي أمارات الكرامات . ولما كان روح عيسى عليه السلام وذرّة طينته المستخرجة من ظهر آدم محتبسة عند الله حتى ألقاها إلى مريم من غير شائبة ظلمات شهوة الأبوين ولهذا سمي روح الله ، كان قابل أنوار الصفات في بدوّ أمره يكلم الناس في المهد ويكتب ويقرأ التوراة والإنجيل غير من تعلم ، ويحيي ويبرىء إلى غير ذلك من الآيات { فلما أحس عيسى منهم الكفر } فيه إشارة إلى أن عيسى الروح ، لما أحس من النفس وصفاتها الكفر { قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون } وهم القلب وصفاته { نحن أنصار الله آمنا بالله } أي بوحدانيته والتبري عن غيره { واشهد بأنا مسلمون } منقادون لأحكامه ، راضون بقضائه ، صابرون على بلائه { ربنا آمنا بما أنزلت } من الحكم والأسرار واللطائف والحقائق { واتبعنا الرسول } الوارد من نفحات ألطافك { فاكتبنا مع الشاهدين } المشاهدين لأنوار جلالك { ومكروا } أي النفس وصفاتها والشياطين وأتباعها في هلاك عيسى الروح { ومكر الله } بتجلي صفات قهره في فناء النفس وصفاتها { والله خير الماكرين } في قهر النفس الأمارة بالسوء وقمع صفاتها وقلع شهواتها { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } عن الصفات النفسانية والسمات الحيوانية { ورافعك إليّ } بجذبات العناية كما أسرى بعبده إلى قاب قوسين أو أدنى .

ومن خواص الجذبة الربوبية خمود الصفات البشرية { ثم إليّ مرجعكم } باللطف أو القهر بالاختيار على قدم السلوك ، أو بالاضطرار عند نزع الروح . { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا } بحجاب الغفلة والاشتغال بغير الله ، { والآخرة } بالقطيعة والبعد عن الله { والله لا يحب الظالمين } الذين يظلمون أنفسهم بانقضاء العمر في طلب غير الله تعالى . ثم قال له كن فيكون . هذه السنة في تكوين الأرواح والملكوت لا الأجساد والملك ، ولكنه أجراها في تكوين آدم من تراب بلا أب وأم ، وخلق حوّاء منه بلا أم ، وخلق عيسى ابن مريم بلا أب خرقاً للعادة ودلالة على اختياره ورغماً بأنف من قال بالإيجاب في الإيجاد { فلا تكن من الممترين } نهي الكينونة قاله في الأزل فما كان من الممترين ولا يكون إلى الأبد .

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

القراآت : { ها أنتم } بالمد وغير الهمزة حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . وروى ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل { ها أنتم } على وزن « هعنتم » الباقون بالمد والهمز .
الوقوف : { الكاذبين } ه { القصص الحق } ج ط { إلا الله } ط { الحكيم } ه { المفسدين } ه { من دون الله } ط لتناهي جملة وافية إلى ابتداء شرط { مسلمون } ه { من بعده } ط { تعقلون } ه { ليس لكم به علم } ط { لا تعلمون } ه { مسلماً } ط { المشركين } ه { والذين آمنوا } ط { المؤمنين } ه { لو يضلونكم } ط { يشعرون } ه { تشهدون } ه { تعلمون } ه .
التفسير : « روي أنه صلى الله عليه وسلم لما أورد الدلائل على نصارى نجران ، ثم إنهم أصروا على جهلهم قال صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم . فقالوا : يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك . فلما رجعوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى؟ قال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الفصل من أمر صاحبكم . والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لكان الاستئصال ، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج وعليه صلى الله عليه وسلم مرط من شعر أسود . وكان صلى الله عليه وسلم قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه صلى الله عليه وسلم وعلي عليه السلام خلفها وهو يقول : إذا دعوت فأمنوا . فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إنى لأرى وجوهاً لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة . ثم قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك . فقال صلى الله عليه وسلم : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا . فقال صلى الله عليه وسلم : فإني أناجزكم أي أحاربكم . فقالوا : ما لنا بحرب العرب المسلمين طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا على ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألفاً في صفر وألفاً في رجب وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك . قال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حاول الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا »

وروي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج في المرط الأسود جاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ثم علي عليه السلام ثم قال صلى الله عليه وسلم { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } [ الأحزاب : 33 ] وهذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث . { فمن حاجك } من النصارى { فيه } في عيسى وقيل في الحق { من بعد ما جاءك من العلم } من البينات الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله وذلك بطريق الوحي والتنزيل { فقل تعالوا } هلموا والمراد المجيء بالرأي والعزم كما تقول : تعال نفكر في هذه المسألة . وهو في الأصل « تفاعلوا » من العلو . وذلك أن بيوتهم كانت على أعالي الجبل ، فكانوا ينادون تعال يا فلان أي ارتفع ، إلا أنه كثر حتى استعمل في كل مجيء فصار بمنزلة « هلم » . { ندع أبناءنا وأبناءكم } أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ويأتي هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة . وإنما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ومن إحضار من هم أعز من النفس ، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه . { ثم نبتهل } ثم نتباهل وقد يجيء « افتعل » بمعنى « تفاعل » نحو : اختصم بمعنى تخاصم . والتباهل أن يقول كل واحد منهما : بهلة الله على الكاذب منا أي لعنته . ويقال : بهله الله أي لعنه وأبعده من رحمته ومنه قولهم : « أبهله » إذا أهمله . وناقة بأهل لا صرار عليها بل هي مرسلة مخلاة . فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة بها على الدفع عن نفسها . فكأن المباهل يقول : إن كان كذا فوكلني الله إلى نفسي وفوّضني إلى حولي وقوتي وخلاني من كلائه وحفظه . هذا أصل الابتهال ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً وهو المراد في الآية لئلا يلزم التكرار أي ثم نجتهد في الدعاء فنجعل اللعنة على الكاذب بأن نسأل الله أن يلعنه . وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين وهما ابنا البنت يصح أن يقال إنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد أن يدعو أبناءه ثم جاء بهما . وقد تمسك الشيعة قديماً وحديثاً بها في أن علياً أفضل من سائر الصحابة لأنها دلت على أن نفس علي مثل نفس محمد إلا فيما خصه الدليل . وكان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي ، وكان متكلم الاثني عشرية يزعم أن علياً أفضل من سائر الأنبياء سوى محمد . قال : وذلك أنه ليس المراد بقوله : { وأنفسنا } نفس محمد لأن الإنسان لا يدعو نفسه فالمراد غيره . وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب فإذاً نفس علي هي نفس محمد .

لكن الإجماع دل على أن محمداً أفضل من سائر الأنبياء ، فكذا علي عليه السلام قال : ويؤكده ما يرويه المخالف والموافق أنه صلى الله عليه وسلم قال : « من أراد أن يرى آدم في علمه . ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في خلته ، وموسى في قربته ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام » فدل الحديث على أنه اجتمع فيه عليه السلام ما كان متفرقا فيهم ، وأجيب بأنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمداً أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ، وأجمعوا على أن علياً عليه السلام ما كان نبياً ، فعلم أن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى الله عليه وسلم فكذا في حق سائر الأنبياء ، وأما فضل أصحاب الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك ، ولهذا ضمهم إلى نفسه بل قدمهم في الذكر . وفيها أيضاً دلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لو لم يكن واثقاً بصدقه لم يتجرأ على تعريض أعزته وخويصته وأفلاذ كبده في معرض الابتهال ومظنة الاستئصال ، ولولا أن القوم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم لما أحجموا عن مباهلته ، وأما قول المشركين { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] فليس من قبيل المباهلة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرض نفسه لذلك ولم يكن ذلك القول في معرض الاحتجاج والادعاء ولا بإذن من الله تعالى لرسوله . { إن هذا } الذي تلي عليك من نبأ عيسى { لهو القصص الحق وما من إله إلا الله } وهو في إفادة معنى الاستغراق لزيادة « من » بمنزلة لا إله إلا الله مبنياً على الفتح ، وفيه رد على النصارى في تثليثهم { وإن الله لهو العزيز الحكيم } فيه جواب عن شبهة النصارى أن عيسى يقدر على الإحياء ويخبر عن الغيوب ، فإن هذا القدر من القدرة والعلم لا يكفي في الإلهية ، بل يجب أن يكون الإله غالباً لا يدفع ولا يمنع وهم يقولون إنه قد قتل ولم يقدر على الدفع . ويلزم أن يكون عالماً بكل المعلومات وبعواقب الأمور وعيسى لم يكن كذلك { فإن تولوا } عما وصفت من التوحيد وأن إله الخلق يجب أن يكون قادراً على المقدورات عالماً بجميع المعلومات ، فاعلم أن إعراضهم ليس إلا على سبيل العناد ، فاقطع كلامك معهم وفوِّض أمرهم إلى الله فإنه عليم بحال المفسدين في الدين ، وبنياتهم وأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بأعمالهم الخبيثة . ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما أورد على نصارى نجران من الدلائل ما انقطعوا معه ، ثم دعاهم إلى المباهلة فانخزلوا ورضوا بالصغار وقبلوا الجزية ، أمره الله تعالى بنمط آخر من الكلام مبني على الإنصاف يشهد به كل طبع مستقيم وعقل سليم فقال : { قل يا أهل الكتاب } يعني نصارى نجران ، لأن الآية من تمام قصتهم ، ولأنه كلام منصف فخوطب بما يطيب به قلوبهم كما لو قيل لحامل القرآن : يا حافظ كتاب الله .

وقيل : المراد يهود المدينة ، وقيل اليهود والنصارى جميعاً لأن ظاهر اللفظ يتناولهما ، ولما روي أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى ، وقالت النصارى : يا محمد ما نريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير . فأنزل الله تعالى هذه الآية . والمراد من قوله : { تعالوا } تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالاً من مكان إلى مكان . والمعنى هلموا إلى كلمة سواء فيها إنصاف من بعضنا لبعض ، لا ميل فيه لأحد على صاحبه . والسواء هو العدل والإنصاف لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف وفيه التسوية بين نفسه وبين صاحبه . أو المراد إلى كلمة سواء مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل . وتفسير الكلمة بقوله : { أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } فمحل { أن لا نعبد } خفض على البدل من { كلمة } أو رفع على الخبر أي هي أن لا نعبد . وهو خبر في معنى الأمر أي اعبدوا . وإنما ذكر أموراً ثلاثة لأن النصارى جمعوا بين الثلاثة . فعبدوا غير الله وهو المسيح ، وأشركوا به غيره لأنهم أثبتوا أقانيم ثلاثة أباً وابناً وروح القدس ، ثم قالوا : إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين لما جاز عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم . وحيث أثبتوا ثلاثة ذوات مستقلة فقد أشركوا . ثم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً لأنهم أطاعوهم في التحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم من غير شريعة وبيان ، ولأنهم يسجدون لهم ويطيعونهم في المعاصي وهوى النفس ورؤية الأمور من الوسائط { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] ولأن من مذهبهم أن الكامل في الرياضة يظهر فيه أثر اللاهوت ويحل فيه فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص . فهم وإن لم يطلقوا عليهم اسم الرب إلا أنهم أثبتوا في حقهم معنى الربوبية ، فثبت أن النصارى جمعوا بين الأمور الثلاثة ، وبطلانها كالأمر المتفق عليه بين العقلاء . فإن قيل : المسيح ما كان المعبود إلا الله فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح عليه ، والقول بالاشتراك أيضاً ضائع . وإذا لم يكن الحكم إلا لله وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والائتمار إلا إليه .

« عن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . قال صلى الله عليه وسلم : أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال : نعم . قال صلى الله عليه وسلم : هو ذاك » وعن الفضيل : لا أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة . { فإن تولوا } عن التوحيد { فقولوا } أيها المسلمون لأهل الكتاب { اشهدوا بأنا مسلمون } دونكم كما يقول الغالب لمغلوبه في جدال أو صراع : لزمتك الحجة فاعترف بأني أنا الغالب . أو يكون من باب التعريض ومعناه فاعترفوا بأنكم كافرون حيث أعرضتم عن الحق بعد ما تبين . ثم إن اليهود كانوا يقولون : إن إبراهيم على ديننا وكذا النصارى ، فأبطل الله تعالى ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده . فبين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان ، فكيف يعقل أن يكون يهودياً أو نصرانياً؟ لا يقال هذا أيضاً لازم عليكم لأنكم تدعون أن إبراهيم كان على دين الإسلام ، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان أطول مما بينه وبين إنزال التوراة والإنجيل . لأنا نقول : القرآن أخبر بأن إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وإنما كان حنيفاً مسلماً ، وليس في الكتابين أنه كان يهودياً أو نصرانياً فظهر الفرق . وأيضاً المسيح ما كان موجوداً في زمان إبراهيم حتى يعبد ، وعبادة المسيح هي النصرانية عندكم . وأيضاً لا نسخ في دين اليهود والنسخ جائز في ملة إبراهيم { ها أنتم هؤلاء } « ها » حرف التنبيه و { أنتم } مبتدأ و { هؤلاء } خبره و { حاججتم } جملة مستأنفة مبينة للأولى يعني أنتم هؤلاء الحمقى ، وبيان حماقتكم أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم . أو ليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد : هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ألبتة ولا ذكر له في كتابكم؟ وعن الأخفش : { ها أنتم } أصله أأنتم على الاستفهام . فقلبت الهزة هاء ، ومعنى الاستفهام التعجب من جهالتهم . ثم حقق ذلك بقوله : { والله يعلم } كيف كان حال هذه الشرائع في الموافقة والمخالفة { وأنتم لا تعلمون } ثم بين ذلك مفصلاً فقال : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } كما لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، أو عرض بالمشركين عن اليهود والنصارى لإشراكهم بالله عزيراً والمسيح . فإن قيل : قولكم « إبراهيم على دين الإسلام » إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصاً بدين الإسلام ، وإن أردتم به الموافقة في الفروع لزم أن لا يكون محمد صاحب شريعة بل كان مقرراً لشرع من قبله . قلنا : نختار الأول والاختصاص ثابت . فإن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير والمسيح بالله إلى غير ذلك من قبائح أفعالهم ، أو الثاني ولا يلزم ما ذكرتم لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى ، ثم في زمان محمد نسخ شرع موسى بتلك الشريعة التي كانت ثابتة في زمان إبراهيم ، فيكون محمد صاحب الشريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع .

روى الواحدي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش من دار الندوة وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأراً بمن قتل منكم ببدر . فأجمعوا مالاً وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم . فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع هدايا الأدم وغيره ، فركبا البحر وأتيا الحبشة . فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له : إن قومنا لك ناصحون شاكرون وإصلاحك محبون ، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء القوم الذين قدروا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء . وإنا كنا ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل أحد منا عليهم ولا يخرج منهم أحد ، قد قتلهم الجوع والعطش . فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك ، وقد جئتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم . قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك . قال : فدعاهم النجاشي . فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله . فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر . فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته . فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال : ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك . ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص : ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي : ما يمنعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحيي بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا : نسجد لله الذي خلقك وملكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان ، فبعث الله فينا نبياً صادقاً وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي « السلام » تحية أهل الجنة . فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل . قال : أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر : أنا . قال : فتكلم . قال : إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم ، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي .

فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا . فقال عمرو لجعفر : تكلم . فقال جعفر للنجاشي : سل هذا الرجل أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيداً أبقنا من أربابنا فأرددنا إليهم . فقال النجاشي : أعبيد هم أم أحرار؟ فقال : بل أحرار كرام . فقال النجاشي : نجوا من العبودية . قال جعفر : سلهما هل أهرقنا دماً بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو : لا ولا قطرة . قال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي : يا عمرو إن كان قنطاراً فعليّ قضاؤه . فقال عمرو : لا ولا قيراط . قال النجاشي : فما تطلبون منهم؟ قال عمرو : كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا ، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره ولزمناه نحن ، فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا . فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه أصدقني . قال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره . كنا نكفر بالله عزّ وجلّ ونعبد الحجارة . وأما الدين الذي تحولنا إليه فدين الإسلام ، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له . فقال النجاشي : يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك . ثم أمر النجاشي فضرب الناقوش فاجتمع إليه كل قسيس وراهب . فلما اجمعوا عنده قال النجاشي : أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبياً مرسلاً؟ فقالوا : اللهم نعم ، قد بشرنا به عيسى وقال : من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي . فقال النجاشي لجعفر : ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ قال : يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له . فقال : اقرأ علي شيئاً مما يقرأ عليكم . فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدموع وقالوا : يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطيب . فقرأ عليهم سورة الكهف . فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال : إنهم يشتمون عيسى وأمه . فقال النجاشي : ما تقولون في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم . فلما أتى ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذى العين وقال : والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا . ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم . قال : أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة أي لا خوف اليوم على حزب إبراهيم . قال عمرو : يا نجاشي ومن حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤا من عنده ومن اتبعهم . فأنكر ذلك المشركون وادعوا أنهم في دين إبراهيم .

ثم رد النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه وقال : إنما هديتكم إليّ رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة . قال جعفر : وانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار ، وأنزل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم في خصومتهم في إبراهيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بالمدينة قوله : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } على ملته وسنته في زمانه { وهذا النبي } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { والذين آمنوا } في آخر الزمان { والله ولي المؤمنين } بالنصرة والتأييد والتوفيق والتسديد . ومعنى { أولى الناس } أخصهم به وأقربهم منه من الولي القرب . وقرىء { وهذا النبي } بالنصب عطفاً على الهاء في { اتبعوه } وبالجر عطفاً على { إبراهيم } عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ إن أولى الناس الآية » ثم بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات وإبداء المكايد كما أرادوا بحذيفة وعمار ومعاذ بن جبل وقد ذكرناه في سورة البقرة . { وما يضلون إلا أنفسهم } لأن وبال الإضلال يعود عليهم فيضاعف لهم العذاب بالضلال والإضلال ، أو وما يقدرون على إضلال المؤمنين وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم { وما يشعرون } أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين . ثم وبخهم على قبائح أفعالهم بطريق الاستفهام فقال : { لم تكفرون بآيات الله } قيل : أي بالتوراة والإنجيل لما فيهما من البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً ، أو أن الدين عند الله الإسلام ، ومعنى الكفر بالتوراة والإنجيل إما الكفر بما يدلان عليه فيكون قد أطلق اسم الدليل على المدلول ، أو الكفر بنفس التوراة والإنجيل لأنهم كانوا يحرّفونهما وينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى { وأنتم تشهدون } أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض شهدوا بصحتها ، وعلى هذا فيكون في الآية إخبار عن الغيب فيكون معجزاً . وقيل : آيات الله في القرآن وشهادتهم أنهم يعرفون في قلوبهم أنه حق . وقيل : آيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم . فمعنى تشهدون أنكم تعترفون بدلالة المعجزة على صدق المدعي . ثم لما وبخهم على الغواية أردفه التوبيخ بالإغواء . وهو إما بإلقاء الشبهات في الدين وهو معنى لبسهم الحق بالباطل ، وإما بإخفاء الدلائل وهو كتمانهم الحق . عن الحسن وابن زيد : حرفوا التوراة فخلطوا المنزل بالمحرف . وعن ابن عباس : أظهروا الإسلام في أول النهار ثم رجعوا عنه في آخره تشكيكاً للناس . قيل : إن في الكتابين ما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والبشارة به وفيهما ما يوهم خلاف ذلك فيكون كالمحكم والمتشابه في القرآن .

فلبسوا على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعل كثير من المشبهة . وهذا قول القاضي . وقيل : كانوا يقولون : إن محمداً صلى الله عليه وسلم معترف بأن شرع موسى حق ، ثم إن التوراة دلت على أنه لا ينسخ ، وكل ذلك إلقاء الشبهات . وأما كتمان الحق فهو أن الآيات الدالة في التوراة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان الاستدلال بها مفتقراً إلى التدبر والتأمل ، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي بمجموعها يتم الاستدلال كما يفعل المبتدعة في زماننا { وأنتم تعلمون } أنكم إنما تفعلون ذلك عناداً وحسداً ، أو تعلمون أنكم من أهل المعرفة ، أو تعلمون حقيتها ، أو أن عقاب من يفعل هذه الأفعال عظيم والله حسبي .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

القراآت : { آن يؤتى } بهمزتين وتليين الثانية : ابن كثير . الباقون بهمزة واحدة { يؤدهى ولا يؤدهى } ابن كثير ونافع غير قالون وابن عامر وعلي وخلف وحفص والمفضل وعباس وسهل وزيد عن يعقوب ، وقرأه أبو جعفر وقالون يعقوب غير زيد وأبو عمرو في رواية الزيدي طريق أبي أيوب الهاشمي بالاختلاس . الباقون ساكنة الهاء . { تعلمون } بالتشديد . عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر . فحذف المفعول الأول للعلم به وهو الناس . الباقون { تعلمون } بالتخفيف من العلم . { ولا يأمركم } بالرفع : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي والأعشى والبرجمي وأبو زيد غير المفضل ، وقرأ أبو عمرو بالاختلاس . الباقون بالنصب .
الوقوف : { يرجعون } ج للعطف { دينكم } ط { هدى الله } ( لا ) لأن التقدير ولا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أويتم إلا لمن تبع دينكم . وقوله : « قل » مع مقوله معترض . ومن قرأ { آن يؤتى } مستفهماً وقف عليها . { عند ربكم } ط { بيد الله } ج ط لأن { يؤتيه } لا يتعلق بما قبله مع أن ضمير فاعله عائد إلى الله . { من يشاء } ط { عليم } ه ط ج لاحتمال الاستئناف والصفة . { من يشاء } ط { العظيم } ه { إليك } الأولى ج لتضاد الجملتين معنى مع اتفاقهما لفظاً . { قائماً } ط { سبيل } ج لأن الواو للاستئناف مع اتساق معنى الكلام { يعلمون } ه { للمتقين } ه { يزكيهم } ص { أليم } ه { وما هو من الكتاب } ج لعطف المتفقتين مع وقوع العارض { وما هو عند الله } ج { يعلمون } ه { تدرسون } ه لا لمن قرأ { ويأمركم } بالنصب عطفاً على { أن يؤتيه } { أرباباً } ط { مسلمون } ه .
التفسير : هذا نوع آخر من تلبيساتهم . وقوله { بالذي أنزل } يحتمل أن يراد كل ما أنزل الله عليهم ، ويحتمل أن يراد بعض ما أنزل . أما الاحتمال الأول فقول الحسن والسدي تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد باللسان دون الاعتقاد { وجه النهار } أي أوله . والوجه في اللغة مستقبل كل شيء ومنه وجه الثوب لأول ما يبدو منه . روى ثعلب عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار . وأنشد الربيع بن زياد :
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار
وذلك أنه كان من عادتهم أن لا يظهروا الجزع على المقتول إلى أن يدركوا الثأر . فمعنى البيت من كان مسروراً فليرَ أثر تشفي الغيظ ودرك الثأر قبل أن يمضي على المقتول تمام يوم وليلة . واكفروا به آخر النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك ، فإن أصحابه متى شاهدوا هذا غلب على ظنونهم أن هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد وإلا لما آمنوا به في أول الأمر ، وإنما ذلك لأمر لأجل أنهم أهل كتاب وقد تفكروا في أمره وفي دلائل نبوته ، فلاح لهم بعد التأمل التام والبحث الشافي أنه كذاب فيكون في هذا الطريق تشكيك لضعفة المسلمين فربما يرجعون عن دينهم .

وقال أبو مسلم : معنى وجه النهار وآخره أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض : نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب ، فإن أمر هؤلاء في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم فيرجعوا إلى دينكم ، فتكون هذه الآية كقوله : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } [ البقرة : 14 ] . وقال الأصمْ : معناه تفريق أحكام الإسلام إلى قسمين ، وذلك أنه قال بعضهم لبعض : إن كذبتموه في جميع ما جاء به علم عوامكم كذبكم لأن كثيراً مما جاء به حق ، ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض ليحملوا كلامكم على الإنصاف فيقبلوا قولكم ويرجعوا عن دين الإسلام والرغبة فيه . وأما الاحتمال الثاني فقول من قال إنها نزلت في شأن القبلة ثم اختلفوا . فعن ابن عباس : وجه النهار أوله وهو صلاة الصبح ، وآخره صلاة الظهر . وتقريره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس ففرح اليهود بذلك ، فلما حوّله الله إلى الكعبة عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره : آمنوا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الصبح فهي الحق . وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود لمخالفتهم فقالوا : آمنوا بالذين أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها من أول النهار ، ثم اكفروا بالكعبة آخر النهار وارجعوا إلى قبلتكم الصخرة لعلهم يقولون : هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم منا فربما يرجعون إلى قبلتنا ، فحذر الله نبيه مكر هؤلاء وأطلعه على سرهم كيلا تؤثر الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين . ولأن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة لم يقدموا على أمثالها من الحيل ويصير ذلك وازعاً لهم . وفيه أيضاً أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزاً . ثم قال تعالى : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } اتفق المفسرون على أنه من بقية حكاية كلام أهل الكتاب . واتفقوا على أن قوله : { قل إن الهدى هدى الله } وكذا قوله : { قل إن الفضل بيد الله } إلى آخرها كلام الله إلا أنهم اختلفوا في أن قوله : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم } من جملة كلام الله ، أو من جملة كلام اليهود ، ومن تتمة قولهم : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } فهذان احتمالان ذهب إلى كل منهما طائفة من المحققين ، وكل منهما يحتاج في تصحيح المعنى إلى تقدير وإضمار ، فلهذا عدت الآية من المواضع المشكلة .

أما الاحتمال الأول فوجهه على قراءة ابن كثير ظاهر ، وكذا في قراءة من قرأ بهمزة واحدة ويقدر همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ وكذا لام الجر . وهذا الوجه يروى عن مجاهد وعيسى بن عمر . والمعنى ألأن أي من أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم تنكرون اتباعه؟ فحذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير . ويقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه وعد ذنوبه عليه وقد أحسن إليه : أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت أم من ذاك؟ ونظيره قوله : { أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } [ الزمر : 9 ] ومعنى قول حكاية عنهم { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } على هذا الوجه لا تصدقوا إلا نبياً يقرر شرائع التوراة ، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم . واللام زائدة مثل { ردف لكم } [ النمل : 72 ] فإنه يقال : صدقت فلاناً ولا يقال صدقت لفلان . فأمر الله نبيه أن يقول لهم في الجواب إن الدين دين الله ، فكل ما رضيه ديناً فهو الدين الذي يجب متابعته كقوله في جواب قولهم : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب } [ البقرة : 142 ] ثم وبخهم بالاستفهام المذكور . ويحتمل أن يكون المعنى : ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم ، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم ، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم . فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم { قل إن الهدى هدى الله } وقد جئتكم به فلن ينفعكم هذا الكيد الضعيف . ثم استفهم فقال : ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتم لا لشيء آخر؟ يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم؟ ثم قال : { أو يحاجوكم } يعني دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو لما يتصل بالإيتاء عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم لأن ما أوتوا مثل ما أوتيتم ، فحين لم تؤمنوا به ثبت لهم حجة عليكم . وأما إن لم تقدر همزة الاستفهام فالتقدير إما كما سبق . أو يقال : { الهدى } اسم « إن » و { هدى الله } بدل منه . والتقدير : قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . ويكون « أو » بمعنى « حتى » ويتم الكلام بمحذوف أي حتى يحاجوكم عند ربكم فيقضي لهم عليكم ويدحض حجتكم ، أو يقال : { أن يؤتى } مفعول فعل محذوف هو لا تنكروا لأنه لما كان الهدى هدى الله كان له أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار فصح أن يقال : لا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم من الهدى ما أوتيتموه أو يحاجوكم - يعني هؤلاء المسلمين - بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم .

أو يقال { الهدى } اسم للبيان و { هدى الله } بدل ويضمر لا بعد « إن » مثل { أن تضلوا } [ النساء : 176 ] أي لا تضلوا . والتقدير : قل يا محمد لأمتك إن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان ، وأن لا يحاجوكم - يعني هؤلاء اليهود - عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم مهتدون وأنهم ضالون . وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون قوله : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } من تتمة كلام اليهود ، وقوله : { قل إن الهدى هدى الله } جملة معترضة . فمعناه لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أو لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم . فحذف حرف الجر من « أن » على القياس . قال في الكشاف : أراد أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام . وقوله : { أو يحاجوكم } عطف على { أن يؤتى } والضمير في { يحاجوكم } ل { أحد } لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة . قال : ومعنى الاعتراض ، أن الهدى هدى الله ، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان ذلك ، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم أي ستركم تصديقكم عن المسلمين والمشركين . وكذلك قوله : { قل إن الفضل بيد الله } مؤكد للاعتراض الأول ، أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام كقوله : { وكذلك يفعلون } [ النمل : 34 ] بعد قوله : { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها } [ النمل : 34 ] فإن قيل : إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار؟ ربما يدل على صحة دين محمد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب . فالجواب : ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم ، بل المراد أنه ان اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم . على أنه يحتمل أن يكون شائعاً ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان من غيرهم . فإن قيل : كيف وقع قوله : { قل إن الهدى هدى الله } فيما بين جزأي كلام واحد؟ وهذا لا يليق بكلام الفصحاء؟ قلت : قال القفال : يحتمل أن يكون هذا كلاماً أمر الله نبيه أن يقوله عندما وصل الكلام إلى هذا الحد .

كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حق ، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة : آمنت بالله أو لا إله إلا الله ، أو تعالى الله ، ثم يعود إلى تلك الحكاية . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل بيد . واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين : أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام فأجاب بقوله : { قل إن الهدى هدى الله } . وذلك أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة عين ولا أثر . وثانيها أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ا أوتوا من الكتاب والحكمة والنبوة فأجاب عنه بقوله : { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة الزيادة ، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان . والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير . ومعنى قوله { بيد الله } أنه مالك له غالب عليه يوضحه قوله { يؤتيه من يشاء } . وفيه دليل على النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز { والله واسع } كامل القدرة { عليم } بالحكم والمصالح وبمواقع فضله فلهذا { يختص برحمته من يشاء } والحاصل أنه بين بقوله : { إن الفضل بيد الله } أنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاكم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ، فإن الزيادة من جنس المزيد عليه . ثم قال : { يختص برحمته من يشاء } والرحمة المضافة إليه تعالى أمر أجل من ذلك الفضل لأنه لا يكون من جنس ما آتاهم بل يكون أشرف وأعظم . { والله ذو الفضل العظيم } فمن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين كان جاهلاً بكمال الله تعالى في قدرته وحكمته . ثم إنه تعالى كذبهم في دعواهم الاختصاص بالمناصب العالية فإن فيهم الخيانة المستقبحة في جميع الأديان ونقص العهد والكذب على الله إلى غير ذلك من القبائح فقال : { ومن أهل الكتاب } الآية . فيها دلالة على انقسامهم إلى قسمين : أهل للأمانة وأهل للخيانة . فقيل : إن أهل الأمانة هم الذي أسلموا ، أما الذي بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من يخالفهم في الدين وأخذ أموالهم . وقيل : إن أصحاب الأمانة هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، وأهل الخيانة اليهود لكثرة ذلك فيهم .

وقال ابن عباس : { من إن تأمنه بقنطار يؤده } هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه و { من إن تأمنه بدينار لا يؤده } هو فنحاص بن عازورا استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه . وقال أهل الحقيقة : هي فيمن يؤتى كثيراً من الدنيا فيخرج عن عهدته بعدم الالتفات إليه وقطع النظر عنه ثقة بالله وتوكلاً عليه واكتفاء به ، وفيمن يمتحن بالدنيا فيكون همه مقصوراً عليها معرضاً عما سواها غير مؤد حقوقها . ويقال : أمنته بكذا وعلى كذا ، فمعنى الباء إلصاق الأمانة بحفظها وحياطتها ، ومعنى « على » استعلاؤها والاستيلاء عليها . والمراد بالقنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل فلا حاجة إلى تعيينه . وأما الأقوال فيه فقد مرت في أوائل السورة . وقد يستدل بما روينا عن ابن عباس أن القنطار ألف ومائتا أوقية . ويدخل تحت القنطار والدينار العين والدين ، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة ، وليس في الآية ما يدل على التعيين لكنه نقل عن ابن عباس أنه محمول على المبايعة فقال : منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ، ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك . ونقلنا عنه أيضا أنها نزلت في الوديعة . وأما قوله { إلا ما دامت عليه قائماً } فمنهم من حمله على حقيقته . قال السدي : يعني إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه مجتمعاً معه ملازماً إياه ، فإن أنظرت وأخرت أنكر . ومنهم من يحمله على الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة . قال ابن قتيبة : أصله أن الطالب للشيء يقوم به والتارك له يقعد عنه ومنه قوله تعالى : { أمة قائمة } [ آل عمران : 113 ] أي عاملة بأمر الله غير تاركة له . وقال أبو علي الفارسي : إنه في اللغة الدوام والثبات ومنه قوله : { ديناً قيماً } [ الأنعام : 161 ] أي ثابتاً لا ينسخ . فمعنى الآية إلا دائماً ثابتاً في مطالبتك إياه بذلك المال . { ذلك } الاستحلال وترك الأداء الذي دل عليه لا يؤده بسبب أنهم يقولون ليس علينا في ما أصبنا من أموال العرب سبيل بالخطاب والعتاب . إما لأنهم يبالغون في التعصب لدينهم حتى استحلوا قتل المخالف وأخذ ماله بأي طريق كان ، وإنا لأنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا ، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا في الإسلام أنه كفر فيحكمون على المسلمين بالردة فيستحلون دماءهم وأموالهم . روي أن اليهود عاملوا رجالاً في الجاهلية من قريش . فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا : ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فلا جرم قال تعالى : { ويقولون على الله الكذب } بادعائهم أن ذلك في كتابهم { وهم يعلمون } أنهم كاذبون ، وهذه غاية الجرأة والجهالة .

أو يعلمون حرمة الخيانة ، أو يعلمون ما على الخائن من الإثم . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها : « كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر » وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة . قال : فتقولون ماذا؟ قال : نقول ليس علينا في ذلك بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل . إنهم إذا أدوا الجزية لم يحل أكل أموالهم إلا بطيب أنفسهم ، { بلى } قال الزجاج : عندي وقف التمام ههنا لأنه لمجرد نفي ما قبله أي بلى عليهم سبيل في ذلك وما بعده استئناف ، وقال غيره : إنه يذكر في ابتداء كلام يقع جواباً عن المنفي قبله . فقولهم : { ليس علينا جناح } قائم مقام قوله : { نحن أحباء الله } تعالى فقيل لهم : إن أهل الوفاء بالعهد وأهل التقى هم الذين يحبهم الله . وعلى هذا فلا وقف على « بلى » . وفيه أن اليهود ليسوا من الوفاء والتقى في شيء ، ولو أنهم أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الذي أخذه الله تعالى في كتابهم من الإيمان بنبي آخر الزمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم . ولو أنهم اتقوا الله لم يكذبوا عليه ولم يحرفوا كتابه . وعموم لفظ المتقين قائم مقام الضمير العائد إلى المبتدأ والضمير في { بعهده } يجوز أن يرجع إلى { من } ويجوز أن يرجع إلى اسم الله كقوله في الآية التالية { بعهد الله } . واعلم أن الوفاء والتقى أصلان لجميع مكارم الأخلاق . فالوفاء بالعهد يشمل عهد الميثاق وعهد الله تعالى بالتزام التكاليف الخاصة والعامة ، والتقوى تتممها وتزينها حتى يأتي بها على وجه الكمال من غير شائبة الاختلال . فكل متقٍ موفٍ بالعهد ولا يلزم العكس ، فلهذا اقتصر على قوله : { يحب المتقين } دون أن يقول يحب الموفين أو الموفين والمتقين فافهم . ثم إنه سبحانه لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس - والخيانة فيها لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة غالباً - لا جرم أردفها بالوعيد عليها . وأيضاً الخيانة في العهود وفي تعظيم أسماء الله تناسب الخيانة في الأموال ، فلا جرم قال : { إن الذين يشترون } الآية . واختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود لأن الآيات السابقة فيهم وكذا اللاحقة ، ومنهم من خصها بغيرهم والروايات هذه . قال عكرمة : نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رؤوس اليهود . كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا أنه من عند الله كيلا يفوتهم الرشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم .

وقال الكلبي : إن ناساً من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة ، فسألهم كعب : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم؟ قالوا : نعم ، وما تعلمه أنت؟ قال : لا . قالوا : فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله . قال كعب : لقد حرمكم الله خيراً كثيراً . لقد قدمتم عليّ وأنا أريد أن أميركم وأكسوا عيالكم فحرمكم الله وحرم عيالكم . فقالوا : فإنه شبه لنا فرويداً حتى نلقاه . فانطلقوا وكتبوا صفة سوى صفته ثم انتهوا إلى رسول الله فكلموه وسألوه ثم رجعوا فقالوا : لقد كنا نرى أنه رسول الله فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا ، ووجدنا نعته مخالفاً للذي عندنا . وأخرجوا الذين كتبوا فنظر إليه كعب ففرح وأمارهم وأنفق عليهم فنزلت . وعن الأشعث بن قيس : « خاصمت رجلاً في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : شاهداك أو يمينه . فقلت : إذاً يحلف ولا يبالي . فقال صلى الله عليه وسلم : » من حلف عليّ يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان « » ونزلت الآية على وفقه . وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه . ومعنى يشترون يستبدلون ، وعهود الله مواثيقه ، واليمين هي التي يؤكد الإنسان بها خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إقرار بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته أو ما يجري مجراه . والثمن القليل متاع الدنيا من المال والجاه ونحوهما . ثم إنه تعالى رتب على الشراء بعهد الله وبأيمانهم ثمناً قليلاً خمسة أنواع من الجزاء فقوله : { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } إشارة إلى أنه لا نصيب لهم في منافعها ونعيمها . وقوله : { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم } إشارة إلى حرمانهم عما عند الله من الكرامات والقرب . وقوله : { ولهم عذاب أليم } إشارة إلى ما يحصل لهم هنالك من صنوف الآلام وضروب الأهوال . قال المحققون ومنهم القفال : المقصود من هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم لأن من منع كلامه في الدنيا غيره فإنما ذلك لسخطه عليه ، وقد يأمره بحجبه عنه ويقول : لا أكلمك ولا أرى وجهك . وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل . قال في الكشاف : لا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم . تقول : فلان لا ينظر إلى فلان تريد نفي اعتداده به . وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر . ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر .

قلت : لعله أراد بهذا المجاز الاستعارة كأنه شبه هذا النظر بذاك النظر ، ثم حذف المشبه وأداة التشبيه فبقي استعارة . وفي التفسير الكبير : لا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وهو تعالى منزه عن ذلك ، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف « إلى » ليس بمعنى الرؤية وإلا لزم من هذه الآية أن لا يكون الله رائياً وذلك باطل . قلت : يجوز أن يراد بهذا النظر النظر المعهود وهو الذي سيخص الله تعالى به أولياءه من أنه ينظر إليهم وينظرون إليه { وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ، 23 ] وعلى هذا جاز أن يكون النظر بمعن الرؤية لأنه لا يلزم من نفي رؤية يراه العباد أيضاً وقتئذٍ نفي رؤية لا يرونه حينئذٍ { وإن منهم لفريقاً } عن ابن عباس هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم { يلوون ألسنتهم بالكتاب } قال القفال : معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفوها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى . فإن الليَّ عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية . وإنما كانوا يفعلون مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي غيرها بحسب أغراضهم الفاسدة . وفي الكشاف : أي يقتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف . أقول : وذلك أن لي اللسان أشبه بالتشدق والتنطع والتكلف مذموم ، فعبر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بليّ اللسان ذماً لهم وتقريعاً ، ولم يعبر عنها بالقراءة ، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد { لتحسبوه } أي المحرف الذي دل عليه { يلوون } ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب { وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله } نفى أوّلاً كونه من الكتاب ، ثم عطف عليه النفي العام ليعلم أنه كما أنه ليس من الكتاب ليس بسنة ولا إجماع ولا قياس . فإن كل هذا يصدق عليه أنه من عند الله بمعنى كونه حكماً من أحكامه المستنبطة من الأصول . ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فقط وبقولهم : { هو من عند الله } أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء . وذلك أن القوم في نسبة ذلك المحرف إلى الله كانوا متحيرين خابطين . فإن وجدوا قوماً من الأغمار الجاهلين بالتوراة قالوا : إنه من التوراة . وإن وجدوا قوماً عقلاء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء .

واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة أو إعراب ألفاظها فالذين أقدموا على ذلك يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب ، وإن كان المعنى تشويش دلالة تلك الآيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات كما يفعله المبطلون في ملتنا إذا استدل المحقون بآية من كتاب الله تعالى لم يبعد إطباق الخلق الكثير والجم الغفير عليه . احتج الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق اليهود في قولهم هو من عند الله ، لكن الله كذبهم . والغلط فيه أن القوم ما ادعوا أن التحريف من عند الله وبخلقه ، وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله ، أو هو حكم من أحكامه فتوجه التكذيب تكذيب الله إياهم إلى هذا الذي زعموا لا إلى ما لم يزعموا ، فلم يبق لهما في الآية استدلال . ثم من جملة ما حرفه أهل الكتاب أن زعموا أن عيسى كان يدعي الإلهية ويأمر قومه بعبادته فلهذا قال عز من قائل : { ما كان لبشر } الآية . وقيل : إن أبا رافع القرضي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً؟ فقال : معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فنزلت . وقيل : « إن رجلاً قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله » وقيل : زعمت اليهود أن أحداً لا ينال من درجات الفضل ما نالوه فقال لهم الله : إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } كقوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } [ التوبة : 31 ] ومعنى قوله : { ما كان لبشر } قال الأصم : لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الله منه نظيره { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } [ الحاقة : 44 ، 45 ] { لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } [ الإسراء : 74 ، 75 ] وقيل : معناه أنه تعالى لا يشرف عبداً بالنبوة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل ذلك الكلام . وقيل : إن الرسول يدعي تبليغ الأحكام عن الله تعالى ويحتج على صدقه بالمعجزة . فلو أمرهم بعبادة نفسه بطل دلالة المعجزة على كونه صادقاً . والتحقيق أن الأنبياء موصوفون بصفات لا يحصل معها هذا الادعاء ، لأن النفس ما لم تكن كاملة بحسب قوتها النظرية والعملية لم تكن مستعدة لقبول نزول الكتاب السماوي عليه وللحكم وهو فهم ذلك الكتاب وبيانه .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32