كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

« عم الرجل صنو أبيه » أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة . وأيضاً أطلق اسم الأب على إبراهيم وهو جده فعن الشافعي أنه مجاز ولهذا قال : الإخوة والأخوات للأب والأم لا يسقطون بالجد ، وإليه ذهب مالك وأبو يوسف ومحمد وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد ، وقال أبو حنيفة : إنه حقيقة وإنهم يسقطون بالجد وهو قول أبي بكر وابن عباس وعائشة والحسن وطاوس وعطاء . ثم التعليمية قالوا : لا طريق لنا إلى معرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام لأنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل العقل عليه بل قالوا : نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباؤك يعبدونه ، فدل على أن طريق المعرفة هو التعليم . وأجيب بمنع دلالة الآية على ذلك بل لعل المعرفة حلت لهم بالاستدلال إلا أنهم اختصروا الكلام فتركوا شرح صفات الله وبيان ذلك ، وأيضاً إنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على مثل طريقتك من اليقين بالله والإخلاص له في عبادته . وأيضاً لعل مرادهم نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك كقوله { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] { إلهاً واحداً } بدل من { إله آبائك } مثل { بالناصية كاذبة } [ العلق : 15 ، 16 ] أو نصب على الاختصاص والمدح { ونحن له مسلمون } مذعنون أو مخلصون التوحيد ومحله النصب حالاً من فاعل { نعبد } أو من مفعوله لرجوع الضمير في { له } إليه ، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على { نعبد } أو جملة معترضة مؤكدة { تلك } إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون ، { خلت } مضت وانقرضت والغرض أنه لم يبق منهم أثر سوى ما عملوا ، ولهذا قيل { لها ما كسبت } أي ثوابه يريد أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه ، فإن أنتم فعلتم ذلك فزتم كما فازوا ، وإن أبيتم خسرتم أنتم دونهم { ولا تسئلون عما كانوا يعملون } لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا ينفعكم حسناتهم ، وفيه تكذيب لليهود حيث قالوا إنهم يعذبون أياماً معدودة لكفر آبائهم باتخاذ العجل . وفي الآية وعيد شديد للأبناء إذا لم يعملوا بعمل الآباء قال صلى الله عليه وسلم « يا صفية عمة محمد يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً » « من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه » ثم الآية تدل على أن للعبد كسباً ولكن الأئمة اختلفوا في تفسيره ، فالأشعري على أنه لا تأثير لقدرة العبد في مقدور أصلاً ، لأنه لو كان موحداً لأفعاله لكان عالماً بتفاصيل فعله وليس كذلك ، ولما وقع إلا ما أراده العبد وليس كذلك ، بل المقدور والقدرة كلاهما واقع بقدرة الله تعالى ، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب ، واعترض عليه بأن مقدور العبد إذا كان واقعاً بخلق الله تعالى ، فإذا خلقه فيه استحال من العبد أن لا يتصف حينئذ به ، وإذا لم يخلقه فيه استحال أن يتصف به ، فأي معنى لكون العبد قادراً عليه؟ وأيضاً الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعاً بقدرة الله فلا أثر للعبد فلا يكون مكتسباً له وإن وقع بالقدرتين معاً فلا تكون قدرة الله تعالى مستقلة ، والمفروض بالخلاف ، فبقي أن يكون بقدرة العبد ، وعن القاضي : أن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى ثم يحصل لذلك الفعل صفة طاعة أو صفة معصية ، فهذه الصفة تقع بقدرة العبد .

وضعف بأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز ، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فعين المنهي عنه قد خلقه الله فيه وهذا تكليف ما لا يطاق ، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب . وزعم الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني أن ذات الفعل تقع بالقدرتين ، وزيف بأن قدرة الله مستقلة بالتأثير . ومنهم من زعم أن القدرة الحادثة مع الداعي توجب الفعل ، فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود ، والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة والداعية القائمتان به ، وإلى هذا ذهب إمام الحرمين وهو مناسب لقول الفلاسفة . وزعم جمهور المعتزلة أن القدرة مع الداعي لا توجب الفعل بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما إن شاء فعل وإن شاء ترك وهذا هو الفعل والكسب . فهذا تقرير المذاهب ، وقول الأشعري أقرب إلى الأدب ، وقول إمام الحرمين أقرب إلى التحقيق لأن نسبة الأثر إلى المؤثر القريب لا تنافي كون ذلك المؤثر منسوباً إلى أثر آخر بعيد ، ثم إلى أبعد إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب وفاعل الكل ومبدأ المبادئ وإليك الاختيار بعقلك دون هواك .
التأويل : من قوله { وإذ ابتلى } البلاء للولاء كاللهب للذهب فأصدقهم ولاء أشدهم بلاء { وإذ ابتلى } الخليل بكلمات هي أحكام النبوة الخصال العشر في جسده ولوازم الرسالة الصبر عند صدمات المكروهات وفقدان المألوفات . وموجبات الخلة التبري عما سوى الخليل { إني بريء مما تشركون } [ الأنعام : 78 ] وعداوة غير الخليل { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } [ الشعراء : 77 ] ورفع الوسائط حيث قال له جبريل في الهواء هل لك من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا والتسليم أسلمت لرب العالمين ، والرضا بما أمر به عند ذبح الولد { فلما أسلما وتله للجبين } [ الصافات : 103 ] بخلاف ما قال نوح { إن ابني من أهلي } [ هود : 45 ] فلا جرم زيد له في الاصطفاء وشرف بكرامة الإمامة والاقتداء به

{ وإذ جعلنا البيت } [ البقرة : 125 ] بيت القلب كما جاء « أن الله تعالى أوحى إلى داود فرغ لي بيتاً أسكن فيه فقال : وكيف يا رب؟ فقال : فرغ لي قلبك » أي جعلنا القلب الإنساني مثابة للناس ترجعون إليه يا طلابي وزواري كما ترجعون إلى الكعبة في الصورة ، ومأمناً للسالك من تصرفات الشيطان ومكايده حين بلغ منزل القلب ، لأن القلب خزانة الحق محروسة من دخول الشيطان . وإنما جولان لص الشيطان في ميادين الصدور كقوله { يوسوس في صدور الناس } [ الناس : 5 ] { واتخذوا } [ البقرة : 125 ] عند الوصول إلى كعبة القلب { من مقام إبراهيم } [ البقرة : 125 ] وهو الخلة قبلة توجهكم ليكون قصدكم إلي لا إلى غيري كما قال إبراهيم { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } [ البقرة : 125 ] في الميثاق { أن طهرا } القلب من أدناس تعلقات الكونين وأوضار ملاحظة الأغيار { للطائفين } [ البقرة : 125 ] وهي واردات الأحوال { والعاكفين } [ البقرة : 125 ] وهي الملكات والمقامات { والركع السجود } [ البقرة : 125 ] وهي صفات القلب المطهرة من الإرادة والصدق والإخلاص والتواضع والخوف والرجاء والتسليم والرضا والتوكل . وجملة هذه الصفات العبودية { وإذ قال إبراهيم } [ البقرة : 126 ] الآية لما أهبط آدم الروح إلى الأرض الجسد وفقد ما كان يجد من روائح ألطاف الحق في جنة حظيرة القدس استوحش ، فأنزل الله تعالى ياقوتة القلب من جنة حظيرة القدس له بابان شرقي إلى حظيرة رب العالمين تطلع منها شوارق الألطاف ، وباب غربي إلى عالم الجسد وفيه قناديل العقل ، وأنزل حجر الذرة المخاطبة بخطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] منوراً بنور جواب { بلى } قد ألقم كتاب العهد يوم الميثاق وهو يمين الله في أرضه ، فلما كان طوفان آفات الصفات البشرية من الطفولية إلى البلوغ ، وفار تنور الشهوات رفع بيت معمور القلب إلى السماء الرابعة يعني حجب أستار خواص العناصر الأربع ، وخبئ حجر الذرة في أبي قبيس صفات النفس ، فلما أمر إبراهيم الروح بعد البلوغ ببناء بيت القلب وعمارته من خمس أجبل أركان الإسلام وقد اهتدى إلى موضع بيت القلب بدلالة بيت السكينة { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } [ الفتح : 4 ] فجعل إسماعيل النفس المطمئنة يجيء بأحجار أعمال الشريعة من جبال أركان الإسلام ويناولها إبراهيم الروح وهو يبني إلى أن بلغ موضع الحجر فنودي من أبي قبيس الهوى إن لك عندي وديعة فخذها . فخلص حجر الذرة من أستار صفات النفس والهوى فوضعه مكانه ، وكان أبيض فلما لمسته حيض اللذات الدنيوية ومشركو الشهوات النفسانية في جاهلية الطفولية اسودَّ ، فلما فرغا من رفع قواعد بيت القلب سألا ربهما الاستسلام لأحكامه الظاهرة الشرعية والباطنة التي جف القلم بها في الأزل ، وكذا لذريتهما المتولدات من الصفات الروحانية والنفسانية وأن يبعث فيهم رسولاً منهم لا من الخارج ، فمن لم يكن له في القلب رسول وارد من الحق وهو السر لم يسمع كلام الرسول لخارجي . ثم إن إبراهيم الروح يوصي لمتولداته من القلب وصفاته والسر وصفاته والنفس وصفاتها والقوى البشرية والحواس الخمس والأعضاء والجوارح كله ملته . وفي الآيات إشارة إلى أنه تعالى إذا تجلى لروح عبد مخلص متضرع إليه محب له ، ظهرت آثار أنوار تجليه على قلبه وسره ونفسه وقواه وحواسه وجميع أعضائه ويخضعون له بكليتهم فيعبدون إلهاً أحداً لا متفرقاً من الهوى والدنيا والآخرة والله ولي التوفيق .

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

القراآت : { أم تقولون } بتاء الخطاب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر والحماد والمفضل ، الباقون : بياء الغيبة .
الوقوف : { تهتدوا } ( ط ) { المشركين } ( 5 ) { ومن ربهم } ( ج ) لطول الكلام والاستئناف والأصح أنه حال أي آمنا غير مفرقين { منهم } ( ج ) لاحتمال الابتداء والحال أوجه { مسلمون } ( 5 ) { اهتدوا } ( ج ) لابتداء شرط آخر مع العطف { شقاق } ج للابتداء بسين الوعيد مع دخول الفاء { فسيكفيكهم الله } ( ج ) لاحتمال الواو الابتداء والحال { العليم } ( ط ) لأن الجملة الناصبة لقوله { صبغة الله } محذوفة يدل عليها قوله { آمنا بالله } وقوله { فإن آمنوا } شرط معترض { صبغة الله } ( ج ) لابتداء الاستفهام مع أن الواو للحال { صبغة } ( ج ) على جعل الواو للابتداء أو للحال أو للعطف على آمنا { عابدون } ( 5 ) { وربكم } ( ج ) لأن الواو يصلح أن يكون عطفاً على الحال الأولى ويصلح أن يكون مستأنفاً { أعمالكم } ( ج ) { مخلصون } ( ط ) لمن قرأ { أم يقولون } بياء الغيبة ، ومن قرأ بالتاء لم يقف لكون « أم » معادلة للهمزة في { أتحاجوننا } { أو نصارى } ( ط ) { أم الله } ( ط ) { من الله } ( ط ) { تعملون } ( 5 ) { فدخلت } ( ج ) { ما كسبتم } ( ج ) { يعملون } .
التفسير : إنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة صحة دين الإسلام ، ذكر أنواعاً من شبه الطاعنين منها : أن اليهود قالوا { كونوا هوداً } تهتدوا ، والنصارى قالوا كذلك ، لما علم من التعادي بين الفريقين كما بين كل منهما وبين المسلمين وقد مر مثل هذا في قوله تعالى { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] فأجابهم الله بقوله { قل بل ملة إبراهيم } أي نكون أهل ملته مثل { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] أي أهلها ، أو بل نتبع ملة إبراهيم وقرئ بالرفع أي ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن أهل ملته ، وحنيفاً حال من المضاف إليه كقولك « رأيت وجه هند قائمة » وذلك أن المضاف إليه متضمن للحرف فيقتضي متعلقاً هو الفعل أو شبهه ، وحينئذ يشتمل على فاعل ومفعول . فالحال عن المضاف إليه ترجع في التحقيق إلى الحال عن أحدهما وعند الكوفيين نصب على القطع أراد ملة إبراهيم الحنيف ، فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منها فانتصب ، والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق ، وتحنف إذا مال وحاصل الجواب أن المعّول في الدين إن كان النظر والاستدلال فقد قدمنا الدلائل ، وإن كان التقليد فالمتفق أولى من المختلف . وقد اتفق الكل على صحة دين إبراهيم فاتباعه أولى وهذا جواب إلزامي ، ثم لما كان من المحتمل أن يزعم اليهود والنصارى أنهم على دين إبراهيم أزيحت علتهم بقوله { وما كان من المشركين } لكون النصارى قائلين بالتثليث واليهود بالتشبيه ، وأيضاً قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، فليسوا من ملة إبراهيم التي هي محض التوحيد وخالص الإسلام في شيء { قولوا } خطاب للمؤمنين ، ويجوز أن يكون للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل ، وكذلك قوله { بل ملة إبراهيم } يجوز أن يكون أمراً لهم أي اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته ، وهذا جواب آخر برهاني ، وذلك أن طريق معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجز على أيديهم ، ولما ظهر المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم وجب الاعتراف بنبوته والإيمان به وبما أنزل عليه كما اعترفوا بنبوة إبراهيم وموسى وعيسى ، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وعن الحسن أن قوله { قل بل ملة إبراهيم } خطاب للنبي وقوله { قولوا } خطاب لأمته والظاهر العموم وإنما قدم الإيمان بالله لأن معرفة النبي والكتاب متوقفة على معرفته وفيه إبطال ما ذهب إليه التعليمية والمقلدة من أن طريق معرفة الله الكتاب والسنة ، قال الخليل : الأسباط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب .

وقيل : السبط الحافد ، وكان الحسن والحسين سبطي النبي صلى الله عليه وسلم فهم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر ، عدّد بعض الأنبياء لتقدمهم وشرفهم ثم عمم لتعذر التفصيل . { لا نفرق بين أحد منهم } لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كأهل الكتاب . ومعنى الإيمان بجميعهم أن كلا منهم حق في زمانه أولا نقول إنهم متفرقون في أصول الديانة { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } [ الشورى : 13 ] وأحد في معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه { ونحن له مسلمون } إذعاناً وإخلاصاً فلا جرم لا نخص بالقبول بعض عبيده المؤيدين بالمعجزات خلاف من كان إسلامه تقليداً أو هوى . ولما بين الطريق الواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة كل من قامت الدلالة على نبوته من غير مناقضة ، رغبهم في مثل هذا الإيمان ، وههنا سؤال وهو أن دين الإسلام وهو الحق واحد فما معنى المثل في قوله { بمثل ما آمنتم به } ؟ والجواب أن قوله { فإن آمنوا } بكلمة الشك دليل على أن الأمر مبني على الفرض ، والتقدير أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ومساوياً له في الصحة والسداد { فقد اهتدوا } لكن لا دين صحيحاً سوى هذا لسلامته عن التناقض بخلاف غيره فلا اهتداء إلا بهذا ، ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه « هذا هو الرأي الصواب فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به » وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه وقيل : الباء للاستعانة لا للإلصاق والتمثيل بين التصديقين أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم . وقيل : المثل صلة ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود { فإن آمنوا بما آمنتم به } وقيل : معناه إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف ، فإن آمنوا هم بمثل ذلك في التوراة فقد اهتدوا لأنهم يتوسلون به إلى معرفة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

وفي الآية دليل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وهي الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عن وجوهها ، والاهتداء قبولها والعمل بها ليفوزوا بالسعادة العظمى . وإن تولوا عما قيل لهم ولم ينصفوا فما هم إلا في شقاق خلاف وعداوة وهو مأخوذ من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه ، أو من الشق لأنه فارق الجماعة وشق عصاهم ، أو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه ، وفي وصف القوم بذلك دليل على معاداتهم الرسول وإضمارهم له كل سوء وتربصهم به الإيقاع في المحن ، فلا جرم آمنه الله تعالى والمؤمنين من كيدهم وقال { فسيكفيكهم الله } وناهيك به من كاف كافل . ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين وذلك أن فيها معنى التوكيد لوقوعها في مقابلة « لن » قال سيبويه : لن أفعل نفى سأفعل ، ولقد أنجز وعده عما قريب بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية عليهم ، وهذا إخبار بالغيب وكم من مثله في القرآن وكل ذلك مما يتأكد به إعجاز التنزيل العزيز وحصوله بطريق الوحي الصراح { وهو السميع العليم } وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي يسمع دعاءك ويعلم نيتك في أعلاء كلمة الحق وإعلانها فهو يستجيب لك لا محالة ، ووعيد لأعدائه أي هو منهم بمرأى ومسمع يعلم ما يسرون من الحسد والحقد والغل فيكافئهم على ذلك { صبغة الله } مصدر مؤكد منتصب عن قوله { آمنا بالله } مثل وعد الله قاله سيبويه وقيل : بدل من { ملة إبراهيم } أو نصب على الإغراء أي عليكم صبغة الله ، وفيما فك لنظم الكلام وإخراج له عن الالتئام . والصبغة فعلة من صبغ للحالة التي يقع عليها الصبغ كالجلسة . والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفس . وأصله أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه بالمعمودية ويقولون هو تطهير لهم وبه يصير الواحد منهم نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون أن يقولوا لهم آمنا وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم ، وذلك على طريق المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار اغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً يصطنع الكرام ، ونظيره قوله { إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم } [ البقرة : 15 ] وقيل : اللفظة من قولهم « فلان يصبغ فلاناً في الشر » أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثوب . وقيل : سمي الدين صبغة لظهور هيئته عند صاحبه . { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار « وقيل : وصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله ليبين أن المباينة بينه وبين غيره ظاهرة جلية يدركها كل ذي حس سليم كما يدرك الألوان .

وقيل : صبغة الله فطرته . أقول : وذلك أن آثار النقص الإمكاني لازمة للإنسان لزوم الصبغ للثوب ، فيمكنه أن يتدرج منها إلى وجود الصانع والإيمان به . وقيل : صبغة الله الختان . وقيل : حجة الله . وقيل : سنة الله .
{ ومن أحسن من الله صبغة } معنى الاستفهام الإنكار وصبغة تمييز أي لا صبغة أحسن من الإيمان بالله والدين الذي شرع لكم ليطهركم به من أوضار الكفر وأوزار الشرك . { ونحن له عابدون } عبارة عن كمال الإيمان كما تقدم مراراً . { قل أتحاجوننا } أما المحاجة فهي إما قولهم نحن أحق بأن تكون النبوة فينا لأنا أهل الكتاب والعرب عبدة أوثان ، وإما قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] وقولهم { كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } وأما الخطاب فإما لأهل الكتاب وإما لمشركي العرب حيث قالوا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] وإما للكل والمعنى ، أتجادلون في شأن الله أو في دينه وهو ربنا وربكم وللرب أن يفعل بمربوبه ما يعلم فيه مصلحته ويعرفه أهلاً له ، عبيده كلهم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } فكما أن لكم أعمالاً ترجون نيل الكرامة بها فنحن كذلك ، فالعمل هو الأساس وبه الاعتبار ولكن { نحن له مخلصون } موحدون لا نقصد بالعبادة أحداً سواه ، فلا يبعد أن يؤهل أهل إخلاصه بمزيد الكرامة من عنده . { أم تقولون } من قرأ بتاء الخطاب احتمل أن تكون « أم » منقطعة بمعنى استئناف استفهام آخر أي بل أتقولون والهمزة للإنكار كما في { أتحاجوننا } واحتمل أن تكون متصلة بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء إنكاراً عليهم واستجهالاً لهم بما كان منهم . وعن الزجاج : بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا ، أبالتوحيد فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون؟ ومن قرأ بياء الغيبة فلا تكون إلا منقطعة لانقطاع الاستفهام الأول بسبب الالتفات . { قل أأنتم أعلم أم الله } بل الله أعلم وخبره أصدق ، وقد أخبر في التوراة والإنجيل والقرآن بأن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وكيف لا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ ولأنهم مقرون بأن الله أعلم ، وقد أخبر بنقيض ما ادعوه فإن قالوا ذلك عن ظن فقد بان لهم خطؤه ، وإن قالوا ذلك عن جحود وعناد فما أجهلهم وأشقاهم ، فإذن فائدة الكلام إما التنبيه وإما التجهيل . { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } قوله { من الله } إما أن يتعلق بأظلم والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه هوداً أو نصارى ، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لأن الظلم من الأعدل أشنع ، وإما أن يتعلق بكتم أي لا أحد أظلم ممن عنده شهادة ، ثم إنه لم يقمها عند الله وكتمها وأخفاها منه وأما أن يتعلق بشهادة كقولك « عندي شهادة من فلان » ومثله { براءة من الله ورسوله } والمعنى ليس أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده جاءته من الله ، وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لم يكتموا ما عندهم من الحق وشهدوا لإبراهيم بالحنيفية ، وتعريض بأن أهل الكتاب قد كتموا شهادات الله فأنكروا نبوة محمد وحنيفية إبراهيم وغير ذلك من تحريفاتهم .

{ وما الله بغافل عما تعملون } كلام جامع لكل وعيد لهم ولأضرابهم ، ولو أن أحداً كان عليه رقيب من قبل ملك مجازي لكان دائم الحذر والوجل ، فكيف بالرقيب القريب الذي يعلم أسراره ويعد عليه أنفاسه وأفكاره ثم هو يقدر على أن يدخله جنته أو ناره؟ { تلك أمة } إشارة إلى إبراهيم وبنيه . كما مر ، وإنما أعيدت الآية ههنا لغرض آخر وهو زجرهم عن الاشتغال بوصف ما عليه الأمم السالفة من الدين فإن أديانهم لا تنفع إلا إياهم لاندراس آثارها وانطماس أنوارها ، وأما الآن فالدين هو الإسلام الثابت بالدليل القاطع والبرهان البين فيجب اتباع المعلوم واقتفاؤه وإلقاء المظنون وإلغاؤه ، ولا يسأل المتأخر عن المتقدم ولا المحسن عن المسيء وكل بعمله مجزي .

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

القراآت : { من يشاء إلى } بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . الباقون { يشاء ولى } بقلب الثانية واواً . وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة { يشاو إلى } بقلب الأولى واواً { لرؤف } مهموزاً مشبعاً : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل والبرجمي . وقرأ يزيد بتليين الهمزة والإشباع . الباقون : { لرؤف } على وزن « الرعف » { . . يعملون ولئن } بياء الغيبة : ابن كثير ونافع وخلف وعاصم وأبو عمرو ويعقوب ، الباقون : بالتاء { مولاها } بالألف : ابن عامر والباقون : بالباء وكسر اللام { يعملون ومن حيث } بياء المغايبة : أبو عمرو . الباقون : بالتاء { ليلاً } مدغمة غير مهموزة عن ورش ، وعن ابن كثير وحمزة وعلي وخلفٍ ويعقوب مدغماً مهموزاً . الباقون : مظهراً مهموزاً ، والاختيار عن يعقوب وهشام الإظهار . { فاذكروني } بفتح الياء : ابن كثير .
الوقوف : { عليها } ط { المغرب } ط { مستقيم } 5 { شهيداً } ط { عقبيه } ط { هدى الله } ط { ايمانكم } ط { رحيم } 5 { في السماء } ج لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد دخل الثانية حرفا توكيد يختصان بالقسم والقسم مصدّر { ترضيها } ص لأن فاء التعقيب لتعجيل الموعود { الحرام } ط { شطره } ط { من ربهم } ط { تعملون } 5 { قبلتك } ج { قبلتهم } ج وكلاهما لتفصيل الأحوال مع اتحاد المقصود { قبلة بعض } ط { من العلم } لا لأن « ان » جواب معنى القسم في « لئن » ، فلو فصل كان { من الظالمين } مطلقاً وفي الاطلاق حظر { الظالمين } 5 م لأنه لو وصل صار « الذين » صفة وهو مبتدأ في مدح عبد الله ابن سلام وأضرابه { أبناءهم } ط { يعملون } 5 { الممترين } 5 { الخيرات } ط { جميعاً } ط { قدير } 5 { الحرام } ( ط ) { من ربك } ط { تعملون } 5 { الحرام } ط لأن « حيث » متضمن الشرط { شطره } لا لتعلق لام في { حجة } ط قبل تحرزاً عن إثبات الحجة بعد النفي والوصل 5 في العربية أوضح ، ولا منافاة لأن المراد من الحجة الخصومة وبيان الحق لا ينافي الخصومة { تهتدون } إذا علق { كما أرسلنا } بما قبله ووقف على { تعلمون } وإن علق بما بعده وقف على { تهتدون } دون { تعلمون } { تعلمون } 5 { ولا تكفرون } 5 .
التفسير : هذه شبهة ثانية من أهل الكتاب طعناً في الإسلام . قالوا : النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل لأن الأمر إن كان خالياً عن القيد كفى فعله مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعده على خلافه ناسخاً مقيداً . وإن كان مقيداً بالدوام فكذلك ، وإن كان مقيداً بالدوام فإن كان الآمر يعتقد دوامه ثم رفعه كان جهلاً وبداء ، وإن كان عالماً بلا دوامه كان تجهيلاً ، وكل هذه من الحكيم قبيح . ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، وهو أنّا إذا جوزنا النسخ عند اختلاف المصالح فههنا لا مصلحة فإن الجهات متساوية وهذا دليل على أن هذا التغيير ليس من عند الله .

قال القفال : لفظ { سيقول } وإن كان للاستقبال لكنه قد يستعمل في الماضي كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول : أنا أعلم أنهم سيطعنون فيّ . كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فسيذكرونه مرات أخرى ، ويؤيد ذلك ما ورد من الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية . والمشهور أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه ، وفيه فوائد منها : أنه إخبار بالغيب فيكون معجزاً . ومنها أن مفاجأة المكروه أشد مما إذا وطن النفس له . ومنها أن الجواب العتيد أقطع للخصم وقبل الرمي يراش السهم ، والسفهاء الخفاف الأحلام وإذا كان من لا يميز بين ما له وعليه في أمر دنياه يعدّ سفيهاً شرعاً ، فالذي يضيع أمر آخرته أولى بهذا الاسم . عن ابن عباس ومجاهد : هم اليهود ، ذلك أنهم كانوا يأنسون بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم في القبلة ، فلمّا تحول استوحشوا لا سيما وأنهم لا يرون النسخ . وعن البراء بن عازب والحسن الأصم : أنهم مشركو العرب قالوا : أبى إلاّ الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه أولاً كان أولى به . وقيل : هم المنافقون ذكروا ذلك استهزاء من حيث إن تميز بعض الجهات عن بعض ليس له دليل معقول فحملوا الأمر على العبث والعمل بالرأي والتشهي والأقرب أن يكون الكل داخلاً فيه ، لأن الأعداء جبلت على الغيظ وطلب التشفي ، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً { ما ولاهم } ما صرفهم استفهموا على جهة التعجب والاستهزاء { عن قبلتهم التي كانوا عليها } القبلة بيت المقدس ، وضمير الجمع للرسول والمؤمنين هذا هو المجمع عليه عند المفسرين ، ولولا الإجماع لاحتمل أن يعود الضمير في « كانوا » إلى « السفهاء » أي ما الذي صرف الرسول والمؤمنين عن القبلة التي كان السفهاء عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلاّ قبلة اليهود وهي إلى المغرب وقبلة النصارى وهي إلى المشرق؟ فكأنهم قالوا : كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين؟ فاجابهم الله عن شبهتهم بقوله { قل لله المشرق والمغرب } أي بلادهما ، والأرض كلها والجهات بأسرها ملكاً وملكاً ، ثم أكد ذلك بقوله { يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ } وهو القبلة التي اقتضت الحكمة في هذا الزمان توجيه الناس إليها ويحتمل أن يراد به الطريقة المؤدية إلى سعادة الدارين فيشتمل القبلة وغيرها . وحاصل الجواب بعد ما مر في آية النسخ أنه تعالى فاعل لما يشاء كما يشاء ، لا اعتراض لأحد عليه كما لا اعتراض على من يتصرف في ملكه كما يريد ، وأفعاله تعالى لا تعلل بغرض وإن كانت لا تخلو عن فائدة وحكمة كما سبق ، وكثير منها مما لا يهتدي عقول البشر إلى تفاصيل حكمها لكنهم قد يستنبطون بحسب أفهامهم لبعضها وجوهاً مناسبة ، أما تعيين القبلة في الصلاة فالحكمة فيه أن للإنسان قوة عقلية يدرك المجردات والمعقولات بها وقوة خيالية يتصرف بها في عالم الأجسام ، وقلما تنفك العقلية عن الخيالية وإعانتها كالمهندس يضع في إدراك أحكام المقادير صورة معيّنة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين له على إدراك تلك الأحكام الكلية ، وكالذي يريد أن يثني على ملك مجازي فإنه يستقبله بوجهه ثم يشتغل بالثناء والخدمة .

فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك ، والقراءة تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود جاريان مجرى الخدمة . وأيضاً الخشوع في الصلاة لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات ، ولا يتأتى ذلك إلاّ إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين . وإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام فاستقباله أولى . وأيضاً إنه تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد من عليهم بذلك { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم ينعمته إخواناً } [ آل عمران : 103 ] . وتوجه كل مصلٍ إلى أي جهة تتفق مظنة الاختلاف فلم يكن بد من تعيين جهة ليحصل الاتفاق . وأيضاً كأنه تعالى يقول : يا مؤمن أنت عبد ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، وقلبك عرشي ، والجنة دار كرامتي ، فاستقبل بوجهك إلى بيتي وبقلبك إليّ ، أبوئك دار كرامتي . وأيضاً اليهود استقبلوا مغرب الأنوار { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } [ القصص : 44 ] . والنصارى استقبلوا مطلع الأنوار { إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } [ مريم : 16 ] فالمؤمنون استقبلوا مظهر الأنوار وهو مكة ، فمنها محمد ومنه خلق الأنوار ولأجله دال الفلك الدوّار . وأيضاً المغرب قبلة موسى ، والمشرق قبلة عيسى ، وبينهما قبلة إبراهيم ومحمد ، وخير الأمور أوسطها؛ وأيضاً الكعبة سرة الأرض ووسطها ، وأمة محمد وسط { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } . والوسط بالوسط أولى { الطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] . وأيضاً العرش قبلة الحملة ، والكرسي قبلة البررة ، والبيت المعمور قبلة السفرة ، والكعبة قبلة المؤمنين ، والحق قبلة المتحيرين { فأينما تولوا فثم وجه الله } والعرش مخلوق من النور ، والكرسي من الدر ، والبيت المعمور من الياقوت ، والكعبة من جبال خمسة : سينا وزيتا وجوديّ ولبنان وحراء . كأنه قال : إن كان عليك مثل هذه الجبال ذنوباً فأتيت الكعبة حاجاً أو معتمراً أو توجهت مصلياً الصلوات الخمس غفرتها لك . وأيضاً لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في توجهها أشد وأيضاً اليهود كانوا يعيرون المسلمين بأنا قد أرشدناكم إلى القبلة وينكسر بذلك قلوب المسلمين . فأزيل تشويشهم ، وأيضاً الكعبة منشأ محمد ، فتعظيمها يقتضي تعظيمه ، وتعظيمه مما يعين على قبول أوامره ونواهيه ، فبمقدار حشمة المرء يكون قبول قوله . فهذه هي الوجوه المناسبة ، والوجه الأقوى هو الذي ذكره الله تعالى في قوله { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } وقوله { وكذلك جعلناكم } الكاف للتشبيه ، وفي اسم الإشارة وجوه .

فقيل : راجع إلى معنى يهدي أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم ، أو كما هديناكم إلى أوسط البقلة جعلناكم أمة وسطاً . وقيل : عائد إلى قوله { ولقد اصطفينا } [ البقرة : 130 ] . أي كما اصطفينا إبراهيم في الدنيا جعلناكم . وقيل : ينصرف إلى قوله { ولله المشرق والمغرب } أي كما خصصنا بعض الجهات المتساوية بمزيد التشريف والتكريم حتى صارت قبلةً فضلاً منا وإحساناً ، جعلناكم مختصين بالعدالة براً منا وامتناناً مع تساوي الخلق في العبودية . وقيل : قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً مثل { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من يشاء وإذلال من يشاء ، فالمعنى ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد غيري جعلناكم أمةً وسطاً . الجوهري : يقال جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف ، وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم ، وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط ، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك . قال : والوسط من كل شيء أعدله ، وشيء وسط أي بين الجيد والرديء ، وأمةً وسطاً أي عدولاً قال زهير :
همو وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وذلك أن العدل متوسط في الأخلاق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ولهذا ذكره الله تعالى في معرض المدح والامتنان . وقيل : الوسط الخيار لأنه يستعمل في الجمادات . قال في الكشاف : اكتريت بمكة جمل أعرابي فقال : أعطني من سطاتهن - أراد من خيار الدنانير - ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وإنما أطلق الوسط على الخيار لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والعيب ، والأوساط محمية محوطة . وقيل : المراد بالوسط ههنا أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط والغالي والمقصر في شأن الأنبياء لا كالنصارى حيث جعلوا النبي صلّى الله عليه وسلم ابناً وإلهاً ، ولا كاليهود حيث قتلوا الأنبياء وبدلوا الكتب ، ولأن الوسط في الأصل اسم وصف به استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث { لتكونوا شهداء على الناس } الأكثرون على أن هذه الشهادة في الآخرة إما بأن يكونوا شهداء للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم . روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء يوم القيامة فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا - وهو أعلم - فيؤتى بأمة محمد فيشهدون فيقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق . فيؤتى بمحمد فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى { فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }

[ النساء : 41 ] قلت : والحكمة في ذلك تمييز أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الفضل عن سائر الأمم حيث يبادرون إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق ، ولذلك تقبل شهادتهم على الأمم ، ولا تقبل شهادة الأمم عليهم . وإنما سمي هذا الإخبار شهادة لقوله صلى الله عليه وسلم « إذا علمت مثل الشمس فاشهد » والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه معلوم مثل الشمس فتصح الشهادة عليه ، وإما بأنْ يشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها . قال ابن زيد : الأشهاد أربعة : الملائكة الحفظة { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } [ ق : 21 ] والنبيون { ويكون الرسول عليكم شهيد } وأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة { لتكونوا شهداء على الناس } { ويوم يقوم الأشهاد } [ غافر : 51 ] والجوارح { يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم وأرجلهم } [ النور : 24 ] . وقيل : إن هذه الشهادة في الدنيا ، وذلك أن الشاهد في عرف الشرع من يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ، فكل من عرف حال شخص فله أن يشهد عليه فإن الشهادة خبر قاطع ، وشهادة الأمة لا يجوز أن تكون موقوفة على الآخرة لأن عدالتهم في الدنيا ثابتة بدليل { جعلناكم } بلفظ الماضي ، فلا أقل من حصولها في الحال . ثم رتب كونهم شهداء على عدالتهم ، فيجب أن يكونوا شهداء في الدنيا . وإن قيل : لعل التحمل في الدنيا ولكن الأداء في الآخرة . قلنا : المراد في الآية الأداء لأن العدالة إنما تعتبر في الأداء لا في التحمل ، ومن هنا يعلم أن إجماعهم حجة لا بمعنى أن كل واحدٍ منهم محق في نفسه ، بل بمعنى أن هيئتهم الاجتماعية تقتضي كونهم محقين ، وهذا من خواص هذه الأمة ، ثم لا يبعد أن يحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا بينوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد علىلعقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم ، أو يكون المعنى لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلاّ بشهادة العدول الأخيار ، ويكون الرسول عليكم شهيداً يزكيكم ويعلم بعدالتكم . وإنما قدمت صلة الشهادة في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم فقط ، فبقيت صلة الشهادة في مركزها . والغرض في الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم فأزيلت عن مركزها ليفيد الاختصاص . وإنما لم يقل لكم شهيداً مع أن شهادته لهم لا عليهم ، لأنه ضمن معنى الرقيب مثل { والله على كل شيءٍ شهيد } [ المجادلة : 6 ] مع رعاية الطباق للأول . وإنما قيل « شهداء على الناس في الدنيا » لأن قولهم يقتضي التكليف إما بفعل أو بقول وذلك عليهم لا لهم في الحال .

قيل : الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحدٍ منهم بها وليس كذلك ، فلا بد من حملها على البعض . فنحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمناه لكن الخطاب في { جعلناكم } للموجودين عند نزول الآية لأن خطاب من لم يوجد محال . فالآية تدل على أن إجماع أولئك حق لكنا لا نعلم بقاء جميعهم بأعيانهم إلى ما بعد وفاة الرسول فلا تثبت صحة الإجماع وقتئذ . سلمنا ذلك لكن المراد بالعدالة اجتناب الكبائر فقط ، فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقْدح ذلك في خيريتهم وعدالتهم . وأجيب بأن حال الشخص في نفسه غير حاله بالقياس إلى غيره ، فلم يجوز أن يكون الشخص غير مقبول القول عند الانفراد ويكون مقبولاً عند الاجتماع؟ والخطاب لجميع الأمة من حين نزول الآية إلى قيام الساعة كما في سائر التكاليف مثل { كتب عليكم الصيام كما } [ البقرة : 183 ] { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] فللموجودين بالذات وللباقين بالتبعية ، لكنا لو اعتبرنا أوّل الأمة وآخرها بأسرها لزالت فائدة الآية إذا لم يبق بعد انقضائها من تكون الآية حجة عليه ، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر . ثم إن الله تعالى منّ على هذه الأمة بأن جعلهم خياراً أو عدولاً عند الاجتماع ، فلو أمكن اجتماعهم على الخطأ لم يبق بينهم وبين سائر الأمم فرق في ذلك فلا منة . { وما جعلنا } يريد الجعل بمعنى الشرع والحكم . { التي } صفة موصوف محذوف هو ثاني مفعولي « جعل » أي وما جعلنا القبلة أي الجهة التي كنت عليها أي كنت معتقداً لاستقبالها كقولك « الشافعي على كذا » ثم ههنا وجهان : أحدهما أن هذا الكلام بيان للحكمة في جعل الكعبة قبلة وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تألفاً لليهود وامتحاناً للذلن اتّبعوه بمكة ، ثم حول إلى الكعبة اختباراً ثانياً أي ما رددناك إلى الجهة التي كنت عليها أولاً إلا امتحاناً للناس وابتلاء وثانيهما أنه بيان للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة ، يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لفائدة هي أن نمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه . واللام في { لنعلم } ليست لأجل الغرض وإنما هي لتقرير الحكمة والفائدة التي يستتبعها الجعل . فإن قيل : كيف؟ قال { لنعلم } ولم يزل عالماً بذلك؟ فالجواب أن معناه ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين كما يقول الملك : فتحنا البلد . وإنما فتحه جنده أو لنعلمه موجوداً حاصلاً وهو العلم الذي يتعلق به الجزاء . ولا يلزم منه أن يحدث لله علم فإن العلم الأزلي بالحادث الفلاني في الوقت الفلاني غير متغير ، وإنما هو قبل حدوث الحادث كهو حال حدوثه .

وإنما جاء المضي والاستقبال من ضرورة كون الحادث زمانياً وكون كل زمان مكنوفاً بزمانين : سابق ولاحق . فإذا نسبت العلم الأزلي إلى الزمان السابق قلت « سيعلم الله » وإذا نسبت إلى زمانه قلت « يعلم » وإذا نسبت إلى الزمان اللاحق قلت « قد علم » فجميع هذه التغيرات انبعثت من اعتباراتك ، وعلم الله واحد فافهم . أو لنميز التابع من الناكص كقوله { ليميز الله الخبيث من الطيب } [ الأنفال : 37 ] فسمي التمييز علماً لأنه أحد فوائد العلم وثمراته ، أو لنرى كما تستعمل الرؤية مكان العلم . وعن الفراء : أن حدوث العلم في الآية راجع إلى المخاطبين ومثاله : أن جاهلاً وعاقلاً اجتمعا فيقول الجاهل : الحطب يحرق النار . ويقول العاقل : بل النار تحرق الحطب ، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه ، معناه لنعلم أينا الجاهل . وهذا من كلام المصنف مثل { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] وقوله { ممن ينقلب على عقبيه } استعارة للكفر والارتداد كأنه يرجع إلى حيث أتى ثم إن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة . أو بسبب تحويلها من الناس ، من قال بالأول لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى الكعبة ، فلما جاء إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ، ثم لما تحول إلى الكعبة شق ذلك على اليهود . والأكثرون على الثاني لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم منها في تعيين القبلة ، عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا ، ولو كان على يقين من أمر تغير رأيه . وعن السدي : لما توجه إلى الكعبة اختلفوا ، قال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟ وقال المسلمون : ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وقد صلوا نحو البيت المقدس . وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده . وقال المشركون : تحير في دينه . { وإن كانت لكبيرة } هي « إن » المخففة التي يلزمها اللام الفارقة بينها وبين « إن » النافية ، وتتهيأ بالتخفيف للدخول على الأفعال . لكن البصريين أوجبوا كون الفعل الذي دخلت هي عليه من باب « كان » أو « علم » ويبطل عمل « إن » في الظاهر ، وكذا في التقدير ، فلا يقدر ضمير الشأنّ كما يقدر في « أن » المفتوحة إذا خففت ، فقوله { لكبيرة } خبر « كانت » واسمها الضمير العائد إلى القبلة لأنها هي المذكورة ، أو إلى ما دل عليه الكلام السابق من التولية في { ما ولاهم } أو الجعلة ، أو الردة ، أو التحويلة في { وما جعلنا } ومعنى لكبيرة لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } وذلك أن الامتحان إن وقع بنفس القبلة فالفطام عن المألوف شديد والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف عسير ، وإن وقع بالتحويل فهو مبني على جواز النسخ وفيه ما فيه من الشبه والإشكال فيصعب اعتقاد حقيقته إلا على الذين هدى الله .

الراجع محذوف أي هداهم الله إلى الثبات على دين الإسلام بأن نصب لهم الدلائل أولاً ، ثم جعلهم منتفعين بها ثانياً ، وإلا فالدلالة عامة للكل { وما كان الله ليضيع إيمانكم } الخطاب للمؤمنين المعاصرين ، واللام لتأكيد النفي الداخل في « كان » ينتصب المضارع بعدها بتقدير « أن » أي لن يضيع الله ثواب ثباتكم على الإيمان ، وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا ، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب الجزيل عن الحسن . وقال ابن زيد : ما كان الله ليترك تحويلكم من بيت المقدس إلى الكعبة لعلمه بأن تقريركم على ذلك مفسدة لكم وإضاعة لصلواتكم ، أي لثوابها . أطلق الإيمان على الصلاة لأنها أعظم آثار الإيمان وأشرف نتائجه ، أو لأن المراد لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة . وعن ابن عباس : لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فنزلت . وإنما خوطبوا تغليباً للأحياء مثل { وإذ قتلتم نفساً } [ البقرة : 72 ] { وإذ فرقنا بكم البحر } [ البقرة : 50 ] والمراد أهل ملتهم . وليس هذا السؤال من الشك في حقية النسخ في شيء وإنما هو لأجل الاطمئنان وازدياد اليقين ولعلهم إنما خصوا السؤال بالأموات لأنهم ظنوا أنفسهم مستغنين عن ذلك حيث تقع صلاتهم إلى الكعبة بقية عمرهم مكفرة لما سلف منهم ، فأجيبوا بما يخرج عنه جواب الأموات والأحياء جميعاً ، فإن المنسوخ حق في وقته كما أن الناسخ حق في وقته ، سواء عمل المكلف بهما في وقتيهما أو لم يعمل إلا بالمنسوخ لانقضاء أجله قبل الناسخ . وجوز بعضهم أن يكون السؤال صادراً عن منافق فنبه الله المسلمين على الجواب . وقيل : بل المعنى وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم ، فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا . يحكى عن الحجاج أنه قال للحسن : ما رأيك في أبي تراب؟ فقرأ قوله { إلا على الذين هدى الله } ثم قال : وعلي منهم وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته وأقرب الناس إليه وأحبهم { إن الله بالناس لرؤف رحيم } الجوهري : الرأفة أشد الرحمة . رؤفت به أرؤف بالضم فيهما رأفة ورآفة ورأفت به أرأف بالفتح فيهما . ورئفت به بالكسر رأفاً والصفة رؤوف ورؤف على « فعول » و « فعل » وقيل : الرحمة تقع في الكراهة للمصلحة ، والرأفة لا تكاد تكون في الكراهة ، وقيل : الرأفة مبالغة في رحمة خاصة هي دفع المكروه وإزالة الضرر قال { ولا تأخذكم بهما رأفةٌ } [ النور : 2 ] . والرحمة اسم جامع خصص أولاً ثم عمم . والمراد أن الرؤف الرحيم كيف يتصور منه الإضاعة ، أو كيف لا ينقلكم من شرع إلى شرع هو أصلح لكم وإنما هَدى مَنْ هَدَى لأنه بالناس رؤف رحيم ، فمن كان أقبل للفيض كان الأثر عليه أظهر .

قوله عز من قائل { قد نرى } معناه كثرة الرؤية ههنا وإن كان في الأصل للتقليل قال :
قد أترك القرن مصفراً أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد
كما أن « رب » في الأصل للتقليل ، ثم قد تستعمل في معنى التكثير كقوله « فإن تمس مهجور الفناء فربما » . أقام به بعد الوفود وفود . ووجه ذلك أن المادح يستقل الشيء الكثير من المدائح لأن الكثير منها كأنه قليل بالنسبة إلى الممدوح ومثله { قد يعلم الله } فإن المتمدح بكثرة العلم يقول لا تنكر أن أعرف شيئاً من العلم . { تقلب وجهك } تردد نظرك في جهة السماء وذلك لانتظار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . عن ابن عباس أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقد كرهتها » . فقال له جبريل عليه السلام : أنا عبد مثلك فسل ربك ذلك . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فنزلت . وإنما أحب ذلك لأن اليهود كانوا يقولون : إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل أو لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم ولأن ذلك أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ، ولأنه أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه ، ولا يبعد أن يميل طبعه إلى شيء ثم يتمنى في قلبه إذن الله فيه . وقيل : إنه استأذن جبريل في أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله قد أذن له في الدعاء ، فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل للإجابة . وعن الحسن : أن جبريل أخبره بأن الله تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس من غير تعيين للمحول إليها - ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة - فكان ينتظر الوحي بذلك وعلى هذا فقيل : منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة وكان يخاف أن يدخل وقت الصلاة ولا قبلة ، فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم . وقيل : بل وعد بذلك . وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها لكن لأجل الوعد كان يقلب طرفه وهذا وإلا لم تكن القبلة ناسخة للأولى بل كانت مبتدأة ، لكن المفسرين أجمعوا على أنها ناسخة للأولى ، لأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه . واختلف في صلاته بمكة فقيل : كان يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر أو ثلاثة عشر أو ستة عشر أو سبعة عشر - وهو الأكثر - أو ثمانية عشر أو سنتين أقوال .

وقيل : بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس . واختلفوا أيضاً في أن توجه بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره أو كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيراً في توجهه إليه وإلى غيره . فعن الربيع بن أنس أنه كان مخيراً لقوله { ولله المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ] الآية . ولما روي أن قوماً قصدوا الرسول من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة فتوجه بعضهم في الطريق لصلاته إلى الكعبة وبعضهم إلى بيت المقدس ، فلما قدموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم ينكر عليهم . وعن ابن عباس أن ذلك كان فرضاً لقوله { فلنولينك قبلة ترضاها } فدل على أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكعبة . ومعنى « فلنولينك » فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولهم « وليته كذا » جعلته والياً له ، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس . ترضاها تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته . وعن الأصم : كل جهة وجهك الله إليها يجب أن تكون رضاً لا تسخطها كما فعل من انقلب على عقبيه . وقيل : ترضى عاقبتها لأنك تميز بها الموافق عن المنافق . { فول وجهك } أي كل بدنك لأن الواجب على الشخص أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط . وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وبه تتميز الأشخاص . وشطر المسجد الحرام أي نحوه وجهته قاله جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . وعن بعضهم أن الشطر نصف الشيء والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب ، فاختبر هذه العبارة ليعرف أن الواجب هو التوجه إلى بقعة الكعبة ، وزيف بالفرق بين النصف وبين المنتصف والمكلف مأمور بالثاني دون الأول . عن ابن عباس : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال : إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة . وفي الموطأ : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس ثم حوّلت القبلة قبل بدر بشهرين . واختلفوا في المراد بالمسجد الحرام . ففي شرح السنة عن ابن عباس أنه قال : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك . وقال آخرون : القبلة هي الكعبة لما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أخبرني أسامة بن زيد قال : لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة .

وقد وردت أخبار كثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة كما قلنا في حديث ابن عمر ، فاستداروا إلى الكعبة . وقال آخرون : القبلة هي المسجد الحرام كله .
واعلم أن الواجب عند الشافعي في أظهر قوليه أن يستقبل المصلي عين الكعبة قريباً كان أو بعيداً لظاهر قوله تعالى { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ولقوله صلى الله عليه وسلم : « هذه القبلة » مشيراً به إلى العين ، ولأن تعظيم الكعبة من النبي صلى الله عليه وسلم بلغ مبلغ التواتر . وتوقيف صحة الصلاة وهي من أعظم شعائر الدين على استقبال عين الكعبة مما يوجب مزيد شرف الكعبة ، فوجب أن يكون مشروعاً . ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم وغيره مشكوك فيه والأخذ بالمعلوم أحوط . وأما عند أبي حنيفة ويوافقه القول الآخر للشافعي ، فمحاذاة جهة الكعبة كافية لأن في استقبال عين الكعبة حرجاً عظيماً للبعيد ، ولأن في ذكر المسجد الحرام دون الكعبة دلالة على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ، ولأن الشطر الجانب واكتفى به في الآية ، ولأن أهل قباء استداروا إلى الكعبة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل ومن المعلوم أن مقابلة العين من المدينة إلى مكة حيث إنها تحتاج إلى النظر الدقيق لم يتأت لهم حينئذ ، ثم لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وسمى مسجدهم بذي القبلتين ، ولأن استقبال عين الكعبة لو كان واجباً ولا سبيل إليه إلا بالدلائل الهندسية فإنها هي المفيدة لليقين وغيرها من الأمارات لا يفيد إلا الظن ، والقادر على اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لزم أن يكون تعلم تلك الدلائل واجباً ، ولم يذهب إليه أحد والإنصاف أن القول الأول أقرب إلى التعبد ، وإصابة العين للبعيد غير بعيد ، فما من نقطتين في الأرض ولا في السماء إلا ويمكن أن يوصل بينهما بخط ، والغرض أن يكون المصلي ساجداً على قوس عظيمة أرضية مارّة بقدميه وموضع سجوده ووسط البيت بشرط أن يكون القوس أقل من نصف الدور . وغير عسير معرفة هذا القدر بالدائرة الهندسية وغيرها من الطرق المشهورة فيما بين أهل الهيئة وقد برهنا على كثير منها في كتبنا النجومية ، وذكرها ههنا خروج عن الصناعة مع أن المتعلم لا ينتفع بها دون مقدماتها .
ولمعرفة القبلة أمارات أخر قد يستعين بها المتحير وهي : إما أرضية وهي الجبال والقرى والأنهار ، أو هوائية وهي الرياح ، أو سماوية وهي النجوم . أما الأرضية والهوائية فغير مضبوطة لكن ربما يكون في الطريق جبل مرتفع يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه ، وكذلك الرياح قد تهب في بعض النواحي من صوب معين ، وأما السماوية ففي النهار لا بد أن يراعي قبل الخروج عن البلد ، الشمس عند الزوال هي بين الحاجبين أم على العين اليمنى أم على اليسرى أم تميل ميلاً أكثر من ذلك ، فإن الشمس في البلاد الشمالية قلما تعد وهذه المواقع .

وكذلك يراعى وقت العصر ويعرف وقت الغروب أنها تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه . وكذلك يعرف وقت العشاء الاخرة موضع الشفق ، ووقت الصبح مشرق الشمس ، ويحتاط في مشرق الصيف والشتاء ومغربها . وبالليل يستدل بالكوكب الذي يقال له « الجدي » فيعرف أنه على قفا المستقبل أو على منكبه الأيمن أو الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها بخلاف ذلك . فإذا عرف هذه الدلائل في بلده فليعول عليها في الطريق كله إلا إذا طال السفر ، فحينئذ إذا انتهى إلى بلد سأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو يستقبل محراب جامع البلد ثم يستدل بها في سائر طريقه . ومعرفة دلائل القبلة فرض على العين أم فرض على الكفاية؟ أصح الوجهين في مذهب الشافعي الأول كأركان الصلاة وشرائطها .
قوله تعالى { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ليس بتكرار لأن الأول الخطاب للرسول وهذا خطاب للأمة ، أو لأن الأمة قد دخلت في الأول تبعاً . واحتمل أيضاً أن يكون الخطاب مختصاً بأهل المدينة وفي الثاني عم المكلفين جميعاً في جميع بقاع الأرض .
واعلم أن الاستقبال يتوقف على مستقبل ومستقبل نحوه هو القبلة ، ولا بد من حالة يقع فيها الاستقبال ، فلنتكلم في هذه الأركان الثلاثة على الإجمال وتفصيل ذلك في كتبنا الفقهية .
الركن الأول الحالة : وهي الصلاة للإجماع على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب وإن كان طاعة لقوله صلى الله عليه وسلم « خير المجالس ما استقبل به القبلة » والصلاة إما فريضة ويتعين الاستقبال فيها إلا في حالة الخوف ، وإما نافلة ويجب فيها الاستقبال إلا في حالة الخوف ، وفي السفر راكباً أو ماشياً متوجهاً إلى طريقه لما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر في راحلته حيث توجهت به . ويحكى عن أحمد خلاف في الماشي وكذا من أبي حنيفة . وهل يجب على المتنقل أن يستقبل القبلة عند التحرم؟ الأصح نعم إن سهل بأن لم تكن مقطرة أو لا حران بها وإلا فلا ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته وكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه . وأم عدم الاشتراط عند الصعوبة فلدفع المشقة واختلال أمر السير عليه ، وأما الاستقبال عند السلام فالأصح أنه لا يشترط كما في سائر الأركان إلا الماشي فعليه الاستقبال في كل ركوع وسجود كما عليه الإتمام بخلاف الراكب فإنه لا يكلف الاستقبال فيهما ولا وضع الجبهة في السجود على السرج أو الإكاف ، بل يقتصر فيهما على الإيماء ويجعل السجود أخفض .

وليس لراكب التعاسيف الذي لا مقصد له رخصة ترك الاستقبال في التنقل .
الركن الثاني القبلة : للمصلي إن وقف في جوف الكعبة وهي على هيئتها مبنية تصح صلاته فريضة كانت أو نافلة خلافاً لأحمد ومالك في الفريضة . قيل لنا إنه صلى متوجهاً إلى بعض أجزاء الكعبة فتصح صلاته كالنافلة كما يتوجه إليها من خارج ، ثم يتخير في استقبال أي جدار شاء . ويجوز أن يستقبل الباب أيضاً إن كان مردوداً ، وإن كان مفتوحاً فإن كانت العتبة قدر مؤخرة الرحل صحت صلاته وإلا فلا . ومؤخرة الرحل ثلثا ذراع إلى ذراع تقريباً كأنهم راعوا أن يكون في سجوده يسامت بمعظم بدنه الشاخص . وإن انهدمت الكعبة - حاشاها - وبقي موضعها عرصة فإن وقف خارجها وصلى إليها جاز لأن المتوجه إلى هواء البيت والحالة هذه متوجه نحو المسجد الحرام كمن صلى على أبي قبيس والكعبة تحته يجوز لتوجهه إلى هواء البيت . ولو صلى في العرصة فالحكم كما لو وقف الآن على سطح الكعبة ، فإن لم يكن بين يديه شاخص من نفس الكعبة قدر مؤخرة الرحل فالأصح أنه لا يجزيه خلافاً لأبي حنيفة . وإن كان المصلي خارج الكعبة فإن كان حاضر المسجد الحرام وجب عليه لا محالة استقبال عين الكعبة بكل بدنه لأنه قادر عليه ، والإمام يقف خلف المقام استحباباً ، والقوم يقفون مستديرين بالبيت وإلا فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة إلا عند من يرى الجهة كافية . ولو تراخى الصف الطويل ووقفوا في آخر باب المسجد صحت صلاتهم لأن البعيد تزداد محاذاته . يتبين ذلك إذا جعلت البيت رأس مثلث متساوي الساقين والصفوف خطوطاً موازية لقاعدته . وإن كان خارج المسجد فإن كان يعاين القبلة سوّى محرابه بناء على العيان وصلى إليه أبداً . ومحراب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة نازل منزلة الكعبة لأنه لا يقر على الخطأ فهو صواب قطعاً فيسوّي سائر المحاريب عليه . وفي معنى المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضبط المحراب ، وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين . وفي الطرق التي هي جادتهم يتعين التوجه إليها وكذلك في القرية الصغيرة التي نشأ فيها قرن من المسلمين ، ولا بد من الاجتهاد في التيامن والتياسر ، وأما في محراب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا . ولا يجوز الاجتهاد في الجهة في شيء من محاريب المسلمين لأن الخطأ منهم في الجهة بعيد بخلاف التيامن والتياسر . ويقال : إن عبد الله بن المبارك كان يقول بعد رجوعه من الحج : تياسروا يا أهل مرو .
الركن الثالث المستقبل : إذا قدر على اليقين بالمعاينة أو بأمارات أخر فلا يجتهد ولا يقلد وإن لم يقدر ، فإن وجد من يخبره عن علم وكان المخبر ممن يعتد بقوله رجع إلى قوله ولم يجتهد أيضاً كما في الوقت إذا أخبره عدل عن طلوع الفجر يأخذ بقوله ولا يجتهد وكذلك في الحوادث إذا روى العدل خبراً يؤخذ به ، وكل ذلك قبول الخبر من أهل الرواية وليس من التقليد في شيء ويشترط في المخبر أن يكون عدلاً يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد ، ولا يقبل خبر الكافر بحال وكذا خبر الصبي غير المميز عند الأكثرين .

ثم الإخبار عن القبلة قد يكون صريحاً وذلك ظاهر ، وقد يكون دلالة كما في نصب المحاريب في المواضع التي يعتمد عليها . ولا فرق في لزوم الرجوع إلى الخبر بين أن يكون الشخص من أهل الاجتهاد وبين أن لا يكون . فإن لم يجد من يخبره عن علم فإن قدر على الاجتهاد ولا يتيسر إلا بمعرفة أدلة القبلة كما عددنا اجتهد ولم يقلد كما في الأحكام الشرعية ، ولو فعل يلزمه القضاء ولا فرق في وجوب الاجتهاد ههنا بين الغائب عن مكة والحاضر بها إذا حال بينه وبين الكعبة حائل أصليّ كالجبال أو حادث كالأبنية ، ولو خفيت الدلائل على المجتهد بغيم أو حبس أو تعارضت ، صلّى كيف اتفق لحق الوقت ويقضي . وإن عجز عن الاجتهاد فإن لم يمكنه التعلم لعدم البصر أو لعدم البصيرة فالواجب عليه التقليد كالعامي في الأحكام ، وتقليد الغير هو قبول قول المستند إلى الاجتهاد بعد أن كان المجتهد مسلماً عدلاً عارفاً بأدلة القبلة يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد . فإن وجد مجتهدين مختلفين قلد من شاء منهما ، والأحب أن يقلد الأوثق الأعلم عنده ، وإن أمكنه التعلم فليس له التقليد بناء على ما مر من أن تعلم الأدلة فرض العين . فإن قلد قضى ، وإن ضاق الوقت عن التعلم صلى لحق الوقت وقضى . ثم المجتهد إن بان له الخطأ يقيناً أو كان دليل الاجتهاد الثاني أرجح ولم يشرع بعد في الصلاة ، عمل بمقتضى الثاني . وإن بان بعد الفراغ من الصلاة فإن تيقن الخطأ قضى على الأصح ، وإن ظن لم يقض . وإن تغير الاجتهاد في أثناء الصلاة انحرف ويبني . فهذه هي المسائل المستنبطة من الآية التي ذكرناها لأنها من أهم مهمات الدين { وإن الذين أوتوا الكتاب } يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى لعموم اللفظ ولشمول الكتاب التوراة والإنجيل ، ولكن يجب أن يكونوا أقل من عدد أهل التواتر ليصح عنهم الكتمان . وعن السدي : أنهم اليهود خاصة ، والكتاب التوراة ، والضمير في أنه الحق إما للرسول أي أنه مع شرعه ونبوته حق يشمل أمر القبلة وغيرها ، وإما لهذا التكليف الخاص وهو أنسب بالمقام ، وذلك أن علماءهم عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وأنه يصلي إلى القبلتين وأن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .

وأيضاً أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات والبشارات وكل ما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق ، فهذا التحويل حق . { وما الله بغافلٍ عما يعملون } وعد للمتقين ووعيد للناكصين والمعاندين ، ثم بين استمرار أهل الكتاب على عنادهم فقال { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } قيل : هم جميع اليهود والنصارى لعموم اللفظ ، وقيل : هم علماؤهم المذكورون في الآية المتقدمة لأنهم وصفوا باتباع الهوى في قوله { ولئن اتبعت أهواءهم } ومجرد اعتقاد الباطل لا يكفي فيه ، بل الذين بقلوبهم ثم يقولون غير الحق في الظاهر فهم المتبعون للهوى . ونوقش فيه بأن صاحب كل شبهة صاحب هوى . قالوا : الآيتان المكتنفتان بهذه الآية مخصوصتان بالعلماء منهم لأن الجمع العظيم لا يجوز منهم الكتمان فكذا هذه الآية . وأجيب بأنه لا يلزم من تخصيصهما تخصيصها . قالوا : أخبر عنهم بالإصرار والاستمرار وهذا شأن المعاند اللجوج لا دأب العامي المتحير . وردّ بأن المقلد أيضاً قد يصر . قالوا : الحمل على العموم يكذبه الوجود فإن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبع قبلته . ووجه بأن المراد من قوله { ما تبعوا قبلتك } أنهم لا يجتمعون على الاتباع كقوله { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } [ الأنعام : 35 ] وسلب الاجتماع لا ينافي اتباع البعض { بكل آية } بكل برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق { ما تبعوا قبلتك } جواب للقسم المحذوف ساد مسد جواب الشرط واللام في { ولئن } لتوطئه القسم أي والله لئن أتيتهم بكل برهان ما اجتمعوا على قبلتك لأن فيهم من قد ترك اتباعك لا لشبهة تزيلها بإيراد الحجة بل عناداً ومكابرة مع علمهم بما في كتبهم من نعتك . ومن خص اللفظ بالعلماء بأن صح عنده أنه لم يتبع منهم أحد قبلتنا لم يحتج إلى هذا التأويل بل يكون ما تبعوا في قوة ما تبع أحد منهم { وما أنت بتابعٍ قبلتهم } رفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة بالتوجه إلى بيت المقدس حسماً لأطماع أهل الكتاب فإنهم طمعوا في رجوعه إلى قبلتهم وقالوا : لو ثبت على قبلتنا كلنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره . وفيه أنه لا يجب عليه استصلاحهم باتباع قبلتهم لأن ذلك معصية . وإنما وحد القبلة للعلم بأن لليهود قبلة وللنصارى قبلة أخرى أو لأنهما بحكم الاتحاد في البطلان واحد { وما بعضهم بتابعٍ قبلة بعض } إن حمل على الحال فالمعنى أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن رضاهم باتباعها أو أنهم مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى شيئين مختلفين؟ أو أنه إذا جاز أن يختلف قبلتاهما للمصلحة فلم لا يجوز أن تكون المصلحة في ثالث؟ وإن حمل على الاستقبال فالمعنى أن اليهود لا تترك قبلتهم إلى المشرق ، ولا النصارى إلى المغرب ، بحيث تتعطل إحدى القبلتين ، لا أن اليهودي لا يصير نصرانياً أو بالعكس فإن ذلك قد وقع .

أخبر الله تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه محقاً أو مبطلاً { ولئن اتبعت أهواءهم } كلام على سبيل الفرض والتقدير لقرينة وما أنت بتابع قبلتهم المعنى لئن اتبعت مثلاً بعد وضوح الدلائل وانكشاف جلية الأمر في باب الديانة { إنك إذاً } أي إذا اتبعت لمن المرتكبين الظلم الفاحش لأن صغائر الرجل الكبير كبائر فكيف بكبائره؟ وفيه أن ترك العمل من العلماء أقبح ، وفيه لطف للنبي صلى الله عليه وسلم فإن مزيد المحبة تقتضي التخصيص بمزيد التحذير ، ولعله كان في بعض الأمور يتبع أغراضهم كترك المخاشنة في القول واستمالة قلوبهم طمعاً منه في إسلامهم ومعاضدتهم ، فنهى عن ذلك القدر أيضاً وآيسه منهم بالكلية . كقوله { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً } [ الإسراء : 74 ] { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] وفيه إشارة للأمة كالرجل الحازم يقبل على أبرّ أولاده وأصلحهم فيزجره عن شيء بحضرة سائر الأولاد والغرض زجرهم وإصلاحهم وأنه لا محالة يؤاخذون بالطريق الأولى لو خالفوه { الذين آتيناهم الكتاب } هم علماؤهم بدليل { يعرفونه } أي الرسول معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالمشخصات من النعت والنسب والقبلة حسب ما وجدوه في كتبهم { كما يعرفون أبناءهم } لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم . « وما » مصدرية أو كافة ، والغرض تشبيه عرفان شخصه بعرفان أشخاص الأبناء لا تشبيه العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم ببنوة الأبناء وإلا كان تشبيه المعلوم بالمظنون . عن عمر أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أعلم به مني يا بني . قال : لم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي ، فأما ولدي فلعل والدته قد خانت ، فقبل عمر رأسه . وجاز إضمار الرسول وإن لم يجز له ذكر لدلالة الكلام عليه ، وفيه تفخيم لشأنه وأنه معلوم بغير إعلام ، ولا يصح أن يقال : المراد بالمعرفة معرفتهم الحاصلة من قبل ظهور المعجزات على يده لأنه لا يفيد إلا كونه نبياً وهم لا ينكرون ذلك ، وإنما ينكرون كونه النبي صلى الله عليه وسلم المنعوت في كتبهم فرد الله عليه ذلك فافهم . وإنما خص الأبناء بالذكر لأنهم أعرف وأشهر وبصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق ولو تساويا فالذكور أولى بالذكر . وقيل : الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة وفي الكل تكلف ينبو عنه قوله { أبناءهم } ويباينه الحديث عن عبد الله بن سلام ولما كان من علمائهم العارفين بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم من آمن به وأظهر الحق وهو ما يجب القول به ويجب العمل بمقتضاه كعبد الله بن سلام وأتباعه .

قال تعالى { وإن فريقاً منهم } يريد من سوى المسلمين المؤمنين منهم { ليكتمون الحق } الذي هو أمر محمد أو أمر القبلة ثم أكد ذلك بقوله { وهم يعلمون } فإنه لا يوصف بالكتمان إلا من علم المكتوم { الحق من ربك } يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ، « ومن ربك » خبر بعد خبر أو حال . وأن يكون مبتدأ خبره « من ربك » . ثم في اللام يكون وجهان : العهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلى الحق الذي في قوله { ليكتمون الحق } أو الجنس على معنى الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه وما سواه كما يدعيه أهل الكتاب باطل { فلا تكونن من الممترين } الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم أو في كون الحق من ربك . وقد يجوز أن ينهى الشخص عما يعلم أنه منته عنه لمثل ما تقرر في قوله { ولئن اتبعت } . { ولكل } التنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، والوجهة اسم الجهة ولذلك ثبتت الواو كما قالوا « ولدة » في جمع الوليد الصبي ، وإنما لا تجمع مع الهاء في المصادر ، وقوله { هو } إما أن يعود إلى الكل وإما أن يعود إلى الله . وثاني مفعولي { موليها } محذوف أي هو موليها وجهه ، أو الله موليها إياه . ثم اختلف في التفسير فقيل : المعنى ولكل أهل دين من الأديان المختلفة قبلة وجهة إما بشريعة وإما بهوى هو مستقبلها ومتوجه إليها لصلاته التي يتقرب بها إلى ربه ، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة ، ولستم تؤاخذون بفعل غيركم فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم { فاستبقوا } أنتم { الخيرات } الدنيوية وهي الشرف والفخر بقبلة إبراهيم ، والأخروية وهي الثواب الجزيل المعد للمطيعين . { وأينما تكونوا } من جهات الأرض { يأت بكم الله جميعاً } في صعيد القيامة فيفصل بين المحق منكم والمبطل والمصيب والمخطئ إنه قادر على ذلك . وقيل : إن الله تعالى عرفنا أن كل واحدة من بيت المقدس والكعبة قبلة . فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمره في الحالين ولا تلتفتوا إلى مطاعن السفهاء فإن الله يجمعكم وإياهم يوم القيامة فيحكم بينكم . وقيل : ولكل قوم منكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم جهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت { أينما تكونوا } من الجهات المختلفة { يأت بكم الله جميعا } يجمعكم للجزاء ويجعل صلواتكم واحدة كأنها إلى جهة واحدة لمحاذاة الجميع الكعبة . ولقراءة ابن عامر { مولاها } معنيان : أحدهما أن ما وليته فقد ولاك والآخر زينت له تلك الجهة وحببت إليه .

وقيل : ولكل مخلوق قبلة فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك أنت الكعبة ، بل قبلة جسدك هي ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك أنت الكعبة ، بل قبلة جسدك هي ، وقبلة روحك أنا ، وقبلتي أنت « أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي » . ثم إن الشافعي استدل بقوله { فاستبقوا الخيرات } على أن الصلاة في أول الوقت أفضل . وعند أبي حنيفة : التأخير أفضل إحرازاً لفضيلة الانتظار ولتكثر الجماعة ، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر » وقال ابن مسعود : ما رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر . وأجيب بأن الانتظار قبل مجيء الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم « يا علي ثلاث لا تؤخرها : الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً » وأن المراد بالإسفار والتنوير هو طلوع الفجر الصادق بحيث لا يشك فيه وذلك مما لا نزاع فيه ، وإنما النزاع فيما إذا تحقق دخول الوقت ثم تكاسل المكلف وتثاقل أو بغير أسباب الصلاة تشاغل . { ومن حيث خرجت } ومن أي بلد خرجت يا محمد { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } إذا صليت { وإنه } وإن هذا المأمور به { للحق } الذي يجب أن يقبل ويعمل به حال كونه { من ربك وما الله بغافلٍ عما يعملون } وعد للمتشاغلين ووعيد للمتغافلين . واعلم أن أمر التولية ذكره الله تعالى ثلاث مرات ، وللعلماء في سبب التكرير أقوال :
أولها : أن الآية الأولى محمولة على أن يكون المكلف حاضر المسجد الحرام ، والثانية على أن يكون غائباً عنه ولكن يكون في البلد ، والثالثة على أن يكون خارج البلد في أقطار الأرض ، فقد يمكن أن يتوهم للقريب من التكليف ما ليس للبعيد فأزيل ذلك الوهم .
وثانيها : أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر ، وذلك أنه أكد الأول بأن أهل الكتاب يعلمون حقيته بشهادة التوراة والإنجيل ، وأكد الثاني بإخبار الله تعالى عن حقيته وكفى به شهيداً ، وأتبع الثالث غرض التحويل وهو قوله { لئلا يكون للناس عليكم حجة } كما أن قوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } وأمثال ذلك تكرر حيث نيط بكل منها فائدة .
وثالثها : أن الآية الأولى توهم أن التحويل إنما فعل رضا للنبي صلى الله عليه وسلم وطلباً لهواه حيث قال { فلنولينك قبلةً ترضاها } فأزيل الوهم بتكرار الأمر وتعقيبه بقوله { وإنه للحق من ربك } أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك وهواك كقبلة اليهود والمنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والتشهي ، ولكنها حق من ربك بعد أنها وافقت رضاك ، وفي الثالثة بيان الغرض .

ورابعها : أن الأولى لتعميم الأحوال والثانية لتعميم الأمكنة ، والثالثة لتعميم الأزمنة إشعاراً بأنها لا تصير منسوخة ألبتة .
وخامسها : الزم هذه القبلة فإنها التي كنت تهواها ، الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى . الزم هذه القبلة فبها ينقطع عنك حجج العدا وهذا قريب من الثالث .
وسادسها : هذه الواقعة أولى الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرير لمزيد التأكيد والتقرير .
وسابعها : قلت : الآية الأولى مشتملة على تكليف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم { فلنولينك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } ثم على تكليف عام له ولأمته { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } والآية الثانية { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } لأجل تكليف أخص وهو تكليف الالتفات عما سوى الله إلى الله وهو تكليف الصدّيقين وهو سنة خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } [ الأنعام : 49 ] ومما يؤيد هذا التأويل تعقيبه بقوله { وإنه للحق من ربك } لم يستظهر على هذا إلا بشهادة نفسه حيث لم يبق إلا هو وهو مقام الفناء في الله بخلاف الآية الأولى فإنها أكدت بشهادة الغير . وأيضاً اقتصر ههنا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة لأن هذه المرتبة وهي المسجد الحرام - حرام لا يليق بكل أحد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد . وأيضاً قدم على الآية قوله { ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات } فدل على أن المذكور بعدها مرتبة السابقين { ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } [ فاطر : 32 ] لما كان من المحتمل أن يظن أن التكليف الأخص ناسخ للتكليف الخاص منه والعام له ولأمته ، كرر الآية الأولى بعينها ليعلم أن حكمها باقٍ بالنسبة إلى عموم المكلفين والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .
قوله { لئلا يكون } أي ولوا لأجل هذا الغرض . وقال الزجاج : يتعلق بمحذوف أي عرفتكم لئلا يكون الناس عليكم حجة . و الناس قيل للعموم ، وقيل هم اليهود كانوا يطعنون بأنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ويقولون ما درى محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه . وقيل : هم العرب قالوا : إنه يقول أنا على دين إبراهيم ، ولما ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم . وإنما أطلق الحجة على قول المعاندين لأن المراد بها المحاجة ، أو سماها حجة تهكماً أو طباقاً أو بناءً على معتقدهم لأنهم يسوقونها سياق الحجة . وقد تكون الحجة باطلة قال تعالى { حجتهم داحضة عند ربهم } [ الشورى : 16 ] وكل كلام يقصد به غلبة الغير حجة ، وعلى هذا فالاستثناء متصل . والمراد بالذين ظلموا المعاندون من اليهود القائلون بأنه ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء ، أو بعض العرب القائلون بأن محمداً عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية .

وقيل : الاستثناء منقطع . وقيل : « إلا » بمعنى الواو وأنشد شعر :
وكل أخٍ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني والفرقدان . وإذا طعنوا في دينكم من غير ما سببٍ { فلا تخشوهم } فإنهم لا يضرونكم { واخشون } واحذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم على وفق مصلحتكم ، فعلى المرء أن ينصب بين عينيه في كل أفعاله وتروكه خشية الله ويقطع الرجاء والخوف عمن سواه . قوله { ولأتم } قيل : معطوف على { لئلا } أي حوّلتكم إلى هذه القبلة لحكمتين : إحداهما انقطاع حجتهم ، والثانية إتمام النعمة بحصول شرف قبلة إبراهيم . وقيل : متعلقة محذوف معناه ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك . وقيل : معطوف على علة مقدرة كأنه قال : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم وهذا الإتمام لا ينافي ما أنزل في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] فإن لله تعالى في كل وقت نعمة على المكلفين ولها تمام بحسبها ، فهذا إتمام النعمة في أمر القبلة ، وذاك تمام النعمة في أمر الدين على الإطلاق وعن علي عليه السلام : تمام النعمة الموت على الإسلام . وفي الحديث « تمام النعمة دخول الجنة » { كما أرسلنا } « ما » مصدرية أو كافة . ثم إن الجار والمجرور يتعلق بما قبله أو بما بعده . وعلى الأول قيل : معناه ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف وفي الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول ، أو لأتم نعمتي ببيان الشرائع ، أو أهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم حيث قال { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 128 ] كما أرسلنا فيكم رسولاً إجابةً لدعوته حيث قال { ربنا وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] وقيل : معناه كذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولاً ، وعلى الثاني معناه كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني أذكركم تارةً أخرى . وفيه أن نعمه على العبد لا تنقطع ، فكل نعمة سابقة فسيضم إليها أخرى لاحقة حتى يكون له الفضل أولاً وأخيراً وبدايةً ونهايةً . وفي إرساله فيهم ومنهم أي من العرب نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب . وكون القرآن متلواً من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ، ولأنه يتلى فتستفاد منه جميع العلوم ، ولأنه يتلى فيوقف على مجامع الأخلاق الحميدة ففي تلاوته خير الدنيا والآخرة . ومعنى التزكية وتعليم الكتاب والحكمة قد مر في دعاء إبراهيم . وفي قوله { يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } تنبيه على أنه تعالى أرسله على فترة من الرسل وجهالة من الأمر وتحير الناس في أمر الديانة ، فعلمهم ما احتاجوا إليه في صلاح معاشهم ومعادهم وذلك من أعظم أنواع النعم { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } تكليف بأمرين : الذكر والشكر .

وقد مر ذكر الشكر في تفسير الحمد وقوله { ولا تكفرون } عطف بالواو ليعلم أن جحود النعمة منهيّ عنه كما أن الشكر مأمور به . ولو قطع على طريقة قوله :
« أقول له ارحل لا تقيمن عندنا » لأوهم أن المقصود بالذات هو الثاني والأول في حكم المنحى . ويحتمل من حيث العربية أن تكون « لا » نافية والنون ليست للوقاية ، ومحل الجملة النصب على الحال أي اشكروا لي غير جاحدين لنعمتي . وأما الذكر فباللسان وهو أن يحمده ويسبحه ويمجده ويقرأ كتابه ، أو بالقلب وهو أن يتفكر في الدلائل على ذاته وصفاته ، وفي الأجوبة عن شبه الطاعنين فيها وفي الدلائل على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ليعمل بمقتضاها ، ثم يتفكر في أسرار المخلوقات متوصلاً من كل ذرة إلى موجدها ، أو بالجوارح وهو أن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها فارغة عن الأشغال المنهي عنها . وبهذا الوجه سمى الصلاة ذكراً { فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9 ] وأما ذكر الله تعالى فلا بد أن يحمل على ما له تعلق بالثواب وإظهار الرضا واستحقاق المنزلة والإكرام فالحاصل اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي ، اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ، اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء ، اذكروني بالمجاهدة أذكركم بالهداية ، اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص ، اذكروني بالعبودية أذكركم بالربوبية ، اذكروني بالفناء أذكركم بالبقاء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

القراآت : { إنا لله } بالإمالة فيهما : قتيبة ونصير . وإنما جازت مع امتناعها في الحروف لكثرة استعمال كلمة الاسترجاع .
الوقوف : { والصلاة } ط { الصابرين } لا { أموات } ط { لا تشعرون } 5 { والثمرات } ط { الصابرين } لا لأن صفتهم { مصيبة } لا لأن « قالوا » جواب « إذا » { راجعون } ط لأن « أولئك » مبتدأ على الأصح ومن ابتداء بالذين فخبره « أولئك » مع ما يتلوه ووقف على الصابرين ولم يقف على { راجعون } { المهتدون } 5 .
التفسير : أنه تعالى لما أوجب بقوله { فاذكروني أذكركم واشكروا لي } جميع الطاعات ورغب بقوله { ولا تكفرون } عن جميع المنهيات فإن الشكر بالحقيقة صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه إلى ما أعطاه لأجله ، ندب إلى الاستعانة على تلك الوظائف بالصبر والصلاة . فالصبر قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى ، والصلاة إذا اشتملت على مواجب الخشوع والتذلل للمعبود والتدبر لآيات الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، انجر ذلك إلى أداء حقوق سائر الطاعات والاجتناب عن جميع الفواحش والمنكرات { إن الله مع الصابرين } بالنصر والتأييد ومزيد التوفيق والتسديد { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } [ مريم : 76 ] وقيل : الصبر الصوم . وقيل : الجهاد بدليل قوله { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء } أي هم أموات بل هم أحياء . وعلى الوجه الأول كأنه قيل : استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني وسلوك سبيلي ، فإن احتجتم في ذلك إلى مجاهدة عدوّي بأموالكم وأنفسكم فتلفت فإن قتلاكم أحياء عندي ، من قتله محبته فديته رؤيته . ثم إن أكثر المفسرين على أنهم أحياء في الحال ، فمن الجائز أن يجمع الله تعالى من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة فيرى معظم جسد الشهيد ميتاً فلا يحس بحياته وإليه الإشارة بقوله { ولكن لا تشعرون } ومما يؤيد هذا القول الآيات الدالة على إثبات عذاب القبر { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } [ غافر : 46 ] { أغرقوا فأدخلوا ناراً } [ نوح : 25 ] والفاء للتعقيب وقال صلى الله عليه وسلم « القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفرة النيران » ولم يزل أرباب القلوب يزورون قبور الشهداء ويعظمونها . وقيل : المعنى لا تسموهم بالأموات وقولوا لهم الشهداء الأحياء . أو المراد : قولوا لهم أحياء في الدين وإنهم على هدى ونور من ربهم لا كما يزعم المشركون أنهم ليسوا من الدين في شيء أو لا تقولوا مثل ما يقول منكرو البعث إنهم لا ينشرون وقد ضيعوا أعمارهم ، ولكنهم سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة . وعلى هذه الوجوه لا يبقى لتخصيص الشهداء بكونهم أحياء فائدة وكذا لقوله مع المؤمنين ولكن لا تشعرون . وقيل : إن الثواب وكذا العقاب للروح لا للقالب ، لأنه مدرك للجزئيات أيضاً فلا يمتنع أن يتألم ويلتذ .

ثم إنه سبحانه يرد الروح إلى البدن في القيامة الكبرى حتى يضم الأحوال الجسمانية إلى الإدراكات الروحانية . عن ابن عباس أن الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار . وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة » أي تأكل { ولنبوكم } ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من أداء حقوق الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه ، أم تنقلبون على أعقابكم وتظهرون الجزع على استرداد ما يدكم فيه يد المستعير؟ أمر أولاً بالشكر على إكمال الشرائع ، ثم بالصبر على التكاليف الدينية ، ثم حض على التثبت عند طروق النوائب وبروق المصائب ، ومعنى { بشيء } بيان من هذه الأشياء وأيضاً لو قال « بأشياء » لأوهم أن من كل واحد من الخوف وغيره ضروباً وليس بمراد . وفيه أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل هو بالنسبة إليه ، وفيه أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم . واعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فإذا خطر ببالك وهو قد مضى سمي ذكراً وتذكراً ، وإن كان في الحال سمي ذوقاً ووجداً لأنها حالة تجدها من نفسك ، وإن تعلق بالاستقبال وغلب خطوره على قلبك سمي انتظاراً وتوقعاً ، فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً ، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً والارتياح رجاء . وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت . عن عطاء والربيع بن أنس : أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وقد حصل لهم عند مكاشفة العرب خوف شديد بسبب الدين ، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان { هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } [ الأحزاب : 11 ] وأما الجوع فقج أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يشد الحجر على بطنه . وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فالتقى مع أبي بكر فقال : ما أخرجك؟ قال : الجوع . قال : أخرجني ما أخرجك وكانوا ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد ثم يقتلون . فهناك يحصل النقص في المال والنفس ، وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله } إلى قوله { إلا كتب لهم به عملٌ صالح } [ التوبة : 120 ] وقد يكون النقص في النفس بموت الإخوان والأخدان . وإما نقص الثمرات فقد يكون بالجدوب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد .

وعن الشافعي : الخوف خوف الله ، والجوع صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس الأمراض ، ومن الثمرات موت الأولاد . قال صلى الله عليه وسلم « إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم . فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم . فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع فيقول الله : » ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد « { ونقص } عطف على { شيء } ويحتمل أن يعطف على الخوف بمعنى وشيء من نقص الأموال . و الخطاب في { وبشر } لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يتأتى منه البشارة . قال الإمام الغزالي رحمه الله : الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم لنقصانها ، فليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً ، ولا في الملائكة فليس لعقلهم شهوة تصرفهم عن الاشتغال بخدمة الكبير المتعال وتمنعهم عن الاستغراق في مطالعة حضرة ذي الجلال . وأما الإنسان فإنه في الصبا بمنزلة البهيمة ليس له إلا شهوة الغذاء ، ثم شهوة اللعب بعد حين ، ثم شهوة النكاح لكنه إذا بلغ انضم له مع الشهوة الباعثة على اللذات العاجلة عقل يدعوه إلى الإعراض عنها والإقبال على تحصيل السعادات الباقية ، فيقع بين داعيتي العقل والشهوة تضاد قصد العقل إياها هو المعنى بالصبر . وإنه ضربان : بدني فعلاً كتعاطي الأعمال الشاقة ، أو انفعالاً كالثبات على الآلام ، ونفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الطبع ، فإن كان حبساً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان احتمال مكروه ، فإن كان من مصيبة خص باسم الصبر ويضاده حالة هي الجزع وهي إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب ونحوها ، وإن كان في حال الغنى سمي ضبط النفس ، ويضاده حالة البطر . وإن كان في حال مبارزة الأقران سمي شجاعة ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى حلماً ويضاده النزق ، وإن كان في نائبة من النوائب سمي سعة الصدر ويضاده الضجر وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً وضده الحرص ، وإن كان على قدر يسير من المال سمي قناعه ويضاده الشره . وليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك فإنه غير ممكن ، وإنما الصبر على المصيبة هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع . ولا بأس بظهور الدمع وتغير اللون فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى على إبراهيم ابنه فقيل له في ذلك فقال : إنها رحمة ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء . ثم قال : العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا . ثم الصبر عند الصدمة الأولى وإلا سمي سلواً وهو مما لا بد منه ولهذا قيل : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه .

وقد وصف الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال { وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا } [ السجدة : 27 ] { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] { ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 96 ] { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10 ] فما من طاعةٍ إلا وأجرها مقدر إلا الصبر ، ولأن الصوم من الصبر قال تعالى في الحديث القدسي « الصوم لي » فأضافه إلى نفسه ووعد الصابرين بأنه معهم فقال { واصبروا إن الله مع الصابرين } [ الأنفال : 46 ] وعلق النصرة بالصبر فقال { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } [ آل عمران : 125 ] وجمع للصابرين أموراً لم يجمعها لغيرهم { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } وقال صلى الله عليه وسلم « الصبر نصف الإيمان » لأن الإيمان لا يتم إلا بترك ما لا ينبغي ، والإتيان بما ينبغي والاستمرار على كل منهما إنما يتأتى بالصبر . فكل الإيمان صبر إلا أن كل واحدٍ منهما قد يكون مطابقاً لمقتضى الشهوة فلا يحتاج فيه إلى الصبر ، فلهذا عاد إلى النصف . وقد جاء « الإيمان هو الصبر » وذلك كقوله « الحج عرفة » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر » وقال : « يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول تعالى لقد أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين » ومن فضيلة الصبر أن قال صلى الله عليه وسلم : « الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر » فإن المشبه به يجب أن يكون أقوى كما قال « شارب الخمر كعابد الوثن » وروي أن سليمان يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً لمكان ملكه ، وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه . وفي الخبر : أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد . وأول من يدخله أهل البلاء إمامهم أيوب . ثم إن الله تعالى بيّن أن الإنسان كيف يكون صابراً وأنه متى يستحق البشارة فقال { الذين إذا أصابتهم مصيبة } هي من الصفات الغالية التي لا تكاد تستعمل موصوفاتها وتختص من بين ما يصيب الإنسان بحالة مكروهة كالنازلة والواقعة والملمة ، وإنما نكرت لتشمل كل مضرة تناله من قبل الأسباب السماوية والأرضية المنتهية إلى مسبب الأسباب بواسطة ظاهرة أو خفية { قالوا : إنا لله } إقرار بالعبودية { وإنا إليه راجعون } تفويض للأمر إليه كما يقال : إن الملك والدولة رجع إلى فلان لا يراد الانتقال بل القدرة وترك المنازعة { إنا لله } اعتراف منا له بالملك { وإنا إليه راجعون } إقرار على أنفسنا بالهلك { إنا لله } إشارة إلى المبدأ { وإنا إليه راجعون } تصريح بالمعاد .

{ إنا لله } إعلام بالفناء فيه { وإنا إليه راجعون } إشعار بالبقاء به . { إنا لله } إيمان بقضائه { وإنا إليه راجعون } إيمان بقدره . واعلم أن الرضا بالقضاء إنما يحصل للعبد من الله تعالى بطريقين : الصرف أو الجذب أما الصرف فمتى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إليه جعله تعالى منشأ للآفات لينصرف وجه قلبه من عالم الحدوث إلى جانب القدس ، كما أن آدم لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة فبقي آدم مع ذكر الله . ولما استأنس يعقوب بيوسف أوقع الفراق بينهما فبقي يعقوب مع ذكر الحق . ولما طمع محمد صلى الله عليه وسلم من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس بغضاً له فأخرجوه . وقد لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة ، فحينئذ يرجع العبد إلى الله . وقد يتوقع العبد من جانب خيراً فيعطيه الله تعالى ذلك بلا واسطة فيستحي العبد فيرجع إلى الله . وأما الجذب فجذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين . ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوباً لأن الحق غالب فتصير الربوبية غالبة على العبودية ، والحقيقة مستعلية على المجاز ، كالعبد الداخل على السلطان المهيب ينصرف فكره إليه ويشتغل بالكلية عمن سواه ويصير فانياً عن نفسه وعن حظوظها فيحصل له مرتبة الرضا بأقضية الحق سبحانه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة . عن النبي صلى الله عليه وسلم « من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه » وروي أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { إنا لله وإنا إليه راجعون } فقيل : أمصيبة هي؟ قال : نعم . كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة . وعن أم سلمة أن أبا سلمة حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به » من قوله « { إنا لله وإنا إليه راجعون } اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني منها وعوّضني خيراً منها ألا أجره الله عليها وعوضه خيراً منها » قالت : فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت : هذا القول فعوّضني الله محمداً صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس : أخبر الله تعالى أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال : الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبيل الهدى . وعن عمر قال : نعم العدلان { إنا لله وإنا إليه راجعون } { أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة } ونعم العلاوة { وأولئك هم المهتدون } .

قيل : الصلوات من الله الثناء والمدح والتعظيم ، والرحمة النعم العاجلة والآجلة . وقيل : الصلاة الحنو والتعطف وضعت موضع الرأفة كقوله { رأفة ورحمة } { رؤف رحيم } والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة أيّ رحمة { وأولئك هم المهتدون } لطريق الصواب والفائزون بالكرامة والثواب ، أو هم المستمسكون بآدابه المستنون بما ألزم وأمر وفي الآية حكمان : فرض ونفل . فالفرض هو التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على أداء فرائضه لا يصرفه عنها مصائب الدنيا ، والنفل قوله { إنا لله وإنا إليه راجعون } فإن في إظهاره فوائد منها : أن غيره يقتدي به إذا سمعه ، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته . وأما الحكمة في تقديم تعريف الابتلاء فهي أن يوطنوا نفوسهم لهذه المصائب إذا وردت فتكون أبعد من الجزع . وأيضاً إذا علموا أنه سيصل إليهم تلك المحن اشتد حزنهم فيكون ذلك الحزن تعجيلاً للابتلاء فيستحقون بذلك مزيد الثواب . وأيضاً إذا أخبروا بوقوع هذا الابتلاء ثم وقع كان ذلك إخباراً بالغيب فيكون معجزةً . وأيضاً فيه تنفير وتمييز له عن الموافق . كما أن الحكمة في نفس الابتلاء أيضاً ذلك .
دعوى الإخاء على الإخاء كثيرة ... بل في الشدائد تعرف الإخوان
إذا قلت أهدى الهجر إن خلل البلى ... يقولون لولا الهجر لم يطب الحب
وإن قلت كربي دائمُ قالت إنما ... يعدّ محباً من يدوم له الكرب
وإن قلت ما أذنبت قالت مجيبةً ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

القراآت : { من يطوع } بتشديد الطاء والجزم : حمزة وعلي وخلف وزيد ورويس الباقون : بالتاء والتخفيف وفتح الآخر على المضي .
الوقوف : { شعائر الله } ج للشرط مع فاء التعقيب { بهما } ط لأن التطوع خارج عن موجب كونهما من شعائر الله فكان استئناف حكم { عليم } ، { في الكتاب } لا لأن « أولئك » خبر « إن » { اللاعنون } لا للاستثناء { أتوب عليهم } ج لاحتمال الواو للاستئناف والحال { الرحيم } 5 { أجمعين } لا لأن « خالدين » حال عامله معنى الفعل في اللعنة أي لعنهم الله حتى قرأ الحسن { والملائكة } وما بعده بالرفع { فيها } ج لأن ما بعده حال بعد حال واستئناف إخبار { ينظرون } 5 .
التفسير : إن في تعليق الآية بما قبلها وجوهاً منها : أن السعي بين الصفا والمروة من شرائع إبراهيم عليه السلام كما مر في قصة هاجر ، فذكر عقيب تحويل القبلة الذي فيه إحياء شرع إبراهيم . ومنها أنه من آثار هاجر وإسماعيل ، وفيه تذكير لما جرى عليهما من البلوى وحسن عاقبتهما ، فناسب أن يردف آية الابتلاء ليعلم أن من صبر على البلوى نال الدرجة العليا في الدنيا والعقبى . ومنها أن أقسام التكاليف ثلاثة : أولها ما يهتدي العقل إلى حسنه كشكر المنعم وذكره وأشير إلى ذلك بقوله { فاذكروني أذكركم واشكروا لي } [ البقرة : 152 ] وثانيها ما ركز في العقول قبحه والنفور عنه كالآلام والفقر والمحن فإنه تعالى يتألم منه إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه وهي الابتلاء والامتحان فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً وذلك قوله { ولنبلونكم } [ البقرة : 155 ] الآية ، وثالثها ما ليس يهتدي العقل إلى حسنه ولا إلى قبحه بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة فيأتي به تعبداً محضاً وهو أكثر أفعال الحج من السعي ورمي الجمار ونحوهما ، فذكرت طرق من هذا القسم عقيب القسمين الأولين تتميماً للأحكام واستيفاءً لجميع الأقسام . والصفا والمروة هكذا باللام علمان للجبلين المعروفين بمكة - زادها الله شرفاً . والصفاة في اللغة صخرة ملساء وفي المثل « ما تندى صفاته » والجمع صفا مقصور وأصفاء وصفي على « فعول » وإذا نعتوا الصخرة قالوا « صفاة صفواء » وإذا ذكروا قالوا « صفا صفوان » قال تعالى { كمثل صفوان عليه تراب } [ البقرة : 264 ] وعن الأصمعي : المرو حجارة بيض براقة يقدح منها النار ، الواحدة مروة . والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة . وذلك أن السعي بين الجبلين من أعلام دين الله ، أوهما من متعبداته . وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك كما مر قوله { وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 138 ] وليس السعي عبادة تامة في نفسه وإنما يصير عبادة إذا كان بعضاً من أبعاض الحج فلهذا قرن بقوله { فمن حج البيت أو اعتمر } والحج لغة القصد .

رجل محجوج أي مقصود وهو أيضاً كثرة الاختلاف والتردد ، وحج فلان فلاناً إذا أطال الاختلاف إليه . ثم غلب استعماله في القصد إلى مكة للنسك . والحاج يأتي البيت أولاً ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر . ومنه محجة الطريق لكثرة تردد الناس فيها . والاعتمار لغة الزيارة . فالمعتمر يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم ينصرف كالزائر يزور ثم ينصرف . والعمرة اسم من الاعتمار غلبت على النسك المعروف . والجناح الحرج والإثم من قولهم « جنح لكذا » أي مال إليه ، كأن صاحبه مال إلى الباطل . أو لأن الناس يميلون إلى صاحبه بالمطالبة ثم قوله { لا جناح عليه } يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح . وظاهر الآية لا يدل على أحد الثلاثة بالتعيين فلهذا اختلف العلماء في أن السعي واجب أم لا ، متمسكين بدلائل أخر . فعن الشافعي أنه ركن ولا يقوم الدم مقامه لقوله صلى الله عليه وسلم « إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا » وليس المراد منه العدو بل الجد والاجتهاد في ذلك المشي بحيث لا يفوت لقوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9 ] ولما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سعى فيجب علينا اتباعه لقوله تعالى { واتبعوه } ولقوله صلى الله عليه وسلم « خذوا عني مناسككم » والأمر للوجوب . وعن أبي حنيفة أنه ليس بركن ولكنه واجب وعلى تاركه دم . وعن ابن الزبير وابن عباس وأنس : أنه تطوع وليس على تاركه شيء لأن رفع الحرج دليل الإباحة لقوله بعد ذلك { ومن تطوع خيراً } أجاب الشافعي بما يروى أنه كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلةٍ وهما صنمان . كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن يكون عليهم جناح في ذلك فرفع عنهم الجناح . فالإباحة تنصرف إلى وجود الصنمين حال السعي لا إلى نفس السعي كما لو كان على الثوب نجاسة يسيرة عند أبي حنيفة ، أو دم البراغيث عندنا ، فيقال : لا جناح عليك أن تصلي فيه . فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا غلى نفس الصلاة ، ولهذا قال عروة لعائشة : أرى أنه ما على أحد من جناح أن يطوف بالصفا والمروة ، قالت : بئسما قلت يا ابن أختي ، إن هذه لو كانت على ما أولتها كانت « لا جناح عليه أن يطوّف بهما » وأصل « يطوف » « يتطوف » فأدغم كمن قرأ « يطوع » بالتشديد وأصله « يتطوع » والتطوع ما ترغب من ذات نفسك من غير إيجاب عليك .

ومن قال : إن السعي واجب فسر هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب . وعن الحسن : المراد منه جميع الطاعات . وهذا أولى لعموم اللفظ { فإن الله شاكر } ، أي مجازيهم على الطاعة سمي جزاء الطاعة شكراً تشبيهاً بجزاء النعمة ، وفيه تلطف العباد مثل { من ذا الذي يقرض الله } [ البقرة : 245 ] كأنه يقول : إني وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع ما لو صح عليّ أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل . { عليم } بالسرائر فيوفي كل ذي حق حقه . وهو وعد ليناسب قرنية الشكر وإن كان أيضاً يحتمل التحذير من الإخلال بوظائف الإخلاص في العبادة { إن الذين يكتمون } كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئاً من الدين . وقيل : هم أهل الكتاب . وقيل : اليهود خاصة لما روي عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفته صلى الله عليه وسلم ومن الأحكام فكتموا فنزلت ، والأول أولى لعموم اللفظ ، ولأن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم ، ولأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلا ريب أن كتمان الدين يناسب استحقاق اللعن من الله تعالى فيعم الحكم حسب عموم الوصف . ولا يخفى أنَّ القرآن قبل صيرورته متواتراً يمكن كتمانه ، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه بخبر الواحد يجري فيه الكتمان . وكذا القول فيما يحتاج إليه المكلف من الدلائل العقلية ، ولأن جماعة من الصحابة حملوه على العموم . عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } فحملت الآية على العموم . وعن أبي هريرة قال : لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس : أكثر أبو هريرة وتلا { إن الذين يكتمون } قال بعض المحققين : الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتماناً . فلما كان ما أنزل الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين ، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها . وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر لأن الكتمان مما يشق على النفس . وفي الآية دليل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، والمراد بالبينات كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً ووحياً دون أدلة العقل . والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية ، لأن الهدى الدلالة فيعم الكل . وبعبارة أخرى الأول هو التنزيل ، والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد .

ولقوله { من بعد ما بيناه للناس في الكتاب } فيشمل كون خبر الواحد والإجماع والقياس حجة لأن الكتاب دل على هذه الأمور . وهذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين ، لأنه إذا أظهره البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه ولم يبق مكتوماً ، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى . وقيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهياً عن الكتمان مأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر؟ وأجيب بأن هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان ، إلا وهم فمن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم . ومن الناس من يحتج بالآية على وجوب قبول خبر الواحد لأن وجوب الإظهار دل على وجوب العمل بالذي أظهر لا سيما وقد قال { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } فحكم بوقوع البيان بخبرهم . واستدل بالآية أيضاً على عدم جواز أخذ الأجرة على التعليم لأنها دلت على وجوب التعليم ولا أجرة على أداء الواجب . وقيل في الكتاب أي في التوراة والإنجيل من نعت الرسول ومن الأحكام . والمعنى أنا لخصناه بحيث لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس . وقيل : أراد بالمنزل الأول كتب الأولين وبالهدى القرآن { أولئك } تبعيد لهم عن درجة الاعتبار { يلعنهم الله } يبعدهم عن كل خير { ويلعنهم } يدعو عليهم باللعن { اللاعنون } الذين يتأتى منهم اللعن ويعتدّ بلعنهم من الملائكة وصالحي الثقلين . وقيل : يدخل فيهم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول : منعنا القطر بشؤم معاصي بني آدم . واللاعنون دون اللاعنات تغليب للعقلاء : وإذا قيل : هم الهوام فقط فالتذكير لأنه تعالى وصفهم بصفات العقلاء مثل { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] { وقالوا لجلودهم لم شهدتم } [ فصلت : 21 ] وقيل : كل شيء سوى الثقلين بتقدير أنها لو كانت عاقلة كانت تلعنهم ، أو لأنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه . وقيل : إن أهل النار يلعنونهم أيضاً لأنهم كتموهم الدين { كلما دخلت أمة لعنت أختها } [ الأعراف : 38 ] وعن ابن مسعود : إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق ، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه . وعن ابن عباس : أن لهم لعنتين : لعنة الله ولعنة الخلائق . قال : وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن نبيك ومن ربك؟ فيقول : لا أدري . فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ويقول له الملك : لا دريت ولا تليت { إلا الذين } استثناء منهم ، وفيه من الرحمة ما فيه . وقد مر أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لقبحه لا لغرض سواه ، فإن من ترك رد الوديعة ثم ندم لأن الناس لاموه أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائباً { وأصلحوا } ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم { وبينوا } ما كتموه أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به ويقتدى بهم غيرهم من المفسدين { فأولئك أتوب عليهم } أقبل توبتهم بأن أسقط عنهم تجملاً وأضع مكانه الثواب تفضلاً بدلالة قوله { وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا } عام في كل من كان كذلك .

وقيل : مخصوص بهؤلاء الكاتمين . ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً إذا لم يتوبوا على هذا القول يكون إطلاق الكفر عليهم - وهم من أصحاب الكبائر - مجازاً تغليظاً ، أو يراد بالكفر جحود الحق وستره . والمراد بالناس اللاعنين من يعتد بلعنه وهم المؤمنون أجمعون ، وقيل : يوم القيامة يلعن بعض الكفار بعضاً فيعم المؤمن والكافر . وقيل : لعن الجاهل والظالم مقرر في العقول حتى إن الظالم قد يلعن نفسه إذا تأمل في حاله . وقيل : وقوع اللعن محمول على استحقاق اللعن ، على من مات كافراً وإن زال التكليف عنه بالموت على أن الكافر إذا جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطاً للعنه والبراءة منه ، وكذلك سبيل ما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح إذا مات صاحبه أو جن لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال . وفي الآية دليل على أن الأمور بخواتيمها ، وأنه إذا كفر ومات لا على الكفر لم يكن ملعوناً ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط { خالدين فيها } في اللعنة . وقيل : في النار . وأضمرت وإن لم يجر لها ذكر تفخيماً لشأنها وتهويلاً لمكانها . والأول أولى لتقدم ذكره لفظاً ، ولأن اللعنة تشمل النار وزيادة ، ولأنها تصح في الحال والمآل جميعاً بخلاف النار فإنها في الاستقبال . فمن فسر « الذين كفروا » بالكاتمين وجوّز الخلاص على صاحب الكبيرة فسر الخلود بالمكث الطويل وقد سلف مثل ذلك { لا يخفف عنهم العذاب } بل يتشابه في الأوقات باقياً على المبلغ الذي أتيح له حسب ما استحقه { ولا هم ينظرون } إذا استنظروا من الإنظار الإمهال ، أو لا ينظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة أعاذنا الله تعالى من تلك الحالة بعميم فضله وجسيم طوله .
التأويل : الصفا للسر ، والمروة للروح ، والسالك بينهما يسعى . ففي صفا السر يقطع التعلقات عن الكونين وهو التعظيم لأمر الله ، وفي مروة الروح يوصل الخير إلى أهله وعياله ونفسه لمراقبة أحوال الباطن ومزاولة أعمال الظاهر وهو الشفقة على خلق الله ، ومعنى سبع مرات أن تصل بركات سعيه إلى سبعة آرابه في الظاهر وإلى سبعة أطواره في الباطن وإلى سبعة أقاليم العالم لقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى } [ النجم : 39 ، 40 ] . ومن كمال رأفته بأهل محبته أن جعل آثار أقدامهم أشرف الأمكنة ، وساعات أيامهم أعز الأزمنة . فإلى تلك المعاهد والأطلال تشد الرحال ، وتلك المشاهد والآثار تعظم وتزار .
أهوى هواها لمن قد كان ساكنها ... وليس في الدار لي هم ولا وطر
حسبي الله ونعم الوكيل .

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

القراآت : { لا إله إلا هو } بالمد وكذلك جميع التهليل . روى الهاشمي عن ابن كثير لورود الأثر في هذه الكلمة وهو قوله صلى الله عليه وسلم « من قال لا إله إلا الله ومدها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر » وروى أبو الفرج عن قتيبة « إلا » هو بالإمالة حيث كان . { الريح } مفرداً : حمزة وعلي وخلفٍ . الباقون : الرياح مجموعاً .
الوقوف : { واحد } ج نظراً إلى أن ما بعده وصف آخر . وإلى الاختلاف بالنفي والإثبات { الرحيم } 5 { من كل دابة } ص ضرورة طول الآية وإلا فاسم « إن » { لآيات } والجار وما يتصل به معترض ، والأولى الوصل والرجوع . { يعقلون } 5 .
التفسير : الواحد قد يكون اسماً وذلك في العدد واحد ، اثنان ، ثلاثة . وقد يكون صفة كقولك « شخص واحد » ومعناه أنه لا ينقسم من جهة ما قيل : له إنه واحد . فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان ، لأن الإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم إلى إنسانين ، بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء وذلك من جهة أخرى . ثم زعم قوم أن الواحدية صفة زائدة على الذات لأن الجوهر قد يشارك العرض في كونه واحداً لا يشاركه في كونه جوهراً فقط ، ولأنه يصح تعقل الجوهر مع الذهول عن كونه واحداً ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، ولأن قولنا « الجوهر واحد » ليس يجري مجرى قولنا « الجوهر جوهر » ولأن مقابل الجوهر العرض ، ومقابل الواحد هو الكثير . ثم المفهوم من كونه واحداً أمر ثبوتي لأنه لو كان سلبياً لكان سلباً للكثرة . فإن كانت الكثرة سلبية وسلب السلب ثبوت فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب ، وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فإن كانت الوحدة سلبية حصل من الأمور المعدومة أمر موجود وهو محال ، فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية . ثم إنه لا يمكن أن يقال : إنه لا تحقق لها إلا في الذهن لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحداً في نفسه قبل أن يوجد في ذهننا واعتبارنا فثبت أن كون الشيء واحداً صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات . والجواب أن كون الشيء واحداً في ذاته معناه كونه بحيث يصح أن يدرك الذهن منه معنى الوحدة ، وهذه الحيثية لا تتوقف على حصول الذهن في الخارج . ثم إن الوحدة لو كانت صفة زائدة على الذات كانت الوحدات متساوية في ماهية الوحدة ومتباينة بتعيناتها ، فيكون للوحدة وحدة أخرى وهلم جرا وذلك محال ، ثم إن شيئاً من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد ، فإن العشرة الواحدة يعرض لها الوحدة من حيث هي عشرة واحدة .

فإن قلت : عشر ثانٍ فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت لها الوحدة من هذه الجهة ، فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة . ولكن الوحدة تغاير الوجود لأن الموجود ينقسم إلى الواحد ، والكثير والمنقسم إلى شيئين : مغاير لما به الانقسام . والواحد الحق سبحانه وتعالى واحد باعتبارين : أحدهما أن ذاته ليست مركبة من أمور كثيرة بل ولا من أمرين أيضاً وإليه الإشارة بقوله { إلهكم إله واحد } والخطاب للممكنات بأسرهم . والتذكير لتغليب ذوي العقول الذكور ، وثانيهما أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب وفي كونه مبدأ لجميع الممكنات وهو المراد بقوله { لا إله إلا هو } ويمكن أن يقال : القرينتان تدلان على نفي الشريك إلا أن الأولى منهما تدل على إثبات وحدته في الإلهية بالمطابقة . ويلزم منه نفي الشريك كقولك « هو سيد واحد » تريد الوحدة في السيادة ، فيلزم نفي أن يكون غيره سيداً . والقرينة الثانية تدل على نفي الشريك بالمطابقة . ثم على إثبات المعبودية بالحق فمعناه لا إله في الوجود إلا هو . وفيه نكتة شريفة وهي أن إثبات الحق وقع في كلتا القرينتين بالمطابقة ليعلم أنه المقصد الأسنى والغاية القصوى . وتحقيقه أن العارف له رجوع وعروج ، وذلك أنه قد يفنى في عالم اللاهوت ويبقى ببقاء الحي الذي لا يموت ، ويطالع عالم الشهود فيلزمه حينئذ نفي ما سوى الحق . وإذا رجع إلى عالم الناسوت ضرورة وجب عليه نفي كل من سواه حتى يعرج إلى المقصود . فهذا سر عكس الترتيب في القرينتين ، ولأن الأولى مرتبة الصديقين السابقين فلا جرم وقع التكليف بالترتيب الأخير « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله » . ثم البرهان العقلي على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه لا يجمعه أجزاء مقدارية كما للأجسام ، ولا يحصره أجزاء معنوية كما في البسائط النوعية ، ولا أجزاء اعتبارية كما في البسائط الجنسية ، هو أن كل مركب فإنه يفتقر في تحققه أجزائه ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجب الوجود لذاته . وأيضاً فكل ممكن فإن وجوده زائد على ماهيته في العقل والاعتبار فإنه يمكن تصور الممكن من حيث إنه ممكن مع الشك في وجوده الخارجي . ولكن لا يمكن تعقل الواجب من حيث إنه واجب مع الشك في وجوده ، ولا نعني بكون الوجود زائداً على الماهية وغير زائد إلا هذا . وأما أنه تعالى وحده لا شريك له فلأن وجوب الوجود يقتضي أن لا يكون الواجب لذاته مفتقراً في شيء إلى شيء أصلاً ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان في غاية الكمال ونهاية الجلال والجمال ، ولا ريب أن من كمالات الجميل كونه عديم النظير . ومن تحقق معنى وجوب الوجود بنور الباطن وصفاء الضمير لم يشك في وجوده تعالى ولا في أن واجب الوجود من جميع جهاته ، وواجب الوجود في جميع صفاته ، وواحد بجميع اعتباراته حتى عن حمل الوحدة عليه وعن تصور ذاته .

وههنا حالة عجيبة ، فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة ، فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة . فاعرف هذه الأسرار لتتخلص عن ظلمات شبهات الأشرار وتفوز بمقامات الأبرار وتستغرق في بحار عالم الأنوار بعون الملك الجبار وشروق أنوار الواحد القهار . ولك أن تقول : إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له . أما أنه واحد في ذاته فلأنه لو شاركه غيره في حقيقته لزم تركبه مما به الاشتراك وما به الامتياز ، وكل مركب مفتقر ، وكل مفتقر ممكن . وأما أنه واحد في صفاته فلأن صفات غيره من غيره وصفاته من نفسه ، ولأن صفات غيره زمانية دون صفاته ولأن صفات غيره متناهية وصفاته غير متناهية كعلمه مثلاً ، فإن له معلومات غير متناهية بل له في كل معلوم علوم غير متناهية بحسب أحياز ذلك المعلوم وأوقاته وسائر أحواله ، ولأن موصوفية ذاته بالصفات ليست بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذات محلاً لها ، ولا بمعنى أن ذاته تستكمل بها لأن ذاته كالمبدأ لتلك الصفات ولن يستكمل المبدأ بما عن المبدأ بل ذاته مستكملة بذاته . ومن لوازم ذلك الاستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال ، وقد يفضي التقرير ههنا إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به ، وتلك أنه لا خبر عند العقول من صفاته كما أنه لا خبر عندها من ذاته ، فإنا لا نعرف من علمه إلا أنه الآمر الذي لأجله ظهر الأحكام والإتقان في المخلوقات ، كما أنا لا نعلم من ذاته إلا أنه مبدأ جميع الممكنات . من طبع على قلبه مني بالخذلان ، ومن كشف له الغطاء صار حيران فلا إحاطة للقطرة بكرة الماء ، ولا ظهور لضوء السهى عند حلول الشمس .
كبد السماء أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله
فالموت في إدباره ... والعيش في إقباله
وأصدّ عنه إذا بدا ... وأروم طيف خياله
وأما أنه واحد في أفعاله فلأن ما سواه ممكن الوجود لذاته ، وبقدر البون بين الواجب للذات والممكن للذات يوجد التفاوت بين فعليهما إن فرض للممكن فعل من نفسه { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } [ الروم : 40 ] ثم إنه تعالى خص الموضع بذكر الرحمن الرحيم ، لأن الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو ، فقعبهما بذكر الصفتين ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية وإشعاراً بأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان { إن في خلق السموات والأرض } الآية .

ذكر علماء المعاني في إيجاز هذه الآية أن في ترجيح وقوع أيّ ممكن كان على « لا وقوعه » لآيات للعقلاء . إلا أن الكلام لما كان مع الإنس أو الجن فحسب بل مع الثقلين ، ولا مع قرن دون قرن بل مع القرون كلهم إلى انقراض الدنيا وفيهم من مرتكبي التقصير في باب النظر والعلم بالصانع من لا يحصي من طوائف الغواة ، لم يكن مقام أدعى لترك الإيجاز إلى الإطناب من هذا . عن عطاء قال : نزل بالمدينة على النبي صلى الله عليه وسلم { وإلهكم إله واحد } فقالت كفار قريش بمكة - ولهم حينئذ حول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً - : كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزلت { إن في خلق السموات والأرض } إلى آخرها وعن سعيد بن مسروق : لما نزلت { وإلهكم إله واحد } تعجب المشركون وقالوا : إله واحد؟ إن كان صادقاً فليأتنا بآية فنزلت . وزعم بعض الناس أن الخلق هو المخلوق وهو الذي يدل على الصانع . والتحقيق أنه غيره لأن الخلق التقدير ، وتقدير المخلوقات غير نفس المخلوقات ، ولو كان عينها والخالقية صفة لله تعالى لزم اتصافه تعالى بالقاذورات ، والشياطين . ولأنه يصح تعليل حدوث الحادث بخلق الله تعالى فلا يصح تعليل حدوثه بنفس ذلك الحادث ، ولأنه يصح أن يقال : خلق السواد وخلق البياض ومفهوم الخلق فيهما واحد ، ومفهوم السواد غير مفهوم البياض ، ولاتفاق المعتبرين من النحاة على أن العالم في قول « خلق الله العالم » مفعول به لا مفعول مطلق . ثم لا نزاع في الاستدلال على الخالق بالمخلوق ، لكن لا من جهة عينه بل من جهة خلق الله إياه ، وهذه الجهة التي صيرته آية .
وقد عدد الله تعالى في هذه الآية ثماني آيات :
الأولى : خلق السموات وقد تكلمنا في عددها وترتيبها في تفسير قوله تعالى { فسوّاهن سبع سموات } [ البقرة : 29 ] وقد زعم أهل الهيئة لما شاهدوا من كل واحد من السيارات السبع حركات مختلفة كالبطء والسرعة بعد التوسط في الحركة والوقوف والرجوع بعد الاستقامة وهي الحركة على توالي البروج وعندهم مقدمتان كليتان إحداهما أن السمويات لا يتطرق إليها إلا الاختلاف الوضعي .
الثانية : أن حركة الكوكب في الفلك ليست كحركة السمك في الماء ولكه يدور بإدارة الفلك إياه ، أن كل واحد من أفلاك السيارات ينقسم إلى أفلاك أخر يتضمنها فلكه الكلي الذي مركزه مركز العالم ، ومراكزها تخالف مركزه في الأغلب . ثم إن كان مع المخالفة في المركز محيطاً بالأرض يخص باسم الخارج المركز ويبقى بعد توهم انفصاله من الفلك الكلي جسمان تعليميان متبادلاً وضع الغلظ والرقة يسميان المتممين ، وإن لم يكن محيطاً بالأرض سمي بالتدوير ، ويكون الكوكب مركوزاً فيه كالفص في الخاتم . ويلزم له من مجموع الحركات المركبة من تلك الأفلاك حركة مختلفة في النظر ، وإن كان كل منهما متشابهاً في نفس الأمر ، ويعني بالتشابه ههنا أن يقطع المتحرك من المحيط في أزمنة متساوية قسياً متساوية ، أو يحدث عند المركز زوايا متساوية وبالاختلاف نقيض ذلك .

فللقمر من تلك الأفلاك أربعة : اثنان متوافقان في المركز وخارج وتدوير . وللعطارد أربعة : أحدها يوافق مركزه مركز العالم وخارجان وتدوير . وللزهرة ثلاثة : وللشمس اثنان : موافق وخارج . ولكل من الثلاثة العلوية كما للزهرة . ومقادير حركات هذه الأفلاك بسيطة موضوعة في الزيجات ، وأما المختلفة فالشمس تقطع جميع الفلك في سنة شمسية وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم إلا كسراً ، والقمر في ثمانية وعشرين يوماً ، وكل من عطارد والزهرة كالشمس وزحل في ثلاثين سنة ، والمريخ في سنتين ، والمشتري في اثنتي عشرة سنة جميع ذلك بالتقريب . وإذا تقرر ذلك على الإجمال فنقول في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال : إن اختصاص مقادير كل واحد من الأفلاك بمقدار معين مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية ، تدل على مخصص مدبر مختار خبير قهار . وكذا تخصص كل منها بحيز معين ، وكذا تعيين نقطتين من سطح الفلك للقطبية مع تساوي جميع النقط المفروضة عليه في صلوح ذلك ، وكذا حصول الكواكب أو التدوير في جانب معين من الفلك ، وكذا تفصيل الأفلاك الكلية إلى الخوارج المراكز وإبقاء المتممات على أقدار معينة في الرقة والغلظ ، وكذا تعيين كل من الأجرام بحركة معينة . السيارات كما قلنا آنفاً والثوابت بحيث تتم دوراً في ستة وثلاثين ألف سنة على ما في المجسطي ، أو في خمسة وعشرين ألف سنة ومائتي سنة عند المتأخرين ، والفلك الأعظم في يوم بليلة . وكذا تعيين جهات الحركات شرقاً أو غرباً أو شمالاً أو جنوباً ، وكذا تعيين مبادئ الحركات وتخصيصها بزمان دون زمان ، فإن الأفلاك سواء قلنا أن ذواتها حادثة أو يقال إنها أزلية ، لا بد أن يكون لحركاتها أول فإن الحركة انتقال من حالة إلى حالة ، وكون الحركة أزلية ينافي المسبوقية بالغير . فالابتداء بالحركة بعد أن لم تكن يقتضي الافتقار إلى فاعل مختار يكون الكل تحت قهره وتسخيره ، وكذا تخصيص كل من الكواكب بعظم آخر وبلون آخر وبلون آخر كصفرة عطارد وبياض الزهرة كمودة زحل ودريّة المشتري وحمرة المريخ وظلمة القمر في ذاته بحيث إذا حال حائل بين الناظر وبين الشمس - وذلك في الاجتماع المرئي - كسفه . وكذا اختلاف تأثيراتها في هذا العالم بإذن خالقها . وبالجملة فإن هذا الترتيب العجيب والنسق الأنيق في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركتها وارتباط أجرامها واختلاف أوضاعها المستتبعة لاتصالاتها وانصرافاتها ، أترى أنها مبنية على حكمة وبقدرة قدير خبير أم هي واقعة عبثاً وجزافاً؟ هيهات فإن من جوّز في بناء رفيع وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ثم تولد منهما اللبنات ثم تركبت تلك اللبنات وتولدت من تركيبها القصر ثم تزين بنفسه بالنقوش الغريبة والرسوم اللطيفة ، قضى العقل له بالجنون وسجل عليه بسخافة الرأي بل يعد من زمرة الأنعام من جملة الأنام .

الآية الثانية خلق الأرض : ومن تأمل في شكلها من الاستدارة وفي حيزها من كونها واقعة في مركز العالم حتى انبعث منها بوقوع الشمس عليها مخروط ظلي في مقابلة الشمس متى وقع القمر فيه انخسف ، ومن انكشاف بعضها عن كرة الماء لمكان الاستقرار عليها ، وفي اختلاف أوضاع بقاعها بالنسبة إلى السماء حتى اختلف مرور الشمس وسائر الكواكب بسمت رؤوس قطان البلدان وتباينت الفصول والأمزجة والأخلاق وتغايرت الطوالع والمطالع بحسب تغاير الآفاق ، ومن سائر أعراضها ومنافعها التي تقرر طرف منها في تفسير قوله { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } [ البقرة : 22 ] علم افتقارها إلى مدبر قدير وعليم خبير واحد في ملكه يفعل ما يشاء كما يشاء من غير منازع ومعاند .
الثالثة : اختلاف الليل والنهار : أما النهار فإنه عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأفق . وفي عرف الشرع : زيادة ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع جرم الشمس . وأما الليل ، فعبارة عن مدة خفاء الشمس تحت الأفق ، أو بنقصان الزيادة المذكورة ، وذلك لأن الشمس إذا غابت ارتفع رأس مخروط ظل الأرض إلى فوق فوقع الإبصار داخله إلى أن يظهر الضلع المستنير منه من جانب الأفق الشرقي فيكون أول الفجر الكاذب إن كان الضوء مرتفعاً عن الأفق بعد ، وأول الفجر الصادق إذا قرب من الأفق جداً وانبسط النور حتى إذا غاب رأس المخروط تحت الأفق طلع مركز جرم الشمس في مقابله فظهر أن الليل والنهار كيف يختلفان أي يتعاقبان مجيئاً وذهاباً كقوله { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } [ الفرقان : 62 ] أو يختلفان ظلاماً وضياءً أو طولاً وقصراً لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ضرورة كون مجموعهما أربعاً وعشرين ساعة . أو كيف يختلفان في الأمكنة فإن نهار كل بقعة تقابلها ضرورة كروية الأرض . أو كيف يختلفان باختلاف البلدان فإن البلد كلما ازداد عرضاً عن خط الاستواء - وهو الموضع المحاذي لمنطقة الفلك الأعظم المسماة معدل النهار - ازداد نهاره في الصيف طولاً وفي الشتاء قصراً وبالعكس في الليل وقد يرتقي طول النهار بحسب تزايد ارتفاع القطب إلى حيث يصير اليوم بليلته نهاراً كله وبإزائه الليل ، ثم إلى أكثر من ذلك إلى حيث يكون نصف السنة نهاراً ونصفها الآخر ليلاً وذلك إذا صار قطب الفلك الأعظم محاذياً لسمت الرأس ولا عمارة هناك ، ولا حيث يزيد النهار الأطول على يوم بليلته لشدة البرد اللازم من قبل انخفاض الشمس . وكون الليل والنهار في أنفسهما آيتين على وجود الصانع ووحدانيته ظاهر ، وكذا من جهة ارتباطهما بحركة النير الأعظم ، وكذا من جهة انتظام أحوال العباد بهما بسبب طلب المعاش في الأيام والنوم والراحة في الليالي .

ومن الغرائب تعاون المتنافيين على أمر واحد هو إصلاح معاش الحيوان ، وأن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولاً عند النفخة الأولى ، ويقظتهم عند طلوع الفجر تضاهي عود الحياة إليهم في النفخة الثانية ، وانشقاق ظلمة الليل بظهور الفجر المستطيل فيه من أعجب الأشياء كأنه جدول ماء صاف يسيل فيما بين بحر كدر بحيث لا يمتزجان . وكل هذه الأمور دلائل على وجود مبدع عظيم الشأن غني عن الزمان والمكان مبرأ عن سمات الحدوث والإمكان .
الرابعة : الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس أي متلبسة بالذي ينفعهم مما يحمل فيها ، أو بنفع الناس . والفلك بالضم والسكون السفينة ، واحد وجمع . فضمة الواحد ضمة برد وضمة الجمع ضمة أسد ، وتأنيث صفته ههنا أن يكون لتضمين معنى السفينة ، ويحتمل أن يكون لمعنى الجمعية أي المراكب التي تجري ، والتركيب يدل على الاستدارة والدوران ومنه « الفلك جسم كروي يحيط به سطحان متوازيان مركزهما واحد » « وفلكة المغزل » « وفلك ثدي الجارية استدار » . والبحر خلاف البر . قيل : سمي بذلك لاتساعه وتعمقه ومنه « تبحر في العلم والمال » ويسمى الفرس الواسع الجري بحراً . قال صلى الله عليه وسلم في فرس أبي طلحة : « إن وجدناه لبحراً » وقيل : من الشق بحرت أذن الناقة شققتها . ومنه البحيرة . هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } [ البقرة : 22 ] . أن الماء محيط بأكثر جوانب القدر المعمور من الأرض فذلك هو البحر المحيط . وقد دخل من ذلك الماء من جانب الجنوب متصلاً بالمحيط الشرقي ومنقطعاً عن الغربي إلى وسط العمارة أربعة خلجان : أولها إذا ابتدئ من الغرب الخليج البربري لكونه حدود بربر من أرض الحبشة طوله من الجنوب إلى الشمال مائة وستون فرسخاً ، وعرضه خمسة وثلاثون فرسخاً . وعلى ضلعه الغربي بلاد كفار الحبشة وبعض الزنج ، وعلى الشرقي بلاد مسلمي الحبشة . وثانيها الخليج الأحمر ، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخاً ، وعرضه بقرب منتهاه ستون فرسخاً ، وبين طرفه وفسطاط مصر الذي على شرقي النيل مسيرة ثلاثة أيام على البر ، وعلى ضلعه الغربي بلاد الزنج من البربر وبعض بلاد الحبشة ، وعلى ضلعه الشرقي سواحل عليها فرضة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لقوافل مصر والحبشة إلى الحجاز ، ثم سواحل اليمن ، ثم عدن على الزاوية الشرقية منه . وثالثها خليج فارس ، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخاً ، وعرضه قريب مائة وثمانين ، وعلى سواحل ضلعه الغربي اليمن وبلاد عمان ولهذا ينسب البحر هناك إليها . وجملة ولاية العرب وأحيائهم من الحجاز واليمن والطائف وغيرها وبواديهم بين الضلع الغربي من هذا البحر والشرقي من الخليج الأحمر ، فلهذا تسمى العمارة الواقعة بينهما جزيرة العرب وفيها مكة زاد الله شرفها .

وعلى سواحل ضلعه الشرقي بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران ثم سواحل السند . ورابعها الخليج الأخضر مثلث الشكل آخذ من الجنوب إلى الشمال . ضلعه الشرقي من بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران يتصل بالمحيط الشرقي . وضلعه الغربي خمسمائة فرسخ تقريباً . وعلى سواحل هذا الضلع ولايات القتا والصين ولهذا يسمى بحر الصين ، ومن زاويته الشرقية من بحر فارس يسمى بحر الهند لكون بعض ولاياتهم على سواحله ، وأيضاً قد دخل إلى العمارة من جانب الغرب خليج عظيم يمر من جانب الجنوب على كثير من بلاد المغرب ويحاذي أرض السودان وينتهي إلى بلاد مصر والشام ، ومن جانب الشمال على بلاد أندلس والجلانقة والصقالبة إلى بلاد الروم والشام ، ويتشعب منه شعبة من شمال أرض الصقالبة إلى أرض مسلمي بلغار يسمى بحر ورتك . طوله المعلوم مائة فرسخ ، وعرضه ثلاثة وثلاثون . وإذا جاوز تلك النواحي امتدّ نحو المشرق عما وراء جبال غير مسلوكة وأراض غير مسكونة ، ويتشعب منه أيضاً شعبة تسمى بحر طرابزون . فهذه هي البحار المتصلة بالمحيط . أما غير المتصلة فأعظمها بحر طبرستان وجيلان وباب الأبواب والخرز والبكون ، لكون هذه الولايات على سواحله مستطيل الشكل آخذ من المشرق إلى المغرب بأكثر من مائتين وخمسين فرسخاً ، ومن الجنوب إلى الشمال تقريب من مائتين . ومن عجائب البحار الحيوانات المختلفة الأعظام والأنواع والأصناف ، ومنها الجزائر الواقعة فيها . فقد يقال في بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة ألف وثلثمائة وسبعون ، منها جزيرة عظيمة في أقصى البحر تقابل أرض الهند في ناحية المشرق . وعند بلاد الصين تسمى جزيرة سرنديب دورها ثلاثة آلاف ميل ، فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر . وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة فيها مدائن وقرى كثيرة ، ومن جزائر هذا البحر جزيرة « كلة » التي يجلب منها الرصاص القلعي ، وجزيرة « سريرة » التي يجلب منها الكافور . وغرائب البحر كثيرة ولهذا قيل : حدث عن البحر ولا حرج وسئل بعض العقلاء ما رأيت من عجائب البحر؟ قال : سلامتي منه . والسفينة مما ألهم الله تعالى تركيبها ثم أجراها بقدرته على وجه الماء ، فلولا رقة الماء وخفة مادة السفينة ثم عجيب صنعتها لما تم جريها ، ولولا الرياح المعينة على تحركها لما تكامل النفع بها ، ولولا اعتدال الريح لما سلمت من تلاطم الأمواج ، ولولا تقوية قلوب راكبيها لما صبروا على شدائد ركوبها ، ولولا أنه تعالى خص كل طرف بشيء لم تنبعث الدواعي إلى اقتحام الأخطار في هذه الأسفار وحمل الأمتعة إلى الأمصار في البراري والبحار ، فلا جرم ينتفع الحامل من حيث إنه يربح ، وينتفع المحمول إليه من حيث إنه يجد ما أعوزه .

وفي الآية دليل على إباحة ركوب السفينة وإباحة الانتفاع بالتجارة .
الخامسة : { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } أما نزول المطر من السماء فقد مر تحقيق ذلك في تفسير قوله تعالى { أو كصيبٍ من السماء } [ البقرة : 19 ] وأن المراد من السماء السحاب أو التقدير من جانب السماء . وأما تنكير { من ماء } فلأن الغرض الوحدة الشخصية أو الصنفية يعني ماء هو سبب حياة الأرض لا المطر الذي قد لا ينبت شيئاً كما جاء في الحديث « ليس السنة بالتي لا تمطر وإنما السنة التي تمطر ولا تنبت » ولا ريب أن في إنزال ذلك الماء دلالات على الصانع ووحدانيته حيث جعله في غاية الصفاء واللطافة والعذوبة وصيره سبباً للأرزاق وأنزله بعد قنوط الناس منه وشدة احتياجهم إليه وأودع في نزوله حياة الأرض أي حسنها ونضارتها ورواءها وبهجتها وخضرتها بخروج أصناف النبات وضروب الأعشاب وألوان الأزهار وأنواع الأشجار والأثمار وجريان الجداول بينها والأنهار بحيث تروق الناظرين وتشوق السامعين .
فوقت الربيع في الأزمان ... كسن الصبا في الأسنان
وموت الأرض من ترشيح الاستعارة ، فإنه لما عبر عن بهجتها ونضرتها وخضرتها بالحياة ، عبر عن جمودها وكمودتها وبقائها على الهيئة الأصلية بالموت كأنها جسد لا روح فيه . فلا دواء عليه .
السادسة : { وبث فيها من كل دابةٍ } وإنه معطوف على { أنزل } فيدخل تحت حكم الصلة ، ويصح عود الضمير { فيها } إلى الأرض لأن قوله { فأحيا } عطف على { أنزل } فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد . فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ويجوز عطفه على { أحيا } أي فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابةٍ ، لأن معاش الحيوان بل حياته يدور على الماء { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [ الأنبياء : 30 ] . واعلم أن الحيوان إما توليدي أو توالدي ، وكلا الصنفين يحتاج إلى صانع فردٍ حكيم . يحكى أن شخصاً قال بحضرة عمر : إني أتعجب من أمر الشطرنج ورقعته صغيرة ولو لعب الإنسان به ألف مرة لم يتفق مرتان فقال عمر : ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر ، ثم إن مواضع الأعضاء التي فيها من الحاجبين والعينين والأنف والفم لا يتغير ألبتة ومع ذلك لا ترى شخصين أبداً يشتبهان في الصورة . فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها ، ولولا هذا الاختلاف لاشتبه الناس بعضهم ببعض وانقطع نظم معايشهم وحوائجهم . ومن تأمل كتب التشريح وقرأ كتاب الحيوان وتتبع عجائب المخلوقات وقف من تراكيبها وخواصها على ما يقضي منه العجب ويفضي إلى الاعتراف بوحدانية الرب .
السابعة : تصريف الله تعالى الرياح مع دقتها ولطافتها وفي ذلك نفع عظيم لانتفاع الحيوان بتنشق الهواء البارد ، وبجريان السفن بهبوب الرياح ، ومن قبل تلقيح الأشجار وسوق السحاب إلى حيث يرسله الله تعالى ، ومن جهة تصحيح الأهوية الوبائية إلى غير ذلك من المنافع .

والمراد بتصريفها تقليبها في جهات العالم على حسب المصالح شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً أي صباً ودبوراً على كيفيات متخالفة حارّة وباردة وعاصفة ورخاء . ومن قرأ الريح بالموحدة فليس فيها دلالة على العذاب في هذا المقام ، والذي جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح قال : « اللَّهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » . فلا يدل إلا على أن مواضع الرحمة بالجمع أدل كما قال تعالى : { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } [ الروم : 46 ] وقال { وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] وقد تختص اللفظة في القرآن بشيء فتكون أمارة له . فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله { وما يدريك } مبهم غير معين قال { وما يدريك لعل الساعة قريب } [ الشورى : 17 ] وما كان من لفظ « أدراك » فإنه مفسر { وما أدراك ما القارعة } [ القارعة : 3 ] { وما أدراك ما هيه } [ القارعة : 10 ] .
الثامنة : السحاب المسخر بين السماء والأرض سمي سحاباً لانسحابه في الهواء . ومعنى التسخير التذليل . وذلك أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف طبعه بقاسر ومخسر . وأيضاً لو دام لعظم ضرره من حيث إنه يستر ضوء الشمس ويكثر الأنداء والأمطار ويتعذر التردد في الحوائج ، ولو انقطع لعظم ضرره لاستلزامه الجدب والإمحال ، فكان تقديره بالمقدار المعلوم والإتيان به في وقت الحاجة ودفعه عند زوالها بمدبر ومسخر لا محالة . وفي نفس السحاب من عظمه وتراكمه وارتفاعه وانخفاضه وانبساطه وتخلخله وسده الأفق في لحظة وانقشاعه في أخرى واشتماله على الرعد والبرق والسحمة والتطبيق إلى غير ذلك من العجائب دلالات واضحة على كمال حكمة موجده ومقدّره . وأما قوله تعالى { الآيات } فيحتمل أن يكون راجعاً إلى الكل أي مجموع هذه الأشياء الثمانية آيات ، ويحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد فإن كل واحد منها يدل على مدلولات كثيرة كما فصلنا . وأيضاً فكل واحدة منها من حيث إنها موجودة فدل على وجود موجدها ، وكونه قادراً ومن حيث إنها وقعت على وجه الإحكام والإتقان تدل على علم الصانع ، ومن حيث حدوثها واختصاصها بوقتٍ دون وقت تدل على إرادته واختياره ، ومن حيث إنها وجدت على الاتساق والانتظام دلت على وحدانية الله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] . وأما قوله تعالى { لقوم يعقلون } فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه والاستدلال به . وفي الآية من الفوائد أن التقليد مذموم فيما إلى تحقيقه سبيل . وفيها أن جميع المعارف ليست ضرورية وإلا لم يحتج إلى النظر في شيء منها ، وإنما خص الآيات الثمانية بالذكر مع أن سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها على وجود الصانع بل كل ذرّة من الذرات ، لأنها جامعة بين كونها نعماً على المكلفين ، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيراً في الخواطر . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « ويلٌ لمن قرأ هذه الآية فمج بها » أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها حسبي الله ونعم الوكيل .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

القراآت : { ولو ترى } بتاء الخطاب : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب . الباقون : بالياء { إذ يرون } بضم الياء من الإراءة : ابن عامر { إن القوة } { وإن الله } بكسر الألف فيهما : يزيد وسهل ويعقوب { إذ تبرأ } بإدغام الذال في التاء وكذا ما أشبهه : هشام وسهل وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف . { يريهم الله } بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل . وقرأ حمزة وعلي وخلف ويعقوب بضم الهاء والميم . والباقون بكسر الهاء وضم الميم { بخارجين } بالإمالة : عباس وقتيبة لجوار من النار . الوقوف : { كحب الله } ط { حباً لله } ط { العذاب } لا وكذلك { وجميعاً } لا من قرأ « أن » بالكسر فيهما { شديد العذاب } 5 { الأسباب } 5 { تبرؤا منا } ط { عليهم } ط { ومن النار } 5 .
التفسير : أنه سبحانه وتعالى لما قرر للتوحيد الدلائل الباهرة عقبها تقبيح ما يضاده « فبضدها تتبين الأشياء » والند المثل المناد كما سلف . والمراد بالأنداد ههنا هي الأصنام التي اعتقد المشركون أنها تقربهم إلى الله زلفى ، ونذروا لها النذور وقربوا لأجلها القرابين ، وقيل : يعني السادة الذين كانوا يطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم محلين ما حرم الله ومحرّمين ما أحل . عن السدى : واستدل على تفسيره بأن قوله { يحبونهم } فيه ضمير العقلاء ولأنه من المستبعد أن تكون محبتهم لها كمحبتهم لله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ولقوله { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ العقلاء أنداداً وأمثالاً لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون لله تعالى . ويمكن تزييف الحجج بأن ضمير العقلاء جاز عوده إلى الأصنام بناء على اعتقاد الجهلة حيث نظموها في سلك المعبود الحق . قال تعالى { وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ] . وأيضاً علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ممنوع ولو علموا بذلك ما أشركوا وأيضاً التبري لا يمتنع من الأصنام بدليل قوله تعالى { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } [ فاطر : 14 ] وقال أهل العرفان : كل شيء شغلت قلبك به سوى الله فقد جعلته في قلبك نداً لله تعالى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] { يحبونهم } يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم ، أو يعظمونهم ويخضعون لهم كحب الله من إضافة المصدر إلى المفعول أي كما يحب الله على أنه مصدر من المبني المفعول . وإنما استغنى عن ذكر من يحبه وهم المؤمنون لأنه غير ملتبس . وقيل : كالحب اللازم عليهم لله وقيل : كحبهم الله أي يسوّون بينه وبينهم في محبتهم بناء على أنهم كانوا مقرّين بالله { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } [ العنكبوت : 65 ] { والذين آمنوا أشدُ حباً لله } لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره في السراء ولا في الضراء ، ولا يجعلون وسائط بينهم وبينه بخلاف المشركين يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله .

ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره ، أو يأكلونه كما أكلت باهلة آلهتها من حيس وهو الأقط والسمن والتمر عام المجاعة وفيهم قال الشاعر :
أكلت حنيفة ربها ... زمن التجعم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعة
واعلم أن إطلاق محبة العبد لله تعالى قد ورد في القرآن والحديث كما في هذه الآية وكقوله { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] ويروى أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت . وقد جاء لقبض روحه - هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله إليه : هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله . فقال : يا ملك الموت الآن فاقبض . وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة؟ فقال : « ماذا أعددت لها » فقال : ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله . فقال صلى الله عليه وسلم : « المرء مع من أحبه » . ثم إن الأئمة اختلفوا في معناها فقال جمهور المتكلمين : إن المحبة نوع من أنواع الإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات ، ويستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته ، فمعنى قولنا يحب الله يحب طاعة الله وخدمته أو يحب ثوابه وإحسانه . وأما العارفون فيقولون : إنا نحب الله لذاته لا لغرض ، ولو كان كل شيء محبوباً لأجل شيء آخر دار أو تسلسل وإذا كنا نحب الرجل العالم لعلمه ، والرجل الشجاع لقوته وغلبته ، والرجل الزاهد لبراءة ساحته عن المثالب ، فالله تعالى أحق بالمحبة لأن كل كمال بالنسبة إلى كماله نقص ، والكمال مطلوب لذاته محبوب لنفسه . وكلما كان الاطلاع على دقائق حكمة الله وقدرته وصنعه أكثر كان حبه له أتم ، وبحسب الترقي في درجات العرفان تزداد المحبة إلى أن يستولي سلطان الحب على قلب المؤمن فيشغله عن الالتفات لغيره ويفنى عن حظوظ نفسه ، فيه يسمع وبه يبصر وبه يمشي ويتكلم بلسان الحال « ليس في جبتي سوى الله » فلا يعصي الله طرفة عين ولا يشتغل بحظ نفسه لمحة بصر كما قيل :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
ويحب الله ويحب أولياءه ومقربيه ويناوئ أعداءه ومخالفيه { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] .
لعين تغدى ألف عين ويتقى ... ويكرم ألف للحبيب المكرم
{ ولو يرى } قرئ بالياء والتاء « وأن » « وإن » بالفتح والكسر فههنا أربعة تقديرات : الأول : لو يعلم الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد إذا عاينوا العذاب يوم القيامة أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم وأن عذاب الله للظالمين شديد ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم .

وحذف جواب « لو » دليل على فخامة شأن المحذوف ليذهب الوهم كل مذهب ويقدر من الفظاعة ما لا يكتنه كنهه كقولهم « لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه » بخلاف ما وقع التعبير عنه بلفظ معين . الثاني : ولو ترى - يا محمد أو يا من يتأتى منه الرؤية - هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم وقت معاينتهم العذاب بمعاينتهم أن القدرة كلها لله وأنه شديد العذاب ، لرأيت أمراً عظيماً . فعلى هذا « أن » و « إن » مع معمولهما بدل من العذاب . قال الفراء : الوجه فيه تكرير الرؤية أي يرون أن القوة لله جميعاً . الثالث : بياء الغيبة وكسر « إن » و « إن » ومعناه كالأول ، والجملتان معترضتان . أو المعنى لقيل : إن القوة لله . والرابع : على هذا القياس . ودخول « لو » وكذا « إذا » في المستقبل مع « أن » حقهما الدخول على الماضي نظم للمستقبل في سلك الماضي المقطوع به لصدوره عمن لا خلاف في إخباره . وقيل : لأن الساعة قريب فكأنها قد وقعت وكذا الكلام في { إذ تبرأ } وأنه بدل من { إذ يرون العذاب } وقيل : هو معمول شديد . والمراد بالذين اتبعوا القادة والرؤساء من مشركي الإنس . عن قتادة والربيع وعطاء : أو شياطين الجن الذين صاروا متبوعين بالوسوسة عن السدي : وقيل الأوثان . والتبري إما بالقول وهو أقرب ، وإما بظهور العجز والندم بحيث لا يغنون عن أنفسهم من عقاب الله شيئاً فكيف عن غيرهم؟ { ورأوا العذاب } الواو للحال أي تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب { وتقطعت } عطف على { تبرأ } { بهم } أي عنهم فإن « تقطع » في معنى « زال أو وقع » تقطع الأسباب ملتبسة بهم مثل { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] بضم النون أو الباء للتعدية كأن أسباب الوصل صارت أسباب القطع ومصالحهم انقلبت عليهم مفاسد . والسبب في اللغة الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به . قالوا : ولا يدعى الحبل سبباً حتى ينزل ويصعد به . والمراد ههنا الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب والأتباع والأشياع والعهود والعقود { لو أن لنا كرة } تمنّ ولذلك أجيب بالغاء كأنه قيل : ليت لنا كرة رجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف والمتبوعون مفتقرون إلى اتباعنا ونصرتنا حتى نتبرأ منهم بعدم النصرة والإعانة كما فعلوا هم اليوم { كذلك } مثل ذلك الإراء الفظيع { يريهم الله أعمالهم حسرات } هو ثالث مفعول « أرى » أو مثل ذلك التبرؤ يريهم أعمالهم حسرات ، فإن ذلك التبرؤ نوع إراءة . والمراد بالأعمال قيل الطاعات لزمتهم فلم يقوموا بها وضيعوها . عن السدي : وقيل المعاصي وأعمالهم الخبيثة يتحسرون لم عملوها . عن الربيع وابن زيد : وقيل ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر .

عن الأصم : وقيل أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم . والحسرة شدة الندم على ما فات حتى بقي النادم كالحسير من الدواب وهو الذي لا منفعة فيه . والتركيب يدور على الكشف ومنه انحسر الطائر انكشف بذهاب ريشه . والحاصل أنهم لا يرون مكان أعمالهم إلا حسرات . في أيها المغرور بالسلامة ما أعددت ليوم القيامة ، يوم الحسرة والندامة ، يوم يجعل الولدان شيباً ، يوم يدع المسرور كئيباً . الدنيا دار تجارة فالويل لمن تزود منها الخسارة { وما هم بخارجين من النار } استدل الأشاعرة بالتقديم على التخصيص فقالوا : إن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة يخرجون من النار . وزعم المعتزلة أن بناء الكلام على « هم » لتقوي الحكم وإفادة التأكيد كقوله تعالى { وهم يخلقون } [ الأعراف : 19 ] فإنه لا يدل على أن غير الأصنام غير مخلوق والله أعلم حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

القراآت : { خطوات } ساكنة الطاء حيث كان : أبو عمرو وغير عباس ونافع وحمزة وخلف الهاشمي وأبو ربيعة عن البزي والقواس والحماد وأبو بكر غير البرجمي . الباقون : بالضم . { بل نتبع } . وبابه مثل { هل ننبئكم } [ الكهف : 103 ] و { بل نقذف } [ الأنبياء : 18 ] مدغماً حيث كان : علي وهشام .
الوقوف : { طيباً } ز والوصل أجوز لعطف الجملتين المتفقتين { الشيطان } ط { مبين } 5 { ما لا تعلمون } 5 { آباءنا } ط لابتداء الاستفهام { ولا يهتدون } 5 { ونداء } ط لحق المحذوف أي هم صم { لا يعقلون } 5 .
التفسير : قال الكلبي : نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة ، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . والآية مسوقة لتقرير طرف من جهالات المشركين المتخذين من دون الله أنداداً . وحلالاً مفعول كلوا أو حال مما في الأرض وهو المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه من الحل الذي يقابل العقد . ومنه حل بالمكان إذا نزل ، وحل عقد الرحال ، وحل الدين وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة ، والحلة لأنها تحل عن الطي للبس . وتحلة القسم لأن عقدة اليمين تنحل به . ثم الحرام قد يكون حراماً في جنسه كالميتة والدم ، وقد يكون حراماً لعرض كملك الغير إذا لم يأذن في أكله ، فالحلال هو الخالي عن القيدين ، والطيب إن أريد به ما يقرب من الحلال لأن الحرام يوصف بالخبيث { قل لا يستوي الخبيث والطيب } [ المائدة : 100 ] فالوصف لتأكيد المدح مثل { نفخة واحدة } [ الحاقة : 13 ] أي الطاهر من كل شبهة . ويمكن أن يراد بالطيب اللذيذ ، أو يراد بالحلال ما يكون بجنسه حلالاً وبالطيب ما لا يتعلق به حق الغير . والخطوة بالضم ما بين قدمي الخاطي كالغرفة بالضم اسم لما يغترف والفعلة بالضم والسكون إذا كانت اسماً تجمع في الصحيح بسكون العين وضمها . يقال : اتبع خطواته ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته { مبين } ظاهر العداوة لا خفاء به { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين } [ ص : 82 ] { لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } [ الأعراف : 16-17 ] { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } السوء متناول جميع المعاصي من أفعال الجوارح وأفعال القلوب ، والفحشاء هي التي جاوزت الحد في القبح فلهذا قد تحقق الأول بما لم يجب فيه الحد والثاني بما يجب فيه الحد { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وهذا أقبح الكل لأن وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم الكبائر فهذه الآية كالتفسير لقوله { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } والصغائر والكبائر والكفر والجهل كلها من مأمورات الشيطان ، بل لا يأمر الشيطان إلا بهذه الأمور بدليل « إنما » وهي للحصر وقد يدعو الشيطان إلى الخير ظاهراً وغرضه أن يجرّه إلى الشر آخراً مثل أن يجرّه من الأفضل إلى الفاضل فيتمكن بعد ذلك أن يجرّه إلى الشر .

ومثل أن يجره من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشق ليصير ازدياد المشقة سبباً لتنفره عن الطاعة . ويدخل في قوله { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } جميع المذاهب الباطلة والعقائد الفاسدة وقول الرجل هذا حلال وهذا حرام بغير علم بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلداً للحق لكنه قال ما لا يعلم فصار مستحقاً للذم من جهة أنه قادر على تحصيل العلم بالحق ، ثم إنه قنع بالظن والتخمين . ومعنى أمر الشيطان وسوسته وقد سلف في شرح الاستعاذة ، وفي التعبير عن وسوسته بالأمر رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم أو قبولكم وساوسه . وإذا كان الآمر المطاع مرجوماً مذموماً فكيف حال المأمور المطيع؟ وفي هذا معتبر للبصراء ومزدجر للعقلاء أعاذنا الله بحوله وأيده من مكر الشيطان وكيده . { وإذا قيل لهم } أي للمتخذين من دون الله أنداداً أو للناس . والالتفات إلى الغيبة للنداء على ضلالتهم كأنه يقول للعقلاء : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون : وعن ابن عباس : نزلت في اليهود حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا : نتبع ما ألفينا أي وجدنا عليه آباءنا ، فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم . وقد يعود الضمير إلى المعلوم كما يعود إلى المذكور ، وعلى هذا فالآية مستأنفة . وإنما خص هذا الموضع بقوله { ألفينا } لأن « ألفيت » يتعدى إلى مفعولين ألبتة فكان نصاً في ذلك فورد في الموضع الأول على الأصل . واقتصر في المائدة ولقمان على لفظ « وجدنا » المشترك بين المتعدي إلى واحد والمتعدي إلى اثنين اكتفاء بما ورد في الأول مع تغيير العبارة عارضوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة بالتقليد فما أغفلهم وأنفسهم فلا جرم أجاب الله تعالى بقوله { أو لو كان } الواو للعطف لا للحال على ما وقع في الكشاف ، والهمزة للرد والتعجب وفعل الاستفهام ، محذوف وكذا جواب الشرط ، أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للثواب ، أيتبعونهم أيضاً؟ وتقرير الجواب أن يقال للمقلد : أعرفت أن المقلد محق أم لا . فإن لم تعرف فكيف قلدته مع احتمال كونه مبطلاً ، وإن عرفت فإما بتقليد آخر ويستلزم التسلسل ، أو بالعقل فذلك كافٍ في معرفة الحق والتقليد ضائع . وأيضاً علم المقلد إن حصل بالتقليد تسلسل ، وإن حصل بالدليل فإنما يتبعه المقلد إذا علم ذلك الدليل أيضاً وإلا كان مخالفاً فظهر . . . . . . فقال وضلال { ومثل الذين كفروا } فيه للعلماء طريقان : أحدهما تصحيح المعنى بإضمار إما في المشبه أي مثل من يدعو الحق كمثل الذي ينعق يقال : نعق الراعي بالضأن إذا صاح بها . وأما نغق الغراب فبالغين المعجمة شبه الداعي إلى الحق براعي الغنم والكفرة بالغنم ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تعلم المراد ، وهؤلاء الكفار يسمعون صوت الرسول وألفاظه وما كانوا ينتفعون بها فكأنهم لا يفهمون معانيها .

وإما بإضمار في المشبه به أي مثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق الطريق . الثاني : التصحيح بغير إضمار أي مثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع ، لكن قوله { لا دعاء ونداء } لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئاً . أو مثلهم في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل فإنه لا يسمع إلا صدى صوته . فإذا قال : يا زيد . يسمع من الصدى يا زيد ، فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعوا الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء . أو مثلهم في قلة عقلهم حيث عبدوا الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم . فكما أن الكلام مع البهائم دليل سخافة العقل فكذلك عبادتهم لها أي ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل الذي يتكلم مع البهائم ، فكما أن ذلك عبث ضائع فكذا تقليدهم واتباعهم { صم } عن استماع الحق والانتفاع به { بكم } عن إجابة الداعي إلى سبيل الخير { عمي } عن النظر في الدلائل { فهم لا يعقلون } العقل المسموع ولا المطبوع وذلك أن طريق الاكتساب الاستعانة بالحواس ولهذا قيل : من فقد حساً فقد علماً . فلما فقدوا فائدة الحواس فكأنهم عدموها خلقة ، قال شابور بن أردشير : العقل نوعان : مطبوع ومسموع . فلا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه فإن أحدهما بمنزلة العين والآخر بمثابة الشمس ولا يكمل الإبصار إلا بتعاونهما . وقال النبي صلى الله عليه وسلم « إن لكل شيء دعامة ودعامة عمل المرء عقله » فبقدر عقله تكون عبادته لربه . أما سمعتم قول الله عز وجلّ حكاية عن الفجار؟ { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك : 10 ] وقال : « ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى » .
التأويل : الذين كفروا لم يسمعوا إذ خاطبهم الحق بقوله { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] إلا دعاء ونداء لأنهم كانوا في الصف الأخير من الأرواح المجندة في أربعة صفوف : الأول للأنبياء ، والثاني للأولياء ، والثالث للمؤمنين ، والرابع للكافرين فما شاهدوا شيئاً من أنوار الحق ولكنهم قالوا بالتقليد بلى فبقوا على التقليد { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

القراآت : { الميتة } بتشديد الياء : يزيد . الباقون : بالسكون؛ { فمن اضطر } بكسر النون وضم الطاء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وكسر الطاء : يزيد . الباقون : بضمهما .
الوقوف : { تعبدون } 5 { لغير الله } ج الشرط مع فاء التعقيب { عليه } ط { رحيم } 5 { قليلاً } لا لأن ما بعده خبر « إن » { تزكيهم } ج والوصل أولى لاتصال بعض جزائهم بالبعض { أليم } 5 { بالمغفرة } ج للابتداء بالتعجب أو الاستفهام والوجه الوصل للمبالغة في الإنكار . { على النار } 5 { بالحق } ط للابتداء بأن { بعيد } ربع الجزء .
التفسير : إنه سبحانه تكلم من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى شرح أهل النفاق والشقاق من المشركين وأهل الكتاب ، وذيل كلاً من ذلك بما يناسبه ، ومن ههنا شرع في بيان الأحكام الشرعية . الحكم الأول : إباحة الأكل للمؤمنين بعد ما عمم للناس كلهم ، وهذا بالنظر إلى الأصل . وقد يصير واجباً العارض كما لو أشرف على الهلاك بسبب المجاعة ، وقد يكون مندوباً كموافقة الضيف واستدل بقوله { من طيبات ما رزقناكم } على أن الرزق قد يكون حراماً فإن الطيب هو الحلال . ولو كان الرزق حلالاً ألبتة لم يبق في ذكر الطيب فائدة إذ يصير المعنى كلوا من حلالات ما أحللنا لكم وأجيب بالمنع من أن معنى الطيب ما ذكر بل المعنى كلوا من متلذذات ما رزقناكم ، ولعل أقواماً ظنوا أن التوسع في الأكل الحلال والاستكثار من الملاذ ممنوع منه فرفع الحرج . { واشكروا لله } الذي رزقكموها { إن كنتم إياه تعبدون } إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم فإن الشكر رأس العبادة ، والتركيب يدور على الكشف والإظهار ومنه كشر إذا كشف عن ثغره ، فنشر النعم وحصرها باللسان من الشكر . وباطن الشكر أن يستعين بالنعم على الطاعة دون المعصية وقال بعضهم :
أوليتني نعماً أبوح بشكرها ... وكفيتني كل الأمور بأسرها
فلأشكرنك ما حييت فإن أمت ... فلتشكرنك أعظمي في قبرها
عن النبي صلى الله عليه وسلم « يقول الله تعالى إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري » ولما أجمل في الآية ما يباح أكله ذيل بحصر ما هو محرّم ليبقى ما عدا ذلك على أصل الإباحة فقيل { إنما حرم عليكم الميتة والدم } يتناول ما مات حتف أنفه وما لم تدرك ذكاته على الوجه الشرعي . وإذا كانت محرمة وجب الحكم بنجاستها إجماعاً ، ولأن تحريم ما ليس بمحرم ولا فيه ضر وظاهر يدل على النجاسة . وليس في الآية إجمال عند الأكثرين ، لأن المفهوم من تحريم الميتة ليس تحريم أعيانها وإنما المفهوم في العرف حرمة التصرف في هذه الأجسام كما لو قيل : فلان يملك جارية .

فهم منه عرفاً أنه يملك التصرف فيها . وعلى هذا فالآية تدل على حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل المخصص كالسمك والجراد لقوله صلى الله عليه وسلم « أحلت لنا ميتتان ودمان . أما الميتتان فالجراد والنون . وأما الدمان فالطحال والكبد » وقال صلى الله عليه وسلم في صفة البحر « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » وهذا عام لجميع الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء وإن لم تكن على صورة السمكة المشهورة . ولا فرق أيضاً بين ما يؤكل نظيره في البر كالبقر والشاة وبين ما لا يؤكل كخنزير الماء وكلبه على أصح القولين للشافعي . وقد زعم بعض الناس كصاحب الكشاف أن السمك والجراد يخرج بنفسه لأن الميتة لا تتناولهما عرفاً وعادة ، ولهذا من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث ، وإن أكل لحماً في الحقيقة لقوله تعالى { لتأكلوا منه لحماً طرياً } [ النحل : 14 ] وشبهوه بما لو حلف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث وإن عدّ الكافر من الدواب لقوله تعالى { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [ الأنفال : 55 ] وفيه نظر . لأن عدم التناول عرفاً إنما هو بعد تخصيص الشارع فلا يمكن أن يجعل دليلاً على عمومه . وكالجنين الذي يوجد ميتاً عند ذبح الأم عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهو المروي عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وابن عمر لقوله صلى الله عليه وسلم « ذكاة الجنين ذكاة أمه » وقال أبو حنيفة : لا يؤكل إلا أن يخرج حياً فيذبح وحمل الحديث على الإضمار أي ذكاة الجنين كذكاة أمه وردّ بأن الإضمار خلاف الأصل ، وبأنه إذا خرج لا يسمى جنيناً ، وبأنه لا يبقى للخبر حينئذ فائدة ، لأن ذلك معلوم ، ولما روي عن أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجنين يخرج ميتاً قال : « إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه » وكشعر الميتة وصوفها فإنهما عند أبي حنيفة ظاهران لقوله تعالى في معرض الامتنان { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } [ النحل : 80 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة « إنما حرم من الميتة أكلها » ولأنهم كانوا يلبسون جلود الثعالب ، ولأن الشعر ، وا لصوف لا حياة فيه لأن حكم الحياة الإدراك والشعور . ومن ههنا ذهب مالك إلى تحريم العظام دون الشعور ، وعند الشافعي الشعر والعظم ونحوهما كالقرن والظفر والسن كلها نجسة لقوله صلى الله عليه وسلم « ما أبين من حي فهو ميت » ولأن الحياة عندنا عبارة عن كونه متعرض للفساد والتعفن ، وهذا المعنى يعم الشعر واللحم . وأما الإهاب فللفقهاء فيه مذاهب سبعة . فأوسع الناس قولاً الزهري . جوز استعمال الجلود بأسرها قبل الدباغ ، ثم داود قال : تطهر كلها بالدباغ لقوله صلى الله عليه وسلم

« أيما إهاب دبغ فقد طهر » ولأن الدباغ يعيد الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة من عدم التعفن والفساد . ثم مالك يطهر ظاهر كلها دون باطنها . ثم أبو حنيفة يطهر كلها إلا جلد الخنزير لدسومته والآدمي لكرامته . ثم الشافعي يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير . ثم الأوزاعي وأبو ثور يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط . ثم أحمد بن حنبل والشيعة لا يطهر شيء منها بالدباغ لإطلاق الآية ولقول عبد الله بن حكيم : أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب . واختلف في أنه هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازي والبهيمة؟ فمنهم من منع منه حتى قال بعضهم : إذا أقدم البازي من عند نفسه على أكل الميتة وجب علينا منعه . وجوز الشافعي استعمال نجس العين كجلد الكلب والخنزير للضرورة كمفاجأة قتال مع فقدان غيره ، وكدفع الحر والبرد المهلكين ، ولأجل تجليل الكلب وإن لم يكن ضرورة ، وكذا استعمال جلد الميتة قبل الدباغ لتجليل الدابة والكلب ، وكذا استعمال النجس العين كودك الميتة والخنزير والزبل للاستصباح وتسميد الأرض لعموم الحاجة القريبة من الضرورة ، وقد نقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وسئل عليه السلام عن الفأرة تقع في السمن فقال : « استصبحوا به ولا تأكلوه » . والدخان وإن كان نجساً لكنه قليل معفو عنه . وعند أبي حنيفة : إذا مات في الماء القليل ما ليس له نفس سائلة أي دم كالذباب والبعوض والخنفساء والعقرب وبنات وردان لم يفسد الماء قل أو كثر لأن رطوبة هذه الحيوانات تشبه رطوبة النبات فهي حية وميتة على هيئة واحدة . وعند الشافعي فيه قولان : وعامة الأصحاب عدّوا دود الطعام من جملة ما ليس له نفس سائلة وقالوا : لا ينجس الطعام الذي تولد منه بموته فيه بلا خلاف . وإن وقع في ماء أو في مائع آخر فقولان . ثم الذباب والبعوض ونحوهما وإن حكم بطهارة ميتتهما فهي محرمة لأنها مستقذرة مندرجة تحت عموم اسم الميتة . وفي جواز أكل دود الطعام والفواكه والماء وجهان ، والأظهر تحرمها عند الانفراد ، ومع هذه الأشياء يمكن أن يسامح به . وسأل عبد الله بن المبارك أبا حنيفة عن طائر وقع في قدر مطبوخ فمات فقال أبو حنيفة لأصحابه : ما ترون فيها؟ فذكروا له عن ابن عباس أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل فيهراق المرق . فقال أبو حنيفة : بهذا نقول على شريطة إن كان وقع فيها في حال سكونها : فكما في هذه الرواية ، وإن وقع فيها في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق . قال ابن المبارك : ولم ذلك؟ قال : لأنه إذا سقط فيها في حال غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم ، وإذا وقع فيها في حال سكونها فمات فقد وسخت الميتة اللحم .

فاستحسنه ابن المبارك . وعند أبي حنيفة : ذبح ما لا يؤكل لحمه يستعقب الطهارة . وعند الشافعي لا يستعقبها كما لا يستعقب حل الأكل ، وكما لو ذبح المجوسي مأكول اللحم . ولبن الشاة الميتة وأنفحتها طاهران عند أبي حنيفة دون الشافعي ومالك ، لا لأن الآية لا تتناولهما فإن اللبن لا يوصف بأنه ميتة ، بل لتنجسهما بمجاورة الميتة . وبيض مأكول اللحم إذا مات ووجد ذلك في جوفه فإن كان متصلباً فطاهر بعد أن يغسل وإلاّ فلا . أما الدم فعند الشافعي جميعه محرم سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح لإطلاق الآية إلا الكبد والطحال للخبر عند من يقول بتناول الآية إياهما ، وعند من يقول بذلك لا تخصيص . وقال أبو حنيفة : دم السمك ليس بمحرم ، وأما لحم الخنزير فأجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وتخصيص اللحم بالذكر لأن معظم الانتفاع متعلق به . أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمه وتنجيسه . واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز؟ فأبو حنيفة ومحمد يجوز ، والشافعي لا يجوز . واحتج أبو حنيفة بأنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ، ولأن الحاجة ماسة إليه . وأما ما أهل به لغير الله فمعناه رفع به الصوت للصنم وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى . وأهل المعتمر إذا رفع صوته بالتلبية . قال العلماء : لو أن مسلماً ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتداً ، وذبيحته ذبيحة مرتد . وقدم به في هذه السورة وأخر في المائدة والأنعام والنحل لأن تقدم الباء هو الأصل لأنه يجري في إفادة التعدية مجرى الهمزة والتضعيف ، فكان الموضع الأول هو اللائق بهذا الأصل ، وفي سائر المواضع قدم ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله ، ولهذا لم يذكر في سائر الآية قوله { فلا إثم عليه } اكتفاء بما ذكر في الموضع الأول . ويستثنى مما أهل به لغير الله ذبائح أهل الكتاب إذا سمي عليها باسم المسيح مثلاً لإطلاق قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } [ المائدة : 5 ] ولأن النصراني إذا سمي الله تعالى فإنما يريد به المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب . وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم . وإذا ذبحوا على اسم الله فظاهر اللفظ يقتضي الحل ولا عبرة بما لو أراد به المسيح . وعن علي كرم الله وجهه : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون سوى هذه الأشياء محرماً ، لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات ، فكلمة إنما متروكة العمل بظاهرها والله أعلم { فمن اضطر } افتعل من الضر وهو الضيق أي ألجئ .

استثنى من التحريم حالة الضرورة ولها سببان : أحدهما الجوع الشديد وأن لا يجد مأكولاً حلالاً يسد به الرمق فعند ذلك يكون مضطراً إلى أكل المحرم . الثاني : إذا أكرهه على تناوله مكره فيحل له تناول ما أكره عليه . والاضطرار ليس من أفعال المكلف حتى يقال إنه لا إثم عليه فيه ، فلا بد من إضمار وهو الأكل . أي فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه ، وإنما حذف للعلم به . « وغير » ههنا بمعنى « لا » النافية كأنه قيل : فمن اضطر باغياً ولا عادياً . والبغي في اللغة الظلم والخروج عن الإنصاف . بغي الجرح ورم وترامي إلى فساد . وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي . والعدوان الظلم الصراح وتجاوز الحد . وللأئمة في الآية قولان : أحدهما وإليه ذهب أبو حنيفة تخصيص البغي والعدوان بالأكل ، وعلى هذا فالمعنى غير باغ بأن يجد حلالاً تكرهه النفس ، فعد إلى أكل الحرام للذته { ولا عاد } أي متجاوز قدر الرخصة ، أو غير باغ أي طالب للذة ولا عاد متجاوز سداً لجوعه ، عن الحسن وقتادة والربيع ومجاهد وابن زيد : أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه ، ولا عاد في سد الجوعة . والثاني وإليه ذهب الشافعي والإمامية : غير باغٍ على إمام المسلمين ، ولا عادٍ بالمعصية طريق المحقين . ويتفرع على الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا؟ فعند أبي حنيفة يترخص لأنه مضطر وغير باغٍ ولا عادٍ في الأكل . وعند الشافعي لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان ويؤيده الآية الأخرى { فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثم } [ المائدة : 3 ] وأيضاً غير باغٍ ولا عادٍ حالان من الاضطرار ، فلا بد أن يكون وصف الاضطرار باقياً في الحالين وليس كذلك ، لأنه حال الأكل لا يبقى وصف الاضطرار . وأيضاً الإنسان نفور بطبعه عن تناول الميتة والدم فلا حاجة إلى نهيه عن التعدي في الأكل . وأيضاً إنه نفي ماهية البغي والعدوان ، وإنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ويتحقق حينئذٍ نفي العدوان في السفر كما هو مقصودنا . وأما تخصيص البغي بالأكل كما ذهبتم إليه فترجيح من غير دليل . حجة أبي حنيفة قوله تعالى في آية أخرى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } [ الأنعام : 119 ] وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص . وأيضاً قال تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] والامتناع عن الأكل سعي في قتل النفس ، فيحرم كما لو ترك دفع أسباب الهلاك عن نفسه إذا صال عليه جمل أو فيل أو حية . وأيضاً الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر ، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا ههنا .

أجاب الشافعي : بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة ، فإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه . ثم إن الرخصة إعانة على السفر وإذا كان السفر معصية فالرخصة إعانة على المعصية ، والسعي في تحصيل المعصية محظور ، فالجمع غير ممكن ثم اتفق الإمامان على أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه إلا إذا عجز عن السير ويهلك فيتناول المشبع . وقال عبد الله بن الحسن العنبري : يأكل منها ما يسد جوعته . وعن مالك : يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غنى عنها طرحها . والأول أقرب ، لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة ، كما لو وجد الحلال لم يحل له تناول الميتة ، وكما أن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضرراً بتركه . وهذه الرخصة لجميع المحرمات عند الأكثرين ، وبعضهم خصصها بما سوى لحم الخنزير ، والشافعي منع عن شرب الخمر لشدة العطش دون إساغة اللقمة . وفي التداوي بها وجهان ، وبسائر المحرمات يجوز ولا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت فإن الأكل حينئذٍ لا ينفع ، بل لو انتهى إلى تلك الحالة له التناول . وحدوث مرض مخوف في جنسه كخوف الموت ، وهكذا إن كان يخاف منه لطوله وتماديه . ولا يشترط في جميع ذلك إلا غلبة الظن دون التيقن . ومعنى قوله { فلا إثم عليه } رفع الحرج والضيق كما مر في قوله { فلا جناح عليه أن يطوّف بهما } [ البقرة : 158 ] ورفع الحرج قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح فلا ينافي وجوب الأكل في حالة الاضطرار . ومعنى قوله { أن الله غفور رحيم } أن المقتضي للحرمة قائم إلا أنه زالت الحرمة لوجود العارض ، فلما كان تناوله تناول ما حصل فيه المقتضى للحرمة ذكر بعده المغفرة ، ثم ذكر أنه رحيم يعني لأجل الرحمة أبحت لكم ذلك ، أو لعل المضطر يزيد على تناول قدر الحاجة فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة ، رحيم حيث أباح تناول قدر الحاجة . أو أنه لما بين هذه الأحكام فالمكلفون بالنسبة إليها إما أن يعصوا فذكر أنه غفور لهم إذا تابوا ، أو يطيعوا فهو رحيم حيث وفقهم للطاعة . { إن الذين يكتمون } عن ابن عباس : نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم - كعب بن الأشرف وحي بن أخطب ونحوهما - كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضول ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، فلما بعث من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم وقالوا : هذا نعت نبي آخر الزمان لا يشبه نعت هذا النبي الذي بمكة . فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتبعونه { ويشترون به } أي بالككتمان لدلالة الفعل عليه ، أو بالمنزل .

وقد سبق معنى الاشتراء والثمن القليل { في بطونهم } حال أي ملء بطونهم . أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه { إلا النار } لأنه إذا أكل ما يلتبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقولهم « أكل الدم » أي الدية التي هي بدل منه : قال :
أكلت دماً إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وذلك أنهم كانوا يستنكفون عن أخذ الدية وبعيدة مهوى القرط كناية عن طول العنق . ويمكن أن يقال : إنهم يأكلون في الآخرة النار لأكلهم في الدنيا الحرام { ولا يكلمهم الله } بما يحبون لأنهم كتموا كلامه في الدنيا بل بنحو { اخسؤا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] أو لا يكلمهم الله أصلاً لغضبه عليهم كما هو ديدن الملوك من الإعراض عند السخط والإقبال عند الرضا { ولا يزكيهم } بالإثناء عليهم أو بقبول أعمالهم { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } بيان لتماديهم في الخسارة فإن أحسن الأشياء في الدنيا الاهتداء والعلم ، وأقبحها الضلال والجهل . وفي الآخرة أنفع الأشياء المغفرة ، وأضرها العذاب فهم في خسران الدارين لاستبدالهم في الدنيا أقبح الأمور بأحسنها ، وفي الآخرة أضر الأشياء بأنفعها . { فما أصبرهم على النار } تعجب من حالهم في تلبسهم بمواجب النار من غير مبالاة منهم ، فإن الراضي بموجب الشيء لا بد أن يكون راضياً بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان « ما أصبرك على القيد والسجن » وهذا التعجب منهم في حال التكليف واشترائهم الضلالة بالهدى . وعن الأصم : أن المراد أنه إذا قيل لهم { اخسؤا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] فهم يسكتون ويصبرون على النار لليأس من الخلاص . وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة . وقيل : إن « ما » في { ما أصبرهم } للاستفهام لمعنى التوبيخ معناه أي شيء صبرهم عليها حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهذا أصل معنى فعل التعجب والتعجب استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء هذا هو الأصل ، ثم قد يستعمل لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب كما في حق الله تعالى { ذلك } الوعيد الشديد أو ذلك الكتمان وسوء معاملتهم إنما هو بسبب { إن الله نزل الكتاب } يعني جنس الكتب السماوية أو القرآن { بالحق } بالصدق أو ببيان الحق وقد نزل في جملة ما نزل أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر فإنه تعالى ختم على قلوبهم { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } جنسه فقالوا في البعض حق وفي البعض باطل وهم أهل الكتاب { لفي شقاق } خلاف { بعيد } عن الحق ، أو الذين اختلفوا في القرآن فقال بعضهم شعر ، وبعضهم سحر ، وبعضهم أساطير الأولين ، أو الذين اختلفوا في التوراة والإنجيل فقدح كل منهما في الآخر ، أو ذكر كل منهما للآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تأويلاً آخر فاسداً ، أو حرفوا كلاً منهما على وجه آخر لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ ومنازعةٍ شديدةٍ .

فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة ، فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة . وعن أبي مسلم : اختلفوا في الكتاب أي توارده مثل { إن في اختلاف الليل والنهار } [ يونس : 6 ] أي تعاقبهما . واعلم أن الآية وإن نزلت في أهل الكتاب ، يشبه أن تكون عامة في كل من كتم شيئاً من باب الدين فيكون حكماً ثانياً للمسلمين ، ويصلح أن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر . وكان السبب في تعقيب هذا الحكم الحكم الأول أن أهل الكتاب قد حرموا بعض ما أحل الله كلحوم الإبل وألبانها وأحلوا بعض الشحوم ، فسيقت الآية تعريضاً بصنعهم وتصريحاً بجزائهم وجزاء أضرابهم والله أعلم .
التأويل : الميتة جيفة الدنيا والدم وهي الشهوات النفسانية « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم « سدوا مجاري الشيطان بالجوع » ولحم الخنزير مادة الشره والحرص ، وما أهل به لغير الله كل ما يتقرب به إلى الله رياء وسمعة والله تعالى أعلم .

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

القراآت : { ليس البر } بنصب الراء : حمزة وحفص الخراز عنه مخير . الباقون : بالرفع { ولكن } خفيفاً { البر } رفعاً وكذلك فيما بعد : نافع وابن عامر . الباقون : بالتشديد والنصب .
الوقوف : { والنبيَّن } ج لطول الكلام واختلاف المعنى لأن ما قبله أصول الإيمان وما بعده فروع : { وفي الرقاب } ج للطول مع انتهاء شرع المكارم وابتداء اللوازم { الزكاة } ج { عاهدوا } ج للعدول عن النسق إلى المدح والتقدير : هم الموفون أعني الصابرين { اليأس } ط { صدقوا } ط { المتقون } 5 .
التفسير : هذا حكم آخر من أحكام الإسلام . عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله تعالى هذه الآية . قال : وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم مات على ذلك وجبت له الجنة . وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا لشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة ، ولكن البر الذي يجب صرف الهمة إليه بر من آمن وقام بهذه الأعمال ، وعلى هذا فالخطاب عام . وقيل : الخطاب لأهل الكتاب لأن المشرق قبلة النصارى ، والمغرب قبلة اليهود ، وأنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت إلى الكعبة . وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فرد عليهم بأن ما أنتم عليه خارج من البر . أما أولاً فلأنه منسوخ ، وأما ثانياً فلأنه على تقدير صحته شرط من شرائط أعمال البر لأن من جملتها الصلاة واستقبال القبلة شرط فيها ، ولن يكون شرط جزء الشيء تمام حقيقة ذلك الشيء ، وذلك أن البر اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله ومنه بر الوالدين وهو استرضاؤهما بكل ما أمكن . والتركيب يدل على الاتساع ومنه البر خلاف البحر . قيل : إن قراءة رفع البر أولى ليكون الاسم مقدماً على الخبر على الأصل . وقيل : بالنصب أولى لأن « أن » مع صلتها تشبه المضمر في أنها لا توصف ، والمضمر أدخل في الاختصاص من المظهر فهو أولى بأن يكون اسماً { ولكن البر من آمن } على تقدير حذف المضاف أي بر من آمن . وقيل : التقدير هكذا ولكن ذا البر من آمن . وقيل : البر بمعنى البار مثل رجل صوم أي صائم . وعن المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت { ولكن البر } بفتح الباء . قال في التفسير الكبير : إنه تعالى اعتبر في تحقيق ماهية البر أموراً :
الأول : الإيمان بأمور خمسة : أولها الإيمان بالله ، ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلائل الدالة عليها فيدخل فيها العلم بحدوث العالم .

والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوبه وقدمه وبقائه وكونه عالماً بكل المعلومات ، قادراً على كل الممكنات ، حياً مريداً سميعاً بصيراً متكلماً ، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية . ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثه الرسل . وثانيها الإيمان باليوم الآخر ويتفرع على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات قادراً على كل الممكنات . وثالثها الإيمان بالملائكة ورابعها الإيمان بالكتب السماوية . وخامسها الإيمان بالنبيين . وسبب هذا الترتيب أن للمكلف مبدأ وسطاً ونهايةً ، ومعرفة المبتدأ والمنتهي هو المقصود بالذات أعني الإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي منوطة بالوحي الذي يأتي به الملك ، فثبت أن كل ما يلزم المكلف التصديق به داخل في الآية .
الثاني : إيتاء المال على حبه أي على حب المال . عن أبي هريرة أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الصدقة خير؟ قال : « أن تتصدق وأنت صحيح حريص ، تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا » عن أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال « مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعد ما يشبع » والسبب أنه عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال ، وعند ظن الموت يحصل الاستغناء ، وبذل الشيء عند الاحتياج أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه . وأيضاً الإعطاء عند الصحة أدل على كونه متيقناً بالوعد والوعيد من إعطائه حال المرض والموت . وأيضاً الهبة عند الموت تشبه الهبة عند الخوف من الفوت . وقيل : الضمير يرجع إلى الإيتاء أي يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله . وقيل : يرجع إلى الله أي يعطي المال على حب الله وطلب مرضاته . ثم ذكر سبحانه وتعالى ممن يؤتون المال أصنافاً ستة : أولهم القرابة ، وثانيهم اليتامى ، وثالثهم المساكين وقد مر ما يتعلق بكل منهم في تفسير قوله تعالى { وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } [ البقرة : 83 ] وإنما قدم ذوي القربى لأنهم أحق قال صلى الله عليه وسلم : « صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذي رحمك اثنتان » لأنها صدقة وصلة ولتأكد استحقاقه نال رتبة الوارثة ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يمكن من الوصية إلا في الثلث . وأطلق ذوي القربى واليتامى والمراد الفقراء منهم لعد الإلباس ، وتقديم اليتامى على المساكين لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا هو كاسب منقطع الحيلة من كل الوجوه . ورابع الأصناف ابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله . جعل ابناً للسبيل لملازمته له كما يقال لطير الماء « ابن الماء » وللشجاع « أخو الحرب » وللناس « بنو الزمان » .

وقيل : هو الضيف لأن السبيل يرعف به . وخامسهم السائلون وهم المستطعمون ويدخل فيه المسلم والكافر وقريب منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « للسائل حق وإن جاء على فرس » وسادسهم المكاتبون وأشار إليه بقوله { وفي الرقاب } أي في معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم . وقيل : في ابتياع الرقاب وإعتاقها . وقيل : في فك الأسارى . والرقاب جمع الرقبة وهو مؤخر أصل العنق . واشتقاقها من المراقبة وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم ، ولهذا يقال للمملوك رقبة كأنه يراقب العذاب ولا يقال له عنق .
الثالث والرابع : قوله { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } وقد سلف مباحثهما . ثم إن الأئمة حيث ذكر الله تعالى ، إيتاء المال في الوجوه المذكورة ، ثم قفاه بإيتاء الزكاة . ومن حق المعطوف عليه ، غلب على ظنونهم أن في المال حقاً سوى الزكاة . وكيف لا وقد اكتنف الإيتاء فرضان وهما الإيمان وإقامة الصلاة؟ وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره طاوٍ إلى جنبه » ولا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة . وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهراً . وما روي عن علي عليه السلام أن الزكاة نسخت كل حق كأنه أراد الحقوق المقدّرة بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة والنفقة على الأقارب وعلى المملوك .
الخامس : قوله { الموفون بعهدهم إذا عاهدوا } وهو مرفوع على المدح أي هم الموفون ، أو عطف على { من آمن } والمراد بالعهد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده والعمل بطاعته ، فقبل العباد ذلك حيث آمنوا بالأنبياء والكتب . ويندرج فيه ما يلتزمه المكلف ابتداء من تلقاء نفسه مما يكون بينه وبين الله كالنذور والأيمان ، أو بينه وبين رسول الله كبيعة الرضوان بايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أن لا يقولوا إلا بالحق أينما كانوا لا يخافون في الله لومة لائمٍ ، أو بينه وبين الناس واجباً كعقود المعاوضات ، أو مندوباً كالمواعيد ، فلهذا قال المفسرون ههنا : هم الذين إذا واعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا ، وإذا اؤتمنوا أدّوا ، وإذا قالوا صدقوا .
السادس : { والصابرين في البأساء والضراء } وهو نصب على المدح والاختصاص إظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال . قال أبو علي الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القبول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملةً واحدة .

وذكر المحققون في إفادة اختلاف الحركة المدح والذم أن أصل المدح والذم من كلام السامع ، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له : قام زيد . فربما أثنى السامع على زيد وقال : ذكرت والله الظريف وذكرت العاقل . أو هو - والله - الطريف ، أو هو العاقل . فأراد المتكلم أن يمدحه بمثل ما مدحه به السامع فجرى الإعراب على ذلك أي أريد الظريف أو العاقل { والبأساء } الفقر والشدة { والضراء } المرض والزمانة . وهما فعلاء من البؤس والضر لا أفعل لهما لأنهما ليسا بنعتين { وحين البأس } القتال في سبيل الله والجهاد . وأصل البأس الشدة { أولئك الذين صدقوا } في إيمانهم وجدّوا في الدين { وأولئك هم المتقون } ونظير هاتين الجملتين في القطع للاستئناف قوله { أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون } [ البقرة : 5 ] كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات وصفوا بالبر الذي هو أصل كل خير؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين لهم قدم صدقٍ في الإسلام ، وهم المتسمون بسمة التقوى . وكل منهم منطو على جميع الخيرات ومتضمن لكل المأمورات والمنهيات ، فلهذا اتصفوا بتلك الصفات . وذكر الواحدي ههنا أن الواوان في هذه الأوصاف للجمع . فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن يجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء ، بل لا يكون قائماً بالبر إلا عند استجماع هذه الخصال حتى قال بعضهم : إن البر من خواص الأنبياء . والحق أنه ليس بمستبعد أن يوجد في الأمة موصوف بالبر إلا أن كمال البر لا يكون إلا في النبي ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . ثم إن أهل الكتاب كما أخلوا بجميع أوصاف البر أخلوا بالإيمان بالله { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] { وقالت اليهود يد الله مغلولة } [ المائدة : 64 ] وذهبت اليهود إلى التجسيم ، والنصارى إلى الحلول والاتحاد ، وأنكروا المعاد الجسماني وقالوا { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 8 ] وقالوا : إن جبريل عدوّنا وكفروا بالكتب السماوية { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [ البقرة : 85 ] وقتلوا النبيين وطعنوا في نبوة المرسلين ، واتسموا بسمة الشح حتى اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ونقضوا العهود { أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريقٌ منهم } [ البقرة : 100 ] ولم يصبروا في اللأواء { لن نصبر على طعامٍ واحد } [ البقرة : 61 ] ولا حين البأس { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] فالعجب كل العجب منهم حيث ادّعوا البر ولا شيء ولا واحد من أجزاء البر فيهم ، وهذا غاية القحة ونهاية العناد والله بصير بالعباد .

التأويل : ليس البر بركم بتولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر الحقيقي هو بري معكم بتولية وجوه أرواحكم بجذبات المحبة قبل الحضرة الربوبية المحبوبية لتؤمنوا بدلالة نور بري بي وببر حبي لكم تحبوني ، والملائكة يحبونكم ببر حبي لكم . وبر حبي لكم ليس بمحدث كبركم معي بل هو بر قديم في الكتاب القديم ، وبنور هذه المحبة تحبون أهل محبتي وهم النبيون . فالجنسية علة الضم . { وآتى المال على حبه } أي ما حصل للعبد من بر الحب وما مال إلى سره من عواطف الحق ينفقه على حب حبيبه بأداء حقوق الشريعة والطريقة بالمعاملات القالبية والقلبية { ذوي القربى } وهم الروح والقلب والسر ذوو قرابة الحق { واليتامى } المتولدات من النفس الحيوانية الأمارة بالسوء إذا ماتت النفس عن صفاتها بسطوات تجلي صفات الحق { والمساكين } هم الأعضاء والجوارح { وابن السبيل } القوى البشرية والحواس الخمس فإنهم في التردد والسفر إلى عوالم المعقولات والمخيلات والمحسوسات والموهومات { والسائلين } الدواعي الحيوانية والروحانية { وفي الرقاب } في فك رقبة السر عن أسر تعلقات الكونين . فحينئذٍ أقام صلاة المحاضرة مع الله بالله وآتى زكاة مواهب الحق إلى أهل استحقاقها من الخلق وهم الموفون بعهدهم إذا عاهدوا مع الله بالتوحيد والعبودية الخالصة يوم الميثاق ، والصابرين في بأساء مراعاة الحقوق وضراء مخالفات الحظوظ وفناء الوجود عند لقاء الشهود وحين بأس سطوات تجلي صفات الجلال { أولئك الذين صدقوا } ببذل الوجود { وأولئك هم المتقون } من شرك الأنانية والله أعلم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

الوقوف : { في القتلى } ط { بالأنثى } ط لأن العفو إعطاء الدية صلحاً فكان خارجاً عن أصل موجب القتل مستأنفاً { بإحسان } ط { رحمة } ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه فكان مستأنفاً { أليم } 5 { تتقون } 5 .
التفسير : هذا حكم آخر ، وسببه أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى يوجبون العفو فقط . فأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل وأخرى يوجبون الدية ، لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من الحكمين . فإذا وقع القتل بين قبيلتين كان يقول الشريف للخسيس لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم ، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن رجلاً قتل رجلاً من الأشراف ثم اجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول فقالوا : ماذا تريد؟ قال : إحدى ثلاث . قالوا : وما هي؟ قال : تحيون ولدي ، أو تملؤن داري من نجوم السماء ، أو تدفعون إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم ، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً . وكانوا يجعلون دية الشريف أضعاف دية الخسيس فبعث الله محمداً بالعدل وسوّى بين عباده في القصاص . وقيل : نزلت في واقعة قتل حمزة . ومعنى كتب فرض وأوجب كقوله { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] ولفظة « على » أيضاً تفيد الوجوب كقوله { ولله على الناس حج البيت } والقصاص أن تفعل بالإنسان مثل ما فعل من قولك « اقتص فلان أثر فلان » إذا فعل مثل فعله . ومنه القصة لأن الحكاية تساوي المحكي والمقص لتعادل جانبيه . وقوله { في القتلى } أي بسبب قتل القتلى كقوله « في النفس المؤمنة مائة إبل » أي بسببها . فظاهر الآية يدل على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب جميع القتلى إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج عن هذا العموم . وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضاً في صور كما إذا قتل الوالد ولده ، والسيد عبده ، والمسلم حربياً أو معاهداً ، أو مسلم مسلماً خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه . فإن قيل : لو جب القصاص لوجب إما على القاتل وليس عليه أن يقتل نفسه بل يحرم عليه ذلك ، وإما على ولي الدم وهو مخير بين الفعل والترك ، بل هو مندوب إلى الترك . { والعافين عن الناس } [ الأعراف : 134 ] وإما على أجنبي وليس ذلك بالاتفاق . وأيضاً القصاص عبارة عن التسوية ، ووجوب رعاية المساواة على تقدير القتل لا يوجب نفس القتل . قلنا عن الأول إن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجري مجرى الإمام ، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود وهو من جملة المؤمنين فالتقدير : يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أرادوا لي الدم أستيفاء .

ويحتمل أن يكون خطاباً مع القاتل لأنه كتب عليه تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص . وذلك أن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر ، بل للزاني والسارق الهرب من الحدود ، ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله فلا يعترفا ، فكان أمر القتل أشنع ، وفيه حق الآدمي أكثر . وعن الثاني أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل ، والتسوية في القتل صفة للقتل ، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات . فالآية تفيد إيجاب القتل . ثم اختلفوا في كيفية المماثلة التي تجب رعايتها فقال الشافعي : إن كان قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل ، فإن مات عنه في تلك المرة وإلا حزت رقبته . وكذلك إن أحرق الأول بالنار أحرق الثاني ، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه » ورضخ يهودي رأس جارية بالحجارة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفعل به مثله . ولأنه لا يجوز أن يقال : كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل ، وحيث لم يستثن دخل . وأيضاً الحكم بالعموم يوجب التخصيص في بعض الصور كما لو قتله بالسحر فلا يقتل السحر لأنه محرم بل بالسيف . وكما لو قتل صغيراً باللواط فإنه يقتل بالسيف على الأصح . ولو لم يحكم بالعموم لزم الإجمال ، والتخصيص أهون منه . وأيضاً لو لم تفد الآية إلا إيجاب التسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور ، فلا يستفاد من الآية شيء ألبتة . وقال أبو حنيفة : المراد بالمماثلة تماثل النفس ويتعين السيف لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا قود إلا بالسيف » واتفقوا على أن القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة له من الله . أما إذا تاب فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة للدلائل الدالة على قبول التوبة { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [ الشورى : 25 ] فما الحكمة في وجوب قتله؟ أجاب أصحابنا بأنه تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل . وقالت المعتزلة : إنما شرع ليكون لطفاً . وكيف يتصور هذا اللطف ولا تكليف بعد القتل؟ قالوا : فيه منفعة للقاتل من حيث إنه إذا علم أنه لا بد وأن يقتل صار ذلك داعياً له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد ، ومنفعة لولي المقتول من حيث التشفي ، ومنفعة لسائر المكلفين من حيث الانزجار عن القتل .
قوله عز من قائل { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } الباء للبدل نحو « بعت هذا بذاك » أي الحر مقتول بدل الحر . ثم فيه قولان : الأول ويروى عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة ، أن لا يكون القصاص مشروعاً إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين ، لأن الألف واللام تفيد العموم أي كل حر يقتل بحر .

فلو كان قتل حر بعبد مشروعاً لكان ذلك الحر مقتولاً بعير حر وهو يناقض الآية . ولأن هذا القول خرج مخرج البيان لقوله { كتب عليكم القصاص } وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال للتسوية فلا يكون مشروعاً وهو يناقض الآية ، وإلى هذا ذهب الشافعي ومالك وقالا : لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه أولى ، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر . وأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع ، وكأن سنده أن الذكورة والأنوثة فضيلتان كالعلم والجهل والشرف والخسة ، فكما أنه لم يفرق بين العالم والجاهل فكذلك بين الذكر والأنثى ، ويروى عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن « أن الذكر يقتل الأنثى » القول الثاني ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والنوري وهذا مذهب أبي حنيفة ، أن الحر بالحر لا يفيد الحصر ألبتة بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على حال سائر الأقسام . لأن قوله { والأنثى بالأنثى } يقتضي قصاص الحرة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله { الحر بالحر والعبد بالعبد } مانعاً من ذلك تناقض . وأيضاً قوله { كتب عليكم القصاص } جملة مستقلة وقوله { الحر بالحر } تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر ، فلا يمنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات . ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى { النفس بالنفس } وقوله صلى الله عليه وسلم « المسلمون تتكافأ دماؤهم » وقد يقتل الجماعة بواحد فدل على أن التفاضل غير معتبر في الأنفس ثم إنهم قالوا : الفائدة في تخصيص هذه الجزئيات بالذكر ما ذكرنا في سبب النزول أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل فمنعوا عن ذلك . وأيضاً نقل عن علي رضي الله عنه والحسن البصري أن الغرض أن هذه الصورة هي التي يكتفى فيها بالقصاص . أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعاً بين الحر والعبد وبين الذكر والأنثى فهناك لا يكتفي بالقصاص ، بل لا بد من التراجع . فأيما حر قتل عبداً فقود به ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا قيمة العبد من دية الحر ويؤدوا إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن قتل عبد حراً فهو به فإن شاء أولياء الحر قتلوا وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن شاءوا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد . وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا بعد ذلك نصف ديته إلى أوليائه ، وإن شاءوا تركوا قتله وأخذوا ديتها .

وإذا قتلت امرأة رجلاً فهي به قود ، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإن شاءوا تركوها وأخذوا كل الدية ، فعلى هذا الغرض من الآية أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين ، فأما عند اختلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع .
قوله تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } المعنى فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو كقولك « سير بزيد بعض السير وطائفة من السير » ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به لأن عفا لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة . فإن قيل : إن « عفا » يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله { فمن عفى له } فالجواب أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال تعالى { عفا الله عنك } [ التوبة : 23 ] فإذا تعدى إلى الذنب وإلى الجاني معاً قيل « عفوت لفلان عما جنى » كما تقول « غفرت له ذنبه » وتجاوزت له عنه . فمعنى الآية فمن عفى له عن جنابته . فاستغنى عن ذكر الجناية . فإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية . وأخوه هو ولي المقتول وإنما قيل له أخوه لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به كما تقول للرجل « قل لصاحبك كذا » إذا كان بينهما أدنى تعلق . أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام . وقد يستدل بهذا على أن الفاسق مؤمن لأنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم ، ولا شك أن هذه الأخوة بسبب الدين { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] مع أن قتل العمد العدوان بالإجماع من الكبائر . وأيضاً إنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والعفو إنما يليق عن المؤمن . ويحتمل أن يجاب بأن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمناً فلعله تعالى سماه مؤمناً بهذا التأويل ، وبأن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمناً . ثم إنه تعالى أدخل غير التائب فيه على سبيل التغليب . وأيضاً لعل الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحداً . ولا شك أن المؤمنين أخوة قبل الإقدام على القتل . وأيضاً الظاهر أن الفاسق يتوب ، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخاً له . وأيضاً يجوز أن يكون قد جعله أخاً له في النسب كقوله تعالى { وإلى عاد أخاهم هوداً } [ هود : 50 ] { فاتباع بالمعروف } أي فليكن اتباع ، أو فالأمر ، أو فحكمه اتباع . أو فعلية اتباع فقيل : على العافي اتباع بالمعروف بأن يشدد في المطالبة بل يجري فيها على العادة المألوفة ، فإن كان معسراً فالنظرة وإن كان واجداً لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق ، وإن كان واجداً بغير المال الواجب فالإمهال إلى أن يستدل وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات { و } إلى المعفو عنه { أداء إليه بإحسان } بأن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود ، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه ، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل من غير مطل وبخس ، هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد .

وقيل : هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان { ذلك } قيل : إشارة إلى الاتباع والأداء . وعن ابن عباس : وهو الأقرب إنه إشارة إلى الحكم بسرع القصاص والدية والعفو ، فإن هذه الأمة خيرت بينهن توسعة وتيسيراً ، ولم يكن لليهود إلا القصاص وللنصارى إلا العفو وإثبات الخيرة فضل من الله ورحمة في حقنا ، لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إذا كان محتجاً إلى المال ، وقد يكون القود آثر عنده إذا كان راغباً في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه . وقد يؤثر ثواب الآخرة فيعفو عن القصاص وعن بدله جميعاً وهو الدية . { فمن اعتدى بعد ذلك } التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل مع قتل القاتل أو دونه أو قتل بعد أخذ الدية والعفو فقد كان لولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ثم يظفر به فيقتله { فله عذاب أليم } نوع من العذاب الأليم في الآخرة . وعن قتادة : العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل من الدية كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية » وهو مذهب الحسن وسعيد بن جبير وضعفه غيرهم . ولما كانت الآية مشتملة على إيلام العبد الضعيف وأنه لا يليق بكمال رحمته عقبها بقوله { ولكم في القصاص حياة } . قال المفسرون : القصاص إزالة الحياة ، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء فالمراد لكم في شرع القصاص حياة وأيّ حياة . وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ، ويحتمل أن يقال : نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل فكان القصاص سبب حياة نفسين . وقرأ أبو الجوزاء { ولكم في القصص حياة } أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص . وقيل : القصص القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب . وهذا وقد اتفق علماء البيان على أن قوله سبحانه { ولكم في القصاص حياة } بلغ في الإيجاز نهاية الإعجاز ، وذلك أن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم « قتل البعض أحياء للجميع » وأكبروا القتل وأوجز ذلك قولهم « القتل أنفى للقتل » .

والترجيح مع ذلك للآية من وجوه : الأول أن قولهم لا يصح على العموم لأن القتل ظلماً ليس أنفى للقتل قصاصاً بل أدعى له . ولو خصص فقيل « القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً » طال . والآية تفيد هذا المعنى من غير تقدير وتكلف . الثاني : أن القتل قصاصاً لا ينفي القتل ظلماً من حيث إنه قتل بل من حيث إنه قصاص . وهذه الحيثية معتبرة في الآية لا في كلامهم . الثالث : أن الحياة هي الغرض الأصلي ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة . فالتنصيص على المقصود الأصلي أولى . الرابع : التكرار من غير ضرورة مستهجن وأنه في كلامهم لا في الآية . الخامس : أن الحروف الملفوظة التي يعتمد عليها في اعتبار الوجازة لا المكتوبة هي في الآية عشرة ، وفي كلامهم أربعة عشر . السادس : أن الأغلب في كلامهم أسباب خفاف وذلك مما يخل بسلاسة التركيب ، والآية مع غاية وجازتها فيها السبب والوتد والفاصلة . السابع : ظاهر قولهم يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال ، وفي الآية جعل نوع من القتل وهو القصاص سبباً لنوع من الحياة ولا استبعاد فيه لظهور التغاير . الثامن : المطابقة مرعية في الآية لمكان التضاد بين لفظي القصاص وحياة بخلاف كلامهم . التاسع : اشتمال الآية على لفظ يصلح للتفاؤل وهو الحياة ، بخلاف كلامهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لكما يليق بهم . العاشر : اشتمال الآية على اسمين وأداة ، واشتمال كلامهم على ثلاثة أسماء وأداة . وإن اعتبرت أداة التعريف ففي الآية واحدة وفي كلامهم ثنتان ، وإن اعتبر التنوين في الآية تقاصت الأدوات وتبقى زيادة الأسماء بحالها ، على أن أفعل التفضيل إذا لم يكن فيه اللام والإضافة يستعمل بمن . فتقدير كلامهم « القتل أنفى للقتل من كل شيء » فأين الوجازة { يا أولي الألباب } يا ذوي العقول وأولو جمع لا واحد له من لفظه ، وواحده ذو بمعنى صاحب . وأولات للإناث واحدتها ذات بمعنى صاحبة قال تعالى { وأولات الأحمال } [ الطلاق : 4 ] وإعراب أولو كإعراب جمع المذكر السالم . وزادوا في « أولي » واواً فرقاً بينها وبين « إلى » وأجرى « أولو » عليه . واللب العقل ، ولب النخلة قلبها ، وخالص كل شيء لبه . خاطب العقلاء الذين يتفكرون في العواقب ويعرفون جهات الخوف فلا يرضون بإتلاف أنفسهم لإتلاف غيرهم إلا في سبيل الله { لعلكم تتقون } يتعلق بمحذوف أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته ، راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به . وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة ، أو لعلكم تتقون نفس القتل الخوف القصاص .

عن الحسن والأصم : وقد بقي على الآية بحث ، وهو أنه سئل إذا صح أن المقتول إن لم يقتل فهو يموت لأن المقدر من عمره ذلك القدر ، وكذا إذا هم إنسان بقتل آخر فارتدع خوفاً عن القصاص فإن ذلك الآخر يموت وإن لم يقتله ذلك الإنسان لأن كل وقت صح وقوع قتله صح وقوع موته ، فكيف يفيد شرع القصاص حياة؟ والجواب أنه تعالى قد جعل لكل شيء سبباً يدور مسببه معه وجوداً وعدماً . وشرعية القصاص مما جعلها تعالى سبباً لحياة من أراد حياته بعد أن تصور الهامّ قتله ، وذلك بأن تذكر القصاص فارتدع عما هم به . ففائدة شرع القصاص هي فائدة سائر الأسباب والوسائط ومنكر فائدتها . وكلا الإنكارين مذموم وصاحبهما عند العقلاء ملوم والله أعلم .
التأويل : كما كتب القصاص في قتلاكم كتب على نفسه الرحمة في قتلاه وقال : من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أي من كان متوجهاً إليه تعالى بالكلية كان فيضه تعالى متصلاً به بالكلية ، ومن كان في رق غيره من المكوّنات لم يتصل به فيضه غاية الاتصال ، ومن كان ناقصاً في دعوى محبته لم يكن مستحقاً لكمال محبته { فمن عفي له } من الأحباء والأصفياء { شيء } من أنواع البلاء والابتلاء الذي هو موكل بالأنبياء والأولياء فإنه معروف من معارفه . فالواجب على العبد أداء شكره إلى الله بإحسان . { فمن اعتدى بعد ذلك } الوفاء بملابسة الجفاء وألقى جلباب الحياء { فله عذاب أليم } فإن الكفر مرتعه وخيم { ولكم في القصاص حياة } الدارين والتقاء برب الثقلين { يا أولي الألباب } الذين بدلوا قشر الروح الإنساني عند شهود الجلال الصمداني { لعلكم تتقون } شرك وجودكم .

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

القراآت : { خاف } بالإمالة حيث كان : حمزة . { موصٍ } بالتشديد : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة الباقون : بالتخفيف من الإيصاء .
الوقوف : { خيراً } ج لأن قوله { الوصية } مفعول { كتب } وإنما لم يؤنث الفعل لتقدمه ولاعتراض ظرف وشرط بينهما ، أو « الوصية » مبتدأ « وللوالدين » خبره ، ومفعول « كتب » محذوف أي كتب عليكم أن توصوا . ثم بين لمن الوصية والوصل أولى لئلا يحتاج إلى الحذف . { بالمعروف } ح لأن التقدير حق ذلك حقاً أو كتب الوصية حقاً . { المتقين } ط وإن كان بعدها فاء التعقيب لأنه حكم آخر { يبدلونه } ط عليم كذلك { عليه } ط { رحيم } ( 5 ) .
التفسير : وهذا حكم آخر . قوله { كتب عليكم } يقتضي الوجوب كما مر . والمراد من حضور الموت ليس معاينة الموت لأنه في ذلك الوقت يكونه عاجزاً عن الإيصاء والأكثرون قالوا : المراد ظهور أمارة الموت وهو المرض المخوف كما يقال لمن قارب البلد : إنه وصل . وعن الأصم : المراد فرض عليكم في حال الصحة الوصية بأن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا ، وزيف بأنه ترك للظاهر . ولا شك أن الخير قد ورد في القرآن بمعنى المال { وما تنفقوا من خير } [ البقرة : 272 ] { وإنه لحب الخير لشديد } [ العاديات : 8 ] { من خير فقير } [ القصص : 24 ] لكن الأئمة اختلفوا في المراد بالخير ههنا بعد اتفاقهم على أنه المال . فعن الزهري : أنه المال مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً بدليل قوله { من خير فقير } [ القصص : 24 ] { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره } [ الزلزلة : 7 ] وأنه تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر قال تعالى { وللنساء نصيبٌ مما ترك الولدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً } [ النساء : 7 ] فكذا الوصية ، ولأن كل ما ينتفع به فهو خير . والأكثرون على أن لفظ الخير في الآية مختص بالمال الكثير كما لو قيل « فلان ذو مال » يفهم منه أن ماله قد جاوز حد أهل الحاجة وإن كان اسم المال يقع في الحقيقة على ما يتموله الإنسان من قليلٍ أو كثير . وكما إذا قيل « فلان في نعمة من الله تعالى » فإنه يراد تكثير النعمة وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله وهو باب من المجاز مشهور ينفون الاسم عن الشيء لنقصه ومن قوله صلى الله عليه وسلم « لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » ولو كانت الوصية واجبة في كل ما يترك لم يكن لقوله { إن ترك خيراً } فائدة لندرة من يموت فاقداً أقل ما يتمول . ثم القائلون بهذا اختلفوا في أن المسمى بالخير في الآية مقدر بمقدار معين أم لا . فمنهم من قال : إنه غير مقدّر ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل .

فقد يوصف المرء لمقدار من المال بأنه غنيّ ولا يوصف غيره بالغنى لذلك المقدار لأجل كثرة العيال وتوسع النفقة ، فيكون التعيين في كل صورة موكولاً إلى الاجتهاد ، وهذا لا ينافي أصل الإيجاب . ومنهم من قال : إنه مقدر . ثم اختلفوا فعن علي كرم الله وجهه : أنه دخل على مولى في مرض الموت وله سبعمائة درهم فقال : ألا أوصي؟ قال : لا قال الله تعالى { إن ترك خيراً } وليس لك كثير مال . وعن عائشة أن رجلاً قال لها : إني أريد أن أوصي . قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : كم عيالك؟ قال أربعة . قالت : قال الله تعالى { إن ترك خيراً } وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل . وعن ابن عباس : أنه إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي ، فإذا بلغ ثمانمائة درهم أوصى . وعن قتادة : ألف درهم . وعن النخعي من ألف إلى خمسمائة درهم . قال أبو البقاء : جواب الشرط عند الأخفش الوصية بحذف الفاء أي فالوصية للوالدين على الابتداء والخبر واحتج بقول الشاعر :
من يفعل الحسنات اللَّه يشكرها ... وقال غيره : جواب الشرط في المعنى ما تقدم من كتب الوصية كما تقول « لك كذا إن فعلت » ويجوز أن يكون جواب الشرط معنى الإيصاء لا معنى الكتب بناء على رفع الوصية بكتب وهو الوجه . وقيل : المرفوع بكتب الجار والمجرور وهو { عليكم } وليس بشيء وأما إذا فهو ظرف لمعنى الوصية ولا يحتاج إلى جواب . والأقربين قيل هم الأولاد عن ابن زيد . وقيل من عدا الولد عن ابن عباس ومجاهد . وقيل : جميع القرابات . وقيل : غير الوارث . وقوله { بالمعروف } أمر بأن يسلك في الوصية الطريقة الجميلة . فلو حرم الفقير ووصى للغني لم يكن معروفاً ، ولو سوّى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفاً ، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الإخوة لم يكن ما يأتيه معروفاً . { وحقاً } مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً على المتقين على الذين آثر والتقوى وجعلوها مذهباً لهم وسيرة .
واعلم أن الأئمة القائلين بوجوب هذه الوصية اختلفوا في أنها منسوخة أم لا . أما أبو مسلم فإنه اختار عدم نسخها وقال : معناها كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم وأن لا ينقص من أنصبائهم ، أو لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية . فالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت ، فالوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين ، ولو قدرنا حصول المنافاة فهذه الآية توجب الوصية للوالدين والأقربين . ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً في الآية .

وذلك أن من الوالدين من لا يرث بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ، ومن الأقارب من يسقط في حال ويثبت في حال ، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم . فآية الميراث مخصصة لهذه الآية لا ناسخة لها . وأكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء على أن الآية منسوخة قالوا : نسخت بآية المواريث أو بالإجماع أو بقوله صلى الله عليه وسلم « أن الله أعطى كل ذي حقٍ حقه ألا لا وصية لوارث » وهذا وإن كان خبر واحد إلا أن الأمة تلقته بالقبول حتى التحق بالمتواتر فيجوز نسخ القرآن به عند الجمهور . ومن أئمة الأمة من قال : هي منسوخة في حق من يرث ، ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك : من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية . وقال طاوس : إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب . قالوا : الآية دلت على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق القريب الوارث ، إما بآية المواريث أو بقوله « لا وصية لوارث » أو بإجماع الأمة . فبقيت الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم « ما من حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه » وفي رواية « له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين » وفي رواية « ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده » لكن الوصية لغير الأقارب غير واجبة بالإجماع فوجب أن تختص بالأقارب . وهؤلاء القائلون بأن الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً اختلفوا في موضعين : الأول : نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء . وقال الحسن البصري والأغنياء سواء . الثاني : عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن معلى أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه : يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة ، وثلث الثلث لمن أوصى له . وعن طاوس : أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزغت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب { فمن بدله } فمن غير الإيصاء أو ما قاله الميت وأوصى به عن وجهه إن كان موافقاً للشرع { بعد ما سمعه } وتحققه فلا معنى للسماع لو لم يقع العلم به والمبدل إما الوصي بأن يغير الوصية في الكتابة ، أو في قسمة الحقوق ، وإما الشاهد بأن يغير شهادته أو يكتمها غيرهما بأن يمنع من وصول ذلك المال إلى مستحقه ، وقيل : المنهي عن التغيير هو الموصي ، نهي عن تغيير الوصية عن الموضع الذي بيّن الله تعالى الوصية فيه . فإنهم كانوا يوصون في الجاهلية للأبعدين طلباً للفخر والشرف ، ويتركون الأقارب في الضر والفقر ، فأمرهم بالوصية للأقربين وأوعدهم على تركها .

{ فإنما إثمه } ما إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل إلا على الذين يبدلونه ، فإن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره . ومنه يعلم أن الطفل لا يعذب بكفر أبيه ، وأن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه فإن الميت لا يعذب بتقصير ذلك الوارث ، وأن الميت لا يعذب بنياحة غيره عليه { إن الله سميعٌ عليم } يسمع الوصية على حدها ويعلمها على صفتها فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها ، وفي ذلك وعيد للمبدّل وأيّ وعيد . ثم إنه سبحانه لما أطلق الإيعاد على التبديل أتبعه قوله { فمن خاف } ليعلم أن التغيير من الباطل إلى الحق على طريق الإصلاح مستحسن شرعاً كما هو حسن عقلاً ، وللخوف ههنا تفسيران : أحدهما : الخشية فيسأل أنه إنما يصح في أمر منتظر مظنون والوصية وقعت وعلمت . وأجيب بأن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريق الحق مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل أو شاهد فيه إثماً أي تعمداً بأن يزيد غير المستحق ، أو ينقص المستحق أو يعدل عن المستحق . فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقق الوصية يأخذ في الإصلاح بينهم أي بين أهل الوصية ، لأن قوله { من موصٍ } يدل على سائر ملابساته . فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة : أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب ، أو أن أزيد فلاناً مع أنه غير مستحق للزيادة ، أو أنقص فلاناً مع أنه مستحق للزيادة ، فعند ذلك يصير السامع خائفاً من جنف أو إثم لا قاطعاً به ، وأيضاً الجائز أن لا يستمر الموصي على وصيته فإن له الفسخ ما دام في حياته ، فمن أين يحصل الثقة بما فعل وقد يعدل عن الحق في آخر الأمر؟ وبتقدير أن تستقر الوصية ومات الوصي على ذلك لم يبعد أن يقع بين الورثة والموصى لهم تنازع فيما نسب إلى الموصي ، وقد يعزى حينئذٍ إلى الجنف أو الإثم فيحتاج إلى الإصلاح بينهم بإجرائهم على قانون الشرع . والتفسير الثاني إن { خاف } بمعنى علم . وقد يستعمل الخوف والخشية مقام العلم ، لأن الخوف منشؤه ظن مخصوص ، وبين العلم والظن مشابهة من وجوه كثيرة ، فصح إطلاق أحدهما على الآخر استعمالاً شائعاً من ذلك قولهم « أخاف أن ترسل السماء » يريدون التوقع . والظن الغالب الجاري مجرى العلم . فمعنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمداً فلا حرج على من علم ذلك أن يرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع . وفي الآية دليل على جواز الإصلاح بين المتنازعين إذا خاف المصلح إفضاء المنازعة إلى محذور شرعاً . والغرض من قوله { فلا إثم عليه } رفع الحرج حتى لا ينافي الوجوب .

وفيه مع ذلك نكتة هي أن الإصلاح بين القوم يحتاج إلى الإكثار من القول وذلك قد يفضي إلى الإسهاب والتكلم ببعض ما لا ينبغي فبين تعالى أنه لا مؤاخذة على المصلح من هذا الجنس إذا كان غرضه الأصلي صحيحاً ولهذا أتبعه قوله { أن الله غفورٌ رحيم } وأيضاً كأنه قيل : أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب ، فلأن أوصل رحمتي إليك أيها المصلح مع تحمل أعباء الإصلاح أولى . أو المراد أن الموصي الذي أقدم على الجنف أو الإثم متى أصلح خلل وصيته فإن الله يغفر له ويرحمه بفضله . وبهذا التأويل يجوز أن يرجع الضمير في قوله { فلا إثم عليه } إلى الموصي .
واعلم أن أكثر الأئمة وإن ذهبوا إلى أن وجوب الوصية منسوخ بآية المواريث إلا أنهم اتفقوا على أنها الآن جائزة في الثلث لما روي أنه صلى الله عليه وسلم عاد سعد ابن أبي وقاص فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي؟ قال : لا . قال : فبشطره؟ قال : لا قال : فبالثلث؟ قال : الثلث والثلث كثير . لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس . فأفاد الحديث المنع من الزيادة واستحباب النقصان عن الثلث إن كانت الورثة فقراء . والوصية أوسع مجالاً من الإرث ، فإذا أراد الوصية فالأفضل أن يقدم من لا يرث من أقاربه لأن الله أعطى الأقربين الميراث ويقدم منهم المحارم ثم يقدم بالرضاع ثم بالمصاهرة ثم بالولاء ثم بالجوار كما في الصدقات المنجزة . فإن أوصى للورثة بعضهم جاز لكن بالإجازة من سائر الورثة كما لو زاد على الثلث للأجنبي ، فإن الزائد يحتاج إلى إجازة الورثة . التأويل : كتب على الأغنياء الوصية بالمال وعلى الولياء الوصية بالحال ، والأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلث والأولياء يخرجون في مبادئ أحوالهم عن الكل . والمعنى إذا حضر قلب أحدكم مع الله وأمات نفسه عن الصفات الحيوانية ، فعليه أن يوصي للوالدين . وهما الروح العلوي والبدن السفلي ، فإن النفس تولدت من ازدواجهما ، وللأقربين - وهم القلب - والسر بترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية والجسمانية بالمعروف من غير إسراف يفضي غلى الإتلاف معرضاً عن الشهوات مجتنباً عن الرسوم والعادات كما قال صلى الله عليه وسلم : « بعثت لرفع العادات وترك الشهوات بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » ومن مكارم الأخلاق أن يجعل المشارب مشرباً واحداً والمذاهب مذهباً واحداً .
وكل له سؤل وجين ومذهب ... ووصلكم سؤلي وديني هواكم
وأنتم من الدنيا مرادي وهمتي ... مناي مناكم واختياري رضاكم
{ حقاً على المتقين } من الشرك الخفي ولهذا لم يقل على المسلمين أو المؤمنين لأنهم أهل الظواهر والمتقون هم أهل البواطن كما قال صلى الله عليه وسلم

« التقوى ههنا » وأشار إلى صدره . وأحكام الظواهر يحتمل النسخ وأحكام البواطن وهي الحكم والحقائق لا تحتمل النسخ . فحكم الوصية في حق المتقين غير منسوخ أبداً { فمن بدله } فمن غير من الروح والقلب والسر والوصية الصادرة من نفسه الميتة { فإنما إثمه } عليهم . وسبب هذا التوكيد أن السر والقلب والروح كلهم من العالم الروحاني ، وصفاتهم حميدة باقية فترك مشاربها والخروج عنها صعب جداً { فمن خاف } تفرس { من موصٍ جنفاً } في ترك المشارب بأن يبالغ في المجاهدات لنيل المشاهدات { أو إثماً } تجاوزاً عن حد الشرع في رفع الطبع { فأصلح } بينهم بين الروح والبدن والقلب والسر ولكن بنظر شيخ كامل ومرب عارف ، فلا حرج على المصلح والله الموفق .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

القراآت : { فديةٌ طعام } مضافاً { مساكين } بالجمع : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان . وروى الحلواني والداري عن هشام والنجاري { فديةٌ } بالتنوين { طعام } بالرفع مضافاً إلى مساكين بالجمع . الباقون : مثل هذا إلا أن { مسكين } مفرد مجرور { فمن تطوع } بتشديد الطاء والواو وبياء الغيبة وجزم العين : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بلفظ الماضي من باب التفعل { القرآن } غير مهموز حيث كان : ابن كثير وعباس وحمزة في الوقف فإذا كان بمعنى القراءة فإن عباساً فيه مخير إن شاء همز وإن شاء لم يهمز كقوله تعالى { وقرآن الفجر أن قرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] { ولا تعجل بالقرآن } [ طه : 114 ] { إن علينا جمعه وقرآنه } [ القيامة : 17 ] { فاتبع قرآنه } [ القيامة : 18 ] الباقون بالهمز { اليسر والعسر } حيث كانا مثقلين : يزيد إلا قوله { فالجاريات يسرا } [ الذاريات : 3 ] { ولتكملوا العدة } من التكميل : أبو بكر وحماد وعباس ورويس . والباقون : من الإكمال . { الداعي إذا دعاني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل . وافق أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو بالياء في الوصل . والباقون بغير ياء فيها في الحالين { في لعلهم } بفتح الياء : ورش . الباقون : بالسكون .
الوقوف : { تتقون } لا لأن « أياماً » ظرف « الصيام » أو الاتقاء { معدودات } ط لأن المرض والسفر عارضان فكانا خارجين عن أصل الوضع { أخر } ط لأن خبر الجار منتظر وهو « فدية » فلا تعلق له بما قبله { مسكين } ط لأن التطوع خارج عن موجب الأصل { خير له } ط لأن التقدير والصوم خيرٌ لكم . { تعلمون } 5 { والفرقان } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { فليصمه } ط للابتداء بشرط آخر { أخر } ط { العسر } ز قد يجوز { تشكرون } 5 { قريب } ط لأن قوله « أجيب مستأنف { دعان } ص للفاء { يرشدون } 5 { لهن } ط { عنكم } ج لعطف الجملتين المختلفتين { لكم } ص لذلك { إلى الليل } ج وإن اتفقت الجملتان لأن حكم الصوم والاعتكاف مختلفان ولكل واحد شأن { في المساجد } ط لأن » تلك « مبتدأ { فلا تقربوها } ط لأن كذلك صفة مصدر محذوف أي يبين الله بياناً كبيان ما تقدم { يتقون } 5 .
التفسير : هذا حكم آخر . والصيام مصدر صام كالقيام والعياذ . وهو في اللغة الإمساك عن الشيء . قال الخليل : الصوم قيام بلا عمل . وصام الفرس صوماً أي قام على غير اعتلاف . وقال أبو عبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم . وإنه في الشرع عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة تسمى المفطرات كالأكل والشرب والوقاع في زمان مخصوص هو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس . ولا بد في صحته من النية وأن يقع في غير يومي العيد بالاتفاق ، وفي غير أيام التشريق عند الأكثرين . ويوافقه الجديد من قول الشافعي » ومن غير يوم الشك بلا ورد ونذر وقضاء وكفارة « .

ولا بد للصائم من الإسلام والنقاء عن الحيض والنفاس ، ومن العقل كل اليوم ، ومن انتفاء الإغماء في جزء من اليوم . وقوله سبحانه { كما كتب على الذين من قبلكم } أي على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم . قال علي كرم الله وجهه : أوّلهم آدم يعني أن الصوم عبادة أصلية قديمة ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم . { لعلكم تتقون } بالمحافظة عليها لقدمها ، أو المعاصي لأن في الصوم ظلفاً للنفس عن المناهي ومواقعة السوء ، أو لعلكم تنتظمون في سلك أهل التقوى فإن الصوم شعارهم . وقيل : معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام وهو رمضان ، كتب على النصارى فأصابهم موتان فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده . وقيل : كان يقع في البرد الشديد والحر الشديد فشق عليهم فجعلوه بين الشتاء والربيع وزادوا عشرين كفارة . ومعنى معدودات مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل مثل { دراهم معدودة } [ يوسف : 20 ] وأصله أن المال القليل يعدّ عدّاً ، والكثير يحثى حثياً كأنه قال : إني رحمتكم فلم أفرض عليكم صيام الدهر كله ولا أكثره ولكن أياماً معدودة قليلة ، وعلى هذا يحتمل أن يكون وجه الشبه بين الفرضين مجرد تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان . ثم إن الأئمة اختلفوا في هذه الأيام على قولين : الأول : أنها غير رمضان . فعن عطاء : ثلاثة أيام من كل شهر . وعن قتادة : هي مع صوم عاشوراء . ثم اختلفوا أيضاً فقيل : كان تطوّعاً ثم فرض وقيل بل كان واجباً . واتفقوا أنه نسخ بصوم رمضان واستدلوا على قولهم إنها غير صوم رمضان بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن صوم رمضان نسخ كل صوم » فدل على أن صوماً آخر كان واجباً . وأيضاً ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية وفي التي تتلوها ، فلو اتحد الصومان كان تكريراً محضاً . وأيضاً ذكر في هذه الآية التخيير بين الصوم والفدية وصوم رمضان واجب على التعيين فيختلفان . والثاني : وهو اختيار أبي مسلم والحسن وأكثر المحققين أنها شهر رمضان أجمل أولاً ذكر الصيام ، ثم بينه بعض البيان بقوله { أياماً معدودات } ثم كمل البيان بقوله { شهر رمضان } وهذا ترتيب في غاية الحسن من غير زيادة ولا نقصان . وأجيب عن استدلالهم الأول بأنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يراد به نسخ كل صوم وجب الشرائع المتقدمة . سلمنا أن المراد به صوم ثبت في شرعه ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخاً لصيام وجب بغير هذه الآية . وعن الثاني أن صوم رمضان كان واجباً مخيراً ، وفي الآية الثانية جعل واجباً على التعيين ، فأعيد حكم المريض والمسافر ليعلم أن حالهما ثانياً في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولاً .

وعن الثالث أن الاختلاف مسلم لكن في التخيير والتعيين ، أما في نفس الصوم فلا . وههنا سؤال وهو أن قوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } كيف كان ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ؟ والجواب أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول ، بل المقدم في التلاوة يمكن أن يكون ناسخاً والمتأخر منسوخاً كآية الاعتداد بالحول . وهكذا نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير . قال القفال : انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، فبين أولاً أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم السالفة ، فإن الأمور الشاقة إذا عمت خفت . ثم بين ثانياً وجه الحكمة في إيجاب الصوم وحصول التقوى . ثم بين ثالثاً أنه مختص بأيام قلائل لا بكلها ولا بأكثرها . ثم بين رابعاً أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن ليعلم شرفه فتوطن النفس له . ثم ذكر خامساً إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى زمن الرفاهية والصحة وهي هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنها الأفعال كلها سليمة والمرض زوالها . واختلف الأئمة في المرض والسفر المبيحين للإفطار على أقوال : أحدها أن أيّ مريض كان ، وأيّ مسافر كان ، فله أن يترخص تنزيلاً للفظ المطلق على أقل أحواله ، وهذا قول الحسن وابن سيرين . يروى أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه . وعن داود : الرخصة حاصلة في كل سفرٍ ولو كان فرسخاً . وثانيها أنه المرض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد وكذا السفر وهو قول الأصم . وحاصله تنزيل اللفظ على أكمل أحواله . وثالثها وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء أنه الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة في العلة إذ لا فرق في العقل بين ما يخاف منه وبين ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتد حماه ، والأرمد يخاف أن يشتد وجع عينه . قالوا : وكيف يمكن أن يقال : كل مرض مرخص مع علمنا بأن في الأمراض ما ينفعه الصوم؟ فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته تأثيراً يعتد به والتأثير اليسير لا عبرة به . المرض المرخص لا يفرق فيه بين أن يعرف كونه كذلك بنفسه أو يخبره بذلك طبيب حاذق بشرط كونه مسلماً بالغاً عدلاً . وأصل السفر من الكشف لأنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم . وعن الأزهري : سمي مسافراً لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء . قال الأوزاعي : السفر المبيح مسافة يوم . وعند الشافعي مقدر بستة عشر فرسخاً ولا يحسب منه مسافة الإياب . كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قدر أميال البادية ، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة .

وإلى هذه ذهب مالك وأحمد وإسحق ، وذلك أن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله بخلاف ما إذا تكرر في يومين فحينئذٍ يناسب الرخصة ، ولما روى الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان » قال أهل اللغة : كل بريد أربعة فراسخ . وروى الشافعي أيضاً أن عطاء قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة؟ فقال : لا فقال : إلى مرّ الظهران؟ فقال : لا . ولكن اقصر إلى جدّة وعسفان والطائف . قال مالك : بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد . وقال أبو حنيفة والثوري : رخصة السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل ، أربعة وعشرين فرسخاً قياساً على المسح . والإجماع على الرخصة في هذا المدة والخلاف فيما دون ذلك فيبقى المختلف فيه على أصل وجوب الصوم . وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم « يمسح المقيم يوماً وليلة » لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة ، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة يصير مقيماً . وكذا قوله صلى الله عليه وسلم « والمسافر ثلاثة أيام » لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام . وأيضاً الترجيح للإفطار لقوله صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة « هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » وإنما قيل { أو على سفرٍ } دون أن يقول مسافراً كما قال { مريضاً } لأن السفر يتعلق بقصده واختياره حتى لو عزم على الإقامة في منزل من المنازل لم يبق على قصد السفر ، فلا يصح الإفطار وإن كان مسافراً وهذا بخلاف المرض فإنه صفة قائمة به إن حصلت حصلت وإلا فلا .
وعدّة فعلة من العدّ بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ، وعدة المرأة من هذا . وإنما قيل { فعدّة } على التنكير ولم يقل « فعدتها » أي فعدة الأيام المعدودات للعلم بأنه لا يؤثر عدد على عددها وأنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد ظاهراً ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة . والمعنى فعليه صوم عدّة . وقرئ بالنصب أي فليصم عدّة . وأخر جمع أخرى تأنيث آخر ، وإنه غير مصروف للصفة والعدل من أخر من كذا . واعلم أن قوماً من علماء الصحابة ذهبوا إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر حتى قالا : لو صام في السفر قضى في الحضر . واختاره داود بن علي الأصفهاني وهو مذهب الإمامية لأن قوله تعالى { فعدّة } أي فعليه عدّة مشعر بالوجوب عليه .

ولأن قوله { يريد بكم اليسر } ينبئ عن إرادته الإفطار ولقوله صلى الله عليه وسلم « ليس من البر الصيام في السفر » وفي الرواية بدل لام التعريف ميم التعريف . وقوله « الصائم في السفر كالمفطر في الحضر » وذهب أكثر الفقهاء إلى أن هذا الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام لما يجيء من قوله تعالى { وإن تصوموا خيرٌ لكم } ولما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هل أصوم في السفر فقال « صم إن شئت وأفطر إن شئت » . قالوا وفي الآية إضمار التقدير : فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى { أو به أذى من رأسه ففديةٌ } [ البقرة : 196 ] أي فحلق فعليه فدية . ثم اختلف هؤلاء فعن الشافعي وأبو حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد : أن الصوم أفضل . وقالت طائفةٌ : الأفضل الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحق . وقيل : أفضل الأمرين أيسرهما على المرء . واختلف أيضاً في القضاء فعامة العلماء على التخيير . وعن أبي عبيدة بن الجراح : أن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق . وعن علي كرم الله وجهه وابن عمر والشعبي وغيرهم : أنه يقضي كما فات متتابعاً ويؤيده قراءة أبي { فعدة من أيامٍ أخر متتابعات } قوله سبحانه { وعلى الذين يطيقونه } فيه ثلاثة أقوال :
الأول : وهو قول أكثر المفسرين : أن المعنى وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم لكونهم مقيمين صحيحين إن أفطروا فدية هي طعام مسكين . والفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء وأنه ههنا عند أهل العراق - ومنهم أبو حنيفة - نصف صاع من بر أو صاع من غيره . وعند أهل الحجاز - ومنهم الشافعي - مدّ من غالب قوت البلد لكل يوم ويصرف إلى الفقير والمسكين . قالوا : كان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية . عن سلمة بن الأكوع : لما نزلت { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } كان من أراد أن يفطر يفطر ويفتدي حتى نزلت { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فنسختها . من قرأ بإضافة الفدية إلى طعام فالإضافة فيه كهي في قولك « خاتم حديد » ومن قرأ « مساكين » على الجمع فلأن الذين يطيقونه جمع فكل واحد منهم يلزمه طعام مسكين لكل يوم . والاعتبار بمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مائة وثلاثة وسبعون درهماً وثلث الدرهم .
الثاني : أن هذا راجع إلى المسافر والمريض . وذلك أن المريض والمسافر منهما من لا يطيق أصلاً وإليه الإشارة بقوله { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيامٍ أخر } ومنهما من يطيق الصوم مع الكلفة وهو المراد بقوله { وعلى الذين يطيقونه } قالوا : هذا أولى ليلزم النسخ أقل ، فإن نسخ التخيير بين الصوم والفدية عن المريض المطيق أقل من نسخ التخيير عنه وعن الصحيح المقيم .

الثالث : أنه نزل في الشيخ الهرم . عن السدي : وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ويؤيده القراءة الشاذة { يطوّقونه } تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة أي يكلفونه ، أو يقلدونه . والتركيب يستعمل فيمن يقدر على شيء مع ضرب من المشقة والكلفة وبعضهم أضاف إلى الشيخ الهرم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما وولديهما . واتفقوا على أنا لشيخ إذا أفطر فعليه الفدية ، وأما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فقال الشافعي : عليهما القضاء والفدية لحق الوقت . وقال أبو حنيفة : لا يجب إلا القضاء كيلا يلزم الجمع بين البدلين . { فمن تطوّع خيراً } بأن يطعم مسكينين أو أكثر أو يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب ، أو صام مع الفدية عن الزهري . { فهو } أي التطوع { خير له وأن تصوموا } أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتهم متاعب الصيام { خيرٌ لكم } من الفدية وتطوّع الخير . ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضاً عند من يرى أن الصوم لهما أفضل { إن كنتم تعلمون } أن الصوم أشق عليكم وأن أجركم على قدر نصبكم ، أو تعلمون بالله فتخشونه فتمتثلون أمره { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] أو تعلمون ما في الصوم من الفوائد الدنيوية والأخروية . عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يقول الله عز وجلّ الصوم لي وأنا أجزى به وللصائم فرحتان حين يفطر وحين يلقى ربه . والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك » وعنه صلى الله عليه وسلم « إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم » وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه . ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » وفضيلة الصوم ومنافعه أكثر من أن تحصى ولو لم يكن فيه إلا التشبه بالملائكة والارتقاء من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالروحانيات المجرّدة لكفى به فضلاً ومنقبة .

هذا صوم الشريعة ، فأما صوم الطريقة فالإمساك عما حرم الله عز وجلّ والإفطار بما أباح وأحل ، وصوم الحقيقة الإمساك عن الأكوان والإفطار بمشاهدة الرحمن .
صمت عن غيره فلما تجلى ... كأن بي شاغلٌ عن الإفطار
وتشوّقت مدة ثم لما ... زارني جَلّ عن مدى الأنظار
قوله عز من قائل { شهر رمضان } الشهر مأخوذ من الشهرة . عن مجاهد : رمضان اسم الله تعالى . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله » وعلى هذا شهر رمضان أي شهر الله .
والأكثرون على أنه اسم علم للشهر كرجب وشعبان ومنع الصرف للعلمية والألف والنون . ثم اختلف في اشتقاقه فعن الخليل : أنه من الرمض بتسكين الميم وهو مطر يأتي وقت الخريف ويطهر وجه الأرض عن الغبار ، سمي الشهر بذلك لأنه يطهر الأبدان عن أوضار الأوزار . وقيل : من الرمض بمعنى شدة الحر من وقع الشمس والأرض رمضاء . وفي الكشاف : الرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء ، سمي بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع كما سموه ناتقاً لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم لشدته عليهم ، أو لأن الذنوب ترمض فيه أي تحترق . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباده » وكأن هذا من قولهم « رمضت النصل » جعلته بين حجرين أملسين ثم دققته ليرق . وعن الأزهري : أنهم كانوا يرمضون أسلحتهم فيه ليقضوا منها أوطارهم في شوّال قبل دخول الأشهر الحرم . وقيل : إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك . وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء ، وإضافة الشهر إليه إضافة العام إلى الخاص ، ولو لم يتلفظ بالشهر جاز كقوله صلى الله عليه وسلم « من صام رمضان إيماناً » الحديث . لأن التسمية وقعت برمضان فقط . وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره { الذي أنزل فيه القرآن } أو على أنه بدل من الصيام في قوله { كتب عليكم الصيام } أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان . وعلى هذين الوجهين يكون الموصول مع صلته صفة لشهر رمضان . قال أبو علي : وهذا أولى ليكون أيضاً في الأمر بصوم الشهر وإلا كان خبراً عن إنزال القرآن فيه . وقرئ بالنصب على صوموا شهر رمضان أو على الإبدال من { أياماً } أو على مفعول { وأن تصوموا } وفي هذا الوجه نظر من قبل الفصل بين { أن تصوموا } ومعموله بالخبر . وفائدة وصف الشهر بإنزال القرآن فيه التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه .

وذلك أنه لما خص بأعظم آيات الربوبية ناسب أن يخص بأشق سمات العبودية فبقدر هضم النفس يترقى العبد في مدارج الأنس ويصل إلى معارج القدس وتنخرق له الحجب الناسوتية ويطلع على الحكم اللاهوتية ويفهم معاني القرآن ويتبدل له العلم بالعيان وكان حينئذٍ من العجائب ما كان . وفي إنزال القرآن في رمضان أقوال . فعن سفيان بن عيينة أنزل في فضله القرآن كما تقول أنزل في علي عليه السلام كذا . وقال ابن الأنباري : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن كما تقول : أنزل الله في الزكاة كذا أي في إيجابها ، وأنزل في الخمر كذا أي في تحريمها . والقولان متقاربان ، أو هما واحد فإنه لم ينزل سوى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } الآيات . واختيار الجمهور أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان . عن النبي صلى الله عليه وسلم « نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين » ثم إنه لا شك أن القرآن قد نزل منجماً مفرقاً على حسب المصالح والوقائع ، فأوّلت الآية بأن المراد أنه ابتدئ فيه إنزاله وذلك ليلة القدر . ومبادئ الملل والدول هي التي يؤرخ بها لشرفها وانضباطها . وهذا قول محمد بن إسحق . أو أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل إلى الأرض نجوماً ، وليس يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم ، وفيه مصلحة للرسول من حيث توقع الوحي عن أقرب الجهات . ولعل فيه مصلحة لجبريل المأمور بالإنزال والتأدية ولا سيما على رأي الفلاسفة الذين جبريل عندهم هو العقل الفعال الأخير الذي يدير عالم الكون والفساد وخاصة نوع الإنسان . وعلى هذا القول يحتمل أن يقال : إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر ، ثم نزله على محمدٍ صلى الله عليه وسلم منجماً إلى آخر عمره . ويحتمل أن يقال : إنه سبحانه كان ينزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر كل سنة ما يحتاجون إليه في تلك السنة وكذلك أبداً إلى أن تم إنزاله . وعلى هذا يكون تعين رمضان الذي أنزل فيه القرآن نوعياً لا شخصياً { هدى للناس وبيناتٍ } منصوبان على الحالية أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات من جملة ما يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل من الكتب السماوية وذلك أن الهدى قسمان : جلي مكشوف وخفي مشتبه ، فوصفه أولاً بجنس الهداية ثم قال : إنه من نوع البين الواضح . ويحتمل أن يقال : القرآن هدى من نفسه ومع ذلك ففيه أيضاً بينات من هدى الكتب المتقدمة ، فيكون المراد بالهدى والفرقان والتوراة والإنجيل ، أو يقال : الهدى الأول أصول الدين ، والثاني فروعه ، فيزول التكرار .

نقل الواحدي عن الأخفش والمازني أن الفاء في { فمن شهد } زائدة إذ لا معنى للعطف والجزاء ههنا وهذا وهم لظهور كونها للجزاء كأنه قيل : لما علمتم اختصاص هذا الشهر بفضيلة إنزال القرآن فيه فأنتم أيضاً خصوه بهذه العبادة ، ومعنى شهد أي حضر . ثم قيل : إن مفعوله محذوف { والشهر } منصوب على الظرف وكذلك الهاء في { فليصمه } ولا يكون مفعولاً به كقولك « شهدت الجمعة » لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان الشهر . فالمعنى فمن شهد منكم في الشهر المذكور المعلوم البلد أو المقام فليصم في الشهر . وصاحب هذا القول ارتكب الإضمار حذراً من لزوم التخصيص في حق المسافر إلا أنه يلزمه ما فر منه أية سلك لأن الصبي والمجنون والمريض كل منهم شهد البلد مع أنه لا يجب عليه الصوم . أما إذا قيل : إن الشهر مفعول به مثل « شهدت عصر فلان وأدركت زمانه » فلا يلزم منه إلا أحد الأمرين وهو التخصيص بقوله { ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدّة من أيامٍ أخر } فيكون أولى من الأول لأن الإضمار والتخصيص إذا تعارضا فالتخصيص أولى ، فكيف إذا وقع الإضمار والتخصيص في جانب والتخصيص وحده في جانب؟ هذا ما قاله الإمام فخر الدين الرازي معترضاً به على صاحب الكشاف وغيره . ( قلت ) : الإنصاف أن الترجيح مع صاحب الكشاف لأن لزوم الإضمار في الآية ممنوع ، وذلك أن { شهد } ههنا متروك المفعول كقولهم « فلان يعطى ويمنع » ومعنى من شهد من كان على حالة الحضر سواء كان في البلد أو في منزل من المنازل ونوى الإقامة . وأما التخصيص فمشترك على القولين إلا أنه على قول صاحب الكشاف أقل لعدم دخول المسافر فيه ، فيكون أولى . فإن قيل : فعلى هذا يكون قوله بعيد ذلك { أو على سفرٍ } تكراراً قلنا : إنما أعيد ليترتب عليه حكم القضاء كما للمريض . وأيضاً لا يلزم من إيجاب الصوم على الحاضر عدم إيجابه على المسافر ، ولو سلم فبالمفهوم أوّلاً وبالمنطوق ثانياً ، فأين التكرار؟ وإنما وضع المظهر وهو الشهر مقام المضمر حيث لم يقل فمن شهده اعتناء بشأنه واعتلاء لمكانه وتمكيناً في القلوب وتعظيماً في النفوس كقوله :
أن يسأل الحق يعطى الحق سائله . ... وههنا بحث وهو أن قوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } جملة شرطية ، وما لم يوجد الشرط بتمامه لم يترتب عليه الجزاء ، والشهر عبارة عن زمان مخصوص من أوله إلى آخره ، فظاهر الآية يقتضي أن الصوم لا يجب عليه إلا عند شهود الجزء الأخير وهو محال لأنه يقتضي إيقاع الفعل في الزمان المنقضي . وأجيب بأن المراد من الشهر جزء من أجزائه وهذا مجاز مشهور ، والمعنى من شهد جزءاً من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر . ثم إن كان هذا الجزء من أول الشهر كما لو شهد هلال رمضان فهذا موافق لما نقل عن علي كرم الله وجهه : أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر وجب أن يصوم الكل .

وأما سائر المجتهدين فيقولون : هذا عام يدخل فيه الحاضر والمسافر إلا أن قوله { ومن كان مريضاً أو على سفرٍ } يخصصه ، وإن كان في أثناء الشهر فيوافق قول أبي حنيفة : إن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما مضى . قلت : لا حاجة إلى ارتكاب التجوز المذكور وهو إطلاق لفظ الشهر على جزء من أجزائه ، ولا يلزم منه المحال المذكور إذ المراد من شهد الشهر أجمع فليكن بحيث قد وجد منه الصوم في جميع أيامه ، أو المراد من عزم على كونه مقيماً في الشهر فليصمه . ويعلم منه أنه إن كان حاضراً في بعضه يتعلق إيجاب الصوم بذلك البعض فقط بدليل قوله { ومن كان مريضاً أو على سفرٍ } فإنه لما علم الوجوب للحاضر في كله والرخصة للمسافر في كله علم الحكمان جميعاً للحاضر في بعضه والمسافر في البعض الآخر ، فكل يوم مستقل بنفسه فيما يقتضيه ، والصوم فيه عبادة مستقلة ، وكأن ما نقل عن علي كرم الله وجهه أمر إلزامي رعاية لحرمة الشهر كما لو أدركت الحائض من أول الوقت قدر ما يسع تلك الصلاة ، وفي قول قدر ركعة ، وفي قول قدر تكبيرة ، لزمها قضاؤها إذا طهرت . وأما أن شهر رمضان بم يثبت حتى يعتبر الشهود فيه فقد قال صلى الله عليه وسلم « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاستكملوا العدة » يعني عدة شعبان ثلاثين يوماً . ومهما شهد عند القاضي عدل واحد أنه رأى الهلال ثبت لما روي عن عمر أنه رأى الهلال وحده فشهد عند النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الناس بالصوم . ولما روي أن علياً عليه السلام شهد عنده رجل على رؤية هلال رمضان فصام وقال : صيام يوم من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان ، وللاحتياط في أمر العبادة . ولا يثبت الهلال في سائر الشهور إلا برؤية عدلين ، وعند أبي حنيفة : يثبت هلال رمضان في الغيم بواحد وفي الصحو تعتبر الاستفاضة . وإذا رؤي في موضع شمل الحكم لمن هو على ما دون مسافة القصر منه ولا يجب الصوم بذلك على من عداهم . { يريد الله بكم اليسر } معناه في اللغة السهولة ومنه اليسار للغني لأنه يتسهل به الأمور وتتسنى المقاصد واليد اليسرى لبقائها على اليسر ، أو لأن الأمور تسهل بمعاونتها اليمنى والعسر نقيضه . وفي الصحاح : قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه . أوجب الصوم على سبيل السهولة لأنه ما أوجب إلا في مدة قليلة من السنة ، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض والمسافر وههنا يتحقق صدق قوله صلى الله عليه وسلم

« بعثت بالحنيفية السهلة السمحة » ومن كمال رأفته تعالى أنه نفى الحرج أولاً ضمناً بقوله { يريد الله بكم اليسر } ثم نفاه صريحاً بقوله { ولا يريد بكم العسر } والظاهر أن الألف واللام في اليسر والعسر يفيد العموم ، فيمكن أن يستدل به على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق . والمعتزلة تمسكوا بالآية أنه قد يقع من العبد ما لا يريد الله تعالى ، فإن المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده فقد ما لم يرد الله منه إذ كان لا يريد العسر . وأجيب بأنا نحمل اللفظ على أنه تعالى لا يأمره بالعسر وإن كان قدير يدمنه العسر فإن الأمر عندنا قد يثبت بدون الإرادة . فكما أنه يجوز أن يأمر ولا يريد جاز أن يريد ولا يأمر . قوله { ولتكملوا } أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف فيه . فعن الفراء : التقدير ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون . شرع جملة ما ذكره وهو الأمر بصوم العدة وتعليم كيفية القضاء والرخصة في إباحة الفطر . وهذا نوع من اللف لطيف المسلك . فقوله { لتكملوا } علة الأمر بمراعاة العدة { ولتكبروا } علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر . { ولعلكم تشكرون } أي إرادة أن تشكروا علة الترخيص والتيسير . وعن الزجاج : أن المحذوف فعل أمر مقدر قبله كأنه قيل : لتعلموا ما تعملون ولتكملوا . والفرق أن حذف النون في الأول للنصب وفي هذا للجزم . ولا يخفى أن قوله { ولعلكم تشكرون } يبقى في هذا الوجه غير مرتبط بما قبله إلا أن يقال : إنه في قوة « ولتشكروا » . وفيه أيضاً بعد ويحتمل أن يقال { ولتكملوا } معطوف على اليسر كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ويريد بكم لتكملوا كقوله { يريدون ليطفؤا } [ الصف : 8 ] وإنما قيل { ولتكملوا العدة } ولم يقل « ولتكملوا الشهر » ليشمل عدة أيام الشهر وعدة أيام القضاء جميعاً . وعدى فعل التكبير بعلى لتضمين معنى الحمد أي ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم . والمراد بالتكبير قيل : إنه تعظيم الله تعالى والثناء عليه شكراً على ما وفق لهذه الطاعة . وتمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل . فالقول أن يقر بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزهه عما يليق به من ند وصاحبة وولد وتشبيه بالخلق ، وكل ذلك لا يعتدّ به إلا مع الاعتقاد القلبي . وأما العمل فالتعبد بالأوامر والتبعد عن النواهي . وهذا لا يختص بوقت استكمال عدة رمضان ، ولكنه شامل لجميع الأحيان . وقيل : هو تكبير الفطر وإنه مشروع في العيدين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعاً صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى .

وأوّل وقته في العيدين جميعاً غروب الشمس ليلة العيد . وعن أحمد ومالك أنه لا تكبير ليلة العيد وإنما يكبر في يومه . لنا قوله تعالى { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم } قال الشافعي : سمعت من أرضى به من أهل العلم بالقرآن يقول { ولتكملوا العدة } أي عدة صوم رمضان { ولتكبروا الله } عند إكمالها ، وإكمالها بغروب الشمس آخر يوم من رمضان وأما آخر التكبير فأصح الأقوال أنهم يكبرون إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد ، لأن الكلام مباح إلى تلك الغاية والتكبير أولى ما يقع به الاشتغال . والمسنون في صيغته أن يكبر ثلاثاً نسقاً وبه قال مالك . وقال أحمد وأبو حنيفة : يكبر مرتين . لنا الرواية عن جابر وابن عباس . وأيضاً فإنه تكبير موضوع شعاراً للعيد فكان وتراً كتكبير الصلاة . قال الشافعي : وما زاد من ذكر الله فحسن . واستحسن في « الأم » أن تكون زيادته ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قاله على الصفا وهو : « الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون . لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده لا إله إلا الله والله أكبر » قال في الشامل : والذي يقوله الناس لا بأس به أيضاً وهو : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر والله أكبر ولله الحمد . يرفع الناس أصواتهم بالتكبير ليلتي العيد في المنازل والمساجد والطرق والأسواق سفراً كانوا أو حاضرين في اليومين في طريق المصلي وبالمصلى إلى الغاية المذكورة سواء كان يصلي المكبر مع الإمام أو لا يصلي . ويستثني من ذلك الحاج فلا يكبر ليلة الأضحى . واختلف في أن التكبير في أي العيدين أوكد ، ففي القديم ليلة النحر لإجماع السلف عليها ، وفي الجديد ليلة الفطر لورود النص فيها .
قوله سبحانه { وإذا سألك عبادي عني } وجه اتصاله بما قبله هو أنه لما أمر العباد بالتكبير الذي هو الذكر وبالشكر نبههم على أنه مطلع على ذكرهم وشكرهم فيسمع نداءهم ويجيب دعاءهم ولا يخيب رجاءهم ، أو أنه أمرهم بالثناء ثم رغبهم في الدعاء تعليماً للمسألة وتنبيهاً على حسن الطلب ، وسبب نزوله ما روي أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ وقيل : كان في غزاة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء فقال صلى الله عليه وسلم : « إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً » . وعن قتادة أن الصحابة قالوا : يا نبي الله كيف ندعو ربنا فنزلت . وعن عطاء أنهم سألوا في أي ساعة ندعو فنزلت .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا : يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت . وعن الحسن : سألت الصحابة فقالوا أين ربنا فنزلت . وقيل : فرض عليهم الصيام كما كتب على الذين من قبلهم أي إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا ربهم في ذلك التكليف ، ثم ندموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن توبتهم فنزلت مبشرة بقبول توبتهم . ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم ، وبهذا الوجه تصير الآية مناسبة لما قبلها ولما بعدها . ثم إن سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الله إما أن يكون عن ذاته بأن يكون السائل ممن يجوّز التشبيه فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات ، وإما أن يكون عن صفاته بأنه هل يسمع دعاءنا ، أو عن أفعاله بأنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا ، أو كيف أذن في الدعاء وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة ، وهل أذن أن ندعوه كيف شئنا ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه على وجه معين كما قال تعالى { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } [ الإسراء : 110 ] وكل هذه الوجوه محتملة لأن قوله { فإني قريب } يدل على أن السؤال كان عن الذات وقوله { أجيب دعوة الداع } دليل على أن السؤال عن الصفة لأن الإجابة بعد السماع وإطلاق قوله { إذا دعان } يرشد إلى الإذن في الدعاء على أي نحو أراد ما لم يتجاوز قانون الأدب عرفاً كقوله تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف : 180 ] قال العلماء : ليس القرب ههنا بالمكان ، لأنه لو كان في المكان كان مشاراً إليه بالحس ومنقسماً إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد . وكل منقسم مفتقر في تحققه إلى أجزائه . وكل مفتقر ممكن . وأيضاً لو كان في المكان ، فإما أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو محال فإن كل بعد متناه ببرهان تناهي الأبعاد أو من جانب واحد فكذلك مع أن كونه بحيث يقتضي جانب منه عدم التناهي ، وجانب منه التناهي يوجب كونه مركباً من أجزاء مختلفة الطبائع ، أو يكون متناهياً من جميع الجوانب وهو باطل بالاتفاق . وأيضاً هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب ليس بالجهة لأنه لو كان في المكان لما كان قريباً من الكل بل لو كان قريباً من حملة العرش يكون بعيداً عن غيرهم ، ولو كان قريباً من المشرقي كان بعيداً عن المغربي . قالوا : فثبت أن المراد بالقرب قربه بالتدبير والحفظ والكلاءة . قال في الكشاف : هو تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه . فإذا دعى أسرعت تلبيته ونحوه { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }

[ ق : 16 ] وقوله صلى الله عليه وسلم « هو بينكم وبين أعناق رواحلكم » وقد أشار بعض المحققين إلى أن اتصاف ماهيات الممكنات بوجودها لما كان بإيجاد الصانع فهو كالمتوسط بين ماهياتها ووجوداتها ، فيكون أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها بل ماهية كل شيء إنما صارت هي هي بجعل الصانع حتى ماهية الوجود فبه صار الجوهر جوهراً والسواد سواداً والعقل عقلاً والنفس نفساً . فالصانع أقرب إلى كل ماهية من تلك الماهيات إلى نفسها ( قلت ) استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إلى المكان . ولئن سلم أن كل مفتقر إلى المكان ينقسم ، فانقسام كل مستصحب للمكان ممنوع ، وبراهين تناهي الأبعاد مختلة زيفناها في مواضعها . فلا ذرة من ذرات العالم إلا ونور الأنوار محيط بها قاهر عليها قريب منها ، أقرب من وجودها إليها ، لا بمجرد العلم فقط ولا بمعنى الصنع والإيجاد فقط بل بضرب آخر لا يكشف المقال عنه غير الخيال ، مع أن التعبير عن بعض ذلك يوجب شنعة الجهال . شعر :
رمزت إليه حذار الرقيب ... وكتمان سر الحبيب حبيب
إذا ما تلاشيت في نوره ... يقول لي ادع فإني قريب
فإن سألوه عليه السلام : أين ربنا؟ صح الجواب بأني قريب ، وإن سألوه : هل يسمع ربنا دعاءنا؟ صح الجواب بأني قريب ، وإن سألوه كيف ندعوه أبرفع الصوت أم بإخفائه؟ صح أن يجاب إني قريب ، وإن سألوه : هل يعطينا ربنا مطلوبنا بالدعاء صحّ في الجواب فإني قريب ، وإن سألوه إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا؟ صَحَّ أن يجاب إني قريب أي بالنظر إليهم والتجاوز عنهم . واعلم أن الدعاء مصدر دعوت أدعو وقد يكون اسماً . تقول : سمعت دعاءً كما تقول سمعت صوتاً . وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية والاستمداد والمعونة . قال بعض الظاهريين : لا فائدة في الدعاء لأن المطلوب به إن كان معلوم الوقوع عند الله كان واجب الوقوع وإلا فلا . ولأن الأقدار سابقة والأقضية جارية وقد جف القلم بما هو كائن ، فالدعاء لا يزيد فيها شيئاً ولا ينقص ، ولأن المقصود إن كان من صالح العبد فالجواد لطق لا يبخل به ، وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه ، ولأن أجل مقامات الصدّيقين الرضا بالقضاء وإهمال حظوظ النفس . والاشتغال بالدعاء ينافي ذلك ، ولأن الدعاء شبيه بالأمر أو النهي وذلك خارج عن الأدب ، ولهذا ورد في الكلام القدسي « من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين » وقال جمهور العقلاء : إن الدعاء من أعظم مقامات العبودية وإنه من شعار الصالحين ودأب الأنبياء والمرسلين . والقرآن ناطق بصحته عن الصديقين ، والأحاديث مشحونة بالأدعية المأثورة بحيث لا مساغ للإنكار ولا مجال للعناد . والسبب العقلي فيه أن كيفية علم الله وقضائه وقدره غائبة عن العقول ، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقاً بين الرجاء والخوف اللذين بهما تتم العبودية .

وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله وجريان قضائه وقدره في الكل . وما روي عن جابر أنه جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ففيم العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال : بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير . قال : ففيم العمل؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له . وكل عامل بعمله منبه على ما قلنا ، فإنه صلى الله عليه وسلم علقهم بين الأمرين ، رهبهم بسابق القدر ثم رغبهم في العمل ولم يترك أحد الأمرين للآخر فقال : كل ميسر لما خلق له . يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق به القدر قبل وجوده إلا أنك تحب أن تعرف الفرق بين الميسر والمسخر كيلا تغرق في لجة القضاء والقدر ، وكذا القول في باب الرزق والكسب . والحاصل أن الأسباب والوسائط والروابط معتبرة في جميع أمور هذا العالم . ومن جملة الوسائل في قضاء الأوطار الدعاء والالتماس كما في الشاهد . فلعل الله تعالى قد جعل دعاء العبد سبباً لبعض مناجحه . فإذا كان كذلك فلا بد أن يدعو حتى يصل إلى مطلوبه ، ولم يكن شيء من ذلك خارجاً عن قانون القضاء السابق وناسخاً للكتاب المسطور . ومن فوائد الدعاء إظهار شعار الذل والانكسار ، والإقرار بسمة العجز والافتقار ، وتصحيح نسبة العبودية ، والانغماس في غمرات النقصان الإمكاني ، والإفلاس عن ذروة الترفع ، والاستغناء إلى حضيض الاستكانة ، والحاجة والفاقة ، ولهذا ورد « من لم يسأل الله يغضب عليه » فإذا كان الداعي عارفاً بالله تعالى وعالماً بأنه لا يفعل إلا ما وافق مشيئته وسبق به قضاؤه وقدره ، ودعا على النمط المذكور من غير أن يكون في دعائه حظ من حظوظ النفس الأمارة ، راجياً فيما عند الله من الخير ، خائفاً من الإقدام على موقف المسألة والمناجاة ، وأن تكون استجابته صورة الاستدراج ، كان دعاؤه خليقاً بالإجابة وجديراً بالقبول وأن تعود بركته عليه قال صلى الله عليه وسلم « ما من رجلٍ يدعو الله بدعاء إلا استجيب له . فإما أن يعجل له في الدنيا ، وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل » قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال : « يقول دعوت ربي فما استجاب لي » وأما هيئة الداعي فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ »

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم » وأما شرائط الدعاء فمنها بعد ما مر من الإخلاص وغيره تزكية البدن وإصلاحه بلقمة الحلال . وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء أشعث أغبر يقول : يا رب يا رب . ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟ وذكر المحققون أن الدعاء مفتاح باب السماء ، وأسنانه لقمة الحلال . وأما وقت الدعاء ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له » وعن أبي أمامة قال : يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع؟ قال : جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد » وزاد في رواية قال : فماذا نقول يا رسول الله؟ قال : « سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة » . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء » وعنه أنه قال « من سره أن يستجيب الله له دعاءه عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء » وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين » وأما كيفية الدعاء فعن فضالة بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو في صلاته فلم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره « إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بعد ما شاء » وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلى عليّ فلا تجعلوني كغمر الراكب صلوا عليّ أول الدعاء وأوسطه وآخره » ومن لطائف الآية أنه تعالى قال { فإني قريب } دون أن يقول « فقل إني قريب » كما قال في سائر الأسئلة والأجوبة . وذلك في مواضع من كتابه { ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] { ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً } [ طه : 105 ]

{ يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي } [ الأعراف : 187 ] وهذه الأسئلة أصولية . { يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } [ البقرة : 215 ] { ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } [ البقرة : 220 ] { ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى } [ البقرة : 222 ] { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } [ النساء : 127 ] { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } [ النساء : 176 ] { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } [ الأنفال : 1 ] { ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي } [ يونس : 53 ] { ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً } [ الكهف : 83 ] فكأنه سبحانه يقول : عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء ، أما في الدعاء فلا واسطة بيني وبينك . وأيضاً في مقام السؤال قال : { عبادي } وهذا يدل على أن العبد له ، وفي مقام الإجابة قال { فإني قريب } وهذا يدل على أنه للعبد . وأيضاً لم يقل « العبد مني قريب » بل قال { إني قريب } منه إشارة إلى أنه ما للتراب ورب الأرباب وإنما يصل من حضيض الإمكان الذاتي إلى ذروة الوجود والبقاء بفضل الواجب وفيضه { فليستجيبوا لي } أجاب واستجاب بمعنى يقال : أجاب واستجاب له أي فليمتثلوا أمري إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة { وليؤمنوا بي } وليستقيموا وليعزموا على الاستجابة ، وليؤمنوا كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم إرادة أن يكونوا من الراشدين المهتدين إلى مصالح دينهم ودنياهم ، فإن طاعة الله تعالى هي المستتبعة للخيرات عاجلاً وآجلاً { من عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] وفي ضده { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ونحشره يوم القيامة أعمى } [ طه : 124 ] وحاصل الكلام : أنا أجيب دعاءكم مع أني غني عنكم على الإطلاق فكونوا أنتم مجيبين دعوتي مع افتقاركم إليّ من جميع الوجوه . وفيه نكتة وهي أنه تعالى لم يقل أجب دعائي حتى أجيب دعاءك لئلا يصير المذنب محروماً عن هذا الإكرام بل قال : أنا أجيب دعاءك على جميع أحوالك فكن أنت مجيباً لدعائي وهذا يدل على أن نعمه تعالى شاملة ورحمته كاملة تعم المطيعين والمذنبين والكاملين والناقصين . وقيل : الدعاء في الآية هو العبادة لما روي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « الدعاء هو العبادة » وقرأ { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [ غافر : 60 ] وعلى هذا فالإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كقوله تعالى { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله } [ الشورى : 26 ] وقيل : المراد من الدعاء التوبة . وذلك أن التائب يدعو الله عند التوبة ، فإجابة الدعوة على هذا التفسير عبارة عن قبول التوبة .
قوله عز وجل : { أحل لكم } الآية جمهور المفسرين على أنها ناسخة لما عليه الناس في أول الإسلام . روي عن ابن عباس أنه لما نزلت { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } كانوا إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب وصاموا إلى القابلة ، فاختان رجل فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر ، فأراد الله أن يجعل ذلك تيسيراً لمن بقي ورخصة ومنفعة .

وعن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ويومه حتى يمسي . وقال : إن قيس بن صرمة الأنصاري ، أو صرمة بن قيس ، أو قيس بن عمرو - على اختلاف الروايات - كان صائماً . فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : أعندك طعام؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه . فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { أحل لكم } ففرحوا بها فرحاً شديداً ، وأبو مسلم خالف الجمهور بناء على مذهبه من أنه لم يقع في القرآن نسخ ألبتة . احتج الجمهور بوجوه منها . أنه تعالى شبه إيجاب الصوم على هذه الأمة بإيجابه على من قبلهم ، فيلزم منه حرمة الأكل والشرب والوقاع بعد النوم في شرعنا كما كانت في شرعهم . وإذا كانت الحرمة ثابتة فهذه الآية رافعة لها ناسخة لحكمها . ومنع أبو مسلم من أن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور ، فلعلهم إنما كانوا يمتنعون من الأكل والشرب والوقاع اعتقاداً منهم ببقاء تلك الحرمة في شرعنا كما هي في شرع من قبلنا مع جواز كونها مباحة في نفس الأمر . ومع قيام هذا الاحتمال فلا جزم بالنسخ ومنها قوله تعالى { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } ولو كان ذلك حلالاً لم ينسبوا إلى الخيانة ، قيل : إن عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة وأخبره بما فعل . فقال صلى الله عليه وسلم : ما كنت جديراً بذلك يا عمر فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء فنزلت . قال أبو مسلم : أصل الخيانة النقص . وخان واختان وتخوّن بمعنى واحد مثل كسب واكتسب وتكسب . والمعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظها من اللذات لا من الثواب والخير . ومنها قوله { فتاب عليكم وعفا عنكم } والتوبة والعفو يكونان بعد المعصية وارتكاب ما هو محرم . قال أبو مسلم : التوبة من العباد الرجوع إلى الله بالعبادة ، ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان . والعفو التسهيل والتوسعة والتخفيف . قال صلى الله عليه وسلم « عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهماً درهم » وقال « أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله »

والمراد التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت . ويقال : أتاني هذا المال عفواً أي سهلاً . فالمعنى عاد عليكم بالرحمة وسع عليكم بإباحة هذه الأشياء المحرمة على الذين من قبلكم . وأما الروايات فأخبار آحاد لا يوجب شيء منها حمل القرآن على النسخ . ولنشتغل بتفسير الألفاظ فنقول : ليلة الصيام قال الواحدي : أراد ليالي الصوم ، فوضع الواحد موضع الجمع . ويمكن أن يقال : أضاف الليلة إلى هذه الحقيقة فتتناول الكل من غير تكلف . والرفث الجماع . والرفث أيضاً الفحش من القول وكلام النساء في الجماع . وقيل لابن عباس . حين أنشد :
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
أترفث وأنت محرم؟ فقال : إنما الرفث ما واجه به النساء . هميساً أي مشياً ليناً ، ولميس اسم امرأة أي أن يصدق الفأل ننكها . وقال أبو علي : معناه الفرج . ويقال : جامع الرجل أو ناك . فإذا أردت الكناية عن هذه العبارة قلت : رفث الرجل . وإنما كني عنه ههنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يعبر عنه بالإفضاء أو الغشيان أو المس ونحوها كما في مواضع آخر { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } [ النساء : 21 ] { فلما تغشاها } [ الأعراف : 189 ] { باشروهن } [ البقرة : 187 ] { من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] { أولمستم النساء } [ النساء : 43 ] وفي قوله : { دخلتم بهن } [ النساء : 23 ] { فأتوا حرثكم } [ البقرة : 223 ] { فما استمعتم به منهن } [ النساء : 24 ] { ولا تقربوهنّ } [ البقرة : 222 ] حتى استهجان لما وجد منهم قبل الإباحة ، أو البيان كما سماه اختياناً لأنفسهم . قال الأخفش إنما عدي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } [ النساء : 21 ] .
{ هن لباس لكم } وجه التشبيه أنهما يعتنقان فينضم جسد أحدهما إلى جسد صاحبه ويشتمل عليه كالثوب . قال الربيع : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن . وقال ابن زيد : كل منهما يستر صاحبه عن الأبصار عند الجماع . قال الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباساً
أو سميا لباساً لستر كل منهما صاحبه عما لا يحل كما في الخبر « من تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه » أو المراد تستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت لو لم تكن المرأة حاضرة كما يتستر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار . وعن الأصم : أن كل واحد منهما كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي كانوا يفعلونه ، وزيف بأن هذه القرينة واردة في معرض الإنعام لا في مقام الذم . ووحد اللباس إما لأنه جنس وإما لأنه مصدر « لابس » وضع موضع الصفة . وموقع قوله { هنّ لباس لكم } استئناف لأنه كالبيان لسبب الإحلال ، فإن مثل هذه المخالطة والملابسة توجب قلة الصبر عنهن . ومعنى { علم الله } ظهر معلومه أو هو عالم ، ولم يذكر في الآية أن الخيانة فيماذا إلا أن الذي تقدم هو ذكر الجماع والذي تأخر هو مثله بدليل { فالآن باشروهن } فتعين أن يكون المراد به الخيانة في الجماع .

ومن المعلوم أن كل واحد منهم لم يختن فالخطاب لبعضهم ، وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه لأنه جلب إليها العقاب ونقص حظها من الثواب . وقيل : إن الآية لا تدل على وقوع الخيانة منهم ، وإنما المراد علم الله أنكم بحيث لو دام هذا التكليف تختانون أنفسكم فضعفكم وقلة صبركم ، فوسع الأمر عليكم حتى لا تقعوا في الخيانة . { فتاب عليكم } من الفاء الفصيحة أي فتبتم فقبل توبتكم . وعلى قول أبي مسلم لا إضمار . { فالآن باشروهن } تأكيد لقوله { أحل لكم } وفيه ضرب من البيان لأن حل الرفث في ليلة الصيام لا يوجب حله في جميع أجزائها حتى الصباح . والجمهور على أن المراد بالمباشرة ههنا الجماع ، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين فيه . ومنه ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « لا يباشر الرجل الرجل والمرأة المرأة » وإنما قلنا إنا لمراد بها الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، ولأن الرفث أريد به ذلك إلا أن إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه فصح ما نقل عن الأصم أن المراد بها الجماع وغيره ورجع النزاع لفظياً . وأما المباشرة في قوله { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فلا يعود النزاع فيها إلى اللفظ ، لأن المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه من الاستمتاعات . { وابتغوا ما كتب الله لكم } جعل أو قضى أو كتب في اللوح من الولد أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن للغرض الأصلي من النكاح وهو التناسل . قال صلى الله عليه وسلم « تناكحوا تكثروا » وقيل : هو نهي عن العزل فقد وردت الأخبار في كراهية ذلك . وعن الشافعي : لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ، ولا بأس أن يعزل عن الأمة . وعن علي كرم الله وجهه : أنه كان يكره العزل . وقيل : اطلبوا المحل الذي حلله الله لكم كقوله تعالى { فأتوهنّ من حيث أمركم الله } [ البقرة : 222 ] وقيل : وابتغوا هذه المباشرة التي كتب الله لكم بعد أن كانت محرمة عليكم ، وعن أبي مسلم : وابتغوا المباشرة التي كان الله كتبها لكم ، وإن كنتم تظنون أنها محرّمة عليكم . وقيل : يعني لا تباشروهن إلا في الأوقات والأحوال التي أذن الله لكم في مباشرتهن دون أوقات الحيض والنفاس والعدّة والردة . وقيل : أي لا تبتغوا المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة وهو الذي كتب في القرآن من قوله { إلا على أزواجهم أن ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 6 ] وعن معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء : اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها . واستبعده بعضهم وليس ببعيد ، فإن توزع الفكر بسبب الشهوة المشوّشة قد يمنع عن الإخلاص في العبودية ولا يتفرغ المكلف حينئذ لطلب ليلة القدر التي هي حاصل صوم رمضان فقال سبحانه { فالآن باشروهن } لتفرغوا لطلب الغاية من صيامكم والله أعلم بمراده ، عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وجعلت أنظر إليهما من الليل ولا يستبين لي ، فإذا تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت .

فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال : إنك لعريض القفا إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل . وكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عن بلاهة عديّ وقلة فطنته ، وفي الصحيحين أيضاً عن سهل بن سعد : نزلت ولم ينزل { من الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله عز وجل بعد { من الفجر } فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار .
واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق ، وأما تأخيره عن وقت الخطاب فجائز عند الأكثرين . ولما كان من مستعملات العرب إطلاق الخيط الأبيض على أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ، والخيط الأسود على ما يمتد معه من غبس الليل قال أبو دواد :
فلما أضاءت لنا سدفة ... ولاح من الصبح خيط أنارا
والسدفة الضياء المخلوط بالظلام ، اقتصر على الاستعارة أوّلاً ، ثم لما اشتبه الأمر على بعض من لا دراية له باللغة العربية نزل من الفجر بياناً للخيط الأبيض واستغنى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما يستتبع بيان الآخر . وخرج الكلام من الاستعارة إلى التشبيه البليغ كما أن قولك « رأيت أسداً » مجاز ، فإذا زدت « من فلانٍ » رجع تشبهاً . فالاستعارة وإن كانت أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة من حيث إنها استعارة كما بين في موضعه إلا أن رفع الاشتباه عن المكلفين أهم وأولى . فالفصاحة في هذا المقام ترك الاستعارة ، وليس هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة على الإطلاق ، لأن المحتاجين ههنا إلى البيان ساقطون عن درجة الاعتبار لأن فهم المعنى من اللفظ إنما يعتبر بالنسبة إلى العارف بقوانين العرب واستعمالاتهم لا بالإضافة إلى الأغبياء منهم . نعم التفهيم يعم البليد والذكي والله المستعان . ولا يسبقنّ إلى الوهم أن المشبه بالخيط الأبيض هو الصبح الكاذب المستطيل لأنه يناقض ما ورد في الخبر « لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير » وإنما المشبه هو الفجر الصادق ، وهو أيضاً يبدو دقيقاً ولكن يرتفع مستطيراً أي منتشراً في الأفق لا مستطيلاً . ويمكن أن يقال : الفصل المشترك بين ما انفجر من الضياء .

أي انشق وبين ما هو مظلم بعد يشبه خيطين اتصلا عرضاً . فالذي انتهى إليه الضياء خيط أبيض ، والذي ابتدأ منه الظلام خيط أسود . وقد سبق تقرير الصبح في تفسير قوله تعالى { واختلاف الليل والنهار } [ البقرة : 164 ] فليتذكر . قيل : ويجوز أن تكون « من » في قوله تعالى { من الفجر } للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوّله : ولا شك أن « حتى » لانتهاء الغاية فدلت الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح . فاستدل بهذا على جواز صوم من يصبح جنباً . وبقوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } على أن الصوم ينتهي عند غروب الشمس ، لأن ما بعد « إلى » لا يدخل فيما قبلها وخاصة إذا لم يكن من جنسه ، بل على حرمة الوصال . ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد غربت الشمس وأفطر الصائم » فيجب على المكلف أن يتناول في هذا الوقت شيئاً . وكيف لا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوصال فقيل : يا رسول الله إنك تواصل . فقال : « إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » . أي من طعام الجنة ، أو إني على ثقة بأني لو احتجت أطعمني من الجنة ، أو إني أعطيت قوة من طعم وشرب . والتحقيق أن استغراقه في مطالعة جلال الله يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فإذا تناول شيئاً قليلاً ولو قطرة من الماء فبعد ذلك كان بالخيار في الاستيفاء إلا أن يخاف التقصير في الصوم المستأنف أو في سائر العبادات فيلزم حينئذ أن يتناول بمقدار الحاجة ، وقد يتشبث الحنفي بالآية على جواز النية في نهار صوم رمضان لأن مدة الإمساك هو النهار فقط فيجب قصد الإمساك فيه فقط ، ومقتضى هذا الدليل صحة الفرض بنيته بعد الزوال إلا أنا نقول : الأقل ملحق بالأغلب ، فأبطلنا الصوم بنيته بعد الزوال وصححناه بنيته قبله . حجة الشافعي قوله صلى الله عليه وسلم « من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له » ويروى « من لم ينو » وإنما جوز في النفل أن ينوي قبل الزوال لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول : هل من غداء؟ فإن قالوا لا قال : إني صائم ، وأيضاً الحنفي : يجب إتمام الصوم النفل لقوله { ثم أتموا } والأمر للوجوب . وقال الشافعي : قد ورد هذا عقيب الفرض فيتخصص به وأعلم أنه سبحانه خصص بالذكر من المفطرات الرفث والأكل والشرب لأن النفس تميل إليها . وهاهنا مفطرات أخر استنبطت من الآية أو استفيدت من السنة فمنها الاستمناء لأن الإيلاج من غير إنزال مبطل . فالإنزال بنوع شهوة أولى ، وكذا الإنزال باللمس أو القبلة دون الفكر أو النظر بشهوة لأن هذا يشبه الاحتلام ، وعند مالك الإنزال بالنظر مفطر ، وعند أحمد إن كرر النظر حتى أنزل أفطر .

ومنها الاستقاء لقوله صلى الله عليه وسلم « من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه ومن استقاء فليقض » ومنها دخول الشيء جوفه من منفذ مفتوح سواء كان فيه قوة محيلة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء أولا ، فالحلق جوف وكذا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة لما روي عن ابن عباس أن الفطر مما دخل والوضوء مما خرج ، فالحقنة مبطلة للصوم وكذا السعوط إذا وصل إلى الدماغ . ولا بأس بالاكتحال ، وليست العين من الأجواف فإنه صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم . وعن مالك وأحمد إنه إذا وجد في الحلق طعماً أفطر . والتقطير في الأذن إذا وصل إلى الباطن كالسعوط وكذا في الإحليل وإن لم يصل عليه إلى المثانة . ولا بأس بالفصد والحجامة لكن يكره خيفة الضعف . احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم محرم في حجة الوداع . وقال أحمد : يفسد الصوم بالحجامة . ولو دهن رأسه أو بطنه فوصل إلى جوفه بتشرب المسام لم يضر كالاغتسال والانغماس عند الشافعي ، ولا بد أن يكون الواصل عن قصد منه فلو طارت ذبابة إلى حلقه أو وصل غبار الطريق أو غربلة الدقيق إلى جوفه لم يفطر . ولو فتح فاه عمداً لما في الحفظ من العسر . ولو ضبطت المرأة ووطئت أو وجيء بالسكين أو أوجر بغير اختياره فلا إفطار . وكذا لو كان مغمى عليه فأوجر معالجة ولو أكره حتى أكل بنفسه أفطر لأنه أتى بضد الصوم ، ولا أثر لدفع الضرر كما لو أكل أو شرب لدفع الجوع أو العطش . وعند أحمد لا يفطر . وابتلاع الريق الصرف الطاهر من الفم لا يفطر ، والنخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم لم تضر وإن حصلت فيه بانصبابها من الدماغ إلى الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم ، فإن قدر على مجه ولم يمج حتى جرى بنفسه بطل صومه لتقصيره وإلا فلا ، وإذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه أو استنشق فوصل الماء إلى دماغه لم يفطر على الأصح إن لم يبالغ وبه قال أحمد . وعند أبي حنيفة ومالك يفطر وإن بالغ أفطر وفاقاً . قال صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة : « بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً » ولو بقي طعام في خلل أسنانه فابتلعه عمداً أفطر خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا كان يسيراً ، وربما قدره بالحمصة . وإن جرى به الريق من غير قصد منه لم يفطر على الأصح . ولا بد أيضاً في وصول العين من ذكر الصوم ، فإذا أكل ناسياً ، فإن قل لم يفطر لقوله صلى الله عليه وسلم

« من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه » وخالف مالك . وإن كثر أفطر . ولو جامع ناسياً للصوم فالأصح أنه لا يبطل كما في الأكل . ولو أكل على ظن أن الصبح لم يطلع بعد ، أو أن الشمس قد غربت وكان غالطاً لم يجزئه صومه على الأشهر لأنه تحقق خلاف ما ظنه واليقين مقدم على الظن . ثم إن كان الصوم واجباً قضى ، وإن كان تطوعاً فلا قضاء . والأحوط في آخر النهار أن لا يأكل إلا بعد تيقن غروب الشمس لأن الأصل بقاء النهار ولو اجتهد وغلب على ظنه دخول الليل بورد أو غيره ، فالأصح جواز الأكل ، وقد أفطر الناس في زمان عمر ثم انكشف السحاب وظهرت الشمس . وأما في أول النهار فيجوز الأكل بالظن والاجتهاد إلى طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل ، فإن قيل : إن أول الفجر كيف يدرك ويحس ومتى عرف المترصد الطلوع كان الطلوع الحقيقي مقدماً عليه؟ فيجاب إما بأن المسألة موضوعة على التقدير كدأب الفقهاء في أمثالها وإما بأنا نتعبد بما يطلع عليه . ولا معنى للصبح إلا بظهور الضوء للناظر وما قبله لا حكم له كالزوال عند زيادة الظل ، وإذا كان الشخص عارفاً بالأوقات ومنازل القمر ، وكان بحيث لا حائل بينه وبين مطلع الفجر وترصد فمتى أدرك فهو أول الصبح المعتبر ، وحينئذ يحرم المفطرات وعن الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والوقاع إلى طلوع الشمس قياساً لأول النهار على آخره . وجعل الخيط الأبيض وقت الطلوع والخيط الأسود ما اتصل به من آخر الليل . ومن الناس من قال : لا يجوز الإفطار إلا عند غروب الحمرة ، كما أنه لا يجوز الأكل إلا إلى طلوع الفجر . وهذه المذاهب قد انقرضت ، والفقهاء أجمعوا على بطلانها . يحكى عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له الأعمش : إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك فكيف إذا زرتني؟ فسكت عنه أبو حنيفة ، فلما خرج قيل له : لم سكت عنه؟ قال : ماذا أقول في رجل ما صام ولا صلى في دهره عنى أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل طلوع الشمس فلا صوم له ، وكان لا يغتسل من الإكسال فلا صلاة له . واعلم أن في الآية ترتيباً عجيباً ونسقاً أنيقاً وذلك أن الرفث لما كان من أشنع الأمور التي يجب الإمساك عنها في رمضان حتى قال بعض الناس إنه كان حراماً في رمضان ليلاً ونهاراً وفيه قد وقعت الخيانة كما مر في الإخبار . قدم إباحته أولاً ثم بين السبب في إباحته ، ثم وبخ المختانون في شأنه وعقب التوبيخ بالعفو وقبول التوبة ، ثم أعيد ذكر إباحته ليترتب عليه الغرض الأصلي من الرفث وهو طلب النسل ، وليعطف عليه إباحة الأكل والشرب جميع ذلك إلى آخر جزء من أجزاء الليل ، ثم لما بين مدة الإفطار وما أبيح فيها بين مدة الصوم الذي هو المقصود الأصلي تلك المدة هي ما بقي من مدة الإفطار إلى تمام أربع وعشرين ساعة هي مجموع اليوم بليلته ، أعني من أول الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، ثم لما كان زمان الاعتكاف مستثنى من ذلك لأنه فهم من الآية أن الإمساك عن الرفث كان مختصاً بنهار رمضان لا بليلته ولا بسائر أيام السنة ولياليها عقب إباحة الرفث فيما سوى نهار رمضان بخطره في حال الاعتكاف فقيل { ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد } قال الشافعي : الاعتكاف حبس المرء نفسه على شيء براً كان أو إثماً .

قال تعالى { يعكفون على أصنام لهم } [ الأعراف : 138 ] والاعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله تعالى تقربا إليه . وهو من الشرائع القديمة . قال تعالى { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين } [ البقرة : 125 ] وللأئمة خلاف في المراد من المباشرة ههنا . فعن الشافعي : في أصح قوليه ووافقه أبو حنيفة وأحمد : إنها الجماع والمقدمات المفضية إلى الإنزال . لأن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين . فالمنع من هذه الحقيقة ما دام في المعتكف وحين يخرج لحاجة ولم تتم مدة الاعتكاف منع عن القبلة والعناق وكل ما فيه تلاصق البشرتين . خالفنا الدليل فيما إذا لم ينزل من هذه الأمور لتبين عدم الشهوة فيها ، وقد علم أن اللمس بغير شهوة جائزة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه من عائشة لترجل رأسه وهو صلى الله عليه وسلم معتكف ، فيبقى ما فيه الشهوة على أصل المنع . احتج من قال إنها لا تبطل الاعتكاف بأن هذه الأمور لا تبطل الصوم والحج فلا تفسد الاعتكاف ، لأنه ليس أعلى درجة منهما . وأجيب بأن النص مقدم على القياس . واتفقوا على أن شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد لأنه مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بنى لإقامة الطاعات . ثم اختلفوا فعن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى { طهر بيتي للطائفين والعاكفين } [ البقرة : 125 ] أي لجميع العاكفين . وعن عطاء فيه وفي مسجد المدينة لقوله صلى الله عليه وسلم « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام » وعن حذيفة فيهما وفي مسجد بيت المقدس لقوله صلى الله عليه وسلم « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا » الزهري : لا يصح إلا في الجامع . أبو حنيفة : لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب . الشافعي : يجوز في جميع المساجد لإطلاق قوله { في المساجد } إلا أن الجامع أولى حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة . ولا خلاف أن الاعتكاف مع الصوم أفضل وهل يجوز بغير صوم؟ الشافعي : نعم لأنه بغير الصوم عاكف وأنه تعالى منع العاكف من المباشرة ولو كان اعتكافه باطلاً لما كان ممنوعاً .

وأيضاً لو كان الاعتكاف موجباً للصوم لم يصح الاعتكاف في رمضان لأن ذمته مشغولة بالصوم الواجب لشهود الشهر فلا يمكنه الاشتغال بالصوم الذي يوجبه الاعتكاف ، لكنهم أجمعوا على صحة الاعتكاف في رمضان . وأيضاً لو تلازما لخرج المعتكف عن اعتكافه بالليل كما يخرج عن الصوم لكنه لا يخرج . وأيضاً « روي أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، فقال صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك » . ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليلة . أبو حنيفة : لا يجوز لأنه يجب الصيام في الاعتكاف بالنذر فيجب بغير نذر أيضاً كعكسه في الصلاة حال الاعتكاف ، وهو أن الصلاة لما لم تجب في النذر بالإجماع لم تجب في غير النذر ، أيضاً وفرق بأن الصوم والاعتكاف متقاربان ، فكل منهما كف وإمساك ، والصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف فلا يجعل أحدهما وصفاً للآخر ، ولهذا قلنا : إنه لو نذر أن يعتكف صائماً أو يصوم معتكفاً لزمه كلاهما ، والجمع بينهما . ولو نذر أن يعتكف مصلياً أو يصلي معتكفاً لزمه كلاهما دون الجمع بينهما . ويتفرع على المذهبين أنه يجوز أن ينذر اعتكاف ساعة عند الشافعي ، وأما عند أبي حنيفة فلا يجوز أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس . قال الشافعي : وأحب أن يعتكف يوماً وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف . { تلك حدود الله } إشارة إلى جميع ما تقدم من أول آية الصيام إلى ههنا لا إلى عدم المباشرة في الاعتكاف وحده ، لأنه حد واحد أللهم إلا أن يراد أمثال تلك الجملة . وحد الشيء مقطعه ومنتهاه ، وحد الدار ما يمنع غيرها أن يدخل فيها ، والحد الكلام الجامع لمانع فحدود الله ما منع من مخالفتها بعد أن قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة . وإنما قال ههنا { فلا تقربوها } وفي موضع آخر { فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] لأن العامل بشرائع الله أوامر ونواهي منصرف في حيز الحق ، فإذا تعداه وقع في حيز الباطل . فالنهي عن التعدي هو المقصود إلا أن الأحوط أن لا يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل كيلا يذهل فيقع في الباطل . عن النعمان بن بشير : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا ولكل ملك حمى وحمى الله محارمه » وقيل : لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله

{ ولا تقربوا مال اليتيم } [ الإسراء : 34 ] وقيل : الأحكام المذكورة بعضها أمر وأكثرها نهي ، فغلب جانب التحريم أي لا تقربوا تلك الأشياء التي منعتم عنها . وأما في الأوامر فقال { فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] أي اثبتوا عليها ولا تتخطوها ، { كذلك } أي كما بين ما أمركم به وما نهاكم عنه في هذا المقام { يبين } سائر أدلته على دينه وشرعه إرادة أن يتصف الناس بالتقوى جعلنا الله تعالى من المتقين بفضله ورحمته .
التأويل : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » الضمير عائد إلى الحق . على كل عضو في الظاهر صوم ، وعلى كل صفة في الباطن صوم . فصوم اللسان عن الكذب والنميمة ، وصوم العين عن محل الريبة ، وصوم السمع عن استماع الملاهي ، وعلى هذا فقس البواقي . وصوم النفس عن التمني والشهوات ، وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها ، وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها ، وصوم السر عن شهود غير الله { كما كتب على الذين من قبلكم } أي على بسائطكم وأجزائكم فإنها كانت صائمة عن المشارب كلها ، فلما تعلق الروح بالقلب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية { لعلكم تتقون } مشارب المركبات وتطهرون عن دنس الحظوظ الحيوانيات والروحانيات ، فحين يأفل كوكب استدعاء الحظوظ الفانية تطلع شمس حقوق الملاقاة الروحانية الباقية كما قال صلى الله عليه وسلم « للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه » { فمن كان منكم مريضاً } أي وقع له فترة في السلوك لمرض غلبات صفات النفس وكسل الطبيعة { أو على سفر } حصل له وقفة للعجز عن القيام بأعباء أحكام الحقيقة ، فليمهل حتى تدركه العناية ويعالج سقمه بمعاجين الإلطاف وأشربة الإعطاف فيتداركه في أيام سلامة القلب . { وعلى الذين يطيقونه } على من كان له قوة في صدق الطلب { طعام مسكين } فالطعام كل مشرب غير مشرب ألطاف الحق ، والمسكين من يكون مشربه غير ما عند الله ويقنع به ، فيدفع تلك المشارب إلى أهاليها ويخرج عما سوى الله ، ويواصل الصوم ولا يفطر إلا على طعام مواهب الحق وشراب مشاربه وهو معنى « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { فمن تطوع خيراً } فمن زاد في الفداء أي كلما فطم من مشرب وسقى من مشرب آخر . وروي فدى ذلك المشرب أيضاً أي تركه إلى أن يصير مشربه ترك المشارب كلها وداوم الصوم كقوله تعالى { وأن تصوموا خير لكم } فينزل فيه حقائق القرآن وهذا معنى قوله { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } فيكون على مأدبة الله لا بمعنى أنه يأكل من المأدبة فإنه دائم الصوم ، ولكن المأدبة تأكله حتى تفنيه عن وجوده وتبقيه بشهوده فيكون خلقه القرآن وحينئذ يفرق بين الوجود الحقيقي والوجود المجازي كما قال { وبينات من الهدى والفرقان } فيقال يا محمد له أصبت فالزم وهو معنى قوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } قال أبو يزيد : ناداني ربي وقال : أنا بدك اللازم فالزم بدك .

رمضان يرمض ذنوب قوم ، ورمضان الحقيقي يحرق وجود قوم . رمضان اسم من أسماء الله أي من حضر مع الله فليمسك عن غير الله { يريد الله بكم اليسر } وهو مقام الوصول { ولا يريد بكم العسر } وهو ما في الطريق من الرياضة والمجاهدة كالطبيب يسقي دواء مراً ، فمراده حصول الصحة لا إذاقة مرارة الدواء . وأيضاً « كل ميسر لما خلق له » لو لم يرد بنا اليسر لم يجعلنا طالبين لليسر ( شعر ) :
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من فيض جودك ما علمتني الطلبا
{ ولتكملوا } عدة أنواع الغاية بجذبات { يريد الله بكم اليسر } { ولتكبروا الله } ولتعظموه { على ما هداكم } إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال { ولعلكم تشكرون } نعمة الوصال بتنزيه ذي الجلال عن إدراك عقول أهل الكمال وإحاطة الوهم والخيال . قوله سبحانه { أحل لكم ليلة الصيام } اعلم أن في الإنسان تلوناً في الأحوال . فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في ضياء نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية وهو حالة السكر ، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردوداً إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذه حالة الصحو ، فخصه الله تعالى بنهار كشف الأستار وطلوع شموس الأسرار ليصوموا فيه عما سواه ، وبليلة إسبال أستار الرحمة ليسكنوا فيها ويستريحوا بها كما منّ الله تعالى بقوله { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً } [ القصص : 72 ] الآيتين . ومعنى الرفث إلى النساء التمتع بالحظوظ الدنيوية التي تتصرف النفس فيها تصرف الرجال في النساء { هن لباس لكم } أي الصفات والحظوظ الإنسانية ستر لكم يحميكم عن حرارة شموس الجلال لكيلا تحرقكم سطوات التجلي { وأنتم لباس لهن } تسترون معايب الدنيا بالأموال الصالحة واستعمال الأموال على قوانين الشرع والعقل « نعم المال الصالح للرجل الصالح » { فالآن باشروهن } بقدر الحاجة الضرورية { وابتغوا } بقوة هذه المباشرة { ما كتب الله لكم } من المقامات العلية { وكلوا واشربوا } في ليالي الصحو { حتى يتبين لكم } آثار أنوار المحو فالأحوال تنقسم إلى بسط وقبض ، وزيادة ونقص ، وجذب وحجب ، وجمع وفرق ، وأخذ ورد ، وكشف وستر ، وسكر وصحو ، وإثبات ومحو ، وتمكين وتكوين ، كما قيل :
كأن شيئاً لم يزل إذا أتى ... كان شيئاً لم يكن إذا مضى
{ في المساجد } أي في مقامات القربة والأنس . وفيه إشارة إلى أنه يجب أن يكون الاشتغال بالضروريات من حيث الصورة وتكون الأسرار والأرواح مع الحق ، وهذا مقام أهل التمكين { فلا تقربوها } بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف وبالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف حسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير .

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

القراآت : { البيوت } بضم الباء : أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والبرجمي وهشام غير الحلواني . الباقون : بكسر الباء .
الوقوف : { تعلموا } 5 { عن الأهلة } ط لابتداء حكم آخر مع النفي { من اتقى } ج و { الحج } ط ج لعطف الجملتين المختلفتين { أبوابها } ص لعطف المتفقتين { تفلحون } 5 .
التفسير : لما كان الصوم منتهياً إلى الإفطار والإفطار يتضمن الأكل ، ناسب أن يردف حكم الصيام بحكم ما يصلح للأكل وما لا يصلح له . ولما كان الصوم والفطر منوطين برؤية الهلال عقباً بذكر السؤال عن حال الأهلة . قال الإمام الغزالي في الإحياء : المال يحرم إما لمعنى في عينه أو لخلل في جهة اكتسابه ، والأول إما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان ، أما المعادن والنبات فلا يحرم شيء منهما إلا ما يزيل الحياة وهي السموم ، أو الصحة وهي الأدوية في غير وقتها ، أو العقل كالخمر والبنج وسائر المسكرات . وأما حدثنا الحيوان فينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل . وما يحل فإنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً ، وإذا ذبح فلا يحل جميع أجزائه بل يحرم منه الدم والفرث وكل ذلك مذكور في كتب الفقه . والثاني وهو ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه نقول فيه أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك أو بغير اختياره كالإرث . والذي باختياره إما أن لا يكون مأخوذاً من مالك كالمعادن ، وإما أن يكون مأخوذاً من مالك وذلك إما أن يؤخذ قهراً أو بالتراضي . والمأخوذ قهراً إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم ، أولاً لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم . والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية ، فهذه أقسام ستة :
الأول : ما لا يؤخذ من مالك كنيل المعادن وإحياء الموات والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش ، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين .
الثاني : المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس فقسموه بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهده .
الثالث : المأخوذ قهراً بالاستحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق واقتصر على المستحق .
الرابع : ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط لفظي الإيجاب والقبول مع ما يعتد الشرع به من اجتناب الشروط المفسدة .
الخامس : ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره .

السادس : ما يحصل بغير اختياره كالميراث وهو حلال إذا كان المورث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإفراز الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة . فهذه مجامع مداخل الحلال وما سوى ذلك فحرام لا يجوز أكله . وكذا إن كان من هذه الجهات وصرفه إلى غير المصارف الشرعية كالخمر والزمر والزنا واللواط والميسر والسرف المحرم ، وكل هذه الوجوه داخلة تحت قوله سبحانه { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى ولم يشرعه { بينكم } أي في المعاملات الجارية بينكم والتصرفات الواقعة بينكم . وليس المراد منه الأكل خاصة بل غير الأكل من التصرف كالأكل في هذا الباب إلا أنه خص الأكل بالذكر لأنه المقصود الأعظم من المال . وقد يقال لمن أنفق ماله إنه أكله . والإدلاء أصله من أدليت دلوي أرسلتها في البئر للاستقاء ، فإذا استخرجتها قلت دلوتها . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء . ومنه يقال للمحتج أدلى بحجته كأنه يرسلها ليصير إلى مراده . وفلان يدلي إلى الميت بقرابة ورحم إذا كان منتسباً إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة طلب المستقي الماء بالدلو . قوله { وتدلوا } داخل في حكم النهي أي ولا تدلوا بها إلى الحكام أي لا ترشوها إليهم ، أو لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالإثم بشهادة الزور أو باليمين الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم . والفرق بين الوجهين أن الحكام على الأول حكام السوء الذين يقبلون الرشا التي هي رشا الحاجة ، فبها يصير المقصود البعيد قريباً ، وإذا أخذها حاكم السوء مضى في الحكم من غير ثبت كمضي الدلو في الإرسال . وعلى الثاني قد يكون الحاكم عادلاً ولكن قد يشتبه عليه الحق كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخصمين : « إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه . فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً فإنما أقضي له قطعة من نار » فبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي . فقال : اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه . « فتوخيا » أي اقصدا الحق فميا تصنعانه من القسمة واقترعا وليأخذ كل منكما ما تخرجه القسمة بالقرعة ثم تحاللا : { وأنتم تعلمون } أنكم على الباطل وارتكاب المعاصي مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق .
روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ألا يكون على حالة واحدة؟ { يسئلونك عن الأهلة } وقيل : إن السائلين هم اليهود .

ثم إن الله تعالى لم يجبهم بأنه إنما يرى كذلك لأنه يستفيد النور من الشمس وأنه مظلم في ذاته ويفصل أبداً بين المضيء والمظلم منه دائرة لاستداره المنير والمستنير ، ويفصل بين المرئي وغير المرئي من القمر أيضاً دائرة . والدائرتان تتطابقان في الاجتماع بحيث لا يظهر شيء من المستنير وتكون القطعة المظلمة مما يلي البصر وهذه الحالة هي المحاق . وكذا في الاستقبال لكن القطعة المضيئة هي التي تلي البصر والقمر في هذه الحالة يسمى بدراً . وفي سائر الأوضاع يتقاطعان . أما في التربيعين فعلى زوايا قوائم تقريباً ، وفي غير التربيعين على زوايا حادة ومنفرجة ، وعلى التقديرين تنقسم كرة القمر بهما إلى أربع قطع : اثنتان مضيئتان وهما اللتان تليان الشمس ، والباقيتان مظلمتان . ويقع في مخروط البصر إحدى الأوليين وإحدى الأخريين ، لكنه يحس بالمضيئة دون المظلمة . والقطع الأربع في التربيعين متساويات تقريباً ، وفي غيرهما تختلف المتجاورتان وتتساوى المتقابلتان . والقطعة المرئية من المتجاورتين الواقعتين في مخروط البصر في الربعين الأول والأخير من الشهر أصغرهما ، لأن زاوية تلك القطعة أصغر اللتين يليان الإبصار أعني أنها حادة وتسمى القطعة المرئية الصغيرة أول ما يبدو إلى ليلتين هلالاً ويجمع على أهلة ، لأنه يتعدد اعتباراً . وفي الربعين الباقيين من الشهر القطعة المضيئة المرئية أعظم المتجاورتين الموصوفتين لأن زاويتها أعظم المذكورتين أعني أنها منفرجة ، وإنما لم يجابوا بذلك لأن المكلف لا يهمه معرفة هذه التصورات في باب العمل ، وإنما الذي يعود عليه من فوائده وحكمه في باب التكليف معرفة المواقيت وهي المعالم التي يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهن ومدد حملهن ومعالم للحج يعرف بها وقته . والميقات من الوقت كالميزان من الوزن ، ولعمري إنه لو منع مانع من أن ضبط هذه الأمور لا يتسهل ولا يتسنى إلا بوقوع الاختلاف في تشكلات القمر حيث سمى عوده من كل تشكل إلى مثله ولا سيما من الهلالية إلى مثلها شهراً وبذلك قدر السنون ، وضبطت الأوقات والفصول فلن يمكنه جحود فائدته على تقدير وجود ، ولو لم يكن في الإظهار رسمة الحدوث والإمكان والزوال والنقصان في الفلكيات حتى لا يظن بها وجوب الوجود ، أو الاشتراك في القدم مع مفيض الخير والجود ، أو امتناع الخرق والالتئام كما ذهب إلى كل من ذلك طائفة من اللئام لكفى به تنبيهاً وعناية وإرشاداً وهداية إلى افتقار الفلكيات إلى فاعل مختار ومدبر قهار جاعل الظلم والأنوار ، ومصير الأهلة والأقمار ، وفي إفراد الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت عبادات أخر كالصوم والزكاة إشارة إلى أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى له ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر إلى شهر آخر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32