كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

ومنهم من قال : إن هذه المدة على سبيل التقدير لا على سبيل التحقيق . والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء والحكومة أعقل الناس وأدهاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة . ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا . وأيضاً الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة . قاله وهب وجماعة من أهل التفسير . وقال أبو مسلم : إن هذا اليوم الدنيا كلها من أول ما خلق العالم إلى القيامة وفيه يقع عروج الملائكة . ثم لا يلزم من هذا أن يصير وقت القيامة معلوماً لأنا لا ندري كم مضى وكم بقى . ومر في « ألم السجدة » . وقال جمع من المفسرين قوله { في يوم } من صلة { واقع } أي يقع ذلك العذاب في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم وهو يوم القيامة . وثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار ، ويحتمل أن العذاب الذي سأله السائل يكون مقدراً بهذه المدة ثم ينقله الله تعالى إلى نوع آخر من العذاب . يروى عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية وعن قوله { في يوم كان مقداره ألف سنة } فقال : أيام سماها الله هو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها ما لا علم لي به . وقال وهب في الجواب : من أسفل العالم إلى أعلى شرف العرش مسيرة خمسين ألف سنة ، ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة ، لأن عرض كل سماء من السموات السبع مسيرة خمسمائة سنة ، وبين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى ، فالمراد مقدار ألف سنة لو صعدوا إلى سماء الدنيا ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى العرش . وفي قوله { فاصبر صبراً جميلاً } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له : إن العذاب قرب وقوعه فاصبر فقد شارفت الانتقام قال الكلبي : هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر الرسول بالقتال إنهم يرون العذاب أو يوم القيامة بعيد الأمد بعيداً عن الإمكان { ونراه قريب } منه ثم قال { يوم } أي اذكر يوم { تكون السماء كالمهل } كدرديّ الزيت . عن ابن مسعود : كالفضة المذابة . { وتكون الجبال كالعهن } أي الصوف المصبوغ ألواناً لقوله { ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود } [ فاطر : 27 ] وجوز جار الله أن ينتصب { يوم } ب { قريباً } أو بإضمار يقع لدلالة واقع عليه ، أو يراد به يوم تكون السماء كالمهل كان كيت وكيت ، أو هو بدل من يوم القيامة فيمن علقه { بواقع } قوله { ولا يسأل حميم } من قرأ بفتح الياء فظاهر أي لا يسأله بكيف حالك لاشتغال كل بنفسه ، ومن قرأ بالضم فالمعنى لا يسأل حميم عن حميم ليعرف شأنه من جهته كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه فيكون على حذف الجار .

وقال الفراء : لا يقال الحميم أين حميمك . ثم كان لسائل أن يقول : لعله لا يبصره فلهذا لا يسأل فقال { يبصرونهم } ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تسائلهم ويجوز أن يكون صفة أي حميماً مبصرين معرفين إياهم وإنما جمع ضمير الحميم لأنه في معنى الجمع حيث رفع في سياق النفي . وقيل : إن الملة تتعلق بما بعده والمعنى إن المجرمين يبصرون المؤمنين حال ما يود أحدهم أن يفدي نفسه بكل ما يمكنه فإن الإنسان إذا كان في البلاء ثم رأى عدوه في الرخاء كان ذلك أشد عليه { وفصيلته } عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم { تؤويه } تضمه إليها للانتماء في النسب أو في إعداد النوائب . ومعنى { ثم } استبعاد الإنجاء عن الافتداء ثم أكد الإستبعاد بقوله { كلا } وهو ردع للمجرم عن كونه بحيث يود افتداءه وتنبيه على أنه لا ينفعه ذلك . والضمير في { أنها } للقصة كما ذكرنا أو للنار وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العذاب عليها ، ويجوز أن يعود إلى العذاب والتأنيث باعتبار الخبر لأن { لظى } علم لنار جهنم . واللظى اللهب الخالص . والشوى الأطراف وهي اليدان والرجلان ، والشوى أيضاً جلد الرأس ، الواحدة شواة ، قال سعيد بن جبير : العصب والعقب ولحم الساقين اليدين تنزعها نزعاً فتهلكها ثم يعيدها الله سبحانه . وفي قوله { تدعو } وجوه منها : أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك فإن لم تجبك جؤاراً أجابتك اعتباراً . فههنا لما كان مرجع كل من الكفرة إلى دركة من دركات جنهم كأنها تدعوهم إلى نفسها . ومنها أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحاً فصيحاً : لي يا كافة الكفرة ثم تلتقطهم التقاط الحب . ومنها أن يكون على حذف المضاف أي تدعو زبانيتها . ومنها أن الدعاء بمعنى الإهلاك كقول العرب « دعاه الله » أي أهلكه { من أدبر } أي عن الطاعة { وتولى } عن الإيمان { وجمع } المال حرصاً عليه { فأوعى } جعله في وعاء وكنزه فلم يؤد حقوق الله فيه أصلاً وهذه مجامع آفات النفس . ثم بين أن الإنسان بالطبع مائل إلى الأخلاق الذميمة فقال { إن الإنسان } وهو الكافر عند بعضهم والأظهر العموم بدليل الاستثناء عقيبه { خلق هلوعاً } والهلع قلة الصبر وشدة الحرص كما فسره الله تعالى بقوله { إذا مسه الشر } أي الفقر والمرض ونحوه من المضار { كان جزوعاً وإذا مسه الخير } أضداد ذلك { كان منوعاً } عن النبي صلى الله عليه وسلم « شر ما أعطي ابن آدم شح هالع وجبن خالع » قال أهل السنة : الحالة النفسانية التي هي مصدر الأفعال الاختيارية كالجزع والمنع لا شك أنها بخلق الله تعالى .

بل الجزع والمنع أيضاً من خلقه ولا اعتراض لأحد عليه خلق بعض الناس هلوعاً وخلق المستثنين منهم غير هلوع بل مشغولي القلب بأحوال الآخرة ، وكل ذلك تصرف منه في ملكه ، وقالت المعتزلة : ليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف لأنه تعالى ذكره في معرض الذم والله تعالى لا يذم فعله . ولأنه تعالى استثنى منهم جماعة جاهدوا أنفسهم وظلفوها عن الشهوات . ولو كانت ضرورية لم يقدروا على تركها . والجواب أن الذين خلقهم كلذلك لم يقدروا على الترك والذين تركوها هم الذين خلقوا على هذا الوصف وهم أصناف ثمانية : الأول الذين يداومون على الصلوات والمراد منها أداؤها في أوقاتها ، وأما المحافظة عليها فترجع إلى الاهتمام بشأنها وذلك يحصل برعاية أمور سابقة على الصلاة كالوضوء وستر العورة وطلب القبلة وغيرها ، حتى إذا جاء وقت الصلاة لم يكن يتعلق القلب بشرائطها وأمور مقارنة للصلاة كالخشوع والاحتراز عن الرياء والإتيان بالنوافل والمكملات ، وأمور لاحقة بالصلاة كالاحتراز عن اللغو وما يضاد الطاعة لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فارتكابه المعصية بعد الصلاة دليل على أن تلك الصلاة لم تقع في حيز القبول . الثاني { والذين في أموالهم حق } قال ابن عباس والحسن وابن سيرين : هو الزكاة المفروضة . قلت : الدليل عليه وصفه بأنه معلوم واقترانه بإدامة الصلاة ، وقال مجاهد وعطاء والنخعي : هو ما سوى الزكاة وإنه على طريق الندب والاستحباب . قلت : هذا التفسير بما في « الذاريات » أشبه لأنه لم يصف الحق هناك بأنه معلوم ولأنه مدح هناك قوماً بالتزام ما لا يلزمهم كقلة الهجوع والإستغفار بالأسحار . الثالث { والذين يصدقون بيوم الدين } أي يؤمنون بالغيب والجزاء . الرابع { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } خائفون والمؤمن خائف من التقصير في الطاعة وبعض الفسقة لا يخافون من إرتكاب أنواع الظلم وأصناف المعصية . ثم أكد ذلك الخوف بقوله { إن عذاب ربهم غير مأمون } لأن الأمور بخواتيمها والخاتمة غير مقطوع بها . الخامس { والذين هم لفروجهم حافظون } إلى قوله { العادون } وقد مر في « المؤمنين » . والسادس { والذين هم لأماناتم وعهدهم راعون } وقد مر أيضاً . السابع { والذين هم بشهاداتهم قائمون } من أفرد فلانها مصدر ، ومن جمع فللنظر إلى اختلاف الشهادات وكثرة أنواعها . وأكثر المفسرين قالوا : هي الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق ولا يكتمونها ، وهذه من جملة الأمانات خصها بالذكر تنبيهاً على فضلها لأن في إقامتها إحياء للحقوق وفي تركها تضييع لها . وروى عطاء عن ابن عباس أنها الشهادة بالله أنه واحد لا شريك له . الثامن { والذين هم على صلاتهم يحافظون } وقد ذكرناه . ثم عين مكان هؤلاء بقوله تعالى { أولئك في جنات مكرمون } قال المفسرون : كان المشركون يحتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقاً يستهزؤن به وبالمؤمنين ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت .

{ فما للذين كفروا قبلك } أي نحوك وفي مقابلتك { مهطعين } مسرعين مادين أعناقهم إليك { عزين } فرقاًً شتى جمع عزة محذوفة العجز وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فهم مفترقون . وجمع بالواو والنون عوضاً عن المحذوف كما مر في { عضين } قوله { كلا } ردع لهم عن الطمع الفاسد وذلك من وجهين : أحدهما أنهم ينكرون البعث فمن أين لهم هذا الطمع . والثاني أنهم لم يعدوا لها زاداً من الإيمان والعمل الصالح . وفي قوله { إنا خلقناهم مما يعلمون } رد عليهم من الوجهين فإن من علم أن أوله نطفة لم ينكر البعث ، أو من علم أن أوله نطفة مذرة كسائر بني آدم لم يدع التقدم والشرف بلا توسل من الإيمان والعمل الصالح . ثم بين كمال قدرته على الإيجاد والإعدام مؤكداً بالأقسام وأنه لا يفوته شيء من الممكنات . ومعنى { المشارق والمغارب } قد تقدم في أول « الصافات » و « الرحمن » وإن للشمس في كل يوم من نصف السنة مغرباً ومشرقاً . وقيل : مشرق كل كوكب ومغربه . وقيل : المراد أنواع الهدايات والخذلانات . واختلف فيما وصف الله نفسه بالقدرة لعيه هل خرج إلى الفعل أم لا؟ قال بعضهم : بدل الله بهم الانصار والمهاجرين . وقال آخرون : بدل الله كفرهم بالإيمان . وقيل : التبديل بمعنى الإهلاك الكلي لهم وإيجاد آخرين مكانهم ولكنه هددهم بذلك لكي يؤمنوا ، ثم زاد في التهديد بأن يخلوا وشأنهم إلى أوان لقاء الجزاء والأجداث القبور كما في « يس » . ثم شبه إسراعهم إلى الداعي مستبقين بإسراعهم إلى أنصابهم وهي كل ما ينصب فيبعد من دون الله وقد مر في قوله { وما ذبح على النصب } [ المائدة : 3 ] ومعنى { يوفضون } يسرعون . { وترهقهم ذلة } تغشاهم والباقي ظاهر والله أعلم .

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

القراآت { دعائي إلا } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو { أني أعلنت } بالفتح . أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير { وولده } بالضم والسكون : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بفتحتين { ودا } بالضم : أبو جعفر ونافع الآخرون : بالفتح { خطاياهم } بالتكسير : أبو عمرو { بيتي } بالفتح : حفض وهشام .
الوقوف : { أليم } ه { مبين } ه { وأطيعون } ه { مسمى } ط { لا يؤخر } م { تعلمون } ه { ونهاراً } ه { فراراً } ه { إستكباراً } ه ج لأن « ثم » لترتيب الأخبار مع اتحاد القائل { جهاراً } ه لا { أسراراً } ه لا لعطف مقصود الكلام { غفاراً } ه لا لجواب الأمر { مدراراً } ه { أنهاراً } ه ط لابتداء الإستفهام { وقاراً } ه ج لأن ما بعده يحتمل الحال والإستئناف { أطواراً } ه { طباقاً } ه لا { سراجاً } ه لا { نباتاً } ه { إخراجاً } ه { بساطاً } ه { فجاجاً } ه { خساراً } ه ج للآية مع العطف واتحاد الكلام { كباراً } ه لذلك { ونسراً } ه ك لأن ما بعده ليس بمعطوف ولكنه حال من فاعل { قالوا } وذكر السجا وندي أنه حال من مفعول { لا تذرن } وفيه نظر { كثيراً } ه ز لأن قوله { ولا تزد } لا يصح عطفه ظاهراً ولكنه متصل بما قبله بطريق الحكاية أي قال نوح رب إنهم عصوني وقال لا تزد { ضلالاً } ه { أنصاراً } ه { دياراً } ه { كفاراً } ه { تباراً } ه .
التفسير : لما حذر الناس أهوال يوم القيامة ذكرهم قصة نوح وما جرى على قومه من الإغراق قبل الأطراف حين عصوا رسولهم و « أن » في { أن أنذر } و { أن اعبدوا } مفسرة لما في ألإرسال والإنذار من معنى القول . أو ناصبة والجار محذوف أي أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإندار . ثم حكى أنه امتثل الأمر فأمر قومه بعبادة الله قبل الأطراف ويتناول جميع الواجبات والمندوبات { واتقواه } ويشتمل على الزجر عن جميع المحظورات وبطاعة نفسه تنبيهاً على أن طاعة الله هي طاعة نبيه ، والإلهيات لا تكمل معرفتها إلا بمعرفة النبوات . ثم وعدهم على العبادة والتقوى والطاعة شيئين : أحدهما دفع مضار الآخرة وهو غفران الذنوب ، والثاني وصول منافع الدنيا وهو بتأخير الأجل إلى أقصى الإمكان . وقد مر في سورة إبراهيم إستدلال من جوز زيادة « من » في الإثبات بنظير هذه الآية . وما أجيب عنه . والذي نزيده ههنا ما قيل : إنه لم لا يجوز أن يراد يغفر لكم كل ما كان من ذنوبكم فتكون فائدته عدم المؤاخذة بمجموع الذنوب لا بكل فرد من أفراده لصدق قول القائل لا أطالبك بمجموع ذنوبك لكني أطالبك بهذا الذنب الواحد . وفي قوله { يغفر لكم } معنى لا يؤاخذكم قاله الإمام فخر الدين الرازي وهو شبه مغالطة لأنه يوجب استعمال مقتضى النفي مكان مقتصى الإثبات وبالعكس بتأويل تقدير الإثبات وبالعكس مثلاً اتفقوا على وجوب النصب في قولك « جاءني القوم إلا زيداً » وعلى قوله يمكن رفعه على البدل بتأويل يتخلف القوم إلا زيد وهكذا قولك « جاءني رجل » لا يشمل المجيء سواه .

ولو قلت « ما تخلف رجل » عمّ المجيء كل أحد . ثم قال : هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حق لأن من آمن فإنه يغفر ما تقدم من ذنوبه على إيمانه ، أما المتأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفوراً فثبت أنه لا بد ههنا من حرف التبعيض . قلت : هذا التأويل جائز في حق هذه الأمة أيضاً فوجب أن يذكر من في سورة الصف أيضاً . قوله { إن أجل الله } إشارة إلى الأجل المسمى وفيه تنبيه على أن الأجل الاختراعي قد يؤخر بتقدير الإيمان والعبادة ، وفيه أن وقت الفرصة والإمهال يجب أن يغتنم قبل حلول مالا حيلة فيه ، وفي قوله { لو كنتم تعلمون } توبيخ على أن إمهالهم في أمور الدنيا بلغ إلى حيث صيرهم شاكين في وقوع الموت . ثم حكى شكوى نوح إلى ربه بعد أن لم ينجع في قومه طول دعوته . ومعنى { ليلاً ونهاراً } دائباً دائماً من غير توان وفتور . قوله { فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } كقوله { ما زادهم إلا نفوراً } [ فاطر : 42 ] قوله { لتغفر لهم } ذكر ما هو المقصود وترك ما هو الوسيلة ، وأصل الكلام ليؤمنوا فتغفر لهم ذنوبهم السالفة هذا قول جار الله . ويمكن أن يقال : إنه وعدهم المغفرة على العبادة والتقوى والطاعة فكأنه قال : دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتي لتغفر لهم ، وهذا كلام متسق مبني على الأول كما ترى . ثم ذكر أنهم عاملوه بأشياء منها : جعل الأصابع في الآذان لئلا يسمعوا قوله . ومنها تغطيهم بثيابهم تأكيداً لعدم سماع الحجة أو لئلا يبصروا وجهه . ومنها إصرارهم على مذهبهم واستكبارهم عن قبول الحق إستكباراً بالغاً نهايته . ثم حكى نوح أنه كان لدعوته ثلاث مراتب بدأ تقريع وتغليظ فلم يؤثر . وانتصب { جهاراَ } على المصدر لأنه نوع من الدعوة أو على أنه صفة دعاء محذوف . والوصف بالمصدر مبالغة على أنه في موضع الحال . ثم إنه جمع بين الأمرين كما يفعل المجتهد المتحير في التدبير فلم ينفع . ثم فسر الدعوة بقوله { فقلت استغفروا } إلى آخره وفيه أن الاستغفار يوجب زيادة البركة والنماء . وله وجه معقول وهو أن الله سبحانه مفيض الخيرات والبركات بالذات كما قال « سبقت رحمتي غضبي » فكل ما يصل إلى العباد مما يضاد ذلك كالفقر والقحط والآلام والمخاوف فإنها بشؤم معاصيهم ، فإذا تابوا واستغفروا زال الشؤم والبلاء وعاد الخير والنماء . يروى أنهم لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين .

فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا دفع الله عنهم البلاء . والمدرار الكثير الدريستوي فيه الذكر والمؤنث . ثم إنه وبخهم بقوله { مالكم لا ترجون لله وقاراً } أصل الرجاء الأمل . والوقار التوقير « فعال » بمعنى « تفعيل » مثل « سراح » بمعنى « تسريح » وقد يستعمل الرجاء بمعنى الخوف فمعناه على هذا مالكم لا تخافون عظمة الله . وعلى الأول قال جار الله : معناه أي شيء لكم وما بالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب { ولله } بيان أو حال ولو تأخر لكان صلة للوقار أو صفة ، ويحتمل أن يكون الوقار فعلاً للقوم وذلك أنهم كانوا يستخفون برسول الله صلى الله عليه وسلم فحثهم على تعظيمه لأجل الله راجين ثوابه . وعن ابن عباس أن الوقار هو الثواب من وقر إذا ثبت واستقر قال جار الله : في تقريره أي لا تخافون لله عاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب . وقال غيره : تم الكلام عند قوله { مالكم } ثم استفهم منكراً { لا ترجون } أي لا تعتقدون لله ثباتاً وبقاء فإنكم لو رجوتم ذلك لما أقدمتم على الإستخفاف برسوله . قال الليث : الطور التارة أي خلقكم مرة بع مرة نطفة ثم علقة إلى آخرها . وقال ابن الإنباري : والطور الحال فيجوز أن يراد الأوصاف المختلفة التي لا شبه بعضها بعضاً ، وهذا دليل للتوحيد المأخوذ من الأنفس ، ثم أشار إلى دليل الآفاق بقوله { ألم تروا } الآية . ومعنى { طباقاً } قد مر في أول « الملك » فلا يلزم منه أن لا يبقى للملائكة مساكن فيها فلعلها متوازية لا متماسة . وأما على قول من يزعم أن الملائكة روحانية فلا إشكال ، قوله { فيهن } في حيزه من السموات وشبه الشمس بالسراج لأن نوره ذاتي كهي ، أو لأن الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس سبب لزواله . ثم عاد إلى دليل الأنفس بقوله { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } يحتمل أن يكون من باب التفعيل فيكون مصدراً متعدياً قريباً من لفظ الفعل وأن يكون ثلاثياً لازماً فيكون أبعد ، ويجوز أن يراد أنبتكم فنبتم نباتاً . قال جار الله : استعير الإنبات للإنشاء ليكون أدل على الحدوث . وفي قوله { إخراجاً } تأكيداً أي يخرجكم حقاً ولا محالة . ثم ذكر دليلاً آخراً فاقياً من حال الأرض . والفج الطريق الواسع .
ثم إن سائلاً كأنه سأل : ماذا قال نوح بعد هذه الشكوى؟ فبين سبحانه أنه تعالى { قال نوح رب إنهم عصوني } مكان قوله وأطيعون { واتبعوا } رؤساءهم ولم يزدهم ما لهم وولدهم { إلا خساراً } في الآخرة كأن التمتع القليل في الدنيا كالعدم . وولده بالضم لغة في الولد ويجوز أن يكون جمعاً كفلك { ومكروا } معطوف على { لم يزده } لأن المتبوعين هم الذين مكروا { وقالوا } للأتباع { لا تذرن } وجمع حملاً على المعنى .

والكبار بالتشديد أكبر من الكبار بالتخفيف ولهذا لم يقرأ مخففاً إلا في الشاذ فكلاهما مبالغة في الكبير . ولا ريب أن رأس الخيرات هو الإرشاد إلى التوحيد فنقيضه وهو الدعاء إلى الشرك يكون أعظم الكبائر وأفظع أنواع المكر . وإنما سمي مكراً لأنهم دلسوا عليهم بأنه دين آبائكم وألاباء أعرف من الأبناء . وبأن هذه الأصنام تعطيكم الخيرات والمنافع وأنها شفعاؤكم . ثم خصوا الأصنام الخمسة بالذكر لأنها كانت عندهم أكبر قالوا : وقد انتقلت من قوم نوح إلى العرب لأسباب لا يعلمها إلا الله ، ولأنها لم تكن مما تعرف بالطوفان ، فكان ود لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير ، وصورته أيضاً كصورة النسر ، وأما ود فعلى صورة الرجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، وإنما دعا نوح عليهم بالضلال غضباً عليهم حين عرف بالقرائن المفيدة للجزم أنهم لا يكادون يؤمنون ، أو المراد ضلال طريق الجنة ، أو ضلال مكرهم المذكور وعدم ترويجه ، أو المراد العذاب كقوله { إن المجرمين في ضلال وسعر } [ القمر : 47 ] وقالت المعتزلة : أراد الخذلان ومنع الألطاف وخص هذا بالضلال دون التبار لموافقة قوله { وقد أضلوا } قوله { مما خطيئاتهم } « من » للتعليل كقولك « جئتك لأجل كذا » و « ما » صلة للتوكيد . وسبب تقديم الجار بيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان فإدخالهم النار إلا من أجل خطاياهم وهي كفرهم المضموم إلى أنواع إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة ألف سنة إلا خمسين عاماً . وقد يستدل بفاء التعقيب لا سيما وقد دخل على ماضٍ معطوف على مثله على إثبات عذاب القبر . عن الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب هكذا حال من مات من المجرمين في ماء أو ي نار أو في جوف سبع أصابه ما يصيب المقبور من العذاب العقلي وهو ظاهر ، والعذاب الجسمي وهو غير بعيد في قدرة الله تعالى . وتنكير النار للتعظيم أو لأنها نوع نم النار مختص بهم . وفي قوله { فلم يجدوا } تهكم بهم وبآلهتهم قوله { وقال } معطوف على مثله ولهذا دخل العاطف كأنه جمع نوح بين ذلك القول وبين هذا . وإنما وقع مما خطيئاتهم إلى الآية اعتراضاً في البين تنبيهاً على أن خطيئاتهم هي المذكورات في الآية المتقدمة من عصيان رول الله واتباع غيره . والمكر الكبار والحث على التقليد والإشراك بالله خصوصاً الأصنام الخمسة { دياراً } من الأسماء المستعملة في النفي العام . يقال : ما بالدار ديار وهو « فيعال » من الدور أو من الدار أي نازل دار قاله ابن قتيبة . فعل به ما فعل بنحو أيام لو كان فعالاً لقيل دواراً ، قوله { إنك إن تذرهم } إلى آخره .

قال العلماء : عرف ذلك بالوحي كما قال { إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] وبالتجربة في المدة إليه حالهم واتفق الجمهور على أن صبيانهم لم يغرقوا على وجه العذاب . قال الحسن : علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب ولكن كما يموت أكثر الناس بآجال إختراعية ، ومنه الحديث « يهلكون مهلكاً واحداً يصدرون مصادر شتى » ومن روى أن الله سبحانه أعقم أرحام نسائهم أربعين أو سبعين سنة فلا إشكال . ثم إن نوحاً كأنه تنبه أن دعاءه عليهم كان بسبب الانتقام وبعض حظ النفس فاستغفر الله من ترك الأولى ، ثم عقبه بذكر والديه . وكان إسم أبيه لمك بن متوشلخ . وإسم أمه شمخا بنت أنوش . قال عطاء : لم يكن بين نوح وآدم عليه السلام من آبائه كافر وكان بينه وبين أدم عشرة آباء . وقيل : أراد بالوالدين آدم وحواء { ولمن دخل بيتي } أي منزلي . وقيل : مسجدي . وقيل : سفينتي . وقيل : ديني . على هذا يكون قوله { مؤمناً } احترازاً من المنافق أي دخولاً مع تصديق القلب ، ثم عمم دعاء الخير للمؤمنين والمؤمنات ودعاء الشر لأهل الظلم والشرك إلى يوم القيامة . والتبار الهلاك ويجوز أن يريد بالظالمين قومه فقط والله أعلم .

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

القراآت { وأنه تعالى } إلى قوله { وأنا منا المسلمون } بالفتح : يزيد وابن عامر وحمزة وعلي وخلف وحفص . والمشهور عن أبي جعفر أنه كان يفتح الألف في سبعة مواضع { أنه } { وأنه } في خمسة مواضع ، واثنين في قوله { وأن لو استقاموا } { وأن المساجد } وهما بالفتح لا غير بالإتفاق . { تقول الإنس } بالتشديد من التفعل : يعقوب { يسلكه } على الغيبة : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب الباقون : بالنون { وإنه لما قام } بالكسر : نافع وأبو بكر وحماد { لبداً } بالضم : هشام . { قل إنما أدعو } على الأمر : عاصم وحمزة ويزيد الآخرون { قال } على صيغة الماضي والضمير لعبد الله { ربي أمداً } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { ليعلم } مبنياً للمفعول : يعقوب .
الوقوف : { عجباً } ه لا { فآمنا به } ط للعدول عن الماضي المثبت إلى ضدهما . ثم الوقف على الآيات التي بعد أن جائز ضرورة انقطاع النفس والوقف في قراءة الكسر أجوز { أحداً } ه { ولا ولداً } ه { شططاً } ه لا { رهقاً } ه { أحداً } ه { وشهباً } ه { للسمع } ط { رصداً } ه { رشداً } ه { ذلك } ط { قدداً } ه { هرباً } ه { آمنا به } ط { رهقاً } ه { ومنا القاسطون } ه ط للابتداء بالشرط { رشداً } ه { حطباً } ه لا { غدقاً } ه لا { فيه } ج { صعداً } ه { أحداً } ه لمن قرأ { وأنه } بالفتح { لبداً } ه { أحداً } ه { رشداً } ه { ملتحداً } ه { ورسالاته } ط { أبداً } ه لا لأن حتى للابتداء بما بعدها { عدداً } ه لا { أمداً } ه { أحداً } ه لا { رصداً } ه { عدداً } ه .
التفسير : روى يونس وهارون عن أبي عمرو { وحي } بضم الواو من غير ألف . والوحي والإيحاء بمعنى وهو إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء وسرعة كالإلهام وإنزال الملك وقد مر مراراً . وقرىء { أحي } بقلب الواو همزة . والكلام في الجنِّ اسماً وحقيقته قد سلف في الاستعاذة وكذا بيان اختلاف الروايات أنه صلى الله عليه وسلم هل رأى الجن أم لا ، وذلك في آخر سورة « حم الأحقاف » . والذي أزيده ههنا ما ذكره بعض حكماء الإسلام أنه لا يبعد أن تكون الجن أرواحاً مجردة كالنفوس الناطقة ، ثم يكون لكل واحد منهم تعلق بجزء من أجزاء الهواء كما أن أول متعلق النفس الناطقة هو الروح الحيوني في القلب ، ثم بواسطة سريان ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحلص التدبير والتصرف فيه كما للنفس الناطقة في البدن ، ومنهم من جوز أن يكون الجن عبارة عن النفوس الناطقة التي فارقت أبدان الإنسان فتتصرف فيما يناسبها من الأرواح البشرية التي لم تفارق بعد فتعينها بالإلهام إن كانت خيرة ، وبالوسوسة إن كانت بالضد . أما الذاهبون إلى أن الجن أجسام فمنهم الأشاعرة القائلون بأن البنية ليست شرطاً في الحياة وأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً بأمور كثيرة وقدرة على أعمال شاقة ، فعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن سواء كانت أجسامهم لطيفة أو كثيفة وسواء كان أجزاؤهم صغاراً أو كباراً .

ثم الأمر بالخروج إليهم وقراءة القرآن عليهم لا أنه رآهم وعرف جوابهم . والله تعالى أوحى في هذه السورة . ومنهم من قال : البنية شرط وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادراً على الأفعال الشاقة . ومن الأولين من جوز أن يكون المرئي حاضراً والشرائط حاصلة والموانع مرتفعة ، ثم أنا لا نراه . وأعلم أن ما ذكرنا في تفسير الأحقاف عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم ما رأة الجن . وعن ابن مسعود أنه رآهم . فالجمع بين القولين أن ما ذكره ابن عباس لعله وقع أولاً فأوحى الله إليه في هذه السورة أنهم قالوا كذا وكذا ، أو رآهم وسمع كلامهم وآمنوا به ، ثم رجعوا إلى قومهم وذكروا لقومهم على سبيل الحكاية { أنا سمعنا قرآناً عجباً } إلى آخره كقوله في « الأحقاف » { فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين } [ الآية : 29 ] أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ما جري بينهم وبين قومهم . والفائدة فيه أن يعلم أنه مبعوث إلى الثقلين وأن الجن مكلفون كالأنس وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا ، وأن المؤمن منهم يدعو سائرهم إلى الإيمان . وأجمع القراء على فتح { أنه استمع } لأنه فاعل { أوحي } وكذا على فتح { وأن لو استقاموا } { وأن المساجد } لأنه يعلم بالوحي فهما معطوفان على { أنه استمع } وأجمعوا على كسر { إنا } في قوله { إنا سمعنا } لأنه وقع بعد القول . وفي البواقي خلاف ، فمن كسر فمحمول على مقول القول وأنه صريح من كلام الجن ، ومن فتح فعلى أنه فاعل { أوحى } ولا بد من تقدير ما في الحكاية ليكون حكاية كلام الجن كأنه قيل : وحكوا أنه تعالى جد ربنا إلى آخره إلا في قوله { وأنه لما قام عبد الله } فإنه كاللذين تقدماه يصح وقوعه فاعل { أوحي } من غير تقدير ، وجوز صاحب الكشاف فيمن قرأ بفتح الكل في قوله { وأنه تعالى جد ربنا } { وأنه كان يقول سفيهنا } وكذلك البواقي أن يكون معنا صدقنا . قلت : وفيه نظر لنبوه عن الطبع في أكثر المواضع إذ لا معنى لقول القائل مثلا : صدقنا أنا لمسنا السماء وصدقنا أنا لما سمعنا الهدى آمنا به . وبالجملة فكلامه في هذا المقام غير واضح ولا لائق بفضله . قوله سبحانه { عجباً } مصدر وضع موضع الوصف للمبالغة أي قرآناً عجباً بديعاً خارجاً عن حد أشكاله بحسن مبانيه وصحة معانية { يهدي إلى الرشد } أي الصواب أو التوحيد والإيمان { فآمنا به } لأن الإيمان بالقرآن إيمان بكل ما فيه من التوحيد والنبوة والمعاد ، ويجوز أن يكون الضمير لله لأن قوله { ولن نشرك بربنا } يدل عليه بعد دلالة الحال ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك .

ذكر الحسن أن فيهم يهود ونصارى ومجوساً ومشركين . قلت : ومما يدل على أن فيهم نصارة قوله تعالى { وأنه تعالى جد ربنا } أي عظمته مكن قولهم « جد فلان في عيني » أي عظم . وفي حديث عمر كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا . ويحتمل أن يراد ملكه وسلطانه أو غناه استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت لأن الملوك والأغنياء المجودون . وفي الحديث « لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ » قال أبو عبيدة : لا ينفع ذا الغنى منك غناه . وفي حديث آخر « قمت على باب الجنة فإذا غلقه من يدخلها من الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون » يعني أصحاب الغنى في الدنيا أي ارتفع غنى ربنا عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد كأنهم بسماع القرآن تنبهوا على خطا أهل الشرك من أهل الكتاب وغيرهم . فقوله { ما اتخذ } بيان للأول . وقيل : الجد أبو الأب وإن علا فهو مجاز عن الأصل أي تعالى أصل ربنا وهو حقيقته المخصوصة عن جميع جهات التعلق بالغير قاله الإمام في التفسير الكبير . النوع الثالث مما ذكره الجن قوله { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً } السفه خفة العقل ، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولاً هو في نفسه شطط ، وصف بالمصدر للمبالغة . والسفيه إبليس أو غيره من مردة الجن الذين جاوزا الحد في طرف النفي إلى أن أفضى إلى التعطيل ، أو في طرف الإثبات إلى أن أدى إلى الشريك والصاحبة والولد . الرابع { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً } أي إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أن لا يفتري الكذب على الله أحد ، فلما سمعنا القرآن عرفنا أنهم قد يكذبون . وقال جار الله { كذباً } صفة أي قولاً مكذوباً فيه ، أو مصدر لأن الكذب نوع من القول . ومن قرأ بالتشديد وضع { كذباً } موضع تقولا ولم يجعله صفة لأن التقول لا يكون إلا كذباً . قال بعض العلماء : فيه ذم لطريقة أهل الطريق وحث على الاستدلال والنظر . الخامس { وأنه كان رجال من الإنس } الآية . قال جمهور المفسرين : كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في واد قفر خاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم فيبيت في جوار منهم حتى يصبح . وقال آخرون : إذا قحطوا بعثوا رائدهم فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فسار بهم ، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي أن يصيبنا آفة يعنون الجن فإن لم يفزعهم أحد نزلوا وربما أفزعهم الجن فهربوا .

وقيل : المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضاً لكن من شر الجن كأن يقول مثلاً : أعوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم من شر جن هذا الوادي . وإنما ذهبوا إلى هذا التأويل ظناً منهم بأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن ، وضعف بأنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلاً . أما قوله { فزادوهم رهقاً } فمعناه أن الإنس لاستعاذتهم بهم زادوهم إثماً وجراءة وطغياناً وكبراً لأنهم إذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا : سدنا الجن والإنس . وقيل : ضمير الفاعل للجن أي فزاد الجن الإنس خوفاً وغشيان شر بإغوائهم وإضلالهم فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استولوا واجترؤا عليهم . السادس { وأنهم } أي الإنس { ظنوا كما ظننتم } أيها الجن قاله بعضهم لبعض . وقيل : هذه الآية والتي قبلها من جملة الوحي بلا تقدير الحكاية . والضمير في { وأنهم } للجن ، والخطاب في { ظننتم } لأهل مكة . والأولى أن يكون الكلام من كلام الجن لئلا يقع كلام أجنبي في البين . السابع { وأنا لمسنا السماء } قال أهل البيان : اللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب التعرف ، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها . والحرس إسم مفرد في معنى الحراس كالخدم بمعنى الخدام ولها لم يقل شداد . الثامن { وأنا كنا نقعد منها مقاعد } إلى آخره وفي قوله { شهاباً رصداً } وجوه : قال مقاتل : يعني رمياً بالشهب ورصداً من الملائكة وهو اسم جمع كما قلنا في حرس . فقوله { رصداً } كالخبر بعد الخبر وقال الفراء : هو فعل بمعنى مفعول أي شهاباً قد رصد ليرجم به . وقيل : بمعنى فاعل أي شهاباً راصداً لأجله . واعلم أنا قد بينا في هذا الكتاب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم وقد جاء ذكرها في الجاهلية وفي كتب الفلاسفة ، وإنما غلظت وشدد أمرها عند البعث لئلا يتشوش أمر الوحي بسبب تخليط الكهنة . وفي قوله { كنا نقعد منها مقاعد } إشارة إلى أن الجنّ كانوا يجدون بعض المقاعد خالية عن الشهب والحرس والآن ملئت المقاعد كلها . التاسع { وأنا لا ندري } الآية . وفيه قولان : أحدهما لا ندري أن المقصود من منع الإستراق شر أريد بمن في الأرض أم خير وصلاح . وثانيهما لا نعلم أن المقصود من إرسال محمد الذي وقع المنع من الإستراق لأجله هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك المكذبون من الأمم السالفة ، أو أن يؤمنوا فيهتدوا ، وفيه اعتراف من الجن بأنهم لا يعلمون الغيب على الإطلاق . العاشر { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } أي قوم أدون حالاً في الصلاح من المذكورين حذف الموصوف واكتفى بالصفة كما في قوله { وما منا الإله مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] وهذا القسم يشمل المقتصدين والصالحين .

وقوله { كنا طرائق قدداً } بيان للقسمة المذكورة ، فالطرائق جمع الطريقة بمعنى السيرة والمذهب ، والقدد جمع قدة من قد كالقطعة من قطع أي كنا قبل الإسلام ذوي مذاهب متفرقة مختلفة أوعلى حذف المضاف أي كانت طرائقنا طرائق قدد ، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة . الحادي عشر { وأنا ظننا } أي تيقنا وقد استعمل الظن الغالب مكان اليقين { أن لن نعجز الله في الأرض } إن أراد بنا أمر { ولن نعجزه هرباً } أي هاربين أو بسبب الهرب إن طلبنا وفيه إقرار منهم بأن الله غالب على كل شيء . الثاني عشر { وأنا لما سمعنا الهدى } الآية . عنوا سماعهم القرآن وإيمانهم به . وقوله { فلا يخاف } في تقدير مبتدأ أو خبر أي فهو لا يخاف وإلا قيل بالجزم وبدون الفاء ، والفائدة في هذا المساق تحقيق أن المؤمن ناجٍ لا محالة كأنه وقع فأخبر أنه لا يخاف ودلالة على أنه هو المختص بذلك دون غيره إذ يعلم من بناء الكلام على الضمير أن غيره خائف . وقوله { بخساً ولا رهقاً } على حذف المضاف أي جزاء بخس ولا رهق لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد ، وفيه أن المؤمن ينبغي أن يكون غير باخس ولا ظالماً . ويجوز أن يراد لا يخاف البخس من الله لأنه يجزي الجزاء الأحسن الأوفر ولا ترهقه ذلة . الثالث عشر { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } أي الجائرون عن طريق الحق بالكفر والعدوان وهو قريب من العاشر إلا أن في هذا النوع تفصيل جزاء الفريقين فذكر الإيعاد صريحاً وفي الوعد اقتصر على ذكر سببه وهو تحري الرشد أي طلب الصواب المستتبع للثواب . قال المبرد : أصل التحري من قولهم ذلك أحرى وأحق وأقرب . وقال أبو عبيدة : تحروا توخوا . وفي العدول عن الحقيقة إلى المجاز في جانب الوعد بشارة وإشارة إلى تحقيق الثواب لما عرفت مراراً أن المجاز أبلغ من الحقيقة . قوله { وأن لو استقاموا } معطوف على { إنه استمع } كما مر ومعناه أوحى إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريق المثلى . وجوز جمع من المفسرين أن يعود الضمير في { استقاموا } إلى الأنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بهم لا بالجن ، ولأن الآية روي أنها نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين . وزعم القاضي أن الثقلين . يدخلون في الآية لأنه أثبت حكماً معللاً بعلة وهو الاستقامة فوجب أن يعم الحكم بعموم العلة . وأما قول من يقول إن الضمير عائد إلى الجن فله معنيان : أحدهما لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم . وذكر الماء الغدق وهو الكثير كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع لأنه أصل البركات ، فتكون الآية نظير قوله

{ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم } [ المائدة : 65 ] وثانيهما لو استقام الجن الذين استمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الإستماع ولو ينتقلوا عنها إلى الإسلام لو سعنا عليهم الرزق في الدنيا ليذهبوا بطيباتهم في الحياة الفانية { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا } [ الزخرف : 33 ] إلى آخره . وأما الذين قالوا : الضمير عائد إلى الإنس فالوجهان جاريان فيه بعينهما . وعن أبي مسلم : إن المراد بالماء الغدق جنات تجري من تحتها الأنهار يعني في الجنة . واحتجاج الأشاعرة بقوله { لنفتنهم } على أنه سبحانه هو الذي يضل عباده ويوقعهم في الفتن والمحن . والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هنا بمعنى الاختبار كقوله { ليبلوكم } [ الملك : 2 ] ثم بين وعيد المعرضين عن عبادة الله ووحيه . وانتصب { عذاباً صعداً } على حذف الجار أي في عذاب صعد كقوله { ما سلككم في سقر } [ المدثر : 42 ] أو على تضمين معنى الإدخال . الصعد مصدر بمعنى الصعود ، ووصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه . وقد روى عكرمة عن ابن عباس أن { صعداً } جبل في جهنم من صخرة ملساء يكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة ، وإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسلفها ثم يكلف الصعود مرة أخرى ، وهكذا أبداً ومن جملة الوحي قوله { وأن المساجد لله } ذهب الخليل أن الجار محذوف ومتعلقه ما بعده أي ولأجل أن المساجد لله خاصة { فلا تدعوا مع الله أحداً } فيها عن الحسن عني بالمساجد الأرض كلها لأنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجداً وهو مناسب لمدح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام أي كما أنه مفضل على الأنبياء ببعثه إلى الثقلين فكذلك خص بهذا المعجز الآخر . وقال جمع كثير من المفسرين : إنها كل موضع بني للصلاة ويشمل مساجدنا والبيع والكنائس أيضاً . قال قتادة : كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله فأمرنا بالإخلاص والتوحيد وعن الحسن أيضاً أن المساجد جمع مسجد بالفتح فيكون مصدراً بمعنى السجود . وعلى هذا قال سعيد بن جبير : المضاف محذوف أي مواضع السجود من الجسد لله وهي الآراب السبعة : الوجه والكفان والركبتان والقدمان . وقال عطاء عن ابن عباس : هي مكة بجميع ما فيها من المساجد ، وأنها قبة الدنيا فكل أحد يسجد إليها . قال الحسن : من السنة أن الرجل إذا دخل المسجد أن يقول « لا إله إلا الله » لأن قوله { لا تدعوا مع الله أحداً } في ضمنه أمر بذكر الله بدعائه . قوله { وأنه لما قام عبد الله } هو النبي باتفاق المفسرين . ثم قال الواحدي : هذا من كلام الجن لأن الرسول لا يليق به أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة . ولا يخفى ضعفه فإنه وارد على طريق التواضع والأدب في الإفتخار بالانتساب إلى عبودية المعبود الحق ، وهذا طريق مسلوك في المحاورات والمكاتبات .

يقولون : عبدك كذا وكذا دون أن يقال « فعلت كذا » . وفي تخصيص هذا اللفظ بالمقام دون الرسول والنبي نكتة أخرى لطيفة هي أن ما قبله النهي عن عبادة غير الله وما بعده ذكر عبادة النبي إياه . فإن كان هذا من جملة الوحي فلا إشكال في النسق ، وإن كان من كلام الجن وفرض أن ما قبل قوله { وأن لو استقاموا } أيضاً من كلامهم كانت الآيتان المتوسطتان كالاعتراض بين طائفتي كلام الجن . ومناسبة الاستقامة على الطريقة وتخصيص المساجد بعبادة الله وحده لما قبلها ظاهرة فلا اعتراض على هذا الاعتراض . وفي قوله { كادوا } ثلاثة أوجه أظهرها أن الضمير للجن ، والقيام قيام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته متزاحمين عليه متراكمين تعجباً مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه . والثاني بأن الضمير للمشركين والمعنى لما قام رسولاً يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين كاد المشركون لتظاهرهم عليه يزدحمون على عداوته ودفعه . والثالث قول قتادة أي لما قام عبد الله تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره . و { لبداً } جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد . والتركيب يدور على الإجتماع ومنه اللبد . ومن قرأ { قل إنما أدعو } فظاهر وهو أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأمته المتظاهرين أو للجن عند ازدحامهم : ليس ما ترون من عبادتي ربي بأمر بديع وإنما يتعجب ممن يدعو غير الله وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام الجن لقومهم حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أمر أن يخبر أمته بكلمات قاطعة للأسباب والوسائل سوى الإيمان والعمل الصالح . والرشد بمعنى النفع ، والضر بمعن الغي ، وكل منها إمارة على ضده . ثم من ههنا إلى قوله { إلا بلاغاً } اعتراض أكد به نفي الاستطاعة وإثبات العجز على معنى أن الله إن أراد به سوأ لن يخلصه منه أحد ولن يجد من غير الله ملاذاً ينحرف إليه . والمقصود أني لا أملك شيئاً إلا البلاغ الكائن من الله ورسالاته ، فالجار صفة لا صلة لأن التبليغ إنما يعدى ب « عن » قال صلى الله عليه وسلم « بلغوا عني ولو آية » قال الزجاج : انتصب { بلاغاً } على البدل أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به . قلت : على هذا جاز أن يكون استثناء منقطعاً . وقيل : أن لا أبلغ بلاغاً لم أجد ملتحداً كقولك « أن لا قياماً فقعوداً » . استدل جمهور المعتزلة بقوله { ومن يعص الله } الآية . على أن الفساق نم أهل القبلة مخلدون في النار ، ولا يمكن حمل الخلود على المكث الطويل لاقترانه بقوله { أبداً } وأجيب بأن الحديث في التبليغ عن الله فلم لا يجوز أن تكون هذه القرينة مخصصة؟ أي ومن يعص الله في تبليغ رسالته وأداء وحيه ، ومما يقوي هذه القرينة أن سائر عمومات الوعيد لم يقرن بها لفظ { أبداً } فلا بد لتخصيص المقام بها من فائدة وما هي إلا أن التقصير في التبيلغ أعظم الذنوب .

وقد يجاب أيضاً بأن قوله { ومن يعص الله } لا يحتمل أن يجري على عمومه كأن يراد ومن يعص الله بجميع أنواع المعاصي . فمن المحال أن يقول شخص واحد بالتجسيم وبالتعطيل ، وإذا صار هذا العام مخصصاً بدليل العقل فلم لا يجوز أن يتطرق إليه تخصيص آخر كأن يقال : ومن يعص اله بالكفر . وحينئذ لا يبقى للخصم شبهة بل نقول : لا حاجة إلى التزام تخصيص آخر ، فإن الآتي بالكفر آت بجميع المعاصي الممكنة الجمع . قال جار الله : { حتى إذا } متعلق بقوله { يكونون عليه لبداً } أي يتظاهرون عليه بالعداوة إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة حين يعلم يقيناً أن الكافر أضعف الفريقين . وجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار واستقلالهم لعدده كأنه قال : لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا . ثم أمره بأن يفوّض علم تعيين الساعة إلى الله لأنه عالم الغيب { ومن رسول } بيان { لمن ارتضى } وفيه أن الإنسان المرتضى للنبوة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه ، وعلم الكهنة والمنجمين ظن وتخمين فلا يدخل فيه ، وعلم الأولياء إلهامي لا يقوى قوة علوم الأنبياء كنور القمر بالنسبة إلى ضياء الشمس . وههنا أسرار لا أحب إظهارها فلنرجع إلى التفسير . قوله { فإنه يسلكه } الأكثرون على أن الضمير لله سبحانه . وسلك بمعنى أسلك . { رصداً } مفعول أي يدخل الله من أمام المرتضى ووزائه حفظة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك . وفي الكلام إضمار التقدير . إلا من ارتضى من رسول فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي ثم يسلك . وقيل : الضمير للمرتضى وسلك بمعنى سار وفاعله الملائكة { ورصداً } حال . قال في الكواشي : ثم بين غاية الإظهار والسلك فقال { ليعلم } أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص ، ومثل هذا التركيب قد مر مراراً . قال قتادة ومقاتل : أي ليعلم محمد أن قد أبلغ جبرائيل ومن معه من الملائكة الوحي بلا تحريف وتغيير . وقوله { من بين يديه } مع قوله { أن قد أبلغوا } كقوله { فإن له نار جهنم خالدين } من الحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى . ثم ما ذكرنا وهو أن المراد بالعلم هو الظهور بقوله { وأحاط بما لديهم } من الحكم والشرائع أي وقد أحاط قبل به . ثم عمم العلم فقال { وأحصى كل شيء } من ورق الأشجار وزبد البحار وقطر الأمطار . و { عدداً } مصدر في معنى الإحصاء أو حال أي ضبط كل شيء معدوداً محصوراً أو تمييز والله أعلم .

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

القراأت : { أو انقص } بكسر الواو للساكنين : حمزة وعاصم وسهل . الآخرون : بضمها للإتباع { ناشية } بالياء : يزيد والشموني والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف . الباقون . بالهمزة { وطأ } بكسر الواو وسكون الطاء : ابن عامر وأبو عمرو . الآخرون : بالمد مصدر واطأت مواطأة ووطاء { رب المشرق } بالخفض على البدل { من ربك } ابن عامر ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل . الباقون : بالرفع على المدح أي هورب . { ونصفه وثلثه } بالنصب فيهما : عاصم وحمزة وعلى وابن كثير وخلف .
الوقوف { المزمل } ه لا { إلا قليلاً } ه لا { قليلاً } ه لا { ترتيلاً } ه { ثقيلاً } ه { قيلاً } ه ط { طويلاً } ه ط { تبتيلاً } ه ط بالخفض لا يقف { وكيلاً } ه { جميلاً } ه م { قليلاً } ه { وجحيماً } ه لا { أليماً } ه وقد قيل يوصل بناء على أن يوم ظرف لدينا والوقف أجوز لأن ثبوت إلا نكال لا يختص بذلك اليوم بل المراد ذكر يوم كذا أو يوم كذا ترون ما ترون . { مهيلاً } ه { رسولاً } ه { وبيلا } ه { شيباً } ه لا بناء على أن ما بعده صفة يوماً { به } ط { مفعولاً } ه { تذكرة } ج للشرط مع الفاء { سبيلاً } ه { معك } ط { والنهار } ه { القرآن } ط { مرضى } لا للعطف { من فضل الله } لا لذلك { في سبيل الله } ج لطول الكلام والوصل أولى للتكرار { فاقرؤا } ه { منة } لا للعطف { حسناً } ط { أجرأ } ط لاختلاف الجملتين { الله } ط { رحيم } ه .
التفسير { المزمل } أصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها ، فأدغم التاء في الزاء ونحوه المدثر في المثر والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بالإتفاق إلا أنهم اختلفوا في سببه . فعن ابن عباس : أول ما جاءه جبرائيل عليه السلام خافه فظن أن به مساً من الجن فرجع من الجبل مرتعداً وقال : زملوني فبينا هو كذلك إذ جاءه الملك وناداه { يا أيها المزمل } فهذه السورة على هذا القول من أوائل ما نزل من القرآن قال الكلبي : إنما تزمل النبي صلى الله عليه وسلم بثيابه ليتهيأ للصلاة فأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه . ومثله عن عائشة وقد سئلت عن تزمله فقال : إنه صلى الله عليه وسلم كان تزمل مرطاً سداه شعر ولحمته وبر طوله أربع عشرة ذراعاً نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي . وقيل : أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة لأنها فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن فأمر أن يختار على الهجود التهجد وعلى التزمل الموجب للاستثقال في النوم التشمر للعبادة ، وقال عكرمة : إشتقاقه من الزمل الحمل ومنه أزدمله أي احتمله ، والمعنى يأيها الذي احتمل أمراً عظيماً يريد أعباء النبوة ويناسبه التكليف بعده بقيام الليل .

قال ابن عباس : إنه كان فريضة عليه بناء على ظاهر الأمر ثم نسخ . وقيل : كان واجباً عليه وعلى أمته في صدر الإسلام فكانوا على ذلك سنة أو عشر سنين ، ثم نسخ بالصلوات الخمس ، قال جار الله : قوله { نصفه } بدل من الليل و { إلا قليلاً } استثناء من النصف كأنه قال : قم أقل من نصف الليل أو انقص من النصف قليلاً أو زد على النصف ، خيره بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين : النقصان من النصف أو الزيادة عليه . وإن شئت جعلت { نصفه } بدلاً من { قليلاً } لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل ، ولأن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن العهدة لا بزيادة شيء فيصير الواجب بالحقيقة نصفاً فشيئاً فيكون الباقي أقل منه ، فكان تخييراً بين ثلاث بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ، فلك أن تقول : على تقدير إبدال النصف من الليل إن الضمير في { منه } و { عليه } راجع إلى الأقل من النصف فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل أو قم أنقص القليل أو أزيد منه قليلاً فيكون التخيير فيما وراء النصف إلى الثلث مثلاً ، وإن شئت على تقدير إبدال النصف من { قليلاً } جعلت { قليلاً } الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع كأنه قال : أو انقص منه قليلاً نصفه ويجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع كأنه قيل : أو زد عليه أي على الربع قليلاً نصفه وهو الثمن فيكون تخييراً بين النصف وحده والرابع والثمن معاً والربع وحده ، هذا حاصل كلامه مع بعض الإيضاح . وأما في التفسير الكبير فقد اختار أن المراد بقوله { قليلاً } الثلث لقوله تعالى في السورة { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة } ففيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما يتفق له خطأ بالإجتهاد أو النوم فينقص شيء منه إلى النصف أو إلى الثلث على قراءة الخفض . وليس هذا مما يقدح في العصمة لعسر هذا الضبط على البشر ولا سيما عند اشتغاله بالنوم ولذلك قال { علم أن لن تحصوه } فيصير تقدير الآية . قم الثلثين ثم نصف الليل . أو انقص من النصف ، أو زد عليه . والغرض التوسعة وأن أكثر الفرض هو الثلثان وأقله الثلث ليكون النقصان من النصف بقدر الزيادة . عن الكلبي قال : كان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين . ثم علم أدب القراءة فقال { ورتل القرآن ترتيلاً } وهو قراءة على تأن وتثبت ولا تحصل إلا بتبيين الحروف وإشباع الحركات ومنه « ثغر مرتل » إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير ، ومنه قال الليث : الترتيل تنسيق الشيء وثغر رتل حسن التنضيد كنور الأقحوان .

سئلت عائشة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : لا كسر دكم . هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها . وفي قوله { ترتيلاً } زيادة تأكيد في الإيجاب وأنه لا بد للقاريء منه لتقع قراءته عن حضور القلب وذكر المعاني فلا يكون كمن يعثر على كنز من الجواهر عن غفلة وعدم شعور . حين أمره بقيام الليل وبتدبر القرآن فيه وعده بقوله { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } كأنه قال : صير نفسك بأنوار العبادة والتلاوة مستعداً لقبول الفيض الأعظم وهو القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة على نفوس البشر . وقيل : ثقله أنه كان إذا نزل عليه الوحي تربد جلده وارفض جبينه عرقاً . ومنه قيل « برحاء الوحي » . وقال الحسن : أراد ثقله في الميزان وقال أبو علي الفارسي : ثقيل على المنافقين من حيث إنه يهتك أستارهم وقال الفراء : كلام له وزن وموقع لأنه حكمة وبيان ليس بالسفساف وما لا يعبأ به . وقيل : باقٍ على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن لا يزول عن حيزه . وقيل : يثقل إدراك معانيه وإحضارها . والفرق بين أقسامها من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والظاهر والمؤل .
ثم عاد إلى حكمة الأمر بقيام الليل فقال { إن ناشئة الليل } فيها قولان : أحدهما أنها ساعات الليل إما كلها لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد أخرى ، وإما الساعات الأول ما بين المغرب والعشاء وهو قول زين العابدين وسعيد بن جبير والضحاك والكسائي وذلك أنها مباديء نشوء الليل . والثاني أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في الليل . وعلى هذا اختلفوا فمنهم من قال : هي النفس الناشئة بالليل أي التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت . ومنهم من قال : هي مصدر كالعاقبة أي قيام الليل . ولا بد من سبق النوم لما روي عبيد بن عمير قلت لعائشة : رجل قام من أول الليل أتقولين له قام ناشئة الليل؟ قالت : لا إنما الناشئة القيام بعد النوم . وقد فسرها بعض أهل المعنى بالواردات الروحانية والخواطر النورانية والإنفعالات النفسانية للإبتهاج بعالم القدس وفراغ النفس من الشواغل الحسية التي تكون بالنهار . الوطاء والمواطأة الموافقة . قال الحسن : يعني النفس أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب أو اللسان لانقطاع رؤية الخلائق ، أو يواطيء فيها قلب القائم لسانه ، إن أردت الساعات ، أو القيام . ومن قرأ وطأ بغير فالمعنى أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ومنه قوله « اللهم أشدد وطأتك على مضر » { وأقوم قيلاً } وأشد مقالاً وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات وسكون الحركات فلا يكون بين القراءة وبين تفهم معانيها حائل ولا مشوش .

قال في الكشاف : عن أنس إنه قرأ و « أصوب قيلاً » فقيل له : يا أبا حمزة إنما هي { أقوم } فقال : إنهما واحد . قال ابن جني : وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني ولا يلتفتون نحو الألفاظ . قال العلماء الراسخون : هذا النقل يوجب القدح في القرآن فالواجب أن يحمل النقل لو صح على أنه فسر أحد اللفظين بالآخر لا أنه زعم أن تغيير لفظ القرآن جائز . ثم أكد أمر قيام الليل بقوله { إن لك في النهار سبحاً طويلاً } قال المبرد : أي تصرفاً وتقلباً في مهماتك فلا تفرغ لخدمة الله إلا بالليل ومنه السابح لتقلبه بيديه ورجليه . وقال الزجاج : أراد أن ما فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه . وقيل : أن لك في النهار مجالاً للنوم والإستراحة وللتصرف في الحوائج . ثم بين أن أشرف الأعمال عند قيام الليل ما هو فصله في شيئين ذكر إسم الرب والتبتل إليه وهو الإنقطاع إلى الله بالكلية والتبتل القطع ، الأول مقام السالك والثاني مقام المشاهد . فالأول كالأثر والثاني كالعين وإنما لم يقل وبتل نفسك إليه تبتيلاً لأن المقصود بالذات هو التبتل فبين أولاً ما هو المقصود ثم أشار أخيراً إلى سببه تأكيداً مع رعاية الفاصلة . ثم أشار إلى الباعث إلى التبتل فقال { رب المشرق والمغرب } لأن التكميل والأحسان موجب المحبة وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها والمحبة تقتضي الإقبال على المحبوب بالكلية { لا إله إلا هو } وهو إشارة إلى كماله تعالى في ذاته والكمال محبوب لذاته ، وهذا منتهى مقامات الطالبين وإنه يستدعي رفع الإختيار من البين وتفويض الأمر بالكلية إلى المحبوب الحقيقي حتى أن المحبوب لو كان رضاه في عدم التبتل إليه رضي المحب بذلك ، وإن كان رضاه في التبتل والتوجه نحوه فهو المطلوب لا من حيث إنه تبتل بل من حيث إنه مراد المحبوب الحق جل ذكره . وقوله { فاتخذه وكيلاً } كالنتيجة لما قبله ، وفيه إن من لم يفوض كل الأمور إليه لم يكن راضياً بإلهيته معترفاً بربوبيته ، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين . ثم أمره بالصبر عند الإختلاط بالهجر الجميل إذا أراد أن لا يخالطهم . والهجر الجميل أن يخالفهم بقلبه ويداريهم بالإغضاء وترك المكافآت ومن المفسرين من قال : إنه منسوخ بآية القتال وقد عرفت مراراً أنه لا ضرورة إلى التزام النسخ . في أمثال هذه الآية . ثم أمره بأن يخلي بينه وبين المكذبين أصحاب الترفه . والنعمة بالفتح التنعم وهم صناديد قريش ولم يكن هناك منع ولكنه سبحانه أجرى الكلام على عادة المحاورات ، والغرض أنه سبحانه يكفي في رفع شرور الكفرة ودفع إيذائهم ثم فصل ما سيعذب به أهل التكذيب مما يضاد تنعمهم .

والإنكال جمع نكل بالكسر أو نكل بالضم وهي القيود الثقال . عن الشعبي : إذا ارتفعوا استلفت بهم . والطعام ذو الغصة هو الذي ينشب في الحلق كالزقوم والضريع فلا ينساغ ، وقد يمكن حمل هذه الأمور على العقوبات الروحانية فالإنكال عبارة عن بقاء النفس في قيود العلائق الحسية والملكات الوهمية ، والجحيم نيران الحسرة والحيرة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة . ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق الجلال والبقاء في ظلمة الضلال والتنوين في هذه الألفاظ للتعظيم أو النوع . ثم وصف اليوم فيه هذه الأحوال والأهوال فقال { يوم ترجف الأرض والجبال } الرجفة الزلزلة والكثيب الرمل المجتمع « فعلي » « بمعنى » « مفعول » من كثب الشيء جمعه . وقال الليث : الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به . وسمي الكثيب كثيباً لأن ترابه دقاق كأنه نثر بعضه على بعض لرخاوته ، والمهيل السائل تراب مهيل ومهيول أي مصبوب وإنما لم يقل كثيبة مهيلة لأنها باسرها تجتمع فتصير واحداً ، أو المراد كل واحد منها ، وحين خوف المكذبين بأهوال الآخرة خوفهم بأهوال الدنيا مثل ما جرى على الأمم السابقة لا سيما فرعون وجنوده . وإنما خصص قصة موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم الباقية ومعجزاته أبهر فكان تشبيه نبينا صلى الله عليه وسلم بحال أنسب . ومعنى { شاهدا عليكم } كما مر في قوله { ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] إنما عرّف الرسول ثانياً لأنه ينصرف إلى المعهود السابق في الذكر والأخذ الوبيل الثقيل الغليظ ومنه الوابل للمطر العظيم . قال أبو زيد : هو الذي لا يستمر ألو خامته ومنه كلأ مستوبل .
ثم عاد إلى توبيخهم مرة بعد أخرة قائلاً { فكيف تتقون إن كفرتم يوماً } وانتصب { يوماً } على أنه مفعول به { لتتقون } أي كيف تحذرون ذلك اليوم لو كفرتم أي إن جحدتم يوم الجزاء فكيف تدعون تقوى الله وخوف عقابه؟ ويجوز أن يكون ظرفاً { لتتقون } أي فكيف لكم بالتقوى يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ ثم ذكر من هول ذلك اليوم شيئين : الأول أنه يجعل الولدان شيئاً جمع أشيب نحو بيض جمع أبيض فقيل : إنه وصفه بالطول بحيث يبلغ الأطفال فيه أوان الشيخوخة والشيب . والأكثرون على أنه مثل في الشدة كما قيل « يوم يشيب نواصي الأطفال » والأصل فيه قول الحكماء إن الهموم والأحزاب تسرع الشيب لإقتضائهما احتباس الروح إلى داخل القلب المستتبع لانطفاء الحرارة الغريزية المستعقب لفجاجة الأخلاط واستيلاء البلغم المتكرج . وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم والخوف إلى الصبيان غير جائز . وجوزه بعضهم بناء على أن ذلك اليوم أمر غير داخل تحت التكليف وقد حكي أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية فقال : أرأيت القيامة والنار في المنام ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك وأصبحت كما ترون .

الثاني قوله { السماء منفطر به } وإنما ذكر السماء لأن تأنيثه غير حقيقي ، أو بتأويل السقف ، أو بتأويل الشيء المنفطر أو ذات انفطار . والباء في { به } بمعنى « في » عند الفراء ، أو للآلة نحو فطرت العود بالقدوم أي أنها تنفطر بسبب هول ذلك اليوم ، أو تثقل به إثقالاً يؤدي إلى إنفطارها كقوله { ثقلت في السموات والأرض } [ الأعراف : 187 ] { كان وعده } أي وعد الله وقيل وعد اليوم فيكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول { إن هذه } الآيات المشتملة على التكاليف والتخاويف { تذكرة } موعظة شافية { فمن شاء إتخذ إلى } قرب { ربه سبيلاً } بالإتعاظ والإدكار والتوسل بالطاعة والتجنب عن المعصية . قال المفسرون : إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شمروا بعد نزول أوائل السورة عن ساق الجد في شأن قيام الليل ، وتركوا الرقاد حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم فلا جرم رحمهم ربهم وخفف عنهم قائلاً { إن ربك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي الليل } أقل منهما . قال أهل المعاني والبيان : إنما استعير الأدنى للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز { و } تقوم { نصفة وثلثه } وهذا مطابق لما مر أو لأن التخيير بين النصف والناقص منه إلى الثلث وبين الزائد على النصف إلى الثلثين . ومن قرأ بالجر فمعناه يقوم أقل من الثلثين وهو النصف ، وأقل من النصف وهو ثلثه ، وأقل من الثلث وهو الربع وهو مطابق للوجه الآخر . و قوله { وطائفة } عطف على المستتر في { يقوم } وجاز من غير تأكيد للفصل { والله يقدر الليل والنهار } فلا يعرف ما مضى من كل منهما أي آن يفرض إلا هو . وهذا الحصر ينبيء عنه بناء الكلام على الإسم دون الفعل . ثم أكد المعنى المذكور بقوله { علم أن لن تحصوه } أي لا يصح منكم ضبط أوقات الليل كما هي إلا أن تأخذوا بالأوسع الأحوط وذلك شاق عليكم { فتاب عليكم } ما فرط منكم في مساهلة حصر الأوقات ورفع تبعته عنكم { فاقرؤا ما تيسر من القرآن } الأكثرون على أن القراءة ههنا عبارة عن الصلاة كما يعبر عنها بالقيام والركوع والسجود ، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم بالليل فيكون هذا ناسخاً للأول . ثم إنهما نسخاً جميعاً بالصلوات الخمس ، أو نسخ هذا وحده بهن . وعن بعضهم أنها القراءة حقييقة . وروي « من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن ومن قرأ مائة آية أو خمسين كتب من القانتين » ثم بيّن الحكمة في النسخ فقال { علم } وهو استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ . و « أن » في قوله { أن سيكون } مخففة من الثقيلة اسمها الشأن و « كان » تامة أي سيوجد { منكم مرضى } هي جمع مريض { وآخرون } عطف عليه في الموضعين سوى الله سبحانه بين المسافرين للكسب الحلال والمجاهدين في سبيله فما أنصف من جانبه من العلماء مستنكفاً عنه إلى طلب ما لم يجوز أخذ الأجرة عليه كالإمامة والقضاء والتدريس يرى أنه منصب من المناصب الدينية فيضع دينه للذة خيالية لا اعتداد بها عند العقلاء .

عن عبد الله بن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ، وعن عبد الله ابن مسعود مرفوع ظناً . أيما رجل جلب شيئاًً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء . وظاهر أن المرضى لا يمكنهم الإشتغال بالتجهد لمرضهم . وأما المسافرون والمجاهدون فمشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة ، فلو اشتغلوا بالعبادة في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم قوله { فاقرؤا ما تيسر منه } من إعادة الأوّل تأكيداً للرخصة ، عن ابن عباس : سقط عن أصحاب النبي قيام الليل وصار تطوعاً وبقي ذلك فريضاً على النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أمر بإقامة الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وهذا أيضاً مما يغلب على الظن أن الآية مدنية . وقيل : هي زكاة الفطر . ثم أشار إلى صدقة التطوع بقوله { وأقرضوا الله } ويحتمل أني عود هذا أيضاً إلى الزكاة أي أقرضوا الله بإيتاء الزكاة ، وفيه أن إخراج الزكاة ينبغي أن يكون على أحسن وجه من مراعاة النية الخالصة والصرف إلى المستحقين وكونها من أطيب الأموال لا أقل من الوسط . ثم حث على الإنفاق مطلقاً بقوله { وما تقدموا } الآية وقوله { هو } صيغة الفصل . وقوله { خيراً } ثاني مفعولي { تجدوه } ثم حرض على الإستغفار في جميع الأحوال وإن كان طاعات لما عسى أن يقع فيها تفريط وإليه المرجع والمآب .

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

القراأت { الرجز } بضم الراء : يزيد وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والآخرون : بالكسر { تسعة عشر } بسكون العين لتوالي الحركات : يزيد والخراز عن هبيرة { إذا } بسكون الذال { أدبر } من الإدبار : نافع ويعقوب وحمزة وخلف وحفص والمفضل . الباقون { إذا } بالألف { دبر } من الدبور . { مستنفرة } بفتح الفاء : أبوجعفر ونافع وابن عامر والمفضل { تخافون } بتاء الخطاب : ابن مجاهد والنقاش عن أبي ذكوان { وما تذكرون } على الخطاب : نافع ويعقوب .
الوقوف : { المدثر } ه لا { فأنذر } ه لا { فكبر } ه ك { فطهر } ه ك { فاهجر } ه ك { تستكثر } ه ك { فاصبر } ه ط وقد يجوز الوقوف على الآيات قبلها إلا على الأولى { الناقور } ه لا { عسير } ه { يسير } ه { وحيداً } ه لا { ممدوداً } ه ك { شهوداً } ه ك { تمهيداً } ه ك { أن أزيد } ه { كلا } ط { عنيداً } ه ط للإبتداء بالتهديد { صعوداً } ه ك للإبتداء بأن { وقدر } ه لا { قدر } ه لا { نظر } ه لا { وبسر } ه ك { واستكبر } ه ك { يؤثر } ه ك { البشر } ه { سقر } ه لا { ما سقر } ه ط لتناهي الإستفهام { ولا تذر } ه م لأن التقدير هي لواحة مع اتحاد المقصود { للبشر } ط للآية ولأن ما بعده من تمام المقصود { عشر } ه ط { ملائكة } ص لاتفاق الجملتين مع استقلال كل منهما بنفي واستثناء { كفروا } لا لتعلق اللام { والمؤمنون } لا لذلك { مثلاً } ط { ويهدي من يشاء } ط { إلا هو } ط { للبشر } ه قد يوصل على جعل { كلا } ردعاً والوقف على { البشر } دون { كلا } صواب لأنه تأكيد القسم بعدها { والقمر } ه { إذ أدبر } ه لا { أسفر } ه لا { الكبر } ه { للبشر } ه { يتأخر } ه ط { رهينة } ه لا { اليمين } ه ط على تقديرهم في جنات يتساءلون فيها . والوقف على { جنات } أولى لعدم الإضمار { سقر } ه { المصلين } ه { المسكين } ه { الخائضين } ه ك { الدين } ه لا { اليقين } ه { الشافعين } ه ج للإبتداء بالاستفهام به { معرضين } ه لا لأن ما بعده صفتهم { مستنفرة } ه ط { قسورة } ه ط { منشرة } ه ط { كلا } للردع عن الإرادة { الآخرة } لا على جعل { كلا } بمعنى حقاً تذكرة } ج للشرط مع الفاء { ذكره } ه { الله } ه { المغفرة } ه .
التفسير : « روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت على جبل حراء فنوديت على محمد إنك رسول الله ، فنظرت عن يميني ويساوي فلم أر شيئاً ، فنظرت فوقي فرأيت الملك قاعداً على عرش بين السماء والأرض فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت : دثروني وصبوا عليّ ماء بارداً ، ونزل جبرائيل وقال { يا أيها المدثر } » وروى الزهري مثله ، وقريب منه ما قيل : إنه تحنث في غار حراء فقيل له { يا أيها المدثر } المغطى بدثار اشتغل بدعوة الخلق ، فالسورة على هذا من أوائل ما نزول .

وقيل : سمع من قريش ما كرهه كما يجيء حكايته عن الوليد فاغتنم فتغطى بثوبه مفكراً فأمر أن لا تدع إنذارهم وتصبر على أذاهم . وقيل : أراد يا أيها المدثر بدثار النبوة مثل لباس التقوى . والدثار ما فوق الشعار ، والشعار الوب الذي يلي الجسد قال صلى الله عليه وسلم « الأنصار شعار والنار دثار » قوله { قم } أي من مضجعك أو قيام عزم وتصمم . وقوله { فأنذر } متروك المفعول لئلا يختص بأحد نحو « فلان يعطي » أي فافعل الإنذار وأوجده وقيل : أراد فحذر قومك من عذاب الله إن لم تؤمنوا . قوله { وربك فكبر } أي عظم ربك مما يقول عبدة الأوثان ، أو من أن يأمرك بالإنذار من غير حكمة وصلاح عام . وعن مقاتل : وهو نفس التكبير . يروى أنه لما نزل قال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي وقد يحمل على تكبير الصلوات ولا يبعد أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر صلوات مخصوصة والفاآت في { فكبر } وما يتلوها لتلازم ما قبلها وما بعدها كأنه قيل : مهما كان من شيء فلا تدع تكبيره . وقوله { وثيابك فطهر } في تفسيره وجوه أربعة : أحدها أن يترك كل من لفظي الثياب والتطهير على ظاهره . فعن الشافعي أن المراد الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس والأقذار ولا ريب أن هذا هو الأصل إلا أن في غير حال الصلاة أيضاً لا يحل إستعمال النجس أولا يحسن فقبح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً . وروي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلى شاة فرجع إلى بيته حزيناً وتدثر ثيابه فقيل { يا أيها المدثر قم فأنذر } ولا تمنعك تلك الناهية عن الإنذار . { وربك فكبر } عن أن لا ينتقم منهم { وثيابك فطهر } عن تلك النجاسات والقاذورات الثاني : الثياب حقيقة والتطهير كناية عن التقصير لان العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم . وقال علي عليه السلام : قصر ثيابك فإنه أتقى وأبقى وأنقى . وقيل : تطهيرها أن لا تكون مغصوبة ولا محرمة بل تكون مكتبسة من وجه حلال . الثالث : عكسه فعبر عن الجسد بالثياب لاشتماله على النفس . وكان العرب لا يتنظفون وقت الإستنجاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتنظيف . الرابع : أن يكون كل من اللفظين مجازاً قال القفال : إنهم لما لقبوه بالساحر شق عليه ذلك فرجع إلى بيته وتدثر فكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر فأمر بحسن الخلق وتهذيب الأخلاق أي طهر قلبك عن الصفات الذميمة كقطع الرحم وعزم الإنتقام والسآمة من الدعوة إلى دين الله لأجل أذى القوم .

وهذا بعد منا سبته لخطابه بالمدثر مجاز مستعمل يقال : فلان طاهر الجيب نقي الذيل إذا كان بريئاً من المثالب . ويقال : المجد في ثوبيه والكرم في برديه وذلك أن الثواب كالشيء الملازم للإنسان فجعل طهارته كطهارته ، ولأن الغالب أن من طهر باطنه طهر ظاهرة . وقيل : هو أمر بالإحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة . وهذا تأويل من حمل قوله { ووضعنا عنك وزرك } [ الشرح : 2 ] على آثام الجاهلية : وقيل : معناه نساءك طهرهن . وقد يكنى عن النساء بالثياب هن لباس لكم . قوله { والرجز فاهجر } هو بالكسر والضم العذاب والمراد اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها أي أثبت على هجره مثل أهدنا ، وهذا يؤكد تأويل من حمل قوله { وثيابك فطهر } على تحسين الأخلاق والإجتناب عن المعاصي { ولا تمنن تستكثر } لا تعط مستكثراً رائياً لما أعطيته كثيراً بل يجب أن تستحقرها وترى أن للأخذ حرمة عليك بقبول ذلك الإنعام ، وهذا نهاية الكرم على أن الإستكثار ينبيء على المنة وهي مبطلة للعمل كما قال { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 267 ] فقوله { تستكثر } مرفوع والجملة في موضع الحال منصوباً ، ويجوز أن يكون الأصل لأن تستكثر فحذف اللام ثم « أن » وأبطل عملها كما روي « ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى » بالرفع . واختار أبو علي الفارسي الوجه الأول إلا أنه قال : تأويله لا تمنن مقدراً الإستكثار كما في قول القائل : مررت برجل معه صقر صائداً به غدأً . وأقول : هذا التأويل مما لا حاجة إليه لأن طلب الكثرة مقرون بالإعطاء بخلاف الصيد غداً . وذهب جم غفير من المفسرين إلى أنه نهى عن الإستقراض وهو أن يهب شيئاً طامعاً في أن يأخذ أكثر منه فيكون نهى تنزيه لأنه جاء في الحديث « المستغزر يثاب من هبته » ويجوز أن يكون نهي تحريم خاصاً برسول الله لأن منصبه يجل عن طلب الدنيا خصوصاً بهذا الوجه ، ومنهم من حمله على الرياء فيكون نهي تحريم للكل والمن معنى . وقال القفال : يحتمل أن يكون المقصود النهي عن طلب العوض زائداً أو مساوياً أو ناقصاً . أما الزائدة فطاهر . وأما المساوي والناقص فلأن طالب العوض كاره أن ينتقص المال بسبب العطاء فكأنه يطلب الكثرة . ويجوز أن يقال : إنما حسنت هذه الإستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً على العطاء فسمي طلب الثواب إستكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله ، وكما أن الأغلب أن المرأة ذات الولد إنما تتزوج للحاجة إلى من يربى ولدها فسمي الولد ربيباً ، ثم اتسع ولد المرأة ربيباً . وإن كان كبيراً خارجاً عن حد التربية أمر صلى الله عليه وسلم أن يكون عطاؤه خالياً عن انتظار العوض والتفات النفس إليه كيف كان حتى يقع خالصاً لوجه الله ويكون صابراً محتسباً .
وعن الحسن وغيره أنه لما أمره الله بإنذار القوم وتكبير الرب وتطهير الثياب وهجران الرجز قال { ولا تمنن } على ربك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله بل اصبر على ذلك كله ويؤكده قوله بعد ذلك { ولربك فاصبر } أي استعمل الصبر في مظانه خالصاً لوجه ربك وقيل : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر لذلك بأمر الله .

وقيل : لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر أي لتأخذ منهم على ذلك أجراً فيكثر مالك . وقال مجاهد : لا تمنن أي لا تضعف من قولك « حبل من » أي ضعيف ومنه « منّه السير » أي أضعفه . والمعنى لا تضعف أن تستكثر من هذه الأوامر ووجه الرفع ما مر في قوله « أحضر الوغى » قوله { فإذا نقر } الفاء للتسبيب كأنه قال : اصبر على التكاليف المعدودة وعلى أذى المشركين فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك والفاء في { فذلك } للجزاء . وانتصب { إذا } بما دل عليه الجزاء لأن المعنى : فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين « فاعول » من النقر كالهاضوم من الهضم ، يشبه أن يكون البناء للآلة لأن الهاضوم ما به يهضم . فالناقور ما ينقر به وهو الصور باتفاق المفسرين ، فكأنه آلة النقر أي النفخ وذلك أن النفخ سبب حدوث الصوت في المزامير كما أن النقر سبب الحدوث في الآلات ذوات الأوتار . قال الجوهري في الصحاح { فإذا نقر في الناقور } أي نفخ في الصور . وقد يلوح من كلام الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير أن النقر غير النفخ . وهكذا من كلام الحليمي في كتاب « المنهاج » وذلك أنه قال : جاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلها فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر و « النفخ » لتكون الصيحة أهول وأعظم . وإذا نفخ فيه للإحياء لم ينقر فيه . واقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها ويظهر من فحوى كلامه أنه حمل هذا النقر على أنه مقرون بالنفخة الأولى بعد أن أثبت المغايرة . ومن المفسرين من ذهب إلى أن النفخة الثانية أهول لأنه سبحانه أخبر أن ذلك الوقت شديد على الكافرين ، والإصعاق ليس بشديد عليهم ولذلك يقولون { يا ليتها كانت القاضية } [ الحاقة : 27 ] أي يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى . قلت : لا دليل في هذا لأن الإصعاق شديد عليهم لا محالة ، ثم إذا جاءت النفخة الثانية رأوا من الأهوال ما تمنوا حالة الإصعاق . أو نقول : مبدأ الشدة من حين الإصعاق ثم يصير الأمر بعد ذلك أشد لأنهم يناقشون في الحساب وتسود وجوههم وتتكلم جوارحهم إلى غير ذلك من القبائح والأهوال ، فلذلك يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر ويتم الكلام بتقدير مضاف أي { فذلك } النقر { يومئذ } نقر { يوم عسير } فالعامل في { يومئذ } هو النقر .

ويجوز أن يكون إشارة إلى اليوم و { يومئذ } مبني على الفتح ولكنه مرفوع المحل بدلاً منه كأنّه قيل : فيوم النقر يوم عسير وقوله { غير يسير } تأكيد كقولك « أنا محب لك غير مبغض » وفائدته أن يعلم أن عسرة على الكافرين ولا يرجى زواله كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا ، أو يراد أنه عسير على الكل لأن أكثر الأنبياء يقول : نفسي نفسي والولدان يشيبون إلا أن الكافر يختص بمزيد العسر بحيث يكون اليسر منفياً عنه رأساً ويعلم هذا من تقديم الظرف . روى المفسرون أن الوليد بن المغيرة الخزومي وجماعة من صناديد قريش كأبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاصي بن وائل اجتمعوا وقالوا : إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد فكل منا يجيب بجواب آخر؛ فواحد يقول مجنون . وآخر يقول : كاهن وآخر يقول : شاعر فتستدل العرب باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة ، فهلموا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد . فقال واحد : إنه شاعر فقال الوليد : سمعن كلام عبيد بن الأبرص وكلام أمية بن أبي الصلت وكلامه ما يشبه كلامهما . فقال الآخر . وهو كاهن . فقال الوليد : إن الكاهن يصدق تارة ويكذب أخرى ومحمد ما كذب قط . فقال آخر : إنه مجنون فقال الوليد : المجنون يخيف الناس وما يخيف محمد أحداً قط فقام الوليد وانصرف إلى بيته فقال الناس : صبأ الوليد فدخل أبو جهل وقال : مالك يا أبا عبد شمس؟ هذه قريش تجمع لك شيئاً زعموا أنك احتجت وصبأت فقال الوليد : مالي إليه حاجة ولكني فكرت في أمر محمد فقلت : إنه ساحر لأنه يفرق بين الرجل ووالده ومواليه وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل . فأجمعوا على تلقيب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا اللقب وفرحوا بذلك وعجبوا عن كياسته وفكره ونظره ثم إنهم خرجوا ونادوا بمكة إن محمداً لساحر ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته حزيناً فتدثر بقطيفة وأنزل الله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } الآية .
ثم إنه هدد الوليد وسلى نبيه بقوله { ذرني ومن خلقت وحيداً } وهو كقوله في المزمل { فذرني والمكذبين } [ الآية : 11 ] وقوله { وحيداً } من غير شكة أحد أو من « مفعول » خلقت المحذوف أي خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد . ويجوز أن يكون نصباً على الذم والمراد أذم وحيداً بناء على أن الوليد كان يلقب بالوحيد فإن كان علماً فلا إشكال ، وإن كان صفة على ما روى أنه كان يقول أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير ، وهو إستهزاء به وتهكم بحسب ظنه واعتقاده نحو

{ ذق أنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] فيفيد أنه ليس وحيداً في العلو والشرف ولكنه وحيد في الخبث والدناءة والكفر . وقيل : إن { وحيداً } مفعول ثان قال أبو سعيد الضرير : الوحيد الذي لا أب له فيكون طعناً في نسبه كما في قوله { عتل بعد ذلك زنيم } [ ن : 13 ] وفي المال الممدود وجوه أظهرها أنه المال الذي يكون له مدد يأتي منه الخير بعد الخير على الدوام كالزرع والضرع وأنواع التجارات ، ولهذا فسره عمر بن الخطاب بغلة شهر بشهر . وقال ابن عباس : هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال . وعلى هذا يكون المال الممدود إما بمعنى المدد كما قلنا ، أو بمعنى امتداد مكانه . وقريب منه ما روى مقاتل أنه كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفاً ولا شتاءً . ومن المفسرين من قدر المال الممدود فقال : ألف دينار أو أربعة آلاف أو تسعة آلاف أو ألف ألف فهذه تحكمات لا أصل لها إلا أن تكون رواية صحيحة أن مال الوليد على أحد هذه الأعداد وحينئذ يمكن أن يقال : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وفي قوله { وبنين شهوداً } وجوه : أحدها أنهم حضور معه بمكة لا يفارقونه لاستغنائهم عن الكسب وطلب المعاش فهو مستأنس بهم يغر محزون بفراقهم . الثاني أنهم رجال يشهدون معهم بمكة في المجامع والمحافل . الثالث أنهم من أهل الشهادات في الحكومات يسمع قولهم ويعتد بهم . وأما عددهم فعن مجاهد : عشرة وقيل : ثلاثة عشر وقيل : سبعة كلهم رجال : الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس . قال جار الله : أسلم منهم ثلاثة : خالد بن الوليد وخالد وعمارة . قلت : إنه أبقى الوليد بن الوليد في حوزة الكفرة وهو مسلم حسن الإسلام مشهور الصحبة كما ذكره رشيد الدين الوطواط في رسالته ، وصاحب سر السلف سيد الحفاظ أبو القاسم فيه أن الوليد بن الوليد ابن المغيرة كان من المستضعفين حبسه المشركون فدعا النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته : اللهم أنج الوليد ابن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام . ثم قدم المدينة فتوفى بها فكفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه وكانت أم سلمة تندبه .
أبكى الوليد بن الوليد بن المغيرة ... أبكى الوليد بن الوليد أخا العشيرة
وقال ابن الأثير في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤلف كتاب « جامع الأصول » : هو الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي أخو خالد بن الوليد ، أسر يوم بدر كافراً وفداه أخواه خالد وهشام ، فلما فدى أسلم فقيل له : هلا أسلمت قبل أن تفتدي؟ فقال : كرهت أن تظنوا أني أسلمت جزعاً من الإسار فحبسوه بمكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت مع من يدعو له من المستضعفين بمكة ثم أفلت من أيديهم ولحق بالمدينة .

والعجب من جار أنه ذكر في سورة الزمر في تفسيره قوله { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أن الوليد أسلم وأسلم معه نفر هاجروا ثم إنه أبقاه ههنا في بقية الكفار . قوله { ومهدت له تمهيداً } أي وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه ، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا حتى جعلوه دعاء الخير فيما بينهم قائلين « أدام الله تأييدك وتمهيدك » أي بسطتك وتصرفك في الأمور . وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم ولذلك لقب بالوحيد وريحانة قريش . ومعنى « ثم » في قوله { ثم يطمع أن أزيد } استبعاد وتعجب من طمعه وحرصه على الزيادة بعد أن لم يعرف حق بعض ما أوتي . قال الكلبي ومقاتل : ثم يرجو أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي . وقيل : إن تلك الزيادة في الآخرة كأن يقول إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي . ثم قال الله تعالى { كلا } حتى افقتر ومات فقيراً .
ثم علل الرجع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال : لم لا يزداد؟ فقال : لأنه { كان لآياتنا عنيداً } معانداً والكافر لا يستحق المزيد ولا سيما إذا كان كفره أفحش أنواعه وهو كفر العناد ، ومما يدل على أن كفره كفر عناد بعدما حكينا عنه ما روي أن الوليد مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ حم السجدة فرجع وقال لبني مخزوم : والله لقد سمعت آنفاً من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن . إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يعلى ، ولا ريب أن من عرف هذا القدر ثم زعم أن القرآن سحر فإنه يكون معانداً ، والعنيد هو الذي كان العناد خلقه وديدنه فلشدة عناده وصفه الله تعالى به . وتقديم الظرف يدل على أن عناده كان مختصاً بآيات الله وإن كان تاركاً للعناد في سائر الأمور . وفي جمع الآيات إشارة إلى أنه كان منكراً للتوحيد والنبوة والبعث وغير ذلك من دلائل الدين ومعجزاته ولهذا أوعده الله سبحانه أشد الوعيد قائلاً { سأرهقه صعوداً } أي سأصعده عقبة شاقة المصعد وفيه قولان : أحدهما الظاهر وهو ما روي عن النبي « الصعود جبل من نار يصعد فيه خمسين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبداً » وعنه صلى الله عليه وسلم « يكلف أن يصعد عقبة من النار كلما وضع عليها يده ذابت فإذا رفعها عادة وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت » الثاني إنه مثل لما سيلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق كما مر في قوله

{ يسلكه عذاباً صعداً } [ الجن : 17 ] ثم فسر كيفية عناده بقوله { إنه فكر } ماذا يقول في القرآن { وقدر } في نفسه كلاماً { فقتل كيف قدر } وهذا الكلام مما ينطق به العرب عند التعجب والإستعظام يقولون : قتله الله ما أشجعه . وقاتله ما أشعره ، وأخزاه ما أظرفه . والمراد أنه قد بلغ المبلغ الذي حق له أن يحسد فيدعى عليه
. والمعنى في الآية التعجب من قوة خاطره . أنه كيف استنبط هذه الشبهة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بحيث وافق غرض قريش كما حكينا وهي بالحقيقة ثناء على طريق الإستهزاء . ومعنى { ثم } الداخلة في تكرير الدعاء الدلالة على أن التعجب في الكرة الثانية أبلغ من الأولى ، أو هي حكاية لما كرره من قوله تعالى { قتل كيف قدر } ويجوز أن يكون التقدير الأخير تقديراً للتقدير أي ينظر فيه بتمام الإحتياط فهذا ما يتعلق بأحوال قلبه . ثم وصفه بأحوال ظاهره قائلاً { ثم نظر } في وجوه القوم { ثم عبس وبسر } قال الليث : عبس عبوساً إذا قطب ما بين عينينه فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح { واستكبر } عن الإيمان ويحتمل أن يقال : قدر ما يقوله ثم نظر فيه احتياطاً والدعاء بينهما اعتراض ، ثم قطب في وجه النبي ثم أدبر عن الحق واستكبر عنه . ومعنى « ثم » في هذه الأفعال سوى فعل الدعاء الثاني المهلة . والفاء في قوله تعالى { فقال } للدلالة على أنه كما تولى واستكبر ذكر هذه الشبهة ، أو أن الكلمة لما خطرت بباله بعد التفكر لم يتمالك أن نطق بها من غير تراخ . وقوله { يؤثر } من الأثر بالسكون الرواية كما مر أو من الإيثار أي هو مختار على جميع أنواع السحر . قوله { إن هذا إلا قول البشر } جار مجرى التوكيد من الجملة الأولى ولهذا لم يتوسط العاطف بينهما . أراد بذلك أنه ملفوظ من كلام غيره . ومن تأمل في هاتين الجملتين عرف أنه حكاية كلام مفتخر غير خاف عليه وجوه الحيل ودفع الحق الصريح ولذلك جازاه الله بقوله { سأصليه سقر } ولعله بدل من قوله { سأرهقه صعوداً } ثم قال { وما أدراك ما سقر } والمراد التهويل : ثم بينه بقوله { لا تبقي ولا تذر } قال بعضهم : معناهما واحد والتكرير للمبالغة . وقال آخرون : لا بد من الفرق : فروى عطاء عن ابن عباس أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئاً فإذا أعيدوا خلقاً جديداً فلا تترك إحراقهم وهكذا أبداً . وقيل : لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم ، ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئاً إلاّ أحرقته . وقيل : لا تبقى على شيء ولا تذر من قوتها شيئاً إلا استعملته والتقدير هي لا تبقى بدليل قوله خبراً بعد خبر { لواحة } ويجوز أن يكون هذا خبراً لمبتدأ آخر .

قال أكثر المفسرين : هي من لاحه العطش ولوحه أي غيره وذلك أنها تسود البشرة وهي أعلى الجلود بإحراقها . واعتراض الحسن والأصم بأن وصفها بالتغيير لا يناسب بعد قوله { لا تبقى ولا تذر } نعم لو عكس الترتيب لاتجه لأنها تغير البشرة أولاً ثم تفنيها ، فمعنى لواحة لماعة من لاح البرق ونحوه يلوح إذا لمع والبشر بمعنى الإنسان وذلك أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام .
ثم بين أن عدد الخزنة الموكلين عليها { تسعة عشر } فترك المميز فقيل صنفاً . والأكثرون شخصاً مالك وثمانية عشر أعينهم كالبرق وأنيابهم كالصياصي يجرون أشعارهم يخرج اللهب والنار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر ، نزعت الرأفة والرحمة منهم يأخذ أحدهم سبعين ألفاً في كفه ويرميهم حيث أراد من جهنم . وذكر العلماء في تخصيص هذا العدد وجوها فقال المتشرعون : هذا مما لا يصل إليه عقول البشر كأعداد السموات والأرضين والكواكب وأيام السنة والشهور . وكأعداد الزكاة والكفارات والصلوات . وقيل : إن العدد على وجهين : قليل وهو من الواحد إلى التسعة ، وكثير وهو من العشرة إلى ما لا نهاية ، فجمع بين نهاية القليل وبداية الكثير . وقيل : إن ساعات اليوم بليلته أربع وعشرون ، خمس منها تركت لأجل الصلوات الخمس والباقية لكل منها يعذب من يضيعها في غير حق الله . وقيل : إن أبواب جهنم سبعة ، وله للفساق زبانية زبانية واحدة بسبب ترك العمل ، ولكل من الأبواب الباقية ثلاثة أملاك لأن الكفار يعذبون لأجل أمور ثلاثة : ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل . قال الحكيم : إن فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية هو بسبب استعماله القوى الحيوانية والطبيعية لا على وجهها . والقوى الحيوانية الشهوة والغضب . والحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة . والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، فلما كان منشأ الإفادة هذه القوى التسع عشر لا جرم كان عدد الزبانية كذلك . يروى أنه لما نزلت الآية قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال المسلمون : ويحكم أتقاس الملائكة بالحدادين أي السجانين؟ وجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا يسوىّ بينهما وأنزل الله تعالى { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون ويرحمون فإن الجنسية مظنة الرأفة ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم من جنس الأمة ليكون بهم رؤفاً رحيماً . ولا استبعاد في كون الملائكة في النار غير معذبين بناء على القول بالفاعل المختار ، ولعلهم غلبت عليهم النارية فصارت لهم طبعاً كالحيوانات المائية . وقوله { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } الآية . هو على مذهب أهل السنة ظاهر ، وأما على أصول المعتزلة فقال الجبائي : المراد بالفتنة تشديد التعبد ، استدلوا به على كمال قدرة الله تعالى وقال الكعبي : هي الإمتحان فيؤمن المؤمن بالمتشابه ويفوض حكمة التخصيص بهذا العدد إلى الخالق ، والكافر يعترض عليه .

وقال : بعضهم : أراد ما وقعوا فيه من الكفر بسبب إنكارهم والتقدير إلا فتنة على الذين كفروا ، وحاصله يرجع إلى ترك الألطاف . وأجيب عن هذه التأويلات بأن تنزيل المتشابهات لا بد أن يكون له أثر في تقوية داعية الكفر وإلا كان إنزالها كلا إنزال . ومع هذا الترجيح لا يحصل الإيمان ألبتة وهو المعنى بالإضلال .
واعلم أن في الآية دلالة على أنه سبحانه جعل افتتان الكافر بعدد الزبانية سبباً لأمور أربعة : أولها { ليستيقن } ثانيها { ويزداد } ثالثها { ولا يرتاب } رابعها { وليقول } وفيه إشكال . قال جار الله : ما جعل افتتانهم بالعدد سبباً ولكنه وضع { فتنة } موضع { تسعة عشر } تعبيراً عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر تنبيهاً على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المأثر . وقال آخرون : تقديره وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للكافرين وإلا ليستيقن كما يقال : فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك . قالوا : والعاطف يذكر في هذا الموضع تارة ويحذف أخرى . وأما سبب إستيقان أهل الكتاب فهو أنهم قرؤا هذا العدد في كتابهم ولكنهم ما كانوا واثقين لتطرق التحريف إلى كتابهم . فلما سمعوا ذلك في القرآن تيقنوا بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم بما في كتابهم من غير سابقة دراسة وتعلم . ولأنه أخبر كفار قريش بهذا الأمر الغريب من غير مبالاة باستهزائهم وتكذيبهم فعرفوا أنه من قبيل الوحي وإلا لم يجترىء على التكلم به خوفاً من السخرية . وأما زيادة إيمان المؤمنين فحمل على آثاره ولوازمه ونتائجه . وأما نفي الارتياب عن أهل الكتاب والمؤمنين بعد إثبات الاستيقان وزيادة الإيمان لهم فمن باب التوكيد كأنه قيل : حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل بعده شك وريب . فإن الذي حصل له اليقين قد يغفل عن مقدمة من مقدمات الدليل فيعود له الشك . وفيه أيضاً تعريض بحال من عداهم كأنه قيل : وليخالف حالهم حال المرتابين من أهل الزيغ ولكفران ، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم أهل النفاق الذين أحدثوا بعد ذلك لأن السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق وإنما حدث بالمدينة ، ففي الآية إخبار بالغيب وقد وقع مطابقاً فكان معجزاً . واللامات في الأمور الأربعة للغاية عند الأشاعرة ، والمعتزلة يسمونها لام العاقبة وقد مر في مواضع . وقوله { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } إلى قوله { من يشاء } قد مر في « البقرة » . وجعل مثل هذا العدد مثلاً لغرابته حيث لم يقل عشرين وسواه والمعنى أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب مع أنهم منكرون له من أصله . والكاف في { كذلك } منصوب المحل أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل ويهدي . قوله { وما يعلم جنود ربك } إشارة إلى أن ما عليه عدد الخزنة لا يعلم حكمته ولا حكمة ما عليه كل جند من العدد إلى حين الأبد إلا الله سبحانه كما يقوله أهل الحق وقد مر .

وقيل : إن القوم قد استقلوا ذلك العدد فقال تعالى في جوابهم : هبوا أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله { وما يعلم جنود ربك } لفرظ كثرتها { إلا هو } فلا يعسر عليه تتميم الخزنة عشرين وأزيد ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها . قوله { وما هي إلا ذكرى } متصل بوصف سقر . وقوله { وما جعلنا أصحاب النار } إلى ههنا اعتراض أي وما سقر وصفتها إلا موعظة للناس . ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات وهي ذكرى لجميع العالمين وإن لم ينتفع بها إلا أهل الإيمان وقوله { كلا } قيل : إنكار لأن يكون للكفار ذكرى لأنهم لا يتذكرون أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيراً ، أو ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار ، أو ردع لهم عن الإستهزاء بالعدة المخصوصة . وقد مر أنه يجوز أن يكون بمعنى حقاً تأكيداً للقسم بعده . قال الفراء : دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل . روى بعضهم أن ابن عباس كان يعيب قراءة الثلاثي ويقول : إنما يدبر ظهر البعير . وفي صحة الرواية نظر لأن القراآت السبع كلها متواترة . قال الواحدي : والقراءتان عند أهل اللغة سواء ومنه أمس الدابر . وعلى هذا يكون دبور الليل وإدباره وإسفار الصبح أي إضاءته كشيء واحد . قال أبو عبيدة وابن قتيبة : هو من دبر الليل النهار إذا خلفه . ثم قال { إنها } أي إن سقر التي جرى ذكرها { لإحدى } البلايا أو الدواهي { الكبر } جمع الكبرى . قال جار الله : جعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت « فعلة » على « فعل » جمعت « فعلى » عليه . ونظير ذلك « السوافي » في جمع « السافياء » وهو التراب الذي يسفيه الريح . « والقواصع » في جمع « القاصعاء » كأنها فاعلة . وقال المفسرون : المراد من الكبر دركات جهنم وهي سبع : جهنم ولظى والحطمة وسعير وسقر والجحيم والهاوية . فعلى هذا معنى كون سقر إحداهن ظاهر . وقال أهل المعاني : أراد أنها من بين الدواهي واحدة في العظم لا نظير لها { ونذيراً } تمييز من إحدى أي إنها لإحدى الدواهي إنذاراً كما تقول : هي إحدى النساء عفافاً وقيل { نذيراً } حال ومن غريب التفسير أن { نذيراً } متصل بأول السورة أي قم فأنذر نذيراً . ثم قال { لمن شاء } السبق أو هو خبر وما بعده وهو { أن يتقدم أو يتأخر } مبتدأ كقولك لمن توضأ أن يصلي أنه مطلق لمن شاء السعي إلى الخير أو التخلف عنه .

« أو » للتهديد كقوله { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] ويجوز أن يكون { لمن شاء } بدلاً من قوله { للبشر } أي إنها منذرة للذين إن شاؤا تقدموا ففازوا وإن شاؤا تأخروا فهلكو . واستدلال المعتزلة على أن العبد مختار ظاهر ، والأشاعرة يحملونه على التهديد أو على أن فاعل شاء هو الله سبحانه أي لمن شاء الله منه التقدم أو التأخر . سلمنا أن الفاعل ضمير عائد إلى من لكن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله لقوله { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله } .
ثم أكد المعنى المتقدم بقوله { كل نفس بما كسب رهينة } أي ليس لامرىء إلا جزاء عمله كما مر نظيره في « الطور » قال النحويون : التاء في رهينة ليست للتأنيث لأن « فعيلاً » بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي إسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم . وأقول أيضاً : يحتمل أن تكون التاء للمبالغة { إلا أصحاب اليمين } فإنهم فكوا رقابهم عن الرهب بسبب أعمالهم الحسن كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق . قال الكلبي : هم الذين كانوا على يمين آدم . وقال ابن عباس : هم الملائكة . وعن علي عليه السلام وابن عمر : هم الأطفال . قال الفراء : هذا القول أشبه بالصواب لأن الولدان لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به ، ولأنه تعالى ذكر فيهم أنهم يتساءلون عن حال المجرمين وهذا إنما يليق بالولدان الذين لايعرفون موجب دخول النار والأولون حملوا السؤال على التوبيخ والتخجيل . قال في الكشاف : معنى التساؤل عنهم أنهم يسأل بعضهم بعضاً عن حالهم . أو يتساءلون غيرهم عنهم كقولك « دعوته أنا وتداعيناه نحن » . ثم زعم أن الوجه في قوله { ما سلككم } على الخطاب مع أن سياق الكلام يقتضي الغيبة هو أنه حكاية قول المسؤلين لأن المسؤلين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون قلنا لهم ما سلككم { في سقر } وقال غيره : المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم ، فلما رأوهم قالوا لهم ما سلككم؟ وأقول : ولو فرض التكلم مع المجرمين زال الإشكال أي يتساءلون عن حال المجرمين أي عن حال أنفسهم وليس فيه إلا وضع المظهر مكان الضمير . وهذا التكرار مما جاء في القرآن وغيره من فصيح الكلام شائعاً ذائعاً كقوله { فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا } [ الأعراف : 162 ] « أن يسألوا الحق يعطي الحق سائله » . وإذا جاز ذلك مع التصريح بهما فكيف لم يجز وأحدهما محذوف؟ وهذا من غرائب نظم القرآن وفصاحته غير بعيد ، والمعنى ما أدخلكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن ذلك لأمور أربعة : أحدها ترك الصلاة ، والثاني ترك إطعام المسكين . قال العلماء : يجب أن يحمل هذان على الصلاة والصدقة الواجبتين وإلا لم يجز العذاب على تركهما .

الثالث الشروع في الأباطيل مع أهلها كإيذاء أهل الحق وكل ما لا يعني المسلم . الرابع التكذيب بالبعث والجزاء إلى حين عيان الموت وأمارات ظهور نتائج أعمال المكلف عليه ، وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع الشرائع كما يعذبون بأصولهما كالتكذيب بيوم الدين . وإنما أخر لأنه أعظم الذنوب أي إنهم بعد ذلك كله يكذبون بهذا الأصل كقوله { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] ويجوز أن يكون سبب التأخير أنه آخر الأصول فأوّلها المبدأ وآخرها المعاد . وأيضاً أراد أن يرتب عليه قوله { حتى أتانا اليقين } وهو آخر حالات المكلف فلو قدم لم يحسن معنى ولا لفظاً لوقوع الفصل بين المعطوفات . قال في الكشاف : يحتمل أن كل واحد منهم دخل النار لمجموع هذه الأربع ، أو دخلها بعضهم ببعضها والباقون بسائرها أو بكلها . قلت : إنهم جميعاً مستوون في الدركة والظاهر أنهم دخلوها بمجموع الأمور ، ثم بين غاية خسرانهم بقوله { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } وفيه دليل على أن غيرهم تنفعهم الشفاعة وذلك لغير الفساق عند المعتزلة ، وفائدة الشفاعة زيادة درجاتهم أو العفو عن صغائرهم ، ثم وبخهم بقوله { فمالهم عن التذكرة } أي عن القرآن الذي هو سبب الموعظة { معرضين } حال نحو مالك قائماً { كأنهم حمر مستنفرة } من قرأ بكسر الفاء فمعناه الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها ، وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة ونداء عليهم بالبلادة والغباوة وعدم التأثر من مواعظ القرآن بل صار ما هو سبب لاطمئنان القلوب موجباً لنفرتهم ، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ولا سيما إذا رابها ريب ولهذا وصف الحمر بقوله { فرت من قسورة } وهى إسم جمع للرماة أو إسم جنس للأسد وهو القهر والغلبة ، وقال ابن عباس : هي ركز الناس وأصواتهم . وعن عكرمة : ظلمة الليل . ومن قرأ بفتح الفاء فهي المحمولة على النفار . ورجح بعضهم قراءة الكسر بناء على أن الفرار يناسب النفار . ذكر المفسرون أنهم قالوا لرسول الله : لا نتبعك حتى تأتي لكل واحد منا بكتب من السماء بصحف عنوانها من رب العالمين . إلى فلان ابن فلان نؤمر فيها باتباعك . وروى بعضهم أنهم قالوا : إن كان محمداً صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة وأمنة من النار فأنكر الله تعالى فقال : { بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتي صحفاً منتشرة } أي قراطيس منتشرة تقرأ كسائر الصحف ، أو منتشرة على أيدي الملائكة أنزلت ساعة كتبت قبل أن تطوى . وقيل : كانوا يقولون : بلغنا أن بني إسرائيل كان الرجل منهم يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته فائتنا بمثل ذلك . فعلى هذا المراد بالصحف الكتابات الظاهرة المكشوفة . ثم زجرهم عن اقتراح الآيات فقال { كلا بل لا يخافون الآخرة } فلذلك أعرضوا عن التذكرة . ثم وصف القرآن بأنه موعظة بليغة وتذكر شاف { فمن شاء ذكره } وتذكير الضمير ههنا وفي إنه بتأيول الذكر أوالقرآن . ثم بين السبب الأصلي في عدم التذكرة قائلاً { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } واستدلال الأشعري به ظاهر ، والمعتزلة حملوه على مشيئة القسر والإلجاء . ثم ختم السورة بذكر ما ينبىء عن كمال الهيبة وهو صفة القهر الذي بسببه يجب أن يتقي ، وصفه اللطف الذي به يجب أن يرجى ، والله الموفق للصواب وإليه المصير والمآب .

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

القراآت : روى الهاشمي وابن ربيعة عن قنبل { لأقسم } على أن اللام حرف الابتداء أي لأنا أقسم ولا خلاف في قوله { ولا أقسم بالنفس اللوامة } { برق } بفتح الراء : أبو جعفر ونافع . الآخرون : بكسرها { تحبون } و { تذرون } على الخطاب أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف { ولا صلى } إلى اخر السورة بالإمالة اللطيفة : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . وقرأ حمزة وعلي وخلف بالأمالة الشديدة . { يمنى } علىلتذكير : حفص والمفضل وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ورويس . الباقون : بتاء التأنيث .
الوقوف : { القيامة } ه لا { اللوامة } ه { عظامه } ه ط لاستئناف الجواب أي بلى نجمعها { بنانه } ه { أمامه } ه ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { القيامة } ه ج { البصر } ه لا { القمر } ه ك { المفر } ه ك لأن كلاً يصلح للردع عن الفرار والأجوز { لا وزر } ه ط { المستقر } ه ط { وأخر } ه ط { بصيرة } ه لا { معاذيره } ه لا { لتعجل به } ه ط { وقرآنه } ه ج لاحتمال أن « ثم » لترتيب الأخبار { بيانه } ه ط { العاجلة } ه { الآخرة } ه { ناضرة } ه ج { ناظرة } ه ج للفصل بين أهل السعادة والشقاوة { باسرة } ه { فاقرة } ه ط { التراقي } ه لا { راق } ه ك { الفراق } ه ك { بالساق } ه ك { المساق } ه ك { ولا صلى } ه لا { وتولى } ه ك { يتمطى } ه ط للعدول إلى الخطاب { فأولى } ه لا { سدى } ه ط { يمنى } ه { فسوى } ه ك { والأنثى } ه ط { الموتى } ه .
التفسير : المشهور أن « لا » في { لا أقسم } صلة زائدة كما مر في قوله { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] واعترض عليه بوجوه أحدها : أنه يوجب الطعن في القرآن بحيث أنه لا يبقى الوثوق بنفيه وإثباته قلت : إذا عرف من استعمالات العرب زيادة لا في هذا الفعل المخصوص لم يبق للطاعن مجال على أن الحكم بزيادتها إنما هو بالنظر إلى أصل المعنى وإلا فلها في التركيب معان : الأول كأنها نفي لكلام قبل القسم وذلك أنهم أنكروا البعث كما أخبر الله في آخر السورة المتقدمة فقيل : ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بكذا وكذا إنه لواقع . والثاني أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له فكأنه بإدخال حرف القسم يقول : إن إعظامي له بإقسامي به كلا اعظام إنه يستأهل فوق ذلك . الإعتراض الثاني أن هذا الحرف إنما يزاد في وسط الكلام لا في أوّله وأجيب بالمنع ، ألا ترى أن أمرأ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته :
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدّعي القوم أني أفّر
وفائدة الزيادة كما تقرر . وقد يجاب بأن القرآن كله في حكم كلام واحد متصل بعضه ببعض ولا سيما هذه السورة وآخر السورة المتقدمة عليها ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا تجمع عظامك إذا تفرقت بالموت ، فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنّا قادرون عليه .

وقيل : المعنى على الاستفهام الإنكاري والتقدير : ألا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة على أن الحشر حق . وهذا التأويل يعضده قراءة من قرأ { لأقسم } على أن اللام للابتداء . وقال بعضهم : على هذه القراءة إنه أقسم بالقيامة تعظيماً لها ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيراً لها لأنها إما كافرة بالقيامة مع عظم أمرها ، وإما فاسقة مقصرة في العمل . أما تفسير النفس اللوامة فقد سبق لنا في سورة يوسف في قوله { إن النفس لأمارة بالسوء } [ الآية : 53 ] بيان سبب تسمية النفس تارة بالأمارة وأخرى باللوامة ثم بالملهمة ثم بالمطمئنة . والذي ذكره المفسرون ههنا وجوه منها ما قال ابن عباس : كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة على ترك الازدياد من الطاعة إن كانت محسنة ، أو على التفريط إن كانت مسيئة . وضعف بعضهم هذا النقل بناء على أن أهل الجنة لا يكون لهم مثل هذه الخواطر وإلا لدام حزنهم . وعن الحسن أن هذا اللوم في الدنيا والمؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه وإن الكافر يمضي على سيرته لا يعاتب نفسه . ومنها أنها النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب أنها تركت التقوى . ولا يخفى وجه المناسبة بين القسمين أعني بين القيامة وبين النفس اللوامة على هذه الوجوه . وخص النفس اللوامة بعضهم بآدم عليه السلام وذلك أنه لم يزل يتلوم على فعله الذي خرج به من الجنة . وقيل : أن الإنسان خلق هلوعاً فأي شيء طلبه إذا وجده مله فيلوم نفسه على أني لم طلبت فلكثرة هذا العمل سميت باللوامة . والجمهور على أن جواب القسم محذوف وهو لتبعثن دل عليه قوله { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } وفي الأقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه فإن الأقسام بالمعدوم لا يعقل معناه ، وفي ضم النفس الوامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة وهو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدها . قال جمع من الأصوليين : الإنسان في الآية هو المكذب بالبعث على الإطلاق وقال ابن عباس : هو أبو جهل . وقال آخرون : إن عدي بن ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما : اللهم اكفني جاري السوء . قال : يا محمد حدثنا عن يوم القيامة كيف أمره فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو عانيت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن به ، أو يجمع الله العظام؟ فأنزل الله سبحانه { أيحسب الإنسان } الآية . قوله { قادرين } حال مؤكدة لأنه يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبه عليها بقوله { أن نسوي بناته } لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت ، كان على ضم العظام الكبار أقدر ، وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر لأنه آخر ما يتم به خلقه فذكره يدل على تمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها .

وقيل : معنى التسوية جعلها شيئاً واحداً كخف البعير وحافر الحمار بحيث لا يقدر على البطش ، والمراد أنه قادر على رد العظام والمفاصل إلى هيأتها الأولى وعلى ضد ذلك قوله { بل يريد } إضراب عن قوله والظاهر أنه إيجاب ويجوز أن يكون استفهاماً مقدراً . ومعنى { ليفجر أمامه } ليدوم على فجوره في الأوقات التي بين يديه وهي المستقبلة . وهذا فحوى قول سعيد بن جبير يقدم الذنب ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شر أحواله . قال أهل النظم : وإن إنكاراً البعث يتولد تارة من الشبهة بأن يستبعد اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها ، وأخرى من التهور بأن ينكر المعاد باسترسال الطبع والميل إلى الفجور ، فأشار إلى الجواب عن الشبهة بقوله { أيحسب الإنسان } إلى قوله { بناته } وأنكر على الثني بقوله { بل يريد } أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة { يسئل } سؤال تنعت { أيان يوم القيامة } ثم ذكر من أمارات الساعة أموراً أولها { فإذا برق البصر } أي تحير فزعاً وأصله من برق الرجل بالكسر إذا تأثر ناظره من تأمل البرق ، ثم استعمل في كل حيرة . ومن قرأ بفتح الراء فهو من البريق أي لمع من شدة شخوصه كقوله { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] وثانيها { وخسف القمر } أي ذهب ضوءه كما يشاهد في الدنيا وقت خسوفه أو ذهب بنفسه من قوله { فخسفنا به وبداره الأرض } [ القصص : 81 ] وهذا التفسير عندي لا يلائم ما بعده أن الجمع بينه وبين الشمس بعد انعدامه غير معقول ظاهراً . وثالثها { وجمع الشمس والقمر } قيل : أي في اطلاعهما من المغرب . وقيل : في ذهاب الضوء . وقيل : يجتمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران كما جاء في الحديث ، ولعل ذلك لأنهما عبدا من دون الله ، و الثور مثل في الذل والبلادة فإذا كان عقيراً أي جريحاً كان أبلغ في ذلك . وقيل : يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى . طعن الملاحدة في الآية بأن خسوف القمر لا يحصل باجتماع الشمس والقمر . وأجيب بأنه تعالى قادر على خسف القمر في غير حالة المقابلة وحيلولة الأرض . والأولى عندي أن يجاب بأن اجتماعهما بمعنى آخر غير ما هو المعهود بين أهل التنجيم كما مر من الأقوال . ولئن سلمنا أن المراد هو الإجتماع المعهود فالقمر حينئذ في المحق وهو خسفه ، أو لعل القمر خسف في وسط الشهر والاجتماع يكون في آخره فإن اتحاد الزمان في هذه الأمور غير مذكور .

ومنهم من جعل هذه الأمور من علامات الموت ، أما شخوص البصر تحيره حين الموت فظاهر ، وأما خسوف القمر فمعناه ذهاب ضوء البصر بعد الحيرة : يقال : عين خاسفة إذا فقئت فغارت حدقتها في الرأس . وأما جمع الشمس والقمر فكناية عن اتصال الروح بعالم الآخرة ، فالروح كالقمر وعالم الآخرة وهو عالم الأنوار والكشوف كالشمس وكما أن القمر يقبل النور من الشمس فالروح تقبل نور المعارف من ذلك العالم وهذا التفسير بالتأويل أشبه . قال الفراء : إنما قال { جمع } ولم يقل « جمعت » مع أن التأنيث أحسن لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور . وقال الكسائي : المعنى جمع النوران والضياآن . وقال أبو عبيدة : القمر شارك الشمس في الجمع فغلب جانب التذكير { يقول الإنسان } المنكر للقيامة { أين المفر } والاستفهام على أصله وهو إقرار منه بأنه لا مفر كما إذا أيس من وجدان زيد فيقول : أين زيد { كلا } ردع عن طلب مكان الفرار وهذا أصح عند أهل اللغة . قال الأخفش والزجاج : المصدر من يفعل بكسر العين مفتوح العين ، وبالكسر المكان . وجوز بعضهم أن يكون المفتوح موضعاً . وأصل الوزر المحل المنيع ثم استعمل لكل ما التجأت إليه وتحصنت به ، والمعنى أنه لا شيء يعتصم به وقتئذ من أمر الله إلا الله فلذلك قال { إلى ربك } خاصة دون غيره { يومئذ المستقر } أي إستقرار العباد ولا بد من تقدير مضاف أي إلى حكم ربك أو إلى جنته أو ناره . { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم } من عمل { وأخر } فلم يعلمه ، أو بما قدم من ماله وتصدق به وما أخر فخلف أو بما قدم من عمل الخير والشر وما أخر من سنة حسنة أو سيئة . وعن مجاهد بأول عمله وآخره أي بجميع أعماله . والأظهر أن هذا الإنباء إنما هو في يوم القيامة . وجوز أن يكون عند الموت حين رأى مقعده من الجنة والنار . ثم بين أن الإنسان لأعماله بصير وإن لم ينبأ فقال { بل الإنسان على نفسه بصيرة } أي حجة بينة . وقال أبو عبيدة : التاء للمبالغة كعلامة . قال الأخفش : جعله في نفسه بصيرة كما يقال « فلان جود وكرم » وذلك أنه يعلم بالضرورة متى رجع إلى عقله أن طاعة خالقه واجبة وعصيانه منكر فهو حجة على نفسه بعقله السليم . قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل : إن المراد شهادة جوارحه عليه . قوله { ولو ألقى معاذيره } تأكيد أي ولو جاء بكل معذرة يحاج بها عن نفسه فإنها لا تنفعه لأنه لا يخفى شيئاً من أفعاله فإن نفسه وأعضاءه تشهد عليه . وقال الواحدي والزمخشري : المعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير للمنكر ، ولو كان جمعاً لقيل معاذر بغير ياء . وعن الضحاك والسدي أن المعاذير جمع معذار وهو الستر ، والمعنى إنه إن أسبل الستور لن يخفى شيء من عمله قال جار الله : إن صح هذا النقل فالسبب في التسمية أن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب .

فمدار التركيب على الحجب والمنع ومنه العذران قال الإمام فخر الدين الرازي : زعم قوم من قدماء الشيعة أن هذا القرآن مغير بالزيادة والنقصان ، ومن جملة إستدلالاتهم أنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين قوله عقيبها { لا تحرك به } أي بالقرآن الذي نتلوه عليك { لسانك لتعجل به } أي بأخذه . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشتد عليه حفظ التنزيل فكان إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبرائيل مخافة النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك ، نظيره ما مر في « طه » { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } [ الآية : 114 ] وهذا من قبيل ترك الأولى ، أو لعل هذا كان مأذوناً فيه أولاً ثم ورد النهي ناسخاً له { أن علينا } بحكم الوعد أو بالنظر إلى الحكمة { جمعه } في صدرك { وقرآنه } سيعيده عليك جبرائيل أو توقيفك لدراسته وحفظ لقوله { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] فالقارىء على الأول جبرائيل ، وعلى الثاني محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : أراد بالجمع ترتيبه على ما هو عليه في الخارج وبالقرآن جمعه في ذهنه ، والتركيب يدل على الضم ومنه القرء { فإذا قرأناه } بقراء جبرائيل { فاتبع قرآنه } قال قتادة : أي حلاله وحرامه وضعف بأن هذا ليس موضع الأمر باتباع الحلال والحرام بل المراد أنه لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراءة جبرائيل عليه السلام لكن يجب أن تسكت حتى يتم جبرائيل القراءة ثم تأخذ أنت في القراءة . قال ابن عباس : فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا نزل عليه جبرائيل أطرق واستمع فإذا ذهب قرأ . ثم إنه صلى الله عليه وسلم كما كان حريصاً على القراءة حتى لا ينسى لفظه كان حريصاً على فهم المعنى ، وكان يسأل جبرائيل في أثناء الوحي عن المعاني المشكلة فنهي عن هذا أيضاً بوعد البيان وهو قوله { إن علينا بيانه } قال بعضهم : وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز . إذا عرفت تفسير الآية فاعلم أن العلماء استنبطوا للنظم وجوهاً منها : أن هذا الإستعجال لعله اتفق النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآيات فلا جرم نهي عن ذلك في الوقت كما أن المدرس إذا كان يلقي على تلميذه شيئاً من العلم وأخذ التلميذ يلتفت يميناً وشمالاً فيقول المدرس في أثناء درسه : لا تلتفت يميناً وشمالاً ، ثم يعود إلى الدرس مع هذا الكلام في أثنائه اشتبه وجه المناسب على من لم يعرف الواقعة . ومنها أنه علت كلمته أخبر عن الإنسان أنه يحب السعادة العاجلة فيفجر لذلك أمامه ، فبين بين ذلك أن التعجل مذموم مطلقاً ولو في أمور الدين فقال { لا تحرك به لسانك } ورتب على ذم الإستعجال قوله { كلا بل تحبون العاجلة } ومنها أنه لما قال { ولو ألقى معاذيره } وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر التعجيل في القراءة خوف النسيان قيل له : إنك وإن أتيت بهذه المعذرة لكنك يجب أن تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد على هدايتنا ، ولا تستعن في طلب الحفظ بالتكرار ، وفيه أن الكافر كان يفر من الله إلى غيره حين قال { أين المفر } فعلى المؤمن أن يضاده ويفر من غير الله إلى الله ولا يستعين في كل أموره إلا به .

ومنها أنه تعالى كأنه قال : يا محمد إن غرضك من هذا هو التبليغ لكنه لا حاجة إليه فإن الإنسان على نفسه بصيرة يعرف قبح الكفر مهما رجع إلى نفسه . وقال القفال : يجوز أن يكون المخاطب بهذا هو الإنسان المذكور في قوله { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } كأنه حين عرض كتابه يقال له { إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] فإذا أخذ في القراءة ينبأ بقبح أعماله فيتلجلج لسانه من الفزع ويسرع له القراءة فيقال له { لا تحرك به لسانك لتعجل به } فإنه يجب علينا بحكم الوعد والحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك ، فإذا قرأناه عليك فاتبع فرآنه بالاعتراف والإقرار ، ثم أن علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته . قوله سبحانه . { كلا بل تحبون } قال بعضهم : هو بمعنى حقاً . وقال جار الله : هو ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وحيث له على الأناة والتؤدة وقد بالغ في ذلك باتباعه قوله { بل تحبون العاجلة } كأنه قيل : بل أنتم يا بني آدم خلقتم من عجل تعجلون في كل شيء ، ومن ثم تحبون الدنيا وتتركون الأخرى . ثم وصف اليوم الآخر بقوله { وجوه يومئذ ناضرة } ذات نضارة وبهاء . والوجه عبارة عن الجملة قاله في الكشاف : والأولى عندي تقليلاً للمجاز أن راد بالوجوه العيون فيكون من إطلاق الكل على الجزء لا عكسه { إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة } شديدة العبوس { تظن أن يفعل بها فاقرة } فعل هو في شدته وفظاعته فاقرة أي داهية تقصم فقار الظهر كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير . قال الأصمعي : الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو يقرب منه ثم يجعل فيه خشبة يجر بها البعير ، ومنه قيل : عملت به الفاقرة . وقال الكلبي : هي أن تحجب عن رؤية ربها فلا تنظر إليه . وأعلم أن أهل السنة استدلوا بالآية على إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة بل على وجوبها بحكم الوعد وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعنى الرؤية فهو المطلوب ، وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي فهذا في حقه تعالى محال لأنه منزه عن الجهة والمكان فوجب حمله على مسببه وهو الرؤية وهذا مجاز مشهور وأما المعتزلة فزعموا أن النظر المقرون ب « إلى » إنما يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً للرؤية فقد تحصل الرؤية وقد لا تحصل كما قال سبحانه { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } ويقال : دور فلان متناظرة أي متقابلة ولا ريب أن تقليب الحدقة نحو الشيء يستدعي جهة لذلك الشيء وهذا في حق الله تعالى محال فوجب حمل النظر على الانتظار أي منتظرة ثواب ربها كقولك : أنا ناظر إلى فلان ما يصنع فيّ .

والانتظار إذا كان في شيء متيقن الوقوع لا يوجب الغم والحزن بل يزيد اللذة والفرح . واعترض بأن النظر إذا كان بمعنى الانتظار لا يعدّى ب « إلى » كقوله { أنظرونا نقتبس من نوركم } [ الحديد : 13 ] { وهل ينظرون إلى تأويله } [ الأعراف : 53 ] وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كان منتظراً للشخص ، أما إذا كان منتظراً لرفده ومعونته فإنه يستعمل مقروناً بإلى كقول الرجل : إنما نظري إلى الله ثم إليك . وقد يقول الأعمى : عيني ناظرة إليك . سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون « إلى » واحد الآلاء أي نعمة ربها منتظرة ، وتقديم المفعول لأجل الفاصلة أو للاختصاص أي لا ينتظرون إلا إلى نعمة الله ورحمته ، قال في الكشاف : وهذا المعنى أعني إفادة الاختصاص أحد الدلائل الدالة ، على أن النظر ههنا ليس بمعنى تقليب الحدقة ولا بمعنى الرؤية لأنهم ينظرون إلى أشياء ويرون أشياء لا تدخل تحت الحصر فلا بد من حمل النظر على معنى يصح معه الإختصاص وهو التوقع والرجاء . وحين وصف القيامة الكبرى أتبعه نعت القيامة الصغرى فروّعهم عن إيثار العاجلة على الآجلة . وذكرهم حالة الموت التي هي أول منزلة من منازل الآخرة . والضمير في { بلغت } للنفس لدلالة قرينة الحال والمقال كما في قوله { فلولا إذا بلغت الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] والتراقي العظام المكتنفة ثغرة النحر من الجانبين واحدها ترقوة ، والمراد زهوق الروح لأن متعلق النفس هو الروح الحيواني الذي منبعه القلب فإذا فارق المنبع لم يبق من آثاره في حواليه إلا قليل كما لو غارت العين لم يبق في نواحيها إلا أثر قليل من النداوة فيزول عن قرب . قوله { وقيل من راق } إن كان من الرقية يقال رقاه يرقيه إذا عوذه بما يشفيه ومنه « بسم الله أرقيك من كل يؤذيك » فالقائل هم بعض أصحاب الميت وأقاربه ، والاستفهام إما على أصله لأن العادة جارية على طلب الطبيب والراقي في وقت ما يشتد المرض ، وإما بمعنى الإنكار أي من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت ، وإن كان اشتقاقه من الرقي الصعود ومنه المرقاة قال الله تعالى

{ ولن نؤمن لرقيك } [ الإسراء : 93 ] فالقائل بعض الملائكة يعني أيكم يرقي بروح هذا المحتضر ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب . وعنابن عباس : إن الملائكة يكرهون القرب من الكافرين فيقول ملك الموت : من يرقى بروح هذا الكافر؟ وقال الكلبي : يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة العذاب مع ملك الموت فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يعرج بروحه إلى السماء { وظن } المحتضر أي تيقن { أنه } وقت { الفراق } عن الدنيا وأوان الفطام عن مألفواتها . وفي التعبير عن اليقين ههنا بالظن تهكم بالميت وإشارة إلى أن الإنسان لتهالكه على الدنيا وحرصه على الحياة العاجلة لا يكاد يقطع بحلول الأجل وإن لم يبق منه إلا حشاشة يسيرة ، غايته أنه يغلب على ظنه الموت مع رجاء الحياة العاجلة لا يكاد يقطع بالموت . واستدل بهذه الآية على أن النفس باقٍ بعد خراب البدن لأن الله سمى الموت فراقاً والفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف . { والتفت الساق بالساق } فيه وجهان أحدهما : أنه كناية عن الشدّة كما مر في قوله { يوم يكشف عن ساق } [ القلم : 42 ] أي اتصلت شدة فراق الدنيا وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك بشدّة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها . الثاني أن الساق هي العضو المخصوص . قال الشعبي : أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى؟ قال الحسن وسعيد بن المسيب : هما ساقاه التفتا في أكفانه . وقيل : التفاف ساقيه وهو أنه إذا مات يبست ساقاه ولصقت إحدهما بالأخرى .
وقريب منه قول قتادة ماتت رجلاه فلا يحملانه وقد كان عليهما جوالاً { إلى ربك } أي حكمة خاصة { يومئذ المساق } أي السوق . وقيل : أراد أن سوقه وقتئذ يفوض إلى الله دون غيره ، والفرق أن الرب أي حكمه في الأول هو المسوق إليه وهو في الثاني سائق يسوقه إلى الجنة أو إلى النار . قوله { فلا صدّق ولا صلى } الضمير فيه عائد إلى الإنسان المذكور في قوله { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } وقد سبق أن تعينه صنفيّ أو شخصي أخبر الله سبحانه عن اختلال حال أعماله فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه قائلاً { فلا صدق } أي فلا صدّق بالرسول أو بالقرآن أو بالبعث { ولا صلى } { ولكن كذب } بالحق { وتولى } عن الطاعة { ثم ذهب إلى أهله يتمطى } متبختراً مفتخراً بذلك وأصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه ، قلبت الطاء الأخيرة ياء كما في « تقضى البازي » . ويحتمل أن يكون من مطا الظهر لأن المتبختر يلوي ظهره . قال أهل العربية « لا » ههنا بمعنى « لم » وقلما تقع لا الداخلة على الماضي إلا مكررة ومنه الحديث « لا أكل ولا شرب ولا استهل »

أما قوله عز من قائل { فلا أقتحم العقبة } [ البلد : 11 ] فسيجيء قال قتادة والكلبي ومقاتل : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل ثم قال له { أولى لك فأولى } يوعده ويدعو عليه بالهلاك والبعد عن الخير والقرب من المكاره ، وقد مر في قوله { فأولى لهم } [ محمد : 20 ] وذلك في سورة القتال . فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا بك أن تفعلا فيّ شيئاً وأني لأعز أهل هذا الوادي ثم سل يده ذاهباً فأنزل الله كما قال الرسول . قال القفال : هذا محتمل ، ويحتمل أن يكون أيضاً وعيداً مبتدأ من الله للكافر على طريقة الإلتفات . ويحتمل أن يكون أمراً من الله لنبيه بأن يقوله لعدو الله فيكون القول مقدراً أي فقلنا لك يا محمد قل له هذا . ثم قال دليلين على صحة الخبر الأول { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } أي هملاً لا يكلف ولا يحاسب بعمله وهذا خلاف الحكمة نظيره { أفحسبتم أنما خلقنا كم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] الثاني الاستدلال بالخلق الأول على الإعادة و { منيّ يمنى } يراق في الرحم . من ذكّر فللمني ، ومن أنّث فللنطفة . والنطفة اسم لما ينطف كالقبضة لما يقبض والغرفة لما يغرف إلا أنها غلبت على الماء المخصوص الذي هو للحيوان بمنزلة البذر للنبات . والمني « فعيل » بمعنى « مفعول » من المني بالسكون وهو الدفق غلب أيضاً على الماء المخصوص فقوله { من مني } أي من هذا الجنس كالتأكيد لها . وقوله { يمني } تأكيد على تأكيد وفيه إشارة إلى حقارة الإنسان في ذاته وأنه لا يليق به التمطي والفخر والإستكبار عن طاعة خالقه فإنه مخلوق من المني الذي جرى على مجرى النجاسة نظيره في عيسى وأمه { كانا يأكلان الطعام } [ المائدة : 75 ] والمراد به قضاء الحاجة . قوله { فخلق فسوى } أي قدّر فعدّل أركانه . وقيل : خلق فيه الروح فصير أعضاءه متناسبة { فجعل منه } أي من الإنسان { الزوجين } الصنفين { الذكر والأنثى } عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اكن إذا قرأ خاتمة السورة قال عقيبها : سبحانك بلى . والله الموفق وإليه المصير والمآب .

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

القراآت { سلاسلاً } بالتنوين والوقف بالألف : أبو جعفر ونافع وعلي وأبو بكر وحماد وهشام { سلاسل } في الحالين : ابن كثير وحمزة وخلف وسهل ويعقوب يصلون بغير ألف ويقفون بالألف { قوارير قوارير } غير مصروفين في الحالين : حمزة ويعقوب كلاهما بالتنوين والوقف بالألف والثاني بغير الألف في الحالين . الباقون كلاهما بغير تنوين والوقف على الأول بالألف . { لؤلؤاً } بالواو في الأول : شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد . الآخرون : بهمزتين . { عاليهم } بسكون الياء وكسر الهاء : أبو جعفر ونافع وحمزة والمفضل الباقون : بفتح الياء وضم الهاء { خضر واستبرق } بالرفع فيهما { وإستبرق } بالخفص : ابن كثير والمفضل وأبو بكر وحماد . الآخرون : بالخفض فيهما { وما يشاؤن } على الغيبة : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو .
الوقوف : { مذكوراً } ه { أمشاج } لا قد قيل يوقف عليه لئلا يوهم أن { نبتليه } صفة له لأنه حال من { خلقنا } أي خلقناه مريدين ابتلاءه والوهم المذكور زائل لأن ضمير المفعول في { نبتليه } واحد والأمشاخ جمع . { بصيراً } ه { كفوراً } ه { سعيراً } ه { كافوراً } ه ج لاحتمال أن يكون { عيناً } بدلاً { تفجيراً } ه { مستطيراً } ه { شكوراً } ه { قمطريراً } ه { سروراً } ه ج { على الأرائك } ط لاحتمال ما بعده الحال والإستئناف { زمهريراً } ه ج لما يعرف في التفسير { تذليلاً } ه { كانت قوارير } ه لا وقيل : بوقف عليه وليس به لأن الثانية بدل من الأولى { تقديراً } ه { زنجبيلاً } ه ج لما مر في { كافوراً } { سلسبيلاً } ه ج { مخلدون } ه بناء على أن { حسبتهم } صفة الولدان والظرف عارض { منثوراً } ه { كبيراً } ه { واستبرق } ك لاختلاف الجملتين مع أن وجه الحال في الواو واضح أي وقد حلوا { فضة } ج لأن الواو ويحتمل الحال والإستئناف وهذا أولى لإفراد هذه النعمة العظيمة عن سائر النعم { طهوراً } ه ط { مشكوراً } ه { تنزيلاً } ه ج للآية مع الفاء { أو كفوراً } ه { أصيلاً } ه ج لما ذكرنا { طويلاً } ه { ثقيلاً } ه { أسرهم } ج { تبديلاً } ه { تذكرة } ج { سبيلاً } ه { أن يشاء الله } ط { حكيماً } ه والوصل أوجه بناء على أن الجملة صفة { في رحمته } ط { أليماً } ه .
التفسير : اتفقوا على أن « هل » ههنا وفي « الغاشية » بمعنى « قد » وهذا ما ذهب إليه سيبويه قال : وإنما تفيد معنى الاستفهام حيث تفيده لتقدير الهمزة ، وإنما حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة ، وإنما حذفت الهمزة لكثرة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة ، جواز إظهارها مع « هل » كقوله :
سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم؟
ويربوع أبو حي من تميم ، ومعنى الآية أقد أتى . فالإستفهام يفيد التقرير وقد تفيد التقريب فيكون حاصله أنه { أتى على الإنسان } قبل زمان قريب { حين من الدهر } وهو طائفة من الزمان غير محدود .

وعن ابن عباس وابن مسعود أن الإنسان ههنا آدم والحين محدود وذلك أنه مكث أربعين سنة طيناً إلى أن نفخ فيه الروح فصار شيئاً مذكوراً بعد أن كان كالمنسي وفي رواية عنه قال : أقام من طين أربعين سنة ، ومن صلصال أربعين . ثم من حمأ مسنون أربعين ، ثم خلقه بعد مائة وعشرين وإطلاق الإنسان عليه قبل نفخ الروح فيه من باب إطلاق الخمر على العصير . ويجوز أن يراد قد أتى على هذا الذي هو الآن إنسان بالفعل زمان لم يكن هو فيه إنساناً إلا بالقوّة وهذا صادق على آدم كما قلنا ، وعلى بنيه أيضاً عند الأكثرين . ولعل هذه الآية كالتقدمة والتوطئة للتي تعقبها ، وكالتأكيد لخاتمة السورة المتقدمة . وقوله { لم يكن } محله رفع على أنه نعت { حين } أو نصب على الحال من الإنسان لأنه في تقدير المفعول ويروى أن الصديق لما سمع هذه الآية قال : أيتها تمت أي ليت تلك الحالة تمت وهي كونه غير مذكور لم يخلق ولم يكلف . وقيل : الإنسان آدم كما ذكرنا ولكن الحين هو الستة الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم فرغ لخلق آدم في عصر يوم الجمعة . وقيل : الإنسان عام والحين مدة فترة الرسل وقيل : الحين مدة لبثه في بطن أمه . قال ابن الأعرابي وطائفة من أهل اللغة : الأمشاج جمع مشيج وأمشاج فوصف المفرد بها جميعاً نحو برمة أعشار للقدر المتكسرة قطعاً ، وثوب أكياش للذي فتل غزله مرتين . يقال عليك بالثوب الأكياش فإنه من لباس الأكياس . والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماآن ماء الرجل . وهو أبيض غليظ - وماء المرأة - وهو أصفر رقيق - والأول يخرج من الصلب ، والثاني يخرج من الترائب ، فما كان من عصب وعظم فيمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة . عن ابن مسعود : هي عروق النطفة . وقال الحسن : أي مزجت بدم الحيض الذي فيه غذاء الجنين ، وعن قتادة : هي أطوارها نطفة ثم علقة ثم مضغة وذهب إلى أنها العناصر وبالجملة فإنها عبارة عن انتقال النطفة من حال إلى حال ولهذا فسر الإبتلاء بعضهم بهذا الإنتقال ومنه قول ابن عباس { نبتليه } أي نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة . والأظهر أن حاصل المعنى خلقناه من أمشاج لا للعبث بل للإبتلاء والإمتحان . ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر اللذان هما أشرف الحواس ولهذا خصا بالذكر . وفيه إشارة إلى أن الحواس السليمة أسباب كلية لتحصيل الكمالات النفسية فمن فقد حساً فقد علماً . وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، ونبتليه معناه لنبتليه كقولك لرجل : جئتك أقضي حقك أي لأقضي حقك . والمعنى جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه .

ثم أخبر أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة أوضح له بواسطة أن آتاه العقل السليم سبيل الهدى والضلالة . فقوله { شاكر أو كفوراً } حالان من مفعول { هدينا } أي مكناه وأقدرناه في هاتين الحالتين وقيل : تقديره هديناه السبيل فيكون إما شاكراً أو كفوراً . وفيه جهة الوعيد أي فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا . وجوز أهل العربية أن يكونا حالين من السبيل على الإسناد المجازي لأن وصف السبيل بالشكر والكفر مجاز ، وهذه الأقاويل تناسب أصول المعتزلة . أما الذي اختاره الفراء وهو مطابق لمذهب أهل السنة أن تكون « إما » في هذه الآية كما في قوله { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } [ التوبة : 106 ] والمعنى هديناه السبيل ثم جعلناه تارة شاكراً تارة كفوراً . والمراد بالشكراً لإقرار بالله وبالكفر إنكاره حتى لا يكون بين الفريقين واسطة . ويجز أن يريد بالشاكر المطيع وبأهل الكفر كل من سواه كان كفرانه مطلقاً وهو الكافر بالله ، أو ببعض المعاصي وهو الفاسق . قوله { سلاسل } من قرأه بالتنوين فإنه صرفه لمناسبة . قال الأخفش : سمعنا من العرب صرف جميع مالا يصرف وهذه لغة الشعراء اضطروا إليه في اشعر فجرت ألسنتهم بذلك في النثر أيضاً . وقيل : إنه مختص بهذه الجموع لأنها أشبهت الآحاد لهذا جاز « صواحبات يوسف » . وجوز في الكشاف أن يكون هذا التنوين بدلاً من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف ، ومثله { قوارير } فيمن قرأ بالتنوين ، والاعتاد الإعداد ، والسلاسل للأرجل والأغلال للأيدي والأبرار جمع برّ وبار . عن الحسن : هم الذين لا يؤذون الذّر { من كأس } أي إناء فيه الشراب . وقال ابن عباس ومقاتل : هو الخمر بعينها ، والمزاج ما يمزج به ، والكافور إسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعم الكافور ولا مضرته ، والمضاف محذوف ماء كافور . والحاصل أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذا العين قيل : « كان » زائدة والأظهر أنها مفيدة ولكناه مسلوبة الدلالة على المضي كقوله { وكان الله عليماً حكيماً } [ النساء : 17 ] عن قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك . وقيل : يخلق فيه رائحة الكافور وبياضه وبرده فكأنها مزجت بالكافور . قال جار الله : فقوله { عيناً } على هذين القولين بدل من محل { كأس } على تقدير حذف مضاف كأنه قال : يشربون خمراً خمر عين ، أو نصب على الإختصاص . ولا خلاف بين العلماء أن عباد الله في الآية مختص بالمؤمنين الأبرار فغلب على ظنهم أن العباد المضاف إلى اسم الله سبحانه مخصوص في إصطلاح القرآن بالأخيار ، وعلى هذا يسقط إستدلال المعتزلة بقوله { ولا يرضى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] كما مر في أول الزمر . وإنما قال أولاً { يشربون من كأس } وآخراً { يشرب بها } لأن الكأس هي مبدأ شربهم وأما العين فإنما يمزجون بها شرابهم فالباء بمعنى « مع » مثل « شربت الماء بالعسل » { يفجرونها } يجرونها حيث شاؤا من منازلهم { تفجيراً } سهلاً « قال مؤلف الكتاب » : لا يبعد أن يكون الخمر عبارة عن العلوم اللدنية الحاصلة بالذوق والمكاشفة .

والكافور عبارة عن المعارف الحاصلة بواسطة البدنية ، ومزاجها تركيبها على الوجه الموصل إلى تحصيل لذات وكمالات أخر ، وتفجرها إشارة إلى اتصالها إلى أهلها من النفوس المستعدة لذلك . قال أهل النظم : حين وصف سعادة الأبرار كان لسائل أن يسأل : ما لهم يرزقون ذلك؟ فأجاب بقوله { يوفون بالنذر } وفيه أن الذي وفى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى . ذكر الواحدي في البسيط والزمخشري في الكشاف وكذا الإمامية أطبقوا على أن السورة نزلت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما في هذه الآي . يروى عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضاً فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه فقال : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن أبرأهما الله يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهما شيء ، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة منها صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم يا أهل محمد ، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً . فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه . ووقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك . فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم . وقام وانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد لصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائيل وقال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة . ويروى أن السائل في اللياللي جبرائيل أراد بذلك ابتلاءهم بإذن الله سبحانه . ووصفهم الله سبحانه بالخوف من أهوال القيامة في موضعين أولاً في قوله { ويخافون يوماً كان شره مستطيراً } أي مكروهه مستطيراً فاشياً منتشراً من استطار الحريق ، ومنه الفجر المستطير وأصله منطار . والغرض أنه تسع مكاره ذلك اليوم جميع المكلفين حتى الأنبياء يقولون : نفيس إلا نبينا محمد فإنه يقول « أمتي أمتي » والسموات يتفطرن والكواكب ينتثرن إلى غير ذلك من المكاره والأهوال . ولا ينافي هذا أمن المسلمين في الآخرة على قال { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] وثانياً في قوله { إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً } وإذا كان حال أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو حال الأبرار على العموم في الخوف من الله إلى هذه الغاية فغيرهم أولى بالخوف .

وأما الضمير في { حبه } فللطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه كقوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] وقال الفضيل بن عياض : أي على حب الله عز وجل نظير الآية قوله { وآتى المال على حبه } [ البقرة : 177 ] وعنى المسكين واليتيم قد عرف مراراً ، وأما الأسير فعن سعيد بن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل القبلة . وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك والمسجون . وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغريم أسيراً فقال « غريمك أسيرك فأحسن أسيرك » وقد سمى الزوجة أسيراً فقال « اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم » أي أسراء . عن الحس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول : أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه . وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات . والإحسان إليهم في الحال إلى أن يرى الإمام فيهم ما يرى من قتل أو من أو فداء أو إسترقاق ، لا ينافي احتمال حكم الإمام عليهم بالقتل في المآل لأن سد خلتهم بالإطعام واجب على الفور وذلك يحتمل التراخي كما في حق من يلزمه القصاص ولم يكن له مال . ثم هذا الإطعام يجب أولاً على الإمام فإن لم يفعله وجب على المسلمين . قال قتادة : كان أسيرهم يومئذ المشرك فأخوك المسلم أحق أن تطعمه . ثم الإطعام ليس بواجب على التعيين ولكن الواجب مواساتهم بأي وجه كان . وإنما عبر عن ذلك بالإطعام لأن سبب النزول كان كذلك ، ولأن المقصود الأعظم من أنواع الإحسان الطعام الذي به قوام البدن . يقال : أكل فلان مال فلان إذا أتلفه بأي وجه كان ، وإن لم يكن بالأكل نفسه . قوله { إنما نطعمكم لوجه الله } لرضاه خاصة . ولا بد من إضمار القول . ثم إن هذا القول يجوز أن يكون منهم باللسان منعاً للسائل عن المجازاة بمثله ، أو بالشكر ليقع إطعامهم خالصاً لله . ويجوز أن يكون بنطق الحال . قال مجاهد : إما إنهم ما تكلموا بذلك ولكن الله علم ذلك منهم فكشف عن نيتهم وأثنى عليهم . وفيه تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كل عامل من إخلاص عمله لله . عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى هل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً . والشكور مصدر كالكفور ولو فتحت أولهما عاد المعنى مبالغة في شاكر وكافر . قوله { إنا نخاف } ظاهرة أنه تعليل للإطعام ويجوز أن يكون تعليلاً لعدم إرادة المجازاة .

ووصف اليوم بالعبوس مجاز وذلك بطريقين أحدهما : أن يشبه في ضرره وشدته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل . والثاني أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء . يروى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران . والقمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله بلاء وأصله الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه . والتركيب يدل على الجمع ومنه القمطر خريطة يجمع فيه الكتب ، واقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها قاله الزجاج : فأصله من القطر وجعل الميم زائدة والظاهر أنها أصلية . وحين أخبر عن أعمال الأبرار وإخلاصهم ذكر ما سيجزيهم على ذلك وأكد تحقيق الوعد بأن عبر عنه بصيغة الماض قائلاً { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } أي مكروهه فإن كل ما يشق على النفس وتكرهه فهو شر بالإضافة إليها ، وإن كان خيراً في نفس الأمر مشتملاً على الحكم والفوائد كالقصاص وسائر الحدود { ولقاهم } أعطاهم { نضرة } في الوجوه { سروراً } في القلوب بدل عبوس الكفرة وحزنهم { وجزاهم بما صبروا } على التكاليف أو الإيثار المؤدي إلى إفناء المال المستتبع للجزع { جنة وحريراً } أي بستاناً فيه مأكل هنيّ ولباساً له منظر بهيّ قال الأخفش والزجاج { متكئين } نصب على الحال من مفعول { جزاهم } وقيل : على المدح . وقيل : حال من الجنة . وضعف لأنه يستدعي إبراز الضمير بأن يقال : متكئين فيها هم . والزمهرير شدة البرد . والأظهر أن الميم والهاء أصليتان لعدم النظير لو جعل أحدهما زائداً ، والمعنى أن هواءها معتدل . وفي الحديث « هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر » وعن ثعلب أن الزمهرير هو القمر بلغة طير واشتقاقه من الزهر ، والمراد أن الجنة لضيائها لا تحتاج إلى شمس ولا قمر . قوله { ودانية } ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج أنه معطوف على { متكئين } كما تقول في الدار عبد الله متكئاً ومرسلة عليه الحجال ، وإن جعلنا قوله { لا يرون } حالاً صارت الأحوال ثلاثاً والتقدير . وجزاهم متكئين فيها على الأرائك غير رائين فهيا هواء مؤذياً ودانية عليهم الظلال . ودخلت الواو في الثالثة للدلالة على الإجتماع كأنه قيل : وجزاهم جنة متكئين فيها على الأرائك جامعين فيها بين البعد عن الحر والرد وبين الدنو من الظلال . ويجوز أن يكون { دانية } معطوفاً على { جنة } لأنهم وصفوا بالخوف . وقد قال سبحانه { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] والتقدير : وجزاهم جنة أخرى دانية عليهم ظلالها . وقوله { لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } من باب « علفتها تبناً وماء بارداً » وذلك لأن الزمهرير لا يرى أي ولا ينالون زمهريراً وإن أريد بالشمس نكاية شعاعها وحرها فمعنى لا يرون لا ينالون ، ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح في الدنيا وهو الضوء النوراني فإنه لا شمس هناك ، فمعنى دنو الظلال أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة وقد أكد هذا المعنى بقوله { وذللت قطوفها تذليلاً } أي لا تمتنع على قطافها كيف شاؤا .

وقال ابن قتيبة : ذللت أي أدنيت من قولهم « حائط ذليل » إذا كان قصيراً قال البراء ابن عازب : من أكل قائماً لم يؤذه ، ومن أكل جالساً ومضجعاً أمكنه . وحين وصف طعامكم ولباسهم ومسكنهم واعتدال هوائه وكيفية جلوسهم فيه أخبر عن شرابهم وقد ذكر الأواني . ومعنى { قوارير من فضة } أن جنس الآنية من الفضة إلا أن تلك الفضة في صفاء القوارير وشفافتها حتى يرى باطنها من ظاهرها ، وإذا كانت قوارير الدنيا وأصلها من الحجر في غاية الصفاء والرقة بحيث تحكي ما في جوفها فما ظنك بقوارير الجنة وأصلها من الفضة؟ ومعنى كانت كما مر في قوله { كان مزاجها كافوراً } وقال في الكشاف : هو من قوله { كن فيكون } [ يس : 82 ] أي تكونت قوارير بتكوين الله والمراد تفخيم تلك الخلقة العجيبة الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين . والضمير في { قدروها } إما لأهل الجنّة أي إنهاه جاءت كما قدروا في أنفسهم حسب شهوتهم وحاجتهم ، وإما للطائفين أي قدروا شرابها على مقدار ري كل أحد من غير زيادة ونقصان . وقريب منه قول مجاهد : لا تنقص ولا تفيض . وقال الربيع بن أنس : إن تلك الأواني تكون مقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها . قوله { ويسقون فيها كأساً } أي في الجنة إناء مملوأ من الخمر ، ويجوز أن يكون الضمير للأواني ، والكأس الخمر نفسها والعرب تحت طعم الزنجبيل في المشروب وتستلذه ولذلك وصف الله مشروبهم في الآخرة بذلك . قال ابن عباس : وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم . أما السلسبيل فقد قال ابن الأعرابي : لم أسمعه إلا في القرآن . وقال الأكثرون اشتقاقه من السلاسة . يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ فكأن الباء واللام زيدتا للمبالغة حتى صارت الكلمة خماسية . ويرد عليه أن الباء ليست من حروف الزيادة . قال الزجاج : السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة . والفائدة في تسميتها بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته ولكن ليس فيها اللذاع الذي هو مناف للسلاسلة . وقد نسب إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه سل سبيلاً إليها . ووجه أن صحت الرواية بأنها حينئذ جملة سميت بها مثل « تأبط شراً » وسبب التسمية في الأصل أنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالإيمان والعمل الصالح . وفي بعض شعر المتأخرين :
سل سبيلاً فيها إلى راحة النف ... س براح كأنها سلسبيل
والظاهر منع صرفه للعملية والتأنيث ولكن لم يقرأ به إلا في الشواذ والمتواترة التنوين ، ووجهه ما مر في { سلاسلاً } على أن رعاية المشاكلة أولى لكونه رأس آية .

ثم وصف خدمهم بقوله { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } ويجوز أن يكون هذا بياناً للطائفين في قوله { ويطاف عليهم بآنية } وقد صرح به في الواقعة وزاد ههنا أن شبههم في حسنهم وصفائهم وبقائهم وتفرقهم في المجلس لأصناف الخدمة باللؤلؤ المنثور . يحكى أن المأمون ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ ، فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال : لله دّر أبي نواس كأنه شاهد مجلسنا هذا حيث قال البيت :
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء ، ثم أجمل نعيمهم لأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد ما دام في الدنيا فخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أو كل راء قائلاً { وإذا رأيت } قال الفراء : مفعوله وهو الموصول مضمر تقديره ما { ثم } كقوله { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] يريد ما بينكم . وأنكر الزجاج وغيره حذف الموصول والإكتفاء بالصلة . والذي اختاره أصحاب المعاني أن يكون المفعول متروكاً ليشيع ويعم . والمعنى أن الرائي أينما وجد الرؤية لمي تعلق إدراكه إلا بنعيم { وملكاً كبيراً } أي واسعاً هنيئاً . و « ثم » ظرف مكان أشير به إلى الجنة . روي أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام . وقيل : الملك الكبير هو الذي لا زوال له . وقيل : هو أنه إذا أراد شيءاً كان . ومنهم من حمله على التعظيم وهو أن يأتي الرسول بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ولا يدخل عليه رسول رب العزة وإن كان من الملائكة المقربين إلا بعد الإستئذان قاله الكلبي : وقال أهل العرفان : الملك الكبير هو اللذات الحقيقية والمعارف الإلهية والأسرار الربانية التي تستحقر عندها اللذات البدنية . وعن علي أنه قرأ { ملكاً كبيراً } بفتح الميم وكسر اللام هو الله . من قرأ { عاليهم } بسكون الياء فعلى أنه مبتدأ { وثياب سندس } خبر أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس ومن قرأ بالنصب فعلى أنه ظرف بمعنى فوق فيكون خبراً مقدماً . ويجوز أن يكون نصباً على الحال من ضمير الأبرار أي ولقاهم نضرة وسروراً . حال ما يكون عاليهم ثياب سندس . أو يطوف عليهم أي على الأبرار ولدان حال ما يكون عاليهم ثياب سندس . ويحتمل أن يكون العامل { رأيت } والمضاف محذوف والتقدير رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس . من قرأ { خضر } بالرفع فظاهر ، ومن قرأ بالجر فعلى الجوار أو على أنه صفة سندس بالإستقلال لأنه جنس فكان في معنى الجمع كما يقال : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض .

وأما الرفع في { إستبرق } فللعطف على ثياب ، والجر للعطف على سندس . وكلاهما ظاهر . قوله { وحلوا أساور من فضة } إن كان الضمير للولدان فلا إشكال لأن أساور المخدومين تكون من ذهب كما قال سبحانه في مواضع { يحلون فيها من أساور من ذهب } [ الكهف : 31 ] وأساور الخدام من فضة . وإن كان الضمير للأبرار فلا إشكال أيضاً فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة وإما على الجمع . وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران سوار من ذهب وسوار من فضة . وأيضاً فالطباع مختلفة فرب إنسان يكون إستحسانه لبياض الفضة ، ورب إنسان يكون إستحسانه لصفرة الذهب فالله تعالى يعطي كل أحد بفضله ما تكون رغبته فيه أتم . وقال بعض أهل التأويل : أساور اليد أعمالها وأكسابها التي صارت ملكات نورانية بها يتوسل إلى جوار الحضرة الصمدية كما أن الذهب والفضة في الدنيا وسائل إلى تحصيل المطالب العاجلة . ثم ختم جزاء الأبرار بقوله { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } هو إما مبالغة طاهر والمراد أنها ليست بنجسة كخمور الدنيا ولا مستقذرة طبعاً لمساس الأيدي الوضرة والأقدام النجسة والدنسة ، ولا تؤل إلى النجاسة ولكنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك . وإما مبالغة مطهر . قال أبو قلابة : يؤتون بالطعام والشراب ممزوجاً بالكافور والزنجبيل فإذا كان ذلك سقوا هذا الشراب فتظهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم كريح المسك . وذكر أصحاب التأويل أن الأنوار الفائضة من العالم العلوي متفاوتة في الصفاء والقوة والتأثير فبعضها كافورية طبعها البرد واليبس ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والقبض ، وبعضها زنجبيلياً على طبع الحر واليبس ويكون صاحبها قليل الالتفات إلى ما سوى الله قليل المبالاة بالجسمانيات ، ثم لا يزال الروح الإنساني ينتقل من نوع إلى نوع ومن مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى حضرة نور الأنوار فيضمحل في نور تجليه سائر الأنوار ، وهذا آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء إلى مدراج الكمال ، فلهذا أضاف السقي إلى ذاته قائلاً { وسقاهم ربهم } ثم ختم وعدهم بقوله { إن هذا كان لكم جزاء } عن ابن عباس أن هذا المعنى إنما يقال لهم بعد دخولهم الجنة ، فالقول مقدر والغرض إعلامهم أن كل ما تقدم من أصناف العطاء إنما هو جزاء أعمالهم والغرض إذاقة لذة الآخرة فإن سرورهم يزيد بذلك . وقال آخرون : إنه ابتداء خبر من الله تعالى لعباده في الدنيا ليعلموا في دار التكليف أن هذه الأشياء معدة في الآخرة لمن بر وأطاع . واعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم ، ثم ذكر أنه خلقه من أمشاج وهي العناصر والأخلاط والماآن ماء الرجل وماء المرأة ، والأطوار المتعاقبة على النطفة أو النفس أو البدن ، وعلى جميع التقادير فلذلك يدل على كونه فاعلاً مختاراً صانعاً حكيماً .

ثم أخبر أنه ما خلقه لأجل العبث ماطلاً باطلاً ولكنه خلقه للابتلاء والامتحان وأعطاه كل ما هو محتاج إليه من العقل والحواس ، ثم إن مآل أمره بالجبر أو بالقدر إلى الشكر أو الكفر ، أما الكفر فله السلاسل والأغلال ، وأما الشاكر فله النعيم والظلال . واختصر في العقاب وأطنب في ذكر الثواب إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه . وحين فرغ من شرح أحوال الآخرة بدأ بكيفية صدور القرآن الذي منه تعليم هذه العلوم والحقائق فقال { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً } وفيه أنواع من المبالغة من قبل إيقاع الضمير اسماً لأن « ثم » تكريره ومن جهة ذكر المصدر بعد الفعل ومن جهة لفظ التنزيل دون الإنزال لأن تنزيل القرآن منجماً مفرقاً أقرب إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده ، وحيث سلى قلبه أمره بالصبر على أذى الكفار إلى أوان تنزيل آية القتال ونهاه عن طاعة كل آثم منهم وخصوصاً الكفور فإن الكفر أعظم الآثام قال النحويون : كلمة أو مفيدة لأحد الشيئين أو الأشياء ، فأورد عليه أنه يلزم في الآية أنه لا يجوز طاعة الآثم والكفور إذا تخالفا . أما إذا توافقا فإنه يجوز طاعتهما إذ لا يبعد أن يقول السيد لعبده إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه . أما إذا توافقا فلا تخالفهما . والجواب أنه لا ريب أن قولك « لا تضرب زيداً أن أو عمراً » معناه في الأظهر لا تضرب زيداً ولا عمراً . ويحتمل احتمالاً مرجوحاً « لا تضرب أحدهما واضرب الآخر » إلا أن هذا الاحتمال مدفوع في الآية لقرينة الإثم والكفر فإن أحدهما إذا كان منهياً عنه فكلاهما معاً أولى لأن زيادة الشرِّ شرٌّ . ولهذا قال الفراء : لا تطع واحداً منهما سواء كان آثماً أو كفوراً . ولو كان العطف بالواو كان نصاً في النهي عن طاعتهما معاً ، ولا يلزم منه النهي عن طاعة كل منهما على الإنفراد . وقد خص بعض المفسرين فقال : الآثم هو عتبة لأنه كان متعاطياً لأنواع الفسوق . والكفور هو الوليد لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر . يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : اردع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولداً . وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالاً . فقرأ عليهم رسول الله من أول « حم السجدة » إلى قوله { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فانصرفا عنه . وقال أحدهما : ظننت أن الكعبة ستقع . وقال الحسن : الآثم هو المنافق ، والكفور مشركو العرب ، أمره بالصبر على التكاليف مطلقاً . ثم قسمها إلى نهي وأمر على هذا الترتيب لأن التخلية مقدمة على التحلية .

أما النهي فقد مر ، وأما الأمر فأوله ذكر اله ولا سيما في الصلاة أول النهار وآخره وهو المراد بقوله { بكرة وأصيلاً } ويشمل صلوات الفجر والظهر والعصر وأول الليل وهو المراد بقوله { ومن الليل فاسجد له } أي وفي بعض الليل فصل له يعني صلاة المغرب والعشاء وأوسطه وهو المعنى بقوله { وسبحه } أي وتهجد له طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه كما مر في « المزمل » . ثم شرع في توبيخ المتمردين عن طاعته مستحقراً إياهم قائلاً { إن هؤلاء يحبون } الدار { العاجلة } ونعيمها الزائل { ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } أي شديداً كقوله { ثقلت في السموات والأرض } [ الأعراف : 187 ] ثم بين كمال قدرته قائلاً { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } أي ربطهم وتوثيقهم ومنه أسر الرجل إذا أوثق بالقدر وبه سمى القد أسراً . والمعنى ركبناهم تركيباً محكماً وتقنا مفاصلهم بالأعصاب والربط والأوتار حسب ما يحتاجون إليه في التصرف لوجوه الحوائج { وإذا شئنا } أهلكناهم بالنفخة و { بدلنا أمثالهم } في شدة الأسر عند النفخة الثانية . وقال جار الله : قيل معناه بدلنا غيرهم ممن يطيع وحقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله { وأن تتولوا يستبدل قوماً غيركم } [ محمد : 38 ] ممن يطيع { وإن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [ إبراهيم : 19 ] قال الإمام فخر الدين الرازي : هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف لأن كل واحد من « إذا » « وإن » حرف الشرط . قلت : ما ذكره جار الله ليس طعناً في القرآن وإنما هو طعن في نفس ذلك القول بناء على أن « إذا » لا تستعمل إلا فيما كان مقطوع الوقوع كالإماتة بالنفخة الأولى والإحياء في النشأة الأخرى . أما الإهلاك على سبيل الإستئصال فذلك غير مقطوع به فلهذا ألا يحسن تفسير اللفظ به وتعين التفسير الأول ، والمبادرة بالإعتراض قبل الفهم التام ليس من دأب العلماء المتقين فعجب من مثله ذلك . قوله { إن هذه تذكرة } قد مر في « المزمل » والمقصود من إعادته أن هذه السورة بما فيها من الترتيب الأنيق تبصرة للمتأملين المتخذين إلى كرامة الله سبيلاً بالطاعة والانقياد ، وفيه دليل للقدري . وفي قوله { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله } إلى آخر السورة دليل للجبري والتوفيق بينهما مفوض إلى فهم أهل التوفيق وقدمنا فيه التحقيق . وانتصب { الظالمين } بفعل يفسره معنى أعد أو وعدت ونحوهما أوعد ، وبالله التوفيق وإليه المصير والمآب .

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

القراآت { فالملقيات ذكراً } بتشديد الذال للإدغام : أبو عمرو وحمزة في رواية عنهما { عذراً } بضم الذال : الشموني والبرجمي { أو نذراً } بالسكون : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد : { وقتت } بالتشديد والواو : أبو عمرو ويعقوب . وبالتخفيف : ويزيد . وفي رواية بإبدال الواو همزة كقولهم « أجوه » في « وجوه » . الباقون : بالإبدال وبالتشديد { ألم نخلقكم } مظهراً روى النقاش عن ابن ربيعة عن أصحابه والحلواني عن قالون وحفص والنجاري وعن ورش { فقدرنا } مشدداً : أبو جعفر عن نافع وعلي ، { انطلقوا إلى ظل } بفتح اللام : رويس : { جمالة } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف وحفص { وجمالات } بضم الجيم مجموعة : يعقوب . الآخرون : بالكسر مجموعاً .
الوقوف : { عرفاً } ه لا { عصفاً } ه لا { نشراً } ه لا { فرقاً } ه لا { ذكراً } ه لا { نذراً } ه لا { لواقع } ه ط { طمست } ه لا { فرجت } ه لا { نسفت } ه لا { أقتت } ه لا بناء على أن عامل « إذا » محذوف أي إذا كانت هذه الأمور يفصل بين الخلق { أجلت } ه ط للفصل بين الجواب والسؤال { الفصل } ج { للمكذبين } ه { الأولين } ه ط لأن ما بعده مستأنف أي ثم نحن نتبعهم { الآخرين } ه { بالمجرمين } ه { مهين } ه لا { معلوم } ه لا { فقدرنا } ه { القادرون } ه { كفاتا } ه لا { وأمواتاً } ه لا { فراتا } ه لا { للمكذبين } ه { تكذبون } ه ج للتكرار مع الآية ووجه الوقف لمن قرأ بفتح اللام أوضح لأنه ابتداء إخبار عن موجب عملهم بما أمروا به { شعب } ه لا { اللهب } ه ط { كالقصر } ه ج لأن ما بعده وصف لشرر لا للقصر { صفر } ه ط { للمكذبين } ه { لا ينطقون } ه لا { فيعتذرون } ه { للمكذبين } ه { الفصل } ه ج لاحتمال ما بعده الإستئناف والحال أي أشير إلى يوم مجموعاً فيه { والأولين } ه { فكيدون } ه { للمكذبين } ه { يشتهون } ه { تعملون } ه { المحسنين } ه { للمكذبين } ه { مجرمون } ه { للمكذبين } ه { لا يركعون } ه { للمكذبين } ه { يؤمنون } ه .
التفسير : الكلمات الخمس في أول هذه السورة يحتمل أن يكون المراد بها جنساً واحداً أو أجناساً مختلفة . أما الإحتمال الأول فذكروا فيه وجوهاً الأول : أنها الملائكة أقسم رب العزة بطوائف الملائكة الذين أرسلهم بأوامره حال كونهن عرفاً أي متتابعة كشعر العرف . يقال : جاؤا عرفاً واحداً وهم عليه كعرف الضبع إذا اجتمعوا عليه ، ويجوز أن يكون العرف خلاف النكر أي أرسلهن للاحسان والمعروف ، فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة فمعنى الإحسان حينئذ ظاهر ، وإن كانوا قد بعثوا لأجل العذاب فذلك إن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله من الكفار لأجلهم .

ومعنى الفاء في { فالعاصفات } أنهن عقيب الأمر عصفن في مضيهن كما عصفت الرياح بدراً إلى امتثال الأمر . قيل : هو من قولهم « عصفت الحرب بالقوم » أي ذهبت بهم وأهلكتهم . ويقال « ناقة عصوف » أي عصفت براكبها فمضت كأنها ريح من السرعة فالمراد أنهن حين أرسلن للعذاب طرن بروح الكافر . ثم أقسم بطوائف من الملائكة نشرن أجنحتهن في الجو عن انحطاطهن بالوحي أو نشرن الشرائع في الأرض . أو أحيين النفوس الميتة بما أوحين ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكراً إلى الأنبياء { عذراً } للمحقين { أو نذراً } للمبطلين . قال الأخفش والزجاج : هما بالسكون مصدران كالشكر والكفر ، والضم لغة في كل منهما كالنكر والنكر ، والمعنى إعذاراً أو إنذاراً وكل منهما بدل من { ذكر } أو مفعول له . وقال أبو عبيد : بالثقل جمع عذير بمعنى المعذرة وجمع نذير بمعنى الإنذار أو بمعنى العاذر والمنذر فيكونان حالين من الإلقاء أي عاذرين أو منذرين الوجه الثاني أنها الرياح أقسم الله سبحانه برياح عذاب أرسلهن متتابعة فعصفن عصفاً ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله { ويجعله كسفاً } [ الروم : 48 ] فألقين ذكراً إي صرن سبباً في حصول الذكر لأن الإنسان العاقل إذا شاهد تلك الرياح إلتجأ إلى ذكر الله والتضرع إليه فيكون عذراً للذين يعتذرون إلى الله عز وجل بالتوبة والإستغفار ، وإنذاراً للذين يغفلون عن الله ويغفلون عن شكره إذ ينسبونها إلى الأنواء . والوجه الثالث إنها القرآن وآياته أرسلت متتابعة أو بكل معروف وخير فعصفت أي قهرت سائر الملل والأديان والكتب أي إبتدأن بالقهر والنسخ عقيب الإرسال ، ونشرن بعد ذلك بالتدريج آثار الحكم وأنوار الهداية في قلوب العالمين ففرقت بين الحق والباطل وألقت الذكر والشرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمته كما قال { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] الرابع أنها طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المستعقب لكل خير ومفتاحه « لا إله إلا الله » فأخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته وانتشرت دعوتهم ففرقوا بين المؤمن والكافر ، والمقر والجاحد ، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة أو إلى طائفة معينين . الخامس وهو بالتأويل أشبه أن المرسلات هي الدواعي والإلهامات الربانية أرسلت فأخذت في العصوف والاشتداد بحيث أزالت عن القلب حب ما سوى الله وانبثت آثارها في سائر الأعضاء والجوارح ، فلا يسمع إلا بالله ولا يبصر إلا بالله ، وكذا البطش والمشي وسائر الحركات والسكنات ، ففرقت بين الوجود المجازي وهو وجود سوى الله وبين الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله ، وألقت الذكر على كل الجوارح فلم يذكر غير الله . وأما الإحتمال الثاني ففيه وجوه أيضاً أحدها : وهو المنقول عن الزجاج واختاره القاضي أن الثلاث الأول هي الرياح كما في الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة ، والباقيتان الملائكة كما مر في الوجه الأول منها .

ووجه الجمع بين الرياح والملائكة هو اللطافة وسرعة الحركة . وثانيها أن الأولين هما الرياح والثلاثة الأخيرة هي الملاكة لأنها تنشر الوحي ، ثم يعقبه أثران ظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه ودوران ذكر الله على القلوب والألسن . وقد يتأيد هذا الوجه بعطف الثانية على الأولى بفاء الوصل المنبيء عن التعقيب والتسبيب . ثم التنسيق بالواو وعطف الباقيين عليها بالفاء وثالثها أن الأولى ملائكة العذاب والباقية آيات القرآت على منوال ما سبق . قوله { إنما توعدون لواقع } جواب القسم ومعناه على ما قال الكلبي : كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع . والأكثرون يخصونه بمجيء القيامة بدليل ذكر أماراتها بعده وهو قوله { فإذا النجوم طمست } أي أزيلت عن أماكنها بالإنتثار وأذهب ضوءها بالإنكدار وقد ورد كل منهما { وإذا الكواكب انتثرت } [ فاطر : 2 ] { وإذا النجوم انكدرت } [ التكوير : 2 ] فذكروا في وجه الجمع بينهما أنه يجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر بمحوق النور . وفسر الانتثار في الكشاف بمحق الذوات وفيه بعد لأن الانتثار غير الانعدام وإن أراد بالمحق غير هذا فعليه بالبيان قوله { وإذا السماء فرجت } أي فتحت السماء فكانت أبوابا { وإذا الجبال نسفت } أي سيرت أجزاؤها في الهواء كالحب إذا نسف بالمنسف وقد مر في « طه » في قوله { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً } [ طه : 105 ] قال مجاهد والزجاج : المراد بأقتت الرسل تعيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، وكان هذا الوقت مبهماً عليهم قبل ذلك وقريب منه قول جار الله : إن معنى وقتت بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة . ثم عجب العباد هول ذلك اليوم فقال { لأي يوم أجلت } الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من صدقهم وظهور ما كانوا يوعدون الأمم إليه ويخوفونهم به من العرض والحساب ونشر الدواوين ووضع الموازين . ثم أجاب بأنهم أجلوا { ليوم الفصل } بين الخلائق ، ثم عظم ذلك اليوم ثانياً فقال { وما أدراك ما يوم الفصل } وأي شيء شدته ومهابته . ثم عقبه بتهويل ثالث فقال { ويل يومئذ } أي يوم إذا كان كذا وكذا من الأهوال { للمكذبين } وإعرابه كإعراب { سلام عليك } [ مريم : 47 ] وقد سبق . وقد كرر هذا التهويل في تسعة مواضع أخر لمزيد التأكيد والتقرير كما مر في سورة الرحمن . ثم هددهم بقوله { ألم نهلك الأولين } كعاد وثمود وغيرهما إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم { ثم نتبعهم الآخرين } وهم كفار مكة أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن قوله { كذلك } أي مثل ذلك الإهلاك الفظيع { نفعل } بكل مجرم . ثم وبخهم بتعديد النعم وآثار القدرة عليهم فقال { ألم نخلقكم من ماء مهين } حقير لا يعبأ به وهو النطفة { فجعلناه في قرار مكين } وهو الرحم وهو أنه يتمكن فيه ما يتكون منه الولد { إلى قدر معلوم } أي إلى مقدار معلوم من الزمان المقدر ولهذا قال { فقدرنا } بالتشديد { فنعم القادرون } أي فنعم المقدرون له نحن .

ومن قرأ بالتخفيف فبمعنى التقدير أيضاً لتتوافق القراءتان . قال الفراء : قدر وقدّر بالتخيف والتشديد لغتان ، ويجوز أن يكون المخفف من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا فنعم أصحاب القدرة نحن حيث خلقناهم في أحسن تقويم . وفي قوله { ويل يومئذ للمكذبين } وتوبيخ وتخويف من وجهين أحدهما : أن النعمة كلما كانت أعظم كان كفرانها أفحش . والثاني أن القادر على الابداء أقدر على الإعادة فالمنكر لهذا الدليل الواضح يستحق غاية التوبيخ . ثم عد عليهم نعم الآفاق بعد ذكر الأنفس . والكفات اسم ما يكفت أي يضم ويجمع ، ويجوز أن يكون اسماً لما يكفت به مبيناً للمفعول كالشداد لضمام يشد به رأس القرورة . وانتصب { أحياء وأمواتاً } بفعل مضمر دل عليه هذا الاسم أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها . والتنكير للتفخيم أي أحياء وأمواتاً لا تعد ولا تحصى . وجوز انتصابهما على الحال والضمير الذي هو ذو الحال محذوف للعلم به أي تكفتكم في حال حياتكم وفي حال مماتكم . وقيل : معنى كونها كفاتاً أنها تجمع ما ينفصل منهم من المستقذرات وقيل : معناه أنه جامعة لما يحتاجون إليه في التعيش . وقيل : هما راجعان إلى الأرض يعني ما ينبت وما لا ينبت . والكل بتكلف . والوجه هو الأول . وباقي الآية ظاهر مما سلف مراراً . ثم أخبر عما يقال للمكذبين في قوم الفصل فقال { انطلقوا } أي يقال لهم انطلقوا لما كذبتم به من العذاب . ثم بين ما أجمل بقوله { انطلقوا } يروى أن الشمس تقرب يوم القيامة لرؤس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم ، ويحمي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظلاله فهناك يقولون { فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم } [ الطور : 25 ] ويقال للمكذبين { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } من عذاب الله وعقابه { انطلقوا إلى ظل } قال الحسن : ما أدري ما هذا الظل ولا سمعت فيه بشيء فقال قوم : سمى النار بالظل مجازاً . وشعبها الثلاث كونها من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم . وعن قتادة : هو الدخان شعبة عن يمينهم وأخرى عن يسارهم والثالثة من فوق ، تظلم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش . وقال في الكشاف : هو عبارة عن عظم الدخان . فالدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب وقال أهل التأويل : الشعب الثلاث هي القوة الغضبية ومنشؤها القلب في الجانب الأيسر ، والشهوية ومنشؤها الكبد في الجانب الأيمن ، والشيطانية ومنشؤها الدماغ من فوق ، فيتولد من اتباع هذه الثلاثة ثلاثة أنواع من الظلمات . وقال أبو مسلم : هي الأوصاف الثلاثة التي ذكرها الله تعالى عقيبه وهي { لا ظليل ولا يغني من اللهب أنّها ترمي بشرر كالقصر } وفيه تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين أي ذلك الظل غير مانع حر الشمس وغير مغن منحر اللهب شيئاً أي لا روح كما قال في الواقعة

{ لا بارد ولا كريم } [ الآية : 44 ] يقال أغن عني وجهك أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده كما أن المحتاج إليه يقاربه . وإنما عدي في الآية ب « من » لأنه أراد أن ابتداء الإغناء منه ، وعن قطرب ان اللهب ههنا هو العطش . ثم شبه الشرر وهو ما يتطاير من النار متبدداً في كل جهة بالقصر . والأكثرون على أنه واحد القصور . وعن سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك أنه الغليظ من أصول الشجر العظام الواحدة قصرة كجمرة وجمر . وروي عن ابن عباس أنه سئل عن القصر فقال : خشب كنا ندخره للشتاء . ثم زاد في البيان أن أتبعه تشبيهاً آخر قائلاً { كأنه جمالات صفر } وهي جمع جمالة بمعنى جمل . ويجوز أن يكون جمع جمال كرجالات وقال أبو علي : التاء في { جمالة } لتأكيد الجمع كحجر وحجارة . أما الجمالة بالضم فهي قلوس سفن البحر أي حبالها كما مر في قوله { حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف : 40 ] وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أنها قطع النحاس . ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه . وقال الفراء : يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل . يقال : أجملت الحساب وجاء القوم جملة أي مجتمعين : والمعنى أن هذه الشرر ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة . قال الفراء : لا ترى أسود في الليل إلا وهو مشرب صفرة والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كأنه أشبه شيء بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة . وقال آخرون : الشرر إنما يسمى شرراً ما دام مرتفعاً وحينئذ يكون ناراً وإذا كان ناراً كان أصفر فاقعاً . واعلم أنه عز اسمه شبه الشرر في العظم والارتفاع بالقصر ثم شبهه مع ذلك في اللون والكثرة والتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر . ثم نقل عن ابن عباس أنه قال : هذا التشبيه إنما ورد على ما هو معتاد في بلاد العرب . وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة . فسمع أبو العلاء ذلك فشبه الشرر بالطراف وهو الخيمة من الأديم قال :
حمراء ساطعة الذوائب في الد ... جى ترمي بكل شرارة كطراف
فزعم صاحب الشكاف أنه أراد معارضة المعجز . قال الإمام فخر الدين الرازي : كان الأولى بصاحب الكشاف أن لا يذكر ذلك لأنه أخذ مقتبساً تابعاً ، والمعجز أظهر حالاً وأجل منصباً من أن يتصدى لمعارضته أحد بعد استقرار أمره ويلتفت إلىلمعارض ، وإذ قد ذكر صاحب الكشاف ذلك فلنذكر التفاوت بين القرآن وبين كلام أبي العلاء وذلك من وجوه الأول : قيل : إن لون الأديم قريب من لون الشرارة إلا أن الجمالات متحركة كالشرارة دون الخيمة .

الثاني أن القصر موضع الأمن وتشبيه الشرارة به إشارة إلى أن الكافر إنما يعذب بآفة من الموضع الذي يتوقع منه الأمن وهو دينه وملته التي ظن أنه منها على شيء ، وليست الخيمة موضع الأمن الكلي الثالث أن الشرر متتابعة كالجمال ولا كذلك الطراف الرابع أن العرب اعتقدوا أن الجمال في ملك الجمال وتمام النعم في حصول النعم . ففي الآية إشارة إلى أنكم كنتم تعدون الجمال فخذوا هذه الشرارات التي هي كالجمالات وهذا التهكم غير موجود في الشعر . الخامس أن الإبل إذا نفرت وشردت متتابعة نال من وقع فيما بينهما بلاء شديد . فتشبيه الشرر بها يفيد كمال الضرر والطراف ليس كذلك . السادس أن القصر يكون أعظم غالباً من الطراف والجمالات وهي جمع الجمع تكون أكثر عدداً من الطراف والغرض التوكيد فيكون تشبيه القرآن أبلغ في المعنى المقصود . السابع أن التشبيه بشيئين كالقصر والجمالات في إثبات الوصفين كالعظم والصفرة أقوى في ثبوت الوصفين من التشبيه بشيء واحد للوصفين بعينهما ، لأن الأول كالمبين المفصل ، والثاني كالمجمل المبهم إذ يحتمل أن يكون وجه التشبيه واحداً منهما فقط . الثامن أن الإنسان إنما يكون طيب العيش إذا كان وقت الانطلاق راكباً ووقت النزول راقداً في الظل فكأنه قيل في الآية على سبيل التهكم مركوبكم هذه الجمالات من الشرر وظلكم في مثل هذا القصر ولو شبه بالطرف لم يحصل هذا المقصود . التاسع أن تطاير القصر وهو من اللبن والحجر والخشب في الهواء أغرب من تطاير الخيمة وهي خفيفة الحجم . العاشر أن سقوط القصر أفظع وأهول من سقوط الطراف هذه خلاصة كلام الإمام في هذا المقام أوردناها لئلا يكون كتابنا خالياً من فوائد تفسيره . قوله { هذا يوم لا ينطقون } يروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الجمع بين هذه الآية وبين نحو قوله { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } [ الزمر : 31 ] فأجاب بتغاير الزمانين وتباين الموطنين . وقال الحسن : أراد لا ينطقون بحجة صحيحة وعذر واضح فكأنهم لم ينطقوا ولم يعتذروا . قوله { ولا يؤذن } إنما لم يقل « فيعتذروا » بسقوط النون للنصب كقوله { لا يقضي عليهم فيموتوا } [ فاطر : 36 ] لأنه لو نصب لأوهم أنهم إنما لم يعتذروا لأجل أنهم لم يؤذوا في الإعتذار ولولا المنع لاعتذروا وهذا غير جائز ، ولكن المراد أن لا عذر لهم في نفس الأمر كما لا إذن فالفاء لمطلق النسق لا للتسبب . هذا مع أنه فيه رعاية الفاصلة وهي من جملة الفصاحة اللفظية ، ولهذا لم يقرأ في سورة « اقتربت » { إلى شيء نكر } [ الآية : 6 ] لا مثقلاً . وقريء قوله في آخر « الكهف » و « الطلاق » { عذاباً نكراً } [ الآية : 8 ] بالوجهين قالوا : وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار لأنه سبحانه أزاح الاعتذار في الدنيا بتقديم الإنذار بدليل قوله { فالملقيات ذكراً عذراً ونذراً } ولهذا قال في آخر هذا الأخبار { ويل يومئذ للمكذبين } ثم أشار لمزيد التهديد والتوبيخ إلى اليوم المذكور بقوله { هذا يوم الفصل } ثم أوضح هذه الجملة بقوله { جمعناكم } أيها المتأخرون { والأولين } لأن الفصل بين الخلائق لا يجوز إلا بإحضار الكل .

وقد يستدل به على عدم جواز القضاء على الغائب . ثم عجزهم وحقر أمرهم بقوله { فإن كان لكم كيد فكيدون } وقد علم أنه لا حيلة لهم في رفع البلاء عن أنفسهم يومئذ كما كانوا يحتالون في الدنيا يؤذون بذلك أنبياء الله وأولياءه ، وهذا التعجيز والتخجيل من جنس العذاب الروحاني فلهذا عقبه بقوله { ويل يومئذ للمكذبين } ثم زاد في حسرتهم وغمهم بتعديد ما أعد للمطيعين المتقين من الظلال والعيون والفواكه بدل ظلالهم التي لا روح فيها ولا تغني عن الحر والعطش ، استقروا في تلك النعم مقولاً لهم { كلوا واشربوا } وهو أمر إكرام لا أمر تكليف وهذا أيضاً من جنس العذاب الروحاني بالنسبة إلى الكافرين حين يرون الذين اتقوا الشرك في النعيم المقيم ولذا أردفه بقوله { ويل يومئذ للمكذبين } ثم ذكر أن هذا الويل ثابت لهم في حال ما يقال في الآخرة { كلوا وتمتعوا } قال جار الله : هذا في طريقة قول القائل :
إخوتي لا تبعدوا أبداً ... وبلى والله قد بعدوا
أي كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بهذا ، وفيه توبيخ وتذكير بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم ، وعلل ذلك بكونهم مجرمين إيعاداً لكل مجرم ، وجوز أن يكون { كلوا وتمتعوا } كلاماً مستأنفاً خطاباً للمكذبين في الدنيا . ثم ذمهم على ترك الخشوع والتواضع لله بقبول وحيه . وقيل : ما كان على العرب أشد من الركوع والسجود . يروى أن وفد ثقيف أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقالوا : لا ننحني أي لا نركع ولا نسجد فإنها مسبة علينا . فقال صلى الله عيله وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود . وأنزل الله الآية . ثم ختم السورة بالتعجب من حال الكفار وإصرارهم على جهالاتهم وضالاتهم بعد القرآن وبياناته وقد مر في أول « الجاثية » نظيره والله أعلم .

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

القراأت { كلا ستعلمون } بتاء الخطاب في الموضعين : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { وفتحت } بالتخفيف : عاصم وحمزة وعليّ وخلف { لبثين } مقصوراً : حمزة { ولا كذاباً } مخففاً . عليّ { رب } بالرفع بتقدير هو رب : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبوعمرو والمفضل . الباقون : بالجر على البدل { الرحمن } باجر على البدل أو البيان : ابن عامر وسهل ويعقوب وعاصم غير المفضل . الآخرون : بالرفع على « هو الرحمن » أو على أنه خير آخر .
الوقوف { يتساءلون } ه ج لاحتمال أن الجار متصل بالفعل المذكور والمراد التهديد . قال الفراء : « عن » بمعنى اللام أي لأي شيء ، أو متصل بمحذوف كأن سائلاً سأل عن أي شيء يتساءلون فأجيب عن النبأ . { العظيم } ه لا { مختلفون } ه ط بناء على أن معنى كلا حقاً { سيعلمون } لا ه { سيعلمون } ه ج { مهاداً } ه لا { أوتاداً } ه ص { أزوجاً } ه { سباتاً } ه لا { لباساً } ه لا { معاشاً } ه ص { شداداً } ه لا { وهاجاً } ه ص { ثجاجاً } ه لا { ونباتاً } ه ك { ألفافاً } ه ط { ميقاتاً } ه ط لأن ما بعده بدل { أفواجاً } ه ك { أبواباً } ه ك { سراباً } ه ط { مرصاداً } ه لا { مآباً } ه لا { أحقاباً } ه ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً ، ويجوز أن يكون صفة ل { أحقاباً } لمكان عود الضمير في { فيها } إليها { شراباً } ه لا { غساقاً } ه ك { وفاقاً } ه { حساباً } ه { كذاباً } ه م لأن التقدير أحصينا كل شيء أحصيناه { كتاباً } ه لا { عذاباً } ه { مفازاً } ه { وأعناباً } ه { أتراباً } ه ك { دهاقاً } ه ط لأنه لو وصل اشتبه بالصفة وللموصوف وجه كما يجيء في التفسير . { كذاباً } ه ط لأن { جزاء } يصلح مصدراً ومفعولاً له { حساباً } ه ط لمن قرأ { رب } بالرفع وقف على { بينهما } إلا لمن قرأ { الرحمن } بالرفع { رب } بالجر على الرحمن وقف على الوجوه إلا إن جعله مبتدأ { لا يملكون } خبره { خطاباً } ه لا بناء على أن { يوم } ظرف { لا يملكون } { صفاً } ه لا بناء على أن { يوم } ظرف { لا يتكلمون } { صواباً } ه لحق الشرط مع الفاء { مآباً } ه { قريباً } ه ج لأن { يوم } متعلق باذكر أو ب { عذاباً } { تراباً } ه .
التفسير : حرف الجر إذا دخل على « ما » الإستفهامية تحذف ألفها نحو « بم » و « عم » و « علام » و « لم » ه لشدّة الإتصال وكثرة الإستعمال . ثم إن كان الكلام مبنياً على السؤال والجواب فالسائل والمجيب واحد وهو الله ، والفائدة في هذا الأسلوب أن يكون إلى التفهيم أقرب . ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما وقع فيه التساؤل وبيان أن مطلب ما وضع للسؤال عن حقائق الأشياء المجهولة والشيء العظيم الذي تعجز العقول عن إدراكه أو يدعي فيه العجز يكون مجهولاً ، فوقع بين المسؤول بما وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه ، والمشابهة أحد أسباب المجاز .

والنبأ العظيم القيامة بدليل الردع عن الاختلاف وللتهديد بعده . وتقديم الضمير وبناء الكلام عليه لتقوى الكلام لا لا للاختصاص فإن غير قريش أيضاً مختلفون في أمر بالبعث فمنهم من يثبت الروحاني في المعاد فقط ، ومنهم من يشك فيه كقوله { وما أظن الساعة قائمة } [ الكهف : 36 ] ومنهم من يقطع بعدم البعث { إن هي إلا حياتنا الدنيا } [ المؤمنون : 37 ] كان يسأل بعضهم بعضاً عن القيامة ويتحدثون عنها متعجبين من وقوعها . ويجوزأن يكون المفعول محذوفاً أي يتساءلون النبي والمؤمنون نحو تراءينا الهلال فيكون التساؤل بطريق الاستهزاء ويحتمل أن يكون الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً فقد كانوا جميعاً يتساءلون عنه ، أما المؤمن فليزداد خشية واستعداد ، وأما الكافر فلأجل الاستهزاء . وقيل : النبأ العظيم القرآن ، واختلافهم فيه أن بعضهم جعلوه سحراً . وبعضهم شعراً وكهانة . وقيل : نبوّة محمد كانوا يقولون ما هذا الذي حدث { بل عجبوا إن جاءهم منذر منهم } [ ق : 2 ] وقالت الشيعة : هو عليّ قال القائل في حقه هو النبأ العظيم وفلك نوح وباب الله وانقطع الخطاب . قال أهل المعاني : تكرير الردع مع الوعيد دليل على غاية التهديد . وفي « ثم » إشارة إلى أن الوعيد الثاني أبلغ ، ويجوز أن يكون الأول في الدنيا والثاني في الآخرة ، أو الأول للكفار والثاني للمؤمنين . وقيل : الأول ردع عن الاختلاف والثاني عن الكفر . وحذف المفعول به أي سيعلمون أن ما يتساءلون عنه مختلفين فيه حق وصدق وذلك إذا اتصل العيان بالخبر . ومن قرأ الخطاب فقد سلك سبيل الالتفات . ثم عدد دلائل القدرة على البعث ودلائل الحكمة في الجزاء على أن كلاً منهما نعمة يجب أن تشكر بالتوفر على الطاقة ولا تكفر بالإقدام على المعصية . والمهاد الفراش ، والأوتاد ما يشدّ بها أطناب الخمية ، شبهت الجبال الراسيات بها لأنها تحفظ الأرض أن تميد بما عليها وقد سبق تقريره . والأزواج الأصناف المتقابلات القبيح بإزاء الحسن والطويل بحذاء القصير وغير ذلك من الأضداد . والسبات الراحة . والتركيب يدل على القطع والإزالة ومنه سبت الرجل رأسه إذا حلقه ، والنوم يزيل التعب عن الإنسان فيستعقب الراحة قاله ابن الأعرابي والمبرد . وقال الزجاج وغيره : هو الموت وهذا التفسير لا يناسبه مقام تعداد النعم . واللباس ما يتغطى به والليل أخفى للويل . والمعاش مصدر أو اسم زمان لأن الناس يتقبلون فيه لوجوه تعيشهم . والشداد المحكمة التي لا تقبل الشق والخرق إلا ما شاء الله . والوهاج المتلألىء الوقاد . وفي كتاب الخليل : الوهج النار . ولا شك أن الشمس جامعة للنور والحرارة . والمعصرات السحاب بلغة قريش من أعصرت إذا شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك « أحصد الزرع » أي حان أن يحصد ، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض وهذا القول مروي عن ابن عباس واختاره أبو العالية والربيع والضحاك .

وقال مجاهد والكلبي ومقاتل وقتادة : هي الرياح التي تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه فكأنها مبادىء الإنزال . الثجاج المنصب بكثرة يقال « ثجة وثج بنفسه » وفي الحديث « أفضل الحج العج والثج » فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج صب دماء الهدي . ثم بين غاية الإنزال وهي إخراج الحب للإنسان ، والنبات للأنعام غالباً ، والجنات الملتفة لأجل التلذذ والتفكه . قال الكسائي والأخفش : والألفاف جمع لف بالكسر ويحتمل أن يكون جمع لفيف كشريف وأشراف . وقال في الكشاف : إنه لا واحد له كالأوزاع للجماعات المتفرقة ومنه قولهم « أخوة أخياف » أي مختلفة . واعلم أن هذه التسعة نظراً إلى حدوثها وإمكانها تدل على الفاعل المختار ، ونظراً إلى ما فيها من الإتقان والإحكام تدل على كمال علمه وحكمته الذاتية . وبعد ثبوت كماله في هذه الأوصاف لم يبق للمتأمل شك في إمكان الحشر وقد أخبر الصادق عن وقوع هذا الممكن فوجب الجزم به على أن في إخراج النبات بعد جفافه ويبسه دليلاً ظاهراً على إمكان إخراج الموتى من القبور وبعثهم فلهذا رتب على هذه البيانات قوله { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } أي حداً توقت به الدنيا أو حداً لفصل الحكومات تنتهي الخلائق إليه . والنفخة ههنا هي الثانية التي تكون عندها الحياة بدليل قوله { فتأتون أفواجاً } أي طائفة طائفة إلى أن يتكامل اجتماعهم . وقال عطاء : كل نبي يأتي مع أمته . وروى صاحب الكشاف عن معاذ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال عليه السلام : « يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه وقال : تحشر عشرة أصناف من أمتيّ بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي ، وبعضهم صم بكم ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف ، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم . فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس ، وأما الذين على صورة الخنازير فآكل السحت ، وأما المنكسون فأكلة الربا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعملاهلم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هو أشد نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء »

وفتح السماء شقها وانفطارها أو معنى آخر مغاير لهما . والضمير في { فكانت } للسماء كأنها لكثرة أبوابها المفتوحة لنزول الملائكة صارت بكليتها أبواباً كقوله { وفجرنا الأرض عيوناً } [ القمر : 12 ] ويحتمل أن يعود إلى مقدر دل عليه الكلام أي فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً . وقال الواحدي : المضاف محذوف أي فكانت ذات أبواب . وأما الجبال فإنه تعالى ذكر حالها بعبارات مختلفة ، ويمكن الجمع بينها بأن تدرك أوّلاً { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } [ الحاقة : 14 ] ثم تصير كالعهن ثم تصير كالهباء { وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً } وهي في كل هذه الأحوال باقية في مواضعها ثم تنسف بإرسال الرياح عليها { وإذا الجبال نسفت } [ الانفطار : 4 ] ثم تطير ههنا أحوال إذا برزت من تحتها { ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة } [ الكهف : 47 ] والثاني للجبال فتطيره في الهواء كالهباء فمن نظر إليها حسبها لتكاثفها أجساماً جامدة وهي بالحقيقة مارة بتحريك الهواء كما قال { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب } [ النمل : 88 ] والثالث لها باعتبار أماكنها الأصلية فمن نظر إلى المواضع من بعيد ظن أن الجبال هناك حتى إذا دنا منها لم يجد فيها شيئاً { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } [ النور : 39 ] وقد أشار إلى هذه الحالة بقوله { وسيرت الجبال فكانت سراباً } .
ثم أخبر عن أحوال السعداء والأشقياء يومئذ . وقدم ذكر هذا المقام غير محرر فلينظر الأشقياء لأن الكلام في السورة بني على التهديد فقال { إن جهنم كانت } أي في علم الله أو هي مسلوبة الدلالة على المضي . والمرصاد إما اسم للمكان الذي يرصد فيه كالضمار للذي تضمر فيه الخيل ، والمنهاج إسم للمكان الذي ينهج فيه . والمعنى أن خزنة جهنم يرصدون الكفار هناك ، أو أن خزنتها يستقبلون المؤمنين عندها لأن جوازهم عليه بدليل قوله { وإن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] ولهذا قال الحسن وقتادة : يعني طريقاً إلى الجنة . وإما صفة نحو « مقدام » بمعنى أنها ترصد أعداء الله . وقوله { للطاغين } متعلق بما بعده أو بما قبله ، وعلى التقديرين لا بد من إضمار وهو لفظة لهم أو لأهل الجنة . ثم ذكر كيفية استقرارهم هناك فقال { لابثين } ومن قرأ بغير ألف فهو أدل على الثبات . قال جار الله : اللابث من وجد منه اللبث فقط ، واللبث من لا يكاد يبرح المكان أما الأحقاب فزعم الفراء أن أصله الترادف والتتابع أي دهوراً مترادفة لا تكاد تتناهى كلما مضى حقب تبعه آخر . وقال الحسن : الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدّون . وسأل هلال الهجري علياً فقال : الحقب مائة سنة السنة اثنا عشر شهراً والشهر ثلاثون يوماً واليوم ألف سنة . وقال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس : الحقب الواحد بضع وثمانون سنة والسنة ثلثمائة وستون يوماً واليوم ألف سنة من أيام الدنيا .

ونحو هذا يروى عن ابن عباس وقطرب مرفوعاً . فإن قيل : عذاب أهل النار ولا سيما الطاغين غير متناه والأحقاب بالتفاسير المذكورة وإن كثر مبلغها متناهية ، فلما وجه الجمع بينهما؟ قلنا : الحق متناه ولكن الأحقاب لا نسلم أنها متناهية فإن الجمع لا يلزم تناهي آحاده فيجوز أن يكون المعنى كلما مضى حقب تبعه آخر . قال الفراء : سلمنا أن الأحقاب تفيد التناهي لكن بالمفهوم والنصوص الدالة على التأبيد كقوله { يريدون أن يخرجو من النار وماهم بخارجين منها } [ المائدة : 37 ] تدل بالمنطوق ولا شك أن المنطوق راجح . وقال الزجاج : المعنى أنهم يلبثون فيه أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ، ثم ينقلون إلى جنس آخر غير الحميم والغساق . وذكر في الكشاف وجهاً آخر وهو أن يكون أحقاباً من حق بعامنا هذا إذا قل خيره . وحقب فلان ذا أخطأ الرزق فهو حقب كحذر وجمعه أحقاب فينتصب حالاً منهم أي لابثين في أسوأ حال . والبرد معروف أي لا يجدون هواء بارداً ولا ماء بارداً . وقال الأخفش والفراء : هو النوم ولذلك أن البرد لازم للنوم ولهذا يسكن العطش . وسببه توجه الحرارة الغريزية إلى الباطن عند فتور الحواس الظاهرة والحركات الاختيارية وفي أمثالهم « منع البرد البرد » أي أصابني من البرد ما منعني من النوم . وقد يضعف هذا القول أنهم لا يقولون ذقت البرد ويقولون « ذقت الكرى » وبأنهم يجدون الزمهرير فكيف يصح نفي البرد عنهم . وقد يجاب عن الأول بأن الذوق في الصورتين مجاز فأي ترجيح لأحدهما على الآخر . وعن الثاني بأن المراد برد له روح لا الذي فيه عذاب . والحميم الماء البالغ في الحرارة ، والغساق صديد أهل النار . قوله { جزاء } نصب على المصدر أي جزاهم جزءا . وانتصب { وفاقاً } على الوصف أي ذا وفاق أو موافقاً لعملهم في القبح والفظاعة والدوام . ثم ذكر علة التأبيد فقال { إنهم كانوا لا يرجون حساباً } لا يخافون أو لا يتوقوعن حساباً وهذه إشارة إلى نقصانهم بحسب القوة العلمية فإن الذي اعتقد أنه لا حشر ولا حساب ولا يبالي بأي شيء ترك من القبائح والمظالم أو أي شيء ترك من الخيرات والفضائل . قوله { وكذبوا بآياتنا كذاباً } إشارة إلى فساد عقائدهم حتى جحدوا الحق وكذبوا الرسل . ومصدر « فعل » مشدد العين يجيء على « فعال » بالتشديد وهو الأكثر ، وبالتخفيف عند بعضهم ولهذا لم يقرأ به إلا في الشواذ . قال جار الله : هو مصدر كذب بدليل قوله :
فصدّقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله { أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً أو تنصبه ب { كذبوا } لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب . وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة أو كذبوا بها مكاذبين ، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يبالغ في أمر فبلغ فيه أقصى جهده .

أقول : أراد بهذا الوجه الأخير أن باب المغالبة يبنى على المفاعلة فيمكن أن يستدل بالمفاعلة على المبالغة بطريق العكس الجزئي { وكل شيء أحصيناه } من باب الإضمار على شريطة التفسير . قوله { كتاباً } مصدر لأنه والإحصاء يتلاقيان في معنى الضبط والتحصيل ، ويجوز أن يكون حالاً أي مكتوباً في اللوح أو في صحف الأعمال . قال جار الله : هذه جملة معترضة . أقول : إنها من تمام التعليل المذكور أي فعلوا كذا وكذا ونحن عالمون بجميع الكليات والجزيئات فلهذا كتبنا جزاء العاصين على وفق أعمالهم .
ثم أظهر غاية السخط بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، والتعقيب بفاء الجزاء الدال على أن المذكور سبب عن كفرهم بالحسنات وتكذيبهم بالآيات . وزيادة العذاب يحتمل أن تكون لأجل أن المؤثر إذا استمرَّ ودام ازداد الإحساس بأثره ، ويحتمل أن يكون لازدياد كفرهم وعتوّهم حيناً بعد حين كقوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] ويحتمل أن تكون زيادة العذاب عبارة عن نفس استمراره لأنه يتزايد بمرور الزمان ، والمراد انا لن نخلصكم من العذاب إلى خلافه . ثم شرع في شرح أحوال السعداء قائلاً { إن للمتقين مفازاً } فوزاً وظفراً بالمطالب والأماني أو موضع فوز ثم فسره بقوله { حدائق } الخ . والحدائق البساتين فيها أنواع الشجر وقد مرّ في قوله { حدائق ذات بهجة } [ النمل : 60 ] وخص منها الأعناب لشأن مزيته على سائر الفواكه . والكواعب النواهد واحدها كاعب كطالق وطامث وهي التي ظهر ثديها كالكعب لها نتوّ قليل . والأتراب اللدات . والدهاق المترعة المملوءة وهذا قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد . يروى أن ابن عباس دعا غلاماً له فقال : اسقنا دهاقاً فجاء الغلام بها ملآنة فقال ابن عباس : هذا هو الدهاق . وعن أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد : هي المتتابعة . قال الواحدي : وأصل هذا من قول العرب أدهقت الحجارة إدهاقاً وهو شدّة تلازمها ودخولها بعضها في بعض . وعن عكرمة : دهاقاً أي صافية . والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع دهق وهي خشبتان يعصر بهما . والكأس الخمر أي خمراً ذات دهاق وهي التي عصرت وصفيت بالدهاق . { ولا يسمعون فيها } أي في الجنة وهو الأظهر أو في الكأس وشربها { لغواً } كلاماً باطلاً { ولا كذاباً } أي لا يكذب بعضهم بعضاً لأنهم إخوان الصفاء وأخذان الوفاء . ومن قرأ بالتخفيف فمعناه أنه لا يجري بينهم كذاب أو مكاذبة . قال جار الله : { جزاء } مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله { إن للمتقين مفازاً } كأنه قال : جازى المتقين بمفازو { عطاء } نصب ب { جزاء } نصب المفعول به أي جزاهم عطاء . وقال الزجاج : المعنى جازاهم بذلك جزاء وأعطاهم عطاء .

ومعنى { حساباً } كافياً من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال : حسبي . وقيل : أي على حسب أعمالهم فمعنى الحساب العدّو والتقدير لبعضهم عشرة ولبعضهم سبعمائة وأكثر . وقال ابن قتيبة : هو من أحسبت فلاناً أي أكثرت له يعني عطاء كثيراً . وإنما قال في الأول { جزاء وفاقاً } لأن جزاء السيئة سيئة مثلها أي موافقة لها . وأما ههنا فالمراد ثواب المؤمنين وليس ذلك بتقدير العمل فقط ولكن بمقدار ما يكفيه . ثم مدح نفسه بقوله { رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن } وقد تقدّم إعرابه في الوقوف . والضمير في { لا يملكون } قيل للكافرين نقله عطاء عن ابن عباس ، يريد لا يخاطب المشركون الله ، وأما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم . وقيل للمؤمنين لأن ذكرهم أقرب من ذكر الكفار ، والمراد أنه ما تحيف حقهم فبأي سبب يخاطبونه . والأكثرون على أن الضمير لأهل السموات والأرض فإن أحداً من المخلوقين لا يملك خطاباً من جهة الله إذ كل من هو سواه فهو مملوكه ، والمملوك لا يملك من جهة مالكه شيئاً وإلا لم يكن للمالك كمال الملك . وقالت المعتزلة : إنه عالم بقبح القبيح غني عن فعله وعالم بغناه فلا يفعل إلا الحسن وحينئذ لا وجه للمطالبة والمخاطبة . ثم أكد المعنى المذكور بقوله { يوم يقوم الروح } وهو أعظم المخلوقات قدراً كما مرّ في سورة سبحان في تفسير قوله تعالى { ويسألونك عن الروح } [ الإسراء : 85 ] والصف مصدر في الأصل لا يثنى ولا يجمع غالباً فلهذا جاز أن يكون المراد أنهم يقومون صف من الروح وحده ومن الملائكة بأسرهم صف ، وجاز أن يكون يراد يقوم الكل صفاً واحداً أو يقومون صفوفاً لقوله { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } [ الفجر : 22 ] ثم بين أنهم مع جلالة قدرهم لا يتكلمون إلا بشرطين : أحدهما الإذن من الله ، والضمير في { له } إما للشافع أو للمشفوع . والثاني أن يقول { صواباً } والضمير في { قال } أيضاً إما للشافع فالمراد أنهم لا ينطقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام ، ثم بعد الإذن يجتهدون حتى لا يتكلمون إلا بما هو حق وصواب . وإما للمشفوع . والقول الصواب على هذا التفسير شهادة أن لا إله إلا الله { وذلك اليوم الحق } أي لا باطل فيه ولا ظلم أو هو الكائن لا محالة { فمن شاء اتخذ } بالطاعة { إلى ربه مآباً } ومرجعاً . والظاهر أن الضمير عائد في { شاء } إلى { من } وفيه دليل للمعتزلة . ويروى عن الخدري وابن عباس أن الضمير لله { عذاباً قريباً } هو عذاب الآخرة لأن ما هو آت قريب . وفي المرء أقوال : فعن عطاء أنه الكافر لتقدّم ذكر الإنذار وقوله الكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم . وعن الحسن وقتادة : إنه المؤمن لمجيء ذكر الكافر بعده ، ولأن المؤمن لما قدّم الخير والشر فهو منتظر لأمر الله كيف يحدث ، وأما الكافر فإنه قاطع بالعذاب ومع القطع لا يحصل الانتظار .

والأظهر أنه عام في كل مكلف . و « ما » استفهامية منصوبة ب { قدّمت } أو موصولة منصوبة ب { ينظر } فيلزم إضمار « إن » حذف العائد من قدّمته ، وحذف الجار لأن الأصل أن يقال ينظر إليه . قوله { كنت تراباً } فيه وجوه أحدها : ليتني لم أبعث غير محشور . الثاني ما ورد في الأخبار أن البهائم تحشر فيقتص للجماء من القرناء ثم تردّ تراباً فيودّ الكافر حالها ليتخلص من العذاب . وأنكر بعض المعتزلة ذلك لأنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوّض وبين متفضل عليه ، وعلى التقديرين لا يجوز أن يقطعها عن المنافع لأن ذلك كالإضرار بها . قال القاضي : إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل لم يبعد أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ضرراً . وقال بعضهم : إن الحيوانات إذا انتهت مدّة أعواضها جعل الله تعالى كل ما كان منها حسن الصورة ثواباً لأهل الجنة ، وما كان قبيح الصورة عقاباً لأهل النار . الثالث قال بعض الصوفية : أراد يا ليتني كنت متواضعاً في طاعة الله كالتراب لا مرتفعاً كالنار . الرابع قيل : الكافر إبليس يرى آدم وثواب أولاده فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال { خلقتني من نار وخلقته من طين } [ ص : 76 ] .

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

القراآت : { والسابحات سبحاً فالسابقات سبقاً } بالإدغام فيهما : أبو عمرو غير عباس { أئنا } { أئذا } كما مر في « الرعد » إلا ابن عامر فإنه وافق الكسائي { ناخرة } بالألف : حمزة وعلي غير نصير وعتيبة وخلف ورويس وعاصم غير المفضل وحفص و { طوى } كما مر في « طه » وكذا ما بعدها إلا حمزة وخلف في اختياره فإنهما يفتحان . ومناه { تزكَّى } بتشديد الزاي : أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس ويعقوب { منذر من } بالتنوين : يزيد وعباس . الآخرون : بالإضافة للتخفيف .
الوقوف { غرقاً } ه لا { نشطاً } ه لا { سبقاً } ه لا { أمراً } ه م لأن جواب القسم محذوف وهو ليبعثن ولأنه وصل لأوهم أن { يوم } ظرف { المدبرات } وليس كذلك لأن تدبير الملائكة قد انقضى وقتئذ بل عامل { يوم } تتبعها { الراجفة } ه لا { الرادفة } ه ط { واجفة } ه ط { خاشعة } ه م لتناهي وصف القيامة وابتداء حكاية قولهم في الدنيا { في الحافرة } ط لمن قرأ { أئذا } مستفهماً { نخرة } ه ط { خاسرة } ه م لتناهي قولهم بالإنكار وابتداء أخبار الله تعالى { واحدة } ه ط { بالساهرة } ه ط { موسى } ه م لأن { إذ ناداه } يجوز أن يكون ظرفاً لا ذكر قاله السجاوندي . ويحتمل عندي تعلقه بالحديث وإن لم يجز تعلقه بإتيان الحديث { طوى } ه ج لاحتمال أن يكون { اذهب } مفعول { ناداه } لأنه في معنى القول واحتمال أن يكون مفعول القول المحذوف { طغى } ه للآية مع اتفاق الجملتين والوصل أوجه للفاء { تزكى } ه لا للعطف { فتخشى } ط للآية وانتهاء الاستفهام مع العطف بفاء التعقيب { الكبرى } ه ز لذلك إنما كان الوصل أوجه للفاء واتصال المقصود { وعصى } ه { يسعى } ه { فنادى } ه { الأعلى } ه والوصل ههنا ألزم للعبرة بتعجيل المؤاخذة { والأولى } ه ط { يخشى } ه ط لبتدل الكلام لفظاً ومعنى وابتداء الاستفهام { أم السماء } ه ط بناء على أن الجملة لا تقع صفة للمعرفة وتقدير حذف الموصول من ضيق العطن فاعرفه { بناها } ه لا { فسوّاها } ه لا { ضحاها } ه ص { دحاها } ه ط بناء على أن ما بعده كالتفسير للدحو وهو تمهيدها لأجل السكنى ، وجوز أن يكون { أخرج } حالاً بإضمار « قد » فلا وقف { مرعاها } ه ص { أرساها } ه { ولأنعامكم } ه ط { الكبرى } ه ز لأن { يوم } ظرف { جاءت } وعامل « إذا » مقدّر تقديره أي ترون أو كان ما كان ، وجوز أن يكون { يوم } مفعول « اذكر » وعامل « إذا » مقدّر قبل يوم ، ويجوز أن يكون مجموع الشرط والجزاء وهو قوله { فأما من طغى } إلى آخره جوابا لقوله { فإذا جاءت } . { سعى } ه ط { لمن يرى } ه { طغى } ه لا { الدنيا } ه لا { المأوى } ط { الهوى } ه لا { المأوى } ه ط { مرساها } ط { ذكراها } ه ط { منتاها } ه ط { يخشاها } ه ط { ضحاها } ه .

التفسير : في الكلمات الخمس المذكورة في أول السورة وجوه على نسق ما سبق في المرسلات أحدها : أنها صفات طوائف الملائكة الذين ينزعون نفوس الكفرة من بني آدم غرقاً أي نزعاً بشدّة من أقاصي الأجساد من أناملها وأظفارها . والغرق والإغراق في اللغة واحد يقال : نزع في القوس فأغرق أي بلغ غايته حتى انتهى إلى النصل ، وبالذين يجذبون نفوس المؤمنين برفق ولين كما ينشط الدلو من البئر ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر بإذن الله أمراً من أمور العباد أو جنس الأمر . قال مقاتل : يعني بهذه الطوائف جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأعوان كل منهم . فجبريل موكل بالرياح والجنود ، وميكائيل موكل بالقطر والنبات ، وإسرافيل بنفخ الصور ، وملك الموت عزرائيل وأعوانه بقبض الأرواح . قال الإمام فخر الدين الرازي : النازعات هم الذين نزعوا أنفسهم عن الصفات البشرية والأخلاق الذميمة من الشهوة والغضب والموت والهرم والسقم لأنهم جواهر روحانية مجردة ، والناشطات إشارة إلى أن خروجهم من هذه الأحوال ليس على سبيل الكلفة والمشقة ولكنه بمقتضى الطبيعة والماهية ، والسابحات هم الذين سبحوا في بحار جلال الله فسبق بعضهم بعضاً في ميدان العرفان وحلبة البرهان فدبروا أمر العالم العلوي والعالم السفلي بإذن مبدعهم المنّان . أقول : ويمكن حمل هذه الأمور على مراتب النفس الإنسانية بمثل التقدير المذكور . الوجه الثاني وهو قول الحسن البصري أنها النجوم وتلخيص ذلك على الوجه المطابق للغة والشريعة أنها تغرق شبه النزع من المشرق إلى المغرب بالحركة السريعة ، وتنشط نشطاً أي تخرج من برج إلى برج من قولك « ثور ناشط » إذا خرج من بلد إلى بلد ، وهذا بحركته البطيئة الثابتة . وأما السابحات فهي السيارة كقوله { كل في فلك يسبحون } [ الأنبياء : 33 ] ولأن سيرها المتفاوت يصير سبباً لسبق بعضها بعضاً ، ويترتب على السبق الاتصالات والانصرافات ومعرفة الفصول والأوقات وتقدّم العلم بالكائنات بل العالم السفلي وتدبيراتها مناط بتلك الحركات بإذن خالق الأرض وفاطر السموات فلهذا أدخل الفاء في القرينيتين الأخريين دون الأوليات . الوجه الثالث أنها صفات خيل الغزاة تنزع في أعنتها نزعاً ، تغرق الأعنة فيه لطول أعناقها لأنها عراب ، وهى ناشطات تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، وهي سابحات تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر وتتسبب فيه . الوجه الرابع وهو اختيار أبي مسلم النازعات أيدي الغزاة وأنفسهم تنزع القسي بإعراق السهام ، والناشطات السهام الخارجة من أيديهم أو قسيهم ، والسابحات الخيل العاديات أو الإبل ، والمدبرات بمعنى المعقبات لأنها تأتي في أدبار هذه الأفاعيل بأمر الغلبة والنصر . قال جار الله : { يوم ترجف } منصوب بجواب القسم المحذوف وهو « لتبعثن » .

وقوله { تتبعها } حال . ثم أورد على نفسه أن هذا يوجب أن يكون البعث عند النفخة الأولة وأجاب عنه بأنهم يبعثون في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان كما يقال « رأيته عام كذا » وإنما رؤيته في ساعة منها . والراجفة الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفخة الأولى فهي من الإسناد المجازي . والرادفة رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء ، وقد ورد الخبر أن ما بين النفختين أربعون عاماً . ويروى أنه تعالى يمطر الأرض في هذه الأربعين ويصير ذلك الماء عليها كالنطف فيكون سبباً في الإحياء ولله تعالى أن يفعل ما يشاء . وقيل : الراجفة هي النفخة الأولى ، والرادفة هي قيام الساعة من قوله تعالى { عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون } [ النمل : 72 ] وقيل : الراجفة الأرض والجبال من قوله { يوم ترجف الأرض والجبال } [ المزمل : 14 ] والرادفة السماء والكواكب لأنها تنفطر وتنتثر على أثر ذلك . وقيل : الراجفة هي الأرض تتحرك وتتزلزل ، والرادفة زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى . قال أبو مسلم بناء على تفسيره الذي روينا عنه إن كلاً من الراجفة والرادفة هي خيل المشركين وأريد بهما طائفتان من المشركين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعت إحداهما الأخرى . والقلوب الواجفة أي القلقة ، والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين على الأقوال القلوب الموصوفة مبتدأ . وقوله { أبصارها خاشعة } خبره وفي الكلام إضمار أي أصحابها خاشعة بدليل قوله { يقولون أئنا لمردودون في الحافرة } أي الحالة الأولى وهي الحياة وأصله من قولهم « رجع فلان في حافرته » أي طريقه التي جاء فيها ، جعل أثر قدميه حفراً فالطريق في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت خافرة على الإسناد المجازي أو على وتيرة النسبة أي ذات حفر كما قلنا في « عيشة راضية » ونحوه { كرة خاسرة } كما يجيء .
ثم زادوا في الإنكار مع إشارة إلى وجه الإحالة قائلين { أئذا كنا عظاماً نخرة } نردّ أو نبعث . يقال : نخر العظم فهو نخر وناخر مثل حذر وحاذر وهو الأجوف البالي الذي تمر فيه الريح فيسمع له نخر وهما لغتان فصيحتان ، لأن النخر وإن كان أبلغ في المعنى إلا أن الناخرة بالألف أشبه بأخواتها من رؤوس الآي . ثم أخبر أنهم قالوا على سبيل الاستهزاء { تلك } الكرة { إذا } أي إذا نحشر ونردّ ونرجع { كرة خاسرة } رجعة ذات خسران لأنا كذبنا بها . ثم أفحمهم بقوله { فإنما هي زجرة } أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فما هي إلا صيحة { واحدة } يقال : زجر البعير إذا صاح عليه وهي صيحة إسرافيل في النفخة الثانية . يروى أنه تعالى يحييهم في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون . والساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن ساكنها لا ينام خوف الهلاك ، أو لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة أي جارية .

والأظهر أنها أرض الآخرة . وقيل : هي أرض الدنيا ثم ذكرهم بقصة موسى لأنه أبهر الأنبياء المتقدّمين معجزة وفيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأن فرعون كان أكثر جمعاً وأشدّ قوة من كفار قريش . والوادي المقدّس المبارك المطهر ، وطوى اسم واد بالشأم عند الطور وقد مر في « طه » . قوله { هل لك } الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي هل لك حاجة أو ميل أو التفات ونحو ذلك ، وهذه كلمة جامعة لمواجب التكاليف لأن الملكف لا يصير زاكياً إلا بالتخلية عن كل ما لا ينبغي ، ويجوز أن يكون التزكي إشارة إلى تطهير النفس الفاسدة . قوله { وأهديك } إشارة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة أقلها وأفضلها التوحيد المرتب على الخشية التي منها تنشأ جوامع الخيرات ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم « من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل » وعن بعض الحكماء : اعرفوا الله فمن عرفه لم يقدر أن يعصيه طرفه عين . ثم ههنا إضمار كأنه قال : فذهب موسى إلى فرعون فقال له ما أمر به فلم يصدقه فرعون وجحد نبوته { فأراه } وفي ابتداء المخاطبة بالاستفهام الذي معناه العرض من التلطف والمداراة ما لايخفى فهو كقوله { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] والآية الكبرى العصا أو اليد أو هما كما مر في « طه » { فكذب } بالقلب واللسان إذ نسب المعجز إلى السحر { وعصى } بإظهار التمرد الطغيان { ثم أدبر } خوفاً من الثعبان { يسعى } هارباً أو يتحيل في دفع موسى أو تولى عن موسى إظهاراً للجحود . وجوز أن يكون { أدبر } موضوعاً مكان « أقبل » مكان يقال : أقبل فلان يفعل كذا بمعنى طفق يفعل فكنى عن الإقبال بالإدبار إظهاراً للسخط ولقصد التفاؤل عليه . ومعنى الفاء في { فكذب } أنه لم يلبث عقيب رؤية الآية الكبرى أن بادرها بنقيض مقتضاها لفرط عتوّه ورسوخ تفرعنه . ومعنى « ثم » في { ثم أدبر } تراخي الرتبة فإن الهرب من الحية مع ادعاء الربوبية مما لا يجتمعان وكذا السعاية والمكيدة بين الناس { فحشر } جنوده للتشاور أو لجمع السحرة { فنادى } في المقام الذي اجتمعوا فيه معه أو أمر منادياً . وقيل : قام فيهم خطيباً فقال ما قال . وانتصب { نكال الآخرة } على أنه مصدر مؤكد كأنه قيل : نكل الله به نكالاً وهو مصدر كالتنكيل مثل السلام والتسليم . قال الحسن وقتادة : عذاب الآخرة الإحراق وعذاب الأولى الإغراق . وقيل : الآخرة والأولى صفتان لكلمتي فرعون . ثم اختلفوا فعن مجاهد والشعبي وسعيد بن جبير ومقاتل ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس أن كلمته الأولى { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] والثانية { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] وبينهما أربعون سنة أو عشرون ، وفيه دليل على أنه تعالى يمهل ولا يهمل .

وذكر قوم واستحسنه القفال أن كلمته الأولى تكذيب موسى حين أراه الآية ، والأخرى هي قوله { أنا ربكم الأعلى } وقد يدور في الخلد أن كلمته الأولى هي قوله { أنا ربكم } والآخرة وصفه بالأعلى فإنه لو اقتصرعلى الأولى لم يكن كفراً بدليل قول يوسف { ارجع إلى ربك } [ يوسف : 50 ] { إنه ربي أحسن مثواي } [ يوسف : 23 ] لكنه لما وصفه بالأعلى صار كفراً فأخذه بالأولى والآخرة .
قال الإمم فخر الدين الرازي : إن العاقل لا يشك في نفسه أنه ليس خالق السموات والأرض وما بينهما ، فالوجه أن يقال : إن فرعون كان دهرياً منكراً للصانع والحشر والجزاء وكان يقول ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي سواي فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم . وأقول : كما أن نسبة الإنسان خلق العالم إلى نفسه يوجب الحكم عليه بالجنون وسخافة العقل فالقول بنفي الصانع ونسبة وجود الأشياء إلى ذواتها مع تغيرها في أنفسها يوجب الحكم عليه بعدم العقل فما الفرق بين الأمرين؟ وأيّ استبعاد في ذلك وقد قال الله تعالى { إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى } [ العلق : 7 ] وسكر الدنيا أشدّ من سكر الخمر فإن الثمل من الخمر يرجى صحوه والثمل من شراب حب المال والجاه الطافح من خيال الرياسة لا ترجى إفاقته . ثم ختم القصة بقوله { إن في ذلك } الحديث أو النكال وهو في العرف يقع على ما يفتضح به صاحبه ويعتبر به المعتبر { لعبرة لمن يخشى } أي يكون من أهل الخشية لا القسوة . ثم خاطب منكري البعث بقوله { أأنتم أشدّ } أي أصعب { خلقاً أم السماء } فنبههم على أمر معلوم بالمشاهدة وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ في القدرة . وإذا كان الله قادراً على إنشاء العالم الأكبر يكون على خلق العالم الأصغر بل على إعادته أقدر . ثم أشار إلى كيفية خلق السماء فقال { بناها } وفيه تصوير للأمر المعقول وهو الإبداع والاختراع بالأمر المحسوس وهو البناء . ثم ذكر هيئة البناء فقال { رفع سمكها } وهو الامتداد القائم على كل من امتدادي الطول والعرض . فإذا اعتبر من السفل إلى العلو يسمى سمكاً ، وإذا اعتبر بالعكس يسمى عمقاً . وذكر أهل التفسير أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام . ولأهل الهيئة طريقة أخرى قد برهنوا عليها في كتبهم . قوله { فسوّاها } زعم أصحاب الهيئة أن المراد بهذه التسوية جعلها كرية ولا ضرر في الدين من هذا الاعتقاد . وحملها المفسرون على تمام التأليف أو على نفي الفطور عنها . وأقول : من الجائز أن يراد بها جعلها طبقات مرتبة كقوله { فسوّاهن سبع سموات } [ البقرة : 29 ] الغطش الظلمة يقال : غطش الليل وأغطشه الله . ويقال : أغطش الليل أيضاً مثل أضاء وأظلم . وعبر بالضحى عن النهار لأن الضحى أكمل أجزائه في النور والضوء . وإنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما بسبب غروب الشمس وطلوعها الحادثين بسبب حركة الفلك قوله { والأرض بعد ذلك دحاها } قد مر تفسير الدحو في أول سورة « البقرة » وأن بعدية دحو الأرض لا تنافي تقدّم خلق الأرض على السماء في قوله

{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ] قال أهل اللغة : دحوت أدحو ودحيت أدحى لغتان في حديث عليّ : اللهم داحي المدحيات أي باسط الأرضين السبع . وقد يروى عن ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جريج أن قوله { بعد ذلك } يعنى مع ذلك كقوله { فك رقبة } إلى قوله { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] أي كان مع هذا من أهل الإيمان بالله . ونصب { الأرض } { والجبال } فيما يجيء بإضمار دحى وأرسى على شريطة التفسير . قال المفسرون : أراد بالمرعى جميع ما يأكله الناس والأنعام فيكون الرعي مستعاراً للإنسان ولهذا قال { متاعاً } أي فعل كل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم . حين فرغ من دلائل القدرة على البعث رتب عليه شرح يوم القيامة . والطامة الداهية التي لا تطاق من قولهم طم الفرس طميماً إذا استفرغ جهده في المشي والجري فإذا وصفت بالكبرى كانت في غاية الفظاعة ونهاية الشدّة ، وفي أمثالهم « جرى الوادي فطم على القري » وهو مفرد وجمعه أقرية وقريان وهي الجداول والأنهار . وأصل الطم الدفن والغلب فكل ما غلب شيئاً وقهره وأخفاه فقد طمه . وقيل : الطامة النفخة الثانية عن الحسن . وقيل : هي الساعة التي يساق بها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار . قال جار الله : { يوم يتذكر } بدل من { إذا جاءت } لأنه إذا رأى أعماله مدوّنة مكتوبة تذكرها وكان قد نسيها . قوله { وبرزت الجحيم لمن يرى } كقولهم « قد بين الصبح لذي عينين » وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد فعلى هذا يكون استعارة ولا يجب أن يراها كل أحد لأن الإخبار إنما وقع عن كونها بحيث لا تخفى على ذي بصر لا عن وقوع البصر . وقيل : إنها برزت الجحيم ليراها كل من له بصر وعلى هذا يجب أن يراها كل أحد إلا أن المؤمنين يمرون عليها كالبرق الخاطف ، وأما الكافرون فيقعون فيها فكأنها برزت لأجلهم فقط ، وبهذا الاعتبار قال في موضع آخر . { وبرّزت الجحيم للغاوين } [ الشعراء : 91 ] وقوله { طغى } إشارة إلى فساد القوى النظرية فإن من عرف الله بالكمال عرف نفسه بالنقصان فلم يصدر عنه الطغيان . قوله { وآثر الحياة الدنيا } رمز إلى اختلال القوّة العمليةي فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة . واللام في { المأوى } للعهد الذهني أي مأواه اللائق به ولهذا استغنى عن العائد ولا حاجة إلى تكلف أن الألف ، واللام بدل من الإضافة . قوله { خاف مقام ربه } نقيض طغى . قوله { ونهى النفس } الأمارة { وآثر الحياة الدنيا } فهذا الشخص إذا كامل في قوّته النظرية والعملية .

وتفسير { خاف مقام ربه } قد مر في سورة الرحمن . { ونهى النفس } ضبطها وتوطينها على متاعب التكاليف من الأفعال والتروك .
ثم إن المشركين كانوا يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الطامة والحاقة وغيرهما من أسماء القيامة فيسألون { أيان مرساها } أي زمان إرسائها وهو إقامة الله إياها وقد مر في آخر « الأعراف » . وعن عائشة رضي الله عنها لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت . وقوله { فيم أنت } على هذا تعجب من كثرة ذكره لها كأنه قيل : في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها حرصاً على جوابهم إلى ربك منتهى علمها لم يؤته أحداً من خلقه . ويجوز أن يكون قوله { فيم أنت من ذكراها } من تتمة السؤال أي يسألونك فيم أنت من العلم بها . ويحتمل أن يكون فيم إنكار سؤالهم أي فيم هذا السؤال . ثم قيل : أنت من ذكراها أي إرسالك وأنت آخر الرسل وخاتم الأنبياء ذكر من أذكارها وعلامة من علاماتها فلا حاجة إلى الاستفهام عن وقتها بعد العلم باقترابها ، فإن هذا القدر من العلم يكفي في وجوب الاستعداد لها بل لا يتم الغرض من التكليف إلا بإخفاء وقته كالموت { إنما أنت منذر } لا تتعداه إلى العلم بالغيب الذي العلم بالساعة جزئي منه . وخص الإنذار بأهل الخشية لأنهم المنتفعون بذلك . ثم أخبر أنهم حين يرون الساعة يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا . وقيل : في القبور . روى عطاء عن ابن عباس أن الهاء والألف صلة والمعنى لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى . وقال النحويون : فيه إضمار والتقدير إلا عشية أو ضحى يوم تلك العشية على أن الإضافة في { ضحاها } يكفي فيها أدنى ملابسة وهو ههنا إجتماعهما في نهار واحد . قال صاحب الكشاف : فائدة الإضافة الدلالة على أن مدة لبثهم كانها لم تبلغ يوماً كاملاً . قلت : سلمنا أن هذه الفائدة مفهومة من عبارة القرآن إلا أنها تحصل أيضاً بتقدير عدم الإضافة كما لا يخفى فلا يصح أن تسند الفائدة إلى الإضافة وحدها . فالوجه أن يقال : فائدة الإضافة أن يعلم أن مجموع الدنيا في ظنهم كيوم واحد وزمان لبثهم في الدنيا كساعة منه عشية أو ضحاها نظيره قول القائل « ما سرت إلا عشية أو ضحى » فإنه لا يفهم منه إلا السير في بعض يوما مّا ، وقد تكون العشية من يوم والضحى من يوم آخر . ولو قال « إلا عشية أو ضحاها » لم يمكن أن يكون السير إلا في أحد هذين الوقتين من يوم واحد . قال بعضهم : فائدة الترديد أن زمان المحنة يعبر عنه بالعشية وزمان الراحة يعبر عنه بالضحى فكأنه قيل : ما كان عمرنا في الدنيا إلا هاتين الساعتين . أقول : ويحتمل أن يقال إن مبدأ اليوم بليلته كان قبل شرعنا في أكثر الأديان من نصف النهار وقد صار المبدأ في شرعنا من أول الفجر وكأنهم حين أرادو التعبير عن بعض اليوم . قالوا : إن كان المبدأ من نصف النهار فنحن لم نلبث إلا عشية وهو ما بعد الزوال إلى الغروب ، وإن كان المبدأ من أول الفجر فلم نلبث إلا من الفجر إلى الضحى فلعل هذا هو السر في تقديم العشية على الضحى مع رعاية الفاصلة والله أعلم بأسرار كلامه .

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

القراآت : كل آيات هذه السورة في الإمالة والتفخيم مثل سورة طه { فتنفعه } بالنصب على أنه جواب لعل : عاصم غير الأعشي { تصدّى } بتشديد الصاد للإدغام : أبو جعفر ونافع وابن كثير . الآخرون : بتخفيفها بناء على حذف تاء تتفعل أو الخطاب عنه { تلهى } بإشباع ضمة الهاء وتشديد التاء : البزي وابن فليح { أنا } بالفتح على البدل من الطعام : عاصم وحمزة وخلف .
الوقوف : { وتولى } ه لا { الأعمى } ه ط { يزكى } ه لا { الذكرى } ه ط { استغنى } ه لا { تصدّى } ه ط { يزكى } ه { يسعى } ه لا { يخشى } ه { تلهى } ه ز لأن { كلا } للردع فلا يوقف أو بمعنى حقاً فيوقف { تذكرة } ه ج للشرط بعده مع الفاء { ذكره } ه م لأن الظرف لا يجوز أن يتعلق بما قبله ولكنه خبر مبتدأ محذوف أي هو في صحف { مكرمة } ه لا { مطهرة } ه لا { سفرة } ه ز { بررة } ط { أكفره } ه ط { خلقه } ه ز لأن الجواب محذوف أي خلقه من { نطفة } ط { فقدّره } ه لا { يسره } ه ز { فأقبره } ه لا { أنشره } ه ط بناء على أن { كلا } بمعنى حقاً ولا يصلح للردع وجه كما يجيء { أمره } ه ط { إلى طعامه } ه ز إلا لمن قرأ { أنا } بالفتح { صباً } ه لا { شقاً } ه لا { حباً } ه ز { وقضباً } ه ك { ونخلاً } ه ك { غلباً } ه ك { وأباً } ه لا { ولأنعامكم } ه ط { الصاخة } ه ز فإن الأوضح أن يكون { يوم } ظرف { جاءت } وجوز أن يكون مفعول « اذكر » محذوفاً والعامل مقدّر أي فإذا جاءت الصاخة كان ما كان { أخيه } لا { وأبيه } ه ك { وبنيه } ه ط { يغنيه } ه ك { مسفرة } ه لا { مستبشرة } ه ج فصلاً بين حالتي الفئتين مع اتفاق الجملتين { غبرة } ه لا { قترة } ه { الفجرة } ه .
التفسير : أطبق المفسرون على أن الذي عبس هو الرسول صلى الله عليه وسلم والأعمى هو ابن أم مكتوم واسمه عبد الله بن شريخ بن مالك بن ربيعة الزهري . وذلك أنه أتى رسول الله وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم . فقال : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم شغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت ، فكان رسول الله صلى هلله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه ويقول : إذا رآه : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ويقول له : هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين . وقال أنس : رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء .

والجار محذوف على القياس متعلق ب { عبس } أو ب { تولى } على اختلاف في باب تنازع الفعلين للكوفيين والبصريين والتقدير : عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك . يروى أنه صلى الله عليه وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدّى لغني . قال أهل المعاني : في الالتفات من الغيبة إلى الخطاب دلالة على مزيد الإنكار كمن يشكو جانياً بطريق الغيبة وهو حاضر ثم يقبل على الجاني مواجهاً بالتوبيخ . قالوا : وفي ذكر الأعمى نحو من الإنكار أيضاً لأن العمى يوجب العطف والرأفة عند ذوي الآداب غالباً لا التولي والعبوس ، ولا يخفى أن نظر النبي صلى الله عليه وسلم كان على أمر كلي هو رجاء إسلام قريش فإنه في الظاهر أهم من إجابة رجل أعمى على الفور إلا أنه سبحانه عدّ هذا الجزئي كلياً من جهة أخرى هي تطييب قلوب الفقراء والضعفاء وإهمال جانب أهل الغنى والثراء ، فإن هذا أدخل في الإخلاص وابتغاء رضوان الله وذلك مظنة التهمة والرياء . يحكى عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء . وأيضاً فائدة الإرشاد والتعليم بالنسبة إلى هذا الأعمى أمر معلوم وبالنسبة إلى أولئك أمر موهوم لأنه جاء طالباً مسترشداً وأنهم جاءوا مستهزئين معاندين ، وترك المعلوم للموهوم خارج عن طريق الاحتياط وإلى هذا المعنى أشار بقوله { وما يدريك لعله } لعل الأعمى { يزكى } عما لا ينبغي { أو يذكر } يتعظ { فتنفعه الذكرى } فيفعل ما ينبغي . وقيل : الضمير في { لعله } للكافر يعني أي شيء أدراك بحال كل من أولئك الكفرة حتى طمعت في تطهرهم من الأوزار وانتفاعهم بالاذكار . ثم زاد تصريحاً لما فعل قائلاً { أما من استغنى } أي بالمال . وقال عطاء : عن الإيمان . وقال الكلبي : أي عن الله . والأول أولى لأنهم كانوا أغنياء وما توجه الخطاب إلا من هذه الجهة وإن كان إسلامهم موهوماً { فأنت له تصدّى } تتعرض وأصله تتصدد من الصدد وهو ما استقبلك فصار قبالك { وما عليك } يحتمل أن تكون « ما » استفهامية ونافية يعني أي وبال يعود عليك أو ليس عليك بأس في أن لا يتزكى ذلك المستغني إن عليك إلا البلاغ فما الموجب للحرص والتهالك على إسلامه حتى تكسر قلوب الفقراء بالعبوس والإعراض ، وهذا معنى قوله { وأما من جاءك يسعى } يسرع في طلب الخير { وهو يخشى } الله أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك . وقيل : يخشى الكيوة لأنه أعمى ما كان له قائد { فأنت عنه تلهى } أي تتشاغل . قال أهل المعاني : بناء الكلامين على ضمير المخاطب تقوية إنكار التصدي والتهلي عليه أي مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدّى لغنى ويتلهى عن الفقير . قوله { كلا } ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله أي لا تفعل مثل ذلك . ثم قال { إنها } يعني آيات القرآن وهو قول مقاتل ، أو هذه السورة وهو قول الكلبي واختاره الأخفش { تذكرة } وهي في معنى الذكر والوعظ فلذلك قال { فمن شاء ذكره } والمراد أن هذا القرآن أو هذا التأديب الذي عرفناكه في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا ثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة .

وفيه أن القرآن الذي بلغ في العظمة إلى هذا الحد أيّ حاجة له إلى أن يقبله هؤلاء الكفرة ، فسواء قبلوه أو لا فلا تلتفت إليهم واجتهد في تطيب قلوب الفقراء الذين هم أهل الإخلاص وحزب الله . ثم وصف الصحف بأنها مكرمة عند الله مرفوعة في السماء أو مرفوعة المقدار مطهرة عن أهل الخبائث لا يمسها إلا المطهرون من تلك الملائكة وتلك الصحف { بأيدي سفرة } قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة : هم الكتبة من الملائكة واحدها سافر مثل كتبة وكاتب ، وقد مرّ في أول التفسير أن التركيب يدل على الكشف فبالكتابة يتبين ما في الضمير ويتضح . قال الفراء : اشتقاق السفرة من السفارة لأن الملائكة سفرة بين الله ورسوله ولا يخفى ما في السورة من معنى الكشف أيضاً { كرام } على ربهم . وقال عطاء : أراد أنهم يكرمون من أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة { بررة } أتقياء واحدها بارّ . وقيل : هي صحف الأنبياء فيكون كقوله { إن هذا لفي الصحف الأولى } [ الأعلى : 18 ] وقيل : السفرة القراء . وقيل : الصحابة ثم عجب من صناديد قريش وأضرابهم من أهل العجب والكفر المرتفعين على الفقراء مع أن أوّلهم نطفة مذرة وآخرهم جيفة قذرة وهم فيما بين الوقتين حملة عذرة فقال { قتل الإنسان } وهو دعاء عليه أشنع دعوة لأنه لا أفظع من القتل و { ما أكفره } تعجب من حال إفراطه في الكفران وتلقي نعم خالقه بالجحود والطغيان ، وهذا قد ورد على أسلوب كلام العرب وأنه لا يمكن أن يحمل في حقه تعالى إلا على إرادة إيصال العقاب الشديد وليكون لطفاً للمعتبرين المتعجبين المتأملين في مراتب حدوثهم التي أوّلها نطفة وأشار إيلها بقوله { من أي شيء خلقه من نطفة } والاستفهام لزيادة التقرير في التحقير .
ثم قال { فقدّره } فحمله الفراء على أطواره بعد كونه نطفة إلى وقت إنشائه خلقاً آخر ، وعلى أحواله من كونه ذكراً أو أنثى وشقياً أو سعيداً . وقال الزجاج : قدره على الاستواء كقوله { ثم سوّاك رجلاً } [ الكهف : 37 ] ويحتمل أن يراد فقدر كل عضو في الكمية والكيفية على التقدير اللائق بمصلحته . وأما المرتبة الوسطى فإليها الإشارة بقوله { ثم السبيل يسره } وهو نصب على شريطة التفسير فمن فسر التقدير بالأطوار فسر السبيل بمخرج الولد من بطن أمه . يقال : إن رأس المولود في بطن أمه يكون من فوق ورجله من تحت ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب بإلهام الله تعالى إياه على أن نفس خروج الولد حياً من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب وعلى التفاسير الأخر فالمراد تسهيل سبيل الخير والشر كقوله

{ إنا هديناه السبيل } [ الدهر : 3 ] وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله { ثم أماته فأقبره } أي جعله ذا قبر فيكون متعدياً إلى واحد ، ويحتمل أن يكون الثاني محذوفاً أي فأقبره غيره . يقال : قبر الميت إذا دفنه بنفسه ، وأقبر غيره الميت إذا أمره بدفنه ، فالمراد أن الله سبحانه أمر بدفن الأموات الإنسية تكرمة لهم دون أن يطرحوا على وجه الأرض طعمة للسباع كسائر الحيوان { ثم } إن في كل هذه الانتقالات دلالات واضحة على أنه سبحانه { إذا شاء } أن ينشر الإنسان ببعثه من قبره { أنشره } قوله { كلا } يجوز أن يكون ردعاً للإنسان عن تكبره وترفعه أو عن كفره وإنكاره المعاد . وقال في الكشاف : وهذا هو ردع للإنسان عما هو عليه فهذا قول مجاهد إن إنساناً لم يخل من تقصير قط فلم يقض أحد من لدن آدم إلى هذه الغاية جميع ما كان مفروضاً عليه . وقال آخرون : معناه أن الإنسان الكافر لم يقض بعد ما أمره الله من التأمل في دلائل التوحيد والبعث . وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك : القضاء بمعنى الحكم والضمير لله أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يحكم له به . وحين فرغ من دلائل الأنفس أردفها بدلائل الآفاق قائلاً { فلينظر الإنسان } نظر استدلال وتدبر { إلى طعامه } الذي يعيش به كيف دبرنا أمره من إنزال الماء من السماء ، ثم شق الأرض بالنبات أو بالكراب على البقر فيكون إسناد الفعل إلى السبب . والحب ما يصلح للقوت كالحنطة والشعير ، والقضب العلف بعينه قاله الحسن . وقال أكثر المفسرين : إنه القت لأنه يقضب مرة بعد أخرى أي يقطع . والغلب الغلاظ الأعناق في الأصل يقال : أسد أغلب ، ثم استعير للحدائق أنفسها لتكاثف أشجارها ولأشجارها لعظمها وغلظها . ثم أجمل الفاكهة ليعم الكل وأجمل العلف بقوله { وأبا } للعموم وهو المرعى لأنه يؤب أي يؤم وينتجع . والأب والأم إخوان قاله جار الله . وقيل : الأب الفاكهة اليابسة المعدّة للبقاء . والفاء في قوله { فإذا جاءت } مثل ما مر في « النازعات » { والصاخة } النفخة الأخيرة . قال الزجاج : أصل الصخ الطعن والصك صخ رأسه بالحجر أي شدخه ، والغراب يصخ بمنقاره في دبر البغير أي يطعن ، والنفخة لشدّتها تصك الآذان . وقال جار الله : يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصف النفخة بالصاخة مجاز لأن الناس يصخون لها أي يستمعون . وفرار المرء من الجماعة المذكورين إما بالصورة وذلك للاحتراز عن المطالبة بالتبعات يقول الأخ : ما واسيتني بمالك . ويقول الأبوان : قصرت في برنا . وتقول الصاحبة : أطعمتني الحرام وفعت كذا وكذا ، والبنون يقولون : لم تعلمنا ولم ترشدنا .

قال جار الله : إنما بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ، والفرار إنما يقع من الأبعد ثم من الأقرب ، وأخر الصاحبة والبنين لأن البنين أقرب وأحب فكأنه قيل : يفر من أخيه بل من أبيه بل من صاحبته وبنيه . وأقول : هذا القول يستلزم أن تكون الصاحبة أقرب وأحب من الأبوين ولعله خلاف العقل والشرع ، والأصوب أن يقال : أراد أن يذكر بعض من هو مطيف بالمرء في الدنيا من أقاربه في طرفي الصعود والنزول فبدأ بطرف الصعود لأن تقديم الأصل أولى من تقديم الفرع ، وذكر أوّلاً في كل من الطرفين من هو معه في درجة واحدة وهو الأخ في الأول ، والصاحبة في الثاني على أن وجود البنين موقوف على وجود الصاحبة فكانت بالتقديم أولى . وقيل : أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح . والأنسب عندي أن يكون الفار قابيل وقد جاء هكذا في بعض الروايات ، والأظهر أن الفرار المعنيّ هو قلة الاهتمام بشأن هؤلاء بدليل قوله { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } أي يصرفه ويصدّه عن قرابته . قال ابن قتيبة : ويقال أغن عني وجهك أي اصرفه . وعندي أن اشتقاقه من الغنى وذلك أن من أغناك فقد صرفك عن نفسك أو عن طلب حاجته . ثم ذكر أن الناس يومئذ فريقان وأن أهل الكمال تلوح على وجوههم أنوار الكمال من أسفر الصبح إذا أضاء يستبشرون بأنواع المسار ، ويضحكون بدل ما كانوا يبكون في الدنيا خوفاً من عقاب الله تعالى ، وأن أهل النقائص يظهر على وجوههم سواد مع غبرة كوجوه الزنوج مثلاً إذا أعبرت . والقترة سواد كالدخان جمع الله في وجوههم ظلمة الضلال والكفر مع غبار الفجور والفسق ولهذا نعى عليهم بقوله { أولئك هم الكفرة الفجرة } أعاذنا الله في الدارين من مثل أحوالهم .

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

القراآت { سجرت } بالتخفيف : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . { قتلت } بالتشديد : يزيد و { نشرت } مخففاً : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم غير يحيى وحماد { الجوار } ممالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو في رواية { بظنين } بالظاء : ابن كثير وعلي وأبو عمرو ويعقوب . الباقون : بالضاد .
الوقوف { كورت } ه ص { انكدرت } ه ص { سيرت } ه ك { عطلت } ه ك { حشرت } ه ك { سجرت } ه ك { زوّجت } ه ك { سئلت } ه ك { قتلت } ه ج لاعتراض الاستفهام بين النسق { نشرت } ه ص { كشطت } ه ك { سعرت } ه ك { أزلفت } ه ك الاستفهام بين السنق { نشرت } ه ص { كشطت } ه ك { سعرت } ه ك { أزلفت } ه ك { أحضرت } ه ط لتمام الشرط والجزاء والتقدير إذا كورت الشمس كورت ارتفعت الشمس بفعل مضمر تفسيره الظاهر وكذلك ما بعدها . وقوله { علمت } جواب عن الكل وهو العامل في « إذا » وما عطف عليها { بالخنس } ه لا { الكنس } ه لا { عسعس } ه ك { تنفس } ه ك { كريم } ه ك { مكين } ه ك { أمين } ه ط بناء على أن ما بعده مستأنف ومن جعل { وما صاحبكم } وما بعدها معطوف على جواب القسم لم يقف على { أمين } إلى قوله { فأين تذهبون } . { بمجنون } ه ج { المبين } ه ج { بضنين } ه ج { رجيم } ه ج { تذهبون } ه ط { للعالمين } ه لا لأن ما بعده بدل البعض { يستقيم } ه { العالمين } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء . أما هذه ففيها اثنا عشر شيئاً أوّلها تكوير الشمس وفيه وجهان : أحدهما إزالة النور لأن التكوير هو التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة . وفي الحديث « نعوذ بالله من الحور بعد الكور » أي من التشتت بعد الألفة والاجتماع ، ومنه كارة القصار وهي ثوب واحد يجمع ثيابه فيه . ولا يخفى أن الشيء الذي يلف يصير مخفياً عن الأعين فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس وصيرورتها غائبة عن الأعين بالتكوير . الثاني أن يكون من قولهم طعنه فحوره وكوره إذا ألقاه أي ألقيت ورميت عن الفلك . وثانيها انكدار النجوم أي تساقطها وتناثرها والأصل في الانكدار الانصباب وكل متراكب ففهي كدورة فلهذا يقال للجيش الكثير دهماء . قال الخليل : انكدر عليهم القوم إذا جاءوا أرسالاً فانصبوا عليهم . قال الكلبي : تمطر السماء يومئذ نجوماً فقال عطاء : وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور وتلك السلاسل في أيدي الملائكة ، فإذا مات من في السماء والأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة . ويروى في الشمس والنجوم أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها .

وثالثها تسيير الجبال وقد مر في سورة « عم » . ورابعها تعطيل العشار وهي جمع عشراء كالنفاس في نفساء . والعشراء الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع الحمل لتمام السنة ، وهي أنفس ما يكون عند أهلها وهم العرب فخوطبوا بما هو مركوز في أذهانهم مصوّر في خزانة خيالهم ، والغرض بيان شدّة الاشتغال بأنفسهم حتى يعطلوا ويهملوا ما هو أهم شيء عندهم . وقيل : العشار هي السحاب تعطلت عما فيها من الماء ، ولعله مجاز من حيث إن العرب تشبه السحاب بالحامل . قال الله تعالى { فالحاملات وقرا } [ الذاريات : 2 ] وخامسها حشر الوحوش والوحش ضد ما يستأنس به من دواب البر . قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص ، وفيه أنه سبحانه إذا كان لا يهمل أمر الوحوش فكيف يهمل أمر المكلفين . قال الإمام فخر الدين : وفيه دليل على أن هول ذلك اليوم بلغ مبلغاً لا يفرغ الوحوش للنفار عن الإنسان ولا بعضها للاحتراز عن بعض مع العداوة الطبيعية بين بعض الأصناف حتى صار بعضها غذاء بعض . قلت : هذا الاستدلال ضعيف فإن الوحوش في الدنيا أيضاً مجتمعة مع الناس ومع أضدادها لكن في أمكنة مختلفة ، فلم لا يجوز أن تكون في القيامة أيضاً كذلك . وعن ابن عباس في رواية إن حشر الوحوش عبارة عن موتها وذلك إذا قضى بينها فردّت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه . يقال : إذا اجتاحت السنة الناس وأموالهم حشرتهم السنة أي أماتتهم . السادس تسجير البحار أي تنشيف ما فيها من الرطوبة حتى لا يبقى فيها شيء من المياه وقد سبق في « الطور » . السابع تزويج النفوس وهو اقتران الأرواح بالأجساد . وقال الحسن : هو كقوله { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] أي صنفتم أصنافاً ثلاثة وقريب منه قول من قال : هو أن يضم كل واحد إلى من يجانسه في طبقته من خير أو شر . وقول من قال : هو أن يقرن بين الرجل وبين من كان يلازمه في الدنيا من ملك أو سلطان . وقال ابن عباس : زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، ونفوس الكافرين بالشياطين ، ويقرب منه قول الزجاج هو أن تقرن النفوس بأعمالها . الثامن سؤال الموؤدة . قال جار الله : وأد يئد مقلوب آد يؤد إذا أثقل لأنه إثقال بالتراب ، وكانوا يدفنون بناتهم في الأرض أحياء خوفاً من الفقر ولخوف العار كما مر في « النحل » وغيره . ومعنى هذا السؤال تبكيت قاتلها كما يخاطب عيسى بقوله { أأنت قلت للناس } [ المائدة : 116 ] والغرض تبكيت النصارى . وقيل : الموؤدة هي التي تسأل نفسها فهي السائلة والمسؤول عنها . وإنما قيل { قتلت } ماضياً مجهولاً غائباً بناء على أن الكلام إخبار عنها ، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل قتلت مجهولاً مخاطباً ، ولو حكى كلامها حين سألت لقيل قتلت متكلماً مجهولاً وبه قرأ ابن عباس .

قالت المعتزلة وبه يحتج صاحب الكشاف : إن في الآية دلالة على أن أطفال المشركين لا يعذبون لأنه تعالى إذا بكت الكافر بسببها فلأن لا يعذبها أولى . ويمكن أن يجاب بأن تعذيب الوائد للوأد من جهة أنه تصرف في ملك الله تعالى بغير حق لا ينافي تعذيب الموؤدة من جهة أخرى وهي أن حكمها في الإسلام والكفر حكم أبيها . التاسع نشر صحف الأعمال . عن قتادة : هي صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك حين موتك ثم تنشر يوم القيامة فلينظر رجل يملى في صحيفته . ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم . وعن مرثد بن وداعة : إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال قاله في الشكاف . العاشر كشط السماء كما يكشط الإهاب عن الذبيحة . والغطاء عن الشيء أي كشفت وأزيلت عما فوقها وهو الجنة وعرش الله تعالى . الحادي عشر والثاني عشر تسعير الجحيم أي إيقادها وإزلاف الجنة أي إدناؤها . استدل بعضهم بالآية على أن النار غير مخلوقة الآن لأنه علق تسعيرها بيوم القيامة ، ويمكن المعارضة بأنها تدل على أن الجنة مخلوقة وإلا لم يمكن إزلافها على أن تعليق تسعير الجحيم بيوم القيامة لا ينافي وجودها قبل ذلك غير موقدة ايقاداً شديداً . وقيل : يسعرها غضب الله عز وجل وخطايا بني آدم .
وقوله { علمت نفس ما أحضرت } كقوله { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } [ آل عمران : 30 ] والتنوين في { نفس } للتقليل على أنه مفيد للتكثير بحسب المقام نحو { قد يعلم الله } [ النور : 63 ] { ربما يود الذين كفروا } [ الحجر : 2 ] ويجوز عندي أن يكون للتعظيم أو للنوع يعني النفس الإنسانية لا النباتية ولا الحيوانية ولا الفلكية عند القائلين بها . وإسناد الإحضار إلى الأنفس مجاز لأن الملائكة أحضروها في الصحف أو في الموازين إلا أنها لما تسبب منها ذلك أسند إليها على أن آثار أعمالها إنما تلوح عليها . قال أهل التأويل : هذه الأحوال يمكن اعتبارها في وقت القيامة الصغرى وهي حالة الموت ، فالشمس النفس الناطقة ، وتكويرها قطع تعلقها ، وانكدار النجوم تساقط القوى ، وتسيير الجبال انعزال الأعضاء الرئيسة عن أفعالها ، والعشار البدن يهمل أمرها ، وحشر الوحوش ظهور نتائج الأفعال البهيمية والسبعية على الشخص ، وتسجير البحار نفاد الأوهام الباطلة والأماني الفارغة فإنه بحر لا ساحل له دون الموت الاختياري أو الاضطراري ، وتزويج النفوس انضمام كل ملكة إلى جنسها الظلمة إلى الظلمة والنور إلى النور ، والموؤدة القوّة التي ضيعها المكلف في غير ما خلقت لأجله .

وسمعت بعض المحققين من أساتذتي أنها كل مسألة سنحت للخاطر ولم تقيد بالكتابة حتى غابت . والسماء سماء الأرواح والباقي ظاهر . وحين أثبت المعاد شرع في النبوّات فأكدها بالحلف . والخنس جمع خانس ، والكنس جمع كانس . والأكثرون على أنها السيارات الخمسة الجاريات مع النيرين في أفلاكها بالارتباطات المعلومة من الهيئة وقد ذكرنا طرفاً منها في البقرة بقوله { إن في خلق السموات والأرض } [ الآية : 164 ] وفي قوله { فسواهن سبع سموات } [ البقرة : 29 ] فخنوسها رجوعها ومنه الخناس للشيطان ، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ومنه كنس الوحش إذا دخل كناسه . والمنجمون يسمون زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد متحيرة لمشاهدة الوقوف والرجوع منها بعد الاستقامة وهي حركتها الخاصة من المغرب إلى المشرق على توالي البروج أي من الحمل إلى الثور ثم إلى الجوزاء وهكذا على الترتيب . فإذا تحركت القهقري بعكس هذا الترتيب شبه الحركة اليومية . يقال : إنها راجعة أقسم الله بها إذ أحوالها أغرب ورباطاتها مع الشمس أعجب كما بين في ذلك العلم . وعن علي رضي الله عنه وهو قول عطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها غيبتها عن البصر بالنهار وكنوسها ظهورها للبصر في الليل كما يظهر الوحش من كناسه . وعن ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش وخنوسها صفة لأنوفها ومنه « رجل أخنس وامرأة خنساء » وفي هذا القول بعد عن الخنس المقسم بها لأنه لا يناسب ما بعده . وقال أهل التأويل : هي الحواس الخمس تظهر آثارها تارة وتغيب أخرى . ثم أقسم بالليل والنهار . ومعنى عسعس أقبل وأدبر فهو من الأضداد ، وتنفس الصبح مجاز عن تخلصه من ظلمة الليل كنفس المكروب إذا وجد راحة أو مجاز عما يكون عنده من روح ونسيم . والضمير في { إنه } للقرآن ، والرسول الكريم جبرائيل ، وكرمه على ربه أن جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء ، وكرمه في نفسه أنه لا يدل إلا على الخير والكمال . ومعنى كون القرآن قول جبرائيل أنه وصل منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن النزاع وقع من الكفرة في أنه قول محمد أو هو من السماء فأثبت الثاني ليلزم نفي الأول . وفي لفظ رسوله دلالة على أنه ليس قوله بالاستقلال . وقوله { ذي قوّة } كقوله { ذي مرة } [ النجم : 6 ] وقد مر بالنجم . وقوله { عند ذي العرش } أي عند ربه بالقرب كقوله { ومن عنده } [ الرعد : 43 ] والمكين ذو الجاه الذي يعطى ما يسأل يقال مكن فلان بضم الكاف مكانة . وقوله { ثم } إشارة إلى الظرف المذكور أي مطاع عند الله في الملائكة المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه { أمين } على الوحي والسفارة وقد عصمه الله من الخيانة والزلل . استدل في الكشاف بالآيات على تفضيل الملك على الأنبياء وقال : لأنه وصف جبرائيل بصفات الكرامة ، ثم وصف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { وما صاحبكم بمجنون } وشتان بين الوصفين .

قلت : أمثال هذا التغليط من باب الجنون وهذا نشأ من سماع لفظ المجنون . والتحقيق أن ذكر جبرائيل ومدحه وقع استطراداً لبيان مدح النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في صدقه فإن الكفرة زعموا أن القرآن إفك افتراه مجنون به وأعانه عليه قوم آخرون فلم يكن بد من نفي الجنون عنه . ووصف جبرائيل بالأمانة والمكانة وغيرهما فإن شرف الرسول يدل على شرف المرسل إليه وصدقه ، فالعجب من الزمخشري أنه كيف سمع لفظ المجنون فاعتراه حتى استدل به على مفضولية أشرف المخلوقات ، ولم يعلم أن ذكر جبرائيل ووصفه بأوصاف الكمال اتفق لغرض تزكية النبي صلى الله عليه وسلم . والعجب من الإمام فخر الدين الرازي أيضاً أنه كيف أورد حجته الواهية في تفسيره ولم يتعرض للجواب عنه مع كمال حرصه على تزييف أدلتهم . ثم حكى أنه قد رأى جبرائيل على صورته الأصلية بحيث حصل عنده علم ضروري بأنه ملك مقرب لا شيطان رجيم فقال { ولقد رآه بالأفق المبين } وهو أفق الشمس كما مر في « النجم » . ثم أخبر عن صدقه وإشفاقه فقال { وما هو على الغيب بضنين } ومن قرأ بالظاء الذي مخرجه من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا كالذال والثاء فهو من الظنة التهمة أي ليس بمتهم بل هو ثقة فيام يؤدي عن الله بواسطة جبرائيل . ومن قرأ بالضاد الذي مخرجه من أصل حافة اللسان وما بينهما من الأضراس ومن يمين اللسان أو يساره وإخراجه من الجانب الأيسر الأسهل ، وقد يسهل على بعض الناس كلاهما فمعناه أنه لا يضن بالوحي أي لا يبخل به من الضن وهو البخل ، وفيه أنه يكتم شيئاً من الوحي مما أمر بإظهاره وأنه لا يمنع المستعدّين من الإرشاد والكمال { فأين تذهبون } بعد هذه البيانات وفيه استضلال لهم كقولك لتارك لجادّة إعتسافاً أين تذهب ، مثلت حالهم في ترك الحق والعدول عنه إلى الباطل براكب التعاسيف الذي يستأهل أن يقال له أين تذهب . قوله { لمن شاء } فائدة هذا الإبدال أن نفع التذكير يعود إليهم فكأن غيرهم لم يوعظ والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض . ولا يخفى ما بينها وبين قوله { فأين تذهبون } من التناسب والطباق وفيه دليل القدرية إلا أن قوله { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله } فيه دليل الجبرية كما مر في آخر { هل أتى } وغيره والله الموفق .

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

القراآت { فجرت } بالتخفيف : ابن شنبوذ عن أهل مكة { فعدلك } مخففاً : يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل { ركبك كلا } مدغماً : أبو عمرو وقتيبة عنه { يكذبون } عل الغيبة : يزيد { يوم لا } بالرفع : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . الآخرون : بالفتح .
الوقوف { انفطرت } ه ك { انتثرت } ه ك { فجرت } ه ك { بعثرت } ه ك { وأخرت } ه ط { الكريم } ه لا { فعدلك } ه ط بناء على أن الظرف بعده متعلق ب { ركبك } ومن خفف { فعدلك } لم يقف بناء على أنه جعل « في » بمعنى « إلى » أي فعدلك إلى أي صورة ما شاء { ركبك } ه ط بناء على أن « كلا » توكيد لتحقيق بل ومن جعله ردعاً عن الاعتراف لم يقف { بالدين } ه ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف والوصل أجوز إلا من قرأ { يكذبون } على الغيبة فإنه يقف مطلقاً للعدول { لحافظين } ه لا { كاتبين } ه ك { تفعلون } ه { نعيم } ه ج { جحيم } ه ج لاحتمال أن ما بعده مستأنف أو صفة جحيم { بغائبين } ه ط لابتداء النفي أو الاستفهام { الدين } ه { يوم الدين } ه لا لمن قرأ { يوم } بالنصب أي ذلك في يوم ومن رفعه على أنه بدل من يوم الدين فلا وقف . { شيئاً } ط { لله } ه ط .
التفسير : إنه سبحانه يذكر طرفاً آخر من أشراط الساعة في هذه السورة . فأوّلها انفطار السماء أى انشقاقها كقوله في الفرقان { ويوم تشقق السماء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] وكما يجيء في قوله { إذا السماء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] وفيه كذا في قوله { وإذا الكواكب انتثرت } إبطال قول من زعم أن الفلكيات لا تنخرق . أما الدليل المعقول الذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وهو أن الأجسام متماثلة في الجسمية فيصح على كل واحد منها ما يصح على الباقي لكن السفليات يصح عليها الانخراق فيصح على العلويات أيضاً فغير مفيد ولا مقنع ، لأن الخصم لو سلم الصحة فله أن ينازع في الوقوع لمانع كالصورة الفلكية وغيرها . وأما تفجير البحار فقد فسروها بفتح بعضها إلى بعض حتى تصير البحار كلها بحراً واحداً وذلك التزلزل الأرض وتصدعها حتى يرتفع الحاجز الذي بين البحار الشرقية وبين البحار الغربية . وقد فسره في الكشاف بزوال البرزخ بين العذب والمالح حتى يختلطا وهو تصوّر فاسد نشأ من مجرّد سماع لفظ ارتفاع البرزخ . وعن الحسن : إن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية وهو معنى التسجير عنده كما مر في السورة المتقدّمة . قال جار الله : بعثر وبحثر بمعنى وهما من البعث والبحث زيد فيهما الراء والمعنى بحثت القبور وأخرج موتاها . ولأهل التأويل أن يحملوا بعثرة القبور على كشف الأسرار والأحوال الخفية ، ومعنى التقديم والتأخير قد سبق في القيامة في قوله

{ بنبأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخر } [ القيامة : 13 ] والمراد جميع أعمالها وإنما يحصل بها العلم الإجمالي عند الموت أو في أوائل أشراطه ثم يزيد شيئاً فشيئاً إلى حين مطالعة صحيفة العمل . ولما أخبر عن وقوع الساعة والحشر بين ما يدل عليه عقلاً فقال { يا أيها الإنسان } هو الكافر المنكر للبعث عند طائفة لقوله بعد ذلك { كلا بل تكذبون } وقد يخص ببعضهم فروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة . وعن الكلبي ومقاتل في الأشد بن كلدة . وذلك أنه ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله تعالى وأنزل الآية . والأقرب أنها تتناول جميع العصاة وخصوص السبب لا يقدح في العموم ، وههنا سؤال وهو أنه تعالى وصف نفسه في هذا المقام بالكرم وهذا الوصف يقتضي الاغترار به حتى قالت العقلاء : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه . وسمع الموبذ في مجلس أنوشروان ضحك الخدم فقال : أما يهاب هؤلاء الغلمان . فقال : إنما يهابنا أعداؤنا . وعن علي رضي الله عنه أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه فنظر فإذا هو بالباب فقال لم لم تجبني؟ فقال : لثقتي بتحملك وأمني من عقوبتك فاستحسن جوابه فأعتقه . « قال مؤلف الكتاب » : إني في عنفوان الشباب رأيت فيما يرى النائم أن القيامة قد قامت وقد دار في خلدي أن الله تعالى لو خاطبني بقوله { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك } فمادّا أقول؟ ألهمني الله في المنام أن أقول : غرني كرمك يا رب . ثم إني وجدت هذا المعنى قد ذكر في بعض التفاسير . وعن الفضيل بن عياض أنه قال : أقول في الجواب غرتني ستورك المرخاة . وإذا ثبت أن الكرم يقتضي أن يغتر بصاحبه فكيف وقع الإنكار عليه؟ والجواب من وجهين : الأول أن كل كريم فهو حكيم لأن إيصال النعم إلى الغير لو لم يكن مبنياً على داعية الحكمة كان تبذيراً لا كرماً فكأنه سبحانه قال : كيف اغتررت بكرمي وكرمي حقيقي صادر عن الحكمة وهي تقتضي أن لا يهمل وإن أمهل ، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين ، وأن يعيد الناس لأجل المجازاة حتى يظهر المحسن من المسيء والبر من الفاجر لا يضيع حقوق الناس؟ .
والحاصل أن الكرم بالخلق والتسوية وهي انتصاب القامة أو سلامة الأعضاء ، وبالتعديل وهو تناسبها أو جعله مستعدّاً لقبول الكمالات لا يقتضي أن لا يعيده إلى الحالة الأولى لأجل المجازاة ، بل يجب أن يعيده تتميماً للنعمة وإظهاراً للحكمة . الثاني أن كرمه السابق بالخلق وغيره لا يوجب كرماً لاحقاً بالعفو والغفران لجميع المعاصي لأن غاية الكرم هو أن يبتدىء بالنعم من غير عوض ولا غرض ، أما الكريم إذا أمر المنعم عليه بشيء وإنه يتلقاه بالعصيان فليس من الكرم أن يغمض عن جرمه بل قد يعدّ ذلك ضعفاً وذلة ولا سيما إذا كان المأمور به هو معرفة المنعم ولهذا روي عن عمر مرفوعاً « غره جهله » .

وعن الحسن : غره والله شيطانه الخبيث حتى طمع في الكرم اللاحق لأجل الكرم السابق . خصوصاً إذا لم يكن ممن حصل له معرفة ربه في الدنيا . قال النحويون : « ما » في { ما شاء } مزيدة قلت : وذلك بالنظر إلى أصل المعنى وإلا فهي مفيدة للتأكيد أي في كل صورة من الصور شاء كقوله { هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] وإنما لم يقل « ففي أي صورة » بالفاء العاطفة على نسق ما تقدّمها لأنها كالبيان بعد ذلك . والجارّ متعلق بركب أي ركبك في أي صورة اقتضتها حكمته أو بمحذوف أي حاصلاً في بعض الصور المرادة . وجوّز جار الله أن يتعلق ب { عدّلك } ويكون في أيّ معنى التعجب أي فعدّلك في صورة عجيبة ثم قال ما شاء أي ركبك ما شاء من التركيب . قال الحسن : منهم من صوّره ليستخلصه له ، ومنهم من صوّره ليشغله بغيره . قلت : الأوّلون مظاهر اللطف والجمال ، والآخرون مظاهر القهر والجلال . ثم زجرهم عن الاغترار بقوله { كلاً } وهي حرف وضع في اللغة لنفي ما تقدم وتحقيق غيره أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور ، ولئن فرض فالله كريم غفار للذنوب ، ولئن قدّر أنه معاقب فلعله غير عالم بالجزئيات فكيف يحاسب فنبههم الله تعالى على خطئهم بأن تكذيبهم بالجزاء إنما وقع في حال تسليط الحفظة عليهم ، وهذا التكذيب أيضاً من جملة ما يكتبونه . أو نقول : لما ردعهم عن الطمع الفارغ والأمل المنكر أضرب عنه إلى ما هو شر منه وهو إنكار الجزاء أصلاً . وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم إشارة إلى أن أمر الجزاء عند الله تعالى من عظائم الأمور والاشغال . قال بعضهم : من لم يزجره عن المعاصي مراقبة الله إياه كيف يردّه عنها الكرام الكاتبون؟ قلت : لا ريب أن الأول أصل والثاني فرع إلا أن المكلف لإلفه بالمحسوسات يزجره ما هو أقرب إلى عالم الحس أكثر ما يزجره ما هو أقرب إلى عالم الأرواح ولهذا تقع الزواجر والروادع في المدينة الفاضلة . ثم ذكر فائدة كتابة الحفظة وغايتها فقال { إن الأبرار } إلى آخره . يحكى أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فقال لأبي حازم : كيف القدوم على الله غداً؟ فقال : أما المحسن فالكغائب يقدم على أهله ، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه . قال : فبكى ثم قال : ليت شعري مالنا عند الله فقال أبو حازم : اعرض عملك على كتاب الله قال : في أي مكان؟ قال في قوله { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } قال جعفر الصادق : النعيم المعرفة والمشاهدة ، والجحيم ظلمات الشهوات .

وقال آخرون : النعيم القناعة والتوكل ، والجحيم الطمع والحرص ، وقال العارفون : النعيم الاشتغال بالله والجحيم الاشتغال بما سواه . وقوله { وما هم عنها بغائبين } كقوله وما هم بخارجين منها أو أراد ما كانوا يغيبون عنها قبل ذلك أي في قبورهم فيكون قد بين حال البرزخ كما شرح حال المبدأ والمنتهى . ثم نبه بقوله { وما أدراك } مرتين أن يوم الدين مما لا يكتنه كنه شدته ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يعرفه إلا بالوحي . وقيل : للكافر . ثم وصفه مجملاً بقوله { يوم لا تملك } إلى آخره أي لا ملك ولا تصرف في ذلك بظاهر وحقيقة الإله تعالى

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

القراآت { بل ران } حفص يقف على { بل } وقفة يسيرة ومع ذلك يصل . وقرأ الحلواني عن قالون مظهراً { ران } بالإمالة : حمزة وعلي وخلف وحماد ويحيى { تعرف } مبنياً للمفعول { نضرة } بالرفع : يزيد ويعقوب { خاتمه } بالألف بعد الخاء والتاء مفتوحة : عليّ . { أهلهم } بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بضمهما . الباقون : بضم ميم الجمع فقط { فكهين } مقصوراً : يزيد وحفص { هل ثوب الكفار } بالإدغام : حمزة وعلى وهشام .
الوقوف { للمطففين } ه لا { يستوفون } ه للفصل بين تناقض الحالين ولكن يلزم تفريق الوصفين مع اتفاق الجملتين { يخسرون } ه للاستفهام { عظيم } ه لا لأن التقدير لأمر يوم عظيم في يوم كذا وهو بدل بني على الفتح للإضافة إلى الجملة { لرب العالمين } ه ط لأن « كلا » لتحقيق أنّ بمعنى « ألا » التي للتنبيه أو حقاً أو هو ردع عن التطفيف وكذا أخواتها في السورة { سجين } ه ط { ما سجين } ه ط للحذف أي هو كتاب { مرقوم } ه ط لأن { ويل } مبتدأ { للمكذبين } ه لا { الدين } ه ط للابتداء بالنفي { أثيم } ه لأن الشرطية بعده صفة أخرى له { الأوّلين } ه والوقف لما ذكر { يكسبون } ه { لمحجوبون } ه لأن « ثم » لترتيب الأخبار { الجحيم } ه ك لاختلاف الجملتين { تكذبون } ه ك { عليين } ه ك { عليون } ه ك { مرقوم } ه لا لأن ما بعده صفة { المقربون } ه ط { نعيم } ه لا لأن ما بعده حال أو صفة { ينظرون } ه لا لذلك { النعيم } ه ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً أو حالاً { مختوم } ه لا لأن ما بعده وصف { مسك } ط { المتنافسون } ه ط { تسنيم } ه لا بناء على أن { عيناً } حال كما قال الزجاج . فإن أريد النص على المدح جاز الوقف { المقربون } ه ط { يضحكون } ه ط للآية ولكن إتمام الكلام أولى { يتغامزون } ه ك لذلك { فكهين } ه ك { لضالون } ه لا لأن المنفية حال { حافظين } ه ط لتبدل الكلام معنى { يضحكون } ه لا { ينظرون } ه ط { يفعلون } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر في السورة المتقدمة بعض أشراط الساعة وأخبر عن طرف من أحوالها وأهوالها صدّر هذه السورة بالنعي على قوم آثروا الحياة الزائلة على الحياة الباقية ، وتهالكوا في الحرص على استيفاء أسبابها حتى اتسموا بأخس السمات وهي التطفيف . والتركيب يدل على القليل وطف الشيء جانبه وحرفه ، وطف الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ولم يمتلىء . وقال الزجاج : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه لا يكون الذي يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلاً فنزلت فأحسنوا الكيل .

قلت : إن كانت السورة مدنية فظاهر ، وإن كانت مكية فلعل النبي حين قدم المدينة قرأها عليهم . وهكذا الوجه فيما روي أن أهل المدينة كانوا تجاراً يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة يعني بيع الغرر كالطير في الهواء فنزلت ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم فقال « خمس بخمس . قيل : يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر » وعن علي رضي الله عنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له : أقم الوزن بالقسط ثم أرجح بعد ذلك ما شئت . كأنه أخبره بالتسوية أوّلاً ليعتادها ويفصل الواجب من النفل . وعن أبيّ : لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين . والاكتيال الأخذ بالكيل كالاتزان الأخذ بالوزن . قال الفراء : « من » و « على » يعتقبان في هذا الموضع . فمعنى اكتلت عليك أخذت ما عليك ، ومعنى أكتلت منك استوفيت منك . وقال أهل البيان : وضع « على » مكان « من » للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال فيه ضرر . وجوز أن يتعلق الجار ب { يستوفون } والتقديم للتخصيص أي يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها . والضمير في { كالوهم أو وزنوهم } منصوب راجع إلى الناس والأصل كالوا لهم ووزنوا لهم فحذف المضاف وأصل الفعل . قال الكسائي والفراء : هذه لغة الحجاز ومنه المثل « الحريص يصيدك لا الجواد » أي الحريص يصيد لك لا الفرس الجواد . ويجوز أن يكون على حذف المضاف والتقدير وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم . وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين للمطففين على أنهما توكيد للمرفوع ويقفان عند الواوين وقفة يبينان بها ما أرادا . وخطأهما بعضهم بأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ، ولو كان الضميران للتأكيد لم يكن بدل من الألف ، وزيفت هذه التخطئة بأن خط المصحف لا يقاس عليه فكم من أشياء فيه خارجة عن اصطلاح الخط . وقد ذكر الزمخشري في إبطال قولهما أن المعنى حينئذ يؤل إلى قول القائل وإذا تولوا الكيل والوزن هم على الخصوص بأنفسهم اخسروا أي نقصوا ، وهذا كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر . قلت : النظم على قولهما باقٍ على حالته من الإعجاز والفصاح لأنه يفيد ضرباً من التوبيخ ، فإنهم إذا أخسروا وقد تولوا الكيل أو الوزن بأنفسهم ولم يمنعهم من ذلك مانع من الدين والمروءة ، فلأن يرضوا بالإخسار وقد تولاه لأجلهم من تعلق بهم يكون أولى ، ومن قلة مروأتهم ودينهم أنهم كانوا متمكنين في الإعطاء من البخس في الكيل وفي الوزن جميعاً ولهذا قال سبحانه { وإذا كالوهم أو وزنوهم } وأما في الأخذ فالميزان غالباً يكون بيد البائع فلا يتمكن المشتري من التصرف فيه بالزيادة المعتد بها فإن الكفة تميل بأدنى ثقل ، وإنما يتمكن في الاكتيال بأن يحتال في مكياله بالتحريك ووضع اليد عليه بقوّة فلهذا لم يقل هناك « أو اتزنوا » وأعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم لأن مدار معاملات الخلق عليهما ، ولهذا جرى على قوم شعيب بسببه ما جرى .

وذهب بعض العلماء إلى أن المطفف لا يتناوله الوعيد إلا إذا بلغ تطفيفه نصاب السرقة . والأكثرون على أن قليله وكثيره يوجب الوعيد . وبالغ بعضهم حتى عد العزم عليه من الكبائر .
وقال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه الله : لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب وإخفائه ، وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ومن لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف . والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه فهو من هذه الجملة ، ومن طلب حق من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلب لنفسه فهو من هذه الجملة ، والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقاً . ويحكى أن أعرابياً قال لعبد الملك بن مروان : إن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ووزن؟ ثم زاد في توبيخهم بقوله { ألا يظن } فإن كانوا من أهل الإسلام كما روي أن أهل المدينة كانوا يفعلون ذلك فالظن بمعنى العلم ، وإن كانوا كفاراً منكري البعث فالظن بمعناه الأصلي . والمراد هب أنهم لا يقطعون بالبعث أفلا يظنون أيضاً كقوله { إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقينين } [ الجاثية : 32 ] وفي الإشارة إليهم ب { أولئك } وقد ذكرهم عما قريب تبعيد لهم عن رتبة الاعتبار بل عن درجة الإنسانية . وفي هذا الإنكار ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لرب العالمين بيان بليغ لعظم هذا الذنب كما إذا قال الحالف والله الطالب الغالب الحي القيوم . ففيه تعظيم شأن المقسم عليه . عن النبي صلى الله عليه وسلم « يقوم النس مقدار ثلثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيها بأمر » قال ابن عباس : هو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة . وفيه أنه إذا ظهر التطفيف الذي يظن به أنه حقير فكيف بسائر الظلامات؟ وحمل بعضهم هذا القيام على ردّ الأرواح إلى أجسادها حتى يقوموا من مراقدهم . وعن أبي مسلم : أراد به الخضوع التام كقوله { وقوموا لله قانتين } [ البقرة : 238 ] ثم بيّن أن كل ما يعمل من خير أو شر فإنه مكتوب عند الله .

وقدم ديوان الشرور لأن المذكور قبله هو وعيد أهل الفجور . وسجين « فعيل » من السجن وهو الحبس والتضييق جعل علماً لديوان الشر الجامع لأعمال الكفرة والفسقة والشياطين ، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا العلمية { كتاب مرقوم } ليس تفسيراً للسجين بل التقدير : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وإن كتاب الفجار مرقوم . وموقع قوله { وما أدراك ما سجين } اعتراض تعظيماً لأمر السجين ، ولأن ذلك لم يكن مما كان العرب تعرفه أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك . وقيل : مرقوم أي مطروح وعلى هذا يكون سجين اسم مكان . ثم اختلفوا ، فعن ابن عباس في رواية عطاء وقتادة ومجاهد والضحاك وعن البراء مرفوعاً أنه أسفل أرضين وفيها إبليس وذريته . وعن أبي هريرة مرفوعاً أنه جب في جهنم . وقال الكلبي : صخرة تحت الأرض السابعة . والتحقيق أنه سبحانه أجرى أمور عباده على ما تعارفوه فيما بينهم ، ولا شك أن السفلة والظلمة والضيق وحضور الشياطين الملاعين من صفات البغض فوصف الله كتاب الفجار بأنه في هذا الموضع استهانة بهم وبأعمالهم ، كما أنه وصف كتاب الأبرار بأنه في عليين وتشهده الملائكة المقربون تعظيماً لحالهم . ثم أوعد المكذبين ووصفهم بقوله { الذين يكذبون } للذم لا للبيان لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله سواء كان مكذباً بالبعث أو بسائر آيات الله تعالى فهو كقولك « فعل فلان الفاسق الخبيث » . وإنما خص التكذيب بالبعث لتقدّم ذكره وذكر ما يتعلق به . ثم بالغ في الذم بقوله { وما يكذب به إلاّ كلٌّ معتد أثيم } متجاوز عن حد الاعتدال في استعمال القوة النظرية إما في طرف الإفراط وهو الجريرة حتى عدّ الممكن محالاً وأقدم على التكذيب ، وإما في طرف التفريط وهو البله والغباوة حتى قنع بالاستبعاد المحض وأعرض عن النظر في دلائل البعث من الخلق الأوّل وغيره . أثيم في إعمال القوى البدينة في غير مواقعها حتى أثمر له الباطل بدل الحق ، وحكم على آيات الله بأنها أساطير الأوّلين ، وفيه إنكار للنبوّة أيضاً . ثم أضرب عن أن يكون لهم اختبار فيما قالوه أو يكون لهم ارعواء عما ارتكبوه ، لأن ما كسبوه قدران على قلوبهم أي ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها . قال أهل اللغة : ران النعاس والخمر في الرأس يرين ريناً وريوناً إذا رسخ فيه ، ولهذا قال الحسن : هو الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب . قلت : الغين هو الحجاب الرقيق الذي يزول عن كثب ومثله الغيم . والرين هو الغليظ الذي لا يرجى زواله ولهذا جاء في الحديث « إنه ليغان على قلبي » وأما الرين فمن صفة الكفار الذين صارت ملكاتهم الذميمة في غاية الرسوخ حتى أظلم سطوح قلوبهم بل دخلت الظلمة أجوافها وبلغت الكدورة صفاقها .

ثم قال { كلا } حقاً وهو ردع عن الكسب الرائن على القلب { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وذلك أن النور لا يرى إلا بالنور ، فإذا كانت نفوسهم في غاية الظلمة الذاتية والعرضية الحاصلة من الملكات الردية احتجبوا عن نور الله ومنعوا من رؤيته . قال أهل السنة كثرهم الله : وفي تخصيصهم بالحجب دلالة على أن أهل الإيمان والأعمال الصالحة لا يكونون محجوبين عن ربهم . وقالت المعتزلة : المضاف محذوف أي عن رحمة ربهم أو كرامته . وقال في الكشاف : هو تمثيل للاستخفاف بهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين . ثم أخبر بقوله { ثم إنهم لصالوا الجحيم } أي داخلوها عن بقية حالهم وأنهم لا يتركون عن حجب الحرمان بل يعذبون بنار القطيعة والهجران لأنهما متلازمان { ثم يقال } في معرض التوبيخ { هذا الذي كنتم به تكذبون } جمعاً بين عذاب الوجل وعذاب الخجل .
ثم شرع في قصة الأبرار . وعليون جمع « عليّ » « فعيل » من العلو وإعرابه كإعراب الجمع لأنه على صورته وإن صار مفرداً كقنسرين من حيث إنه جعل علماً لديوان الخير الذي فيه أعمال الملائكة وصلحاء الثقلين ، إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، وإما لأنه مرفوع من السماء السابعة حيث يحضره الملائكة المقربون . وقال مقاتل : هو في ساق العرش . وعن ابن عباس : هو لوح من زبرجد معلق تحت العرش . وبالجملة كتاب الأبرار ضد كتاب الفجار بجميع معانية كما عرفت من بقية حال الأبرار . ومفعول { ينظرون } محذوف ليشمل أنواع نعيمهم في الجنة من الحور العين والأطعمة والأشربة والملابس والمراكب والمساكن وكل ما أعدّ الله لهم . قال عليه السلام « يلحظ المؤمن فيحيط بكل ما آتاه الله وإن أدناهم منزلة من له مثل سعة الدنيا » وقال مقاتل : ينظرون إلى عدوّهم حين يعذبون ولا يحجب الحجاب أبصارهم عن الإدراك . وقال بعضهم : ينظرون إلى الله تعالى بدليل قوله { تعرف } يا من له أهل العرفان { في وجوههم نضرة } وقوله في موضع آخر { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ، 23 ] ولا ريب أن هناك قرائن وأحوالاً تعرف بها بهجتهم وازدهاؤهم بالضحك والاستبشار بل بتجلي الأنوار والآثار . والرحيق الخمر الصافية التي لا غش فيها { مختوم } أوانيه { ختامه } أي ما يختم به { مسك } مكان الطينة أو الشمعة . وإنما ختم تكريماً وصيانة على ما جرت به العادة فكأنها أشرف من الخمر الجارية في أنهارها من الجنة . وقيل : ختامه أي مقطعه رائحة المشك إذا شرب . وهذا قول علقمة والضحاك وسعيد بن جبير ومقاتل وقتادة . قال الفراء : الختام آخر كل شيء ومنه يقال : ختمت القرآن ، والأعمال بخواتيمها ، والخاتم مثله وأنت خاتم النبيين . والتركيب يدل على القطع والانتهاء بجميع معانيه . عن أبي الدرداء مرفوعاً : هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شربهم ، لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريحه الطيبة .

قال بعضهم : مزج الخمر بالأدوية الحارة مما يعين على الهضم وتقوية الشهوة ، فلعل فيه إشارة إلى قوة شهوتهم وصحة أبدانهم . ثم رغب في العمل الموجب لهذا الكرامة قائلاً { وفي ذلك فيتنافس المتنافسون } فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله . قال أهل اللغة : نفست لعيه الشيء نفاسة إذا ضننت به وأن لا تحب أن يصير إليه ، والتنافس تفاعل منه فإن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به لما يظهر من نفسه من الجد والاعتمال في الطاعة والعبودية . والجملة معترضة ، وفي تقديم الجار إشارة إلى أن السعي والإتعاب يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم لا في النعيم الزائل . وتسنيم علم لعين بعينها في الجنة من سنمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب هناك ، ولأنها تأتيهم من فوق على ما روي أنها تجري في الهواء متسمنة فتصب في أوانيهم ، أو لأنها لكثرة مائها تعلو على كل شيء تمرّ به ، أو يرى فيها ارتفاع وانخفاض . والتركيب يدل على الارتفاع ومنه سنام البعير عن ابن عباس : أشرف شراب أهل الجنة هو التسنيم فالمقرّبون يشربونها صرفاً وتمزج لأصحاب اليمين . فقال بعض أهل العرفان : وذلك أن المقرّبين السابقين لا يشتغلون إلا بمطالعة وجه الله الكريم ، وأما أهل اليمين فإنه يكون شرابهم ممزوجاً لأن نظرهم تارة إلى الله وتارة إلى الخلق . ثم حكى قبائح أفعال الكافرين على أن التكلم واقع في يوم القيامة بدليل قوله عقيبه { فاليوم } قال المفسرون : هم مشركو مكة أبو جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما ، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبال وغيرهم من فقراء المؤمنين . وقيل : جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه فنزلت هذه الآي قبل أن يصل علي كرم الله وجهه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والتغامز تفاعل من الغمز وهو الإشارة بالعين أو الحاجب أو الشفة ، وأكثر ذلك إنما يكون على سبيل الخبث . ومعنى { فكهين } متلذذين بذكرهم والسخرية منهم . قوله { وما أرسلوا } حال معترضة إنكاراً من الله عليهم وتهكماً بهم أي ينسبون المسلمين إلى الضلال والحال أنهم لم يرسلوا على المسلمين موكلين بهم حافظين عليهم أحوالهم . وجوز في الكشاف أن تكون المنفية من جملة قول الكفار فيكون إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام . قلت : لو كان من جملة قولهم لكان الظاهر أن يقال : وما أرسلوا أي المسلمون علينا . يروى أنه يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم : اخرجوا إليها . فإذا وصلوا إليها أغلق الباب دونهم يفعل ذلك بهم مراراً فيضحك المؤمنون منهم ناظرين إليهم على الأرائك . ولا يخفى ما في هذا الإخبار والحكاية من تسلية المؤمنين وتثبيتهم على الإسلام والتصبر على متاعب التكاليف وأذية الأعداء في أيام معدودة لنيل ثواب لا نهاية له ولا غاية . قال المبرد : ثوّب وأثاب بمعنى ، وقد تستعمل الإثابة في الشر كالمجازاة ، ويجوز أن يراد التهكم نحو { فبشرهم بعذاب } [ آل عمران : 21 ] وفي هذا القول مزيد غيظ وتوبيخ للكافرين ونوع سرور وتنفيس للمؤمنين . ويحتمل أن يكون الاستفهام للتقرير أي هل قدرنا على الإثابة نحو { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً } [ الأعراف : 44 ]

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

القراآت { ويصلى } ثلاثياً مفتوح العين مبنياً للفاعل : أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وحمزة وعاصم وخلف . الباقون { يصلى } بالتشديد مبنياً للمفعول { لتركبن } بفتح الباء للتوحيد والخطاب للإنسان : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف . الآخرون : بالضم على خطاب أفراد الجنس .
الوقوف { انشقت } ه لا { وحقت } ه ك { مدّت } ه ك { وتخلت } ه ك { وحقت } ه ط لأن الجواب محذوف أي إذا كانت هذه الأمارات ظهر ما ظهر { فملاقيه } ه ط وقد يقال عامل « إذا » { فملاقيه } أي إذا السماء انشقت لاقى كدحه فلا وقف إلى قوله { فملاقيه } وقيل : قوله { فأما من أوتي } الشرط مع جوابه جواب للشرط الأول ، وقوله { يأيها الإنسان } إلى قوله { فملاقيه } اعترض ولا وقف على { بيمينه } { يسيراً } ه ك { مسروراً } ه ط { ظهره } ه لا { ثبوراً } ه لا { سعيراً } ه ط { مسروراً } ه { يحور } ه لا { بلى } ج لجواز تعلق بلى بما قبله وبما بعده { بصيراً } ه ط للإبتداء بالقسم { بالشفق } ه لا { وسق } ه لا { اتسق } ه لا { طبق } ه ك { لا يؤمون } ه ك { لا يسجدون } ه ط { يكذبون } ه ز للآية والوصل أوجب لأن الواو للحال { يوعون } ه ز لفاء التعقيب { أليم } ه لا { ممنون } ه .
التفسير : عن علي رضي الله عنه أن السماء تنشق من المجرّة . ومعنى { أذنت لربها } استمعت له ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن » والمراد أنها لم تمتنع عن قبول ما أريد بها من الإنشقاق والانفطار فعل المأمور والمطواع الذي أصغى لحديث آمره { وحقت } بذلك لأن الممكن لا بدّ له أن يقع تحت قدرة الواجب لذاته . ومدّ الأرض تسوية جبالها وآكامها بحيث لا يبقى فيها عوج . عن ابن عباس : مدّت مدّ الأديم العكاظي لأن الأديم إذا مدّ زال ما فيه من الانثناء واستوى . وقيل : من مدّه بمعنى أمدّه أي زيد في سعتها أو بسطتها ليمكن وقوف الخلائق الأوّلين والآخرين عليها { وألقت ما فيها } أي رمت بما في جوفها من الكنوز والأموات { وتخلت } أي خلت غاية الخلو كأنها تكلفت أقصى ما يمكنها من الفراغ . وقوله { وأذنت لربها وحقت } ليس بمكرر لأن الأوّل في السماء وهذا في الأرض وحذف جواب « إذا » ليذهب الوهم كل مذهب ، أو اكتفاء بما مر في سورتي « التكوير » و « الانفطار » . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير . والمعنى { يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } إذا السماء انشقت ، والأقرب أن الإنسان للجنس بدليل التفصيل بعده . وقيل : هو رجل بعينه إما محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى إنك تكدح في تبليغ رسالات الله فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل ، وأما أمية بن خلف وإنه يجتهد في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس .

والكدح جهد النفس في العمل حتى تأثرت من كدحت جلده إذا خدشته أي جاهد إلى وقت لقاء ربك وهو الموت وما بعده . وفيه أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها . والضمير في قوله { فملاقيه } للرب أي فملاق له ألبتة فهو كالتأكيد للمذكور ، ويجوز أن يكون للكدح أي لجزائه يؤيده التفصيل الذي بعده . عن عائشة أن الحساب اليسير هو أن يعرّف ذنوبه ثم يتجاوز عنه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « من يحاسب يعذب فقيل : يا رسول الله { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } قال : ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذب » أقول { سوف } من الكريم إطماع فيمكن أن تكون الفائدة في إيراده أن يكون المؤمن على ثقة واطمئنان بالوعد ، ويمكن أن يكون إشارة إلى طول الامتداد بين مواقف ذلك اليوم { وينقلب إلى اهله } من الحور العين في الجنة أو إلى قرنائه من المؤمنين أو إلى عشيرته كقوله { جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم } [ الرعد : 23 ] ومعنى { وراء ظهره } أن تغل يمناه إلى عنقه ويجعل شماله وراء ظهره ويؤتى كتابه بشماله ومن وراء ظهره . وقيل : تخلع يده اليسرى من وراء ظهره . وقيل : تجعل وجوههم إلى خلف فيكون الكتاب قد أوتي من جانب ظهره ولكن بشماله كما في « الحاقة » . والوراء ههنا بمعنى مجرد الجانب ، أو معنى قدام . والثبور الهلاك ودعاؤه أن يقول : واثبوراه « . وسمي المواطأة على الشيء مثابرة على الشيء مثابرة لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه والنفس تمنعه عن ذلك أنه كان أي في الدنيا مسروراً في أهله كقوله { وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين } [ المطففين : 31 ] وفيه أن الفرح في الدنيا يعقب الغم في الآخرة لقوله { فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً } [ التوبة : 82 ] ومن كان في الدنيا حزيناً متفكراً في أمر الآخرة كان حاله في الآخرة بالعكس . والفرح المنهي عنه ما يتولد من البطر والترفه لا الذي يكون من الرضا بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية لقوله { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } [ يونس : 58 ] ثم بين أن سروره إنما كان لأجل أن البعث والنشور لم يكن محققاً عنده فقال { إنه ظنّ أن لن يحور } أي أن يرجع إلى الله أو إلى خلاف حاله من السرور والتنعم . عن ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنت لها : حوري أي ارجعي . ثم نفى منطوقه بقوله { بلى } أي بلى يحور . وفي قوله { إن ربه كان بصيراً } إشارة إلى أن العلم التام بأحوال المكلفين يوجب إيصال الجزاء إليهم ، فلا بد من دار سوى دار التكليف وإلا كان قدحاً في القدرة والحكمة .

قال الكلبي : { كان به بصيراً } من يوم خلقه إلى أن بعثه . وقال عطاء : بصيراً بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء ثم أكد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال بقوله { فلا أقسم بالشفق } وهو الحمرة الباقية من آثار الشمس في الأفق الغربي قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل . وعن الفراء : سمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر . وعن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه البياض ، وأنه روى أنه رجع عنه لأن البياض يمتد وقته فلا يصلح للتوقيت ، ولأن التركيب يدل على الرقة ومنه الشفقة لرقة القلب . ثم إن الضوء يأخذ من عند غيبة الشمس في الرقة والضعف . وعن مجاهد أن الشفق ههنا النهار لما في النور من الرقة واللطافة كما أن في الظلمات الغلظ والكثافة ، لأن القسم بالنهار يناسب القسم بالليل في قوله { والليل وما وسق } والتركيب يدل على الاجتماع والضم ومنه الوسق لأنه جامع لستين صاعاً . واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت ، وقد وسقها الراعي أي جمعها ونظيره في وقوع « افتعل » و « استفعل » مطاوعين لفعل « اتسع » و « استوسع » . أقسم الله سبحانه بجميع ما ضمه الليل وآواه وستره من النجوم والدواب وغيرها . ويمكن أن يكون من جملته أعمال العباد الصالحين . ثم أقسم بالقمر إذا اتسق أي اجتمع نوره وتكامل كما يقال « أمور فلان متسقة » أي مجتمعة على الصلاح كما يقال منتظمة . والطبق ما يطابق غيره ومنه قيل للغطاء « الطبق » . ثم قيل للحال المطابقة لغيرها طبق .
وقوله { عن طبق } حال من فاعل { لتركبن } أو صفة أي طبقاً مجاوزاً لطبق ، ف « عن » تفيد البعد والمجاوزة أي حالاً بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول . وجوز أن يكون جمع طبقة أي أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدّة ، فبعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة كأنهم لما انكروا البعث أقسم الله سبحانه أن ذلك كائن وأن الناس يلقون بعدالموت شدائد متنوّعة وأحوالاً مترتبة حتى يتبين السعيد من الشقي والمحسن من المسيء . وقيل : لتركبن سنة الأولين من المكذبين المهلكين . عن مكحول : كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه . والركوب على هذه التفاسير مجاز عن الحصول على تلك الحالة . وقد يقال على قراءة فتح الباء : إنها صيغة الغائبة والضمير للسماء وأحوالها المختلفة انشقاقها ثم انفطارها ، ولعل هذا كمال الانحراف ثم صيرورتها وردة كالدهان أو كالمهل وهذا القول مناسب لأول السورة وهو مرويّ عن ابن مسعود . وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أعباء الرسالة وأنه يجب عليه أن يتلقاه بالصبر والتحمل إلى أوان الظفر والغلبة كقوله

{ لتبلوّن في أموالكم وأنفسكم } [ آل عمران : 86 ] وعن ابن عباس وابن مسعود أن المراد حديث الإسراء وأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب أطباق السماء . وبين القسم والمقسم عليه مناسبة لأنه أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على صحة إيجاد سائر التغايير من أحوال القيامة وغيرها ، ولا شك أن القادر على بعض التغايير المعتبرة قادر على أمثالها فلا جرم قال على سبيل الاستبعاد { فما لهم لا يؤمنون } وتأويل الآية أن النفس إذا استغرقت في بعض المجهولات التصورية والتصديقية كان المناسبة شبيهة بالشمس الغاربة ، فإذا أقبلت على تحصيل قضية من تلك القضايا المجهولة مثلاً تجلى عليها نور من النفس يترجح به عندها أحد طرفي النقيض على الآخر ، لكن ما لم تكن جازمة فذلك النور كالشفق بالنسبة إلى ضياء الشمس ، ثم إذا سبحت في لجة المعلومات لها طالبة للحد الأوسط عرضت هناك شبهة شبيهة بالليل وما وسقه ، فإذا حصل الحدّ الأوسط بالتحقيق وانتقل الذهن منه إلى النتيجة الحقة صارت المسألة كالبدر التم وهو المستفاد ضوءه من النفس الناطقة القدسية التي يكاد زيتها يضيء ولو ولو لم تمسسه نار . و { طبقاً عن طبق } هي مراتب العلوم النظرية من أوّل بدايتها وهي كونها عقلاً هيولانياً إلى نهايتها وهي كونها عقلاً مستفاداً فكأنه سبحانه اقسم بأحوال المعلومات المستخلصة على إمكان حصول العلم بها . ثم وبخهم على أنهم لا ينظرون في الدلائل حتى يورثهم الإيمان والسجود عند تلاوة القرآن . وقوله { لا يؤمنون } و { لا يسجدون } في موضع الحال والعامل معنى الفعل في { فما لهم } عن ابن عباس ، عباس والحسن وعطاء والكسائي ومقاتل : المراد من السجود ههنا الصلاة . وقال أبو مسلم وغيره : أراد به الخضوع والاستكانة . والأكثرون على أنه السجود نفسه . ثم اختلفوا فعن أبي حنيفة وجوبه لأنه ذمهم على الترك . وعن الحسن وهو قول الشافعي أنه ستة كسائر سجدات التلاوة عنده . ثم بين بقوله { بل الذين كفروا يكذبون } أن الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها تقليداً للأسلاف أو عناداً . ثم أجمل وعيدهم بقوله { والله أعلم بما يوعون } أي يجمعون ويضمرون في صدورهم من الشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة فهو يجازيهم على ذلك . وقيل : بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء . ثم صرح بالوعيد قائلاً { فبشرهم } وقوله { إلا الذين آمنوا } استثناء منقطع عند الزمخشري ولا بأس بكونه متصلاً كأنه قال : إلا من آمن منهم فله أجر غير مقطوع أو هز من المنة ، بني الكلام ههنا على الاستئناف فلم يحتج إلى الفاء ، وعلى التعقيب في التين فأورد الفاء والاستئناف أجمع مقدّمة .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

القراآت { المجيد } بالجر صفة للعرش : حمزة وعلي وخلف والمفضل . الآخرون : بالرفع خبراً بعد خبر { محفوظ } بالرفع صفة للقرآن : نافع .
الوقوف { البروج } ه لا { ألموعود } ه { ومشهود } ه ط بناء على أن جواب القسم محذوف وأن معنى قتل لعن وأصحاب الأخدود هم أهل الظلم ، وإن جعل قتل بمعناه الأصلي وأصحاب الأخدود هم المظلومون صح جواباً للقسم بتقدير : لقد قتل ولا وقف على { الأخدود } لأن النار بدل اشتمال منه { الوقود } ه لا { قعود } ه لا { شهود } ه ط { الحميد } ه لا { والأرض } ط { شهيد } ه ط { الحريق } ه ط { الأنهار } ط { الكبير } ه ط إلا لمن جعل { إن بطش ربك } جواباً للقسم وسائر الوقوف ههنا لا بد منها لطول الكلام { لشديد } ه ك { ويعيد } ه ج لاختلاف الجملتين { الودود } ه لا { المجيد } ه لا { يريد } ه ج لابتداء الاستفهام { الجنود } ه لا لأن ما بعده بدل { وثمود } ه ط للإضراب { تكذيب } ه لا لأن الواو للحال { محيط } ه ج { مجيد } ه لا { محفوظ } ه .
التفسير : لما أخبر في خاتمة السورة المتقدمة أن في الأمة مكذبين سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك كأصحاب الأخدود وكفرعون وثمود . أما البروج فأشهر الأقوال أنها الأقسام الاثنا عشر من الفلك الحمل والثور إلى آخرها . وإنما أقسم بها لشرفها حيث نيط تغيرات العالم السفلي بحلول الكواكب فيها . وقيل : هي منازل القمر الثمانية والعشرون . وقيل : وقت انشقاق السماء وانفطارها وبطلان بروجها . أما الشاهد والمشهود فأقوال المفسرين فيهما كثيرة ، وقد ضبطها القفال بأن اشتقاقهما إما من الشهود الحضور ، وإما من الشهادة والصلة محذوفة أي مشهود عليه أو به . والاحتمال الأول فيه وجوه الأول : وهو مروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد والحسن بن عليّ وابن المسيب والنخعي والثوري ، أن المشهود يوم القيامة والشاهد الجمع الذي يحضرون فيه من الملائكة والثقلين الأولين والآخرين لقوله { من مشهد يوم عظيم } [ مريم : 37 ] { ذلك } { يوم مجموع له الناس } [ هود : 103 ] قال جار الله : وطريق تنكيرهما ما مرّ في قوله { علمت نفس ما أحضرت } [ التكوير : 14 ] كأنه قيل : وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود . ويجوز أن يكون للتعظيم أي شاهد ومشهود لا يكتنه وضفهما . وإنما حسن القسم بيوم القيامة لأنه يوم الفصل والجزاء وتفرد الله بالحكم والقضاء . الثاني وهو قول ابن عمر وابن الزبير أن المشهود يوم الجمعة وأن الشاهد الملائكة . روى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة » . الثالث أنّه يوم عرفة والشاهد من يحضرة من الحجاج ققال الله تعالى { يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم }

[ الحج : 27 ] وحسن القسم به تعظيماً لأمر الحج . يروى أنه تعالى يقول للملائكة يوم عرفة « انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى يف ذلك اليوم من نزول الرحمة » الرابع أنه يوم النحر لأن أهل الدنيا يحضرون في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة . الخامس أنهما كل يوم فيه اجتماع عظيم للناس فيتناول الأقوال المذكورة كلها ، والدليل عليه تنكيرهما لأن القصد لم يكن فيه إلى يوم بعينه . والاحتمال الثاني فيه أيضاً وجوه أحدها : أن الشاهد هو الله تعالى والمشهود به هو التوحيد لقوله { شهد الله أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] وثانيها الشاهد هو الأنبياء والمشهود عليه النبي صلى الله عليه وسلم لقوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] وثالثها العكس لقوله { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] ورابعها الشاهد الحفظة والمشهود عليه المكلفون لقوله { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } [ ق : 21 ] { وإن عليكم لحافظين } [ الانفطار : 11 ] وخامسها وهو قول عطاء الخراساني : الشاهد الجوارح والمشهود عليه الإنسان { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } [ النور : 24 ] وسادسها الشاهد والمشهود عيسى وأمته كقوله { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } [ المائدة : 117 ] وسابعها أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأمم { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] وثامنها قال الإمام في تفسيره : الشاهد جميع الممكنات والمشهود له واجب الوجود أخذاً من قول الأصوليين إنه استدلال بالشاهد على الغائب . وتاسعها الحجر الأسود والحجيج للحديث « الحجر الأسود يمين الله في أرضه يؤتى به يوم القيامة له عينان يبصر بهما يشهد على من زاره » أو لفظ هذا معناه . وعاشرها الأيام والليالي وأعمال بني آدم كما روي عن الحسن : ما من يوم إلا وينادي إني يوم جديد وإني على ما تعمل فيّ شهيد .
أما جواب القسم فعن الأخفش أنه { قتل } واللام مقدّر والكلام على التقديم والتأخير أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج . وعن ابن مسعود وقتادة واختاره الزجاج أن الجواب هو قوله { إن بطش ربك لشديد } وقيل : إن الذين فتنوا وما بينهما اعتراض . واختار الزمخشري وطائفة من المتقدمين أنه محذوف . ثم اختلفوا فقال المتقدمون : المحذوف هو إن الأمر حق في الجزاء على الأعمال . وقال في الكشاف : هو ما دل عليه قتل فكأنه أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ويعلموا أن كفارهم أحقاء بأن يقال فيهم قتلت قريش ، أي لعنوا كما قتل أصحاب الأخدود وهو الخد أي الشق في الأرض يحفر مستطيلاً ونحوهما بناء .

ومعنى الخق والأخقوف بالخاء الفوقانية منه الحديث « فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان » عني به فرس سراقة حين تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من الغار . والمعتمد من قصص أصحاب الأخدود ما جاء في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه السحر . وكان في طريق الغلام راهب يتكلم بالمواعظ لأجل الناس ، فمال قلب الغلام إلى حديثه . فرأى في طريقه ذات يوم دابة أوحية قد حبست الناس فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها بهذا الحجر فقتلها . وكان الغلام بعد ذلك يتعلم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرىء الأكمه والأبرص ويشفي من الداء ، وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله : من ردّ عليك بصرك؟ فقال : ربي . فغضب فعذبه فدل على الغلام ، فعذب الغلام حتى دل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار ، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا ، فذهبوا به إلى قرقور وهي سفينة صغيرة فلججوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا . قوال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : بسم الله رب الغلام . ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات فقال الناس : آمنا برب الغلام . فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر فأمر بأخاديد في أفواه السكك ، وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق ، وما هي إلا غميضة فصبرت واقتحمت . وعن علي رضي الله عنه أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس ، وكان بعض ملوكهم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها فسكر فوقع على أخته ، فلما صحا ندم وطلب المخرج فقال : إن المخرج أن تخطب الناس فتقول : إن الله عز وجل أحل لكم نكاح الأخوات ثم تخطبهم إن الله حرمه . فخطب فلم يقبلوا منه قالت له : ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا . فقالت : ابسط فيهم السيف فلم يقبلوا . فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها . وقيل : وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير ، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفاً في الأخاديد . وقيل : سبعين ألفاً . وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه اثنا عشر وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله { ذات الوقود } أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس .

وهذه الروايات لا تعارض بينها ولا منافاة فيحتمل أن يكون الكل واقعاً والمجموع مراد الله أو بعضه هو أعلم به .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وصل إلى ذكر أصحاب الأخدود قال : نعوذ بالله من جهد البلاء . و { إذ } ظرف لقتل و { هم } عائد إلى الأصحاب و { قعود } جمع قاعد فإن كانوا مقتولين فمعنى قعودهم على النار إما أن يكون هو أن طرحوا عليها وقعدوا حواليها للإحراق وذلك أنهم كانوا يعرضون المؤمنين على النار فكل من ترك دينه تركوه ومن صبر على دينه ألقوه في النار ، وإما أن يكون « على » بمعنى « عند » كقوله { ولهم عليّ ذنب } أي عندي فالمراد بالقتل على هذا التفسير اللعن ويعضده قوله { وهم } أي الظالمون { على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } أي حضور ، وفيه وصفهم بقسوة القلب ، ووصف المؤمنين بالصلابة في دينهم حيث لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين عل الحق ، أو هو من الشهادة والمعنى أنهم وكلوا بذلك وجعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به من التعذيب ، ويجوز أن يراد شهادة جوارحهم على ذلك يوم القيامة . ثم ذم أولئك الجبابرة بما في ضمنه مدح المؤمنين قائلاً { وما نقموا منه } أي وما عابوا وما أنكروا عليهم { إلا أن يؤمنوا } وإنما اختير بناء الاستقبال رمزاً إلى أنهم كانوا يطلبون منهم ترك الإيمان في المستقبل ولم يعذبوهم على الإيمان في الماضي أي عذبوهم على ثباتهم وصبرهم على إيمانهم بمن يستحق أن يؤمنوا به لكونه إلهاً قادراً لا يغالب بليغاً في الكمال بحيث استأهل الحمد كله مالكاً لجميع المخلوقات . وفيه إشارة إلى أنه لو شاء لمنعهم عن ذلك التعذيب لكنه أخرهم إلى يوم الجزاء ودل عليه بقوله { والله على كل شيء شهيد } ثم عم الوعيد في آيتين أخريين والفتنة البلاء والإيذاء والإحراق . وفي قوله { ثم لم يتوبوا } دلالة على أن توبة القاتل عمداً مقبولة خلاف ما يروى عن ابن عباس . وعذاب جهنم وعذاب الحريق أما متلازمان كقوله :
إلى الملك القرم ... وابن الهمام
والغرض التأكيد وإما مختلفان في الدركة : الأول لكفرهم ، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان . وجوز أن يكون الحريق في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم . ثم رغب ورهب بوجه آخر في آيات والبطش الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدّة كان نهاية . ثم أكده بقوله { إنه هو يبدىء } البطش { ويعيد } أي يبطش بالجبابرة في الدنيا والآخرة . ويجوز أن يدل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه وقوته . وفيه وعيد للكفرة بأنه يعيدهم كما بدأهم ليبطش بهم إذ كفروا بنعمة الإبداء وكذوبوا بالإعادة . قال ابن عباس : إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ثم يعيدهم خلقاً جديداً فذلك قوله { هو يبدىء ويعيد } والودود بليغ الودادة والمراد به إيصال الثواب لأهل طاعته إلى الوجه الأتم فيكون كقوله

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32