كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

{ الله خلق كل شيء } [ الرعد : 16 ] هذا ولغير الموسومين بالمجسمة والمشبهة في الآية قولان : الأول القطع بكونه متعالياً عن المكان والجهة ثم الوقوف عن تأويل الآية وتفويض علمها إلى الله ، والثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه : أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلى على الملك . وثانيها : أن « استوى » بمعنى « استولى » كقول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك . يقال : استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد . وفي ضدّه خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد . فالله تعالى دلّ على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه ، فإذا قال : إنه عالم فهموا منه أنه تعالى لا يخفى عليه شيء ، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال : قادر . علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدّة والفكرة والروية ، وكذا القول في كل من صفاته . وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعاً يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب ، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد . وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه . وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال . ومعنى التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل . وقال أبو مسلم : العرش لغة هو البناء والعارش الباني قال تعالى : { ومن الشجر ومما يعرشون } [ النحل : 68 ] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها .
قوله سبحانه : { يغشي الليل النهار } قال صاحب الكشاف : يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل يحتملهما اللفظ جميعاً . وقال القفال : لما أخبر بالاستواء على العرش وأن أمر المخلوقات منوط بتدبيره ومشيئته أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر . وقدم ذكر الليل والنهار لما في تعاقبهما من المنافع الجليلة فبهما تتم أمور الحياة ، ثم وصف الحركة التي يحصلان منها بالسرعة والشدةّ فقال { يطلبه حثيثاً } قال الليث : الحث الإعجال وذلك أن حركة الفلك الأعظم أشدّ الحركات سرعة حتى إنها في مقدار ما تقول واحد واحد واحد يتحرك ألفاً وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخاً من مقعر فلكه والله أعلم بتحرك محدبه .

فإن قيل : ما محل الجملتين؟ قلت : أما الأولى فمستأنفة كأنه قيل : فماذا يفعل بعد خلق السموات والأرض؟ فأجيب يغشي الليل النهار . وعلى قول من يفسر الاستواء بالتدبير والتصرف يحتمل أن تكون هذه الجملة مبينة . وأما الثانية ففي محل النصب على الحال من الملحق كما أن { حثيثاً } منصوب على الحال من الطالب وهو الملحق بعينه . ثم قال : { والشمس والقمر والنجوم مسخّرات } من قرأهن منصوبات فمعناه وخلق هذه الأجرام حال كونهن تحت تسخيره ، ومن قرأها مرفوعات فعلى الابتداء والخبر ، وكلتا القراءتين حسنة لأنك إذا قلت : ضربت زيداً استقام أن يقال زيد مضروب . وقوله : { بأمره } متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره . قال في الكشاف : سمي ذلك أمراً على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك . ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الذي هو الكلام ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون { بأمره } متعلقاً ب { خلق } . بدأ بالشمس لأنه سلطان الكواكب ، وثنى بالقمر لأنه كالنائب ، وثلث بسائر النجوم لأنها كالخدم . فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، والشمس تأثيرها بالتسخين ، والقمر تأثيره بالترطيب ، وتوليد المواليد الثلاثة المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة . ثم إنه سبحانه وتعالى خص كل كوكب بخاصية عجيبة وتأثير غريب لا يعلمه بتمامه إلا مبدعه وخالقه ، واعلم أن الأجسام متماثلة في الجسمية؛ فاختصاص جرم الشمس بالنور الباهر والتسخين الشديد والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي وكذا تخصيص كل واحد من سائر السيارات والثوابت بقوّة أخرى لا بد أن يستند إلى فاعل حكيم قدير عليم فلهذا قال : { مسخرات بأمره } . وأيضاً إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيراً خاصاً من المغرب إلى المشرق ، وسيراً آخر سريعاً بسبب حركة الفلك الأعظم ، فقوله : { يغشي الليل النهار } تنبيه على أن حدوث الليل والنهار إنما هو بحركة الفلك الأعظم المسمى بالعرش ، وقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } إشارة إلى أن العرش يحرك جميع الأفلاك والكواكب وأنه سبحانه أودع في جرمه قوّة قاهرة قاسرة باعتبارها قويت على تحريك من دونه على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب . وأيضاً أن أقسام الأجسام ثلاثة : متحرك إلى الوسط وهما العنصران الثقيلان ، ومتحرك عن الوسط وهما الخفيفان ، ومتحرك على الوسط وهي الأجرام الفلكية ، فيكون الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة لا إلى المركز ولا عن المركز لا يكون إلا بتسخير الله تعالى ، ولأمر ما أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس ، وأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما قائلاً :

{ أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } [ الأعراف : 185 ] { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها } [ ق : 6 ] { أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ الروم : 8 ] وإن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان : منهم من اعتقد كونه كذلك على الإجمال ، ومنهم من وقف على دقائقها على سبيل التفصيل والكمال ، ولا ريب أن اعتقاد الفريق الثاني يكون أكمل وأقوى إذا ثبت هذا فنقول : من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث حصل له بهذا الطريق إثبات الصانع ، أما الذي ضم إلى هذه المعرفة البحث عن أحوال هذا العالم العلوي والعالم السفلي على التفصيل الممكن لا يزال ينتقل من برهان إلى برهان ومن دليل إلى دليل فإن يقينه يتزايد وبصيرته تتكامل إلى أن يصير علماً مقعولاً مضاهياً لما عليه الموجود ، ولمثل هذه الفوائد والأغراض والغايات أنزل هذا الكتاب الكريم لا لتكثير وجوه الإعراب والاشتقاقات المؤدية إلى الإطناب والإسهاب ، وأما قوله عز من قائل { ألا له الخلق والأمر } فالخلق عبارة عن التقدير ويختص بكل ما هو جسم وجسماني لأنه خص بمقدار معين ، فكل ما كان بريئاً عن الحجم والمقدار فهو من عالم الأرواح وعالم الأمر لأنه أوجد بأمر « كن » من غير سبق مادّة ومدّة ، فعالم الخلق في تسخيره وعالم الأمر في تدبيره واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره . وههنا مسائل ذكرها العلماء : الأولى أنه تعالى متكلم آمر ناهٍ مخبر مستخبر لأن قوله : { ألا له الخلق والأمر } دل على أن له الأمر فوجب أن يكون له النهي وسائر أنواع الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفرق . الثانية لا خالق إلا هو لأن قوله : { ألا له الخلق } بتقديم الخبر يفيد الحصر . ولو سلم أنه لا يفيده فلا أقل من إفادة أنه خالق بعض الأشياء ، وحينئذٍ يثبت المطلوب لأن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان مفهوم واحد في الممكنات وإنه علة للحاجة إلى موجود معين ، فجميع الممكنات محتاجة إلى ذلك المعين فالذي يكون مؤثراً في وجود شيء واحد يجب أن يكون هو المؤثر في جميع الممكنات ولا يحتاج إلى الممكنات . الثالثة قالت الأشاعرة : كل أثر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأثر في الحقيقة هو الله تعالى لقوله : { ألا له الخلق والأمر } ويتفرع على هذا أنه لا إله إلا الله وإلا كان الثاني مدبراً وخالقاً ، وأنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم ، وأن القول بالطبائع والعقول والنفوس على ما يزعم الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل ، وأن خالق أعمال العباد هو الله تعالى والقول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل ، كل ذلك لئلا يلزم خالق ومؤثر غير الله تعالى .

الرابعة كلام الله تعالى قديم لأنه ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان أمر الله مخلوقاً لما صح هذا التمييز . أجاب الجبائي بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلاً في الخلق كقوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } { البقرة : 98 ] وعارض الكعبي بقوله : { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته } [ الأعراف : 158 ] فإنه لو وجب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه لزم أن تكون الكلمات غير الله تعالى ، وكل ما كان غير الله تعالى فإنه محدث ومخلوق فكلمات الله مخلوقة . وقال القاضي : اتفق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام الله تعالى بل المرا به نفاذ إرادته وإظهار قدرته ، وقال قوم : لا يبعد أن يقال الأمر داخل في الخلق ولكنه من حيث كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال . والمعنى له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى . ثم بعد الإيجاد والتكوين له الأمر والتكليف في المرتبة الثانية . وقال آخرون : معنى قوله : { ألا له الخلق } أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق ، فقوله : { والأمر } يجب أن يكون معناه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر ، ويلزم منه أن يكون الأمر محدثاً مخلوقاً لأنه لو كان قديماً لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فلا يصدق أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر هذا خلف . وأجيب بأنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق لزم التكرار والأصل عدمه فلا يصار إليه إلا للضرورة ولا ضرورة ههنا . الخامسة في الآية دلالة على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئاً إلا الله ، ففعل الطاعة لا يوجب الثواب ، وفعل المعصية لا يوجب العقاب ، وإيصال الألم لا يوجب العوض . السادسة دلت الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه ، وأن الحسن لا يحسن لأمر عائد إليه وإلا لم يأمر إلا بما حصل فيه وجه الحسن ولم ينه إلا عما حصل فيه وجه القبح ، فلا يكون متمكناً من الأمر والنهي كيف شاء وأراد هذا خلف . السابعة أطلق الخلق والأمر فيعلم أنه لو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والكواكب في أقل من لحظة لقدر عليه ، لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات . الثامنة قال قوم : الخلق صفة من صفات الله تعالى وهو غير المخلوق لأن أهل السنة يقولون : معنى قوله : { الأمر لله } أنه صفة له فكذا الخلق صفة قائمة بذاته فلا يكون مخلوقاً ، وأجيب بأن الخلق لو كان غير المخلوق فإما أن يكون قديماً ويلزم من قدمه قدم المخلوق ، وإما أن يكون حادثاً فيفتقر إلى خلق آخر ويتسلسل ، ويمكن أن يقال : الصفة قديمة والتعلق حادث .

التاسعة له الأمر يقتضي أن لا أمر لله . وقول النبي صلّى الله عليه وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » لا ينافي ذلك لأن الموجب لأمره في الحقيقة هو أمر الله تعالى ، العاشرة في الآية دلالة على أن الله تعالى أمراً ونهياً على عباده والخلاف مع نفاة التكليف . قالوا : إن كان التكليف معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به تحصيلاً للحاصل ، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال . وأيضاً إنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع وإلا فلا فائدة في الأمر به . وأيضاً الكافر أو الفاسق لا يستفيد بالتكليف ، إلا الضرر المحض لأنه تعالى يعلم أنه لا يؤمن ولا يطيع وخلاف علم الله محال فلا يحصل من الأمر إلا مجرد استحقاق العذاب وهذا لا يليق بالرحيم الحليم . وأيضاً التكليف إن لم يكن لفائدة في الأمر فهو عبث ، وإن كان لفائدة فلا بد أن تعود إلى المكلف لأنه سبحانه غني فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل نفع أو دفع ضر والله تعالى قادر على تحصيلهما للمكلف من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً . والجواب أن أوّل الآية دل على أنه تعالى هو الخالق لكل العبيد ، وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم ، وتصرف المالك في ملك نفسه كيف شاء مستحسن ، ويحسن منه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لا كما يقول المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً أو من كونه موجب عوض أو ثواب . ولما بين أن له الأمر والنهي والحكم والتكليف ذكر أنه يستحق الثناء والتقديس فقال : { تبارك الله رب العالمين } وللبركة تفسيران : أحدهما الثبات والدوام ولا ريب أنه الواجب لذاته القائم بذاته الدائم الغني بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه . وثانيهما كثرة الآثام الفاضلة . ولا شك أن كل الخيرات والكمالات فائضة من جوده وإحسانه بل جميع الممكنات رشحة من بحار فضله وامتنانه . ثم لما بيّن كمال قدرته وحكمته وأرشد إلى التكليف الموصل إلى سعادة الدارين أتبعه ذكر ما يستعان به على تحصيل المطالب والمآرب الدينية والدنيوية فقال : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } قال في الكشاف : نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية وكذلك { خوفاً وطمعاً } قلت : ويحتمل الانتصاب على المصدر مثل : رجع القهقرى . والتضرع التذلل وهو إظهار ذل النفس والخفية بالضم أو الكسر ضد العلانية . قال بعض العلماء : الدعاء ههنا بمعنى العبادة لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه في قوله : { وادعوه خوفاً وطمعاً } والأظهر أنه على الأصل . ومن الناس من أنكر الدعاء قال : لأن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع أو كان مراداً في الأزل أو كان على وفق الحكمة والمصلحة وقع لا محالة وإلا فلا فائدة فيه .

وأيضاً إنه نوع من سوء الأدب وعدم الرضا بالقضاء وقد يطب ما ليس بنافع له . وفيه من الاشتغال بغير الله وعدم التوكل عليه ما لا يخفى . والحق أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ورفضه يستدعي رفض كثير من السوائل والوسائط والروابط ، ولو لم يكن فيه إلاّ معرفة ذلة العبودية وعزة الربوبية لكفى بذلك فائدة ، ولهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم وآله : « ما من شيء أكرم على الله سبحانه من الدّعاء » إلا أنه لا بد فيه من الإخلاص والصون عن الرياء والسمعة ، وإليهما أشار بقوله : { تضرعاً وخفية } ونحن قد أطنبنا في تحقيق الدعاء وشرائطه في سورة البقرة في تفسير قوله : { وإذا سألك عبادي عني } [ البقرة : 186 ] ثم ختم الآية بقوله : { إنه لا يحب المعتدين } وللمسلمين اتفاق على أنه ليس معنى المحبة عند إطلاقها على الله شهوة النفس وميل الطبع ولكنها عبارة عن إيصاله الثواب والخير إلى العبد ، وهذا مبني على قول الكعبي وأبي الحسين أنه تعالى غير موصوف بالإرادة ، وأن كونه مريداً لأفعال نفسه عبارة عن إيجادها وفعلها ، وكونه مريداً لأفعال غيره هو كونه آمراً بها . وأما الأشاعرة ومعتزلة البصرة القائلون بصفة الإرادة فإنهم فسروا المحبة بإرادة إيصال الثواب . وقال بعض العلماء : إنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخيرات إلى ذلك الابن وكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها . غاية ما في الباب أن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة في النفس وذلك في حقه تعالى محال . إلا أنا نقول : لم لا يجوز أن يقال أن محبة الله صفة أخرى يترتب عليها إيصال الثواب أو إرادة الإيصال؟ لكنا لا نعرف تلك المحبة ما هي وكيف هي لأن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء . نظير ذلك أن أهل السنة يثبتون كونه مرئياً ثم يقولون إن تلك الرؤية لا كرؤية الأجسام والألوان . ويعني بالمعتدين المجاوزين ما أمروا به فيشمل كل من خالف أمر الله ونهيه . وقال الكلبي وابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء ويؤيده أنه أمر بالدعاء مقروناً بالإخفاء وظاهره الوجوب إذ قد أثنى على زكريا فقال : { إذ نادى ربه نداء خفياً } [ مريم : 3 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية » وعنه صلى الله عليه وسلم « خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي » وعنه صلى الله عليه وآله : « سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ قوله إنه لا يحب المعتدين »

ومن هنا اختلف أرباب الطريقة أن الأولى في العبادات الإخفاء أم الإظهار فقيل : الأولى الإخفاء صوناً لها عن الرياء . وقيل : الأولى الإظهار ليرغب غيره في الاقتداء . وتوسط الشيخ محمد بن علي الحكيم الترمذي فقال : إن كان خائفاً على نفسه من الرياء فالأولى في حقه الإخفاء ، وإن بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً من شائبة الرياء فالأولى في حقه الإظهار ليحصل فائدة الاقتداء . قال الشافعي : إظهار التأمين أفضل . وقال أبو حنيفة : الإخفاء أفضل لأنه إن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى على ما قيل فكذلك لقوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة } فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ، ثم نهى عن مجامع المفاسد والمضار بقوله : { ولا تفسدوا في الأرض } فيدخل فيه خمسة أشياء : المنع من إفساد النفوس بالقتل ، ومن إفساد الأموال بقطع الطريق والسرقة ، وإفساد الأنساب بالزنا واللواط والقذف ، وإفساد العقول بشرب المسكرات ، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة ، وذلك أن قوله : { لا تفسدوا } منع عن إدخال ماهية الفساد في الوجود والمنع من الماهية يقتضي المنع من جميع أنواعه . ومعنى : { بعد إصلاحها } بعد أن أصلح خلق الأرض على الوجه المطابق لمنافع الخلق الموافق لمصالح المكلفين ، أو المراد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع ، فإن الإقدام على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع يقتضي وقوع الهرج والمرج وحدوث الفتن في الأرض . وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار الحرمة فإن وجدنا نصاً خاصاً يدل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديماً للخاص على العام . وفيها أيضاً دلالة على أن كل عقد وقع التراضي به بين الخصمين فإنه منعقد صحيح لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفساداً بعد الإصلاح ، فإن وجدنا نصاً يدل على عدم صحة بعض تلك العقود قضينا فيه بالبطلان عملاً بالأخص . فجميع أحكام الله تعالى داخلة تحت عموم هذه الآية الدالة على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة كما كانت داخلة تحت عموم قوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] بأنها كانت تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل ، فكل واحدة من الآيتين مطابقة ومؤكدة للأخرى ، ثم لما بين أن الدعاء لا بد أن يكون مقروناً بالتضرع والإخفاء وبعدم المنافي وهو الإفساد بالوجوه الخمسة ، ذكر أن فائدة الدعاء والباعث عليه أحد الأمرين الخوف من العقاب والطمع في الثواب . واعترض عليه بأن أهل السنة يقولون : التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية أي كونه إلهاً لنا ، وكوننا عبيداً له اقتضى أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء ولا يعتبر فيه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً .

والمعتزلة يقولون : إنها وردت لأنها في نفسها مصالح . فعلى القولين من أتى بها للخوف من العقاب والطمع في الثواب لم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا يصح . وأجيب بأن المراد من الآية ادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها أي كونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في جميع أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم قد أديتم حق ربكم كقوله : { والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة } [ المؤمنون : 6 ] . والجواب الصحيح عندي أن غاية التكليف من الآمر غير غايته من المأمور إذاً فهب أن الغاية الأولى هي المصلحة أو الإلهية والعبودية فلم لا يجوز أن تكون الغاية الثانية الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب؟ ثم ختم الآية بقوله : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ظاهره أن يقال قريبة . وذكروا في حذف علامة التأنيث وجوهاً : فقيل : لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي . وقال الزجاج : لأن الرحمة غير حقيقي . وقال الزجاج : لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد ، أو لأن المراد بالرحمة الترحم أو الرحم . وقيل : إنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب ، أو شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول كما شبه ذاك به فقيل : قتلاء وأسراء ، وقيل : لأنه بزنة المصدر كالنقيض صوت العقبان أو الدجاجة والضغيب صوت الأرنب . وقيل : المراد ذات مكان قريب كلابن وتامر ، وروى الواحدي بإسناده عن ابن السكيت تقول العرب : هو قريب مني وهما قريب مني وهي قريب لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني . قال بعض المفسرين : معنى هذا القرب أن الإنسان يزداد بعداً عن الماضي وقرباً من المستقبل أي الآخرة التي هي مقام رحمة الله . ويمكن أن يقال : المراد به قرب الحصول سواء كان في الدنيا أو في الآخرة كقوله : { ألا إن نصر الله قريب } [ البقرة : 214 ] قالت المعتزلة : إن ماهية الرحمة لما كانت حصة المحسنين وجب أن لا يحصل للكافر والفاسق منها شيء ، والغرض أن صاحب الكبيرة لا يكون له نصيب من العفو . وأجيب بأن المحسن من صدر عنه الإحسان ولو من بعض الوجوه ، فكل من آمن بالله تعالى وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن والدليل عليه الإجماع . على أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فإنه يسمى مؤمناً محسناً ، على أن قوله ماهية الرحمة نصيب المحسنين ممنوع لأن الكافر أيضاً في رحمة الله ونعمته في الدنيا بدليل قوله : { ومن كفر فأمتعه } [ البقرة : 126 ] ثم إنه سبحانه لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي أتبعه ذكر الدلائل من أحوال هذا العالم وهي الآثار العلوية من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها أحوال الرياح والسحب والأمطار .

وأيضاً لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العليم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر ليتم بالآيتين تقرير المبدأ والمعاد فقال : { وهو الذي يرسل الرياح } الريح هواء متحرك ، وتحركه ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا دام بدوام الذات ، فهو بتحريك الفاعل المختار . قالت الحكماء : من أسباب الريح أن يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنت تسخيناً شديداً ، فبسبب تلك السخونة ترتفع وتتصاعد ، فإذا وصلت إلى قريب من الفلك فإن الهواء الملتصق بمقعر الفلك يمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها لتحرك تلك الطبقة على الاستدارة تشيعاً للفلك ، فحينئذٍ ترجع الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب تفرقها تحصل الرياح . وكلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد فكانت الرياح أقوى ، وزيف بأن صعود تلك الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها بالعرض ، فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة بردت فامتنع صعودها إلى الطبقة العليا المتحركة بحركة الفلك . سلمنا أنها تصعد إلى الطبقة المتحركة بالاستدارة لكن رجوعها يجب أن يكون على الاستقامة كما هو مقتضى طبيعة الأرض لكنها تتحرك يمنة ويسرة . وأيضاً إن حركة تلك الأجزاء لا تكون قاهرة فإن الرياح إذا أصعدت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها ، ونحن نرى هذه الرياح تقلع الأشجار وتهدم الجبال وتموج البحار ، وأيضاً لو كان الأمر على ما قالوا لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر وليس كذلك ، لأنه قد توجد الرياح العاصفة في وجه البحر وليس فيها شيء من الغبار . ويمكن أن يجاب بأن الحكم بامتناع الصعود استبعاد محض وحديث الرجوع على الاستقامة مبني على أن الريح هي تلك الأجزاء الراجعة فقط وليس كذلك ، فإن الراجع إذا خرق الهواء حدث فيما يجاوره من الهواء تحرك واضطراب وتموج شبه ما يحدث في الماء إذا ألقي فيه حجر ، وكذا الكلام في الوجهين الباقيين . وقال المنجمون : قد يحدث بسبب وصول كوكب معين إلى موضع معين من البروج ريح عاصفة ، وزيف بأنه لو كان كذلك لزم تحرك كل الهواء . والجواب أن وصول الكوكب إلى الموضع الفلاني إنما يوجب تحرك الهواء بتسخين أو تلطيف أو تكثيف يحدث في بعض المواد المستعدة لذلك فيطلب ذلك القابل مكاناً أكثر أو أقل مما كان عليه ، فيلزم من ذلك تحرك الهواء المجاور له لاستحالة التداخل والخلاء لا يتدافع إلى أن يتحرك جميع كرة الهواء بل يتموج بعض أجزاء الهواء ثم يستقر كل في موضعه ، ويختلف مقدار ذلك بحسب المؤثر والمتأثر والكل يستند إلى تدبير الله سبحانه وتقديره ، وإنما قال في هذه السورة { يرسل الرياح } بلفظ المستقبل وكذا في « الروم » لأن ما قبله ههنا ذكر الخوف والطمع وأنهما يناسبان المستقبل ، وأما في « الروم » فليناسب ما قبل

{ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } [ الروم : 46 ] وقال في الفرقان : { أرسل الرياح } [ الفرقان : 48 ] بلفظ الماضي ليناسب ما قبله : { كيف مد الظل } [ الفرقان : 45 ] وما بعده { وهو الذي جعل } [ الفرقان : 62 ] وكذا في « فاطر » مبني على أول السورة { فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة } [ فاطر : 1 ] وهما بمعنى الماضي والله تعالى أعلم . أما قوله : { نشراً } بنون مفتوحة وشين ساكنة فإنه مصدر نشر . وانتصابه إما على الحال بمعنى منتشرات وإما لأن أرسل ونشر متقاربان كأنه قيل : نشرها نشراً . ومن قرأ { نشراً } بضمتين فلأنه جمع نشور كرسول ورسل ، وقد تخفف كرسل ، ومن قرأ { بشراً } بضم الباء الموحدة وسكون الشين فلأنه مخفف بشر جمع بشير . ومعنى : { بين يدي رحمته } أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أجلِّ النعم وأحسنها وهذا بحسب الأغلب ، فإن المطر قلما لا يتقدمه رياح يسلطها الله تعالى على السحاب والعرب تستعمل اليدين بدل قدام وأمام مجازاً لأن اليدين من الحيوان متقدمان على الرجلين . { حتى إذا أقلت } حملت ورفعت واشتقاقه من القلة لأن الرافع الذي يقدر على حمل الثقيل يزعم أن ما يرفعه قليل { سحاباً } جمع سحابة ولهذا قال : { ثقالاً } على الجمع جمع ثقيلة والضمير في { سقناه } يعود إلى السحاب على لفظه ، وضمير المتكلم في { سقناه } على أصله . وأما الذي في قوله : { وهو الذي } فعلى طريقة الالتفات وإلا فالظاهر أن يقال : نحن أرسلنا . واعلم أن السحاب المستمطر للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً . ولتلك الحركات فوائد منها : أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر ثم تصير متفرقة . ومنها أن تتحرك الرياح يمنة ويسرة فتمنع الأجزاء المائية الرشية عن النزول فيبقى معلقاً في الهواء . ومنها أن ينساق السحاب إلى موضع علم الله احتياجهم إلى نزول الأمطار ، ومن الرياح مقوية للزروع والأشجار ومكملة لما فيها من النشوء والنماء وهي اللواقح . ومنها مبطلة لها كما في الخريف . ومنها طيبة لذيذة وموافقة للأبدان . ومنها مهلكة للحر الشديد كالسموم أو البرد الشديد . ومنها مشرقية ومغربية وشمالية وجنوبية ، وبالحقيقة تهب الرياح من كل جانب ولكنها ضبطت كذلك ، وقد يصعد الريح من قعر الأرض فقد يشاهد غليان شديد في البحر بسبب تولد الرياح في قعره ثم لا يزال يتزايد ذلك الغليان إلى أن ينفصل الريح إلى ما فوق البحر ، وحينئذٍ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر ، وعن ابن عمر : الرياح ثمان : أربع منها عذاب وهو العاصف والقاصف والصرصر والعقيم ، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، وعن النبي صلى الله عليه وآله :

« نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة » وعن كعب : لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض ، وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب ، ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فينزل الماء على السحاب ، ثم يمطر السحاب بعد ذلك برحمته وهي المطر . ومعنى { لبلد ميت } أي لأجل بلد ميت ليس فيه نبات ولا زرع ، والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خالٍ أو مسكون . { فأنزلنا به الماء } قال الزجاج وابن الأنباري : أي بالبلد . وجائز أن يراد بالسحاب أو بالسوق فالباء للسببية . { فأخرجنا به } قال الزجاج : أي بالبلد . { من كل الثمرات } ويجوز أن يراد أي بالماء . قال جمهور الحكماء : إنه تعالى أودع في الماء قوّة وطبيعة توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب . وقال أكثر المتكلمين : إن الثمار ليست متولدة من الماء وإنما أجرى الله تعالى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب { كذلك } مثل ذلك الأخراج وهو إخراج الثمرات . { نخرج الموتى } فالتشبيه إنما وقع في أصل الإحياء أي كما أحيا هذا البلد وأنبت فيه الشجرة وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا تراباً لأن من قدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه كان قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت . وقال كثر من المفسرين : المراد أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الماء كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال مطر على الأجساد الرميمة . يروى أنه يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطر كالمني أربعين يوماً فينبتون عند ذلك أحياء . وعن مجاهد : تمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها . قال العلماء : إن هؤلاء المفسرين ذهبوا إلى هذا بناء على النقل وعلى إجراء العادة وإلا فإنه تعالى قادر على خلق الحياة في الجسم ابتداء من غير واسطة المطر كما أنه يجمع بقدرته الأجزاء المتفرقة والمتمزقة غاية التفرق والتمزق ولهذا ختم الآية بقوله : { لعلكم تذكرون } والمعنى أنكم شاهدتم أن الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف والخريف بالأزهار والثمار والأشجار ثم صارت وقت الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ، ثم أحياها مرة أخرى ، فالقادر على إحيائها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها ، ثم ضرب الله سبحانه مثلاً للمؤمن والكافر وشبه القرآن بالمطر ، وذلك أن الأرض الحرة إذا نزل بها المطر حصل فيها أنواع الأزهار والثمار والأرض السبخة بعد نزول المطر لا يخرج منها إلا النزر القليل من النبات ، فكذلك النفس الطاهرة النقية من شوائب الأخلاق الذميمة إذا اتصل بها أنوار القرآن ظهرت عليها أنواع المعارف والأخلاق الفاضلة ، والنفس الخبيثة لا ترجع من ذلك إلا بخفي حنين .

وقيل : ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة . فمن يطلب هذا النفع اليسير فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لابد منها ومن تحملها في أداء الطاعات كان أولى . وفي الآية دلالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس ، لأنها دلت على أن الأرواح قسمان : منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ومنها ما تكون بالضد لا تقبل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كالأرض السبخة التي لا يتولد فيها الأشجار والأنهار والثمار . ومما يقوّي هذا الكلام أن النفوس نراها مختلفة في الصفات؛ فمنها مجبولة على حب الإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانيات كقوله تعالى : { ترى أعينهم تفيض من الدمع } [ المائدة : 83 ] { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } [ البقرة : 273 ] ومنها قاسية قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة ، ومنها مائلة إلى الشهوة دون الغضب ، ومنها على العكس ، ومنها راغبة في المال دون الجاه ، ومنها بالخلاف ومن الراغبين في المال من يرغب في العقار دون الأثمان والنقود ، ومنهم من هو بالعكس . ومما يؤكد هذه المعاني قوله سبحانه وتعالى : { بإذن ربه } أي بتيسيره وهو في موضع الحال كأنه قيل : يخرج نباته حسناً كاملاً لوقوعه في طباق { نكداً } والنكد الذي لا خير فيه . وتقدير الآية ونبات البلد الخبيث لا يخرج ، أو البلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه وهو الضمير الراجع إلى البلد مقامه فانقلب مرفوعاً مستكناً بعد أن كان مجروراً بارزاً . من قرأ { نكداً } بفتح الكاف فعلى المصدر أي ذا نكد { كذلك } مثل ذلك التصريف نردّد الآيات ونكررها { لقوم يشكرون } نعمة الله لأن فائدة التصريف تعود عليهم وإنما ختم الآية بالحث على الشكر لأن الذي سبق ذكره هو أن الله تعالى يرسل الرياح النافعة فيجعلها سبباً للمطر الذي هو سبب الملاذ والطيبات فهذا يدل من أحد الوجهين على وجود الصانع وقدرته ، ومن الوجه الثاني على عظيم نعمته وقدرته فوجب من هذا الوجه مقابتلها بالشكر والله أعلم .
التأويل : عرّف ذاته للخلق بصفات الهوية والألوهية والقادرية والخالقية والمدبرية والحكيمية والاستوائية فقال : { إن ربكم الله } الآية وإنما خص ستة أيام لأن أنواع المخلوقات ستة : الأوّل الأرواح الإنسانية ( ب ) الملكوتيات منها الملائكة والجن والشياطين وملكوت السموات والأرض ومنها العقول المفردة والمركبة .

( ج ) النفوس السماوية الأرضية . ( د ) الأجرام البسيطة العلوية كالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار . ( ه ) الأجسام البسيطة السفلية وهي العناصر ، والأجسام الكثيفة المركبة من العناصر ، فلما خلق الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم وما فيه . وخص العرش بالاستواء لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القبلة للفيض الرحماني . والاستواء كالعلم صفة من صفاته لا يشبه استواء المخلوقين كما أن علمه لا يشبه علم المخلوقين . ومن أسرار الخلافة الروح تتصرف في النطفة أيام الحمل فتجعلها عالماً صغيراً ، فبدنه كالأرض . ورأسه كالسماء والقلب كالعرش ، والسر كالكرسي ، والقلب يقسم فيض الروح إلى القالب كما أن العرش يقسم فيض الإله إلى سائر المخلوقات { يغشى } أي يستولي ليل ظلمات النفس وصفاتها على نهار أنوار القلب وبالعكس . { ألا له الخلق } بواسطة { الأمر } بلا واسطة { ادعوا ربكم تضرعاً } بالجوارح { وخفية } بالقلوب . أو تضرعاً بأداء حق العبودية وخفية بمطالب حق الربوبية { إنه لا يحب المعتدين } الذين يطلبون منه سواه { ولا تفسدوا } في أرض القلوب بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط . { وادعوه خوفاً } من الانقطاع { وطمعاً } في الاصطناع ، أو خوفاً من الاثنينية وطمعاً في الوحدة ، أو خوفاً من الانفصال وطمعاً في الوصال . { إن رحمة الله قريب من المحسنين } الذين لا يرون سواه يرسل رياح العناية فينشر سحاب الهداية سحاباً ثقالاً بأمطار المحبة ، سقناه لكل قلب ميت فأنزلنا به ماء المحبة فأخرجنا به ثمرات المكاشفات والمشاهدات ، كذلك نخرج موت القلوب من قبور الصدور ولعلكم تذكرون أيام حياتكم في عالم الأرواح إذ كنتم في رياض القدس وحياض الأنس . والبلد الطيب الحي يتخلق بأخلاقه الحميدة { كذلك نصرف الآيات } أي النفوس وصفاتها إلى أوصاف القلب وأخلاقه .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

القراآت : { إله غيره } بالجر على الوصف حيث كان : يزيد وعلي الباقون بالرفع حملاً على محل { من إله } { إني أخاف } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير { أبلغكم } بالتخفيف حيث كان : أبو عمرو . والباقون : بالتشديد . عباس : بالاختلاس { بصطة } بالصاد : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل وعاصم وعلي وسهل وشجاع وابن الأخزم عن ابن ذكوان الحلواني عن قالون مخيراً .
الوقوف : { غيره } ط { عظيم } ه { مبين } ه { العالمين } ه { لا يعلمون } ه { ترحمون } ه { بآياتنا } ط { عمين } ه { هوداً } ط { غيره } ط { تتقون } ه { الكاذبين } ه { العالمين } ه { أمين } ه { لينذركم } ط لتناهى الاستفهام { بسطة } ج تنبيهاً على الإنعام العام بعد ذكر إنعام خاص مع اتفاق الجملتين { تفلحون } ه { آباؤنا } ج للعدول مع فاء التعقيب { الصادقين } ه { وغضب } ط { من سلطان } ج لانتهاء الاستفهام إلى أمر التهديد { المنتظرين } ه { مؤمنين } ه .
التفسير : لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل قاهرة وبينات باهرة شرع في قصص الأنبياء وفي ذلك فوائد منها ، التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول الدلائل عادة معتادة فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنها بيان سوء عاقبة المستكبرين وحسن عقبى المطيعين وفي ذلك تقوية قلوب المحقين وكسر قلوب المبطلين . ومنها التنبيه على أن الله سبحانه لا يهمل المبطلين وإن كان يمهلهم . ومنها العظة والاعتبار { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف : 111 ] ومنها الدلالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث إنه إخبار بالغيب لأنه أمي لم يقرأ الكتب فيكون قد عرف ذلك بالوحي لا محالة . فمن القصص أولاها قصة آدم وقد مرت في أوّل السورة . الثانية قصة نوح وهو نوح بن لمك بن مثوشلخ بن أخنوخ ، وأخنوخ اسم إدريس . قيل : كان اسمه يشكر فسمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه فأهلكوا فندم ، أو حين راجع ربه في شأن ابنه ، أو حين مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك . قال الله له : أعبتني إذ خلقته أم عبت الكلب؟ وهذه الوجوه متكلفة فإن الإعلام لا تفيد صفة في المسمى . والصحيح أنه اسم أعجمي . قال ابن عباس : معنى أرسلنا بعثنا . وقال آخرون : معناه أنه تعالى حمله رسالة يؤدّيها ، فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث كالتابع لا أنه أصل . قال في التفسير الكبير : وهذا البحث مبني على مسألة أصولية هي أن الرسول أرسل إلى قوم ليعرّفهم أحكاماً لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم ، أو الغرض من بعثته مجرد تأكيد ما في العقول . وهذا الاختلاف بتفاريع المعتزلة أليق ، أمرهم نوح بعبادة الله ثم حكم بأنه لا إله إلا الله ثم حذرهم عذاب يوم عظيم هو القيامة أو الطوفان ، ولم يذكر دليلاً على هذه الدعاوى الثلاث لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهور المعجزة حجة ، أو لعله قد ذكر الحجج وما حكاها الله تعالى لأنه قد علم من القرآن ذم التقليد في مواضع كثيرة فيعلم أن نبي الله لا يأمر قومه بالتقليد المحض ، وأيضاً قد مر دلائل التوحيد والنبوّة وصحة القرآن من أول سورة البقرة إلى ههنا غير مرة ، فوقع التعويل على ذلك هذا مع أن الحكم الثاني كالعلة للأوّل لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلاً منه ، ونهاية الإنعام توجب غاية التعظيم ومن هنا قال بعض العلماء : لا يحسن منا عبادة الله تعالى قبل العلم بأنه واحد لأنا إذا جوّزنا التعدد لم يتعين المنعم فتقع العبادة ضائعة ، والإله معناه المستحق للعبادة وإلا فهو في الأزل غير معبود .

ومعنى الخوف في الآية قال بعضهم : الجزم واليقين فإنه كان جازماً بنزول العذاب بهم عاجلاً وآجلاً . وقال آخرون : الشك لأنه كان يجوّز إيمانهم ومع هذا التجويز كيف يجزم بالعذاب ، أو لعل السمع لم يرد بعد فلهذا كان متوقفاً ، أو لعله وصف العذاب بالعظم ولكنه جر على الجوار . ثم إنه تردد في وصف العذاب بالعظم لا في نفس العذاب . وقيل : المراد من الخوف التحذير . وجملة قوله : { إني أخاف } بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون الأصنام { فقال الملأ من قومه } أي الأشراف وصدور المجالس الذين هم بعض قومه في جواب نوح { إنا لنراك في ضلال } في ذهاب عن طريق الحق . والصواب مبين بين والرؤية رؤية القلب بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والبديهة . نسبوه إلى الضلال فيما ادعاه من التكليف والتوحيد والنبوّة والمعاد { قال يا قوم ليس بي ضلالة } لم يقل ضلال ليكون أبلغ في عموم السلب كأنه قال : ليس بي نوع من أنواع الضلال ، ثم لما نفى عن نفسه العيب الذي نسب إليه وصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها فاستدرك قائلا : { ولكني رسول من رب العالمين } وهذا الاستدراك يسمى في علم البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم . وفي ذلك بيان فرط جهالتهم وعتوّهم حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال الظاهر الذي لا ضلال بعده ، وفيه أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز . ثم ذكر ما هو المقصود من البعثة وهو أمران : الأول تبليغ الرسالة ، والثاني تقرير النصيحة فقال { أبلغكم } الآية . والجملة استئناف بيان لكونه رسولاً من رب العالمين ، أو صفة لرسول . وإنما جاز أن تكون صفة ولفظ الرسول غائب نظراً إلى المعنى كقوله : أنا الذي سمتن أمي حيدره { رسالات ربي } ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة ، أو ما أوحي إليّ في المعاني المختلفة في الأوامر والنواهي .

وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا . ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده إدريس وهي ثلاثون صحيفة ، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة { وأنصح لكم } قال الفراء : العرب لا تكاد تقول نصحتك وإن كان جائزاً ولكن تقول نصحت لك . قال في الكشاف : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة . وحقيقة النصح الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكر . ومعنى الآية : وأبلغكم تكاليف الله ثم أرشدكم إلى الأصلح الأصوب وأدعوكم إلى ما دعاني الله تعالى وأحب لكم ما أحب لنفسي { وأعلم من الله ما لا تعلمون } أي أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان ، وذلك أنهم لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم أو أعلم أن الله يعاقبكم في الآخرة عقاباً ، أو أعلم من توحيد الله من صفات جلاله ما لا تعلمون ، ويكون المقصود حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم . { أو عجبتم } الهمزة للإنكار ، والمعطوف محذوف والتقدير : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم . قال الحسن : يعني الوحي الذي جاءهم به . وقال آخرون : الذكر المعجز كتاباً أو غير كتاب . وقيل : هو الموعظة { على رجل } أي على لسانه قاله ابن قتيبة ونظيره { آتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] وقال الفراء « على » معنى « مع » تقول : جاءنا الخبر على وجهك ومع وجهك كلاهما جائز . وقيل : أي منزل على رجل . ومعنى { منكم } من بني نوعكم كأنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه لاعتقادهم أن المقصود من الإرسال التكليف ، وأن التكليف لا منفعة فيه للمعبود لتعاليه ولا للعابد لتضرره في الحال ، وأما في المآل فالله تعالى قادر على تحصيلة بدون واسطة التكليف . وأيضاً إن العقل كافٍ في معرفة الحسن والقبيح ، وما لا يعلم حسنه ولا قبحه فإن كان المكلف مضطراً إليه فعل لأنه تعالى لا يكلف ما لا يطاق ، وإن لم يكن مضطراً إليه ترك حذراً عن الخطر وبتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى لشدة بطشهم ووفور عصمتهم وطهارتهم واستغنائهم عن الأكل والشرب والنكاح ، وبتقدير جواز كون النبي من البشر فلعلهم اعتقدوا أن من كان فقيراً خاملاً لا يصلح للنبوّة فأنكر نوح عليه السلام كل هذه الأشياء لأنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عباده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء المنافي للتكليف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول ملكاً لأن الجنس إلى الجنس أسكن وقد مر في أوّل « الأنعام » .

ثم بين ما لأجله يبعث الرسول فقال { لينذركم } الآية . وإنه ترتيب أنيق لأن المقصود من البعثة الإنذار ، ومن الإنذار التقوى ، ومن التقوى الفوز برحمة الله . قال الجبائي والكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من المبعوث إليهم إلا التقوى والفوز بالجنة دون الكفر والعذاب ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً { فكذبوه } في ادعاء النبوّة وتبليغ التكاليف وأصروا قال بعض العلماء : ما في حق العقلاء من التكذيب فبغير الباء نحو كذبوا رسلي وكذبوه ، وما في حق غيرهم فبالباء نحو كذبوا بآياتنا . والتحقيق أن المراد كذبوا رسلنا برد آياتنا { فأنجيناه والذين } استقروا { معه في الفلك } وأنجيناهم في السفينة من الطوفان . قيل : كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة . وقيل : كانوا تسعة وهم بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به . وإنما قال في سورة يونس { فنجيناه ومن معه في الفلك } [ الآية : 73 ] لأن التشديد للتكثير ولفظة من أدل على العموم ولهذا يقع على الواحد والتثنية والجمع والذكر والمؤنث بخلاف الذين { إنهم كانوا قوماً عمين } قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوّة والمعاد . وقال أهل اللغة : يقال رجل عمٍ في البصيرة وأعمى في البصر . فالعمى يدل على عمّى ثابت والعامي على عمّى حادث .
القصة الثالثة قصة هود وذلك قوله سبحانه { وإلى عاد أخاهم هوداً } والتقدير لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً . واتفقوا على أن هوداً ما كان أخاهم في الدين . ثم قال الزجاج : معناه أنه كان من آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة والجن . وقيل : أراد واحداً منهم قاله الكلبي ، وهو من قولك يا أخا العرب لواحد منهم ، وقيل : خص واحداً منهم بالإرسال إليهم ليكونوا أعرف بحاله في صدقه وأمانته . وقيل : معناه صاحبهم . والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم قال صلى الله عليه وسلم « إن أخاكم أذن وإنما يقيم من أذن » يريد صاحبهم . ونسبه هود بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح { وهوداً } عطف بيان لأخاهم . وأما عاد فهم كانوا باليمين بالأحقاف . قال ابن إسحق : والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت . واعلم أن ألفاظ هذه القصة بعضها يوافق الألفاظ المذكورة في قصة نوح وبعضها يخالفها فلنبين أسرارها فمنها قوله هناك { فقال يا قوم اعبدوا الله } وههنا { قال يا قوم } والفرق أن نوحاً عليه السلام كان مواظباً على دعوتهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة ، وأما هود فما كان جدّه إلى هذا الحد فلا جرم جاء بالتعقيب في قصة نوح دون قصة هود . ويمكن أن يقال : لما أضمر { أرسلنا } أضمر الفاء لأن الداعي إلى الفاء { أرسلنا } وفي الكشاف أن هذا وارد على سبيل الاستئناف .

ومنها قوله : { ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } وفي قصة هود { ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } لأن واقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح فوقع الاقتصار على ذلك أي لعلكم تحذرون مثل ذلك العذاب العظيم الذي اشتهر خبره في الدنيا . ومنها { قال الملأ من قومه } وفي قصة هود { قال الملأ الذين كفروا من قومه } إما أن هذا وصف وارد للذم لا غير ، وإما أنه لم يكن في أشراف قوم نوح من يؤمن وكان في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فأريد التفرقة بالوصف . ومنها أن قوم نوح { قالوا إنا لنراك في ضلال مبين } وقوم هود { قالوا إنا لنراك في سفاهة } أي متمكناً منها تمكن المظروف من الظرف . وذلك أن نوحاً كان يخوّفهم بالطوفان العام وكان يشتغل بإعداد السفينة مدّة طويلة فوصفوه بضعف الرأي والبعد عن السداد . وأما هو فما ذكر شيئاً إلا أنه زيف معتقدهم في عبادة الأصنام وطعن فيها فقابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة وخفة العقل حيث فارق دين قومه . ثم قالوا { وإنا لنظنك من الكاذبين } في ادعاء الرسالة . قيل : الظن بمعنى الجزم واليقين كقوله { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } [ البقرة : 46 ] قال الحسن والزجاج : كانوا شاكين فيعلم أن الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر . ومنها قول نوح { وأنصح لكم } وقال هود { وأنا لكم ناصح } وذلك لأنه كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، وصيغة الفعل دلت على التجدد المستمر ولهذا { قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً } [ نوح : 5 ] إلى آخر الآيات . وأما هود فكان ثابتاً على النصح غير مجدد إياه لحظة فلحظة كما كان يفعل نوح . ثم إن نوحاً عليه السلام قال { وأعلم من الله ما لا تعلمون } لأنه كان يعلم من أسرار الله تعالى ما لم يصل إليه هود فلا جرم أمسك هود لسانه واقتصر على وصف نفسه بكونه أميناً ثقة أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة فليس من حقي أن آتي بالكذب والغش . أو المراد تقرير الرسالة فإنها تدور على الأمانة أي أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه ، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه . وفي هذين الجوابين عن مثل ذينك الشخصين مع جلالة قدرهما دليل على أن الحكيم يجب أن لا يقابل السفهاء إلا بالكلام المبني على الحلم والإغضاء . ومنها أن هوداً اقتصر على قوله { لينذركم } لما مر في قصة نوح أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة فلم يكن حاجة إلى الإعادة ولكنه ضم إلى ذلك شيئاً آخر يختص بهم فقال { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكاً قد استخلفكم فيها بعدهم وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأملاكهم وما يتصل بها من المنافع ، « وإذا » مفعول به لا ظرف أي اذكروا وقت جعلكم خلفاء { وزادكم في الخلق بسطة } فالخلق التقدير وقلما يطلق إلا على الشيء الذي له مقدار وحجمية .

والمراد حصول الزيادة في أجسامهم زيادة خارقة للعادة وإلا لم تذكر في معرض الامتنان . قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً . وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يد الإنسان إذا رفعها كانوا يفضلون على أهل زمانهم بهذا القدر . ومنهم من حمل اللفظ على الزيادة في القوة ، ومنهم من قال : الخلق الخليقة وبسطتهم فيهم كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدّة والجلادة متناصرين متوادّين { فاذكروا آلاء الله } في استخلافكم وبسطة أجرامكم وفيما سواهما من عطاياه وآلاء الله نعمه واحدها إلى ونحوه أني وآناء كعنب وأعناب . قال الجوهري : واحدها إني بالفتح وقد يكسر ويكتب بالياء . استدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرية بالآية قالوا : إنه تعالى رتب حصول الفلاح على مجرد التذكر . وأجيب بأن الآيات بالدالة على وجوب العمل مخصصة أو مقيدة والتقدير : فاذكروا آلاء الله واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام لعلكم تفلحون . ذكرهم نبيهم نعم الله عليهم ليرجعوا إلى عقولهم فيعلموا أن العبادة نهاية التعظيم ولا تلق إلا بمن صدر عنه نهاية الإنعام وليس للأصنام على الخلق شيء من النعم لأنها جماد والجماد لا قدرة له أصلا فلم يكن للقوم جواب عن هذه الحجة إلا التمسك بطريقة التقليد وذلك قولهم { أجئتنا لنعبد الله وحده } الهمزة لإنكار اختصاص الله وحده بالعبادة . وفي المجيء أوجه منها : أن يكون لهود معتزل يتحنث فيه أي يتعبد كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم . ومنها الاستهزاء اعتقاداً منهم أن الله لا يرسل إلا ملكاً فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك؟ ومنها أن يراد به القصد كما يقال : ذهب يشتمني ، ولا يراد حقيقة الذهاب كأنهم قالوا : أتعرضت لنا بتكليف عبادة الله وحده أي منفرداً عن الأصنام وهو من المعارف التي وقعت حالاً بتأويل . ولا يمكن أن يكون وحده ههنا اعترافاً كما يقول الموحد لا إله إلا الله وقال الله وحده لأن الفرض أنهم مشركون . ثم إن قول هود فيما قبل { أفلا تتقون } كان مشعراً بالتهديد والوعيد فلهذا استعجلوا العذاب زعماً منهم أنه كاذب وذلك قولهم { فأتنا بما تعدنا } فأجابهم هود بقوله { قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } ولا بد أن يحملا على معنييين متغايرين لمكان العطف . أما الغضب في حقه تعالى فإرادة إيقاع السوء كما سبق مراراً ، وأما الرجس فقيل : العذاب .

اعترض عليه بلزوم التكرار . وقيل : العقائد المذمومة والصفات القبيحة . وذلك أن الرجس ضد التطهير كما قال سبحانه في صفة أهل البيت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } [ الأحزاب : 33 ] وقال القفال : الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كما قال { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وهذا التفسير أخص . أما قوله { قد وقع } ولم يقع العذاب بعد ففيه وجوه : قال بعض من يقول بأن إرادة الله تعالى حادثة : معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت . وقيل : أراد هود أنه أخبر بنزول العذاب . وقيل : جعل المتوقع الذي لا شك فيه بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب منك حاجة قد كان ذلك . تريد أنها ستكون ألبتة . وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء أباه يبكي فقال له : يا بني ما لك؟ فقال : لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة فضمه إلى صدره وقال : يا بني قد قلت الشعر .
ثم أنكر عليهم قبيح فعالهم فقال { أتجادلونني في أسماء } تناظرونني في شأن آلهة أشياء ما هي إلا أسماء { سميتموها } أحدثتموها { أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان } أي لا حجة على حقيقتها فتنزل . والحاصل أنها أسماء بلا مسميات لأنكم تسمونها آلهة ومعنى الإلهية فيها معدوم محال . سموا واحداً بالعزي مشتقاً من العز وما أعطاه الله تعالى عزاً أصلاً . وسموا آخر منها باللات من الإلهية وماله من الإلهية أثر . وإنما قال في هذه السورة نزل وفي غيرها مما سيجيء { أنزل } لأن « نزل » للتكثير فيكون للمبالغة ويجري ما بعده مجرى التفصيل للجملة ، أو أنواع للجنس والله أعلم . ثم إنه ذكرهم وعيداً محدوداً فقال { فانتظروا } سوء عاقبة هذه الأصنام { إني معكم من المنتظرين } عاقبة السوء أو عاقبة الحسنى وذلك قوله { فأنجيناه والذين معه برحمة } بسبب رحمة كانوا يستحقونها { منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } أي استأصلناهم ودمرناهم عن آخرهم وقد مر مثله في الأنعام . وفائدة نفي الإيمان عنهم في قوله { وما كانوا مؤمنين } مع إثبات التكذيب بآيات ربهم أن يكون تعريضاً بمن آمن منهم ، كمرثد بن سعد وغيره كأنه قيل : ولقد قطعنا دابر الذين كذبوا ولم يكونوا مثل من آمن منهم ، أو معنى { وما كانوا مؤمنين } في علم الله تعالى أي لم يكونوا من المكذبين الذي لو بقوا لآمنوا . قال في الكشاف : وإن عاداً قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت وكانت لهم أصنام يعبدونها . صداء وصمود والهباء فبعث الله هوداً نبياً وكان من أوسطهم وأشرفهم وأفضلهم حسباً فكذبوه وازدادوا عتواً وتجبراً ، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا . وإن الناس كانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج من ذلك عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر ، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلاً منهم قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فلما نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان كانتا لمعاوية إحداهما وردة والأخرى جرادة ولما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا لأجله أهمه ذلك وقال : قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وما يستحي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا أنه ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل قولاً نغينهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية :

ألا ياقيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماماً
ويسقي أوض عاد إن عاداً ... قد آمسوا ما يبينون الكلاما
الهينمة إخفاء الكلام في الدعاء وغيره ، ومعنى يسقينا يجعله ساقياً لنا . وقوله ما يبينون الكلام أي لا يكادون يفقهون قولاً من ضعفهم وسوء حالهم . فلما غنتا به قالوا : إن قومكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم . فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا يسقون بدعائكم ولكم إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه . فقالوا لمعاوية : أحبس عنا مرثداً لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء ياقيل اختر لنفسك ولقومك . فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث فاستبشروا بها وقالوا : هذا عارض ممطرنا . فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فتعبدوا الله فيها حتى ماتوا .
التأويل : لقد أرسلنا نوح الروح إلى قومه ببلاد القوالب وهم القلب وصفاته والنفس وصفاتها ، ومن صفة الروح العبودية والطاعة دعوة القلب والنفس وصفاتها إلى الله وعبوديته ، ومن صفات النفس تكذيب الروح ومخالفته والإباء عن نصحه والتعجب { فكذبوا } يعني النفس وصفاتها نوح والروح { فأنجيناه والذين معه } في الفلك الشريعة { وأغرقنا } النفس وصفاتها في البحر الدنيا وشهواتها { إنهم كانوا قوماً عمين } عن رؤية الله والوصول إليه { وزادكم في الخلق بسطة } كما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المباني أوقع التباين بين قوم وقوم وفيما يرجع إلى المعاني { قد رفع عليكم من ربكم رجس وغضب } أي مقالتكم تدل على حالتكم أنه أصابكم سطوات العذاب . فمن أمارات الإعراض رد العبد إلى شهود الأغيار وتغريقه إياه في بحار الظنون والأوهام والجدال .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

القرآات : { وقال الملأ } بالواو : ابن عامر { إنكم } بحذف همزة الاسفهام : أبو جعفر ونافع وحفص وسهل . { أئنكم } بهمزتين : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير جفص ، وهشام يدخل بينهما مدة ، { آينكم } بالمد وبالياء : أبو عمرو وزيد . { أينكم } بالهمزة والياء : ابن كثير ويعقوب غير زيد . الوقوف : { صالحاً } ج لئلا يظن أن { صالحاً } صفة لا علم فالجملة بعده نعت له وهذا بخلاف اسم شعيب وغيره من الأعلام العربية { غيره } ط { من ربكم } ط { أليم } ه { بيوتاً } ط لما مر في قصة هود { مفسدين } ه { من ربه } ج { مؤمنون } ه { كافرون } ه { المرسلين } ه { جاثمين } ه { ناصحين } ه { من العالمين } ه { من دون النساء } ط لمكان الإضراب . { مسرفون } ه { من قريتكم } ج لاحتمال التعليل استهزاء { إلا امرأته } ز لاحتمال الاستئناف والأشبه أنها حال المرأة { من الغابرين } ه { مطراً } ط { المجرمين } ه .
التفسير : القصة الرابعة قصة صالح مع قومه ثمود . قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل . وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى . وإنه لا ينصرف تارة بتأويل القبيلة وينصرف أخرى بتأويل الحي ، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح . وقيل : إن ثمود أخو جديس وطسم . وقد ورد القرآن بالصرف وبمنعه جميعاً قال تعالى { ألا إن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود } [ هود : 68 ] { قد جاءتكم بينة } آية ظاهرة دالة على صدقي وكأنه قيل : ما تلك البينة فقال { هذه ناقة الله لكم آية } وانتصابها على الحال والعامل فيها ما في اسم الإشارة أو حرف التنبيه من معنى الفعل أي أشير إليه أو أنبه عليها آية . و { لكم } بيان لمن هي له آية موجبة للإيمان وهو ثمود . وسبب تخصيص أولئك الأقوام بها مع أنها آية لكل أحد أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا بها وليس الخبر كالمعاينة . أو لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا هذه المعجزة بعينها على سبيل الاقتراح فأطهرها الله تعالى لهم فلهذا حسن التخصيص . وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها حيث جاءت مكونة من عنده من غير فحل وطروقة آية من آياته كما تقول : آية الله وبيت الله ، وبالحقيقة هي آية تشتمل على آيات . فخروجها من الجبل آية ، وكونها لا من ذكر وأنثى آية ، وكمال خلقها من غير تدريج ومهل آية ، وأن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم آية ، وكذا الكلام في قوتها المناسب للماء وفي غزارة لبنها ، وأنكر الحسن فقال : إنها لم تحلب قطرة لبن قط . ويروى أن جميع الحيوانات كانت تمتنع عن الورود في يوم شربها .

وقيل : سميت ناقة الله لأنه لا مالك لها سوى الله تعالى . وقيل : لأنها حجة الله على القوم { فذروها تأكل في أرض الله } أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فدعوها تأكل في أرض ربها ومما أنبت منها { ولا تمسوها بسوء } من الضرب والطرد وسائر أنواع الأذى إكراماً لآية الله . { فيأخذكم عذاب أليم } يعني أخذ الاستفزاز والاستئصال { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } تفسيره كما في قصة هود { وبوأكم في الأرض } أنزلكم فيها والمباءة المنزل والأرض أرض الحجر { تتخذون من سهولها } أي تبنون من سهول الأرض قصوراً بما تعملون من الأراضي السهلة لبناً وآجراً ورهصاً . واتصاب { بيوتاً } على الحال المقدرة كما تقول خط هذا الثوب قميصاً لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب قميصاً في حال الخياطة . ويجوز أن تكون من مقدرة اكتفاء بقوله : { من سهولها } كما جاءت في موضع آخر { تنحتون من الجبال بيوتاً فارهين } [ الشعراء : 149 ] فيكون منصوباً على أنه مفعول به . وقيل : المراد أنهم كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء { فاذكروا آلاء الله } يعني إني قد ذكرت لكم بعض نعم ربكم فاذكروا أنتم تمامها { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } قيل : نهى عن عقر الناقة والأولى حمله على العموم . وإعرابه قد مر في أوائل سورة البقرة . { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا } أي المساكين الذين استحقرهم رؤساء الكفار . وقوله { لمن آمن منهم } بدل من إلى الذين استضعفوا فيكون البدل بدل البعض ودل على أن المستضعفين فريقان مؤمنون وكافرون ، وإما أن يرجع إلى قومه فيكون البدل بدل الكل ودل على أن الاستضعاف من شأن أهل الإيمان يستحقرهم المستكبرون ، ولا يكون صفة ذم في حقهم وإنما الذم يعود إلى المستحقرين . وفي الآية دلالة على أن الفقر خير من الغنى لأن الإستكبار يتولد من كثرة المال والجاه والتصديق والانقياد ينشأ من قلتهما { أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه } قالوه على سبيل التهكم والسخرية لا للاستعلام والاسترشاد . { قالو إنا بما أرسل به مؤمنون } جعلوا إرساله أمراً بيناً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب وإنما الكلام في وجود الإيمان فنخبركم أنا به مؤمنون ولذلك { قال الذي استكبروا } في جوابهم { إنا بالذي أمنتم به كافرون فعقروا الناقة } قال الأزهري : العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ثم أطلق على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، وأسند العقر إلى جميعهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم لأنه كان برضاهم ، وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا ولعله لم يفعله إلا واحد منهم كقوله { وإذ قتلتم } [ البقرة : 72 ] { وعتوا عن أمر ربهم } استكبروا عن امتثاله . قال مجاهد : العتو الغلو في الباطل وأمر ربهم شأنه أي دينه ، أو المراد أمر به صالح من قوله { فذروها } { ولا تمسوها } والمعنى أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوهم فإن الإنسان حريص على ما منع .

{ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين } أطلقوا الوعد وأرادوا ما وعدهم من العذاب واستعجالهم العذاب إنما كان لأجل تكذيبهم بكل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد ، ولذلك علقوه بما كانوا ينكرونه وهو كونه من المرسلين { فأخذتهم الرجفة } قال الفراء والزجاج : هي الزلزلة الشديدة قال تعالى { يوم ترجف الأرض والجبال } [ المزمل : 14 ] قال الليث : هي كرجفان البعير تحت الرحل وكما ترجف الشجرة إذا أرجفتها الريح وهذا لا يناقض ما ورد في موضع آخر أنهم أهلكوا بالطاغية وفي آخر أنهم أهلكوا بالصيحة لأن الطغيان مجاوزة الحد . قال تعالى { إنا لما طغا الماء حملناكم } [ الحاقة : 11 ] فالزلزلة هي الحركة الخارجة عن الحد المعتاد ، والغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة الهائلة . { فأصحبوا في دارهم } أي في بلدهم كقولك : دار الحرب ودار الإسلام . وقد جمع في آية أخرى فقال : { في ديارهم } [ هود : 67 ] لأنه أراد بالدار ما لكل واحد من منزلة الخاص إلا أنه حيث ذكر الرجفة وحد وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصحية كأنها من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة . ومعنى { جاثمين } موتى لا حراك بهم . قال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط وتجمع قوائمها لترمى { فتولى عنهم } الفاء للتعقيب . فالظاهر أن صالحاً عليه السلام أدبر عنهم بعدما أبصرهم جاثمين وكأنه تولى وهو مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي } وحد الرسالة بخلاف ما مر في قصتي نوح وهود لأن المراد هناك أشياء كانا يأمران بها قومهما بعد الإيمان بالله ، وههنا وقع في آخر القصة فأراد بها مجموع ما أدى من الرسالة ، أو أراد بذلك أداء حديث الناقة فقط . { ونصحت لكم } لم آل جهداً في النصيحة { ولكن لا تحبون الناصحين } حكاية لحال ماضية . واعترض على هذا التفسير بأنه كيف يصح خطاب الموتى؟ وأجيب بأنه قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه في حياته فلم يصغ إليه يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة . والفائدة في مثل هذا الكلام أن يسمعه بعض الإحياء فيعتبر به . ولعل القائل أيضاً يتسلى بذلك وتزول بعض الغصة عن قلبه ويخف عليه ما نزل به ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب قتلى بدر وقال : يا فلان ويا فلان قد وجدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له : كيف تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال : ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب .

وتفسير آخر وهو أن يكون تولى غنهم تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب . وجملة قصتهم ما روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض فكثروا وعمروا أعماراً طوالاً حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش ، فعتوا عن أمر الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً . وصالح من أوسطهم نسباً . فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال : أية آية تريدون؟ قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فندعو آلهتنا وتدعوا إلهك ، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا . فقال صالح : نعم . فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم . ثم قال سيدهم جندع بن عمرو ، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء ، والمخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدّقناك وأجبناك ، فأخذ صالح عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدّقن . قالوا : نعم . فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا ، وكانت في غاية العظم حتى قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة يعني - موضع بروكها - فوجدته ستين ذراعاً . ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع بقاياهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا فمكثت الناقة وولدها ترعي الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غباً كما قال عز من قائل { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } [ الشعراء : 155 ] وذلك أن الماء كان عندهم قليلاً فجعلوا ذلك الماء بالكلية شرباً لها يوماً وشرباً للقوم يوماً . قال السدي : وكانت الناقة في اليوم الذي شرب فيه الماء تحلب فيكفي الكل فكأنها كانت تصب اللبن صباً ، وفي اليوم الذي يشربون الماء لا تأتيهم وكانت إذا وقع الحر تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطن الوادي ، وإذا وقع البرد كان الأمر بالعكس فشق ذلك عليهم وقال لهم صالح : يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فذبحوا تسعة نفر من أبنائهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبح ابنه فنبت نباتاً سريعاً ، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يشربون الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء فاشتد ذلك عليهم . فقال الغالم : هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشدّ عليها لما بصرت به شدّت عليه فهرب منها إلى جانب صخرة فردّوها عليه ، فلما مرت به تناولها فعقرها فسقطت فذلك قوله تعالى

{ فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } [ القمر : 29 ] وأظهروا حينئذ كفرهم وقيل : زينت لهم عقرها امرأتان - عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار - لما أضرت الناقة بمواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق فصيلها حتى رقي جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : تصبحون غداً ووجوهكم مصفرة ، وبعد غد ووجوهكم محمرة ، واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب . فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين . ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا . واستبعد بعضهم أن العاقل مع مشاهدة هذه المعجزات والعلامات كيف يبقى مصراً على كفره؟ وأجيب بأنهم عنده مشاهدة العلامات خرجوا عن حدّ التكليف وأن تكون توبتهم مقبولة . « عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال : لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذ بهم الصيحة فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله . قالوا : من هو قال صلى الله عليه وسلم : ذاك أبو رغال » فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ، وروي أن صالحاً كان بعثه إلى قوم فخالف أمره . وروي أن نبينا صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال : أتدرون من هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . فذكر قصة أبي رغال وأنه دفن ههنا وأنه دفن معه غصن من ذهب فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن . وروي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت . وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ، وقال صلى الله عليه وسلم يا علي ، أتدري من أشقى الأوّلين؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : عاقر ناقة صالح أتدري من أشقى الآخرين : قال : الله ورسوله أعلم . قال قاتلك .
القصة الخامسة قوله سبحانه { ولوطاً إذ قال لقومه } تقديره أرسلنا لوطاً وقت قال لقومه ، ويجوز أن يكون معناه واذكر لوطاً إذ قال لقومه على أن « إذ » بدل من المفعول به لا ظرف . وإنما صرف نوح ولوط مع أن فيه سببين : العجمة والعلمية ، لأن سكون وسطه قاوم أحد السببين { أتأتون الفاحشة } أتفعلون الخصلة المتمادية في القبح { ما سبقكم بها } قال في الكشاف : الباء للتعدية من قولك : سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله أي ما عملت قبلكم .

قلت : ومن المحتمل أن تكون الباء فيه مثله في قولك : كتبت بالقلم . وفي قوله { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي ما سبقكم ملتبساً بها من أحاد من العالمين « من » الأولى زائدة لتأكيد النفي وإفادة الاستغراق . والثانية للتبعيض . وموقع هذه الجملة استئناف لأنه أنكر عليهم أوّلاً بقوله { أتأتون الفاحشة } ثم وبخهم عليها فقال : وأنتم أوّل من عملها . أو هو جواب سؤال مقدر كأنه قيل : لم لا نأتيها؟ فقال : { ما سبقكم بها من أحد } فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به . ويجوز أن تكون صفة للفاحشة كقوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... وههنا سؤال وهو أنه كيف يجوز دعوى عدم السبق في هذه الخصلة ولم تزل الشهة داعية إليها؟ والجواب لعل متقدميهم كانوا يستقذرونها وينفرون عنها طبعاً كسائر الحيوانات ، أو المراد أن الإقبال باكلية على ذلك العمل لم يوجد في الأعصار المتقدمة . قال الحسن : كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء . وقال عطاء عن ابن عباس : استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض { أئنكم لتأتون الرجال } بيان لما أجمله في قوله { أتأتون الفاحشة } وكلا الاستفهامين للإنكار . وفي الثاني أكثر ولهذا زيد فيه « إن » ومثله في النمل { أتأتون } وبعده { أئنكم لتؤتون } [ النمل : 55 ] وفي العنكبوت { إنكم لتأتون الفاحشة } [ الآية : 28 ] { أئنكم لتؤتون الرجال } [ النمل : 55 ] فجمع بين « إن » « وأئن » القصة { إنا منجوك } إنا منزلون . وانتصب { شهوة } على أنها مفعول له أي لا حامل لكم على غشيان الرجال من دون النساء إلا مجرد الشهوة ، أو مصدر وقع حالاً يقال : شهى يشهى شهوة { بل أنتم قوم مسرفون } إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة الموجبة لارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء . وختم هذه الآية بلفظ الاسم موافقة لرؤوس الآيات التي تقدمت { العالمين } { الناصحين } { جاثمين } { المرسلين } وفي النمل { قال بل أنتم قوم تجهلون } [ الآية : 55 ] أما العدول من الإسراف إلى الجهل فلتغير العبارة ، وكل إسراف جهل وكل جهل إسراف . وأما العدول من الاسم إلى الفعل فلتوافق ما قبلها من الآيات وكلها أفعال { ينصرون } { تتقون } { يعلمون } واعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع ووجوه القبح فيه كثيرة منها : أن أكثر الناس يحترزون فيه عن الولد لأن الولد يحمل المرء على طلب المال وإتعاب النفس في وجوه المكاسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سبباً لحصول اللذة العظيمة حتى إن الإنسان يطلب تلك اللذة ويقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى ، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والغرض إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع .

فكل لذة لا تؤدي إلى هذا الغرض وجب الحكم بتحريمها لما فيه من ضياع البذر ولزوم خلاف الحكمة . ومنها أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال ، فانعكاس القضية يكون خروجاً عن مقتضى الطبيعة والحكمة ، ومنها أن الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهائم وخروج عن الغريزة الإنسانية . وهب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه سعى في إلحاق العار العظيم بالمفعول ما دام حياً ، والعاقل لا يرضى لأجل لذة زائلة إلحاق منقصة دائمة بغيره . ومنها أنه يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول إلى حيث يقدم المفعول على قتل الفاعل ، أو على إلحاق الضرر به بكل طريق يقدر عليه وذلك لنفور طبعه عن رؤيته . وأما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب زيادة الألفة والمحبة كما قال تعالى { خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] ومنها أنه تعالى أودع في الرحم قوّة جاذبة للمني بحيث لا يبقى شيء منه في مجاريه وأوعيته ، أما إذا واقع الذكر فإنه يبقى شيء من أواخر المني في المجاري فيعفن ويفسد ويتولد من العلل والأورام في الأسافل كما يشهد به القوانين الطبية قال بعضهم : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 5 ، 6 ] يقتضي حل وطء المملوك مطلقاً ذكراً كان أو أنثى . ولا يمكن تخصيص هذا العموم بقوله { أتأتون الذكران من العالمين } [ الشعراء : 165 ] لأن كلاً من الآيتين أعم من الأخرى من وجه لأن المملوك قد يكون ذكراً وقد لا يكون ، والذكر قد يكون مملوكاً وقد لا يكون ، فتخصيص إحداهما بالأخرى ترجيح من غير مرجح بل الترجيح لجانب الحل لمقتضى الأصل وذلك لأن المالك مطلق التصرف ، ولأن شرع محمد أولى من شرع لوط . وأجيب بأن الاعتماد على التواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا العمل حرام قال تعالى { وما كان جواب قومه } بالواو كيلا يكون التعقيب بالفاء بعد الاسم . وفي النمل { تجهلون فما كان } [ النمل : 55 ] وفي العنكبوت { وتأتون في ناديكم المنكر فما كان } [ الآية : 29 ] لصحة تعقيب الفعل الفعل { إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } وفي النمل { أخرجوا آل لوط } [ الآية : 56 ] ليكون ما في النمل تفسيراً لهذه الكناية وقيل : إن سورة النمل نزلت قبل الأعراف فيكون قد صرح في الأولى وكنى في الثانية . قال في الكشاف : يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة . ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله ولكنهم جاؤا بكلام آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم ، وقولهم { إنهم أناس يتطهرون } سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد .

وقيل : المراد أن ذلك العمل في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر . وقيل : ان البعد عن الإثم يسمى طهارة ، فالمراد أنهم يتباعدون عن المعاصي والآثم { فأنجيناه وأهله } أي أنصاره وأتباعه والذين قبلوا دينه ، وعن ابن عباس : أراد المتصلين به في النسب بدليل قوله { إلا امرأته } يقال : امرأة الرجل بمعنى زوجته ولا يقال مرء المرأة يعني زوجها لأن المالكية حق الزوج { كانت من الغابرين } وفي النمل { قدرناها من الغابرين } [ النمل : 57 ] أي كانت في علم الله من الغابرين . { فقدرناها من الغابرين } وإن قلنا بتأخر نزول الأعراف فالمعنى قدرناها من الغابرين فصارت من الغابرين ، والغبور المكث والبقاء أي من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا ، أو التذكير لتغليب الذكور وكانت كافرة موالية لأهل سدوم . روي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت . ثم وصف العذاب فقال { وأمطرنا عليهم مطراً } أي أرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً . قيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن . وقيل كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة . فأمطر الله عليهم الكبريت والنار . وقيل : خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم . وقيل : أمطر عليهم ثم خسف بهم . وروي أن تاجراً منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه { فانظر } يا محمد أو كل من له أهلية النظر والاعتبار { كيف كان عاقبة المجرمين } وهذه الأمة وإن أمنت من عذاب الاستئصال إلا أن الخوف والاعتبار من شعار المؤمن لا ينبغي أن ينفك عنه على أن عذاب الآخرة أشدّ وأبقى ولم يأمنوه بعده .
مسائل : الأولى مذهب الشافعي أن اللواط يوجب الحدّ لأنه ثبت في شريعة لوط فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يظهر نسخ في شرعنا ، ولأن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على علية الوصف للحكم ، فالآية دلت على أن هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص . وقال أبو حنيفة : إن الواجب فيه التعزير لأنه فرج لا يجب المهر بالإيلاج فيه فلا يجب الحدّ كإتيان البهيمة ، وعلى الأول ففي عقوبة الفاعل قولان : أحدهما أن عقوبته القتل محصناً كان أو لم يكن لما روي انه صلى الله عليه وسلم قال « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول » وأصحهما أن حده حد الزنا فيرجم إن كان محصناً ويجلد ويغرب إن لم يكن محصناً لأنه حد يجب بالوطء ، ويختلف فيه البكر والثيب كالإتيان في القبل . وعلى قول القتل فيه وجوه أحدها : يقتل بالسيف كالمرتد ، والثاني وبه قال مالك وأحمد يرجم تغليظاً ، ويرى عن علي عليه السلام أيضاً . والثالث يهدم عليه جدار أو يرمى من شاهق جبل ليموت أخذاً من عذاب قوم لوط .

وأما المفعول فإن كان صغيراً أو مجنوناً أو مكرهاً فلا حد عليه ولا مهر لأن منفعة بضع الرجل لا تتقوم ، وإن كان مكلفاً طائعاً فيقتل بما يقتل به الفاعل إن قلنا إن الفاعل يقتل ، وإن قلنا يحد حد الزنا فيجلد ويغرب محصناً كان أو لم يكن ، وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط لأنه إتيان في غير المأتي ويجيء في الفاعل والمفعول ما ذكرنا . وقيل : إنه زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل فعلى هذا حده حد الزنا بلا خلاف . وترجم المرأة إن كانت محصنة . وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه بالجملة .
التأويل : { هذه ناقة الله } معجزة الخواص أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر عشراء بسقب سر السر وهو الخفي . وناقة الله هي التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ، { فذروها } ترتع في رياض القدس وحياض الإنس { ولا تمسوها بسوء } مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة { فيأخذكم عذاب أليم } بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة . { إذ جعلكم خلفاء } مستعدين للخلافة { وبوأكم } في أرض القلوب { تتخذون من سهولها } وهي المعاملات بالصدق والإخلاص { قصوراً } في الجنان { وتنحتون } من جبال أطوار القلب { بيوتاً } هي مقامات السائرين إلى الله { فاذكروا آلاء الله } النعماء والإخلاص . فالأول يتضمن ترويح الظاهر ، والثاني يوجب تلويح السر . فالترويح بوجود المسار والتلويح بشهود الأسرار { ولا تعثوا في الأرض } القلب بالفساد للاستعداد الفطري { الذين استكبروا } هم الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة { الذين استضعفوا } من أوصاف القلب والروح . { أتعلمون } أن صالح الروح { مرسل } بنفخة الحق إلى بلد القلب وساكنيه ليدعوهم من الأوصاف السفلية لظلمانية إلى الأخلاق العلوية النورانية { فعقروا } أي النفس وصفاتها ناقة سر القلب بسكاكين مخالفات الحق { فأخذتهم } رجفة الموت { فأصبحوا } في دار قالبهم { جاثمين } والله العزيز .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)

القراءة كما مر .
الوقوف : { شعيباً } ط { غيره } ط { إصلاحها } ط { مؤمنين } ج ه لعطف المتفقتين أو وقوع العارض أو رأس الآية { عوجاً } ج لاتفاق الجملتين مع طول الكلام { فكثركم } ج لعطف المتفقتين { المفسدين } ه { بيننا } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { الحاكمين } ه { ملتنا } ط { كارهين } ه وقيل لا وقف لأن الابتداء بقوله { وقد افترينا } قبيح قلنا إذا كان محكياً عن شعيب كان أقبح ولكن الكلام معلق بشرط يعقبه . { منها } ط { الله } ط { ربنا } ط { علماً } ط { توكلنا } وللعدول { الفاتحين } ه { الخاسرون } ه { جاثمين } ه ج إن وصل وقف على { كأن لم يغنوا فيها } على جعل { الذين } بدلاً من الضمير في { أصبحوا } و { كأن لم يغنوا } حال لمعنى في الجاثمين . وإن على { الذين } مبتدأ خبره { كأن لم يغنوا } وقف على { جاثمين } وعلى { شعيب } ويستأنف ب { كانوا } ولا يخلو من تعسف . { الخاسرين } ه { ونصحت لكم } ط لأن { كيف } للتعجب فيصلح للابتداء مع أنه فيه فاء التعقيب . { كافرين } ه والله أعلم .
التفسير : القصة السادسة قصة شعيب ومدين اسم البلد . وقيل : اسم القبيلة لأنه شعيب بن توبب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، وذلك أنه أمرهم بأشياء : الأوّل : عبادة الله ، أمرهم بها ونهاهم عن عبادة غير الله وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء . الثاني : تصديق ما ادعاه من النبوّة وأشار إليه بقوله { قد جاءتكم بينة } أي معجزة دالة على نبوّتي . ففي الآية دلالة مجملة على أن لشعيب معجزة ظاهرة كما ينبغي لكل مدعي نبوّة وإلا كان متنبئاً ، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم يذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وآله فيه . يحكى أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا ربت التنين وأيضاً قال لموسى : إن هذه الأغنام تلد أولاداً عنقها أسود وسائرها أبيض وقد وهبتها منك وكان الأمر كما أخبر . وكل ذلك قبل أن يستنبأ موسى . فقال أهل السنة : إن هذه الأمور علامات نبوّة موسى ويمسى إرهاصاً . وقالت المعتزلة : إنها معجزات شعيب بناء على أن الإرهاص عندهم غير جائز . الثالث قوله { فأوفوا الكيل } الآية . واعلم أن للأنبياء عليهم السلام أن يبدأوا في الموعظة بما يكون قومهم مقبلين عليه . وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فكأنه يقول : البخس عبارة عن الخيانة بالشيء القليل وهو أمر مستقبح في العقول ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة الموجبة لتحريمه فلم يبق لكم فيه عذر فأوفوا الكيل والميزان . قال في الكشاف : لم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود لأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال ، أو سمى ما يكال به بالكيل كما قيل العيش لما يعاش به ، أو أريد فأوفوا الكيل ووزن الميزان ، أو الميزان مصدر كالميعاد والميلاد .

الرابع { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } يقال : بخسته حقه إذا نقصته إياه ومنه قيل للمكس البخس . وفي المثل تحسبها حمقاء وهي باخس . قال ثعلب : وإن شئت قلت باخسة وذلك بتأويل الإنسان أن النسمة يضرب لمن لا يعبأ به وفيه دهاء وجربزة . خص أولاً ثم عمم ليشمل جميع أنواع الظلم كالغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بوجوه الاحتيال . يروى أنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه ، وكانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعاً ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفاً . الخامس { ولا تفسدوا في الأرض } وهذا أعم من البخس لشموله الأموال والأعراض والنفوس وكل ما يوجب مفسدة دنيوية أو دينية . والمعنى بعد إصلاح أهلاه على حذف المضاف أو هو كقوله { بل مكر الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] أي بعد الإصلاح فيها يعني إصلاح الصالحين من الأنبياء ومتابعيهم العالمين بشرائعهم { ذلكم } الذي ذكر من الأمور الخمسة { خيرٌ لكم } في الإنسانية وحسن الأحدوثة وزيادة البركة لرغبة الناس في متاجرتكم عند اشتهاركم بالأمانة والديانة . ولا يخفى أن حاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله { إن كنتم مؤمنين } مصدقين لي في قولي . ثم فصل بعض ما أجمل فقال { ولا تقعدوا بكل صراط } قيل : الصراط حقيقة وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرق والمراصد كما كانت تفعل قريش بمكة يخوّفون من آمن بشعيب ويقولون إنه كذاب لا يفتنكم عن دينكم ، أو كانوا يقطعون الطرق أو كانوا عشارين . وقيل : إنه مجاز عن الدين أي لا تقعدوا على طريق الدين ومنهاج الحق لأجل أن تمنعوا الناس عن قبوله اقتداء بالشيطان حيث قال { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] ودليل هذا المجاز قوله { وتصدون عن سبيل الله } يقال : قعد بمكان كذا أي التصق به ، وعلى مكان كذا أي علا ذلك المكان وفيه إذا حل ، فحروف الجر تتعاقب في مثل هذا الموضع لتقارب معانيها . ومحل { توعدون } وما عطف عليه نصب على الحال ، نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأفعال . وإنما قال { بكل صراط } مع أن صراط الحق واحد لأنه يتشعب إلى معالم وحدود وأحكام كثيرة كل منها في نفسه سبيل ، وكانوا إذا رأوا أحداً يشرع فيها أوعدوه وصدوه . والضمير في { به } راجع إلى كل صراط والتقدير : توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التقبيح والتفظيع . ومعنى { وتبغونها } تطلبون لسبيل الله { عوجاً } أي تصفونها للناس بأنها معوجة وذلك بالقاء الشكوك والشبهات . قال في الكشاف : أو يكون تهكماً بهم وأنهم يطلبون لها ما هو محال لأن طريق الحق لا تعوج .

ثم ذكرهم نعم الله تعالى لأن ذكر النعم مما يحمل على الطاعة ويبعد عن المعصية فقال { واذكرا إذ كنتم } أي وقت كونكم { قليلاً فكثركم } قال الزجاج يحتمل كثرة العدد بعد القلة وكثرة الغنى بعد الفقر وكثرة القدرة والشدة بعد الضعف والذلة . قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء وصاروا كثيراً في العدة والعدة والشدّة . ثم حذرهم سوء عاقبة من أفسد قبلهم من الأمم وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فقال { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } رغبهم أولاً ثم رهبهم ثانياً وأكد الترهيب بقوله { وإن كان طائفة } الآية . وفيه وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين وحث لهم على الصبر على ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم بمقتضى العدل والحكمة خير الحاكمين . ثم حكى جواب قومه المحجوجين المستكبرين وذلك قولهم { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } أي أحد الأمرين كائن لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى الكفر . وههنا سؤال وهو أن الكفر على الأنبياء محال فكيف يتصور عوده إليه؟ وهب أن قول الكفار ليس حجة أليس قول شعيب حجة حيث قال { إن عدنا في ملتكم } ؟ وأجيب بأن الكلام بني على التغليب ، وأن شعيباً أراد عود قومه إلا أنه نظم نفسه في جملتهم لما ذكرنا ، أو لعل رؤساءهم قالوا ذلك تلبيساً على القوم وشعيب أجرى كلامه على وفق ذلك ، أو أنه كان في أوّل أمره يخفي مذهبه فتوهموا أنه على دينهم ، أو أريد بالملة الشريعة التي صارت منسوخة بشرعه ، أو يطلق العود على الابتداء كقوله :
وإن تكن الأيام أحسنّ مرّة ... إليّ فقد عادت لهن ذنوب .
قال شعيب في جوابهم { أوَلو كنا كارهين } الهمزة للاستفهام والواو للحال والتقدير : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهيتنا؟ . ثم صرح بأنه لا يفعل ذلك فقال { قد افترينا على الله كذباً } إن فعلنا ذلك وذلك أن أصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب والعود في ملتكم ينافي ذلك . ومعنى قوله { بعد إذ نجانا الله منها } بعد أن علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على بطلانه ، أو المراد نجى قومه فغلب ، أو المراد على حسب زعمكم ومعتقدكم كما مر . قال في الكشاف : وقوله { قد افترينا } إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأن الارتداد أعظم من الكفر حيث إن المرتد يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل وكفره أزيد . والثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام معناه والله لقد افترينا على الله كذباً { وما يكون لنا } أي ما ينبغي لنا وما يصح { أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } قال أهل السنة : في الآية دلالة على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى وكذا المعيد إليه قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام

{ واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] وكثيراً ما كان يقول نبينا صلى الله عليه وسلم : « يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك » وقال يوسف { توفني مسلماً } [ يوسف : 101 ] أجابت المعتزلة بوجوه : الأوّل : أن قوله { إلا أن يشاء } قضية شرطية أي إن شاء يعد وليس فيه بيان أنه شاء أم أبى . الثاني : أن هذا على طريق التبعيد والإحالة . كما يقال لا يفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشار الغراب . الثالث : لعل المراد ما لو أكرهوا على العود فإن إظهار الكفر عند الإكراه جائز وإن كان الصبر أفضل وما كان جائزاً صح أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله وإن كان غسل الرجلين أفضل . الرابع : يحتمل أن يعود الضمير في { فيها } إلى قرية . كأنه قال : إن أخرجتمونا من القرية حرم علينا العود فيها إلا بإذن الله تعال . الخامس : المشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل فإنه تعالى يريد الكفر من الكافر ولا يجوز فعله إنما الذي يوجب الجزواز هو الأمر فيحتمل أن يراد بالمشيئة ههنا الأمر فيكون التقدير : إلا أن يأمر الله أن نعود إلى شريعتكم المنسوخة ، فإن الشرع المنسوخ لا يبعد أن يأمر الله تعالى بالعمل به مرة أخرى . السادس : قال الجبائيّ : المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصوم والصلاة ، فمن الجائز أن يكون بعض أحكام الشريعة المنسوخة باقياً فيكون المعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعض تلك الملة فيدلنا عليها . ثم إن المعتزلة تمسكوا بالآية على صحة قولهم من وجهين : أحدهما : أن قوله { وما يكون لنا } معناه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود وذلك يقتضي أن كل ما شاء تعالى وجوده كان فعلاً جائزاً مأذوناً فيه ، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراد الله تعالى . وثانيهما : أن قوله { لنخرجنك } أو { لتعودن } لا وجه للفصل بينهما فإن كان العود بخلق الله كان الإخراج أيضاً بخلقه . قلت : للسني أن يلتزم ذلك . أما قوله { وسع ربنا كل شيء } فوجه تعلقه بما تقدمه على قول الجبائيّ هو أن التكليف بحسب المصالح فيكون معنى قول شعيب إلا أن يشاء الله إلا أن تختلف المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعلم بالمصالح لا يكون إلا بأن وسع كل شيء علماً . وقالت الأشاعرة : وجه التعلق هو أن القوم لمّا قالوا لنخرجنك أو لتعودن قال شعيب { وسع ربنا كل شيء علماً } فربما كان في علمه قسم ثالث : وهو أن يبقينا في القرية مؤمنين ويجعلكم مقهورين خاسرين ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك { على الله توكلنا } أي لا على غيره وانتصاب { علماً } على التمييز .

وفي قوله { وسع } بلفظ الماضي دلالة على أنه تعالى كان في الأزل عالماً بجميع المعلومات فلا يخرج عن شيء عن مقتضى علمه وهو معنى جفاف الأقلام وطي الصحف ولزوم الأحكام وسعادة السعيد وشقاوة الشقي ويعلم من عموم كل شيء أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف يكون . فهذه أقسام أربعة يقع كل منها على أربعة أوجه لأنه علم الماضي كيف كان ، وعلم أنه لو لم يكن ماضياً بل كان حالاً أو مستقبلاً أو معدوماً محضاً فإنه كيف يكون ، وكذا الكلام في الأقسام الأخر فيكون المجموع ستة عشر . وإذا اعتبر كل منها بحب كل جنس أو نوع أو صنف أو شخص من الجواهر أو الأعراض صار مبلغاً تتحير فيه عقول العقلاء بل تقف دون أوّل قطرة من قطرات بحاره . ثم إن شعيباً لما أعرض عن الأسباب وارتقى بطريق التوكل إلى مسببها ختم كلامه بالدعاء قائلاً { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : احكم واقض . وعن ابن عباس : ما أدري ما معناه حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعالى أفاتحك أي أحاكمك . وجوز الزجاج أن يكون معنى الآية أظهر أمرنا حتى يتضح وينكشف ما بيننا وبين قومنا . والمراد أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين . ثم أثنى على الله بقوله { وأنت خير الفاتحين } كما قال { وهو خير الحاكمين } قالت الأشاعرة : الإيمان فتح باب الخيرات وهو أشرف صفات المحدثات ، فلو كان موجد الإيمان هو العبد كان خير الفاتحين هو العبد . وللمعتزلة أن يقولوا : لولا ألطافه المرجحة الداعية لم يوجد الإيمان من العبد فصح أن الله هو خير الفاتحين . ثم بيّن أن رؤساء قوم شعيب لمن يقتصروا على الضلال بل بادروا إلى الإضلال قائلين لمن دونهم { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } أي في الدين أو في الدنيا لأنه يمنعكم من ازداياد الأموال بطريق البخص والتطفيف { فأخذتهم الرجفة } قد سبق تفسيرها { الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها } يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها . والمغاني المنازل إذا كان فيها أهلها . وقال الزجاج : أي كأن لم يعيشوا فيها مستغنين من الغنى الذي هو ضد الفقر . وعلى التفسيرين شبه حال المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار كقوله : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر . قال في الكشاف { الذين كذبوا } مبتدأ خبره { كأن لم يغنوا } وكذلك { كانوا هم الخاسرين } وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في ديارهم لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله { الذين كذبوا شعيباً } هم المختصون بالخسران العظيم دون أتباعه فإنهم الرابحون ، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم .

قلت : والعرب قد تكرر للتفخيم والتعظيم فتقول : أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا . وأيضاً إن القوم لما قالوا { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } بيّن الله تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه وهم الخاسرون . وفي الآية فوائد أخرى منها : أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا حصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار . ومنها أن ذلك الفاعل عليم بالجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي . ومنها أن يكون معجزة لشعيب حيث وقع ذلك العذاب على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلد واحد { فتولى عنهم } قد تقدم أن هذا التولي جائز أن يكون قبل نزول العذاب وجائز أن يكون بعده . قال الكلبي : خرج من بينهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بين أظهرهم . ولما اشتد حزنه على قومه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الإلفة لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منم الإجابه للإيمان عزّى نفسه وقال { فكيف آسى على قوم كافرين } لأنهم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر . والأسى شدة الحزن . وقيل : المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم لأنكم لستم مستحقين لذلك؟ .
التأويل : { ولا تبخسوا } فيه أن البخاسة والدناءة والحرص والظلم من الصفات التي يجب تزكية النفس عنها فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها . { ولا تفسدوا في الأرض } أرض الطبيعة التي جبل الإنسان عليها { ولا تقعدوا بكل صراط } لا تقطعوا الطريق على الطالبين بأنواع الحيل والمكايد . { إذ كنتم قليلاً فكثركم } بالتناصر والتعاون في الأمور وبكثرة العدد والعدد نعمة تامة يجب أن تصرف في إعلاء كلمة الدين { وإن كان طائفة منكم } أي الروح والقلب { وطائفة لم يؤمنوا } وهم النفس وصفاتها { وهو خير الحاكمين } لا يجعل الروح والقلب المؤمنين تبعاً للنفس الكافرة في العذاب وإذاقة ألم الهجران { أو لتعودن في ملتنا } إشارة إلى أن كل جنس لا يميل إلا إلى أشكاله وإلا وجد في إيابه من يأمن نهج أضرابه { بعد إذ نجانا الله منها } في القسمة الأزلية { افتح بيننا } احكم بيننا وبينهم بإظهار حقيقة ما قدرت لنا من خاتمة الخير وإظهار ما قدرت لهم من خاتمة السوء { فأخذتهم الرجفة } فصارت صورتهم نبعاً لمعناهم فإنهم كانوا جاثمي الأرواح في ديار الأشباح { كأن لم يغنوا فيها } لأن الباطل زاهق لا محالة .

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)

القراآت : { لفتحنا } بالتشديد : ابن عامر ويزيد { أو أمن } بسكون الواو : أو جعفر ونافع غير ورش ، وابن عامر وابن كثير غير ابن فليح ، وقرأ ورش بنقل حركتها إلى الساكن قبلها { أولم نهد } النون حيث كان : زيد عن يعقوب . الباقون : بالياء التحتانية { رسلهم } بسكون السين حيث كان : أبو عمرو .
الوقوف : { يضرعون } ه { لا يشعرون } ه { يكسبون } ه { نائمون } ه لمن قرأ { أو أمن } بفتح الواو على أن الهمز للاستفهام ، ومن سكن الواو فلا وقف لأن « أو » للعطف { يلعبون } ه { مكر الله } ج للفصل بين الإخبار والاستخبار مع أن الفاء للتعقيب . { الخاسرون } ه { بذنوبهم } ج للفصل بين الماضي والمستقبل والتقدير : نحن نطبع مع اتحاد القصة . { لا يسمعون } ه { من أنبائها } ج لعطف المختلفتين { بالبينات } ط لأن ضمير { فما كانوا ليؤمنوا } لأهل مكة وضمير . { جاءهم } للأمم الماضية مع أن الفاء توجب الاتصال { من قبل } ط { الكافرين } ه { من عهد } ج لعطف الجملتين المختلفين { لفاسقين } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما عرّفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وما جرى على أممهم ذكر ما يدل على أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وليس مقصوراً عليهم ، وبيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعل . والقرية مجتمع القوم فتشمل المدينة أيضاً وتقدير الكلام : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء . قال الزجاج : البأساء الشدة في الأموال والضراء الأمراض في الأبدان . وقيل بالعكس { لعلهم يضرعون } أي يتضرعون فأدغم التاء في الضاد والمعنى : ليحطوا أردية التعزز والاستكبار ويتبعوا نبيهم . ثم بيّن أن تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد فقال { ثم بدلنا مكان السيئة } وهي كل ما يسوء صاحبه { الحسنة } وهي ما يستحسنه الطبع والعقل أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من الفقر والضر السعة والصحة { حتى عفوا } كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم عفا النبات والشحم والوبر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « وأعفوا اللحى » { وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } كما هو دأب الأشرين يقولون هذه عادة الدهر في أهله يوم محنة ويوم منحة . والمراد أنهم لم ينتفعوا بتدبير الله تعالى فيهم من رجاء بعد شدّة وأمن بعد خوف وراحة بعد عناء { فأخذناهم بغتة } آمن ما كانوا عليه ليكون ذلك أعظم من الحسرة { وهم لا يشعرون } بنزول العذاب . والحكمة في جميع هذه الحكايات اعتبار من سمعها ووعاها وتعريف أن العصيان سبب الحرمان عن الخيرات وسد لجميع أبواب السعادات ولهذا قال { ولو أن أهل القرى } أي جنسها أو القرى المذكورة في قوله وما أرسلنا في قرية { آمنوا } بما يجب به الإيمان في باب المبدأ والمعاد { واتقوا } كل ما نهى الله عنه { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } أي لأتيناهم بالخير من كل وجه أو أراد القطر والنبات .

والمراد بفتح البركات عليهم تيسير أسباب النجاح كقولهم : فتحت على القارىء إذا يسرت القراءة عليه بالتلقين { ولكن كذبوا الرسل فأخذناهم } بالجذب والمحل وهو ضد البركة والخير { بما كانوا يكسبون } أي بشؤم كسبهم وهو الكفر والمعاصي . ثم خوف المكلفين نزول العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار ، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء في التشاغل باللذات والمهمات فقال { أفأمن } قال في الكشاف : الهمزة للإنكار والفاء للعطف على قوله { فأخذناهم بغتة } والآية بينهما اعتراض والتقدير : أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً ، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ فلهذا عطف الثانية بالواو . وأما قوله { أفأمنوا مكر الله } فتكرير لقوله { أفأمن أهل القرى } فلهذا رجع فعطف بالفاء . قلت : يجوز أن يقدّر المعطوف عليه بعد الهمزة والمعنى : أفعلوا ما فعلوا فأمن وأما من قرأ « أو » ساكنة فمعناه إما أحد الشيئين ويرجع المعنى إلى قولنا فأمنوا إحدى هذه العقوبات ، وإما للإضراب كما تقول : أنا أخرج ثم تقول أو أقيم . على أن المراد هو الإضراب عن الخروج وإثبات للإقامة أي لا بل أقيم . ومعنى { بياتاً } قد تقدم في أوّل السورة . و { ضحى } نصب على الظرف قال الجوهري : ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى وهو حين تشرق الشمس مقصورة ، وتذكر على أنه مفرد كصرد وتؤنث على أنها جمع ضحوة . ثم بعده الضحاء ممدوداً مذكراً وهو عند ارتفاع النهار الأعلى . في قوله { وهم يلعبون } يحتمل التشاغل بما لا يجدي عليهم من أمور الدنيا فهي لهو ولعب ، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه يضر ولا ينفع . ومكر الله كما تقدم في آل عمران عذاب بعد الاستدراج أو سمي جزاء المكر مكراً . وعن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت له : ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات يعني المذكور في الآية . اللهم اجعلنا من الخائفين العاقلين لا من الآمنين الغافلين . ثم لما بيّن حال المهلكين مفصلاً ومحلاً ذكر أن الغرض من القصص حصول العبرة للباقين فقال { أولم يهد } من قرأ بالياء ففاعله { أن لو نشاء } والمعنى : أو لم يهد الذين يخلفون أولئك المتقدمين فيرثون أرضهم وديارهم هذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي بعقابها كما أصبنا من قبلهم . ومن قرأ بالنون فقوله { أن لو نشاء } منصوب والهداية بمعنى التبيين على القراءتين ولهذا عُدّي فعلها باللام ، والمفعول على القراءة الأولى محذوف والتقدير : أولم يكشف لهم الحال والشأن المذكور .

وأما قوله { ونطبع على قلوبهم } فإما أن يكون منقطعاً عما قبله بمعنى ونحن نطبع كما مر في الوقوف ، وإما أن يكون متصلاً بما قبله . قال الكشاف : وذلك هو يرثون أو ما دلّ عليه معنى { أولم يهد } كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع . ثم قال : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على { أصبناهم } و { طبعنا } لأن القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم فيجري مجرى تحصيل الحاصل ولقائل أن يقول : لا يلزم من المذكور وهو كونهم مذنبين أن يكونوا مطبوعين ، فاقتراف الذنوب غير الطبع لأن يذنب أوّلاً أو يكفر ثم يستمر على ذلك فيصير مطبوعاً على قلبه . وأيضاً جاز أن يراد لو شئنا لزدنا في طبعهم أو لأدمناه والله سبحانه أعلم بمراده . ثم أخبر عن الأقوام المذكورين تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال { تلك القرى } وهي مبتدأ وخبر . وقوله { يقص } حال والعامل معنى اسم الإشارة ، أو خبر بعد خبر ، أو { القرى } صفة ل { تلك } و { نقص } خبر . وفائدة الإخبار على هذا التقدير ظاهرة . وأما على الأوّلين فترجع الفائدة إلى الحال أو الخبر الثاني كما ترجع إلى الصفة في قولك : هو الرجل الكريم . الحاصل أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك ، وأيضاً خصصنا تلك القرى بقصص بعض أنبائها لأنهم اغتروا بطول الأمهال مع كثرة النعم وكانوا أقرب الأمم إلى العرب فذكرنا أحوالهم تنبيهاً على الاحتراز عن مثل أعمالهم . ثم عزى رسوله بقوله { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا } من قبل اللام لتأكيد النفي وأن الإيمان كان منافياً لحالهم . قال ابن عباس والسدي : فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بسبب تكذيبهم يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم أقروا باللسان كرهاً وأضمروا التكذيب . وقال الزجاج : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به من قبل رؤية تلك المعجزات . وعن مجاهد فما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد الإهلاك ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] وقيل : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما كذبوا من قبل مجيئهم . وقيل : ما كانوا ليؤمنوا في الزمان المستقبل بما كذبوا به في الزمان الماضي أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إلى أن ماتوا مصرين لم ينجع فيهم تكرير المواعظ وتتابع الآيات { كذلك } أي مثل ذلك الطبع الشديد { يطبع الله على قلوب الكافرين } الذي كتب أن لا يؤمنوا أبداً . والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد كما سلف . وقال الجبائي : هو أن يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن صاحبها لا يؤمن . وقال الكعبي : إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى

{ فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } [ نوح : 6 ] ثم شرح حال المكلفين فقال { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } والضمير للناس على الإطلاق . قال ابن عباس : يعني بالعهد قوله للذر { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] أقروا به ثم خالفوا . عن ابن مسعود هو الإيمان كقوله { إلا من اتخذ عند الرحمن عهد } [ مريم : 87 ] يعني من قال لا إله إلا الله . وقيل : العهد عبارة عن الأدلة على التوحيد والنبوّة والمراد الوفاء بالعهد { وإن وجدنا } هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة في قوله { لفاسقين } وقد عملت في ضمير شأن مقدر والتقدير : وإن الشأن والحديث علمنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والآية اعتراض . ويحتمل أن يعود الضمير على الأمم المذكورين كانوا إذا عاهدوا الله في ضرر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن نكثوه بعد كشف الضر .
التأويل : { إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } الوفي يتضرع إليه عند البلاء ويتوكل عليه والعدوّ يذهل عن الحق ولا يرجع إليه { ولو أن أهل القرى } يعني صفات النفس { آمنوا } بما يرد إلى صفات القلب والروح من ألطاف الحق { واتقوا } مشتبهات النفس { فتحنا عليهم } أسباب العواطف من سماء الروح وأرض القلب { فأخذناهم } عاقبناهم بعذاب البعد { بما كسبوا } من مخالفات الحق وموافقات الطبع { بياتاً } في صور القهر { ضحى } في صورة اللطف بسطوات الجذبات { وهم يلعبون } يشتغلون بالدنيا . { إلا القوم الخاسرون } من أهل القهر هم الذين خسروا سعادة الدارين من أهل اللطف هم الذين خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)

القراآت : { حقيق على } بالتشديد : نافع . الباقون : بالتخفيف { معي } بفتح الياء حيث كان : حفص { أرجه } بإسكان هاء الضمير : حمزة وعاصم غير المفضل { أرجه } بكسر الجيم والهاء من غير إشباع يزيد وقالون { أرجهي } بالإشباع : نافع غير قالون وعلي وعباس وخلف المفضل { أرجئه } بالهمزة : أبو عمرو غير عباس وسهل ويعقوب وابن الأخرم عن ابن ذكوان وهشام غير الحلواني { أرجئهو } بالإشباع : ابن كثير والحلواني عن هشام { أرجئه } بكسر الهاء : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { سحار } بالمبالغة : حمزة وعلي وخلف وكذلك في يونس . وقرأ قتيبة ونصير والدوري وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو بالإمالة . البقون { ساحر } . { أن لنا } بحذف همزة الاستفهام : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وحفص . { أئن لنا } بإثبات همزة الاستفهام : عاصم غير حفص وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام . يدخل بينهما مدة { آين لنا } المدة وقلب الهمزة ياء : أبو عمرو وزيد . { أين لنا } بالياء ولا مدة : سهل ويعقوب غير زيد { تلقف } بالتخفيف حيث كان : حفص والمفضل { تلقف } بالتشديد وإدغام التاء الأولى في الثانية : البزي وابن فليح . الباقون : بتشديد القاف وحذف تاء التفعل . { آمنتم } بهمزة واحدة ممدودة : حفص . { أأمنتم } بزيادة همزة الاستفهام : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص . { آمنتم } بالمد وتليين الهمزة : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير غير الهاشمي وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل { فرعون وآمنتم } بالواو الخالصة : الهاشمي عن قنبل { وآمنتم } بالواو وتحقيق الهمزة الأولى : ابن مجاهد وأبو عون والهرندي عن قنبل .
الوقوف : { فظلموا بها } ج للفصل بين الخبر والطلب مع العطف بالفاء { المفسدين } ه { العالمين } ه ج وقف لمن قرأ { حقيق عليّ } بالتشديد أي واجب عليّ ، ومن قرأه مخففاً جاز له الوصل على جعل { حقيق } وصف الرسول و « على » بمعنى الباء { إلا الحق } ط { بني إسرائيل } ط { الصادقين } ه { مبين } ه للفصل بين الجملتين والوصل أجود للجمع بين الحجتين { للناظرين } ه { عليم } ه لا لأن ما بعده وصف لساحر { من أرضكم } ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الملأ لفرعون وحده ، والجمع للتعظيم أوله ولعظمائه حضرته ، وأن يكون ابتداء جواب من فرعون أي فماذا تشيرون { قاهرون } ه { حاشرين } ه لا لأن ما بعده جواب الأمر { عليم } ه { الغالبين } ه { المقربين } ه { الملقين } ه { ألقوا } ج للعطف { عظيم } ه { عصاك } ط لحق المحذوف لأن التقدير فألقاها فإذا هي { ما يأفكون } ه { وكذلك يعملون } ه { صاغرين } ه ج لمكان حروف العطف { ساجدين } ه ج لاحتمال كون { قالوا } حالاً بإضمار « قد » { العالمين } ه لا للبدر { هرون } ه { آذن لكم } ج للابتداء مع اتحاد القائل { أهلها } ج لأن « سوف » للتهديد مع العطف { تعلمون } ه { أجمعين } ه { منقلبون } ه للآية مع اتحاد المقول { جاءتنا } ط للعدول عن المحاباة إلى المناجاة { المسلمين } ه .

التفسير : القصة السابعة من قصص هذه السورة قصة موسى عليه السلام . وقد ذكر في هذه القصة من البسط والتفصيل ما لم يذكر في غيرها لأن جهل قومه أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام ولهذا كانت معجزاته أقوى من معجزات متقدميه من الأنبياء . والضمير في قوله { ثم بعثنا من بعدهم } يعود إلى الرسل أو إلى الأمم المذكورين ، في قوله { بآياتنا } دلالة على كثرة معجزاته وأن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن المتنبي . { فظلموا بها } أي بتلك الآيات والمراد كفرهم بها لأن وضع الإنكار في موضع الإقرار وإيراد الكفر بدل الإيمان وضع للشيء في غير موضعه ، أو تظلموا الناس بسببها حين أوعدوهم وصدوهم عنها وأذوا من آمن بها . { وانظر } أيها المعتبر المستبصر بعين بصيرتك { كيف كان عاقبة المفسدين } كيف فعلنا بهم؟ وهذه قصة إجمالية ثم شرع في تفصيلها وذلك قوله { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } أي إله قادر عليم حكيم . وفيه أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه { حقيق على أن لا أقول } من قرأ بالتشديد في { عليّ } و { حقيق } إما بمعنى فاعل أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا بالحق ، أو بمعنى مفعول أي حق عليّ ذلك . تقول العرب إني لمحقوق علي أن أفعل خيراً . وأما قراءة العامة { حقيق علي أن لا أقول } مرسلة الياء ففيه وجوه أحدها : أن يكون « علي » بمعنى « الباء » كقولهم جئت على حال حسنة وبحال حسنة ، قال الأخفش : وهذا كما قال { ولا تقعدوا بكل صراط } [ الأعراف : 86 ] أي على كل صراط ويؤكد هذا الوجه قراءة أبيّ { حقيق بأن لا أقول } أي أنا خليق بذلك : وثانيها : أن الحق هو الدائم الثابت والحقيق مبالغة فيه ، وكل ما لزمك فقد لزمته فكأن المعنى أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق . ثالثها : أن يضمن حقيق معنى حريص . ورابعها : أن يكون من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس فيؤل المعنى إلى قراءة نافع . وخامسها : أن يكون إغراقاً في الوصف ومبالغة بالصدق والمراد أنا حقيق على قول الحق أي واجب عليّ أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به . وسادسها : أن يكون على هذه هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية كقوله تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } [ الروم : 30 ] ويقال : جاءني فلان على هيئته وعلى عادته وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات . فمعنى الآية لم أتحقق إلا على قول الحق . ولما كان ظهور المعجزة على وفق الدعوى دالاً على وجود الإله القادر المختار وعلى تصديق الرسول جميعاً قال { قد جئتكم ببينة من ربكم } أي بمعجزة قاهرة باهرة منه .

ثم فرع عليه تبليغ الحكم وهو قوله { فأرسل معي بني إسرائيل } أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم . وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأسباط غلب فرعون نسلهم واستعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة { قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين } فيه سؤالان : أحدهما لفظي وهو أن القائل : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً . وثانيهما : أن قوله { إن كنت جئت بآية } وقوله { فأت بها } كلاهما واحد في المعنى فكيف يفيد تعليق أحدهما بالآخر؟ وجوابه المنع إذ المراد إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأحضرها لتصح دعواك . ثم إن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة الدالة على وجود الرب وعلى صحة نبوته قلب العصا ثعباناً وأظهر اليد البيضاء وذلك قوله سبحانه { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } ومعنى كون الثعبان مبيناً أن أمره ظاهر لا يشك في أنه ثعبان ليس مما جاءت به السحرة من التمويهات وإنما هو من قبيل المعجزات . أو المراد أنه أبان قول موسى عن قول المدعي الكاذب والثعبان في اللغة الحية الضخم الذكر . روي أنه كان أشقر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً وضع لحيه الأسفل على الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب واخذه البطن يومئذ أربعمائة مرة وكان لم ير منه الحدث قبل ذلك . وهرب الناس وصاحوا وحمل على الناس فانهزموا ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً ، ودخل فرعون البيت وصاحوا يا موسى خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذه موسى فعاد عصاً . والنزع في اللغة القلع والإخراج أن أخرجها من جيبه أو من جناحه بدليل قوله في موضع آخر { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء } [ النمل : 12 ] روي أنه أرى فرعون يده وقال : ما هذه؟ فقال : يدك . ثم أدخلها في جيبه وعليه مدرعة صوف ثم نزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها الشمس ، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة وقوله { للناظرين } يتعلق ببيضاء فإنها لا تكون بيضاء للناظرين إلا إذا كان بياضها عجيباً خراجاً عن العادة اجتمع الناس للنظر إليه كما يجتمعون للعجائب . واعلم أن القول بجواز انقلاب العادات عن مجاريها مقام صعب مشكل ولهذا اضطربت أقوال العلماء فيه؛ فالأشاعرة جوّزوا ذلك على الإطلاق بناء على القول بالفاعل المختار فجوّزوا في الإنسان وسائر أنواع الحيوان أن يتولد دفعة واحدة من غير سابقة مادة ومدة ، وجوّزوا في الجوهر الفرد أن يكون حياً عالماً قادراً قاهراً من غير حصول بنية ولا مزاج ، وجوّزوا في الأعمى الذي بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقة التي تكون بأقصى المشرق وفي سليم البصر أن لا يرى الشمس في كبد السماء من غير حائل .

والمعتزلة جوّزوا انخراق العادات في بعض الصور دون بعض من غير ضابط ولا قانون اللهم إلا أن يحال على الشرع ، والطبيعيون المتفلسفون أنكروا ذلك على الإطلاق وزعموا أنه لا يجوز حدوث الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين والإلزام فتح باب الجهالات فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعباناً جاز في الشخص الذي شاهدناه كموسى وعيسى ومحمد مثلاً أنه ليس هو الشخص الأوّل وهذا يوجب القدح في النبوّة والرسالة . فإن زعم زاعم أن هذه الأمور تختص بزمان دعوة الأنبياء . قلنا : المخصص في ذلك الزمان لا يعرف إلا بدليل غامض ، وكل من لا يقف على ذلك الدليل يقع في تيه الإشكال والضلال مع أن زمان جواز الكرامات لا ينقرض عندكم أبداً فلا ينقضي التجويز سرمداً . هذا وإنما جمع بين العصا واليد مع أن المعجز الواحد كافٍ لأن كثرة الدلائل توجب مزيد اليقين . قال بعض المتحذلقين : هما شيء واحد والمراد أن حجة موسى كانت قوية ظاهرة فمن حيث إن الحجة أبطلت أقوال المخالفين كانت كالثعبان الذي يلقف ما يأفكون ، ومن حيث إنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال لفلان يد بيضاء في الأمر الفلاني أي قوّة كاملة ومرتبة ظاهرة . والتحقيق أن انقلاب العصا وغير ذلك أمور ممكنة في ذواتها لأن الأجسام متماثلة في الجسمية فكل ما صح على شيء صح على مثله والله سبحانه قادر على كل الممكنات ، فكل ما ثبت وقوعه بالتواتر وجب قبوله من غير تأويل ودفع ، ثم أن السحر كان غالباً في ذلك الزمان وكانت السحرة متفاوتين في ذلك ، فزعم أتباع فرعون أن موسى عليه السلام كان لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة وأنه كان يطلب بذلك الملك والرياسة وذلك قوله سبحانه { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم } ولا ينافي هذا ما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قال ذلك فرعون ، فإنه يحتمل صدور هذا القول في تلك الحالة منه ومنهم أو لعل فرعون قاله ابتداء فتلقفه الملأ فقالوه لغيرهم ، أو قالوا عنه لسائر الناس على طريق التبليغ فأن الملوك إذا رأوا رأياً ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة . والأظهر أن قوله { فماذا تأمرون } من كلام فرعون إما لأن الأمر لا يجوز أن يكون من الأدنى للأعلى ، أو لأنه من قولهم أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي ولهذا قال الملأ في جوابه { أرجه وأخاه } أي أخر أمره وأمر أخيه ولا تعجل بقضاء في شأنهما فتصير عجلتك حجة عليك .

قال الجوهري : أرجأت الأمر وأخرته يهمز ولا يهمز . وعن الكلبي وقتادة أن المعنى أحسبه ، وزيف بأنه خلاف اللغة إلا أن يقال حبس المرء نوع من التأخير في أمره وبأن فرعون ما كان يظن أنه قادر على حبس موسى بعد مشاهدة حال العصا . { وأرسل في المدائن حاشرين } أي جامعين جمع مدينة وهي فعيلة من مدن بالمكان يمدن مدوناً إذا أقم به ، ولهذا أطبق القراء على همز { مدائن } لأنه كصحائف . وقيل : إنها مفعلة من دنت أي ملكت وكأن هذا القائل لا يهمز مدائن . وقال المبرد : أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه ، فُعِلَ بها ما فعل بنحو « مبيع » في « مبيوع » وليس المراد مدائن الأرض كلها ولكن المقصود مدائن صعيد مصر . وقال ابن عباس : وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد { يأتوك بكلّ سحار } الباء بمعنى « مع » أو للتعدية . قيل : كانوا سبعين ساحراً سوى رئيسهم . وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً . وقيل : سبعين ألفاً . وقيل ثمانين ألفاً وقيل : كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى قرية بقرب الموصل . وضعف بأن المجوس من أتباع زرادشت وهو إنما جاء بعد موسى . وفي الآية دلالة على كثرة السحرة في ذلك الزمان ولهذا كانت معجزة موسى شبيهة بالسحر وإن كانت مخالفة في الحقيقة كما أن الطب لما كان غالباً على أهل زمن عيسى كانت معجزته من جنس ذلك كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وكانت الفصاحة والبلاغة غالبة في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت معجزته العظمى وهي القرآن من جنس الفصاحة ، وتحقيق السحر وسائر ما يتعلق به قد رمر في سورة البقرة فليتذكر { وجاء السحرة فرعون قالوا } لم يقل فقالوا بناء للكلام على سؤال مقدر كأن سائلاً سأل ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب { قالوا إن لنا لأجراً } أي جعلاً على الغلبة والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة { قال نعم } أي إن لكم أجراً { وإنكم لمن المقربين } أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل لكم مع ذلك ما يقل معه الثواب وهو التقريب والتكريم لأن الثواب إنما يهنأ إذا كان مقروناً بالتعظيم . روي أنه قال لهم تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج . وروي أنه دعا برؤساء السحرة فقال لهم : ما صنعتم؟ قالوا قد عملنا سحراً لا يطيقة سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به . وفي الآية إشارة إلى أن أهل السحر ليسوا قادرين على قلب الأعيان وإلا قلبوا الحجر ذهباً بل قلبوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم يطلبوا منه الأجر ، فعلى العاقل أن لا يغترّ بأكاذيبهم ومزخرفاتهم .

ثم إن السحرة راعوا حسن الأدب فخيروا موسى أوّلاً وقدموه في الذكر ثانياً حيث قالوا { يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } كما هو دأب المتناظرين والمتصارعين ، مع أن في قولهم { وإما أن نكون نحن } بالأمر أليق منه بالخبر . وبدليل قوله { والله مع الصابرين } وفيه ترغيب في الثبات على الجهاد . فمعنى الآية إذن أن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين ، ثم الصبر لا يحصل إلا بكونه شديد الأعضاء قوياً جلداً شجاعاً غير جبان ولا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة ، وعند حصول هذه الأمور كان يجب الواحد أن يثبت للعشرة لما سبق من وعد النصر في قوله { حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] وإنما كرر النسبة مرتين لأن السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينقص عددها على العشرين وما كانت تزيد على المائة فورد على وفق الواقعة ، وإما في الكرة الثانية فإنما كررت النسبة للطباق ولكيون فيه بشارة وإشارة إلى أن عدد عسكر الإسلام سيؤول من العشرات والمئات إلى الألوف والله أعلم بمراده . ثم بين السبب في الغلبة فقال { بأنهم قوم لا يفقهون } [ الأنفال : 65 ] أي بسبب أن الكفار قوم جهلة لا يعرفون معاداً وقد انحصرت السعادة عندهم في هذه الحياة العاجلة . وأيضاً إنهم يعولون على قوتهم وشوكتهم والمسلمون يتوكلون على ربهم ويستغيثونه ويتوقعون منه إنجاز ما وعد من النصر والتأييد ، ووجه آخر هو أن أهل العلم والمعرفة يكون لهم في أعين الناس هيبة وحشمة ويكونون في أنفسهم أقوياء أشداء لما تجلى عليهم من أنوار المعرفة والبصيرة يعرف ذلك أصحاب العلوم وأرباب المعارف بخلاف الجهلة الذين لا بصيرة لهم ولا نور . قال عطاء : عن ابن عباس لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون وقالوا : يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع ونحن في غربة وعدونا في أهليهم . وقال الأنصار . شغلنا بعدوّنا وواسينا إخواننا . وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة في ثلاثين راكباً قبل بدر فلقي أبا جهل في ثلثمائة راكب وأردوا قتالهم فمنعهم حمزة . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان وكان في جماعة وابتدر عبد الله فقال : يا رسول الله صفه لي فقال : إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة . وبلغني أنه جمع لي فأخرج إليه وأقتله ، فلما خرجت تعمية للمأفوك بالإفك . قال المفسرون : لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، فلما أخذها موسى صارت عصاً كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلاً ، فلعل الله سبحانه أعدم بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة ثم قال سبحانه وتعالى { فوقع الحق } .

قال مجاهد والحسن : ظهر ، وقال الفراء : فتبين الحق من السحر . وقيل : الوقوع ظهور الشيء ووجوده نازلاً إلى مستقره . وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد ، ولما فقدت ثبت أن ذلك بخلق الله وتقديره وبهذا تميز المعجزة عن السحر . وقال القاضي : معناه قوة الظهور بحيث لا يصح فيه نقيضه كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعاً . ومع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي وذلك قول { وبطل ما كانوا يعملون } أي الذي عملوه أو عملهم { فغلبوا هنالك } أي حين التحدي { وانقلبوا صاغرين } لأنه لا ذل ولا صغار أعظم من حق المبطل من دحوض حجته . روي أن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير ، فلما ابتلعها ثعبان موسى وصارت عصاً كما كانت قال بعض السحرة لبعض : هذا خارج عن حد السحر وإنما هو أمر إلهي . قال المحققون : إنهم لأجل كمالهم في علم السحر ميزوا السحر عن غيره فانتقلوا ببركة ذلك من الكفر إلى الإيمان ، فما ظنك بالإنسان الكامل في علم التوحيد والشريعة والحكمة . وفي قوله { وألقي السحرة ساجدين } دليل على أن ملقياً ألقاهم وما ذاك إلا الله سبحانه الموجد للدواعي والقدر . وقال الأخفش . من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين . قال بعض العلماء : الإيمان مقدم على السجود فكيف نقل عنهم أنهم سجدوا ثم قالوا آمنا برب العالمين؟ وأجيب بأنه لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا ذلك ، أو أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله في الحال شكراً على الفوز بذلك وإظهاراً للخشوع والتذلل وإقراراً باللسان بعد التصديق بالجنان . قال المفسرون : لما قالوا آمنا برب العالمين قال فرعون : إياي يعنون . فلما قالوا { رب موسى } قال : إياي يعنون لأني أنا الذي ربيته فلما زادوا { هارون } زالت الشبهة وعرف الكل أنهم آمنوا بإله السماء وكفروا بفرعون . وقيل : أفردا بالذكر من جملة العالمين ليعلم أن الداعي إلى إيمانهم هو موسى . وقيل : خصا بالذكر تعظيماً وتشريفاً . ثم إن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالحسر أقر بنبوّة موسى بمحضر جمع عظيم خاف أن يصير ذلك حجة عليه عند قومه فألقى في الحال شبهة في البين بعدما أنكر عليهم إيمانهم . أما الإنكار فذلك قوله { آمنتم له } من لم يزد حرف الاستفهام فعلى أنه إخبار توبيخاً أي فعلتم هذا الفعل الشنيع ، ومن قرأ بحرف الاستفهام فمعناه الاستبعاد والإنكار . وفي قوله قبل { أن آذن لكم } دلالة على مناقضة فرعون من ادعائه الإلهية لأنه لو كان إلهاً لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا بغيره وهذا من جملة الخذلان والدحوض الذي يظهر على المبطلين .

وأما الشبهة فقوله { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها } أي هذه حيلة احتلتموها أنتم وموسى أو تواطأتم عليها لغرض لكم وهو أن تخرجوا القبط وتسكنوا بني إسرائيل . وروي محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ فقال الساحر : لآتين غداً بحسر لا يغلبه سحر وإن غلبتني لأومنن بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمع فلذلك زعم التواطؤ { فسوف تعلمون } وعيد إجمالي وتفصيله { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } أي كل من شق طرفاً { ثم لأصلبنكم أجمعين } واختلف المفسرون هل وقع ذلك منه أم لا . فمن قائل إنه لم يقع لأنهم سألوا ربهم أن يتوفاهم من جهته لا بهذا القتل والقطع ، ومن قائل وقع وهو الأظهر وعليه الأكثر ومنهم ابن عباس لأنه حكى عن الملأ أنهم قالوا لفرعون { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } [ الأعراف : 127 ] ولو أنه ترك أولئك السحرة لذكورهم أيضاً وحذروه إياهم ، لأنهم قالوا { ربنا أفرغ علينا صبراً } والصبر لا يطلب إلا عند نزول البلاء وقد يجاب عن الأول بأنهم داخلون تحت قوله { وقومه } وعن الثاني بأنهم طلبوا الصبر على الإيمان والثبات عليه وعدم الالتفات إلى وعيده . وعن قتادة : كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة ، ثم حكى عن القوم أنهم قالوا عند الوعيد { إنا إلى ربنا منقلبون } أي نحن لا نبالي بالموت لأنا ننقلب إلى لقاء ربنا ونخلص منك ، أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون يرجع إلى الله فيحكم بيننا ، أو إنا لا محالة ميتون فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه { وما تنقم منا } قال ابن عباس : ما أتينا بذنب تعذبنا عليه وما تعب منا { إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } وهي المعجزات الظاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ثم لما لجأوا إلى الدعاء كما هو دأب الصديقين عند نزول البلاء فقالوا { ربنا أفرغ علينا صبراً } أفض علينا سجال الثبات على متابعة الدين أو على ما توعدونا به فرعون { وتوفنا مسلمين } ثابتين على الدين الذي جاء به موسى وأخبروا عن إيمانهم أوّلاً وسألوا التوفي على الإسلام ثانياً .

فيمكن أن يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد ، واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الإيمان والإسلام بخلق الله تعالى وإلا لم يطلبوا ذلك منه ، والمعتزلة يحملون أمثال ذلك على منح الألطاف . واعلم أن مبني القصة في هذه السورة على الاختصار وفي الشعراء على التطويل فلهذا قيل هناك { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } ، { وإنكم إذا لمن المقربين } ، { قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون } ، { فسوف تعلمون } وفي كل ذلك زيادة وأما قوله ههنا { وأرسل في المدائن } وهناك { وابعث } فلأن الإرسال يفيد معنى البعث مع العلو فخص هذه السورة بذلك ليعلم أنّ المخاطب به فرعون دون غيره . وإنما قال ههنا { آمنتم به } وفي طه والشعراء { آمنتم له } باللام لأن ضمير { به } في هذه يعود إلى رب العالمين ، وفي السورتين إلى موسى ، وقيل آمنت به وآمنت له واحد . وقال ههنا { ثم لأصلبنكم } وفي السورتين { لأصلبنكم } لأنه لما أفاد الترتيب كان العطف المطلق كافياً وكثر من متشابهات هذه السور الثلاث يعود إلى رعاية الفواصل فتنبه .
التأويل : { فظلموا بها } بأن جعلوها سحراً فوضعوها في غير موضعها { عاقبة المفسدين } الذين أفسدوا الاستعداد الفطري بالركون إلى الدنيا ولذاتها { حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق } لأن قائم بحقائق الجميع فانٍ على الخلق وآثار التفرقة { فإذا هي ثعبان } لأنه أضاف العصا إلى نفسه في قوله { هي عصاي } [ طه : 18 ] ويعلم منه أن كل شيء أضفته إلى نفسك وجعلته محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك ولهذا قيل { ألقها يا موسى } [ طه : 19 ] { فإذا هي بيضاء } فيه أن الأيدي قبل تعلقها بالأشياء كانت بيضاء نقية نورانية روحانية وأن اليد لموسى كانت روحانية في جميع الأوقات ولكن ما كانت نورانيتها منظورة للناظرين إلا بإظهار الله تعالى في بعض الأوقات خرقاً للعادات على يده الجسمانية { يريد أن يخرجكم } لا شك أن موسى أراد أن يخرجهم من أرضهم ولكن من أرض بشريتهم إلى نور الروحانية . { قالوا أرجه وأخاه } توهموا أن التأخير وحسن التدبير يغير شيئاً من التقدير ، ولم يعلموا أن عند حلول الحكم لا سلطان للعلم والفهم . { أئن لنا لأجر } لم يعلموا أن أجرهم في المغلوبية لا في الغالبية { قال نعم وإنكم لمن المقربين } أجرى الله تعالى هذا على لسان فرعون حقاً وصدقاً فصاروا مقربين عند الله { قالوا يا موسى إما أن تلقي } أكرموا موسى بالتقديم والاستئذان فأكرمهم الله تعالى بالسجود والإيمان { بسحر عظيم } أي عظيم في الإثم كما قال { سبحانك هذا بهتان عظيم } وعظمة إثم السحر لمعارضة المعجزة { فإذا هي تلقف ما يأفكون } فيه أن عصا الذكر إذا ألقيتها عند إلقاء سحر سحرة صفات النفس تبتلع بفم لا النفي جميع ما سحروا به أعين الناس { فوقع الحق } بإثبات لا إله إلا الله { وبطل ما كانوا يعملون } من تزيين زخارف الدنيا في العيون { فغلبوا } أي سحرة صفات النفس إذا تنوّرت بنور الذكر { وانقلبوا صاغرين } ذليلين تحت أوامر الشرع ونواهيه { وألقى السحرة ساجدين } أي صارت صفات النفس بعد التمرد منقادة للعبودية .

{ رب موسى } الروح { وهارون } القلب . واعلم أن صفات النفس إذا تنوّرت بنور الذكر يتبدل كفرها بالإيمان ولكن النفس بذاتها لا تؤمن ولا تتبدل اللهم إلا عند غرقها في بحر الواردات والمواهب الربانية كحال فرعون وإيمانه عند الغرق . وفي القصة دلالة على أنه تعالى قد يبرز العدوّ في صورة الولي مثل بلعام وبالعكس كالسحرة { قبل أن آذن لكم } هذا من جملة جهل فرعون ، ظن أن الإيمان بإذنه ولم يعلم أن الإيمان بإذن الله { لمكر مكرتموه } في موافقة موسى الروح في مدينة القالب { لتخرجوا منها أهلها } هو اللذات والشهوات البدنية { لأقطعن } بسكين التسويل عن الأعمال الصالحة { ثم لأصلبنكم في جذوع } تعلقات الدنيا وزخارفها والله أعلم .

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

القراآت : { سنقتل } بالتخفيف : ابن كثير وأبو جعفر ونافع { يورّثها } بالتشديد : الخزاز عن هبيرة { كلمات ربك } على الجمع : يزيد في رواية { يعرشون } بضم الراء حيث كان : ابن عامر وأبو بكر وحماد : الباقون : بالكسر { يعكفون } بكسر الكاف : حمزة وخلف . الباقون : بالضم { أنجاكم } ابن عامر . الآخرون { أنجيناكم } على الحكاية { يقتلون } بالتخفيف : نافع .
الوقوف : { وآلهتك } ط { نساءهم } ج للابتداء والعطف واتحاد القائل { قاهرون } ه و { اصبروا } ج لما قلنا { من عباده } ط { للمتقين } ه { ما جئتنا } ط { تعلمون } ه { يذكرون } ه { لنا هذه } ج لبيان تباين الإضافتين على التناقض { ومن معه } ج { لا يعلمون } ه { بها مؤمنين } ه { مجرمين } ه { بما عهد عندك } ج لأن جواب « لئن » منتظر مع اتحاد القائل { بني إسرائيل } ج لأن جواب « لما » منتظر مع دخول الفاء فيه { ينكثون } ه { غافلين } ه { باركنا فيها } ط للعدول عن الحكاية وكذلك { بما صبروا } ط لعكسه . { يعرشون } ه { يعكفون } ه { أصنام لهم } ج لاتحاد القائل بلا عطف { آلهة } ط { تجهلون } ه { يعملون } ه { العالمين } ه { سوء العذاب } ج لاحتمال كون ما بعده مستأنفاً أو حالاً { نساءكم } ط { عظيم } ه والله أعلم .
التفسير : ثم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض لموسى ولا أخذه ولا حبسه لأنه كان كلما يرى موسى يخافه أشدّ الخوف إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه فقالوا { أنذر موسى } أتتركه { وقومه ليفسدوا في الأرض } أي يغيروا على الناس دينهم الذي كانوا عليه فيتوسلوا بذلك إلى أخذ الملك . وقوله { ويذرك } عطف على { ليفسدوا } ، وقوله { وآلهتك } مفعول معه . والمراد أنه إذا تكرهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤدياً إلى تركه مع آلهته فقط ، ويحتمل أن يكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام والمعنى : أيكون منك أن تذر موسى ويكون من موسى أن يذرك وآلهتك . قال كثير من المفسرين : إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتهم وسمى نفسه الرب الأعلى . وقال الحسن : كان فرعون يعبد الأصنام ووجه بأنه لعله كان اتخذ أصناماً على صور الكواكب على أن الكواكب مدبرات العالم السفلي . وأما المجدي في هذا العالم للخلق المربي لهم فهو نفسه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى أي أنا مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم ، وكل ذلك بناء على أنه كان دهرياً ينكر وجود الصانع . ثم إن فرعون أوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه لا للخوف منه فقال { سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم } فكأنه قال : إن موسى إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته { وإنا فوقهم قاهرون } أي سنعيد عليهم ما كنا محناهم به قبل من قتل الأبناء ليعلموا أما على ما كنا عليه من الغلبة ، ولئلا يتوهم العامة أنه المولود الموعود من قبل الكهنة ولكنه منتظر بعده { قال موسى } لما وصله ما جرى بين فرعون وملته { لقومه استعينوا بالله واصبروا } ولا ريب أن الصبر نتيجة الاستعانة بالله فإن من علم أنه لا مدبر للعالم إلا الله تعالى انشرح قلبه بنور المعرفة وعلم أن الكل بقضاء الله وقدره فيسهل عليه ما يصل إليه ، ثم لما أمرهم بشيئين بشرهم بآخرين فقال { إن الأرض } يعني أرض مصر أو جنس الأرض فيتناول مصر بالتبعية { لله يورثها من يشاء من عباده } ويعني بالتوريث جعل الشيء للخلف بعد السلف { والعاقبة للمتقين } والخاتمة الحميدة لمن هو بصدد التقوى منكم ومن القبط .

وهذا من كلام المنصف وإلا فمعلوم أن القبط لا تقوى لهم ، أو المراد أن كل من اتقى الله وخافه فالله الغني الكريم يعينه في الدنيا والآخرة . ثم إنهم خافوا وفزعوا من تهديد فرعون فشكوا إلى موسى مستعجلين النصر و { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } يعنون قتل أبنائهم قبل مولده إلى حين نبوته ثم إعادة ذلك عليهم في قوله { سنقتل } إلى غير ذلك من أنواع المحن والمهن . فعند ذلك قال لهم موسى مصرحاً بما رمز إليهم من البشارة قبل { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } أرض مصر ولا ريب أن في { عسى } طمعاً وإشفاقاً ومثل هذا الكلام إذا صدر عن النبي المؤيد بالمعجزات القاهرة الناظر بنور الحق أفاد قوة اليقين وأزال ما خامره من الضعف . ثم قال { فينظر كيف تعملون } قال الزجاج : أي يرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبحه شكره وكفره لوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم قديماً وإنما يجازيهم على ما يقع منهم حديثاً فتتعلق الرؤية الأزلية به . عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة . وعلى مائدته رغيف أو رغيفان . فطلب زيادة لعمرو فلم يكن فقرأ عمرو هذه الآية . ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي { فينظر كيف تعملون } . و { وكيف } نصب ب { تعملون } لا ب { ينظر } لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما يتقدمه . ثم حكى سبحانه ما نزل بفرعون وآله من المحن والبلايا بشؤم التكذيب والتمرد فقال { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } أي بسني القحط . فالسنة من الأسماء الغالبة غلبت على القحط كالدابة والنجم ، وقد يراد بها في غير هذا الموضع الحول والعام . قال أبو زيد والفراء : بعض العرب يقول هذه سنين ورأيت سنيناً فيعرب النون ومنه قول الشاعر :
دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيباً وشيبننا مرداً .
والسنون من الجموع المصححة الشاذة .

عن ابن عباس : السنون لأهل البوادي وأصحاب المواشي { ونقص من الثمرات } لأهل الأمصار . وفائدة توسيط من أن يعلم أن كل الثمرات لم تنقص وإنما نقص بعضها { لعلهم يذكرون } فيتنبهوا ويرجعوا إلى الانقياد والطاعة فإن مس الضر مما يلين الأعطاف ويرق القلوب . قيل : عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في ثلثمائة وعشرين سنة وأصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية . قال القاضي : في الآية دلالة على أنه تعالى أراد منهم أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر . وأجيب بأنه يعاملهم معاملة المختبر ولا اختبار في الحقيقة ولا يرعوي عن الكفر والطغيان إلا من شاء وأراد { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } فلهذا حكى عن فرعون وقومه { فإذا جاءتهم الحسنة } قال ابن عباس : أي العشب والخصب والمواشي والثمار وسعة الرزق والعافية والسلامة { قالوا لنا هذه } أي نحن مخصوصون بذلك ولم نزل في الرفاهية والنعمة وهكذا عادة الزمان فينا ولم يعلموا أنها من الله فيشكروه عليها ويقوموا بحق نعمته { وإن تصبهم سيئة } أضداد ما ذكرنا { يطيروا } يتشاءموا بموسى ومن معه . وأصله يتطيروا فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجهما وإنما عرفت الحسنة وخصت ب { إذا } ونكرت السيئة وقرنت ب { أن } لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته وشموله وأما السيئة فوقوعها نادر مشكوك فيه ولهذا قيل لقد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء؟ { ألا إنما طائرهم عند الله } قال الأزهري : يقال للشؤم طائر وطيرة . وعن ابن عباس : طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم ومنه قول العرب طار له سهم كذا أي حصل ووقع ذلك في حظه . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير لأن الفأل الكلمة الحسنة والتطير عيافة الطير . قال الإمام فخر الدين الرازي : وذلك لأن الأرواح الإنسانية أقوى وأصفى من الأرواح البهيمية فيمكن الاستدلال بالأول على بعض الخفيات بخلاف الثاني . ومعنى الآية أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وبتقديره { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الكل رهين بمشيئته وتقديره فيقولون هذا بيمن فلان أو بشؤمه . وقد تشاءمت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله في المدينة فقالوا : غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا . قال في الكشاف : ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم ، وكما حكى عنهم أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله وقدره كذلك حكى عنهم أنهم لجهلهم وسفههم لم يميزوا بين المعجزات والسحر قالوا لنبيهم { مهما تأتنا به } الآية وفي « مهما » قولان : فعن البصريين أن أصلها ما الشرطية زيدت عليها « ما » المؤكدة إلابهاميه ثم كرهوا التكرار فجعلوا الألف من الأولى هاء .

وعن الكسائي أن « مه » بمعنى « أكفف » و « ما » للشرط كأنه قيل : كف ما تأتنا به . ومحل « مهما » الرفع بمعنى أيما شيء تأتنا به أو النصب بمعنى أي شيء تحضرنا تأتنا به . { ومن آية } بيان لمهما والضمير في « به » وكذا في « بها » يعود إلى « مهما » لأن البيان كالزيادة فلا يعود إليه شيء ما أمكن العود إلى المبين إلا أن الضمير ذكّر تارة حملاً على اللفظ وأنّث أخرى حملاً على المعنى . وسموها آية تهكماً إذ لو قالوا ذلك اعتقاداً لم يردفوها بقولهم { لتسحرنا بها } وبقولهم { فما نحن لك بمؤمنين } قال ابن عباس : إن القوم لما قالوا ما قالوا وكان موسى رجلاً حديداً دعا عليهم فأرسل الله عليهم الطوفان . قيل : هو الجدري وهو أوّل عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض . وقيل : هو الموتان . وقيل : الطاعون . والأصح أنه المطر وأصله ما طاف وغلب من مطر أو سيل ، أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك . فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله وزعموا أن هذا الذي جزعوا منه هو خير لهم ولم يشعروا به فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب والسقوف والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد فألقته في البحر . وقيل : خرج موسى إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها فقالوا : ما نحن بتاركي ديننا . فأقاموا شهراً فسلط الله عليهم القمل وهو الحمنان كبار القردان . وعن أبي عبيدة وقيل : الدبى وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها . وقيل : البراغيث . وقرأ الحسن العمل بعم وسكون الميم يريد القمل المعروف . وعن سعيد بن جبير هو السوس فأكل كل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه وكان يأكل أحدهم طعاماً ممتلئاً قملاً . وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه بعصاه فصار قملاً فأخذ في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود فرفع عنهم فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ، وعزة فرعون لا نصدقك أبداً . فأرسل الله عليهم الضفادع بعد شهر فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم ، وكان أحدهم إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه وكان يمتلىء منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد ، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي .

فشكوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ، ثم نقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماً ، وكان يجتمع القبطي
والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً . وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك وكان يمص الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً . وقيل : الدم الرعاف سلطه الله عليهم . وقوله { آيات مفصلات } نصب على الحال من المذكورات ومعناها ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها معجزات أو فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيوفون بالعهد أم ينكثون كما روي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات . ولا شك أن كل واحدة من هذه معجزة في نفسها واختصاصها بالقبطي دون الإسرائيلي معجزة أخرى { واستكبروا } عن العبادة والطاعة { وكانوا قوماً مجرمين } مصرين على الذنب والجرم .
ثم فصل استكبارهم وإجرامهم فقال { ولما وقع عليهم الرجز } أي الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب . وعن سعيد بن جبير أنه الطاعون وهو العذاب السادس الذي كان أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي بعهده عندك وهو النبوة ف { ما } مصدرية والباء يتعلق ب { ادع } تعلق القلم بالكتبة في قولك : كتبت بالقلم أي ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك . أو تعلق المقسم عليه بالفعل فتكون باء الاستعطاف أي أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد وكرامته بالنبوة . ووجه آخر وهو أن يكون قسماً مجاباً ب { لنؤمنن } فيكون متعلقاً بالأقسام أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي نخيلهم وشأنهم فتذهب بهم حيث شئت { فلما كشفنا عنهم } العذاب لا مطلقاً ولا في جميع الوقائع بل { إلى أجل هم بالغوه } لا محالة ومعذبون فيه { إذا هم ينكثون } جواب « لما » أي لما كشفنا عنهم فاجأوا النكث وبادروه فانتقمنا منهم سلبنا النعمة عنهم بالعذاب { فأغرقناهم في اليم } وهو البحر الذي لا يدرك قعره . وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائة سمي باليم لأن المنتفعين به يتيممونه أن يقصدونه { بأنهم كذبوا بآياتنا } أي كان إغراقهم بسبب التكذيب { و } بأنهم { كانوا عنها } أي عن الآيات وقيل عن النقمة بدلالة انتقمنا أي وكانوا عن النقمة قبل حلولها { غافلين } أي معرضين غير متفكرين فإن نفس الغفلة ليس باختيار الإنسان حتى يترتب الوعيد عليها . ثم بين ما فعله بالمحقين بعد إهلاك المبطلين فقال { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } بقتل الأبناء واستحياء النساء والاستخدام في الأعمال الشاقة { مشارق الأرض ومغاربها } يعني أرض مصر والشام لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون .

وقوله { التي باركنا فيها } أي بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام . وقيل : المراد جملة الأرض لأنه خرج من بني إسرائيل من ملك جملتها كداود وسليمان { وتمت كلمة ربك الحسنى } تأنيث الأحسن صفة للكلمة . قيل : يريد بالكلمة قوله في سورة القصص { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة } [ القصص : 5 ] إلى تمام الآيتين . ومعى { تمت } مضت واستمرت من قولك تم على الأمر إذا مضى عليه . وقيل : معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض ، لأن الوعد بالشيء جعله كالمعلق فإذا حصل الموعود صار تاماً كاملاً { بما صبروا } أي بسبب صبرهم . وفيه أن الصبر عنوان الظفر وضمين بالنصر والفرج { ودمرنا } أي أهلكنا والدمار والهلاك { ما كان يصنع فرعون وقومه } قال ابن عباس : يريد المصانع . وقال غيره : يعني العمارات وبناء القصور . ولعله على العموم فيتناول المعاني والأعيان وما كانوا يعرشون من الجنات كقوله { هو الذي أنشأ جنات معروشات } [ الأنعام : 141 ] وقيل : وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره ، وههنا تمت قصة فرعون والقبط . ثم ذكر ما جرى على بني إسرائيل بعد ذلك فقال { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } روي أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكراً لله { فأتوا على قوم } أي فمروا بقوم { يعكفون } يواظبون { على } عبادة { أصنام لهم } قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل . وقيل : كانوا قوماً من لخم نزلوا بالرقة عن قتادة وقيل : كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم { قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } ما كافة للكاف عن العمل ولهذا دخلت على الجملة . وكأنهم طلبوا من موسى أن يعين لهم أصناماً وتماثيل يتقربون بعباداتها إلى الله تعالى كقول الكفرة { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] فتوجه الذم عليهم لأن العبادة نهاية التعظيم سواء اعتقد في المعبود أنه إله واعتقد أنه مقرب من الله ، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وكأن هذا القول لم يصدر من مشاهير بني إسرائيل وعظمائهم كالسبعين المختارين ، ولكنه صدر عن عوامهم وجهلتهم ولهذا { قال } لهم موسى { إنكم قوم تجهلون } تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظمى فوصفهم بالجهل المطلق المؤكد . وعن علي رضي الله عنه أن يهودياً قال له : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه ، فقال علي : اختلفنا عنه لا فيه . ثم قال : قلتم اجعل لنا إلهاً ولما تجف أقدامكم { إن هؤلاء } يعني عبدة تلك التماثيل { متبر } أي مكسر مهلك { ما هم فيه } من قولهم إنا متبر إذا كان فضاضاً والتبار الهلاك .

{ وباطل ما كانوا يعملون } أي يتبر الله أصنامهم ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي فيصير إلى الزوال والاضمحلال . وفي إيقاع { هؤلاء } اسماً ل { أن } وفي تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لأن إشارة إلى أن عبدة الأصنام ليسوا على شيء ألبتة وأن مصيرهم إلى النار لا محالة . { قال أغير الله أبغيكم إلهاً } انتصب « غير » على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول : أبغيكم ألهاً غير الله . وانتصب { إلهاً } على المفعول به . قال الواحدي : يقال بغيت فلاناً شيئاً وبغيته له قال تعالى { يبغونكم الفتنة } [ التوبة : 47 ] والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب معبوداً { وهو فضلكم على العالمين } خصكم بالنعم الجسام دون أبناء زمانكم . ومعنى الهمزة الإنكار والتعجب مما اقترحوه مع كونهم مغمورين في نعم الله ، فإن الإله ليس شيئاً يطلب ويجعل بل الإله هو الموجود بنفسه القادر على الإيجاد والإعدام والإكرام والإنعام . والآية الباقية قد مر تفسيرها في البقرة ، والفائدة في إعادتها ههنا التعجب والتعجيب ممن اشتغل بعبادة غير هذا المنعم . وإنما قيل ههنا { تقتلون } دون { يذبحون } لتناسب قوله { سنقتل أبناءهم } والله أعلم .
التأويل : { وقال الملأ من قوم فرعون } من الهوى والغضب والكبر لفرعون النفس { أتذر موسى } الروح { وقومه } من القلب والسر والعقل { ليفسدوا } في أرض البشرية { ويذرك وآلهتك } من الدنيا والشيطان والطبع { قال } فرعون النفس { سنقتل أبناءهم } يعني أعمالهم الصالحة نبطلها بالرياء والعجب { ونستحيي نساءهم } أي الصفات التي عنها يتولد الأعمال { وأنا فوقهم قاهرون } بالمكر والخديعة والحيلة { قال موسى } الروح { لقومه } هم القلب والعقل والسر { استعينوا بالله واصبروا } على جهاد النفس ومخالفتها ومتابعة الحق { إن الأرض لله } أي أرض البشرية { يورثها من يشاء من عباده } يورث أرض بشرية السعداء الروح وصفاته فتتصف بصفاته ، ويورث أرض بشرية الأشقياء النفس وصفاتها فتتصف بصفاتها { والعاقبة للمتقين } يعني عاقبة الخير والسعادة للأتقياء السعداء بصفاتها . { أوذينا من قبل أن تأتينا } بالواردات الروحانية قبل البلوغ ، كنا نتأذى من أوصاف البشرية ومعاملاتها { ن بعد ما جئتنا } بالواردات والإلهامات الروحانية بعد البلوغ نتأذى من دواعي البشرية { عسى ربكم أن يهلك عدوّكم } النفس وصفاتها وفيه إشارة إلى أن الواردات الروحانية لا تكفي لإفناء النفس وصفاتها ولا بد في ذلك من تجلي صفات الربوبية { إذا جاءتهم الحسنة } الكفور لا يرى فضل المنعم .
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... مل الوصال وقال كان وكانا .
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } لأن بصائرهم مسدودة وعقولهم عن شهود الحق مصدودة { فأرسلنا عليهم الطوفان } العلم الكثير { والجراد } الواردات { والقمل } الإلهامات { والضفادع } الخواطر { والدم } أصناف المجاهدات والرياضيات { مفصلات } وقتاً بعد وقت وحيناً غب حين { فاستكبروا } عن قبولها والعمل بها { وكانوا قوماً مجرمين } في الأزل ، فلهذا لم تفدهم الوسائط والأسباب { ولما وقع عليهم الرجز } وهو عذاب القطيعة { فأغرقناهم } في يم الدنيا وشهواتها { وما كانوا يعرشون } أي يرفعون بالتجبر والتكبر أنفسهم .

يقال عرش الطائر إذا ارتفع بجناحيه على من تحته { وجاوزنا } بصفات القلب من بحر الدنيا وخلصناهم من فرعون النفس فوصلوا إلى صفات الروح . { يعكفون على أصنام لهم } من المعاني المعقولة والمعارف الروحانية فاستحسنوها وأرادوا العكوف على عتبة عالم الأرواح { قال لهم موسى } الوارد الرباني عند ركونهم إلى الروحانيات { إنكم قوم تجهلون } يعني صفات الروح { متبر ما هم فيه } من الركون والعكوف على استحلاء المعاني المعقولة { وباطل ما كانوا يعملون } في غير طلب الحق والوصول إلى المعارف الرباينة { وهو فضلكم على العالمين } من الحيوان والجن والملك بفضيلة العبور من الجسمانيات والروحانيات إلى الوصول إلى المعارف والحقائق الإلهية .

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

القراآت : { أرني أنظر } بسكون الراء وفتح الياء : ابن الفليح وزمعة والخزاعي عن البزي . الباقون : بكسر الراء وسكون الياء . { دكاء } بالمد : حمزة وعلي وخلف . { إني اصطفيتك } بفتح ياء المتكلم : ابن كثير وأبو عمرو { برسالتي } على التوحيد : أبو جعفر ونافع وابن كثير . الباقون : { برسالاتي } { آياتي الذين } مرسلة الياء : ابن عامر وحمزة . { الرشد } بفتحتين : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بضم الراء وسكون الشين . { من حليهم } بفتح الحاء وسكون اللام : يعقوب { حليهم } بالكسرات وتشديد الياء : حمزة وعلي . الباقون : مثله ولكن بضم الحاء . { ترحمنا ربنا وتغفر لنا } بالخطاب والنداء : حمزة وعلي وخلف والمفضل . الباقون : على الغيبة ورفع { ربنا } على الفاعلية { بعدي أعجلتم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { قال ابن أم } بكسر الميم : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل . الباقون : بفتحها ومثله { يا ابن أم } [ الآية : 94 ] في طه .
الوقوف : { أربعين ليلة } ج للعطف مع اختلاف القائل { المفسدين } ه { ربه } لا لأن ما بعده جواب { إليك } ط { فسوف تراني } ج { صعقا } ط { المؤمنين } ه { الشاكرين } ه { الشاكرين } ه { لكل شيء } ج للعدول مع فاء التعقيب { بأحسنها } ج { الفاسقين } ه { بغير الحق } ج { بها } ج لابتداء شرط آخر ولبيان تعارض الأحوال مع العطف { سبيلاً } ج { ذلك سبيلاً } ه { غافلين } ه { أعمالهم } ط { يعملون } ه { خوار } ط { سبيلاً } ه لئلا تصير الجملة صفة السبيل فإن الهاء ضمير العجل { ظالمين } ه { ضلوا } ج لأن ما بعده جواب . { الخاسرين } ه { أسفاً } ج لما { بعدي } ج للابتداء بالاستفهام مع اتحاد القائل { أمر ربكم } ج لأن قوله { وألقى } معطوف على قوله { قال بئسما } وقد اعترض بينهما استفهام { إليه } ط { يقتلونني } ط ز صلى والوصل أولى لأن الفاء للجواب أي إذا هم هموا بقتلي فلا تشمتهم بضربي . { الظالمين } ه { في رحمتك } ز صلى الأولى أن يوصل لأن الواو للحال تحسيناً للدعاء بالثناء { الراحمين } ه { الدنيا } ط { المفترين } ه { وآمنوا } ج لظاهر إن والوجه الوصل لأن ما بعده خبر والعائد محذوف والتقدير : إن ربك من بعد توبتهم لغفور لهم . { رحيم } ه { الألواح } ج صلى لاحتمال ما بعده الحال { يرهبون } ه .
التفسير : لما أهلك الله سبحانه أعداء بني إسرائيل سأل موسى ربه أن يؤتيه الكتاب الذي وعده فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر من نفسه خلوف الفم فتسوّك فقالت الملائكة : كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدتها بالسواك ، فأوحى الله تعالى إليه : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ فأمره الله أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب . وقيل : فائدة التفصيل أنه تعالى أمره بصوم ثلاثين وأن يعمل فيها ما يقربه من الله ، ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها .

وقال أبو مسلم الأصفهاني : من الجائز أن يكون موسى عند تمام الثلاثين بادر إلى ميقات ربه قبل قومه بدليل قوله في طه { وما أعجلك عن قومك يا موسى } [ طه : 83 ] فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه ، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى فتم أربعون ليلة . وقيل : لا يمتنع أن يكون الوعد الأوّل لحضرة موسى وحده والوعد الثاني لحضرة المختارين معه ليسمعوا الكلام . ومن فوائد الفذلكة في قوله { فتم ميقات } ربع { أربعين ليلة } إزالة وهم من يتوهم أن الميقات كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين . والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء قدره مقدراً أم لا . وانتصب { أربعين } على الحال أي تم بالغاً هذا العدد . { وهارون } عطف بيان { لأخيه } وقرىء بالضم على النداء { أخلفني في قومي } كن خليفتي فيهم { وأصلح } كن مصلحاً أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائل ومن دعاك إلى الإفساد فلا تتبعه . وإنما جعله خليفة مع أنه شريكه في النبوّة بدليل { وأشركه في أمري } [ طه : 32 ] والشريك أعلى حالاً من الخليفة لأن نبوّة موسى كانت بالأصالة ونبوّة هارون بتبعيته فكأنه خليفته ووزيره . وإنما وصاه بالإصلاح تأكيداً واطمئناناً وإلا فالنبي لا يفعل إلا الإصلاح . { ولما جاء موسى لميقاتنا } اللام بمعنى الاختصاص كأنه قيل : اختص مجيئه بوقتنا الذي حددنا له كما يقال : أتيته لعشر خلون من شهر كذا { وكلمه ربه } للناس في كلام الله مذاهب فقيل : هو عبارة عن هذه الحروف المؤلفة المنتظمة . وقيل : صفة حقيقية مخالفة للحروف والأصوات وعلى الأول فمحل تلك الحروف والأصوات هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية ، أو جسم مغاير كالشجرة ونحوها وهو قول المعتزلة . وعلى التالي فالأشعرية قالوا إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الأزلية لأنه كما لا يتعذر رؤيته عندنا مع أنه ليس بجسم ولا عرض فكذا لا يمتنع سماع كلامه مع أنه ليس بحرف ولا صوت . وقال أبو منصور الماتريدي : الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة . واختلف العلماء أيضاً في أن الله تعالى كلم موسى وحده لظاهر الآية أو مع السبعين المختارين وهو قول القاضي لأن تكليم الله موسى معجز وقد تقدمت نبوّة موسى فلا بد من ظهور هذا المعنى لغيره { قال رب أرني أنظر إليك } أي أرني نفسك واجعلني متمكناً من رؤيتك فانظر إليك وأراك . عن ابن عباس : أن موسى عليه السلام جاء ومعه السبعون وصعد الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتاباً وقربه نجياً .

فلما سمع صرير القلم عظم شوقه فقال رب أرني انظر إليك . قالت الأشاعرة إن موسى سأل الرؤية وأنه عارف بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى . فلو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها . قال القاضي : للمحصلين من العلماء في هذا المقام أقوال : أحدها قول الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى وهذا لا يقدح سبحانك في معرفته لأن العلم بامتناع الرؤية وجوازها لا يبعد أن يكون موقوفاً على السمع ، وزيف بأنه يلزم أن يكون موسى أدون حالاً من علماء المعتزلة العالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى ، وبأنهم يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل ، فلو لم يكن هذا العلم حاصلاً لموسى كان ناقص العقل وهو محال ، وإن كان حاصلاً وجوّز موسى عليه المقابلة كان كفراً وهو أيضاً محال . وثانيها طريقة أبي علي وأبي هاشم أن موسى عليه السلام سألل الرؤية عن لسان قومه فقد كانوا يكررون المسألة عليه بقولهم { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] وزيف بأنه لو كان كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله لن يروني ، وبأنه لو كان محالاً لمنعهم كما منعهم لما قالوا اجعل لنا إلهاً ، وبأن ذكر الدليل القاطع في هذا المقام فرض مضيق فلم يمكن تأخيره مع أنهم كانوا مقرين بنبوّة موسى كفاهم في الامتناع عن السؤال قول موسى وإلا فلا انتفاع لهم بهذا الجواب فإن لهم أن يقولوا لا نسلم أن هذا المنع من الله بل هذا مما افتريته على الله . وثالثها وهو اختيار أبي القاسم الكعبي أن موسى سأل ربه المعرفة الضرورية بحيث تزول عندها الخواطر والوساوس كما في معرفة أهل الآخرة . وردّ بأنه تعالى أراه من الآيات كالعصا واليد وغيرها ما لا غاية بعدها فكيف يليق به أن يقول أظهر لي آية تدل على أنك موجود؟ ولو فرض أنه لائق بحال موسى فلم منعه الله تعالى عن ذلك؟ ولقائل أن يقول : منعه في الدنيا لحكمة علمها الله تعالى ولا يلزم منه المنع في الآخرة . ورابعها وهو قول أبي بكر الأصم أن موسى أراد تأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي ، وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء . وضعف بأنه كان الواجب عليه حينئذ أن يقول : أريد يا إلهي أن يقوى أمتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في عقلي . ولقائل أن يقول : هذا تعيين الطريق . وفي الآية سؤال وهو أنه تعالى لم قال { لن تراني } دون { لن تنظر إليّ } ليناسب قوله { انظر إليك } والجواب لأن موسى لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل { أرني } ومن حجج الأشاعرة أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز هو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز .

وردّ بأنه علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته بدليل قوله { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه } أي وقت النظر وعقيبه واستقرار الجبل حال حركته محال . ومنها قوله { فلما تجلى ربه } أي ظهر وبان ومنه جلوت العروس إذا أبرزتها ، أو ظهر للجبل اقتداره وتصدى له أمره وإرادته { جعله دكاً } أي مدكوكاً كالمصدر بمعنى « مفعول » . والدك والدق أخوان . ومن قرأ بالمد أراد أرضاً دكاء مستوية ومنه ناقة دكاء متواضعة السنام . والدكاء أيضاً اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة . والغرض من الجميع تعظيم شأن الرؤية وأن أحداً لا يقوى على ذلك إلا بتقوية الله وتأييده . وقالت المعتزلة : الرؤية أمر محال لقوله { لن تراني } وكلمة « لن » إن لم تفد التأبيد فلا أقل من التأكيد . وأيضاً الاستدراك في قوله { ولكن انظر } معناه أن النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر إلى الجبل لتشاهد تدكك أجزائه وتفرق أبعاضه من عظمة التجلي ، وإذا لم يطق الجماد ذلك فكيف الإنسان؟ قالت الأشاعرة ههنا : لم يبعد أن يخلق الله تعالى حينئذ في الجبل حياة وعقلاً وفهماً ورؤية . وأيضاً قوله { وخر موسى صعقاً } أي مغشياً عليه غشية كالموت دليل استحالة الرؤية على الأنبياء فضلاً عن غيرهم . روي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم يقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة . وأيضاً قوله بعد الافاقة من الصعقة { سبحانك } أنزهك عما لا يليق بك من جواز الرؤية عليك { إني تبت إليك } من طلب الرؤية بغير إذن منك وإن كان لغرض صحيح هو تنبيه القوم على استحالة ذلك بنص من عندك { وأنا أوّل المؤمنين } بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس . وقالت الأشاعرة : وأنا أوّل المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا أو بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك . ثم لما سأل الرؤية ومنعه الله إياها أخذ في تعداد سائر نعمه عليه وأمره أن يشتغل بشكرها { فقال يا موسى إني اصطفيتك } الآية . والمقصود تسلية موسى عن منع الرؤية . قيل : وفي هذا دليل على جواز الرؤية في نفسها وإلا لم يكن إلى هذا العذر حاجة . وإنما قال { اصطفيتك على الناس } ولم يقل « على الخلق » لأن الملائكة قد تسمع كلام الله تعالى من غير واسطة كما سمعه موسى . والغرض أنه تعالى خصه من دون الناس بمجموع أمرين الرسالة والكلام وسائر الرسل لهم الرسالة فقط . وإنما كان الكلام بلا وسط سبباً للشرف بناء على العرف الظاهر وقد جاء في الخبر أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج بعين الرأس . وفي ذلك دليل على أفضليته على موسى شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيباً وقرّبه إليه بلطفه تقريباً وبين من قرب له الحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب .

والمزاد بالرسالات ههنا أسفار التوراة { فخذ ما أتيتك } من شرف الرسالة والكلام { وكن من الشاكرين } لله على ذلك بأن تشتغل بلوازمها علماً وعملاً . ثم فصل تلك الرسالة فقال { وكتبنا له في الألواح } قيل : خر موسى صعقاً يوم عرفة وأعطاه الله التوراة يوم النحر . وذكروا في عدد الألواح وفيو جوهرها وطلولها أنها كانت عشرة ألواح ، وقيل سبعة ، وقيل لوحين ، وأنها كانت من خشب نزلت من السماء . وعن وهب أنها كانت من صخرة صماء لينها الله تعالى لموسى قطعها بيده وشققها بأصابعه . وقيل : طولها كان عشرة أذرع . والتحقيق أن أمثال هذه يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا وجب السكوت عنه إذ ليس في الآية ما يدل على ذلك . وأما كيفية تلك الكتابة فقال ابن جريج كتبها جبرائيل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور وحكم هذا النقل أيضاً كما قلنا { من كل شيء } مفعول { كتبنا } و « من » للتبعيض نحو أخذت من الدراهم { موعظة وتفصيلاً } بدل منه فيدخل في الموعظة كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد . وأراد بالتفصيل تبيين كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل من أقسام الأحكام ، ويجوز أن يكون { موعظة وتفصيلاً } مفعولين ل { كتبنا } والتقدير : وكتبنا له في الألواح موعظة من كل شيء وتفصيلاً لكل شيء . قيل : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى ويوشع وعزير وعيسى . وعن مقاتل : كتب في الألواح أني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبيل ولا تحلفوا باسمي كذباً فإن من حلف باسمي كذباً فلا أزكيه ، ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تعقوا الوالدين . { فخذها } على إرادة القول أي وكتبنا فقلنا له خذها أو بدل من قوله { فخذ ما أتيتك } والضمير للألواح أو لكل شيء لأنه في معنى الأشياء ، أو للرسالات أو للتوراة { بقوّة } بجد وعزيمة فعل أولى بالعزم من الرسل { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } سئل ههنا أنه لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأموراً به ، فظاهر قوله { يأخذوا بأحسنها } يقتضي أن فيه ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز الأخذ به . وأجاب العلماء بوجوه منها ، أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر ، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب فيكون كقوله { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } [ الزمر : 55 ] وكقوله { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 18 ] قال قطرب : الأحسن بمعنى الحسن وكلها حسن . وقيل : الحسن يشمل الواجب والمندوب والمباح والأحسن الواجب والمندوب .

وقال في الكشاف : يجوز أن يراد يأخذوا بما أمروا به دون ما نهوا عنه كقولهم الصيف أحر من الشتاء . ثم ختم الآية بالوعيد والتهديد فقال { سأريكم دار الفاسقين } قال ابن عباس والحسن ومجاهد يعني جهنم أي ليكن ذكر جهنم حاضراً في أذهانكم لتحذروا أن تكونوا منهم . وعن قتادة : يريد مواطن الجبابرة والفراعنة الخاوية بالشأم ومصر ليعتبروا بذلك فلا يفسقوا مثل فسقهم فيصبيهم مثل ما أصابهم . وقال الكلبي : هي منازل عاد وثمود وأقرانهم يمرون عليها في أسفارهم . وقيل : المراد الوعد والبشارة بأن الله تعالى سيرزقهم أرض أعدائهم ويؤيده ما قرىء { سأورثكم } . وقوله { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } [ الأعراف : 137 ] .
ثم ذكر ما به يعامل الفاسقين المتكبرين فقال { سأصرف عن آياتي } الآية . فاحتجت الأشاعرة بها على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصرف عنه . وقال الجبائي : قوله { سأصرف } للاستقبال والمصروفون موصوفون بالتكبر والانحراف عن الطريق المستقيم في الزمان الماضي ، فعلم أن المراد من هذا الصرف ليس هو الكفر . وأيضاً الصرف مذكور على وجه العقوبة على التكبر والاعتساف ولا تكون العقوبة عين المعاقب عليه فوجب تأويل الآية . وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن هذا الكلام تمام لما وعد الله به موسى من النصرة والعصمة أي أصرفهم عن آياتي فلا يقدرون على منعك من تبليغها كما قال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم { بلغ ما أنزل إليك } إلى قوله { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] وقيل : سأصرف هؤلاء المتكبرين عن نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدَّة للأنبياء والمؤمنين ، فيكون ذلك الصرف المستلزم للإذلال والإهانة جارياً مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله تعالى . وقيل : إن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بما بعد ذلك فحينئذ يصرفم الله تعالى عنها . وبوجه آخر إن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها ، فإذا علم الله تعالى ذلك صح أن يصرفهم عنها ، أو عن الحسن : إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه وهي بالطبع والخذلان ، فالمراد بالمصروفين هؤلاء . وعن رسول صلى الله عليه وسلم : « إذا عظمت أمتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي » قوله { بغير الحق } أما أن يكون حالاً بمعنى يتكبرون غير محقين لأن التكبير بالحق لله وحده ، إذ لا كمال فوق كماله فله إظهار العظمة والكبرياء على كل من سواه ، وإما أن يكون صلة للفعل أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الذي لا أصل له ، ومنه يعلم أن للمحق أن يتكبر على المبطل كما قيل : التكبر على المتكبر صدقة .

والرشد طريق الهدى والحق والصواب كلاهما واحد قاله الكسائي ، وفرق أبو عمرو فقال : الرشد بضم الراء الصلاح لقوله { فإن آنستم منهم رشد } [ النساء : 6 ] وبفتحتين الاستقامة في الدين قوله تعالى { مما علمت رشداً } [ الكهف : 66 ] وسبيل الغي ضد ما ذكرنا . ثم بين أن ذلك الصرف وتعكيس القضية إنما كان الأمرين : كونهم مكذبين بآيات الله ، وكونهم غافلين عنها ، ومحل ذلك الرفع على الابتداء أو النصب على معنى صرفهم الله ذلك الصرف بسبب أنهم كذا وكذا . ثم بيّن أن أولئك المتكبرين مجزيون شر الجزاء وإن صدر عنهم صورة الإحسان والخير فقال { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } أي جحدوا المعاد حبطت أعمالهم . ثم قال { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } احتجت الأشاعرة بها على فساد قول أبي هاشم إن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد ترك الواجب وإن لم يصدر عنه فعل ذلك . قالوا : لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس بعمل . أجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء . ورد بأن الجزأ ما يجزىء ، أي يكفي عن المنع عن النهي أو في الحث على المأمور ، لكن العقاب على ترك الواجب كافٍ في الزجر عن ذلك فكان جزاء . قيل : إن بني إسرائيل كان له عيد يتزينون فيه يستعيرون من القبط الحلي فاستعاروها مرة فأغرق الله القبط فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل ، فلهذا أضيفت إليهم على أن مجرد ملابسة الاستعارة أيضاً تحقق الإضافة وتصححها . والحليّ جمع حلي كثدي وثديّ . ومن كسر الحاء فللإتباع . فجمع السامري تلك الحليّ وكان رجلاً مطاعاً فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً بعبدونه فصاغ السامري لهم عجلاً . واختلف المفسرون بعد ذلك فقال قوم : كان قد أخذ تراب حافر فرس جبرائيل فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحماً ودماً وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلهكم وإله موسى . قال أكثر المفسرين من المعتزلة : إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفاً ووضع في جوفه أنابيب على وجه مخصوص ، ثم وضع التمثال على مهب الرياح فظهر منه صوت شديد يشبه خوار العجل . وقال آخرون : إنه صير ذلك التمثال أجوف وخبأ تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس . وإنما قال سبحانه { واتخذ قوم موسى } من أن المتخذ هو السامريّ وحده لأن القوم رضوا بذلك واجتمعوا عليه فكأنهم شاركوه ، أو لأن المراد باتخاذ العجل هو عبادته كقوله { ثم اتخذتم العجل من بعده } [ البقرة : 51 ] أي من بعد مضيه إلى الطور . قال الحسن : كلهم عبدوا العجل غير هارون لعموم الآية ولقول موسى في الدعاء { رب اغفر لي ولأخي } ولو كان غيرهما أهلاً للدعاء لأشركهم في ذلك .

وقال آخرون : بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه لقوله سبحانه { من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [ الأعراف : 181 ] وهل انقلب ذلك التمثال لحماً ودماً أو بقي ذهباً كما كان مال بعضهم إلى الأوّل لأنه تعالى قال { عجلاً جسداً له خوار } والجسد اسم للجسم ذي اللحم والدّم والخوار إنما يكون للبقرة لا للصورة . واستبعده بعضهم وناقش في أن الجسد مختص بذي الروح . ثم قال : إن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لما يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه . وقرأ على كرم الله وجهه { جؤار } بالجيم والهمزة من جأر إذا صاح و { جسداً } بدلاً من { عجلاً } ثم إنه سبحانه احتج على فساد كون ذلك العجل إلهاً بقوله { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً } ومن حق الإله أن يكون متكلماً هادياً إلى سبيل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل من الكتب . قالت المعتزلة : ههنا سؤال فمن كان مضلاً عن الدين لا يصلح أن يكون إلهاً . قالت الأشاعرة : لو صح أن الإله يلزم أن يكون متكلماً هادياً لزم أن يكون كل متكلم هادٍ إلهاً . والحق أن الملازمة ممنوعة فإن الدعوى ليست إلا أن كل إله يجب أن يكون متكلماً هادياً والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها على أنه يمكن أن يقال لا متكلم ولا هادي في الحقيقة إلا الله تعالى . ثم ختم الآية بقوله { اتخذوه وكانوا ظالمين } وهذا كما قال في البقرة { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون } [ البقرة : 51 ] ثم أخبر عن عقبى حالهم بقوله { ولما سقط في أيديهم } معناه ولما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل . واختلفوا في وجه هذه الاستعارة فقال الزجاج : أريد بالأيدي القلوب والأنفس كما يقال حصل في يده مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين . وقال في الكشاف : إن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه وقع فيها ، فأصل الكلام سقط فوه في يده فحذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فيه كما يحذف الفعل ويبنى للمفعول فيه في قولهم « مُرَّ بزيد » وهذا من باب الكناية لأن عض اليد من لوازم الحسرة والندم . وقيل : كل عمل يقدم المرء عليه فذلك لاعتقاد أن ذلك العمل خير وصواب وأنه يورثه رفعة ورتبة ، فإذا بان أن ذلك العمل باطل فكأنه انحط وسقط من علو إلى أسفل ومنه قولهم للرجل إذا أخطأ « ذلك منه سقطة » ثم إن اليد آلة البطش والأخذ والنادم كأنه تدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم وكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث أنه بعد حصول ذلك الندم يشتغل بالتدارك والتلافي .

وحكى الواحدي أنه من السقط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج فمن وقع في يده السقط لم يحصل منه على شيء قط لأنه يذوب بأدنى حرارة ، فهذا مثل من خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعة . وقال بعضهم : الآله الأصلية في أكثر الأعمال اليد والعاجز في حكم الساقط فسقاط اليد هو العجز التام كما يقال في العرف ضل يده ورجله لمن لا يهتدي إلى صلاحه . وقيل : إن « في » بمعنى « على » أي سقط على أيديهم فإن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده تحت ذقنه . ثم قال الله تعالى { ورأوا أنهم قد ضلوا } أي قد تبينوا ضلالهم كأنهم أبصروه بعيونهم . قال القاضي : الكلام على التقديم والتأخير لأن الندم والتحسر بعد تعرف الحال وتبين الخطأ والترتيب الأصلي : ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم . ويمكن أن يقال : الواو لا تفيد الترتيب ، أو يقال : الإقدام على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأً فاسد موجب للندم وقد يتكامل العلم فيظهر أنه خطأ جزماً . ثم إنهم اعترفوا بذنوبهم وانقطعوا إلى ربهم وذكروا مثل ما ذكر أبونا آدم وأمنا حواء { إن لم يرحمنا ربنا } الآية . { ولما رجع موسى إلى قومه } قال بعضهم إن موسى قد عرف خبر القوم بعد رجوعه إليهم . وقال الأكثرون وهو قول أبي مسلم : إنه كان عارفاً بذلك قبل رجوعه بدليل قوله { غضبان أسفاً } فإنه يدل على أن هاتين الحالتين حاصلتان له عند رجوعه إليهم ولما جاء في سورة طه { قد فتنا قومك من بعدك } [ الآية : 85 ] وفي دليل ظاهر على أنه تعالى أخبره بوقوع الواقعة في الميقات . والأسف الشديد الغضب وهو قول أبي الدرداء والزجاج . وعن ابن عباس والحسن إنه الحزين . وقال الواحدي : هما متقاربان فإذا جاءك ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت ، فكأن موسى غضبان على قومه أسفاً من فتنة ربه { بئسما خلفتموني } خاطب عبدة العجل أو وجوه القوم - هارون والمؤمنين - حيث لم يكفوا العبدة . وفاعل { بئس } مضمر يفسره { ما خلفتموني } والمخصوص محذوف التقدير : بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم . ومعنى { من بعدي } مع قوله { خلفتموني } من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الأنداد أو من بعد ما كنت أحمل القوم عليه من التوحيد والكف من اتخاذ إله غير الله حيث قالوا جعل لنا إلهاً ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة مستخلفيهم من بعدهم ولا يخالفوهم ونظير الآية قوله { فخلف من بعدهم خلف } [ مريم : 58 ] أي من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة { أعجلتم أمر ربكم } قال الواحدي : العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة في الأغلب بخلاف السرعة فإنها عمل الشيء في أوّل وقته .

قال ابن عباس : يعني أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له . وقال الحسن : أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنهم قدّروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات . وروي أن السامري قال لهم : إن موسى لن يرجع وإنه قد مات . وروي أنهم عدوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا . وقال الكلبي ، أعجلتم عبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم . وقال عطاء : أعجلتم سخط ربكم . وفي الكشاف : يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدى تعديته فيقال : عجلت الأمر ومعنى : أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به { وألقى الألواح } التي فيها التوراة لما لحقه من الدهش والضجر غضباً لله . عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : « يرحم الله أخي موسى ما الخبر كالمعاينة » لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق وأنه مع ذلك متمسك بما في يده . وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة . قال في التفسير الكبير : إلقاء الألواح ثابت بالقرآن ، فأما إلقاؤها بحيث تكسرت فلا وإنه جراءة عظيمة ومثله لا يليق بالأنبياء . وأقول : الجراءة تحصل بنفس الإلقاء لا بالتكسر الذي لا يتعلق باختياره فكل ما يجعل عذراً عن نفس الإلقاء يصح أن يجعل عذراً عن التكسر { وأخذ برأس أخيه } أي بشعر رأسه يجره إليه بذؤابته . واعلم أن موسى عليه السلام كان في نفسه حديداً شديد الغضب وكان هارون ألين منه جانباً ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى . وقد استتبع غضبه أمرين : أحدهما إلقاء الألواح والآخر أخذ رأس أخيه جار إليه ، فزعم مثبتو عصمة الأنبياء أنه جر برأس أخيه إلى نفسه ليسارّه ويستكشف منه كيفية الواقعة لا لأجل الإهانة والاستخفاف ، ثم إن هارون خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى فعل ما فعل به إهانة { فقال يا ابن أم } من كسرها فعلى طرح ياء المتكلم ، ومن فتحها فتشبيهاً بخمسة عشر لكثرة الاستعمال أو على الألف المبدلة من ياء الإضافة . وإنما أضافه إلى الأم إشارة إلى أن أمهما واحدة على ما روي أنه كان أخاه لأمه ليكون أدعى إلى العطف والرقة لأنها كانت مؤمنة فافتخر . بنسبها ولأنها هي التي تحملت فيه الشدائد فذكره حقها { إن القوم استضعفوني } استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري { وكادوا يقتلونني } حين منعتهم عبادة العجل ونهيتهم عنها { فلا تشمت بي الأعداء } العابدي العجل فإنهم يحملون هذا لذي تفعل بي على الإهانة لا على الإكرام { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } في اشتراك العقوبة والإذلال ، ولا تعتقد أني واحد منهم .

ولا يخفى ما في بعض هذا التفسير من التعسف والتكلف ، والحق أن هذا القدر من الحدة الناشئة من عصبية الدين لا يقدح في العصمة وغايته أن يكون من قبيل ترك الأولى فلذلك { قال } موسى { رب اغفر لي } ما أقدمت عليه من الحدة قبل جلية الحال { ولأخي } أن عساه فرّط في شأن الخلافة ثم أخبر عن مجازاة القوم فقال { إن الذين اتخذوا العجل } إلهاً { سينالهم غضب من ربهم وذلة } كلاهما في الحياة الدنيا . فالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم والذلة خروجهم من ديارهم وذل الغربة لا يخفى . واعترض بأن قوله { سينالهم } للاستقبال وفي وقت نزول الآية كان القتل واقعاً . وأجيب بأن هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى موسى به في الميقات من افتتان قومه وكان سابقاً على وقوعهم في الغضب والذلة . قلت : ويجوز أن يكون الآيتان من تتمة قول موسى إلا أن قوله { وكذلك نجزي المفترين } ينبو عن ذلك إلا أن يحمل على الاعتراض . ولما في هذا التفسير من التكلف ذهب به بعض المفسرين إلى أن المضاف في الآية محذوف والتقدير : إن الذين اتخذ آباؤهم العجل يعني الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا بضرب الجزية ، أو غضب وذلة كلاهما في الدنيا بالقتل والجلاء كما نال بني قريظة والنضير ، أو التقدير : إن الذين اتخذا العجل سينال أولادهم { وكذلك نجزي المفترين } أي كل مفتر في دين الله فجزاؤه الغضب والذلة . قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا } ظاهر الآية يدل على أن التوبة شرط العفو وأنه لا بد مع التوبة من تجديد الإيمان فما أصعب شأن المذنبين ، ولكن عموم لفظ السيئات يدل على أن من أتى بجميع المعاصي ثم تاب فإنه الله يغفرها له فما أحسن حال التائبين { لغفور } ستور عليهم محَّاء لما صدر منهم { رحيم } منعم عليهم بالجنة . وفيه أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل .
ولما بين ما كان من موسى مع الغضب بين ما كان منه بعد الغضب فقال { ولما سكت عن موسى الغضب } قال علماء البيان : إنه خرج على قانون الاستعارة فكأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول ألق الألواح وغير ذلك ، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء . وعن عكرمة أن المعنى سكت موسى عن الغضب فقلب كما يقال : أدخلت الخف في رجل وإنما أدخل الرجل في الخف . وقيل : السكوت بمعنى السكون وقد قرىء به .

{ أخذ الألواح } التي ألقاها منبهاً على زوال غضبه لأنه أوكد ما تقدم من إمارات الغضب { وفي نسختها } فعلة بمعنى مفعول كالخطبة من النسخ والكتب أي في مكتوبها من اللوح المحفوظ سواء قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها أو قلنا إنها تكسرت وأخذ ما بقي منها ، وقيل : النسخ بمعنى الإزالة لما روي عن ابن عباس أنه لما ألقى الألواح تكسرت فصام أربعين يوماً فأعاد الله تعالى الألواح وفيها غير ما في الأولى { هدى } من الضلال { ورحمة } من العذاب { للذين هم لربهم يرهبون } أدخل اللام في المفعول لتقدمه فإن تأخير الفعل يكسبه ضعفاً ونظيره { للرؤيا تعبرون } [ يوسف : 43 ] وقولك : لزيد ضربت ويجوز أن يكون المراد للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء وسمعة ، وجوّز بعضهم أن تكون اللام صلة نحو ردف لكم .
التأويل : { ثلاثين ليلة } لئلا تستكثر النفس الأربعين من ضعف البشرية { وأتممناها بعشر } الخصوصية الأربعين في ظهور ينابيع الحكمة من القلب على اللسان { وقال موسى } الروح { لأخيه هارون } القلب عند توجهه لمقام المكالمة والتجلي كن خليفتي في قومي من الأوصاف البشرية و { وأصلح } ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة { ولا تتبع سبيل المفسدين } من الهوى والطبيعة . وهذه الخلافة هي السر الأعظم في بعثة الروح من ذروة عالم الأرواح إلى حضيض عالم الأشباح { ولما جاء موسى } ولما حصل الروح على بساط القرب وتتابع عليه كاسات الشرب أثر فيه سماع الكلمات فطال لسان انبساطه عند التمكن على بساطه ف { قال رب أرني أنظر إليك } فقيل : هيهات أنت بعد في بعد الأثنينية وحجب جبل الأنانية فلن تراني لأنه لا يراني إلا من كنت له بصراً فبي يبصر { ولكن انظر } إلى جبل الأنانية { فإن استقر مكانه } عند التجلي { فسوف تراني } ببصر أنانيتك { وخر موسى صعقاً } بالأنانية فكان ما كان بعد أن بان ما بان وأشرقت الأرض بنور ربها .
قد كان ما كان سراً أبوح به ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
فلو لم يكن جبل أنانية النفس بين موسى الروح وتجلي الرب لطاش في الحال وما عاش ، ولولا أن القلب يحيا عند الفناء بالتجلي لما أمكنه الإفاقة والروح إلى الوجود ، ولو لم يكن تعلق الروح بالجسد لما استسعد بالتجلي ولا بالتحلي فافهم . { فما أفاق } من غشية الأنانية بسطوة تجلي الربوبية { قال } موسى بلا هويته { سبحانك } تنزيهاً لك من خلقك واتصال الخلق بك { وانا أوّل المؤمنين } بأنك لا ترى بالأنانية وإنما ترى بنور هويتك . { برسالاتي وبكلامي } دون رؤيتي { وكن من الشاكرين } فإن الشكر يبلغك إلى ما سألت من الرؤية لأن الشكر يورث الزيادة والزيادة هي الرؤية { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] { فخذها بقوّة } أي بقوة الصدق والإخلاص أو بقوة وإعانة منا { سأريكم دار الفاسقين } الخارجين عن طلب الله إلى طلب الآخرة أو الدنيا { سأصرف عن آياتي } فبحجاب التكبر يحجب المتكبر عن رؤية الآيات { واتخذ قوم موسى } أي سامري الهوى من بعد توجه موسى الروح لميقات مكالمة الحق .

اتخذ حلى زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس { عجلاً } هو الدنيا { له خوار } يدعو الخلق به إلى نفسه { ولما سقط في أيديهم } عند رجوع موسى الروح إلى قومه وهم الأوصاف الإنسانية ندمت من فعلها وعادت إلى ما كانت فيه من عبودية الحق والإخلاص له قائلة { إن لم يرحمنا } بجذبات العناية { ربنا } الآية { غضبان } مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا { أسفاً } على ما فاتها من عبودية الحق { أعجلتم أمر ربكم } بالرجوع إلى الدنيا وزينتها والتعلق بها قبل أوانه من غير أن يأمركم به ربكم . وفيه إشارة إلى أن أصحاب السلوك لا ينبغي أن يلتفتوا إلى شيء من الدنيا في أثناء الطلب اللهم إلا إذا قطعوا مفاوز النفس والهوى ووصلوا إلى كعبة وصال المولى فيأمرهم المولى أن يرجعوا إلى الدنيا لدعوة الخلق { وألقى الألواح } يعني ما لاح للروح من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي . { وأخذ برأس أخيه } القلب فإنه أخو الروح { يجره إليه } قسراً عند استيلاء طبيعة الروحانية { قال ابن أم } هما من أب وأم واحد أبوهما الأمر وأمهما الخلق ، وإنما نسبه إلى الخلق لأن في عالم الخلق تواضعاً وتذللاً بالنسبة إلى عالم الأمر . { إن القوم استضعفوني } يعني أن أوصاف البشرية استذلوني بالغلبات عند غيبتك { وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء } وهم الشيطان والنفس والهوى { ولا تجعلني مع القوم الظلمين } فيه أن صفات القلب تتغير وتتلون بلّون صفات النفس ورعونتها ، ولكن القلب من حيث هو هو لا يتغير عما جبل عليه من محبة الله وطلبه وإنما يمرض بتغير صفاته كما أن النفس لا تتغير من حيث هي عما جبلت عليه من حب الدنيا وطلبها ، وإنما تتغير صفاتها من الأمارية إلى اللوّامية والملهمية والمطمئنية والرجوع إلى الحق ، ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت إلى طبعها { رب اغفر لي ولأخي } إشارة إلى أن اللوح والقلب استعداد قبول الجذبة الإلهية التي يدخلها بالسير في عالم الصفات { وكذلك نجزى المفترين } الذين يدّعون أن الله أعطاهم قوّة لا يضرهم عبادة الهوى والدنيا وشهواتها .

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

القراآت { عذابي أصيب } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع { أصارهم } على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل . الباقون على التوحيد .
الوقوف { لميقاتنا } ج للابتداء بكلمة الجزاء مع فاء التعقيب { وإياي } ط { منا } ج لتصدر « ان » النافية مع اتحاد القائل { فتنتك } ج لأن ما بعده مستأنف { وتهدي من تشاء } ط { الغافرين } ه { إليك } ط { من أشاء } ط للفصل بين الجملتين تعظيماً لشأنهما مع الاتفاق في اللفظ { كل شيء } ط للتبيين واختلاف الجملتين والفاء لاستئناف وعد على الخصوص { يؤمنون } ه ج لاحتمال ما بعده النصب أو الرفع على المدح والجر على البدل { الإنجيل } ج لأن { يأمرهم } يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو يأمرهم ، وأن يكون نعتاً أي مكتوباً أمراً أو بدلاً من { مكتوباً } أو مفعولاً بعد مفعول أي يجدونه أمراً ، أو يكون التقدير الأمي الذي يأمرهم فيكون كالبدل من الصلة { كانت عليهم } ط { أنزل معه } لا لأن ما بعده خبر « فالذين » . { المفلحون } ه { والأرض } ج لاحتمال ما بعده الابتداء والحال أي استحق ملك السموات غير مشارك { ويميت } ط لطول الكلام وإلا فالفاء للجواب أي إذا كنت رسولاً فأمنوا إجابة . { تهتدون } ه { يعدلون } ه .
التفسير : الاختيار افتعال من لفظ الخير يقال : اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره ومن هنا سمي فعل الحيوان فعلاً اختيارياً ، وذلك أن صدور الفعل عن الحيوان موقوف على حكمه بكون ذلك الفعل خيراً له من تركه . قال النحويون : أصله واختار موسى من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل ، فمن الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ثم يتسع فيحذف الحرف . من ذلك قولهم : اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيداً . وكذا استغفرت الله من ذنبي واستغفرته ذنبي . وجوّز بعضهم في الآية أن يراد بالقوم المعتبرون منهم إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم فيكون مفعولاً أوّل من غير واسطة ويكون { سبعين } بدلاً أو بياناً قيل : اختار من اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فصاروا اثنين وسبعين فقال : ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال : إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع . وروي أنه لم يجد إلا ستين شيخاً فأوحى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً . وقيل : كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سينا لميقات ربه . وللمفسرين خلاف في أن هذا الميقات عين ميقات الكلام والرؤية أم غيره؟ الذاهبون إلى الأوّل قالوا : إن موسى كان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فلما سمعوا الكلام طلبوا الرؤية وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد من الرجفة في هذه الآية .

والذاهبون إلى الثاني حملوا القصة على ما مر في البقرة في تفسير قوله { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك } وقد ذكرنا هنالك أن منهم من قال هذه الواقعة كانت قبل قتل الأنفس توبة من عبادة العجل ، ومنهم من قال إنها كانت بعد القتل . واحتج أصحاب هذا المذهب على المغايرة بأنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها ذكر قصة العجل ثم ختم الكلام بهذه القصة ، فظاهر الحال يتقضي أن تكون هذه القصة مغايرة لتلك القصة وإلا انخرم التناسب . عن علي عليه السلام أن موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبل فنام هارون فتوفاه الله تعالى ، فلما رجع موسى إلى قومه قالوا إنه قتل هارون فاختار من قومه سبعين فذهبوا إلى هارون فأحياه الله تعالى فقال : ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنالك . قيل : كانت موتاً . وقيل أخذتهم الرعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنقض ظهورهم فخاف موسى عليهم الموت فدعا الله تعالى وقال { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } قال في الكشاف : هذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا { أتهلكنا } جميعاً يعني نفسه وإياهم { بما فعل السفهاء منا } قال أهل العلم : لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى أهلك قوماً بذنوب غيره ، فهذا الاستفهام بمعنى الجحد أراد أنك لا تفعل ذلك كما تقول : أتهين من يخدمك تريد أنك لا تفعل ذلك ، وقال المبرد : إنه استفهام استعطاف أي لا تهلكنا . قيل : لو كان تسفيههم لقولهم { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ النساء : 153 ] ناسب أن يقال : أتهلكنا بما قاله السفهاء . فإذن التسفيه لفعل صدر عنهم كعبادة العجل أو غيرها ، ومنه يعلم أن هذا الميقات غير ميقات طلب الرؤية { إن هي إلا فتنتك } الضمير يعود إلى الفتنة أي كما تقول إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند قاله الواحدي . ولعله يعود إلى مقدر ذهني والمعنى أن الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك ابتلاءك ومحنتك حين كلمتني وسمعوا كلامك أو حين أسمعتهم صوت العجل { تضل بها } أي بالفتنة من تشاء فيفتتن { وتهدي من تشاء } فيثبت على الحق . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة ظاهرة على مذهبنا أن الإضلال والهداية من الله تعالى . وقالت المعتزلة : إن محنته لما كانت سببباً لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أو الضمر يعود إلى الرجفة أي { تضل } على الجنة بسبب عدم الصبر على تلك الرجفة ، أو لعدم الإيمان بأنها من عندك { من تشاء وتهدي } إلى الجنة بها الأضداد ما قلنا { من تشاء } أو المراد بالإضلال الإهلاك أي تهلك من تشاء بالرجفة وتصرفها عمن تشاء { أنت ولينا } يفيد الحصر أي لا ولي لنا ولا ناصر إلا أنت { فاغفر لنا وارحمنا } قيل : تذكر أن قوله { إن هي إلا فتنتك } جراءة عظيمة فأشرك نفسه مع قومه في طلب المغفرة والرحمة { وأنت خير الغافرين } لأن غفرانك غير متوقف على جلب نفع أو دفع ضر بل لمحض الفضل والكرم .

{ واكتب } أوجب { لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } نظيره سؤال المؤمنين من هذه الأمة { ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } [ البقرة : 201 ] وقد فسرنا في سورة البقرة . واعلم أن كونه تعالى ولياً للعبد يناسبه أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وإلهيته . وأيضاً اشتغال العبد بالتوبة والخضوع يناسب طلب هذه الأشياء . فذكر السبب الأوّل ثم رتب عليه الدعاء وختمه بالسبب الثاني وهو قوله { إنَّا هدنا إليك } قال أهل اللغة : النهود التوبة أي تبنا ورجعنا . وقد تم بذكر السببين عهد عز الربوبية وعهد ذل العبودية فلا يبعد وقوع الإجابة ولأن دفع الضر مقدم على تحصيل النفع ، قدم طلب المغفرة والرحمة على طلب إيجاب الحسنة في الدارين { قال } الله تعالى في جواب موسى { عذابي } من حالة وصفته أني { أصيب به من أشاء } إذا ليس لأحد عليّ اعتراض في ملكي . وقالت المعتزلة : أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة . وقرأ الحسن { من أساء } من الإساءة { ورحمتي } من شأنها أنها { وسعت كل شيء } قالت الأشاعرة : هذا من العام الذي أريد به الخاص . وقال أكثر المحققين : إن رحمته في الدنيا تعم الكل ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمته . وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وذلك قوله { فسأكتبها للذين يتقون } وقيل : الوجود خير من العدم فلا موجود إلا وهو مشمول بنعمته . وقيل : الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب . وقالت المعتزلة : الرحمة عبارة عن إرادة الخير ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة والخير واللذة وإن حصل هناك ألم فله أعواض كثيرة . واعلم أن تكاليف الله تعالى كثيرة ولكنها محصورة في نوعين : التروك والأفعال . فقوله { فسأكتبها للذين يتقون } إشارة إلى التروك . التكليف الفعلي إما ما لي وهو قوله { ويؤتون الزكاة } وإما غيره وذلك قوله { والذين هم بآياتنا يؤمنون } فإنه يشمل كل ما يجب على الإنسان علماً وعملاً . ثم ضم إلى ذلك اتباع النبي الأمي إلى آخره . وصف محمداً صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بصفات تسع : الأولى الرسالة .

الثانية النبوة . فإن قيل : النبوة مندرجة تحت الرسالة فلم أفردها بالذكر؟ قلت : لا بل بينهما عموم وخصوص من وجه فقد يكون رسولاً ولا يكون نبياً كقوله { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] وقد يكون نبياً لا رسولاً ككثير من الأنبياء ، فلا يكون أحد الوصفين على الإطلاق مغنياً عن الآخر . ولو سلم فذكر الآخر تتميم وتصريح بما علم ضمناً . الثالثة . كونه أمياً . قال الزجاج : معناه أنه على صفة أمة العرب . قال صلى الله عليه وآله : « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » وقيل : إنه منسوب إلى الأم أي إنه على هيئته يوم ولد لم يكتسب خطأ ودراسة . وكان هذا من جملة معجزاب نبينا صلى الله عليه وسلم وبيانه من وجوه : الأول أنه كان يقرأ عليهم كتاب الله منظوماً مرة بعد أخرى من غير تبديل . والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها وينقص ، فهذا المعنى من مدد سماوي كقوله { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] الثاني لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً بأنه طالع كتب الأوّلين ، ولما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على جلائل العلوم من غير تعلم ومطالعة عرف أنه من السماء وإليه الإشارة بقوله { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] الثالث : أن تعلم الخط لا يتفقر إلا إلى فطنة قليلة ومع ذلك كان الخط مشكلاً عليه . ثم إن الله تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من العالمين ، فالجمع بين هاتين الحالتين من الأمور الخارقة للعادة كالجمع بين الضدين . الصفة الرابعة { الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } الضمير في يجدون للذين يتبعونه من بني إسرائيل . ثم إن كان المراد أسلافهم فالوجه أن يراد بالاتباع اعتقاد نبوته من حيث وجدوا نعته في التوراة إذ لا يمكن أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثه إلى الخلق ، ويكون المراد من قوله { والإنجيل } أنهم يجدون نعته مكتوباً عندهم في الإنجيل فمن المحال أن يجدوه في الإنجيل قبل إنزال الإنجيل ، وإن كان المراد المعاصرين فالمعنى أن هذه الرحمة لا يفوز بها بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى واتبع نبي آخر الزمان في شرائعه ، وفي هذا دليل على أن نعته وصحة نبوّته مكتوب في التوراة والإنجيل ، وإلا كان ذكر هذا الكلام من أعظم القوادح والمنفرات لأهل الكتابين عن قبول قوله ، لأن الإصرار على الزور والبهتان يوجب نقصان حال المدعي فلا يرتكبه عاقل فلما أصر على ذلك دل على أن الأمر في نفسه كذلك . الخامسة والسادسة { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } وقد ذكرنا تفصيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آل عمران ومجامع ذلك محصورة في قوله صلى الله عليه وسلم :

« ملاك الدين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله » فإن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً على توحيد الله وتنزيهه فإنه يجب النظر إليها بعين الاحترام والإشفاق كما يليق بها . السابعة { ويحل لهم الطيبات } قيل : أي ما يستطاب طبعاً لأن تناول ذلك يفيد لذة . وقيل : يعني الأشياء التي حكم الله تعالى بحلها وزيف بأنه يجري مجرى قول القائل : ويحل المحللات وهو تكرار . ويمكن أن يجاب بأن المراد ويبين لهم المحللات . وفائدة العدول أن يعلم أن كل حلال مستطاب طبعاً وأن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا الدليل منفصل . وقيل : يعني ما يحرم عليه من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها . الثامنة { ويحرم عليهم الخبائث } قال عطاء عن ابن عباس : الميتة والدم ونحوهما من المحرمات . وقيل : كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا بدليل منفصل . التاسعة { ويضع عنهم إصرهم } الإصر الثقل الذي يأصر حبه أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لصعوبة تكاليفهم كاشتراط قتل النفس في صحة التوبة . وكذا الأغلال التي كانت علهيم مثل لما في شرائعهم من الأمور الشاقة كالقصاص بتة من غير شرع الدية ، وكقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب . وإحراق الغنائم ، وتحريم العروق في اللحم جعلها الله تعالى أغلالاً لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل . عن عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم ، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبدة . فالأغلال على هذا القول غير مستعارة ، وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار والمشاق الحرمة كما قال صلى الله عليه وسلم : « بعثت بالحنيفية السهلة السمحة » وهذا أصل عظيم في هذه الشريعة . ثم لما وصفه بالصفات التسع أكد الإيمان به بقوله { فالذين آمنوا به } قال ابن عباس : يعني من اليهود والأولى حمله على العموم { وعزروه } وقروه وعظموه . قال في الكشاف : وأصل العزر المنع ومنه التعزير للضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح . فالمراد ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّه ، وعلى هذا لم يبق بينه وبين قوله { ونصروه } فرق كبير { واتبعوا النور الذي أنزل معه } وهو القرآن أي أنزل مع نبوّته لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن أو يتعلق ب { اتبعوا } أي اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته ، واتبعوا القرآن كما اتبعه النبي مصاحبين له في اتباعه { أولئك هم المفلحون } الفائزون بالمطلوب في الدارين ، اعلم أنه سبحانه لما قال { فسأكتبها للذين يتقون } بين أن من شروط نزول الرحمة لأولئك المتقين كونهم متبعين لرسول آخر الزمان ، ثم أراد أن يحقق عموم رسالته إلى المكلفين فقال { قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً } وانتصابه على الحال من { إليكم } وفيه دليل على أن محمداً صلى الله عليه وآله مبعوث إلى الخلق كافة خلافاً لطائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أتباع عيسى الأصفهاني ، زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول صادق لكنه مبعوث إلى العرب خاصة وفساده ظاهر لأنه من المعلوم بالتواتر من دينه أنه كان يدعي عموم الرسالة فإن كان رسولاً إلى العرب وإلى غيرهم .

وزعم بعض العلماء أنه عام دخله التخصيص لأنه غير مبعوث إلى غير المكلفين بقوله : صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق » وأيضاً يمكن وجود قوم في طرف من أطراف العمارة لم يصل إليهم خبر وجوده فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوّته . والجواب أن رفع القلم عن الأصناف الثلاثة أيضاً حكم عليهم بهذا الاعتبار يدخلون تحت الخطاب وإن وجود قوم كما زعمتم من المستبعدات فلا يستحق الالتفات إليه . قال بعض الأكابر : إن الآية وإن دلت على أنه صلى الله عليه وسلم مبعثوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء ما كان مبعوثاً إلى كلهم . وقد تمسك جمع من العلماء بالحديث المشهور : « أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، وختم بي النبيون » ورد بأن مجموع هذه الأمور من خواصه لا كل واحد واحد ، وبأن آدم بعث إلى كل أولاده في ذلك الزمان فيكون مبعوثاً إلى كل الناس وقتئذ . ولا يخفى ضعف هذا الرد لأنا نعلم من دين محمد أنه خاتم النبيين وحده في رواية أخرى : « وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي » وإذا كان بعض هذه الأمور من خواصه لزم أن يكون كل واحد منها كذلك . وأيضاً أن آدم لم يكن مبعوثاً إلى حواء لأنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل ولا تقرباً . ثم لما أمر رسول الله بأن يقول للناس أني رسول الله إليكم أتبعه ذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى وأنها لا تتم إلا بتقرير أصول أربعة : أوّلها إثبات أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً وأشار إليه بقوله { الذي له ملك السموات والأرض } إذ لو لم يكن للعالم مؤثر موجب بالذات لا فاعل بالاختيار لم يمكن القول ببعثة الرسول . ومحل { الذي } نصب أو رفع على المدح أو جر بدلاً أو وصفاً لله . وثانيها أن إله العالم واحد وذلك قوله { لا إله إلا هو } إذ لو فرض إلهان لم يكن عبادة أحدهما أولى من عبادة الآخر .

وثالثها أنه تعالى قادر على الخير والشر والبعث والحساب كما قال { يحيى ويميت } وإنما لم يوسط العاطف بين هذه الجمل لأن كل واحد منها مبينة لما قبلها ، وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت أصل رابع وهو أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف . أما بالأصل الأوّل والثاني فلأنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ولا سيما إذا كان فرداً منزهاً عن الشريك والنظير مستقلاً بالأمر والنهي . وأما الأصل الثالث فلأنه يحسن من القادر تكليف المكلف بنوع من طاعته إيصالاً له إلى الجزاء إلى لذة الجزاء ، فإن تحصيل لذة الأجر بدون كونه أجر ممتنع وأشار إلى هذا الأصل الرابع بقوله { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي } اقتصر من الصفات المذكورة ههنا على الأمية لأنها أجل الأوصاف وأدلها على حقيته ، وذلك أنه لم يتفق له مطالعة كتاب ولا مصاحبة معلم لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبة طويلة يمكن التعلم فيها ومع ذلك فتح الله عليه أبواب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن الذي اشتمل على علوم الأوّلين والآخرين فليس ذلك إلا بتأييد سماوي وفيض إلهي . ثم وصفه بقوله { الذي يؤمن بالله وكلماته } لأن النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يكون ممن آمن بالله وبكتبه . وإنما لم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قول { إني رسول الله } بل عدل إلى المظهر ليمكن أن يجري عليه الصفات المذكورة . ولما في طريقة الالتفات من البلاغة ، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً من كان ، أنا أو غيري إظهاراً للنصفة واحترازاً عن العصبية . واعلم أن الكمالات إما نظرية وأشار إليها بقوله { فآمنوا بالله } وإما عملية وإليها الإشارة بقوله { واتبعوه } والأولى إشارة إلى التكاليف المستفادة من أقواله ، والثانية إشارة إلى المستفادة من أفعاله ، فإن كل فعل يصدر عنه وقد واظب عليه فلا بد أن يكون جانب فعله ذلك الفعل جانب فعله راجحاً على تركه . ثم إن ظاهر الأمر للوجوب فيجب علينا اتباعه وإن كان ذلك مندوباً له إلا أن يدل دليل منفصل على أن ذلك الفعل من خصائصه . ومعنى الترجي في { لعلكم تهتدون } قد مر في نظائره ولا سيما في أوّل البقرة في قوله { لعلكم تتقون } [ البقرة : 21 ] ثم لما ذكر الرسول وأنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن في قوم موسى من اتبع الحق وهدي إليه فقال { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } أي يهدون الناس بكلمة الحق { وبه } أي بالحق { يعدلون } بينهم في الحكم لا يجورون . وهذه الآية متى حصلت في أي زمان كانت؟ اختلف المفسرون في ذلك . فقيل : هم اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كعبد الله بن سلام وابن صوريا وغيرهما .

ولفظ الأمة قد يطلق على القليل إذا كان لهم شأن كما أطلق على الواحد في قوله { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] وقيل : إنهم قوم ثبتوا على دين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع ، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه ، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك ، وقال السدي وجماعة من المفسرين : إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين . ثم من المفسرين من قال : إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن بناء على أن خبر نبينا لم يصل إليهم فيهم معذورون ، ومنهم من استبعد عدم وصول الخبر إليهم مع أن خبر هذه الشريعة طار في كل أفق وتغلغل في كل نفق فقال : إنهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل ذهب به صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبرائيل : هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا : لا . قال : هذا محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي فآمنوا به . وقالوا : يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه مني السلام ، فرد محمد على موسى عليه السلام ثم أقرأهم عشر سور من القران نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت والله أعلم .
التأويل : { واختار موسى قومه } المختار من الخلق من اختاره الله تعالى { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة } [ القصص : 68 ] فالذي اختاره الله كان مثل موسى { وأنا اخترتك } [ طه : 13 ] . والذين اختارهم موسى كانوا مستحقين بسوء الأدب للرجفة والصعقة . وههنا نكتة هي أن قلب موسى عليه السلام لما كان مخصوصاً بالاصطفاء للرسالة والكلام دون القوم كان سؤاله للرؤية شعلة نار المحبة مقروناً بحفظ الأدب على بساط القرب بقوله { رب أرني أنظر إليك } قدّم عزة الربوبية وأظهر ذلة العبودية ، وكان سؤال القوم من القلوب الساهية اللاهية فتصاعد دخان الشوق بسوء الأدب فقالوا { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] قدّموا الجحود والإنكار وطلبوا الرؤية جهاراً فأخذتهم الصاعقة . فصعقة موسى كانت صعقة اللطف مع تجلي صفة الربوبية ، وصعقتهم كانت صعقة القهر عند إظهار صفة العزة والعظمة . ولما كان موسى عليه السلام ثابتاً في مقام التوحيد كان ينظر بنور الواحدة فيرى الأشياء كلها من عند الله ، فرأى سفاهة القوم من آثار صفات قهره فتنة واختياراً لهم فقال { إن هي إلا فتنتك } تزيع بها قلب من تشاء بأصبع صفة القهر ، وتقيم قلب من تشاء بإصبع صفة اللطف .

{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } الرؤية كما كتبت لمحمد صلى الله عليه وسلم { فسأكتبها } يعني حسنة الرؤية والرحمة { للذين يتقون } بالله عن غيره { ويؤتون } عن نصاب هذا المقام { الزكاة } إلى طلابه والذين هم بأنوار شواهد الآيات بالتحقيق لا بالتقليد يؤمنون ، وفي قوله { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } إشارة إلى أن في أمته من يكون مستعداً لاتباعه في هذه المقامات الثلاثة ، ومعنى الأمي أنه أم الموجودات وأصل المكوّنات كما قال صلى الله عليه وسلم : « أول ما خلق الله روحي » وقال حكاية عن الله لولاك لما خلقت الكون . فأما اتباعه في مقام الرسالة فبأن تأخذ منه ما أتاك وتنتهي عما نهاك { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] فالرسالة تتعلق بالظاهر والنبوة بالباطن فللعوام شركة مع الخواص في الانتفاع من الرسالة وللخواص اختصاص بالانتفاع من النبوة ، فمن أدى حقوق أحكام الرسالة في الظاهر يفتح له ببركة ذلك أحوال النبوة في الباطن فيصير صاحب الإشارات والإلهامات الصادقة والرؤيا الصالحة والهواتف المملكية ، وربما يؤل حاله إلى أن يكون صاحب المكالمة والمشاهدة والمكاشفة ، ولعله يصير مأموراً بدعوة الخلق إلى الحق بالمتابعة لا بالاستقلال كما قال صلى الله عليه وآله : « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » وأما اتباعه في مقام أمبته فذلك لأخص الخواص وذلك أنه صلى الله عليه وآله يرجع بالسير من مقام بشريته إلى مقام روحانيته الأولى ، ثم بجذبات الوحي أنزل في مقام التوحيد وهو قاب قوسين ، ثم اختطف بأنوار الهوية عن أنانيته إلى أو أدنى وهو مقام روحانيته ثم بجذبات النبوة أنزل في مقام التوحيد ، ثم اختطف بأنوار المتابعة عن أنانيته إلى مقام الوحدة فقد حظي من مقام أميته { مكتوباً عندهم } بالحقيقة هو مكتوب عنده في مقعد صدق { يأمرهم بالمعروف } وهو طلب الحق { وينهاهم عن المنكر } طلب ما سواه { ويحل لهم الطيبات } كل ما يقرّب إلى الله فإن الله هو الطيب { ويحرم عليهم الخبائث } الدنيا وما فيها { ويضع عنهم أصرهم } أي العهد الذي بين الله وبين حبيبه أو لا يوصل أحد إلى مقام أميته إلا أمته وأهل شفاعته كقوله : « الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم » فكان من هذا العهد عليهم شدة وأغلال يمنعهم من الوصول إلى هذا المقام . فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإصر والأغلال بالدعوة إلى متابعته ، وأشار إلى هذه المعاني بقوله { فالذين آمنوا به وعزروه } وقروه باعتقاد اختصاص هذا المقام به دون سائر الأنبياء والرسل ونصروه بالمتابعة { واتبعوا } نور الوحدة الذي { أنزل معه } له ملك سموات القلوب وأرض النفوس لا مدبر فيهما غيره ، يحيي قلب من يشاء من عباده بنور الوحدة ، ويميت نفسه عن صفات البشرية .

وكلماته هي ما أوحى إليه ليلة المعراج بلا واسطة { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } يعني خواصهم الذين يرشدون الخلق بالكتاب المنزل بالحق على موسى { وبه يعدلون } في الحكم بين العوام فشتان بين أمة غايتهم القصوى هي هداية الخلق وكان نبيهم محجوباً بحجاب الأنانية عند سؤال الرؤية فأجيب ب { لن تراني } وبين أمة أمية بلغوا بجذبات أنوار المتابعة إلى مقام الوحدة حتى سموا أمة أميين وقال في حقهم : « كنت له سمعاً وبصراً ولساناً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق » فلهذا دعا موسى عليه السلام : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقاء ربه فافهم جداً .

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

القراآت : { تغفر } بالتاء الفوقانية مضمومة وفتح الفاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل . الباقون : بالنون وكسر الفاء { خطاياكم } مجموعاً جمع التكسير : أبو عمرو { خطيئتكم } بالرفع وعلى الواحدة : ابن عامر { خطيئاتكم } بالرفع مجموعاً جمع السلامة : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب والمفضل . الباقون : مثله ولكن بالنصب الذي يليق بجمع سلامة المؤنث . { يسبتون } من الإسبات . زيد عن المفضل معذررة بالنصب حفص والمفضل . الباقون : بالرفع { يئس } مثل رئم : أبو جعفر ونافع { بيِّس } على فعيل كسيد : ابن عامر { بيئس } على فيعل بفتح العين : الأعشى والبرجمي . الباقون { بئيس } على فعيل . { تأذن } بالتليين : الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة في الوقف { تعقلون } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص . الباقون بياء الغيبة { يمسكون } من الإمساك : أبو بكر وحماد والآخرون بالتشديد .
الوقوف : { أمماً } ط وإن اتفقت الجملتان لأن { أوحينا } عامل { إذا استسقاه } دون { قطعنا } فإن تفريق الأسباط لم يكن في زمان الاستسقاء { الحجر } ط للحذف مع اتحاد الكلام أي فضرب فانبجست { عيناً } ط { مشربهم } ط { والسلوى } ط { ما رزقناكم } ط لحذف جمل أي قلنا كلوا ولا تدخروا فادخروا فانقطع عنهم { وما ظلمونا } ط { يظلمون } ه { خطيئاتكم } ط { المحسنين } ه { يظلمون } ه { البحر } لا كيلا يصير ما بعده ظرفاً لقوله { وأسألهم } فإنه محال { لا تأتيهم } ج لاحتمال تعلق { كذلك } به أي يوم لا يسبتون لا تأتيهم إتياناً كإتيانهم يوم السبت . والأصح أن كذلك صفة مصدر محذوف أي نبلوهم بلاء كذلك فالوقف على { كذلك } جائز أيضاً { يفسقون } ه { قوماً } { العذاب } ط { رحيم } ه { وأمماً } ج لاحتمال كون ما بعده صفة أو مستأنفاً { دون ذلك } ز للعطف على { قطعنا } فإن لم تجعل الجار صفة للأمم كان عطفاً مع عارض { يرجعون } ه { سيغفر لنا } ج { يأخذوه } ط { يتقون } ه { تعقلون } ه { الصلاة } ص على تقدير حذف أي لا نضيع أجرهم إذ هم المصلحون { ولا نضيع أجر المصلحين } ، وللوصل وجه على تقدير وضع الظاهر موضع الضمير أي إنا لا نضيع أجرهم المصلحين { واقع بهم } ط الحق المحذوف { تتقون } ه .
التفسير : إنه سبحانه ختم قصة بني إسرائيل بتعداد جمل من أحوالهم تبصرة للمكلفين بعدهم . ومعنى { قطعناهم } أي صيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم عن بعض كيلا يتحاسدوا ويتباغضوا فيقع بينهم الفتن والهرج . الأسباط أولاد الأولاد جمع سبط وأصله من السبط نبت يعتلفه الإبل فكان الأب كالشجرة والأولاد كالأغصان الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل من العرب وههنا سؤال وهو أن مميز ما عدا العشرة إلى تسعة وتسعين مفرد فهلا قيل اثني عشر سبطاً؟ وأجيب بأن كل قبيلة أسباط لا سبط فوضع أسباطاً موضع قبيلة كقوله :

بين رماحي مالك ونهشل ... ولهذا أنث اثنتي عشرة
وقال الزجاج : المميز محذوف و { أسباطاً } نعت لذلك المحذوف والتقدير : اثنتي عشرة فرقة أسباطاً . وقال الفارسي والجوهري : { أسباطاً } بدل من { اثنتي عشرة } والمميز كما قال الزجاج . وقوله { أمماً } بدل من { اثنتي عشرة } لأن كل أسباط كانت جماعة كثيرة العدد تؤم خلاف ما كانت تؤمه الأخرى . وباقي الآية إلى قوله { بما كانوا يظلمون } قد مر تفسيره في البقرة ، وكذا بيان المتشابهات فلنذكر النوع الآخر من أحوالهم . قوله تعالى { واسئلهم عن القرية } أي عن أهلها وليس المقصود تعرف هذه القصة من قبل اليهود لأنها معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى ، ولكن المراد تقرير ما كانوا قد أقدموا عليه من الاعتداء والفسق ليعلم أن هلم سابقة في ذلك ، وليس كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أول مناكيرهم . وقد يقول الإنسان لغيره : هل كان هذا الأمر كذا وكذا ليعرف ذلك الغير أنه محيط بتلك القصة؟ وفيه أنه إذا أعلمهم به من لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم علماً كان ذلك مستفاداً من الوحي فيكون معجزاً . والكثرون على أن تلك القرية أيلة ، وقيل مدين ، وقيل طبرية ، والعرب تسمي المدينة قرية . ومعنى { حاضرة البحر } قريبة من البحر وعلى شاطئه { إذ يعدون في السبت } يتجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت . ومحل { إذ يعدون } مجرور بدلاً عن القرية بدل الاشتمال أي واسألهم عن وقت عدوانهم . قال في الكشاف : يجوز أن يكون منصوباً بحاضرة أو بكانت بناء على أن كان الناقصة تعمل في غير الاسم والخبر وفيه نظر إذ لا معنى لكون القرية حاضرة البحر في قوت العدوان لأنها حاضرته في جميع الأحيان وقوله { إذ تأتيهم } منصوب ب { يعدون } أو مجرور بدلاً بعد بدل . والحيتان جمع الحوت وهو السمكة { شرعاً } ظاهرة على وجه الماء جمع شارع كركع وراكع وكل شيء دان من شيء فهو شارع ، ودار شارعة إذا دنت من الطريق ، ونجوم شوارع إذا دنت من المغيب ، فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها ، وعن الحسن تشرع على ابوابهم كأنها الكباش البيض . وقال ابن عباس ومجاهد : إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله تعالى به وحرم عليهم الصيد فيه ، وباقي القصة مذكور في البقرة ، وفيها دلالة على أن من أطاع الله تعالى خفف عليه أهوال الدنيا والآخرة ، ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلايا والمحن . قالت الأشاعرة : لو وجب رعاية الأصلح على الله تعالى لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية وهذا الاعتراض وارد على خلق إبليس وسائر أسباب الشرور . والنوع الثالث قوله { وإذ قالت } وهو معطوف على { إذ يعدون } وحكمه حكمه في الإعراب { أمة منهم } جماعة من صلحاء أهل القرية الذين بالغوا في موعظتهم حتى آيسوا الآخرين كانوا لا يتركون وعظهم { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } مدمرهم { أو معذبهم عذاباً شديداً } لعلمهم بأن عاقبة المعصية شؤم والمنهمك في الفساد لا يكاد يفلح { قالوا معذرة } من رفع فبتقدير هذه أو موعظتنا أو قولنا إبداء عذر إلى الله .

والمعذرة مصدر كالمغفرة ، ومن نصب فعلى أنَّا نعتذر معذرة أو وعظناهم معذرة إلى ربكم أي إذا طولبنا بإقامة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين { ولعلهم يتقون } ولأنا نرجو أن يتقوا بعض الاتقاء فيتركوا الصيد في السبت { فلما نسوا } يعني أهل القرية تركوا ما ذكرهم به الصالحون { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } ومعناه على اختلاف القراآت شديد من بؤس بأساً إذا اشتد . والظاهر أن هذا العذاب عير المسخ المتأخر في قوله { فلما عتوا } تكبروا وتمردوا أو أبوا عن ترك ما نهوا عنه بحذف المضاف لأن الإباء عن المنهي عنه يكون طاعة { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } والمراد أمر التكوين والإيجاد لا أن هناك قولاً . وقيل : فلما عتوا تكرير لقوله { فلما نسوا } والعذاب البئيس هو المسخ . عن الحسن : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزياً في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة . هاه وأيم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله جعل موعداً والساعة أدهى وأمر . وقد ذكرنا هذه القصة مع تحقيق المسخ في سورة البقرة إلا أنه بقي ههنا بحث هو أن أهل القرية كم فرقة كانوا؟ فقيل : فرقتان المذنبة والواعظة ، وأما الأمة القائلة « لم تعظون » فهم المذنبة بعينها قالوا للفرقة الواعظة { لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم } بزعمكم . والاعتراض على هذا القول أنه لو صح ذلك لكان اللائق أن يقال في الجواب معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون لأن الجميع خطاب من الفرقة الناهية للفرقة العاصية . والصحيح أنهم ثلاث فرق فرقة مذنبة وفرقة واعظة وفرقة قالوا للواعظين { لم تعظون } أما المذنبة فقد هلكوا بالاتفاق ، وأما الواعظة فقد نجوا . بقي الكلام في الثالثة : فعن ابن عباس أنه توقف فيهم وكان يقول فيهم ليت شعري ما فعل بهؤلاء . وعنه أيضاً أنهم هلكوا وكان إذا قرىء عليه هذه الآية بكى . وقال : أن هؤلاء الذين سكتوا عن النهي عن المنكر هلكوا ونحن نرى أشياء ننكرها ثم نسكت ولا نقول شيئاً . وعن الحسن أنهم نجوا لأنهم كانوا ينكرون عليهم ويحكمون بأن الله سيهلكهم أو يعذبهم وإنما تركوا الوعظ لأنهم لم يروا فيه غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال لقوم ، وإذا علم الناهي بحال المنهي وأن النهي لا ينجع فيه سقط عنه النهي . ولعل الواعظين لم يستحكم يأسهم بعد كما استحكم يأس هؤلاء أو لعلهم كانوا أحرص الطائفتين .

ولعل الأمة سألوا عن علة الوعظ سؤال المسترشدين لا سؤال المنكرين والله تعالى أعلم بالسرائر . النوع الرابع : { وإذ تأذن ربك } هو تفعل من الإيذان وهو الإعلام والمعنى عزم ربك لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه فكأنه يؤذن النفس بأنه يفعله وأجري مجرى فعل القسم في الجزم بالجزاء نحو « علم الله » و « شهد الله » . فأجيب بجواب القسم أي ختم ربك وكتب على نفسه { ليبعثن } ومعناه التسليط كقوله { بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد } [ الإسراء : 5 ] واختلف في العائد في { عليهم } فقيل : يرجع إلى الممسوخين بناء على أن لهم نسلاً . وقيل : إلى صلحاء تلك القرية فكأنه مسخ المعتدين وألحق الذل بالبقية . وقال الأكثرون : هم اليهود الذين أدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شريعته فثبتوا على الكفر واستمروا على اليهودية . أما العذاب فقيل : هو أخذ الجزية كانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم ، فلا تزال مضروبة عليهم إلى يوم القيامة . وقيل : الاستخفاف والإهانة . وقيل : القتل والقتال كما وقع في زمن بختنصر وغيره . وقيل : الإخراج عن الأوطان كما في يهود خيبر وبني قريظة والنضير . وإذ قد أخبر الله تعالى بلزوم الذل والصغار إياهم ونحن نشاهد أن الأمر كذلك فهو إذاً إخبار عن الغيب فيكون معجز . قيل : والخبر المروي في أن أتباع الدجال هم اليهود إن صح فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهود ، ثم دانوا بآلهيته فذكروا بالاسم الأول ، وإنما تكلف ذلك لأنهم يكونون في وقت اتباع الدجال قاهرين غالبين . النوع الخامس : { وقطعناهم في الأرض أمماً } فرقناهم فيها تفريقاً شديداً فلا يكاد يوجد بلد إلا وفيه منهم طائفة { منهم الصالحون } الذين كانوا في زمن موسى يهدون بالحق أو الذين هم وراء الصين . وعن ابن عباس ومجاهد : الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وآمنوا به . { ومنهم دون ذلك } أي ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه فيجوز أن يكون فيهم بعض الصلاح وإن كان أدون من صلاح الأولين إلا أن قوله بعد ذلك { لعلهم يرجعون } يدل على أن المراد بهم الكفرة الفسقة الباقية على ضد الخير والرشاد . ومحل { دون ذلك } رفع على أنه صفة مرفوع محذوف كما قلنا { وبلوناهم } عاملناهم معاملة المبتلى المختبر { بالحسنات } الخصب والعافية { والسيئات } بالجدب والشدائد { لعلهم يرجعون } لأن كلاً من الحالتين تدعو إلى الطاعة والإنابة والنعم بالترغيب والنقم بالترهيب { فخلف من بعدهم خلف } ظاهره يدل على أن الأوّل ممدوح والثاني مذموم . فالمراد فخلف من بعد أولئك الصلحاء خلف سوء . قال الجوهري الخلف القرن بعد القرن يقال : هؤلاء خلف سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم .

قال الأخفش : وقد يحرك ومنهم من يقول خلف سوء من أبيه بالتسكين وخلف صدق من أبيه بالتحريك قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
والخلف الردىء من القول يقال : سكت ألفاً ونطق خلفاً أي سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ { ورثوا الكتاب } أي التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي ولا يعملون بها { يأخذون عرض هذا الأدنى } أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها . يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر . وفي الإشارة بقوله { هذا الأدنى } تحقير وتخسيس . وأراد بالدنو القرب لأنه عاجل . أو دنو الحال وسقوطها وقلتها . والمراد كانوا يأخذونه من الرشا في تحريف الأحكام والنعوت { ويقولون سيغفر لنا } يؤاخذنا الله بما أخذنا . وإسناد الفعل إما إلى الجار والمجرور وإما إلى الأخذ الدال عليه { يأخذون } ، { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } الواو للحال أي يرجون المغفرة جزماً وهم مصرون والمراد الإخبار عن إصرارهم على الذنوب . وقال الحسن : هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يشبعون منها .
ثم بين نكث عهدهم فقال { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } أي التوراة . ومحل { ألا يقولوا على الله إلا الحق } رفع عطف بيان للميثاق المذكور في التوراة وهو أن لا يحرّفوا الكلم عن مواضعه ولا يقبلوا الرشا أو لا يصروا على الذنب مع الجزم بالغفران . فإن خلاف كل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله وتقول عليه ما ليس بحق . ويجوز أن يكون { ألا يقولوا } مفعولاً لأجله ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون « أن » مفسرة { ولا يقولوا } نهياً كأنه قيل : ألم نقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق؟ { ودرسوا } عطف على { ألم يؤخذ } لأنه تقرير كأنه قيل : أخذ عليهم الميثاق وقرأوا ما فيه أي أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم قد قرأوه ودرسوه . { والدار الآخرة خير } من ذلك العرض الخسيس { للذين يتقون } الرشا والمحرمات . ثم لما ذكر حال من ترك التمسك بالتوراة أتبعها حال من تمسك أي اعتصم به فقال { والذين يمسكون } الآية والتشديد للتكثير وفي إفراد إقامة الصلاة بالذكر مع أن التمسك بالكتاب مشتمل على كل عبادة إظهار لمزية الصلاة وإشعار بأنها عماد الدين . النوع السادس : { وإذ نتقنا الجبل } قال أبو عبيدة : أصل النتق قلع الشيء عن موضعه والرمي به ومنه امرأة ناتق إذا كثر ولدها كأنها ترمي بأولادها رمياً . والمعنى إذا قلعنا الجبل من أصله وجعلناه { فوقهم كأنه ظله } وهي كل ما أظلك من سقف أو حائط { وظنوا أنه واقع بهم } علموا وتيقنوا أنه ساقط عليهم . وقيل : قوي في نفوسهم أنه يقع بهم إن خالفوا . روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ .

وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم . فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً عل حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة . ولما نشر موسى الألواح وفيه كتاب الله لم يبق جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهودياً تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه . { خذوا } على إرادة القول أي قلنا لهم أو قائلين خذوا { ما آتيناكم } من الكتاب { بقوة } بجد وعزيمة على احتمال مشاقه وتكاليفه { واذكروا ما فيه } من الأوامر والنواهي ، أو من التعريض للثواب ، أو المراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله { إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة { لعلكم تتقون } ما أنتم عليه من الإباء .
التأويل : { القرية التي كانت حاضرة البحر } هي قرية الجسد الحيواني على شاطىء بحر البشرية ، وأهل قرية الجسد الصفات الإنسانية صنف روحاني كصفات الروح ، وصنف قلبي كصفات القلب ، وصنف نفساني كصفات النفس الأمارة بالسوء ، وكل قد نهوا عن صيد حيتان الدواعي البشرية في سبت محارم الله ، فلم تنتهك الحرمة إلا الصفات النفسانية { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً } لأن الإنسان حريص على ما منع فتهيج الدواعي في المحرمات دون المحللات { بما كانوا يفسقون } أي بما كان من طبيعة النفس وصفاتها من الخروج عن أمر الله أنها أمارة بالسوء { وإذ قالت أمة منها } هي صفات القلب قالوا لصفات الروح { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } بالمخالفات عند استيفاء اللذات والشهوات { أو معذبهم عذاباً شديداً } وهو المسخ بتبديل الصفات الإنسانية إلى الصفات الحيوانية { قالوا معذرة إلى ربكم } لأنه خلقنا هكذا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنقضي ما علينا ليعلم أنّا ما تغيرنا عن أوصافنا الروحانية والملكية ، ولعل النفس وصفاتها { يتقون } فتتصف بالمأمورية والاطمئنان فإنها قابلة لذلك { بعذاب بئيس } وهو إبطال استعداد قبول الفيض الإلهي { ليبعثن عليهم } على الأرواح والقلوب الذين يتبعون النفس وصفاتها { من يسومهم } وهو الشيطان المنظر إلى يوم القيامة { سوء العذاب } عذاب البعد عن الله وعذاب ذلة الخدمة للنفس والشيطان { وقطعناهم } فرقنا الأرواح والقلوب في أرض الأجساد { منهم الصالحون } قابلون لفيض نور الله { ومنهم دون ذلك } في القبول { وبلوناهم بالحسنات } وهي الطاعات { والسيئات } وهي المعاصي { لعلهم يرجعون } إلى الحق . وذلك أن السير إلى الله يتم بقدم الطاعة وبقدم ترك المعصية ومن هنا قيل خطوتان وقد وصلت . أو بلوناهم بالحسنات ليرجعوا إلينا بقدم الشكر ، والسيئات ليرجعوا بقدم الصبر أو بلوناهم بكثرة الطاعات والعجب بها كما كان حل إبليس وبكثرة المعاصي والندامة عليها كما كان حال آدم { فخلف } من بعد الأرواح والقلوب لما سلكوا طريق الحق ووصلوا إلى مقعد صدق خلفهم النفوس الأمارة بالسوء { ورثوا الكتاب } وهو ما ألهم الله تعالى الأرواح والقلوب من المواعظ والحكم والمعاني والأسرار وورثتها النفوس وجعلوها ذريعة للعروض الدنياوية وتحصيل المال والجاه واستيفاء اللذات { ويقولون سيغفر لنا } مثل هذه الزلات لأنا واصلون كاملون كما هو مذهب أهل الإباحة ، أو سيغفر لنا إذا اسغفرنا وهم يستغفرون باللسان لا بالقلب { وإذ نتقنا الجبل } فيه أن الإنسان لو وكل إلى طبعه ونفسه لا يقبل شيئاً من الأمور الدينية وإنما يعان على القبول بأمر ظاهر أو باطن .

وفيه أن على رؤوس أهل الطلب جبل أمر الحق وهو أمر التحويل فيحولهم بالقدرة إلى أن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى بقوة منه لا بقوتهم وإرادتهم .

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

القراآت : { ذريتهم } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف وابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل . الباقون : على الجمع { يقولوا } بياء الغيبة في الحرفين : أبو عمرو { يلهث ذلك } بالإظهار : حفص والأصفهاني عن ورش ، والحلواني عن قالون والنقاش عن أبي ربيعة عن قنبل { يلحدون } بفتح الياء والحاء : حمزة ، الباقون : بضم الياء وكسر الحاء من الإلحاد { ولقد ذرأنا } مظهراً : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ورش وعاصم غير الأعشى { ذرأنا } بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف . الباقون : بالهمز .
الوقوف : { أنفسهم } ج لأن التقدير وقال ألست بربكم مع اتحاد الكلام . بربكم ط فصلاً بين السؤال والجواب . { بلى } ج لأن { شهدنا } يصلح أن يكون من قولهم فيوقف على { شهدنا } ويعلق أن بمحذوف أي فعلنا ذلك لئلا تقولوا ، ويصلح أن يكون { شهدنا } من قول الملائكة أي قيل للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا فيكون منفصلاً من جملة بلى متصلاً بأن تقولوا . { غافلين } ه لا للعطف { من بعدهم } ج لابتداء الاستفهام واتحاد القائل . { المبطلون } ه { يرجعون } ه { الغاوين } ه { هواه } ج لأن قوله { فمثله } مبتدأ ولدخول الفاء فيه { كمثل الكلب } ج لابتداء الشرط من أن الجملة تفسير للمثل { أو تتركه يلهث } ط { بآياتنا } ط { يتفكرون } ه { يظلمون } ه { المهتدي } ج للعطف ولأن التفصيل بين الجملتين أبلغ في التنبيه { الخاسرون } ه { والإنس } ط والوصل أولى لأن الجملة بعده صفة ل { كثيراً } ، { لا يفقهون بها } ج لأن العطف صحيح ولكن الوقف لإمهال فرصة الاعتبار وكذا الثانية ولهذا كرر لفظة { لهم } في أول كل جملة { لا يسمعون بها } ط { أضل } ط { الغافلون } ه { فادعوه بها } ص لعطف المتفقتين { في أسمائه } ط { يعملون } ه { يعدلون } ه { لا يعلمون } وج وعطف { وأملي } على { سنستدرجهم } احسن من جعله مستأنفاً فيوقف على { أملي } ، { لهم } ، { متين } ه .
التفسير : لما شرح قصة موسى على أقصى الوجوه ذكر ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين . وفي الآية للمفسرين قولان : أحدهما ما روى مسلم بن يسار الجهني ان عمر بن الخطاب قال : سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : « إن الله تبارك خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون . قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت في عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار »

وهذا القول ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة والكلبي وابن عباس . وأما المعتزلة وأصحاب النظر والمعقولات فإنهم فسروا الآية بأنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى إلى أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشراً سوياً وخلقاً كاملاً ، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب في عقولهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقته وغرائب صنعته وكأنه قررهم وقال { ألست بربكم } وكأنهم { قالوا بلى } أنت ربنا { شهدنا على أنفسنا } وأقررنا بوحدانيتك . وباب التمثيل باب واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب نظيره { فقال له وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وقال الشاعر .
امتلأ الحوض وقال قطني ... وهذا القول الثاني غير منافٍ للقول الأول ولا هو مطعون في نفسه إنما الكلام في صحة القول الأول . والمنكرون طعنوا فيه بوجوه : منها أن قوله { من ظهورهم } بدل { من بني آدم } بدل البعض من الكل . فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم . وعلى هذا فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر بني آدم شيئاً . ويمكن أن يجاب بأنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد من آدم ومن فلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن ، وثبت إخراج الذرة من ظهر آدم بالخير ، فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن الطعن . ومنها أن أولئك الذر إن لم يكونوا عقلاء لم يمكن أخذ الميثاق منهم وإن كانوا عقلاء وجب أن يتذكروا تلك الحالة في هذا الوقت ، وبهذا الدليل بعينه يبطل التناسخ . ويحتمل أن يجاب بالفرق وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهوراً امتنع في مجرى العادة نسيانها ، وأما أخذ هذا الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصور النسيان فيه . ومنها أن جميع الخلق من أولاد آدم جمع عظيم وجم غفير ، وصلب آدم على صغره لن يتسع لذلك المجموع على أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم فكل واحدة من أولئك الذر لها بنية وإن كانت صغيرة والمجموع يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار ، وأجيب بأن البنية عندنا ليست شرطاً في الحياة والعقل . فمن الجائز أن يكون كل من الذر جوهراً فرداً . ومنها أن فائدة أخذ الميثاق أن يكون حجة عليهم في ذلك الوقت أو في الدنيا ، والإجماع منعقد على أنهم بسبب ذلك لا التكليف على الطفل فكيف يتوجه على الذر؟ وأجيب بأنه لا يسأل عما يفعل .

وإن المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء نطق فكذا ههنا ، ولا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق نطق . وقيل : إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة . ومنها أنه سبحانه قال { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] وقال { فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق } [ الطارق : 5 ، 6 ] وكون أولئك الذر أناساً ينافي كون الإنسان مخلوقاً من الماء والطين . والجواب لا يجوز أن يخرج الله تعالى من صلب آدم ذرة من الماء ثم منها ذرة أخرى وهلم جراً إلى آخر نسلها ثم يعدم الكل أو يميتها فتحصل الحياة للإنسان أربع مرات : أولها؟ وقت الميثاق ، وثانيها : في الدنيا ، وثالثا : في القبر ، ورابعها في القيامة ، ويحصل له الموت ثلاثة مرات بين كل حياتين واحد . ولا ينافي هذا حكاية قول الكفرة { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } [ غافر : 11 ] لأنهم قالوا ذلك بناء على حسب ظنونهم . أما قوله { أن تقولوا } فالتقدير : وأشهدهم على أنفسهم بكذا لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا { يوم القيامة أنا كنا عن هذا } المشهود له { غافلين } من قرأ بياء الغيبة فلأن الكلام على الغيبة وهو قوله { من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم } لئلا يقولوا . ومن قرأ على الخطاب فلأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله { ألست بربكم } وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى . { أو يقولوا } يعني الكفار إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا فقلدناهم في ذلك الشرك فكان الذنب لأسلافنا فكيف تعذبنا على هذا الشرك وهو معنى قوله { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } والحاصل أن الله تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع منهم التمسك بهذا العذر . وعند المعتزلة معناه أشهدنا عليهم كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم فلا عذر معهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء . وقال في الكشاف : المراد ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله ، وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله من أخلافهم المقتدين بآبائهم لأن الآيات السابقة في شأن اليهود . وكذلك قوله { واتل عليهم } أي على اليهود { نبأ الذي آتيناه آياتنا } أما قوله { وكذلك } أي ومثل ذلك التفصيل البليغ { نفصل الآيات } لهم { لعلهم يرجعون } وإرادة أن يرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل نفصلها أو يرجعوا إلى ما أخذ الله عليهم من الميثاق في التوحيد . ولبعض العلماء في الآية قول ثالث وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها ، وهذا العلم ليس مما يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب وهو المراد بأخذ الميثاق عليهم ، لكنها بعد التعلق بالأبدان يشغلها التعلق عن معلومها فربما تتذكر بالتذكير والتنبيه وربما لا تتذكر { واتل عليهم } على بني آدم أو اليهود خاصة .

وقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد : نزلت في بلعم بن باعوراء؛ وذلك أن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفاراً فطلبوا أن يدعو على موسى وقومه . وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم . فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليهم فاستجيب له ووقع موسى عليه السلام وبنو إسرائيل بدعائه في التيه . فقال موسى : يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال : بدعاء بلعم . فقال : كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه . ثم دعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله تعالى مما كان عليه ونزع عنه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته . ويقال أيضاً أنه كان نبياً من أنبياء الله تعالى فلما دعا عليه موسى عليه السلام انتزع الله تعالى منه الإيمان فكان كافراً وهذا بعيد لأنه سبحانه قال { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] وفيه أنه تعالى لا يشرف عبداً من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر عبيده بمزيد الشرف والفضل ، ومن كان هذا حاله فكيف يليق به الكفر؟ وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق : نزلت في أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى يرسل رسولاً في ذلك الوقت فرجا أن يكون هو فلما أرسل الله محمد صلى الله عليه وآله حسده ثم مات كافراً ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : « لقد كاد يسلم » وذلك أنه يوحد الله تعالى في شعره وذكر دلائل توحيده من خلق السماء والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار . وقيل : نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاسق وكان يتزهد في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وآله فمات هناك طريداً وحيداً وهو قول سعيد ابن المسيب . وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب وكانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي الحق عن الحسن والأصم . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيها ، وكانت له امرأة يقال لها البسوس وكان له منها ولد وكان يحبها فقالت : اجعل لي منها دعوة . قال : لك منها واحدة فماذا تأمرين؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل . فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئاً آخر فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان ، وجاء بنوها فقالوا : ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا بها الناس فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وبها يضرب المثل فيقال : « أشأم من البسوس » .

وقيل : هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم . ومعنى قوله { آتيناه آياتنا } عند الأكثرين علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عارفاً بها { فانسلخ منها } فخرج من محبة الله تعالى إلى معصيته ومن رحمته إلى سخطه . يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية إنه انسلخ منه . وقال أبو مسلم { آتيناه آياتنا فانسلخ منها } أي بيناها فلم يقبل وعري منها وتباعد كما هو شأن كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر . والقول الأول أولى لأن الانسلاخ يدل على أن الشيء كان موجوداً فيه ثم خرج منه لا على إنه لم يوجد فيه أصلاً . وأيضاً ثبت بالأخبار أن الآية نزلت في إنسان كان عارفاً بدين الله ثم خرج من المعرفة إلى الكفر والغواية وذلك قوله { فأتبعه الشيطان } أي أدركه ولحقه وصار قريناً له ، أو أتبعه الشيطان خطواته أو كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له { فكان من الغاوين } في علم الله تعالى أو فصار منهم { ولو شئنا لرفعناه } إلى منازل الأبرار { بها } أي بتلك الآيات { ولكنه أخلد إلى الأرض } أصل الإخلاد اللزوم على الدوام فكأنه قيل : لزم الميل إلى الأرض ومنه أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به . قال ابن عباس : معناه مال إلى الدنيا . وقاتل مقاتل : رضي بالدنيا . وقال الزجاج : سكن إلى الدنيا . وقال الواحدي : فهؤلاء فسروا الأرض بالدنيا لأن ما في الدنيا من الضياع والعقار كلها أرض وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وبها يكمل ويقوى ، ومعنى قوله { واتبع هواه } أنه أعرض عن التمسك بما آتاه من الآيات ، ثم إنه لو جاء الكلام على ظاهره لقيل : ولو شئنا لرفعنا بها ولكنا لم نشأ إلا أن قوله { ولكنه أخلد إلى الأرض } لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه . قالت الأشاعرة : لفظة « لو » تدل على أن الله تعالى قد لا يريد الإيمان ويريد الكفر . وقال الجبائيّ : معناه ولو شئنا لرفعناه بأعماله بأن يحترمه ونزيل التكليف عنه قبل ذلك الكفر حتى تسلم له الرفعة لكنا عرضناه بزيادة التكليف لمنزلة زائدة فأبى أن يستمر على الإيمان ، أو المراد لو شئنا لرفعناه بأن نحول بينه وبين الكفر قهراً أو جبراً إلا أن ذلك ينافي التكليف فلا جرم تركناه مع اختياره . وقال صاحب الكشاف : ومعناه لو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها ، وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل : ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله { ولكنه أخلد إلى الأرض } فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون { ولو شئنا } في معنى ما هو فعله .

ثم وضع قوله { فمثله كمثل الكلب } موضع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في هذا المعنى ومحل قوله { أن تحمل عليه } النصب على الحل كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالين ، ويجوز أن يكون تفسيراً للمثل كما مر . قال الليث : اللهث هو أن الكلب ونحوه إذا ناله الإعياء عند شدّة العدو وعند شدّة الحر فإنه يدلع لسانه من العطش ، وكل شيء يلهث فإنه يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في جميع أحواله لا لحاجة وضرورة بل لطبيعته الخسيسة . فمعنى الآية أن هذا الكلب إن شدّ عليه وهيج لهث ، وإن ترك لهث أيضاً لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له . عن ابن عباس : الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه . قيل : لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب فيكون هذا وجه التمثيل . واعلم أن التمثيل ما وقع بجميع الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث وأخس الحيوانات هو الكلب وأخس الكلاب هو اللاهث ، وإن الرجل إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا فذلك إنما يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكن من قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا فكانت حاله شبيهة بحال ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبداً من غير حاجة ولا ضرورة بل لمجرد الطبيعة الجسدية . وأيضاً هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسار عادة أصيلة وطبيعة ذاتية له كما أن ذلك الكلب إن شدّ عليه لهث وإن ترك لهث . ثم عمم بالتمثيل جميع المكذبين الضالين فقال { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } وقال ابن عباس : يريد أهل مكة كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ، ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته كذبوه . وقيل : هم اليهود قرأوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . { فاقصص القصص } يريد قصص المكذبين أو قصص بلعم الذي هو نحو قصص المكذبين { لعلهم يتفكرون } فيحذرون مثل عاقبته إذ ساروا نحو سيرته .

ثم ذكر تأكيداً آخر في باب التحذير فقال { ساء مثلاً لقوم } ولا بد من تقدير مضاف ليناسب التمييز المخصوص بالذم فيصير التقدير : ساء مثلاً القوم ، أو ساء أصحاب مثل القوم . وفي { ساء } ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده . وظاهر الآية يقتضي كون المثل مذموماً فقيل : كيف يتصور ذلك مع أن الله تعالى ذكره؟ والجواب أن الذم إنما يتوجه إلى ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها حتى صاروا في ذلك بمنزلة الكلب اللاهث . أما قوله { وأنفسهم كانوا يظلمون } فإما أن يكون معطوفاً على كذبوا فيدخل في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، وإما أن يكون كلاماً منقطعاً بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، وتقديم المفعول للاختصاص كأنه قيل : وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدها إلى غيرها . ثم بين أن الهداية والضلال بتقديره فقال { من يهد الله فهو المهتدي } وهو محمول على اللفظ من حيث إن « من » مفرد اللفظ ومن حيث إن اهتدى مطاوع هدى { ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } محمول على المعنى لأن من معناه ههنا الجمع ولأن الخسار ليس مطاوع والإضلال بل الإضلال . مطاوع له والخسار لازم اللازم . ولا يخفى أن ظاهر الآية موافق لمعتقد الأشاعرة أن الهداية والضلال بل جميع الأفعال بخلق الله تعالى ، والمعتزلة أولوها بأن المراد من يهد الله إلى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا ، ومن يضلله عن الجنة والثواب يضلله عن طريق الجنة . وقال بعضهم : التقدير من يهد الله فقبل هداه فهو المهتدي ، ومن يضل بأن لم يقبل فهو الخاسر . وقيل : من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ، ومن يضلله عن ذلك بما تقدم منه بسوء اختياره فأخرج لهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر ، وزيف بالعلم والداعي وبأن الأصل عدم الإضمار وبأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار وبالآية بعدها وهي قوله { ولقد ذرأنا } إلى آخره . وذلك أنه بين أنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم وقد علم ذلك في الأزل وخلاف مقدوره ومعلومه محال . وأيضاً العاقل لا يريد الكفر والجهل . الموجبين لدخول النار ، فحصول ذلك على خلاف قصده واجتهاده لا يكون إلا من قبل غيره ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مسبب الأسباب لا محالة . لا يقال العبد إنما يسعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الباطل لأنه اشتبه لأمر عليه وظنه اعتقاداً صحيحاً لأنا نقول على هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل جهل متقدم ، ولا تسلسل بل ينتهي إلى جهل حصل ابتداء فيتوجه الإلزام . قالت المعتزلة : الآيات الدالة على أنه سبحانه أراد من العبد الطاعة والعبادة والخير فقط كثيره كقوله

{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] وأيضاً أنه قال في معرض الذم { لهم قلوب لا يفقهون بها } إلى آخره . ولو كانوا مخلوقين للنار غير قادرين على الإيمان لم يحسن ذمهم . وأيضاً لو خلقهم للنار لما كان له نعمة على الكفار أصلاً لأن منافع الدنيا بأسرها لا اعتداد بها في جنب العذاب الدائم لكن القرآن مملوء من أنه تعالى منعم على جميع الخلائق . وأيضاً مذهبكم يوجب أن لا يكون للمدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب فائدة ، ولو خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم في النار ابتداء لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم . وأيضاً الآية متروكة الظاهر لأن لام الاختصاص لا تفيد فيها إلا إذا قدر « ولقد ذرأناهم » لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم فيجب بناؤها على قوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لأن ظاهره يصح من غير حذف . وعلى هذا أوجب أن تؤول الآية بأن اللام فيها لام العاقبة كقوله { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً } [ القصص : 8 ] أو يقال إنه جعلهم لإغراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه كأنهم مخلوقون للنار كقولهم ما خلق فلان إلا لكذا إذا كان غريقاً في بعض الأمور . وأجيب إجمالاً بأنه لا يسأل عما يفعل ، وتفصيلاً بأن النعمة وإن قلت فهي في نفسها نعمة ، وبأن الوسائط معتبرة ، وبأن حمل اللام على العاقبة تجوّز لا يصار إليه إلا لضرورة تصحيح المعنى ، وههنا لا ضرورة فقد تعاضدت الدلائل العقلية كالعلم والداعي والنقلية كآيات كثيرة على أن الكل من الله فوجب المصير إلى طرف الجبر ولا سيما فإن ما قبل هذه الآية وهو قوله { من يهد الله فهو المهتدي } وما بعدها وهو قوله { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم } يدل على ما قلنا . وأيضاً لا ريب أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالح الدنيا ، وكذا أعين مبصرة وآذان سامعة ، فالمراد أنهم كانوا يفقهون ويبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين . ثم إنه تعالى كلفهم تحصيل الدين مع عدم القابلية كيف وإن الكفار بلغوا في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شدة النفرة عن قبول دينه مبلغاً لا يكتنه كنهه . والعلم الضروري حاصل بأن حصول الحب والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حالة حاصلة في القلب كره الإنسان أو أراد ، حئنئذ يثبت القول بالجبر . وروى الشيخ أحمد البهقي في كتاب مناقب الشافعي أن عليّ بن أبي طالب عليه السلام خط الناس فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع ، وإن وجد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، فكل تقصير به مضر ، وكل إفراط له مفسد .

وهذا الفصل كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب ، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها . وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر . وذكر الإمام الغزالي في الإحياء فصلاً ثم قال : فإن قلت أني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري . أجبنا وقلنا : هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئاً شئت ، وإن شئت أن لا تشاءه لم تشأ ، ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له ، فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار . والله تعالى أعلم . قال بعض العلماء أنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم ، وفيه دليل على أن محل الفقه هو القلب . وأقول : ليس المراد بالقلب ههنا اللحم الصنوبري بل اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنساناً وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وبالروح . أما قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل } فتقريره أن الإنسان يشاركه سائر الحيوان في القوى الطبعية الغاذية والنامية والمولدة ، وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة ، وفي أحوال التخيل والتفكر . وإنما يحصل الامتياز بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فإذا لم تحصل هذه الغاية للإنسان صار في درجة الأنعام بل أضل وأدون لأن الذي أعرض عن اكتساب الفضائل مع القدرة على تحصيلها من حيث النوع كان أخس حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها . وقيل : وجه الأضلية أن الأنعام مطيعة لله والكافر غير مطيع . وقال مقاتل : الأنعام تعرف ربها وتبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيلها ودفعها ، وهؤلاء الكفار أكثرهم معاندون مصرون وقيل : إنها تفر أبداً إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها ، والكافر يهرب عن ربه إلى الأصنام . وقيل : إنها لا تضل إذا كان معها مرشد والكافر يضل بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة . وقال عطاء : إنهم الغافلون عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب . ثم نبه بقوله { ولله الأسماء الحسنى } على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكره سبحانه ، والمخلص من عذاب جهنم هو ذكره ، وكل من له ذوق وجد من نفسه أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن الذكر وأقبل على الدنيا وقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة فإذا فتح على قلبه الذكر خلص من نيران الآفات وخسران الحسرات إلى معرفة رب الأرض والسموات .

وهذا اللفظ مذكور في ثلاثة مواضع أخر : في آخر بني إسرائيل وفي أوّل طه وفي آخر الحشر . ومعنى حسن الأسماء حسن معانيها ومفهوماتها لأنها أسماء دالة على معاني الكمال ونعوت الجلا وهي محصورة في نوعين : عدم افتقاره تعالى إلى غيره وثبوت افتقار غيره إليه . وقد عرفت في تفسير البسملة أن أسماء الله تعالى لا تكاد تنحصر بحسب السلوب والإضافات ، فكل من كان وقوفه على أسرار حكمه في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله الحسنى أكثر . والآن نقول : إن من تقسيمات أسماء الله ما يقوله المتكلمون من أن صفات الله أنواع ما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه تعالى . ومنها أن يقال إن أسماء الله إما أن يجوز إطلاقها على غيره كالرحيم والكريم وإن كان معناها في حق الله مغايراً لمعناها في حق غيره ، وإما أن لا يجوز نحو « الله » و « الرحمن » . وقد يقيد القسم الأوّل بقيود مثل « يا أرحم الراحمين » و « يا أكرم الأكرمين » و « يا خالق السموات والأرضين » . ومنها أن يقال من الأسماء ما يمكن ذكره وحده كقولنا « يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم » . ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا « مميت » و « ضارّ » فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال « يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع » . ومنها أن يقال أوّل ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثاً للأشياء مرجحاً لوجودها على عدمها ، وذلك إنما يعلم بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه ، وذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة ، والأوّل باطل وإلا لزم دوام العالم بدوامه ، والثاني هو المعنيّ بكونه قادراً . ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالماً ثم نقول : إن القادر العالم يمتنع أن لا يكون حياً فظهر أن العلم بصفاته وبأسمائه ليس واقعاً في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض ، ومن البين أن الأسماء الحسنى لا تكون إلا لله تعالى لأن كل الشرف والجلالة يستلزم وجوب الوجود ، وكل نقص وخساسة فإنه يعقب الإمكان وكل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله تعالى . ومن هنا اختلف في أنه هل يطلق عليه اسم الشيء أم لا؟ وقد مر تحقيق ذلك في تفسير البسملة وفي الأنعام في قوله

{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } [ الأنعام : 19 ] أما قوله { فادعوه بها } ففيه دليل على أن الإنسان لا يجوز أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى بعد أن عرف معانيها ويكون مستحضراً الأمرين : عزة الربوبية وذلة العبودية ، كما أنه في قوله عند التحريم « الله أكبر » يشير إلى أنه لا نسبة لكبريائه وعظمته إلى ما سواه من الروحانيات والجسمانيات والعلويات والسفليات وإنما هو أكبر من هذه الأشياء وأكبر من أن يقال له أكبر من هذه الأشياء { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال ابن السكيت : الملحد العادل عن الحق والمدخل فيه ما ليس منه . يقال قد ألحد في الدين ولحد . وقال غيره من أهل اللغة : الإلحاد العدول عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه للحد الذي يحفر إلى جانب القبر . قال الواحدي : الأجود قراءة العامة ولا يكاد يسمع من العرب لأحد بمعنى ملحد . والإلحاد في أسماء الله تعالى يقع على ثلاثة أوجه : الاوّل : إطلاق أسمائه المقدسة على الأصنام كاشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز ، ومناة من المنان ، وكان مسيلمة الكذاب يسمى نفسه الرحمن . والثاني أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمع عن البدو وإن قالوا بجهلهم « يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، يا نخّي » بناء على أن النخوة مدح . الثالث : أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى كالرحمن مثلاً . قال بعض العلماء : إن ورود الإذن في بعض الأسماء لا يجوز إطلاق سائر الألفاظ المشتقة منه عليه ، فلا يجوز أن يقال « يا معلم » وإن ورد { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] وكذا في حق الأنبياء لا يجوز أن يقال إن آدم عاصٍ أو غاوٍ وإن ورد { وعصى آدم ربه فغوى } [ طه : 121 ] ثم أوعد الملحدين في أسمائه بقوله { سيجزون ما كانوا يعملون } ثم لما أخبر أن كثيراً من الثقلين مخلوقون لنار حكى أن بعضاً منهم مخلوقون للجنة فقال { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق } وقد مر مثل هذه الآية في قصة موسى فعن قتادة وابن جريج وابن عباس أن المراد في الآية أمة محمد صلى الله عليه وآله . وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : « إذ قرأها هذه الكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها » وعن الربيع بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال : « إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى » وعن الكلبي : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب . وقال الجبائي : هم العلماء والدعاة إلى الدين في كل حين ثم أعاد ذكر المكذبين وما عليهم من الوعيد فقال { والذين كذبوا بآياتنا } قال ابن عباس : يري أهل مكة والظاهر أنه عام . والاستدراج استفعال من الدرجة ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه ، وأدرج الكتاب إذا طواه شيئاً بعد شيء .

ومعنى الآية سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم { من حيث لا يعلمون } ما يراد بهم . وذلك أنهم كلما أقدموا على ذنب فتح الله عليهم باباً من أبواب الخير فيزدادون بطراً وانهماكاً في الغي والفساد ، ثم يأخذهم أغفل ما يكونون { وأملي لهم } أطيل لهم مدة عمرهم { إن كيدي متين } عن ابن عباس : يريد أن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي . يقال متن متانة . واحتجت الأشاعرة بألفاظ الاستدراج والإملاء والكيد في مسألة القضاء والقدر حتى قال بعض المجبرة : المراد سنستدرجهم إلى الكفر مع أنه فاسد لأن جزاء الكفر لا يكون كفراً آخر . وحملها المعتزلة على أن المراد سنستدرجهم إلى العقوبات إما في الدنيا وفي الآخرة ، وزيف بأن هذا الاستدراج والإمهال مما يزيد الكافر به كفراً وعتواً واستحقاقاً للعقاب ، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجباً لتلك الزيادات من العقوبة بل كان يجب في حكمته ورعايته للأصلح أن لا يخلقه ابتداء ، أو يميته قبل التكليف لما خلقه وألقاه في ورطة التكليف وأمهله ومكنه من المعاصي مع علمه بأن كل ذلك لا يفيده إلا مزيد استحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للنار كما قال { لقد ذرأنا لجهنم } الآية .
التأويل : { وإذا أخذ ربك } لم يقل « ربكم » ليعلم أن في الآية غموضاً لا يطلع عليه غيره صلى الله عليه وسلم وغير من أنعم الله به عليه من خواص متابعيه صلى الله عليه وسلم ، وأنه تعالى لم يكلم أحداً وهو يجيبه في العدم إلا بني آدم كلمهم وهم غير موجودين وأجابوه وهم معدومون فجرى بالجود ما جرى لا بالوجود ، فهذا بدايتهم وإلى أن تنتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى سمعهم وأبصارهم وألسنتهم { إنما أشرك آباؤنا } بأن رضوا بالأثنينية وما جعلوا إلى الوحدة بالفناء في الله { بما فعل المبطلون } الذين أبطلوا استعداد الرجوع إلى الوحدة لله { ولعلهم يرجعون } بهذه الدلالات من البداية إلى النهاية وهو مقام الوحدة { فانسلخ منها } أي وقع فرخ همته العلية عن ذكر طلب الحق ومحبته فأدركته هزة الشيطان وجعلته من الهالكين ليعلم أن المعصوم من عصمة الله وأن السلك الواصل يجب أن لا يأمن مكر الله فلا يفتح على نفسه أبواب التنعم والترفه ، ولا يميل إلى حب المال والجاه { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً } وهم مظاهر القهر { فادعوه بها } بأن تتصفوا بصفاته بالنيات الصالحات وبالأعمال الزاكيات ثم تتخلقوا بها بالأحوال بتصفية مرآة القلب ومراقبته عن التعلق بما سوى الله تعالى { والذين كذبوا بآياتنا } بأن لم توافق أقوالهم أفعالهم { سنستدرجهم } فينحطون عن مراتبهم بالتدريج والله أعلم .

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

القراآت : { فبأي } بتليين الهمزة حيث كان : الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف { ويذرهم } بالياء مرفوعاً : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير عياش والمفضل { ويذرهم } بالياء مجزوماً : عياش وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون مرفوعاً { أن أنا إلا } بالمد : أبو نشيط { شركاً } بكسر الشين وسكون الراء : أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد . الآخرون : { شركاء } على الجميع { يتبعوكم } مخففاً : نافع . الباقون : بالتشديد . { يبطشون } بضم الطاء يزيد { قل ادعوا } بكسر اللام للساكنين وكذا بابه : حمزة وعاصم وسهل ويعقوب وعياش . الآخرون : بالضم للإتباع { كيدوني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل والحلواني عن هشام في الوصل { ينظرون } بالياء في الحالين : يعقوب وافق سهل وعياش في الوصل . { إن وليّ الله } بياء واحدة مشددة : أبو زيد عن المفضل وشجاع وعياش إذا قرأ الإدغام الكبير { وليي } بثلاث ياآت : رويس والبرجمي . الباقون : بياءين أولاهما مشددة مكسورة والثانية مفتوحة .
الوقوف : { من جنة } ط { مبين } ه { من شيء } لا لأن التقدير وفي أن عسى { أجلهم } ط لابتداء الاستفهام مع الفاء { يؤمنون } ه { هادي له } ط لمن قرأ { ويذرهم } . بالرفع على الاستئناف ، ومن جزم فلا وقف لأنه معطوف على موضع { فلا هادي له } ، { يعمهون } ه { مرساها } ط { عند ربي } ج لاختلاف الجملتين { إلا هو } ط { والأرض } ط { بغتة } ط { عنها } ط { لا يعلمون } ه { ما شاء الله } ط { من الخير } ج لاحتمال أن يفسر السوء بالجوع فيكون معطوفاً على جواب « لو » . واحتمال أن يفسر بالجنون الذي نسبوه إليه فيكون ابتداء نفي { يؤمنون } ه { إليها } ج لأجل الفاء { فمرت به } ج لذلك { الشاكرين } ه { فيما آتاهما } ج لابتداء التنزيه ووجه الوصل تعجيل التنزيه { يشركون } ه { وهم يخلقون } ه والوصل أولى للعطف { ينصرون } ه { لا يتبعوكم } ط { صامتين } ه { صادقين } ه { يمشون بها } ز لأن « أم » عاطفة مع أنها في معنى ابتداء استفهام للإنكار الثانية والثالثة كذلك { يسمعون بها } ط { ينظرون } ه { الكتاب } ط والوصل أولى لتكون الواو عاطفة { الصالحين } ه { وينصرون } ه { لا يسمعوا } ط { لا يبصرون } ه .
التفسير : إنه تعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين عن آياته الغافلين عن التأمل في بيناته عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال { أو لم يتفكروا } وإذا علم أن الرؤية بالصبر حالة مخصوصة بالانكشاف والجلاء ولها مقدمة هي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي ، كذلك رؤية البصيرة وهي المسماة بالعلم واليقين حال متعينة بالوضوح والإنارة ولها مقدمة هي تقليب حدقة القلب إلى الجوانب طلباً لذلك ، وهذه الحالة تسمى بنظر العقل وفكرته . وفي اللفظ محذوف والتقدير : أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة وهي حالة من الجنون كالجلسة .

كان جهال أهل مكة ينسبونه إلى الجنون لوجهين : أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يغشاه حالة عجيبة عند الوحي شبيهة بالغشي يتربد وجهه ويتغير لونه ، والثاني أن فعله وهو الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والدعاء إلى الله تعالى كان مخالفاً لفعلهم . وعن الحسن وقتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلاً على الصفا يدعو فخذاً فخذاً من قريش : يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله وعقابه . فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح إلى الصباح . فأمرهم الله تعالى بالتفكر والتدبر في أمره وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده ويقيم عليهم الدلائل القاطعة بألفاظ فصيحة عجز الأولون والآخرون عن معارضتها ، وكان حسن الأخلاق طيب العشرة مرضي السيرة مواظباً على أعمال حسنة ، صار بسببها قدوة لعقلاء العالمين ، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإنما هو نذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين . ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على دلائل التوحيد قال { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } أي في مدلولاتهما . والملكوت الملك العظيم ، وفي إنكار عدم النظر دلالة على وجوب الاستدلال فيما للعقل إليه سبيل وقد مر في هذا الكتاب كيفية دلالة السموات والأرض على وجود الصانع ولا سيما في سورة البقرة عند قوله { إن في خلق السموات والأرض } [ البقرة : 164 ] ثم قال { وما خلق الله من شيء } أي مما يقع عليه اسم الشيء من اجناس غير محصورة . والغرض التنبيه على أن الدلالة على التوحيد ليست مقصورة على السموات والأرض ، بل كل ذرة من ذارت هذا العالم . فيها برهان باهر ودليل ظاهر على الوحدانية لأنها مختصة بحيز معين من الأحياز غير المتناهية ، وبقدر معين من الأقدار ، وبوضع معين من الأوضاع وكذا الكلام في لونها وشكلها وطبعها وطعمها وسائر صفاتها ، وكل واحد من هذه الاختصاصات لا بد له من مخصص ولا بد من الانتهاء إلى واجب واحد في ذاته وفي جميع اعتباراته { وأن عسى } هي مخففة من الثقيلة والأصل « وأنه عسى » على أن الضمير للشأن وفي أن يكون ضمير الشأن أيضاً والمعنى : أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى { أن يكون } الشأن { قد اقترب أجلهم } الموت أو القيامة . وإذا كان أحد هذين الاحتمالين قائماً وجب على العاقل المسارعة إلى هذا الفكر والنظر سعياً في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم ، أما قوله { فبأي حديث بعده يؤمنون } فمتعلق بقوله { عسى أن يكون } كأنه قيل : لعل أجلهم قد أقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا .

ودلالة في إطلاق لفظ الحديث على القرآن على أنه ليس بقديم لأن المراد بالحديث ما يرادف الكلام ، ولو سلم فإنه محمول على الألفاظ والكلمات ولا نزاع في حدوثها ، قوله { من يضلل الله } قد سبق تفسير مثله ، ثم لما تكلم في النبوة والتوحيد والقضاء والقدر أتبعه الكلام في المعاد فقال { يسألونك عن الساعة } وأيضاً لما ذكر اقتراب الأجل بين أن وقت الساعة مكتوم عن الأفهام ليصير ذلك حاملاً للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الفرائض . ومن السائل؟ عن ابن عباس أنهم اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً فإنا نعلم متى هي . وعن قتادة . إنهم قريش قالوا : يا محمد إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة . قال في الكشاف . الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا ، سميت القيامة ساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها كما يقال للحبشي أبو البيضاء ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق و { أيان } استفهام عن الزمان ويختص بالأمور العظام نحو { أيان مرساها } [ النازعات : 42 ] { وأيان يوم الدين } [ الذاريات : 12 ] ولا يقال أيان نمت . وكسر همزته لغة بني سليم . وعن ابن جني أن اشتقاقه من أيّ « فعلان » منه وأيّ فعل من أويت إليه لأن البعض يأوي إلى الكل ، وأنكر أن يكون اشتقاقه من « أين » لأنه للزمان و « أين » للمكان ولقلة « فعال » في الأسماء وكثرة « فعلان » فيها . وقال الأندلسي : أصله « أي أو أن » حذفت الهمزة مع الياء الأخيرة فبقي « أيوان » فأدغم بعد القلب . وقيل : أصله « أي آن » بمعنى « أيّ حين » فخفف بحذف الهمزة فاتصلت الألف فاتصلت الألف والنون بأي . ورد بأن « آنا » لا يستعمل إلا بلام التعريف . والمرسى بمعنى الإرساء والإثبات ، والرسّو الثبات والاستقرار ولعله لا يطلق إلا على ما فيه ثقل ومنه رسا الجبل وأرست السفينة ولا أثقل من الساعة على الخلائق { قل إنما علمها } أي علم وقت إرسائها وإثباتها وإقرارها { عند ربي } قد استأثر به لم يخبر به أحداً من ملك مقرب ولا نبي مرسل يكاد يخفيها من نفسه ليكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى وقت الموت لذلك { لا يجليها } لا يظهرها { لوقتها } أي للخبر عن وقتها قبل مجيئها أحد { إلا هو } والحاصل أنه لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإخبار والإعلام إلا هو { ثقلت في السموات والأرض } قال الحسن : أي ثقل مجيئها على أهل السموات لانشقاق السماء وتكوير الشمس وانتثار النجوم ، وعلى أهل اللأرض لأن في ذلك اليوم فناءهم وهلاكهم . أو ثقل هذا اليوم على الخلائق بما فيه من الشدائد والأهوال ، أو ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين عليهم أي أشكل واستبهم حتى صار ثقيلاً على الأفهام { لا تأتيكم إلا بغتة } إلا فجأة على حين غفلة منكم .

وهذه الجمل مؤكدات ومبينات لما تقدمها ولهذا فقد العاطف . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه » وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك » ثم كرر { يسألونك } للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله { كأنك حفي عنها } فكان السؤال الأول عن وقت قيام الساعة ، والسؤال الثاني عن كنه ثقل الساعة شدتها ومهابتها ولهذا خص باسم الله في قوله { قل إنما علمها عند الله } لأن أعظم أسماء الله مهابة هو الله ، وأما الرب فيدل على التربية والرحمة دون الهيبة والعزة ، وفي الحفي وجوه : فقيل إنه البار اللطيف و « عن » بمعنى « الباء » أي كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم وهذا قول الحسن وقتادة والسدي ، والضمير عائد إلى قريش التي ادعت القرابة وجعلوها وسيلة إلى أن يخبرهم بالساعة . والمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما داموا على كفرهم ولو أخبرت بوقتها وأمرت بالإخبار عنها لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك . وعلى هذا القول جاز أن يكون { عنها } متعلقاً ب { يسألونك } أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها فحذف قوله « بها » لطول الكلام أو لأنه معلوم . وقيل : { عنها } يتعلق بمحذوف . وحفي « فعيل » من حفي فلان بالمسألة أي استقصى ، والمعنى كأنك بليغ في السؤال عنها لأن من أكثر السؤال علم . وهذا التركيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب ، وأحفى في المسألة إذا ألحف . وقيل : المراد كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتؤثره يعني أنك تكره السؤال عنها لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنه مختص بذلك العلم أو لا يعلمون أن القيامة حق وإنما يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا ، أو لا يعلمون السبب الذي لأجله خفيت معرفة وقتها المعين عن الخلق . ثم أمر نبيه بإظهار ذلة العبودية حتى لا ينسب إليه نقص ولا يعاب من قبل عدم العلم بالغيب فقال { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } وفيه أن قدرته قاصرة وعلمه قليل ، وكل من كان عبداً كان كذلك ، والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليس إلا لله تعالى . واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال قالوا : الإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى .

وأجابت المعتزلة بأن المراد لا أملك لنفسي من النفع والضر إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه . وظاهر الآية وإن كان عاماً إلا أنها مخصوصة بصورة النزول . قال الكلبي : إن أهل مكة قالوا : يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح ، وبالأرض التي يريد أن تجدب فترتحل عنها إلى ما قد أخصب ، فأنزل الله هذه الآية ، فالمراد بالخير في قوله { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } هو جلب منافع الدنيا وخيراتها من الخصب والأرباح والأكساب . وقيل : المراد ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم بالغيب لكنت أعلم أن الدعوة إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في لك فكنت أشتغل بدعوة هذا دون ذاك . وقال بعضهم : « لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق جاء في الطريق ريح نفرت ناقته منها فأخبر صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال : » انظروا أين ناقتي « . فقال عبد الله بن أبيّ لقومه : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته . فقال صلى الله عليه وآله : » إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة « فوجدوها على ما قال فنزلت » أما قوله { وما مسني السوء } فمعناه لكان حالي على خلاف ما هي عليه من المغلوبية في بعض الحروب والخسران في بعض التجارات والأخطاء في بعض التدبير { إن أنا } إلا عبد مرسل للنذارة والبشارة وما من شأني أن أعلم الغيب . وقوله { لقوم يؤمنون } إما أن يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير وهو للكافرين محذوفاً للعلم به كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] أو يتعلق بالوصفين جميعاً إلا أن المؤمنين لما كانوا هم المنتفعين به خصوا بالذكر كقوله { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] واعلم أن أكثر ما جاء في القرآن من لفظي الضر والنفع معاً جاءا بتقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد يعبد معبوده خوفاً من عقابه أولاً ثم طمعاً في ثوابه ثانياً يؤيده قوله { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [ السجدة : 16 ] وحيثما تقدم النفع على الضر فذلك لسابقة لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة تقدم لفظ الهداية على الضلال في قوله { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل } [ الكهف : 17 ] وتقدم الخير على السوء في قوله { لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } وفي الرعد تقدم ذكر الركوع في قوله { طوعاً وكرهاً } [ آل عمران : 83 ] والطوع نفع . وفي الفرقان تقدم قوله { هذا عذاب فرات } [ الفرقان : 53 ] وهو نفع وفي سبأ تقدم البسط في قوله { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد : 26 ] وقس على هذا .

ثم رجع إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك فقال { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } والمروي عن ابن عباس أنها نفس آدم وقد تقدم مثل ذلك في أول سورة النساء . قال مجاهد : كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد فقال لهما الشيطان : إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث وذلك قوله { فلما آتاهما صالحاً } ولداً سوياً { جعلا } يعني آدم وحوّاء { له شركاء } والمراد تسميته بعبد الحرث وهذا تمام القصة وقد زيفها النقاد بوجوه منها : أنه تعالى قال { فتعالى الله عما يشركون } بلفظ الجمع لا التثنية ومنها قوله { أيشركون ما لا يخلق شيئاً } إلى آخر الآيات وفي ذلك تصريح بأن المراد الأصنام ولو كان المراد إبليس لكان « أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهو يخلق »؟ . ومنها أن آدم عليه السلام كان عالماً بجميع الأسماء فكيف ضاقت عليه الأسماء ، أم كيف لم يعرف أن اسم إبليس كان حارثاً ، أم كيف لم يتنبه لغدر إبليس بعد أن جرى عليه منه ما جرى؟ ومنها أنه أراد بذلك اسم علم أو اسم صفة والأوّل لا يستلزم محذوراً إلا أن أسماء الأعلام لا تفيد في المسميات فائدة فلا يلزم الإشراك ، والثاني يوجب الكفر الصريح ولا قائل بإمكان نسبته إلى آدم فعند ذلك ذكر العلماء في تأويله وجوهاً : أحدها أن هذا مثل فكأنه تعالى يقول هو الذي خلقكم أي كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية يسكن أي تلك النفس ، فذكر بعد ما أنث حملاً على المعنى ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويطمئن إليها فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى { فلما تغشاها } أي جامعها لأنه إذا علاها صار كالغاشية لها { حملت حملاً خفيفاً } قالوا : يريد النطفة . والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الجرة ، وبكسر الحاء ما حمل على الظهر أو على الدابة { فمرت به } أي استمرت وقضت على ذلك الحمل من غير إذلاق . وقيل : فقامت وقعدت به من غير ما ثقل . وقيل : المراد بالخفة أنها لم تلق ما تلقاه بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى { فلما أثقلت } كان وقت ثقل حملها ولادتها { دعوا } أي الزوج والزوجة { الله ربهما } ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا { لئن آتيتنا صالحاً } ولداً قد صلح بدنه أو ولد ذكراً لأن الذكورة من الصلاح والجودة { لنكونن من الشاكرين } لنعمائك { فلما آتاهما صالحاً } كما طلب { جعلا له شركاء } ومن قرأ { شركاً } فعلى حذف المضاف أي ذوي شرك وهم الشركاء أيضاً . أو المراد أحدث لله إشراكاً في الولد لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع ، وتارة إلى الكواكب ، وتارة إلى الأوثان والأصنام ، وثانيها أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم آل قصيّ والمعنى : هو الذي خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية قرشية ، فلما أتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار .

والضمير في { يشركون } لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك ، وثالثها سلمنا أن الآية وردت في قصة آدم إلا أنه لا يجوز أن يكون قوله { جعلا } وارداً بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد؟ . ثم قال { فتعالى الله عما يشركون } أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الإنعام ثم يقول لذلك المنعم إن ذلك المنعم عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة إنه بريء من ذلك . فغرضه من قوله « إنه يقابلني بالشر » النفي والتبعيد . أو نقول : لم لا يجوز أن يكون قوله { جعلا له } على حذف المضاف أي جعلا أولادهما له شريكاً؟ وكذا فيما { آتاهما } أي آتى أولادهما عبر عنهم بلفظ التثنية مرة لكونهم صنفين أو نوعين ذكراً وأنثى وبلفظ الجمع أخرى وهو قوله { فتعالى الله عما يشركون } سلمنا أن الضمير في { جعلا } وفي آتاهما } لآدم وحواء إلا أنهما كانا عزماً أن يجعلا وقفاً على خدمة الله وطاعته ثم بدا لهما فكانا ينتفعان به في مصالح الدنيا ، فأريد بالشرك هذا القدر . وعلى هذا فإنما قال تعالى { عما يشركون } لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين . أو نقول : إنما سمياه عبد الحرث اعتقاداً منهما إنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه ، وقد يسمى المنعم عليه عبد المنعم ومنه قول بعض العلماء أنا عبد من علمني حرفاً . فلما حصل الإشراك في لفظ العبد صارا معاتبين بذلك والله تعالى أعلم . ثم أقام الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقال { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } اعتبر اللفظ أوّلاً فوحد والمعنى ثانياً ، وإنما جمع بالواو والنون بناء على معتقدهم أنهم عقلاء . واحتجت الأشاعرة بها في مسألة خلق الأعمال فإنها تدل على أن غير الله لا يخلق ثم بيّن أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فقال { ولا يستطيعون لهم نصراً } وهو المعونة على العدة { ولا أنفسهم ينصرون } ولا يدفعون عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه . والحاصل أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تقتص ممن عصاها بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم .

ثم ذكر أنها كما لا تنفع ولا تضر فكذلك لا علم لها بشيء من الأشياء وأنها لا يصح منها إذا دعيت إلى الخير والصلاح الاتباع ولا ينفصل حال من يخاطبهم ممن يسكت عنهم فقال { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } ويجوز أن يكون المراد وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله بدليل قوله بعد { فادعوهم فليستجيبوا لكم } ثم قوّى هذا الكلام بقوله { سواء عليكم أدعوتموهم أو أنتم صامتون } وإعرابه شبيه بما تقدم في أول سورة البقرة في قوله { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } [ البقرة : 6 ] وإنما عطف الاسمية على الفعلية لأن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم ومعضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام ، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين فقيل لهم : لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم . ثم أكد بيان أنها لا تصلح للإلهية بقوله { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } فسئل أنه كيف يحسن وصف الجمادات بأنها عباد؟ وأجيب بعد تسليم اختصاص العباد بالعقلاء بأن ذلك ورد على معتقدهم أنها عقلاء . وفيه أيضاً نوع من الاستهزاء أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلم قبلتموها آلهة لكم وأرباباً؟ . ثم بين عدم التفاضل بقوله { فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } في أنها آلهة ولام الأمر للتعجيز فإنه إذا ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للعبودية وأنها والعباد سواء بل هم أخس وأدون بدليل قوله { ألهم أرجل يمشون بها } الآية . وذلك أن كل ما هو من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء والآلات فإذا كان فيها قوي محركة ومدركة كان هو أفضل ممن خلت أعضاؤه عن هذه القوى فكيف يليق بالأفضل الأكرم الأشرف خدمة المفضول الخسيس الدنيء؟ وإنما قلنا كل ما من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء لأن من جل عن ثبوت هذه الأعضاء والجوارح له فعدم هذه الأشياء بالنسبة إليه فضيلة وكمال ، فإن القادر القاهر من غير افتقار إلى آلة وعدّة كان أشرف ممن يفتقر في أفعاله إلى الآلات فضلاً عمن لا فعل لآلته ، فلا يرد اعتراض بعض أغمار المشبهة أن الله تعالى لو لم تكن له هذه الأعضاء لكان عدمها دليلاً على عدم إلهيته .
ثم إنهم كانوا يخوّفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بآلهتهم كما قال قوم هود { أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] فقال عز من قائل لنبيه { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون } أمر من الكيد المكر { فلا تنظرون } نهي عن الإنظار والإمهال والخطاب لهم ولشركائهم جميعاً .

وهذا قول واثق بعصمة الله أن لا يبالي بغي الله كائناً من كان . ثم لما أمره صلى الله عليه وسلم بالتبري حثه على التولي فقال { إن وليي } أي ناصري عليكم { الله } الآية . وفيه أن الواجب على كل عامل عبادة الذي يتولى تحصيل منافع الدارين . أما الدينية الأخروية فبسبب إنزال الكتاب المشتمل على العلوم الجمة ، وأما الدنيوية فهو المراد بقوله { وهو يتولى الصالحين } أي من عباده أن ينصرهم فلا يضرهم عداوة من عاداهم في ذلك يأس المشركين أن يضره كيدهم . يحكى أن عمر بن عبد العزيز كان لا يدخر لأولاده شيئاً فقيل له في ذلك فقال : إما أن يكون ولدي من الصالحين فوليه الله ولا حاجة له إلى مالي ، وإما أن يكون من المجرمين وقد قال تعالى { فلن أكون ظهيراً للمجرمين } ومن رده الله لم أشتغل باصلاح مهماته . أقول : وفي التقريب بالآية الثانية نظر لأنها حكاية كلام موسى اللهم إلا أن يقال التقريب في التقرير . ثم أعاد وصف الأصنام بمثل الصفات المذكورة فقال { والذين تدعون من دونه } الآية . قال الواحدي : إنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من يجوز له العبادة وبين من لا يجوز كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكون صالحة للإلهية { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } لا سماع سمع ولا سماع إجابة { وتراهم } تحسبهم { ينظرون إليك } يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليك { وهم لا يبصرون } لا يدركون المرئي . وقيل : الضمير في قوله { وإن تدعوهم } إلى آخر الآية يعود إلى المشركين المار ذكرهم في قوله { قل ادعوا } والمراد أنهم بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا بعقولهم ألبتة { وتراهم } إلى الناس وإليك ينظرون ولكنهم لشدّة إعراضهم عن قبول الحق لم ينتفعوا بذلك النظر فكأنهم عمي يصدقه قوله في موضع آخر { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [ الحج : 46 ] .
التأويل : { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } لأرباب العقول النظر والاستدلال لتحصيل الإيمان ، ولأرباب القلوب الولوج والكشف لحصول الإيقاف والعيان { وما خلق الله من شيء } يعني عالم الملك المخلوق من مادة بخلاف عالم الملكوت الذي أبدع من غير شيء { وإن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } يعني أجل فنائهم عما سوى الحق ، فإن لم يؤمنوا بطريق النظر استدلالاً { فبأي حديث بعده } أي بعد النظر { يؤمنون } ، { يسألونك عن الساعة } يريد الساعة التي يظهر الله تعالى فيها آثار صفة القهارية لإفناء عالم الصورة فلا يبقى منه داع ولا مجيب فيجيب هو بنفسه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار { لاستكثرت من الخير } من الحياة الأبدية ورفع الحاجات البشرية .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32