كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

ويمكن أن يقال : توقف الصوم على الهلال قد علم من قوله { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ البقرة : 184 ] والزكاة تتعلق بالحول . والأصل في تقدير السنين لعودة الشمس من نقطة كأول الحمل مثلاً إلى مثلها بحركتها الخاصة ، والأيمان والجهاد لا يتعلقان بوقت معين ، والصلاة تتعلق باليوم بليلته ، فلم يبق من الأركان المتعلقة بالشهر سوى الحج فتعين ذكره في هذه الآية والله أعلم .
قوله تعالى عز من قائل { وليس البر بأن تأتوا البيوت } عن البراء قال : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصارفدخل من قبل بابه فكأنه عُير بذلك فنزلت وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية . والحاصل أن ناساً من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب فإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء . فقيل لهم : ليس البر بتحرجكم من دخول الباب تشديداً لأمر الإحرام { ولكن البر بر من اتقى } ولكن ذا البر من اتقى مخالفة الله . وقيل : إن الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر مبن صعصعة سموا حمساً لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة . كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة ، ولم يجلسوا تحت سقف البيت ، ولم يستظلوا الوبر ، ولم يأكلوا السمن والأقط . وعن الحسن والأصم : كان الرجل في الجاهلية إذا هم فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يِأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيراً . وأما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله بناء على الأسباب المروية في نزوله وعليه أكثر المفسرين ، فهو أنهم لما سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة قيل لهم : اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم ، ولا تعتقدوا أن جميع ما سنح لكم هو على شاكلة الصواب : وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم تحسبونها براً وليست من البر في شيء ، أو أنه تعالى لما ذكر الحكمة في الأهلة وهي جعلها مواقيت الناس والحج وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج ، فلا جرم تكلم الله تعالى فيه استطراداً ، أو اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معاً في وقت واحد . وقيل : إنه تمثيل لتعكيسهم في سؤالهم ، فإن الطريق المستقيم هو الاستدلال بالمعلوم على المظنون ، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب ، ولما ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً مختاراً حكيماً ، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ، فإذا رأينا اختلاف حال القمر وجب أن نعلم أن فيه حكمة ومصلحة ، وهذا استدلال بالمعلوم على المجهول .

فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله غير حكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم ، فكأنه تعالى يقول : لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق أو قاربتم الشك ، فقد أتيتم الأمر من ورائه وهذا ليس من البر ولا من كمال العقل ، إنما البر أن تأتوا الأمور من وجوهها التي يجب أن تؤتى منها ، وهذا باب مشهور في الكناية قال الأعشى
:
وكأس شربت على رغبة ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أني أمرؤ ... أتيت المعيشة من بابها
وعن أبي مسلم : أن هذا إشارة إلى ما كانوا يفعلونه من النسيء وكان يقع الحج في غير وقته ، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلاً لمخالفتهم الواجب في الحج وشهوره . ثم إنه تعالى أمرهم بالتقوى التي تتضمن الإتيان بجميع الواجبات والاجتناب عن الفواحش والمنكرات إرادة أن يظفروا بالمطالب الدينية والدنيوية والله ولي التوفيق .
التأويل : { بالباطل } أي بهوى النفس والحرص والإسراف { وتدلوا بها إلى الحكام } يعني النفوس الأمارة بالسوء { من أموال الناس } من الأموال التي خلقت للاستعانة بها على العبودية . الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم وللصديقين مواقيت مراقباتهم . والحج إشارة إلى ما يرد بحكم الوقت عليهم من غير اختيارهم ، فمن كان وقته الصحو كان قيامه بالشريعة ، ومن كان وقته المحو فالغالب عليه أحكام الحقيقة ، فإن تجلى لهم بوصف الجلال طاشوا ، وإن تجلى لهم بوصف الجمال عاشوا ، فليس للمحبين وقت إلا أوقات محبوبهم كما ليس لهم وصف إلا أوصاف محبوبهم والله تعالى أعلم .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

القراآت : { ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم } حمزة وعلي وخلف . الباقون : من باب المفاعلة . وقيل : إنه من جملة ما يكتب في المصحف بغير ألف كالرحمن .
الوقوف : { ولا تعتدوا } ط { المعتدين } 5 { من القتل } ج للعارض بين الجملتين المتفقتين { فيه } ج للابتداء بالشرط مع الفاء { فاقتلوهم } ط { الكافرين } 5 { رحيم } 5 { الدين لله } ط لتبدل الحكم { الظالمين } 5 { قصاص } ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه { ما اعتدى عليكم } ص لعطف الجملتين المتفقتين { المتقين } 5 { التهلكة } ج لاختلاف المعنى أي لا تقتحموا في الحرب فوق ما يطاق { وأحسنوا } ج لاحتمال تقدير الفاء واللام { المحسنين } 5 .
التفسير : لما أمر في الآية المتقدمة بالتقوى ، أمر في هذه الآية بأشق أقسامها على النفس وهو المقاتلة في سبيل الله . عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يقاتل في سبيل الله فقال : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا يقاتل رياء ولا سمعة » { الذين يقاتلونكم } الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين أعني الذين هم بصدد القتال بالفعل دون التاركين . قيل : وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] ومنع بأن الأمر بقتال من يقاتل لا يدل على المنع من قتال من لا يقاتل . وكذا ما روي عن الربيع بن أنس : هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف . أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أي المستعدين للقتال سوى من جنح للسلم ، أو الكفرة كلهم لأنهم جميعاً مضادون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم مستحلون لها فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا . وقيل في سبب نزول الآية إنه صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه لإرادة الحج ، فلما نزل بالحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء صدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهراً لا يقدر على ذلك ، فصالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل ويتركوا له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدى ويفعل ما يشاء ، فرضي صلى الله عليه وسلم بذلك وصالحهم عليه وعاد إلى المدينة . وتجهز في السنة القابلة ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم . وكانوا كارهين لقتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم . فأنزل الله هذه الآيات وبيّن له كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها فقال : { وقاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا } بابتداء القتال . وإنما كان ذلك في أول الأمر لقلة المسلمين ولكون الصلاح في استعمال الرفق واللين ، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع وأقام من أقام منهم على الشرك بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حصل اليأس من إسلامهم ، فأمروا بالقتال على الإطلاق .

أو لا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من غير المستعدين كالنساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد ، أو بالمثلة ، أو المفاجأة من غير دعوة إلى الإسلام . وهذه المعاني الثلاثة بإزاء التفاسير الثلاثة في { الذين يقاتلونكم } .
{ إن الله لا يحب المعتدين } المتجاوزين عما شرع الله لهم . في الصحاح : ثقفته أي صادفته . وفي الكشاف ، الثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه رجل ثقف أي سريع الأخذ لأقرانه قال :
فإما تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود
أمر في الآية الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على القتال ، وفي هذه الآية زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا . واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام ، وسمي حراماً لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما منع من فعله وأصل الحرمة المنع { من حيث أخرجوكم } أي من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح . أو أخرجوهم من منازلهم كما أخرجوكم من منازلكم ، وقد أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين من المدينة بل قال : « لا يجمع دينان في جزيرة العرب » والمراد بالإخراج تكليفهم الخروج قهراً أو تخويفهم وتشديد الأمر عليهم حتى اضطروا إلى الخروج { والفتنة } عن ابن عباس أنها الكفر بالله لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج وفيه الفتنة . وأيضاً الكفر ذنب يستحق العقاب الدائم بالاتفاق والقتل ليس كذلك والكفر يخرج به صاحبه عن الأمة دون القتل . روي أن صحابياً قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام فعابه المؤمنون على ذلك فنزلت . أن لا تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام ، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك . وقيل الفتنة أصلها عرض الذهب على النار للخلاص من الغش ، ثم صار اسماً لكل محنة . والمعنى إن إقدام الكفار على تخويف المؤمنين وعلى تشديد الأمر عليهم حتى صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والأوطان هرباً من إضلالهم في الدين وإبقاء على مهجهم وحرمهم ، أشد من القتل الذي أوجبته عليكم جزاء عن تلك الفتنة لأنه يقتضي التخلص ، من غموم الدنيا وآفاتها .
لقتل بحد السيف أهون موقعاً ... على النفس من قتل بحد فراق
وقيل : الفتنة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ، فكأنه قيل : اقتلوهم حيث ثقفتموهم ، واعلموا أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه قال عز من قائل : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] وقيل : فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام لأنه سعي في المنع عن الطاعة التي ما خلق الجن والإنس إلا لها ، أشد من قتلكم إياهم في الحرم .

وقيل : ارتداد المؤمن أشد من أن يقتل محقاً . فالمعنى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم من أن ترتدوا على أدباركم أو تتكاسلوا عن طاعة معبودكم . يروى أن الأعمش قال لحمزة : أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولاً فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا ، وإذا ضرب منهم واحد قالوا ضربنا ، وذلك أن وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم . { فإن انتهوا } قيل : أي عن القتال لأن المقصود من الإذن في القتال منع المقاتلة عن ابن عباس . وقيل : أي عن الشرك بدليل قوله : { فإن الله غفور رحيم } الدال على أنه يغفر لهم ويرحهم والكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال بل بترك الكفر ، عن الحسن . قلت : إن أريد بالقتال استحلالهم قتل المسلمين تلازم القولان ، والانتهاء عن الكفر ظاهره التلفظ بكلمة الإسلام وأنه مؤثر في حقن الدم وعصمة المال ، وباطنه هو التشبث بأركان الإسلام جميعاً ويؤثر في استحقاق الرحمة والغفران . وقد يستدل بقوله : { والفتنة أشد من القتل } على أن التوبة عن قتل العمد بل من كل ذنب . مقبولة لأن الشرك أعظم الذنوب ، فإذا قبل الله تعالى توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى . وأيضاً الكافر القاتل مقبول التوبة بالاتفاق إذا أسلم ، فالقاتل غير الكافر أولى . ويمكن أن يجاب بأن حق الله تعالى مبني على المساهلة فظهر الفرق . وأيضاً الإيمان يجب ما قبله ، فلا يلزم من عدم مؤاخذة الكافر بقتله إذا أسلم أن لا يؤاخذ المسلم بقتله ، ولهذا يجب قضاء الصلوات الفائتة على المسلم إذا تاب عن ترك الصلاة ، ولا يجب على الكافر إذا أسلم .
قوله تعالى : { وقاتلوهم } وقيل : إنه ناسخ لقوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } وهو وهم لأن البداءة بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته . غاية ما في الباب أن هذه الآية عامة وما قبلها مخصصة إياها وهذا جائز ، فإن القرآن ليس على ترتيب النزول ، ولو كان على الترتيب أيضاً فلا يضرنا لجواز نزول الخاص قبل العام عندنا وذلك أن الخاص قاطع في دلالته تقدم أو تأخر ، والعام دلالته على ما يدل عليه الخاص غير مقطوع بها فلا بد من التخصيص جمعاً بينهما { حتى لا تكون فتنة } قيل : أي شرك وكفر . وعلى هذا فالآية محمولة على الأغلب . فإن قتالهم لا يزيل الكفر رأساً ، وإنما الغالب الإزالة لأن من قتل منهم فقد زال كفره ومن لم يقتل كان خائفاً من الثبات على كفره . والحاصل قاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وهو المراد أيضاً من قوله : { ويكون الدين لله } أي ليس للشيطان فيه نصيب لوضوح شأنه وسطوع برهانه كما قال تعالى :

{ ليظهره على الدين كله } [ الصف : 9 ] ولا يعبأ بالمخالف لقلة شوكته وسقوطه عن درجة الاعتداد به ، أو محمولة على قصد إزالة الكفر فترتب هذا العزم على القتال كلي لا يتخلف عنه . وقيل : فتنتهم أنهم كانوا يضربون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذونهم حتى ذهب بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، أي قاتلوهم حتى تظهروا عليهم ولا يفتنوكم عن دينكم . وعن أبي مسلم : معناه قاتلوهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدأوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار . ولا يخفى أن قوله : { ويكون الدين لله } يرجح القول الأول ليكون المعنى : وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويظهر الإسلام { فإن انتهوا } عن الأمر الذي وجب قتالهم لأجله وهو إما الكفر أو القتال { فلا عدوان إلاّ على الظالمين } أي فلا تعدوا على المنتهين فيكون مجموع قوله { إلاّ على الظالمين } قائماً مقام على المنتهين . لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فنهوا عنه بدليل انحصاره في غير المنتهين . أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين . وعلى الوجهين سمي جزاء الظلم ظلماً للمشاكلة كما يجيء في قوله تعالى : { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } أو أريد إنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيتسلط عليكم من يعدو عليكم . قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة سنة ست من الهجرة وصدّوهم عن البيت . فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذاك في ذي القعدة سنة سبع { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي هذا الشهر بذاك الشهر ، وهتكه بهتكه . فلما لم تمنعكم حرمته عن الكفر والأفعال القبيحة فكيف تمنعنا عن القتال معكم دفعاً لشروركم وإصلاحاً لفسادكم؟ والحرمة ما لا يحل انتهاكه ، والقصاص المساواة أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أيّ حرمة كانت ، اقتص منه بأن يهتك له حرمة . والحرمات الشهر الحرام والبيت الحرام والإحرام ، فلما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وفقتكم حتى قضيتموها على رغمهم في سنة سبع ، وإن أقدموا على مقاتلتكم فقد أذنت لكم في قتالهم فافعلوا بهم مثل ما فعلوا ولا تبالوا . ثم أكد ذلك بقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } حين تنتصرون ممن اعتدى عليكم حتى لا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم { واعلموا أن الله مع المتقين } بالنصر والتأييد والتقوية والتسديد ، فإن الاستصحاب بالعلم أو بالمكان إن جاز شامل للمتقين وغيرهم . قوله عز من قائل { وأنفقوا } وجه اتصاله بما قبله أنه تعالى لما أمر بالقتال وأنه يفتقر إلى العدد والعدد قد يكون ذو المال عاجزاً عن القتال ، وقد يكون القوي على القتال عديم المال فلهذا أمر الله الأغنياء بالإنفاق في سبيله إعداداً للرجال وتجهيزاً للأبطال ويروى أنه لما نزل { الشهر الحرام بالشهر الحرام } قال رجل من الحاضرين : والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا .

فأمر صلى الله عليه وسلم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة ولو بمشقص يحمل في سبيل الله فيهلكوا فنزلت هذه الآية على وفق قول الرسول صلى الله عليه وسلم . والإنفاق صرف المال في وجوه المصالح . فلا يقال للمضيع : إنه منفق وإنما يقال : مبذر . وسبيل الله دينه فيشمل الإنفاق فيه الإنفاق في الحج والعمرة والجهاد والتجهيز والإنفاق في صلة الرحم وفي الصدقات أو على العيال أو في الزكاة والكفارات أو في عمارة بقاع الخير وغير ذلك . الأقرب في هذه الآية . وقد تقدم ذكر القتال . أن يراد به الإنفاق في الجهاد ، ولكنه تعالى عبر عنه بقوله { في سبيل الله } ليكون كالتنبيه على السبب في وجوب هذا الإنفاق . فالمال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله ، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز نفسه ونشط وهان عليه ما دعي إليه . والباء في { بأيديكم } مزيدة مثلها في « أعطى بيده للمنقاد » والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم . وقيل : الأيدي الأنفس كقوله : { فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] { بما قدمت يداك } [ الأنفال : 51 ] أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة . وقيل : بل ههنا حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة كما يقال « أهلك فلان نفسه بيده » إذا تسبب لهلاكها . عن أبي عبيدة والزجاج : إن التهلكة والهلاك والهلك واحد . لم يوجد مصدر على تفعلة بضم العين سوى هذا ، إلا ما حكاه سيبويه من قولهم « التضرة » « والتسرة » ونحوها في الأعيان « التنضبة » لشجر و « التتفلة » لولد الثعلب . ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة بالكسر كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر من هلك مشدد العين ، فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار . وليس الغرض من هذا التكلف على ما ظن تصحيح لفظ القرآن كيلا تنخرم فصاحته فإنه أجل من أن يحتاج في تصحيحه إلى الاستشهاد بكلام الفصحاء من البشر ، وكيف لا وهو حجة على غيره وليس لغيره أن يكون حجة عليه . وإنما الغرض الضبط والتسهيل ما أمكن فتنبه . وللمفسرين في هذا الإلقاء خلاف فمنهم من قال إنه راجع إلى الإنفاق . وروى البخاري في صحيحه عن حذيفة قال : نزلت هذه الآية في النفقة . وذلك أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم ، أو ينفقوا كل مالهم فيحتاجوا ويجتاحوا فيكون نهياً عن التقتير والإسراف وعنهما جميعاً { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً } [ الفرقان : 67 ] أو المعنى : أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إن أنفقنا نهلك ذلاً وفقراً .

نهوا عن أن يحكموا على أنفسهم بالهلاك للإنفاق ، أو أنفقوا ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط منا أو أذى أو رياء وسمعة مثل { ولا تبطلوا أعمالكم } [ محمد : 33 ] ومنهم من قال : إنه راجع إلى غير الإنفاق أي لا تخلوا بالجهاد فتتعرضوا للهلاك الذي هو سخط الله وعذاب النار ، أو لا تقحموا في الحرب حيث لا ترجون النفع ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل كما روي عن البراء بن عازب أنه قال في هذه الآية : هو الرجل يستقتل بين الصفين . وإنما يجب أن يتقحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل . « روى الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله إن قُتلتُ صابراً محتسباً؟ قال : لك الجنة » . فانغمس في جماعة العدو فقتلوه . وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجنة . ثم انغمس في العدو فقتلوه بين يدي الرسول . وروي أن رجلاً من الأنصار تخلف من أصحاب بئر معونة فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه . فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ففعل ذلك . فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً . وروى أسلم أبو عمران قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفاً عظيماً من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس ، إنكم تؤوّلون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار . لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً دون النبي صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه . فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها . فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا ، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم . وقيل : إن الآية من تمام ما قبلها أي إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فإن الحرمات قصاص ، ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال . وعن النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب فيقول : لا يغفر لي فأنزل الله تعالى هذه الآية . وذلك أنه يرى أنه لا ينفعه معه عمل فيترك العبودية ويصر على الذنب فنهى عن القنوط من رحمة الله { وأحسنوا } في الإنفاق بأن يكون مقروناً بطلاقة الوجه أو على قضية العدالة بين التقتير والإسراف أو في فرائض الله عن الحسن { إن الله يحب المحسنين } إذ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

وهذا مقام القرب ، والقرب يقتضي الإرادة الذاتية وهذا رمز والله ولي كل خير .
التأويل : { وقاتلوا } من يمنعكم عن السير في سبيل الله أو أراد أن يقطع عليكم طريقة من شياطين الإنس والجن حتى نفوسكم التي هي أعدى عدوكم { ولا تعتدوا } لا تتجاوزوا عن حد الشرع فتجاهدوا بالطبع ، ولكن كونوا ثابتين على قدم الاستقامة بقدر الاستطاعة من غير إفراط وتفريط ، { واقتلوا } كفار النفس بسيف الرياضة حيث ظفرتم بهم ، ومجاهدتها مخالفة هواها . { وأخرجوهم } من صفات النفس { كما أخرجوكم } من جمعية القلب وحضوره { والفتنة } أي المحنة التي ترد على القلب من طوارق صفات النفس الحاجبة عن الله { أشد من } قتل النفس بمخالفة هواها { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } لا تلتفتوا إلى النفس وصفاتها إذا كنتم آمنين مطمئنين في مقامات القلب والروح حتى يزاحموكم في الحضور وداعية الهوى؛ فإن نازعوكم في الجمعية والحضور { فاقتلوهم } بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي عن نفوسكم بكل ما أمكن لئلا يبقى لكم علاقة تصدكم عن الله { فإن انتهوا } بأن قنعت بما لا بد لها فلا تغلوا في مجاهدتها . { الشهر الحرام } أي ما يفوتكم من الأوقات والأوراد بتواني النفس ونزاعها وغلبات صفاتها فتداركوه الشهر بالشهر واليوم باليوم { فمن اعتدى } فكل صفة غلبت واستولت فعالجوها بضدها البخل بالسخاء ، والغضب بالحلم ، والحرص بالزهد ، والشهوة بالعفة ، { واتقوا الله } في الإفراط والتفريط { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } بالتفريط في الحقوق والإفراط في الحظوظ أو بموافقة النفوس ومخالفة النصوص ، أو بالركوب إلى الفتور بالحسبان والغرور والله المستعان على ما يصفون .

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

القراآت : { من رأسه } وكذلك « البأس » و « الكأس » كلها بغير همزة أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى وحمزة في الوقف .
الوقوف : { لله } ط لأن عارض الإحصار خارج عن موجب الأصل { من الهدى } ج لعطف المختلفتين { محله } ط لابتداء حكم كفارة الضرورة { أو نسك } ج لأن « إذا » للشرط مع الفاء وجوابه محذوف أي فإذا أمنتم من خوف العدو وضعف المرض فامضوا . أمنتم وقف لحق الحذف ولابتداء الشرط في حكم آخر وهو التمتع { من الهدى } ج { رجعتم } ط { كاملة } ط { الحرام } ط { العقاب } 5 .
التفسير : الحج في اللغة القصد كما مر في قوله { فمن حج البيت أو اعتمر } [ البقرة : 158 ] وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة . وهي على ثلاثة أقسام : أركان وأبعاض وهيئات . لأن كل عمل يفرض فيه فإما أن يتوقف التحلل عليه وهو الركن ، أو لا يتوقف . فإما أن يجبر بالدم وهو البعض ، أو لا يجبر وهو الهيئة . والأركان عند الشافعي خمسة : الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو تقصيره . وخالف أبو حنيفة في السعي ، ولا مدخل للجبران في الأركان . وأما الأبعاض أعني الواجبات المجبورة بالدم ، فالإحرام من الميقات والرمي وفاقاً وفي الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس وفي المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى ، وفي طواف الوداع خلاف . وأما الهيئات فالاغتسال وطواف القدوم والرمي والاضطباع في الطواف وفي السعي واستلام الركن وتقبيله والسعي في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية إلى غير ذلك . وبالجملة ما سوى الأركان والأبعاض ولا دم في تركها . وأما في العمرة فما سوى الوقوف من أركان الحج أركان فيها . ثم إن قوله عز من قائل : { وأتموا } أمر بالإتمام . وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط؟ فالشافعي على أنه مطلق والمعنى : افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام والكمال . وأبو حنيفة على أنه مشروط والمعنى : من شرح فيه فليتمه كما إذا كبر بالصلاة تطوعاً لزمه الإتمام . وفائدة الخلاف تظهر في العمرة فإنها تصير واجبة على المعنى الأول دون الثاني . حجة الشافعي أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء تاماً كاملاً كقوله { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } [ البقرة : 124 ] أي أدّاهن على التمام والكمال . وقوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] أي افعلوا الصيام تاماً إلى الليل وهذا أولى من تقدير أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه ، لأن الأصل عدم إضمار هذا الشرط ، ولأن المفسرين أجمعوا على أن هذه أول آية نزلت في الحج ، فحملها على الإيجاب ليكون تأسيساً أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع ، فإنها تكون حينئذ تبعاً ، ولأنه قرئ { وأقيموا الحج والعمرة } والشاذ يصلح للترجيح وإن لم يصلح للقطع كخبر الواحد ، ولأن الوجوب المطلق يستلزم الإتمام ، والإتمام بشرط الشروع لا يستلزم أصل الوجوب .

فتأويلنا أكثر فائدة ، فيكون أولى . وأيضاً أنه أحوط . واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج ، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب . وقال تعالى { يوم الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ] وفيه دليل على وجود حج أصغر وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق . لكن الحج واجب على الإطلاق لقوله { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] فيدخل فيه الأكبر والأصغر .
« حجة أبي حنيفة قصة الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي : لا أزيد على هذا ولا أنقص . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلح الأعرابي إن صدق » . وقال صلى الله عليه وسلم : « بني الإسلام على خمس » الحديث . ولم يذكر العمرة . وأجيب بأن العمرة حج أصغر فتدخل في مطلق الحج قالوا : « روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ فقال : لا ، وأن تعتمر خير لك » . وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « الحج جهاد والعمرة تطوع » وأجيب بأنها أخبار آحاد فلا تعارض القرآن . وأيضاً لعل العمرة ، ما كانت واجبة حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأحاديث ، ثم نزل بعدها { وأتموا الحج } وذلك في السنة السابعة من الهجرة . وأيضاً إنها معارضة بأخبار تدل على وجوبها . روى النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن ، قال صلى الله عليه وسلم « حج عن أبيك واعتمر أمر بهما والأمر للوجوب » . وروي عن ابن عباس أنه قال : إن العمرة لقرينة الحج ، وحمله على أنهما يقترنان في الذكر تكلف . وعن عمر أن رجلاً قال له : إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً فقال : هديت لسنة نبيك وحمله على أن الوجوب مستفاد من الإهلال بهما لا يخلو من تعسف . قالوا : قرأ علي وابن مسعود والشعبي { والعمرة لله } بالرفع . فكأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج في الوجوب . وأجيب بأن الشاذة لا تعارض المتواترة ، وبأنها ضعيفة من حيث العربية لعطف الاسمية على الفعلية ، والخبرية على الطلبية ، وبأن كون العمرة عبادة لله لا ينافي وجوبها . واعلم أن لأداء النسكين وجوهاً ثلاثة : الإفراد والتمتع والقِران فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل ، أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة . والقِران أن يحرم بالحج والعمرة معاً في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه معاً ، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم قبل الطواف أدخل الحج عليها يصير قارناً .

والتمتع هو أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ، ثم يحج في هذه السنة من مكة . سمي تمتعاً لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بينهما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ، وأنه أيضاً يربح ميقاتاً لأنه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة منه ، وإذا تمتع استغنى عن الخروج لأنه يحرم بالحج من جوف مكة . ولا خلاف بين أئمة الأمة في جواز هذه الوجوه ، وإنما الخلاف في الأفضلية فقال الشافعي : أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القِران . وقال في اختلاف الحديث : التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك . والإمامية قالوا : لا يجوز لغير حاضري المسجد الحرام العدول عن التمتع إلا لضرورة . وقال أبو حنيفة ، القِران أفضل ثم الإفراد ثم التمتع . وهو قول المزني وأبي إسحاق المروزي . وقال أبو يوسف ومحمد : القِران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد . حجة الشافعي في أفضلية الإفراد قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } وذلك أن العطف يقتضي المغايرة وأنها تحصل عند الإفراد ، فأما عند القِران فالموجود شيء واحد هو حج وعمرة معاً . وأيضاً الأعمال عند الإفراد أكثر فيكون الثواب أكثر وذلك هو الفضل . وما روي عن أنس أنه قال : كنت واقفاً عند جران ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لعابها يسيل على كتفي فسمعته يقول : لبيك بعمرة وحجة معاً . معارض بما روى مسلم في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج ، وهكذا روى جابر وابن عمر . وقد رجح الشافعي رواية عائشة وجابر وابن عمر على رواية أنس بأنهم أعلم وأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقدم صحبة ، أن أنساً كان صغيراً في ذلك الوقت قليل العلم .
حجة القائلين بأفضلية القِران : أن في القِران مسارعة إلى النسكين ، وفي الإفراد ترك المسارعة إلى أحدهما ، فيكون أفضل لقوله { وسارعوا } [ آل عمران : 133 ] وأجيب بأنا لا نقول الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة ، لكنا نقول : من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها ، فمجموع هذين الأمرين أفضل من الإتيان بالحجة المقرونة ، واختلف في تفسير الإتمام في قوله تعالى { وأتموا } . فعن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود : أن إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك . وقال أبو مسلم : المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام قال : ويدل على صحة هذا التأويل أن الآية نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الماضية عن الحج والعمرة . فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية بأن لا يرجع حتى يتم الفرض .

ويعلم منه أن تطوع الحج والعمرة كفرضهما في وجوب الإتمام . وقال الأصم : المراد إتمام الآداب المعتبرة فيهما وهي عسرة على ما ذكر في الإحياء الأول : في المال ، فينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ، ويرد ما عنده من الودائع ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير ، بل على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد والرفق بالفقراء ، ويتصدق بشيء قبل خروجه ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها . الثاني : الإخوان والرفقاء المقيمون يودعهم ويلتمس أدعيتهم فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيراً . والسنة في الوداع أن يقول : أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك . الثالث : إذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد « الفاتحة » ، { قل يا أيها الكافرون } وفي الثانية « الإخلاص » وبعد الفراغ يتضرع إلى الله تعالى بالإخلاص . الرابع : إذا حصل على باب الدار قال : بسم الله ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وكلما كانت الدعوات أكبر كان أولى . الخامس : إذا ركب قال : بسم الله وبالله والله أكبر ، توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } [ الزخرف : 13 ] السادس : في النزول . والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ولا ينزل حتى يحمى النهار ، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيراً . السابع : إن قصده عدوّ أو سبع بالليل أو بالنهار فليقرأ آية الكرسي { وشهد الله } [ آل عمران : 18 ] و « الإخلاص » و « المعوذتين » ثم يقول : تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي الذي لا يموت . الثامن : مهما علا نشزاً من الأرض في الطريق يستحب أن يكبر ثلاثاً . التاسع : أن لا يكون هذا السفر مشوباً بشيء من الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها . العاشر : أن يصون لسانه عن الرفث والفسوق والجدال ، ثم بعد الإتيان بهذه المقدمات يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة ، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى ليكون مؤتمراً لقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } اقتداء بإبراهيم عليه السلام حين ابتلي . بكلمات فأتمهن . وقيل : المراد من قوله : { وأتموا } أفردوا كل واحد منهما بسفره ويؤيد هذا تأويل من قال الإفراد أفضل . وأقرب هذه الأقوال ما يرجع حاصله إلى معنى ائتوا بالحج والعمرة تأمين كاملين بمناسكهما وشرائطهما وآدابهما لوجه الله بدليل قوله { فإن أحصرتم } قال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس ومنه الحصير للملك لأنه كالمحبوس في الحجاب . والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض .

فكأن كلاً منها محبوس مع غيره ، والحصير المحبس أيضاً . والأكثرون على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو . يقال : حصره العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه . وعن أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وغيرهم : أن لفظ الإحصار مختص بالمرض ونحوه من خوف وعجز قال تعالى { الذين أحصروا في سبيل الله } [ البقرة : 273 ] وقيل : الإحصار مختص بمنع العدو . ومنه ما يروى عن ابن عمر وابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو . وفائدة الخلاف في الآية تظهر في مسألة فقهية وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت . وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع؟ قال أبو حنيفة : يثبت . وقال الشافعي ومالك وأحمد : لا يثبت ، بل يصبر حتى يبرأ . نعم لو شرط أنه إذا مرض تحلل صح الشرط لما « روي أنه صلى الله عليه وسلم مر بضباعة بنت الزبير فقال : أما تريدين الحج؟ فقالت : إني شاكية . فقال : حجي واشترطي أن تحلي حيث حبست » . وفي حكم المرض كل غرض صحيح كضلال الطريق ونفاد الزاد ، حجة أبي حنيفة ظاهر كلام أكثر أهل اللغة ، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل » وحجة الشافعي قول ابن عمر وابن عباس وطائفة من أهل اللغة . وأيضاً الهمزة في { أحصر } ليس للتعدية لمساواته حصر في اقتضاء المفعول فتكون للوجود ، أو لصيرورته ذا كذا فيؤوّل المعنى إلى أنكم إن وجدتم أو صرتم محصورين فلا يبقى النزاع ، وأيضاً المانع إنما يتحقق عند وجود المقتضي ، والمريض لا قدرة له على الفعل فلا مانع بالنسبة إليه ، فثبت أن لفظ الإحصار حقيقة في العدو دون المرض . وأيضاً لفظ المانع على المرض غير معقول لأنه عرض لا يبقى زمانين . وأيضاً لو كان المريض داخلاً في المحصر لكان في قوله { فمن كان منكم مريضاً } نوع تكرار ولزم عطف الشيء على نفسه . واعتذر عن هذا بأن المريض إنما خص بالذكر لأن له حكماً خاصاً وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية إن منعتم لمرض تحللتم بدم وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفَّرتم ، وأيضاً فإذا أمنتم يناسب الخوف من العدو إذ يقال في المرض شفي وعوفي لا أمن . ولو قيل : إن خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها قلنا : لا يلزم من عدم القدح وجود المناسبة . وقيل : إنه منع المرض خاصة وهو باطل بالدلائل المذكورة وزيادة وهي أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول الآية أن الكفار أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية . والأئمة وإن اختلفوا في أن الآية هل تتناول غير سبب النزول أم لا ، إلا أنهم اتفقوا على أن خروج ذلك السبب غير جائز . ثم في الآية إضماران ، والتقدير : فتحللتم أو أردتم التحلل فعليكم ما استيسر ، أو فاهدوا ما استيسر أي ما تيسر مثل استعظم وتعظم واستكبر وتكبر .

أما الإضمار الأول فلأن نفس الإحصار لا يوجب هدياً وإنما الموجب هو التحلل أو نية التحلل . وأما الإضمار الثاني فلأن قوله : { ما استيسر } إما مرفوع على الابتداء وخبره محذوف ، أو منصوب على المفعولية وناصبه محذوف . والهدي جمع هدية كما يقال في جدية السرج وهي شيء محشو تحت دفتي السرج جدي . وقرئ من الهدي جمع هدية كمطية ومطيّ ، وهذه لغة تميم . ومعنى الهدي ما يهدى إلى بيت الله تقرباً إليه بمنزلة الهدية . عن علي وابن عباس والحسن وقتادة رضي الله عنهم : أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدونها شاة فعليه ما تيسر له من هذه الأجناس ، والمحصر المحرم إذا أراد التحلل وذبح ، وجب أن ينوي التحلل . ألبتة قبل الذبح ، وأكثر الفقهاء على أن حكم العمرة في الإحصار حكم الحج ، وعن ابن سيرين : أنه لا إحصار فيها لأنها غير موقتة . ورد بأن قوله تعالى : { فإن أحصرتم } مذكور عقيب الحج والعمرة فكان عائداً إليهما ، وبأنه صلى الله عليه وسلم تحلل بالإحصار عام الحديبية وكان معتمراً .
وما حد الإحصار؟ قالت العلماء : لو منعوا ولم يتمكنوا من المسير إلا ببذل مال فلهم أن يتحللوا ولا يبذلوا المال وإن قل إذ لا يجب احتمال الظلم في أداء الحج بل يكره البذل إن كان الطالبون كفاراً ، والأكثرون على إنه لا يحب القتال على الحجيج وإن كان العدو كفاراً وكان في مقابلة كل مسلم أقل من مشركين ولو قاتلوا فلهم لبس الدروع والمغافر ، لكنهم يفدون كما لو لبسوا المخيط لدفع حر أو برد ، لا فرق على الأصح في جواز التحلل بين أن يمنعوا من المضي دون الرجوع أو يمنعوا من جميع الجوانب ، لأنهم يستفيدون بالتحليل الأمن من العدو المواجه . ولو صد عن طريق وهناك طريق آخر ووجدوا شرائط الاستطاعة فيه لزمهم سلوكه ولم يكن لهم التحلل في الحال ، وإذا سلكوه ففاتهم الحج لحزونته أو لطوله تحلّلوا بعمل عمرة ولا يلزمهم القضاء على الأظهر من قولي الشافعي ، لأنهم بذلوا مجهودهم فصاروا كالمصدودين مطلقاً ، نعم لو استوى الطريقان من كل وجه وجب القضاء لأن الموجود فوات محض . وفي قوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله } حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله ، بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر . فالتقدير : حتى يبلغ الهدي محله وينحر . وإنما جاز تذكير الهدي لأن كل ما يفرق بين واحده وبينه بالتاء وعدمه جاز تذكيره وتأنيثه . قال تعالى : { أعجاز نخل منقعر } [ القمر : 20 ] وفي موضع آخر : { أعجاز نحل خاوية } [ الحاقة : 7 ] والمحل اسم للزمان الذي يحصل فيه الحل ، ومنه محل الدين لوقت وجوب قضائه أو اسم للمكان .

قال الشافعي : يجوز إراقة دم الإحصار في الحرم بل حيث حبس . وقال أبو حنيفة : لا يجوز ذلك إلا في الحرم يبعث به ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار . حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية فنحر هناك . وأجيب بأن محصره طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة وهو من الحرم . وعن الزهري : أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هدية في الحرم وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة . ورد بقوله تعالى { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله } [ الفتح : 25 ] فإن هذه الآية صريحة في أنهم نحروا الهدي في غير الحرم . وأيضاً قوله { فإن أحصرتم } يتناول كل من كان محصراً سواء كان في الحل أو في الحرم . وقوله : { فما استيسر } يدل على وجوب النحر فيجب أن يكون المحصر قادراً على إراقة الدم حيث أحصر . وأيضاً التحلل موقوف على النحر فلو توقف النحر على وصوله إلى الحرم لم يحصل التحلل في الحال وهذا يناقض ما هو المقصود من شرع الحكم وهو تخليص النفس من العدو في الحال . وأيضاً لو كان الموصل إلى الحرم هو المحصر فكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف؟ وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل؟ حجة أبي حنيفة أن المحل عبارة عن مكان الحل . وقوله { حتى يبلغ الهدي محله } يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى ذلك المكان . وأيضاً هب أن لفظ المحل يشمل الزمان والمكان إلا أن قوله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] وقوله { هدياً بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] يزيل احتمال الزمان والبيت نفسه لا يراق فيه الدماء ، فتعين أن يكون هو الحرم ، وأجيب بأن كل ما وجب على المحرم في ماله من فدية وجزاء وهدي لا يجزئ إلا في الحرم لمساكين أهله إلا إذا عطب الهدي فيذبح في طريقه ويخلى بينه وبين المساكين ، وإلا إذا أحصر فإنه ينحر هديه حيث حبس بالدلائل المذكورة . قالوا : الهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها إلى دال المهدي إليه ، فالهدي كذلك . وردّ بأن هذا تمسك بالاسم وهو محمول على الأفضل عند القدرة . والمحصر إذا كان عادماً للهدي فهل له بدل ينتقل إليه؟ للشافعي فيه قولان : أحدهما لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبداً وبه قال أبو حنيفة لأنه تعالى أوجب له الهدي وما أثبت له بدلاً ، وعلى هذا فماذا يفعل؟ فيه قولان : أصحهما أنه يتحلل في الحال كما لو صام بدله كيلا تعظم المشقة ، والآخر وإليه ميل أبي حنيفة أنه يقيم على إحرامه حتى يجده . والقول الثاني أن له بدلاً وهذا أصح وبه قال أحمد قياساً على سائر الدماء الواجبة على المحرم ، وعلى هذا فما ذلك البدل؟ الأصح الطعام لأن قيمة الهدي أقرب إليه من الصيام ، وإذا لم يرد النص إلا بالهدي فالرجوع إلى الأقرب أولى .

ثم الصيام عن كل مدٍّ يوماً . وفي قول صوم المتمتع عشرة أيام . وقيل : صوم الأذى ثلاثة أيام . وبالجملة فالآية دلت على أن المحصرين لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة ومعنى { حتى يبلغ الهدي محله } حتى تنحروا هديكم حيث حبستم ، أو حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه أي الحرم . ولكن الأفضل في الحج منى وفي العمرة المروة . ولا بد من نية التحلل عند الذبح لأن الذبح قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره ، فلا بد من قصد صارف فإن كان مصدوداً عن البيت دون أطراف الحرم فهل له أن يذبح في الحل؟ أصح الوجهين عند الشافعي أن له ذلك ، وإذا أحصر فتحلل نظر إن كان نسكه تطوعاً فلا قضاء عليه وبه قال مالك وأحمد لأن المصدودين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ألفاً وأربعمائة ، والذين اعتمروا معه في عمرة القضاء كانوا نفراً يسيراً ولم يأمر الباقين بالقضاء ، وقال أبو حنيفة : عليه القضاء . وإن لم يكن نسكه تطوعاً نظر إن لم يكن مستقراً عليه كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان وكالنذر والقضاء فهو باقٍ في ذمته كما لو شرع في صلاة ولم يتمها تبقى في ذمته ، ومهما أحصر بمرض ونحوه . وقد صححناه بالآية فحكم الهدي ما مر في الإحصار بالعدوّ وإن صححناه بأن كان قد شرط التحلل به إذا مرض فهل يلزمه الهدي للتحلل؟ فإن كان قد شرط التحلل بالهدي فنعم ، وإن كان قد شرط التحلل بلا هدي فلا وكذا إن أطلق على الأظهر لمكان الشرط .
قوله عز من قائل : { فمن كان منكم مريضاً } قيل : إنه مختص بالمحصر . وذلك أنه قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله تعالى أذن له في إزالة ذلك المؤذي بشرط بذل الفدية . والأكثرون على أنه كلام مستأنف في كل محرم لحقه مرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو أذى في رأسه فاضطر إلى الحلق . والنسك العبادة وقرئ بالتخفيف ، وقيل : جمع نسيكة وهي الذبيحة . قال ابن الأعرابي : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل : للمتعبد « ناسك » لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث . ثم قيل للذبيحة نسك لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله ، واتفقوا في النسك على أن أقله شاة كما في الأضاحي ، وأما الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما وبماذا يحصل بيانه؟ فيه قولان : أحدهما وعليه أكثر الفقهاء .

ومنهم الشافعي وأبو حنيفة أن بيانه في حديث كعب بن عجرة قال : حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقلت : لا . قال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك . فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة وثانيهما عن ابن عباس والحسن الصيام كصيام المتمتع عشرة أيام والإطعام مثل ذلك في القدر . قال العلماء المرض قد يحوج إلى اللباس أو إلى الطيب أو إلى الدهن وفي كل منها نوع استمتاع فألحقوا فدية نحو هذه المحظورات بفدية الحلق لاشتراك الجميع في الترفه . والحاصل أنه يدخل فيه كل محظورات الإحرام سوى الجماع ففيه بدنة ثم بقرة ثم سبع شياه ثم طعام بقيمة البدنة ثم صيام بعدد الأمداد كما يجيء في قوله تعالى { فلا رفث } [ البقرة : 197 ] وسوى الصيد ففيه الجزاء على ما يجيء تفصيله في المائدة . وفي هذه الآية أيضاً إضماران أي فحلق فعليه فدية { فإذا أمنتم } إن كان معناه الأمن بعد الخوف قبل التحلل فجواب الشرط وهو فامضوا محذوف . وإن كان معناه إذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة فقوله { فمن تمتع } الشرط مع الجزاء جواب الشرط الأول ولا وقف على { أمنتم } ومعنى التمتع التلذذ . وأصله الطول حبل مانع أي طويل . وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به . وقد عرفت معنى التمتع بالعمرة إلى الحج وهو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ثم يقيم حلالاً بمكة حتى ينشئ منها الحج فيحج من عامه ذلك . والتمتع بهذا الوجه صحيح لا كراهة فيه . وما يروى أن عمر خطب وقال : متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج ، ذكر الأئمة أن تلك المتعة هي أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ . وعن أبي ذر أنه قال : ما كانت متعة الحج إلا لنا خاصة . يعني الركب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم . وكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدّونها من أفجر الفجور ، فلما اراد النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة . وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان نسخ الحج في أشهر الحج خاصاً بهم . ومعنى التمتع بالعمرة إلى الحج أنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة إلى أوان الحج ، وقيل : استمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل الانتفاع بتقربه بالحج ولوجوب الدم على المتمتع شروط منها : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ويجيء تمام الكلام فيه عما قريب ومنها أن يحرم بالعمرة من الميقات فإن جاوزه مريداً النسك ثم أحرم بها فإن كان الباقي أقل من مسافة القصر فليس عليه دم التمتع ولكن يلزمه دم الإساءة ، وإن كان الباقي مسافة القصر فعليه دمان .

ومنها أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، فلو أحرم وفرغ من أعمالها قبل أشهر الحج ثم حج لم يلزمه الهدي لأنه أشبه الإفراد ، ولو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بجميع أفعالها في أشهره فاصح قولي الشافعي أنه لا يلزمه الدم ، وبه قال أحمد لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج لتقدم أحد أركان العمرة . ولو سبق الإحرام مع بعض الأعمال قبل أشهر الحج فعدم وجود الدم أولى . وعن مالك أنه مهما حصل التحلل في أشهر الحج وجب الدم . وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر أعمال العمرة في الأشهر كان متمتعاً . ومنها أن يقع الحج والعمرة في سنة واحدة ، فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة فلا دم عليه سواء أقام بمكة إلى أن حج أو رجع وعاد لأن الدم إنما يجب إذا زاحم بالعمرة حجة في وقتها وترك الإحرام بحجة من الميقات مع حصوله في وقت الإمكان ولم يوجد . وعن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج وإذا لم يحجوا في عامهم ذلك لم يهدوا . ومنها أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة ، فإن عاد إلى ميقاته الذي أنشأ العمرة منه وأحرم بالحج فلا دم عليه لأنه لم يربح ميقاتاً . وفي اشتراط نية التمتع وجهان : أصحهما لا تشترط كما لا تشترط نية القرآن ، وهذا لأن الدم منوط بربح أحد السفرين . ولا يختلف ذلك بالنية وعدمها ويخالف اشتراط نية الجمع بين الصلاتين من حيث إن أشهر الحج كما هي وقت الحج فهي وقت العمرة بخلاف وقت الصلاة . ثم إن دم التمتع دم جبران الإساءة حتى لا يجوز له أن يأكل منه ، أو دم نسك حتى يجوز أن يأكل . ذهب أبو حنيفة إلى الثاني ومال الشافعي إلى الأول لما روي أن عثمان كان ينهى عن المتعة فقال له علي رضي الله عنه : أعمدت إلى رخصة أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم للغريب للحاجة فأبطلتها؟ فسمى المتعة رخصة ، وهذا دليل النقص . وأيضاً التمتع تلذذ وأنه ينافي العبادة لأنها مشقة وتكليف . وأيضاً إنه تعالى أوجب الهدي على المتمتع بلا توقيت ، ولو كان نسكاً كان موقتاً .

وأيضاً للصوم فيه مدخل ودم النسك لا يبدل بالصوم ، والكلام في مراتب هذا الهدي كما مرّ وينبغي أن يكون الإبل ثنياً وهو الطاعن في السنة السادسة ، وكذا البقر وهو الطاعن في السنة الثالثة ، ويجزئ كل من الإبل والبقر عن سبعة شركاء . ولو اقتصر على الغنم فليكن ثني المعز وهو الذي دخل في السنة الثالثة ، أو جذع الضأن وهو أيضاً في السنة الثانية ، يستوي في هذا الباب الذكر والأنثى ويستحب أن يذبح يوم النحر ، ولو ذبح بعدما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق فترتب عليه الهدي جبراً له . وكذا قبل الإحرام بالحج وبعد التحلل من العمرة على الأصح ، لأنه حق مالي تعلق بسببين وهما الفراغ من العمرة والشروع في الحج . فإذا وجد أحدهما بأن إخراجه كالزكاة والكفارة . وعند أبي حنيفة لا يجوز بناء على أنه نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر وبه قال مالك وأحمد . فمن لم يجد الهدي وقيس عليه ما إذا لم يجد ما يشتريه به أو بيع بثمن غال ، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج . قال الشافعي : أي بعد الإحرام بالحج لأنه تعالى جعل الحج ظرفاً للصوم ، ولا يصلح سائر أفعال الحج ظرفاً له فلا أقل من الإحرام . وأيضاً ما قبل الإحرام بالحج ليس وقتاً للهدي الذي هو أصل فكذا لبدله ، وقال أبو حنيفة ، أي في وقت الحج وهو أشهره فجاز أن يصوم بعد الإحرام بالعمرة . وبمثله قال أحمد في رواية ، وفي أخرى قال : يجوز بعد التحلل من العمرة ، ولا يجوز أن يصوم شيئاً منها في يوم النحر ولا في أيام التشريق كما مر في الصوم . والمستحب أن يصوم الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة ، فإن الأحب للحاج يوم عرفة أن يكون مفطراً كيلا يضعف عن الدعاء وأعمال الحج ، ولم يصمه النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة بل يروى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة . ويحكى عن أبي حنيفة أن الشخص إن كان بحيث لا يضعف فالأولى أن يصوم حيازة للفضيلتين . ويعلم مما ذكرنا أنه يستحب أن يحرم بالحج قبل يوم عرفة بثلاثة أيام ليصوم فيها ، وأما الواجد للهدي فالمستحب له أن يحرم يوم التروية بعد الزوال متوجهاً إلى منى لما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج » وإذا فاته صوم الأيام الثلاثة في الحج لزمه القضاء عند الشافعي لأنه صوم واجب فلا يسقط بفوات وقته كصوم رمضان ، وإذا قضاها لم يلزمه دم خلافاً لأحمد . وعند أبي حنيفة يسقط الصوم بالفوات ويستقر الهدي في ذمته { وسبعة إذا رجعتم } للشافعي في المراد من الرجوع قولان : أصحهما الرجوع إلى الأهل والوطن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتمتعين

« من كان معه هدي فليهد ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم » والثاني أن المراد منه الفراغ من أعمال الحج وبهذه قال أبو حنيفة وأحمد كأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلاً عليه من الأعمال . وعلى الأصح لو توطن مكة بعد فراغه من الحج صام بها ، وإن لم يتوطنها لم يجز صومه بها ولا في الطريق على الأصح لأنه تقديم العبادة البدنية على وقتها . ثم إذا لم يصم الثلاثة في الحج حتى فرغ ورجع لزمه صوم العشرة عند الشافعي . وهل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة والسبعة؟ الأصح عند إمام الحرمين وطائفة وبه قال أحمد أنه لا يجب لأن التفريق في الأداء يتعلق بالوقت فلا يبقى حكمه في القضاء كالتفريق في الصلوات المؤداة . والأصح عند أكثر أصحاب الشافعي وجوب التفريق كما في الأداء . ويفارق تفريق الصلوات فإن ذلك التفريق يتعلق بالوقت ، وهذا يتعلق بالفعل وهو الحج . والرجوع وما قدر ما يقع به التفريق أصح الأقوال التفريق بأربعة أيام ، ومدة إمكان مسيره إلى أهله على العادة الغالبة بناء على أصلين سبقا أحدهما : أن المتمتع ليس له صوم أيام التشريق ، والثاني أن المراد بالرجوع الرجوع إلى أهله { تلك عشرة كاملة } طعن فيه بعض الملحدين أن هذا من إيضاح الواضحات . فمن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة وأيضاً قوله { كاملة } يوهم أن ههنا عشرة غير كاملة وهو محال ، فذكر العلماء من فوائده أن الواو في قوله { وسبعة } ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد يكون للإباحة بمعنى أو كما في قوله { مثنى وثلاث ورباع } [ فاطر : 1 ] وكما في قولك « جالس الحسن وابن سيرين » لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة . وأيضاً ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً وعلى هذا مدار علم السياقة وكفى به إفادة . وأيضاً المعتاد أن البدل أضعف حالاً من المبدل كالتيمم من الوضوء ، فلعل المراد أن هذا البدل كامل في كونه قائماً مقام المبدل وهما في الفضيلة سواء ، وذكر العشرة لصحة التوصل به إلى هذا الوصف إذ لو اقتصر على تلك جاز أن يعود إلى الثلاثة أو إلى السبعة . وأيضاً قوله { تلك عشرة كاملة } يدفع التخصيص الذي يتطرق إلى كثير من العمومات في الشرع ويصرف الكلام إلى التنصيص . وأيضاً إن مراتب الأعداد ثلاث : الآحاد والعشرات والمئات . وهذه من وساطها فكأنه قال : إنما أوجبت هذا العدد لكونه موصوفاً بصفة التوسط والكمال . وأيضاً التوكيد طريقة مسلوكة في كلام العرب يعرف منه كون المذكور مما يعقد به الهمم ، ففيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها وأيضاً هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب فبين الله تعالى بذلك بياناً قاطعاً كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم أشار بيده ثلاث مرات وأمسك إبهامه في الثالثة تنبيهاً بالإشارة الأولى على الثلاثين ، وبالثانية على التسعة والعشرين .

وأيضاً فيه إزالة الاشتباه والتصحيف الذي يمكن أن يتولد من تشابه سبعة وتسعة في الخط . وأيضاً يحتمل أن يراد كاملة في الإجزاء حتى لا يتوهم أنها بسبب التفريق غير مجزئة كما لا يجزئ في كفارات الظهار والقتل ووقاع رمضان إلا الصوم المتتابع . وأيضاً يحتمل أن يكون خبراً في معنى الأمر أي فلتكن تلك الصيامات كاملة لتسد الخلل ويكون الحج المأمور به تاماً كاملاً كما قال { وأتموا الحج والعمرة لله } .
واعلم أن الصوم مضاف إلى الله تعالى في قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى « » الصوم لي وأنا أجزي به « والحج أيضاً مضاف إليه تعالى في الآية { وأتموا الحج والعمرة لله } وكما دل النقل على هذا الاختصاص فالعقل أيضاً يدل على ذلك . أما الصوم فلأنه عبادة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وهو مع ذلك شاق على النفس جداً ، وأما الحج فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجوه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق جداً لأنه يوجب مفارقة الأهل والولد ويقتضي التباعد عن أكثر اللذات والاستمتاعات ، فكل منهما لا يؤتى به إلا لمحض ابتغاء مرضاة الله تعالى . ثم إن هذا الصوم بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعاً بين مشقتين ، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من مشقة إلى مشقة ، والأجر على قدر النصب ، فلا جرم وصفه الله تعالى بالكمال في باب العبادة والتنكير في اللفظ أيضاً يؤيد ذلك زادنا الله اطلاعاً على لطائف قرآنه العظيم { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } اختلف العلماء في أن المشار إليه ماذا؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه : إنه إشارة إلى التمتع وما ترتب عليه لأنه ليس البعض أولى من البعض فيعود إلى كل ما تقدم فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام . وقال الشافعي : بل عودة إلى الأقرب أولى وهو الحكم بوجوب الهدي على المتمتع . وأيضاً قوله { فمن تمتع } عام يشمل الحرمي والميقاتي والآفاقي . وأيضاً إنه تعالى شرع القرآن والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج ، والنسخ يثبت في حق الناس كافة . ويتفرع على مذهب أبي حنيفة أن من تمتع أو قرن من حاضري المسجد الحرام كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه . وعلى مذهب الشافعي أن يصح تمتعهم وقرانهم ولا يجب عليهم شيء ، فإن لزوم الهدي على الآفاقي بسبب أنه أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فيلزمه جبر الخلل بدم .

والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فلا خلل في حجة تمتع أو قرن أو أفرد ، فلا يلزمه الهدي ولا بدله . ثم اختلفوا في حاضري المسجد الحرام فعن مالك أنهم أهل مكة وأهل ذي طوى . وعن طاوس هم أهل الحرم . وعن الشافعي هم الذين يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة ، فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين ، وبه قال أحمد . وعن أبي حنيفة أنهم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة . والمواقيت : ذو الحليفة على عشر مراحل من مكة وعلى ميل من المدينة ، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب على خمسين فرسخاً من مكة ، ويلملم من صوب اليمن وقرن لنجد الحجاز ، وذات عرق من صوب المشرق والعراق وخراسان وكل هذه الثلاثة من مكة على مرحلتين . فهذه هي المذاهب وأوفقها للآية . مذهب مالك لأن أهل مكة هم الذين يحضرون المسجد الحرام . إلا أن الشافعي قال : قد يطلق المسجد الحرام على الحرم قال تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به من الحرم لا من المسجد . وقد يقال : حضر فلان فلاناً إذا دنا منه . ومن كان مسكنه دون مسافة القصر فهو قريب نازل منزلة المقيم في نفس مكة . وفي مذهب أبي حنيفة بعد ، فإن يؤديّ إلى إخراج القريب من الحاضرين وإدخال البعيد لتفاوت مسافات المواقيت ، ثم إن مسافة القصر مرعية من نفس مكة أو من الحرم الأعرف هو الثاني لما قلنا إن المسجد الحرام يراد به جميع الحرم . قال الفراء : ذلك لمن لم يكن معناه ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة كقوله صلى الله عليه وسلم « اشتراطي لهم الولاء » أي عليهم وذكر حضور الأهل والمراد حضور الحرم لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون { واتقوا الله } في محافظة حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن تهاون بحدوده . قال أبو مسلم : العقاب والمعاقبة سيان ، واشتقاقهما من العاقبة كأنه يراد عاقبة فعله السيء كقول القائل « لتذوقن فعلك » .
التأويل : حج الخواص حج رب البيت وشهوده وهذه سيرة إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما قال { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] ولكنه أحصر في السماء السابعة فلا جرم أهدى بإسماعيل ، ولما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان ذهابه بالله ما أحصره شيء فقيل له { وأتموا الحج والعمرة لله } وجرى ما جرى { فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى }

[ النجم : 9 ، 10 ] ثم قال لأمته : اسعوا في إتمام صورة الحج بقدر استطاعتكم ، وفي الحقيقة بأن تخرجوا وجودكم { فإن أحصرتم } بأعداء النفس والهوى أو لملال القلب أو لكلال الروح أو باستجلاء الأحوال أو بتمني الآمال { فما استيسر من الهدي } أعلاها الروح وأوسطها القلب وأدناها النفس يهدي ما كان الإحصار به . { ولا تحلقوا } لا تشتغلوا بغير الله حتى تبلغوا المقصد ، فإن عرض مرض في الإرادة أو يعلوه أذى من المزاحمات من غير فترة من نفسه فلم يجد بداً من الإناخة بفناء الرخص ، فليجتهد أن يتداركه بالفدية فقد قيل : من أقبل على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله ، والصيام هو الإمساك عن المشارب والصدقة الخروج عن المعلوم ، والنسم ذبح النفس في مقاساته الشدائد { فإذا أمنتم } الإحصار وأقبل الجد الصاعد والزمان المساعد { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } واستراح في الطلب { فما استيسر من الهدي } من ترك مشارب الروح والقلب والنفس { فمن لم يجد لم يستطع } ترك تلك المشارب لعلو شأنها وعظم مكانها فعليه الإمساك عن مشارب القوى الثلاث المدركة للمعاني والمتصرفة فيها وهي الوهم والحافظة والمتخيلة ، هذا إذا كان في عالم المعنى ، فإذا رجع إلى عالم الصورة أمسك عن القوى السبع مشار بها وهي الحس المشترك والخيال ، لأن الأولى مدركة الصور ، والثانية معينتها على الحفظ وبعدهما الحواس الخمس الظاهرة { تلك عشرة كاملة } هي الحواس الظاهرة والباطنة { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } لأن الحاضر في مقام القرب والأنس لا يخاطب ولا يعاتب وإنما يلزم العتب ، والطلب للسالك والسائر ، فإذا وصل فقد استراح . { واتقوا } أن تسكنوا في فترة أو وقفة أو تركنوا إلى مشرب من هذه المشارب { واعلموا أن الله شديد العقاب } للغافلين عن هذا الخطاب القانعين بذل الحجاب .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

القراآت : { فلا رفث ولا فسوق } بالرفع فيهما : أبو عمرو ويعقوب وابن كثير ويزيد . وزاد يزيد { ولا جدال } بالرفع . الباقون : بفتح الثلاثة وكذلك يروي القطعي عن أبي زيد من طريق الحسن الهاشمي ، { واتقون } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل . وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل بالياء . { ومن تأخر } روى هبة الله بن جعفر عن الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة في الوقف بالتليين .
الوقوف : { معلومات } ط { في الحج } ط { يعلمه الله } ط { التقوى } ز للعارض بين الجملتين المتفقتين { الألباب } 5 { من ربكم } ط لأن « إذا » أجيبت بالفاء فكانت شرطاً في ابتداء حكم آخر { الحرام } ص لعطف المتفقتين { هداكم } ج لأن الواو تصلح حالاً واستئنافاً . { الضالين } 5 { واستغفروا الله } ج { رحيم } 5 { ذكراً } ط { من خلاق } 5 { النار } 5 { مما كسبوا } ط { الحساب } 5 نصف الجزء . { معدودات } ط لأن الشرط في بيان حكم آخر { عليه } الأولى ط لابتداء شرط آخر مع العطف { عليه } الثانية لا لتعليق اللام . { اتقي } ط لاختلاف النظم { تحشرون } 5 .
التفسير : من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر ، فالتقدير أشهر الحج أو وقته أشهر معلومات كقولك « البلد شهران » . أو الحج حج أشهر معلومات أي لا حج إلا فيها خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء . وقيل : يمكن أن يقال : جعل الحج نفس الأشهر كما في قولهم « ليل قائم ونهار صائم » واتفق المفسرون على أن شوّالاً وذا القعدة من أشهر الحج . واختلفوا في ذي الحجة فعن عروة بن الزبير ومالك كله لأن أقل الجمع ثلاثة ، وقد يفعل الإنسان بعد النحر ما يتصل بالحج من رمي الجمار ونحوه . والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى أيام بعد الشهر ، من هنا ذهب عروة إلى جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر . وعن أبي حنيفة : عشر ذي الحجة وهو قول ابن عباس وابن عمرو النخعي والشعبي ومجاهد والحسن قالوا : لفظ الجمع يشترك فيما وراء الواحد بدليل قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] ونزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال « رأيتك سنة كذا » وإنما رآه في ساعة منها . ورمي الجمار يفعله الإنسان وقد حل بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج . والحائض إذا طاف بعده فهو في حكم القضاء . وإنما قلنا إن يوم النحر من أشهر الحج لأنه وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة . ومن المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر . وعن الشافعي : التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع يوم النحر ولا تفوت العبادة مع بقاء وقتها .

قيل : إنه تعالى جعل كل الأهلة مواقيت للحج في قوله { قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] وفي هذه الآية جعل وقت الحج أشهر معلومات . وأجيب بأن تلك الآية عامة وهذه خاصة والخاص مقدم على العام . وأقول : الميقات علامة الوقت فلولا الأهلة لم يعلم مدخل كل شهر على التعيين . فجميع الأهلة في الإعلام سواء بالنسبة إلى وقت مفروض ، فلا منافاة بين كون جميع الأهلة علامات الحج من حيث إنها تؤذن بما بقي من السنة إلى أوان الحج ، وبين كون الأشهر المعلومات وقتاً للحج ، ومعنى قوله { معلومات } أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معينة من شهورها ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مراراً ، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع . وعلى هذا فهذا الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنما جاء موافقاً مقرراً له . أو المراد أنها معلومات ببيان الرسول ، أو المراد أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها وتأخيرها كما يفعله أصحاب النسيء . ثم إن الشافعي استدل بالآية على أنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج ، وبه قال أحمد وإسحق . وأيضاً الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياساً على الصلاة . وأيضاً الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكماً ، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى . وأيضاً الإحرام لا يبقى صحيحاً لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء ، فلأن لا ينعقد صحيحاً لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء . وعن أبي حنيفة ومالك والثوري : جواز الإحرام في جميع السنة لقوله تعالى { قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] والجواب ما مر . قالوا : الإحرام التزام الحج فجاز تقدمه قبل الوقت كالنذر . والجواب الفرق بين النذر والإحرام ، فإن الوقت معتبر للأداء ولا اتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ ، وأما الإحرام مع كونه التزاماً فهو أيضاً شروع في الأداء وعقد عليه فلا جرم افتقر إلى الوقت . قالوا : اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا : من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله . وقد تبعد داره بعداً شديداً يحتاج إلى أن يحرم قبل شوال . والجواب أن النص لا يعارضه الأثر على أنه يمكن تخصيص الأثر في حق من لا يكون داره سحيقاً { فمن فرض فيهن الحج } فمن ألزم نفسه في هذه الشهور أن يحج . وبماذا يحصل هذا الإلزام المسمى بالإحرام لأنه يحرم عليه حينئذ أشياء كانت حلالاً له . قال الشافعي : إنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية . نعم إنها سنة عند النية وبه قال أحمد ومالك لقوله تعالى { فمن فرض } وفرض الحج على النية أدل منه على التلبية أو سوق الهدي .

وفرض الحج موجب لانعقاد الحج بدليل قوله { فلا رفث } فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم « لكل امرئ ما نوى » وأيضاً إنه عبادة ليس في آخرها ولا في أثنائها نطق واجب ، فكذلك في ابتدائها كالطهارة والصوم . وعند أبي حنيفة : التلبية شرط انعقاد الإحرام لإطباق الناس على الاعتناء به عند الإحرام إلا أن سوق الهدي وتقليده والتوجه معه يقوم مقام التلبية . وعن ابن عمر أنه قال : إذا قلد أو أشعر فقد أحرم . وعن ابن عباس : إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحج فقد أحرم . وروى أبو منصور الماوردي في تفسيره عن عائشة أنها قالت : لا يحرم إلا من هل أو لبى . وأيضاً إن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيها بنفس النية كالصلاة . وصورة التلبية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك » ولا تكره الزيادة على هذا . روي عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها . لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغبى إليك والعمل . فإن رأى شيئاً يعجبه قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة . ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي بعض الروايات أنه قال في تلبيته : لبيك حقاً تعبداً ورقاً . قال الشافعي في أصح قوليه : الأفضل أن ينوي ويلبي حين تنبعث به راحلته إن كان راكباً ، وحين يتوجه إلى الطريق إن كان ماشياً لما روي أنه صلى الله عليه وسلم لم يهل حتى انبعثت به دابته ، قال إمام الحرمين : ليس المراد من انبعاث الدابة ثورانها ، بل المراد استواؤها في صوب مكة . فإذا استوت به راحلته متوجهاً إلى الطريق نوى : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولبى . وإن كان يريد القران نوى الحج والعمرة ، وإن كان يريد العمرة نوى العمرة ولبى . والقول الثاني وبه قال أحمد ومالك وأبو حنيفة أن الأفضل أن ينوي ويلبي كما تحلل من الصلاة أي من ركعتي الإحرام وهو قاعد . ثم يأخذ في السير لرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم ، وتكثير التلبية في دوام إلا حرام مستحب قائماً كان أو قاعداً راكباً أو ماشياً حتى في حالة الجنابة والحيض لأنه ذكر لا إعجاز فيه فأشبه التسبيح ، قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت : « افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت » .
قوله عز من قائل { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال } من قرأ بفتح الثلاثة أو برفعها فلا إشكال ، ومن قرأ برفع الأولين وفتح الأخير فقيل : لأن الأولين محمولان على معنى النهي كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، ثم أخبر بانتفاء الجدال أي لا شك ولا خلاف في الحج .

وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج ، وربما يستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم « من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه » وإنه لم يذكر الجدال . وقيل : الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق فلذلك قرئ كذلك . أما الأوّل فلأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة ، والجدال مشتمل على ذلك لأن المجادل يشتهي تمشية قوله ، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله ، والمجادل لا ينقاد للحق . وكثيراً ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء ، فدل على أن الجدال مشتمل على جميع أنواع القبح . وأما أن القراءة تفيد ذلك فلأن الفتح يقتضي نفي الماهية ، وانتفاؤها يوجب انتفاء جميع أفرادها . وأما الرفع فلا يوجب انتفاء جميع أفراد الماهية بل يجوّز ، فيكون الفتح أدل على عموم النفي . أما تفسير الرفث فعن ابن عباس هو الجماع ، وله في العمرة والحج نتائج منها . فساد النسك يروى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة ، واتفق الفقهاء عليه بعدهم ، وإنما يفسد الحج بالجماع إذا وقع قبل التحللين لقوّة الإحرام . ولا فرق بين أن يقع قبل الوقوف بعرفة أو بعده خلافاً لأبي حنيفة حيث قال : لا يفسد بالجماع بعد الوقوف ولكن يلزمه الفدية . وأما الجماع بين التحللين فلا أثر له في الفساد على الصحيح . وعن مالك وأحمد أنه يفسد ما بقي شيء من إحرامه ، وتفسد العمرة أيضاً بالجماع قبل حصول التحلل . ووقت التحلل عنها بعد الفراغ من الحلق بناء على أنه نسك وهو الأصح ، فتفسد العمرة بالجماع قبل الحلق ، واعلم أن للعمرة تحللاً واحداً وذلك إذا طاف وسعى وحلق ، وللحج تحللان وذلك أنه إذا أتى باثنين من الرمي والنحر والحلق والطواف أعني الرمي والحلق ، أو الرمي والطواف ، أو الحلق والطواف ، حصل التحلل الأول وهو إباحة جميع المحظورات من التطيب والقلم ولبس المخيط وقتل الصيد وعقد النكاح إلا الجماع فإنه لا يحل إلى الإتيان بالأمر الثالث ، فإذا أتى به حل الجماع أيضاً وهو المراد بالتحلل الثاني قال الأئمة : الحج يطول زمانه وتكثر أعماله بخلاف العمرة فأبيح بعض محظوراته دفعة وبعضها أخرى .

قال صلى الله عليه وسلم « إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء » واللواط وإتيان البهيمة في الإفساد كالوطء في الفرج وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة فيهما ولمالك في إتيان البهيمة ، ثم سائر العبادات لا حرمة لها بعد الفساد ويصير الشخص بالفساد خارجاً منها ، لكن الحج والعمرة وإن فسدا يجب امضي فيهما وذلك بإتمام ما كان يفعله لولا عروض الفساد روي عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من أفسد حجه مضى في فاسده وقضى من قابل . ومن نتائج الفساد الكفارة يستوي فيها الحج والعمرة . وخصالها خمس على الترتيب بدنة إن وجدها لأن الصحابة نصوا على البدنة وإلا فبقرة وإلا فسبع من الغنم وإلا قومت البدنة دراهم والدراهم طعاماً فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوماً . ومن النتائج القضاء باتفاق لما روينا عن كبار الصحابة وقضى من قابل ، سواء كان المقضي عنه فرضاً أو تطوعاً فإن القضاء واجب ، وأصح الوجهين في القضاء أنه على الفور لا على التراخي ، لأنه لزم وتضيق بالشروع ويدل عليه ظاهر قول الصحابة و « قضى من قابل » . وكذا الكلام فيمن ترك الصوم أو الصلاة بعدوان على الأشبه ، لأن جواز التأخير نوع ترفيه وتخفيف والمعدي لا يستحق ذلك . ولو كانت المرأة محرمة نظر إن جامعها وهي نائمة أو مكرهة لم يفسد حجها وإلا فسد ، ولكن لا يجب على أصح القولين إلا بدنة واحدة عنهما جميعاً . وإذا أفسد حجه بالجماع ثم جامع ثانياً فإن لم يفد عن الأول لزم بدنة أخرى . وإن فدى لم يلزم إلا شاة . وعن الحسن : الرفث كل ما يتعلق بالجماع ، فليس للمحرم التقبيل بالشهوة ولا المباشرة فيما دون الفرج . فلو باشر شيئاً منها عمداً فالفدية . روي عن علي وابن عباس أنهما أوجبا بالقبلة شاة وإن كان ناسياً لم يلزمه شيء ولا يفسد شيء من مقدمات الجماع الحد ولا يوجب البدنة بحال سواء أنزل أو لم ينزل ، وبه قال أبو حنيفة ، وعند مالك يفسد الحج إذا أنزل وهو أظهر الروايتين عن أحمد . وقيل : الرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها . والرفث باليد اللمس والغمز ، والرفث بالفرج الجماع . وقيل : الرفث هو قول الخنا والفحش لقوله صلى الله عليه وسلم « إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم » وعن أبي عبيدة : الرفث الإفحاش وعنه الرفث اللغو في الكلام . وأما الفسوق فهو الخروج عن الطاعة وحدود الشريعة فيشمل كل المعاصي قال تعالى { ففسق عن أمر ربه } [ الكهف : 50 ] وقيل : هو التنابز بالألقاب والسباب قال تعالى { ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } وقال صلى الله عليه وسلم « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر »

وقيل الإيذاء والإيحاش { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } [ البقرة : 282 ] وعن ابن زيد : هو الذبح للأصنام { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وأنه لفسق } [ الأنعام : 121 ] وقيل : الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة والفسوق ذلك مع الأجنبية . وأما الجدال فإنه فعال من المجادلة وأصله من الجدل والفتل كأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه . واختلف المفسرون فيه . فعن الحسن : هو الجدال الذي يفضي إلى السباب والتكذيب والتجهيل ، وإنه واجب الاجتناب في كل حال إلا أنه مع الرفقاء وفي الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة ، وقال محمد بن كعب القرظي : إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم : حجنا أتم . وقال آخرون : بل حجنا أتم . وقال آخرون : بل حجنا أتم . فنهاهم الله عن ذلك . وقال مالك في الموطأ : الجدال في الحج أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بفزح وإنه جبل هناك ، وكان غيرهم يقفون بعرفات ، وكل من الفريقين يقول : نحن أصوب . وقال القاسم بن محمد : كانوا يجعلون الشهور على العدد فيختلفون في يوم النحر بسبب ذلك . فبعضهم يقول هذا يوم عيد ، ويقول آخرون بل غداً فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة هي مواقيت الحج فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه . قال القفال : ويدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق ذلك عليهم وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً . فقال صلى الله عليه وسلم « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة » فتركوا الجدال حينئذ . وقال عبد الرحمن بن زيد : جدالهم في الحج اختلافهم في أن أيهم المصيب مقام إبراهيم . وقيل : إنه النسيء نهوا عن ذلك فإن الزمان قد عاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، قال القاضي أبو بكر الباقلاني : لو حمل النفي في الألفاظ الثلاثة على الخبر وجب أن يحمل الرفث على الجماع ، والفسوق على الزنا ، والجدال على الشك في الحج ، ليصح خبر الله تعالى بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج المعتبر . وإن حملنا الكلام على النهي صح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش ، وبالفسوق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أصنافه ، فعلى هذا يكون في الآية بعث على الأخلاق الحميدة والآداب الحسنة . وبالحقيقة لا رفث نهي عن طاعة القوّة الشهوية التي توجب الانهماك في الفجور ، ولا فسوق إشارة إلى قهر القوّة الغضبية الداعية إلى التمرد والاستعلاء ، ولا جدال رمز إلى تسخير القوّة الوهمية التي تحمل الإنسان على الخلاف في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه ، فمنه تنشأ الآراء المتخالفة والأهواء المتصادمة والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة .

واعلم أن الجدال ليس منهياً عنه بجميع أقسامه وإنما المذموم منه هو الذي منشأه صرف العصبية ومخض المراء لتنفيذ الآراء الزائفة وتحصيل الأعراض الزائلة والأغراض الفارغة ، وأما الذب عن الدين القويم والدعاء إلى الصراط المستقيم وإلزام الخصم الألد وإفحام المعاند اللجوج بمقدمات مشهورة وآراء محمودة حتى يستقر الحق في مركزه ويضمحل صولة الباطل ويركد ريحه فمأمور به في قوله عز من قائل { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] وإنه إحدى شعب البيان وقد يكون أنجع من قاطعة البرهان { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } لم يتعرض لمقابل الخير وإن كان عالماً به أيضاً لنكتة هي أني إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك ضده أخفيته وسترته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك هكذا في الدنيا فكيف تكون في العقبى؟ وفيه ترغيب للمطيعين وإيذان بأنهم من المحسنين « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » والعبد الصالح إذا علم اطلاع مولاه على سرائره وخفاياه اجتهد في أداء ما أمره به ، واحترز عن ارتكاب ما نهاه عنه ، ومن غاية عنايته حثهم على الخير بعدما نهاهم عن الشر ليستعملوا مكان الرفث التفث ، وبدل الفسوق رعاية الحقوق ، ومقام الجدال والشقاق الوفاق مع الرفاق تتميماً لمكارم الأخلاق وتنبيهاً على شرف النفس وطيب الأعراق بدليل قوله { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن ذلك خير الزاد . وليس السفر من الدنيا أهون من السفر في الدنيا ، وهذا لا بد له من زاد فكذا ذلك . بل يزداد فإن زاد الدنيا يخلصك عن عذاب منقطع موهوم ، وزاد الآخرة ينجيك من عذاب أبديّ معلوم . زاد الدنيا يوصلك إلى متاع الغرور ، وزاد الآخرة يبلغك دار السرور . وزاد الدنيا سبب حصول حظوظ النفس ، وزاد الآخرة سبب الوصول إلى عتبة الجلال والقدس .
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقيل : نزلت في ناس من اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : نحن متوكلون . ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله سبحانه أن يتزوّدوا ما يتبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم . وفيه دليل على أن القادر على استصحاب الزاد في السفر ، إذا لم يستصحب عصى الله في ذلك ، ففيه إبطال حكمة الله تعالى ورفع الوسائط والروابط التي عليها تدور المناجح وبها تنتظم المصالح . روي أن بعض العارفين زهد فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار وقال : لا أسأل أحداً شيئاً حتى يأتيني رزقي . فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعاً لم يأته شيء حتى كاد يتلف .

فقال : يا رب إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك . فألهمه الله تعالى في قلبه : وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس فجاء هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك ، فسمع أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا ، أما علمت أنه يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بيد القدرة . وقيل : في الآية حذف أي تزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى واتقون وخافوا عقابي . وفيه تنبيه على كمال عظمته كقوله « أنا أبو النجم وشعري شعري » { يا أولي الألباب } يعني أن قضية العقل تقوى الله ومن لم يتقه فلا لب له في التحقيق . ولما منع الناس عن الجدال اختلج في قلب المكلف شبهة أن التجارة لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها يجب أن تكون منهية . وأيضاً أنها كانت محرمة في الجاهلية وقت الحج وأنه أمر غير مستحسن ظاهراً لأن المشتغل بخدمة الله تعالى يجب أن لا يتلوث بالأطماع الدنيوية . وأيضاً كان من الممكن أن تقاس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة ولاصطياد في كونها محظورة بالإحرام فلدفع هذه الشبهة نزلت .
{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا } أي في أن تطلبوا { فضلاً من ربكم } عطاء منه وتفضلاً أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والربح بها كقوله { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } [ المزمل : 20 ] عن أبي مسلم : أنه حمل الآية على ما بعد الحج . قال : والتقدير واتقون في كل أفعال الحج ، ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح أن تبتغوا كقوله { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] وزيف بأن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة ، ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج ، وأما بعد الفراغ فالحل معلوم ، وقياس الحج على الصلاة فاسد ، فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في خلالها . وأيضاً الفاء في قوله { فإذا أفضتم } ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك يدل على أن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ويؤيده قراءة ابن عباس { فضلاً من ربكم في مواسم الحج } وقال ابن عباس في سبب نزول الآية كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في الكف عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج للتجارة الداج ويقولون : هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج الأعوان والمكارون من الدجيج وهو الدبيب في السير . قال ابن السكيت : لا يطلق الدجيج إلا إذا كان جماعة ولا يقال ذلك للواحد .

وقيل : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم ، وكانت معايشهم منها . فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الحرج . ومن المعلوم أنه إنما يباح ما لم يشغل عن العبادة . وعن ابن عمر أن رجلاً قال له : إنا قوم نكرى في هذا الوجه يعني في طريق الحج ، وإن قوماً يزعمون أن لا حج لنا . فقال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت عنه فلم يرد عليه حتى نزل { ليس عليكم جناح } فدعا به فقال : أنتم حجاج . وعن عمر أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج؟! وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : أن ابتغاء الفضل ههنا طلب أعمال أخر زائدة على أعمال الحج موجبة لفضل الله تعالى ورحمته كإعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وإرواء العطشان . واعلم أن الفضل ورد في القرآن بمعان ، منها ما يتعلق بالمصالح الدنيوية من المال والجاه والغذاء واللباس وهو المسمى بالرزق { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] ومنها ما يتعلق بالمصالح الأخروية وهو الفضل والثواب والجنة والرحمة { تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله } [ الفتح : 29 ] { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان } [ النساء : 83 ] ومنها ما يتعلق بمواهب القربة { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } [ الحديد : 21 ] { وكان فضل الله عليك عظيماً } [ النساء : 113 ] ورفع الجناح قد يستعمل في الواجب والمندوب مثل ما يستعمل في المباح كما مر في قوله { فلا جناح عليه أن يطوّف بهما } [ البقرة : 158 ] .
{ فإذا أفضتم } أي دفعتم بكثرة ومنه إفاضة الماء وهو صبه بكثرة . التقدير : أفضتم أنفسكم . فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا وصبوا . وعرفات جمع عرفة وكلاهما علم للموقف كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمي مجموع تلك القطعة بعرفات كما قيل في باب الصفة « ثوب أخلاق » و « برمة أعشار » ثم سئل : هلا منعت الصرف وفيها سببان التعريف والتأنيث؟ فقيل : إنه لم يبق علماً بعدما جمع ثم جعل علماً لمجموع القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في الصرف . وقيل : إن هذا التنوين تنوين المقابلة في نحو « مسلمات » ومن ذهب إلى أن تنوين المقابلة لا وجود له كجار الله وكثير من المتأخرين . وأن هذا التنوين تنوين الصرف . قالوا : إنما لم يسقط لأن التأنيث في نحو « مسلمات وعرفات » ضعيف . فإن التاء التي هي لمحض التأنيث سقطت ، والباقية علامة لجمع المؤنث ، وزيف بأن عرفات مؤنث . وإن قلنا إنه لا علامة تأنيث فيها لا متمحضة للتأنيث ولا مشتركة لأنه لا يعود الضمير إليها إلا مؤنثاً تقول « هذه عرفات مباركاً فيها » ولا يجوز « مباركاً فيه » إلا بتأويل بعيد كما في قوله « ولا أرض أبقل إبقالها » فتأنيثها لا يقصر عن تأنيث مصر الذي هو بتأويل البقعة .

وقال بعض المتأخرين : الأولى أن يقال : إن التنوين للصرف وإنما لم يسقط في نحو « عرفات » لأنه لو سقط لتبعه الكسر في السقوط وتبع النصب وهو خلاف ما عليه الجمع السالم ، إذ الكسر فيه متبوع لا تابع فهو فيه كالتنوين في غير المنصرف للضرورة لم يحذفا لمانع . هذا مع أنه جوز المبرد والزجاج ههنا مع العلمية حذف التنوين وإبقاء الكسر كبيت امرئ القيس في رواية .
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وبعضهم يفتح التاء في مثله مع حذف التنوين كسائر ما لا ينصرف . فعلى هذين الوجهين التنوين للظرف بلا خلاف ، والأشهر بقاء التنوين في مثله مع العلمية . وقيل : التنوين عوض من منع الفتحة . واعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية ، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة . وعرفة وعرفات هي الموضع المخصوص . فقيل : التروية التفكر . وسببه أن آدم عليه السلام لما أمر ببناء البيت فبناء تفكر فقال : يا رب إن لكل عامل أجراً فما أجري على هذا العمل؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك . قال يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به . قال : زدني ، فقال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك . قال : حسبي يا رب حسبي . وقيل : إن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح متفكراً هل هذا من الله أو من الشيطان ، فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك . وقيل : إن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروّون في الأدعية التي يذكرونها في الغد بعرفات . وقيل : التروية الإرواء فإن أهل مكة كانوا يجمعون الماء للحجيج الذي يقصدونهم من الآفاق فيتسعون في الماء بعدما تعبوا في الطريق من قلة الماء ، أو لأنهم يتزوّدون الماء إلى عرفة ، أو لأن المذنبين كالعطاش وردوا بحار الرحمة فشربوا منها حتى رووا . أما يوم عرفة فقيل : إنه من المعرفة لأن آدم وحوّاء عليهما السلام التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه ، عن ابن عباس أو لأن جبريل عليه السلام علم آدم مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت؟ قال : نعم . أو لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة . عن علي عليه السلام وابن عباس وعطاء والسدي . أو لأن جبريل عرف بها إبراهيم المناسك وقد مر في قوله { وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 128 ] أو لأن إبراهيم وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يتلاقيا سنين ثم التقيا يوماً بعرفات ، وقد سبقت القصة في بناء البيت في قوله

{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد } [ البقرة : 127 ] ولما ذكرنا آنفاً من مقام إبراهيم أو لأن الحاج يتعارفون فيه إذا وقفوا ، أو لأنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة . وقيل : اشتقاقها من الاعتراف لأن الناس يعترفون هنالك للحق بالربوبية والجلال ، ولأنفسهم بالفقر واختلاف الحال . يقال : إن آدم عليه السلام وحوّاء لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ، فقال الله سبحانه : الآن عرفتما أنفسكما . وقيل : من العرف وهو الرائحة الطيبة لأن المذنبين يكتسبون بالمغفرة روائح طيبة عند الله مقام ضدها . قال صلى الله عليه وسلم « خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك » وقد يسمى يوم عرفة يوم إياس الكفار من الإسلام ويوم إكمال الدين ويوم إتمام النعمة ويوم الرضوان أخذاً من قوله تعالى في المائدة { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] عن عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية يوم عرفة وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام في حجة الوداع وقد اضمحل الكفر وهدم منار الجاهلية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لو يعلم الناس مالهم في هذه الآية لقرت أعينهم » . قال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية أنزلت علينا لتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين . وكان ذلك يوم عرفة ويوم جمعة يوم صلة الواصلين { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] يوم قطيعة القاطعين { إن الله بريء من المشركين ورسوله } [ التوبة : 3 ] يوم إقالة عثرة النادمين وقبول توبة التائبين { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] يوم وفد الوافدين في الخبر « الحاج وفد الله والحاج وزّار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره » يوم الحج الأكبر { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ] يوم خص صومه بكثرة الثواب قال صلى الله عليه وسلم « صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين » وقال « من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله مثل ثواب عيسى بن مريم » أقسم الله تعالى به في قوله عز من قائل { والشفع والوتر } [ الفجر : 3 ] عن ابن عباس : الشفع يوم التروية وعرفة ، والوتر يوم النحر يوم خص بكثرة الرحمة وسعة المغفرة . وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم » ولا ضير أن نشير ههنا إلى أعمال الحج إشارة خفيفة .

اعلم أنه من دخل مكة محرماً في ذي الحجة أو قبله فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات ، وإن كان متمتعاً طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات ، وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج ، وكذلك من أراد الحج من أهل مكة . والسنة للإمام أن يخطب بمكة اليوم السابع من ذي الحجة بعدما صلى الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فيها بالذهاب غداً بعد أن يصلوا الصبح إلى منى ، ويعلمهم تلك الأعمال . ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بمنى ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة ، ثم إذا طلعت الشمس على ثبير توجهوا إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها بل تضرب قبة الإمام بنمرة . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب وأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها . فإذا زالت الشمس حطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف ، وبعد الفراغ من الخطبة الأولى جلس ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه . ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر ، ثم يقيمون في الحال فيصلي . بهم العصر ، وهذا الجمع متفق عليه . ثم بعد الفراغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك ، وإذا وقفوا استقبلوا القبلة ويذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس . والوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به ، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج لقوله صلى الله عليه وسلم « الحج عرفة » فمن فاته عرفة فقد فاته الحج . وقد يستدل بالآية أيضاً على ذلك لأنها دلت على ذكر الله عند المشعر الحرام عقيب الإفاضة من عرفات . والإفاضة من عرفات لا تتصور إلا بعد الحصول بعرفات . وجمهور الفقهاء على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليس بركن لأنه تعالى أمر بالذكر عنده ، فالوقوف به تبع لا أصل بخلاف الوقوف بعرفة لأنه جعله أصلاً حيث لم يقل فإذا أفضتم عن الذكر بعرفات . ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار كفى . وقال أحمد : وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر . وإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة .

قيل : سمي بها لأنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب . وقيل : لأن الناس يجتمعون بها ، والازدلاف الاجتماع . وقيل : لأنهم يزدلفون إلى الله أي يتقربون بالوقوف فيها . ويقال : للمزدلفة جمعم لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء عن قتادة : وقيل : لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها . ثم إذا أتى الإمام المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين . ثم يبيتون بها فإن لم يبت بها فعليه دم شاة . فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس . والتغليس بالفجر ههنا أشد استحباباً منه في غيرها وهو متفق عليه . فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي ، يأخذ كل إنسان سبعين حصاة ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقول له قزح فيرقى فوقه إن أمكنه أو وقف بالقرب منه إن أمكنه ، ويحمد الله ويهلله ويكبره ، ولا يزال كذلك حتى يسفر جداً ، ثم يدفع قبل طلع الشمس . ويكفي المرور كما في عرفة ثم يذهبون منه إلى وادي محسر ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً يحرك دابته ، ومن كان ماشيا يسعى سعياً شديداً قدر رمية حجر . فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا رمى ، ثم بعدما رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه لأنه ربما لا يكون معه هدي . ثم بعدما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر ، ثم بعد الحلق أتى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة وهو الركن ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم بعد ذلك يعود إلى منى في بقية يوم النحر ، وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي . واعلم أن من مكة إلى منى فرسخين ، ومن منى إلى عرفات فرسخين ، ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات منها إلى كل واحد منهما فرسخ ، ولا يقفون بها في سيرهم من منى إلى عرفات . والحاصل أن أعمال الحج يوم النحر إلى أن يعود إلى منى أربعة : رمي جمرة العقبة والذبح والحلق والتقصير والطواف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة أيضاً لأنهم يأتون من منى زائرين للبيت ويعودون في الحال . والترتيب في الأعمال الأربعة على النسق المذكور مسنون وليس بواجب . أما أنه مسنون فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها ، وأما أنه ليس بواجب فلما « روي عن عبد الله بن عمرو قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال : يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي . قال : ارم ولا حرج . وأتاه آخر فقال : إني ذبحت قبل أن أرمي قال : ارم ولا حرج . وأتاه آخر فقال : إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال : ارم ولا حرج ، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج » .

وعن مالك وأحمد وأبي حنيفة أن الترتيب بينها واجب ولو تركه فعليه دم على تفصيل ليس ههنا موضع بيانه . ثم إن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج من سنة إبراهيم صلى الله عليه وسلم . وذلك أن الحمس كانوا لا يقفون بعرفات ويقولون : لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس ، والذين يقفون بمزدلفة إذا طلعت الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع للنحر . وقيل : أي ندفع من مزدلفة فندخل في غور الأرض . وثبير جبل هناك فأمر الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بمخالفة القوم في الدفعتين فأمره بأن يفيض من عرفات بعد غروب الشمس . وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، فإن السنة أيضاً من قبيل الوحي . قال الواحدي : المشعر الحرام هو المزدلفة سماه الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده . وقال في الكشاف : المشعر الحرام قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة ، أي : يوقد هناك النار في الجاهلية ، قال : وقيل المشعر الحرام ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام . قال : والصحيح أنه الجبل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة - بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفاً حتى أسفر . وقال : عند المشعر الحرام معناه ما يلي المشعر الحرام قريباً منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ، أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر . والمشعر المعلم لأنه معلم لعبادته ووصف بالحرام لحرمته . وأما الذكر المأمور به هناك فقيل : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء . والصلاة تسمى ذكراً قال تعالى { وأقم الصلاة لذكري } [ طه : 14 ] والدليل عليه أن { فاذكروا } أمر فهو للوجوب ولا ذكر يجب هناك إلا هذا ، والجمهور على أن المراد ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل . عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون { كما هداكم } « ما » مصدرية أو كافة . أطلق الأمر بالذكر أوّلاً ثم قيده ثانياً . والمعنى : اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة كي تكونوا شاكرين والهداية إما كل أنواع الهدايات أو الهداية إلى سنة إبراهيم في مناسك الحج ، أو اذكروا كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه بحسب الرأي والقياس ، فإن أسماء الله تعالى توقيفية أو الذكر الأول محمول على الذكر باللسان ، والثاني على الذكر بالقلب . أو المعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته ، أو المراد بتثنية الأمر تكريره وتكثيره كقوله

{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } [ الأحزاب : 41 ] وعلى هذا فيكون قوله { كما هداكم } متعلقاً بالأمرين جميعاً ، أو الذكر الأول مقيد بأنه عند المشعر الحرام والثاني مطلق يدل على وجوب ذكره في كل مكان وعلى كل حال . فالأول إقامة للوظيفة الشرعية والثاني ارتقاء إلى معارج الحقيقة وهو أن ينقطع القلب عن المشعر الحرام بل عن كل ما سواه من حلال وحرام . أو المراد بالأول الجمع بين الصلاتين هناك وبالثاني التسبيح والتحميد { وإن كنتم من قبله } من قبل الهدى ، أو من قبل الرسول ، أو من قبل إنزال الكتاب الذي بين فيه معالم دينكم { لمن الضالين } الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه . « وإن » هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية { ثم أفيضوا } في هذه الإفاضة قولان : أحدهما أنه الإفاضة من عرفات وعلى هذا فالأكثرون قالوا : إنه أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس لأنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويتعللون بأن الحرم أشرف من غيره ، فالوقوف به أولى . وبأنهم أهل الله وقطان حرمه فلا يليق بحالهم أن يساووا الناس بالوقوف في الموقف ترفعاً وكراً . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل أبا بكر أميراً في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات . فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك؟ فلا تذهب . فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها وأمر سائر الناس بالوقوف بها . والحاصل ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس الواقفون بعرفات لا من المزدلفة . ومعنى « ثم » التفاوت بين الإفاضتين وأن الإفاضة المأمور بها صواب والأخرى خطأ كما تقول « أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم » تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى كريم والإحسان إلى غيره ، وبهذا التحقيق لا يلزم عطف الشيء على نفسه . وصيرورة المعنى : فإذا أفضتم من عرفات فأفيضوا من عرفات ، ولا أن يقدر تقديم هذه الآية على ما قبلها في الوضع . ومن القائلين بأن المراد الإفاضة من عرفات من قال إنه أمر الناس جميعاً . وقوله { من حيث أفاض الناس } المراد به إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام فإن من سنتهما ذلك . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ويخالف الحمس . وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً مقتدى به . { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني نعيم بن مسعود { إن الناس } يعني أبا سفيان . ووجه ثالث وهو أن يكون قوله { من حيث أفاض الناس } عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفات وأن ما عداه مبتدع كما يقال « هذا مما فعله الناس قديماً » .

القول الثاني عن الضحاك أن المراد الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر ، وقوله { من حيث أفاض الناس } يعني إبراهيم وإسماعيل ومتبعيهما فإن طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس فأمرهم الله تعالى بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام . وأورد على هذا القول أن استعمال « حيث » للزمان قليل ، ويمكن أن يجاب بأن القرآن أولى ما يحتج به . وعن الزهري : أن الناس في هذه الآية آدم عليه السلام واحتج بقراءة سعيد بن جبير { من حيث أفاض الناس } بكسر السين اكتفاء من الياء بالكسرة من قوله { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى } [ طه : 115 ] والمعنى : أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه . { واستغفروا الله } من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم ، وليكن الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب وهي أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم أن لا يقصر فيما بعده ابتغاء لمرضاة الله لا للمنافع العاجلة . والاستغفار بالحقيقة يجب على كل مكلف وإن لم يعلم من ظاهر حاله خطيئة فإن النقص لازم الإمكان ، والقصور من خصائص الإنسان وكيف لا وقد قالت الملائكة وإنهم أرفع حالاً ما عبدناك حق عبادتك . وصورة الاستغفار على ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » ولو اقتصر على قوله « أستغفر الله » كفى . ولو زاد فقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وأنت التواب الرحيم . أو قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذا الجلال والإكرام . من كل ذنب أذنبته ومعصية ارتكبتها ، وأتوب إليه من الذنب الذي أعلم ومن الذي لا أعلم كان حسناً .
{ إن الله غفور رحيم } بناءان للمبالغة كما مر مراراً . واختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية . فمن قائل إنها عند الدفع من عرفات إلى جمع بناء على القول الأول في الإفاضة ، ومن قائل إنها عند الدفع من جمع إلى منى بناء على القول الآخر .
قوله عز من قائل { فإذا قضيتم مناسككم } أي فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ، أو من أعمال مناسككم إذ المناسك جمع المنسك .

وأنه يحتمل أن يكون مصدراً وأن يكون اسم مكان . وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء . عن ابن عباس : أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار وغرضهم الشهرة والترفع بمآثر سلفهم . فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم لا لآبائهم . ثم الفاء في قوله { فاذكروا الله } تدل على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر فلهذا قيل : هو الذكر على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في أيام النحر والتشريق وقيل : هو الإقبال على الدعاء والاستغفار بعد الفراغ من الحج كالأدعية المأثورة عقيب الصلوات المكتوبة . وقيل : معناه فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية وقهرتم القوى الطبيعية وأمطتم الأذى من طريق السلوك ، فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله فإن التخلية ليست مقصودة بالذات ، وإنما الغرض منها التخلية بمواجب السعادات الباقيات ، فالأولى نفي والثاني إثبات . ومعنى { كذكركم آباءكم } توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء ، وأقيموا الثناء على الله مقام تعداد مفاخر الآباء فإنه إن كان كذباً أوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في العقبى ، وإن كان صدقاً استتبع العجب والتباهي ، وإن كانوا يذكرون الآباء ليتوسلوا بذلك إلى إجابة الدعاء فالإقبال بالكلية على مولي النعماء أولى مع أن حسنات آبائهم محبطة لسبب إشراكهم . وعن الضحاك والربيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم وذلك قول الصبي أول ما ينطق « أبه أبه أمه أمه » أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظباً على ذكر أبيه وأمه ، فاكتفي بالآباء عن الأمهات كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وقال أبو مسلم : جرى ذكر الآباء مثلاً لدوام الذكر . والمعنى : كما أن الرجل لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله . وقال ابن الأنباري : العرب أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء فقال تعالى : عظموا الله كتعظيمكم آباءكم . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء وقال « من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت » وقيل : اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منكم لو نسب إلى والدين تأذى منه واستنكف . وقيل : كما أن الطفل يرجع إلى أبيه في طلب المهمات وكفاية الملمات فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك . وعن ابن عباس معنى الآية أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء . وقوله { أو أشد ذكراً } إما في موضع جر عطفاً على ما أضيف إليه الذكر في قوله { كذكركم } كما تقول « كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً . وإما في موضع نصف عطفاً على { آباءكم } بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم على أن { ذكراً } من فعل المذكور وهو الآباء لا فعل الذاكر وهو الأبناء ، فإن الذكر بل كل فعل معتدٍ له اعتبارات اعتبار وقوعه على المفعول ، واعتبار صدوره عن الفاعل .

وذلك الفعل بأحد الاعتبارين مغاير له بالاعتبار الآخر . وإنما لزم اعتبار الفعل ههنا من جهة وقوعه على المفعول لأنّ الآباء المفضل عليهم المذكورون لا الذاكرون . ويحتمل أن يقال : المعنى فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم أو أشد ذكراً . ولكن برد عليه أن أفعل إنما يضاف إلى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله كقولك : « وجهك أحسن وجه » أي أحسن الوجوه . فإذا نصب ما بعده كان غير الذي قبله كقوله « زيد أفره عبداً » . فالفراهة للعبد لا لزيد . والمذكور قبل { أشد } ههنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال « أشد ذكراً إنما قياسه أن يقال : الذكر أشد ذكر جراً إضافة . وفيه وجه نصبه على ما قال أبو علي أن يجعل الذكر ذاكراً مجازاً . ويجوز نسبة الذكر إلى الذكر بأن يسمع إنسان الذكر فيذكر ، فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه وعلى جميع الوجوه . فمعنى » أو « ههنا ليس هو التشكيك وإنما المراد به النقل عن الشيء إلى ما هو أقرب وأولى كقول رجل لغيره » افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه « . وإنما أمر الله تعالى أن يكون ذكره أشد لأن مفاخر آبائهم متناهية وصفاته الكمالية غير متناهية ، وتلك مشكوكة وهذه متيقنة ، وغاية الأول تضييع وحرمان ، ولازم الثاني نور وبرهان . ثم إنه تعالى بعدما أمر بالعبادة تصفية للنفس وتخلية لها عن ظلمات الكبر والضلال وأمر عقيب ذلك بتنوير الباطن بنور الجلال والجمال بكثرة الاشتغال بذكر الكبير المتعال ، نبه على حسن طلب مزيد الإنعام والإفضال فذكر أن الناس فريقان : منهم من قصر دعاءه على طلب اللذات العاجلة ، ومنهم من أضاف إلى ذلك الطلب نعيم الآخرة وأهمل القسم الثالث وهو أن يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة تنبيهاً على أن ذلك غير مشروع ومن حقه أن لا يوجد ، فإن الإنسان خلق ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بعذاب النار . فالأولى به أن يستعيذ بربه من آفات الدنيا الآخرة . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض فقال له : ما كنت تدعو الله به؟ قال : كنت أقول : اللهم إذا كنت تعاقبني به في الآخرة فعجلنيه في الدنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار « فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفي .

والإنصاف أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن أو على منبت شعرة واحدة عجز الإنسان عن الصبر عليه ، وقد يفضي ذلك به إلى الجزع ويعوقه عن اكتساب الكمالات ، ويحمله على إهمال وظائف الطاعات ، ومن ذا الذي يستغني عن إمداد الله إياه في دنياه وعقباه؟! ثم المقصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم؟ عن ابن عباس : أنهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا : اللهم ارزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وإماء وعبيداً . وذلك لأنكارهم البعث والمعاد . وعن أنس : كانوا يقولون : اسقنا المطر وأعطنا على عدوّنا الظفر ، ويحكى عن أبي علي الدقاق أنه قال : أهل النار يستغيثون ثم يقولون : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله في الدنيا . طلب المأكول والمشروب وفي النار طلب المأكول والمشروب ، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة وقال الآخرون . يحتمل أن يكونوا مسلمين وعوقبوا لأنهم سألوا الله في أعظم المواقف وأشرف المشاهد أخس البضائع وأدون المطالب المشبه تارة بكنيف وأخرى بأحقر من جناح بعوضة ، معرضين عن العيش الباقي والنعيم المقيم . وقوله { ربنا آتنا في الدنيا } متروك المفعول الثاني لأنه كالمعلوم ، ويحتمل أن يكون من قولهم « فلان معط » أي موجد الإعطاء ، معناه اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة . واعلم أن مطامح النفس في الدنيا إحدى ثلاث خصال : روحانية هي تكميل القوة النظرية بالعلم وتتميم القوّة العملية بتحصيل الأخلاق الفاضلة ، وبدنية هي الصحة والجمال ، وخارجية هي الجاه والمال . وكل من لا يؤمن بالبعث فإنه لا يطلب فضيلة روحانية ولا جسمانية إلا لأجل الدنيا . فيطلب العلم لأجل الترفع على الأقران ويكتسب الأخلاق لتدبير الأمور المنزلية والمدنية . فلما قال عز من قائل { وماله في الآخرة من خلاق } أي طلب نصيب حذف مفعول { آتنا } لأن كل من ليس له في الآخرة طلب ، ولا لهمه إلى اقتناء السعادات الباقيات نزاع وطموح ، فمطلوبه عبث وسفه ووبال وضلال أي شيء فرضت علماً وعملاً روحانياً أو جسمانياً . اللهم اجعلنا ممن لا ينظر في أي شيء بنظر إلا إليك ، ولا يرغب في كل ما يرغب إلا لأجل ما لديك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . ثم إنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أن هذا الفريق مجابة دعوتهم أولاً . فقال طائفة من العلماء : إنهم ليسوا بأهل للإجابة ، لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح ولا يليق إلا بأولياء الله والمرتضين من عباده وقال آخرون قد يكون الإنسان مجاباً لا كرامة واجتباء بل مكراً واستدراجاً ويؤيده قوله سبحانه { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب } [ الشورى : 20 ] وعلى هذا يصح أن يقال في الآية إضمار أي يقول : ربنا آتنا في الدنيا فيؤتيه الله في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق .

لأن همته مقصورة على الدنيا . والحسنتان في دعاء الصالحين . أما في الدنيا فالصحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء ، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق وما أشبه ذلك حسنة { أن تصبك حسنة تسؤهم } [ التوبة : 50 ] { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } [ التوبة : 52 ] قيل : إما النصرة وإما الشهادة . وأما في الآخرة فالفوز بالثواب والخلاص من العقاب ، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع . صرح بذلكفي قوله { وقنا عذاب النار } وهذه بالجملة كلمة جامعة لجميع خيرات الدنيا والآخرة . روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس : ادع لنا فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . قالوا : زدنا فأعادها قالوا : زدنا قال : فما تريدون سألت لكم خير الدنيا والآخرة . وعن علي رضي الله عنه الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء . وعذاب النار امرأة السوء . وقيل : الحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة ، وفي الآخرة التنعم بذكر الله والإنس به وبرؤيته . قلت : لا تلذذ في الدنيا والآخرة إلا بهذا .
الجسم مني للجليس مجالس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وعن قتادة الحسنتان طلب العافية في الدارين . وعن الحسن : هي في الدنيا فهم كتاب الله ، وفي الآخرة الجنة . ومنشأ البحث مجيء الحسنة منكرة في حيز الإثبات ، فكل من المفسرين حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة عقلاً أو شرعاً . ويمكن أن يقال : التنوين للتعظيم أي حسنة وأي حسنة أو يريد حسنة توافق حال الداعي وحكمة المدعو ، وفيه من حسن الطلب ورعاية الطلب ورعاية الأدب ما ليس في التصريح به فإنه لا يكون إلا ما يشاء أو يريد حسنة ما وإن كانت قليلة ، فإن النظر إلى المنعم لا إلى الإنعام . قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل . { أولئك } الداعون بالحسنتين { لهم نصيب } وأي نصيب { مما كسبوا } من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة . فمن للابتداء . ويحتمل التعليل أي من أجل ما كسبوا كقوله { مما خطيئاتهم أغرقوا } [ نوح : 25 ] والكسب ما يناله المرء بعمله ومنه يقال للأرباح « إنها كسب فلان » أولهم نصيب مما دعوا به يعطيهم بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة وسمي الدعاء كسباً لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] ويجوز أن يكون { أولئك } للفريقين جميعاً وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا . { والله سريع الحساب } السرعة نقيض البطء . والحساب مصدر كالمحاسبة وهو العدّ قال الزجاج : هو مأخوذ من قوله « حسبك كذا » أي كفاك . وذلك أن فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان .

ومعنى كون الله محاسباً لخلقه قيل : إنه يعلمهم ما لهم وعليهم بأن يخلق العلم الضروري في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها ، أو بمقادير ما لهم من الثواب والعقاب . ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بماله وعليه ، فإطلاق الحساب على هذا الإعلام إطلاق اسم السبب على المسبب . عن ابن عباس أنه قال : لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم فيقال لهم : هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ويقال : هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم . وقيل : المحاسبة المجازاة { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً } [ الطلاق : 8 ] ووجه المجاز أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء . وقيل : إنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية ما لها من الثواب والعقاب . فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوت قال : إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعاً يسمع به كلامه القديم كما يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة . ومن قال : إنه صوت قال : إنه تعالى يخلق كلاماً يسمعه كل مكلف . إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم و في جسم يقرب من أذنه بحيث لا يبلغ قوة ذلك الصوت مبلغاً يمنع الغير من فهم ما كلف به ، فهذا هو المراد من كونه محاسباً لخلقه ، ومعنى كونه سريع الحساب أو قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات من غير أن يفتقر في أحداث شيء إلى فكر وروية ومدة وعدّة ، ولذلك ورد في الخبر أنه يحاسب الخلق في مقدار حلب شاة ، وروي في لمحة . أو أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم لأنه قادر على أن يعطي مطالب جميع الخلائق في لحظة واحدة كما ورد في الدعاء المأثور « يا من لا يشغله سمع عن سمع » ، أو أن وقت جزائه وحسابه سريع يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد كقوله تعالى { اقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] وقوله تعالى { واذكروا الله } أي بالتكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار يكبر مع كل حصاة . وفيه دليل على وجوب الرمي لأن الأمر بالتكبير أمر بالذي يتوقف التكبير على حضوره ، وإنما اختير هذا النسق لأنهم ما كانوا منكرين للرمي وإنما كانوا يتركون ذكر الله تعالى عنده { في أيام معدودات } هي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر : أولها يوم القر لأن الناس تستقر فيه بمنى . والثاني يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى . والثالث يوم النفر الثاني . عن عبد الرحمن بن معمر الديلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي الحج عرفة . من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأيام منى ثلاثة من تعجل في يومين فلا إثم عليه واعلم أن التكبير المشروع في غير الصلاة وخطبة العيدين نوعان : مرسل ومقيد .

فالمرسل هو الذي لا يتقيد ببعض الأحوال بل يؤتى به في المنازل والمساجد والطرق ليلاً ونهاراً كما مر في تفسير قوله تعالى { ولتكبروا الله على ما هداكم } [ البقرة : 185 ] وذكرنا صورة التكبير هناك أيضاً . ولا فرق في التكبير المرسل بين عيد الفطر والأضحى . وأما التكبير المقيد فأظهر الوجهين أنه لا يستحب في عيد الفطر لم ينقلوا ذلك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ، وإنما يستحب في الأضحى . وتقييده هو أن يؤتى به في أدبار الصلوات خاصة . واختلفوا في ابتدائه وانتهائه فقيل : من طهر يوم النحر إلى ما بعد طلوع الصبح من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبيرات على هذا في خمس عشرة صلاة وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال مالك والشافعي في أشهر أقواله ، وحجتهم أن الناس فيه تبع للحجاج وهم يبتدؤن التكبير عقيب الظهر يوم النحر إلى مضي خمس عشرة صلاة . فيكون آخرها صلاة الصبح من آخر أيام منى وذكرهم قبل ذلك التلبية . والقول الثاني للشافعي أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبير في أعقاب ثماني عشرة صلاة . والقول الثالث أنه يبتدأ من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر ، فتكون التكبيرات بعد ثماني صلوات ، وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة . واعترض عليه بأن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق ، فوجب أن يؤتى بها فيها . وإن انضم معها زمن آخر فلا أقل من أن تكون هي أغلب . والقول الرابع يبتدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، فيكبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة ، وهو قول أكابر الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وقول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني من الفقهاء لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا وقال : « الله أكبر » . ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق ، ولأن هذا هو الأحوط فتكثير التكبير خير من تقليله . وعلى هذا القول إنما تكون التكبيرات مضافة إلى أيام التشريق لأنها أكثر تلك المدة . قال الجوهري : تشريق اللحم تقديده ، ومنه أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها في الشمس . وقيل : هو من قولهم « أشرق ثبير كيما نغير » . وقيل : سميت بذلك لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس . وأما رمي أيام التشريق فإنه يجب أن يرمي كل يوم بين الزوال والغروب بكل جمرة من الجمرات الثلاث بالترتيب مبتدئاً من الجمرة الأولى من جانب المزدلفة ومختتماً برمي جمرة العقبة وهي التي تلي مكة رميات سبعاً في سبع دفعات لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك رماها .

وقال : خذوا عني مناسككم . فجملة ما يرمي في الحج سبعون حصاة ، يرمي إلى جمرة العقبة يوم النحر سبع حصيات ، وإحدى وعشرون في كل يوم من أيام التشريق إلى الجمرات الثلاث إلى كل واحدة سبع تواتر النقل به قولاً وفعلاً ، ويكبر مع كل حصاة . وعلى الحجيج أن يبتوا بمنى الليلتين الأوليين من ليالي التشريق ، فإذا رموا اليوم الثاني فمن أراد منهم أن ينفر قبل غروب الشمس فله ذلك ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة والرمي من الغد وذلك قوله تعالى { فمن تعجل } أي عجل أو استعجل { في يومين فلا إثم عليه } ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت الليلة الثالثة ويرمي يومها ، وبه قال أحمد ومالك والشافعي . وعند أبي حنيفة يسوغ النفر ما لم يطلع الفجر ، فإذا طلع لزم التأخر إلى تمام الأيام الثلاثة وذلك قوله تعالى { ومن تأخر فلا إثم عليه لمن التقى } قال في الكشاف : تعجل واستعجل يجيئان متعديين مثل تعجل الذهاب واستعجله ، ويجيئان مطاوعين بمعنى عجل وهذا أوفق لقوله { ومن تأخر } والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة . وعند الشافعي لا يجوز كسائر الأيام . وقد سئل ههنا أن المتأخر قد استوفى ما عليه من العمل فكيف ورد في حقه { فلا إثم عليه } وهذا إنما يقال في حق المقصر الذي يظن أنه قد رهقه آثام فيما أقدم عليه . فأجيب بأن الرخصة قد تكون عزيمة كالقصر عند أبي حنيفة والشيعة لا يجوز في السفر غيره ، فلمكان هذا الاحتمال رفع الحرج في الستعجال والتأخر دلالة على أن الحاج مخير بين الأمرين ، أو بأن أهل الجاهلية كانوا فريقين : منهم من يجعل المتعجل آثماً ، ومنهم من يجعل المتأخر آثماً مخالفاً لسنة الحج ، فبيّن الله تعالى أن لا إثم على واحد منهما . وقيل : إن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاثة . فكأنه قيل : إن أيام منى التي ينبغي المقام بها فيها ثلاثة ، فمن نقص فلا إثم عليه ، ومن زاد على الثلاثة ولم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه . وقيل : إن الآية سيقت لبيان أن الحج مكفر للذنوب والآثام لا لبيان أن التعجل وتركه سيان كما أن الإنسان إذا تناول الترياق فالطبيب يقول له : الآن إذا تناولت السم فلا بأس ، وإن لم تتناول فلا بأس ، يريد أن الترياق دواء كامل في دفع المضار لا أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحداً . وقيل : إن جوار البيت مكروه عند كثير من العلماء لأن ذلك قد يفضي إلى نقص حشمة البيت ووقعه في قلبه وعينه فأمكن أن يختلج في قلب أحد أن التعجيل أفضل بناء على هذا المعنى ، ولما في التعجل من المسارعة إلى طواف الزيارة ، فبيّن تعالى أنه لا حرج في واحد منهما .

وقال الواحدي : هذا من باب رعاية المقابلة والمشاكلة مثل { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] بل ههنا أولى لأن المندوب يصدق عليه أنه لا إثم على صاحبه فيه ، وجزاء السيئة ليس بسيئة أصلاً . وأما قوله تعالى { لمن اتقى } أي ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي كيلا يتخالج في قلبه إثم منهما فإن ذا التقوى متحرز من كل ما يريبه . وقيل : معناه أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً قبل حجة كقوله { إنما يتقبل الله من المتقين } [ المائدة : 27 ] أو لمن كان متقياً عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج . وقوله { واتقوا الله } أي فيما يستقبل فيه حث على ملازمة التقوى فيما بقي من عمره وتنبيه على مجانبة الاغترار بالحج السابق كما أن قوله { واعلموا أنكم إليه تحشرون } توكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه لأن الحشر - وهو اسم يقع على ابتداء - خروج الناس من الأجداث إلى انتهاء الموقف يوجب تصوره ، لزوم سيرة الاتقاء عن ترك الواجبات وفعل المحظورات . والمراد من قوله { إليه } أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إليه ، ولا مستعان إلا هو { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله } [ الانفطار : 19 ] .
التأويل : { الحج أشهر معلومات } هي مدة الحياة الفانية ، وقيل إلى أربعين سنة ، ولهذا قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد . نعم لو صدق طلبه قبل الأربعين وما أمكنه الوصول فقريب أن يحصل مقصوده بعد الأربعين ، ومن فاته الطلب في عنفوان شبابه إلى أن بلغ الأربعين فحري منه عليه الحيف إذ ضيع اللبن في الصيف ، لكنه يصلح للعبادة التي أجرها الجنة . { فلا رفث } لا يميل إلى الدنيا وزينتها وليهجرها كالمحرم بعد الاغتسال بماء الإنابة بتزر بإزار التواضع والانكسار ، ويتردى برداء التذلل والافتقار . { ولا فسوق } ولا خروج من الأوامر والنواهي بل لا يخرج من حكم الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت { ولا جدال في الحج } لا نزاع للسالك الصادق في طلب الوصول لا بالفروع ولا بالأصول فلا في مالها مع أحد يخاصم ولا في جاهها لأحد يزاحم ، فمن نازعه في شيء من ذلك يسلمها إليه ويسلم عليه { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] وتزودوا لكل سالك زاد . فزاد أولي القشور كعك وسويق وهم الذين مقصدهم البيت ومقصودهم الجنة ، وزاد أولي الألباب التقوى وهم من مقصدهم ومقصودهم رب البيت . وتقوى أهل القشور مجانبة الزلات ومواظبة الطاعات ، وتقوى أولي الألباب مجانبة الصفات بالصفات والذات بالذات . فلما كان مقصودهم خير المقاصد كان زادهم خير الزاد { أن تبتغوا فضلاً } مقام ابتغاء الفضل بمعنى الرحمة بترك الموجود وبذل المجهود وهو في سيره إلى عرفات ، ومقام ابتغائه بمعنى مواهب القربة ببذل الوجود عند الوقوف بعرفات ، لأن الحج عرفة وعرفة المعرفة ومقام ابتغائه بمعنى الرزق هو قبل سيره إلى عرفات .

وقال جمع من المحققين : إنه بعد استكمال الحج الحقيقي لأنه لقوة عرفانه بالله لا تضره الدنيا بل يكون تصرفه فيها بالله في الله لله { عند المشعر الحرام } يعني القلب الذي حرام عليه الاطمئنان بغير ذكر الله { واذكروه كما هداكم } أي كما هدى قلوبكم يهدي نفوسكم كيلا تقع في خطر حب الدنيا . { وإن كنتم من } قبل الوقوف بعرفات المعرفة { لمن الضالين } في طلب الدنيا وحظوظ النفس { من حيث أفاض الناس } يعنى محمداً وسائر الأنبياء والأولياء أي لتكن الإفاضة من عرفات المعرفة لأجل أداء الحقوق بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله { واستغفروا الله } لأجل إزالة غين المخالطة مع الخلق كقوله { إذا جاء نصر الله } إلى قوله { واستغفره } [ النصر : 1-3 ] أي إذا وجدت هذا لا تخلو عن خط ما فاستغفره { فإذا قضيتم } مناسك الوصال وبلغتم مبلغ الرجال فلا تأمنوا مكر الله وواظبوا على الذكر { كذكركم آباءكم } في صغركم للافتقار وفي كبركم للافتخار { أو أشد ذكراً } لأنه يمكن الاستغناء من الأب ولا يمكن الاستغناء من الله { والله سريع الحساب } لأن أثر الطاعة وأثر المعصية تظهر في الحال على القلب { في أيام معدودات } هي أيام البداية والوسط والنهاية { فمن تعجل في يومين } وقف على الوسط ليكون من أهل الجنة { فلا إثم عليه ومن تأخر } إلى أن يصل يوم النهاية حتى يكون من أهل الله فذاك لمن اتقى الرجوع والوقوف ، والله ولي التوفيق وهو حسبي .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

القراآت : { مرضاة } بالإمالة والوقف بالهاء : علي . وكذلك يقف على { هيهات } هيهاه وعلى { حدائق ذات } ذاه وعلى { أفرأيتم اللات } اللاه وعلى { ولات حين } ولاه ، وعلى { مريم ابنة } ابنه . وافق أبو عمر وفي { ولات حين } بالهاء { لسلم } بفتح السين . أبو جعفر ونافع وابن كثير وعلي . الباقون : بالكسر . { والملائكة } بالجر : يزيد عطفاً على « ظلل » أو على « الغمام » أو للجوار وإن كان فاعل « يأتهم » . الباقون : بالرفع { ترجع الأمور } حيث كان بفتح التاء وكسر الجيم : حمزة وعلي وخلف وابن عامر وسهل ويعقوب . الباقون : بضم التاء وفتح الجيم .
الوقوف : { قلبه } لا لأن الواو للحال { الخصام } 5 { والنسل } ط { الفساد } ط { جهنم } ط { المهاد } 5 { مرضات الله } ط { بالعباد } 5 { كافة } ص لعطف الجملتين المتفقتين { الشيطان } ط مع احتمال الجواز { مبين } 5 { حكيم } 5 { وقضى الأمر } ط { الأمور } 5 .
التفسير : لما آل أمر بيان الحج إلى تعديد فرق الناس بحسب أغراضهم في الدعاء ، ناسب أن يعطف على ذلك تقسيم آخر يعرف منه مطامح أنظار الناس على الإطلاق ليعرف أرباب النفاق . من أصحاب الوفاق . عن السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وهو حليف بني زهرة . أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأظهر له الإسلام وزعم أنه يحبه وقال : والله يعلم أني لصادق . فلما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم مر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع وعقر الحمر . وقيل : إنه أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم : إن محمداً ابن أختكم فإن يك كاذباً كفاكموه سائر الناس ، وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به . فقالوا : نعم الرأي ما رأيت . ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمى بهذا السبب أخنس - وكان اسمه أبي بن شريق - فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه . وعن ابن عباس والضحاك : أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك فبعث إليهم جماعة ، فلما كانوا ببعض الطريق ركب من الكفار سبعون راكباً فأحاطوا بهم فقتلوهم وصلبوهم ففيهم نزلت . وقوله بعد ذلك { ومن الناس من يشري } إشارة إلى هؤلاء الشهداء . واختيار المحققين من المفسرين أنه لا يمتنع أن تكون الآية نازلة في الرجل ثم تكون عامة في أمثاله . فهذه الآية عامة في المنافقين ، فإن ألسنتهم تحلو لي وقلوبهم أمر من الصبر . والضمير في { يعجبك قوله } يعود إلى « من » ويحتمل أن يكون جمعاً ولكنه أفرد نظراً إلى اللفظ . ومعنى يعجبك يروقك ويعظم في قلبك و { في الحياة الدنيا } إما أن يتعلق بقوله أي يعجبك ما يقوله في باب الدنيا طلباً للمصالح العاجلة فقط كالأمان من القتل والأخذ من المغانم ، و إما أن يتعلق بيعجبك لأن قوله وحلو كلامه إنما يعجب السامع في الدنيا ولا يعجبه في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الهيبة والحيرة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام .

والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لكل سامع . { ويشهد الله على ما في قلبه } يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف ، وأن يكون بقوله « شهد الله على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام » . { وهو ألد الخصام } الألد الشديد الخصومة ، واللديدان جانبا الوادي . كأن كلاً من المتخاصمين في جانب . ومنه اللدود وهو ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم . وإضافة الألد بمعنى « في » كقولهم « ثبت الغدر » و « قتيل الصف » أو جعل الخصام ألد على المبالغة نحو « جد جده » . والخصام جمع خصم كصعاب في صعب . والمعنى : هو أشد الخصوم خصومة . والحاصل إنه جدل بالباطل شديد الفسوق في معصية الله عالم اللسان جاهل العمل ، وإذا تولى عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق سعى في الأرض ليفسد فيها كما فعل بأولئك المسلمين من إحراق الزروع وعقر المواشي . وأصل السعي المشي بسرعة ، وقد يستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس . وقيل : لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة ، فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم ، وعلى هذا فيقع قوله { ويهلك الحرث والنسل } تفصيلاً لما أجمله قوله { ليفسد } وقيل : إفساده هو إلقاء الشبه في عقائد المسلمين ، وعلى هذا فيكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى آخر . وهذا تفسير مناسب لأن كمال الإنسان بالعلم والعمل ونقصه بضدهما ، فيكون الإفساد إشارة إلى نقص قوّته النظرية والإهلاك عبارة عن فعل المنكرات و فيه نقصان قوّته العملية . وقيل : { وإذا توّلى } أي إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل . وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل . فالحرث الزرع ، والنسل الولد . ونسلت الناقة بولد كثير ، والتركيب يدل على الخروج . وقيل : إهلاك الحرث قتل النسوان { نساؤكم حرث لكم } [ البقرة : 223 ] وإهلاك النسل إفناء الصبيان { والله لا يحب الفساد } قالت المعتزلة : معناه لا يريد الفساد . وفيه دليل على أنه يريد القبائح وإذا لم يردها لم يخلقها لأن الخلق لا يمكن إلا بالإرادة . ومنع من أن المحبة نفس الإرادة ، بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكره بالتعظيم . ثم الدليل الدال على أن لا مرجح لأحد جانبي كل ممكن على الآخر إلا الله وإلا انسد باب إثبات الصانع يدل على أن الكل بإرادته ومشيئته ، وقد مر تحقيق ذلك فيما سلف .

واعلم أنه سبحانه حكى عن المنافق جملة من الأفعال الذميمة . أولها حسن كلامه في طلب الدنيا ، وثانيها استشهاده بالله كذباً وبهتاناً ، وثالثها لحاجة في إبطال الحق وإثبات الباطل ، ورابعها سعيه في الأرض للإفساد ، وخامسها سعيه في إهلاك الحرث والنسل . فوقع قوله { والله لا يحب الفساد } جمله معترضة . ثم ذكر خصلة سادسة أشنع من الكل دالة على جهله المركب وخروجه عن أن يرجى منه خير وذلك قوله { وإذا قيل له اتق الله } في ارتكاب شيء من هذه المنهيات . والقائل إما الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً خاصاً أو عاماً لجميع المكلفين فيدخل المنافق فيه ، وإما كل واعظ وناصح { أخذته العزة بالإثم } من قولهم « أخذت فلاناً بأن يفعل كذا » أي ألزمته ذلك وحملته عليه أي أخذته الغلبة والاستيلاء والأنفة وحمية الجاهلية أن يعمل الإثم ، وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الوعظ وعدم الإصغاء إليه ، أو من قوله « أخذته الحمى » أي لزمته ، و « أخذه الكبر » أي اعتراه ذلك والمعنى لزمته العزة الحاصلة بسبب الإثم الذي في قلبه ، وذلك الإثم هو الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل { فحسبه جهنم } كافية هي جزاء له يستوي فيه الواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث لأنه مصدر . ورفعه على الخبرية أو على الابتداء إذا كان ما بعده معرفة ، أو على الابتداء فقط إن كان نكرة مثل « حسبك درهم » . وعلى هذا تكون الإضافة معنوية ألبتة ، وعلى تقدير كونه خبر الوقوع المعرفة بعده تكون الإضافة لفظية أي فحسب وكافٍ له . قال يونس وأكثر النحويين : جهنم اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وفيها العلمية والتأنيث . وقال آخرون : إنه اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها . حكي عن رؤبة أنه قال : ركية جهنام بكسر الجيم والهاء أي بعيدة القعر . وقيل : اشتقاقها من الجهومة وهي الغلظ . ومنه رجل جهم الوجه أي غليظه . سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب والعقاب . { ولبئس المهاد } أي ما يمهد لأجله فإن المعذب في النار يلقى على النار كما يوضع الشخص على الفراش . ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى التمهيد والتوطئة .
قوله تعالى : { ومن الناس من يشري } الآية . قال سعيد بن المسيب : أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال : والله لا تصلون إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي . وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي ففعلوا . فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« ربح البيع أبا يحيى وتلا الآية » . وقيل : أخذ المشركون صهيباً فعذبوه فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير لا يضركم ، أمنكم كنت أم من غيركم . فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك . وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى . قال صهيب : وبيعك . أفلا تخبرني ما ذاك؟ فقال : نزلت فيك كذا قرأ الآية . عن الحسن : نزلت في أن المسلم أتى الكافر فقاتل حتى قتل . وقيل : نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . سمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه الآية فقال عمر : إنا لله قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل . وقيل : نزلت في علي رضي الله عنه بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه إلى الغار . ويروى أنه لما نام على فراشة قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ . من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية . ثم إن الآية تدل على أن ههنا مبايعة ، فأكثر المفسرين على أن العامل هو البائع . ومعنى يشري يبيع { وشروه بثمن بخس } [ يوسف : 20 ] والله هو المشتري { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] وعمل المكلف وهو بذل نفسه في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد هو الثمن والجنة هي المثمن . وقيل : يحتمل أن يراد بالشراء ههنا الاشتراء وذلك أن من أقدم على الكفر والمعاصي . فكأن نفسه خرجت عن ملكه وصارت حقاً للنار ، وإذا أقدم على الطاعة صار كأنه اشترى نفسه من النار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دراهم معدودة ويشتري بها نفسه ، والمؤمن يبذل أنفاساً معدودة ويشتري بها نفسه ، لكن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم . فكذا المكلف لا ينجو عن ربقة العبودية ما دام بقي له نفس واحد في الدنيا ، وهذا كقول عيسى عليه السلام { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً } [ مريم : 31 ] وقوله عز من قائل لنبيه { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] و { ابتغاء مرضات الله } أي طلب رضوانه نصب على العلة الغائية . وفيه دليل على أن كل مشقة يتحملها الإنسان يجب أن تكون على وفق الشرع ومطلوباً بها جانب الحق وإلا كان عمله ضلالاً وكده وبالاً . { والله رؤف بالعباد } فمن رأفته جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل ، وجوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها ، ومن رأفته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط عقابه وأعطاه ثوابه ، ومن رأفته أن النفس له والمال له ثم إنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه وامتناناً ورحمة وإحساناً .

قوله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } أصل السلم بالكسر ، والفتح الاستسلام والطاعة . ويطلق أيضاً على الصلح وترك الحرب والمنازعة . وهو أيضاً راجع إلى هذا و إنه يذكر ويؤنث . واختلف في المخاطبين فقيل : أمر للمسلمين بما يضاد حال المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من أيامكم ولا تخرجوا منه ولا من شيء من شرائعه . { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أهل الغواية ، والكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجاً منها لا يمتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالاً بعد حال . ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال ، فلا يبعد أن يأمرهم الله بالدخول في الإسلام فيما يستأنف من الزمان . أو أمرهم بأن يكونوا مجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه . ولا تتبعوا آثار الشيطان بالإقبال على الدنيا والجبن والخور في أمر الدين مثل { ولا تنازعوا فتفشلوا } [ الأنفال : 46 ] أو يكون المراد بالدخول في السلم ترك الذنوب والمعاصي ، فإن من مذهبنا أن الإيمان باقٍ مع الذنب والعصيان ، أو يكون المراد الرضا بالقضاء والتلقي لجميع المكاره بالبشر والطلاقة كما ورد في الخبر « الرضا بالقضاء باب الله الأعظم » أو يكون المراد ترك الانتقام وسلوك طريق العفو والإغماض { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] وقوله : { كافة } يصلح أن يكون حالاً من المأمورين أي ادخلوا بأجمعكم في السلم ولا تتفرقوا ولا تختلفوا وأن يكون حالاً من السلم على أنها مؤنث كالحرب أي ادخلوا في شرائع الإسلام كلها وأصل الكف المنع فسمي الجميع كافة لأن الاجتماع بمنع التفرق والشذوذ . ورجل مكفوف أي كف بصره من أن ينظر . وكفة القميص لأنها تمنع الثوب من الانتشار . والكف طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن . وقيل : الخطاب للمنافقين والتقدير : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا آثار تزيين الشيطان وتسويله بالإقامة على النفاق . وقيل : نزلت في مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه حين أرادوا أن يقيموا على بعض شرائع موسى كتعظيم السبت وقراءة التوراة واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأمروا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة لثبوت نسخها بالكلية ، فإن التمسك بها بعد تبين نسخها من اتباع آثار الشيطان ، وقيل : السلم الإسلام ، والخطاب لأهل الكتاب ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم كملوا طاعتكم بالإيمان بجميع أنبيائه وكتبه ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بالشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة { إنه لكم عدوّ مبين } عن أبي مسلم أن المبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره ، ولا يخفى أنه أعرب عن عداوته لآدم ونسله .

وقيل : مبين من الإبانة القطع وذلك أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه . قوله { فإن زللتم } المخاطبون ههنا هم المخاطبون في قوله { ادخلوا } فيجيء الخلاف ههنا بحسب الخلاف هناك . والمعنى العام : فإن دحضت أقدامكم وانحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به { من بعد ما جاءتكم البينات } الدلائل العقلية والسمعية على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق { فاعلموا أن الله عزيز } غالب لا يعجزه الانتقام منكم وهذه نهاية في الوعيد كما لو قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي وبشدّة سطوتي . كان أبلغ في الزجر من التصريح بضرب من ضروب العذاب . وكما أن قوله { عزيز } يشتمل على الوعيد البليغ فقوله { حكيم } يشتمل على الوعد الحسن . فإن اللائق بالحكمة تمييز المحسن من المسيء وأن لا يسّوي بينهما في الثواب والعقاب . روي أن قارئاً قرأ غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا . الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه يكون إغراء عليه . قوله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } الآية معنى النظر ههنا الانتظار . وأما إتيان الله فقد أجمع المفسرون على أنه سبحانه منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات وأنه تعالى أزلي فرد في ذاته وصفاته فذكروا في الآية وجهين :
الأول : وهو مذهب السلف الصالح السكوت في مثل هذه الألفاظ عن التأويل وتفويضه إلى مراد الله تعالى كما يروى عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجه : وجه لا يعذر أحد بجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ، ووجه يعرف من قبل العربية فقط ، ووجه لا يعلمه إلا الله .
الثاني : وهو قول جمهور المتكلمين : أنه لا بد من التأويل على سبيل التفصيل . فقيل : جعل مجيء الآيات مجيئاً له تفخيماً لها كما يقال « جاء الملك » إذا جاء جيش عظيم من جهته . وقيل : المراد إتيان أمره وبأسه فحذف المضاف بدليل قوله في موضع آخر { أو يأتي أمر ربك } [ النحل : 33 ] { فجاءهم بأسنا } وأيضاً اللام في قوله { وقضى الأمر } تدل على معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه . لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه . لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها محال . وعند المعتزلة أصوات فتكون أعراضاً . فالإتيان عليها أيضاً محال لأنا نقول : الأمر قد يطلق على الفعل { وما أمر فرعون برشيد } [ هود : 94 ] وحينئذ فالمراد ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المهيبة . وإن حملنا الأمر على ضد النهي فلا يبعد أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا . ومعنى كونه في ظلل من الغمام أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في آن واحد ، أو يكون المراد حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة ، أو أنه تعالى يخلق نقوشاً منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها .

وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد ، وتكون فائدة الظلل أنه تعالى جعلها أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ليعلموا أن الأمر قد حضر . وقيل : المأتي به محذوف والمعنى إلا أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته الدالة عليه بقوله { عزيز } . وفائدة الحذف كونه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم وذهاب فكرتهم في كل وجه . وقيل : إن « في » بمعنى الباء أي يأتيهم الله بظلل من الغمام ، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة . وقيل : الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع كقوله تعالى { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } [ الزمر : 67 ] ولا قبض ولا طي ولا يمين وإنما الغرض تصوير عظمة شأنه . وقيل : بناء على أن الخطاب في ادخلوا وزللتم لليهود المراد أنهم لا يقبلون دين الحق إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، وذلك أن اليهود كانوا على اعتقاد التشبيه ويجوّزون المجيء والذهاب على الله تعالى ويقولون : إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام ، فطلبوا مثل ذلك في زمن محمد صلى الله عليه وسلم . فعلى هذا يكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود ولا يبقى إشكال فإن الآية لا تدل إلا على أن قوماً ينتظرون إتيان الله وليس فيها دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أم مبطلون . والظلل جمع ظلة وهي ما أظلك والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعاً ومتراكماً . فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة ، كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم ، فكل قطعة ظلة والجمع ظلل . والاستفهام ههنا في معنى النفي أي ما ينتظرون إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من الغمام ، وفيه تفظيع شأن العذاب وتهويله لأن الغمام مظنة الرحمة ، وإذا نزل منه العذاب كان أشنع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يتوقع الخير؟ أو نزول الغمام علامة لظهور الأهوال في القيامة قال : { يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً } [ الفرقان : 25 ، 26 ] واستعير لتتالي العذاب تتابع القطر وإتيان الملائكة ليقوموا بما أمروا به من تعذيب وتخريب ولا حاجة إلى التأويل لأن إتيانهم ممكن . { وقضي الأمر } فرغ من أمر إهلاكهم وتدميرهم أو عما كانوا يوعدون به ، فلا تقال لهم عثرة ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة .

والتقدير : إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر ، فوضع الماضي موضع المستقبل . إما للتنبيه في قرب العذاب أو الساعة « كل ما هو آت قريب » ، وإما لأن إخبار الله تعالى كالواقع المقطوع به وقيل : الأمر المذكور ههنا هو فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزله من الجنة والنار . وعن معاذ بن جبل وقضاء الأمر مصدر مرفوع عطفاً على لفظي الله والملائكة . { وإلى الله ترجع الأمور } وذلك أنه ملك في الدنيا عباده كثيراً من أمور خلقه ، أما إذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم بين العباد سواه وهذا كقولهم « رجع أمرنا إلى الأمير » إذا كان هو يختص بالنظر فيه . فعلى المكلف أن يدخل في السلم كما أمر ويحترز عن اتباع آثار الشيطان كما نهى . ثم إن الأمور ترجع إليه جل جلاله ، وهو تعالى يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة . فهذا معنى القراءتين في { ترجع } وأيضاً قراءة ضم التاء وفتح الجيم على مذهب العرب في قولهم « فلان معجب بنفسه » ويقول الرجل لغيره : إلى أين ذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به . أو المراد أن العباد يردّون أمورهم إلى خالقهم ويعترفون برجوعها إليه . أما المؤمنون فبالمقال ، وأما الكافرون فبشهادة الحال { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدوّ والآصال } [ الرعد : 15 ] .
التأويل : النفس الأمارة تظهر الأشياء المموهة والأقوال المزخرفة وترى أنها أولى الأولياء ، ولكنها أعدى الأعداء وتسعى في تخريب أرض القلب وإبطال حرث الصدق في طلب السعادة إهلاك نسل ما يتولد من الأخلاق الحميدة وتشمخ بأنفها عن قبول الحق فحسبه جهنم الميعاد { ومن الناس من يشري } هذا شأن الأولياء باعوا أنفسهم خالصاً لوجه الله لا لأجل الجنة { ادخلوا في السلم كافة } أي بجميع الأجزاء والأعضاء الظاهرة والباطنة . ودخول القلب في الإسلام يكون بدخول الإيمان في القلب ، ودخول الروح في الإسلام يكون بتخلقه بأخلاق الله وتسليم الأحكام والأقضية لله ، ودخول السر في الإسلام بفنائه في الله وبقائه بالله ، وهذا مقام يضيق عن إعلانه نطاق النطق ولا يسع إظهاره ظروف الحروف .
وإن قميصاً خيط من نسج تسعة ... وعشرين حرفاً من معانيه قاصر
الله ولي التوفيق وهو حسبي .

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

القراآت : { ليحكم } بضم الياء وفتح الكاف : يزيد . وكذلك في آل عمران والنور في موضعين . الباقون بفتح الياء وضم الكاف { يقول } برفع اللام : نافع . الباقون : بالنصب .
الوقوف : { بينة } ط لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع تقدير حذف أي فبدّلوا ومن يبدل الخ { العقاب } 5 { من الذين آمنوا } م لأن و « الذين » مبتدأ و « فوقهم » خبره . ولو وصل صار « فوقهم » ظرفاً ليسخرون أو حالاً لفاعل « يسخرون » وقبحه ظاهر . { يوم القيامة } ط { حساب } 5 { ومنذرين } ص لعطف المتفقتين { فيما اختلفوا فيه } ط { بينهم } ج لعطف المختلفتين { بإذنه } ط { مستقيم } 5 { من قبلكم } ط للفصل بين الاستفهام والإخبار لأن قوله « ولما يأتكم » عطف على « أم حسبتم » تقديره أحسبتم ولم يأتكم . { متى نصر الله } ط { قريب } 5 .
التفسير : أنه سبحانه لما أمر بالسلم ونهى عن مقابلها ثم قال : { فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات } [ البقرة : 209 ] أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد . ثم بين ذلك التهديد بقوله { فأعلموا أن الله عزيز حكيم } [ البقرة : 209 ] ثم ثنى ذلك التهديد بقوله { هل ينظرون } [ البقرة : 210 ] الآية ثم ثلث التهديد بقوله { سل بني إسرائيل } والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد . وهذا السؤال سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة ، وإلا فكثرة الآيات التي أوتوها معلومة بإعلام الله تعالى . والمراد سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون كي يعتبروا ويتعظوا . و « كم » تحتمل الاستفهامية والخبرية ، و { من آية } مميزها ، وقد فصل بين المميز وبينها بالفعل . فإن كانت استفهامية فالتقدير : سلهم عن عدد إيتائنا الآيات إياهم حتى يخبروك عن كميتها . وإن كانت خبرية فالمعنى : سلهم عن أنا كثيراً من الآيات آتيناهم . والآيات الواضحات إما معجزات موسى عليه السلام كفرق البحر وتظليل الغمام وتكليم الله إياه والعصا واليد ونحوها وهي تسع { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [ الإسراء : 101 ] وإما الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام فمنهم من آمن وأقر ومنهم من جحد وبدل { ومن يبدل نعمة الله } قيل : إنها الآيات والدلائل الدالة على صحة دين الإسلام وهي أجل أقسام النعم ، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة . ثم إن قلنا : الآيات معجزات موسى فتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هدايتهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وإن قلنا : الآية البينة هي ما في التوراة والإنجيل من الدلائل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فتبديلها تحريفها وإدخال الشبه فيها .

وقيل : المراد بنعمة الله ما آتاهم من أسباب الصحة والأمن والكفاية ، فتبديلها أنهم لم يجعلوها واسطة الطاعة والقيام بما عليهم من التكاليف ، بل استعملوها في غير ما أوتيت هي لأجله . وعلى هذا فقوله { من بعد ما جاءته } معناه ظاهر ، وأما على القول الأول وهو أن المراد من النعمة لآيات فمعنى مجيئها التمكن من معرفتها أو عرفانها كقوله { ثم يحرفونه من بعدما عقلوه } [ البقرة : 75 ] لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة . { فإن الله شديد العقاب } قال الواحدي : الرابطة محذوفة أي له . والتحقيق أن ترك هذا الإضمار أولى فإنه إذا علم كونه تعالى موصوفاً بهذا الوصف لزم من ذلك أنه يعاقب المبدل إن شاء ، ولكن لا يلزم من كونه شديد العقاب للمبدّل كونه متصفاً بذلك وصفاً ذاتياً . ثم قال الواحدي . والعقاب عذاب يعقب الجرم . ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كان التبديل سيرتهم فقال : { زين للذين كفروا } الآية . والغرض تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من نعيم الآخرة ، والتذكير في زين إما لأن الحياة والإحياء واحد ، أو للفصل مع أن التأنيث ليس بحقيقي . عن ابن عباس أن الآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من كبار قريش . وقيل : رؤساء اليهود وعلمائهم . وعن مقاتل : نزلت في المنافقين . ولا مانع من نزولها في جميعهم لأن كلهم وهم في التنعم والراحة كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين والمهاجرين . ثم المزين من هو؟ فعن المعتزلة أنهم غواة الجن والإنس قبحوا أمر الآخرة في أعين الكفار وأوهموا أن لا صحة لها فلا تنغصوا عيشكم في الدنيا كقول من قال :
أتترك لذة الصهباء نقداً ... بما وعدوك من لبن وخمر؟
قالوا : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فباطل . لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، وإذا كان المزين هو الله تعالى فلا بد أن يكون صادقاً في ذلك الإخبار ، فيكون فاعله المستحسن له مصيباً . وإن كان كافراً وإصابة الكافر كفر فهذا القول كفر ، وزيف بأن مزين الكفر لجميع الكفار لا بد أن يكون خارجاً منهم . وقولهم : « المزين للشيء هو المخبر عن حسنه » مردود ، وإنما المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالأوصاف الحسنة . سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن الله تعالى يكون مخبراً عن حسنه من حيث إنه أخبر عما فيها من اللذات والراحات؟ وهذا إخبار عما ليس بكذب والتصديق به ليس بكفر . وقال أبو مسلم : الكفار زينوا لأنفسهم والعرب تقول : « أين يذهب بك » لا يريدون أن ذاهباً ذهب به ومنه قوله تعالى { أنى يؤفكون } [ المائدة : 75 ] { أنى يصرفون } [ غافر : 69 ] . ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً فالإنسان بالحقيقة هو الذي زين لنفسه .

والتحقيق أن المزين هو الله تعالى كما صرح بذلك في قوله { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } [ الكهف : 7 ] وكيف لا وانتهاء جميع الحوادث إليه أظهر في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب والحلاوة ، وركب في الطبائع حب الشهوات والميل إلى الطيبات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل مع إمكان رد النفس عنها ليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام ويتم غرض الابتلاء . أو نقول : المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ولم يمنعهم عن الإقبال عليها والحرص الشديد في طلبها . وقيل : إن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات وهو ضعيف ، لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار وتزيين المباحات لا يختص بالكفار . وإن قيل : المراد من تزيين المباح للكافر أنه دائم السرور به . وإن قلت : ذات يده لكونه معقود الهمة به لا عيش عنده إلا عيش الدنيا ، بخلاف المؤمن فإن تمتعه من طيبات الدنيا وبهجتها وإن كثر ماله وجاهه مكدر بالخوف والوجل من الحساب في الآخرة . قلنا : تزيين المباح في نظر الكافر بحيث يفضي به إلى الاشتغال عن الآخرة مستقبح . أيضاً فالكلام فيه كالكلام في تزيين المحظور فيبقى الإشكال بحاله ولا مخلص إلا بإسناد الكل إليه تعالى بعد تذكر ما سلف لنا مراراً في حقيقة الجبر والقدر . ولما أخبر الله تعالى عنهم بأنه زين لهم الحياة العاجلة أخبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه فقال : { ويسخرون من الذين آمنوا } كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم يقولون : هؤلاء المساكين تركوا طيبات الدنيا وتحملوا المتاعب لطلب الآخرة . ولا يخفى أنه لو بطل حديث المعاد لكان لهذه السخرية وجه ، لكنه لو ثبت القول بالمعاد وصح كانت السخرية منقلبة عليهم لأنهم أعرضوا عن الملك الأبدي والنعيم المقيم بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة فلهذا قال سبحانه { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } أما بالمكان فلأنهم في عليين وهم في سجين ، وأما بالرتبة والشرف فلأنهم في معارج الأنس وهم في هاوية الهوان . ويحتمل أن يراد أنهم فوقهم بالحجة لأن حجج الكفار وشبههم كان تؤثر بوسوسة الشيطان ، وبمجرد استبعاد أمر المعاد وحجج المتقين يوم القيامة تستند إلى العيان وبمدد الرحمن { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم } [ الأعراف : 44 ] أو يراد أن سخرية المؤمنين بالكافرين يوم القيامة لكونها حقة وباقية فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لكونها باطلة ومنقضية . وفي قوله { والذين اتقوا } دون أن يقول آمنوا كما قال : { من الذين آمنوا } بعث على التقوى وأن كرامة المؤمن منوطة بها . { والله يرزق من يشاء بغير حساب } بغير تقدير .

وذلك أن الكفار كانوا يستدلون بحصول الزخارف الدنيوية لهم على أنهم على الحق وبحرمان فقراء المؤمنين عنها على أنهم على الباطل ، فرد الله تعالى عليهم قولهم بأن ذلك متعلق بمحض المشيئة ، وقد يستتبع غاية هي الاستدراج في حق الكافر والابتلاء في حق المؤمن ، أو يرزق من يشاء من مؤمن وكافر بغير حساب يكون لأحد عليه ولا مطالبة ولا سؤال سائل ، فالأمر أمره والحكم حكمه ولا يسأل عما يفعل . أو من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل « إذا جاءه ما لم يكن قد قدره ما كان هذا في حسابي » والمعنى أن الكفار وإن كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين فلعل الله تعالى يرزق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا ، ولقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، ويسر لهم الفتوح حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر ، أو المراد أن ما يرزق العبد في الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب ، وما يرزق العبد في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب وبغير حساب . ويحتمل أن يخص الرزق في الآية بالمؤمنين في الآخرة ، وعلى هذا يكون معنى { بغير حساب } أي رزقاً واسعاً وغذاء لا فناء له ولا انقطاع ولا حصر كقوله { يرزقون فيها بغير حساب } [ غافر : 40 ] أو يقال : إن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال { فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } [ النساء : 173 ] فالفضل بلا حساب إذ الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئاً ينقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك ، فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقياً . فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب . أو أراد أن الذي يعطى لا نسبة له إلى ما في خزائن ملكه وقدرته ، فلا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . أو معنى بغير حساب بغير استحقاق ، وإنما يعطى بمجرد الفضل والإحسان . أو معناه أنه يزيد على قدر الكفاية إلى عشرة بل سبعمائة من قولهم « فلان ينفق بالحساب » إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية . أو أنه لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه .
قوله سبحانه { كان الناس أمة واحدة } الآية . فيه إشارة إلى أن التباغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا وطيباتها لا يختص بهذا الزمان ، وإنما ذلك داء قديم في الإنسان . ثم الأمة الواحدة كانوا على الحق أو على الباطل فيه للمفسرين أقوال :
الأول : أنهم كانوا على الحق واختاره المحققون لوجوه منها : قوله تعالى { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وهذا يدل على أن النبيين عليهم السلام بعثوا حين الاختلاف وصيرورة بعضهم مبطلاً ، ولو كانوا قبل ذلك مجتمعين على الكفر لكان بعث الأنبياء إليهم حينئذ أولى .

ومنها النقل المتواتر إن آدم وأولاده كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى إلى أن قتل قابيل هابيل حسداً وبغياً . وعن ابن عباس أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق . ومنها أن وقت الطوفان لم يبق إلا أهل السفينة وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ، فلعل الناس إشارة إليهم . ومنها أن الدين الحق يتوقف على النظر ، والنظريات مستندة بالآخرة إلى مقدمات تعلم صحتها بضرورة العقل وإلى ترتيب . كذلك فالعقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج ، فالصواب له بالذات و الخطأ بالعرض وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الاستحقاق وبحسب الزمان أيضاً . فالأولى أن يقال : كان الناس على الحق ثم اختلفوا لأسباب خارجة كالبغي والحسد ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه » .
القول الثاني : وهو مروي عن ابن عباس والحسن وعطاء أنهم كانوا على الباطل لأن بعثة الأنبياء مترتبة على ذلك ، ولو كانوا على الحق لم يحتج إلى بعثتهم . ولو قيل : إن تقدير الآية فاختلفوا فبعث الله كما قرأ به ابن مسعود ، فالأصل عدم الإضمار ، والقراءة الشاذة لا يعتد بها . ومتى كان الناس متفقين على الكفر؟ قالوا : من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام . كانوا كفاراً بحكم الأغلب وإن كان فيهم بعض المسلمين كهابيل وشيث وإدريس عليهم السلام كما يقال : دار الكفر وإن كان فيها مسلمون .
القول الثالث : عن أبي مسلم والقاضي أبي بكر أنهم كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية وهي الاعتراف بوجود الصانع وصفاته والاشتغال بخدمته وشكر نعمته والاجتناب عن القبائح العقلية كالظلم والكذب والعبث . واحتجا بأن لفظ النبيين جمع معرف فيفيد العموم ، والفاء توجب التعقيب فيعلم من ذلك أن تلك الواحدة متقدمة على جميع الشرائع ، فلا تكون الاستفادة من العقل ، ثم سأل القاضي نفسه فقال : أوليس أول الناس آدم وأنه كان نبياً مبعوثاً؟ وأجاب بأنه يحتمل أن يكون مع أولاده متمسكين بالشرائع العقلية أولاً ، ثم إن الله تعالى بعثه إلى أولاده . ويحتمل أن شريعته قد صارت مندرسة ثم رجع الناس إلى الشرائع العقلية .
القول الرابع : التوقف فلا دلالة في الآية على أنهم كانوا محقين أو مبطلين .
القول الخامس : أن المراد من الناس أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد فبعث الله النبيين ومعهم الكتب كما بعث داود ومعه الزبور وعيسى ومعه الإنجيل ومحمداً صلى الله عليه وسلم ومعه الفرقان لتكون تلك الكتب حاكمة في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها . وهذا القول يوافق قول من قال : إن الخطاب في { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم } لأهل الكتب . فيراد بالناس إذن ناس معهودون .

ثم إنه تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث : الأولى : كونهم مبشرين ، والثانية : كونهم منذرين وقدمت البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة ، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض . أو الأول لكونه مقصود الغذاء ، والثاني كتناول الدواء . والأول لكونه مقصوداً بالذات مقدم على الثاني لأنه مقصود بالعرض . الصفة الثالثة : قوله { وأنزل معهم الكتاب بالحق } وفي قوله « معهم » والضمير يعود إلى عامة النبيين دليل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق والباطل ، طال ذلك الكتاب أم قصر ، ودوّن ذلك الكتاب أو لم يدوّن ، معجزاً كان أو غير معجز . قيل : إنزال الكتاب قبل وصول الأمر و النهي إلى المكلفين ، ووصول الأمر والنهي إليهم قبل التبشير والإنذار ، فلم قدم التبشير والإنذار على إنزال الكتاب؟ وأجيب بأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما ، وبأن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق . وفي الفرق بين العجز والسحر إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقاً للعقاب والخوف إنما يقوى عند التبشير والإنذار فلهذا قدم ذكرهما على إنزال الكتاب . قلت : فيه فائدة أخرى لفظية هي أن لا يقع فاصلة كثيرة بين الثالثة وبين الأولين ، أو بين الثالثة وبين ما رتب عليها من قوله { ليحكم } أي الكتاب لأنه أقرب . ولا محذور في نسبة الحكم إليه تجوزاً كما لا محذور في كونه هدى وشفاء . واللام للجنس ، أو أريد مع كل واحد كتابه . وقيل : ليحكم الله لأنه الحاكم في الحقيقة لا الكتاب وقيل : ليحكم النبي المنزل عليه بين الناس { فيما اختلفوا فيه } أي في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق ، أو في كل ما اختلفوا فيه ولم يعرفوا وجه الصواب في ذلك بحسب حكم الله { وما اختلف فيه } في الحق { إلا الذين أوتوه } أي أعطوا الحق وأدّوه لمباشرة أسبابه القريبة التي هي مجيء البينات . وقيل : الضمير للكتاب أي إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف . كأنهم عارضوا الكتاب بنقيض ما أنزل لأجله ، أنزل لئلا يختلفوا فزادوا في الاختلاف . وفيه دليل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء ، وإنزال الكتب كما مر في القول الأول . وقال كثير من المفسرين : المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى . واختلافهم إما تكفير بعضهم بعضاً ، وإما تحريفهم أو تبديلهم { من بعد ما جاءتهم البينات } يحتمل أن يكون كالبيان لإيتاء الكتاب أي وما اختلف فيه من اختلف إلا من بعد مجيء البينات التي هي الكتب كقوله تعالى { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] ويحتمل أن تكون هذه البينات مغايرة لإيتاء الكتاب ويعني بها الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى إثبات الأصول التي لا يمكن إثباتها بالدلائل السمعية ، وإذا حصلت الدلائل العقلية والسمعية لم يكن في العدول عذر ولا علة ، ولو حصل الإعراض كان سببه بغياً بينهم وحسداً وظلماً لحرصهم على الدنيا ولقلة الإنصاف وكثرة الاعتساف ، و { من الحق } بيان لما اختلفوا فيه أي فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف .

واللام بمعنى « إلى » أي هداهم إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى { ثم يعودون لما قالوا } [ المجادلة : 3 ] أي إلى ما قالوه { بإذنه } قال الزجاج : بعلمه . وقيل : بأمره فبالأمر يحصل التمييز بين الحق والباطل فتحصل الهداية . وقيل : في الآية إضمار أي فهداهم فاهتدوا بإذنه إذ لا جائز أن يأذن لنفسه { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } هو الحق الموصل إلى كمال الدارين ، أو هو طلب الجنة . ولما كان ذلك الحق أو الطلب لا يتأتى إلا باحتمال شدائد التكليف وأعباء الإرشاد والتعليم قال سبحانه : { أم حسبتم } على طريقة الالتفات التي هي أبلغ تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع المخالفين من أهل الكتاب والمشركين ، فإن من كان نظره أعلى في مراتب قرب المولى فبلاؤه أقوى وهو بالابتلاء أولى . قال في الكشاف : « أم » منقطعة ومعنى الهمزة فيها التقرير وإنكار الحسبان واستبعاده . وقال القفال رضي الله عنه : تقدير الآية : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه حين صبروا على استهزاء قومهم أفتسلكون سبيلهم أم تحسبون { أن تدخلوا الجنة } من غير سلوك سبيلهم { ولما يأتكم } فيه معنى التوقع . وفيه دليل على أن الإيتاء متوقع منتظر . عن ابن عباس : لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين ، وأظهرت اليهود العداوة له فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم { أم حسبتم } وقال قتادة والسدي : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والخوف وكان كما قال سبحانه { وبلغت القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] وقيل : نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله ابن أبي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى متى تقتلون أنفسكم وتنصرون الباطل؟ لو كان محمد نبياً ما سلط الله عليكم الأسر والقتل . والمعنى أم حسبتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة بمجرد الإيمان بي والتصديق لرسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر والفاقة ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة ومقاساة الأهوال في جهاد العدو كما نال ذلك من قبلكم من المؤمنين؟ و { مثل الذين خلوا } حالهم التي هي مثل في الشدة و { مستهم } بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال : كيف كان ذلك المثل؟ فقيل : مستهم { البأساء } وهي عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه { والضراء } وهي إشارة إلى انفتاح أبواب الشر والآفة إليه { وزلزلوا } حركوا وأزعجوا بأنواع البلايا والرزايا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة وهي من زل الشيء عن مكانه ، والتضعيف في اللفظ للتضعيف في المعنى .

وقيل : معناه خوّفوا وليس ببعيد ، لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب لقلقه ولهذا لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد . ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك شيئاً هو الغاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة فقال : { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك غاية في الشدة لا مطمح وراءها . من قرأ « يقول » بالنصب فعلى إضمار أن ، ومعنى الاستقبال بالنظر إلى ما قبل « حتى » وإن لم يكن مستقبلاً عند الإخبار . ومن رفع فعلى الحال الماضية المحكية كقولهم « شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه » { ألا إن نصر الله قريب } أي فقيل لهم ذلك إجابة إلى طلبتهم ، فكونوا أنتم معاشر المؤمنين كذلك في تحمل الأذى والمتاعب في طلب الحق ، فإن نصر الله قريب لأنه آتٍ وكل ما هو آتٍ قريب ، والحاصل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينالهم من المشركين والمنافقين أذى كثير ، ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى فعزاهم تعالى في ذلك ، وبيَّن أن حال من قبلهم في طلب الدين كان ذلك ، والمصيبة إذا عمت طابت . وذكر الله تعالى من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار ، ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه به ، ومن أمر سائر الأنبياء في مصابرتهم على أنواع المكاره ما صار ذلك سلوة للمؤمنين . « روى خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا . فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون » . وههنا سؤال ، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد : مت نصر الله؟ والجواب أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء ، فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له ذلك الوقت قال : - عند ضيق قلبه - متى نصر الله؟ حتى إنه إذا علم قرب الوقت زال همه وطاب وقته ، ولهذا أجيب بأن نصر الله قريب لا بأن نصر الله كائن .

وهذا الجواب يحتمل أن يكون من الله ، ويحتمل أن يكون قولاً لقوم منهم إذا رجعوا إلى أنفسهم وعلموا أن الله لا يخلف الميعاد . وقيل : إنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولاً ثم ذكروا كلامين : أحدهما متى نصر الله ، والثاني ألا إن نصر الله قريب . فهذا الثاني قول الرسول ، والأول قول المؤمنين كقوله { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } [ القصص : 73 ] والمعنى لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله بالنهار . ثم في الآية دليل على أن كل من لحقه شدة يجب أن يعلم أنه سيظفر بزوالها لأنه إما أن يتخلص عنها وإما أن يموت ، وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه وذلك من أعظم النصرة . اللهم انصرنا من عندك فإنك نعم المولى ونعم النصير .
التأويل : إنه تعالى إذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه يريد آياته وكراماته ، فإن اغتر بأحواله تعجب بكماله فيضل على حظوظ النفس ويبدل نعمة الله بموافقتها ورضاها فإن الله شديد العقاب بأن يغير أحواله ويسلب عنه كماله . { كان الناس أمة واحدة } على الحق وعلى الفطرة يوم الميثاق { وأنزل معهم الكتاب } الذي جف به القلم للسعادة أو الشقاوة كقوله صلى الله عليه وسلم « ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار » { وما اختلف } كل فريق إلا وقد أوتوا السعادة أو الشقاوة في حكم الله وقضائه ، ولكن ما حصلت السعادة والشقاوة للفريقين إلا من بعد البينات وهي معاملاتهم فبها يتبين السعيد من الشقي وبالعكس ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع المآب .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

الوقوف : { ينفقون } ط { السبيل } ط للابتداء بالشرط { عليم } 5 { كره لكم } ج { خير لكم } ج لتفصيل الأحوال { شر لكم } ط { لا تعلمون } 5 { قتال فيه } ط { كبير } ط على أن قوله « وصدّ » مبتدأ وما بعده معطوف عليه ، وقوله « أكبر عند الله » خبره ، وقد يقال : « وصد » عطف على « كبير » أي القتال فيه كبير ، وسبب صد عن سبيل الله وكفر بالله تعالى وبنعمة المسجد الحرام ، أو صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام فيوقف ههنا ، ويجعل « وإخراج أهله » مبتدأ . وقيل : « وصد » عطف الوقف على « سبيل الله » . و « كفر به » مبتدأ . والوجه هو الأول لانتظام المعنى أي القتال منا وإن كان كبيراً ولكن الصد والكفر والإخراج التي كانت منكم { أكبر من القتل } ط { استطاعوا } ط { والآخرة } ج لأن الجملتين وإن اتفقنا فتكرار « أولئك » ينبه على الابتداء مبالغة في تعظيم الأمر { النار } ج { خالدون } 5 { في سبيل الله } لا لأن ما بعده خبر « إن » { رحمة الله } ط { رحيم } 5 . المستقبل على المستقبل . { يتذكرون } 5 .
التفسير : إنه سبحانه لما بالغ في وجوب الإعراض عن العاجل والإقبال على الآجل بكل ما يمكن من الدخول في السلم وبذل المهج والأموال والصبر على مواجب التكاليف والدعاء إلى الدين القويم انتظاراً لنصرة الله ، شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الآية إلى قوله { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] جرياً على سننه المرضى من خلط بيان التوحيد وذكر النصيحة والوعظ ببيان الأحكام ، ليكون كل منهما مؤكداً للآخر . الحكم الأول : بيان مصرف الإنفاق { يسئلونك ماذا ينفقون } عن ابن عباس : نزلت الآية « في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي ديناراً فقال : أنفقه على نفسك . فقال : إن لي دينارين . فقال : أنفقهما على أهلك . فقال : إن لي ثلاثة فقال : أنفقها على خادمك . فقال : إن لي أربعة قال : أنفقها على والديك . قال : إن لي خمسة قال : أنفقها على قرابتك . قال : إن لي ستة . قال : أنفقها في سبيل الله وهو أخسها أي أقلها ثواباً » . وعنه في رواية أبي صالح أنها نزلت في عمرو بن الجموح وهو الذي قتل يوم أحد وكان شيخاً كبيراً هرماً وعنده ملك عظيم فقال : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ أما بحث « ماذا » فقد تقدم في قوله { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [ المدثر : 31 ] وأما أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم فكيف طابق قوله في الجواب { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } الآية .

فالوجه فيه أنه حصل في الآية ما يكون جواباً عن السؤال ، وضم إليه زيادة بها يكمل المقصود . وذلك أن قوله { ما أنفقتم من خير } تضمن بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا إذا صرفت إلى جهة الاستحقاق . وقال القفال : السؤال وإن كان وارداً بلفظ « ما » إلا أن المقصود هو الكيفية . فمن المعلوم لهم أن الذي أمروا بإنفاقه مال يخرج قربة إلى الله تعالى ، وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال كما طابق قوله { إنها بقرة لا ذلول } [ البقرة : 71 ] سؤالهم عن البقرة ما هي ، حيث كان من المعلوم أن البقرة بهيمة شأنها كذا وكذا ، فتوجه الطلب إلى تعيين الصفة لا الماهية . وقيل : إنهم لما سألوا هذا السؤال أجيبوا بأن السؤال فاسد ، أنفق أي شيء كان ولكن بشرط كونه مالاً حلالاً ومصروفاً إلى مصبه ، كما لو سأل شخص صحيح المزاج طبيباً حاذقاً أي طعام آكل؟ والطبيب يعلم أنه لا يضره أكل الطعام أي طعام كان ، فيقول له : كل في اليوم مرتين أي كل ما شئت . لكن بهذا الشرط ، فكذا ههنا المعنى لينفق أي شيء أراد ، لكن بشرط وهو أن يراعي الترتيب في الإنفاق فيقدم الوالدين لأنهما كالسبب لوجوده وقد ربياه صغيراً ، ثم الأقربين لأن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، الترجيح لا بدّ له من مرحج والقرابة تصلح للترجيح لأنه أعرف بحاله . والإطلاع على غنى الغني مما يحمل المرء على الإنفاق . وأيضاً لو لم يعطه قريبه احتاج إلى الرجوع إلى غيره وذلك عار وشنار . وأيضاً قريب المرء كجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الاكتساب لصغرهم ، ثم المساكين الذين هم غير اليتامى ، وأبناء السبيل لأنهم بسبب الاشتراك في دار الإقامة من أنفسهم ، ثم أبناء السبيل المنقطعون عن بلدهم ومالهم ما يتبلغون به إلى أوطانهم ، { وما تفعلوا من خير } من إنفاق شيء من مال بناء على أن الخير هو المال أو من كل ما يتعلق بالبر والطاعة طلباً لجزيل الثواب وهرباً من أليم العقاب . { فإن الله به عليم } فيجازيكم أحسن الجزاء . عن السدي : أن الآية منسوخة بفرض الزكاة . وقال المحققون : ويروى عن الحسن أنها ثابتة ، فقد يكون الإنفاق على الفروع والأصول واجباً ، ويحتمل أن يكون المراد : من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة تطوعاً فليراع هذا الترتيب .
قوله تعالى : { كتب عليكم القتال } كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون له في القتال مدة إقامته بمكة ، فلما هاجر أذن في قتال من يقاتله من المشركين ، ثم أذن في قتال المشركين عامة ، ثم فرض الله تعالى الجهاد .

قال بعض العلماء : إن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على الكل فرض عين لا كفاية . أما الوجوب فمستفاد من لفظ الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله { كتب } وأما العموم فلأن قوله { عليكم } لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد كما في قوله { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] و { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب . وعن ابن عمر وعطاء أن قوله { كتب } يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله { عليكم } يقتضي تخصيص هذا الكتاب بالموجودين في ذلك الوقت . والعموم في { عليكم الصيام } مستفاد من دليل منفصل هو الإجماع . وذلك الدليل معقود ههنا بل الإجماع منعقد على أنه من فروض الكفاية إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل . { وهو كره لكم } ليس المراد أن المؤمنين ساخطون لأوامر الله تعالى فإن ذلك ينافي الإسلام ، وإنما المراد كون القتال شاقاً على النفس وهكذا شأن سائر التكاليف ، وكيف لا والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة وأنها في القتال أكثر لأن الحياة أعظم ما يميل إليه الطباع فبذلها ليس بهين؟
والجود بالنفس أقصى غاية الجود ... وأيضاً كراهتهم للقتال قبل أن فرض لما فيه من الخوف من كثرة الأعداء وإنارة نوائر الفتن ، فبيّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه للمصالح التي نذكرها . والكره الكراهة وضع المصدر موضع الوصف مبالغة ، ويجوز أن يكون بمعنى « مفعول » كالخبز بمعنى المخبوز أي هو مكروه لكم . وقرئ بالفتح بمعنى المضموم كالضعف والضعف ، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له أو مشقته عليهم كقوله تعالى { حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً } وقال بعضهم : الكره بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه ، وإذا كان بالإكراه فبالفتح . { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } فربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في الاستقبال وبالضد ، ولهذا حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في الاستقبال ، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتحصيل الربح في المال ، وكذا تحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة العظمى في الدنيا والعقبى .
العلم أوله مر مذاقته ... لكنّ آخره أحلى من العسل
وههنا كذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق ، ولكن فيه أنواع من المفاسد والمضار أدناها تسلط الكفار واستيلاؤهم على ديار المسلمين ، وربما يؤدي إلى أن استباحوا بيضة الإسلام واستناخوا بحريمهم واستأصلوهم عن آخرهم . وأما منافع الجهاد فمنها الظفر بالغنائم ، ومنها الفرح العظيم بالاستيلاء على العدو . وأما ما يتعلق بالدين فالثبات عليه والثواب في الآخرة . وترغيب الناس في الإسلام وإعلاء كلمة الله ، وتوطين النفس للفراق عن دار البلاء والانقطاع عن عالم الحس قال الخليل : « عسى » من الله واجب في القرآن .

قال : { فعسى الله أن يأتي بالفتح } [ المائدة : 52 ] وقد وجد { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } [ يوسف : 83 ] وقد حصل . والتحقيق أن معنى الرجاء فيه يعود إلى المكلف وإن كان المرجو حاله معلوماً لله تعالى كما بينا في « لعل » { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } وذلك أن علمه تعالى فعلي يعلم الأسباب وما يترتب عليها ، والحوادث وما نشأت هي منها ، يحيط علمه بالمبادئ والغايات { لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات } [ سبأ : 3 ] وعلمكم انفعالي فلعلكم تعكسون التصورات فتظنون المبادئ غايات وبالعكس ، والمصالح مفاسد وبالضد . وفيه ترغيب عظيم في أداء وظائف التكاليف . وتخويف شديد عن تبعة العصيان والمرود ، فإن الإنسان إذا تصور قصور نفسه وكمال علم الله تعالى علم أنه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيره وصلاحه ، فيلزم نفسه امتثاله وإن كرهه طبعه فكأنه تعالى يقول : يا أيها العبد ، علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك وهواك . فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] .
الحكم الثاني في قوله سبحانه { يسئلونك عن الشهر الحرام } أكثر المفسرين على أن هؤلاء السائلين هم المسلمون حيث اختلج في صدورهم أن يكون الأمر بالقتال مقيداً بغير الشهر الحرام والمسجد الحرام ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يحل لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أم لا؟ ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش - وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم - في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمة المدينة ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري ، وعكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السلمي ، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله ، وخالد بن بكير . وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وقال : سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين . فإذا نزلت منزلتين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ، ولا تستكرهن أحداً من أصحابك على السير معك . فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه « بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد ، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل على بطن نخلة فترصد بها عير قريش ، لعلك أن تأتينا منه بخبر » فلما نظر عبد الله في الكتاب قال : سمع وطاعة . ثم قال لأصحابه ذلك وقال : إنه قد نهاني أن أستكره أحداً منكم .

حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع قد أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فاستأذنا أن يتخلفا في طلب بعيرهما فأذن لهما فتخلفا في طلبه . ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة - بين مكة والطائف - فبينما هم كذلك مرت بهم عيرٍ لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة الطائف ، فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان . فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منك فليتعرض لهم ، فإذا رأوه محلوقاً أمنوا وقالوا : قوم عمار . فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم . وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة ، وكانوا يرون أنه من جمادى وهي رجب . فتشاور القوم فيهم وقالوا : لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم . فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم ، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين . واستأسر الحكم وعثمان فكان أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم . واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف ويذعر فيه الناس لمعايشهم . سفك فيه الدماء وأخذ فيه الحرائب وعيّر بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن جحش وأصحابه : « ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام » ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً . فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فنزلت { يسئلونك عن الشهر الحرام } فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس ، وقسم الباقي بين أصحاب السرية فكان أول غنيمة في الإسلام . وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال : بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة ، وإن لم يقدما فتلناهما بهما . فلما قدما فأداهما . فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً وقتله الله ، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية » . وقيل : إن هذا السؤال كان من الكفار ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حرام استحلوا قتاله فيه فنزلت { يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه } خفض على أنه بدل الاشتمال من الشهر . وفي قراءة ابن مسعود { عن قتال فيه } بتكرير العامل . وقرأ عكرمة { قتل فيه قل قتال فيه كبير } أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة . وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ لكونه موصوفاً بالظرف . فإن قيل : كيف نكّر القتال في قوله تعالى { قل قتال } ومن حق النكرة إذا تكررت أن يكون المذكور ثانياً معرفاً مشاراً به إلى الأول وإلا كان الثاني مغايراً للأول؟ قلنا : لأن المراد بالقتال الأول الذي سألوا عنه القتال الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش . فلو جيء بالثاني معرفاً لزم أن يكون ذلك من الكبائر ، مع أن الغرض منه كان نصرة الإسلام وإعلاء كلمته ، فاختير التنكير ليكون تنبيهاً على أن القتال المنهي عنه هو الذي فيه تقوية الكفر وهدم قواعد الدين لا الذي سألوا عنه . ثم الجمهور اتفقوا على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ، وهل بقي ذلك الحكم أو نسخ؟ عن ابن جريج أنه قال : حلف لي بالله عطاء أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا على سبيل الدفع . وروى جابر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى . وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال : نعم . قال أبو عبيد الله : والناس بالثغور اليوم جميعاً على هذا القول ، يرون الغزو مباحاً في الأشهر الحرم كلها ، ولم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم . وكذلك أحسب قول أهل الحجاز والحجة في إباحته . قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ويمكن أن يقال أن قوله { قتال فيه كبير } نكرة في حين الإثبات فيتناول فرداً واحداً لا كل الأفراد ، فلا يلزم منه تحريم القتال في الشهر الحرام مطلقاً ، فلا حاجة فيه إلى تقدير النسخ والله أعلم .
{ وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله } من القتال في الأشهر الحرم فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنه ظن أنه في جمادى الآخرة؟ واعلم أن قوله { وصد } قد مر وجوه إعرابه في الوقوف . أما قوله : { والمسجد الحرام } فقيل : إنه معطوف على الهاء في « به » عند من يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، كقراءة حمزة { تساءلون به والأرحام } [ النساء : 1 ] بالخفض .

والكفر بالمسجد الحرام منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به وقيل : إنه معطوف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله وصد عن المسجد الحرام . واعترض بأنه يلزم الفصل بين صلة المصدر الذي هو الصد ، وبين المصدر بالأجنبي الذي هو قوله { وكفر به } وأجيب بأن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى ، فكأنه لا فصل وبأن التقديم لفرط العناية مثل { ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] وكان حق الكلام « ولم يكن أحد كفواً له » . وقيل : والمسجد الحرام عطف على الشهر الحرام أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام وهذا قول الفراء وأبي مسلم . وقيل : الواو في « والمسجد الحرام » للقسم . والصد عن سبيل الله هو المنع عن الإيمان بالله وبمحمد أو عن الهجرة . وقيل : منعهم المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت وزيف بأن الآية نزلت قبل غزوة بدر كما مر في قصة ابن جحش . وعام الحديبية كانت بعد غزوة بدر . وأجيب بأن معلوم الله كالواقع . والمراد بإخراج أهله ، إخراج المسلمين من مكة . وإنما جعلهم أهلاً له إذ كانوا هم القائمين بحقوق المسجد ولهذا قال عز من قائل { وكانوا أحق بها وأهلها } [ الفتح : 26 ] وإنما كانت هذه الأمور أكبر لأن كل واحد منها كفر والكفر أعظم من القتال . وأيضاً إنها أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو قتال عبد الله بن جحش ، ولم يكن قاطعاً بأنه وقع في الشهر الحرام . وأما الكفار فيعلمون بأن هذه الأمور تصدر عنهم في الشهر الحرام { والفتنة } أي الشرك ، أو إلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين أو التعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار . { أكبر من القتل } لأن الفتنة تفضي إلى القتل في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة ، فيصح أن الفتنة أكبر من القتل ، فضلاً عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي . يروى أنه لما نزلت الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة « إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام » { ولا يزالون يقاتلونكم } إخبار عن استمرار الكفار على عداوة المسلمين { حتى يردوكم عن دينكم } كي يرودكم عنه كقولك « أسلمت حتى أدخل الجنة » بمعنى كي أدخل . ويجوز أن يكون بمعنى « إلى » كقوله { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [ البقرة : 120 ] وقوله { إن استطاعوا } استبعاد لاقتدارهم كقول الرجل لعدوّه وهو واثق بأنه لا يظفر به « إن ظفرت بي فلا تبقِ عليّ » { ومن يرتدد } ومن يرجع { منكم عن دينه فيمت وهو كافر } باق على الردة { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } أما في الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة فيقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً وتبين زوجته منه ويحرم الميراث ، وأما في الآخرة فيكفي في تقريره قوله { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } واعلم أن الردة أغلظ أنواع الكفر حكماً ، وأنها تارة تحصل بالقول الذي هو كفر كجحد مجمع عليه ، وكسبّ نبي من الأنبياء .

وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحاً بالدين كالسجود للشمس والصنم وإلقاء المصحف في القاذورات . وكذا لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب . ويشترط في صحة الردة التكليف ، فلا تصح ردة الصبي والمجنون . وههنا بحث أصولي وهو أن جماعة من المتكلمين ذهبوا إلى أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة . فالإيمان لا يكون إيماناً إلا إذا مات المؤمن عليه ، والكفر لا يكون كفراً إلا إذا مات الكافر عليه . لأن من كان مؤمناً ثم ارتد - والعياذ بالله - فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيماناً في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي . فإما أن يبقي الاستحقاقان وهو محال ، وإما أن يقال إن الطارئ يزيل السابق وهو أيضاً محال ، لأنهما متنافيان وليس أحدهما أولى بالتأثير من الآخر ، بل السابق بالدفع أولى من اللاحق بالرفع لأن الدفع أسهل من الرفع . وأيضاً شرط طريان الطارئ زوال السابق . فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور . وبحث فروعي : وهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت فعند الشافعي : لا إعادة عليه لأن شرط حبوط العمل أن يموت على الردة لقوله تعالى عطفاً على الشرط { فيمت وهو كافر } وعند أبي حنيفة لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج لما جاء في موضع آخر مطلقاً { ولو أشركوا الحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] والحبط في اللغة أن تأكل الإبل شيئاً يضرها فتعظم بطونها فتهلك . وفي الحديث « وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم » سمي بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه . ولا شك أن المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل ، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال وإعدام المعدوم محال . فقال المثبتون للإحباط والتكفير : المعنى أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق . إما بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة ، أو لا بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي علي . وقال المنكرون للإحباط : المراد بالإحباط الوارد في كتاب الله تعالى هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لا يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق ثواباً ، فمعنى حبط عمله أنه أتى بعمل ليس فيه فائدة ، بل فيه مضرة عظيمة ، أو المراد أنه تبين أن أعماله السابقة لم تكن معتداً بها شرعاً .

وروي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا ابن الحضرمي ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم لم يكن لهم أخر فنزلت { إن الذين آمنوا } الآية . لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً وصار بسبب هذا القتال مجاهداً . وقيل : إنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله { كتب عليكم القتال } وبين أن تركه سبب للوعيد ، أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال { إن الذين آمنوا } الآية ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد . ومعنى هاجروا فارقوا أوطانهم وعشائرهم من الهجر الذي هو ضد الوصل . والهجر الكلام القبيح لأنه مما ينبغي أن يهجر . وجاز أن يكون المراد أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين وهو أيضاً هجرهم بهذا السبب فكان ذلك مهاجرة . والمجاهدة من الجهد بالفتح الذي هو المشقة ، أو من الجهد بالضم الطاقة لأنه يبذل الجهد في قتال العدو عند فعل العدو مثل ذلك ، ويجوز أن يكون معناها ضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله كالمساعدة ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصيل القوة { أولئك يرجون رحمة الله } يحتمل أن يكون الرجاء بمعنى القطع واليقين ولكن في أصل الثواب ، والظن إنما دخل في كميته وكيفيته وفي وقته . ويحتمل أن يراد المنافع التي يتوقعونها ، فإن عبد الله بن جحش ما كان قاطعاً بالثواب في عمله بل كان يظن ظناً ، وإنما جعل الوعد معلقاً بالرجاء ليعلم أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب ، وإنما ذلك بفضله ورحمته كما هو مذهبنا . ولو وجب أيضاً صح لأنه متعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك . وأيضاً المذكور ههنا هو الإيمان والهجرة والجهاد . ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال والتوفيق فيها مرجو من الله . وأيضاً المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع هذه الخصال مستقصرين أنفسهم في نصرة دين الله ، فيقدمون عليه راجين رحمته خائفين عقابه { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } [ المؤمنون : 60 ] .
{ والله غفور رحيم } يحقق لهم رجاءهم إن شاء بعميم فضله وجسيم طوله . عن قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمة . ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وإنه من رجا طلب ومن خاف هرب . وقال شاه الكرماني : علامة الرجاء حسن الطاعة . وقيل : الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال . وقيل : قرب القلب من ملاطفة الرب . روي عن لقمان أنه قال لابنه : خف الله تعالى خوفاً لا تأمن فيه مكره ، وأرجه رجاء أشد من خوفك . قال : فكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟ قال : أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر؟ وهذا لأنهما من حكم الإيمان وهما للمؤمن كالجناحين للطائر ، إذا استويا استوى الطير وتم في طيرانه . ومن هنا قيل : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

القراآت : { إثم كبير } بالثاء المثلثة : حمزة وعلي . الباقون : بالباء . { قل العفو } بالرفع أبو عمرو . الباقون : بالنصب . { لأعنتكم } بغير همز : روى أبو ربيعة عن أصحابه . وعن حمزة وجهان في الوقف ترك الهمزة لبيان المذهب ، والهمز ليدل على أصل الكلمة .
الوقوف : { والميسر } ط { للناس } ز قد يجوز مع اتفاق الجملتين تنبيهاً على أن بيان الثانية أهم من الأولى { من نفعهما } ط { ينفقون } ط { العفو } ط { يتفكرون } لا لتعلق الجار . { والآخرة } ط { اليتامى } ط { خير } ط { فإخوانكم } ط { المصلح } ط { لأعنتكم } ط { حكيم } 5 { يؤمنّ } ط لأجل لام الابتداء بعده { أعجبتكم } ج لوقوع العارض وإن اتفقت الجملتان { يؤمنوا } ط { أعجبكم } ط { إلى النار } ج والوصل أجوز لأن مقصود الكلام بيان تفاوت الدعوتين مع اتفاق الجملتين ، ومن وقف أراد الفصل بين ذكر الحق والباطل { بإذنه } ج لأن جملة « والله يدعو » تقابل الجملة الأولى فلم يكن قوله « ويبين آياته » من تمامها إذ ليس في الجملة الأولى ذكر بيان ، ومن وصل فلعطف المستقبل على المستقبل { يتذكرون } ( 5 ) .
التفسير : الحكم الثالث : بيان حرمة الخمر والميسر . قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من أصحابه قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا ، فأمّ بعضهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون . فنزلت { ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } [ النساء : 43 ] فقلّ من يشربها . ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد ابن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار ، فضربه أعرابي بلحي بعير فشجه موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت { إنما الخمر والميسر } [ المائدة : 90 ] إلى قوله { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] فقال عمر : انتهينا يا رب . والحكمة في وقوع التحريم على هذا الوجه أن القوم قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيراً ، فلو منعوا دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فإن الفطام عن المألوف شديد ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج والرفق .
واختلف العلماء في مفهوم الخمر فقال الشافعي : كل شراب مسكر فهو خمر . وقال أبو حنيفة : الخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب . احتج الشافعي بما روى أبو داود في سننه عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير .

وهذا دليل على أن الخمر عندهم كل ما خامر العقل أي خالطه . والتركيب يدل على الستر والتغطية ، ومنه خمار المرأة . وكذا ما روي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من العنب خمراً ، وإن من التمر خمراً ، وإن من العسل خمراً ، وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً » ، قال الخطابي : إنما جرى ذكر هذه الأشياء خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان ، وكل ما في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجر فحكمها حكم هذه الخمسة . كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها . وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كل مسكر خمر وكل خمر حرام » فمراد الشارع أن كل مسكر فهو خمر لغة أو شرعاً فيكون حقيقة لغوية أو شرعية كالصلاة ، ولئن منع ذلك فلا أقل من أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة وهو المراد . وعن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع - وهو شراب يتخذ من العسل - فقال صلى الله عليه وسلم « كل شراب مسكر فهو حرام » وعن أم سلمة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر . قال : الخطابي : والمفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء . وأيضاً الآيات الواردة في الخمر منها اثنتان بلفظ الخمر وغيرهما بلفظ المسكر مثل { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] وفيه دليل على أن المراد بالخمر هو المسكر . وكذا في قول عمر ومعاذ « الخمر مذهبة للعقل » . فإنه يوجب أن كل ما كان مساوياً للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمراً وإما أن يكون مساوياً للخمر في علة التحريم . وأيضاً قال تعالى { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة } [ المائدة : 90 ] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر فيعلم منه أن حرمة الخمر معللة بالإسكار . فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر ، وإما أن يلزم الحكم بالحرمة في كل مسكر . حجة أبي حنيفة قوله تعالى { تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] منّ الله علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن ، والنبيذ سكر ورزق حسن ، فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح ، وأيضاً « ما روي في الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فقال رجل : يا رسول الله ، ألا أسقيك نبيذاً؟ قال : بلى » . فخرج يسعى فجاء بقدح فيه نبيذ فشرب . واعلم أن المسكر حرام جنسه قل أم كثر نيئاً أو مطبوخاً لقوله صلى الله عليه وسلم

« ما أسكر كثيره فقليله حرام » وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام » قال الخطابي : الفرق مكيال يسع ستة عشر رطلاً . وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب . وعن ابن عباس أنه جاء رجل فسأله عن العصير فقال : اشربه ما كان طرياً . قال : إني أطبخه وفي نفسي منه شيء . قال : أكنت شاربه قبل أن تطبخه؟ قال : لا ، قال : إن النار لا تحل شيئاً وقد حرم . وقال أبو حنيفة : المطبوخ من عصير العنب إن ذهب أقل من ثلثيه فهو حرام لكن لا حد على شاربه إلا إذا سكر ، وإن ذهب ثلثاه فهو حلال إلا القدر المسكر فيحرم ويتعلق بشربه الحد . يروى أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله « أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكن واحداً » . ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد فهو حرام ولكن لا حد فيه ما لم يسكر ، فإن طبخ فهو حلال إلا المقدار الذي يسكر فإن ذلك حرام ويحد به ، ولا يعتبر في النقيع ذهاب الثلثين . ونبيذ الحنطة والشعير والعسل وغيرها حلال نيئاً كان أو مطبوخاً ، ولا يحرم منه إلا القدر المسكر . وذكروا في حد السكران عبارات فعن الشافعي : أنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم . وقيل : الذي لا يفرق بين السماء والأرض وقيل : الذي يتمايل في مشيه ويهذي في كلامه . والأقرب أن الرجوع فيه إلى العادة . ثم إن قوله تعالى { يسئلونك عن الخمر والميسر } ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا ، فيحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع وحرمته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة بل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان واقعاً عن الحل والحرمة أي يسألونك عما في تعاطيهما . وأما كيفية دلالة الآية على الحرمة فهي أنها مشتملة على أن في الخمر إثماً والإثم حرام لقوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } [ الأعراف : 33 ] ومما يؤكد هذا أن السؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر وقد جعل الله تعالى الإثم لازماً لهذه الماهية فيلزمها الإثم على جميع التقادير من الشرب وغير ذلك من وجوه الانتفاع والاستعمال . وصرح أيضاً بأن الإثم الحاصل منها أكبر من النفع المتوهم فيها عاجلاً ، وإنما لم يقنع كبار الصحابة بهذه الآية طلباً لما هو آكد في التحريم ثقة واطمئناناً كما التمس إبراهيم عليه السلام مشاهدة إحياء الموتى طلباً لمزيد الإيقان وركوناً إلى سكون النفس بالعيان .

فإن قيل : لما كان الإثم لازماً لماهية الخمر من حيث هي ، فلم لم تكن محرمة في سائر الشرائع؟ قلت : كم من نقص في الأديان السالفة تممه شرع خاتم النبيين! وأيضاً هذا لزوم شرعي ، ويمكن أن تختلف الشرائع بحسب اختلاف الأزمان ولا سيما إذا اعتبرت مصالح الإنسان . والميسر القمار مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعليهما . يقال : يسرته أي قمرته مشتق من اليسار لأنه يسلب يساره . عن ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله . أو من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير ما كدّ وتعب . وقال ابن قتيبة : الميسر من التجزئة والاقتسام يقال : يسروا الشيء إذا اقتسموه . فالجزور نفسه يسمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء والياسر الجازر . ثم يقال للقامر : ياسر لأنه بسبب ذلك الفعل يجزئ لحم الجزور . وقال الواحدي : يسر الشيء أي وجب ، والياسر الواجب بسبب القداح . وأما صفة الميسر على ما في الكشاف فهي : إنه كانت لهم عشرة أقداح - وهي الأزلام والأقلام - أساميها : الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد . لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤنها عشرة أجزاء . وقيل : ثمانية وعشرين . لا نصيب لثلاثة وهي المنيح والسفيح والوغد ، وللفذ سهم ، والتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة . يجعلونها في الربابة - وهي خريطة - ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها . فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم . قال العلماء : وفي حكم الميسر سائر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « إياكم وهاتين الكعبتين المشؤمتين فإنهما من ميسر العجم » وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز . وروي أن علياً رضي الله عنه مر بقوم وهم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ . إلا أن الشافعي رخص في الشطرنج إذا خلا عن الرهان ، وكف اللسان عن الطغيان ، وحفظ الصلاة عن النسيان . فإن الميسر ما يوجب دفع مال وأخذ مال وهذا ليس كذلك . ويحكى اللعب به عن ابن الزبير وأبي هريرة وكثير من السلف . وأما السبق في النصل والخف والحافر فجائز بالاتفاق لقوله صلى الله عليه وسلم « لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر » وذلك لما فيها من التأهب للجهاد ، والكلام في تفاصيلها وشروطها مذكور في كتب الفقه .

{ قل فيهما إثم كبير } أي إنهما من الكبائر . ومن قرأ بالثاء فمعنى الكثرة أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة . أما في الخمر فلأنها عدوّ العقل الذي هو عقال الطبع وأشرف خصائص الإنسان ومقابل الأشرف يكون أخس الأشياء . حكى بعض الأدباء أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً . وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية : لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جرأتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم ، ومن خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر كان الميل إليها أتم ، وقوة النفس عليها أقوى . بخلاف سائر المعاصي كالزنا وغيره ، وكفى بقوله { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر الميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } [ المائدة : 90 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم « الخمر أم الخبائث » ذماً لها وتقريراً لإثم شاربها . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب الخمر عشرة . وقال صلى الله عليه وسلم : « كل مسكر حرام » « وإن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار » وكذا الكلام في الميسر مع أن فيه أكل الأموال بالباطل . وأما المنافع المذكورة فهي أنهم كانوا يغالون بها إذا جلبوها من النواحي ، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن يعدّ ذلك فضيلة ومكرمة ، وكان يكثر أرباحهم بذلك السبب قال أبو محجن : أقومها زقاً يحق بذا كم يساق إلينا تجرها ونسوقها .
قال أبقراط : في الخمر عشر منافع . خمس جسمانية وخمس نفسانية . فالجسمانية أنها تجوّد الهضم وتدرّ البول وتحسن البشرة وتطيب النكهة وتزيد في الباه . والنفسانية أنها تسر النفس وتقرب الأمل وتشجع النفس وتحسن الخلق وتزيل البخل . ومن منافع الميسر التوسعة على ذوي الحاجات لأنهم كانوا يفرقونه على المساكين فيكتسبون به الثناء والمدح . ولا ريب أن منافع الخمر والميسر لكونها مظنونة عاجلة أقل من إثمهما لكونه متيقن . الحساب الدائم العذاب ، والعاقل لا يختار النفع القليل الزائل بعقاب أبدي لا نهاية له .
الحكم الرابع : { ويسئلونك ماذا ينفقون } وقد تقدم ذكر هذا السؤال وأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد هنا فأجيب بذكر الكمية . وذلك أن الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق وينبهان على عظم ثوابه ، سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه؟ ومعنى العفو ما تيسر وسهل مما يكون فاضلاً عن الكفاية . ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعاً إلى التيسير والتسهيل .

ويقال للأرض السهلة : العفو . ومن قال إن العفو هو الزيادة ، فهو أن الغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله . وحاصل الأمر يرجع إلى التوسط في الإنفاق والنهي عن التبذير والتقتير وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة . وقال صلى الله عليه وسلم : « خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف » وللعلماء في هذا الإنفاق خلاف . فعن أبي مسلم : أنه يجوز أن يكون العفو هو الزكوات ، ذكرها ههنا مجملة وتفصيلها في السنة ، وقيل : إنه تطوع ولو كان مفروضاً لبين مقداره ولم يفوّض إلى رأي المكلف . وقيل : إن هذا كان قبل نزول آية الصدقات ، وكانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم وينفقون ما فضل ثم نسخ بالزكاة . { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي كما بين لكم وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا يبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون إليه . { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } فتأخذون بما هو أصلح لكم من سلوك سبيل العدالة للإنفاق وغيره ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع . ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا الأدنى على الأعلى . ويجوز أن يتعلق ب « يبين » أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون .
الحكم الخامس : { ويسئلونك عن اليتامى } عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } [ النساء : 10 ] عزلوا أموالهم عن أموالهم فنزلت . وعنه عن ابن عباس قال : لما أنزل الله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الأنعام : 152 ] وقوله { إن الذين يأكلون } [ النساء : 10 ] نطلق من كان عنده مال اليتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، وجعل يحبس له ما يفضل من طعامه حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . { قل إصلاح لهم خير } وهو كلام جامع لمصالح اليتيم والولي . أما لليتيم فلأنه يتضمن صلاح نفسه بالتقويم والتأديب ، وصلاح ماله بالتبقية والتثمير لئلا تأكله النفقة عليه والزكاة منه . وأما الولي فلأن إحراز الثواب خير له من التحرز عن مال اليتيم حتى تختل مصالحه وتفسد معيشته ، وقيل : الخبر عائد إلى الولي يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجراً ، وقيل : عائد إلى اليتيم أي مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن أمورهم ، والأصوب هو القول الأول ، فإن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة فينبغي أن يكون نظر المتكفل لأمور اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا و الآخرة لنفسه ولليتيم في ماله ونفسه .

{ وإن تخالطوهم فإخوانكم } أي فهم إخوانكم في الإسلام ، والمخالطة جمع يتعذر فيه التمييز . قيل : المراد وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز كما يفعله المرء بمال ولده ومع إخوانه في الدين ، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة . وقيل : المراد بهذه المخالطة أخذ مقدار أجرة المثل في ذلك العمل ، وسنشرح المذاهب في ذلك إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إلى تفسير قوله تعالى { ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] وقيل : المراد أن يخالطوا أموال اليتامى بأموالهم وأنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي وحمل بعضهم المخالطة على المصاهرة واختاره أبو مسلم ، لأن هذا خلط اليتيم نفسه والشركة خلط لماله . وأيضاً الشركة داخلة في قوله { قل إصلاح لهم خير } والخلط من جهة النكاح وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك ، فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب . وأيضاً إنه تعالى قال بعد هذه الآية { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ } فكان المعنى إن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان في الإسلام لتتأكد الألفة بالمناكحة ، فإن كان اليتيم من المشركين فلا تفعلوا ذلك { والله يعلم المفسد } لأمورهم { من المصلح } لها ، أو يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح فيجاوزيه على حسب غرضه ومقصده ، فأحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح ، وفيه تهديد عظيم فكأنه قال : أنا المتكفل بالحقيقة لأمر اليتيم ، وأنا المطالب لوليه إن قصر . { ولو شاء الله لأعنتكم } لحملكم على العنت وهو المشقة بأن ضيق عليكم طريق المخالطة معهم . وعن ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً . وذلك أنهم كانوا في الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعاً في مالها ، أو يزوجها من ابن له كيلا يخرج مالها من يده . وقد يستدل بالآية على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يقدر عليه وعلى أنه تعالى قادر على خلاف العدل لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعانات ما جاز أن يقول « ولو شاء لأعنت » ولهذا قال : { إن الله عزيز } غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه { حكيم } لا يكلف إلا ما يتسع فيه طاقتهم .
الحكم السادس : { ولا تنكحوا المشركات } أكثر المفسرين على أن هذه الآية ابتداء شرع وحكم آخر في بيان ما يحل ويحرم . وعن أبي مسلم : أنه متعلق بقصة اليتامى ترغيباً في مخالطتهنّ دون مخالطة المشركات . عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي - وكان حليفاً لبني هاشم - إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين ، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق .

فأتته وقالت : ألا نخلو؟ فقال : ويحك إن الإسلام حال بيننا . فقالت : فهل لك أن تتزوّج بي؟ قال : نعم . ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره فنزلت هذه الآية . ثم العلماء اختلفوا في الآية في موضعين : الأوّل في لفظ النكاح فقال أكثر أصحاب الشافعي : إنه حقيقة في العقد لقوله صلى الله عليه وسلم « لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل » ولا شك أن المتوقف على الولي والشاهد هو العقد لا الوطء . ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً « ولدت من نكاح لا من سفاح » ولقوله تعالى { وأنكحوا الأيامى } [ النور : 32 ] وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة : إنه حقيقة في الوطء لقوله تعالى { حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] والنكاح الذي ينتهي إليه الحرمة ليس هو العقد بل هو الوطء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم « لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » وقال صلى الله عليه وسلم « ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون » ومن الناس من قال : النكاح عبارة عن الضم . يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينيه . والضم حاصل في العقد وفي الوطء ، فيحسن استعمال اللفظ فيهما جميعاً . قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم « نكح المرأة » فقال : فرقت العرب بالاستعمال فرقاً لطيفاً . فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا أنه تزوّجها وعقد عليها . وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته . لم يريدوا غير المجامعة . إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد أي لا تعقدوا على المشركات .
الثاني لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب أم لا؟ قال الأكثرون : نعم لقوله تعالى { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] إلى قوله سبحانه { عما يشركون } [ التوبة : 31 ] ولقوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] فلو كان كفر اليهود والنصارى غير الشرك لاحتمل أن يغفر الله لهم وذلك باطل بالاتفاق . وأيضاً النصارى قائلون بالتثليث وليس ذلك في الصفات ، فإن أكثر المسلمين أيضاً يثبتون لله تعالى صفات قديمة ، فإذن هو في الذات وهذا شرك محض . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر أميراً وقال : « إذا لقيت عدوّاً من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، سمى من يقبل الجزية وعقد الذمة بالمشرك » . وقال أبو بكر الأصم : كل من جحد رسالته فهو مشرك من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن حدّ البشر ، وهم أنكروها وأضافوها إلى الجن والشياطين ، فقد أثبتوا شريكاً لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر .

واعترض عليه بأن اليهودي حيث لا يسلم أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما لا يقدر العباد عليه ، لم يلزم أن يكون مشركاً بسبب إضافة ذلك إلى غير الله . والجواب أنه لا اعتبار بإقراره ، وإنما الاعتبار بالدليل ، فإذا ثبت بالدليل أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر ، فمن أضاف ذلك إلى غير الله كان مشركاً كما لو أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب . احتج المخالف بأنه تعالى فصل بين أهل الكتاب والمشركين في الذكر حيث قال { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] والعطف يقتضي التغاير . وأجيب بأن كفر الوثني أغلظ وهذا القدر يكفي في العطف ، أو لعله خص أوّلاً ثم عمم . هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل { فلا تجعلوا لله أنداداً } [ البقرة : 22 ] أن أكثر عبدة الأوثان مقرون بأن إله العالم واحد ، وأنه ليس له في الإلاهية بمعنى خلق العالم وتدبيره شريك ونظير ، فظهر أن وقوع اسم المشرك عليهم ليس بحسب اللغة بل بالشرع كالصلاة والزكاة . وإذا كان كذلك فلا يبعد بل يجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم ، لا سيما وقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يسم كل من كان كافراً بأنه مشرك .
التفريع إن قيل : المشركات تشمل الحربيات والكتابيات جميعاً فالآية منسوخة أو مخصصة بقوله { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] لأن سورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ شيء منها قط وهو قول ابن عباس والأوزاعي . لا يقال : لعل المراد من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب لأن قوله { والمحصنات من المؤمنات } [ المائدة : 5 ] يشمل من آمن منهنّ فيبقى قوله { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } [ المائدة : 5 ] ضائعاً ولإجماع الصحابة على جواز نكاح الكتابيات نقل أن حذيفة تزوّج بيهودية أو نصرانية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام؟ فقال : لا ، ولكني أخاف . وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا » وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم » ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الاستثناء خالياً عن الفائدة . وإن قيل : إن المشركات تختص بالحربيات ، فالآية ثابتة وباقية على عمومها . ومن الناس من زعم أن هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التزوج بالمشركات . روي هذا عن الحسن وزيف بأن رفع مباح الأصل ليس بنسخ لأن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكونا حكمين شرعيين إلا أن يقال : إن تجويز نكاح المشركة قبل نزول الآية كان ثابتاً من قبل الشرع .

قوله { حتى يؤمن } اتفق الكل على أن المراد منه الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام ، ولكن لا يدل هذا على أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار فقط لما مر في تفسير قوله { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] أنه لا بد في الإيمان الحقيقي من التصديق القلبي ، إلا أنه اكتفي ههنا بالإقرار اللساني لأنه هو أمارة الإيمان بالنسبة إلينا ، فلا اطلاع لنا على صميم القلب ، والسرير موكولة إلى علام الخفيات . فإن وافق سره العلن كان مؤمناً حقاً وإلا كان منافقاً جداً { ولأمة مؤمنة } هذه اللام في إفادة التوكيد تشبه لام القسم . والمراد بالأمة وكذا بالعبد في قوله { ولعبد مؤمن } أمة الله وعبده لأن الناس كلهم عبيداً لله وإماؤه أي ولا مرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة { خير من مشركة ولو أعجبتكم } للمبالغة والجواب محذوف أي ولو كانت المشركة تعجبكم بمالها وجمالها ونسبها ، فالمؤمنة خير منها لأن الإيمان يتعلق بالدين والمال ، والجمال والنسب يتعلق بالدنيا ، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يتيسر الجمع بينهما . وقد تحصل المحبة والتآلف عند التوافق في الدين فتكمل منافع الدنيا أيضاً من حسن الصحبة والعشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والأولاد ، وأما عند اختلاف الدين فتنعكس هذه القضايا . وقد يرى أضداد ما توقع منها ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسنها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك » وقد ظن بعضهم أن المراد بالأمة ضد الحرة فقال : التقدير : ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة . ولهذا ذهب بعض آخر إلى أن في الآية دلالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوّج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة ، لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجداً لطول الحرة المسلمة ، لأنه بسبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح ، فيلزم قطعاً أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } لا خلاف ههنا في أن المراد به الكل ، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر على اختلاف أقسام الكفر { أولئك } المشركات والمشركون { يدعون إلى النار } أي إلى ما يؤدي إليها ، فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة في الظاهر ، وقد تحمل المودة على الاتفاق في الدين فلعل المؤمن يوافق الكافر ، والاحتراز عن مظنة الارتداد أهم من الطموح إلى إسلام المشرك . فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال . وقيل : المراد أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والجهاد ، وفي ترك الجهاد استحقاق النار والعذاب .

وغرض هذا القائل أن يجعل هذا فرقاً بين الذمية وغيرها ، فإن الذمية لا تحمل زوجها على ترك الجهاد . وقيل : إن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار فهذا هو الدعوة إلى النار . { والله يدعو إلى الجنة } حيث أمر بالتزوج بالمسلمة حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجنة ، أو المراد أن أولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة المغفرة وما يؤدي إليهما ، فهم الذين تحب موالاتهم و مصاهرتهم وأن يؤثروا على غيرهم { بإذن } بتوفيق الله وتيسيره للعمل الذي يستحق به الجنة والغفران وقرى الحسن { والمغفرة } بالرفع على الابتداء أي المغفرة كائنة بتيسيره { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } معناه واضح . وقد عرفت فيما مر أن التذكر محاولة استرجاع الصورة المحفوظة ، فكان الآيات تليه على ما هو مركوز في العقول من حقيقة دين الإسلام { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم : 30 ] .
التأويل : إن خمر الظاهر كما يتخذ من أجناس مختلفة كالعنب والتمر والعسل والحنطة والشعير وغيرها ، فكذلك خمر الباطن من أجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وأمثالها . وهذه تسكر النفوس والعقول الإنسانية التي هي مناط التكليف فلهذا حرمت في عالم التكليف ، وأما ما يسكر القلوب والأرواح والأسرار فهو شراب الواردات في أقداح المشاهدات من ساقي تجلي الصفات إذا دارت الكؤوس انخمدت شهوات النفوس ، فتسكر القلوب بالمواجيد عن المواعيد ، والأرواح بالشهود عن الوجود ، والأسرار بمطالعة الجمال من ملاحظة الكمال ، وهذا شراب حلال لأنه فوق عالم التكليف ، وإنه يمزج الكثيف باللطيف فيه { ومنافع للناس } وملاذ لأهل القرب والاستئناس .
فصحوك من لفظي هو الوصل كله ... وسكرك من لحظي يبيح لك الشربا
فما مل ساقيها وما مل شارب ... عقار لحاظ كأسه يسكر اللبا
قوم أسكرهم وجود الشراب وقوم أسكرهم شهود الساقي .
فأسكر القوم دور كأس ... وكان سكري من المدير
الكأس والشراب والساقي و المسقي ههنا واحد كما قيل :
رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وإثم الإعراض عن كؤوس الوصال في النهاية أكبر من نفع الطلب ألف سنة في البداية . أما الميسر فإثمه كبير عند ا لأخيار وإنه بعيد عن خصال الأبرار ، ولكن نفعه عدم الالتفات إلى الكونين ، وبذل نفوس العالمين في فردانية نقش الكعبتين . { وإثمهما أكبر من نفعهما } لأن إثمهما للعوام ونفعهما للخواص ، والعوام أكثر من الخواص . وبعبارة أخرى الإثم في الخمر الظاهر والميسر الظاهر ، والنفع في الخمر الباطن والميسر الباطن ، وأهل الظاهر أكثر من أهل الباطن والله أعلم .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

القراآت : { حتى يطهرن } بالتشديد والأصل « يتطهرن » فأدغم التاء في الطاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص . الباقون { يطهرن } بالتخفيف من الطهارة . { أنى } بالإمالة المفرطة : حمزة وعلي وخلف . وقرأ العباس بالإمالة اللطيفة كل القرآن . الباقون بالتفخيم { لا يؤاخذكم } وبابه وكل همزة تحركت وتحرك ما قبلها مثل { يؤخر } و { يؤده } وأشباه ذلك بغير همز : يزيد وورش والشموني وحمزة في الوقف .
الوقوف : { عن المحيض } ط { أذى } ط لأن لكونه أذى تأثيراً بليغاً في وجوب الاعتزال { في المحيض } لا للعطف . { حتى يطهرن } ج لأن « إذا » متضمنة الشرط للفاء في جوابه مع فاء التعقيب فيها { أمركم الله } ط { المتطهرين } 5 { حرث لكم } ص لأن الفاء كالجزاء أي إذا كن حرثاً فأتوهن وإلا فقد اختلف الجملتان { شئتم } ز قد يجوز لوقوع العارض . { لأنفسكم } ط { ملاقوه } ط { المؤمنين } 5 { بين الناس } ط { عليم } 5 { قلوبكم } ط { حليم } 5 { رحيم } 5 { عليم } 5 .
التفسير : الحكم السابع : { ويسئلونك عن المحيض } قيل : إنه تعالى جمع في هذا الموضع بين ستة أسئلة ، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو والباقية بالواو . والسبب أن سؤالهم عن تلك الحوادث وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف ، لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ ، وسألوا عن الوقائع الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع لذلك كأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن كذا وعن كذا . روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها ، والنصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، وكان أهل الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ، ولم يساكنوها في بيت . فقال ناس من الأعراب يا رسول الله ، البرد شديد والثياب قليلة . فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت ، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض فنزلت الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت » يعني أن المراد من قوله تعالى { فاعتزلوا النساء } فاعتزلوا مجامعتهن . واتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمان الحيض ، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة وتحت الركبة ، واختلفوا فيما دون السرة وفوق الركبة . فالشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف قالوا : يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار بناء على أن المحيض مصدر كالمجيء والمبيت ، والتقدير : فاعتزلوا تمتع النساء في زمان الحيض . ترك العمل بالآية فيما فوق السرة وتحت الركبة للإجماع فبقي الباقي على الحرمة . وعن زيد بن أسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال :

« لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها » وقيل : ما سوى الفرج حلال ، لأن المراد بالمحيض موضع الحيض فالمعنى فاعتزلوا موضع الحيض من النساء ، نعم المحيض الأول مصدر فيصلح عود الضمير إليه في قوله { قل هو أذى } أي الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرة وكراهة على أنه يحتمل أن يكون بمعنى المكان والتقدير هو ذو أذى ، وإنما قدم قوله { هو أذى } لترتب الحكم وهو وجوب الاعتزال عليه . وذلك أن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم ، حتى لو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة . فذلك الدم جار مجرى البول والغائط فكان أذى وقذراً . ولا يرد عليه دم الاستحاضة حيث لا يوجب الاعتزال ، لأن ذاك دم صالح يسيل من عرق يتفجر في عنق الرحم ، ويؤيده « ما روي في الصحيحين عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش فقالت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة؟ فقال : لا ، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي » . ومعنى العرق أنه علة حدثت بها من تصدع العروق . وأصل الحيض في اللغة السيل . يقال : حاض السيل وفاض . قال الأزهري : منه قيل الحوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل . والواو والياء من حيز واحد . وقد ورد في الحديث لدم الحيض صفات منها السواد ويراد به أنه يعلوه حمرة متراكبة فيضرب من ذلك إلى السواد ، ومنها الثخانة ، ومنها المحتدم وهو المحرق من شدة حرارته ، ومنها أنه ذو دفعات أي يخرج برفق ولا يسيل سيلاً ، ومنها أن له رائحة كريهة ، ومنها أنه بحراني وهو الشديد الحمرة . وقيل : ما يحصل فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر . فمن الناس من قال : إن كان الدم موصوفاً بهذه الصفات فهو الحيض وإلا فلا ، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف ، وزوالها إنما كان بعارض الحيض . فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف الواجبة على ما كانت . ومنهم من قال : هذه الصفات قد تشتبه على المكلف فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسراً ومشقة ، فالشارع قدر وقتاً مضبوطاً متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض ، ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء . أما السن المحتمل للحيض فأصح الوجوه أنها تسع سنين فإن رأت الصبية دماً قبل استكمال التسع فهو دم فساد . قال الشافعي : وأعجل من سمعت من النساء يحضن نساء تهامة يحضن لتسع سنين . وقيل : إن أول وقت الإمكان يدخل بالطعن في السنة التاسعة . وقيل : بمضي ستة أشهر من السنة التاسعة . والاعتبار على الوجوه بالسنين القمرية تقريباً على الأظهر لا تحديداً ، حتى لو كان بين رؤية الدم وبين استكمال التسع على الوجه الأصح ما لا يسع حيضاً وطهراً ، كان ذلك الدم حيضاً وإلا فلا ، وأقل مدة الحيض عند الشافعي يوم وليلة ، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام ، وعن مالك لا حد لأقله .

وأما أكثر الحيض فهو خمسة عشر يوماً وليلة لقول علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه : ما زاد على خمسة عشر فهو استحاضة . وعن عطاء : رأيت من تحيض يوماً ومن تحيض خمسة عشر يوماً . وأما الطهر فأكثره لا حد له . فقد لا ترى المرأة الدم في عمرها إلا مرة واحدة ، وأقله خمسة عشر يوماً ، وقال أحمد أقله ثلاثة عشر . وقال مالك : ما أعلم بين الحيضتين وقتاً يعتمد عليه لنا الرجوع إلى الوجود ، وقد ثبت ذلك من عادات النساء ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي » أشعر ذلك بأقل الطهر وأكثر الحيض . وغالب عادات النساء في الحيض ست أو سبع ، وفي الطهر باقي الشهر . قال صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش : « تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء ويطهرن » ومعنى : « في علم الله » ، أي مما علمك الله من عادتك أو من غالب عادات النساء . ويحرم في الحيض عشرة أشياء : الصلاة والصوم والاعتكاف والمكث في المسجد و الطواف ومس المصحف وقراءة القرآن والسجود والغشيان بنص القرآن والطلاق في حق بعضهن ثم إن أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل مجامعتها إلا بعد أن تغتسل عن الحيض ، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري . والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها حتى تغتسل ويمضي عليها وقت صلاة ، وإن رأته عشرة أيام جاز له أن يقربها قبل الاغتسال . حجة الشافعي أن القراءة المتواترة حجة بالإجماع فإذا حصلت قراءتان متواترتان وجب الجمع بينهما ما أمكن . فمن قرأ « يطهرن » بالتخفيف فانتهاء الحرمة عنده انقطاع الدم ، ومن قرأ « يطهرن » بالتثقيل فالنهاية تطهرها بالماء ، والجمع بين الأمرين ممكن بأن يكون النهاية حصول الشيئين . ومعنى قوله { ولا تقربوهن } أي لا تجامعوهن وهذا كالتأكيد لقوله { فاعتزلوا } ويحتمل أن يكون ذلك نهياً عن المباشرة في موضع الدم وهذا نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع . وأيضاً قوله { فإذا تطهرن فأتوهن } تعليق للإتيان على التطهر بكلمة « إذا » ، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر . والمراد بالتطهر الاغتسال؛ لأن هذا الحكم عائد إلى ذات المرأة ، فوجب أن يحصل في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها . وعن عطاء وطاوس هو أن تغسل الموضع وتتوضأ . وقال بعضهم : غسل الموضع .

ثم القائلون بوجوب الاغتسال أجمعوا على أن التيمم يقوم مقامه عند إعواز الماء { من حيث أمركم الله } أي من المأتى الذي أمركم به وحلله لكم وهو القبل . عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة . وقال الأصم والزجاج : فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات . وعن محمد ابن الحنفية : فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور .
{ إن الله يحب التوابين } مما عسى أن يبدر عنهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك بمجامعة الحائض والطاهرة قبل الغسل وإتيان الدبر { ويحب المتطهرين } المتنزهين عن تلك الفواحش . فالتائب هو الذي فعله ثم تركه ، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزهاً عنه لأن الذنب كأنه نجاسة روحانية حكمية { إنما المشركون نجس } [ التوبة : 28 ] أو يحب التوابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب ، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار والأوزار . الحكم الثامن { نساؤكم حرث لكم } وإنه جار مجرى البيان والتوضيح لقوله { فأتوهن من حيث أمركم الله } دلالة على أن الغرض الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فينبغي أن يؤتى المأتي الذي هو مكان الحرث ، وعن جابر رضي الله عنه قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت هذه الآية . وعن ابن عباس : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت . قال : وما أهلكك؟ قال : حوّلت رحلي الليلة . قال : فلم يرد عليَّ شيئاً . فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية . وتحويل الرحل قيل : ظاهره الكناية عن الإتيان في غير المحل المعتاد . وقيل : إنه الإتيان في المحل المعتاد لكن من جهة ظهرها . وعنه كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة مجبية أي في قبلها من دبرها وكانوا أخذوا ذلك من اليهود وكانت قريش تفعل ذلك ولما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } أي مقبلات ومدبرات ومستكفيات بعد أن يتقى الدبر والحيضة ، وذلك أن قوله { حرث لكم } أي مزرع ومنبت للولد وهذا على سبيل التشبيه . ففرج المرأة كالأرض ، والنطفة كالبذر ، والولد كالنبات ، وإنما وحد الحرث لأنه مصدر أقيم مقام المضاف أي هن مواضع حرث فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، بعد أن يكون المأتي واحداً وهو موضع الحرث أعني القبل دون الدبر ، هذا ما عليه أكثر العلماء ويؤيده قوله عز من قائل { قل هو أذى فاعتزلوا } جعل ثبوت الأذى علة للاعتزال ولا معنى للأذى ، إلا ما يتأذى الإنسان منه بنتن وتلوث وتنفر طبع ، والأذى في الدبر حاصل أبداً فالاعتزال عنه أولى بالوجوب .

فمعنى { أنى شئتم } كيف شئتم من قبلها قائمة أو باركة أو مضطجعة . وقيل : « أنى » بمعنى « متى » أي فأتوا حرثكم أي وقت شئتم من أوقات الحل يعني إذا لم تكن أجنبية أو محرمة أو صائمة أو حائضاً . وعن ابن عباس : المعنى إن شاء عزل وإن شاء لم يعزل . وقيل : متى شئتم من ليل أو نهار والأصح الأول وعن مالك والشيعة تجويز إتيان النساء في أدبارهن ويحكى أن نافعاً نقل عن ابن عمر مثل ذلك واحتجوا بأن الحرث اسم المرأة لا الموضع المعين وبأن قوله { أنى شئتم } معناه من أين شئتم كقوله { أنى لك هذا } [ مريم : 37 ] أي من أين . وكلمة « أين » تدل على تعدد الأمكنة فيلزم أن يكون المأتي بها متعدداً . وبقوله { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 6 ] ترك العمل بعمومه في حق الذكور لدلالة الإجماع فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الإناث . ولا يخفى ضعف هذه الحجج ولو سلم مساواتها دلائل الحرمة في القوة فالاجتناب أحوط ، وكيف لا وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « ملعون من أتى امرأة في دبرها » ولو لم يكن فيه إلا فوات غرض التوالد والتناسل الذي به بقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف أنواع الكائنات لكفى به منقصة وذماً ، وإذا كان لزنا لكونه مزيلاً للنسب محرماً ، وكذا الخمر لكونها رافعة للعقل ، والقتل لكونه مفنياً للشخص ، فلأن يحرم هذا الفعل لكونه متضمناً لفناء النوع أولى كاللواط وإتيان البهيمة والاستمناء ولهذا عقبه بقوله { وقدموا لأنفسكم } أي افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة كقول الرجل لغيره « قدم لنفسك عملاً صالحاً » وذلك أن الآية اشتملت على الإذن في أحد الموضعين والمنع عن الموضع الآخر فكأنه قيل : لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة وإنما يجب أن تكونوا في ربقة الإخلاص وتقديم الطاعة ، ثم إنه أكد ذلك بقوله { واتقوا الله } ثم زاد التأكيد بقوله { واعلموا أنكم ملاقوه } وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا تحسن إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن مشتهي . فقوله { وقدموا لأنفسكم } تحريض على فعل الطاعات ويندرج فيه ابتغاء لولد والتسمية عند الوقاع وغير ذلك من بآداب الخلوة ، وقوله { واتقوا الله } زجر عن المحظورات والمنكرات ، وقوله { واعلموا أنكم ملاقوه } تذكير ليوم البعث والحساب الذي لولاه لضاع فعل الطاعات وترك المنهيات وما أحسن هذا الترتيب! ثم قال { وبشر المؤمنين } كيلا يخلو الوعيد من الوعد . ولم يذكر المبشر به وهو الثواب والكرامة ونحوهما إما لأنه كالمعلوم من نحو قوله { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً } [ الأحزاب : 47 ] { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } [ البقرة : 25 ] وإما لأن الغرض نفس البشارة مثل « فلان يعطى » .

الحكم التاسع : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } وهو نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف ، فإن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة أي معرضاً له قال : فلا تجعلوني عرضة للوائم . وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله { ولا تطع كل حلاف مهين } [ القلم : 10 ] والحكمة فيه أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك فلا يؤمن إقدامه على الأيمان الكاذبة . وأيضاً كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله كان أكمل في العبودية ، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يبتذله ويستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية . وقوله { أن تبروا } علة النهي اي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصّلحوا بين الناس لأن الخلاف مجترئ على الله غير معظم له فلا يكون براً متقياً ، فإذا ترك الحلف لاعتقاده أن الله أعظم وأجل من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا اعتقد الناس في صدق لهجته وبعده من الأغراض الفاسدة فعدوه براً متخذاً من الإخلال بواجب حق الله فيدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم . ومعنى آخر وهو أن تكون العرضة « فعلة » بمعنى « مفعول » كالقبضة والغرفة فيكون اسماً للشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانع الناس من السلوك ، ومنه « عرض العود على الإناء » وتقول « فلان عرضة دون الخير » . وذلك أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة لرحم أو إصلاح أو إحسان أو عبادة ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني . فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } أي حاجزاً لما حلفتم عليه . وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك » أي على شيء مما يحلف عليه . فيكون قوله { أن تبروا } عطف بيان { لأيمانكم } أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى أو الإصلاح بين الناس ، وعلى هذا فاللام في { لأيمانكم } إما أن تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً وحاجزاً ، وإما أن تعلق ب { عرضة } لما فيها من معنى الاعتراض بمعنى لا تجعلوا شيئاً يعترض البر . ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق { أن تبروا } بالعرضة أي لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا { والله سميع } إن حلفتم به { عليم } بنياتكم إن تركتم الحلف إجلالاً لذكره ، واليمين في الأصل عبارة عن القوة فسمي الحلف بذلك لأن المقصود بها تقوية جانب البر على جانب الحنث . اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولهذا قيل : لما لا يعتد به ولا يخطر من أولاد الإبل في الدية « لغو » وهو في الأصل مصدر لغا يلغو .

قال صلى الله عليه وسلم « من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا » واختلف الفقهاء في اللغو من اليمين فذهب الشافعي - وهو قول عائشة والشعبي وعكرمة - أنه قول العرب « لا والله » و « بلى والله » مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف . فلو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لا ننكر ذلك ولعله قال : لا والله ألف مرة . ومذهب أبي حنيفة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والسدي ومكحول - أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن . وفائدة الخلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل « لا والله » و « بلى والله » ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن ، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك . حجة الشافعي أن الآية تدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب ، لكن المراد من قوله { بما كسبت قلوبكم } هو الذي يقصده الإنسان على سبيل الجد ويربط به قلبه فيكون اللغو ما تعوّده الناس في الكلام « لا والله » و « بلى والله » فأما إذا حلف على شيء أنه كان حاصلاً جداً ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين المتصل تصديق قوله وربط قلبه بذلك فلم يكن لغواً ألبتة ، وأيضاً إنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية النهي عن كثرة الحلف فذكر عقيب ذلك حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام على سبيل القصد إلى الحلف ، وبيّن أنه لا مؤاخذة عليهم ولا كفارة لأن إيجاب الكفارة والمؤاخذة عليهم يفضي إما إلى أن يمنعوا عن الكلام أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين ، فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرنا هو المناسب ويؤده ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لغو اليمين قول الرجل بين كلامه لا والله وبلى والله » وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر بقوم ينتضلون ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله ثم أخطأ فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : « كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة » وعن عائشة أنها قالت : أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب .

وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة . وقال أبو حنيفة : اليمين معنى لا يلحقه الفسخ فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق . وأيضاً إنه صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه » أوجب الكفارة على الحانث مطلقاً من غير فصل بين المجد والهازل . وقيل : إن يمين اللغو هو الحلف على ترك طاعة أو فعل معصية ، فبين الله تعالى أنه لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية وعن الضحاك أن اللغو هي اليمين المكفرة كأنه قيل : لا يؤاخذكم الله بإثم الحلف إذا كفرتم . وقيل : هي ما يقع سهواً ، والمراد بما كسبت قلوبكم هو العمد ، واختاره القاضي أبو بكر . ثم إن الشافعي قال : معنى لا يؤاخذكم لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه ، ولكن يلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان ولم يكن كسب اللسان وحده . وقال أبو حنيفة : معناه لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن ، ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد أي الكذب في اليمين ، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس . وقال مالك في الموطأ : أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة . قال : والذي يحلف على شيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحداً أو يعتذر لمخلوق أو بقتطع به مالاً فهذا لا أعلم أن يكون فيه كفارة ، وإنما الكفارة على من حلف أن لا يفعل الشيء المباح الذي له فعله ثم يفعله ، أو أن يفعله ثم لا يفعله مثل : أن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيع بذلك ، أو يحلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه . { والله غفور رحيم } حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم وأخر عقوبتكم بما كسبت قلوبكم لعلكم تتفكرون أو تتوبون عنها .
الحكم العاشر : { للذين يؤلون من نسائهم } يقال في اللغة : آلى يؤلي إيلاء وأئتلى ائتلاء وتألى تألياً . والإلية والقسم واليمين والحلف كلها واحد . وفي الحديث القدسي « آليت أن أفعل » خلاف المقدرين والإيلاء في الشرع هو الحلف على الامتناع من وطء لزوجة مطلقاً أو مدة تزيد على أربعة أشهر . وكان الإيلاء طلاقاً في الجاهلية فغيّر الشرع حكمه . قال سعيد بن المسيب . كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها وكان يتركها بذلك لا أيماً ولا ذات بعل ، والغرض منه مضارة المرأة . ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضاً فأزال الله تعالى ذلك وأمهل الزوج مدة حتى يتروى ويتأمل .

فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها . ثم المتعارف أن يقال : آليت على كذا وإنما عدي ههنا بمن لأنه أريد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر كما يقال : « لي منك كذا » أو ضمن في هذا القسم المصوص معنى البعد فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم أو يعتزلون مولين أو مقسمين . والتربص التلبث والانتظار وإضافته إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله « بينهما يوم » أي مسيرة في يوم { فإن فاؤا } فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها { فإن الله غفور رحيم } يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب الضرار بالإيلاء وهو الغالب ، وإن كان من الجائز كونه على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد من القتل أو لغير ذلك من الأسباب { وإن عزموا الطلاق } بان عقدوا القلب على حل رابطة النكاح { فإن الله سميع عليم } وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة التي هي مثل التوبة . واعلم أن الإيلاء له أركان أربعة . الحالف والمحلوف به والمحلوف عليه ومدة هي ظرف المحلوف عليه .
الركن الأول : الحالف وهو كل زوج يتصور منه الوقاع وكان تصرفه معتبراً في الشرع ، فيصح إيلاء الذمي لعموم قوله { للذين يؤلون } وبه قال أبو حنيفة . وقال أبو يوسف ومحمد : لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق ، وأيضاً لا فرق عندنا بين الحر والرقيق في الحد . وعند أبي حنيفة يتنصف برق المرأة ، وعند مالك برق الرجل كما قالا في الطلاق لنا أن التخصيص خلاف الظاهر ، ولأن تقدير هذه المدة إن كان لأجل معنى يرجع إلى الجبلة والطبع وهو قلة الصبر على مفارقة الزوج فيستوي فيه الحر والرقيق كالحيض ومدة الرضاع ومدة العنة . ويصح الإيلاء في حالتي الرضا و الغضب بعموم الآية . وقال مالك : لا يصح إلا في حال الغضب . وأيضاً يصح الإيلاء من المرأة سواء كانت في صلب النكاح أو كانت مطلقة طلقة رجعية ، لأن الرجعية يصدق عليه أنها من نسائه بدليل أنه لو قال : نسائي طوالق . وقع الطلاق عليها فتدخل تحت ظاهر قوله { يؤلون من نسائهم } ولهذا لو قال لأجنبية : والله لا أجامعك لم يكن مولياً . وإيلاء الخصي صحيح لأنه يجامع كما يجامع الفحل غير أنه لا ينزل . ومن جُبّ جميع ذكره لم يصح إيلاؤه على الأظهر لأنه لا يتحقق منه قصد الإيلاء لامتناع الأمر في نفسه . وكذا الأشل ومن بقي من ذكره بعد الجب ما دون قدر الحشفة . فإن آلى ثم جب فالأصح ثبوت الخيار لها فإن لم تفسخ بقي الإيلاء على الأظهر لأن العجز عارض وقد قصد الإضرار في الابتداء وإذا كانت المرأة رتقاء أو قرناء فالحكم كما في الجب ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون بحال .

الركن الثاني : المحلوف به وهو إما الله تعالى وصفاته أو غيره . فإن حلف بالله كان مولياً ، ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء . وهل يجب عليه كفارة اليمين؟ الجديد وقول أبي حنيفة أنه يجب عليه كفارة اليمين ، لأن الدلائل الدالة على وجوب الكفارة عند الحنث باليمين عامة ، وأي فرق بين أو يقول : والله لا أقربك « ثم يقربها وبين أن يقول : » والله لا أكلمك « ثم يكلمها . وإنما ترك ذكر الكفارة في الآية لأنها مبنية في سائر المواضع من القرآن وعلى لسان الرسول . وقوله تعالى { فإن الله غفور رحيم } يدل على عدم العقاب وأنه لا ينافي الكفارة كالتائب عن الزنا أو القتال لا عقاب عليه ، ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص . وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال : إن وطئتك فللَّه علي عتق رقبة أو صدقة أو حج أو صوم أو صلاة . فهل يكون مولياً؟ الجديد وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة من العلماء أنه يكون مولياً لأن العتق والطلاق المعلقين بالوطء يحصلان لو وطئ فيكون ما يلزمه الوطء مانعاً له من الوطء ، ويكون هو بتعليقه بالوطء مضراً بها فيثبت لها المطالبة كما في اليمين بالله تعالى حتى يضيق الأمر عليه بعد مضي أربعة أشهر ليفيء أو يطلق . ولا يخفى أنه لو كان المعلق به إلزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج . وفيه أقوال أصحها أن عليه كفارة اليمين ، والثاني عليه الوفاء بما سمى ، والثالث التخيير بين كفارة اليمين وبين الوفاء .
الركن الثالث : المحلوف عليه وهو الجماع وهذا من صرائح ألفاظه ، وكذا النيك والوطء والإصابة ومن كناياتها المباضعة والملامسة والمباشرة فلا تعمل إلا بالنية .
الركن الرابع : المدة . فعن ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف أن لا يطأها أبداً ، وعن الحسن وإسحاق أنه مول وإن حلف يوماً . وهذان المذهبان في غاية البعد . وعن أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أن لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد . وعن مالك وأحمد و الشافعي أنه لا يكون مولياً حتى تزيد المدة على أربعة أشهر . فعند الشافعي إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل لأربعة أشهر . وهذه المدة تكون حقاً للزوج فإذا مضت طالبت المرأة الزوج بالفيئة أو الطلاق ، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه . وعند أبي حنيفة إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه ، حجة الشافعي أن الفاء في قوله { فإن فاؤا } تقتضي كون ما بعدها من حكمي الفيئة والطلاق مشروعاً متراخياً عن انقضاء الأشهر الأربعة . وأيضاً قوله { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } صريح في أن وقوع الطلاق وإنما يكون بإيقاع الزوج ، وفي أن الزوج لا بد أن يصدر عنه شيء يكون مسموعاً وما ذاك إلا إيقاع الطلاق .

أجاب أبو حنيفة بأن قوله { فإن فاؤا } تفصيل للحكم المتقدم كما تقول : « أنا نزيلكم هذا الشهر . فإن حمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم وأتحول » وأيضاً الإيلاء طلاق في نفسه ، فالطلاق إشارة إليه . وأيضاً الغالب أن العازم للطلاق والضرار وترك الفيئة لا يخلو من مقاولة ودمدمة وحديث نفس ، فذلك الذي يسمعه الله كما يسمع وسوسة الشيطان . واستدل على صحة مذهبه في أن الفيئة لا بد أن تقع في الأشهر بقراءة عبد الله بن مسعود فإن { فاؤا فيهن } ورد بأنها شاذة فلا معول عليها والرجوع إلى الحق أولى الله حسبي .
التأويل : كما أن النساء محيضاً في الظاهر وهو سبب نقصان إيمانهن يمنعهن عن الصلاة والصيام فكذا للرجال محيض في الباطن وهو سبب نقصان إيمانهم يمنعهم عن حقيقة الصلاة وهي المناجاة ، وعن حقيقة الصوم وهي الإمساك عن مشتهيات النفوس . وكما أن المحيض هو غلبة الدم فكذلك الهوى هو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية ، فكلما غلب الهوى تكدر الصفا وحصل الأذى . وقد قيل : قطرة من الهوى تكدر بحراً من الصفا . ولذلك نودي من سرادقات الجلال : يا قلوب الرجال اعتزلوا نساء النفوس في محيض غلبات الهوى { حتى يطهرن } يفرغن من قضاء الحوائج الضرورية للإنسان من المأكول والمشروب والمنكوح { فإذا تطهرن } بماء التوبة والإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة { فأتوهن من حيث أمركم الله } يعني عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها { إن الله يحب التوابين } عن أوصاف الوجود { ويحب المتطهرين } بأخلاق المعبود بل يحب التوابين عن بقاء الوجود ويحب المتطهرين ببقاء الشهود { نساؤكم حرث لكم } الرجال البالغون الواصلون إلى عالم الحقيقة المتصرفون فيما سوى الله بتصرف الحقّ فهم رجال وما دون الله نساؤهم وهم الأنبياء والأولياء القائمون بالله الداعون إلى الله بإذنه . فكما أن الدنيا مزرعة الآخرة لقوم ، فالدنيا والآخرة مزرعتهم ومحرثهم يحرثون فيها أنى شاءوا وكيف شاءوا { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } [ التكوير : 29 ] فقد فنيت مشيئتهم في مشيئته تعالى وبقيت قدرة تصرفهم بتقويته { لا يؤاخذكم الله } القلب كالأرض للزراعة ، والجوارح كآلات الحراثة ، والأعمال والأقوال كالبذر . فالبذر ما لم يقع في الأرض المرتبة للزراعة لا ينبت وإن كان فيها آلة من آلات الحراثة . أما إن كان لما يجري على الظواهر من الخبر أدنى أثر في القلب ولو كان مثقال ذرة فإن الله تعالى من كمال فضله وكرمه لا يضيعه بل يضاعفه ، وإن كان ما يجري عليه في الظاهر شراً فإن لم يكن له أثر في القلب كان لغواً ولا يؤاخذه ، وإن كان له أثر في القلب فهو بصدد المؤاخذة وإن شاء الله غفره .

{ للذين يؤلون من نسائهم } من وقع له من أهل القصد وقفة أو فترة في أثناء السلوك من ملالة النفس أو نفرة الطبع فعلى الشيخ والأصحاب أن لا يفارقوه في الحقيقة ويعاونوه بالهمم العلية ويتربصوا أربعة أشهر للرجوع لأن هذه مدة تعلق الروح بالجنين كما جاء في الحديث « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك » إلى آخره { فإن فاءوا } الفيئة إلى صدق الطلب ورعاية حق الصحبة ونفخ فيه روح الإرادة مرة أخرى لاحظوه بعين القبول ، فإن هذا ربيع لا يرعاه إلا المهزولون ، وربع لا يسكنه إلا المعزولون ، بل شراب لا يذوقه إلا العارفون ، وغناء لا يطرب عليه إلا العاشقون { وإن عزموا الطلاق } لعزمه على طلاق منكوحة المواصلة { فإن الله سميع } لمقالتهم { عليم } بحالتهم وهو حسبي .

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

القراآت : { أن يخافا } بضم الياء : يزيد وحمزة ويعقوب الباقون بفتح الياء { نبينها } بالنون المفضل . الباقون بياء الغيبة { يفعل ذلك } مدغماً حيث كان : أبو الحرث عن علي { فقد ظلم } مظهراً : ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وعاصم غير الأعشى .
الوقوف : { قروء } ط { الآخر } ط { إصلاحاً } ط { بالمعروف } ص لعطف المتفقتين ولا تمام المقصود في تفضيل الرجال { درجة } ط { حكيم } 5 { مرتان } ص لعطف المتفقتين { بإحسان } ط { حدود الله } الأول ط { افتدت به } ط { تعتدوها } ج { الظالمون } 5 { غيره } ص لأن الطلاق للزوج الثاني على خطر الوجود لا منتظر معهود فكان خارجاً من مقتضى الجملة الأولى { أن يقيما حدود الله } ط { يعلمون } 5 { أو سرحوهن بمعروف } ص لطول الكلام { لتعتدوا } ج { نفسه } ط { هزوا } ص لطول ما بعده { يعظكم به } ط { بالمعروف } ط { الآخر } ط { وأطهر } ط { لا تعلمون } 5 .
التفسير : الحكم الحادي عشر : الطلاق . ويشتمل على أحكام أولها : وجوب العدة . واعلم أن المطلقة وهي التي أوقع الطلاق عليها إما أن تكون أجنبية ولا يقع الطلاق عليها في عرف الشرع بالإجماع وإما أن تكون منكوحة وحينئذ إما أن لا تكون مدخولاً بها ولا عدة عليه لقوله تعالى { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها } [ الأحزاب : 49 ] وإما أن تكون مدخولاً بها وحينئذ إن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل قال تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] وإن كانت حائلاً فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط أو الكبر المفرط فعدتها بالأشهر لا بالأقراء لقوله سبحانه { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } [ الطلاق : 4 ] وإن كان المحيض في حقها ممكناً فإن كانت رقيقة فعدتها قرآن ، وإن كانت حرة فعدتها ثلاثة أقراء لهذه الآية ، فظهر أن قوله { والمطلقات } لا يتناول إلا المنكوحة الحرة المدخول بها كالحائل من ذوات الحيض . لا يقال : العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي أكثر من حيث إنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب لا المغلوب . فيقال : الثوب أسود إذا كان الغالب عليه السواد لا البياض . وههنا الباقي قسم واحد من الأقسام الخمسة فكيف يحسن إطلاق لفظ العام عليه؟ لأنا نقول : أما الأجنبية فتخرج بعرف الشرع كما مر ، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم ، وكذا الحامل والآيسة لأن إيجاب الاعتداء بالأقراء إنما يكون حيث يحصل الأقراء ولا أقراء في حقهما . وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن اللفظ باقٍ على تناوله الأغلب . وإنما لم يقل وليتربصن المطلقات بل أخرج الأمر في صورة الخبر إشعاراً بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن فهو يخبر عن موجود .

وبناء الكلام على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد وتقوّ . ولو قيل : « وليتربصن المطلقات » لم يكن بتلك الوكادة وفي ذكر الأنفس دون أن يقال « يتربصن ثلاثة قروء » تهييج لهن على التربص لأن فيه ما يستنكفن منه ، فإن أنفس النساء طوامح إلى الرجال ، نوازع إليهم ، فأمرن أن يقبضن أنفسهن . والقروء جمع قرء بفتح القاف أو ضمها ، والراء ساكنة في الحالين . وفي الصحاح بفتح القاف فقط . ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض ، والمشهور أنه حقيقة فيهما . وقيل : حقيقة في الحيض مجاز في الطهر . وقيل بالعكس . وقيل : إنه موضوع لمعنى واحد مشترك بينهما إما لأن القرء هو الاجتماع ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي ، وإما لأنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة وهو قول أبي عبيد ، وإما لأن القرء هو الوقت . وقيل : « هذا قارئ الرياح » لوقت هبوبها . ولا يخفى أن لكل من الطهر والحيض وقتاً معيناً وهذا قول أبي عمرو بن العلاء . ثم إن الله تعالى أمر المطلقة بثلاثة أشياء تسمى أقراء ، لكن العلماء أجمعوا على أن الثلاثة يجب أن تكون من أحد الجنسين . ثم اختلفوا فذهب الشافعي إلى أنها الأطهار ، ويروى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة ومالك وربيعة وأحمد في رواية . وقال عمر وعلي وابن مسعود : هي الحيض . وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى . وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال إذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها . وعند أبي حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر ، أو من الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها . ثم قال : إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل ، وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء أو يمضي عليها وقت صلاة حجة الشافعي قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] أي في زمان عدتهن . وأجيب بأن معنى الآية مستقبلات لعدتهن كما تقول : « لثلاث بقين من الشهر » أي مستقبلاً لثلاث . وقيل : هذا يقوي استدلال الشافعي لأن قول القائل : « لثلاث بقين من الشهر » معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه . فمعنى الآية طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه . ولما كان الإذن حاصلاً بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة . وروي عن عائشة أنها قالت : هل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار .

ثم قال الشافعي : النساء بهذا أعلم . وأيضاً التركيب يدل على الجمع . وأكثر أحوال الرحم اجتماعاً واشتمالاً على الدم آخر الطهر ، إذ لو لم تمتلئ بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج . فمن أول الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، والآخر هو حال كمال الاجتماع فآخر الطهر هو القرء بالحقيقة . وأيضاً الاعتداد بالأطهار أقل زماناً من الاعتداد بالحيض ، فيلزم المصير إليه لأن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره حق الحبس والمنع . ولما كانت المدة أقل كان أقرب إلى هذا الأصل وأوفق له . وأيضاً الآية تدل على أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء خرجت عن العهدة فتكون متمكنة من الاعتداد بالأطهار التي مدتها أقل ، ومن الاعتداد بالحيض التي مدتها أكثر ، فيكون الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب . حجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم « دعي الصلاة أيام أقرائك » وقوله « طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان » ولأن الغرض الأصلي من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام ، ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة ، وفي تقليل مدة العدة تحليل بضعها للزوج الثاني . فالتكثير أحوط ولأن إطلاق طهر كامل على بعض الطهر خلاف الظاهر ، وإذا تعارضت الوجوه ضعفت الترجيحات ويكون حكم الله تعالى في كل أحد ما أدى اجتهاده إليه . وانتصاب { ثلاث قروء } على أنه مفعول به كقولهم « المحتكر يتربص الغلاء » أي يتربصن مضي ثلاثة قروء . أو على الظرفية أي مدة ثلاثة قروء . وإنما جاء المميز على جمع الكثرة دو القلة التي هي الأقراء للاتساع فإنهم يستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر ولهذا قال : { بأنفسهن } وما هي إلا نفوس كثيرة . وأيضاً فلعل القروء أكثر استعمالاً فنزلا القليل بمنزلة المهمل فيكون مثل قولهم « ثلاثة شسوع » . ثم إن أمر العدة لما كان مبنياً على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء وعلى وضع الحمل في حق الحامل وكان الوصول إلى معرفة ذلك متعذراً على الرجال ، جعلت المرأة أمينة في العدة ، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها ، وهو عند الشافعي اثنان وثلاثون يوماً وساعة . لأنها إذا طلقت طاهراً فحاضت بعد ساعة ثم حاضت يوماً وليلة - وهو أقل الحيض - ثم طهرت خمسة عشر يوماً - وهو أقل الطهر - ثم حاضت مرة أخرى يوماً وليلة ، ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت الدم ، فقد انقضت عدتها لحصول ثلاثة أطهار . فمتى ادعت هذا أو أكثر منه قبل قولها ، وكذلك إذا كانت حاملاً فادعت سقوط الولد كان القول قولها لأنها على أصل أمانتها ولهذا قال سبحانه : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } فأكثر المفسرين قالوا : إن الكتمان راجع إلى الحبل والحيض معاً .

وذلك أن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما . أما كتمان الحمل فإذا كتمت الحمل قصرت مدة عدتها فتتزوج بسرعة ، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول ، وربما أحبت التزوج بزوج آخر وأحبت أن تلصق ولدها بالزوج الثاني . وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء ، فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول ، وقد تحب تقصير عدتها لتبطل رجعته ، فإذا حاضت أولاً فكتمته ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة ، وهكذا إن كتمت الحيضة الثالثة . وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها . وقيل : المراد النهي عن كتمان الحبل فقط لأن المخلوق في الأرحام هو الحبل لا الحيض ، ولأن حمل المعنى على ما هو شريف أولى لقوله تعالى { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] وقيل : المراد النهي عن كتمان الحيض لأن الآية وردت عقيب ذكر الأقراء ولم يتقدم ذكر الحمل . وقيل : يجوز أن يراد اللائي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك ، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه . وفي قوله { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } تعظيم لفعلهن ، وإن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم . وفيه أن من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد . الحكم الثاني للطلاق الحكم الثاني للطلاق : الرجعة وذلك قوله { وبعولتهن أحق بردهن } والبعل الزوج والجمع البعولة . والتاء لتأكيد التأنيث في الجماعة كصقورة . وليس هذا في كل جمع وإنما هو مقصور على السماع . ويقال للمرأة أيضاً بعل وبعلة كما يقال زوج وزوجة والبعل : السيد المالك . يقال : مَنْ بعل هذه الناقة؟ أي مَنْ ربها وصاحبها؟ ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قوله « بعل حسن البعولة » وعلى هذا فالمضاف محذوف أي أهل بعولتهن أحق بردهن برجعتهن . قال تعالى في موضع : { ولئن رددت إلى ربي } [ الكهف : 36 ] وفي موضع آخر { ولئن رجعت } [ فصلت : 50 ] فكأنه يردها من التربص إلى خلافه ، ومن الحرمة إلى الحل في ذلك أي في مدة التربص ، لأنه إذا انقضى ذلك الوقت بطل حق الرد والرجعة . وإنما تكون البعولة أحق عند الله تعالى برجعتهن إن أرادوا إصلاحاً لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن لا الضرار وتطويل العدة كما في قوله { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } فلو راجعها لقصد المضارة استوجب من الله العقاب ، وإن صحت رجعته شرعاً لأنا نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر . فإن قيل : كيف جعلوه أحق بالرجعة كأن للنساء حقاً فيها؟ فالجواب أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها فهذا هو المعنى بالأحقية أو نقول : إنهن إن كتمن ما في أرحامهن لأجل أن يتزوّج بهن آخر ، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن ، وإن ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر ولهن من الحق على الرجال مثل الذي للرجال عليهن بالمعروف بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهن ولا يكلفونهن ما ليس لهم .

والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب في كونهما من الحسنة لا في جنس الفعل . فإذا غسلت ثيابه أو خبزت لا يجب عليه أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال . قال أبو هريرة : « قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي النساء خير؟ قال : » التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخونه في نفسها وماله بما يكره « وفي حديث حجة الوداع » ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن « وعن ابن عباس أنه قال : إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لقوله تعالى { ولهن مثل الذي عليهن } وقيل : معنى الآية ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة مثل ما عليهن من ترك الكتمان . { وللرجال عليهن درجة } زيادة في الحق وفضيلة وهي واحدة الدرجات الطبقات من المراتب . أصلها من درج الرجل . والضب يدرج دروجاً أي مشى ودرج أي مضى لسبيله . ودرج القوم إذا انقرضوا . وفي المثل » أكذب من دبَّ ودرج « أي أكذب الأحياء والأموات . وقد فضل الله الرجال على النساء في أمور : في العقل وفي الدية وفي الميراث وفي نصيبه من المغنم ، وفي صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة ، وفي أن له أن يتزوج عليها ويتسرى وليس لها ذلك ، وفي أن له أن يطلقها وإذا طلقها راجعها شاءت المرأة أم أبت ولا قدرة للمرأة على التطليق ولا على الرجعة فإذن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : » استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان « وفي خبر آخر » اتقوا الله الضعيفين اليتيم والمرأة « وذلك أن من كانت نعمة الله عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أقبح ، واستحقاقه للزجر أشد ، وقيل : بل الغرض من الآية أن فوائد الزوجية هي السكن والازدواج والألفة والمودة واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة ، وكل ذلك مشترك بين الجانبين ، بل يمكن أن يقال : نصيب المرأة منها أوفر . ثم إن الزوج اختص بأنواع من الكلفة وهي التزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها ، فيكون وجوب الخدمة على المرأة أشد رعاية لهذه الحقوق الزائدة فيكون هذا كقوله تعالى { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم }

[ النساء : 34 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم « لو أمرت أحداً بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها » { والله عزيز حكيم } غالب لا يمنع مصيب في أفعاله ، وأحكامه لا يتطرق إليها احتمال العبث والسفه والغلط والباطل .
الحكم الثالث للطلاق : هو الطلاق الذي يثبت فيه الرجعة . وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها ، ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له . فجاءت امرأة إلى عائشة فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك ، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { الطلاق مرتان } فعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها . والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثلاث . وهذا تفسير من جوز الجمع بين الطلقات الثلاث وهو مذهب الشافعي وهو أليق بنظم الكلام لأنه تعالى بيّن في الآية الأولى أن حق الرجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائماً أو إلى غاية معينة فكان ذلك كالمجمل أن العام فيفتقر إلى مبين أو مخصص ، فذكر عقيبه أن الطلاق المعهود السابق الذي يثبت فيه للزوج حق الرجعة هو أن يوجد طلقتان فقط ، فإذا وصلت التطليقة إلى هذه الغاية بطل حق الرجعة . والطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم . وقيل : إن هذا كلام مبتدأ والمعنى : أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله تعالى { ثم ارجع البصر كرتين } [ الملك : 4 ] أي كرة بعد كرة ، وقولهم « لبيك وسعديك » . وهذا التفسير قول من قال : الجمع بين الثلاث حرام . وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار أن هذا هو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم ، ويؤكده العدول عن لفظ الأمر وهو « طلقوا مرتين أو دفعتين » إلى لفظ الخبر كما مر في قوله { والمطلقات يتربصن } ثم من هؤلاء من قال : لو طلقها ثنتين أو ثلاثاً لا يقع إلا واحدة وهذا هو الأقيس ، واختاره كثير من علماء أهل البيت لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود ومنهم من قال : - وهو اختيار أبي حنيفة - إنه وإن كان محرماً إلا أنه يقع ويكون بدعة ، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه . وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد ، ومما يؤيد مذهب الشافعي حديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ، ومما يؤكد مذهب أبي حنيفة حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلقها لكل قرء تطليقة .

وأما قول { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } أي أمركم بعد الرجعة أو بعد معرفة كيفية التطليق أحد هذين . فالتسريح الإرسال والإطلاق والإمساك نقيضه . ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الإصلاح ومعنى التسريح بإحسان قيل : هو أن يوقع عليها الطلقة الثالثة . روي أنه لما نزل قوله تعالى { الطلاق مرتان } قيل له صلى الله عليه وسلم : فأين الثالثة؟ فقال : هو قوله { أو تسريح بإحسان } وقيل : هو أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة . ويروى عن الضحاك والسدي وهو أقرب لولا الخبر الذي رويناه لأن الفاء في قوله { فإن طلقها } تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح . فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله { فإن طلقها } طلقة رابعة وإنه غير جائز . وأيضاً لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأقسام ، لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو قوله { فإمساك بمعروف } أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي عدتها وتحصل البينونة وهو قوله { أو تسريح بإحسان } أو يطلقها وذلك قوله { فإن طلقها } فلو جعلنا التسريح طلاقاً لزم إهمال أحد الأقسام وتكرير بعضها . وأما الحكمة في إثبات حق الرجعة فهي أن النعم مجهولة إذا فقدت عرفت ، فلو كانت الطلقة الواحدة مانعة عن الرجعة فربما ظهرت المحبة بعد المفارقة وعظمت المشقة . ثم إن إكمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة فلهذا ثبت حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ليجرب الإنسان أحوال قلبه ، فإن كان الأصلح له إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف ، وإن كان الأصلح تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهو أن يؤدي حقوقها المالية ، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها ، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رأفته بعبده .
الحكم الرابع من أحكام الطلاق : بيان الخلع وذلك قوله { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } وسبب ارتباط هذا بما قبله أنه تعالى لما أمر بالتسريح مقروناً بإحسان بيَّن عقيبه أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئاً مما أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها ، لأنه ملك بضعها واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها إلا إذا فارقها على عوض ويدخل فيه النهي من أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء كما قال في سورة النساء { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } [ النساء : 19 ] والخطاب في قوله { ولا يحل لكم } للأزواج وفي قوله { فإن خفتم } للأئمة والحكام . ويجوز أن يكون الخطاب الأول أيضاً للأئمة لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون

« روي أن الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي . وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حبيبة بنت سهل الأنصارية ، كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه أشد البغض وكان يحبها أشد الحب . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : فرق بيني وبينه ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضاً إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً . فقال ثابت : مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها ، فقال لها : ما تقولين؟ قالت : نعم وأزيده . فقال صلى الله عليه وسلم : لا ، حديقته فقط . ثم قال لثابت : خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها » ففعل ، وكان ذلك أول خلع في الإسلام . ومعنى قوله { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية واختلفوا في مقدار ما يجوز به الخلع . فعن الشعبي والزهري والحسن وعطاء وطاوس أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي كرم الله وجهه لقوله تعالى { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } ثم قال : { فلا جناح عليهما } أي فلا جناح على الرجل فيما أخذ ، ولا عليها فيما أعطت . ومعنى { فيما افتدت به } فيما افتدت نفسها واختلعت به فوجب أن يكون هذا راجعاً إلى ما آتاها ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لا حديقته فقط . حين قالت جميلة : نعم وأزيده . ولأن ذلك إجحاف بجانب المرأة وضرار بالمرأة بعدما استبيح من بضعها ولهذا قال سعيد بن المسيب : لا يأخذ إلا دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له . وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا : الخلع عقد معاوضة فينبغي أن لا يتقدر بمقدار معين . فكما أن للمرأة عند النكاح أن لا ترضى إلا بالصداق الكثير ، فكذلك للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته ، ويتأكد هذا بما روي أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال : كيف وجدت مبيتك؟ قالت : ما بت منذ كنت عنده أقر ليعين منهن . فقال عمر لزوجها : اخلعها ولو بقرطها أي حتى قرطها . ولهذا قال قتادة يعني بمالها كله . وقيل : هو من قولهم « خذه ولو بقرطي مارية » وذلك فيهما درّتان قيمتهما أربعون ألف دينار . ويصح الخلع في حالتي الشقاق والوفاق عند أكثر المجتهدين لقوله تعالى { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن يحصل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت ، كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى .

وذهب الزهري والنخعي وداود إلى أنه لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله كما في الآية ، وإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد . والجمهور على أنه لا كراهة في الخلع إن جرى في حال الشقاق ، أو كانت تكره صحبته لسوء خلقه أو دينه كما في الآية ، أو وقع وتحرجت عن الإخلال ببعض حقوقه لما بها من الكراهة فافتدت ليطلقها ، أو ضربها الزوج تأديباً فافتدت ، أو منعها حقها من النفقة وغيرها فافتدت لتتخلص منه وإن كان الزوج يكره صحبتها فأساء العشرة ومنعها بعض حقها حتى ضجرت وافتدت ، فالخلع مكروه وإن كان نافذاً والزوج مأثوم بما فعل . فالخلع المباح هو أن تكون المرأة بحيث تخاف الفتنة على نفسها والزوج يخاف أناه إذا لم تطعه اعتدى عليها . ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن كما سبق في قوله { فمن خاف من موصٍ جنفاً } [ البقرة : 182 ] ومن قرأ { إلا أن يخافا } على البناء للمفعول جعل { ألا يقيما } بدلاً من ألف الضمير بدل الاشتمال مثل « خيف زيد تركه إقامة حدود الله » ثم الفرقة الحاصلة على العوض إن كان بلفظ الطلاق فهو طلاق ، وإن لم يجر إلا لفظ الخلع فللشافعي فيه قولان : الجديد أنه طلاق ينتقص به العدد وإذا خلعها ثلاث مرات لم ينكحها إلا بمحلل ، ويروى هذا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة ومالك واختاره المزني ووجه بأنها فرقة لا يملكها غير الزوج فيكون طلاقاً كما لو قال : أنت طالق على كذا . ولأنه لو كان فسخاً لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع . وإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يرد عليها المهر كالإقالة فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكراه . والقديم أنه فسخ لا ينتقص به العدد ويجوز تحديد النكاح بعد الخلع من غير حصر . ويروى هذا عن ابن عمر وابن عباس قالوا : لأنه لو كان طلاقاً وقد قال عقيب ذلك { فإن طلقها فلا تحل له من بعد } لكان الطلاق أربعاً ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت في مخالعته امرأته ولم يستكشف عن الحال مع أن الطلاق في زمان الحيض وفي الطهر الذي حصل الجماع فيه حرام ، ولما روى عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ولو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد { تلك } أي المذكورات من أحكام الطلاق { حدود الله فلا تعتدوها } فلا تتجاوزوا عنها { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } والظالم اسم ذم وتحقير . فوقوع هذا الاسم عليه يكون جارياً مجرى الوعيد .

وكيف لا والظالم ملعون { ألا لعنة الله على الظالمين } ثم إنه ظلم من الإنسان على نفسه حيث أقدم على المعصية ، وظلم على الغير أيضاً بتقدير أن لا تتم المرأة عدته أو كتمت شيئاً مما خلق في رحمها ، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان ، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئاً لا بسبب نشوز من جهة المرأة .
الحكم الخامس من أحكام الطلاق : بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة وذلك قوله { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } والسبب في إيقاع آية الخلع بين آية الرجعة وبين هذه بعد ما مر من مناسبتها للتسريح بإحسان ، هو أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة ، ومعنى الآية فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين فلا تحل له من بعد ذلك التطليق حتى تنكح أي تتزوج غيره . والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج فيقال : فلانة ناكح في بني فلان أي لها زوج منهم . هذا عند من يفسر قوله { الطلاق مرتان } بالطلاق الرجعي . وأما عند من يفسره بأن التطليق الشرعي هو الذي يوقع على التفريق . فالمعنى عنده أنه إن طلقها الطلاق الموصوف بالتكرار في قوله { الطلاق مرتان } واستوفى نصابه { فلا تحل له من بعد } ذلك { حتى تنكح زوجاً غيره } . ومذهب جمهور المجتهدين أن النكاح ههنا بمعنى الوطء ، لأن قوله { زوجاً } يدل على العقد . وقد نقلنا هذا عن أبي علي فيما سلف في تفسير قوله { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] ويؤيد هذا « ما روي عن عائشة أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني . وإن ما معه مثل هدبة الثوب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » . كنى بالعسيلة عن لذة الجماع وإنما أنث لأن من العرب من يؤنث العسل . ويروى أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت فقالت : إنه قد كان مسني فقال لها : كذبت في قولك الأول فلن أصدقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت : أرجع إلى زوجي الأول فقال : قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال فلا ترجعي إليه . فلما قبض أبو بكر قالت مثله لعمر فقال : إن أتيتني بعد مرتك هذه لأرجمنك فمنعها . وأيضاً المقصود من توقيت حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يستفرش زوجته رجل آخر ولهذا قال بعض أهل العلم : إنما حرم الله على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن زوجاً غيره لما فيه من الغضاضة .

ومعلوم أن هذا الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول ، فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصلح جعله مانعاً وزاجراً . ثم قال الشافعي : إذا طلق زوجته واحدة أو ثنتين ثم نكحت زوجاً آخر وأبانها ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة وهي التي بقيت من الطلقات ، لأن هذه طلقة ثالثة من حيث إنها وجدت بعد طلقتين ، والطلقة الثالثة توجب الحرمة الغليظة ، وقال أبو حنيفة : بل يملك عليها ثلاثاً كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث وإذا تزوج الغير بالمطلقة ثلاثاً على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما فهذا متعة بأجل مجهول وهو باطل . ولو تزوجها بشرط أن يطلقها إذا أحلها للأول فقولان : أحدهما لا يصح ، والثاني يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة . ولو تزوجها مطلقاً مضمراً أنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به . وقال مالك وأحمد والثوري : هذا النكاح باطل . وحيث حكمنا بفساد النكاح فالوطء لا يقع به التحليل على الأصح . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « لعن المحلل والمحلل له » وعن عمر : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما . { فإن طلقها } أي الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة { فلا جناح عليهما } على المرأة المطلقة والزوج الأول في { أن يتراجعا } بنكاح جديد إلى ما كانا عليه من النكاح فهذا تراجع لغوي وظاهر الآية يقتضي أن يحل للزوج الأول هذا التراجع عقيب ما يطلقها الزوج الثاني من غير عدة بدلالة فاء التعقيب في قوله { فلا جناح عليهما } ولهذا ذهب سعيد بن المسيب إلى أن النكاح ههنا بمعنى العقد ، وأن التحليل يحصل بمجرد العقد لأن الوطء لو كان معتبراً لكانت العدة واجبة . والجواب أن الآية مخصوصة بقوله تعالى { والمطلقات يتربصن } { إن ظنا أن يقيما حدود الله } إن كان في ظنهما وفي عزيمتهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ، ولم يقل إن علما ، ولا يجوز أن يفسر الظن ههنا بالعلم لأن اليقين في الاستقبال مغيب عن الإنسان ، فإن لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالرجوع مذموم إلا أنه يصح شرعاً . من قرأ { نبينها } بالنون فمن طريقة الالتفات والنون للتعظيم ، ومن قرأ بالياء فظاهر وصيغة المضارع أريد بها ههنا الحال فلا إشكال . وجوز بعضهم أن يكون المراد بها الاستقبال ، وذلك أن النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يدخل فيها التخصيص وذلك يعرف بالسنة . فكان المراد - والله أعلم - إن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله ، وسيبينها الله على لسان نبيه كمال البيان فهو كقوله تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس }

[ النحل : 44 ] وإنما خص البيان بالعلماء لأنهم هم المنتفعون بذلك . ثم إنه تعالى لما بين الأحكام المهمة للطلاق استأنف لحكمي الإمساك والتسريح ببيانين آخرين في آيتين متعاقبتين ، لأن جملة الأمر في الطلاق يؤل إلى أحد هذين : الأول قوله سبحانه { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها . والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها . يقال لعمر الإنسان أجل ، وللموت الذي ينتهي به أجل ، ويتسع في البلوغ أيضاً يقال : بلغ البلد إذا شارفه وداناه ، ويقول الرجل لصاحبه : إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوى يريد به مشارفة البلوغ . فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر ، ولأنه قد علم أن الإمساك بعد تقضي الأجل لا وجه له لأنها بعد تقضيه غير زوجة له وفي غير عدة منه فلا سبيل له عليها { فأمسكوهن بمعروف } راجعوها من غير توخي ضرار بالمراجعة { أو سرحوهن بمعروف } خلوها حتى تنقضي عدتها ونبين . ولما أمر بعد الطلاق بأحد الأمرين ، استأنف حكم كل منهما فقدم حكم الإمساك على طريقة النهي لا الأمر ، لأن المأمور يمتثل بمرة واحدة فلعله يمسكها بمعروف في الحال لكن في قلبه أن يضارها في الاستقبال ، والمنهي لا يمتثل إلا إذا انتهى في كل الأوقات فيكون أدل على الدوام والثبات فقال : { ولا تمسكوهن ضراراً } مضارة وتشمل موجبات النفرة والعداوة كلها ، وروي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها ، وهكذا يفعل بها في العدة تسعة أشهر أو أكثر . وقيل : الضرار سوء العشرة . وقيل : تضييق النفقة وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأفعال رجاء أن تختلع المرأة منه بماله . ومعنى قوله { لتعتدوا } أي لا تضاروهن ليكون عاقبة أمركم الاعتداء كقوله { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً } [ القصص : 8 ] أو لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن فتكونون متعمدين لتلك المعصية . وقيل : لتلجؤهن إلى الافتداء { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } بتعريضها لعقاب الله ، أو بتفويته عليها منافع الدنيا والدين . أما الدنيا فلأنه إذا اشتهر بتلك المعاملة لم يرغب في التزويج منه ولا في معاملته أحد ، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل وعلى الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } فمن أقربائه يجب طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصلت إليه هذه التكاليف المذكورة في أبواب العدة والرجعة والخلع وترك المضارة ولم يتشمر لأدائها كان كالمستهزئ بها . أو المراد لا تتهاونوا بتكاليف الله كما يتهاون بما يكون من باب الهزء والعبث . وعن أبي الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ويعتق ويتزوج ويقول : كنت لاعباً . فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والرجعة » وروي « الطلاق والعناق والنكاح »

وعن عطاء : المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصراً عليه أو على مثله كان كالمستهزئ بآيات الله .
ثم إنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد رغبهم أيضاً في أدائها بأن ذكرهم أقسام نعمه عليهم . فبدأ أولاً بذكرها على الإجمال فقال : { واذكروا نعمة الله عليكم } وهذا يتناول كل نعمة لله على العبد في الدنيا والدين وقيل : المراد بها الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم خصص نعم الدين بالذكر لشرفها فقال : { وما أنزل عليكم } عطفاً على النعمة { من الكتاب والحكمة } من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها { يعظكم به } في محل النصب حالاً مما أنزل أو من فاعل « أنزل » . ويحتمل أن يكون { ما أنزل } الصلة والموصول مبتدأ ، وقوله { يعظكم به } خبراً { واتقوا الله } في أوامره ونواهيه { واعلموا أن الله بكل شيءٍ عليم } فيه وعد ووعيد وترغيب وترهيب الثاني : وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة قوله عز من قائل { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } بلوغ الأجل ههنا على الحقيقة . عن الشافعي : دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين { فلا تعضلوهن } لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن . وأصل العضل الضيق ومنه عضلت الدجاجة ، إذا نشب بيضها فلم يخرج ، وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت بهم لكثرتهم ، وأعضل الدواء الأطباء إذا أعياهم ، والعضلة اللحمة المتجمعة المكتنزة في عصبة . والخطاب للأزواج الذين يمنعون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً وقسراً ولحمية الجاهلية من أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن إذا تراضوا - اي الرجال والنساء - تراضياً واقعاً بينهم بالمعروف بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط كالعقد الحلال والمهر الجائز والشهود والعدول . وقيل : بمهر المثل وفرعوا عليه مسألة فقهية توافق مذهب أبي حنيفة وهي : أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فالنكاح صحيح لكن للولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر دفعاً للشين عن الأولياء ولأن نساء العشيرة يتضررن بذلك فقد يعتبر مهورهن بمهرها . وزعم كثير من المفسرين أن الخطاب في قوله { فلا تعضلوهن } للأولياء لما روى البخاري في صحيحه أن معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس . فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقاً له رجعة ، ثم تركها حتى انقضت عدتها . فلما خطبت إلي أتاني يخطبها مع الخطاب فقلت له : خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها وزوجتك ثم طلقتها طلاقاً لك رجعة ، ثم تركتها حتى انقضت عدتها ، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب ، والله لا أنكحتهكها أبداً . قال : ففيَّ نزلت هذه الآية فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه . وعن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد العدة فأبى جابر فنزلت .

وأجيب بأن رعاية نظم كلام الله أولى من محافظة خبر الواحد ، ولا يخفى تفكك النظم لو قيل : « وإذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء » لأنه لا يبقى بين الشرط والجزاء مناسبة ، قالوا : ليس بعد انقضاء العدة قدرة للزوج على عضل المرأة . والجواب أنه قد يقدر على الظلم وقد يجعد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة ، أو يدس إلى من يخطبها بالوعيد والتهديد ، أو ينسبها إلى أمور تنفر الناس عنها . قالوا : { أن ينكحن أزواجهن } يدل على أن الأولياء كانوا يمنعونهن من العود إلى أولئك الذين كانوا أزواجاً لهن . والجواب أن العرب قد تسمي الشيء بما يؤل إليه . فالمراد من يردن أن يتزوّجنهم فيكونوا أزواجاً لهن . وقيل : الوجه أن يكون خطاباً للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل ، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين . ثم إن الشافعي تمسك بالآية في أن النكاح لا يجوز إلا بولي ، لأنه لو جاز للمرأة أن تزوج نفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادراً على عضلها من النكاح ، وهذا مبني على أن الخطاب في { لا تعضلوهن } للأولياء وفيه ما فيه . ولو سلم فلم يجوز أن يكون الاستبداد الشرعي حاصلاً لهن ، ولكن يمنعها الولي من بعض الجهات التي قلنا في الزوج . وأيضاً فثبوت العضل في حق الولي ممتنع لأنه مهما عضل انعزل ، وإذا انعزل لا يبقى لعضله أثر . وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى { أن ينكحن أزواجهن } على أن النكاح بغير ولي جائز ، وذلك أنه تعالى اضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله والتصرف إلى مباشره ، ونهى الولي عن منعها من ذلك . ولو كان ذلك التصرف فاسداً لما نهى الولي عن منعها منه ، ويتأكد هذا النص بقوله { حتى تنكح زوجاً غيره } وأجيب بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر فقد يضاف أيضاً إلى المتسبب مثل « بنى الأمير داراً » وإنما ذهبنا إلى هذا وإن كان مجازاً لدلالة الحديث على بطلان هذا النكاح هذا . وأما قوله { ذلك يوعظ به } فالخطاب فيه إما للرسول أو لكل أحد على الانفراد كما أن الخطاب في قوله في سورة الطلاق { ذلكم يوعظ به من كان } [ الطلاق : 2 ] للمكلفين مجموعين . وقوله { من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } تخصيص لهم بالوعظ لأنهم هم المنتفعون بذلك . ومن استدل بهذا على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة يكذبه التكاليف العامة كقوله { ولله على الناس حج البيت } وأيضاً لا يلزم من تخصيص العظة بالمؤمنين تخصيص التكليف بهم { ذلكم أزكى لكم } أي أنمى وهو إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم ، وأطهر أي من أدناس الآثام { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } لأن علمه تعالى فعلي كامل وعلمنا انفعالي ناقص .

فقد تخفى المصلحة والعاقبة علينا ، أو تشتبه المصلحة بالمفسدة فلا صلاح للمكلف إلا في طاعة علام الغيوب ليحوز سعادة الدارين والله ولي التوفيق .
التأويل : إنه سبحانه من كمال الكرم والاصطناع إذا صدر من العبد أمارات النشوز والانقطاع أمهله إلى انقضاء عدة الجفاء ، فلعله يعود إلى إقامة شرائط الوفاء ، وتتحرك داعية في صميم قلبه من نتائج محبة ربه ، إذ لم يكن له أن يكتم ما خلق الله في رحم قلبه من المحبة . وإن ابتلاه الله بمحنة الفرقة فيقرع بأصبع الندامة باب التوبة ، ويقوم على قدم الغرامة في طلب الرجعة والأوبة فيقال له من غاية الفضل والنوال : يا قارع الباب دع نفسك وتعال ، من طلب منا فلاحاً فليلزم عتبتنا مساء وصباحاً . { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ولهن مثل الذي عليهن } أي للعباد حق في ذمة الربوبية كما أن الله تعالى حقاً في ذمة عباده ، فإذا تقرب العبد إليه شبراً فالله أحق برعاية الحق فيقرب إليه ذراعاً . والفضل له على الإطلاق لا بدرجة بل بدرجات غير متناهية { والله عزيز } أعز من أن يراعي العباد مع عجزهم كمال حقوقه { حكيم } لا تقتضي حكمته أن يطالبهم بما ليس في وسعهم بل يقبل منهم القليل ويوفيهم الثواب الجزيل { الطلاق مرتان } يعني أن أهل الصحبة لا يفارقون بجريمة ولا جريمتين كما في قصة موسى والخضر . ثم في الثالثة إن سلكوا سبيل الهجران فلا يحل للإخوان أن يواصلوا الخوان حتى يصاحب الخائن صديقاً مثله ، فإن ندم بعد ذلك عن أفعاله وسام ذلك الصديق وأمثاله ورجع إلى صحبة أشكاله { فلا جناح } في التراجع { إن ظنا } فيه خيراً ولا يجوز لأحد من الإخوان أن يعضله من صحبة الأقران . وفيه أن الله تعالى يتجاوز عن زلات العبد مرة بعد أخرى ، فإذا أصر العبد ابتلاه بالخذلان وجعله قرين الشيطان كما قال : { ومن يعش عن ذكر الرحمن } [ الزخرف : 36 ] فإن طلق قرين الشيطان ورجع إلى باب الرحمن تداركه بالغفران والرضوان . وأما قوله { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } فإشارة إلى أنه ليس لأهل الصحبة - وإن اتفقت المفارقة - أن يستردوا خواطرهم عن الرفقاء بالكلية ، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه إلا أن يؤدي إلى مداهنة وإهمال حق من حقوق الدين { فلا جناح عليهما فيها افتدت به } كأن لم يكن بينهما صحبة { فإن الله سميع } بمقالتهم { عليم } بحالهم والله ولي التوفيق .

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

القراآت : { لا تضار } بضم الراء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة . الباقون بفتح الراء ولا خلاف في قوله { ولا يضار كاتبٌ ولا شهيد } [ البقرة : 282 ] بالفتح { ما أتيتم } مقصوراً : ابن كثير . الباقون بالمد { يتوفون } بفتح الياء وما بعده : المفضل . الباقون بضم الياء { النساء أو } بهمزتين : عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر . الباقون { النساء } وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة { النساء أو } . { تماسوهن } حيث وقعت : علي وحمزة وخلف . الباقون { تمسوهن } { قدره } بالتحريك : يزيد وابن ذكوان وروح وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون بالإسكان .
الوقوف : { الرضاعة } ط { بالمعروف } ط { وسعها } ج لاستئناف اللفظ مع قرب المعنى { مثل ذلك } ج { عليهما } ط لابتداء الحكم في استرضاع الأجنبية { بالمعروف } ط { بصير } ه { وعشراً } ج { بالمعروف } ط { خبير } ه { أنفسكم } ط { معروفاً } ط { أجله } ط لابتداء الأمر { فاحذروه } ج للفصل بين موجبي الخوف والرجاء ولهذا كررت كلمة « واعلموا » تقديره غفور حليم فارجوه والوقف أليق { حليم } ه { فريضة } ج لعطف المختلفتين { ومتعوهن } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ، لأن الجملة الثانية لتقدير المأمور في الأولى { قدره } الثاني ج لأن « متاعاً » مصدر « متعوهن » والوقف لبيان أنه غير متصل بما يليه من الجملتين العارضتين { بالمعروف } ج لأن « حقاً » يصلح نعتاً للمتاع أي متاعاً حقاً ، ويصلح مصدر المحذوف أي حق ذلك حقاً . { المحسنين } ط { النكاح } ط { للتقوى } ط { بينكم } ه { بصير } ه .
التفسير : الحكم الثاني عشر : الإرضاع والوالدات . قيل : هن المطلقات والمزوجات لأن ظاهر اللفظ مشعر بالعموم . وقيل : المطلقات ولهذا ذكرت عقيب آية الطلاق . وتحقيقه أنه إذا حصلت الفرقة استتبعت التباغض والتعاند المتضمن لإيذاء الولد ليتأذى الزوج ، وربما رغبت في التزوج بزوج آخر فيهمل أمر الطفل ، فندب الله تعالى الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم . وأيضاً إنه تعالى قال في الآية : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولو كانت الزوجية باقية لوجب ذلك للزوجية لا للرضاع ذكره السدي . وقال الواحدي في البسيط : الأولى أن يحمل على المزوجات في حال بقاء النكاح ، لأن المطلقة لا تستحق النفقة وإنما تستحق الأجرة ، ثم إن النفقة والكسوة تجبان في مقابلة التمكين ، فإذا اشتغلت بالإرضاع والحضانة لم تتفرغ لخدمة الزوج ، فلعل متوهماً يتوهم أن مؤنتها قد سقطت بالخلل الواقع في الخدمة فأزيل ذلك الوهم بإيجاب الرزق والكسوة وإن اشتغلت بالإرضاع ويرضعن مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد ، وهذا الأمر على سبيل الندب بدليل قوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } [ الطلاق : 6 ] ولو وجب عليها الإرضاع لم تستحق الأجرة . وإنما كان ندباً من حيث إن تربية الطفل بلبن الأم أصلح ، ولأن شفقتها أكثر ، ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح ، وعند الشافعي يجوز ، فإذا انقضت عدتها جاز بالاتفاق .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32