كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

وأيضاً العين سبب الحراسة فأطلق السبب وأريد المسبب ، ويقال : عين الله عليك إذا دعي له بالحفظ والحياطة ، فالجار والمجرور في موضع الحال من ضميرالمبني للمفعول في { لتصنع } وجوز في الكشاف أن يكون { إذ تمشي } ظرفاً { لتصنع } وليس بذلك وإنما هو ظرف ب { ألقيت } أو بدل من { إذ أوحينا } على الوقتين من زمان واحد واسع يقول الرجل : لقيت فلاناً سنة كذا ، ثم تقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها .
يروى أنه لما فشا الخبر أن آل فرعون أخذو غلاماً في اليم وأنه لا يرتضع من ثدي امرأة كما قال سبحانه { وحرمنا عليه المراضع } [ القصص : 12 ] جاءت أخت موسى عليه السلام واسمها مريم متنكرة فقالت { هل أدلكم على من يكفله } فجاءت بالأم فقبل ثديها وذلك قوله { فرجعناك إلى أمك } وقال في القصص { فرددناه إلى أمه } [ القصص : 13 ] تصديقاً لقوله { إنا رادوه إليك } [ القصص : 7 ] { كي تقر عينها } بلقائك { ولا تحزن } بسبب وصول لبن غيرها إلى معدتك { وقتلت } وأنت ابن اثنتي عشرة سنة { نفساً } هو القبطي الذي يجيء ذكره في القصص { فنجيناك من الغم } وهو اقتصاص فرعون منك . وقيل : الغم هو القتل بلغة قريش ، أو أراد بالغم خوف عقاب الله وذلك قوله { فاغفر لي فغفر له } [ القصص : 16 ] { وفتناك فتوناً } مصدر على « فعول » في المتعدي كالشكور والكفور ، أو جمع فتن كالظنون للظن ، أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كبدور في بدرة ، وحجوز في حجزة ، والقتنة المحنة والابتلاء بخير أو شر قال تعالى { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] وفيها معنى التخليص من قولهم « فتنت الذهب » إذا أردت تخليصه . عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن الفتون فقال : أي خلصناك من محنة بعد محنة . ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر ، وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطياً ، وأجر نفسه عشر سنين ، وضل الطريق ، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة ، وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير . قال العلماء : لا يجوز إطلاق اسم الفتان على الله تعالى وإن جاء { وفتناك } لأنه صفة ذم في العرف وستجيء قصة لبثة في أهل مدين وأنه على ثمان مراحل من مصر في سورة القصص إن شاء العزيز . قوله { على قدر } أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك فيه ، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة ، أو على موعد قد عرفته بأخبار شعيب أو غيره . والصنع بالضم مصدر صنع إليه معروفاً قبيحاً أي فعل ، والاصطناع « افتعال » منه واستعماله في الخير أكثر ، واصطنع فلان فلاناً إذا اتخذه صنيعة ، واصطنعت فلاناً لنفسي إذا اصطنعته وخرجته ومعناه أحسنت إليه حتى إنه يضاف إليّ .

وقوله { لنفسي } أي لأصرفن جوامع همتك في أوامري حتى لا تشتغل بغير ما أمرتك به من تبليغ الرسالة وإقامة الحجة . وقال جار الله : مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك أهلاً للتقريب والتكريم لخصائص فيه فيصطنعه بالكرامة ويستخلصه لنفسه فلا يبصر إلا بعينه ولا يسمع إلا بأذنه ولا يأتمن على مكنون سره سواه . وقال غيره من المعتزلة : إنه سبحانه إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم ، ومن حمله الألطاف ما لا يعلم إلا سمعاً ، فلو لم يصطنعه للرسالة لبقي في عهدة الواجب فهذا أمر فعله الله لأجل نفسه حتى يخرج عن عهدة ما يجب عليه .
ولما عد عليه المنن السابقة بإزاء الأدعية المذكورة رتب على ذكر ذلك أمراً ونهياً . أما الأمر فقوله { اذهب أنت وأخوك } وفيه بيان ما لأجله اصطنعه وهو الإبلاغ وأداء الرسالة . { بآياتي } أي مع آياتي لأنهما لو ذهبا بدونها لم يلزمه الإيمان وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد . وما هذه الآيات غير العصا واليد لأنه لم يجر إلا ذكرهما فأطلق الجمع على الاثنين ، أو لأن كلاً منهما مشتملة على آيات أخر ، أو لأنه يستدل بكل منهما على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل وعلى نبوة موسى وعلى جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً والمظلم مستنيراً ومثله قوله { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } [ آل عمران : 97 ] وقيل : هما مع حل العقدة . وقيل : أراد اذهبا إني أمدكما بآياتي وأظهرها على أيديكما متى وقع الاحتياج إليها . وأما النهي فقوله { ولا تنيا } بكسر النون مثل تعدا وقرىء { تنيا } بكسر حرف المضارعة أيضاً للإتباع . والونى بفتحتين الضعف والفتور والكلال والإعياء ، والمعنى لا تنسياني بل اتخذا ذكري وسيلة في تحصيل المقاصد واعتقدا أن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري فإن المداومة على ذكر الله توجب عدم الخوف من غيره . وأن يستحقر في نظره ما سواه لقوة نفسه واستنارة باطنه . وقيل : أراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات فضلاً عن أعظمها فائدة وأتمها عائدة . وقيل اذكرني عند فرعون وقومه بأني لا أرضى بالكفر وأعاقب عليه وأثيب على الإيمان وأرتضيه ، وبالجملة كل ما يتعلق بالترهيب والترغيب . ما الفائدة في تكرير قوله { اذهبا إلى فرعون } ؟ والجواب بعد التقرير والتأكيد أمرهما أن يشتغلا بأداء الرسالة معاً لا أن ينفرد به موسى ، أو الأول أمر بالذهاب إلى كل بني إسرائيل والقبط ، والثاني مخصوص بفرعون الطاغي . ثم إنه خوطب كلاهما وموسى حاضر فقط لأنه أصل ، أو هو كقوله { وإذ قتلتم نفساً } [ البقرة : 72 ] والقاتل واحد منهم . ويحتمل أن هارون قد حضر وقتئذ فقد روى أن الله عز وجلّ أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى .

وقيل : ألهم بذلك . وقيل : سمع بخبره فتلقاه .
سؤال : لم أمرا بتليين القول للعدوّ المعاند؟ جوابه لأن من عادة الجبابرة إذا أغلظ لهم في الكلام أن يزدادوا عتواً وعلواً . وقيل : لما له من حق تربية موسى شبه حق الأبوة . وكيف ذلك القول اللين؟ الأصح انه نحو قوله تعالى { هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى } [ النازعات : 18 ، 19 ] لأن ظاهره الاستفهام والمشورة وعرض ما فيه صلاح الدارين . وقيل : أراد عداه شباباً لا يهرم بعده ، وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت ، وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته . حكى عمرو بن دينار قال : بلغني أن فرعون عمر أربعمائة وتسعاً وستين سنة . فقال له موسى : إن أطعتني فلك مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة . وقيل : أراد كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة . ويحتمل أن يكون أمر بالقول اللين لأنه كان في موسى حدة وخشونة . بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً فعالج حدته باللين ليكون حليماً في أداء الرسالة . ومعني الترجي في { لعله } يعود إلى موسى وأخيه أي اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر سعيه فعساه يتذكر بأن يرجع من الإنكار إلى الحق رجوعاً كلياً إذا تأمل فأنصف { أو يخشى } فيقل : إنكاره وإصراره . قالت المعتزلة : جدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن قطع المعذّرة وإلزامه الحجة . وقالت الأشاعرة : العقول قاصرة عن معرفة سر القدر ولا سبيل إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان . قالوا : إنه كمن يدفع سكيناً إلى من علم قطعاً أنه يمزق بطن نفسه ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان . ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه مكتوب في التوراة { فقولا له قولاً ليناً } وسأقسي قلبه فلا يؤمن « { قالا ربنا } فيه دليل على أن هارون أيضاً كان حاضراً وقتئذ كما روينا . وسئل أن انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قالا { إننا نخاف } فإن حصول الخوف ينافي شرح الصدر؟ وأجيب بأن المراد من شرح الصدر ضبط الأوامر والنواهي وحفظ الشرائع والأحكام بحيث بحيث لا يتطرق إليها خلل وتحريف ، وهذا شيء آخر مغاير لزوال الخوف . قلت : لعلهما خافا أن لا يتمكنا من أداء الرسالة بدليل قوله { أن يفرط علينا } أي يسبق رسالتنا ويبادرنا بالعقوبة { وأن يطغى } أي يجاوز الحد بأن يقول فيك ما لا ينبغي أو يجاوز حد الاعتدال في معاقبتنا إن لم يعاجل بنا فلا نتمكن من إقامة وظائف الأداء . وأيضاً الدليل النقلي السمعي إذا انضاف إلى الدليل العقلي زاده إيقاناً وطمأنينة ولهذا { قال لا تخافا إنني معكما } أي بالنصرة والتأييد { أسمع وأرى } ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل بكما ما يوجب عنايتي وحراستي ، فلا يذهب وهمكما إلى أن مواد كرامتي انقطعت عنكما إذا فارقتما مقام المكالمة فصار هذا الوهم سبب خوفكما .

ويجوز أن يكون الفعلان متروكي المفعول كأنه قيل : أنا سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وكملت النصرة . قال بعض الأصوليين : في الآية دلالة على أن الأمر لا يقتضي الفور وإلا كان تعللهما بالخوف معصية وإنها غير جائزة على الرسل في الأصح . وقال بعض المتكلمين : فيها دليل على أن السمع والبصر صفتان زائدتان عن العلم والإلزام التكرار فإن معيته هي بالعلم ولقائل أن يقول : الخاص يغاير العام ولكن لا يباينه .
ثم كرر الأمر قائلاً : { فأتياه فقولا } فسئل إنهما أمرا بأن يقولا له قولاً ليناً فكيف غلظاه أوّلاً بقوله { إنا رسولا ربك } ففيه إيجاب انقياده لهما وإكراهه على طاعتهما وهذا مما يعظم على الجبار . وثانياً بقوله { فأرسل معنا بني إسرائيل } وفيه إدخل النقص في ملكه لأنه كان يستخدمهم في الأعمال الشاقة . وثالثاً بقوله { ولا تعذبهم } وفيه منعه عما يريده بهم؟ وأجيب بأن هذا القدر من التغليظ ضروري في أداء الرسالة . قيل : أليس الأولى أن يقولا { إنا رسولا ربك } { قد جئناك بآية من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل } فيكون ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة . والجواب أن قوله { فأرسل } من تتمة الدعوى ، وإنما وحد قوله { بآية } ومعه آيتان بل آيات لقوله { اذهب أنت وأخوك بآياتي } لأنه أراد الجنس كأنه قيل : قد جئناك ببيان من عند الله وبرهان . قال في الكشاف : قلت : وفيه أيضاً نوع من الأدب كما لو قلت : أنا رجل قد حصلت شيئاً من العلم ولعل عندك علوماً جمة على أن تخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد عليه . وأيضاً الأصل في معجزات موسى كان هي العصا ولهذا وقعت في معرض المعارضة كما أن الأصل في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم كان هو القرآن فوقع لذلك في حيز التحدي { والسلام } أي جنس السلامة أو سلام خزنة الجنة { على من اتبع الهدى } يحتمل أن يكون هذا أيضاً مما أمر بأن يقولاه لفرعون ، ويحتمل أن تكون الرسالة قد تمت عند قوله { بآية من ربك } ويكون هذا وعداً بالسلامة من عقوبات الدارين لمن آمن وصدق . قالت الأشاعرة : في قوله { أن العذاب } أي جنسه أو كل فرد منه { على من كذب وتولى } دليل على أنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين ترك العمل به في بعض الأوقات ، فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام على أن العقاب المتناهي لا نسبة له إلى النعيم المقيم الذي لا نهاية له فكأنه لم يعاقب أصلاً .

وأيضاً العارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون من أهل السلامة { قال فمن ربكما يا موسى } خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى لأنه الأصل في ادعاء الرسالة وهارون وزيره ، ويجوز أنه خص موسى عليه السلام بالنداء لما عرف من فصاحة هارون والرتة التي كانت في لسان موسى . فأراد أن يعجز عن الجواب . قال أهل الأدب : إن فرعون كان شديد البطش جباراً ومع ذلك لم يبدأ بالسفاهة والشغب بل شرع في المناظرة وطلب الحجة ، فدل على أن الشغب من غير حجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟! وفي اشتغال موسى بإقامة الدلالة على المطلوب دليل على فساد التقليد وفساد قول القائل بأن معرفة الله تستفاد من قول الرسول ، وفيه جواز حكاية كلام المبطل مقروناً بالجواب لئلا يبقى الشك . وفيه أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها . واعلم أن العلماء اختلفوا في كفر فرعون فقيل : كان عارفاً بالله إلا أنه كان معانداً بدليل قوله { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض } [ الأسراء : 102 ] وقوله { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا } [ النمل : 14 ] وقوله في سورة القصص { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } [ الآية : 39 ] وليس فيه إلا إنكار المعاد دون إنكار المبدأ . وقوله في الشعراء { وما رب العالمين } [ الشعراء : 23 ] إلى قوله { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه اعترف بأصل الوجود .
وأيضاً إن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام لأن موسى لما هرب إلى مدين قال له شعيب { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } [ القصص : 25 ] فكيف يعتقد مثل هذا الشخص إنه إله العالم بل كل عاقل مكلف يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم فلا يكون واجب الوجود . وأيضاً إنه سأل ههنا بمن طالبا للكيفية ، وفي « الشعراء » بما طالبا للماهية فكأن موسى لما أقام الدلالة على الوجود ترك المناظرة والمنازعة معه في هذا المقام لظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر . وأيضاً إنه قال في الجواب { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه } وصلة الذي لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب . ومن الناس من قال : إنه كان جاهلاً بالله بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما . فمنهم من قول : إنه كان دهرياً نافياً للمؤثر أصلاً . ومنهم من قال : إنه فلسفي قائل بالعلة الموجبة أو هو من عبدة الكواكب ، أو من الحلولية والمجسمة . وأم إدعاء الالهية والربوبية فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه . قال بعض العلماء : إنما قال { فمن ربكما } [ طه : 49 ] ولم يقل « فمن إلهكما » تعريضاً بأنه رب موسى كما قال

{ ألم نربك فينا وليداً } [ الشعراء : 18 ] قلت : يحتمل أن يكون تخصيص موسى بالنداء تنبيهاً على هذا المعنى . ولم يعلم الكافر أن الربوبية التي ادّعاها موسى لله في قوله { إنا رسولا ربك } غير هذه في الحقيقة ولا مشاركة بينهما إلا في اللفظ ، وهذا كما عارض نمرود إبراهيم صلوات الرحمن عليه في قوله { أنا أحيي وأميت } [ البقرة : 258 ] ولم يعلم أن إحياءه وإماتته ليسا من الإحياء والإماتة في شيء ثم شرع موسى في الدلالة على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ، وفيه دلالة على أن موسى كان أصلاً في النبوة وأن هارون راعى الأدب فلم يشتغل بالجواب قبله لأن الأصل في النبوة هو موسى ، ولأن فرعون خصص موسى بالنداء . من قرأ { خلقه } بسكون اللام فإما بمعنى الخليقة والضمير المجرور لله وقدم المفعول الثاني ليتصل قوله { ثم اهتدى } والخليقة أعطى الخلائق ما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون الحديد من الجبال واللآلىء من البار ويركبون الأغذية والأدوية والأسلحة والأمتعة ونظير هذا الكلام قوله { الذي خلق فسوّى والذي قدر فهدى } [ الأعلى : 2 ، 3 ] وقوله حكاية عن إبراهيم { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء : 78 ] وإما أن يكون الخلق بمعنى الصورة والشكل أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به فأعطى العين هيئتها التي تطابق الإبصار ، والأذن ما يوافق الاستماع ، والأنف للشم ، واليد للبطش ، بل أعطى رجل الآدمي شكلاً يوافق سعيه ، ورجل الحيوانات الأخر شكلاً يطابق مشيها ، بل أعطى ذوات القرون رجلاً توافق حاجتهن ، وكذا الخف والحافر وذوات المخالب . وقيل : أراد وأعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة فجعل الحصان والحجر زوجين ، وكذا البعير والناقة والرجل والمرأة . ومن قرأ { خلقه } بفتح اللام صفة للمضاف أو المضاف إليه والمفعول الثاني متروك أي كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه .
واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في مخلوقاته بحر لا ساحل له ، وقد دوّن العلماء طرفاً منها في كتب التشريح وخواص الأحجار والنبات والحيوان ، ولنذكر ههنا واحداً منها هي أن الطبيعي يقول : الثقيل هابط والخفيف صاعد ، فالماء لذلك فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الكل . ثم إنه سبحانه جعل العظم والشعر أصلب الأعضاء على طبيعة الأرض وجعل مكانهما فوق البدن . وجعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو الهواء ، وجعل تحته الحرارة الغريزية في القلب كالنار ليكون دليلاً على وجود الفاعل المختار خلاف ما يقوله الدهري والطبيعي وسائر الكفار . وأيضاً اختصاص كل جسم بقوة وتركيب وهداية إما أن يكون واجباً أو جائزاً ، والأول محال وإلا لم يقع فيها تغير . والثاني يستدعي مرجحاً فإن كان ذلك المرجح واجب الوجود لذاته فهو المطلوب ، وإن كان جائز الوجود افتقر في اتصافه بالوجود إلى موجد ، ولا بد من الانتهاء إلى موجد يجب وجوده لذاته .

ثم إنه يستغني عن سمات النقص وشوائب الافتقار وليس إلا الله الواحد القهار .
قال أهل النظم : إن موسى عليه السلام لما قرر عليه أمر المبدأ { قال } فرعون إن كان وجود الواجب في هذه الحد من الظهور { فما بال القرون الأولى } لم يؤمنوا وجحدوا فعارض الحجة بالتقليد والبال الحال؟ أو أنه لما هدده بالعذاب في قوله { أن العذاب على من كذب وتولى } قال فما بالهم كذبوا فما عذبوا؟ فأجاب بأن هذا ما استأثر الله بعلمه وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما يخبرني به علام الغيوب . أو أنه سأله عن أحوال القرون الخالية وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ليصرف موسى عن المقصود ويشغله بالحكايات خوفاً من أن يميل قلوب ملته إلى حجته الباهرة ودلائله الظاهرة ، فلم يلتفت موسى إلى حديثه بل { قال علمها عند ربي } ولا يتعلق غرضي بأحوالهم . ويجوز أن يكون الكلام قد انجر ضمناً أو صريحاً إلى إحاطة الله سبحانه بكل شيء فنازعه الكافر قائلاً : ما بال سوالف القرون في تمادي كثرتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم؟ فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل . وقوله { علمها عند ربي } مع قوله { في كتاب } لا يتنافيان ، بل المراد أنه تعالى عالم بجميع المغيبات مطلع على الكليات والجزئيات من أحوال الموجودات والمعدومات ، ومع ذلك فإن جميع الأحوال ثابتة في اللوح المحفوظ ثم كان لقائل أن يقول : لعلها أثبتت في اللوح لاحتمال الخطأ والنسيان فتدارك ذلك بقوله { لا يضل ربي ولا ينسى } قال مجاهد : هما واحد المراد أنه لا يذهب عنه شيء ولا يخفى عليه . والأكثرون على الفرق فقال القفال : الأول إشارة إلى كونه عالماً بالكل ، والثاني إشارة إلى بقاء ذلك العلم أي لا يضل عن معرفة الأشياء ، وما علم من ذلك لا ينساه ولا يتغير علمه ، يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له . وقال مقاتل : لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه . وقال الحسن : لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه . وقال أبو عمر : ولا يغيب عنه شيء ولا يغرب عنه شيء . وقال ابن جرير : لا يخطىء في التدبير فيعتقد غير الصواب صواباً وإذا عرفه لا ينساه والوجوه متقاربة . والتحقيق ما قاله القفال . وعن ابن عباس : لا يترك من كفر حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه .
ولما ذكر الدليل العام المتناول لجميع المخلوقات السمويات والأرضيات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النباتات والجمادات ذكر الدلائل الخاصة فقال : { الذي جعل لكم الأرض مهدا } أي كالمهد وهو ما يمهد للصبي .

قال أبو عبيدة : الذي أختاره مهاد لأنه اسم لما يمهد والمهد مصدر . وقال غيره : المهد اسم والمهاد جمع . وقال المفضل : هما مصدران { وسلك } أي حصل { لكم فيها سبلاً } ووسطها بين الجبال والأودية والبراري . يقال : سلكت الشيء في الشيء سلكاً بالفتح أي أدخلته فيه { فأخرجنا به } أي بواسطة إنزال الماء . ومن المتكلمين الأقدمين من أنكر تأثير الوسائط رأساً و { أزواجاً } أي أصنافاً فأسميت بذلك لأنها مزدوجة مقترن بعضها ببعض . و { شتى } صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ، أو صفة للنبات لا مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها مختلفة النفع والطبع والطعم واللون والرائحة والشكل . ثم ههنا إضمار والتقدير وقلنا أو قائلين { كلوا وارعوا أنعامكم } وذلك أن بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم ، وإباحة الأكل تتضمن إباحة سائر وجوه الانتفاع كقوله : { ولا تأكلوا أموالكم } [ البقرة : 188 ] ومن نعم الله تعالى أن أرزاق العباد إنما تتحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله . قال الجوهري : النهية بالضم واحدة النهى وهي العقول لأنها تنهى عن القيبح . وجوز أبو علي الفارسي أن يكون مصدراً كالهدى وخص أرباب العقول بذلك لأنهم هم المنتفعون بالنظر فيها والاستدلال بها على وجود صانعها . { ومنها خلقناكم } لأن آدم مخلوق من الأرض . أو لأن بني آدم خلقوا من النطفة ودم الطمث المتولدين من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضية ، أو لما ورد في الخبر أن الملك يأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه الآدمي فيذرّها على النطفة . { وفيها نعيدكم } لأن الجسد يصير تراباً فيختلط بالأرض إلا من رفعه الله إلى السماء ، وهو أيضاً يحتمل أن يعاد إليها بعد ذلك . { ومنها يخرجكم تارة أخرى } بالحشر والبعث ، أو بأن نخرجكم تراباً وطيناً ثم نحييكم بعد الإخراج ، أو المراد الإحياء في القبر . وههنا بحث وهو أن يكون قوله : { الذي جعل لكم الأرض } إلى ههنا من تتمة كلام موسى ، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى . وعلى الأول يمكن أو يوجه قوله : { فأخرجنا } بأن المراد فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة والزرع { أزواجاً من نبات شتى } إلا أن قوله : { كلوا وارعوا } إلى قوله : { ومنها نخرجكم } لا يطابقه . وإن قيل : إن كلام موسى يتم عند قوله : { وأنزلنا من السماء ماء } لم يصلح قوله : { فأخرجنا } ابتداء كلام من الله لمكان فاء التعقيب ، والصواب أن يتم كلام موسى عند قوله : { ولا ينسى } ثم إنه تعالى ابتداء فقال : { الذي } أي هو الذي جعل إلى آخره ، وعلى هذا يكون قوله : { فأخرجنا } من قبيل الالتفات علماً للكلام وإيذاناً بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره تخصيصاً بأن مثل هذا لا يدرك تحت قدرة أحد سواه .

والحاصل أنه تعالى عدد عليهم ما علق بالأرض من المنافع حيث جعلها لهم فراشاً يتقلبون عليها عند الإقامة . وسوّى لهم فيها مسالك يتقلبون بها في أسفارهم ، وأنبت فيها أصناف النبات متاعاً لهم ولأنعامهم . ثم إن الأرض لهم كالأم التي منها انشئوا وهي التي تجمعهم وتضمهم إذا ماتوا . ثم يخرجون من الأجداث خروج الأجنة من الأرحام ، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تمسحوا بالأرض » أي ارقدوا واسجدوا عليها من غير حائل ، أو تيمموا بها فإنها بكم برة أي إنها لكم كالأم . ومنا خلقناكم وفيها معايشكم وهي بعد الموت كفاتكم .
قوله عز وعلا : { ولقد أريناه آياتنا } أي عرفناه صحتها . ثم إن كان التعريف يستلزم حصول المعرفة فيكون كفره كفر جحود وعناد كقوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل : 14 ] وإلا كان كفر جهالة وضلالة . سؤال الجمع المضاف يفيد العموم ولا سيما إذا أكد بالكل ، لكنه تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملتها ما أظهرها على الأنبياء الأقدمين ولم يتفق لموسى مثلها . الجواب هذا التعريف الإضافي محذوّ به حذو التعريف العهدي لو قيل الآيات كلها وهي التي ذكرت في قوله : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [ الإسراء : 101 ] ولو سلم العموم فالمراد أنه أراه الآيات الدالة على التوحيد في قوله : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه } وعلى النبوة بإظهار المعجزات القاهرة وعلى المعاد لأن تسليم القدرة على الإنشاء يستلزم تسليم القدرة على الإعادة بالطريق الأولى ، أو أراد أنه أراه آياته المختصة به وعدد عليه سائر آيات الأنبياء وإخبار النبي الصادق جارٍ مجرى العيان ، أو إراءة بعض الآيات كإراءة الكل كما أن تكذيب بعض الآيات يستلزم تكذيب الكل كما قال : { فكذب } أي الآيات كلها { وأبى } قول الحق . قال القاضي : الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك وإلا لم يتوجه الذم . وجواب الأشاعرة أنه لا يسأل عما يفعل . ثم إن فرعون خاف أن تميل قلوب ملته إلى قول موسى فذكر ما يوجب نفار القوم عنه مع القدح في نبوته لادعاء إمكان معارضته قائلاً { أجئتنا لتخرجنا } فإن الإخراج من الديار قرينة القتل بدليل قوله : { أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم } [ النساء : 66 ] ثم طالب للمعارضة موعداً فإن جعلته زمان الوعد بدليل قوله : { موعدكم يوم الزينة } بالرفع كان الضمير في { لا نخلفه } عائداً إلى الوعد المعلوم من الموعد أو إلى زمان الوعد مجازاً . وانتصب { مكاناً } على أنه ظرف للوعد المقدر ، وإن جعلته مكان الوعد ليكون قوله : { مكاناً } بدلاً منه فوجه عود الضمير في { لا نخلفه } مثل ما قلنا ، ويكون قوله : { موعدكم يوم الزينة } مطابقاً له معنى ، لأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان مشتهر عندهم وكأنه قيل : موعدكم مكان الاجتماع في يوم الزينة .

وإن جعلته مصدراً ليصح وصفه بعدم الإخلاف من غير ارتكاب إضمار ، أو تجوّز انتصب { مكاناً } على أنه ظرف .
ثم من قرأ { يوم الزينة } بالنصب فظاهر أي وعدكم أو انجاز وعدكم في يوم الزينة ، أو وقت وعدكم في يوم الزينة . وفي يوم { يحشر الناس } هو ضحى أي ضحى ذلك اليوم . ومن قرأ بالرفع فيقدر مضاف محذوف أي وعدكم وعد يوم الزينة ومعنى { سوى } بالكسر والضم عدلاً ووسطاً بين الفريقين . وهو معنى قول مجاهد . فوصف المكان بالاستواء باعتبار المسافة . وقال ابن زيد : أي مستوياً لا يحجب شيئاً بارتفاعه وانخفاضه ليسهل على كل الحاضرين ما يجري بين الفريقين . وقال الكلبي : { مكاناً سوى } هذا المكان الذي نحن فيه الآن . قال القاضي : الأظهر أن قوله : { موعدكم يوم الزينة } من قول فرعون لأنه الطالب للاجتماع . وقال الإمام فخر الدين الرازي : الأقرب أنه من كلام موسى ليكون الكلام مبنياً على السؤال والجواب ، ولأن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع وهذا إنما يليق بالمحق الواثق بالغلبة لا بالمبطل المزور ، على أن موعدكم خطاب الجمع وليس هناك إلا موسى وهارون ، فإما أن يرتكب أن أقل الجمع اثنان وهو مذهب مرجوح ، وإما أن يقال الجمع للتعظيم ولم يكن فرعون ليعظمهما ، ويوم الزينة يوم عيد لهم يتزينون فيه . وعن مقاتل يوم النيروز ، وعن سعيد بن جبير يوم سوق لهم . وعن ابن عباس : هو يوم عاشوراء . وإنما قال : { وأن يحشر } من غير تسمية الفاعل لأنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حشر لهم . ومحل { أن يحشر } رفع أو جر عطفاً على اليوم أو الزينة عين اليوم . ثم الساعة وهي { ضحى } ذلك اليوم . وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة ، وليشيع أمره العجيب في الأقطار والأعصار والأطراف والأكناف ، ففي ذلك تقوية دين الحق وتكثير راغبيه وقلة شوكة المخالف وتوهين عزائمهم { فتولى فرعون } انصرف إلى مقام تهيئة الأسباب المعارضة فإن صاحب السحر يحتاج في تدبير الحسر إلى طول الزمان ولهذا طلب الموعد وقال مقاتل : أعرض وثبت على إعراضه عن الحق { فجمع كيده } أي أسباب الكيد وأدوات الحيلة والتمويه من مهرة السحر وغير ذلك { ثم أتى } الموعد . عن ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا . وقيل : أربعمائة . وقيل : أكثر من ذلك فضرب لفرعون قبة طولها سبعون ذراعاً فجلس فيها ينظر إليهم فبين الله تعالى أن موسى قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير على عادة الصالحين من أهل النصح والإشفاق ، ولا سيما الأنبياء المبعوثين رحمة للأمم { ويلكم } نصب على المصدر الذي لا فعل له أو على النداء { لا تفتروا على الله كذباً } بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحراً { فيسحتكم } السحت لغة أهل الحجاز والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم ، ومعناه الاستئصال .

حذرهم أمرين : أحدهما عذاب الدارين والتنوين للتعظيم ، والآخر الخيبة والحرمان عن المقصود فإن التمويه لا بقاء له { فتنازعوا أمرهم بينهم } كقوله في الكهف : { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } [ الكهف : 21 ] أي وقع التنازع بينهم { وأسروا النجوى } الضمير لفرعون وقومه . وقيل : للسحرة ويؤده ما روي عن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه . وعن قتادة : إن كان ساحراً فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر . وعن وهب : لما قال { ويلكم } الآية قالوا : ما هذا بقول ساحر . والأكثرون على الأول وذلك أنهم تفاوضوا وتشاوروا حتى استقروا على شيء واحد وهو أنهم .
{ قالوا إنْ هذان ساحران } إلى آخر الآية : لا إشكال في قراءة أبي عمرو وكذا في قراءة ابن كثير وحفص ، لأنه كقولك « إن زيداً لمنطلق » واللام فارقة بين المخففة والنافية . وأما من قرأ « إن » بالتشديد و { هذان } بالألف فأورد عليه أن « إن » لم يعمل في المثنى . وأجيب بأنه على لغة الحرث بن كعب وخثعم وبعض بني عذرة ، ونسبها الزجاج إلى كنانة ، وابن جني إلى بعض بني ربيعة ، جعلوا التثنية كعصا وسعدى مما آخره ألف فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب . وقيل : « إن » بمعنى « نعم » واعترض أن ما بعده حينئذ يصير كقوله :
أم الحليس لعجوز شهربة ... ولا يجوز مثله إلا في ضرورة الشعر . وإنما موضع لام الابتداء في السعة هو المبتدأ . والجواب أن القرآن حجة على غيره ، وذكر الزجاج في جوابه أن التقدير لهما ساحران فاللام داخلة على صدر الجملة الصغرى . قال : وقد عرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلي وإسماعيل بن إسحاق فارتضاه كل منهم وذكروا أنه أجود ما سمعنا في هذا الباب ، وضعفه ابن جنى بأن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمراً معلوماً جلياً وإلا كان تكليفاً بعلم الغيب للمخاطب ، وإذا كان معروفاً فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام . وأيضاً إن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب ، فالجمع بينهما محال مع أن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس . وأيضاً امتنع البصريون من جعل النفس في قولك : « زيد ضرب نفسه » تأكيداً للمستكن فدل ذلك على أن تأكيد المنوي غير جائز . وأيضاً لو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزاً لحمل النحويون قول الشاعر على ذلك ولم يحملوه على الاضطرار ، ولمن تبصر قول الزجاج أن يجيب عن الأول بأن التأكيد إنما هو لنسبة الخبر إلى المبتدأ لا للمبتدأ وحده ، ولو سلم فذكر اللام يدل على المبتدأ المنوي وذكر المبتدأ لا يدل على التأكيد فكان حذف المبتدأ أولى .

وعن الثاني بأن الكلام قد يكون موجزاً من وجه مطنباً من وجه آخر فلا منافاة ، وإنما المنافاة إذا كانت الجهتان واحدة . وعن الثالث بأنهم امتنعوا من حمل النفس على التأكيد في المثال المذكور لأنهم رأوا أن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر ، لا لأن تأكيد المنوي ممتنع على أنا بينا أن المؤكد ليس بمحذوف في الآية مطلقاً فإن أحد طرفي الكلام مذكور . وعن الرابع بأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلاً فكم ترك الأول للآخر .
ولنرجع إلى التفسير قال الفراء : الطريقة اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم . ويقال : هم طريقة قومهم وهو طريقة قومه ، قبح أمر موسى في أعين الحاضرين ونفرقهم بأنه ساحر ، والطباع نفور عن السحر وبأنه يقصد إخراجكم من دياركم - وهذا أيضاً مما يبغض القاصد إليهم - وبأنه يريد أن يذهب بأشراف قومكم وأكابركم قالوا وهم بنوا إسرائيل لقول موسى أرسل معنا بني إسرائيل وجعلها الزجاج من باب حذف المضاف أي بأهل طريقتكم المثلى وسموا مذهبهم الطريقة المثلى والسنة الفضلى لأن كل حزبٍ بما لديهم فرحون . والمثلى تأنيث الأمثل أي الأشبه بالحق ، ومنهم من فسر الطريقة ههنا بالجاه والمنصب والرياسة وكان الأمر على ما يقال به . من قرأ { فأجمعوا } من الجمع فظاهر ، ومن قرأ من الإجماع فمعناه اجعلوا كيدكم مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا نظيره ما مر في سورة يونس { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } [ الآية : 71 ] سماه كيداً لأنه علم أن السحر لا أصل له . وقال الزجاج : معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه . ثم أمرهم بأن يأتوا صفاً أي مصطفين مجتمعين ليكون أهيب في الصدور وأوقع في النفوس . وعن أبي عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى أي مصلى من المصليات أو هو علم لمصلى بعينه لأن الناس يصطفون فيه لعيدهم وصلواتهم . { وقد أفلح اليوم من استعلى } أي فاز من غلب وهو اعتراض . واعلم أن قصة السحرة أكثرها يشبه ما مر في « الأعراف » وقد فسرناها هنالك فنحن الآن نقتصر ونذكر ما هو المختص بهذه السورة . { إما أن تلقي } أي اختر أحد الأمرين إلقاءك أو إلقاءنا { فإذا حبالهم } هي « إذا » المفاجأة وأصلها الوقت أي فاجاً موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم . قال وهب : سحروا أعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك . وقيل : أراد أنه شاهد شيئاً لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلاً { فأوجس } أضمر { في نفسه خيفةً } هو مفعول { أوجس } و { موسى } فاعله أخر للفاصلة . وذلك الخوف إما من جبلة البشرية حين ذهل عن الدليل وهو قول الحسن ، وإما لأنه خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه قاله مقاتل ، أو خاف أن يتأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت ، أو خاف أن يتفرق بعض القوم قبل أن يشاهدوا غلبته ، أو خاف تمادي الأمر عليه وتكرره فأزال الله تعالى خوفه مجملاً بقوله { إنك أنت إلاّ على } وفيه من أنواع التأكيد ما لا يخفى وهي الاستئناف والتصدير بأن ، والتوسيط بالفصل ، وكون الخبر معرفاً ولفظ العلو ومعناه الغلبة وصورة التفضيل ولا فضل لهم ومفصلاً بقوله { وألق ما في يمينك } لم يقل عصاك لما علم في الأعراف ولما في هذه السورة { وما تلك بيمينك } وقال جار الله : هو تصغير لشأن العصا وتهوين لأمر السحرة أي ألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يبتلع { ما صنعوا } أي زوّروا وافتعلوا على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها ، أو هو تعظيم لشأنها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة لأن في يمينك شيئاً أعظم شأناً من كلها { إنما صنعوا } إن الذي افتعلوه { كيد سحر } أي ذي سحر ، أو ذوي سحر ، أو هم في توغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه ، أو الإضافة للبيان أي كيد هو سحر كقولك « علم فقه » وإنما وجد ساحر فيمن قرأ على الوصف ليعلم أن المقصود هو الجنس كما قال .

{ ولا يفلح الساحر } أي هذا الجنس ولو جمع لأوهم أن المراد هو العدد وإنما نكر أولاً لأن المراد تنكير الكيد كأنه قال : هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر أو من أفعال السحرة وجميع أقسام السحر ، وأفراد السحرة لا فلاح فيها ومن نظائره « إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً لا في أمر دنيا ولا في أمر آخره » . ومعنى سبهللاً أنه يجيء ويذهب في غير شيء . ومعنى { حيث أتى } أينما كان وأية سلك { فألقى السحرة سجداً } قال جار الله : سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر في السجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! . وروي أنهم لم يرفعوا رؤسهم حتى رأوا الجنة والنار أو أثواب أهلها ، وعن عكرمة : لما خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة . واستبعده القاضي لأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف . وقلت : إذا كان الإيمان مقدماً على هذا الكشف فلا منافاة ولا إلجاء . ثم إن فرعون لعب لعب الحجل وأنكر عليهم إيمانهم وألفى شبهته في البين أنه كبيرهم أي أسحرهم وأعلاهم درجة في الصناعة ، أو معلمهم وأستاذهم من قول أهل مكة للمعلم « أمرني كبيري » أي أستاذي في العلم أو غير ، وأوعدهم بقطع الأيدي والأرجل { من خلاف } قال في الكشاف : « من » لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو والعضو لا من وفاقه إياه .

قالت : الأولى أن يقال الخلاف ههنا بمعنى الجهة المخالفة حتى يصح معنى الابتداء أي لأقطعن أيديكم وأرجلكم مبتدأ من الجهتين المتخالفتين يميناً وشمالاً ، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال أي لأقطعنها مختلفات الجهات . قيل { في جذوع النخل } أي عليها والأصوب أن يقال : هي على أصلها شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف { أينا أشد } أراد نفسه وموسى وفيه صلف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس واستخفاف بموسى مع الهزء به ، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء قاله في الكشاف . قلت : يحتمل أن يريد بقوله { أينا } الله تعالى ونفسه لنقدم ذكر رب هارون وموسى ، وقد سبق عذاب الله في قوله { أن العذاب على من كذب وتولى } وفي قوله { فيسحتكم بعذاب } ويؤيده قول السحرة في جوابه { والله خير وأبقى } { لن نؤثرك } لن نختارك { على ما جاءنا من البينات } المعجزات الظاهرات { و } على { الذي فطرنا } أو الواو للقسم وعلى هذا يجوز أن يكون على ما جاءنا بمعنى فيما جاءنا أي لن نميل إليك والحالة هذه . وعلى الوجه الأول ففحوى الكلام لن نترك طاعة خالقنا والتصديق بمعجزات نبيه لأجل هواك { فاقض ما أنت قاضٍ } بما شئت من العذاب { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } أي في مدة الحياة العاجلة ، وقرىء { تقضي } مبنياً للمفعول هذه الحياة بالرفع إجراء للظرف مجرى المفعول به اتساعاً مثل صيم يوم الجمعة . والحاصل أن قضاءك وحكمك منحصر في مدة حياتنا الفانية . والإيمان وثمرته باقٍ لا يزول ، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني للفوز بالسعادة الباقية وللخلاص من العقاب الأبدي وذلك قولهم { إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا } قال الحسن : سبحان الله قوم كفار ثبت في قلوبهم الإيمان طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا في ذات الله تعالى { فاقض ما أنت قاضٍ } والله إن أحدهم ليصحب القرآن ستين عاماً ثم ليبيع دينه بثمن غبن .
ولما كان أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر قالوا { وما أكرهتنا عليه من السحر } وفي هذا الإكراه وجوه : عن ابن عباس أن الفراعنة كانوا يكرهون فتيانهم على تعلم السحر ليوم الحاجة فكانوا من ذلك القبيل . وروي أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائماً ففعل فوجده تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر لأن الساحر إذا نام بطل سحره فأبوا أن يعارضوه . وعن الحسن أنهم حشروا من المدائن مكرهين ، وزعم عمر بن عبيد أن دعوة السلطان إكراه ، وليس بقوي فلا إكراه إلا مع الخوف فحيثما وجد حكم بالإكراه وإلا فلا . وباقي الآيات ابتداء إخبار من الله أو هي من تتمة كلامهم فيه قولان ، ولعل الأول أولى { إنه } أي الشأن { من يأت ربه } أي حيث لا حكم إلا هو فيسقط استدلال المجسمة حال كون الآتي { مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها } موتة مريحة { ولا يحيى } حياة ممتعة .

قالت المعتزلة : صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم بالآية لعموم « من » الشرطية بدليل صحة الاستثناء فيحل القطع بوعيد أصحاب الكبائر . أجابت الأشاعرة بأن المجرم كثيراً ما يجيء في القرآن بمعنى الكافر كقوله { يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر } [ المدثر : 40-42 ] إلى قوله { وكنا نكذب بيوم الدين } [ المدثر : 46 ] ولا ريب أن التكذيب بالبعث والجزاء كفر ، وكقوله { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } [ المطففين : 29 ] إلى آخر السورة . فلم قلتم : إن المجرم ههنا ليس بمعنى الكافر فتبطل المقدمة الأولى؟ سلمنا لكن المقدمة الثانية كليتها ممنوعة على الإطلاق وإنما هي كلية بشرط عدم العفو ، وحينئذٍ لا يحصل القطع بالوعيد على الإطلاق . سلمنا المقدمتين والنتيجة لكنه معارض بعموم الوعد في قوله { ومن يأته مؤمناً } فإن قيل : صاحب الكبيرة لم يأته مؤمناً عندنا . قلنا : يصدق عليه المؤمن لأن الإيمان صدر عنه في الزمان الماضي كالضارب على من قد ضرب أمس وليس بين الحال والزمان الماضي منافاة كلية ولهذا صح « جاءني زيد قد قام » بل صح قوله { قد عمل الصالحات } وأنه حال آخر فكأنه قيل : ومن يأته قد آمن قد عمل . ولئن قيل : إن عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة . قلنا : ممنوع بل العكس أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وإقامة الحد على التائب في بعض الصور لأجل المحنة لا لأجل التنكيل . وقوله { نكالاً من الله } في حق من لم يتب بعد من السرقة سلمنا أن قوله { ومن يأته مؤمناً } لا يعم صاحب الكبيرة إلا أن قوله { فأولئك لهم الدرجات العلى } من الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحات أي الواجبات ، لأن الزائدة عليها غير محصور فسائر الدرجات التي غير عالية لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان . ثم عظم شأن المذكور بقوله { وذلك جزاء من تزكى } أي قال « لا إله لا إله الله » قاله ابن عباس . وفيه دليل على أن قوله { ومن يأته مؤمناً } يشمل صاحب الكبيرة ، وقال آخرون { تزكى } أي تطهر من دنس الذنوب وعلى هذا يقع صاحب الكبيرة خارجاً .

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)

القراآت : { لا تخف دركاً } بالجزم : حمزة الباقون { لا تخاف } بالرفع { أنجيتكم } و { واعدتكم } و { رزقكم } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف { ووعدناكم } من الوعد . أبو عمرو وسهل ويعقوب { فيحل } { ومن يحلل } بالضم فيهما : عليّ . الآخرون بالكسر { يملكنا } بفتح الميم : أبو جعفر ونافع ، وعاصم غير المفضل بضمها حمزة ، وعلي وخلف بكسرها الباقون والمفضل { حملنا } بفتح الحاء والميم مخففة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف سوى حفص . الآخرون بضم الحاء وكسر الميم مشددة { تتبعني } بالياء الساكنة في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو ونافع غير إسماعيل في الوصل ، وقرأ يزيد وإسماعيل بفتح الياء . الباقون بحذفها . { يا ابن أم } بكسر الميم : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص . { لم تبصروا } بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف الباقون على الغيبة { فنبذتها } مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وهشام وسهل { لن تخلفه } بكسر اللام : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب . الآخرون بفتحها { لنحرقنه } بفتح النون وضم الراء : يزيد . الآخرون من التحريق . { فلا يخف } بالجزم على النهي : ابن كثير { أن نقضي } النون مبنياً للفاعل { وحيه } بالنصب : يعقوب الباقون بالياء مضمومة وبفتح الضاد { وحيه } بالرفع .
الوقوف : { يبسا } ج لأن قوله { لا تخاف } يصلح صفة للطريق مع حذف الضمير العائد أي لا تخاف فيه ، ويصلح مستأنفاً . ومن قرأ { لا تخف } فوقفه أجوز لعدم العاطف ووقوع الحائل مع تعقب النهي الأمر إلا أن يكون جواباً للأمر فلا يوقف { ولا تخشى } 5 { ما غشيهم } ط لأن التقدير وقد أضل من قبل على الحال الماضية دون العطف لأنه عندما عشيه لم يتفرغ للإضلال . { وما هدى } 5 { والسلوى } 5 { غضبي } ج { هوى } 5 { اهتدى } 5 { يا موسى } 5 { لترضى } 5 { السامري } 5 { أسفاً } ج لانتساق الماضي على الماضي بلا ناسق { حسناً } ط { موعدي } 5 { السامري } 5 لا { فنسي } 5 ط { قولاً } لا للعطف { ولا نفعاً } 5 ط { فتنتم به } ج للابتداء بأن مع اتصال العطف { أمري } ج { موسى } 5 { أن لا تتبعن } ط { أمري } 5 { برأسي } ج للابتداء ( بأن ) مع اتصال المعنى واتحاد القائل { قولي } 5 { يا سامري } 5 { نفسي } 5 { لا مساس } ص { لن تخلفه } ج لاختلاف الجملتين { عاكفاً } ط للقسم المحذوف { نسفاً } 5 { إلا هو } ط { علماً } 5 { سبق } ج للإستئناف والحال { ذكرا } ج 5 لأن الشرطية تصلح صفة للذكر وتصلح مبتدأ بها { وزراً } 5 لا لأن قوله { خالدين } حال من الضمير في { يحمل } وهو عائد إلى « من » ومن للجمع معنى { فيه } ط { حملاً } 5 لا لأن { يوم ينفخ } بدل من يوم القيامة . { زرقاً } 5 ج لأن ما بعده يصلح للصفة وللاستئناف { عشراً } 5 { يوماً } 5 { نسفاً } 5 لا { صفصفاً } 5 لا { أمتا } 5 { لا عوج له } ج لاختلاف الجملتين { همساً } 5 { قولاً } 5 { علماً } 5 { القيوم } ط { ظلماً } 5 { هضماً } 5 { ذكراً } 5 { الحق } ج { وحيه } ز لعطف الجملتين المتفقتين مع اعتراض الظرف وما أضيف إليه { علماً } 5 .

التفسير : هذا شروع في قصة إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم وقد تقدم في « البقرة » وفي « الأعراف » وفي « يونس » ومعنى { فاضرب لهم طريقاً } إجعل لهم من قولهم « ضرب له في ماله سهماً وضرب اللبن عمله » أو أراد بين لهم طريقاً { في البحر } بالضرب بالعصا حتى ينفلق فعدي الضرب إلى الطريق ، ثم بين أن جميع أسباب الأمن حاصلة في ذلك الطريق . واليبس مصدر وصف به ومثله اليبس ونحوهما العدم والعدم ويوصف به المؤنث لذلك فيقال : ناقتنا يبس إذا جف لبنها . والدرك . والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك . وفي { لا تخشى } إذا قرىء { لا تخف } أوجه الاستئناف أي وأنت لا تخشى ، وجوز في الكشاف أن يكون الألف للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله { ولا تظنون بالله الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] وأن يكون كقول الشاعر :
كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً ... أراد لم تر لأن ما قبله :
وتضحك مني شيخة عبشمية ... قلت : لعل هذا إنما يجوز في الضرورة ولا ضرورة في الآية { فأتبعهم فرعون } الحق بهم جنوده أو تبعهم ومعه جنوده كما مر في « يونس » { فغشيهم } أي علاهم ورهقهم { من اليم ما غشيهم } وهذا من جملة ما علم في باب الإيجاز لدلالته على أنه غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله ، وقد سلف منه في السور المذكورة ما حكي في الأخبار وروي في الآثار . ونسبة الإضلال إلى فرعون لا تنافي انتهاء الكل إلى إرادة الله ومشيئته . وقوله { وما هدى } تأكيد للإضلال وفيه تهكم به في قوله { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } [ غافر : 38 ] ثم عدد ما أنعم به على بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون خطاباً لليهود المعاصرين لأن النعمة على الآباء نعمة في حق الأبناء ومثله قوله { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } أي الواقع على يمين من انطلق من مصر إلى الشام لأن منفعة المواعدة عادت إليهم وإن كانت المواعدة لنبيهم فبكتب التوراة في ألواح قام شرعهم واستقام أمر معاشهم ومعادهم . { كلوا } من تتمة القول . وطغيانهم في الرزق هو شغلهم باللهو والتنعم عن القيام بشكرها وتعدي حدود الله فيها بالإسراف والتقتير والغصب . ومن قرأ { فيحل } بالكسر فبمعنى الوجوب من قولهم « حل الدين يحل » إذا وجب أداؤه ، ومن قرأ بضم فبمعنى النزول ونزول الغضب نزول نتائجة من العقوبات والمثلات . ومعنى { هوى } هلك وأصله السقوط من مكان عالٍ كالجبل . وقيل : هوى أي وقع في الهاوية .

سؤال : كيف أثبت المغفرة في حق من استجمع التوبة والإيمان والعمل الصالح ، والمغفرة إنما تتصور في حق من أذنب؟ وأيضاً ما معنى قوله { ثم اهتدى } بعد الأمور المذكور والاهتداء إنما يكون قبلها لا أقل من أن يكون معها؟ الجواب أراد وإني لغفار لمن تاب من الكفر وآمن وعمل صالحاً . وفيه دليل لمن ذهب إلى وجوب تقديم التوبة من الكفر على الإيمان . والحاصل أن الغفران يعود إلى الذنوب السابقة على هذه الأمور ، ويجوز أن يراد أنه إذا تاب من الكفر وأقبل على الإيمان والعمل الصالح فإن الله يغفر الصغائر التي تصدر عنه في خلال ذلك كقوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [ النساء : 31 ] وأما الاهتداء فالمراد به الاستقامة والثبات على الأمور المذكورة كقوله { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 20 ] ومعنى « ثم » الدلالة على تباين المرتبتين ، فإن المداومة على الخدمة أصعب من الشروع فيها كما قيل :
لكل إلى شأو العلى حركات ... ولكن عزيز في الرجال ثبات
ونظير هذا العطف قوله { أهلكناها فجاءها بأسنا } [ الأعراف : 4 ] وقد مر البحث فيه . ويروى أن موسى قد مضى مع النقباء السبعين إلى الطور على الموعد المضروب ، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله فأنكر الل تعالى تقدمه قائلاً { وما أعجلك عن قومك } أيّ شيء عجل بك عنهم؟ فالمراد بالقوم النقباء لا جميع قومه على ما توهم بعضهم يؤكده قوله { هم أولاء على أثري } ولم يكن جميع قومه على أثره . قال جار الله : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين : أحدهما إنكار العجلة في نفسها ، والثاني السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين إلى موسى تمهيد العذر من العجلة نفسها فاعتل بأنه لم يوجد مني إلا تقدم يسير وليس بيني وبينهم إلا مسافة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال { وعجلت إليك رب لترضى } أي طلبت دوم رضاك عني أو مزيد رضاك بناء على اجتهادي أن التعجيل إلى مقام المكالمة والحرص على ذلك يوجب مزيد الثواب والكرامة . وقيل : لما أنكر عليه الاستعجال دهش خوفاً من العقاب فتحير في الجواب { قال فإنا قد فتنا قومك } يعني جميع قومه الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفاً . يروى أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا : قد أكملنا العدة . ثم كان أمر العجل بعد ذلك فسئل أنه تعالى كيف قال لموسى عنه مقدمه { إنا قد فتنا قومك } ؟ وأجيب بأنه على عادة الله تعالى في إخباره عن الأمور المترقبة بلفظ الماضي تحقيقاً للوقوع ، أو أراد بدء الفتنة لأن السامري افترض غيبة موسى فعزم على إضلال قومه غب انطلاقه .

ولقائل أن يمنع كون هذه الأخبار عند مقدم موسى عليه السلام بل لعله عند رجوعه بدليل فاء التعقيب في قوله { فرجع موسى } قال جار الله إنه رجع بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأوتي التوراة . وسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة . وقيل : السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم . وقيل : كان علجاً من كرمان واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً وكان من قوم يعبدون البقر . قالت المعتزلة : الفتنة بمعنى الإضلال لا يجوز أن تنسب إلى الله تعالى لأنه يناقض قوله { وأضلهم السامري } وإنما الفتنة بمعنى الامتحان بتشديد التكليف ومنه « فتنت الذهب بالنار » وبيان ذلك أن السامريّ لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة الأجسام على أن العجل لا يصلح للإلهية . وقالت الأشاعرة : الشبهة في كون الشمس والقمر إلهاً أعظم من العجل الذي له خوار وهو جسد من الذهب وحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديداً في التكليف ، فلا يكون فتنة من هذا الوجه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم . وأجابوا عن إضافة الضلال إلى السامري بن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن كان الموجد لها في الحقيقة هو الله تعالى . قال بعضهم : الأسف المغتاظ ، وفرق بين الاغتياظ والغضب لأن الغيظ تغير يلحق المغتاظ فلا يصح إلا على الأجسام ، والغضب قد يراد به الإضرار بالمغضوب عليه فلهذا صح إطلاقه على الله سبحانه .
ثم عاتب موسى عليه السلام قومه بأمور منها : قوله { ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً } كأنهم كانوا معترفين بالرب الأكبر لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي تذكر عبدة الأصنام أو على تأويل الحلول . والوعد الحسن هو إنزال التوراة التي فيها هدى ونور . وقيل : هو الثواب على الطاعات ومثله ما روي عن مجاهد أن العهد المذكور من قوله { ولا تطغوا فيه } إلى قوله { ثم اهتدى } وقيل : وعدهم إهلاك فرعون ووعدهم أرضهم وديارهم وقد فعل . ومنها قوله { أفطال عليكم العهد } أي الزمان يريد مدة مفارقته لهم وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فاخلفوا موعده بعبادتهم العجل . وقيل : أراد عهدهم بنعم الله تعالى من الإنجاء وغيره . والأكثرون على الأول لما روي أنه وعدهم ثلاثين كما أمر الله تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } [ الأعراف : 142 ] فجاء بعد الأربعين لقوله تعالى { وأتممناها بعشر } ولما روي أنهم حسبوا العشرين أربعين ومنها قوله { أم أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم } قالوا : هذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحداً لا يريد هلاك نفسه ولكن المعصية - وهو خلاف الموعد - لما كانت توجب ذلك صح هذا الكلام لأن مريد السبب مريد للمسبب بالعرض .

احتج العلماء بالآية وبما مر من قوله { فيحل عليكم غضبي } أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام . وموعد موسى هو ما ذكرنا من أنهم وعدوه الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور . وقيل : وعدوه اللحاق به والمجيء على أثره { قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } بالحركات الثلاث أي بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده . والظاهر أن القائلين هم عبدة العجل . وقيل : إنهم الذين لم يعبدوا العجل وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل فلم يقدر على منعهم ولم يقدروا أيضاً على مخالفتهم حذراً من التفرقة وزيادة الفتنة . ثم إن القوم بينوا ذلك العذر المجمل فقالوا { ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم } أي أثقالاً من حلي القبط كما مر في « الأعراف » . وقيل : الأوزار الآثام وإنها في الحقيقة أثقال مخصوصة معنوية سموا بذلك لأن المغانم لم تحل حينئذ أو لأنهم كانوا مستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي . وقيل : إن تلك الحلي كان القبط يتزينون بها في مجامع الكفر ومجالس المعاصي فلذلك . وصفت بأنها أوزار كما يقال في آلات المعاصي { فقذفناها } أي في الحفرة ، كان هارون أمرهم بجمع الحلي انتظاراً لعود موسى ، أو في موضع أمرهم السامري بذلك بعد أن أوقد النار { فكذلك ألقى السامري } مثل فعلنا أراهم أنه يلقي حلياً في يده مثل ما ألقوه . وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطىء حافر فرس جبريل كما يجيء في قوله { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار } قد مر في « الأعراف » { فقالوا } أي السامري ومن تبعه { هذا إلهكم وإله موسى فنسي } موسى أن يطلبه ههنا فذهب يطلبه عند الطور ، أو فنسي السامري وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر ، أو نسي الاستدلال على أن العجل لا يجوز أن يكون إلهاً بقوله { أفلا يرون أن لا يرجع } « أن » مخففة من الثقيلة ولهذا لم تعمل . وقرىء بالنصب على أنها الناصبة . قال العلماء : ظهور الخوارق على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الالتباس ، وههنا كذلك فوجب أن لا يمتنع خلق الحياة في صورة العجل . وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال : ما تصنع؟ فقال : أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي . فقال : اللهم أعطه ما سألك . فلما مضى هارون قال السامري : اللهم إني أسألك أن يخور فخار . وعلى هذا التقدير يكون معجزاً للنبي لا السامري .

ثم إنه سبحانه أخبر أن هارون لم يأل نصحاً وإشفاقاً في شأن نفسه وفي شأن القوم قبل أن يقول لهم السامري ما قال . أما شفقته على نفسه فهي أنه أدخلها في زمرة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ، أما الامتثال فإنه امتثل في نفسه وفي شأن القوم أمر أخيه حين قال لهم { يا قوم إنما فتنتم به } قال جار الله : كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة فتنوا به واستحسنوه فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون فزجرهم عن الباطل أولاً بأن هذا من جملة الفتن .
ثم دعاهم إلى الحق بقوله { وإن ربكم الرحمن } ومن فوائد تخصيص هذا الاسم بالمقام أنهم إن تابوا عما عزموا عليه لإن الله يرحمهم ويقبل توبتهم . ثم بين أن الوسيلة إلى معرفة كيفية عبادة الله هو اتباع النبي وطاعته فقال { فاتبعوني وأطيعوا أمري } وهذا ترتيب في غاية الحسن . واعلم أن الشفقة على خلق الله أصل عظيم في الدين وقاعدة متينة . روى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس إذا نظر إلى شاب على باب المسجد فقال : من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه . فسمع الشاب ذلك فولى وقال : إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق ، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى يبر يمينه ولا تسفع النار أحداً . فهبط جبريل وقال : يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقدته من النار بتصديقه لك وفداء أمتك بنفسه وشفقته على الخلق . قال أهل السنة ههنا : إن الشيعة تمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم « أنت مني بمنزلة هارون من موسى » ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل ذلك الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعته ، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على عليّ كرم الله وجهه أن يفعل ما فعل هارون من غير تقية وخوف . وللشيعة أن يقولوا : إن هارون صرح بالحق وخاف فسكت ولهذا عاتبه موسى بما عاتب فاعتذر ب { إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } [ الأعراف : 15 ] وهكذا علي رضي الله عنه امتنع أولاً من البيعة فلما آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا . وإنما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصب . ثم إن القوم قابلوا حسن موعظة هارون بالتقليد والجحود قائلين { لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } ولا يخفى ما في هذا الكلام من أنواع التوكيد من جهة النفي ب « لن » ، ومن لفظ البراح والعكوف ، ومن صيغة اسم الفاعل ، ومن تقديم الخبر .

ثم حكى ما جرى بين موسى وهارون بعد الرجوع وقوله { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن } كقوله { ما منعك ألا تسجد } [ الأعراف : 12 ] في أن « لا » هذه مزيدة أم لا؟ . وقد مر في « الأعراف » . وفي هذا الإتباع قولان : فعن ابن عباس ما منعك من إتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم . وقال مقاتل : أراد الإتباع في وصيته كأنه قال : هلا قتلت من كفر بمن آمن ومالك لا تباشر الأمر كما كنت أباشره . قال الأصوليون : في قوله { أفعصيت أمري } دلالة على أن تارك المأمور به عاصٍ والعاصي يستحق العقاب لقوله { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم } [ الجن : 22 ] فيعلم منه أن الأمر للوجوب . واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام هل أمر هارون باتباعه أم لا؟ وعلى التقدير فهارون أتبعه أم لا؟ فإن لم يأمره أو أمره ولكن اتبعه فملامته لهارون من غير جرم تكون ذنباً ، وإن أمره ولم يتبعه كان هارون عاصياً . وأيضاً قوله { أفعصيت } بمعنى الإنكار . فإما أن يكون موسى كاذباً في نسبة العصيان إلى هارون ، وإما أن يكون هارون عاصياً . وأيضاً أخذه بلحية هارون وبرأسه إن كان بعد البحث والتفتيش فهارون عاصٍ وإلا فموسى . وأجيب بأن كل ذلك أمور اجتهادية جائزة الخطأ أو هي من باب الأولى وقد مر في أوائل « البقرة » في آدم ما يتعلق بهذه المسألة .
قوله : { ولم ترقب قولي } أي وصيتي لك بحفظ الدهماء واجتماع الشمل يؤيده قوله : { إني خشيت أن تقول فرقت } قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة ما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا في الدين ما تحملوا ، وأما قوم موسى فقد رأوا ذلك مع زيادة سائر الآيات التسع ومع ذلك اغتروا بصوت العجل وعكفوا على عبادته ، فعرفنا أن الغرض لا يحصل إلا بهداية الله تعالى . ولما فرغ موسى من عتاب هارون أقبل على السامري ، ويمكن أن يكون بعيداً ثم حضر أو ذهب إليه موسى ليخاطبه قال جار الله : الخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه . فإذا قيل : لمن يفعل شيئاً ما خطبك؟ فمعناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنيعه { قال } أي السامري } بصرت بما لم يبصروا به } قال ابن عباس ورواه أبو عبيدة : علمت بما لم يعلموا به من البصارة . يعني العلم . وقال الآخرون : رأيت بما لم تروه فالباء للتعدية ، رجح العلماء قراءة الغيبة على الخطاب احترازاً من نسبة عدم البصارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

والقبضة بالفتح مصدر بمعنى المفعول وهو المقبوض بجميع الكف . عامة المفسرين على أن المراد بالرسول جبريل عليه السالم وأثره التراب الذي أخذه من موقع حافر دابته واسمها حيزوم فرس الحياة . ومتى رآه؟ الأكثرون على أنه رآه يوم فلق البحر كان جبريل على الرمكة وفرعون على حصان وكان لا يدخل البحر ، فتقدم جبريل فتبعه فرس فرعون . وعن علي رضي الله عنه أن جبريل لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس وكان راكب حيزوم فقال : إن لهذا شأناً فقبض من تربة موطئه . فمعنى الآية فقبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد . ثم من المفسرين من جوز أن السامري لم يعرف أنه جبريل ومنهم من قال : إنه عرفه . عن ابن عباس : إنما عرفه لأنه رباه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بقتل أولاد بني إسرائيل . فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس . فكان السامري أخذه جبريل وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه . وقال أبو مسلم : إطلاق الرسول على جبريل في المقام من غير قرينة تكليف بعلم الغيب . وأيضاً تخصيص السامري من بين الناس برؤية جبريل وبمعرفة خاصية تراب حافر دابته لا يخلو عن تعسف ، ولو جاز اطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول : لعل موسى اطلع على شيء آخر لأجله قدره على الخوارق . فالأولى أن يراد بالرسول موسى فقد يواجه الحاضر بلفظ الغائب كما يقال : ما قول الأمير في كذا؟ ويكون إطلاق الرسول منه على موسى نوعاً من التهكم لأنه كان كافراً به مكذباً . وأراد بأثره سنته ورسمه من قولهم « فلان يقفو أثر فلان » أي عرفت أن الذي عليه ليس بحق وقد كنت قبضت شيئاً من سنتك فطرحتها . فعلى قول العامة يكون قوله : { وكذلك سوّلت لي نفسي } إشارة إلى ما أوحي إليه وليه الشيطان أن تلك التربة إذا نبذت على الجماد صار حيواناً . وعلى قول أبي مسلم يشير إلى أن اتباع أثرك كان من تسويلات النفس الأمارة فلذلك تركته . ثم بين موسى أن له عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة . يروى أنه أراد أن يقتله فمنعه الله من ذلك وقال : لا تقتله فإنه سخيّ . وفي قوله : { لامساس } وجوه : الأوّل إنه حرم عليه مماسة الناس لأنه إذا اتفق أن هناك مماسة فأحدهم الماس والثاني الممسوس فلذلك إذا رأى أحداً صاح لا مساس . ويقال : إن قومه باقٍ فيهم ذلك إلى الآن الثاني : أن المراد منع الناس من مخالطته . قال مقاتل : إن موسى أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له : اخرج أنت وأهلك طريداً إلى البراري .

اعترض الواحدي عليه بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول : هو لامساس . وإنما يقال له ذلك . وأجيب بأن هذا على الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك لم تقل إلا لا مساس . والثالث : قول أبي مسلم إن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يمكن له مماسة المرأة أي مجامعتها . وأما حاله في الآخرة فلذلك قوله : { وإن لك موعداً لن تخلفه } قال جار الله : من قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً . ثم بين مآل حال إلهه فقال : { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً } أي ظللت فحذف إحدى اللامين تخفيفاً { لنحرقنه } من الإحراق ففيه دليل على أنه صار لحماً ودماً لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار ونسفه في الميم . قال السدي : أمر موسى بذبحه فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف . والنسف النقض ومن جعله من الحرق أي لنبردنه بالمبرد ففيه دلالة على أنه لم ينقلب حيواناً إلا إذا أريد برد عظامه . ومن جعله من التحريق فإنه يحتمل الوجهين والمراد إهدار السامري وإبطال كيده ومحق صنيعه والله خير الماكرين . ثم ختم الكلام ببيان الدين الحق فقال : { إنما إلهكم } أي المستحق للعباد والتعظيم { الله الذي لا إله إلاَّ هو وسع كل شيء علماً } قد مر مثله في « الأنعام » قال مقاتل : أي يعلم من يعبده .
وحين فرغ من قصة موسى شرع في تثبيت رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال : { كذلك } أي نحو اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون والسامري { نقص عليك من } سائر أخبار الرسل مع أممهم تكثيراً لمعجزاتك . ثم عظم شأن القرآن بقوله : { وقد آتيناك من لدنا ذكراً } أي ما ذكر فيه كل ما يحتاج إليه المكلف في دنيه وفي دنياه والوزر العقوبة الثقيلة التي تنقض ظهر صاحبها ، أو المراد جزاء الوزر وهو الإثم { خالدين فيه } أي في ذلك الوزر أو في احتماله { وساء } فيه ضمير مبهم يفسره { حملاً } والمخصوص محذوف للقرينة أي ساء حملاً وزرهم . واللام في { لهم } للبيان كما في { هيت لك } [ يوسف : 23 ] ويجوز أن يكون « ساء » بمعنى « قبح » ويكون فيه ضمير الوزر . وانتصب { حملاً } على التمييز و { لهم } حال من { حملاً } ولا أدري لم أنكره صاحب الكشاف ، اللَّهم إلا أن يمنع وقوع الحال من التمييز وفيه نظر . قال ابن السكيت : الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس : وفي الصور قولان : أشهرهما أنه القرن يؤيده قوله : { فإذا نقر في الناقور } [ المدثر : 8 ] وإنه تعالى يعرّف أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوقات عند الأسفار وفي العساكر فجعل الله تعالى النفخ في تلك الآلة علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات .

وأقربهما من المعقول أن الصور جمع صورة يؤكده قراءة من قرأ بفتح الواو . يقال : صورة وصور كدرة ودرر . والنفخ نفخ الروح فيها ولكنه يرد عليه أن النفخ يتكرر لقوله تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى } [ الزمر : 68 ] والإحياء لا يتكرر بعد الموت إلا ما ثبت من سؤال القبر وليس هو بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق { ونحشر المجرمين } عن ابن عباس : هم الذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر . وقال المعتزلة : هم الكفار والعصاة . وفي الزرق وجوه : قال الضحاك ومقاتل : إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب ، لأن الروم أعداؤهم وإنهم زرق العيون ، ومن كلامهم في صفة العدوّ « أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين » . وقال الكلبي : { رزقاً } أي عمياً . قال الزجاج : يخرجون بصراء في أول أمرهم لقوله : { ليوم تشخص فيه الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] ولقوله : { اقرأ كتابك } [ الإسراء : 14 ] ثم يؤل حالهم إلى العمى وإن حدقة من يذهب نور بصرة تزرق . وقيل { زرقاً } أي عطاشا لقوله : { ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً } [ مريم : 86 ] فكأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي { يتخافتون } يتسارون { بينهم } من شدة خوفهم أو لأن صدورهم امتلأت رعباً ، وهؤلاء يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لأنها أيام سرورهم وهن قصار ، وإما لأنها قد انقضت والذاهب قليل وإن طال ولا سيما بالنسبة إلى الأبد السرمدي كأن ظنينهم يقول : قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى لبثنا في الآخرة كعشرة أيام . فقال أعقلهم : بل كاليوم الواحد . وإنما قال : { عشراً } لأن المراد عشر ليال . وقال مقاتل : أراد عشر ساعات أي بعض يوم . وعلى هذا فأفضلهم رد عليهم استقصارهم وتقالهم . وقيل : المراد لبثهم في القبور .
قال أهل النظم : كأن سائلاً سأل : كيف يصح التخافت بين المجرمين والجبال حائلة مانعة؟ فلذلك قال : { ويسألونك عن الجبال } وقال الضحاك : إن مشركي مكة قالوا على سبيل الاستهزاء : يا محمد كيف يكون حال الجبال يوم القيامة؟ فنزلت . ويحتمل أن يكون هذا جواب شبهة تمسك بها منكرو البعث - منهم جالينوس - زعم أن الأفلاك لا تفنى لأنها لو فنيت لابتدأت بالنقصان حتى تنتهي إلى البطلان ، وكذا الجبال وغيرها من الأجرام الكلية ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم هذه المسألة الأصولية من غير تأخير ولهذا أدخل فاء التعقيب في الجواب . والنسف القلع . وقال الخليل : التطيير والإذهاب كأنه يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها . وحاصل الجواب أن كل بطلاً لا يلزم أن يكون ذبولياً بل قد يكون رفعياً . والضمير في { فيذرها } للمضاف المحذوف أي فيدع مقارها ومراكزها وهو للأرض للعلم بها كقوله : { ما ترك على ظهرها } [ فاطر : 45 ] والقاع المستوي من الأرض . وقيل : المكان المطمئن . وقيل : مستنقع الماء .

والصفصف الأرض الملساء المستوية . وقيل : التي لا نبات فيها . والأمت النتوّ اليسير . وقيل : التلال الصغار . قالوا : العوج بالكسر في المعاني وكأنه سبحانه نفى العوج الذي يدق عن الإحساس ولا يدرك إلا بالقياس الهندسي . وإذا كان هذا النوع من العوج الاعتباري منتفياً فكيف بالعوج الحسي! وقد يستدل بالآية على أن الأرض يومئذ تكون كرة حقيقة إذ لو كانت مضلعة وقعت بين الأضلاع فصول مشتركة فيعوج الامتداد القائم عليها هناك . ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم بأن الخلائق فيه { يتبعون الداعي } قيل : هو النفخ في الصور وقوله : { لا عوج له } أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل . وقيل : إن إسرافيل أو ملكاً آخر يقوم على صخرة بيت المقدس ينادي : أيها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة ، قومي إلى ربك للحساب والجزاء فلا يعوج له مدعوّ بل يتبعون صوته من غير انحراف . { وخضعت الأصوات للرحمن } خفضت من شدة الفزع { فلا تسمع } أيها السامع { إلا همساً } وهو الصوت الخفي . وذلك أن الجن والإنس علموا أن لا مالك لهم سواه ، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول غمه . وعن ابن عباس والحسن وعكرمة وابن زيد الهمس وطء الأقدام إلى المحشر . قوله : { إلا من أذن له الرحمن } يصلح أن يكون « من » منتصباً على المفعولية وأن يكون مرفوعاً على البدلية بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن { ورضي له } أي لأجله { قولاً } .
قال الإمام فخر الدين الرازي : الاحتمال الأول أولى لعدم التزام الإضمار ، ولأن درجة الشافع درجة عظيمة فلا تصلح ولا تحصل إلا لمن أذن له فيها وكان عند الله مرضياً . فلو حملنا الآية على ذلك كان من إيضاح الواضحات بخلاف ما لو حملت على المشفوع . وأقول : الاحتمالان متقاربان متلازمان لأن المشفوع لا تقبل الشفاعة في حقه إلا إذا أذن الرحمن لأجله فيعود إلى الثاني . قالت المعتزلة : الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوب أن لا ينتفع بشفاعة الرسول . وأجيب بأنه قد رضي لأجله قولاً واحداً من أقواله وهو كلمة الشهادة . قالوا : هب أن الفاسق قد رضي الله قولاً لأجله ، فلم قلتم إن الإذن حاصل للشافع في حقه؟ والجواب أنا أيضاً نمنع من أن الإذن غير حاصل في حقه على أنه قال في موضع آخر { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] فلم يعتبر إلا أحد القيدين . ثم أخبر عن نهاية علمه بقوله : { يعلم ما بين أيديهم } . الضمير للذين يتبعون الداعي أي يعلم ما يقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه { ولا يحيطون } بمعلومه { علماً } . وقال الكلبي ومقاتل : الضمير للشافعين من الملائكة والأنبياء كما مر في آية الكرسي . وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له أي يعلم ما كان قبل خلقهم وما كان منهم بعد خلقهم من أمر الآخرة والثواب العقاب وإنهم لا يعلمون شيئاً من ذلك فكيف يصلحون للمعبودية .

ثم ذكر غاية قدرته فقال : { وعنت الوجوه } أي زلت رقاب الممكنات منقادين لأمره كالأسارى . عنا يعنو عنوّاً إذا صار أسيراً . وقيل : أراد وجوه العصاة في القيامة كقوله : { سيئت وجوه الذي كفروا } [ الملك : 27 ] ولعله خص الوجوه بالذكر لأن أثر الذل والانكسار فيها أبين وأظهر ، قال جار الله : { وقد خاب } وما بعده اعتراض أي كل من ظلم فهو خائب خاسر . ولأهل السنة أن يخصوا الظلم ههنا بالشرك أو يعارضوا هذا العموم بعمومات الوعد . من قرأ { فلا يخاف } بالرفع فعلى الاستئناف أي فهو لا يخاف كقوله : { فينتقم الله منه } [ المائدة : 95 ] ومن قرأ { فلا يخف } فمعناه فليأ من له لأن النهي عن الخوف أمر بالأمن . من فسر الظلم بأنه الأخذ فوق حقه بالنقص من حقه كصفة المطففين فيقدر مضافاً محذوفاً أي فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم لأنه لم يظلم ولم يهضم ، ومن فسر الظلم بأنه العقاب لا على جريمة والهضم بأنه النقص من الثواب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف . قال أبو مسلم : الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفى حقه من التعظيم لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثواباً إلا إذا قارنه التعظيم .
قال جار الله : { وكذلك } عطف على قوله : { كذلك نقص } أي ومثل ذلك الإنزال وعلى نهجه ، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله عربياً لأن العرب أصل وغيرهم تبع لأن النبي عربي . { وصرفنا فيه من الوعيد } كررناه وفصلناه ويدخل في ضمنه الفرائض والمحارم لأن الوعيد يتعلق بترك أحدهما وبفعل الآخر { لعلهم يتقون أن يحدث لهم ذكراً } حمل جار الله الأول على إرادة ترك المعاصي والثاني على فعل الخبر والطاعة ، لأن الذكر قد يطلق على الطاعة والعبادة . قلت : لا ريب أن القرآن ينفر عن السيئات ويبعث على الطاعات من حيث إن فهم معانيه يؤدّي إلى ذلك ، وإنما قدم الأول على الثاني لأن التخلية مقدمة على التحلية . ويحتمل أن تكون التقوى عبارة عن فعل الخيرات وترك المنكرات جميعاً . والذكر يكون محمولاً على ضد النسيان أي إن نسوا شيئاً من التروك والأفعال أحدث لهم ذكراً إذا تأملوا معانية . وكلمة « أو » على الأول للتخيير والإباحة لا للتنافي ، وعلى الثاني يجوز أن تكون للتنافي . وقيل : أراد أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يوجب القرآن لهم ذكراً أي شرفاً ومنصباً كقوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] وعلى التقديرين يكون في إنزال القرآن نفع . ثم عظم شأن القرآن من وجه آخر وهو عظمة شأن منزلة قائلاً { فتعالى الله الملك الحق } ارتفع صفاته عن صفات المخلوقين أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وأنه منزه عن الانتفاء والتضرر بطاعاتهم ومعاصيهم .

ومعنى الحق قد مر في البسملة . قال جار الله : فيه استعظام له ولما يصرّف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه وغير ذلك كما يجري عليه أمر ملكوته . قال أبو مسلم : إن قوله : { ويسئلونك عن الجبال } إلى ههنا كلام تام . وقوله : { ولا تعجل } خطاب مستأنف . وقال آخرون : إنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يفوته شيء فيقرأ مع الملك ، فإنه تعالى حين شرح كيفية نفع القرآن للمكلفين وبين أنه سبحانه متعال عن الانتفاع والتضرر بالطاعات والمعاصي . وأنه موصوف بالملك الدائم والعز بالباقي ، وكل من كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي وما يتعلق بصلاح العباد في المعاش والمعاد . قال : { ولا تعجل بالقرآن } لأنه حصل لك الأمان من السهو والنسيان { من قبل أن يقضي إليك وحيه } أي من قبل أن تتم قراءة جبريل ونحوه قوله { لا تحرّك به لسانك لتعجل به } [ القيامة : 16 ] قاله مقاتل والسدي وابن عباس في رواية عطاء . وقال مجاهد وقتادة : أراد ولا تعجل بالقرآن فتقرأ على أصحابك من قبل أن يوحى إليك بيان معانية أي لا تبلغ ما كان مجملاً حتى يأتيك البيان . وقال الضحاك : إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا : يا محمد ، أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة أن اليهود قد غلبوا فنزلت هذه الآية . أي لا تعجل بنزول القرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومن جبرائيل ومنه إليك . وعن الحسن : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : زوجي لطم وجهي فقال : بينكما القصاص فنزلت الآية فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصاص . وإنما نشأت هذه الأقوال لأن قوله : { ولا تعجل بالقرآن } يحتمل التعجيل بقراءته في نفسه ، أو في تأديته إلى غيره ، أو في اعتقاده ظاهره ، أو في تعريف الغير ما يقتضيه الظاهر . وقوله : { من قبل أن يقضى إليك وحيه } احتمل أن يراد من قبل أن يقضى إليك تمامه ، أو من قبل أن يقضى إليك بيانه فقد يجوز أن يحصل عقيبه استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات والمبينات ويؤكد هذه المعاني قوله : { وقل رب زدني علماً } لأن معرفة البيان علم زائد على معرفة الإجمال . والظاهر أن هذا الاستعجال كان أمراً اجتهادياً وكان الأولى تركه فلذلك نهى عنه . قال جار الله : هذا الأمر متضمن للتواضع لله والشكر له عندما علم من ترتيب التعلم أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي فزدنى علماً إلى علم . ومن فضائل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم .

وفيه إشارة إلى أن أسرار القرآن غير متناهية ، اللَّهم إن هذا العبد الضعيف معترف بقصوره ونقصانه فأسألك مما سألك به نبيك أن ترزقني بتبعيته علماً ينفعني في الدارين .
التأويل : { ولقد أوحينا إلى موسى } القلب { أن أسر بعبادي } وهم صفات القلب من الأخلاق الحميدة سر بهم من مصر البشرية إلى بحر الورحانية . { فاضرب لهم } بعصا الذكر { طريقاً يبساً } من ماء الهوى وطين الصفات الحيوانية وباقي التأويل كما مر في « يونس » { ونزلنا عليكم } منّ صفاتنا وسلوى أخلاقنا فاتصفوا بطيبات أخلاقنا { ولا تطغوا فيه } بإفشاء أسرار الربوبية إلى غيرنا كمن قال : أنا الحق وسبحاني . فإن الحالات لا تصلح للمقاولات . { وإني لغفار لمن } رجع عن الطغيان { وآمن } بالربوبية { وعمل صالحاً } في مقام العبودية { ثم اهتدى } فتحقق أن حضرة الربوبية منزهة عن دنس الوهم والخيال ومقام الوصال مباين للقيل والقال . { وعجلت إليك } فيه أن الشوق إذا غلب انقطع العلائق وأن مطلوب السائل لا ينبغي أن يكون إلا رضا الله . { قد فتنّا قومك من بعدك } فيه أن فتنة الأمة والمريد مقرونة بالنبي والشيخ . { بملكنا } أي بإرادتنا ومشيئتنا ولكن بإرادة الله ومشيئته . { فكذلك ألقى السامري } من غير اختيار منه ولكن باضطرار من القدر { با ابن أم } قيل خاطبه بذلك ليذكره قول الملائكة : يا ابن النساء الحيض ما للتراب ورب الأرباب . { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } فيه أن الكرامة لأهل الكرامة كرامة ولأهل الغرامة استدراج وفتنة فيصرفونها في الباطل والطبيعة لا في الحق والحقيقة . قوله : { لامساس } فيه معارضة بنقيض مقصود من أراد الجمعية والغلبة واتباع الناس إياه ، فعدت بالتفرد والتوحش والنفار عن الخلق { زرقا } إن الوجه أشرف أعضاء الإنسان والعين أشرف أعضاء الوجه ، وزرق العين دلالة على خروجها عن الاعتدال ، وإذا كان أشرف الأعضاء خارجاً عن الاعتدال فما ظنك بغيرها؟ وكذا بالأخلاق التابعة للأمزجة . { وعنت الوجوه } أي كل جهة بها يستند الممكن إلى الواجب . { يتبعون الداعي } لأن كل ناس تدعى بإمامهم فيتبعونه ألبتة وأهل الله لا يفرون إلا إلى الله في قوله : { والله يدعوا إلى دار السلام } [ يونس : 25 ] وعلى الله السمتعان .

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

القراآت : { وإنك } بالكسر : أبو بكر وحماد والخراز ونافع . الباقون بالفتح عطفاً على { أن لا تجوع } ولا يلزم منه دخول « إن » المكسورة على المفتوحة للفصل بالخبر ، ولأنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه { أعمى } بالإمالة . حمزة وعلي وخلف { حشرتني } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير . { ترضى } مبيناً للمفعول : علي وأبو بكر وحماد والمفضل { زهرة } بفتح الهاء : قتيبة وسهل ويعقوب . الآخرون بسكونها . وقرأ حمزة وعلي وخلف هذه السورة وكل سورة آياتها على الياء بالإمالة المفرطة وإن شاء بين الفتح والكسر .
الوقوف : { عزماً } 5 { إلا إبليس } ط { أبى } 5 { فتشقى } 5 { ولا تعرى } 5 ، لمن قرأ { وإنك } بالكسر { ولا تضحى } 5 { لا يبلى } 5 { الجنة } ز لنوع عدول عن ذكر حال اثنين إلى بيان فعل من هو المقصود { فغوى } 5 ص { وهدى } 5 { عدوّ } ج لابتداء الشرط مع الفاء { ولا يشقى } ، 5 { يوم القيامة أعمى } 5 { بصيراً } 5 { فنسيتها } ج لعطف المختلفين { تنسى } 5 { يآت ربه } ط { وأبقى } 5 { مساكنهم } ط { النهي } 5 { مسمى } 5 ط { غروبها } ج لعطف الجملتين مع اختلاف النظم { يرضى } 5 { لنفتنهم فيه } ط { وأبقى } 5 { عليها } ط { رزقاً } ط { نرزقك } ط { للتقوى } 5 { من ربه } ط { الأولى } 5 { ونخزى } 5 { فتربصوا } ج لسين التهديد مع الفاء { اهتدى } 5 .
التفسير : في تعلق قصة آدم بما قبلها وجوه منها : أنه لما قال : { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } ثم عظم شأن القرآن وبالغ فيه ذكر القصة إنجازاً للوعد . ومنها أنه لما قال : { وصرفنا فيه من الوعيد } أردفه بهذه القصة ليعلم أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم وخلة موروثة ، وذلك أنه عهد إلى آدم من قبل هؤلاء الذين صرف لأجلهم الوعيد فنسي وترك العهد . ومنها أن قوله : { ولا تعجل بالقرآن } دليل على أنه صلى الله عليه وسلم زاد على قدر الواجب في رعاية أمر الدين وكان مفرطاً في أداء الرسالة وحفظ ما أمر به فناسب أن يعطف عليه قصة آدم لأنه كان موسوماً بالتفريط والإفراط والتفريط كلاهما من باب ترك الأولى ، وإذا كان أوّل الأنبياء وخاتمهم موصوفين بما فيه نوع تقصير فما ظنك بغيرهما! ومن هنا يعرف أفضلية الخاتم فإنه سعى في طلب الكمال إلى أن عوتب بالخروج عن حد الاعتدال ، وآدم توسط في حيز النقصان فلا جرم وسم بالظلم والعصيان . ومنها أن محمداً صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقول { رب زدني علماً } ثم ذكر عقيبه قصة آدم تنبيهاً على أن بني آدم مفتقرون في جميع أحوالهم إلى التضرع واللجأ إلى الله حتى ينفتح عليهم أبواب التيسير في العلم والعمل .

ومعنى { عهدنا إلى آدم } أمرناه ووصيناه { من قبل } أي من قبل محمد والقرآن . وفي النسيان قولان : أحدهما أنه نقيض الذكر . عن الحسن : والله ما عصي قط إلا بنسيان . والثاني أن معناه الترك وعلى هذا يحتمل أن يقال : أقدم على الأكل من غير تأويل . وأن يقال : أقدم عليه بتأويل قد مر في « البقرة » . قال أهل الإشارة : عهد إليه أن لا يعلق نوره فانقاد للشيطان وهو النسيان . والعزم أيضاً فيه أقوال : أحدها عزماً على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمد . وثانيها عزماً في العود إلى الذنب ثانياً . وثالثها رأياً وصبراً أي لم يكن من أهل العزيمة والثبات إذ كان من حقه أن يتصلب في المأمور به تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل . قال جار الله : قوله : { ولم نجد له } يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه { له عزماً } وأن يكون بمعنى نقيض العدم كأنه قال : وعد مثاله عزماً . قوله : { وإذ قلنا للملائكة } سلف في « البقرة » مستقصى قوله : { إن هذا عدوّ لك } ذكروا في سبب عداوته إياه أنه كان شاباً عالماً لقوله : { وعلم آدم الأسماء كلها } وإبليس كان شيخاً جاهلاً لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله ، والشيخ الجاهل أبداً يكون عدوّاً للشاب العالم . وأيضاً الماء والتراب مضادان للنار { فلا يخرجنكما } فلا يكون سبباً لإخراجكما لأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه { فتشقى } فتتعب في طلب القوت وسائر ما يتعيش به الإنسان أسند الشقاء إليه وحده مع اشتراكهما في الخروج لأن الرجل أصل في باب الإنفاق والكسب والمرأة تابعة له .
ثم بين ذلك الشقاء بقوله : { إن لك أن تجوع فيها } إلى آخره . والظمأ العطش وتقول : ضحيت للشمس بالكسر أضحى ضحاء ممدوداً إذا برزت لها . والمراد به الكن مع أن الجنة ليس فيها شمس حتى يتصور فيها الضحاء ، نفى كون هذه الأمور في الجنة ليثبت حصولها في غيرها . ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي : الشبع والري الكسوة والكن . وأما المنكوح فمشترك إلا أن مؤن النكاح تختص بالدنيا وأنها أيضاً ترجع إلى المذكورات . يروى أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع . { فوسوس إليه الشيطان } أنهى إليه وسوسة كما مر في « الأعراف » . بيان الوسوسة أنه { قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } أضافها إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنه من باشر أثره حيي { وملك لا يبلى } أي لا ينقطع ولا يزول . قال القاضي : ليس في الظاهر أنه قيل ذلك منه لأنه لا بد أن يحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فصل بالموت ، والنبي يمتنع أن لا يعلم هذا القدر .

وأجيب بالمنع ولو سلم فلم لا يكفي الفصل بغشي أو نوح خفيف . ولو سلم أنه لا يكفي فلم استحال أن يجهل النبي ذلك كما جهل عدم جواز الرؤية زعمكم حين قال : { أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] ومما يدل على أن آدم قبل وسوسته قوله تعالى : { فأكلا } بالفاء مشعر بالعلية كقول الصحابي : « زنى ماعز فرجم » وما في الآية قد مر تفسيره في « الأعراف » إلا قوله : { وعصى آدم ربه فغوى } قال بعض الناس : إن آدم ذنبه كبيرة وإلا لم يوصف بالعصيان والغواية فإن العاصي والغاوي اسمان مذمومان عرفاً وشرعاً وقد ترتب الوعيد عليهما . وأجيب بأن المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون مندوباً . وزيف بالمنع من أن المندوب غير مأمور به . ثم أن مخالفة عاص وإلا كان الأنبياء كلهم عصاة لأنهم لا ينكفون عن ترك المندوب . قالوا : يقال أشرت إليه في أمر كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني . وأجيب بالمنع من أن هذا من مستعملات العرب العاربة ، ولو سلم فلعله إنما يقال ذلك إذا عرف أن المستشير لا بد له أن يفعل ذلك ، وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً وإن لم يكن وجوب شرعي لأن ذلك الإيجاب لم يصدر عن الشارع . ومنهم من زعم أنه ذنب صغير وهم عامة المعتزلة ورد بأن المعاصي إسم من يستحق العقاب وهذا لا يليق بالصغيرة . وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ولهذا قال سبحانه { فغوى } أي خاب من نعيم الجنة لأن الرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود والغي ضده ، وأنه سعى في طلب الخلود فنال ضد المقصود . وعن بعضهم { فغوى } أي بشم من كثرة الأكل وزيفه جار الله . ورد قول أبي مسلم بأن مصالح الدنيا تكون مباحة فلا يوصل تاركها بالعصيان .
قلت : في هذا نظر ، والأحوط في هذا الباب أن يعتقد كون هذه الواقعة قبل النبوة بدليل قوله : { ثم اجتباه ربه } أي اختاره للرسالة { وهدى } لحفظ أسباب العصمة . أصل الاجتباء هو الجمع كما مر في آخر « الأعراف » . يروى عن أبي أمامة : لو وزنت أحلام بني آدم لرجح حلمه . وقد قال الله تعالى : { ولم نجد له عزماً } قال العلماء : فيه دليل على أنه لا رادَّ لقضائه وما قدره كائن لا محالة ، وإذا جاء القضاء عمي البصر والدليل قد يكون غاية الظهور ومع ذلك يخفى على أعقل الناس كما خفي على آدم عداوة إبليس ، وأنه تعرّض لسخط الله في شأنه حين امتنع من سجوده فكيف قبل من وسوسة { لولا كتاب من الله سبق } [ الأنفال : 68 ] قال المحققون : الأولى أن لا يطلق لفظ العاصي والغاوي على آدم عليه السلام وإن ورد في القرآن { وعصى آدم ربه فغوى } لأنه لم تصدر عنه الزلة إلا مرة واحدة .

وصيغة اسم الفاعل تنبىْ عن المزاولة ، ولأن المسلم إذ تاب عن الشرب أو الزنا وحسنت توبته لا يقال له شارب وزان ، ولأن السيد يجوز له أن يشتم عبده بما شاء وليس لغيره ذلك . { قال اهبطا } قد مر تفسير مثله في « البقرة » خاطبهما بالهبوط لأنهما أصلا البشر ثم عم الخطاب لهما ولذريتهما في قوله { فإما يأتينكم } أما قوله : { بعضكم لبعض عدوّ } فقد قال القاضي : يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس والناس أعداء لهم ، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام . عن ابن عباس : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا قوله : { فمن ابتع هداي فلا يضل ولا يشقى } والسبب فيه أن العقاب في الآخرة لأجل أنه قد ضل عن الدين في مدة التكليف ، واتباع كتاب الله يستلزم عدم الضلال عن الدين المستتبع للنجاة من العقاب في الآخرة . وأما الشقاء الذي قد يلحق المؤمن في الدنيا فلا اعتداد به لقصر مدته على أن الرضا بالقضاء يهوّن عليه مصائب الدنيا وآفاتها . ثم ذكر وعيد من أعرض عن ذكره ظاهر الكلام يدل على أن الذكر ههنا هو الهدى المذكور لأن قوله : { ومن أعرض عن ذكري } في مقابلة قوله : { فمن اتبع هداي } . وقد مر في أول « البقرة » أن المراد به الشريعة والبيان . وقال كثير من المفسرين : إن الذكر هو القرآن وسائر كتب الله وفيه نوع تخصيص . والضنك الضيق مصدر وصف به . ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث . يقال : منزل ضنك ومعيشة ضنك كأنه قيل : ذات ضنك . قالت الحكماء : عيش الدنيا ضنك ضيق لانقضائه وقصر مدّته وكثرة شوائبه ، وإنما العيش الواسع عيش الآخرة . وهذا الضيق المتوعد به إما في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة مال إلى كل طائفة . أما لأول فلأن المسلم الراضي بقضاء ربه معه من التسليم والتوكل والقناعة ما يعيش به عيشاً رافغاً . والمعرض عن الدين متول عليه الحرص والشح فلا ينفك عن الانقباض ولطموح ما ليس يناله من الفراغ والرفاغ الكلي فلا هم له إلا هم الدنيا . عن ابن عباس : المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها ، ومن الكفرة من ضربت عليه الذلة والمسكنة . وسئل الشبلي عن قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية » فقال : أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأيّ معيشة أضيق وأشد من أن يرد الأنسان إلى نفسه . قلت : التحقيق أن بعض البليات من العقوبات فطلب العافية منها لازم ، وبعضها لمزيد الدرجات ولكن الإنسان خلق ضعيفاً فكثيراً ما يؤل أمر المبتلي إلى الجزع والفزع فيحرم الثواب فتطلب العافية من هذا القسم أيضاً خوفاً من المآل .

وأما الثاني فعن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه : « عذاب القبر للكافر » وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الله المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه . وأما الثالث فعن الحسن وقتادة والكلبي أنه ضيق في الآخرة وفي جهنم ، وأ طعامهم فيها الضريع والزقوم والحميم والغسلين ، فلا يموتون فيها ولا يحيون .
أما قوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى } كقوله : { ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً } [ طه : 102 ] فيمن فسر الزرق بالعمى { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } [ الإسراء : 97 ] { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } [ الإسراء : 72 ] قال الجبائي : أراد أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيراً كالأعمى . وعن مجاهد والضحاك ومقاتل أنه أراد أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال القاضي : هذا القول ضعيف لأنه لا بد في القيامة أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه بتمييزه لهم الحق من الباطل ، ومن هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً باعتبار ما كان ، لكن قوله : { وقد كنت بصيراً } ينافيه . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا ، فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما في الدنيا . قال : والتحقيق في الجواب عن الاعتراض هو أن النفوس الجاهلة في الدنيا إذا فارقت أبدانها تبقى على جهالتها في الآخرة فتصير تلك الجهالة سبباً لأعظم الآلام الروحانية . وأقول على القاضي : يحتمل أن يكون مجازاً باعتبار الغاية . فقد ينفي الشيء باعتبار عدم غايته وثمرته فلا ينافي كونه أعمى في الآخرة بهذا الاعتبار إعلام الله تعالى إياه الحجة ، ولا كونه بصيراً في الدنيا كونه أعمى في الآخرة بالاعتبار المذكور لأن المعرض عن الدليل يشبه أن يكون كافراً معانداً ، ويكون الغرض من الإعلام التوبيخ والإلزام يؤيده قوله تعالى في جوابه : { كذلك } أي مثل ذلك فعلت أنت . ثم فسر ذلك بقوله : { أتتك آياتنا } أي دلائلنا وضاحة مستنيرة { فنسيتها } أي تركت العمل بها والقيام بموجبها { وكذلك اليوم تنسى } تترك بلا فائدة النظر والاعتبار . وعلى الإمام الرازي : إنه لا يلزم من كون المكلف غير متضرر بنسيان الدلائل في الدنيا كونه غير متضرر به في الآخرة . وأما قوله في الجواب المحقق بناء على قاعدة الحكيم إن جهل النفس يصير سبباً لتعذيبها فإن كان منعاً لقول المعتزلة إنه تعالى يعلم المكلف بطلان ما كان عليه في الدنيا فذاك لا يفتقر إلى العدول ، وإن كان تسليماً لقولهم فمن أين يتحمل الاعتراض هذا وقد رأيت في بعض الآثار أن أشد الناس عمى يوم القيامة هم الذين حفظوا القرآن ثم نسوه .

دليله قوله تعالى : { أتتك آياتنا فنسيتها } اللَّهم اجعلني ممن يواظب على تلاوة كتابك حتى لا أنساه يوم ألقاك . { وكذلك نجزي من أسرف } قيل : عصى ربه . والأظهر أنه أراد أشرك وكفر بدليل قوله : { ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة } وهو الحشر على العمى { أشد وأبقى } من ضيق المعيشة في العاجل أو أراد ، وتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا .
ثم وبخ المعرضين عن الدلائل بعدم الاعتبار بأحوال القرون الخالية فقال : { أفلم يهد لهم } بالفاء وفي السجدة بالواو ، لأن الكلام ههنا كالمتصل بقوله : { ومن أعرض عن ذكري } وهناك كالمنفصل عن الإعراض لأنه قال : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } [ السجدة : 22 ] . وبعد ذلك أورد قصة موسى فناسب الاستئناف بالواو ، وأما حذف من ههنا وإثباته هنالك فلما مر من أن « من » تفيد الاستيعاب وهنالك قد زاد في القرون بشرح قصة بني إسرائيل وما فيهم من الملوك والأنبياء . قال في الكشاف : فاعل : { لم يهد } الجملة بعده . وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجملة لا تقع فاعلاً فلهذا قال : يريد أو لم يهد لهم هذا المعنى أو مضمون هذا الكلام . قال القفال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم . وقال الزجاج : أراد أَوَ لَمْ نبين لهم ما يهدون به لو تدبروا وتأملوا . وقيل : فيه ضمير الله أو الرسول والجملة بعده تفسره يريد أن قريشاً يتقلبون في السورة . قال بعض أهل اللغة : إن للنبيه مزية على العقل فلا يقال إلا لمن له عقل ينتهي به عن القبائح فقوله : { أولي النهى } كقوله : { أولي العزم } [ الأحقاف : 35 ] والحزم ومن هذا فسره بعضهم بأهل الورع والتقوى .
ثم بين الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كذب من هذه الأمة فقال : { ولولا كلمة } هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة كتبها في اللوح المحفوظ وأخبر بها ملائكته ورسله لأن فيهم أو في نسلهم من يؤمن ، أو لمصلحة أخرى خفية . قال أهل السنة : إنه بحكم المالكية له أن يفعل ما يشاء من غير علة . واللزام مصدر لازم وصف به . وقيل : فعال لما يفعل به فهو بمعنى ملزم كأنه آلة اللزوم أي { لكان } الأخذ العاجل { لزاماً وأجل مسمى } وهو عذاب الآخرة . وقيل : يوم بدر معطوف على { كلمة } وجوز في الكشاف أن يكون معطوفاً على الضمير في كان . ولعله إنما جوز ذلك للفصل أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل .

وحين بين أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر على ما يقولون من التكذيب وسائر الأذيات . زعم الكلبي ومقاتل أنها منسوخة بآية القتال وليس بذاك فإن كلاً منهما معمول بها في موضعها { وسبح بحمد ربك } أي متلبساً بحمده على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه ، والأكثرون أنها بمعنى الصلاة ليكون كقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] ولأنه بين أوقاتها فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر ، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار { ومن آناء الليل فسبح } المغرب والعتمة . وقوله { وأطراف النهار } أي في طرفيه فجمع للمبالغة وأمن الإلباس ، أو لأن أقل الجمع اثنان . أو أراد طرفي كل نهار تكرار لصلاتي الفجر والعصر لا المغرب على ما ظن اعتناء بشأنهما كقوله { والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] وآناء جمع « أنى » وهو الساعة وقد مر في « آل عمران » . وإنما قدم آنا الليل وأدخل الفاء في { فسبح } المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها تنبيهاً على زيادة الاهتمام بشأن صلاة الليل ، لأن الليل وقت السكون والراحة وهدوّ الأصوات فالصلاة فيه أشق على النفس وأدخل في الإخلاص وأقرب من المحافظة على الخشوع والإخبات . وبعضهم أخرج من الآية صلاة الظهر لانه خصص قبل الغروب بصلاة العصر . ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الصلاة في الأوقات المذكورة تشملها والأمر قد يكون للندب لا أقل من التغليب . وقال أبو مسلم : الأقرب حمل التسبيح على التنزيه والإجلال كأنه لما أمره بالصبر على أذية القوم بعثه على الاشتغال بالتقديس والمواظبة عليه في كل الأوقات .
وقوله : { لعلك ترضى } كقوله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [ الإسراء : 79 ] { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] ولا ريب أن الأطماع من الكريم واجب الوقوع اللَّهم ارزقنا شفاعته . ولما حث رسوله على الأمور الدينية نهاه عن الميل إلى الزخارف الدنيوية فقال : { ولا تمدّن عينيك } أي نظر عينيك . ومد النظر تطويله استحساناً للمنظور إليه ، وفيه أن النظر الغير الممدود معفوّ عنه كما لو نظر فغض . وقال أبو مسلم : المنهي عنه في الآية ليس هو التطويل وإنما هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوا من حظ الدنيا . قال أبو رافع : نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهوديّ يستقرضه فقال : لا أقرضه إلا برهن . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض ، أحمل إليه درعي الحديد فنزلت . » والأزواج الأصناف . وقيل : أي أشكالاً وأشباهاً من الكفار لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب . وقد مر في آخر الحجر . ولقد شدد العلماء المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وملابسهم ومراكبهم لأنهم اتخذوها . قال جار الله : انتصب { زهرة } على الذم ، أو على تضمين متعنا بمعنى خولنا وأعطينا ، أو على إبداله من محل { به } أو على إبداله من { أزواجاً } والتقدير ذوي زهرة وهي الزينة والبهجة .

ومن قرأ بفتح الهاء فبمعناها أيضاً أو هي جمع زاهر كأنهم لصفاء ألوانهم وظهور آثار النعومة عليهم زاهر وهذه الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب . وقوله : { لنفتنهم } أي لنبلوهم كقوله : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم } [ الكهف : 7 ] وقيل : لعذبهم كقوله : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم } [ التوبة : 55 ] . وقال الكلبي ومقاتل : لنشدد عليهم في التكليف لأن الاجتناب عن المعاصي مع القدرة يكون أشق على النفس . { ورزق ربك } هو ثواب الآخرة أو ما رزقت من الإسلام والنبوّة { خير وأبقى } وقيل : أراد به الحلال الطيب الذي يحق أن ينسب إلى ربك خير من أموالهم التي غلب عليها الغصب والسرقة وسائر وجوه الخيانة ، وأبقى بركة ونماء وحسن عاقبة . { وأمر أهلك } في سورة مريم { وكان يأمر أهله بالصلاة } [ الآية : 55 ] أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله . ومن السلف من كان إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله ثم يتلو هذه الآية . وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ { ولا تمدنّ عينيك } الآية . ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ كل صباح ويقول : « الصلاة وكان يفعل ذلك شهراً » وقوله : { واصطبر عليها } أراد أنك كما تأمرهم بها فحافظ عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أثم منه بلسان القول { لا نسألك رزقاً } كما يريد الملوك خراجاً من رعيتهم والسادة خرجاً من عبيدهم { بل نحن نرزقك } كقوله : { وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [ الذاريات : 57 - 58 ] والحاصل أنا إنما أمرناك بالصلاة فذلك لأجل انتفاعك بثوابها لا لأنا ننتفع بها . وقيل : لا نسألك رزقاً لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك وإياهم فلا تهتم بأمر الرزق والمعيشة وفرغ بالك لأمر الآخرة وفي معناه قولهم « من كان في عمل الله كان الله في عمله » . وقال أهل الإشارة { ورزق ربك } رمز إلى قوله : « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » قال عبد الله بن سلام : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة . { والعاقبة } أي الجميلة { للتقوى } .
ثم عاد إلى قوله : { فاصبر على ما يقولون } فحكى واحدة من شبهاتهم هي قولهم : { لولا يأتينا بآية من ربه } كأنهم لم يتعدّوا بالقرآن الذي أخرس شقاشقهم فرد الله عليهم بقوله : { أولم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى } لأن القرآن برهان سائر الكتب المنزلة لأنه معجز دونها فهو شاهد لها بالصحة وأنها من عند الله .

وقيل : أراد بالبينة ما فيها من بشارة مقدم محمد صلى الله عليه وسلم . وعن ابن جرير أنه ما رأوا فيها من قصص الأمم المكذبة وبيان إهلاكهم بعد اقتراح الآيات وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه { بينة ما في الصحف الأولى } ثم بين الحكمة في نزول القرآن فقال : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله } أي من قبل البرهان المذكور الدال عليه البينة { لقالوا } أي في القيامة لأن الهالك لا قول له في الدنيا . وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة : الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك » وتلا قوله : « { لولا أرسلت إلينا رسولاً } والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلاً أنتفع به . ويقول الصبي : كنت صغيراً أعقل . فيرفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في عالم الله أنه سعيد ويتلكأ من كان في علمه أنه شقى . فيقول الله تعالى : عسيتم اليوم فكيف برسولي لو أتاكم؟! » وطعن المعتزلة في هذا الخبر قالوا : لا يحسن العقاب على ما لم يفعل . وقال الجبائي : في الآية دلالة على وجوب فعل اللطف والمراد أنه يجيب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده وإلا كان لهم أن يقولوا : هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن . وقال الكعبي : فيها أوضح دليل على أنه تعال يقبل الاحتجاج من عباده . وليس معنى قوله : { لا يسأل عما يفعل } [ الأنبياء : 23 ] أن الجور منه يكون عدلاً بل تأويله أنه لا يقع منه إلا العدل . وإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة . واستدل أهل السنة بها على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع وإلا لكان العقاب حاصلاً قبل مجيئه . ثم ختم السورة بوعيد إجمالي فقال : { قل كل } أي كل منا ومنكم { متربص } عاقبة أمره وهذا الانتظار إما قبل الموت بسبب الأمر بالجهاد أو ظهور الدولة والغلبة ، أو بالموت فإن كان واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه ، وإما بعد الموت وهو ظهور أثر الثواب والعقاب وتمييز المحق المبطل ويؤديه قوله : { فستعلمون } إلى آخره وهذا من كلام المنصف وبالله المستعان . ( تم ) .

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)

القراآت { قال ربي } بالألف : حمزة وعلي وحفص . الباقون { قل } على الأمر { نوحي } بالنون مبنياً للفاعل : حفص غير الخراز . الباقون : بالياء مجهولاً .
الوقوف : { معرضون } ج للآية مع احتمال كون ما بعده صفة أو استئنافاً . { يلعبون } لا لأن { لاهية } حال أخرى مترادفة أو متداخلة من ضمير { يلعبون } وهي لقلوبهم في المعنى . { قلوبهم } ط { مثلكم } ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول { تبصرون } 5 { والأرض } ز لاتفاق الجملتين مع استغناء الثانية عن الأولى { العليم } 5 { شاعر } ج لاختلاف النظم مع اتحاد المقول { الأولون } 5 { أهلكناها } ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول { يؤمنون } 5 { لا تعلمون } 5 { خالدين } 5 { المسرفين } 5 { ذكركم } 5 { تعقلون } 5 { آخرين } 5 { يركضون } 5 ط لتقدير القول { تسألون } 5 { ظالمين } 5 { خامدين } 5 { لاعبين } 5 { من لدنا } 5 على جعل « إن » نافية والأصح أنها للشرط { فاعلين } 5 { زاهق } لا { تصفون } 5 { والأرض } ط لأن ما بعده مبتدأ { يستحسرون } 5 ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً ، { لا يفترون } 5 .
التفسير : قال جار الله : اللام في قوله { للناس } إما صلة لاقترب أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم كقولك في أزف رحيل الحي أزف للحي الرحيل ، فيه تأكيد إن من جهة تقديم الحي ومن جهة إظهار اللام ، ثم تزيد تأكيداً آخر من جهة وضع ضمير الحي مضافاً إليه الرحيل ، موضع لام التعريف فيه فتقول : أزف للحي رحيلهم . والمراد اقترب للناس وقت حسابهم وهو القيامة كقوله { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] فإذا اقتربت الساعة فقد إقترب ما يكون فيها من الحساب وغيره ، كأنه لما هدد في خاتمة السورة المتقدمة بقوله { فستعلمون } بين في أول هذه السورة أن وقت ذلك العلم قريب . فإن قيل : كيف وصف بالاقتراب وقد مضى دون هذا القول أكثر من سبعمائة عام فالجواب أن كل ما هو آتٍ قريب ، وإنما البعيد الذي دخل في خبر كان قال القائل : شعر
فلا زال ما تهواه أقرب من غد ... ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
على أنه لم يمض بعد يوم من ايام الله { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] ومما يدل على أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي قوله صلى الله عليه وسلم « بعثت أنا والساعة كهاتين » وقد وعد بعث خاتم النبيين في آخر الزمان ، وفي ذكر هذا الاقتراب تنبيه للغافلين وزجر للمذنبين . فالمراد بالناس كل من له مدخل في الحساب وهم جميع المكلفين . وما روي عن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون فمن باب إطلاق اسم الجنس على بعضه بالدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين من الغفلة والإعراض وغيرهما .

والذكر الطائفة النازلة من القرآن ، وقرئ { محدث } بالرفع صفة على المحل ، واحتجت المعتزلة بالآية على أن القرآن محدث ، وأجاب الأشاعرة بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول ، وإنما النزاع في الكلام النفسي الذي لا يصح عليه الإتيان والنزول . وزعم الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه أن حاصل قول المعتزلة في هذا المقام يؤل إلى قولنا القرآن ذكر ، وبعض الذكر محدث لأن قوله { من ذكر من ربهم محدث } لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً بل على أن ذكراً ما محدث ، كما أن قول القائل : لا يدخل هذا البلد رجل فاضل إلا يبغضونه ، لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً ، وإذا كان كذلك فيصير صورة القياس كقولنا « الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس » وإنه لا ينتج شيئاً لأن كلية الكبرى شرط في إنتاج الشكل الأول كما عرف في علم الميزان . قلت : إن المعتزلة لا يحتاجون في إثبات دعواهم إلى تركيب مثل هذا القياس لأن مدعاهم يثبت بتسنيم إحدى مقدمتي القياس الذي ركبه وهي قوله « بعض الذكر محدث » لأنه نقيض ما يدعيه الأشاعرة وهو لا شيء من القرآن بمحدث . وإذا صدق أحد النقيضين كذب بالضرورة ، فظهر أن الإمام غلطهم في هذا القياس الذي ركبه ، ثم لقائل أن يقول تتميماً لقول المعتزلة : إذا ثبت أن بعض القرآن محدث لزم أن يكون كله محدثا لأن القائل قائلان : أحدهما ذهب إلى قدم كله ، والثاني إلى حدوث كله ، ولم يذهب أحد إلى قدم بعضه وحدوث بعضه . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة { من ربهم محدث } لموافقة قوله بعد هذا { قل ربي يعلم } وقال في الشعراء { من ذكر من الرحمن محدث } [ الآية : 5 ] لكثرة الرحيم فيها . فكان « الرحمن بالرحيم » أنسب .
قوله تعالى { يلعبون } اللعب الاشتغال بما لا يعني قوله { لاهية } هي من لهى عنه بالكسر إذا ذهل وغفل . وفيه إن هم كالأنعام بل هم لا يحصلون من الاستماع والتذكير إلا على مثل ما تحصل هي عليه آذانهم تسمع وقلوبهم لا تعي ولا تفقه .
ومعنى { وأسروا النجوى } بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لها ولا يعلم أنهم متناجون وفي « واو » اسروا وجهان : أحدهما أن على لغة من يجوز إلحاق علامة التثنية والجمع بالفعل إذا كان مقدماً على فاعله ، وثانيهما وهو الأقوى أن الواو ضمير راجع إلى الناس المقدم ذكرهم و { الذين ظلموا } بدل منهم . أو هو منصوب المحل على الذم ، أو هو مبتدأ خبره { أسروا النجوى } مقدماً عليه . وعلى التقادير أراد وأسروا النجوى هؤلاء فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم ثم أبدل من النجوى قوله { هل هذا إلاّ بشر } إلى قوله { وأنتم تبصرون } أي أتقبلون سحره وتحضرون هناك وأنتم ترون أنه رجل مثلكم ، أو تلعمون أنه سحر وأنتم من أهل البصر والعقل؟ وجوز بعضهم أن يكون قوله { هل هذا } إلى آخره مفعولاً لقالوا مضمراً ، وإنما أسروا نجوى هذا الحديث لأنهم أرادوا شبه التشاور فيما بينهم تحرياً لهدم أمر النبي كما جاء في كلام الحكماء .

ويرفع أيضاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم « استعينوا على حوائجكم بالكتمان » ويجوز أن يسروا بذلك ثم يقولوا للرسول والمؤمنين : إن كان ما تدعون حقاً فأخبرونا بما اسررنا . من قرأ { قال ربي } فعلى حكاية الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه قال : إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك ، وإنه من وراء عقابه يصف نفسه في بعض المواضع بأنه يعلم السر وذلك حين يريد تخصيصه بعلم الغيب ، ووصف نفسه ههنا بأنه يعلم القول . قال جار الله : هذا آكد لأنه عام يشمل السر والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة ، وأقول هذا إذا كان اللام في القول للاستغراق ، أما إذا كان للجنس فلا يلزم زيادة العلم إذ لا دلالة للعام على الخاص . بل نقول : العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بالطريق الأولى فلا مزية لإحدى العبارتين على الأخرى { وهو السميع العليم } خصص علمه بالمسموعات أولاً ثم عمم وقال الإمام قدم « السميع » على « العليم » لأنه لا بد من استماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه . قلت : هذا قياس للغائب على الحاضر قوله { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر } معنى هذه الإضطرابات مع ملاحظة ما قبلها أنهم أنكروا أولاً كون الرسول من جنس البشر ، ثم كأنهم قالوا : سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة ، وليس كل ما هو خارق للعادة معجزاً فقد يكون سحراً هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة ، لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام وهي الأحلام المختلطة التي لا أصل لها وقد مر في سورة يوسف . سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده؟ سلمنا أنه كلام فصيح ولكنه لا يتجاوز فصاحة الشعراء ، وإذا كان حال هذا المعجز هكذا . { فليأتنا بآية } لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات { كما أرسل الأولون } اي كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن لإتيانهم بالآيات . ومن تأمل في هذه الأقوال المحكية عن أولئك الكفرة علم أنها كلام مبطل متحير هائم في أودية الضلال وألا يكفي في إعجاز القرآن أنهم عدلوا حين تحدوا به عن المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف . ثم بين أن الآيات التي يقترحونها لا فائدة لهم فيها لأنهم أعتى من الأمم السالفة وأنهم ما آمنوا عند مجيء الايات المقترحة فأهلكوا لأجل ذلك { افهم يؤمنون } مع شدة شكيمتهم فيه معنى الإنكار أي لا يؤمنون ألبتة وحينئذ يجب إهلاكهم ، ولكن قد سبق القول من الله أن هذه الأمة أمنوا من عذاب الاستئصال .

ثم أجاب عن شبهتهم الأولى وهي قولهم { هل هذا إلاّ بشر مثلكم } بقوله { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً } وقد مر مثله في آخر سورة يوسف وفي النحل . وإنما جاز الأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب وإن كانوا من الكفرة ، لأن هذا الخبر قد تواتر عندهم وبلغ حد الضرورة على أن أهل الكتاب كانوا يتابعون المشركين في معادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان قولهم عندهم حجة . وقيل : أهل الذكر أهل القرآن . وضعف بأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكيف يؤمرون بالرجوع إلى قولهم؟ واستدل كثير من الفقهاء بالآية في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء ، وللمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر وأجيب بأنها خطاب مشافهة وارد في الواقعة المخصوصة ، وفي السؤال عن أهل الكتاب فلا يتعدى عن مورد النص وقد مر في آخر سورة يوسف الفرق بين قوله { وما ارسلنا من قبلك } وقوله { وما أرسلنا قبلك } بغير « من » وليس إلا ههنا وفي أوائل الفرقان { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم } [ الآية : 20 ] ثم أكد كون الرسل من جنس البشر بقوله { وما جعلناهم جسداً } الآية كأنهم قالوا : إنه بشر يأكل كما نأكل ويموت كما نموت ، فلعلهم اعتقدوا خلود الملائكة لا أقل من العمر الطويل ، ولا بد من تقدير مضاف محذوف اي وما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي جسد غير طاعمين وإلا قيل : وما جعلنا لهم جسداً . ووحد الجسد لإرادة الجنس اي ذوي ضرب من الأجساد وأراد كل واحد منهم قوله : { صدقناهم الوعد } أصله في الوعد فنصب بنزع الخافض ، ثم فسر الوعد بقوله { فأنجيناهم ومن نشاء } وهم المؤمنون ، ثم نبههم على عظيم نعمه عليهم بقوله ، { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } أي شرفكم وصيتكم ، أو فيه بيان مكارم الآخلاق التي بها يبقى الذكر الجميل مع الثواب الجزيل ، ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال { وكم قصمنا } والقصم القطع الكبير وهو الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، وإذا لم يبين فهو الفصم بالفاء ، وذلك أن القاف حرف شديد والفاء رخو لوحظ جانب المعنى في اللفظ ومعنى { من قرية } من أهل قرية لقوله { وأنشأنا بعدها قوماً آخرين } وللضمائر في قوله { فلما أحسوا } إلى آخر القصة . والمراد بالإحساس الإدراك بحاسة اللمس أو علم لا شك فيه كالمحسوس المشاهد . والركض ضرب الدابة بالرجل كأنهم ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم حين أدركتهم مقدمة العذاب ، قال الجوهري : الركض تحريك الرجل على الدابة استحثاثاً لها ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا ، فعلى هذا يجوز أن القوم كانوا يعدون على أرجهلم فقيل لهم لا تركضوا .

والقائل إما من الملائكة أو من المؤمنين أو يجعلون أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، أو أسمع رب العزة ملائكته هذا القول لينفعهم في دينهم ، أو ألهم الله الكفار ذلك فحدثوا به أنفسهم : { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } من العيش الهنيء والإتراف إبطار النعمة { لعلكم تسألون } غداً عما جرى عليكم وعلى أموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو أجلسوا في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم بما تأمرون وماذا ترسمون فينفذ فيهم أمركم ونهيكم ، أو يسألكم الناس مستعينين بتدابيركم بآرائكم ، أو يسألكم الوافدون وأرباب الطمع مستمطرين سحاب أكفكم إما لأنهم كانوا أسخياء ولكن سمعة ورياء ، إما لأنهم بخلاء وفي كل هذه الوجوه تهكم بهم وتوبيخ لهم { فما زالت تلك } الدعوى وهي قولهم { يا ويلنا } لأن المولول كأنه يدعو الويل { دعواهم } الأول اسم « ما زال » والثاني خبره أو بالعكس . والدعوى بمعنى الدعوة وقد مر في قوله { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] والحصيد المحصود كقوله { منها قائم وحصيد } شبهوا بالزرع المستأصل والنار التي تخمد فتصير رماداً أي جعلناهم مشبهين بالمحصود والخامد ، ووحد { حصيداً } لأن المراد زرعاً حصيداً ، ولأن « فعيلاً » قد يستوي فيه الواحد والجمع ، عن ابن عباس أن الآية نزلت في حضور وسحول قريتين باليمن تنسب إليهما الثياب . وفي الحديث كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين . وروى حضوريين بعث الله إليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم فكأن القوم حصدوا بالسيف وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء بالثارات الأنبياء .
قال أهل النظم : لما بين إهلاك كثير من القرى لأجل ظلمهم وتكذيبهم منها اللتان رواهما ابن عباس ، أتبعه ما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً ومجازاة لا عبثاً ولا مجازفة فقال : { وما خلقنا السماء والأرض } الاية أي وما سوينا هذا السقف المرفوع والمهاد الموضوع { وما بينهما } من الأركان والمواليد كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو أو اللعب ، وإنما سويناهما لغايات صحيحة ومنافع للخلق دينية ودنيوية كما مر طرف منها في أول « البقرة » ويمكن أن يقال : المقصود من سياق الآية تقرير نبوة محمد والرد على منكريه لأنه ظهر المعجز عليه ، فإن كان صادقاً فهو المطلوب ، وإن كان كاذباً كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب وهو منفي عنه سبحانه . قال القاضي عبد الجبار : فيه دليل على أنه لا يخلق اللعب وكل قبيح وإلا كان لاعباً وعورض بمسألتي العلم والداعي .

ثم بين أن السبب في ترك اتخاذ اللهو اللعب ليس هو العجز والضعف ولكن لأن الحكمة تنافيه ، معنى { من لدنا } من جهة قدرتنا وقيل : اللهو الولد بلغة اليمن أو المرأة ، وقيل : من لدنا اي من الملائكة لا من الإنس رداً على من قال : عزير ابن الله والمسيح ابن الله . ويحتمل أن يقال من لدنا أي من عندنا على سبيل الخفية فلا تعرفونه ولا ستمعون اسمه فيكون الرد شاملاً لكل من ادعى الله ولداً ولو من الملائكة . ثم اضرب عن اتخاذ اللهو واللعب فوصف نفسه بما يضاد فعل العبث قائلاً { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو } يعني الباطل { زاهق } اي ففاجأ الدمغ زهوق الباطل ، قال علماء المعاني : هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول بجامع عقلي : فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام لأن القذف الرمي بنحو الحجارة ، والدمغ من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل ، والدمغ لإذهاب الباطل بجامع الزهوق ، ثم وبخهم ونعى عليهم بما وصفوه بالولد وغير ذلك مما لا يجوز عليه وينافي وجوب الوجود بما وصفوا رسوله به من السحر والشعر وغير ذلك من الأوصاف المضادة للرسالة فقال { ولكم الويل مما تصفون } اي تصفونه به . ثم بين كمال قدرته ونهاية حلمه وحكمته فقال { وله من في السموات والأرض } والمراد بمن عنده الملائكة المقربون والمقصود عندية الشرف والرتبة . فأما عندية المكان ففيها بحث طويل . قال الزجاج : { لا يستحسرون } أي لا يتعبون ولا يمسهم الإعياء . قال جار الله : كان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور ولكنه ذكر بلفظ المبالغة وهو « استفعل » لبيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور ، وأنهم أحقاء بتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا ومع ذلك لا يعدُّونها تعباً عليهم . ثم أكد ذلك بقوله { يسبحون الليل والنهار } منصوبان على الظرفية { لا يفترون } لا يلحقهم الفتور والكلال . وحاصل الآية أؤن الملائكة مع غاية شرفهم ونهاية قربهم لا يستنكفون عن طاعة الله ، فكيف يليق بالبشر مع ضعفهم ونقصهم أن يتمردوا عن طاعته؟ وقد مر في أول سورة البقرة استدلال مفضلي الملائكة على الأنبياء بهذه الآية وبغيرها فلا حاجة إلى إعادته عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب الأحبار : أرايت قول الله عز وجل { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } ثم قال : { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة } [ البقرة : 161 ] أليس الرسالة واللعن ما نعين لهم عن التسبيح؟ أجاب كعب بأن التسبيح لهم كالنفس لنا لا يمنعهم عن الاشتغال بشيء آخر . واعترض بأن آلة التنفس فينا مغايرة للسان فلهذا صح اجتماع التنفس والتكلم . وأجيب بأنه لا استبعاد في أن يكون لهم ألسن كثيرة ، أو يكون المراد بعدم الفتور أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللائقة به .

التأويل : اقترب لأهل النسيان أن يحاسبوا أنفسهم { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } [ الحديد : 16 ] { وما يأتيهم من ذكر } وعظ وتذكير من عالم رباني { محدث } إلهامه إلا أنكروه عليه ونسبوه إلى التخليط ونحوه { وما جعلناهم جسداً } فيه أن الله قادر على أن لا يجعل النبي الولي ذا جسد ولكن اقتضت حكمته كونهم ذوي أجساد آكلين للطعام فإن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج ، وبالقوى الحيوانية تتم الكمالات النفسانية وتدرك المحسوسات وتستفاد العلوم المستندة إلى الإحساس والتجربة وتفصيله أكثر من أن يحصى . قال بعض المشايخ ، لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله { وما كانوا خالدين } والسر فيه أن يعلموا من الموت حقيقة اسم المميت كما علموا من الحياة حقيقة اسم المحيي .
{ ثم صدقناهم الوعد } الذي وعدناهم حين أهبطوا إلى الأرض { فأنجيناهم ومن نشاء } من متابعيهم من هاوية الهوان وعالم الطبيعة { وأهلكناهم المسرفين } الذين اسرفوا على أنفسهم بالكون إلى أسفل سافلين الطبائع . { وكم قصمنا من } أهل { قرية } قالت { فلما أحسوا بأسنا } وهي شدة قطع التعلق عن الكونين فإن الفطام عن المألوف شديد { لا تركضوا } منا بل ففروا إلينا { وارجعوا } إلى التنعمات الروحاينة { ومساكنكم } الصلية { لعلكم تسألون } عزة وكرامة { وما خلقنا } سموات الأرواح وأرض الأجساد ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار من غير غاية ، وإنما خلقناها لتكون لطفنا وقهرنا { بل نقذف بالحق على الباطل } للحق ثلاث مراتب : مرتبة أفعال الحق ومرتبة صفات الحق ومرتبة ذات الحق ، ففي كل مرتبة يتجلى الحق فيها للعبد ، ارهق باطل تلك المرتبة عن العبد حتى إذا تجلى له بأفعاله ذهب عنه باطل الأفعال ، وإذا تجلى له بصفاته ذهب باطل صفاته ، وإذا تجلى له بذاته في ذاته فيقول : أنا الحق وسبحاني والويل لمن لم يذهب باطله بإحدى هذه المراتب فيبقى متصفاً بالوجود المجازي .

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

القراآت : { إلا نوحي إليه } بالنون : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { إني إله } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ابن ذكوان . { ألم ير } بغير واو : ابن كثير الآخرون بواو متوسطة بين همزة الاستفهام والفعل ونظائرها كثيرة { ترجعون } بفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان . { ولا تسمع } من الاسماع خطأ بالنبي صلى الله عليه وسلم الصم بالنصب : ابن عامر . الآخرون على الغيبة من السماع . { الصم } بالرفع { مثقال حبة } بالرفع على « كان » التامة وكذلك في سورة لقمان : أبو جعفر ونافع . الباقون بالنصب .
الوقوف : { ينشرون } 5 { لفسدتا } ج للابتداء { بسبحان } للتعظيم مع فاء التعقيب تعجيلاً للتنزيه { يصفون } 5 { يسالون } 5 { آلهة } ط { برهانكم } ج لاتحاد المقول من غير عاطف { قبلي } ط { لا يعلمون } 5 لا لأن ما بعده مفعول { معرضون } 5 { فاعبدون } 5 { سبحانه } ط { مكرمون } 5ط لأن ما بعده صفة بعد صفة { يعملون } 5 { ولا يشفعون } 5 لا للاستثناء { مشفقون } 5 { جهنم } ط { الظالمين } 5 { ففتقناهما } ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار { حي } ط { يؤمنون } 5 { يهتدون } 5 { محفوظاً } ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال { معرضون } 5 { والقمر } ط { يسبحون } 5 { الخلد } ط { الخالدون } 5 { الموت } ط { فتنة } ط { ترجعون } 5 { هزوا } ط { آلهتكم } ج لاحتمال الواو الإستئناف والحال { كافرون } 5 { من عجل } ط { فلا تستعجلون } 5 { صادقين } 5 { ينصرون } 5 { ينظرون } 5 { يستهزئون } 5ط { من الرحمن } ط { معرضون } 5 { من دوننا } ط فصلاً بين الاستفهام والإخبار { يصبحون } 5 { العمر } ط { من أطرافها } ط { الغالبون } 5 { بالوحي } ط لاستئناف ولا يسمع بالياء التحتانية والوصل أجوز لتتميم المقول ، ومن قرأ على الخطاب وقف لأنه خرج عن المقول { ينذرون } 5 { ظالمين } 5 { شيئاً } ط { أتينا بها } ط { حاسبين } 5 { للمتقين } 5 لا لاتصال الصفة ولا يخفى أنه يحتمل النصب أو الرفع على المدح فيجوز أن لا يوصل . { مشفقون } 5 { أنزلناه } ط { منكرون } .
التفسير : إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالاً وجواباً فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة « أم » المنقطعة { أم اتخذوا آلهة من الأرض } نسبت إلى الأرض كما يقال « فلان من مكة » لأنها اصنام تعبد من الأرض ، لأن الالهة على ضربين أرضية وسماوية . أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي . ويقال : أنشر الله الموتى ونشرها اي أحياها . ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأنهم بإدعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلاً عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور .

والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده ، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية . ومعنى { هم } افادت الخصوصية كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم ، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده . ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال : { لو كان فيهما } أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما { آلهة إلا الله } اي غير الله . قال النحويون : إلا ههنا بمعنى لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور ، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلاً في المستثنى منه لولا الاستثناء وقد يقال : إن « إلا » في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد . وللمفسرين في تفسير الآية طريقان : أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما { لفسدتا } وفيه دلالة على أمرين : الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحداً ، والثاني أن لاي كون ذلك الواحد إلا إياه لقوله { غير الله } وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف . وثانيهما طريق التمانع بأن يقال : لو فرضنا إلهين وأراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه ، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد ، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما ، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح لإلهية . والاعتراض على هذا التقدير من وجهين : الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع .
والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان : أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول ، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية ، فلا بد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك . الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان ، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلاً منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة ، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو اراد كل واحد منهما أن يوجده هو فهذا أيضاً اختلاف .

ولو قيل : إنه يريد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير ، فلا بد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر ، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو إله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب ، بل العاجز لا يصلح للإيجاد اصلاً فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي . ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها : أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا؟ فإن قلت : يقدر . كان كل منهما مقهوراً للآخر ، وإن قلت : لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد منهما . ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا؟ فإِن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز . ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزاً ولهذا لا يمكن أن يقال : إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئاً نفذت قدرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز . ومن الطاعنين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلاً عن غيرها . ولقائل أن يقول : إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد . أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة للإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد . واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولا سيما في سورة البقرة في تفسير قوله { وإلهكم إله واحد } [ الآية : 163 ] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق : إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين ، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر . وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعاً لقلة جهات الافتقار وكثرتها ، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد ، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحداً كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد . وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات و « لو » هذه بمعنى « أن » والمراد أن هذا النقص والفساد لازم لوجود آلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا ، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلهاً غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله { فسبحان الله رب العرش عما يصفون } من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيره قوله

{ ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً } [ الزمر : 29 ] وفيه قول زيد بن عمرو بن انفيل حين فارق قومه :
أرباً واحداً أم الف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الرجل البصير
ثم أكد تفرده بالإِلهية بقوله { لا يسأل عما يفعل } وفيه رد على الثنوية والمجوس الذين أثبتوا لله شريكاً فاعلاً للشرور والآلام ، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا : لو كان مدبر العالم واحداً لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر ، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله ، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت ، ولكنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر . أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض ولم بحكم المالكية أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات . وكما أن ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله ، وإنه غير محتاج إلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد . وأما المعتزلة فقد قالوا : إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنياً عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح . وإذا عرف المكلف إجمالاً أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن « لم » وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيباً وإجلالاً لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم ، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسال عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة . ثم زاد الإلهية تأكيداً بقوله { وهم يسألون } وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا : إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال ، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثاً .

وأيضاً التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق ، وأيضاً سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث ، وإن كان فيه فائدة فإِن عادت إلى الله تعالى كان محتاجاً مستكملاً ، وإن عادت إلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف ، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم ، وجوابهم أن الأسباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب ، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال : إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم مالا يطيقون وهو يناقص القاعدة الممهدة أنه لا يسال عما يفعل . ثم كرر { أم اتخذوا من دونه آلهة } استفظاعاً لكفرهم وليرتب عليه قوله { قل هاتوا برهانكم } على ذلك عقلاً أو نقلاً . أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذراً من الفساد ، وأما النقل فقوله { هذا ذكر من معي } هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي . عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه اراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء . وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله { وذكر من قبلي } صفة للقرآن ايضاً لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة . ثم ختم الآية بقوله ربل أكثرهم } تنبيهاً على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل ، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه ، وفي لفظ الأكثر إشارة إلى أن فيهم من يعلم ولكنه يعاند ، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع .
ثم قرر آي التوحيد خصوصاً قوله { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } على أحد التفسيرين بقوله { وما أرسلناك } الآية . ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله { سبحانه } ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله { مكرمون } مقربون { لا يسبقونه بالقول } أي بقولهم اي يتبعون قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله { وهم بأمره يعملون } فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وافعالهم { يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم } وقد مر تفسيره في « طه » وفي آية الكرسي { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } كقوله في طه

{ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً } [ طه : 109 ] وقد مر البحث فيه . قال في الكشاف { وهم من خشيته مشفقون } أي متوقعون من أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك إلا من أمارة قوية . ويحتمل أن يقال : إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرئيل عليه السلام ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله عز وجل . ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله { ومن يقل منهم إني إله من دونه } فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله { ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] وفي قوله { فذلك } دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الجاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك ، وأراد بالظلم ههنا الشرك ، والمعتزلة عمموه والأول أظهر . ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق والأنفس قائلاً { أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض } أي جماعة السموات وجماعة الأرض { كانتا تقاً ففتقناهما } الرتق بالسكون السد . رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك ، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين . عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن ، وقتادة أن المراد كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض . ومثله قول كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحاً توسطتهما فحصل الفتق ، وقال أبو صالح ومجاهد : كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعاً وكذلك الأرضون . وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين ، أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر . ويشبه أن يراد بالسموات على هذا التفسير السحب نظيره قوله { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع } [ الطارق : 1112 ] ويؤيده قوله عقيبه { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وقيل : إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن ، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم « ثوب أخلاق » « وبرمة أعشار » وقريب من هذا قول من قال : المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } [ يس : 37 ] وقال أبو مسلم الاصفهاني : الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه ، والفتق الإِيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله

{ فاطر السموات والأرض } [ الأنعام : 14 ] والفطر الشق . وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة ، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد . وههنا سؤال : وهو أن الكفار متى رأوهما رتقاً حتى صح هذا الاستفهام للتقرير؟ كيف وقد قال الله تعالى { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } ؟ [ الكهف : 51 ] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة ، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم . وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال صاحب الكشاف في الجواب : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد ، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه . قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } قال السكاكي صاحب المفتاح : اي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء . واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساماً مائية؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه . وقال صاحب الكشاف : إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله { خلق الإنسان من علق } وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعدياً إلى مفعولين ، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه . وقال في التفسير الكبير : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود ، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك : قلت : فعلى هذا يكون قوله { وجعلنا } داخلاً في حيز الاستفهام كأنه قيل : ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان . ومن المفسرين من جعل الحي شاملاً للنبات أيضاً كقوله { فأحيا به الأرض بعد موتها } [ الجاثية : 5 ] قوله { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم } قد مر تفسيره في أول « النحل » وباقي الآية كقوله في طه { وسلك لكم فيها سبلاً } [ الاية : 53 ] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة { سبلاً } قدمت عليه فصارت حالاً عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله :

{ لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } [ نوح : 20 ] والاهتداء إما حسي أي تهتدون إلى البلاد ، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى . ومنهم من زعم أن الضمير في قوله { وجعلنا } فيها عائد إلى الجبال وهذا قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وروي عن ابن عمر أنه قال : كانت الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً . قال علماء الإسلام : ليس في قوله { وجعلنا السماء سقفاً } إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله ، ولكنه أطلق عليها اسم السيقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة إلى سكان كل بقعة . وفي المحفوظ وجهان : أي { محفوظاً } بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين . { وهم عن آياتها معرضون } فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها . قوله { كل في فلك } من مقلوب الكل . والفلك في اللغة كل شيء دائر وجمعه أفلاك . وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم . والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه . ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي : ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله { يسبحون } والسباحة لا تكون إلا في الماء . ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري . وقالت الحكماء : هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والاتئام والنمو والذبول ، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكناً ، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأنها في النظر كذلك .
قال صاحب الكشاف : التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي كلهم فورد عليه إشكالان : أحدهما أنه لم يسبق إلا ذكر الشمس والقمر فكيف يعود ضمير الجمع إليهما؟ وأجاب بأن ذلك باعتبار كثرة مطالعهما كما يجمع بالشموس والقمار لذلك . ويمكن أن يقال : أقل الجمع اثنان أو أنه جعل النجوم تبعاً لذكرهما . الثاني أن كلهم ليسوا في فلك ولكن كل منهم في فلك آخر على ما يشهد به علم الهيئة ، وأجاب بأنه اراد جنس الفلك كقولك « كسانا الأمير حلة » ، أو اراد كل واحد . قلت : لو صح هذا التقدير الثاني لم يرد الإشكال الأول ولكنه ينافي قوله { يسبحون } مجموعاً . قال بعض الحكماء في هذا الجمع دلالة على أن الكواكب أحياء ناطقة . وأجيب بأنه إنما جمع جمع العقلاء لأن السباحة من فعلهم . قلت : قد يسبح كثير من الحيوانات ، فلعل المختص بالعقلاء هو السباحة الصناعية المكتسبة . وههنا بحث وهو أن الإمام فخر الدين الرازي استحسن قول بعض الأوائل أن الحركة السماوية صنف واحد وهي الآخذة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض كالحركات الغربية ، وكذا اختلافات تلك الحركات بسبب تلك المختلفات .

قال : وهذا أقرب ليكون غاية سرعة الحركة للفلك الأعظم وغاية السكون للجرم الذي هو أبعد عن المحيط وهو الأرض ، ولئلا يلزم بسبب حركة ما دون الفك الأعظم بحركته وبحركتها الخاصة تحرك الجرم الواحد في زمان واحد بحركتين مختلفتين إلى جهتين فإنه يستلزم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين . قلت : أما حديث كون ما هو أبعد عن المركز اسرع حركة فإقناعي ، وأما لزوم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين فممنوع لأن التي تظهر في المتحرك هي الحركة المركبة الحاصلة من فضل الأسرع على الأبطأ لا كل من الحركتين ، وهذا مشاهد من حركة النملة إلى خلاف جهة حركة الرحى ، ومن حركة راكب السفينة فيها إلى خلاف جهة حركتها . وأما الذي استحسنه من كلام الأوائل فباطل لأنه لو كان كذلك لحصلت الأظلال اللائقة بكل جزء من أجزاء فلك البروج في يوم بليلة ، وكذا الارتفاعات المناسبة لها في البلاد المتفقة العرض وليس كذلك ، وقد ذكرنا هذا المعنى في كتبنا النجومية ايضاً . وحين فرغ من بيان طرف من هيئة الأجرام السماوية ومنافعها الدنيوية نبه بقوله { وما جعلنا البشر من قبل الخلد } على أن هذه الآثار لا تدوم ولا تخلق للبقاء وإنما خلقت للابتداء والامتحان ولكي يتوصل بها المكلفون إلى السعادات المدخرة لهم في الآخرة وهي دار الخلود . وبوجه آخر لما فرغ من دلائل الآفاق شرع في دلائل الأنفس فقال : { وما جعلنا } الآية ، عن مقاتل أن ناساً كانوا يقولون إن محمداً لا يموت فنزلت وقيل : لعلهم ظنوا أنه لو مات لتغير الشرع وهذا ينافي كونه خاتم الأنبياء ، فبين الله سبحانه أن حاله كحال من تقدمه من الأنبياء في المفارقة من دار الدنيا . والأكثرون على أن سبب النزول هو أنهم كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة لهذه وفي معناه قول القائل :
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا .
قوله { كل نفس ذائقة الموت } قد تقدم في آخر آل عمران تفسيره .
قوله { ونبلوكم } أي نعاملكم معاملة المختبر بما نسوق إليكم من الشرور والخيرات فيظهر عندهما صبركم وشكركم . وقدم الشر لأن الموت من باب الشرور في نظر أهل الظاهر . و { فتنة } مصدر مؤكد { لنبلوكم } من غير لفظه . وحين أثبت الموت الذي هو الفراق عن دار التكليف بين بقوله { وإلينا ترجعون } أن الجزاء على الأعمال ثابت مرئي ألبتة بعد المفارقة . استدلت المجسمة بقوله { وإلينا } أنه تعالى جسم ليمكن الرجوع إلى حيث هو ، والتناسخية بأن الرجوع مسبوق بالكون في المكان المرجوع إليه ، وجواب الأولين أنه أراد الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له ، وجواب الآخرين التسليم لكنه لا يفيد مطلوبهم لأن الرجوع إلى المبدأ غير الرجوع إلى دار الدنيا ، واعلم أن مثل هذه الآية سيجيء في سورة العنكبوت إلا أنه قال هناك { ثم إلينا } ولم يذكر قوله { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } فكأن هذه الفاصلة قامت مقام التراخي في « ثم » قال السدي ومقاتل : مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل وأبي سفيان فقال ابو جهل لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف .

فقال أبو سفيان : وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف! فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قولهما فقال لأبي جهل : ما اراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة ، وأما أنت يا أيا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية فأنزل الله تعالى { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك } اي ما يتخذونك { إلا هزوا } ثم فسر ذلك بقوله { أهذا الذي يذكر آلهتكم } والذكر أعم من أن يكون بالخير أو بالشر إلا أنه إذا كان من العدو يفهم منه الذم لا الثناء ، والمعنى أنه يبطل معبوديتها وينكر عبادتها ويقبح أمرها ثم بين غاية جهالتهم وتعكيس قضيتهم بقوله { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } قدم الجار والمجرور وكرر الضمير ليفيد أنهم عاكفون هممهم على ذكر آلهتهم من كونها شفعاء وشهداء ، ولو ذكرها بخلاف ذلك ساءهم . وأما ذكر الرحمن الذي منه جلائل النعم ودقائقها وأصولها وفروعها فلا يخطر منهم ببال ، ولو ذكره ذاكر استهزؤا به حتى إن بعضهم يقولون : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فهم أحق أن يتخذوا هزواً . ويحتمل أن تكون الباء للسببية أي هم كافرون بسبب ذكرهم الرحمن لا على ما ينبغي ، فيكون الذكر في الموضعين بمعنى واحد . وقيل { بذكر الرحمن } أي بما أنزل إليك من القرآن وكانوا يستعجلون بعذاب الله كما يجيء من قوله { ويقولون متى هذا الوعد } فقدم لذلك أولاً مقدمة هي قوله { خلق الإنسان } أي هذا الجنس { من عجل } أراد أنه مجبول على إفراط العجلة كما مر في قوله { وكان الإنسان عجولاً } [ الإسراء : 11 ] وعن ابن عباس أنه آدم اراد أن يقوم حين بلغ الروح صدره ، وعن مجاهد أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال : يا رب عجل خلقي قبل أن تغيب الشمس . وعن ابن عباس أيضاً أنه النضر بن الحرث والأول أظهر . وقيل : العجل الطين بلغة حمير ، وقال الأخفش : اي من العجل في الأمر وهو قوله { كن } وقيل : هو على القلب أي خلق العجل من الإنسان { سأريكم آياتي } وهي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة { فلا تستعجلون } فإنها كائنة لا محالة في وقتها وقيل : هي أدلة التوحيد وصدق الرسول . وقيل : آثار القرون الخالية بالشام واليمن .
سؤال : { خلق الإنسان من عجل } فيه أن الآدمي معذور على الستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه ، فلم رتب عليه النهي بقوله { فلا تستعجلون } ؟ وأجيب بأن فيه تنبيهاً على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة .

وقال جار الله : هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها .
آخر : القوم استعجلوا الوعد على جهة التكذيب ، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً في الحقيقة؟ أجيب بأن الاستعجال على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه استعجال على أمر موهوم عندهم لا معلوم { لو يعلم } جواب « لو » محذوف و { حين } مفعول به { ليعلم } والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت إحاطة النار بهم ، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال . ويجوز أن يكون { يعلم } متروك المفعول أي لو كانوا من أهل العلم لما كانوا مستعجلين ، وعلى هذا يكون { حين } منصوباً بمضمر أي حين لا يكفون يعلمون أنهم كانوا على الباطل ، وخص الوجوه والظهور بالذكر لأن نكاية النار في هذين العضوين اشد مع أن الإحاطة التامة تفهم منهما . ثم بين أن وقت مجيء العذاب غير معلوم لهم فإن مجيء الساعة مخفي عن المكلفين ليكونوا أقرب إلى تلاقي الذنوب فقال { بل تأتيهم بغتة فتبهتهم } قال جار الله : أي لا يكفونها بل تفجؤهم فتغلبهم . قلت : فائدة « بل » في هذه المقامات للانتقال من جملة إلى أخرى أهم من الأولى ، ويحتمل أن تكون « لو » لظاهر التمني والضمير للنار . وقيل : للساعة . وفي قوله { ولا هم ينظرون } تذكير بإمهالهم في دار الدنيا أي ثم يهلكون بعد طول الإمهال . ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله { ولقد استهزئ } الآية . وقد مرت في أول الأنعام . ولما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار ذكر أنهم في الدنيا ايضاً مفترقون إلى حراسة الله وكلاءته فقال { قل من يكلؤكم بالليل } إذا نمتم { والنهار } إذا تقلبتم في وجوه المصالح { من الرحمن } أي من بأسه وعذابه كالقتل والسبي ونحوهما . قيل : إنما خص الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك ونظيره { ما غرك بربك الكريم } [ الإنفطار : 6 ] ثم أضرب عن الأمر بالاستفهام قائلاً { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } لا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه كأنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم . أما قوله { أم لهم آلهة تمنعهم } فذكر في الكشاف أنه إضراب عن الكلام السابق بما في « أم » من معنى « بل » . وقال غيره : الميم زائدة وإنه استفهام مستأنف والتقدير ألهم آلهة تمنعهم من دوننا من العذاب ، ومعنى { من دوننا } أن تلك الآلهة لا تتجاوز منعنا وحفظنا ثم استأنف فقال { لا يستطيعون } ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف اي تلك الآلهة ليست تقدر على نصر أنفسها فكيف تحفظ غيرها وتنصرها .

وقوله { ولا هم منا يصبحون } قال المازني : هو من أصحبت الرجل إذا منعته . والأكثرون على أنه من الصحبة بمعنى النصرة والمعونة ومنه قولهم « صبحك الله » . والحاصل أن من لا يكون قادراً على دفع الآفات ولا يكون مصحوباً من الله بالإعانة والنصرة كيف يتوقع منه دفع ضر أو جلب نفع! ولما ابطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الحفظ والكلاءة والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الإهلاك ولا من ناصر يعينهم على أسباب التمتع سوى الله . وفي قوله { حتى طال عليهم العمر } إشارة إلى أنه لما امتدت أيام الروح والطمأنينة حسبوا أن ذلك لن يزول عنهم فاغتروا به ونسوا المنعم فاستأهلوا العقاب كما أشار إليه بقوله { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } وفي لفظ الإتيان تصوير ما كان الله يجريه على أيدي السملمين الذين هم حزب الله من نقص ديار الكفر وتخريبها وعمارة حوزة الإسلام وتشييد مبانيه وقد مر مثله في آخر سورة الرعد . والاستفهام في قوله { أفهم الغالبون } للتقرير أي لنحن الغالبون وهم المغلوبون .
ثم بين أن هذه الإنذارات ليست من قبل الرسول ولكنه بالوحي ، ثم مهد عذر الرسول إن لم تنجع فيهم رسالته بأن الصم لا يسمعون دعاء المنذر . واللام في { الصم } للعهد أي لا يسمع هؤلاء الإنذار فوضع { الصم } في موضع اسم الإشارة إيذاناً بأنهم هم الموسومون بالصمم عن استماع الحق ، ولو كان اللام للجنس لكان الأنسب إطلاق الدعاء لأن الصم لا تسمع الدعاء بشروا أو أنذروا . ثم ذكر أنهم لا يعترفون بالتقصير والظلم إلا عند معاينة العذاب فقال : { ولئن مستهم نفحة } وفي ذكر المس وبناء المرة من النفح الذي هو بمعنى القلة والنزارة . منه قولهم « نفحه بعطية » اي رضخة ، « ونفحته الدابة » وهو رمح يسير دليل على أنهم في غاية الضعف يجزعون من أدنى أثر من عذاب الله . قوله { ونضع الموازين القسط } المراد من الوضع الإحضار والقسط اي العدل صفة الموازين وإن كان موحداً كقولهم للقوم « إنهم عدل » قاله الفراء . وعن الزجاج أراد ذوات القسط . واللام في { ليوم القيامة } بمعنى الوقت كما يقال « جئت لتاريخ كذا » . وقيل : أراد لأجل الحساب يوم القيامة . وقد مر تحقيق الوزن وما يتعلق به من الأبحاث في أول سورة الأعراف . يروي أن داود عليه السلام سال ربه أن يريه الميزان ، فلما رآه غشي عليه ثم افاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة .

وفي قوله { فلا تظلم نفس شيئاً } بحث بين المعتزلة والأشاعرة وقد مر مراراً { وإن كان } أي الوزن والعمل { مثقال حبة من خردل أتينا بها } أنت ضمير المثقال باعتبار إضافته إلى الحبة . قيل : الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال : حبة من خردل؟ وأجيب بأن الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار ، والظاهر أنه أراد الحبة من حيث اللغة . وقوله { من خردل } بيان لها لأن الحبة أعم من أن تكون من الخردل أو من الحنطة أو من غيرهما ولكن المبالغة في الأول أكثر ، وذلك أن الخردلة سدس شعيرة وهي نصف سدس ثمن الدينار عند الحساب ونصف سدس سدسه في الشرع ، والحبة ثمن تسع الدينار في عرف حساب فارس والعراق ، فمثقال حبة من خردل يكون على الوجه الأول ثمن تسع خردلة ، وعلى ما قلنا يكون هو الخردل بعينه . والحاصل أن شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع من علم الله وأنه يجازي عليه . رؤي الشبلي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال :
حاسبوني فدققوا ... ثم منوا فأعتقوا
قال في التفسير الكبير : زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزءاً من الثواب فهذا الأقل منحبط بالأكثر كما كان . والآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ، ولو كان الأمر كما قاله الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة . قلت : للجبائي أن يقول : الإتيان بالطاعة مشروط عندي بعدم الإحباط كما أن العقاب على المعصية مشروط عندكم بعدم العفو . { وكفى بنا حاسبين } كقوله { وكفى بالله حسيباً } [ النساء : 6 ] وحين فرغ من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء تسلية لنبيه وتثبيتاً وعظة لأمته وتذكيراً ، وقد مر قصة موسى إلا أنه أوجز فيها ههنا والموجز تقدمه الفصحاء غالباً ، ولأن موسى أقوى حالاً ومعجزة ، ولأن ذكر التوراة يناسب ما تقدم من قوله { قل إنما أنذركم بالوحي } وصف التوراة بأنها جامعة لكونها فرقانا يفرق به بين الحق والباطل ، وقد مر سائر تفاسير الفرقان في أول البقرة { وضياء } كقوله { فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] { وذكراً للمتقين } اي شرفاً وموعظة ، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم وقوله { بالغيب } إما حال من الرب أي حال كونه غائباً عن حسهم والله لا يغيب عنه شيء فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم « فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وإما حال منهم أي حال كونهم غائبين عن عذاب الآخرة وأهوالها ، أو غائبين عن الناس أي يخشون ربهم في الخلوات . ثم عظم شأن القرآن بقوله { وهذا ذكر مبارك } أي كثير البركة { أنزلناه أفأنتم له منكرون } أي أنتم دون سائر الناس مع علمكم بفصاحته وإعجازه تخصونه بالإنكار .

ولا يخفى ما فيه من التوبيخ للعرب ومن داناهم . التأويل : { أم اتخذوا آلهة } من ارض البشرية ثم هم يحيون القلوب الميتة بل الله يحييها بنور ذكره وطاعته لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية { آلهة إلا الله } كالعقل والهوى { لفسدتا } كما فسد سماء أرواح الفلاسفة حين اثبتت عقولهم للواجب صفات لا تليق به ، وفسد أرض بشرية الطبائعية حين زلت قدمهم عن استعمال قوانين الشريعة بمقتضى هوى الطبيعة { لا يسأل عما يفعل } لأن أفعاله تعالى صادرة عن الحكمة والقدرة { وهم يسألون } لأن أفعالهم منشؤها الظلومية والجهولية { لا يسبقونه بالقول } لأنه ليس فيهم ما يخالف داعية العقل وهو الطبع الذي يجذب صاحبه إلى السفل ، ولهذا وصفهم بالإكرام ووصف بني آدم بالتكريم في قوله { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] ففي التكريم تكثير ليس في الإكرام والسبب أن أمر بني آدم أشكل وحالهم أصعب { يعلم ما بين أيديهم } من خجالة قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] { وما خلفهم } من الأمر بسجود آدم والاستغفار لمن في الأرض { أو لم ير الذين كفروا } يعني أنهم رأوها في عالم الأرواح لأنها خلقت قبل الأجساد بألفي عام ، وفي رواية بأربعة ألاف سنة { كانتا رتقاً } أي كانت سموات الأرواح متعلقة بأرض القوالب { ففتقناهما } بالمفارقة وقطع التعلق { وجعلنا من } ماء حياة العلم { كل شيء حي } بالحياة الأبدية { وجعلنا في الأرض } أرض القالب { رواسي } هي هموم العلائق البدنية { أن تميد بهم } فلولاها لمالت كل نفس إلى عمالها وبطل الغرض من التكليف ، ويمكن أن يكون الرواسي إشارة إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض بهم يرزق ويمطر الناس { فجاجاً سبلاً } هي طرق الإرشاد والتسليك { وجعلنا } سماء القلب { سقفاً محفوظاً } من وساوس شياطين الإنس والجن { وهو الذي خلق } ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس المعرفة وقمر الإسلام { كل في فلك يسبحون } فأهل الإسلام في فلك الشريعة ، وأهل الإيمان في فلك الطريقة ، وأهل الولاية في فلك اطوار الحقيقة { كل نفس ذائقة الموت } أما النفس الحيوانية فلأن من خواصها أن تصير الغذاء من جنسها فلا جرم إذا عجز الغذاء عن التشبيه بها لعجز القوة الغاذية حل أجلها ، وأما النفس الناطقة فلأن من خواصها أنها تصير من جنس غذائها وهو الكمالات العلمية والعملية التي هي فيوض ربانية يتجوهر الروح بجوهرها فيحصل له الفناء عن وجوده والبقاء بشهود ربه { ونبلوكم } بالمكروهات التي تسمونها شراً بالمحبوبات التي تحسبونها خيراً { فتنة } فربما كان الأمر عكس ما تصورتم { وإلينا ترجعون } اختياراً وقهراً { وإذا رآك الذين كفروا } فيه أن الأغيار لا ينظرون إلى الأخيار إلا بعين الإنكار { خلق الإنسان من عجل } بالنسبة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما فإنها خلقت في ستة أيام وخمرت طينة آدم أربعين صباحاً مع أن فيها أنموذجاً من الكل واستعداداً لقبول الخلافة وقابلية تجلي الذات والصفات ومظهرية الكنز الخفي وأشار إلى هذه المعاني بقوله { سأريكم آياتي } اي في مظاهر الآفاق ومرايا أنفسكم بالتدريج وبالتربية في كل طور { فلا تستعجلون } فإن حد الاستكمال من المهد إلى اللحد بل من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يفهمه إلا سليمان الوقت .

ويمكن أيضاً أن يقال : إن الروح الإنساني أول شيء تعلقت به القدرة وهذا معنى العجلة { قل من يكلؤكم } فيه أن ملوك الأرض لو حرسوهم { بالليل والنهار } من الخصوم والأعداء فمن لهم حتى يحفظونهم في ليل البشرية ونهار الروحانية من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته كما أن الرحيمية من صفات الجمال ، فلو وكلهم بالخذلان إلى ظلمة البشرية بقوا في الجهل ، ولو وكلهم بالإضلال في نور المعقولات تاهوا في أودية الحيرة والحجب النورية ، والمنع من الحجب الظلمانية والجهل البسيط أسرع من إزالة الجهل المركب { بل متعنا هؤلاء } الجهال { وآباءهم } الذين علموهم تلك المعقولات التي صارت حجباً نورية لهم حتى اغتروا بظاهر الحال وأنكروا المعاد والشريعة . ثم بين أن الحق يغلب على الباطل ألبتة فقال { أو لم يروا أنا نأتي الأرض } البشرية { ونضع الموازين } ميزان الفضل قد نصب في الأزل { نحن قسمنا } { تلك الرسل فضلنا } وميزان العدل ينصب في الأبد { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } فالأول كالبزرة والثاني كالثمرة .

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)

القراآت { جذاذاً } بكسر الجيم : علي . الآخرون بضمها { اف } بفتح الفاء : ابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب { أف } بالكسر والتنوين : ابو جعفر ونافع وحفص . الباقون بالكسر من غير تنوين { لنحصنكم } بالنون : أبو بكر وحماد ورويس وبالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للدرع لأنها مؤنثة سماعاً : ابن عامر ويزيد وحفص والمفضل وروح وزيد . الباقون بالياء التحتانية والضمير لداود عليه السلام أو للبوس والكل بتخفيف الصاد والرياح على الجمع : يزيد بطريق المفضل الآخرون على التوحيد . { مسني الضر } و { عبادي الصالحون } في آخر السورة مرسلة الياء : حمزة . الباقون بفتحها { وأن لن } يقدر بالياء مجهولاً : يعقوب { ننجي } بضم النون الواحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء : ابن عامر وعباس وأبو بكر وحماد . الآخرون من الإنجاء مخففاً .
الوقوف : { عالمين } ج5 لأن « إذ » يصلح ظرفاً لآتينا أو { لرشده } أو للعلم به مفعولاً لأذكر محذوفاً { عاكفون } 5 { عابدين } 5 { مبين } 5 { اللاعبين } 5 { فطرهن } . ز لواو الابتداء والحال أولى { الشاهدين } 5 { يرجعون } 5 { الظالمين } 5 { إبراهيم } 5 { يشهدون } 5 { يا إبراهيم } 5ط { فعله } . وفيه بعد ويجيء في التفسير { ينطقون } 5 { الظالمون } 5 لا للعطف { على رؤوسهم } ج لاتحاد المقصود مع إضمار القول { ينطقون } 5 { ولا يضركم } ط لاستئناف الدعاء عليهم { من دون الله } ط { تعقلون } 5 { فاعلين } 5 { على إبراهيم } 5 لا بناء على أن التقدير وقد أرادوا { الأخسرين } ج5 للعطف والآية { للعالمين } 5 { إسحق } ط بناء على أن المراد ووهبنا له يعقوب حال كونه نافلة { نافلة } ط { صالحين } 5 { الزكاة } ج لاحتمال الاستئناف والحال { عابدين } 5 وكان ينبغي أن لا يوقف للعطف ولكنهم حكموا بالوقف لتمام القصة وكذلك أمثالها { الخبائث } ط { فاسقين } 5 لا بناء على أن التقدير وقد أدخلناه { رحمتنا } ط { الصالحين } 5 { العظيم } 5 ج للعطف مع الآية { بآياتنا } ط { أجميعن } 5 { غنم القوم } ج لاحتمال الواو بعده الاستئناف والحال { شاهدين } 5 لا للعطف بالفاء { سليمان } ج لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتحاد الكلام { وعلماً } ز لعطف المتفقين مع نوع عدول { والطير } ط { فاعلين } 5 { من بأسكم } ج للاستفهام مع الفاء { شاكرون } 5 { فيها } ط { عالمين } 5 { دون ذلك } ج لاحتمال الاستئناف والحال { حافظين } 5 { الراحمين } 5 ط للفاء وللآية { للعابدين } 5 { وذا الكفل } ط { الصابرين } 5 وقد يوصل لعطف { وأدخلناهم } على { نجينا } للقدرة { في رحمتنا } ط الصالحين 5 { سبحانك } قد يوقف لأجل « أن » ولكنه داخل في حكم النداء { الظالمين } ج5 على ما ذكر في الوجهين { فاستجبنا له } لا لاتفاق الجملتين واتصال النجاة بالاستجابة { من الغم } ط { المؤمنين } 5 { الوارثين } 5 { فاستجبنا له } 5 لا مكان الفصل بين الإستجابة المعجلة وحصول الولد الموهوب على المهلة { زوجه } ط { ورهباً } ط { خاشعين } ط { للعالمين } 5 .

التفسير : الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص ههنا بالنبوة لقوله { رشده } ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأناً ولقوله { وكنا به عالمين } وفيه أنه علم منه أسراراً عجيبة وأحوالاً بديعة حتى اتخذه خليلاً واصطفاه نبياً نظيره { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] وعلى هذا فمعنى قوله { من قبل } اي من قبل موسى وهارون قاله ابن عباس : وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل بالكواكب قاله مقاتل . وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في صلب آدم . قالت الأشاعرة : أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك تناول الكفار . أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد ، نظيره بأن يعطي الأب كل واحد من ولديه ألفاً فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال : أغنى فلان ابنه فيمن ثمر المال ، ولا يقال مثله فيمن ضيع . واعترض بأن قبوله على هذا التقدير يكون جزءاً من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح إستناد إيتاء الرشد إلى الله وحده ، وهذا بخلاف نص القرآن . والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء شبهته به ، وإسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه السلام هذا التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم . وفي قوله { أنتم لها عاكفون } دون أن يقول عليها كقوله { يعكفون على أصنام لهم } [ الأعراف : 138 ] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصاً بها دون خالقها وخالق كل شيء { قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين } لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طيقتهم بالتنبيه على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال : { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } لأن كل مذهب لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالاً أو في حكم ذلك . ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا { أجئتنا بالحق } أي بما ليس بهزل ودعابة { أم أنت من اللاعبين } فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى بالبينة والدليل وجاهدهم أولاً باللسان قائلاً { بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن } الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل : كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم . وقوله { وأنا على ذلكم من الشهداء } فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه « أشهد إنه كريم أو لئيم » لأن الشهادة خبر قاطع . وفيه أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤوا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهاداً بالفعل من غير تقية وخوف قال { وتالله لأكيدن أصنامكم } قال جار الله : في تاء القسم مع أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصاً في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه .

قلت : لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولكنه سهل لمن ايده الله ونصره كما قال علي رضي الله عنه : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة رحمانية . سؤال : الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق الأصنام؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها ، أو أراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم . قال السدي : كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم : لو خرجت معنا؟ فخرج معهم . فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي ، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم . وروى الكلبي أن إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً ، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه : إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } [ الصافات : 88 ، 89 ] وأصبح من الغد معصوباً رأسه ، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال سراً : أما والله لأكيدن أصنامكم ، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره وانتشر الخبر . وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد { قالوا سمعنا فتى يذكرهم } وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا : إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا ، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه { فجعلهم جذاذاً } قال الجوهري : جذذت الشيء جذاً قطعته وكسرته ، والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره . قلت : فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع { إلا كبيراً لهم } أي في الخلقة كما روينا . وقيل : في التعظيم . ويحتمل أن يكون جامعاً للأمرين . أما الضمير الواحد في قوله { لعلهم إليه يرجعون } فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي جعلهم جذاذاً واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون إلى دينه أو غلى السؤال عنه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم } ويحتمل عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي .

والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحاً والفأس على عاتقك ، وهذا بناء على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب ، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلاً على فساد مذهبهم لأن الآلهة يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون : إن المستخف بها يلحقه ضرر عظيم ، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل ما اعتقدوه . فلما انكشفت لهم جلية الحال و { قالوا من فعل هذا } الكسر والحطم والاستخفاف { بآلهتنا إنه لمن الظالمين } المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم { قالوا سمعنا } احتمل أن يكون القائل واحداً ، ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم ، واحتمل أن يكون جمعاً على الوجهين اللذين رويناهما ، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء { ما هذه التماثيل } والفعلان بعد { فتى } صفتان له إلا أن ، الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول « سمعت زيداً » وتسكت حتى تذكر شيئاً مما تسمع ، والثاني ليس كذلك . والأصح أن قوله { إبراهيم } فاعل { يقال } لأن المراد الاسم لا المسمى وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى . { قالوا } اي فيما بينهم { فأتوا به على أعين الناس } الجار والمجرور في محل الحال اي بمرأى منهم ومنظر أو معايناً ومشاهداً قال . في الكشاف : معنى الاستعلاء في « على » أنه يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه { لعلهم يشهدون } عليه بما سمع منه وبما فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس . وقال محمد بن إسحق : معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على مثل فعله . وههنا إضمار أي فأتوا به ثم { قالوا أأنت فعلت هذا } الظلم والاستخفاف { بآلهتنا يا إبراهيم } طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه { فقال بل فعله كبيرهم } وقوله { هذا } صفة كبيرهم .
زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما جاء في الحديث « إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات » وللعلماء في جوابهم طريقان : أحدهما تسليم أنه كذب ولكنهم قالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته وإنما يقبح لاشتماله على مفسدة . وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه ، وزيف هذا الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع ، فلعل الأنبياء أخبروا عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في الواقع . الطيق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه : الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط في غاية الحسن ، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت له : بل كتبته أنت .

كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي . الثاني أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة ، وكأن غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها . الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأنه قال : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلهاً أن يقدر على أمثال هذه الأفعال ، ويؤيد هذا الوجه ما يحكى أنه قال { فعله كبيرهم هذا } غضب أن تعبد معه هذه الصغار ، الرابع ما يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله { بل فعله } ثم يبتدئ { كبيرهم هذا } أي فعله من فعله . الخامس عن بعضهم أنه يقف عند قوله { كبيرهم هذا فاسئلوهم } وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم . السادس أن في الكلام تقديماً وتأخيراً والتقدير « بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم » . فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطاً بكونهم ناطقين ، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين ، السابع قراءة محمد بن السميفع { فعله كبيرهم } بالتشديد أي فلعل الفاعل { كبيرهم } وفيه تعسف . وأما قول إبراهيم عليه السلام { إني سقيم } فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه . وأما قوله لسارة « إنها أختي » فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض مسلم سواهما { فرجعوا إلى أنفسهم } حين نبههم على قبح طريقتهم { فقالوا إنكم أنتم الظالمون } لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة . وقال مقاتل : معناه فلاموا أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير . وقيل : أنتم الظالمون لأنفسكم إذا سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب . يقال : نكسته اي قلبته فجعلت أسفله أعلاه ، وانتكس انقلب ، وانتكاس الإنسان هو أن يكون رأسه من تحت فلهذا قال { ثم نكسوا على رؤوسهم } والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } وفيه أنهم رضوا بإلاهتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق . وقال ابن جرير : المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان انتكاس الحجة قولهم { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } فإن هذه حجة عليهم لا لهم . وقيل : المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلاً وانكساراً .

ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلاً { أفتعبدون } الآية وقد مر في سورة سبحان أن « أف » صوت يدل على التضجر ، والام لبيان المتأفف به ، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم . { قالوا حرقوه } المشهور أن الذي اشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح . وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنه رجل من أعراب العجم يريد الأكراد . وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى وهي من قرى الأنباط وذلك قوله { ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم } [ الصافات : 97 ] ثم جمعوا له الحطب الكثير اربعين يوماً حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم . فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فضجت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة : أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك ، فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه . فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح وقال : إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليك . ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل . وروي أنه قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك . ثم أتاه جبرائيل في الهواء فقال : يا إبراهيم هل لك حاجة؟ قال : أما إليك فلا . قال : فسل ربك . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي : فأرسل الله ملائكة أخذوا بضبعيه وأقعدوه في الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه . وأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وقال : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي . قال المنهال بن عمرو : أخبرت أن إبراهيم مكث في النار أربعين يوماً أو خمسين . وقال : ما كنت أياماً أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها قلت : وذلك لاستغراقه في بحر الفيوض والآثار الربانية ولو لم يكن فيه إلا القرب من لطف خليله والبعد من قهر عدوه لكفى . ثم نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ومعه جليس له من الملائكة والحطب يحترق حواليه فناداه يا إبراهيم : هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم .

فقام يمشي حتى خرج . فقال نمرود : إني مقرب إلى ربك قرباناً فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم ، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة . قال العلماء : اختاروا العقاب بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولهذا جاء في الحديث « لا يعذب في النار إلا خالقها » ومن ثم قالوا { وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين } أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً قوياً فاختاروا له أشد العقاب وهو الإحراق وإلا كنتم مقصرين في نصرتها { قلنا } عن السدي أن القائل هو جبرائيل عليه السلام والأكثرون على أنه سبحانه . وذهب ابو مسلم الأصفهاني إلى أنه لا قول هناك بل أراد به الجعل لأن النار جماد فلا فائدة في خطابه . ويمكن أن يجاب بأن الله قادر على أن يخلق لها فهماً يصح به التخاطب ، ولو سلم فلعل في ذلك الخطاب مصلحة للملائكة . والظاهر أن قوله { يا نار } خطاب لتلك النار المخصوصة فإن الغرض يتعلق ببردها فقط وفي النار منافع للخلائق ، فلا يحسن من الكريم إبطالها . وقيل : المذكور اسم الماهية فلا بد من حصول البرد في تلك الماهية أينما وجدت ، ويناسبه رواية مجاهد عن ابن عباس أنه لم يبق يومئذ في الدنيا ونار إلا طفئت . واختلفوا في أن النار كيف بردت؟ فقيل : إنه تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير . وقيل : خلق في جسد إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار كما يفعل بخزنة جهنم ، وكذلك في النعامة لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة ، والسمندل ولا يؤذيه المقام في النار . وقيل : جعل بينه وبين النار حائلاً منع وصول اثر النار إليه . والمحققون على القول الأول لأن النص دل ظاهره على أن نفس النار صارت باردة ، وليست الحرارة جزءاً من مسمى النار حتى يمتنع كونها ناراً وهي باردة ، وأما على القولين الآخرين فيلزم أن لا يحصل البرد فيها وهو خلاف النص قوله { وسلاماً } أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك حتى كأن ذاتها برد وسلام . والمعنى ابردي حتى يسلم منك إبراهيم ، أو ابردي برداً غير ضار ويناسبه ما روي عن ابن عباس لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها . وقوله { على إبراهيم } حال من فاعل الكون أو متعلق بالبرد والسلام ، ولولا هذا القيد لكانت النار برداً على كافة الخلق ، قوله { فجعلناهم الأخسرين } وفي الصافات { فجعلناهم الأسفلين } [ الآية : 98 ] لأن في هذه السورة كادهم إبراهيم لقوله { لأكيدن أصنامكم } وكادوه لقوله { وارادوا به كيداً } فغلبهم إبراهيم لأنه كسر أصنامهم وسلم من نارهم فكانوا هم الأخسرين . وفي الصافات { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم }

[ الصافات : 97 ] فأججوا ناراً عظيمة وبنوا بناء عالياً ورفعوه إليه ورموا به إلى أسفل فرفعه الله وجعلهم في الدنيا من السافلين وفي العقبة في السافلين .
ويروى أنهم بنوا لإبراهيم بنياناً وألقوه فيه ، ثم أوقد عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه ، ثم فتحوا عنه فإذا هو غير محترق يعرق عرقاً . فقال لهم حارث أبو لوط : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله ، فجعلوا فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته فآمن له لوط كما يجيء في العنكبوت ، وهاجر إلى ارض الشام فذلك قوله { ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها } اي بالخصب وسعة الأرزاق أو بالمنافع الدينية لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها . وقيل : ما من أرض عذب إلا وينبع أصله من تحت صخرة بيت المقدس . يروى أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة . وقيل : الأرض مكة { ووهبنا له } أي لإبراهيم { إسحق ويعقوب نافلة } هي ولد الولد وهي حال من يعقوب فقط ، وقيل : النافلة العطية الزائدة ومنه الصلاة النافلة . ونوفل للرجل الكثير العطاء ، وعلى هذا احتمل أن يكون حالاً من يعقوب فقط أي سأل إسحق فأعطيه وأعطى يعقوب زيادة وفضلاً من غير سؤال . واحتمل أن يكون حالاً من كليهما أي وهبناهما له عطية منا ، والأول قول مجاهد وعطاء ، والثاني وهو أن النافلة العطية قول ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة والفراء والزجاج { وكلا } من إبراهيم وإسحق ويعقوب { جعلنا صالحين } قال الضحاك : اي مرسلين وقال غيره : عالمين عاملين . وفي قوله { جعلنا صالحين } وكذا قوله { وجعلناهم أئمة } دلالة الأشاعرة على أن الصلاح بجعل الله وكذا الإمامة وغيرها من الأفعال أجاب الجبائي بأنه اراد تسميتهم بذلك ومدحهم وأنه حكم به لهم كما يقال : إن الحاكم عدل فلاناً وجرحه إذا حكم بالعدالة والجرح ، وضعف بأنه خلاف الظاهر . وقوله { يهدون بأمرنا } اي يدعون الناس إلى دين الله بأمرنا وإرادتنا . قال أهل السنة : فيه أن الدعوة إلى الحق والمنع من الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى . وقالت المعتزلة : فيه أن من صلح لأن يقتدى به في الدين فالهداية واجبة عليه ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها . ولا خلاف في أن الهادي إذا كان مهتدياً بنفسه كان الإنتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاقتداء به أميل فلذلك قال { وأوحينا إليهم فعل الخيرات } اي أن يفعلوها لأن المراد هو إيحاء أن يحدثوا الخيرات من انفسهم ونفس الفعل الخير لا يمكن إيحاؤه فرد إلى فعل الخيرات تخفيفاً ، فإن المقصود معلوم ، ثم أضيف المصدر إلى المفعول لإفادة تخفيف آخر في اللفظ وكذلك { إقام الصلاة وإيتاء الزكاة } أي أوحينا إليهم أن يقيموا ويؤتوا ، قال الزجاج ، حذف الهاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها .

وقال غيره : الإقام والإقامة مصدران . ولا ريب أن تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر دليل على شرفهما والأولى أصل التعظيم لأمر الله ، والثانية أصل الشفقة على خلق الله . { وكانوا لنا عابدين } فيه أنه سبحانه لما وفى بعهد الربوبية فآتاهم النبوّة والدرجات العالية فهم ايضاً وفوا بعهد العبودية فلم يغفلوا عنها طرفة عين .
قوله { ولوطاً } عن الزجاج أنه معطوف على { أوحينا } وعن أبي مسلم أنه معطوف على قوله { ولقد آتينا إبراهيم } والحكم الحكمة ، وقيل الفصل بين الخصوم ، وقيل النبوة والقرية سذوم والمراد أهلها وخبائثهم مشهورة قد عددت في « الأعراف » وفي « هود » . و { قوم سوء } نقيض رجل صدق { وأدخلناه في رحمتنا } أي أهل رحمتنا أو في الجنة والثواب . عن ابن عباس والضحاك . وقال مقاتل : هي النبوة أي أنه لما كان من الصالحين آتيناه النبوة كي يقوم بحقها . وقال أهل التحقيق : حين آتاه الحكم والعلم وتخلص من جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الذات والصفات وإنها هي الرحمة في الحقيقة . قوله { ونوحاً } وكذا نظائره معطوف على قوله { ولقد آتينا } أو المراد واذكر نوحاً . و { إذ نادى } بدل منه اي اذكر وقت ندائه { من قبل } هؤلاء المذكورين والنداء هو دعاؤه على قومه بنحو قوله { رب إني مغلوب فانتصر } [ القمر : 10 ] . وقوله { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] بدليل قوله { فاستجبنا له فنجيناه وأهله } أي أهل دينه وهم من معه في الفلك { من الكرب العظيم } وهو الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه وإيذائهم . وفي لفظ الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس ، ثم وصفه بالعظم إشعار بأنه عليه السلام لقي من قومه أذى شديداً لا يكتنه كنهه . ثم زاده بياناً بقوله { ونصرناه } الاية . تقول : نصرته منه فانتصر إذا جعلته منتصراً منه أي منتقماً . { وداود وسليمان إذ يحكمان في } شأن { الحرث إذ نفشت } ظرف { ليحكمان } وهو حكاية حال ماضية . قال ابن السكيت . النفش بالتحريك أن ينتشر الغنم بالليل من غير راع وعليه جمهور المفسرين . وعن الحسن : إنه يكون ليلاً ونهاراً . وليس في قوله { وكنا لحكمهم } دلالة على أن أقل الجمع اثنان لاحتمال أنه أرادهما والمتحاكمين إليهما . والضمير في { ففهمناها } للحكومة أو الفتوى . ويروى أنه دخل رجلن على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث . اي زرع . وقيل كرم- والآخر صاحب غنم . فقال صاحب الحرث : إن غنم هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئاً . فقال داود : اذهب فإن الغنم لك . فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال : كيف قضى بينكما؟ فأخبراه . فقال : لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا . فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال : كيف كنت تقضي بينهما؟ قال : أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم غلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه .

قال أبو بكر الأصم : الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول . والمشهور عن الصحابة ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله { وكنا لحكمهم } ولقوله : { ففهمناها } والفاء للتعقيب فدل على أنه فهم حكماً خلاف الأول . وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد ، فيه خلاف بين العلماء ، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلاً كالجبائي لقوله : { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] { أن أتبع إلا ما يوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] ولأن النبي قادر على تحصيل حكم الواقعة بالنص ، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر ، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقف في بعض الأحكام انتظاراً للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف ، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل ايضاً وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل . وأجيب بأنه إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } [ النجم : 3-4 ] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللاً بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه . سلمنا جواز المخالفة لكنه مشروط بصدوره عن غير معصوم ، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة اجتهادية امتنع خلافهم . وكان الرسول أوكد ، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل . ومما يدل على جواز الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعاً بين النقيضين ، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين ، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح . قال الجبائي : ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء جائز لكن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار ، فكيف يجعل الغنم في مقابلة ذلك؟ وأيضاً إن اجتهاد داود إن كان صواباً فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله { وكلا آتينا حكماً وعلماً } وايضاً لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علماً ، وأيضاً قوله { ففهمناها } يدل على أنه من الله لا من سليمان . وأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفواً عنها كما في حكم المصراة ، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب العلوم والظن في الطريق كما مر ، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله .

أما الذين منعوا من الاجتهاد مطلقاً أو في هذه المسألة ، فذهبوا إلى أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان ، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ إلى غير من أوحى إليه المنسوخ . قال الفقهاء : مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث . ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبداً فأبق من يده فإنه يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد ، فإذا ظهر العبد يرد ويقال له ضمان الحيلولة . هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار ، لأن جرح العجماء جبار . إلا أن يكون معها راع . والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية ، فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار . وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدته ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها ، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل . قال بعض الأصوليين : كل مجتهد مصيب لقوله { وكلا آتينا حكماً وعلماً } وقال بعضهم : المصيب واحد لقوله { ففهمناها سليمان } ولو كان كلاهما مصيباً لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة . وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتاً في شرعنا .
ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلاً : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل : كيف سخرهن؟ فقال : { يسبحن } { والطير } وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه ، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل : كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه . وقال الكلبي : إذا سبح داود أجابته الجبال . وقال سليمان بن حيان : كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطاً واشتياقاً . وعلى الثاني قيل : كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى ، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة ، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم ، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلاً للكلام ، ولهذا يقال : إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة . وإنما قدم التسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفاً كالأطفال والمجانين : { وكنا فاعلين } اي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم .

واللبوس اللباس يقال : البس لكل حالة لبوسها والمراد الدرع . عن قتادة أنها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال { فهل أنتم شاكرون } قال علماء المعاني : هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا « فهل أنتم تشكرون » إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف اي هل تشكرون تشكرون . ومن قولنا « أفأنتم شاكرون » لأنه وإن كان ينبئ عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه دون المذكور في القرآن فإن « هل » ادعى للفعل من الهمزة ، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلوم عن العلة القوية يدل على وجود مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة .
ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال { ولسليمان } أي وسخرنا له { الريح } حال كونها { عاصفة } ولا ينافي هذا قوله في { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } [ ص : 36 ] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها عاصفة تحمل كرسيه من اصطخر إلى الشام ، أو أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفاً لهبوبها على حسب إرادته وأمره . وفي قوله { وكنا بكل شيء عالمين } إشارة أنه فعل كل ما فعل بالأنبياء المذكورين عن حكمة بالغة وتدبير محكم وإحاطة بأحوالهم وعلم باستئهالهم . قوله { ومن الشياطين } أي سخرنا من الشياطين { من يغوصون له } ويجوز أن يكون الكلام خبر أو مبتدأ و « من » موصولة أو موصوفة . كانوا يغوصون لأجله في البحار فيستخرجون الجواهر { ويعملون عملاً دون ذلك } أي متجاوزاً ما ذكر من بناء المدائن والقصور وسائر الصنائع العجيبة . قالت العلماء : الظاهر أن التسخير لكفارهم دون المؤمنين منهم لإطلاق الشياطين ولقوله : { وكنا لهم حافظين } أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد في الجملة إذ كان من دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار . والحفظ إما بسبب الملائكة أو مؤمني الجن الموكلين بهم ، أو بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم مخالفته . قال ابن عباس في تفسيره : يريد أن سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء . قبل الجبائي : كيف تتهيأ منهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة وإنما تمكنهم الوسوسة فقط ، فلعل الله تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم على تلك الأعمال الشاقة وزاد في عظمهم معجزة لسليمان فلما مات سليمان ردهم إلى الخلقة الأولى . إذ لو أبقاهم على الخلقة الثانية لكان شبهة على الناس ، فلعل بعض الناس يدعي النبوة ويجعله دلالة عليها .

واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بأنك لم قلت : إن الجن أجسام فلعلهم من الموجودات التي ليست متحيزة ولا حالة في المتحيز . ولا يلزم منه الاشتراك مع الباري فإن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فضلاً عن اللوازم السلبية . سلمنا أن الجن أجسام لكن لم قلت : إن البنية شرط للقدرة وليس في يدكم إلا الاستقراء الضعيف؟ سلمنا أنه لا بد من تكثيف أجسامهم فمن اين يلزم ردهم إلى الخلقة الأولى؟ فإن قال : لئلا يفضي إلى التلبيس . قلنا : إذا ثبت أن ذلك كان معجزة لنبي قبله لم يتمكن المتنبي من الاستدلال ومن عجيب قدرة الله سبحانه أن أصلب الأجسام في هذا العالم الحجارة والحديد ، وقد سخرهما الله تعالى لداود فأنطق الحجر ولين الحديد ، وفي ذلك دلالة باهرة على أنه تعالى قادر على إحياء العظام الرميمة . ومن الغرائب أن الشياطين مخلوقة من النار وكان يأمرهم بالغوص في الماء ، وفيه إظهار الضد بالضد فتبارك الله رب العالمين .
ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه السلام وصبره على بلائه حتى صار مثلاً . عن وهب بن منبه أنه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط اصطفاه الله وجعله نبياً ، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل . وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين اخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا صلى الله عليه وسلم حجب عن جميع السموات إلا من استرق السمع . قال : فسمع غبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال : يا رب إنك أنعمت على عبدك ايوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء ، وأنا زعيم إن ضربته بالبلاء ليكفرن بك . فقال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله . فجمع إبليس عفاريت الجن وقال لهم : ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال ايوب . فقال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس : فأت الإبل ورعاتها . فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض ، إعصار لا يدنو منها شيء إلا احترق ، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها . فذهب إبليس على شكل أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائماً يصلي ، فلما فرغ من الصلاة قال : يا ايوب هل تدري ما الذي صنع ربك؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها . فقال أيوب : إنها ماله إذا شاء نزعه .

فقال إبليس : إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه . ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني ، خرجت من بطن أمي عرياناً وأضجع في التراب عرياناً وأحشر إلى الله عرياناً ، ولو علم الله عرياناً ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الرواح وصرت شهيداً وأوجر فيك . فرجع غبليس إلى أصحابه خاسئاً فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه . فقال إبليس : فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها ، فخرج إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول ، ورد عليه أيوب الرد الأول ، فرجع إبليس صاغراً فقال له عفريت آخر : عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحاً عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال : فاذهب إلى الحرث والثيران ، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به ايوب فرد عليه مثل الرد الأوّل ، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئاً فشيئاً حتى أتى على جميعها . فلما رأى إبليس صبره على ذلك صعد إلى السماء وقال : إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة . فقال الله : انطلق فقد سلطتك ، فأتى أولاد ايوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلاً بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال : لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك! فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على رأه ، فاغتنم ذلك إبليس ، ثم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال : إلهي إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك . فقال تعالى : انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه . فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليل ، وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره ، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة ، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره . ثم إن وهباً طول في الحكاية إلى أن قال : إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثاً متضرعاً إليه قائلاً : يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ، يا ليتني كنت عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني .

ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم ولياً وللأرملة قيماً . إلهي أنا عبد ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي . جعلتني للبلاء غرضاً وسلطت عليّ ما لو سطته على جبل لضعف عن حمله . إلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسال اللقمة فيطعمني من يمن بها عليّ ويعيرني بفقري وهلاك أولادي . قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام : ليتك لو كرهتني لم تخلقني . ثم قال : ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه من زمرة الصابرين . قلت : إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما كان غرضه أن يرتد أيوب عليه السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة : من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء . الم تسمع قول يعقوب عليه السلام : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } [ يوسف : 86 ] .
ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله { إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } الضر بالفتح الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال . قال جار الله : ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب ، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب . يحكى أن عجوزاً تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا . فقال لها : ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها حباً . وفي قوله : { وأنت أرحم الراحمين } رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود إليه ، ولا لمضرة يدفعها عنه ، ولا يطلب شيئاً ، ولا يجلب مدحاً وكل رحيم سواه . فأما رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضاً تتوقف على داعية يخلقها الله فيه ، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره التي لا بد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو ، وإنها ضرورية في الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور . واختلف العلماء في السبب الذي لأجله دعا الله ايوب؛ فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب ولابعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه ذات يوم فوجدا ريحاً فقالا : لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة .

قال : فما شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما . فقال : اللهم إن كنت تعلم إني لم أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجداً . وقال : اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به . وقال الحسن : مكث ايوب بعدما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهراً ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام . وكان أيوب مواظباً على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعاً من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض قالوا له : ما خبرك؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سالت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا يزيد بالبلاء إلاّ صبراً وحمداً لله تعالى . فقالوا له : أي مكرك أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ من اين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال : من قبل امرأته . قالوا : فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإِنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها . قال : أصبتم فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال : أين بعلك يا أمة الله؟ قالت : هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده . فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها وذكر لها ما كان بها من النعم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه . قال الحسن : فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال : لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ . قال : فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين اللون؟ أين الحسن؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح ، فقال أيوب : أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا الذي تذكرين من المال والولد والصحة؟ قالت : الله . قال : كم متعنا به؟ قالت : ثمانين سنة . قال : فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر . قال : ويلك ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة! والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها . فلما نظر ايوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجداً وقال { إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } فقال : ارفع رأسك فقد استجبت لك { اركض برجلك } [ ص : 42 ] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة . إلا سقطت ثم ضرب رجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحاً ، وعاد غلى شبابه وجماله حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب فجعل يضكه بيده فأوحي إليه : يا أيوب ألم أغنك؟ قال : بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها .

قال : فخرج حتى جلس على مكان مشرف . ثم إن امرأته قالت : هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت وتأكله السباع لأرجعن إليه . فلما رجعت ما رأته في تلك الكناسة ولا تلك الحالة فجعلت تطوف وتبكي فدعاها أيوب وقال : ما تريدين يا أمة الله؟ فقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة . فقال : تعرفينه إذا رايته؟ قالت : وهل يخفى علي أحد يراه . فتبسم قائلاً : أنا هو . فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال : إنك أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان فعافاني الله ببركة ذلك . الرواية الثالثة : قال الضحاك ومقاتل : بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، فلما غلب أيوب إبليس ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والحجسم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها : أنت صاحبة أيوب؟ قالت : نعم . قال : فهل تعرفيني؟ قالت : لا . قال : أنا إله الأرض ، أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي . قال وهب : وسمعت أنه قال : لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله تعالى لعوفي مما فيه من البلاء . وايضاً قال لها : لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى ارد عليك المال والولد وأعافي زوجك . فرجعت إلى أيوب فأخبرته فقال : أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة وقال عند ذلك { مسني الضر } يعني من طمع إبليس في سجودي وسجود زوجتي له . الرواية الرابعة قال إسماعيل السدي : إن إبليس تمثل للقوم في صورة بشر وقال : تركتم أيوب في قريتكم أعدى إليكم ما به من العلة ، فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم : إن امرأته تدخل عليكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته ، فحينئذ لم يستعملها أحد فتحيرت وكان لها ثلاث ذوائب فعمدت غلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً فقال أيوب : من أين هذا؟ قالت : كل فإنه حلال . فلما كان من الغد لم تجد شيئاً فباعت الثانية ، وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت : كل فإنه حلال . فقال : لا آكل أو تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم فقال : { رب إني مسني الضر } . والرواية الخامسة قيل : سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها غلى موضعها وقال : قد جعلني الله طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال : { مسني الضر } فأوحى الله إليه : لولا أني جعلت في كل شعرة منك صبراً لما صبرت .

واعلم أن مس الضر ههنا مطلق إلا أنه ورد في « ص » مقيداً وذلك قوله { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ ص : 41 ] فصح أن يكون سنداً لهذه الروايات إلا أن الجبائي طعن فيها بأن الشيطان كيف يقدر على إحداث الأمراض والاسقام والقادر على ذلك قادر على خلق الأجسام وحينئذ يكون إلهاً . وأيضاً إن هذه التأثيرات تنافي قوله سبحانه حكاية عنه { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم } [ إبراهيم : 22 ] والجواب أنه كان بإذن من الله كما حكينا فلا محذور ولا تنافي . وقال ومن البعيد أنه لم يسأل الله إلا عند أمور مخصوصة والجواب أن الأمور مرهونة بأوقاتها . وقال انتهاء أمراض الأنبياء إلى حد التنفير من القبول غير جائز . والجواب المنع ولا سيما بشرط العافية في العاقبة . قوله سبحانه { فكشفنا ما به من ضر } مجمل يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله . وقوله : { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } تفصيل لذلك المجمل وفيه قولان : الأول قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومقاتل والكلبي : إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم . والثاني قال الليث : ارسل مجاهد إلى عكرمة وسئل عن الآية فقال : أراد أهلك لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا . فقد روي أن زوجته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابناً له . ثم بين الحكمة في ذلك الابتلاء ثم الاستجابة بقوله { رحمة من عندنا } لأيوب { وذكرى } لغيره من العابدين للرحمن أو الرحمة والذكرى كلاهما { للعابدين } لكي يتفكروا فيصبروا كما صبر حتى يثابوا في الدارين كما أثيب . وإنما خص الرحمة والتذكرة بالعابدين لأنهم هم المنتفعون بذلك لا الذين يعبدون الهوى والشيطان . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة { رحمة من عندنا } وقال في « ص » { رحمة منا } [ ص : 43 ] لأنه بالغ ههنا في الدعاء بزيادة قوله : { وأنت أرحم الراحمين } فبالغ في الاستجابة لأن لفظ « عند » يدل على مزيد التخصيص وأنه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة .
وحين ذكر صبر أيوب وانقطاعه إليه ذكر غيره من الأنبياء المشهورين بالصبر منهم إسماعيل عليه السلام ، صبر على الانقياد للذبح وعلى الإقامة بوادٍ لا زرع فيه ولا ضرع ، وصبر على بناء البيت ورفع قواعده ، فلا جرم أخرج الله ببركة ذلك من صلبه خاتم النبيين ، ومنهم إدريس وقد مر ذكره في سورة مريم . قال ابن عمر : بعث إلى قومه داعياً لهم إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ورفع إدريس إلى السماء . ومنهم ذو الكفل قيل : هو زكريا وعلى هذا فقد تقدمت قصته أيضاً .

وفي هذا القول نظر ، لأن قصة زكريا تجيء عن عقيب فيلزم التكرار . وقيل : هو إلياس وكان خمسة من الأنبياء ذوي اسمين : إسرائيل ويعقوب ، وإلياس وذو الكفل ، وعيسى والمسيح ، ويونس وذو النون ، ومحمد وأحمد . وقيل : يوشع بن نون سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله ديناً ودنيا ، أو لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم . وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد : إنه لم يكن نبياً ولكن كان عبداً صالحاً ، وقال الحسن والأكثرون : إنه من الأنبياء وهذا أقرب لأنه معطوف عليهم معدود فيما بينهم . يروى عن ابن عباس أن اليسع أو نبياً آخر في بني إسرائيل قربت وفاته فأراد أن يستخلف رجلاً على الناس فقال : من يقبل مني خلافتي على أن يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي بين الناس فلا يغضب؟ فقام رجل وقال : أنا أتكفل لك هذه الثلاثة فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن ، فحسده إبليس فأتاه وقت القيلولة فقال : إني لي غريماً قد ظلمني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به ، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة وعاد إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح ، ثم أتاه من الغد وقال مثل ذلك حتى شغله عن القيلولة وهكذا في اليوم الثالث . وقيل : إنه في اليوم الثالث قال للبواب : قد غلب عليّ النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة البيت ودق الباب من داخل ، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال : أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب ، فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ في البيت فقال له : أتنام والخصوم على الباب فعرفه وقال : إبليس؟ قال : نعم . أعييتني في كل شيء فعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بالكفالة . ولا خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو المسكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقباً محضاً وبين أن يكون مقيداً فحمله على المقيد أولى . واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد .
أما القول الأوّل فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبياً قوياً فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فقال له الملك : من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء؟ فقال : يونس بن متى . فإنه قويّ أمين . فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس : هل أمرك الله بإخراجي؟ قال : لا . قال : فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضباً للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوماً هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون : ههنا رجل عاصٍ أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح ، إلا وفيها رجل عاصٍ ، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر حتى تسلم السفينة .

فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس . فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت ، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً لك . ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد ، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له . أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب سلامتهم؟ . فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم : إن الله أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل . فقالوا : ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم ، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم . فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم : إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب . فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه . فقال علماؤهم : اطلبوه فإِن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء ، وإن كان قد خرج فهو كما قال . فطلبوه فلم يجدوه ، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ، فلما طلع الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل .
القول الثاني وعليه أكثر المفسرين : أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس . واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه القصة من وجوه : الأوّل أنه ذهب مغاضباً لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير ، ومن المعلوم أن مغاضبة الله من أعظم الذنوب . ولئن سلم أنه كان مغاضباً لقومه فذلك ايضاً محظور لأنه كان يجب أن يصبر معهم . الثاني قوله { فظن أن لن نقدر عليه } وهو شك في قدرة الله . الثالث اعترافه بأنه من الظالمين والظلم من صفات الذم . الرابع : إخبار الله تعالى في موضع آخر بقوله { فالتقمه الحوت وهو مليم } [ الصافات : 142 ] والمليم ذو الملامة . الخامس : قوله للنبي صلى الله عليه وسلم

{ ولا تكن كصاحب الحوت } [ القلم : 48 ] وقال في موضع آخر { فاصبر كما صبر ألوا العزم } [ الأحقاف : 35 ] والجواب أنه عليه السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله ، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها . فغاية ما في الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد ادائها إلى أن يأذن الله له في المهاجرة . وعن الثاني أن معنى . { لن نقدر عليه } لن نضيق كقوله { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد : 26 ] { ومن قدر عليه رزقه } [ الطلاق : 7 ] فهو من القدر لا من القدرة ، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء . قال الزجاج : يقال قدر الله الشيء قدراً وقدره تقديراً . والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج . يقال : قدر الله عليه الضراء وقدر له السراء كما يقال : قدر القاضي على فلان أوله . ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا ، فالقدرة غير وإعمالها غير ، فظن انتفاء الأول كفر دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله ، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه : عن ابن زيد . سلمنا الكل لكن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان ، ولكن المؤمن يرده بعد ذلك بالبرهان . وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلاً على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته والله تعالى أعلم .
أما قوله { فنادى في الظلمات } فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } [ البقرة : 257 ] وقيل : ظلمات بطن الحوت والبحر والليل . وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر . وقيل : إن الحوت إذا عظم غوصه في البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة . ومعنى { أن لا إله إلا أنت } أي لا إله إلا أنت أو بأنه لا إله إلا أنت { سبحانك } تنزيه له عن كل النقائص . منها الظن المذكور على أي وجه فرض ، ومنها العجز عن تخليصه ، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة . { إني كنت من الظالمين } بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك قال { فاستجبنا له } ثم بين الاستجابة بقوله { ونجيناه من الغم } أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت وبسبب خطيئته { و } كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا { كذلك ننجي المؤمنين } من كل كرب إذا استغاثوا بنا .

عن النبي صلى الله عليه وسلم « ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له » وعن الحسن : ما نجاه الله إلا إقراره على نفسه بالظلم . وقد بقي في الآية بحث لفظي وهو أن بعض أهل العربية غلطوا عاصماً في قراءته { نجي } بالتشديد والنون لا تدغم في الجيم . واستخرج بعضهم له وجهاً وهو أن يكون { نجي } فعلاً ماضياً مجهولاً من التنجية لكنه أرسل الياء وأسند الفعل إلى المصدر المضمر ونصب المؤمنين بذلك المصدر أي نجى نجاء المؤمنين كقولك « ضرب الضرب زيداً » ثم ضرب زيداً على إضمار المصدر ، وأنشد ابن قتيبة حجة لهذه القراءة :
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
وقال أبو علي الفارسي وغيره من الأئمة المحققين : إن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما الوجه الصحيح في قراءة عاصم أن يحمل ذلك على الإخفاء ، فلعل الراوي التبس عليه فظنه إدغاماً . ثم بين انقطاع زكريا وتبتله غليه رغبة فيمن يؤنسه ويعينه في أمر دينه ودنياه وإن انتهى الحال به وبزوجته في الكبر إلى حد اليأس من ذلك عادة . وفي قوله { وأنت خير الوارثين } وجهان : أحدهما أنه ثناء على الرب بأن مآل كل الأمور إليه فيكون مؤكداً لما فوض إليه أمر الولد . والثاني أنه اراد إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث . وفي إصلاح زوجه وجوه : منها أنها جعلت صالحة للولادة بعد عقرها . ومنها أنها جعلت حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق ، ولا شك أن حسن خلق الزوج نعمة عظيمة . ومنها أن الإصلاح يتعلق بأمر الدين كأنه سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعاً . ويرد على الوجه الأول إن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد ، والجواب أن الواو لا تفيد الترتيب أو أراد بالهبة إرادة الهبة . أما الضمير في قوله { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } فقد قيل : إنه عائد إلى زكريا وولده وأهله . وقال جار الله : إنه للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمسارعتهم في تحصيل الخيرات ، وهذا من أجلّ ما يمدح به المؤمن لأنه يدل على الجد والرغبة في الطاعة . { ويدعوننا رغباً } في ثوابنا { ورهباً } عن عقابنا . ومعنى { خاشعين } قال الحسن : ذللاً لأمر الله . وقيل : متواضعين . وعن مجاهد : الخشوع الخوف الدائم في القلب . وفي تقديم الجار والمجرور على { خاشعين } إشارة إلى أنهم لا يخشون أحداً إلا الله . وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه الذي إذا ارخى ستره وأغلق بابه رأى الله منه خيراً ليس هو الذي يأكل خشباً اي علقاً ويبلس خشناً ويطأطئ رأسه .

ولما فرغ من ذكر الرجال الكاملين ذكر من هي سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً حتى إنها منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته . والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر « فنفخت في بيت فلان » أي نفخت في المزمار في بيته ، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا -وهو جبرائيل- لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ غلى جوفها . وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال { فنفخنا فيه } [ التحريم : 12 ] أراد فرج الجيب أو غيره . وإنما قال { وجعلناها وابنها آية للعالمين } لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب .
التأويل : الإشارات المفهومة من قصص الأنبياء أكثرها مرّ فلنذكر ما يختص بالمقام . منها قوله { بل فعله كبيرهم } أي الله الكبير لأن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسانية بل من طبيعتها أن تنحتها ، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما ذلك بتوفيق الله وتأييده . فقوله { هذا } بدل الكلِ من الضمير في فعله : { قالوا حرقوه } إذا أراد الله أن يكمل عبداً من عباده المخلصين فداه خلقاً عظيماً كما اراد استكمال حوت في البحر فداه كثيراً من الحيتان الصغار ، فلما أراد تخليص جسد الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه فداء له حتى أجمعوا على تحريقه ولم يعلموا أن تلك النار له نور . وذلك العذاب له روح وريحان ، لأن نار العشق قد احرقت أنانيته حتى لم ير غير الله بل لم يبق إلا هو فلم يمكن للنار أن تتصرف فيه فوقع قوله : { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } تمثيلاً لهذا المعنى .
بالنار خوفني قومي فقلت لهم ... النار ترحم من في قلبه نار
ونجينا إبراهيم الروح ولوط القلب من أرض البشرية إلى أرض الروحانية المتبركة المشرفة المشرقة لتجلي الذات واصلفات . { ونجيناه } من قرية القالب . { التي كانت تعمل الخبائث } بالأوصاف البهيمية والسبعية { وداود } الروح { وسليمان } القلب { إذ يحكمان في } شأن حرث الدنيا { إذ نفشت } اي دخلت فيه في ظلمة ليل البشرية { غنم القوم } أي الصفات البشرية من غير راعي العقل فأفسدت الحرث بالإفراط والإسراف . فحكم الروح بانجذابه إلى عالمه بالكلية أن يمنع الأوصاف عن التصرف فيها مطلقاً . { ففهمناها سليمان } القلب لكونه متقلباً في طودي الروح والجسد أن يحكم بمنع التصرف فيها إلى أن يعود الحرث من حالة الإسراف فيه المؤدي إلى الفساد إلى حالة التوسط والاعتدال الذي هو المعتبر في باب الكمال والإكمال جمعاً بين المصلحتين ورعاية للجانبين . { وسخرنا مع داود الجبال } وهي الأعضاء والجوارح التي فيها ثقل وكثافة { يسبحن } بتسبيحه { والطير } وهن القوى الحيوانية السيارة بل الطيارة بين قضاء القلب والقالب .

هذا في الباطن ، وأما في الظاهر فإذا استولى سلطان الذكر على أجزاء البدن انعكس نوره في مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فيذكر ما يذكره كالحصاة سبحت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن بعض الصحابة أنه قال : كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه { وعلمنا صنعة لبوس لكم } إن الله تعالى ألهم داود الروح كيفية إلانة القلب الذي هو في القساوة بمنزلة الحديد حتى يتولد من ذلك القلب أوصاف حميدة تحصن الإنسان من بأس الأعداء التي هي النفس والهوى والشيطان . وسخرنا لسليمان } القلب ريح الروح الحيواني فإنه مركب الروح الإنساني به يتهيأ له السير إلى مقام بورك له فيه { ومن الشياطين } وهم الأوصاف النفسية { من يغوصون له } في بحر الحديد فيستخرجون درر الفضائل الإنسية { ويعملون عملاً دون ذلك } من الوسائط والوسائل إلى تلك الفضائل : { وكنا لهم حافظين } من أن يزيغوا عن سواء السبيل ويميلوا عن جادة الشريعة وقانون الطريقة . قال أهل التحقيق : إذا بلغ الإنسان مبلغ الرجال البالغين سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات كما سخر لسليمان الريح والجن والشياطين والطير ومن العلويات الشمس حين ردت أجل صلاته ، وسخر لنبينا جميع السفليات والعلويات حتى قال « زويت لي الأرض » وقال « أوتيت مفاتيح خزائن الأرض » وكان الماء ينبع من بين أصابعه . وقال « نصرت بالصبا » وكانت الأشجار تسلم عليه وتسجد له وتنقلع بإشارته من مكانها وترجع ، والحيوانات تتكلم معه وتشهد بنبوته . وقال « أسلم شيطاني على يدي » وأما من العلويات فقد انشق القمر بإشارته وسخر له البراق وجبرائيل ، وعبر السموات والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى . { وأيوب } القلب المبتلى بديوان الهواجس والوساوس الذي فارقه أوصافه الحميدة وأخلاقه الشريفة لشدة تألمه بالعلائق البدنية وعوائق الأمور الدنيوية { فكشفنا ما به من ضر } بأن قلنا له { إركض برجلك } [ ص : 42 ] نظيره { وألق ما في يمينك } [ طه : 69 ] لينبع ماء حياة العلم والمعرفة فتسلم من تعلقات الكونين المؤذية للقلب والروح { إذ ذهب } من عالمه { مغاضباً } لغيره من المجردات فألقي في بحر الدنيا فالتقمه حوت النفس الأمارة بالسوء ، وابتلع حوت النفس حوت القالب { فنادى } في ظلمات حجب النفس والقالب والدنيا { وزكريا } الروح { وهبنا له يحيى } القلب { واصلحنا له } زوج القالب { ويدعوننا رغباً } في الفناء فينا { ورهباً } من البقاء بأنانيتهم { وكانوا لنا خاشعين } أما القالب فبأعمال الشريعة ، وأما النفس فبتهذيب الأخلاق ، وأما القلب فبالاطمئنان بذكر الله ، وأما السر فباجتهاده في كشف السرار ، وأما الروح فببذل الوجود في طلب المعبود ، وأما الخفي فبإفنائه في الله وبقائه بالله . { ومريم } النفس { التي أحصنت } قلبها عن تصرفات الكونين فأحييناها بالحياة الأبدية .

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

القراآت : { وحرم } بكسر الحاء : حمزة وعلي وعاصم غير حفص وأبي زيد عن المفضل { فتحت } بالتشديد : ابن عامر ويزيد ويعقوب . { لا يحزنهم } بضم الياء وكسر الزاء يزيد { نطوي } بضم التاء الفوقانية وفتح الواو { والسماء } بالرفع : يزيد . { للكتب } على الجمع : حمزة وعلي وخلف وحفص { بدأنا } مثل { أنشأنا } { قال } بالألف على حكاية قول الرسول { رب } بحذف الياء اكتفاء بالكسرة : حفص غير الخراز { رب } بضم الباء على أنه مبتدأ { احكم } على صيغة التفضيل . يزيد عن يعقوب الباقون { رب احكم } { يصفون } على الغيبة : المفضل وابن ذكوان في رواية .
الوقوف : { واحدة } ز لأن المقصود من قوله { أنا ربكم } قوله { فاعبدون } وكان الكلام متصلاً { فاعبدون } 5 { وبينهم } ط { راجعون } 5 { لسعيه } ج لاختلاف الجملتين { كاتبون } 5 { لا يرجعون } 5 { ينسلون } 5 { كفروا } ط لإضمار القول { ظالمين } 5 { جهنم } ط { واردون } 5 { ما وردوها } ط { خالدون } 5 { فيها } ط { لا يسمعون } 5 { الحسنى } لا لأن ما بعد خبر « إن » { مبعدون } 5 لا لأن ما بعده خبر بعد خبر { حسيسها } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { خالدون } 5 ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون صفة أو استئنافاً { الملائكة } ط لأن التقدير قائلين هذا يومكم { توعدون } 5 { للكتب } ط لأن الجار يتعلق بما بعده { نعيده } ط لحق المضمر اي وعدنا وحقاً { علينا } ط { فاعلين } 5 { الصالحون } 5 { عابدين } 5 ط لاختلاف الجملتين { للعالمين } 5 واحد ج للاستفهام مع الفاء { مسلمون } 5 { على سواء } ط لابتداء النفي { توعدون } 5 { تكتمون } 5 { حين } 5 { بالحق } ط لأن ما بعده مبتدأ خارج عن المقول ، ومن قرأ { ربي احكم } فوقفه مجوز لنوع عدول من الواحد إلى الجمع { تصفون } 5 .
التفسير : لما فرغ من قصص الأنبياء أراد أن يذكر ما استقر عليه أمر الشرائع في آخر الزمان فقال { إن هذه أمتكم } وسيرتكم ، فالأمة الدين والطريقة لأنه أصل وقانون يرجع إليه . وللتركيب دلالة على ذلك وهذا إشارة إلى ملة الإسلام أي إن هذه الملة هي طريقتكم وسيرتكم التي يجب أن تكونوا عليها حال كونها طريقة واحدة غير مختلفة . { وأنا ربكم } لا غيري { فاعبدون } والخطاب للناس كافة ، وكان الظاهر أن يقال بعده وتقطعتم أمركم ينكم أي جعلتم أمر دينكم بينكم قطعاً كما يقسم الشيء بين الجماعة فيصير لهذا نصيب ولهذا نصيب فصرتم فرقاً مختلفة وأحزاناً شتى ، إلا أنه عدل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه يقبح أمرهم إلى غيرهم فيقول : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء؟ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة وأن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا : يا رسول الله ومن الفرقة الناجية؟ قال : الجماعة الجماعة »

فهذا الحديث مفسر للآية من حيث إن هذه الأمة يجب أن يكونوا على كلمة واحدة ، طعن بعضهم في الحديث أنه أراد بالاثنتين والسبعين فرقة اصول الأديان فإنها لا تبلغ هذا العدد ، وإن أراد الفروع فإنها أضعاف هذا العدد . وأجيب بأنه أراد ستفترق أمتي هذا العدد في حال ما ، وهذا لا ينافي كون العدد في بعض الأحوال أنقص أو أزيد . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة { فاعبدون وتقطعوا } بالواو وفي « المؤمنين » { فاتقون فتقطعوا } [ الأية : 5253 ] بالفاء لأن الخطاب ههنا أعم والعبادة أعم من التقوى . وأيضاً الخطاب يتناول الكفار وقد وجد منهم التقطع قبل هذا القول ، وفي سورة المؤمنين الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بدليل قوله { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } [ الآية : 51 ] ثم قال { فتقطعوا } [ الآية : 53 ] اي ظهر منهم أي من أمتهم التقطع بعد هذا القول ولأن التقطع منهم أغرب أكده هناك بقوله { زبراً } وفي قوله { كل إلينا راجعون } وعيد عظيم للفرق المختلفة . ثم فصل مآل لهم بقوله { فمن يعمل } الآية والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه في قوله { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] وإنما لم يقل « فلا يكفر سعيه » لأن نفي الجنس أبلغ فإن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها . وفي قوله { وأنا له } اي لذلك السعي { كاتبون } مبالغة أخرى فإن المثبت في الصحيفة أبعد من النسيان والغلط كما قيل : قيدوا العلم بالكتابة . ولا سيما إذا كان الكاتب ممن لا يجوز عليه السهو والنسيان . قال المفسرون : معناه حافظون لنجازي عليه . وقيل : مثبتون في أم الكتاب أو في صحف الأعمال . هذا حال السعداء وأما أحوال أضدادهم فذلك قوله { وحرام } ومن قرأ { حرم } فإنه فعل بمعنى مفعول . والتركيب يدور على المنع اي ممتنع أو ممنوع وهذا خبر لا بد له من مبتدأ وذلك قوله { أنهم لا يرجعون } أو غير ذلك . والرجوع إما الرجوع عن الشرك إلى الإسلام أو الرجوع إلى الدنيا أو إلى الآخرة . وعلى الأول إما أن تكون « لا » زائدة أقحمت للتأكيد ومعنى الآية ممتنع على أهل قرية عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها أن يرجعوا أو يتوبوا إلى أن تقوم الساعة والمراد تصميمهم على الكفر . وإما أن تكون معيدة ولكن الحرام بمعنى الواجب تسمية لأحد الضدين باسم الآخر باشتراكهما في المنع إلا أن الوجوب منع عن الترك والحرمة منع عن الفعل ، وقد ورد في الاستعمال مثل ذلك قال سبحانه { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا } [ الأنعام : 151 ] وترك الشرك واجب وليس بمحرم ، وقالت الخنساء :

وإن حراماً لا ارى الدهر باكياً ... على شجوه إلا بكيت على عمرو
وعلى الثاني فالإهلاك على أصله ، والمعنى أن رجوعهم إلى الدنيا ممتنع أو عدم رجوعهم واجب إلى قيام الساعة نظيره قوله { فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون } [ يس : 50 ] وعلى الثالث فقوله « حتى » غاية لقوله { لا يرجعون } اي ممتنع عدم رجوع المهلكين إلى عذاب الآخرة حتى الساعة ، وذلك أن رجوعهم إلى عذاب النار قبل الساعة واجب بقوله { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } [ غافر : 46 ] وقال أبو مسلم : أراد أن رجوعهم إلى الآخرة واجب إلى هذه الغاية أي أنهم يكونون أول الناس حضوراً في محفل القيامة . وعلى الرابع فالمعنى وحرام عليهم ذلك وهو المذكور من السعي المشكور غير المكفور لأنهم لا يرجعون عن الكفر إلى أن تقوم الساعة .
قوله تعالى { حتى إذا فتحت } « حتى » هي التي يقع بعدها الجملة وهي ههنا مجموع الشرط والجزاء و « إذا » المفاجأة تسد مسد فاء الجزاء ، وقد يجمع بينهما للتعاون على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد وإنما احتيج إلى هذا التأكيد لأن الشرط يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل يوم القيامة ، ولعل بينهما فاصلة بالزمان إلا أن التفاوت القليل كالمعدوم والمضاف محذوف أي سد يأجوج ومأجوج وتأنيث الفعل لأنهما قبيلتان وهما ومن جنس الأنس كما مر في آخر الكهف . يقال : الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج . وفي الحديث « إن منكم واحداً ومن يأجوج ومأجوج ألف » قوله { وهم من كل حدب ينسلون } قال أكثر المفسرين : الضمير ليأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد . وعن مجاهد أنه لجميع المكلفين الذين يساقون إلى المحشر . والحدب ما إرتفع من الأرض والنسل الإسراع . { واقترب } عطف على { فتحت } وهو داخل في الشرط . و { الوعد الحق } القيامة وقوله { فإذا هي شاخصة } كقوله في سورة إبراهيم { ليوم تشخص فيه الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] وقال في الكشاف : { هي } ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره . قلت : فعلى هذا { هي } مبتدأ { وشاخصة } خبره { وأبصار } بدل { هي } ولو قيل : { هي } ضمير القصة مبتدأ والجملة التي هي أبصار الذين كفروا شاخصة خبره جاز وهو قول سيبويه . ثم ههنا إضمار اي يقولون { يا ويلنا } وهو في موضع الحال من الذين كفروا والعامل شاخصة { قد كنا في غفلة من هذا } الوعد أو الأمر { بل كنا ظالمين } أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب الرسل وعبادة الأوثان . ثم بين حال معبوديهم يوم القيامة فقال : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } اي محصوبها بمعنى محصوب فيها ، والحصب الرمي ومنه الحصباء لأنه يرمى بها الشيء وقرئ حطب . واللام في قوله { أنتم لها واردون } كاللام في قوله « هو لزيد ضارب » وذلك لضعف عمل اسم فيما تقدم عليه . والمعنى لا بد لكم أن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها .

ثم ألزمهم الحجة بقوله { لو كان هؤلاء } المعبودون { آلهة } في الحقيقة { ما وردوها } لكنهم واردوها للخبر الصادق الذي يتنبه لصدقه من يتأمل في إعجازه فينتج أن هؤلاء ليسوا بآلهة وأنها لا تستحق تعظيماً أصلاً . ثم أخبر أنهم بعد ورودهم النار لا يخلصون منها أبداً فقال { وكل } اي من العابدين والمعبودين { فيها خالدون لهم فيها زفير } قد سبق معانيه في آخر سورة هود { وهم فيها لا يسمعون } شيئاً إما لأنهم يجعلون في توابيت من نار عن ابن مسعود ، وإما لأنه تعالى يصمهم كما يعميهم . والصمم في بعض الأوقات لا ينافي كونهم سامعين أقوال أهل الجنة في غير ذلك الوقت ، أو المراد أنهم لا يسمعون ما يسرهم ، أو الضمير للمعبودين والسماع سماع إجابة ، وعلى هذا فالضمير في { لهم فيها زفير } للعابدين وجاز اعتماداً على فهم السامع حيث يرد كلاً من الضميرين غلى ما يناسبهما كأنه قيل : العابد يدعو والمعبود لا يجيب ، ويجوز أن يكون للمعبودين أيضاً لأن فيهم من يتأتى منه الزفير كالشياطين فغلب ، أو لأن الجماد ينطقه الله وقتئذ والزفير بمعنى اللهيب والله أعلم . يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث وكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليهم { إنكم وما تعبدون من دون الله } الاية . فأقبل عبد الله بن الزبعري فأخبره الوليد بن المغيرة بنا جرى فقال معترضاً : اليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال عليه السلام : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك وأنزل الله تعالى { إن الذين سبقت } الآية . فخرج من الحديث . الآية جواب ابن الزبعري على أتم وجه وأكمله كأنه قيل أولاً إن الاية باقية على عمومها لأن الذين عبدوا عزيراً والمسيح والملائكة لم يعبدونهم في الحقيقة ، وإنما عبدوا الشياطين التي دعتهم إلى ذلك ، ولئن سلم أنهم عبدوهم في الحقيقة لكنهم مخصوصون بما سبقت لهم منا الخصلة الحسنى وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو بتوفيق الطاعة وكل ميسر لما خلق له . ومن المفسرين من أجاب عن اعتراض ابن الزبعري بوجوه آخر منها : أن قوله { إنكم } خطاب لمشركي قريش وإنهم لم يعبدوا سوى الأصنام . ولقائل أن يقول : حمل الآية على العموم أتم فائدة . ومنها أن قوله { وما تعبدون } لا يتناول العقلاء فيسقط الاعتراض . ولقائل أن يقول : ما أعم لا مباين فيشمل ذوي العقول وغيرهم ولهذا جاء { والسماء وما بناها } [ الشمس : 5 ] سبحان ما سخركن لنا . ومنها أنه تعالى يصور لهم في النار ملكاً على صورة من عبدوه ، وضعف بأن القوم لم يعبدوا تلك الصورة ، وبأن الملك لا يتعذب بالنار كخزنة جهنم .

واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقوله { إن الذين } لا يبعد أن يكون عاماً لكل المؤمنين ويؤيده ما روي أن علياً قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف . وزعم مثبتوا لعفو أن الحسنى في الاية هي الوعد بالعفو لأنه قال { أولئك عنها مبعدون } بأزاء قوله { أنتم لها واردون } والورود الدخول فالإبعاد الإخراج من النار بعد أن كانوا فيها . وأيضاً إبعاد البعيد محال . وقوله { لا يسمعون حسيسها } إذ الصوت الذي يحس به مخصوص بما بعد الإخراج . وايضاً قوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر } يفهم منه أنه يحزنهم الفزع الأصغر ، فالأكبر عذاب الكفار والأصغر عذاب صاحب الكبيرة ، والأكثرون على أن المراد من قوله { مبعدون } أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة لأن ما جعل بعيداً عن شيء ابتداء يحسن أن يقال : إنه أبعد عنه ، وهؤلاء لم يفسروا الورود في قوله { وإن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] بالدخول كما مر في سورة مريم . وفي قوله { لا يسمعون حسيسها } تأكيد للإِبعاد فقد لا يدخل النار ويسمع حسيسها . ثم بين أنهم مع العبد عن المنافي منتفعون بالقرب من الملائم ملتذون به على سبيل التأبيد فقال { وهم فيما إشتهته } { أنفسهم } أي فيما تطلبه للالتذاذ به { خالدون } هذا نصيب أهل الجنة ، وأما أهل الله فهم فيما اشتهت قلوبهم وارواحهم وأسرارهم خالدون . والفزع الأكبر قيل : النفخة الأخيرة لقوله { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض } [ النمل : 87 ] وعن الحسن هو الانصراف إلى النار فإنه لا فزع أكبر مما إذا شاهدوا النار ، وهذا أمر يشترك فيه أهل النار جيمعاً ، ثم مراتب التعذيب بعد ذلك متفاوتة . وعن الضحاك وسعيد بن جبير هو حين تطبق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة ، وقيل : حين يذبح الموت على صورة كبش أملح فعند ذلك يستقر أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة وتستقبلهم الملائكة مهنئين قائلين { هذا يومكم } اي وقت ثوابكم { الذي كنتم توعدون } ذلك قال الضحاك : هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم . والعامل في { يوم نطوي السماء } : { لا يحزنهم } أو { تتلقاهم } . والسجل اسم للطومار الذي يكتب فيه . وعن ابن عباس أنه ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي ايضاً عن علي رضي الله عنه . وروى أيضاً أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمعروف . قال الزجاج : هو الرجل بلغة الحيش . فعلى هذه الوجوه فالطي وهو المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الوجه الأول هو مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف كطي الطاوي للسجل وهو قول الأكثرين وإشتقاقه من السجل الدلو العظيم وقد قرئ به والتركيب يدل على الامتلاء والاجتماع ولهذا لا يسمى الدلو سجلاً إلا إذا كان فيه ماء ومنه « أسجلت الحوض ملأته » .

وقوله { للكتاب } أي للكتابة ومعناه ليكتب فيه أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب . ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي ما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، وكيفية هذا الطي لا يعلمها إلا من أخبر عن ذلك أما قوله { كما بدأنا } فمن المفسرين من قال : إنه ابتداء كلام ومنهم من قال : إنه وصف قوله { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } بقوله { يوم نطوي } ثم عقبه بوصف آخر فقال { كما بدأنا أول خلق } وهو مفعول نعيد الذي يفسره { نعيده } و « ما » كافة أي نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء . فكما أوجده أولاً عن عدم يعيده ثانياً عن عدم . ومنهم من قال : الإعادة إنما تتعلق بالضم والتركيب بعد تفريق الأجزاء الاصلية والآية لا تطابقه كل المطابقة . وأول خلق كقولك « هو أول رجل » اي إذا فضلت رجلاً رجلاً فهو أولهم ، وإنما خص أول الخلائق بالذكر تصويراً للإيجاد عن العدم ودفعاً للاعتراض . وجوز جار الله أن تنتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده و « ما » موصولة اي نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و { أول خلق } ظرف { لبدأنا } أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ وقوله { وعداً } مصدر مؤكد لأن قوله نعيد عدة للإعادة وقيل : أراد حتماً { علينا } لسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه فإن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم حقق ذلك بقوله { إنا كنا فاعلين } اي سنفعل ذلك لا محالة فإنا قادرون عليه . عن سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد أن الزبور جنس للكتب المنزلة كلها ، والذكر أم الكتاب يعني اللوح ففيه كتابة كل ما سيكون اعتباراً للملائكة ، وكتب الأنبياء كلهم منتسخة منه ، وعن قتادة أن الزبور هو القرآن ، والذكر هو التوراة . وعن الشعبي أن الزبور هو كتاب داود عليه السلام والذكر التوراة . وجوز الإمام فخر الدين أن يراد بالذكر العلم أي كتبنا فيه بعد أن كنا عالمين غير ساهين . والمراد تحقيق وقوع المكتوب فيه ، والأرض أرض الجنة ، والعباد الصالحون هم المؤمنون العالمون بما يجب عليهم نظيره قوله { وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين } [ الزمر : 74 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والسدي وأبو العالية . وإنما ذهبوا إلى هذا القول لأن أرض الدنيا تعم الصالح وغير الصالح ، ولأن الآية وردت بعد ذكر الإعادة . وعن ابن عباس أيضاً في رواية الكلبي أنها أرض الدنيا يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار نظيره { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفكم في الأرض }

[ النور : 55 ] وقيل : الأرض المقدسة يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند نزول عيسى ابن مريم { إن في هذا } الذي ذكر في السورة من الأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك { لبلاغاً } لكفاية { لقوم عابدين } عاملين بما ينبغي عمله من الخيرات بعدما عملوا من كيفية أدائها . والبلاغ ما يبلغ به المرء مطلوبه من الوسائط والوسائل ، ولا مطلوب أجل من سعادة الدارين فكل من كان وسيلة إلى نيل هذا المطلوب على الوجه الأتم الأكمل كان وجوده رحمة من الله للطالب المتحير وما ذاك إلا خاتم النبيين فلهذا قال { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } وكونه رحمة للكل لا ينافي قتله بعض الكفرة والتعرض لأموالهم وأولادهم كما أن كي بعض أعضاء المريض بل قطعه لا ينافي حذق الطبيب وإشفاقه على المريض ومن هنا قيل : آخر الدواء الكي . والعاقل لا ينسب التقصير إلى الفاعل لقصور في القابل . قالت المعتزلة : لو كان الكفر الكافر بخلق الله لم يكن إرسال الرسول رحمة له لأنه لا يحصل له حينئذ إلا لزوم الحجة عليه . وأجيب بأنه كونه رحمة للفجار هو أنهم أمنوا بسببه عذاب الاستئصال ، ولا يلزم أن يكون الرسول رحمة للمؤمنين من جهة كونه رحمة للكافرين ، والجواب المحقق أن كونه رحمة عامة بالنسبة غلى أمة الدعوة لا ينافي كونه رحمة خاصة بالنسبة إلى أمة الإجابة وهو قريب مما ذكرناه أولاً ، والحجة وتبعتها لازمة على الكافر وإن لم يبعث النبي غايته أنها بعد البعثة ألزم . وفي الآية دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة لأنه رحمة لهم فإنهم من العالمين وعورض بقوله { ويستغفرون لمن في الأرض } [ الشورى : 5 ] والاستغفار رحمة . والجواب أن الرحمة بمعنى كونه في نفسه مكملاً في الغاية غير الرحمة بمعنى الدعاء ، فلا يلزم من كون الأول سبباً للأفضلية كون الثاني كذلك ، ثم بين أن أصل تلك الرحمة وأسها هو دعاؤه إلى التوحيد والبراءة عن الشرك فقال { قال إنما يوحى إلي } إن كانت « ما » موصولة فمعناه أن الذي يوحي إليَّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزه إلى ما يناقضها أو يضادها بأي قسمة فرضت وإن كانت كافة المعنى أن الوحي مقصور على استئثار الله بالوحدة ، وذلك أن القصر يكون أبداً لما يلي إنما وفي قوله { فهل أنتم مسلمون } بعث لهم على قبول هذا الوحي الذي هو أصل التكاليف كلها ، وفيه نوع من التهديد فلذلك صرح به قائلاً { فإن تولوا فقل آذنتكم } اي أعلمتكم والمراد ههنا أخص من ذلك وهو الإنذار { على سواء } هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله { فأنبذ عليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] إلى وقت اي حال كونكم مستوين في ذلك لا فرق بين القريب والأجنبي والقاصي والداني والشريف والوضيع ولهذا قال أبو مسلم : الإيذان على سواء هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله

{ فأنبذ إليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] وقيل : أراد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من أصول التكاليف ولا سيما التوحيد على السوية من غير فرق في الإبلاغ بين مكلف ومكلف . ولست { أدري أقريب ما توعدون } أم بعيد والموعود قيل : هو عذاب الآخرة . واعترض بأنه ينافي قوله { واقترب الوعد الحق } وقيل : هو الأمر بالقتال لأن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة . وقيل : هو إعلاء شأن الإسلام وغلبة ذويه فإنه لا بد أن يلحق للكفار حينئذ ذلة وصغار . ولما أمره أن ينفي عن نفسه علم الغيب أمره أن يقول لهم إن الله سبحانه هو العالم بالسر والعلن فيعلم ما تجاهرون به من المطاعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الإحن والضغائن فيجازيكم على القبيلين { وإن أدري لعله } اي ما أدري لعل تأخير هذا الوعد أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بالجهاد امتحان لكم لينظر كيف تعملون وتمنيع لكم { إلى حين } حضور وقت الموعد . وقال الحسن : لعل ما أنتم عليه من الدنيا ونعيمها بلية لكم . وقيل : اراد لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت ابتلاء لكم لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه اشد . ومعنى { رب احكم بالحق } أقضى بيني وبين من يكذبني بالعذاب . قال قتادة : امره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } [ الأعراف : 89 ] فاستجيب له فعذبوا ببدر ، وقال جار الله : بالحق لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم كما قال « أشدد وطأتك على مضر » وقيل : معناه وافعل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع تنصرني عليهم كأنه سبحانه قال له : قل داعياً إليَّ رب احكم بالحق وقل متوعد للكفار { وربنا الرحمن المستعان } الذي يستعان به { على ما تصفون } من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل ، وكانوا يطمعون أن يكون لهم الغلبة والدولة فقلب الله الأمر عليهم . وفي هذا الأمر تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ورفع عن مقداره حيث أمر بالانقطاع إلى الرب في دفع أذية القوم ليحصل له مع الخلاص من أذيتهم شرف الاستجابة وهذه غاية العناية .
التأويل : { إن هذه أمتكم } فيه إشارة إلى أن السالك إذا عبر المقامات التي ذكرنا تصير متفرقات شمله مجتمعة في الفناء بالله والبقاء به ، فيكون أمة واحدة في ذاته كما أن إبراهيم كان أمة فيعرفه الله نفسه ويقول { أنا ربكم } الذي بلغتكم هذه الرتبة { فاعبدون } أي فاعرفون { وتقطعوا أمرهم } فمنهم من سكن إلى الدنيا ، ومنهم من سكن إلى الجنة ، ومنهم من فر إلى الله { كل إلينا راجعون } أما طالب الدنيا فيرجع إلى صورة قهرنا وهي جهنم ، وأما طالب الآخرة فيرجع إلى صورة رحمتنا وهي الجنة ، وأما الذي يطلبنا فإنه يرجع إلينا بالحقيقة { وإنا له كاتبون } في الأزل من أهل السعادة { حتى إذا فتح } سد { يأجوج } النفس و { مأجوج } الهوى ، والسد أحكام الشريعة وفتحها مخالفاتها وموافقات الطبع وهم أعني دواعي النفس من كل معدن شهوة من الحواس الظاهرة والباطنة { ينسلون } فيفسدون ما يمرون عليه من القلب والسر والروح { واقترب الوعد } إهلاك القلوب الغافلة { فإذا هي شاخصة ابصار } بصائرها بالنهماك في الأهواء { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } العناية الأزلية { لا يسمعون حسيسها } أعني مقالات أهل البدع والأهواء { وهم فيما اشتهت أنفسهم } المطمئنة المجذوبة بجذبة { ارجعي } في مقامات السير في الله { خالدون } الفزع الأكبر قوله في الأزل « هؤلاء في النار ولا أبالي » { يوم نطوي } سماء وجود الإنسان بتجلي صفات الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء وذلك قوله { كما بدأنا أول خلق نعيده } يعني أن الرجوع يكون بالتدريح كما أن البدء كان بالتدريج خلق النطفة علقة ثم خلق العلقة مضغة ثم خلق المضغة عظاماً ثم كسا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر .

ففي الإعادة يجب أن يمر السالك من الإحساس على الحيوانية ثم النباتية ثم المعدنية ثم البسائط العنصرية ثم الملكوتية ثم الروحانية ثم إلى صفات الربوبية بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { ولقد كتبنا في الزبور } أي في أم الكتاب { من بعد الذكر } أي بعد أن قلنا للقلم أكتب نظيره { كن فيكون } [ يس : 82 ] أن أرض جنة الوجود الحقيقي { يرثها عبادي الصالحون } وهم الذين طويت سماء وجودهم المجازي . فالوجود المجازي لكونه غير ثابت ولا مستقر كالسماء ، ولوجود الحقيقي لكونه ثابتاً ومستقراً على حالة واحدة كالأرض { لقوم عابدين } عارفين . { وما أرسلناك } من كتم العدم { إلا رحمة للعالمين } فلولاك لما خلقت الأفلاك « أول ما خلق الله روحي » ولولا الأزل لم تنته الهوية إلى الآخر والله أعلم .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)

القراآت : { سكرى } في الحرفين على تأويل الجماعة : حمزة وعلي وخلف { ونقر } { ثم نخرجكم } بالنصب فيهما : المفضل { وربأت } بالهمزة حيث كان . يزيد { ليضن } بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { خاسر الدنيا } اسم فاعل منصوباً على الحالية . روح وزيد { ثم ليقطع } { ثم ليقضوا } بكسر اللام فيهما : ابو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وورش وافق القواس في { ليقضوا } وزاد ابن عامر { وليوفوا } { وليطوفوا } وقرأ الأعشى { وليوفوا } بالتشديد ، وقرأ أبو بكر وحماد { وليوفوا } بالتشديد وسكون اللام . الباقون بالتخفيف والسكون { هذان } بتشديد النون : ابن كثير .
الوقوف : { ربكم } ج على تقدير فإِن { عظيم } 5 { شديد } 5 { مريد } 5 لا لأن ما بعده صفة { السعير } 5 { لنبين لكم } ط لأن التقدير ونحن نقر ومن قرأ بالنصب لم يقف { اشدكم } ج لانقطاع النظم في اتحاد المعنى { شيئاً } ط { بهيج } 5 { قدير } 5 لا للعطف { فيها } لا { القبور } 5 { منير } 5 لا لأن ما بعده حال { عن سبيل الله } ط { الحريق } 5 { للعبيد } 5 { حرف } ج للشرط مع الفاء { به } لا للعطف مع الفاء مع الاستقلال { على وجهه } ق إلا لمن قرأ { خاسر الدنيا } ط { والآخرة } ط { المبين } 5 { من ينفعه } ط { البعيد } 5 { من ينفعه } ط { العشير } 5 { الأنهار } ط { ما يريد } 5 { ما يغيظ } 5 { بينات } ط { من يريد } 5 { يوم القيامة } ط { شهيد } 5 { من الناس } ط وقيل : { يوصل } ويوقف على { العذاب } ط { مكرم } ط { ما يشاء } 5 { في ربهم } ز لعطف الجملتين المتفقتين مع أن ما بعده ابتداء بيان حال الفريقين أحدهما { فالذين كفروا } والثاني { أن الله يدخل } { من نار } ج5 { الحميم } ج5 لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً أو وصفاً على أن اللام للجنس كما في قوله : ولقد أمر على اللئيم يسبني . { والجلود } 5ط { حديد } 5 { الحريق } 5 .
التفسير : إنه قد أنجر الكلام من خاتمة السورة المتقدمة إلى حديث الإعادة وما قبلها أو بعدها كوراثة المؤمنين الأرض وما معها كطي السماء ، فلا جرم بدأ الله سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثاً على التثوى التي هي خير زاد إلى المعاد ويدخل في التقوى فعل الواجبات وترك المنكرات ، ولا يكاد يدخل فيها النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب . ويمكن أن يقال : إن ترك النوافل قد يفضي إلى إخلال بالواجب فلهذا لا يكاد المتقي يتركها . يروى أن هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما اصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ، ولم يطبخوا قدراً وكانوا من بين حزين وباك ومتفكر وهذه الزلزلة وهي المذكورة في قوله

{ إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] ومعناها شدة التحريك ، وتضعيف الحروف دليل على تضعيف المعنى كأنه ضوعف زلل الاشياء عن مقارها ومراكزها . والإضافة إضافة المصدر إلى الفاعل على المجاز الحكمي العائد إلى الإسناد في قولك « زلزلت الساعة الأرض » أو إلى المفعول فيه على الاتساع فلا مجاز في الحكم لأن المراد حينئذ هو أن فاعلها الله في القيامة قاله الحسن . وعن الشعبي هي طلوع الشمس من مغربها فتكون الإضافة بمعنى اللام كقولك « اشراط الساعة » قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن المعدوم شيء لأن الله تعالى سمى زلزلة الساعة شيئاً مع أنها معدومة . أجابت الأشاعرة بأن المراد هو أنها إذا وجدت كانت شيئاً عظيماً . وانتصب { يوم ترونها } أي الزلزلة بقوله { تذهل } أي تغفل عن دهشة { كل مرضعة } وهي التي ترضع بالفعل مباشرة لإرضاع وإنما يقال لها المرضع من غيرها إذا أريد معنى أعم وهو أنه من شأنها الإرضاع بالقوة أو بالفعل كحائط وطالق . وفي هذا تصوير لهول الزلزلة كأنه بلغ مبلغاً لو القمت المرضعة الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الخوف . و « ما » في { عما ارضعت } مصدرية أو موصولة أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل . عن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام . وإنما قال { كل ذات حمل } دون كل حامل ليكون نصاً في موضع الجنين فإن الحمل بالفتح هو ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، والثاني خارج بدليل العقل فبقي الأول . قال القفال : ذهول المرضعة ووضع ذات الحمل حملها يحتمل أن يكون على جهة التمثيل كقوله { يوماً يجعل الولدان شيباً } [ المزمل : 17 ] { وترى الناس } أفرد بعد أن جمع لأن الزلزلة تراها الناس جميعاً ، وأما السكر الشامل للناس فإنه يراه من له أهلية الخطاب بالرؤية وقتئذ ولعله ليس إلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله { سكارى وما هم بسكارى } أثبت السكر أولاً على وجه التشبيه فإن الخوف مدهش كالمسكر ، ونفاه ثانياً على التحقيق إذ لم يشربوا خمراً وهذه أمارة كل مجاز . روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك . فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار . قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد . فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم فقالوا : يا رسول الله اينا ذلك الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور البيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود »

واختلفوا في أن شدة ذلك اليوم تحصل لكل واحد أو لأهل النار خاصة فقيل : إن الفزع الأكبر يعم وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون . وقيل : تحصل للكل ولا اعتراض لأحد على الله .
ثم اراد أن يحتج على منكري البعث فقدم لذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال { ومن الناس من يجادل } نظيره { ومن الناس من يقول } [ البقرة : 8 ] وقد مر إعرابه في أول البقرة . ومعنى { في الله } في شأن الله وفيما يجوز عليه ومالا يجوز من الصفات والأفعال ويفهم من قوله { بغير علم } أن المعارف كلها ليست ضرورية وأن المذموم من الجدال هو هذا القسم ، وأما الجدال الصادر عن العلم والتحقيق فمحمود مأمور به في قوله { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] والشيطان المريد العاتي سمي بذلك لخلوه عن كل خير وقد مر في قوله { مردوا على النفاق } [ التوبة : 101 ] والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر . عن ابن عباس نزلت في النضر بن الحرث وكان مجادلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين والله غير قادر على إحياء من بلي وصار تراباً . ومعنى { كتب عليه } قضي على ذلك الشيطان أو علم من حاله وظهر وتبين ، والأول يليق بأصول الأشاعرة ، والثاني بأصول الاعتزال . وقيل : المراد كتب على من يتبع الشيطان ، ولا يخلو عن تعسف أنه من تولى الشيطان اي جعله ولياً له اضله عن طريق الجنة وهداه إلى النار ، قال صاحب الكشاف إن الأول فاعل { كتب } والثاني عطف عليه . وفيه نظر لأن « من » يبقى بلا جواب إن جعلت شرطية وبلا خبر إن جعلت موصولة . والصحيح أن قوله { فأنه } مبتدأ أو خبر محذوف صاحبه والتقدير من تولاه فشأنه أن يضله أو أنه يضله ثابت اللهم إلا إذا جعلت « من » موصوفة تقديره كتب على من يتبع الشيطان أنه شخص تولى الشيطان فأنه كذا أي كتب عليه ذلك ، وحين نبه عموماً على فساد طريقه المجادلين بغير علم خصص المقصود من ذلك ، والمعنى إن ارتبتم في البعث فمعكم ما يزيل ريبكم وهو أن تنظروا في بدء خلقكم ، فبين التراب والنطفة والماء الصافي كماء الفحل لأنه ينطف نطفاناً أي يسيل سيلاً تاماً مباينة ، وكذا بين النطفة والعلقة وهي قطعة الدم الجامد لأنها إذ ذاك تعلق بالرحم ، وكذا بين العلقة والمضغة وهي قدر ما يمضغ من اللحم ، ولا ريب أن القادر على تقليب الإنسان في هذه الأطوار المتباينة ابتداء قادر على إعادته إلى أحد هذه الأطوار بل هذه أدخل في القدرة وأهون في القياس .

قال الجوهري : المخلقة التامة الخلق . وقال قتادة والضحاك : أراد إنه يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك فلذلك يتفاوت الناسفي خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصهم . وقال مجاهد : المخلقة الولد يخرج حياً ، غير المخلقة السقط لأنه لم يتوارد عليها خلق بعد خلق وقيل : المخلقة المصورة وغير المخلقة ضدها وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وشكل ، ويناسبه ما روى علقمة عن عبد الله قال : إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً فقال : يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دماً ، وإن قال مخلقة قال : يا رب فما صفتها أذكر أو أنثى ما رزقها وأجلها أشقي أم سعيد؟ فيقول سبحانه : انطلق إلى الكتاب فاستنسخ منه هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي آخر صفتها . وقوله { لنبين لكم } غاية لقوله { خلقناكم } أي إنما نقلناكم من حال إلى حال ومن طور غلى طور لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا . وفي ورود الفعل غير معدي إلى المبين إشعار بأن ذلك المبين مما لا يكتنه كنهه ولا يحيط به الوصف ، وقيل : اراد إن كنتم في ريب من البعث فإنا نخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبيِّن لكم ما يزيل ريبكم في أمر بعثكم ، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يعجز عن الإعادة؟ ولما بين كيفية خلق الإنسان بالتدريج إلى أن تتكامل أعضاؤه أراد أن يبين أن من الأبدان ما تمجه الأرحام ، ومنها ما تنطوي هي عليه إلى كمال النضج والتربية ، فاسقط القسم الأول اكتفاء بالثاني فاستأنف قائلاً { ونقر في الأرحام ما نشاء } أن نقره من ذلك { إلى أجل مسمى } هو كمال ستة اشهر إلى أربع سنين غايتها عرفت بالاستقراء { ثم نخرجكم } أي كل واحد منكم طفلاً ، أو الغرض الدلالة على الجنس فاكتفي بالواحد ، { ثم } نربيكم شيئاً بعد شئ { لتبلغوا اشدكم } ومن قرأ { ونقر } بالنصب فمعناه خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغايتين : إحداهما أن نبين قدرتنا ، والثانية أن نقر في الأرحام من نقر حتى تولدوا وتنسلوا وتبلغوا أحد التكليف . والأشد كمال القوة والتمييز كأنه شدة في غير شيء واحد فلذلك بني على لفظ الجمع قوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وقد مر في « النحل » شبيهه فليرجع إليه .
ثم أكد أمر البعث بالاستدلال من حال النبات أيضاً فقال { وترى } أي تشاهد أيها المستحق للخطأ { الأرض } حال كونها { هامدة } ميتة يابسة لا نبات بها ، والتركيب يدل على ذهاب ما به قوام الشيء ورواؤه من ذلك . همدت النار هموداً طفئت وذهبت بكليتها وهمد الثوب هموداً بلي { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } تحركت ولا يكاد يستعمل الاهتزاز إلا في حركة تصدر عن سرور ونشاط { وربت } انتفخت وزادت كما مر في قوله

{ زبداً رابياً } [ الرعد : 17 ] وذلك في « الرعد » والمراد كمال تهيؤ الرض لظهور النبات منها . ومن قرأ بالهمزة فمعناه ارتفعت من قولهم « ربأ القوم » إذا كان لهم طليعة فوق شرف . ثم اشار إلى كمال حاله في الظهور بقوله { وأنبتت من كل زوج } أي بعضاً من كل صنف . { بهيج } والبهجة النضارة وحسن الحال ولهذا قال المبرد : هو الشيء المشرق الجميل . وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز لأن المنبت بالحقيقة هو الله { ذلك } الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من عجائب الصنع وغرائب الإبداع حاصل ( ب ) أمور خمسة : الأول { أن الله هو الحق } الثابت الذي لا يزول ملكه وملكه لاحق في الحقيقة إلا هو فما سواه يكون مستنداً إلى خلقه وتكوينه لا محالة . الثاني أنه من شأنه إحياء الموتى . الثالث { أنه على كل شيء قدير } وهذا كالبيان لما تقدمه فإن القادر على كل شيء ممكن قادر لا محالة على إحياء الموتى لأنه من جملة الممكنات وبيان إمكانه ظاهر . فإن كل ما جاز على شيء في وقت ما جاز عليه في سائر الأوقات إذ لو امتنع فإما لغيره فالأصل عدمه ، وإما لذاته وهذا يقتضي أن لا يتصف به أولاً فإن ما بالذات لا يزول بالغير . الرابع والخامس قوله { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } قال في الكشاف : معناه أنه حكيم لا يخلف ميعاده ، وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد . قلت : إن هذا التفسير غير وافٍ فلقائل أن يقول : فحاصل الآيات يرجع إلى قولنا { إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم } بالتدريج وأحيينا الأرض بسبب أنا وعدنا الساعة ووعدنا صادق . وهذا كلام غير منتظم في الظاهر كما ترى ، ولو صح هذا لاستغنى عن التطويل بأن يقال مثلاً : لا تشكوا في أمر البعث فإنه كائن لا محالة . والذي يسنح لي في تفسيره أنه سبحانه أزال الشك في أمر البعث بقوله { إن كنتم في ريب من البعث } فمزيل ريبكم هذان الاستدلالان ، ثم لما كان لسائل أن يسال لم خلق الإنسان وما يترتب عليه معاشه؟ فأجيب بأن لهذا الشأن وهو خلق الإنسان أسباباً فاعلية وأسباباً غائية ، أما الأولى فهي أنه تعالى واجب الوجود الحق وأنه قادر على كل مقدور لا سيما إحياء الموتى الذي استدللنا عليه لأنه أهون ، وأن قدرته لا تظهر إلا إذا تعلقت بالمقدور ، فكمال القدرة بالفعل هو أن يتعلق بكل مقدور يصح في القسمة العقلية ، وهذا النوع من المقدور كان ثابتاً في القسمة لأنه واسطة بين العالم العلوي والعالم السفلي وله تعلق بالطرفين وانجذاب إلى القبيلين فوجب في الحكمة والقدرة إيجاده ما يتوقف عليه بقاؤه واستكماله .

وأما علته الغائية فهي أن داره الأولى كانت دار تكليف وقد هيأنا له داراً أخرى لأجل الجزاء وذلك لا يحصل إلا بالبعث والنشور . ولعل هذا الموضع مما لم يفسره على هذا الوجه غيري أرجو أن يكون صواباً والله تعالى أعلم بمراده .
قوله { ومن الناس من يجادل } عن ابن عباس أنه أبو جهل . وقيل : هو النضر أيضاً وكرر للتأكيد كما كرر سائر الأقاصيص ، وقال أبو مسلم : الأول في المقلدين فإنهم قد يجادلون تصويباً لتقليدهم . وهذا في المقلدين المتبوعين بدليل قوله { ليضل عن سبيل الله } قال العلماء : أراد بالعلم العلم الضروري وبالهدي النظري من العلم لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير العلم السمعي المتعلق بالوحي . قال بعض أهل اللغة : العطف المنكب . وقال الجوهري : عطفا الرجل جانباه من لدن راسه إلى وركه ويقال : « فلان ثنى عطفه عني » اي أعرض . وقيل : هو عبارة عن الكبر والخيلاء كلي الجيد . قال جار الله : لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه ، ولما كان الهدى معرضاً له فتركه وأعرض عنه بالباطل جعل كالخارج بالجدال ، وفسر الخزي ههنا بما اصابه يوم بدر . { ذلك } الذي مني به شيء من خزي الدنيا وعذاب الآخرة { بما قدمت يداك } وباقي مباحث الآية قد سلف في آخر « آل عمران » . ثم أخبر عن شقاق أهل النفاق بقوله { ومن الناس من يعبد الله على حرف } أي على طرف من الدين لا في وسطه فهذا مثل لكونه مضطرباً في أمر الدين غير ثابت القدم كالذي يكون على طرف العسكر ينهزم بأدنى سبب ، وباقي الآية تفصيل لهذا الإجمال . قال الكلبي : نزلت في أعاريب قدموا المدنية فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سرياً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن به وقر . وإن كان الأمر بخلافه قال : ما اصبت إلا شراً وانقلب عن دينه الذي أظهره بلسانه وفر . وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة . وقيل : نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم الأقرع بن حابس والعباس بن مرداس . وعن أبي سعيد الخدري أن رجلاً من اليهود اسلم فأصابته مصائب كذهاب البصر والمال والولد فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني . فقال : إن الإسلام يسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة والإسلام لا يقال ونزلت الاية . والفتنة ههنا مخصوصة بالابتداء بالشرور والآلام لوقوعها في مقابلة الخير وهذا على الاستعمال الغالب وإلا فالخير ايضاً قد يكون سبباً للابتلاء كقوله

{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] ثم حكى حاله في الدارين بقوله { خسر الدنيا والآخرة } أما خسران الدنيا بعد أن أصابه ما أصاب ففقدان العزة والكرامة والغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ، وكون عرضه وماله ودمه مصونة ، وأما الآخرة فحرمان الثواب وحصول العقاب ابد الآباد ، ولا خسران أبين من هذا نعوذ بالله منه . وفي قوله { يدعو من دون الله } الآية . دلالة على أن المذكور قبلها إنما نزلت في أهل النفاق من المشركين لا من اليهود فإنهم لا يعبدون الصنام نعم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . قوله { يدعو لمن ضره } الآية . فيه بحث لفظي وبحث معنوي . أما الأول فهو أن { يدعو } بمعنى « يقول » والجملة بعده محكية ، و « من » موصولة أو موصوفة وعلى التقديرين هو مع تمامه مبتدأ ما بعده وهو { لبئس المولى } خبره واللام الثانية في الخبر لتأكيد اللام الأولى ، وهذا حسن بخلاف قوله « أم الحليس لعجوز » فإنه أدخل لام الابتداء في الخبر على سبيل الاستقلال ويجوز أن يكون { يدعو } تكراراً للأول وما بعده جملة مستأنفة على الوجه المذكور . وفي حرف عبد الله { من ضره } بغير لام ووجهه ظاهر ، وعلى هذا يكون قوله { لبئس المولى } جملة مستقلة . والمولى الناصر ، والعشير المعاشر اي الصاحب . وأما البحث المعنوي فهو أنه نفى الضرر والنفع عن الأصنام أولاً ثم أثبتهما لها ثانياً حين قال { ضره أقرب من نفعه } فما وجه ذلك؟ والجواب أن المقصود في الاية الثانية رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم في الشدائد مستصوبين آراءهم ، لأن وصف المولى والعشير لا يليق إلا بالرؤساء . سلمنا أنه أراد في الموضعين الصنام إلا أنه أثبت الضر لها مجازاً لأنها سبب الضلال الذي هو سبب عذاب النار نظيره { رب أنهن اضللن كثيراً من الناس } [ إبراهيم : 36 ] وأثبت لها النفع بناء على معتقدهم أنها شفعاؤهم عند الله . والمراد يقول : هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى أثر الشفاعة { لمن ضره اقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير } ذلك ، أو أراد يدعو من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه ، ثم قال : لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً لبئس المولى .
ثم لما بين حال المنافقين والمشركين أتبعها حال المؤمنين الذين معبودهم قادر على إيصال كل المنافع فقال { إن الله يدخل } الآية . قالت الأشاعرة : في قوله { إن الله يفعل ما يريد } دليل على أنه خالق الإيمان وفاعله لأنه يريد الإيمان من العبد بالاتفاق . أجاب الكعبي بأنه يفعل ما يريده لا ما يريد أن يفعله غيره ، ورد بأن ما يريد أعم من قولنا ما يريده من فعله وما يريد من فعل غيره . قوله سبحانه { من كان يظن أن لن ينصره الله } في هذا الضمير وجهان : الأول وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم للعلم به لأن ذكر الإيمان يدل على الإيمان بالله ورسوله ، وعلى هذا فالظان من هو؟ قيل : كذا قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين يستبطئون النصر فنزلت .

وعندي في هذا القول بعد . وعن مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أن الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود والأولى العموم . وكان حساده وأعداؤه يتوقعون أن لا ينصره الله وأن الله لا يغلبه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله ينصره غاظهم ذلك ، والسبب الحبل ، والسماء سماء البيت ، والقطع الاختناق لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، والمراد من كان يظن من حاسديه أن الله تعالى يفعل خلاف النصر والظفر وكان يغيظه نصرة الله إياه فليستفرغ جهده في إزالة ما يغيظه ، وليس ذلك غلا بأن يمد حبلاً إلى سماء بيته ثم يشده في عنقه ويختنق في عنقه وليصور في نفسه أنه إن يفعل ذلك هل يذهبن كيده ما يغيظه ، سمى فعله كيداً حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه . والحاصل ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ ، ومنهم من قال : السماء هي المظلة لأن الاختناق حينئذ أبعد عن الإمكان فيكون أصعب فيصرف الحاسد عن الغيظ إلى طاعة الله ورسوله . ومنهم من قال : مع ذلك أن القطع هو قطع المسافة أي فليصعد على الحبل إلى السماء ، والغرض تصوير مشقة من غير فائدة ، أو القطع قطع الوحي أو النصر أي فليصعد وليقطع الوحي أن ينزل عليه أو النصر أن يأتيه . الوجه الثاني أن الضمير عائد إلى « من » والنصر الرزق . قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله . ووجه النظم من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد وينقلب على وجهه كما مر فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق أو غير ذلك مما عددنا ، فإن الله لا يقلبه مرزقاً . وحين بين الأحوال وضرب الأمثال أشار إلى هذا المذكور بلفظ البعيد إما للتعظيم وإما لأن كل ما دخل في حيز الذكر وحصل في حيز كان فهو في حكم البعيد فقال { وكذلك أنزلناه } أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله { آيات بينات وأن الله } حرف التعليل وكذا معلله محذوف للعلم به اي ولأن الله { يهدي من يريد } أنزله كذلك مبيناً . قالت الأشاعرة : المراد بالهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز ، لأن الله تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ، ولأن قوله { يهدي من يريد } يدل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته ، ووضع الأدلة واجب فتعين أن المراد خلق المعرفة .

أجاب القاضي عبد الجبار بأنه اراد تكليف من يريد لأن التكليف لا يخلو من وصف ما كلف به ومن بيانه ، أو أراد يهدي إلى الجنة ، والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحاً ، أو يهدي به الذين يعلم منهم الإيمان أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى ، وإلى هذين الوجهين أشار الحسن بقوله { إن الله يهدي } من قبل لا من لم يقبل . واعترض بأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا الكلام بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف ، وأما الوجوه الأخر فخلاف الظاهر مع أن ما ذكرتموه واجب عندكم على الله وقوله { من يريد } ينافي الوجوب .
ثم أراد أن يميز بين المهدي من الفرق وبين الضال منهم فقال { إن الذين آمنوا } الآية قال مقاتل : الأديان ستة : واحد لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان قلت : فالمؤمنون واليهود والنصارى تشترك في القول بالإله والنبي وتفترق بالاعتراف بعموم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعدم الاعتراف به ، والصابئون قد تجعل من جنس النصارى وقد تجعل من غيرهم ، والمجوس قولهم في البابين مضطرب لأن الإله عندهم اثنان وبنبيهم ليس بنبي في الحقيقة وإنما هو متنبئ ، والمشركون لا نبي لهم ولا كتاب . قال أهل البرهان : قدم النصارى على الصابئين في أوائل البقرة لأنهم أهل كتاب وعكس ههنا لأن الصابئين مقدمة عليهم بالزمان ، وفي المائدة يحتمل الأمران اي والصابئون كذلك أو هم والنصارى { إن الله يفصل بينهم } أي يقضي بين المؤمنين وغيرهم وتكرير إن في الخبر لزيادة التأكيد والفصل مطلق يحتمل الفصل في الأحوال وفي المواطن أيضاً { إن الله على كل شيء شهيد } فلا يجري في قضائه ظلم ولا حيف { الم تر } أي تعلم بإخبار الله والمراد أن هذه الأجسام غير ممتنعة عما يريد الله إحداثه فيها من أنواع تصرفاته وتدبيراته وهذا بين ، قال العلماء : قوله { وكثير من الناس } ليس بمعطوف على ما قبله من المفردات لأن السجود بالمعنى المذكور يتناول كل الناس ولا يختص ببعضهم لدليل العقل ، ولأن قوله { ومن في الأرض } يتناول الثقلين جميعاً والعطف يوهم التخصيص بالبعض . ولا يمكن أن يكون السجود بالنسبة إلى كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة وبالنسبة إلى غيرهم بمعنى نفوذ مشيئة الله فيها لأن اللفظ المشرتك لا يصح استعماله في مفهوميه معاً ، فهو إذن مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة أيضا . وهو مبتدأ محذوف الخبر وهو مثاب لأن الخبر دليل عليه وهو قوله { حق عليه العذاب } أو هو مبتدأ وخبر أي وكثير من المكلفين من الناس الذي هم الناس على الحقيقة فكأنه أخرج الذين وجب عليهم العذاب من جملة الناس لأنهم أشبه بالنسناس

{ أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] أو قوله ثانياً { وكثير } تكرار للأول لأجل المبالغة كأنه قيل : وكثير من الناس حق عليهم العذاب ، وباقي الآية دليل على أن الكل بقضائه وقدره والإكرام والإهانة من عنده وبسابق علمه وسابق مشيئته ، فمن أهانه في الأزل لم يكرمه أحد إلى الأبد . عن ابن عباس أن قوله { هذان خصمان } راجع أهل الأديان الستة أي هما فوجان أو فريقان خصمان والخصم صفة وصفة بها المحذوف . وإنما قيل { اختصموا } نظراً إلى المعنى . وقيل : إن أقل الجمع اثنان . ومعنى { في ربهم } أي في دينه وصفاته فقال المؤمنون في شأنه قولاً وقال الكافرون قولاً . وروي أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم آمنا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبنبيكم وبجميع الكتب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تتركونه حسداً فنزلت . وعن قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري أنه كان يحلف بالله أنها نزل في ستة نفر من المسلمين : علي وحمزة وعبيدة بن الحرث ، ومن المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة . فقال علي رضي الله عنه : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة . وعن عكرمة هما الجنة والنار . قالت النار : خلقني الله لعقوبته . وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله من خبرهما على محمد صلى الله عليه وسلم والأقرب هو الأول . وقوله { فالذين كفروا } فصل الخصومة المعني بقوله { إن الله يفصل بينهم } وقوله { قطعت لهم ثياب } فيه أنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، أو المراد أن تلك النيران مظاهرة عليهم كالثياب المظاهرة على الملابس بعضها فوق بعض . وعن سعد بن جبير أن قوله { من نار } أي من نحاس أذيب بالنار كقوله { سرابيلهم من قطران } [ إبراهيم : 50 ] والحميم الماء الحار . عن ابن عباس : لو سقطت منه نقطة على الجبال الدنيا لأذابتها . ومعنى { يصهر } يذاب جلودهم وهو أبلغ من قوله { وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم } [ محمد : 15 ] لأن تأثير الشيء من الظاهر في الباطن أبلغ من تأثيره في الباطن . قال في الكشاف : المقامع السياط وقال الجوهري : المقمعة واحدة المقامع { من حديد } كالمحجن يضرب على رأس الفيل . وفي الحديث « لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها » والإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ففي الآية إضمار أي { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم } فخرجوا { أعيدوا فيها } أو المراد بالإرادة المداناة والمشارفة كقوله

{ يريد أن ينقض } [ الكهف : 77 ] وهذا أقرب كقوله { لا يخفف عنهم العذاب } [ البقرة : 162 ] ويؤيده ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفاً . وإنما اختصت هذه السورة بقوله { من غم } وهو الأخذ بالنفس حتى لا يجد صاحبه مخلصاً لأنه بولغ ههنا في أهوال النار بخلاف ما في السجدة وإنما أضمر ههنا قبل قوله { وذوقوا } بخلاف « السجدة » . وقيل لهم ذوقوا لأنه وقع الاختصار ههنا على { عذاب الحريق } وهناك أطنب فقيل { ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } [ السجدة : 20 ] وايضاً قد تقدم ذكر القول في تلك السورة كثيراً بخلافه هنا والله تعالى أعلم .
التأويل : { إن زلزلة الساعة } هلاك الاستعداد الفطري { شيء عظيم } { وتذهب كل مرضعة } هي مواد الشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه { وتضع كل ذات حمل } وهي الهيوليات { حملها } وهو الصور الكمالية التي خلقت الهوليات لأجلها { وترى الناس سكارى } الغفلة والعصيان وحب الدنيا والجاه والرياسة وغيرها { وما هم بسكارى } العشق والمحبة والمعرفة { فإنا خلقناكم من تراب } أي كنتم تراباً ميتاً فبعثنا التراب بأن خلقنا منه آدم ، ثم أمتنا منه النطفة ، ثم بعثناها بأن جعلناها علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر لنبين لكم أمر البعث والنشور { ونقر في الأرحام } أمهات العدم { ما نشاء إلى أجل مسمى } وهو وقت إيجاده بحسب تعلق الإرادة به ، وفيه دليل على أنه لا يبعد أن يكون الفاعل كاملاً في فاعليته ولكن لا تتعلق إرادته بالمقدور فيبقى في حيز العدم إلى حين تعلق الإرادة به ، ومنه يظهر حدوث العالم { ثم نخرجكم طفلاً } من أطفال المكونات خارجاً من رحم العدم مستعداً للتربية والكمال . { ومنكم من يتوفى } عن الشهوات فيحيا بحصول الكمالات { ومنكم من يرد } إلى أسفل سافلين الطبيعة { وترى } أرض القالب { هامدة فإذا أنزلنا عليها } ماء حياة المعرفة والعلم { اهتزت } { ذلك بأن الله هو الحق } في الإلهية { وإنه يحيي } القلوب الميتة { وأن الساعة } قيامة العشق والخدمة للطالبين الصادقين { آتية وأن الله يبعث } القلوب المحبوسة في قبور الصدور { عذاب الحريق } بنار الشهوات لكنه لا يحس بها في الدنيا لأنه نائم بنوم الغفلة فإذا مات انتبه { من كان يظن } فيه أن العبد يجب أن يكون حسن الظن بالله { ثم ليقطع } مادة تقدريري في الأزل ونزول أحكامي في القدور { فلينظر هل } ينقطع أم لا { هذان خصمان } يعني النفس الكافرة والروح المؤمنة { قطعت لهم ثياب } بتقطيع خياط القضاء على قدرهم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع . { يصب من فوق رؤسهم } حميم الشهوات النفسانية . وفي لفظ الفوق دلالة على أنهم مغلوبون تحتها ، وفيه أن الخيالات الفاسدة تنصب من الدماغ إلى القلب . { يصهر به ما في بطونهم } من الأخلاق الحميدة الروحانية { والجلود } أي يفسد أحوالهم الباطنة والظاهرة بفساد تخيلاتهم ، ولا مخلص لهم عن دركات تلك الملكات لغاية رسوخها والله أعلم بالصواب .

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

القراآت : { ولؤلؤاً } بهمزتين منصوباً : نافع وحفص . مثله ولكن بتخفيف الأولى واواً ساكنة . أبو بكر وحماد وزيد وكذلك في سورة فاطر . وقرأ سهل ويعقوب والمفضل ههنا بالهمزة والنصب . وفي « فاطر » بالهمز والخفضض . الباقون بالهمز والخفض في السورتين { سواء } بالنصب : حفص وروح وزيد . الآخرون بالرفع . { والبادي } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل . { بوأنا } مثل { أنشأنا } { بيتي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وحفص وهشام . { فتخطفه } بتشديد الطاء : أبو جعفر ونافع { الرياح } يزيد طريق المفضل { والمقيمي الصلاة } بالنصب على تقدير النون : عباس { منسكاً } ونحو بكسر السين : حمزة وعلي وخلف { لن تنال الله } بتاء التأنيث : يعقوب { ولكن تناله } بالتأنيث أيضاً زيد { يدفع } من الدفع : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب الباقون { يدافع } من المدافعة { أذن } مبنياً للمفعول : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم { يقاتلون } مبنياً للمفعول أيضاً : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص الآخرون مبنياً للفاعل فيهما . { دفاع } بألف : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب { لهدمت } مخففاً : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وسهل وحمزة وعلي وخلق مشدداً مدغماً الباقون مشدداً .
الوقوف : { ولؤلؤاً } ط { من القول } ج للعطف مع تكرار { وهدوا } { الحميد } 5 { والباد } 5 ط { أليم } 5 { السجود } 5 { عميق } 5 لا لتعلق اللام { الأنعام } ج للابتداء بالأمر مع الفاء { الفقير } 5 للعطف مع العدول { العتيق } 5 { ذلك } ق قد قيل : لأن المراد ذلك على ما ذكر أو الأمر والشأن ذلك ثم يبتدأ بالشرط { عند ربه } ط { الزور } 5 لا { مشركين به } ط { سحيق } 5 { ذلك } ق { القلوب } 5 { العتيق } 5 { الأنعام } ط { اسلموا } ط { المخبتين } 5 لا لاتصال الوصف { الصلاة } 5 { ينفقون } ج5 { خير } ق والوصل أحسن للفاء { صواف } ج للشرط مع الفاء { والمعتر } ط { تشكرون } 5 { منكم } ط { هداكم } ط { المحسنين } 5 { آمنوا } ط { كفور } 5 { ظلموا } ط { لقدير } 5 لا بناء على أن { الذين } بدل من الضمير في { نصرهم } { ربنا الله } ط { كثيراً } 5 { ينصره } ط { عزيز } 5 { المنكر } ط { الأمور } 5 .
التفسير : لما ذكر حال أحد الخصمين في الآخرة أراد أن يذكر حال الآخر وهو المؤمن ولهذا ألزم التكرار ، إلا أنه يفطن بهذه الآية فائدة أخرى هي بيان أهل الجنة يحلون فيها وقد مر مثله في أوائل الكهف . ومن قرأ { لؤلؤاً } بالنصب فعلى تقدير ويؤتون لؤلؤاً لأن السوار من اللؤلؤ غريب إلا أن يكون شيئاً منظوماً منه . { وهدوا إلى الطيب من القول } عن ابن عباس هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده يلهمهم الله ذلك { وهدوا إلى صراط الحميد } أي إلى طريق المقام المحمود وهو الجنة أو إلى صراط الله كقوله

{ إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } [ إبراهيم : 12 ] وقال السدي : الطيب من القول هو القرآن . وقيل : شهادة أن لا إله إلا الله وقال حكماء الإسلام : هو كشف الغطاء عن الحقائق الروحانية والمعارف الربانية ، ثم كرر وعيد أهل الكفر ومن دناهم فقال { إن الذين كفروا ويصدون } إنما حسن عطف المستقبل على الماضي لأنه أراد به الاستمرار وأنه من شأنهم الصد وكأنه قيل : كفروا واستمروا على الصد . وقال ابو علي الفارسي . كفروا في الماضي وهم الآن يصدون . عن ابن عباس أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عام الحديبية عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي . ومن قرأ { سواء } بالنصب فعلى أنه مفعول ثانٍ لجعلنا أي جعلناه مستوياً { العاكف فيه والباد } ومن قرأ بالرفع فعلى أن { العاكف } مبتدأ و { سواء } خبر مقدم والجملة مفعول ثان ويجوز أن يكون { للناس } مفعولاً ثانياً اي جعلناه متعبداً لكل من وقع عليه اسم الناس ، وقوله { سواء } إلى آخره الجملة بيان لذلك الجعل أي لا فرق بين الحاضر المقيم به وبين الطارئ من البدو ، واختلفوا في أن المكي والآفاقي يستويان في أي شيء فعن ابن عباس في بعض الروايات أنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها للآية بناء على أن المراد بالمسجد الحرام مكة ، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « مكة مباحة سبق إليها » وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وهو قول قتادة وسعيد بن جبير أيضاً ، ولأجل ذلك زعموا أن كراء دور مكة حرام . والأكثرون على أنهما مستويان في العبادة في المسجد ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار » وعلى هذا فلا منع من بيع دور مكة وإجارتها وهو مذهب الشافعي وقد جرت المناظرة بينه وبين إسحق الحنظلي وكان إسحق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } [ الحج : 40 ] بأن عمر اشترى دار السجن فسكت إسحق وإنما ذهب الأولون إلى أن المراد بالمسجد الحرام ههنا مكة كلها لأنه جعل العاكف فيه بإزاء البادي . أجاب الأكثرون بأنه اراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه . والإلحاد العدول عن القصد كما مر في قوله { وذر الذين يلحدون في أسمائه } [ الأعراف : 180 ] وقوله { بالحاد بظلم } حالان ومفعول { يرد } متروك ليفيد العموم أي ومن يرد فيه مراداً ما جائراً ظالماً .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32