كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

{ المكرمين } 5 { منزلين } 5 { خامدون } 5 { العباد } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً والعامل معنى في حسرة { يستهزؤن } 5 { لا يرجعون } 5 { محضرون } 5 { يأكلون } 5 { العيون } 5 لا { ثمر } 5 ط لمن جعل « ما » نافية ومن جعلها موصولة لم يقف { ايديهم } ط { يشكرون } 5 { لا يعلمون } 5 { مظلمون } 5 ط { لها } ط { العليم } 5 لا لمن قرأ { والقمر } بالرفع بالعطف على { الليل } ، ومن قرأ بالنصب وقف مطلقاً { القديم } 5 { النهار } ط { يسبحون } 5 { المشحون } 5 لا { يركبون } 5 { ينقذون } 5 لا { حين } 5 .
التفسير : الكلام الكلي في فواتح السور قد مر في أوّل البقرة وغيرها والذي يختص بالمقام ما قيل إن معناه يا سيد أو يا أنيسين فاقتصر على البعض رواه جار الله عن ابن عباس . ولا يخفى أن النداء على هذا يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم يؤيده قوله { إنك لمن المرسلين } وكثيراً ما يستعمل القسم بعد إفحام الخصم الألدّ كيلا يقول إنك قد افحمت بقوّة جدالك وأنت في نفسك خبير بضعف مقالك . وأيضاً الابتداء بصورة اليمين يدل على أن المقسم عليه أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه ، وكانت العرب يتحرزون من الأيمان الفاجرة ويقولون إنها تدع الديار بلا قع ، وكان من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعظمون القرآن غاية التعظيم وكان اليمين به موقوفاً عليه عند الكفرة . وقوله { على صراط } كالتأكيد لأن المرسلين لا يكونون إلا على المنهج القويم . وتنكير صراط للتعظيم . قيل : فيه دليل على فساد قول المباحية القائلين بأن المكلف إذا صار واصلاً لم يبق عليه تكليف فإن المرسلين لم يستغنوا عن رعاية الشريعة فكيف غيرهم . وقوله { ما أنذر آباؤهم } كقوله في « القصص » { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير } [ الآية : 46 ] وقد مر أنه يشمل اليهود والنصارى لأن آباءهم الأدنين لم ينذروا بعدما ضلوا { فهم غافلون } لهذا السبب . وقد يقال : إن « ما » مصدرية أو موصولة أي أرسلت لتنذرهم إنذارا آبائهم أو ما أنذر آباؤهم فإنهم في غفلة ، فعلى هذا كونهم غافلين سبب باعث على الإنذار ، وعلى الأول عدم الإنذار سبب غفلتهم . ثم بين أن السبب الحقيقي للغفلة هو أنه تعالى جعلهم من جملة المطبوع على قلوبهم ومن زمرة أهل النار وهو قوله فيهم { لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك } [ ص : 85 ] أو أراد بالقول سبق علمه فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤمنون .

وقيل : أراد أن القول بالدعوة بلغ أكثرهم ولكنهم لا يؤمنون جحوداً وعناداً ، وذلك أن من يتوقف على استماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان ، أما بعد البيان والوضوح فلا يكون عدم الإيمان إلا للمكابرة . وحين بيّن أنهم لا يؤمنون ذكر أن ذلك من الله تعالى فقال { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } فيكون مثلاً لتصميمهم على الكفر كالطبع والختم . وقيل : إنه إشارة إلى إمساكهم وأنهم لا ينفقون في سبيل الله كما قال { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } [ الإسراء : 29 ] وعلى هذا يمكن أن يكون معنى قوله { فهم لا يؤمنون } أنهم لا يزكون كأنه عبر بالإيمان عن الزكاة كما عبر به عن الصلاة في قوله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] وقيل : نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر . فذهب فأعمى الله بصره وأنزلت الآيتان . والضمير في قوله { فهي إلى الأذقان } راجع إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة لكونها معلومة فإن المغلول تكون أيديه مجموعة إلى العنق ولذلك يسمى الغل جامعة أي جامعاً لليد والعنق . وتأنيث الجامعة مبالغة أو بتأويل الآلة . وقيل : واختاره في الكشاف أنه يرجع إلى الأغلال اي جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحاً . والمقمح الذي يرفع راسه ويغض بصره ومنه أقمحت السويق اي سففته . والكانونان يقال لهما شهراً قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما . وكيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فيقول المغلول الذي بلغ الغل ذقنه وبقي مقمحاً رافع الرأس لا يبصر الطريق فضرب ذلك مثلاً للذي يهديه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستيم العقلي وهو لا يبصره بنظر بصيرته ، ويمكن أن يجعل كناية عن عدم التصديق بتحريك الرأس . ويقال : بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة . ثم ضرب مثلاً آخر لكونهم غير منتهجين سبيل الرشاد وذلك قوله { وجعلنا من بين ايديهم سداً } قال أهل التحقيق : المانع إما أن يكون في النفس وهو الغل فلا يتبين لهم ىيات الأنفس ، وإما أن يكون خارداً عنها وهو السدّ فلا يتضح لهم دلائل الآفاق . ويمكن أن يقال : السدّ من قدام إشارة إلى عدم العلوم النظرية ، ومن خلف إشارة إلى عدم فطنتهم الغريزية ، أو الأوّل إشارة إلى الغفلة عن أحوال المعاد ، والثاني إشارة إلى الغفلة عن المبدأ .

وفيه أن السالك إذا انسدّ عليه الطريق من قدامه ومن خلفه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة فإنه يهلك لا محالة . ثم زاد ف التأكيد بقوله { فأغشيناهم } أي جعلنا بعد ذلك كله على ابصارهم غشاوة { فهم لا يبصرون } شيئاً اصلاً . ويحتمل أن يكون الإغشاء إشارة إلى أن السدّ قريب منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة فإن القرب القريب مانع من الرؤية فلا يرون السدّ قريب منهم { فهم لا يبصرون } وعلى هذا يكون ذكر السد من خلف تأكيداً على تكيد ، فإن الذي جعل بين يديه ومن خلفه سدان ملتزقان لا يمكنه التحرك يمنة ويسرة ولا النظر إلى السدّ ولا إلى غيره . ويمكن أن يقال : فائدته تعميم المنع من انتهاج المسالك المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو إلى جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء ، وهكذا إن فرض رجوع قهقرى فإن المشي من هاتين الجهتين عادة ، ثم صرح بالمقصود معطوفاً على المذكوراتع قائلاً { وسواء عليهم } الآية . وقد مر إعرابه وسائر ما يتعلق بتفسيره في أول البقرة . ولا يخفى أن الإنذار وعدمه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير مستويين وإنما الإنذار سبب لزيادة سيادته وسعادته عاجلاً وآجلاً .
ثم بين بقوله { إنما تنذر } أن عدم فائدة الإنذار إنما هو بالإضافة إلى المطبوع على قلوبهم الذين تقدم شرح حالهم وبيان أمثالهم لا إلى المنتفعين به . والذكر القرآن أو ما فيه من المواعظ والحكم والدلائل ، وفي ذكر الخشية مع تعقيبه باسم الرحمن إشارة إلى أن قهره مقرون بلطفه يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم . والغيب ما غاب عنا من أحوال القيامة وغيرها . وقيل : أي بالدليل وإن لم ينته إلى العيان فعند الانتهاء إلى ذلك لم يبق للخشية فائدة . ومعنى الفاء في { فبشره } أنك كما أنذرت وخوّفت فبشر بمغفرة واسعة وأجر كريم لا يكتنه كنهه ، فكأن المغفرة بإزاء الإيمان والأجر الكريم للعمل الصالح . أو الأول لاتباع الذكر والثاني للخشية . وحين فرغ من بيان الرسالة شرع في أصل الحشر قائلاً { إنا نحن نحيي الموتى } على أن البشارة بالمغفرة والأجر لا يتم إلا بعد ثبوت الإعادة وهكذا خشية الرحمن بالغيب تناسب ذكر إحياء الأموات . والظاهر أن قوله { نحن } ضمير الفصل ويجوز أن يكون مبتدأ والفعل خبره والجملة هخبر « إن » ويجوز أن يكون { نحن } خبر « إن » كقول القائل عند الافتخار بالشهرة : أنا أنا . كأن الله تعالى قال إنما نحن معروفون بأوصاف الكمال وإذا عرّفنا أنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى . وفي هذا التركيب أيضاً إشارة إلى التوحيد أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى نقول إنا كذا فنمتاز .

ثم اشار إلى العلم التام الذي يتوقف عليه المجازاة فقال { ونكتب ما قدّموا } أي اسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة . وقيل : أراد ما قدّموا وأخروا فاكتفى بأحدهما كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] والصحيح أنه لا حاجة إلىهذا التقدير لأن قوله { وآثارهم } يدل عليه والمراد بها ما هلكوا عليه من أثر حسن كعلم علموه أو كتاب صنفوه أو بقعة خير عمروها أو أثر سيء كبدعة وظلامة وآلات ملاه . وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد . عن جابر : أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عليكم دياركم فإنما تكتب آثاركم » وعن عمر بن عبد العزيز : لو كان الله مغفلاً شيئاً لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح أي تمحوها . وقيل : أراد ونكتب ما قدموا من نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم .
سؤال : كيف قدم إحياء الموتى على الكتابة ولم يقل « نكتب ما قدموا ونحييهم » لأجل الجزاء؟ الجواب لأن الكتابة ليست مقوصدة بالذات وإنما المقصود الأصلي هو الإحياء للجزاء ولو لم يكن إحياء وإعادة لم يكن للكتابة أثر . وأيضاً قوله { إنا نحن } دال على العظمة والجبروت ، والإحياء أمر عظيم لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه بخلاف الكتابة ، فقدّم الأمر العظيم ليناسب اللفظ الدال على العظمة . وأيضاً أراد أن يرتب على كتابة الأعمال قوله { وكل شيء أحصيناه } ومعناه أن قبل هذه الكتابة كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا ، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه . وفيه بيان أن الكتابة مقرونة بالحفظ والإحصاء ، فرب مكتوب غير محفوظ ولا مضبوط ، وفيه تعميم بعد تخصيص كأنه قال : ليست لالكتابة مختصة بأفعالهم وإنما هي لكل شيء . والإمام اللوح لأن الملائكة يتبعون ما كتب فيه من أجل ورزق وإماتة وإحياء ، والمبين هو المظهر للأمور ، والفارق بين أحوال الخلق ، وحيث بين أن الإنذار لا ينفع من اضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تأس .
{ واضرب } لنفسك ولقومك { مثلاً } مثل { أصحاب القرية } وهي إنطاكية الروم ، والمرسلون رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها . وفي قوله { إذ أرسلنا } دلالة على أن رسول الرسول رسول وأنه يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول ، وكأنه أرسل اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى حجة تامة . وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يكتفي بواحد في الأغلب كمعاذ وغيره فمن هنا يعلم ترجيح هذه الأمة . وأما القصة فإن عيسى عليه السلام أرسل إليهم اثنين فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنماً واسمه حبيب النجار فسألهما فأخبراه فقال : ما آيتكما؟ قالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمة والأبرص .

وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر فشفى على أيديهما خلق كثير ورفع خبرهما إلى الملك فأحضرا فلما سمع قولهما قال : ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا : نعم . من أوجدك وآلهتك . فحبسهما حتى ينظر في أمرهما فبعث عيسى شمعون وذلك قوله سبحانه { فعززنا بثالث } من قرأ بالتشديد فمعناه فقوّينا الرسولين ، ومن قرأ بالتخفيف فمن العزة أي فغلبنا وقهرنا أهل القرية . وإنما ترك ذكر المفعول به لأأن الغرض ذكر الثالث فالعناية بذكره أهم وأتم نظيره قولك : حكم السلطان اليوم بالحق الغرض الذي سبق له الكلام قولك بالحق فلذلك تركت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه . وأما باقي القصة فإن شمعون دخل متنكراً وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ قال : لا ، حال الغضب بيني وبين ذلك . فدعاهما فقال شمعون : من أرسلكما قال : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . قال : وما آيتكما؟ قالا : ما يتمنى الملك . فدعا بغلام مطموس فدعوا الله حتى انشق له بصر وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما فقال شمعون : يا أيها الملك إن شئت أن تغلبهما فقل لآلهتك حتى تصنع مثل هذا . فقال الملك : أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تقدر ولا تعلم . وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم . فقال شمعون : فالحق إذاً معهم فآمن الملك وبعض حاشيته وبقي آخرون على الكفر فأهلكوا بالصيحة . قال أهل البيان : يجب زيادة المؤكدات في الجملة الخبرية بحسب تزايد الإنكار من السامع فلهذا قال الرسل أوّلاً : إنا إليكم مرسلون مقتصرين على « أن » . وثانياً { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } مجموعاً بين « أن » واللام وما يجري مجرى القسم . ولا يخفى أن اليمين بعد إظهار البينة وإفحام الخصم مؤكد قوي كما مر في أول السورة . وفي قولهم { وما علينا إلا البلاغ المبين } تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا من عهدة ما علينا ولم يبق إلا التفكر منكم والتذكر . وحيث أكد الرسل قولهم باليمن أكد الكفار قولهم بالتطير ، فمن عادة الجهال أن يتيمنوا بكل ما يوافق طباعهم وهواهم ويتشاءموا بما كرهوه وكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب حالفين بالأيمان الكاذبة التي تدع الديار بلاقع فتشاءمنا بكم ولا نترككم . { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم } بالقول أو بالحجارة . { وليمسنكم } بعد ذلك أو بسبب الرجم بالحجارة المتوالية إلى الموت { عذاب أليم } { قالوا طائركم } أي سبب شؤمكم { معكم } وهو كفركم ومعاصيكم { أئن ذكرتم } يعني أتطيرون إن ذكرتم .

ومن قرأ { أين } على وزن « كيف » ذكرتم بالتخفيف فالمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم فضلاً عن المكان الذي حللتم فيه . ثم إن الرسل كأنهم قالوا لهم أنحن كاذبون أم نحن مشؤمون { بل أنتم قوم مسرفون } في عصيانكم أو ضلالكم فمن ثم أتاكم الشؤم ، أو تشاءمتم بمن يجب التبرك بهم وقصدتموهم بالسوء { وجاء من أقصى المدينة رجل } هو حبيب النجار الذي مر ذكره نصح قومه فقتلوه وقبره في سوق أنطاكية . وقيل : في غار يعبد الله عز وجل ، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة فوثبوا عليه فقتلوه . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم « سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون » ومن هنا قالوا : إنه آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ولادته وذلك أنه سمع نعته من الكتب والعلماء . وتنكير رجل للتعظيم أي رجل كامل في الرجولية أو ليفيد ظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن بهم رجل من الرجال لا معرفة لهم به وكان بعيداً من التواطؤ . وقوله { من أقصى المدينة } ايضاً يفيد مثل هذا أو أنهم ما قصروا في التبليغ والإنذار حتى بلغ خبرهم القاصي والداني والسعي بمعنى المشي أو بمعنى القيام في المهام أي يهتم بشأن المؤمنين ويسعى في نصرتهم وهدايتهم ونصحهم . ثم حثهم على اتباع الرسل ولم يقل اتبعوني كما قال مؤمن آل فرعون { اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } [ غافر : 38 ] لأنه جاءهم فنصحهم في أوّل مجيئه وما رأوا سيرته بعد فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لأجلكم السبيل . فقوله { اتبعوا } نصيحة وقوله { المرسلين } إظهار للإِيمان وقدم النصيحة إظهاراً للشفقة . وقد روي أنه كان يقتل ويقول : اللهم اهد قومي .
ثم أكد وجوب الاتباع بأنهم في أنفسهم مهتدون ولا يتوقعون أجراً في الدلالة ووجوب اتباع مثل هذا الدليل للذي ضل عن سواء السبيل مركوز في العقول . ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحة قومه . قال الحكيم { الذي فطرني } إشارة إلى وجود المقتضى . وقوله { ومالي } إشارة إلى عدم المانع من جانبه فإن كل امرئ هو أعلم بحال نفسه ، والمقتضى وإن كان مقدماً في الوضع والطبع على المانع إلا أن المقتضي ههنا لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً فقدّم عدم المانع لأجل البيان ولهذا لم يقل « وما لكم لا تعبدون » كيلا يذهب الوهم إلى أنه لعله يطلب العلة والبيان وإنما ورد في سورة نوح { ما لكم ترجون لله وقاراً } [ الآية : 13 ] لأن القائل هناك داع لا مدعو فكأن الرجل قال : مالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك . وفي قوله { وإليه ترجعون } بيان الخوف والرجاء ولهذا لم يقل « وإليه أرجع » كأنه جعل نفسه ممن يعبد الله لذاته لا لرغبة أو رهبة .

ثم أراد كمال التوحيد فقال { أئتخذ من دونه آلهة } فقوله { مالي لا أعبد الذي فطرني } فيه إقرار بوجود الصانع الفاطر ، وقوله { أأتخذ } على سبيل الإنكار نفي لغيره ممن يسمى إلهاً وبهما يتم معنى لا إله إلا الله . ثم عرض على عقولهم جهل عابدي الأصنام أنهم لا يقدرون على دفع ضر ولا على إيصال نفع ، وقد رتب الكلام فيه على ترتيب ما يقع بين العقلاء فإن الذي يريد أن يدفع الضر عن شخص يقدم على الشفاعة له ، فإن قبلت وإلا أنقذه اي أخلصه بوجه من الوجوه . قال بعض المفسرين : لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين . قال { إني آمنت بربكم } فاسمعوا قولي لتشهدوا لي . وإنما قال { بربكم } ولم يقل « بربي » ليتعين أنه آمن بالرب الذي دعوه إليه . وقال أكثرهم : الخطاب للفكار وعلى هذا فالمراد به بيان التوحيد أي ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وفطركم فاسمعوا قولي وأطيعوني . وفي قوله { قيل ادخل الجنة } وجهان أحدهما . أنه قتل . ثم كأن سائلاً سأل : كيف لقاؤه ربه بعد ذلك التصلب في نصرة الدين حتى بذل مهجته؟ فقيل : قيل ادخل الجنة . والقائل هو الله سبحانه أو الملائكة بأمره . قال جار الله : لم يذكر المقول له لانصباب الغرض إلى المقول وعظم شأنه ولأنه معلوم . ثم كأن سائلاً آخر سأل : ايّ شيء تمنى في الجنة؟ فقيل { قال يا ليت قومي يعلمون } وإنما تمنى علم قومه بحاله ليصير ذلك سبباً لهم في التوبة والإِيمان ليفوزوا بما فاز ويؤيده ما روي في حديث مرفوع أنه نصح قومه حياً وميتاً . ويجوز أن يكون سبب التمني هو أن ينبهوا على خطئهم في أمره وعلى صوابه في رأيه وأن عداوتهم لم تعقبه إلا سعادة وكرامة . وثانيهما أن الرسل بشروه وهو حيّ بدخول الجنة فصدّقهم وتمنى علم قومه بحاله فيؤمنوا كما آمن . و « ما » في قوله { بما غفر } مصدرية أو موصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب ، أو استفهامية يعني بأي شيء غفر لي أراد ما جرى بينه وبينهم من المصابرة والذب عن الدين إلا أن طرح الألف أجود . فقول القائل : علمت بم صنعت هذا أحسن من قوله « بما صنعت » فقوله { غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } بإزاء قوله { فبشره بمغفرة وأجر كريم } ثم اشار إلى كيفية إهلاك قومه بعده قائلاً { وما أنزلنا على قومه } قال المفسرون : يجوز أن يريد بقومه الذين بقوا من أهل القرية بعد المؤمنين منهم وأن يريد به أقاربه فلعل غيرهم من قوم الرسل آمنوا فلم يصبهم العذاب . ثم قال { وما كنا منزلين } أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء ، ومن هنا يعلم فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على غيره فقد أنزل الله لأجله الجنود من السماء يوم بدر والخندق وحنين وما أنزلها لغيره من نبي فضلاً عن حبيب ، فشتان بين حبيب الجبار وبين حبيب النجار .

فالحصال أنه تعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك وما كنا نفعله لغيرك . فمن قرأ { إلا صيحة } بالنصب أراد ما كانت الأخذة أو العقوبة إلا بسبب صيحة ، ومن قرأ بالرفع على أن « كان » التامة فمعناه ما وقعت إلا صيحة . قال جار الله : القياس والاستعمال على تذكير الفعل لأن المعنى ما وقع شيء إلا صيحة ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل . قلت : يجوز أن يقدر ما حدثت عقوبة . وقيل : إن التأنيث لتهويل الواقعة ولهذا جاءت أسماء الجنس كلها مؤنثة . ووصف الصيحة بواحدة للتأكيد . وقرأ ابن مسعود إلا زقية وهي الصيحة ايضاً ومنه المثل « أثقل من الزواقي » والزقاء صياح الديك ونحوه ، وذلك لأن صياح الديكة يؤل بنزول الأنس وبتبدل الفراق بالوصال .
ثم شبه هلاكهم بخمود النار وهو صيرورتها رماداً لأنهم كانوا كالنار الموقدة في القوة الغضبية حيث قتلوا من نصحهم وتجبروا على من أظهر المعجزة لديهم . ثم بين بقوله { يا حسرة } أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون من الملائكة والثقلين أو من الله عز وجل على سبيل الاستعارة وذلك لتعظيم ما صدر من تقصيرهم وبدر من تفريطهم ثم ذكر سبب التحسر بقوله { ما يأتيهم } الآية . ثم عجب من حالهم في عدم الاعتبار بأمثالهم من الأمم الخالية . وقوله { أنهم إليهم لا يرجعون } بدل من { كم أهلكنا } التقدير : ألم يعلموا القرون الكثيرة المهلكة من قبلهم كونهم غير ارجعين إليهم . والبدل بدل اشتمال لهم لأنه حال من أحوال المهلكة أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم . ولارجوع حسيّ وهو ظاهر ، أو معنويّ وهو الرجوع بالنسب والولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم . من قرأ « لما » بالتشديد فمعنى إلا و « أن » نافية . ومن قرأ بالتخفيف فإن مخففة و « ما » صلة تقديره . وإن كلهم لمحشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة . قال في الكشاف : كيف أخبر عن كل المجموعي بجميع؟ وأجاب بأنهما ليسا بواحد ، بل الكل يفيد الشمول والجميع يفيد الانضمام وأن المحشر يجمعهم . ويحتمل أن يقال : الغرض وصف الجميع بالإحضار كقولك : الرجل رجل عالم والنبيّ نبيّ مرسل . ثم ذكر البرهان على الحشر وعلى التوحيد أيضاً مع تعداد النعم وتذكيرها قائلاً : { وآية لهم الأرض الميتة } قال المحققون : إنما قال لهم لأن الأرض ليست آية للنبي ولغيره من أهل الإخلاص الذين هم بالله عرفوا الله قبل النظر إلى الأرض والسماء كقوله

{ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] وقوله { أحييناها } استئناف بياناً لكونها آية وكذلك نسلخ ويجوز أن يكونا وصفين على قياس .
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... وقوله { فمنه يأكلون } بتقديم الجار للدلالة على أن الحب هو معظم قوت الإنسان وبه قوام معاشه عادة ، فنفس الأرض آية فإنها مهدهم الذي فيه تحريكهم واستكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم . وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم ، ثم إحياؤها مخضرة نعمة ثانية فإنها أحسن وأنزه ، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم إذ كان في مكانهم كأن أجمع للقوّة والفراغ . ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة موجبة للتفكه وسعة العيش ، ثم تفجير العيون فيها نعمة خامسة لأن ماء السماء لا يحصل الوثوق بنزوله في كل حين فذلك كالشيء المدخر القريب التناول . والضمير في قوله { من ثمره } يعود إلى الله ، وفائدة الالتفات أن الثمار بعد وجود الاشجار وجريان الأنهار لا توجد إلا بتخليق الملك الجبار ، ويحتمل أن يعود إلى المذكور وهو الجنات أو إلى التحصيل وترك ذكر الأعناب لأن حكمه حكم النخيل . وقيل : إلى التفجير المدلول عليه بسياق الكلام أي ليأكلوا من فوائد التفجير وهو أعم من الثمار ، ويشمل جميع ما ذكره في قوله { أنا صببنا الماء صباً } [ عبس : 25 ] إلى قوله { وفاكهة وأباً } [ عبس : 31 ] وقوله { وما عملت } من قرأ بغير هاء الضمير فما موصولة أو مصدرية أي ليأكلوا من ثمر الله ومن ثمر ما عملته أو من ثمر عمل ايديهم ، أو نافية فيكون إشارة إلى أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه ، ومن قرأ مع الضمير فما موصولة والضمير لها أو نافية والضمير للتفجير أو المذكور . ومعنى عمل الأيدي ما يتكابده الناس من الحرث والسقي وغير ذلك . هذا إذا جعلت « ما » موصولة ، فإن كانت نافية فالمراد الإيجاد والخلق . وقيل : عمل الأيدي التجارة . وقيل : الطبخ ونحوه .
ثم نزه نفسه بقوله { سبحان الذي خلق الأزواج } أي الأصناف والمراد بقوله { ومما لا يعلمون } أزواج لم يطلع الله الإنسان عليها بطريق من طرق المعرفة { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [ المدثر : 31 ] { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] قالت الأشاعرة : فيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أفعالهم أعراض وهي داخلة تحت الأجناس . وقوله { مما تنبت } لا يخرجه عن العموم لأن البيان متعدّد نظيره قول القائل : أعطيته كل شيء من الثياب والدواب والعبيد . فإنه يفهم أن تعديد الأصناف لتأكيد العموم يؤيده قوله في الزخرف { الذي خلق الأزواج كلها } [ الآية : 12 ] من غير تقييد . وحين فرغ من الاستدلال بالمكان شرع في الاستدلال بالزمان .

ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه . ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه . قال جار الله : أصله من سلخ الجلد الشاة إذا ازالة عنها فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وموضع إلقاء ظله . ومعنى { مظلمون } داخلون في الظلام أي لا بد لهم أن يدخلوا في الظلام إذ زال ولا يقدرون على دفعه . وفيه أن الليل كعرض أصلي يطرأ عليه النور تارة ويزول عنه أخرى . ثم كان لجاهل أن يقول : سلخ النهار إنما هو بغروب الشمس فلا جرم قال { والشمس تجري لمستقرّ } أي لحدّ لها مؤقت تنتهي إليه من فلكها شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره إلا أن المسافر له قرار بعد ذلك وهذه لا قرار لها بعد الحصول في ذلك الحدّ ولكنها تستأنف الحركة منه وهو أوّل الحمل أو أحد الخافقين أو إحدى الغايتين في تصاعدها فلك نصف النهار وتنازلها أو غير ذلك من الاعتبارات . وقيل : أراد بالمستقر بيتها وهو الأسد . وقيل : أراد لجري مستقرها وهو فلكها . وقيل : هو الدائرة التي عليها حركتها الخاصة . وقال الحكيم : أراد لأمر لو وجده لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة . وقيل : أراد الوقت الذي ينقطع جريها وهو يوم القيامة . وقيل : إنه إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه قال : إن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه وعلى هذا فالمستقر هو افق الغرب خاصة { ذلك } الجري على الوجوه المذكورة { تقدير العزيز } الغالب بقدرته على كل مقدور { العليم } بمبادئ الأمور وغاياتها .
ثم ذكر أمر سير القمر وقد مر في أوّل سورة يونس في قوله { وقدره منازل } [ الآية : 5 ] والعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة وهو « فعلون » من الانعراج الانعطاف قاله الزجاج . والقديم ما تقادم عهده ويختلف بحسب الأعيان . فلا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنيتن هي قديمة . وقد يقال : نبت قديم وإن لم يكن له سنة . وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد لأنه موهم إلا عند من يعتقد أنه لا أول له . وقال في الكشاف : القديم المحول وهو أول ما يوصف بالقدم ، فلو أن رجلاً قال : كل مملوك لي قديم فهو حر وكتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر . وإذا قدم العرجون دق وانحنى واصفرّ فشبه انقراض الشهر به من الوجوه الثلاثة . ثم بين أن لكل واحد من النيرين حركة مقدرة وسلطاناً على حياله { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } لتباطؤ سيرها عن سيره { ولا الليل } أي ولا تسبق آية الليل - وهو القمر- آية النهار - وهي الشمس - أي لا يداخل القمر الشمس في سلطانها . وقيل : أراد أن الليل لا يدخل في وقت النهار . وقيل : إنه إشارة إلى الحركة اليومية التي بها يحدث الليل والنهار .

والمراد أن القمر لا يسبق الشمس بهذه الحركة لأنها تشملهما على السواء ، وهكذا جميع الكواكب فلا يقع بسببها تقدم ولا تأخر ولهذا لم يقل « يسبق » على قياس تدرك أي ليس من شأنه السبق إذ الكواكب كأنها كلها ساكنة بهذه الحركة . وأقول : يحتمل أن يراد لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر ينبغي أن يتخلف ، فحذف إحدى القرينتين للعلم به كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وكذا الكلام في قوله { ولا الليل سابق النهار } أراد ولا النهار سابق الليل أي لا يدخل شيء منهما في غير وقته . سلمنا أن المراد بالليل والنهار آيتهما لكنه يمكن أن يقال : إنه إشارة إلى الحركة الدورية لأنه لما قال : إن الشمس لبطء سيرها لا تدرك القمر . فهم منه أن القمر يسبق الشمس بحركته ، فأشار إلى أن هذا السبق ليس على قياس المتحركات على الاستقامة ولكنه سبق هو بعينه موجب للقرب ، وهذا معنى قول أهل الهيئة إن الكوكب هارب عن نقطة ما طالب لها بعينه . وأما قوله { وكل في فلك يسبحون } فقد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء . ولما بين ما هو كالضروري لوجود الإنسان من المكان والزمان وما يتبعه ويسبقه ، شرع في تقرير ما هو نافع لهم في أحوال المعاش . قال بعض المفسرين : أراد بحمل الذرية حمل آبائهم وهم في أصلابهم . والفلك فلك نوح ومثله هو ما يركبون الآن عليه من السفن والزوارق . قال جار الله : وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح ، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل . ومن فوائد ذكر الذرية أن من الناس من لا يركب السفينة طول عمره ولكنه في ذريته من يركبها غالباً . وذهب آخرون إلى أن المراد حمل أولادهم ومن يهمهم حمله كالنساء . وقد يقع اسم الذرية عليهن لأنهن مزارع الأولاد . في الحديث « إنه نهى عن قتل الذراري » يعني النساء فكأنه قيل : إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره وعلى هذا يكون قوله { وخلقنا لهم } إلى آخره اعتراضاً ، ومثل الفلك ما يركبون من الإبل لأنها سفائن البر . وفي وصف الفلك بالمشحون مزيد تقرير للقدرة والنعمة فإن الفلك إذا كان خالياً كان خفيفاً لا يرسب في الماء بالطبع . ثم ذكر ما يؤكد كونه فاعلاً مختاراً قائلاً { وإن يشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } وهو مصدر أو صفة أي لا إغاثة أو لا مغيث . وقوله { إلا رحمة } إشارة إلى أن الإنقاذ رحمة بالنسبة إلى المؤمن ومتاع إلى حلول الأجل بالإضافة إلى الكافر ، أو المراد أن أحد لا يتخلص من الموت وإن سلم من الآفات ولله در القائل :

ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
التأويل : { يس } إشارة إلى أنه بلغ في السيادة مبلغاً لم يبلغه أحد من المرسلين { تنزيل العزيز الرحيم } فيه أنه لعزته لا يحتاج إلى تنزيل القرآن ولكن رحمته اقتضت ذلك { نحيي } القلوب { الموتى ونكتب ما قدموا } من الأنفاس المتصاعدة ندماً وشوقاً ، وآثار خطا أقدام صدقهم وآثار دموعهم على خدودهم { أصحاب القرية } القلوب { إذ أرسلنا إليهم اثنين } من الخواطر الرحمانية والإلهامات الربانية بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود { فكذبوهما } النفس وصفاتها { فعززنا بثالث } من الجذبة { إنا تطيرنا بكم } لأن النفس وصفاتها لا يوافقهما ما يدعو الإلهام والجذبة إليه { طائركم معكم } لأن النفس خلقت من العدم على خاصيتها المشؤومة { رجل يسعى } هو الروح المشتاق إلى لقاء الحق { لا يسألكم أجراً } لأنه لا شرب له من مشاربكم . { قيل ادخل الجنة } وهي عالم الأرواح وهو كقوله { يا أيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] إلى قوله { ادخلي جنتي } [ الفجر : 30 ] { على قومه من بعده } أي بعد رجوع الروح إلى الحضرة ما أنزل إلى النفس وصفاتها ملائكة من السماء لأنهم لا يقدرون على النفس وصفاتها وإصلاح حالها ، فإن صلاحها في موتها والمميت هو الله . { صيحة واحدة } من وارد حق { فإذا هم } يعني النفس وصفاتها { خامدون } ميتون عن أنانيته بهويته { ألم يروا كم أهلكنا } فيه إشارة إلى أن هذه الأمة خير الأمم شكى معهم من كل أمة وما شكى إلى أحد من غيرهم شكايتهم { وآية لهم } القلوب { الميتة أحييناها } بالطاعة ونخيل الأذكار واعناب الأشواق وعيون الحكمة وثمر المكاشفات وعمل الخيرات والصدقات { خلق الأزواج } من الآباء العلوية والأمهات السفلية { مما تنبت } ارض البشرية بازدواج الكاف والنون . { ومن أنفسهم } بازدواج الروح والقلب { ومما لا يعلمون } من تأثير العناية في قلوب المخلصين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت { وآية لهم } ليل البشرية { نسلخ منه } نهار الروحيانة { فإذا هم مظلمون } بظلمة الخليقة فإن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره . وشمس نور الله { تجري لمستقر لها } وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله وقمر القلب { قدرناه } ثمانية وعشرين منزلاً على حسب حروف القرآن وأسماؤها : الألفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والصبر والطلب والظمأ والعشق والعزة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين . فإذا قطع كل المنازل فقد تخلق بخلق القرآن ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] وهو آخر المنازل والمقامات ، فإن السالك يألف الحق أوّلاً ثم يتوب فيثبت على ذلك حتى تحصل له الجمعية ، وعلى هذا يعبر المقامات حتى يصير كاملاً كالبدر ، ثم يتناقص نوره بحسب دنوّه من شمس شهود الحق إلى أن يتلاشى ويخفى وهو مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به نبيناً صلى الله عليه وسلم بقوله « الفقر فخري » ثم أشار بقوله { لا الشمس ينبغي لها } إلى أن الرب لا يصير عبداً ولا العبد رباً . ثم ذكر أن العلوم محمولون في سفينة الشريعة والخواص في بحر الحقيقة كلاهما بفلك العناية وملاحة ارباب الطريقة ، ومثل ما يركبون هو جناح همة المشايخ . { وإن نشأ } نغرق العوام في بحر الدنيا والرخص والخواص في بحر الشبهات والإباحة .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

القراآت : { يخصمون } بفتحتين ثم كسر الصاد المشددة : ابن كثير وورش وسهل ويعقوب وأصله « يختصمون » أدغمت التاء في الصاد بعد نقل حركتها إلى الخاء ، وقرأ أبو جعفر ونافع غير ورش بسكون الخاء ، وقرأ أبو عمرو باشمام الفتحة قليلاً وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من الخصم ثلاثياً . الباقون : بكسر الخاء للاتباع وتشديد الصاد . وروى خلف عن يحيى بكسر الياء والخاء والتشديد . { شغل } بضمتين : عاصم وخلف وابن عامر ويزيد ويعقوب . { فكهون } وبابه بغير ألف : يزيد . { ظل } بضم الظاء وفتح اللام : حمزة وعلي وخلف على أنه جمع ظلة . الآخرون : { ظلال } جمع ظل { جبلاً } بضم الجيم وسكون الباء . ابن عامر وأبو عمرو . وقرأ أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل بكسرتين واللام مشددة ، وقرأ يعقوب بضمتين والتشديد . والباقون : بضمتين والتخفيف { ننكسه } مشدداً : حمزة وعاصم غير مفضل . الآخرون : بالتخفيف من النكس . { تعقلون } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب { لتنذر } على الخطاب أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب { يقدر } على صيغة المضارع : يعقوب { كن فيكون } بالنصب : ابن عامر وعلي .
الوقوف : { ترحمون } 5 { معرضين } 5 { رزقكم الله } لا لأن ما بعده جواب « إذا » { أطعمه } لا كذلك لاتحاد المقول ولئلا يبتدأ بما لا يقوله مسلم . وجوز جار الله أن يكون قوله { إن أنتم } قول الله أو حكاية قول المؤمنين لهم فالوقف جائز . { مبين } 5 { صادقين } 5 { يخصمون } 5 { يرجعون } 5 { ينسلون } 5 { مرقدنا } 5 لئلا يوهم أن هذا صفة وما بعده منفي وفيه وجوه أخر نذكرها في التفسير { المرسلون } 5 { محضرون } 5 { تعملون } 5 { فاكهون } 5 ج لاحتمال أن { هم } تأكيد الضمير { أزواجهم } عطف عليه و { في ظلال } ظرف { فاكهون } ، ولاحتمال أن ما بعده مبتدأ وخبره { متكئون } { يدعون } 5 ج لأنه من المحتمل أن يكون { سلام } خبر محذوف اي عليهم سلام يقول قولاً ، وأن يكون { سلام } بدل { ما يدعون } اي لهم ما يتمنون وهو سلام { سلام } ط ج لحق الحذف { رحيم } 5 { المجرمون } 5 { الشيطان } ج لأن التقدير فإنه { مبين } 5 لا للعطف { اعبدوني } ج { مستقيم } 5 { كثيراً } 5 { تعقلون } 5 { توعدون } 5 { تكفرون } 5 { يكسبون } 5 { يبصرون } 5 { يرجعون } 5 { في الخلق } ط { يعقلون } 5 له ج { مبين } 5 { الكافرين } 5 { مالكون } 5 { يأكلون } 5 { مشارب } 5 { يشكرون } 5 { ينصرون } ج { نصرهم } لا لأن الواو للحال { محضرون } 5 { قولهم } 5 لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار { يعلنون } 5 { مبين } 5 خلقه } ط { رميم } 5 { مرة } ط { عليم } 5 لا لأن { الذي } بدل { توقدون } 5 { مثلهم } ط لانتهاء الاستفهام { العليم } 5 { فيكون } 5 { ترجعون } 5 .

التفسير : لما بين الآيات المذكورة حكى أنهم في غاية الجهالة ونهاية الضلالة ، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان ، ولا كالعوام الذين يبنون أمورهم على الأحوط إذا أنذرهم منذر انتهوا عن ارتكاب المنهي خوفاً من تبعته وطمعاً في منفعته وإليه الإشارة بقوله { لعلكم ترحمون } أي في ظنكم فإن الذي لا تفيده الآيات يقيناً فلا أقل من أن يحترز من العذاب ويرجو الثواب أخذاً بطريقة الاحتياط ، ونظير الآية ما مرّ في أوّل سورة سبأ { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } [ الآية : 9 ] وعن مجاهد : اراد ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر . وعن قتادة : ما بين ايديكم من وقائع الأمم وما خلفكم أي من أمر الساعة . وقيل : ما بين أيديكم من أمر الساعة . وقيل : ما بين أيديكم الآخرة فإنهم مستقبلون لها ، وما خلفكم الدنيا فإنهم تاركون لها . أو ما بين أيديكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حاضر عندهم وما خلفكم من أمر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد لى الله عليه وسلم والحشر رحمكم الله . أو ما بين أيديكم من أنواع العذاب كالحرق والغرق المدلول عليه بقوله { وإن نشأ نغرقهم } ما خلفكم الموت الطالب لكم يدل على قوله { ومتاعاً إلى حين } وجواب « إذا » محذوف وهو لا يتقون أو يعرضون ، يدل عليه ما بعده مع زيادة فائدة هي دابهم الإعراض عند كل آية . ويحتمل أن يكون قوله { وما تأتيهم } متعلقاً بما قبله وهو قوله { يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } . { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا مانوا عنها معرضين } يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها . وقوله { الم يروا } إلى قوله { لعلكم ترحمون } اعتراض . ثم أشار إلى أنهم كما يخلون بجانب التعظيم لأمر الله حيث قيل لهم اتقوا فلم يتقوا يخلون بجانب الشفقة على خلق الله ولا ينفقون إذا أمروا بالإنفاق على أنهم خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والإشفاق ، فإن أدنى الانقياد الاتقاء من العذاب ، وأدنى الإشفاق هو إنفاق بعض ما في التصرف من مال الله ، فأين هم من معشر أقبلوا بالكلية على الله وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله؟ وفي قوله { مما رزقكم الله } إشارة إلى أن الله تعالى قادر على إغناء الفقير وإعطائه ولكنه جعل الغني واسطة في الإنفاق على الفقير . فالسعيد من عرف حق التوسيط وانتهز فرصة الإمكان وعلم أن الإنفاق سبب للبركة في الحال ومجلبة للثواب في المآل . وقوله { قال الذين كفروا } دون أن يقول « قالوا » تسجيل عليهم بالكفر . وقوله { للذين آمنوا } مزيد تصوير لجهالتهم حين قالوا لهؤلاء الأشراف ما قالوا . وقوله { أنطعم } دون « أننفق » إظهار لغاية خستهم فإن الإطعام أدون من الإنفاق ومن بخل بالأدون فهو بأن يبخل بالأكثر أولى .

وقوله { من لو يشاء الله أطعمه } كلام في نفسه حسن لكنهم ذكروه في معرض الدفع فلهذا استوجبوا الذم وقد بين الله خطأهم بقوله { مما رزقكم الله } فإن من في خزائنه مال وله في يد الغير مال فإنه مخير إن اراد أعطى زيداً مما في خزائنه وإن شاء أعطاه مما في يد الغير وليس لذلك الغير أن يقول لم أحلته عليّ . وقوله { إن أنتم إلا في ضلال مبين } بناء على ما اعتقدوه أن الأمر بالإنفاق ضائع ، لأنه سعي في إبطال مشيئة الله ولم يعلموا أن الضلال لا يتعدّاهم ايه سلكوا ، وذلك أنهم لم ينظروا إلى الأمر والطلب وبادروا إلى الاعتراض ، والطاعة هي اتباع الأمر لا الاستكشاف عن الغرض والغاية . ومن جملة تعنتهم أنهم استبطؤا الموعود على التقاء والإنفاق قائلين { إن كنتم } أيها المدّعون للرسالة { صادقين } فأخبرونا متى يكون هذا الموعود به من الثواب والعقاب فأجابهم الله تعالى بقوله { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } كأنهم بالاستبطاء كانوا منتظرين شيئاً . وتنكير صيحة للتهويل ووصفها بواحدة تعظيم للصيحة وتحقير لشأنهم أي صيحة لا يحتاج معها إلى ثانية ، وفي قوله { تأخذهم } أي تعمهم بالأخذ مبالغة أخرى ، وكذا في قوله { وهم يخصمون } أي يشتغلون بمتاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ومع ذلك يصعقون . وقيل : تأخذهم وهم يختصمون في أمر البعث قائلين إنه لا يكون . ثم بالغ في شدّة الأخذ بقوله { فلا يستطيعون توصية } وفي قوله { لا يستطيعون } دون أن يقول « فلا يوصون » مبالغة لأن من لا يوصي قد يستطيعها ، وكذلك في تنكير توصية الدال على التقليل ، وكذا في نفس التوصية لأنها بالقول والقول يوجد أسرع من الفعل من أداء الواجبات وردّ المظالم ، وقد تحصل التوصية بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها . وفي قوله { ولا إلى أهلهم يرجعون } بيان لشدّة الحاجة إلى التوصية فإن الذي يقطع بعدم الوصول إلى أهله كان إلى الوصية أحوج . وفيه تنبيه على أن الميت لا رجوع له إلى الدنيا ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى إلى حين يبعثون . ثم بين حال النفخة الثانية ، والأجداث القبور والنسلان العدو . وكيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الإماتة والإحياء؟ نقول : لا مؤثر إلا الله ، والنفخ علامة على أن الصوت يوجد التزلزل وأنه قد يصير سبباً لافتراق الأجزاء المجتمعة تارة ولاجتماع المتفرقة أخرى . ثم إن أجزاء كل بدن قد تحصل في موضع هو بمنزلة جدثه ، أو أعطى للأكثر حكم الكل . وذكر الرب في هذا الموضع للتخجيل فإن من أساء واضطر إلى الحضور عند من أحسن إليه كان أشدّ ألماً وأكثر ندماً . وقوله { ينسلون } لا ينافي قوله في موضع آخر

{ فإذا هم قيام ينظرون } [ الزمر : 68 ] فلعل ذلك في أول الحالة ثم يحصل لهم سرعة المشي من غير اختيارهم . ويمكن أن يقال : إن هيئة الانتظار ليست بمنافاة للمشي بل مؤكدة له ومعينة عليه . وفي « إذا » المفاجأة إشارة إلى أن الإحياء والتركيب والقيام والعدو كلها تقع في زمان النفخ .
ثم بين أنهم قبل النسلان { قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } كأنهم شكوا في أنهم كانوا موتى فبعثوا أو كانوا نياماً فتنبهوا فجمعوا في السؤال بين الأمرين : البعث والمرقد . عن مجاهد : للكفار . هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا ذلك ، ثم أجابهم الملائكة في رواية ابن عباس ، والمتقون على قول الحسن { هذا ما وعد الرحمن } كأنه قيل : ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده حتى يهمكم السؤال عن الباعث أن هذا هو البعث الأكبر الذي وعده الرحمن في كتبه المنزلة على لسان رسله الصادقين . والظاهر أن { هذا } مبتدأ { وما وعد الرحمن } إلى آخره خبره ، و « ما » مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالمصدر . ويجوز أن يكون « ما » موصولة أي هذا الذي وعده الرحمن وصدقه المرسلون أي صدقوا فيه . وجوّز جار الله أن يكون { هذا } صفة للمرقد و { ما وعد } خبر مبتدأ محذوف أي هذا وعد الرحمن ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي ما وعده الرحمن وصدقه المرسلون حق عليكم . وقيل : إن قوله { هذا ما وعد الرحمن } من كلام الكافرين كأنهم تذكروا ماسمعوا من الرسل فأجابوا به انفسهم ، أو أجاب بعضهم بعضاً ، ثم عظم شأن الصيحة بالنسبة إلى المكلفين وحقر أمرها بالإضافة إلى الجبار قائلاً { إن كانت إلا صيحة } الآية . وقد مر نظيره . ثم بين ما يكون في ذلك اليوم قائلاً { فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون } أيها الكافرون { إلا ما كنتم تعملون } وفيه إشارة إلى أن عدله عام وفضله خاص بأهل الإيمان وفيه أنهم إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للعدل أو الفضل فالفاء فيه كما في قول القائل للوالي أو للقاضي : جلست للعدل فلا تظلم . أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه . وقوله { ما كنتم تعملون } إشارة إلى عدم الزيادة فإن الشيء لا يزيد على عينه كقولك : فلان يجازيني حرفاً بحرف . أي لا يترك شيئاً . ويجوز أن يراد الجنس أيّ لا تجزون إلا جنس العمل حسناً أو سيئاً . ثم فصل حال المحسنين بطريق الحكاية في ذلك اليوم تصويراً للموعود وترغيباً فيه فقال { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } لا يكتنه كنهه وفيه وجوه أقواها أنهم مشغولون عن هول ذلك اليوم بما لهم من الكرامات والدرجات . وقوله { فاكهون } مؤكد لذلك المعنى أي شغلوا عنه باللذة والسرور با بالويل والثبور .

وثانيها أنه بيان لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء بل المراد أنهم في عمل ، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب . وثالثها أنهم تصوروا في الدنيا أموراً يطلبونها في الجنة فإذا رأوا فيها ما لم يخطر ببالهم اشتغلوا به عنها . وعن ابن عباس أن الشغل افتضاض الأبكار أو ضرب الأوتار . وقيل : التزاور . وقيل : ضيافة الله . وعن الكلبي : هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار لا يهمهم أمرهم لئلا يدخل عليهم تنغيص من تنعمهم . والفاكه والفكه المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها تؤكل للتلذذ لا للتغذي والفكاهة الحديث لأجل التلذذ لا للضرورة . والأزواج ظاهرها زوج المرأة وزوجة الرجل . وقيل : أراد اشكالهم في الأحساب وأمثالهم في الإيمان كقوله { وآخر من شكله أزواج } [ ص : 58 ] قال أهل العرفان : من شرائط السماع الزمان والمكان والإخوان فقوله { هم وأزواجهم في ظلال } إشارة إلى عدم الوجوه الموحشة وأن لهم في ظل الله ما يمنع الإيذاء كقوله { لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } [ الدهر : 13 ] وقوله { على الأرائك متكئون } دليل على القوة والفراغة والتمكن من أنواع الملاذ . وقوله { لهم فيها فاكهة } إشارة إلى سائر أنواع الملاذ الزائدة على قدر الضرورة .
وقوله { ولهم ما يدّعون } إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وما يخطر ببالهم . قال الزجاج : هو افتعل من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم . وقال جار الله : هو للاتخاذ اي ما يدعون به أو ما يدعون به أو ما يدعون لأنفسهم كقولك : يشتوي . أي اتخذ لنفسه شواء . أو هو بمعنى التداعي . وعلى الوجهين إما أن يراد كل ما يدعو به الله أحد أو كل ما يطلبه من صاحبه فإنه يجاب له بذلك ، أو يراد أن كل ما يصح أن يدعى به ويطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب . وقيل : معناه يتمنون من قولهم : ادّع عليّ ما شئت أي تمنه عليّ . وقيل : هو من الدعوى وذلك أنهم كانوا يدّعون في الدنيا أن الله هو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم بينه قوله { سلام } يقال لهم { قولاً من رب رحيم } أي من جهته بواسطة الملائكة . وقيل : اراد لهم ما يدّعون سالم خالص لا شوب فيه . و { قولاً } اي عدة وعلى هذا يكون قوله { لهم } للبيان و { ما يدعون سلام } مبتدأ وخبر كقولك : لزيد الشرف متوفر . وقال بعضهم : يحتمل أن يكون { قولاً } نصباً على التمييز لأن السلام من الملك قد يكون قولاً وقد يكون إشارة . وقال أهل البيان قوله { وامتازوا } معطوف على المعنى كأنه قيل : دوموا أيها المؤمنون في النعيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون . أو قلنا لأهل الجنة : إنكم في شغل وقلنا لأهل النار : امتازوا وهو كقوله { فريق في الجنة وفريق في السعير } [ الشورى : 7 ] أو تميزوا في أنفسكم غيظاً وحنقاً فلا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم كقوله في صفة جهنم

{ تكاد تميز من الغيظ } [ الملك : 8 ] أو افترقوا خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان فلا عذاب كفرقة الأخدان يؤيده ما روي عن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يُرى . وعن قتادة : اراد اعتزلوا عن كل خير ترجون ، أو امتازوا عن شفعائكم وقرنائكم . أو المراد تميزهم بسواد الوجه وزرقة العين وبأخذ الكتاب بالشمال وبخفة الميزان وغير ذلك . وقال صاحب المفتاح : قوله { إن أصحاب الجنة } إلى آخر الآيات خطاب لأهل المحشر بدلالة الفاء في قوله { فاليوم لا تظلم } بعد قوله { إن كانت إلا صيحة } وقد جاء في التفاسير أن قوله { إن أصحاب الجنة } إنما يقال حين يسار بهم إلى الجنة فيؤل معنى الكلام إلى قول القائل إن اصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤل حالهم إلى أسعد حال فليمتازوا عنكم إلى الجنة ، وامتازوا أنتم عنهم أيها المجرمون . ثم كان لسائل أن يقول : إن الإنسان خلق ظلوماً جهولاً والجهل عذر فبين الله تعالى أن الأعذار زائلة قائلاً { ألم أعهد إليكم } والآية إلى قوله { أفلم تكونوا تعقلون } شبه اعتراض ، فيه توبيخ لأهل النار وما ذلك العهد عن بعضهم أنه الذي مر ذكره في قوله { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل } [ طه : 115 ] وقيل : هو المذكور في قوله { وإذ خذ ربك من بني آدم من ظهورهم } [ الأعراف : 172 ] وقيل : هو المبين على لسان الرسل . ومعنى { لا تعبدوا } لا تطيعوا ولا تنقادوا وسوسته وتزيينه . وقوله { هذا } إشارة إلى ما عهد إليهم من مخالفته الشيطان وعبادة الرحمن . قال أهل المعاني : التنوين في قوله { صراط } للتعظيم إذ لا صراط أقوم منه ، أو للتنويع اي هذا بعض الطرق المستقيمة ، ففيه توبيخ لهم على العدول عنه كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ : هذا فيما أظن قول نافع غير ضار . وفي ذكر الصراط ههنا إشارة إلى أن الإنسان في دار التكليف مسافر والمجتاز في بادية يخاف فيها على نفسه وماله لا يكون عنده شيء أهم من معرفة طريق قريب أمن . ثم بين لهم عدواة الشيطان بقوله { ولقد أضل منكم جبلاً } وهو في لغاته كلها بمعنى الخلق من جبله الله على كذا أي طبعه عليه . عن علي رضي الله عنه أنه قرأ { جيلاً } بياء منقوطة من تحت بنقطتين . ثم أشار إلى محل امتياز المجرمين إليه بقوله { هذه جهنم } وقوله { اصلوها } أمر إهانة وتنكيل نحو ذق . وفي قوله { اليوم } إشارة إلى أن اللذات قد مضت وأيامها قد انقضت وليس بعد ذلك إلا العقاب . روى أهل التفسير أنهم يجحدون يوم القيامة كفرهم في الدنيا فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم . وفي الحديث « يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز شاهداً إلا من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد الكنّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل »

قال المتكلمون : إنه لا يبعد من الله تعالى إنطاق كل جرم من الأجرام إنطاق اللسان وهو فاعل لما يشاء . قال الحكيم : إنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤس . وتكلم الأعضاء عبارة عن ظهور إمارات الذنوب عليهم بحيث لا يبقى للإنكار مجال كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إذا ظهر أمارات الحزن وأسبابه . ثم إنه تعالى أسند الختم إلى نفسه وأسند التكلم والشهادة إلى الأيدي والأرجل لكيلا يقال : إن الإقرار بالإجبار غير مقبول . وأيضاً إنه أسند التكلم إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل لأن الأعمال مستندة إلى الأيدي غالباً كقوله { وما عملته أيديهم } { فبما كسبت ايديكم } [ الشورى : 30 ] فهي كالعاملة ، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره . وإنما جعلت الشهادة عليهم منهم لأن غيرهم إما صالحون وهم أعداء للمجرمين فلهم أن يقولوا شهادتهم غير مقبولة في حقنا ، وإما فاسقون وشهادة الفسقة غير مقبولة شرعاً .
وههنا نكتة وهي أن الختم لازم للكفار في الدارين ، ختم الله على قلوبهم في الدنيا وكان قولهم بأفواههم كما قال { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } [ آل عمران : 167 ] ثم إذا ختم على أفواههم أيضاً في الآخرة لزم أن يكون قولهم بسائر أعضائهم . هذا وقد ذكرنا مراراً أنه تعالى كلما يذكر تمسك الجبرية يذكر عقيبه تمسك القدرية وبالعكس . وكان للقدرية أن تتمسك بقوله { يكسبون } { يكفرون } حيث اسند الله الكفر والكسب إليهم فلا جرم عقبه بتمسك الجبري وهو قوله { ولو نشاء لطمسنا } ووجه التمسك أن إعماء البصائر شبه إعماء الأبصار ، وسلب القوّة العقلية كسلب القوّة الجسمية . فكما أنه لو شاء لطمس على أبصارهم حتى لا يهتدوا إلى الطريق القاهر الظاهر ولو شاء لسلب قوّة جسومهم بالمسخ حتى لا يقدروا على تقدم ولا تأخر ، فكذلك إذا شاء أعمى البصائر وسلب قواهم العقلية حتى لم يفهموا دليلاً ولم يتفكروا في آية . والطمس محو أثر شق العين . قال جار الله { فاستبقوا الصراط } أصله فاستبقوا إلى الصراط فانتصب بنزع الخافض . والمعنى لو شاء لمسح أعينهم فلو راموا أن يسبقوا إلى الصراط الذي عهدوه واعتادوا على سلوكه إلى مساكنهم لم يقدروا عليه إذ الصراط طريق الاستباق ، والاستباق مضمن معنى الابتدار . فالمراد لو شاء لأعماهم حتى لو ارادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف أو مبتدرين إياه كما كان هجيراهم لم يتسطيعوا . أو يجعل الصراط مسبوقاً لا مسبوقاً إليه ، فالمعنى لو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوه لعجزوا ولم يقدروا إلى على سلوك الطريق المعتاد كالعميان يهتدون فيما ألفوا من المقاصد والجهات دون غيرها . عن ابن عباس : أراد لمسخناهم قردة وخنازير .

وقيل : حجارة . عن قتادة : لأقعدناهم على أرجلهم أو أزمناهم على أرجلهم . والمكان والمكانة واحد أراد مسخاً مجمداً بحيث لا يقدرون أن يرجعوا مكانهم . وإنما قدم الطمس على المسخ تدرّجاً من الأهون إلى الأصعب ، فإن الأعمى قد يهتدي إلى وجوه التصرف بأمارت عقلية أو حسية غير البصر . وأما الممسوخ على مكانه فلا يهتدي إلى شيء أصلاً . ولمثل ما قلنا قدم المضيّ على الرجوع فإن سلوك طريق قد رآه مرة يكون أهون مما لم يره اصلاً ، فنفى أوّلاً استطاعة الصعب ثم نفى استطاعة الأهون أيضاً لأجل المبالغة . وحين قطع الأعذار بسبق الإنذار وذلك في قوله { ألم أعهد إليكم } شرع في قطع عذر آخر للكافر وهو أن يقول : لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيراً ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيراً فقال الله تعالى { ومن نعمره ننكسه في الخلق } كقوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } [ الحج : 5 ] { أفلا تعقلون } أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرتم ما تمكنتم فيه أن النظر والعمل ، ومن لم يأت بالواجب في زمان الإمكان لم يأت به في زمن الأزمان . وعن بعضهم :
طوى العصران ما نشراه مني ... فأبلى جدّتي نشر وطيّ
أراني كل يوم في انتقاص ... ولا يبقى على النقصان شيّ
وقال آخر :
أرى الأيام تتركني وتمضي ... وأوشك أنها تبقى وأمضي
علامة ذاك شيب قد علاني ... وضعف عند إبرامي ونقضي
وما كذب الذي قد قال قبلي ... إذا ما مر يوم مر بعضي
وحيث بين أصل الوحداينة والحشر في هذه السورة مرات أقربها قوله { وأن اعبدوني } وقوله { هذه جهنم } إلى آخرها عاد إلى أصل الرسالة بقوله { وما علمناه الشعر } وإنما لم يقل وما علمناه السحر ولا الكهانة مع أنهم ادّعوا أنه ساحر كاهن لأنه ما تحدّاهم إلا بالقرآن . وإنما نسبوه إلى السحر عند إظهار فعل خارق كشق القمر وحنين الجذع إليه ، ونسبوه إلى الكهانة عند إخباره عن الغيوب وهو نوع خاص من الكلام من غير اعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية . قال جار الله معنى قوله { وما ينبغي له } أنه لا يتأتى له ولا يتسهل كما جعلنا أمياً لا يهتدي للخط . وروي عن الخليل أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ولكن كان لا يتأتى له . قال : وما روي أنه صلى الله عليه وسلم .
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وقال
:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
كلام اتفاقي من غير قصد وتعمد ، والشعر كلام موزون مقفى مع تعمد . وقيل : أراد نفي الشعر عن القرآن فقال { وما علمناه } بتعليم القرآن { الشعر وما ينبغي } القرآن أن يكون شعراً وأنا أقول : الأحسن أن يقال : ما ينبغي له معناه أنه لا يليق بجلالة منصبه لأن الشعر مادته كلام يفيد تأثيراً دون التصديق وهو التخييل ، وأما الوزن والقافية فهما كالصورة ويفيدانه تروجياً وتزييناً فجلَّ رتبته من التخييل الذي هو قريب من المغالطة ، ولهذا لم يؤمر بأن يدعو بهما إلى سبيل ربه .

وإنما أمر بأن يدعو إلى الدين باسئر أصناف الكلام حيث قيل { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] ونظيره قوله ههنا { إن هو إلا ذكر } أي موعظة { وقرآن مبين } ذو البيان أو الإبانة وأنه يشمل البرهان والجدل . أما البرهان فظاهر ، وأما الجدل فلأن النتيجة إذا كانت في نفسها حقة . فالرجل العالم المحق ليس عليه إلا إفحام الخصم الألدّ وإلزامه بمقدّمات مسملة أو مشهورة ، ومما يؤيد ما ذكرنا ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قول طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
هكذا : ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار . ولا ريب أنه كان يتأتى له رواية الشعر إن لم يتأت له فرصة ، وما ذاك إلا للتنزه عما يشبه ما يشين رتبته ولا يوافق وغزاه . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم حين قال :
هل أنت إلا إصبع دميت ... انقطع الوحي أياماً حتى قالت الكفار إن محمداً قد ودعه ربه وقلاه ، وهذا أحد أسباب نزول تلك الآية . ولمثل ما قلنا لم يروَ عنه كلام منظوم وإن كان حقاً وصدقاً كالذي قاله بعض الشعراء في التوحيد والحقائق . وقد اشار إلى نحو ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم « إن من الشعر لحكمة » وقد مر في تفسير قوله سبحانه في آخر الشعراء { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الآية : 227 ] وذلك أن الشاعر يقصد لفظاً فيوافقه معنى حكمي . وبالجملة لا يخلو الشعر عن تكلف مّا ، وقد يدعوه النظم إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ ، فأين الشارع من الشاعر؟ ثم بين كون القرآن منزلاً على هذا الوجه بقوله { لتنذر } يا محمد أو لينذر هو أي القرآن { من كان حياً } عاقلاً متأملاً . ويجوز أن تكون الحياة عبارة عن الإيمان ، أو المراد بالحي من يؤل حاله إلى الإيمان . أو المراد بالإنذار الانتفاع به مثل { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] { إنما تنذر من اتبع الذكر } [ يس : 11 ] وقوله { ويحق القول } كقوله في أول السورة { لقد حق القول } وقد مر وهذا كلام مطابق من حيث المعنى كأنه قال : لتنذر من كان حياً ويحق القول على من كان ميتاً لأن الكافر في عداد الموتى . ثم عاد إلى تقرير دلائل الوحدانية مع تعداد النعم فقال { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت } أي من جملة ما عملته { أيدينا } فاستعار عمل الأيدي لتفرده بالأحداث والإيجاد مع اشتمال المحدث والموجد على غرائب وعجائب حتى قال فيه { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت }

[ الغاشية : 17 ] وقوله { فهم لها مالكون } إشارة إلى اتمام الإنعام في خلق الأنعام . وقوله { وذللناها لهم } إشارة إلى ما فوق التمام فقد يملك الشيء ولا يكون مسخراً ، ومن الذي يقدر على تذليل الإبل لولا أمر الله بتسخيرها حتى قال بعضهم :
يصرف الصبيّ بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا غير لديه ولا نكير
والجرير حبل يجعل للعبير بمنزلة العذار للدابة . ومن زعم أن الملك بمعنى الضبط من قوله : لا أملك رأس البعير أن يفر . يلزمه التكرار . ثم فصل بعض منافعها بقوله { فمنها ركوبهم } والركوب والركوبة ما يركب كالحلوب والحلوبة ، والتاء للمبالغة . وقيل : للوحدة والمنافع كالجلود والأوبار والأصواب ، ذكرها بالاسم العام لما في تفصيلها من الطول . والمشارب جمع مشرب وهو موضع الشرب اي الأواني المتخذة من جلودها ، أو هو الشرب كالألبان والأسمان .
وحين وبخهم على عدم الشكر بقوله { أفلا يشكرون } زاد في توبيخهم بقوله { واتخذوا من دون الله آلهة } أي وضعوا الشرك مكان الشكر فلا أظلم منهم . وفي قوله { لعلهم ينصرون } إلى قوله { محضرون } وجهان : أحدهما أنهم طمعوا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم والأمر عكس ذلك حيث هم جند لآلهتهم معدّون يخدمونهم ويذبون عنهم من غير نفع في آلهتهم . وثانيهما اتخذوهم لينصرونهم عند الله بالشفاعة ، والأمر على خلاف ذلك حيث إن آلهتهم يوم القيامة جند محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقوداً للنار . ووجه ثالث وهو أن يكون قوله { وهم لهم جند محضرون } تأكيداً لعدم الاستطاعة فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يتأهب ولم يجمع أنصاره . ثم عقب دليل التوحيد بالرسالة مسلياً رسوله بقوله { فلا يحزنك قولهم } باتخاذ الشريك لله أو بالطعن في الرسالة أو بالإيذاء في والتهديد . ثم علل عدم الحزن بقوله { إنا نعلم ما يسرون } من النفاق وسائر العقائل الفاسدة { وما يعلنون } من الشرك وسائر الأفعال القبيحة ، أو يسرون من المعرفة بالله ويعلنون من العناد وجوّز جار الله فتح « أن » على تقدير لام التعليل ، بل جوز أن تكون المفتوحة بدلاً من { قولهم } والمكسورة مفعولاً ل { قولهم } ويكون نهي الرسول عن ذلك كنهيه عن الشرك في قوله و { تكونن من المشركين } [ الأنعام : 14 ] ثم اردف الرسالة بالحشر مع أن فيه دليلاً آخر على التوحيد مأخوذاً من الأنفس ، فإن الأول كان مأخوذاً من الآفاق . وفي قوله { فإذا هو خصيم مبين } وجهان : أحدهما فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً رجل مميز منطيق معرب عما في ضميره كقوله { أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } [ الزخرف : 18 ] فقوله { من نطفة } إشارة إلى أدنى ما كان عليه الإنسان وقوله { فإذا هوخصيم مبين } إشارة إلى أعلى ما حصل عليه الآن ، لأن أعلى أحوال الناطق أن يقدر على المخاصمة والذب عن نفسه بالكلام الفصيح .

وثانيهما قول كثير من المفسرين إنها نزلت في جماعة من كفار قريش تكلموا في البعث فقال للهم أبيّ بن خلف الجمحي : واللات والعزى لأصيرن إلى محمد ولأخصمنه . وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتته بيده ويقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم ويبعثك ويدخلك جهنم . قال أهل البيان : سمى قولهم { من يحيي العظام وهي رميم } مثلاً لأن إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى قصة عجيبة . وفيه تشبيه الخالق اللقادر العليم بالمخلوق العاجز عن خلق أدنى بعوضة الجاهل بما يجري عليه من الأحوال . والرميم اسم لما بلي من العظام كالرمة والرفات ولا يبعد أن يكون صفة . ولم تؤنث بتقدير موصوف محذوف أي شيء رميم ، أو لأنه بمعنى فاعل كقوله { إن رحمة الله قريب } [ الأعراف : 56 ] وفي الآية دليل ظاهر على أن عظام الميتة نجسة لأن الموت والحياة يتعاقبان عليها . وقال أصحاب أبي حنيفة : إنها ظاهرة وإن الحياة لا تحل فيها فلا يتصور موتها ، وكذا الشعر والعصب . وتأوّلوا الآية بأن المراد بإحياء العظام ردّها على ما كانت عليه غضة طرية في بدن حيّ حساس . واعلم أن المنكرين للحشر منهم من اكتفى في إنكاره بمجرد الاستبعاد كقوله { من يحيي العظام وهي رميم } فأزال استبعادهم بتصوير الخلق الأول فإن الذي قدر على جعل النطفة المتشابهة الأجزاء إنساناً مختلف الأبعاض والأعضاء ، مودعاً فيه الفهم والعقل وسائر اسباب المزية والفضل ، فهو على إعادتها أقدر . ومنهم من ذكر شبهة وهي كقولهم : إن الإنسان بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح إعادة المعدوم عقلاً؟ أو كقولهم : إن الذي تفرقت أجزاؤه في أبدان السباع وجدران الرباع كيف يجمع ويعاد؟ أو كقولهم إن إنسانأً إذا نشأ مغتذياً بلحم إنسان آخر فلا بد أن لا يبقى للآكل وللمأكول جزء يمكن إعادته . فأجاب الله تعالى عن الأول بقوله { يحييها الذي أنشأها أوّل مرة } يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً فإنه يعيده وإن لم يكن شيئاً . وعن الباقيتين بقوله { وهو بكل خلق عليم } فيجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع والسباع وهكذا يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الصلية للآكل والمأكول . ثم شبه خلق الإنسان بل الحيوان من قبل إيداع الحرارة الغريزية التي بها قوام الحياة في جوهر رطب طريّ بإنشاء الشجر الخضر الذي تنقدح منه النار . قالت العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر واستغزر يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ - وهو ذكر علىلعفار- وهي أنثى- فتنقدح النار بإذن الله عز وجل .
وعن ابن عباس : ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب قالوا : ولذلك يتخذ منه كذينقات القصارين .

قلت : ويشبه أن يكون كل شجرة في غاية الصلابة هكذا إلا أن يكون له سبب خاص به كما يروى أنه معجزة لموسى عليه السلام فإنه قد رأى النار فيها فلا ينبغي لغيره أن يراها . ثم أكد قدرته الكاملة على خلق الإنسان إبداء وإعادة بتذكر خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس . ثم اثبت ما نفاه مستفهماً للتقرير بقوله { بل وهو الخلاق } الكثير الخلق الكامل فيه { العليم } بكل جوهر وعرض وما يطلق عليه اسم الشيئية . ثم بين أن إيجاده ليس متوقفاً إلا على تعلق الإرادة بالمقدور وقد مر تقريره في أوائل « البقرة » وغيرها . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن المعدوم شيء . وأجيب بأن الآية دلت على أنه حين تعلق الإرادة به شيء ، أما إنه قبل ذلك شيء فكلا . ثم ختم السورة بتقرير المبدأ والمعاد على الإجمال . فقوله { بيده ملكوت كل شيء } إشارة إلى المبدأ . وقوله { وإليه ترجعون } إشارة إلى المعاد وإذا تقرر الطرفان فما بينهما الوسط المشتمل على التكاليف والرسالة ، فهذه الآية كالنتجية للمقدمات السابقة في السورة . عن ابن عباس : كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا أنه لهذه الآية . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ان لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس » فذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه أن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر وأنه مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فلذلك سماها قلب القرآن . وقال غيره : إن الأصول الثلاثة التي يتعلق بها نصيب الجنان وهي التوحيد والرسالة والحشر مكررة في هذه السورة . وليس فيها شيء من بيان وظيفة اللسان ولا العمل بالأكان . فلما كان أعمال القلب لا غير سماه قلباً ، ولهذا ورد في الأخبار أنه ينبغي أن تقرأ على الميت حالة النزع وذلك ليزداد بها قوة قلبه ، فإن الأعضاء الظاهرة وقتئذ ساقطة المنة ، والقلب مقبل على الله معرض عما سواه ولنا فيه وجه هو بالتأويل أشبه فلنذكره هناك .
التأويل : { اتقوا ما بين أيديكم } من الدنيا وشهواتها { وما خلفكم } من نعيم الجنة ولذاتها { لعلكم ترحمون } بمشاهدة الجمال وأنوار الكمال { ونفخ في الصور } إشارة إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب ، فإذا السر والروح والخفى من أجداث أوصاف البشرية { إلى ربهم ينسلون } يرجعون بعضها بالسير وبعضها بالطيران { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } شغلهم الله بالمفاكهة عن المشاهدة كما قال بعض الصوفية : والناس يخرجون من مسجد الجامع هؤلاء حشو الجنة . وللمجالسة اقوام آخرون وهم الفارغون من الالتفات إلى الكونين . قال الله تعالى { فإذا فرغت } [ الشرح : 7 ] أي من تعلقات الكونين { فانصب } [ الشرح : 7 ] لطلب الوصال . ويحكى أن الآية قرئت في مجلس الشبلي رضي الله عنه فشهق شهقة وغاب ، فلما أفاق قال : مساكين لو علموا أنهم عم شغلوا لهلكوا .

ويحتمل أن يقال : إنهم اليوم أي في الدنيا ف شغل بأنواع الطاعات والعبادات من طلب الحق والشوق إلى لقائه كما يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال : رايت رب العزة في منامي فقال لي : ابن معاذ ، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني . ويمكن أن يقال : إنهم اليوم في الدنيا في شغل بالطاعات والرضا بما قسم الله عن طلب اللذات والفوائد وارتكاب المحرمات والزوائد . أو يقال : إنه خطاب للعصاة فإن أهل الله هم المستغرقون في بحار عظمة الله ، وأهل الجنة مشتغلون باستيفاء اللذات وليس العصاة إلا رحمتي وكرمي كما قال { يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] { وتشهد أرجلهم } في بعض الأخبار المروية أن عبداً لتشهد عليه أعضاؤه بالذلة فتتطاير شعرة من جفن عينه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى : تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي . فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد : هذا عتيق الله بشعرة . { ومن نعمره ننكسه } إن السالك إذا عمر صار في آخر الأمر إلى الفناء في الله حتى لا يبقى منه ما يستند الفعل إليه . وفي قوله { وما علمناه الشعر } إشارة إلى أن العلوم والصنائع كلها من الله تعالى وبتعليمه وإلهامه . { من الشجر الأخضر } وهو شجرة البشرية نار المحبة { توقدون } مصباح قلوبكم . وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن قلب القرآن يس » لأن ذكره صلى الله عليه وسلم رمز إليه في أول السورة وفي آخرها . أما الأول فقد مر في تفسير لفظ { يس } وأما الثاني فلأن قوله { فسبحان } إلى آخره يدل على المبدأ والمعاد تصريحاً ، وعلى الرسالة ضمناً ، ولا ريب أن القلب خلاصة كل ذي قلب ، وإنه صلى الله عليه وسلم كان خلاصة المخلوقات وكان خلقه القرآن الذي نزل على قلبه ، وكأن فاتحة السورة وخاتمتها مبنية على ذكره منبئة عن سره كالقلب في جوف صاحبه فلأجل هذه المناسبات أطلق على { يس } أنه قلب القرآن والله ورسوله أعلم بأسرار كلامه .

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

القراآت : { والصافات صفاً } وما بعدهما مدغماً : حمزة وأبو عمرو غير عباس { بزينة } منوناً : حمزة وعاصم غير المفضل { الكواكب } بالنصب : أبو بكر وحماد . الباقون : بالجر { لا يسمعون } بتشديد السين والميم وأصله « يتسمعون » : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الآخرون : بسكون السين وتخفيف الميم . { بل عجبت } بالضم : حمزة وعلي وخلف . الآخرون : بالفتح على الخطاب { آيذا } بالمد والياء { إنا } بهمزة واحدة مكسورة : يزيد وقالون وزيد . الباقون : مثل التي في « الرعد » وأما الثانية فمثل التي في « الرعد » { أو آباؤنا } مثل { أو أمن أهل القرى } [ الأعراف : 98 ] وكذلك في « الواقعة » { لا تناصرون } بالتشديد البزي وابن فليح { أئنا } { أئنك } { أئفكا } مثل { ائنكم } في « الأنعام » { ينزفون } بضم الياء وكسر الزاي : حمزة وعلي وخلف والمفضل . الآخرون : بفتح الزاي { لترديني } بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل .
الوقوف : { صفا } 5 لا { زجراً } 5 لا { لواحد } 5 ط { المشارق } 5 ط { الكواكب } 5 لا { مارد } 5 ج لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف قاله السجاوندي . وعليه بحث يجيء في التفسير { واصب } 5 لا { ثاقب } 5 ج { خلقنا } ط { لازب } 5 { ويسخرون } 5 ص { لا يذكرون } 5 ص { يستسخرون } 5 ص { مبين } 5 ج { لمبعوثون } 5 لا { الأوّلون } 5 ط { داخرون } 5 { ينظرون } 5 { الدين } 5 { تكذبون } 5 { يعبدون } 5 لا { الجحيم } 5 { مسؤولون } 5 لا لأن المسؤول عنه قوله { ما لكم لا تناصرون } 5 { مستسلمون } 5 { يتساءلون } 5 { اليمين } 5 { مؤمنين } 5 ج { سلطان } ج للعدول مع اتفاق الجملتين { طاغين } 5 { لذائقون } 5 { غاوين } 5 { مشتركون } 5 { بالمجرمين } 5 { يستكبرون } 5 { مجنون } 5 ط { المرسلين } 5 { الأليم } 5ج { تعملون } 5 لا { المخلصين } 5 { معلوم } 5 { فواكه } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { مكرمون } 5 لا { النعيم } 5 لا { متقابلين } ج { معين } 5 لا { للشارين } 5 ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً { ينزفون } 5 { عين } ط { مكنون } ج { يتساءلون } 5 { قرين } 5 { المصدّقين } 5 { لمدينون } 5 { مطلعون } 5 { الجحيم } 5 { لتردين } 5 { المحضرين } 5 { بميتين } 5 لا { بمعذبين } 5 { العظيم } 5 { العالمون } 5 { الزقوم } 5 { للظالمين } 5 { الجحيم } 5 لا لأن ما بعده صفة لشجرة { الشياطين } 5 { البطون } 5 لا لأن « ثم » لترتيب الأخبار { حميم } 5 { الجحيم } 5 ج { ضالين } 5 لا للعطف مع اتصال المعنى { يهرعون } 5 { الأوّلين } 5 { منذرين } 5 { المنذرين } 5 لا { المخلصين } 5 { المجيبون } 5 ز { العظيم } 5 ز { الباقين } 5 ز { في الآخرين } 5 لا لأن ما بعده مفعول تركنا على سبيل الحكاية { العالمين } 5 { المحسنين } 5 { المؤمنين } 5 { الآخرين } 5 .

التفسير : إنه سبحانه بدأ في أوّل هذه السورة بالتوحيد كما ختم السورة المتقدمة بذكر المعاد وأقسم على المطلوب بثلاثة أشياء ، أما الحكمة في القسم فكما مرّ في أول سورة يس ، وأما الإقسام بغير الله وصفاته فلا نسلم أنه لا يجوز لله سبحانه ، أو هو على عادة العرب ، أو المراد تعظيم هذه الأشياء وتشريفها ، أو المراد رب هذه الأشياء فحذف المضاف . قال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن وكذا التاء في الزاي وفي الذال لتقارب مخارجها ، الا ترى أن التاء والصاد هما من طرف اللسان وأوصل الثنايا ويجتمعان في الهمس ، والمدغم فيه يزيد على المدغم في الإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن؟ وايضاً الزاي مجهورة وفيها زيادة صفير . ثم المقسم بها في الآيات إما أن تكون صفات ثلاثاً لموصوف واحد أو صفات لموصوفات متباينة . وأما التقدير الأوّل ففيه وجوه الأوّل : أنها صفة الملائكة لأنهم صفوف في السماء كصفوف المصلين في الأرض ، أو أنهم يصفون أجنحتهم في الهواء واقفين منتظرين لأمر الله تعالى . والصف ترتيب الشيء على نسق . الفاعل صاف ، والجماعة صافة ، والصافات جمع الجمع ولولا ذلك لقيل والصافين . قال الحكيم : يشبه أن يكون معنى كونهم صفوفاً أن لكل منهم مرتبة معينة في الشرف أو بالغلبة . والزجر سوق السحاب . قال ابن عباس : يعني الملائكة الموكلين بالسحاب . وقال آخرون : أراد زجرهم الناس عن المعاصي بالخواطر والإلهامات ، أو بدفع تعرض الشياطين عن بني آدم . والتاليات الذين يتلون كتاب الله على الأبنياء . والحاصل أن كونهم صافين إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها أعني وقوفهم في مواقف العبودية والطاعة ، وكونهم زاجرين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي من جواهر الأرواح البشرية ، وكونهم تالين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الإنسانية . الوجه الثاني أنها صفات النفوس الإنسانية المقبلة على عبودية الله وعبادته وهم ملائكة الأرض ، أقسم بنفوس المصلين بالجماعات الزاجرين أنفسهم عن الشهوات أو عن إلقاء وساوس الشيطان في قلوبهم أثناء الصلوات بتقديم الاستعاذة أو برفع الأصوات ، التالين للقرآن في الصلاة وغيرها . أو أقسم بنفوس العلماء الصافات لأجل الدعوة إلى دين الله الزاجرات عن الشبهات والمنهيات بالمواعظ والنصائح الدارسات شرائع الله وكتبه لوجه الله ، أو أقسم بنفوس المجاهدين في سبيل الله كقوله { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } [ الصف : 4 ] والزجرة والصيحة سواء . والمراد رفع الصوت بزجر الخيل . وأما التاليات فذلك أنهم يشتغلون وقت المحاربة بقراءة القرآن وذكر الله . يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يخرج من الصف وسيفه ينطف دماً فإذا رقى ربوة يأتي بالخطبة الغراء . الوجه الثالث أنها صفات آيات القرآن وذلك أنها أنواع مختلفة بعضها دلائل التوحيد ، وبعضها دلائل العلم والقدرة ، وبعضها دلائل النبوة ، وبعضها دلائل المعاد ، وبعضها بيان التكاليف والأحكام ، وبعضها تعليم الأخلاق الفاضلة ، وكلها مترتبة ترتيباً لا يتغير ولا يتبدل فكأنها أجرام واقفة في صفوف معينة ، ولا ريب أنها تزجر المكلفين عن المناهي والمنكرات .

وأما نسبة التلاوة إليهن فمجاز كما يقال : شعر شاعر . والفاء في هذه الوجوه لترتب الصفات في الفضل فالفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو بالعكس فلكل وجه . ويحتمل وإن لم يذكره جار الله أن تكون لترتيب معانيها في الوجود كقوله :
الصابح فالغانم فالآيب ... كأنه قال : الذي صبح فغنم فآب . مثاله المصلون يقفون أوّلاً صفوفاً ثم يزجرون الوساوس عنهم بالاستعاذة ثم يشتغلون بالقراءة .
وأما التقدير الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الأمور الثلاثة موصوفات متغايرة؛ فالصافات الطير من قوله { والطير صافات } [ النور : 41 ] والزاجرات كل ما زجر عن معاصي الله ، والتاليات كل من تلا كتاب الله . أو الصافات طائفة من الملائكة أو من الأشخاص الإِنسانية ، وكل من الزاجرات والتاليات طائفة أخرى . وقيل : الصافات العالم الجسماني المنضود كرة فوق كرة من الأرض إلى الفلك الأعظم ، والزاجرات الأرواح المدبرة للأجسام بالتحريك والتصريف ، والتاليات الأرواح المستغرقة في بحار معرفة الله تعالى والثناء عليه . والفاء على هذه المعاني لترتب الموصوفات في الفضل . ثم إنه سبحانه لو يقتصر في إثبات التوحيد على الحلف ولكنه عقبه بالدليل الباهر فقال { رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق } فلكل كوكب مشرق ومغرب بل للشمس ولسائر السيارات وللثوابت في كل يوم مشرق آخر بحسب تباعدها عن منطقة المعدل وتقاربها منها . وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] . ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين : الأولى تحصيل الزينة ، والثانية الحفظ من الشيطان . والزنية مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة . ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه : أن يكون مصدراً مضافاً إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها ، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها ، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها ، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر . وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر ، ويجوز أن يقع { الكواكب } بياناً للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة . ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء . ومن قرأ باتنوين { زينة } وجر { الكواكب } فعلى الإبدال ، ومن قرأ بتنوين { زينة } ونصب { الكواكب } فعلى أنه بدل من محل { بزينة } أو من السماء ، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة .

قوله { وحفظاً } فيه وجوه أحدها : أنه محمول على المعنى والتقدير : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً من الشياطين . وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل : وحفظاً من كل شيطان زيناها بالكواكب . وثالثها قال المبرد : إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم . تقول : افعل ذلك كرامة أي وأكرمك كرامة ، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير : وحفظناها حفظاً . قال المفسرون : الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب فأخبروا صنعاءهم ، فجعل الله الكواكب في زمن محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تحرقهم وتحفظ أهل السماء في إصغائهم . قال الحكيم : ليس المراد بالكواكب الحافظة أنفس الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلا لوقع نقصان ظاهر في أعدادها ، بل المراد ما يضاهيها من الشهب الحادثة عند كرة النار من الأبحرة المرتفعة ، وقد مر تحقيق ذلك في أول سورة الحجر . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : إن الشياطين لهم حذق كامل في استخراج الصنائع الدقيقة فإذا عرفوا هذه الحالة بالتجربة فلم لا يمنعون منه . وأيضاً إنهم مخلوقون من النار والنار كيف تؤثر في النار؟ وأيضاً مقر الملائكة السطح الظاهر من الفلك الأعلى وإنهم لا يصعدون إلا إلى قريب من الفلك الأدنى فكيف يسمعون كلام الملائكة؟ والجواب أنا لا نسلم حذقهم في كل الأمور ولهذا جاء في وجوه تسخيرهم ما جاء على أن موضع الاستراق والاحتراق غير متعين ، ووقوع هذه الحالة أيضاً كالنادر . فلعل المسترق يكون غير واقف عليه ، والنيران بعضها أقوى من البعض وليس الشيطان ناراً صرفاً ، ولكن الناري غالب عليه . ولا نسلم أن الملائكة لا ينزلون إلى الفلك الأخير بإذن الله . والمارد الخارج من الطاعة وقد مر اشتقاقه في قوله مردوا على النفاق .
والضمير في قوله { لا يسمعون } لكل شيطان لأنه في معنى الجمع . والتسمع تكلف السماع سمع أو لم سمع وقد ضمن معنى الإصغاء فلذلك عدّي بإلى . وقيل : معنى سمعت إليه صرفت إلى جهته سمعي . قال جار الله : هذه الجملة لا يصح أن تكون صفة لأن الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له ، ولا يصح أن يكون استئنافاً لأن سائلاً لو سأل : لم يحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون . لم يستقم فبقي أن يكون كلاماً منقطعاً مبتدأ به لاقتصاص حال المسترقة للسمع . قلت : لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز ، وكذا إن كان مستأنفاً كأنه قيل : لم يحفظ فأجيب لأنهم يؤلون إلى كذا .

ومن هنا زعم بعضهم أن أصله لئلا يسمعوا لهم فحذفت اللام ثم « أن » وأهدر عملها كما في قول القائل :
ألا ايهذا الزاجري أحضر الوغى ... ورد عليه في الكشاف أن حذف اللام في قولك « جئتك أن تكرمني » وحذف « أن » في قول الشاعر جائز ، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات . قلت : إن القرآن حجة على غيره مع أن قول الشاعر أيضاً لا يصح إلا بتقدير اللام أو « من » مع « أن » . والملأ الأعلى الملائكة لأنهم يسكنون السموات . وعن ابن عباس : أراد أشراف الملائكة . وعنه : الكتبة من الملائكة . والقذف الرمي بحجر تقول : قذفته بحجر أي رميت إليه حجراً . وقوله { من كل جانب } أي مرة من هذا الجانب ومرة من هذا الجانب . وقيل : من كل الجوانب . { دحوراً } أي طرداً مع صغار مصدر من غير لفظ الفعل ، لأن القذف والطرد متغايران كأنه قيل : يقذفون قذفاً أو يدحرون دحوراً . ويجوز أن يكون مفعولاً له اي لأجل الدحور أو مصدراً في موضع الحال أي مدحورين كقوله { مذموماً مدحوراً } [ الإسراء : 18 ] { ولهم } أي للشياطين { عذاب واصب } دائم وقد مر في النحل في قوله { وله الدين واصباً } [ النحل : 52 ] يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ولهم في الآخرة نوع من العذاب غير منقطع { إلا من خطف } في محل الرفع بدلاً من الواو في { لا يسمعون } أي لا يسمع إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة مسارقة . وقيل : وثب وثبة . وقيل : الاستثناء منقطع خبره { فأتبعه } أي أتبعه ورمى في أثره { شهاب ثاقب } مضيء أو ماض فإذا قذفوا احترقوا . وقيل : تصيبهم آفة فلا يعودون . وقيل : لا يقتلون بالشهب بل يحس بذلك فلا يرجع ولهذا لا يمتنع غيره من ذلك . وقيل : يصيبهم مرة ويسلمون مرة فصاروا في ذلك كراكبي السفينة للتجارة . وحين بين الوحدانية ودلائلها في أول هذه السورة أراد أن يذكر ما يدل على الحشر والكلام فيه من طريقين : الأوّل أن يقال : قدر على الأصعب فيقدر على الأسهل بالأولى ، الثاني قدر في أول الأمر فيقدر في الحالة الثانية . أما الطريق الأوّل فاشار إليه بقوله { فاستفتهم } أي سل قومك أو صاحبهم وأراد بمن خلقنا ما ذكرنا من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب والشهب والشياطين ، وغلب أولي العقل على غيرهم . وقيل : اراد عاداً وثمود ومن قبلهم من الأمم الخالية . والقول الأول اقوى بدليل فاء التعقيب ولإطلاق قوله { خلقنا } إكتفاء ببيان ما تقدمه كأنه قال : خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق ، فاستخبرهم أهم أشد خلقاً أم هذه الخلائق ، ومن هان عليه هذه كان خلق البشر بل إعادته عليه أهون . وأما الطريق الثاني فإليه الإشارة بقوله { إنا خلقناهم من طين لازب } أي لازم والباء بدل من الميم عند أكثرهم ولهذا قال ابن عباس : هو الملتصق من الطين الحر .

وقال مجاهد والضحاك : هو المنتن . ووجه الاستدلال أن هذا الجسم لو لم يكن قابلاً للحياة لم يقبلها من أول الأمر ، وإذا قبلها أوّلاً فلا يبقى ريب في قبولها ثانياً ، وقادرية الله تعالى باقية على حالها فالإعادة أمر ممكن ، وقد أخبر الصادق عن وقوعها فيجب وقوعها . وفي هذا الطريق الثاني تقوية للطريق الأوّل ، فإن خلقهم من الطين شهادة عليهم بالضعف والرخاوة . ثم بين أنهم مع قيام الحجج الضرورية عليهم مصرون على الإنكار فقال { بل عجبت } من قرأ بفتح التاء فظاهر أي عجبت يا محمد من تكذيبهم وإنكارهم البعث { و } هم { يسخرون } من تعجبك ، أو عجبت من القرآن حين أعطيته ويسخر أهل الكفر منه . ومن قرأ بالضم فأورد عليه أن التعجب على الله غير جائز لأنه روعة تعتري الشخص عند استعظام الشيء . وقيل : هذه حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء . وأجيب بأن معناه : قل يا محمد بل عجبت . سلمنا لكن العجب هو أن يرى الإنسان ما ينكره الكافر والإنكار من الله تعالى غير منكر . سلمنا لكن هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات كالمكر والستهزاء والمعنى : بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني استعظمتها فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون منها ، أو استعظمت إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يصف الله تعالى بالقدرة عليه نظيره الآية { وإن تعجب فعجب قولهم } [ الرعد : 5 ] . عند من يرى أن العجب من الله . وقد جاء في الحديث « يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة » وقال أيضاً : « عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته » والألّ التضرع . ثم حكى عنهم أنه كما أن دأبهم السخرية عند إيراد البراهين فكذلك دأبهم أنهم إذا وعظوا لا يتعظون .
{ وإذا رأوا آية } بينة كانشقاق القمر وغيره من المعجزات { يستسخرون } يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها ونسبوا ما رأوه إلى السحر . فالحصال أنه لا تفيد معهم البراهين الضرورية ولا المقدمات الوعظية ولا المعجزات الدالة على صدق إخبارك بالبعث . قوله { أو آباؤنا } من قرأ بسكون الواو فمعطوف على محل اسم « أن » ، ومن قرأ بفتحها فعليه ، أو على الضمير في { مبعوثون } وحسن الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى : أيبعث أيضاً آباؤنا؟ يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد . وعلى الأوّل أرادوا إنكار أن يبعث واحد منهم أو من آبائهم فأرغمهم الله سبحانه بقوله { قل نعم } تبعثون { وأنتم داخرون } صاغرون أذلاء . وإذا كان كذلك { فإنما هي } أي البعثة أو هو مبهم يوضحه خبره { زجرة } واحدة يعني صيحة النفخة الثانية { فإذا هم ينظرون } أراد أنهم أحياء بصراء أو أراد أنهم ينظرون أمر الله فيهم . { وقالوا يا ويلنا } الظاهر أن كلامهم يتم عند قوله { تكذبون } يقوله الكفرة فيما بينهم .

وقيل : إن كلامهم يتم عند قوله { يا ويلنا } ثم قال الله أو الملائكة { هذا يوم الدين } الجزاء والحساب { هذا يوم الفصل } القضاء والفرق بين المحسن والمسيء { احشروا الذين ظلموا } بالكفر أو بالفسق يعني رؤساءهم . وهذا الحشر بمعنى الجمع لأنه بعد البعث اي اجمعوهم { وأزواجهم } أي أشكالهم الذي على دينهم وسيرتهم؛ الزاني مع الزاني ، والسارق مع السارق ، والشارب مع الشارب . وقيل : قرناءهم من الشياطين . وقيل : نساءهم اللاتي على ملتهم . { وما كانوا يعبدون من دون الله } من الأصنام { فاهدوهم } ادعوهم أو قدموهم والسابق يسمى الهادي أو دلوهم { إلى صراط الجحيم } وسطها أو طريقها لأنه قال بعد ذلك { وقفوهم } اي احبسوهم للسؤال كأنهم إذا انتهوا إلى الجحيم سئلوا تهكماً وتوبيخاً بالعجز عن التناصر { ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون } قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله . وحقيقته طلب كل منهم سلامة نفسه فقال المفسرون : إن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر فيوبخ على ذلك يوم القيامة . ثم حكى أنهم في جهنم يتساءلون تساؤل التخاصم وذلك أن اتباعهم { قالوا } لرؤسائهم { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } وفيه وجوه ، الأول : أنها استعارة عن الخيرات والسعادات وذلك أن الجانب الأيمن أشرف من الأيسر شرعاً وعرفاً . كان رسول الله يحب التيامن في كل شيء ولهذا أمرت الشريعة بمباشرة أفاضل الأمور باليمين وأراطلها بالشمال ، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيآت ، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه والمسيء بالضد ، وما جعلت يمنى إلا للتيمن بها ولذلك تيمنوا بالسانح وتطيروا بالبارح . فقيل : أتاه عن اليمين أي من قبل الخير وناحيته فصدّه عنه وأضله . قال جار الله : من المجاز ما غلب عليه الاستعمال حتى لحق بالحقيقة وهذا من ذاك لأن اليمين كالحقيقة في الخير . ثم صار قولك « أتاه عن اليمين » مجازاً في المعنى المذكور . الثاني : أن يقال : فلان يمين فلان إذا كان عنده بمنزلة رفيعة فكأنهم قالوا : إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون أننا عندكم بمحل رفيع فوثقنا بكم وقبلنا عنكم . الثالث : اليمين الحلف ، كان الكفار قد حلفوا لهؤلاء الضعفة أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم . الرابع : أن اليمين القوة والقهر فبها يقع البطش غالباً أي كنتم تأتوننا عن القهر والغلبة حتى حملتمونا على الضلال . وكما أن الضمير في { قالوا } الأول كان عائداً إلى الأتباع بقرينة الخطاب ، فالضمير في { قالوا } الثاني يعود إلى الرؤساء لمثل تلك القرينة . والمعنى بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه كما أعرضنا . { وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً } مختارين الطغيان وهذا مثل محاجة إبليس { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم } [ إبراهيم : 22 ] { فحق علينا قول ربنا إنا لذاقون } قال مقاتل : أراد قوله :

{ لأملأن جهنم } [ الأعراف : 18 ] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقاً فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب . قال جار الله : لو حكى الوعيد كما هو لقال « إنكم لذائقون » ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع { فأغويناكم إنا كنا غاوين } أي أقدمنا على أغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا : إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب أغوائنا فغوايتنا إن كانت بسب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غوايتنا أيضاً من الله كما مر في قوله { فحق علينا قول ربنا } هذا تفسير أهل السنة . وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا : { بل لم تكونوا مؤمنين } أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان ، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق علينا وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة { فأغويناكم } فدعوناكم إلى الغي لأنا كنا غاوين فاردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا . وحين حكى كلام الأتباع والمتبوعين أنتج من ذلك قوله { فإنهم } جميعاً { يومئذ } أي يوم القيامة { في العذاب مشتركون } كما كانوا مشتركين في الغواية . ولعل للمتبوعين عذاباً زائداً للإغواء ولكن الزيادة لا تنافي الاشتراك في أصل الشيء { إنا كذلك } أي مثل ذلك الفعل { نفعل } بكل مجرم أي كافر بدليل قوله { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } يابون من قبوله ، والجملة الشرطية خبر « كان » وهو مع الاسم والخبر خبر « إن » وإن ألغيت « كان » فالخبر { يستكبرون } و « إذا » ظرفه .
{ ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } عنوا محمداً صلى الله عليه وسلم بين أنهم منكرون للتوحيد وللنبوّة جميعاً فردّ عليهم بقوله { بل جاء } متلبساً { بالحق وصدّق المرسلين } وفيه تنبيه على أن التوحيد دين كل الأنبياء ثم صدقهم في قولهم { فحق علينا قول ربنا } ونقل الكلام من الغيبة إلى الحضور للمبالغة قائلاً { إنكم لذائقوا العذاب الأليم } ثم كان لقائل أن يقول : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عبيده فقال { وما تجوزون إلا ما كنتم تعملون } فالحكمة اقتضت الأمر بالخير والطاعة ، والنهي عن القبيح والمعصية ، والأمر والنهي لا يكمل المقصود بهما إلا بالترغيب والترهيب ، وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحققه صوناً للكلام عن الكذب هذا بتفسير المعتزلة اشبه . والسنيّ يقول : لا اعتراض عليه في شيء ولا يسأل عما يفعل . قال جار الله { إلا عباد الله } استثناء منقطع أي لكن عباد الله { المخلصين أولئك لهم رزق } قلت : يجوز أن يكون الاسثناء متصلاً والمعنى : وما تجزون إلا ما كنتم تعملون من غير زيادة إلا المخلصين فإن جزاءهم بالأضعاف .

ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله { إنكم } للمكلفين جميعاً فيصح الاستثناء المتصل مطلقاً أي تذوقون العذاب الأليم . قوله { معلوم } قيل : أي معلوم الوقت كقوله { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] وقيل : معلوم الصفة لكونه مخصوصاً بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر . وقيل : معلوم القدر على حسب استحقاقهم . وقيل : أراد أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى يقطع . ثم فسر ذلك الرزق بأنه { فواكه } فقيل : إن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة ، وأرزاق أهل الجنة كلها كذلك لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فلذلك سمي رزقهم فاكهة . وقيل : أراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فإذا كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان الطعام أولى بالحضور . وحيث بين الأكل ذكر أن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال { وهم مكرمون } إذ الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم . وحين ذكر مأكولهم وصف مسكنهم وهيئة جلوسهم فقال { في جنات النعيم على سرر متقابلين } وقد مر في « الحجر » . ثم وصف مشروبهم . قال أهل اللغة : لا يسمى الإناء كاساً إلا إذا كان فيها خمر ، وقد تسمى الخمر نفسها كأساً . عن الأخفش :
كل كأس في القرآن فهي الخمر ... وكذا في تفسير ابن عباس : والمعين النهر الجاري على وجه الأرض وأصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء . وقد يقال : عان الماء يعين إذا ظهر جارياً قاله ثعلب . وقيل : « فعيل » من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه . واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء . وبيضاء صفة للكأس : قال الحسن : خمر الجنة أشدّ بياضاً من اللبن . { ولذة } إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة ، أوصي تأنيث . اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول . يقال : غاله يغوله غولاً إذا أهلكه وافسده ، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله { ولا هم عنها ينزفون } أي يسكرون . وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر . يقال : نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله . والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء . وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف . وعن بعضهم أن معنى قوله { ولا هم عنها ينزفون } هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار . والأوّلون حملوه على المبالغة . ثم وصف منكوحهم بقوله { وعندهم قاصرات الطرف } أي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله { عرباً } [ الواقعة : 37 ] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين . ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها ، وذلك لأن فيها بياضاً يشوبه قليل من الصفرة ، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن ، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور .

ثم عطف على قوله { يطاف } قوله قوله { فاقبل } وهو مضارع في المعنى إلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار . ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار . والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة . قال بعضهم :
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام
وقد حكى من جملة مكالماتهم تذكرهم أنه كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله ، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالنعيم المقيم وهذا ابتداء الحكاية { قال قائل منهم } أي من أهل الجنة { إني كان لي قرين } جليس أو شريك في الدنيا { يقول أئنك لمن المصدقين } أي بيوم الدين { أئنا لمدينون } لمجزيون من دان يدين إذا جزى . وقيل : لمسوسون مقهورون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث « الكيس من دان نفسه » وعن بعضهم : اراد بالمتحادثين الرجلين المذكورين في الكهف في قوله { واضرب لهم مثلاً رجلين } [ الآية : 32 ] { قال } يعني ذلك القائل أو الله أو بعض الملائكة { هل أنتم مطلعون } إلى النار اي هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم منها . عن ابن عباس : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار { فاطلع } على أهل النار فرأى قرينه { في سواء الجحيم } وسطها { قال } لقرينه { تالله إن كدت لتردين } « إن » مخففة واللام فارقة . والإرداء الإِهلاك ، وبخه على أنه كان يدعوه في الدنيا إلى إنكار البعث المتضمن للكفر المؤدّي إلى الهلاك الحقيقي . والخطاب مع القرين إما أن يكون بحيث يسمعه حقيقة وذلك لرفع الحجاب وتقريب المسافة أو كما أراد الله بقدرته ، وإما أن يخاطبه وإن لم يمكنه السماع لبعده كما يخاطب الموتى ومن في حكمهم ، نظيره ما مر في قصة صالح { فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم } [ الأعراف : 79 ] إلى آخر الآية والله أعلم . ثم شكر الله تعالى على أن وفقه لنعمة الإسلام وأرشده إلى الحق وعصمه عن الباطل فقال { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } في النار مثلك أطلق إطلاقاً لأن الإِحضار يستعمل في الشر غالباً ولا سيما في اصطلاح القرآن . وحين تمم كلامه مع الرجل الذي كان قريناً له في الدنيا وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة قائلاً { افما نحن بميتين } وفيه قولان أحدهما : إن أهل الجنة لا يعلمون في أوّل دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فيستفهمون عن ذلك فيما بينهم ، أو يسالون الملائكة فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون والتقدير : نحن مخلدون منعمون فما من شأننا أن نموت ولا أن نعذب .

وثانيهما أن هذا مما يقوله المؤمن تحدثاً بنعمة الله سبحانه واغتباطاً بحاله ، فإن الذي يتكامل خيره وسعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول . أفيدوم هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه . وايضاً إنه قال ذلك بمسمع من قرينه ليكون توبيخاً له وليحكيه الله فيكون لنا لطفاً وزجراً . احتج نفاة عذاب القبر بقوله { إلا موتتنا الأولى } فإنه يدل على أن الإنسان لاي موت إلا موتة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلاً مرتين . وأجيب بأن المراد بالموتة الأولى كل ما يقع في الدنيا . وقوله { إن هذا لهو الفوز العظيم } يجوز أن يكون من تمام كلامه لقرينه تقريعاً له وتوبيخاً وأن يكون من قول أهل الجنة فيما بينهم أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه أو هو قول الله تصديقاً لهم ، وكذا قوله { لمثل هذا فليعمل العاملون } ولا خلاف أن قول ذلك خير من كلام الله عز وجل كأنه لما تمم قصة المؤمن رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فاستفهم للتقرير أن ذلك الزرق { خير نزلاً أم شجرة الزقوم } قال جار الله : أصل النزل الفضل والريع في الطعام يقال : طعام كثير النزل . فاستعير للحاصل من الشيء ، وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور ، وحاصل تلك الشجرة الألم والغم . ويمكن أن يقال : النزل ما يقدّم للضيف ، ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ولكنهم وبخوا على ذلك . وظاهر القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم والرائحة مؤلمة التناول صعبة الابتلاع إلا أن المفسرين اختلفوا في ماهيتها ، فذكر قطرب أنها شجرة مرة تكون بتهامة . وقال غيره : إنها ليس لها في الدنيا وجود بدليل قوله { إنا جعلناها فتنة للظالمين } وذلك أنها خلاف المألوف والمعتاد فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله تعالى وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن ويزيد في شبهته كقوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وقيل : إنما كانت فتنة لهم لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فهو كقوله { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] وذكر المفسرون أن ابن الزبعري قال لصناديد قريش إن محمداً يخوّفنا بالزقوم وإن الزقوم بلسان بربر وإفريقية الزبد والتمر . وذكروا أيضاً أن أبا جهل أدخلهم بيته وقال : يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال : تزقموا فهذا الذي يوعدكم محمد به فأنزل الله صفة الزقوم .
وذكر بقية أوصاف الشجرة منها { إنها تخرج في أصل الجحيم } اي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها . وفيه تكذيب للطاعنين فيه كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر . ومنها { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } قال جار الله : الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية وذلك أن يكون وجه الاستعارة مجرد الطلوع أي الظهور ، أو معنوية وذلك إذا كان يشبه الطلع شكلاً ولوناً .

وفي تشبيه ثمرتها برؤوس الشياطين أقوال أحدها وهو الأقوى : إنه تمثيل وتخييل وذلك أن الشيطان مثل في القبح ونفرة الطباع عنه كما أن الملك مثل في الحسن وميل النفوس أليه ، وإذا كان الشيطان كله مستقبحاً فراسه كذلك ، وتشبيه الثمرة براسه أولى للاستدارة وللتوسط في الجحيم . الثاني أن الشيطان ههنا نوع من الحيات تعرفها العرب ، خفاف لها أعراف ورؤوس قباح . الثالث أنه شجر معروف عند العرب قبيح الأعالي يسمى الأستن وثمره يسمى رؤوس الشياطين . الرابع قال مقاتل : رؤوس الشياطين حجارة سود تكون حول مكة . ولعل هذا بل الثالث والثاني أيضاً يعود إلى الأول إلا أنه بعد التسمية كأنه صار أصلاً يشبه به . ثم علل جعل الشجرة فتنة للظالمين بقوله { فإنهم لآكلون منها } أي من طلعها { فمالؤن منها البطون } أي بطونهم إما لأن شدّة الجوع تحملهم على تناول ذلك الشيء الكريه ، وإما لأن الزبانية يقسرونهم على أكلها ليكون باباً من العذاب ، فإذا شبعوا غلبهم العطش أو أخذتهم الغصة فيسقون من حميم وهو الماء الشديد الحرارة ، وقد وصفه الله سبحانه في قوله { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه } [ الكهف : 29 ] والشوب المزج كما قال في صفة شراب أهل الجنة { ومزاجه من تسنيم } [ المطففين : 27 ] وهو تسمية بالمصدر والمراد أن الطعام مزج بالحميم أو يسقون صديداً أو شراباً حاراً ممزوجاً بما هو أحر وهو الحميم . ومعنى « ثم » التراخي في الزمان كأنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة تكميلاً للتعذيب ، أو التراخي بالرتبة لأن الشراب ابشع من الطعام بكثير . قال مقاتل : معنى « ثم » في قوله { ثم إن مرجعهم } أنهم يخرجون من الجحيم ودركاتها إلى موضع فيه الزقوم والحميم ، وبعد الأكل والشرب يردّون إلى موضعهم أي من الجحيم فكأنهم في وقت الأكل والشرب لا يعذبون بالنار . وقيل : هو كقولهم « فلان يرجع إلى مال ونعمة » أي هو فيها . وقيل : « ثم » لتراخي الأخبار أي فقد صح أن مرجع الكفار إلى النار . وقيل : « ثم » مع الجملة قد تدل على التقديم أي قبل ذلك كان مرجعهم إلى الجحيم . ثم بين أن سبب وقوعهم في أصناف العذاب المذكور هو التقليد . والإهراع الإسراع الشديد كأنهم يساقون سوقاً ولو لم يوجد في ذم التقليد إلا هذه الآية لكفى . ثم اراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً بقوله { ولقد ضل قبلهم } أي قبل قومك { اكثر الأوّلين } ثم استثنى من قوله { ولقد ضل } أو { من المنذرين } المهلكين عباده المخلصين فإن عاقبتهم كانت حميدة .

ثم سلاه بوقائع الأمم الخالية تفصيلاً وقدّم قصة نوح عليه السلام لكونه أباً ثانياً ونداؤه في قوله { رب انصرني بما كذبون } [ المؤمنون : 26 ] أو قوله { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] واللام الداخلة على { نعم } جواب قسم محذوف أو لبتداء ، والمخصوص بالمدح وهو نحن محذوف ، والجمع لتصوير العظمة والكبرياء ، وفيه وفي فاء التعقيب في { فلنعم } دليل على أن نداء العظيم الكبير حقيق بأن يكون مقروناً بإجابة . والكرب العظيم ما هو فيه من مخاوف الطوفان أو من إيذاء قومه مع الياس من إيمانهم وهذا أقرب . وفي قوله { هم الباقين } بصيغة الحصر دلالة على أن كل ما سواه وسوى ذريته فقد فنوا . روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ذرّيته وهم سام وحام ويافث . فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان شرقاً وغرباً ، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وتركنا عليه في المتأخرين من الأمم هذه الكلمة وهي { سلام على نوح } ومعنى { في العالمين } أن هذه التحية ثبتها الله فيهم فيسلم الثقلان عليه إلى يوم القيامة . ثم بين أن سبب هذه التشريفات هو كونه محسناً وهذا جزاء كل محسن . ثم بين أن إحسانه كان مسبوقاً بإيمانه فعلى كل مؤمن أن يجتهد حتى يصير محسناً . وحين تمم ما آل إليه أمر نوح وذريته ذكر عاقبة سائر قومه فقال { ثم أغرقنا الآخرين } أعاذنا الله من الإغراق والإِحراق وجعل فلكنا فلك نوح وسفرنا متضمناً للنصر والفتوح .
التأويل : { والصافات } إشارة إلى ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد في أربعة صفوف : الأول للأنبياء ، والثاني للأولياء ، والثالث للمؤمنين ، والرابع لأهل الكفر { فالزاجرات } هي الإلهامات الربانية للعوام عن المناهي ، وللخواص عن رؤية الأعمال ، وللأخص عن الالتفات إلى غير الله { فالتاليات ذكراً } هم الذين يذكرون الله في الخلوات بخلوص النيات . رب سموات القلوب وأرض النفوس وما بينهما من صفاتهما ورب مشارق القلوب يطلع منها شموس الشواهد واقمار الطوالع ونجوم اللوامع . السماء الدنيا هي الرأس ، وكواكبها الحواس ، والشهب هي الخواطر الرحمانية تدفع بها الوساوس الشيطانية { طين لازب } أي لاصق بكل ما يصادفه فقوم لصقوا بالدنيا وقوم لصقوا بالآخرة وقوم لصقوا بنفحات ألطاف الحق ، فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه عنه : { وقفوهم إنهم مسؤولون } للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام . فقوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك ، والأوّلون أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف . والآخرون قسمان : قوم لهم أعمال يسترها الحق عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة كما قال « أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري » وقوم لهم ذنوب لا يطلع عليها إلا الله فيسترها عليهم كما جاء ذكره في الحديث

« إن الله يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كتفه يستره من الناس فيقول : أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول : نعم اي رب . ثم يقول : أي عبدي تعرف ذنب كذا! وكذا!؟ فيقول : نعم . ثم يقول : اي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول : نعم أي رب . حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته » { إلا موتتنا الأولى } وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية وبعد ذلك لا موت ، بل ينتقل من دار إلى دار . { لمثل هذا فليعمل العاملون } بل لمثل هذه الأمور تبذل الأرواح وتفدى الاشباح كما قيل : ( شعر )
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن بات من ليلى على اليأس والصدّ
ثم أخبر بعد قصة الأولياء عن قصة الأعداء بقوله { أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم } وفي قوله { كأنه رؤوس الشياطين } دليل على أن أفعالهم كانت في قبح صفات الشياطين فكانت مكافأتهم من جنس صورة الشياطين { سلام على نوح في العالمين } أنه تعالى سلم على نوح الروح لأنه يحتاج إلى سلام الله ليعبر على الصراط المستقيم الذي هو أدقَ من الشعر وأحدّ من السيف ، ولهذا يكون دعوة الرسل حينئذ رب « سلم سلم » . وإنما اختصوا بالصراط والعبور عليه ليؤدّوا الأمانة التي حملوها إلى أهلها وهو الله سبحانه وتعالى .

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

القراآت : { يزفون } بضم الياء وكسر الزاي : حمزة . الباقون : بفتح الياء { إني أرى } { إني أذبحك } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابو عمرو . { وترى } بضم التاء وكسر الراء : علي وخلف وحمزة . { ستجدني } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع { وإن إلياس } موصولاً كهمزة الوصل : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الآخرون : بكسر الهمزة { الله ربكم ورب } بالنصب في ثلاثتها على البدل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل . الباقون : برفعها على الابتداء والخبر . { آل ياسين } ابن عامر ونافع ورويس . الآخرون { إلياسين } كأنه جمع إلياس { لكاذبون اصطفى } موصلاً والابتداء بكسر الهمزة : يزيد وإسماعيل والأصبهاني عن ورش الباقون : بفتحها في الحالين .
الوقوف : { لإبراهيم } 5 ط لأن التقدير « واذكر » . وجوز في الكشاف أن يتعلق الظرف بما في الشيعة من معنى المتابعة فلا وقف { سليم } 5 { تعبدون } 5 ج للابتداء بالاستفهام مع اتحاد المقول { تريدون } 5 ط لاستفهام آخر { العالمين } 5 { في النجوم } 5 لا للفاء واتحاد المعنى { سقيم } 5 { مدبرين } 5 { تأكلون } 5 ج للاستفهام مع الاتحاد كما مر { لا تنطقون } 5 { باليمين } 5 { يزفون } 5 { تنحتون } 5 لا لأن الواو للحال { تعملون } 5 { في الجحيم } 5 { الأسفلين } 5 { سيهدين } 5 { الصالحين } 5 { حليم } 5 { ماذا ترى } ط { ما تؤمر } ز للسين مع اتصال المقول { الصابرين } 5 { للجبين } 5 ج لاحتمال أن الواو مقحمة { وناديناه } جواب « لما » ، ولاحتمال أن الجواب محذوف أي قبلنا منه وناديناه { يا إبراهيم } 5 لا { الرؤيا } ج لاحتمال أن ما بعده داخل في حكم النداء أو مستأنف { المحسنين } 5 { المبين } 5 { عظيم } 5 { في الآخرين } 5 لا { إبراهيم } 5 { المحسنين } 5 { المؤمنين } 5 { الصالحين } 5 { إسحق } ط { مبين } 5 { وهارون } 5 ج للآية مع العطف { العظيم } 5 ج لذلك { الغالبين } 5 لا { المستبين } 5 ج { المستقيم } 5 ج { في الآخرين } 5 لا { وهارون } 5 { المحسنين } 5 { المؤمنين } 5 { المرسلين } 5 لا وجه صحيح وإن لم يكن مقصوداً فلهذا لم يكن الوقف لازماً . { تتقون } 5 { الخالقين } 5 لا لمن قرأ { الله } بالنصب { الأوّلين } 5 { لمحضرون } 5 { المخلصين } 5 { في الآخرين } 5 لا { الياسين } 5 { المحسنين } 5 { المؤمنين } 5 { المرسلين } 5 { أجميعن } 5 لا { الغابرين } 5 { الآخرين } 5 { مصبحين } 5 لا { وبالليل } ط { تعقلون } 5 { المرسلين } 5 لا { المشحون } 5 لا { المدحضين } 5 ج لحق المحذوف مع الفاء { مليم } 5 { من المسبحين } 5 لا { يبعثون } 5 { سقيم } 5ج { يقطين } 5 ج { أو يزيدون } 5 ط { إلى حين } 5 ط { البنون } 5 ط { شاهدون } 5 { ليقولون } 5 لا { ولد الله } لا تعجيلاً لتكذيبهم { لكاذبون } 5 { البنين } 5 ط لابتداء استفهام آخر { تحكمون } 5 { تذكرون } 5 ج لأن « أم » تصلح استئنافاً { مبين } 5 لا لتعجيل أمر التعجيز { صادقين } 5 { نسباً } ط { لمحضرون } 5 لا لتعلق الاستثناء و { سبحان الله } معترض { يصفون } 5 { المخلصين } 5 { تعبدون } 5 لا { بفاتنين } 5 لا { الجحيم } 5 { معلوم } 5 { الصافون } 5 ج للعطف مع الاتفاق { المسبحون } 5 ج { ليقولون } 5 لا { من الأوّلين } 5 لا { المخلصين } 5 { يعلمون } 5 { المرسلين } 5 لأن ما بعده يصلح ابتداء مقولاً للكلمة { المنصورون } 5 ص لعطف الجملتين المفقتين { الغالبون } 5 { حين } 5 لا للعطف ولشدة اتصال المعنى { يبصرون } 5 { يستعجلون } 5 { المنذرين } 5 { حين } 5 لا { يبصرون } 5 { عما يصفون } 5 ج لعطف جملتين مختلفتين { المرسلين } 5 ج للابتداء بالحمد الذي به يبتدأ الكلام وإليه ينتهي مع اتفاق الجملتين { العالمين } 5 .

التفسير : الضمير في { شيعته } يعود إلى نوح والمراد أن إبراهيم ممن شايع نوحاً على أصول الدين أو على التصلب في الدين . وقال الكلبي : واختاره الفراء إنه يعود إلى محمد أي هو على منهاجه ودينه وإن كان إبراهيم سابقاً والأوّل لتقدّم ذكر نوح . ولما روي عن ابن عباس معناه من أهل دينه وعلى سنته وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان : هود وصالح ، وبين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة . ومعنى { جاء ربه } أقبل بقلبه على الله وأخلص العمل له . والقلب السليم قد مرّ في « الشعراء » . ثم ذكر من جملة آثار سلامة قلبه أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد . ومعنى { ماذا تعبدون } أي شيء تعبدونه كقوله في « الشعراء » { وما تعبدون } [ الآية : 70 ] سألهم عن جنس معبوديهم ثم وبخهم على ذلك بقوله { أئفكاً } هو مفعول له قدم للعناية كما قدم المفعول به على الفعل لذلك فإنه كان الأهم عنده أن يكافحهم ويعنفهم على شركهم وأنهم على إفك وباطل . ويجوز أن يكون { إفكاً } حالاً معنى أو مفعولاً به { آلهة } بدل منه على أنها إفك في أنفسها . { فما ظنكم برب العالمين } حتى جعلتم الجمادات أنداداً له أو حسبتم أنه يهمل أمركم ولا يعاقبكم ، وفيه أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصدر عن عبادته . وفي قوله { إني سقيم } قولان : الأوّل أنه صدر منه كذباً لمصلحة رأى فيه ، ولما جاء في الحديث « لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات » : قوله : { إني سقيم } وقوله { بل فعلهم كبيرهم } وقوله لسارة إنها أختي « وقد سبق تقرير ذلك في الأنبياء . والثاني وهو الأقوى أنه كلام صادق لأن الكذب قبيح وإن اشتمل على مصلحة . وأما الحديث فنسبه الراوي إلى الكذب أولى من نسبة نبي الله إلى ذلك .

وفي التوجيه وجوه : الأوّل إن النظر في النجوم يريد به النظر في علم النجوم وأحكامها وكتبها وذلك ليس بحرام ولا سيما في ذلك الشرع فليس فيه إلا اعتقاد أنه تعالى خص كل واحد من الكواكب بقوّة وخاصية يظهر بها منه أثر مخصوص ، والإنسان لا نيفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة له ، إما في بدنه أو في قلبه ، فلعل به سقماً كالحمى الثابتة ، أو أراد سيسقم لأمارة نجومية ، أو أراد به الموت الذي يلحقه لا محالة ولا داء أعي منه . الثاني : أن المراد بالنجوم ما جاء في قوله { فلما جن عليه الليل رأى كوكباً } إلى آخر الآية . أي نظر فيها ليعرف أحوالها وأنها قديمة أو محدثة . وقوله { إني سقيم } أي سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ ، أو سقيم النفس لكفركم . الثالث : إن النجوم النبات أي فنظر فيها متحرياً منها ما فيه شفاء لسقمهم وهمهم أن به ذلك وكان به . وقال الأزهري عن أحمد بن يحيى : النجوم جمع نجم وهو كل ما تفرق ومنه نجوم الكتابة أي نظر في متفرقات كلامهم وأحوالهم حتى يستخرج منه حيلة فلم يجد عذراً أحسن من قوله { إني سقيم } قال المفسرون : كان الطاعون أغلب الأسقام عليهم فظنوا أن به ذلك فتركوه في بيت الأصنام مخافة العدوى وهربوا إلى عيدهم وذلك قوله سبحانه { فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم } ذهب إليها في خفية حتى لا يرى فكأنه رجع إليها مراوغاً قومه من روغان الثعلب . وقيل : راغ بقوله { إني سقيم } حتى خلا بها وسماها آلهة على زعمهم . وقوله { الا تأكلون ما لكم لا تنطقون } استهزاء بها وكان عندها طعام زعموا أنها تأكل منه . وقيل : وضع الطعام ليبارك فيه . وروى أن سدنتها كانوا يأكلون ما يوضع عندها من الطعام وينطقون عند الضعفة عن لسانها يوهمون أنها تأكل وتنطق . وإنما جاء في هذه السورة { فقال ألا تأكلون } بالفاء وفي « الذاريات » { قال ألا تأكلون } بغير الفاء لأنه قصد من أول الأمر تقريع من زعم أنها تأكل وتشرب ، وفي الذاريات « يستأنف تقديره : قربه إليهم فلم يأكلوها فلما رآهم لا يأكلون فقال ألا تأكلون .
{ فراغ عليهم } عداه بعلى لأن الميل الأول كان على سبيل الرفق استهزاء ، وهذا كان بطريق العنف والقهر وهذا كما يقال في المحبوب : مال إليه . وفي المكروه : مال عليه . وقوله { ضرباً } مصدر راغ من غير لفظه أو لفعل محذوف أو حال أي بضرب ضرباً أو ضارباً . ومعنى { باليمين } اي باليد اليمنى لأنها أقوى على الأعمال أو باقوّة مجازاً ، أو بسبب الحلف وهو قوله { تالله لأكيدن أصنامكم } { فأقبلوا إليه } أي إلى إبراهيم { يزفون } بمشون على سرعة . وزفيف النعامة ابتداء عدوها . ومن قرأ بضم الياء فإما لازم من أزف إذا صار إلى حال الزفيف ، أو متعدٍ والمفعول محذوف أي يزفون دوابهم أو بعضهم بعضاً وقد مر نظيره في التوبة في قوله

{ ولأوضعوا خلالكم } [ التوبة : 47 ] قال بعض الطاعنين ، قوله { فاقبلوا إليه } دل على أنهم عرفوا كاسر أصنامهم . وقوله في « الأنبياء » { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } [ الآية : 62 ] دل على أنهم لم يعرفوا الكاسر فبينهما تناقض . وأجيب بأن هؤلاء غير أولئك فالذين عرفوه ذهبوا إليه مسرعين ، والذين لم يعرفوه بعد استخبروا عنه . على أن قوله { فأقبوا إليه } لا دلالة له على أنهم عرفوا أن الكاسر هو إبراهيم فلعلهم أقبلوا إليه لأجل السؤال عن الكاسر . وحين عاتبوه على فعله أراد أن يبين لهم فساد طريقتهم ف { قال أتبعدون ما تنحتون } وذلك أن الناحت لم يحدث فيه إلا صورة معينة فيكون معناه أن الشيء الذي لم يكن معبوداً لي صار بسبب تصرفي فيه معبوداً لي وفساد هذا معلوم بالبديهة ، احتج جمهور الأشاعرة بقوله { والله خلقكم وما تعملون } على أن العبد ليس خالق أعماله لأن المعنى خلقكم وأعمالكم . وزيف بأن « ما » موصولة لتناسب قرينتها في قوله { ما تنحتون } وليتوجه التوبيخ ولكيلا يلزم التناقض فإن النحت عملهم . والصحيح أن الآية كقوله { بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن } [ الأنبياء : 56 ] أي فطر الأصنام : ثم إن إبراهيم لما ألقمهم الحجر بهذا القول وألزمهم عدلوا إلى طريقة الإيذاء و { قالوا ابنوا له بنياناً } قال ابن عباس : بنوا حائطاً من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون . وتقدير الآية : ابنوا له بنياناً واملؤه ناراً وألقوه فيها . والجحيم النار العظيمة . ومعنى الفاء في قوله { فارادوا } كقوله { أهلكناها فجاءها بأسنا } [ الأعراف : 4 ] كأنه قيل : فبنوا البنيان وملؤه ناراً وألقوه فنجيناه منها . وقد صح أنهم أرادوا به كيداً { فجعلناهم الأسفلين } الأذلين وأما في الأنبياء فلم يقصد هذا الترتيب فاقتصر على الواو العاطفة . وإنما اختصت هذه السورة بقوله { الأسفلين } لأنه ذكر أنهم بنوا بنياناً عالياً فكان ذكر السفل في طباقه أنسب . ثم ذكر بقية قصة إبراهيم وقوله { إني ذاهب إلى ربي } كقوله في « العنكبوت » { إني مهاجر إلى ربي } [ الآية : 26 ] وإنما حكم بقوله { سيهدين } ربي إلى ما فيه صلاحي في الدارين اعتماداً على فضل الله أو عرف ذلك بالوحي . وحين هاجر إلى الرض المقدسة أراد الولد فقال { رب هب لي من الصالحين } والله تعالى بين استجابته بقوله { فبشرناه بغلام حليم } وصف الغلام بالعلم في سورة الحجر وبالحلم ههنا . فذهب العلماء إلى أنه أراد بغلام عليم في صغره حليم في كبره ، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ومن هنا انطوت البشارة على معان ثلاثة : أحدها أن الولد ذكر ، والثاني أنه يبلغ أوان الحلم ، والثالث أنه يكون حليماً ، وأيّ حلم أعظم من استمساكه حين عرض أبوه عليه الذبح فقال { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } وفيه أن ولده قائم مقامه في الشرف والفضيلة فوصفه بالحلوم كما وصف به إبراهيم في قوله

{ إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب } [ هود : 75 ] . وقيل : العليم إسحق لقوله { فأقبلت امرأته في صرة } [ الذاريات : 29 ] والحليم إسماعيل . ثم حكى حديث ذبحه قائلاً { فلما بلغ معه السعي } أي قوي على أن يمشي مع أبيه في حوائجه . والظرف بيان كأنه قال أوّلاً { فلما بلغ السعي } فقيل : مع من؟ فأجيب مع أبيه . ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدّم عليه ولا بقوله { بلغ } لأنهما لم يبلغا معاً حد السعي - والمعنى في اختصاص الأب إخراج الكلام مخرج الأغلب . وقال جار الله : السبب فيه أن الأب أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته . يروى أنه كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقيل أراد السعي في المنافع وفي طاعة الله .
اعلم أن الناس اختلفوا في الذبيح ، فعن أبي بكر الصديق وابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والضحاك أنه إسماعيل لقوله صلى الله عليه وسلم « أنا ابن الذبيحين » فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله . وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح واحداً منهم تقرباً ، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح فخرج قدح عبد اتلله فمنعه أخواله ففداه بعشرة من الإبل ، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه ففداه بعشرة أخرى ، وضرب مرة أخرى فخرج قدحه وهكذا يزيد عشرة عشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها وسن الدية مائة . وفي رواية أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم « يا ابن الذبيحين » . فتبسم فسأل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر الله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده . فخرج السهم على عبد الله فمنعوه ففداه بمائة من الإبل . حجة أخرى : نقل عن الأصمعي أنه قال : سألت ابا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عقلك؟ ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه وسن النحر بمكة . وحجة أخرى : وصف إسماعيل بالصبر في قوله { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين } [ الأنبياء : 85 ] وهو صبره على الذبح في قوله { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ووصفه بصدق الوعد { إنه كان صادق الوعد } [ مريم : 54 ] وذلك أنه وعد أباه الصبر على قضاء الله أو على الذبح فوفى به . أخرى : { ومن وراء إسحق يعقوب } [ هود : 71 ] فيمن قرأ بالنصب لأنه إذا بشر بالولد من صلبه علم أنه لم يؤمر بذبحه .

أخرى : أجمعوا على أن إسماعيل مقدم في الوجود على إسحق فهو المراد بقوله { رب هب لي من الصالحين } ثم إنه ذكر عقيبة قصة الذبح . وايضاً قوله { وبشرناه بإسحق } يجب أن يكون غير قوله { فبشرناه بغلام حليم } وإلا لزم التكرار . حجة أخرى : ان قرني الكبش كانا ميراثاً لولد إسماعيل عن أبيهم وكانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق البيت في أيام ابن الزبير والحجاج . وعن علي وابن مسعود وكعب الأحبار وإليه ذهب أهل الكتاب أن الذبيح إسحق لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل اي النسب أشرف؟ فقال : يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله . وأجابوا عن قوله : { وبشرناه بإسحاق } أنه بشر بغلام أوّلاً ثم بنبوته ثانياً . وايضاً صرح بالمبشر به في قوله { فبشرناه بإسحق } [ هود : 71 ] وفي قوله { وبشرناه بإسحق } فيحمل عليه المبهم في قوله { فبشرناه بغلام } وأيضاً لا نسلم أن البشارة بيعقوب كانت متصلة ببشارة إسحق اعتباراً بقراءة من قرأ { يعقوب } [ هود : 71 ] بالرفع . وأيضاً أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله { إني ذاهب إلى ربي } هو مهاجرته إلى الشام ثم قال { فبشرناه بغلام } فوجب أن يكون الغلام الحليم قد حصل له في الشام وذلك الغلام لم يكن إلا إسحق ، لأن إسماعيل قد نشأ بمكة . وكان الزجاج يقول : الله أعلم أيهما الذبيح . ويتفرع على اختلاف المفسرين في الذبيح اختلافهم في موضع الذبح ، فالذين قالوا إن الذبيح إسماعيل ذهبوا إلى أن الذبح كان بمنى وهذا أقوى ، والذين قالوا إنه إسحق قالوا ن الذبح كان بالشام وخصه بعضهم ببيت المقدس . إذا عرفت هذا الاختلاف فقوله { يا بني إني أرى في المنام } إنما قال بلفظ المستقبل لأنه كان يرى في منامه ثلاث ليال أو لأن رؤيا الأنبياء وحي ثانٍ فذكر تأويل الرؤيا كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة : رايت في المنام أني ناجٍ من هذه المحنة فكأنه قال : إني أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك . ويحتمل أن يكون حكاية ما رآه . قال بعض المفسرين : رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فأصبح يروّي في ذلك أمن الله أو من الشيطان فسمي يوم التروية . فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فسمي عرفة ، ثم رأى مثله في الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر . وقال بعضهم : حين بشره الملائكة بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله ، فلما ولد وبلغ حد السعي مع أبيه قيل له : أوف بنذرك فانظر ماذا ترى هو من الرأي . ومن قرأه من الإراءة فالمعنى ماذا تبصر من رأيك وتدبيرك . وإنما شاوره في حتم من الله ليثبته إن جزع ويفرح بصبره إن ثبت ولئلا يقع الذبح معافصة من غير إعلام به وبسببه ، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في الأكل من الشجرة لما فرط منه ذلك { قال يا أبت افعل ما تؤمر } أي به فحذف الجار كقوله : أمرتك الخير .

اي أمرتك بالخير أو أمرك على تسمية المأمور به بالمصدر ثم إضافته إلى المفعول : { فلما اسلما } أي انقادا وخضعا لأمر الله . قال قتادة : اسلم هذا ابنه وهذا نفسه . { وتله } أي صرعه . واللام في { للجبين } كهي في قوله { ويخرون للأذقان } [ الإسراء : 109 ] والجبين أحد جانبي الجبهة . وقيل : كبه لوجهه لأن الولد قال له اذبحني وأنا ساجد . يروى أنه حين أراد ذبحه قال : يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى الشعب ونحتطب ، فلما توسطا الشعب أخبره بما أمر فقال له : اشدد به رباطي لئلا اضطرب واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن ، واشحذ شفرتك واسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون اسهل . فقال إبراهيم : نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله . ثم اقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان فقال له : كبني على وجهي ولا تنظر إليّ حتى لا تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله . قال جار الله : تقدير الكلام فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به العيان ولا يحيط به البيان من استئثارهما بما أنعم الله عليهما من دفع البلاء وبما اكتسبا في تضاعيف ذلك من الثواب والثناء ، وقد اشير إلى جميع ذلك بقوله { إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا } الأمر الذي قد وقع { لهو البلاء المبين } الذي يتميز فيه المخلص عن المدعى والمكروه الذي لا أصعب على النفس منه . يروى أنه لما وصل موضع السجود منه الأرض جاء الفرج . وقيل : إنه وضع السكين على قفاه فانقلب السكين وونودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا . فنظر فإذا جبرائيل عليه السلام معه كبش أقرن أملح فكبر جبرائيل والكبش وإبراهيم وابنه وأتى المنحر من منى فذبحه وذلك قوله سبحانه { وفديناه بذبح عظيم } والفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه ، . والذبح اسم لما يذبح كالطحن لما يطحن . وقوله { عظيم } أي سمين ضخم الجثة بالقياس إلى أمثاله وهي السنة في الأضاحي . قال صلى الله عليه وسلم « استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم » والاستشراف جعلها شريفة وكريمة . وعن سعيد بن جبير : حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين خريفاً . وفي قول ابن عباس : إنه الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة إلى أن فدى به غسماعيل .

وقيل : سمي عظيماً لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد خليله . وقيل : وصفه بالعظم لبقاء أثره إلى يوم القيامة فإنه ما من سنة إلا ويذبح بسبب ذلك من الأنعام مالا يحصيه إلا الله . وعن الحسن : أنه وعل أهبط عليه من ثبير . وقال السدّي : نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح ينحط من الجبل فقام عند إبراهيم عليه السلام فذبحه وخلى ابنه .
استدل بعض الأصوليين من أهل السنة بالآية على جواز نسخ الحكم قبل حضور وقته . وقالت المعتزلة . وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية بعدم الجواز لاستلزامه البداء أو الجهل ، وزعموا أنه تعالى أمر إبراهيم في المنام بمقدمات الذبح كاضجاع ابنه ووضع السكين على حلقه ، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل أوان ورود الأمر . سلمنا أنه أمر بنفس الذبح لكن لم يجوز أنه قطع الحلقوم إلا أنه كان يلتئم جزءاً فجزءاً فلهذا قيل له { قد صدّقت الرؤيا } . والفداء فضل من الله في حقه وتعظيم له بدلاً من عدم وقوع الذبح في الظاهر ولهذا قال { وفديناه } . بإسناد الفداء إلى ذاته تعالى . والحق أن نسخ الحكم قبل وقته لا يدل على البداء والعبث كما أنه بعد الوقت لا يدل على ذلك فقد يكون غرض الآمر أن يعلم أن المأمور هل يعزم على الفعل ويوطن نفسه على الانقياد والطاعة أم لا . وتصديق الرؤيا يكفي فيه الإتيان بمثل هيئة الذبح ، فمن الرؤيا ما يكون تأويلها بالشبيه كرؤيا يوسف ، والفداء زيادة تشريف وتكريم ووضع سنة مؤكدة . وروي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي . وروي أنه لما ذبحه قال جبرائيل : الله أكبر الله أكبر . فقال الولد الذبيح : لا إله إلا الله واله أكبر . فقال إبراهيم : الله أكبر ولله الحمد . فبقي سنة . قوله { وتركنا } إلى قوله { المؤمنين } قد مر نظيره في قصة نوح إلا أنه لم يقل ههنا { في العالمين } اكتفاء بما علم في قصة نوح . ولم يقل ههنا { إنا كذلك } بل اقتصر على { كذلك } لأنه سبق ذكر التأكيد في هذه القصة فلم يحتج إلى إعادته على أنه قد بقي من القصة شيء فناسب الاختصار في الاعتراض . قوله { وبشرناه بإسحق } من جعل الذبيح إسماعيل قال : وبشرناه بإسحق بعد إسماعيل . ومن جعل الذبيح إسحق قال بشر بنبوّته وقد كان بشر بمولده . قوله { نبياً من الصالحين } كل منهما حال مقدرة من الفاعل أي بشرناه به مقدراً وعالماً وحاكماً بأنه نبي صالح . وقد أطنب صاحب الكشاف في هذا المقام حيث بنى الكلام على أنه حال مقدرة من إسحق . وهو عندي تطويل بلا طائل فليتأمل . { وباركنا عليه } قيل : أي على الغلام المبشر به .

قيل : على إبراهيم : { وعلى إسحق } اي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا . ومن جملة ذلك ما روي أنه أخرج من صلب غسحق ألفي نبي أوّلهم يعقوب وآخرهم عيسى وهم المشار إليهم بقوله { ومن ذريتهما محسن } ويعلم من قوله { وظالم لنفسه } أن البر قد يلد الفاجر ولا عار على الأب ، وأن الشرف بالحسب لا بالنسب . وأما قصة موسى فلا خفاء بها . والكرب العظيم تسلط فرعون وجفاؤه على قومه . وقيل : الغرق . والضمير في { نصرناهم } لها ولقومهما . والمستبين البليغ في بيانه وهو التوراة بان وأبان واستبان بمعنى إلا أن الثالث أبلغ . والصراط المستقيم دين الله الذي اشترك في أصوله جميع الرسل . وأما إلياس فالجمهور على أنه نبي من بني غسرائيل بعث بعد موسى وكان من ولد هارون . وقيل : هو إدريس النبي وقد مر ذكره في سورة مريم . و « إذ » ظرف 3 لمحذوف أي اذكر يا محمد لقومك { إذ قال لقومه ألا تتقون } الله . قال الكلبي . أي ألا تخافون عبادة غير الله . وحين خوّفهم مجملاً ذكر سببه فقال { أتدعون } أي أتعبدون { بعلاً } وهم اسم صنم من ذهب كان ببعلبك من بلاد الشام طوله عشرون ذراعاً وله اربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه ، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس . قال الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه : لو جوّزنا دخول الشيطان في جوف الصنم وتكلمه فيه لكان قادحاً في كثير من المعجزات كحنين الجذع وكلام الجمل . قلت : هذا الوهم زائل بعد ثبوت النبوّة بمعجزات أخر . وقيل : البعل الرب بلغة اليمن . والمعنى أتبعدون بعض البعول وتتركون عبادة أحسن الخالقين . ثم بين أجزاء تكذيبهم أنهم محضرون في العذاب غداً . وباقي القصة ظاهر إلا قوله { إلياسين } فمن قرأ بالإضافة فعلى أن إدريس بن ياسين أي سلام على أهل ياسين . وقيل : آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم . وقل : يس اسم القرآن فكأنه قيل : سلام على من آمن بكتاب الله . والوجه الأوّل هو أنسب الأقوال . ومن قرأ على صورة الجمع فقد قال الفراء : اراد به إلياس وأتباعه من المؤمنين كقولهم المهلبون والأشعرون بتخفيف ياء النسبة . وقيل : إنه لغة في إلياس . قال الزجاج : يقال ميكائيل وميكائين فكذا ههنا . حكى الثعلبي وغيره أن إلياس نبي من سبط هارون بعثه الله إلى بني إسرائيل وكان فيهم ملك يقال له « أحب » وله امرأة يقال لها « إزبيل » وكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتجلس للحكم كما يجلس ، فأتاهما إلياس ودعاهما إلى الله تعالى فأبيا عليه وهما بقتله فاختفى منهما سبع سنين ، وكان اليسع خليفته وآل أمره إلى أن أوحي إليه أن اخرج إلى موضع كذا فما جاءك فاركبه ولا تخف .

فجاء فرس من نار فوثب عليه وناداه خليفته اليسع بن أخطوب ما تأمرني؟ فرمى إلياس إليه بكسائه من الجوّ وكان ذلك عليه علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل . ورفع الله إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسياً ملكياً ارضياً سماوياً . وقيل : إلياس موكل بالفيافي كما وكل الخضر بالبحار ، وهما آخر من يموت من بني آدم . وكان الحسن يقول : قد هلك إليا والخضر ولا نقول كما يقول الناس . وقصة لوط مذكورة مراراً . ومعنى { مصبحين وبالليل } أن مشركي العرب كانوا مسافرين إلى الشأم فلعل أكثر مرورهم بتلك الديار كان في هذين الوقتين لأمر عارض كحر أو غيره . وقصة يونس أيضاً مما سبق ذكرها ، وفيها مزيد تسلية وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم : إنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله تعالى . فالإباق وهو هرب العبد من سيده لا يوجب العصيان ، والأظهر أن قوله { وإن يونس لمن المرسلين } مذكور في معرض التعظيم على قياس أوائل سائر القصص ، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان الإرسال من الله تعالى . وأما الجواب عن إباقة فقد مر في قوله { وذا النون إذ ذهب مغاضباً } [ الأنبياء : 87 ] قوله { المشحون } كالعلة لقوله { فساهم } والسماهمة المقارعة . يقال : أسهم القوم إذا اقترعوا . قال المبرد : هي من السهام التي تجال للقرعة ، والمدحض المغلوب في الحجة وغيرها وحقيقته الذي أزلق عن مقام الظفر والغلبة . يروى أنه حين غضب على قومه خرج من بينهم حتى بحر الروم ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها ، فلما وصلت إلى لجة البحر أشرفت على الغرق فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما رناه من غير ريح ولا سبب ظاهر . وقد يزعم أهل البحر أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فاقترعوا فخرج من بينهم يونس . فقال التجار : نحن أولى بالمعصية من نبي الله . ثم عادوا ثانياً وثالثاً فخرج سهمه فقال : يا هؤلاء أنا العاصي ورمى نفسه إلى الماء . { فالتقمه الحوت } أي ابتلعه كاللقمة { وهو مليم } داخل في الملامة ومنه المثل : رب لائم مليم . أي يلوم غيره وهو أحق منه باللوم { فلولا أنه كان من المسبحين } قيل : أي من المصلين . قيل : أي من المصلين . عن قتادة : كان كثير الصلاة في الرخاء . وقيل : من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح والتقديس كما قيل : اذكر الله في الخلوات يذكرك في الفلوات . والأظهر أن المراد منه ما حكى الله تعالى في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] .
والضمير في { يبعثون } للخلائق بالقيرنة وقوله { للبث } في أقوال : أحدها : يبقى هو والحوت إلى يوم البعث .

والثاني يموت الحوت ويبقى هو في بطنه . والثالث يموتان ثم يحشر يونس من بطنه . واختلفوا في مدّة لبثه في بطن الحوت ، فعن الحسن أنه لم يلبث إلا قليلاً . وقيل : ثلاثة ايام . وعن عطاء : سبعة . وعن الضحاك : عشرون . وقال الكلبي : أربعون . روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً راسه يتنفس فيه يونس ويسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر فلفظه بالعراء وهو المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه . عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا ربنا إنا لنسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة . فقال : نعم ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح . قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل » وحكي في بعض التفاسير وإن لم يطابقه رأي أصحاب المسالك كل المطابقة أن الحوت أخرجه إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم دجلة فلفظه بأرض نصيبين لم تنله آفة إلا أن بدنه عاد كبدن الصبي حين يولد ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وذلك كالمعجزة له . قال المبرد والزجاج : هو « يفعيل » من قطن بالمكان إذا أقام به فيشمل كل شجرة لا تقوم على ساق كالدباء والبطيخ إلا أن المفسرين خصصوه بالدباء قالوا : لأن الذباب لا يجتمع عنده وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لتحب القرع . قال : أجل هي شجرة أخي يونس . قال الواحدي : في الآية دلالة أوّلاً على أن اليقطين لم يكن من قبل فأنبته الله لأجله . والآخر أن اليقطين كان قائماً بحيث يحصل له ظل . قلت : الثاني مسلم إلا أن الأول ممنوع إن أراد به النوع وإن أراد به الشخص فمسلم . وقيل : هي التين . وقيل : هي شجرة الموز تغطى بورقها واستظل بأغصانها واغتذى من ثمارها . وروي أنه كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تأتيه فيشرب من لبنها . وروي أنه مر زمان على الشجرة فيبست فبكى جزعاً فأوحى إليه : بكيت على شجرة ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون فرجع إلى قومه . وقد سبق في سورة يونس باقي التفسير و « أو » في قوله { أو يزيدون } ليست للشك وإنما المراد وصفهم بالكثرة في مأرى الناظر أي إذا رآها الرائي قال هي مائة ألف أو أكثر . ومن هذا التأويل يتضح وجه العطف من حيث المعنى كأنه قيل : وأرسلناه إلى جم غفير مقول فيهم إنهم مائة ألف أو يزيدون . وقيل : التقدير وأرسلناه إلى مائة ألف وارسلناه إلى قوم ثزيدون في الإيهام . وكم الزائد؟ قيل : ثلاثون ألفاً . عن ابن عباس . وقيل : بضعة وثلاثون .

وقيل : بضعة وأربعون . وقيل : سبعون . وجاء مرفوعاً عشرون الفاً . ويحتمل أن يراد أو يزيدون في مرور الزمان لأنه يبقى فيهم مدة كما قال { فآمنوا فمتعناهم إلى حين } هو انقضاء آجالهم . وقيل : القيامة وقد مر . ثم عطف قوله { فاستفتهم } على مثله في أول السورة . والوجه فيه أنه أمر رسوله باستفتاء قريش عن سبب إنكار البعث ، ثم ساق الكلام متصلاً بعضه ببعض على ما عرفت في أثناء التفسير ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى حين أضافوا البنات إلى الله تعالى قائلين الملائكة بنات الله مع كراهتهم التامة لهن ورغبتهم الوافرة في البنين . وحين استفتاهم على سبيل التوبيخ شرع في تزييف معتقدهم بقسمة عقلية وذلك أن سند الدعوى إما أن يكون حساً أو خبراً أو نظراً . أما الحس فمفقود لأنهم ما شاهدوا كيفية تخليق الله الملائكة وهو المراد من قوله { أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون } وأما الخبر فكذلك لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم أنه صدق قطعاً وهؤلاء كذابون أفاكون وأشار إليه بقوله { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون } وأما النظر فمفقود أياضً وبيانه من وجهين : الأول أن دليل العقل يقتضي فساده لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس لأجل نفسه وذلك قوله { اصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون } من قرا اصطفى بفتح الهمزة فلأنه استفهام بطريق الإنكار وقد حذفت همزة الوصل للتخفيف ، ومن قرأ بكسرها على الإخبار جعله من جملة كلام الكفرة . الثاني : عدم الدليل على صحة مذهبهم وهو قوله { أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } نظيره ما مر في قوله { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [ الروم : 35 ] وقوله { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } للمفسرين فيه قولان : أحدهما أنهم الطائفة الأولى والمعنى أنهم جعلوا بين الله وبين الملائكة نسبة بسبب قولهم إنهم بناته فإن الولادة تقتضي الجنسية والمناسبة ، وفيه توبيخ لهم على أن من صفته الاحتنان والاسستار كيف يصلح أن يكون مناسباً لا يجوز عليه صفات الإجرام ، وعلى هذا فالضمير في قوله { إنهم لمحضرون } للكفرة . والمعنى أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة وقد علمت الملائكة أنهم في ذلك كاذبون وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون . وثانيهما أنهم طائفة من الزنادقة قائلون بيزدان واهر من كما مر في « الأنعام » في قوله { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الآية : 100 ] وعلى هذا فالضمير إما للكفار كما مر ، وإما للشياطين . روى عكرمة أنهم قالوا : سروات الجن بنات الرحمن . وقال الكلبي : زعموا أن الله سبحانه تزوّج إلى الجن فخرج منها الملائكة . والتاء في الجنة للتأنيث كحق وحقة .
قال جار الله : الاستثناء في قوله { إلا عباد الله } منقطع معناه إنهم لمحضرون ولكن المخلصين ناجون وما بينهما اعتراض دال على التنزيه .

وجوّز أن يكون الاستثناء من الضمير في { يصفون } اي يصفه هؤلاء بذلك ، ولكن أهل الإخلاص مبرؤن من وصفه بما لا ينبغي . وحين بين المذاهب الفاسدة بقضها بيّن أن أهل الشرك ومعبوديهم ليس لهم أن يفتنوا على الله أي يحملوا غيرهم على سلوك سبيل الفتنة والضلال إلا من سبق في علم الله بأنه من أهل النار . وقالت المعتزلة : إلا من سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها . وجوز جار الله أن تكون الواو في { وما تعبدون } بمعنى « مع » وجاز السكوت على { تعبدون } كما في قولهم « كل رجل وضيعته » . ثم قال { ما أنتم عليه } أي على ما تعبدون { بفاتنين إلا من هو صال } مثلكم . وقال : والوجه في نظم هذه الآيات أن يكون قوله { سبحان الله } إلى قوله { المسبحون } من كلام الملائكة والمعنى : ولقد علمت الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا : سبحان الله ، فنزهوه عن ذلك واستثنوا عباده المخلصين . وقالوا للكفرة : فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه إلا من كان مثلكم ممن علم الله عز وجل لكفرهم أنهم أهل النار . وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يتجاوزه ونحن الصافون كما مر في أول السروة ونحن المسبحون وقال في التفسير الكبير : هاتان الجملتان تدلان على الحصر ، وفيه إشارة إلى أن طاعة البشر كالعدم بالنسبة إلا طاعة الملك فكيف يجوز أن يقال : البشر تقرب درجتهم من درجة الملك فضلاً عن دعوى الأفضلية؟ قلت : لا شك أن هذا التركيب يفيد الحصر إلا أنه لم يفرق بين قصر الأول على الثاني كما في الآية وبين عكسه ، والذي يفيد مدعاه هو العكس لا الأصل فافهم . وقيل : هذه الآيات من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله . ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة ويسبحون الله وينزهونه . ثم حكى أن مشركي قريش { كانوا يقولون لو أن عندنا ذكراً } أي كتاباً من جملة كتب الأوّلين اي نظيرها في بيان الشرائع والتكاليف لأخلصنا العبادة لله . وإن مخففة واللام فارقة { فكفروا به } الفاء للربط أي فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار فكفروا به { فسوف يعلمون } وخامة عاقبة التكذيب . وقيل : أرادوا لو علمنا حال آبائنا وما آل إليه أمرهم وكان ذلك كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم لآمنا به وأخلصنا لكنا على شك من حديثه . ثم بين أن رسل الله وجنده منصورون غالبون عاجلاً وآجلاً ، والأول أكثريّ والثاني تحقيق يقيني .

ثم أمر نبيه بالصفح والإغماض إلى أوان النصرة والغلبة قائلاً { فتوّل عنهم } أي أعرض عن أذاهم إلى حين الأمر بالقتال أو إلى يوم بدر . عن السدي : أو إلى الموت والقيامة . { وأبصرهم } وما يقضى عليهم من السر والقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة فسوف يبصرونك وما يؤل غليه أمرك من النصر والثواب في الدارين . وفي هذا الأمر تنفيس عن النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له كأن الحالة الموعودة قدام عينيه قرباً وتحققاً . و { سوف } في الموضعين للوعيد لا للتبعيد وكأنهم فهموا التسويف فاستعجلوا العذاب فوبخوا عليه . وكان من عادة العرب أن يغيروا صباحاً فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر ، وشبه نزول العذاب بساحتهم بعدما أنذروه بجيش أنذر بعض النصحاء بهجومه قومه فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ الغارة عليهم . وقيل : نزل في فتح مكة . وعن أنس : لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا : محمد والخميس . ورجعوا إلى حصنهم فقال صلى الله عليه وسلم : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين أي صباحهم ، فحذف المخصوص بالذم . واللام في { المنذرين } للجنس . وإنما ثنى وتول عنهم ليكون تسلية على تسلية . والأول لعذاب الدنيا والثاني للآخرة ، وأطلق الفعل الثاني ايضاً اكتفاء بالأول وليفيد فائدة زائدة وهي أنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الوصف من صنوف المسرة وفنون المساءة . واعلم أن السورة اشتملت على ما قاله المشركون في الله وعلى ما عانى المرسلون من جهتهم وعلى ما يؤل إليه عاقبة الرسل وحزب الله من موجبات الحمد فلا جرم ختمها بكلمات جامعة لتلك المعاني . ومعنى { رب العزة } كقوله { قل اللهم مالك الملك } [ آل عمران : 26 ] والمراد ذي العزة لأنها صفته لا مربوبه . عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول : اللهم رب القرآن فأنكر عليه وقال : القرآن ليس بمربوب ولكن كلام الله . والظاهر أن قوله { عما يصفون } يتعلق { بسبحان } كما في قوله { سبحان الله عما يصفون } وقل : متعلق بالعزة أي امتنع عما يصفونه به وقد مر شيء من تحقيق هذه الحالة في آخر يس . قال بعضهم : إنما لم يقل في آخر قصتي لوط ويونس سلام عليهما اكتفاء بقوله في الخاتمة { وسلام على المرسلين } عن علي رضي الله عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلس { سبحان ربك رب العزة } إلى آخر السورة .

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

القراآت : { أو أنزل } بالواو مثل { أونبئكم } [ الآية : 15 ] في آل عمران { عذابي } و { عقابي } بالياء في الحالين : يعقوب والسرندي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل { أيكة } مذكور في « الشعراء » { من فواق } بضم الفاء : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالفتح { ولي نعجة } بفتح الياء : حفص والأعشى والبرجمي { فتناه } بتخفيف النون على أنه مثنى والضمير للخصمين : عباس { لتدبروا } بحذف إحدى التاءين على أنه خطاب : يزيد والأعشى والبرجمي . الباقون : على الغيبة وإدغام تاء التفعل في الدال { إني أحببت } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو من بعدي بالفتح ابو جعفر ونافع وأبو عمرو { والرياح } مجموعة : يزيد .
الوقوف : { ذي الذكر } ط { وشقاق } 5 { مناص } 5 { منهم } ز لتصريح ذكر الكافرين مع إمكان الاكتفاء بالضمير وقد اتفقت الجملتان { كذاب } ج للاستفهام واتحاد العامل { واحداً } ج لمثل ما مر { عجاب } 5 { آلهتكم } ج لما مر { يراد } ج 5 لذلك { الآخرة } ج لذلك { اختلاق } 5 ج لما قلنا { من بيننا } ط { من ذكري } 5 لعطف الجملتين المختلفتين والابتداء بالتهديد { عذاب } 5 لأن « أم » بمعنى ألف استفهام إنكار { الوهاب } 5 ج « أم » تصلح ابتداء إنكار { الأسباب } 5 { الأحزاب } 5 { الأوتاد } 5 لا { الأيكة } ط { الأحزاب } 5 { عقاب } 5 { فواق } 5 { الحساب } 5 { الأيد } ج للابتداء بإِن ولاحتمال التعليل { أوّاب } 5 { والإشراق } 5 { أوّاب } 5 { الخطاب } 5 { الخصم } م لأن « إذ » ليس بظرف للإتيان ولتناهي الاستفهام إلى الأمر أي اذكر إذ تسوّروا { المحراب } 5 لا لأن « إذ » بدل من الأولى { لا تخف } ج لحق الحذف أي نحن خصمان مع اتحاد المقول { الصراط } 5 { في الخطاب } 5 { نعاجه } ج { ما هم } ط { وأناب } 5 { ذلك } ط { مآب } 5 { عن سبيل الله } الأولى ط { الحساب } 5 { باطلاً } ط { كفروا } ج للابتداء بالتهديد مع فاء التعقيب { النار } 5 ج لأن « أم » لاستفهام إنكار . { كالفجار } 5 { الألباب } 5 { سليمان } ط { العبد } ط { أوّاب } 5 لا والأصح الوقف والتقدير : اذكر إذ فإِن أوْبَهُ غير مقيد بل مطلق الجياد 5 لا للعطف { ربي } ج لاحتمال أن « حتى » للابتداء وأن تكون لانتهاء الحب أي آثرت حب الخير حتى توارت { بالحجاب } 5 لحق الحذف تقديره : قال ردّوها عليّ فطفق . { والأعناق } 5 { أناب } 5 { بعدي } لا لاحتمال أن يكون التقدير فإنك { الوهاب } 5 { اصاب } 5 { وغوّاص } 5 { الأصفاد } 5 { حساب } 5 { مآب } 5 .
التفسير : عن ابن عباس أن { ص } بحر عليه عرش الرحمن . وعن سعيد بن جبير : بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين . وقيل : صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به عن الله .

وقيل : صدّ الكفار عن قبول هذا الدين . وقيل : صدّ محمد صلى الله عليه وسلم قلوب العباد . وقيل : هو من المصاداة المعارضة ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الجبال يؤيده قراءة من قرأ { ص } بالكسر ، معناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوارمه وانته عن نواهيه . والذكر الشرف والشهرة أو الموعظة ، وجواب القسم محذوف كأنه قيل : إنه المعجز وإن إلهكم لواحد . ويجوز إن كان { ص } اسم السورة أن يراد هذه ص ، والقرآن يعني هذه السورة هي التي أعجزت العرب بحق القرآن كما تخبر عن هذا حاتم والله ، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله . ثم بين أن الكفار في استكبار عن الإذعان للحق وفي مخالفة الله ورسوله . ومعنى « بل » ترك كلام والأخذ في كلام آخر . ولئن سلم أنه للمغايرة الكلية فالكلام الأول هو كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً في تبليغ الرسالة ، أو كون القرآن ، أو هذه السورة معجزاً ، والحكم المذكور بد « بل » هو المعازة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب . ثم خوف الكفار بقوله { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات } أي رفعوا اصواتهم بالدعاء والاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب لا يكون إلا كذلك . وعن الحسن : فنادوا بالتوبة كقوله { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا } ولهذا قال { ولات حين مناص } أي لم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب أو حين نداء ينجي . قال سيبويه والخليل : التاء في « لات » زائدة مثلها في « ربت » و « ثمت » وهي المشبهة بليس ، وقد تغير حكمها بزيادة التاء حيث لا تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وتقدير الآية : ليس الحين حين مناص . ولو رفع لكان تقديره وليس حين مناص حاصلاً لهم . وقال الأخفش : إنها « لا » النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان كأنه قيل : اصل « لات » ليس قلبت الياء ألفاً والسين تاء . وقيل : التاء قد تلحق بحين كقوله :
العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم
وإلى هذا ذهب أبو عبيدة . وتأكد هذا الرأي عنده حين رأى التاء في المصحف متصلاً بحين . وضعف بعد تسليم أنه في الإمام كذلك بأن خط المصحف غير مقيس عليه . أما الوقف على { لات } فعند الكوفيين بالهاء قياساً على الأسماء ، وعند البصريين بالتاء قياساً على الأفعال . والمناص مصدر ناص ينوص إذا هرب ونجا أو فات . قال ابن عباس : لما نزل بهم العذاب ببدر قالوا : مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فأنزل الله { ولات حين مناص } . ثم حكى شر صنيعهم وسوء مقالتهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } أي من جنس البشر .

ثم سجل عليهم بالكفر بوضع الظاهر موضع المضمر قائلاً { وقال الكافرون هذا ساحر } في إظهار خوارق العادات { كذاب } على الله . وإنما قيل في سورة ق { فقال الكافرون } [ الآية : 2 ] بالفاء لأن القول هناك شيء عجيب وهو نتيجة العجب فاتصل الكلامان لفظاً ومعنى : وأما ههنا فلم يتصل إلا معنى { أجعل الآلهة } أي صيرها وحكم عليها بالوحدة { إن هذا لشيء عجاب } بليغ في العجب . يروى أنه لما أسلم عمر بن الخطاب شق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الأشراف والرؤساء : امشوا إلى أبي طالب فأتوه وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك . فدعا أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألون السواء فلا تمل كل الميل على قومك . فقال : ماذا يسألونني؟ فقالوا : ارفضنا وارفض آلهتنا وندعك وإلهك . فقال صلى الله عليه وسلم : أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال له أبو جهل : والله لنعطينكها وعشر أمثالها . فقال صلى الله عليه وسلم : قولوا لا إله إلا الله . فنفروا من ذلك وقالوا : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } كيف يسع الخلق كلهم إله واحد فأنزل الله هذه الآيات . يعني من أول السورة إلى قوله { كذبت قبلهم } { وانطلق الملأ منهم } أي نهضوا من ذلك المجلس و { أن } مفسرة أي { امشوا } من غير أن يتلفظوا به { واصبروا على } عبادة { آلهتكم } .
قال النحويون : الانطلاق ههنا مضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم . وقيل : وانطلق الملأ منهم وقالوا لغيرهم امشوا . وقيل : انطلقوا بأن امشوا أي بهذا القول . وليس المراد بالمشي السير إنما المراد المضيّ على الأمر . وقيل : امشوا واتركوا محمداً صلى الله عليه وسلم . وقيل : هي من مشت الماشية إذا كثر نسلها مشاء ومنه الماشية للتفاؤل . وفي تهذيب اللغة عن الأزهري : مشى الرجل إذا استغنى فيكون هذا دعاء لهم بالبركة { إن هذا } الأمر وهو استعلاء محمد صلى الله عليه وسلم { لشيء يراد } أي حكم الله به فلا حيلة في دفعه ولا ينفع إلا الصبر أو إنه لشيء من نوائب الدهر اريد بنا فلا انفكاك لنا منه ، أو إن دينكم لشيء يراد أن يؤخذ منكم . وقيل : إن عبادة الأصنام لشيء نريده ونحتاج إليه . وقيل : إن هذا الاستعلاء والترفع لشيء يريده كل أحد وكل ذي همة وقريب منه قول القفال : إن هذه كلمة تذكر للتحذير والتخويف معناها إنه ليس غرض محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القول تقرير الدين ولكن غرضه أن يستولي علينا ويحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد .

{ ما سمعنا بهذا } أي بقول محمد صلى الله عليه وسلم { في الملة الآخرة } فيما أدركنا عليه آباءنا أو في ملة عيسى التي هي آخر الملل ، لأن النصارى مثلثة غير موحدة . قال جار الله : يجوز أن يكون التقدير ما سمعنا بهذا كائناً في الملة الآخرة فيكون الظرف حالاً من هذا لا متعلقاً ب { سمعنا } والمعنى أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله . { إن هذا إلا اختلاق } كذب اختلقه من عنده . ثم أظهروا الحسد وما كان يغلي به صدورهم قائلين { أأنزل عليه الذكر من بيننا } وذلك أنهم ظنوا أن الشرف بالمال والجاه فقط نظيره في القمر { أألقي الذكر عليه من بيننا } [ القمر : 25 ] إلا أنه استعمل هناك الإلقاء لأن أذكارهم كانت صحفاً مكتوبة وألواحاً مسطورة . وقدم الظرف ههنا لشدّة العناية ولزيادة غيظهم وحمقهم فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله { بل هم في شك من ذكري } اي من دلائلي التي لو نظروا فيها لزال الشك عنهم ، فالقاطع لا يساوي المشكوك . وقيل : أراد أنهم لا يكذبونك ولكنهم جحدوا آياتي . ثم قال { بل لما يذوقوا عذاب } أي لو ذاقوا لأقبلوا على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات . وقيل : أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوّفهم بالعذاب لو أصروا على الكفر . ثم إنهم أصروا ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سبباً لشكهم في صدقه صلى الله عليه وسلم فلا جرم لا يزول ذلك الشك إلا بنزول العذاب . ثم أجاب عن شبهتهم بوجه آخر وهو قوله { أم عندهم خزائن رحمة ربك } والمراد أن النبوة من جملة النعمة المخزونة عنده يعطيها من يشاء من عباده . ثم خصص بعد التعميم قائلاً { أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما } ولا ريب أن هذه الأشياء بعض خزائن الله وإذا كانوا عاجزين عن البعض فعن الكل أولى . ثم تهكم بهم بقوله { فليرتقوا } اي فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق وقسمة الرحمة فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوسل بها إلى المقصود . وقيل : أسباب السموات أبوابها والمعنى إن ادّعوا ملك السموات وأنهم يعلمون ما يجري فيها فليرتقوا إليها . قال بعض حكماء الإسلام : في الأسباب إشارة إلى أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب حوادث العالم السفلي . ثم حقر أمرهم بقوله { جند مّا } وهو خبر مبتدأ محذوف و « ما » مزيدة للاستعظام جارية مجرى الصفة أي هم جند من الجنود . ثم خصص الوصف بقوله { من الأحزاب } أي ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بهم . قال قتادة { هنالك } إشارة إلى يوم بدر . وقيل : يوم الخندق . وقيل : فتح مكة فإن مكة هي الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات .

وقال أهل البيان : هي إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كقولك لمن ينتدب لأمر « ليس من أهله » « لست هنالك » . ثم مثل حالهم بحال من قبلهم من الأمم المكذبة وقصصهم مذكورة مراراً . والذي يختص بالمقام هو أنه وصف فرعون بذي الأوتاد فعن قتادة أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب بها عنده . وقال المبرد : بنى أبنية طويلة صارت كالأوتاد لبقائها . وقيل : هي أوتاد أربعة كان يعذب الناس بها على الأرض أو على رؤوس أخشاب أربعة . وقيل : اراد كثرة أوتاد خيام معسكره . وقيل : أراد ذو جموع كثيرة فبالجمعية يشتد الملك كما يشتد البناء بالأوتاد وهذا قريب . وقول أهل البيان إن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاد ، ثم استعير لثبات العز والملك والمقصود على الوجود كلها . وصف فرعون بالشدة والقوة ونفاذ الأمر ليعلم أنه تتعالى أهلك من كان هذه صفته فكيف بمن هو دونه .
قال أبو البقاء : قوله { أولئك الأحزاب } مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون خبراً والمبتدأ من قوله وعاد أو من ثمود أو من قوم لوط ، قلت : ويحتمل أن يكون { الأحزاب } صفة { أولئك } و { أولئك } بدلاً من مجموع المعطوفات والمعطوف عليه . قال جار الله : قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن هذه الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم وآباؤهم الذين وجد منهم التكذيب . لقد ذكر تكذيبهم أوّلاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية أعني قوله { إن كل إلا كذب الرسل } فبين أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوا جميعهم { فحق } أي ثبت أو وجب لذلك عقابى إياهم في الدنيا ثم في الآخرة وذلك قوله { وما ينظر هؤلاء } المذكورون . وقيل : أهل مكة : { إلا صيحة واحدة } وهي النفخة الأولى { ما لها من } توقف مقدار { فواق } وهو بالفتح والضم زمان ما بين حلبتي الحالب . عن النبي صلى الله عليه وسلم « العيادة قدر فواق الناقة » ومعنى الآية إذا جاء وقتها لم يمهل هذا القدر . وقيل : الفواق بالفتح الإفاقة أي ما لها من رجوع وترداد لأن الواحدة تكفي أمرهم وما لها رجوع إلى الحالة الأولى بل تبقى ممتدة إلى أن يهلك كلهم واعلم أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاث وقعت لهم : أولاها في الإلهيات وهو قولهم { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } والثانية في النبوات وهي قولهم { أأنزل عليه الذكر من بيننا } والثالثة تتعلق بالمعاد وهي قولهم { ربنا عجل لنا قطناً } وهو القطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطة إذا قطعه . والقط أيضاً صحيفة الجائزة ونحوها لأنها قطعة من القرطاس استعجلوا نصيبهم من العذاب الموعود ، أو من اللذات العاجلة ، أو من صحيفة الأعمال ، كل ذلك استهزاء منهم فلذلك أمره بالصبر على ما يقولون .

قال جار الله : أراد اصبر على أذاهم وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مخابراتهم . { واذكر } أخاك { داود } كيف زل تلك الزلة اليسيرة فعوتب عليها ونسب إلى البغي ، أو اصبر وعظم أثر أمر معصية الله في أعينهمم بذكر قصة داود وما أورثته زلته من البكاء الدائم والحزن الواصب . وقال غيره : اصبر على اذى قومك فإنك مبتلى بذلك كما صبر سائر الأنبياء على ما ابتلاهم به . ثم عدّهم وبدأ بداود وذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب فأوحى الله إليه أنهم وجدوها بالصبر على البلايا فسأل الابتلاء . ثم إن الدنيا لا تنفك من الهموم والأحزان واستحقاق الدرجات بقدر الصبر على البليات . ثم إن مجامع ما ذكر الله تعالى في قصة داود ثلاثة أنواع من الكلام : الأول : تفصيل ما آتاه الله تعالى من الفضائل . الثاني : شرح الواقعة التي وقعت له . والثالث : استخلاف الله تعالى إياه بعد ذلك . والأول عشرة أصناف : أحدها ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم إياه ليقتدي به في الصبر وسائر اصول الأخلاق . وثانيها تسميته بالعبد مضافاً إلى صيغة جمع التكلم للتعظيم والعبودية الصحيحة الجامعة لكمالات الممكنات كما سبق مراراً . ويمكن أن يكون التلفظ بذكر اسمه العلم أيضاً تشريفاً له . وثالثها قوله { ذا الأيد } ذا القوة في الحروب وعلى الطاعات وعن المعاصي وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً وهو أشد الصوم ويقوم نصف الليل . ويحتمل أن يكون الياء محذوفاً اكتفاء بالكسر فيكون جميع اليد بمعنى النعمة لأن الله تعالى أنعم عليه ما لم ينعم على غيره . رابعها قوله { إنه أوّاب } أي رجاع ي الأمور كلها إلى طاعة الله ومرضاته من آب يؤب . خامسها تسبيح الجبال معه وقوله { يسبحن } حال والإشراق وقت إضاءة الشمس وهو بعد شروقها عند الضحى . يقال شرقت الشمس ولما تشرق . واستدل به ابن عباس على وجود صلاة الضحى في القرآن لما روى عن أم هانئ : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق . قال ابن عباس : وكانت صلاة يصليها داود عليه السلام ويحتمل أن يكون معنى الإشراق الدخول في وقت الشروق فيراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق قاله جار الله . سادسها قوله { والطير محشورة } أي وسخرنا الطير مجموعة من كل ناحية . قال ابن عباس : كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت فذلك حشرها وقد مر ذكر هذه المعجزة في « الأنبياء » وفي « سبأ » . قال أهل البيان : قوله { محشورة } في مقابلة قوله { يسبحن } ولكنه اختير الفعل في أحد الموضعين والاسم في الآخر لأنه أريد في الأول الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال حتى كأن السامع يتصوّرها بتلك الحالة ، وأما الحاشر فهو الله وحشر الطيور جملة واحدة أدل على القدرة له تعالى .

سابعها قوله { كلّ له أوّاب } أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبح مرجع للتسبيح . وقيل : الضمير لله أي كل من داود والجبال والطير لله مسبح رجاع إلى فعله مرة بعد مرة ، وهذا الوصف كالتأكيد للوصف الذي يتقدّمه وهذا أخص لأنه أدل على الواقعة . ثامنها قوله { وشددنا ملكه } أي قوّيناه بالجنود والأعوان وبسائر الأسباب فكان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف حرس ، وزاد بعضهم فقال أربعون الفاً . وقيل : نصرناه بالهيبة ، وسببه أن غلاماً ادّعى على رجل بقرة فأنكر المدّعى عليه ولطم الغلام لطمة فسأل داود من الغلام البينة فعجز فرأى داود في المنام أن الله تعالى يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقرة إلى الغلام . فقال داود : هذا منام فأتاه الوحي بذلك في اليقظة فأخبر بذلك بني إسرائيل فجزعوا وقالوا : أتقتل رجلاً بلطمة؟ فقال داود : هذا أمر الله فسكتوا . ثم أحضر الرجل وأخبره إن الله أمره بقتله فقال الرجل : صدقت يا نبيّ الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقرة ، فقتله داود وعظمت هيبته واشتدّ ملكه وقالوا : إنه يقضي بالوحي من السماء . تاسعها قوله { وآتيناه الحكمة } وقد مر معناها مراراً وأنها منحصرة في قسمين : الأول العلم بالتصوّرات الحقيقية والتصديقات اليقينية بمقتضى الطاقة البشرية ، والثاني العمل بالأخلاق الفاضلة المفضية إلى السعادة الباقية . وخصصها بعضهم بالعلم بالنبوّة والفهم أو بالزبور والشرائع . عاشرها فصل الخطاب وهو القدرة على ضبط المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتى يكون كاملاً مكملاً فهماً مفهماً .
قال جار الله : الفصل بمعنى المفصول ومعناه البين من الكلام الملخص الذي لا يلتبس ولا يختلك بغيره . قلت : ومن ذلك أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل كما تذكره في الوقوف . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : البينة على المدّعي واليمين على من أنكر . فالفصل بمعنى الفاصل كالصوم والصحب ويندرج فيه جميع كلامه في الأقضية والحكومات وتدابير الملك والمشورات . يروى أنه سبحانه علق لأجله سلسلة من السماء وأمره أن يقضي بها بين الناس ، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة ، ومن كان على الباطل لا يقدر على أخذها . ثم إن رجلاً غصب من آخر لؤلؤه وجعلها في جوف عصاً له ثم خاصمه المدّعي إلى داود فقال المدعي : إن هذا أخذ مني لؤلؤة ولم يردّها عليّ وإني صادق في مقالتي ، فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك فرفعت السلسلة وأمره أن يقضي بالبينة واليمين وهو فصل الخطب . وقيل : هو قوله « أما بعد » وهو أوّل من تكلم به .

وقيل : هو أنه إذا تكلم في الحكم فصل وكل هذه الأقوال تخصيصات من غير دليل والأقوى ما قدمناه . ثم إنه سبحانه لما مدحه بالوجوه العشرة أردفه بذكر واقعته قائلاً { وهل أتاك } يا محمد { نبأ الخصم } أي ما أتاك خبرهم وقد أتاك الآن . وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ليكون أدعى إلى الإصغاء لها . وللناس في هذه الواقعة ثلاثة آقوال أقواها تقريرها على وجه لا يدل على صدور ذنب عن نبيّ الله ، وثانيها التقرير على وجه يدل على صدور الصغيرة عن نبيّ الله ، وثالثها التقرير على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه ، وأضعفها التقرير على وجه يدل على الكبيرة . ويختلف تفسير بعض الألفاظ بحسب اختلاف بعض المذاهب فلنفسر كلاً منها على حدة . وأما المشترك بين الأقوال فلا نفسره إلا مرة .
القول الأوّل : يروى أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ الله داود - وكان له يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه - فانتهضوا الفرصة في ذلك وتسوّروا المحراب أي تصعدوا غرفته من سوره . وفي قوله { إذ دخلوا عليه } إشارة إلى أنهم بعد التسوّر نزلوا عليه . قال الفراء : قد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك « ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت عليّ » مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحداً . وحين رآهما قد دخلا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر . { ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان } أي نحن خصمان والخصم في الأصل مصدر فلهذا لم يجمعه أوّلاً نظراً إلى أصله ، وثناه ثانياً بتأويل شخصان أو فريقان خصمان ، وجمع المائر في قوله { إذ تسوّروا } { إذ دخلوا } { ففزع منهم } { قالوا لا تخف } بناء على أن أقل الجمع اثنان ، أو على أن صحب كل منهما من جملتهما . والأوّل أظهر لأن القائلين كانا اثنين بالاتفاق { بغى بعضنا على بعض } أي بغى أحدنا على الآخر وتعدّى حدّ العدالة . ثم قرروا مقصودهم بثلاث عبارات متلازمة إحداها { فاحكم بيننا بالحق } أي بالعدل الذي هو حكم الله فينا . والثانية { ولا تشطط } وهو نهي عن الباطل بإلزام الحق والشط البعد . شط وأشط لغتان ، أرادوا لا تجر فالجور البعد عن الحق . والثالثة { واهدنا إلى سواء الصراط } أي وسطه وهو مثل لمحض الحق وصدقه . وحين اخبروا عن وقوع الخصومة مجملاً شرعوا في التفصيل فقال أحدهما مشيراً إلى الآخر { إن هذا } وقوله { أخي } أي في الدين أو الخلطة أو النسب خبر أو بدل والخبر { له تسع وتسعون نعجة } وهي أنثى من الضأن { ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها } أي ملكنيها فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي { وعزني في الخطاب } أي غلبني في المخاطبة فكان تكلمه أبين وبطشه اشدّ { قال } داود { لقد ظلمك بسؤال نعجتك } أضاف المصدر إلى المفعول الثاني وحذف الفاعل والمفعول الأوّل أي بسؤاله إياك نعجتك .

وليس السؤال ههنا سؤال خضوع وتفضل وإنما هو سؤال مطالبة ومعازة . و { إلى } متعلقة بفعل دل عليه السؤال تقديره بسؤال أي ليضمها إلى نعاجه ، أو ضمن السؤال معنى الإضافة كأنه قيل : بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه الطلب { وإن كثيراً من الخلطاء } الشركاء الذين خلطوا أموالهم واطلع بسبب ذلك بعضهم على أحوال البعض { ليبغي بعضهم على بعض } وقد تغلب الخلطة في الماشية . والشافعي يعتبرها في باب الزكاة إذا اتحد الفحل والراعي والمراح والمسقى وموضع الحلب ، فإن كانت للخليطين أرعبون شاة فعليهما شاة . وعند أبي حنيفة لا شي عليهما وإن كانت لأحدهما واحدة وللآخر تسع وتسعون فعلى الأوّل أداء جزء من مائة جزء من شاة واحدة وعلى الآخر الباقي . هذا عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة لا شيء على ذي النعجة . ثم بين أن أكثر الخلطاء موسوم بسمة الظلم إلا المؤمنين وإنهم لقليل . « وما » في قوله { وقليل ما هم } مزيدة للإبهام ، وفيه تعجيب من قلتهم . وقال ابن عيسى : هي موصولة أي وقليل الذين هم كذلك . قصد نبيّ الله بذكر حال الخطاء في هذا المقام الموعظة الحسنة والترغيب في اختيار عادة الخلطاء الصلحاء لا التي عليها أكثرهم من الظلم والاعتداء ، وفيه تسلية للمظلوم عما جرى عليه من خليطه وإن له في أكثر الخلطاء اسوة { وظن داود إنما فتناه } اي ابتليناه وذلك أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطاناً شديد القوّة وقد فزع منهم . ثم إنه مع ذلك عفا عنهم دخل قلبه شيء من العجب فحمله على الابتلاء { فاستغفر ربه } من تلك الحالة { وأناب } إلى الله واعترف بأن إقدامه على تلك الخلة لم يكن إلا بتوفيق الله . { فغفرنا له ذلك } الخاطر أو لعله هم بإيذاء القوم . ثم تذكر أنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ، ثم استغفر من تلك الهمة . أو لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم فاستغفر لأجلهم متضرعاً إلى الله فغفر ذنبهم بسبب شفاعته ودعائه . { و } معنى { خرّ راكعاً } سقط ساجداً . قال الحسن : لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع ، أو المراد أن خرّ للسجود مصلياً لأن الركوع قد يعبر به عن الصلاة . ومذهب الشافعي أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة لأنه توبة نبيّ فلا توجب على غيره سجدة التلاوة ولا تستحب أيضاً . ومذهب أبي حنيفة بخلافه . وجوز مع ذلك أن يكون الركوع بدل السجود هذا تمام تقرير القول الأوّل . ولا يرد عليه إلا أن داود كان أرفع منزلة من أن يتسور عليه بعض آحاد الرعية في حال تعبده أو يتجاسر عليه بقوله { لا تخف } { ولا تشطط } وأنه كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين على ظلم الآخر قبل استماع كلامه والأول استبعاد محض؟ وأجيب عن الثاني بأنه ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه لكنه لم يذكر في القرآن ، ومما يؤيد هذا القول ختم ذكر الواقعة بقوله : { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } والزلفى القربة ، والمآب الحسن الجنة .

قال مالك بن دينار : إذا كان يوم القيامة يؤتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة يقال : يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا - وحاصل التفسير على هذا القول إن الخصمين كانا من الإنس وكانت الخصومة بينهما على الحقيقة ، وكانا خليطين في الغنم ، أو كان الخلطة خلطة الصدقة ، أو الجوار وكان أحدهما موسراً وله نسوان كثيرة من الحرائر والسرائر . والعرب تشبه المرأة بالنعجة والظبية ، والثاني معسراً ما له إلا امرأة واحدة واستنزله عنها ، وكانت الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك كما كانوا يقاسمونهم أموالهم ومنازلهم وما كان ذنب داود إلا خطرة أو همة .
القول الثاني : إن أهل زمان داود كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته فاتفق أن نظر داود وقع على امرأة رجل يقال له أوريا فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا ففعل فتزوجها وهي أم سليمان . فقيل له : إن مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلاً ليس له امرأة واحدة النزول لك ، كان الواجب عليك مغالبة هواك والصبر على ما امتحنت به . وقيل : خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها وكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه ، وعلى هذا يجوز أن يكون الخطاب في قوله { وعزني في الخطاب } من الخطبة أي غالبني في خطبتها حيث زوّجها دوني . وعلى هذا القول يجوز أن يكون الخصمان من الإنس كما مر . وحين وافق حالهما حال داود تنبه فاستغفر . وأن يكونا ملكين بعثهما الله ليتنبه على خطئه فيتداركه بالاستغفار ويرد على هذا أن الملكين لو قالا نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فكذب والملائكة لا يكذبون ولا يأمرهم الله بالكذب . والجواب أن التقدير ما تقول خصمان قالا بغى بعضنا على بعض . أو أرادوا : ارأيت لو كنا خصمين بغى بعضنا على بعض ألست تحكم بيننا ، ثم صوروا المسألة ومثلوا قصته بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون فأراد صاحبه تتمة المائة وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده . وعن الحسن : لم يكن لداود تسع وتسعون امرأة وإنما هذا مثل .
القول الثالث : وهو المشهور عند الجمهور أن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوماً للعبادة ، ويوماً للاشتغال بخواص أموره ، ويوماً يجمع بني إسرائيل للوعظ والتذكير فجاءه الشيطان يوم العبادة والباب مغلب في صورة حمامة من ذهب فمد يده ليأخذها لابن صغير له فطارت إلى قريب منه ، وهكذا مرة ثانية وثالثة إلى أن وقعت في كوة فتبعها فوقع بصره على امرأة جميلة تغتسل فنقضت شعرها فغطى جسدها فوقع في نفسه منها ما شغله عن الصلاة ، فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها ، فخرج داود حتى عرف بيتها وسألها من أنت؟ فأخبرته فقال لها : هل لك زوج؟ فقالت : نعم .

قال : أين هو؟ قالت : في جند كذا فرجع وكتب إلى أمير جيشه إذا جاءك كتابي هذا فقدم فلاناً في أول التابوت وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد ففتح الله على يده وسلم . فأمر برده مرة ثانية وثالثة حتى قتل ، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء ، وتزوّج امرأته فبعث الله إليه ملكين في صورة إنسانين فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته ومنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ففزع منهما ، وحين وجد قصتهما مطابقة لحاله علم أنه مبتلى من الله . يروى أنهما قالا حينئذ حكم على نفسه . وقيل : ضحكا وغابا فعلم أن الله ابتلاه بذنبه . ولا يخفى أن ذنبه بهذا التفسير والتقرير كبيرة لأنه يدل على الإفراط في العشق وعلى السعي في قتل النفس المسلمة بغير حق . فيروى أنه سجد أربعين ليلة لم يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ولم يذق طعاماً ولا شراباً حتى أوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك . ويروى أن جبرائيل قال له اذهب إلى أوريا وهو زوج المرأة واستحل منه فإنك تسمع صوته موضع كذا ، فأتاه ، واستحل منه فقال : أنت في حل . قال : فلما رجع قال له جبريل : هل أخبرته بجرمك؟ فقال : لا قال : فإنك لم تعمل شيئاً فارجع وأخبره بالذي صنعت . فرجع داود فأخبره بذلك فقال : أنا خصمك يوم القيامة فرجع مغتماً وبكى أربعين يوماً . فأتاه جبريل وقال : إن الله تعالى يقول : أنا أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسرى عنه وكان حزيناً في عمره باكياً على خطيئته . وروي أنه نقش خطيئته على كفه حتى لا ينساها . والمحققون كعلي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود وغيرهم ينكرون القصة على هذا الوجه . روى سعيد بن المسيب والحرث بن الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء . قلت : لا يخفى أن الأحوط السكوت عما لا يرجع إلى طائل ، بل يحتمل أن يعود إلى قائله لوم عاجل وعقاب آجل .

ومن الدلائل القوية التي اعتمد عليها فخر الدين الرازي في ضعف هذه الرواية قوله سبحانه عقيب ذكر الواقعة { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } فمن البعيد جداً أن يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دم أخيه المسلم بغير حق وبانتزاع زوجته منه ثم يقال : إنا فوضنا الخلافة إليه . وعندي أن ذلك عليه لا له لقوله تعالى { فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى } الخ فكأنه قيل له : إنا جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله وفي سياسة المدن ، أو تخلفنا كما يقال « السلطان ظل الله في الأرض » فاللائق بهذا المنصب السعي لإصلاح حال المسلمين وحفظ فروجهم ودمائهم وأموالهم لا السعي في تحصيل هو النفس بأي وجه يمكن ، فإن صاحبه المصر عليه ضال معرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد . يحكى عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو الزهري : هل سمعت ما بلغنا؟ قال : وما هو؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية . فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ثم تلا هذه الآية . وحين تمم واقعة داود ونصحه وما فرض عليه في شأن الاستخلاف أشار إلى أن الأمور الدنيوية التابعة للحركات السماوية ليست واقعة على الجزاف ، وبمقتضى الطبائع ، ولكن لها غاية صحيحة فأجمل هذا المعنى أوّلاً بقوله { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك } الذي ذكر من خلق هذه الأشياء بلا غاية { ظن الذين كفروا } لأنهم بإنكارهم البعث جحدوا الجزاء الذي هو غاية التكليف { فويل للذين كفروا من النار } لأنهم بهذه العقيدة وقعوا في نار البعد والقطيعة فلم يستدلوا بالآفاق والأنفس على الصانع نظيره ما مر في آخر « آل عمران » { ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } [ الآية : 191 ] ثم صرح بالغاية قائلاً { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية . « وأم » منقطعة بمعنى بل والهمزة للإنكار والمراد أنه لم بطل الجزاء كما زعموا لاستوت حال الطائفتين المتقي المصلح للأرض بتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة المدنية على وفق العقل والشرع ، والفاجر المفسد في الأرض بهدم النواميس وتتبع الشهوات وهتك الحرمات ، ومن سوى بينهم كان إلى السفه أقرب منه إلى الحكمة ، ولا ينافي هذا إمكان التسوية من حيث المالكية . وحين ذكر هذه المعاني اللطيفة والقواعد الشريفة منّ على رسوله بقوله { كتاب } اي هذا كتاب { أنزلناه إليك مبارك } كثير المنافع والفوائد { ليدّبروا آياته } ليتأملوا فيها ويستنبطوا الأسرار والحقائق منها فمن حفظ حروفه وضيع حدوده كان مثله كمثل معلق اللؤلؤ والجواهر على الخنازير . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : يقال في وجه النظم إن العقلاء قالوا : من ابتلى بخصم جاهل مصر متعصب وجب عليه أن يقطع الكلام معه ويخوض في كلام آخر أجنبي حتى إذا اشتغل خاطره بالكلام الأجنبي أدرج في أثنائه مقدمة مناسبة للمطلوب الأول ، فإن ذلك المتعصب قد يسلم هذه المقدمة فإذا سلمها فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول فيصير الخصم ساكتاً مفحماً .

وإذ قد عرفت هذا فنقول : إن الكفار قد بلغوا في إنكار الحشر إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء { ربنا عجل لنا قطعنا قبل يوم الحساب } فقال تعالى : يا محمد { اصبر على ما يقولون } واقطع الكلام معهم في هذه المسألة واشرع في كلام آخر أجنبي في الظاهر وهو قصة داود إلى قوله { إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } فكل من سمع هذا قال : نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق كأنه قال : أيها المكلف إني لا آمرك مع أني رب العالمين إلا بالحق فههنا الخصم يقول : نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق ، فعند هذا يلتزم صحة القول بالحشر وإلاّ لزم التسوية بين من أصلح واتقى ومن افسد وفجر وذلك ضدّ الحكمة . وحين ذكر هذه الطيرقة الدقيقة في إلزام المنكرين وإفحامهم وصف القرآن بالبركة والإفادة والإرشاد ، لأن هذه اللطائف لا تستفاد إلا منه .
وبعد تتميم قصة داود شرع في قصة ابنه سليمان ومدحه بقوله { نعم العبد } أي هو فحذف المخصوص للعلم به . وفي قوله { إنه أوّاب } كما مر في قصة داود إشارة إلى أنه كان شبيهاً بالأب في الفضيلة والكمال فلذلك استويا في جهة المدح . وفي القصة واقعتان يمكن تقرير كل منهما كما في واقعة أبيه على وجه لا يقدح في الصعمة وهو المختار عند المحققين ، وعلى وجه دون ذلك وهو الأشهر فلنفسر كلاً منهما بالوجهين بتوفيق الله تعالى . أما الأوّل من الواقعة الأولى فقوله { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات } وهي جمع صافن وهو الذي يقوم على ثلاث قوائم وعلى طرف الرابعة وهو نعت جيد للخيل . قيل : الصافن الذي يجمع بين يديه . وفي الحديث « من سرّه أن يقوم الناس له صفوفاً فليتبوّأ مقعده من النار » أي واقفين مثل خدم الجبابرة . و { الجياد } جمع جواد وهو جيد الجري يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة من مواقفها على أحسن الأشكال . وإذا أجريت كانت سراعاً في جريها ، فإذا طلبت لحقت ، وإذا طلبت لم تلحق . يروى أن رباط الخيل كان مندوباً في شرعهم كما في شرعنا . ثم إن سليمان سلام الله عليه احتاج إلى الغزو فجلس بعد صلاة الظهر على كرسيه وأمر بإحضار الخيل ، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله { إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } سمى الخيل خيراً لتعلق الخير بها كما جاء في الحديث

« الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة » أي آثرت حب الخير ولزمته لأن ربي أمرني بارتباطها ولم يصدر حب هذه المحبة الشديدة إلا عن ذكر الله وأمره . والضمير في قوله { حتى توارت } للخيل أي ما زالت تعرض عليه ويأمر بإعدائها وسيرها إلى أن غابت عن بصره ، ثم قال { ردّوها عليّ } أي أمر الرائضين بان يردوا الخيل عليه ، فلما عادت عليه طفق يمسح مسحاً بوسقها وأعناقها تشريفاً لها وإظهاراً لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدوّ ، أو لأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها ، أو أراد إظهار أنه بلغ في اختبار أمور المملكة إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه . ويل : مسح الغبار عن أعناقها وسوقها بيده . وقيل : وسم أعناقهن وارجلهن فجعلهن في سبيل الله .
وأما الوجه الآخر في هذه الواقعة فما روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس . وقيل : ورثها من ابيه وكان أبوه اصابها من العمالقة . وقيل : أخرجها الشياطين من مرج من المروج أو من البحر وكانت ذوات أجنحة . فقعد يوماً بعد الظهر واستعرضها فلم يزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وذلك قوله { حتى توارت } أي الشمس بدليل ذكر العشي { بالحجاب } حجاب الأفق . وقيل : حتى توارت الخيل بحجاب الليل وغفل عن العصر ، أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي فقال { إني أحببت حب الخير } وهو متضمن معنى فعل يتعدى بعن أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي وجعلت حبها مغنياً عن ذكر ربي فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقرباً لله وذلك قوله { فطفق مسحاً } قال جار الله : أي يمسح بالسيف سوقها وأعناقها فقلب لأمن الإلباس كقولهم « عرضت الناقة على الحوض » قال الراوي : قربها إلا مائة فما في ايدي الناس من الجياد فمن نسلها ، وحين عقرها أبدله الله خيراً منها وهي الريح تجري بأمره . وقيل : الضمير في { ردّوها } للشمس والخطاب للملائكة تضرع إلى الله فرد الله عليه الشمس فصلى العصر . ومحل القدح في هذه الرواية هو نسبة سليمان إلى حب الدنيا حتى غفل عن الصلاة وضم بعضهم إلى ذلك أن قطع أعناق الخيل وعرقبة أرجلها منهي عنه . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله . وأجيب بأنه فعل ذلك لأنها منعته عن الصلاة أو لأنه ذبحها للفقراء والمساكين ، قال الزجاج : لم يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له وما أباح الله فليس بمنهي . قال الإمام فخر الدين الرازي : إن الكفار لما بلغوا في الإيذاء والسفاهة إلى حيث قالوا { ربنا عجل لنا قطنا } قال لنبيه : اصبر يا محمد على ما يقولون وذاكر عبدنا داود . ثم ذكر عقيبه قصة سليمان ، وهذا الكلام إنما يكون لائقاً لو قلنا إن سليمان أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله وأعرض عن الشهوات ، فاما لو كان المقصود أنه أقدم على الكبيرة لم يكن ذكره مناسباً .

هذا تمام الكلام في الواقعة الأولى .
وأما الثانية وإليها الإشارة بقوله . { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً } فالمحققون يروونه على وجوه : أحدها : أن سليمان ولد له ابن بعد أن ملك عشرين سنة فقالت الشياطين : إن عاش لم نتخلص من البلاء والتسخير فسبيلنا أن نقتله أو نخبله ، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب أن يحفظه ويغذوه خوفاً من مضرة الشياطين ، فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتاً فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه فاستغفر ربه وأناب . وثانيها روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن سليمان قال ذات ليلة : لأطوفن الليلة على سبعين أمرأة . وفي رواية على مائة وفي رواية على ألف- كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجميعن فذلك قوله { ولقد فتنا سليمان » وثالثها قال أبو مسلم : مرض سليمان مرضاً شديداً امتحنه الله به حتى صار جسداً على كرسيه ملقي كما جاء في الحديث « لحم على وضم وجسد بلا روح » لأن الجسد يطلق في الأكثر على ما لا روح له . { ثم أناب } أي رجع إلى حالة الصحة . والمشهور عند الجمهور أن الجسد الملقى على كرسيه كان شيطاناً جلس على سرير ملكه اربعين يوماً ، وذلك أن ملكه كان في خاتمة فأخذ شيطاناً يقال له آصف وقال : كيف تفتنون الناس؟ قال : أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه . وعن علي رض1ي الله عنه أنه قال : بينما سليمان جالس على شاطئ البحر وهو يعبث بخاتمه إذ سقط في البحر . وقيل : إنه وطئ امرأة في الحيض فذلك ذنبه . وقال في الكشاف : وغيره حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر وأن بها ملكاً عظيم الشأن . فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها جنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهاً ، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها . فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة ابيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لها كعادتهن في ملكه ، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، فوضعه عندها يوماً فأتاها الشيطان صاحب البحر وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس .

واسمه صخر - على صورة سليمان فقال : يا أمينة أعطيني خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس . وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال : أنا سليمان . حثوا عليه التراب وسبوه فمكث على ذلك أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته . وكان ذلك الشيطان يقضي بين الناس ويتمكن من جميع ملكه إلا نساءه . وقيل : من جميع ملكه ونسائه وما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة ، فلما أراد الله أن يرد الملك إليه أنكر علماء بني إسرائيل قضية قضاها الشيطان فأحضروا التةوراة ، فلما قرؤها فرّ الشيطان وألقى الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فصادها صائد ووهبها لسليمان وأعطاها على أجره عمله يوماً فأخرج من بطنها الخاتم { ثم أناب } أي رجع على ملكه أو ثاب ووقع ساجداً . ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تابوت وسده بالنحاس وألقاه في البحر . والعلماء المتقنون أبوا قبول هذه الرواية وقالوا : إنها من اباطيل اليهود ، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل وإلا ارتفع الأمان عن الشرائع والأديان ، وكيف يسلطهم الله على آحاد عباده فضلاً عن أنبيائه حتى يغيروا أحكامهم ويفجروا بنسائهم . وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع والسجود للصورة إذا كان بغير إذنه فلا عتب عليه .
وحكى الثعلبي هذه القصة بوجه أقرب إلى القبول وهو أن سليمان لما افتتن بأخذ التمثال في بيته سقط الخاتم من يده فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط ، فلما رآه لا يثبت في اليد ايقن بالفتنة فقال له آصف : إنك لمفتون فتب إلى الله واشتغل بالعبادة وأنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك . فقام آصف في ملكه أربعة عشر يوماً وهو الجسد الذي ألقي على كرسيه ، فردّ الله إليه ملكه وأثبت الخاتم في يده . وعن سعيد بن السميب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه : يا سليمان احتجبت عن عبادي وما أنصفت مظلوماً عن ظالم ، ثم ذكر القصة وأخذ الشيطان الخاتم ورجوعه إليه . ثم حكى الله تعالى أن سليمان قال { رب اغفر لي وهب لي ملكاً } قدم المغفرة على طلب الملك كما هو دأب الصالحين تقديماً لأمر الدين على أمر الدنيا ، ولأن الاستغفار يجر الرزق فإن الإنسان قلما ينفك عن ترك الأولى فإذا زال عنه شؤم ذلك ببركة الاستغفار انفتح عليه أبواب الخيرات . والذين حملوا الفتنة على صدور الذنب عنه فوجوب الاستغفار عندهم واضح وحملوا قوله { لا ينبغي لأحد من بعدي } على أنه سأل ملكاً لا يقدر الشيطان على أن تقوم مقامه .

والأوّلون ذهبوا إلى أنه لم يقل ذلك حسداً وإنما قصد به أن يكون معجزة له ، ومن شرط المعجز أن لا يقدر غيره على معارضته ولا سيما أمته الذين بعث إليهم ولهذا قال بعضهم : أراد غيري ممن بعثت إليهم ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة . وحقيقة لا ينبغي لا ينفعل من بغيت الشيء طلبته أي لا يصير مطلوباً لأنه سماوي فوق طوق البشر ، أو قصد أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق فإذا كان ملكه آية كان ثوابه على الصبر عنه غاية ونهاية ، أو أراد أن يظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى ، وأن ملك سليمان إذا كان عرضة للفناء فالأولى بالعاقل أن يشتغل بالعبودية ولا يلتفت إلى الدنيا وما فيها . وقيل : إنه لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا زائلة منتقلة إلى الغير بإرث ونحوه فطلب ملكاً لا يتصور انتقاله إلى الغير وهو ملك الدين والحكمة . وقال أهل البيان : لم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول لفلان : ما ليس لأحد من الفضل والمال . وربما كان للناس أمثال ذلك . والأقوى هو الأوّل بدليل قوله عقيبه { فسخرنا له الريح } { والشياطين } . ولا ريب أن هذا معجزة وملك عجيب دال على نبوّته ويؤيده ما جاء في الحديث « أردت أن اربطه - يعني الشيطان - على سارية من سواري المسجد إلا أني تذكرت دعوة أخي سليمان » والضمير في { بأمره } لسليمان . وقيل : لله . والرخاء الرخوة اللينة ولا ينافي هذا وصفها بالعصوف في الأنبياء فلعلها تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، أو هي طيبة في نفسها ولكنها عاصفة بالإضافة إلى الرياح المعهودة . ومعنى أصاب قصد واراد من إصابة السهم . وقوله { والشياطين } معطوف على { الريح } وقوله { كل بناء وغواص } بدل الكل من الشياطين . كانوا يبنون لأجله الأبنية الرفيعة ويستخرجون اللؤلؤ من البحر وهو أوّل من استخراج الدر من البحر { وآخرين } عطف على الشياطين أو على كل داخل في حكم البدل ، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد . والصفد القيد والعطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول عليّ رضي الله عنه :
من برك فقد أسرك ... ومن جفاك فقد أطلقك
وقيل : حقيقته التفويض على الخير والشر . قال الجبائي : إن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن سليمان ويشاهده الناس . ثم إنه لما توفي سليمان أمات الله ذلك الجنس وخلق نوعاً آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة . قلت : هذا إخبار بالغيب إلا أن تكون رواية صحيحة . ولم لا يجوز أن تكون أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التمزق والتفرق .

{ هذا عطاؤنا } أي قلنا لسيلمان هذا الملك عطاؤنا والإضافة للتعظيم . وقوله : { بغير حساب } يتعلق بالعطاء يعني أنه جم كثير لا يدخل تحت الضبط والحصر فأعط منه ما شئت أو أمسك مفوّضاً إليك زمام التصرف فيه . ويجوز أن يتعلق بالأمرين أي ليس عليك في ذلك حرج ولا تحاسب على ما تعطي وتمنع يوم القيامة . عن الحسن : أن الله لم يعط أحداً عطية إلا جعل عليه فيها حساباً سوى سليمان فإنه أعطاته عطية هنيئة إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة . ويحتمل أن يراد هذا التسخير تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم الإطلاق ، أو أمسك منشئت منهم بالوثاق ، فأنت في سعة من ذلك لا تحاسب في إطلاق من أطلقت وحبس من حبست وحين فرغ من تعداد النعم الدنيوية أردفه بما أنعم به عليه في الآخرة قائلاً : { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } كما في قصة داود وفيه أن ثوابه كفء ثواب أبيه كما أن سيرته سيرة أبيه .
التأويل بصاد صمديته في الأزل وصانعيته في الوسط وصبوريته إلى الأبد . أقسم بالقرآن ذي الذكر لأن القرآن قانون معالجات القلوب وأعظم مرض القلب من نسيان الله فأعظم علاجه ذكر الله . ثم أشار غلى انحراف مزاج الكفار بمرض نسيان الله من اللين والسلامة إلىلغلظ والقساوة ، ومن التواضع إلى التكبر ، ومن الوفاق إلى الخلاف ، ومن التصديق إلى التكذيب ، ومن التوحيد غلى تكثير الآلهة . وفي قوله { واصبروا على آلهتكم } إشارة إلى أن الكفار إذا تواصوا فيما بينهم بالصير والثبات فالمؤمنون أولى بالثبات على قدم الصدق في طلب المحبوب الحقيقي { إن هذا لشيء يراد } في الأزل من المقبول والمردود . { بل لما يذوقوا عذاب } لأنهم في النوم فإذا ماتوا انتبهوا وأحسوا بالألم فعاينوا الأمر حين لا ينفع العيان ، ويزول الشك في يوم لا يجدي البرهان . { عجل لنا قطنا } النفوس الخبيثة تميل بطبعها إلى السفليات العاجلة كما أن النفوس الكريمة تميل بطبعها إلى العلويات الباقية ، ولكل من الصنفين جذبة بالخاصية إلى شكله كجذب المغناطيس الحديد . { له تسع وتسعون نعجة } هن آثار فيوض الصفات الربانية بحسب الأسماء التسعة والتسعين ، فلكل منها مظهر في عالم الملك والخلق { ولي نعجة واحدة } هو ذات الله وحده { فقال أكفلنيها } أي صيرني أجمع بين الله وبين ما سواه . ثم ههنا أسار كثيرة تفهمها إن شاء الله . { وظن داود أنما فتناه } امتحناه بالجمع بين الدين والدنيا { فاستغفر } للحق { ربه } { راكعاً وأناب } إلى الله معرضاً عما سواه . وهذا التأويل مما خطر ببالي أرجو أن يكون مضاهياً للحق : { إنا جعلناك خليفة } فيه أن الخلافة عطاء من الله وأنها مخصوصة بالإنسان خلق مستعدّاً لها بالقوة ، وفيه أن الجعلية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة .

{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] { فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] ووجه الخلافة هو أن الروح الإنساني أوّل فيض بذاته وصفاته فذاته من ذات الله بلا واسطة ، وصفاته من صفاته بلا واسطة فخلق لخليفة منزلاً صالحاً وهو قالبه ، وأعد له عرشاً هو القلب ليكون محل استوائه ، ونصب له خادماً وهو النفس ، فلو بقي الإنسان على فطرة الله لكان روحه مستفيضاً من الله تعالى فائضاً لخلافة الحق على عرش القلب ، والقلب فائض لخلافة الروح على خادمه النفس ، والنفس فائضه لخلافة القلب على القالب ، والقالب فائض لخلافة النفس على الدنيا ، وهي أرض الله فلا يجري شيء من الأمور إلا على نهج الحق . { ووهبنا لداود } الروح { سليمان } اقلب { إذ عرض عليه بالعشي } وهو بعد زوال شمس التجلي { الصافنات الجياد } وهي مركب الصفات البشرية . وفي قوله { فطفق مسحاً } إشارة إلى أن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عنه لحظة يلزمك أن تقتله بسيف « لا إله إلا الله » وإليه الإشارة بقوله ثانياً { ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه } صدره شيئاً من الشهوات الجسدانية فافتتن به فتاب ورجع إلى الحضرة . فإن قيل : قوله { لا ينبغي لأحد من بعدي } هل يتناول نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : يتناوله بالصورة لا بالمعنى : فإن الذي كان مطلوب سليمان من تزكية النفس عن محبة الدنيا مع القدرة عليها ، ومن تحلية القلوب بعلوّ الهمة وبذل المال والجاه وإفشاء العدل والنصفة وغير ذلك كان حاصلاً للنبي صلى الله عليه وسلم من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتنان به عزة ودلالاً ولهذا قال في حديث تسلطه على الشيطان « ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته » وكان يعرض عليه مقاليد الخزائن فيقول : « الفقر فخري » على أن صورة الملك أيضاً مما سيحصل لبعض أمته كما قال « وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها » .

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

القراآت : { مسني الشيطان } بسكون الياء : حمزة . بنصب بضمتين : يزيد ، وقرأ يعقوب بفتحتين ، وقرأ هبيرة بالفتح والسكون . والباقون : باضم والسكون { بخالصة ذكري } على الإضافة : أبو جعفر ونافع وهشام { عبدنا إبراهيم } على التوحيد : ابن كثير وعلى هذا يكون إبراهيم وحده عطف بيان { ما يوعدون } على الغيبة : ابن كثير وأبو عمرو { وغساق } بالتشديد حيث كان : حمزة وعليّ وخلف وحفص { أخر } بضم الهمزة على الجمع : أبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل . والباقون : بالمد على التوحيد . { الأشرار } بالإمالة والتفخيم مثل { الأبرار } غير ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { الأشرار } بالإمالة { اتخذناهم } موصولة والابتداء بكسر الألف : ابو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف . والآخرون : بفتح الهمزة على الاستفهام { ما كان لي } بفتح الياء : حفص { إلا إنما } بكسر الهمزة على الحكاية : يزيد { لعنتي إلى } بفتح الياء : ابو جعفر ونافع { فالحق } بالرفع : حمزة وخلف وعاصم غير المفضل وهبيرة ويعقوب غير رويس .
الوقوف : { أيوب } م لا إذا جعل « إذ » بدلاً { وعذاب } 5 ط لتقدير القول أي فأرسلنا إليه جبريل فقال له اركض { برجلك } ج لأن هذا مبتدأ مع أه من تمام القول { وشراب } 5 { الألباب } 5 { ولا تحنث } ط { صابراً } ط { العبد } ط { أوّاب } 5 { والأبصار } 5 { الدار } 5 ج للآية مع العطف { الأخيار } 5 { وذا الكفل } ط { من الأخيار } 5 { ذكر } 5 ط { مآب } 5 لا لأن { جنات } بدل أو عطف بيان . { الأبواب } 5 ج لاحتمال أن عامل { متكئين } محذوف أي يتنعمون متكئين وإن جعل حالاً من { مفتحة } فهي مقدّرة لأن الاتكاء لا يكون في حال فتح الأبواب { وشراب } 5 { أتراب } 5 { الحساب } 5 { من نفاد } 5ج { هذا } ط أي هذا بيان جزاء المتقين أو الأمر هذا { مآب } 5 لا { جهنم } ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً { يصلونها } ج { المهاد } 5 { هذا } لا لأن خبره { حميم } فقوله { فليذوقوه } اعتراض { وغساق } 5 لا للعطف { أزواج } 5 ط { معكم } ج لاتصال المعنى مع الابتداء بما في معنى الدعاء { بهم } 5 { النار } ط { بكم } ط { لنا } ج { القرار } 5 { النار } 5 { الأشرار } 5 ط لمن قرأ بكسر الهمزة لاحتمال إضمار همزة الاستفهام واحتمال كونها خبرية صفة أو حالاً ومن صرح بالاستفهام فوقفه مطلق { الأبصار } 5 { النار } 5 { القهار } 5 ج لأن ما بعده يصلح بدلاً وخبراً لمحذوف أي هو الغفار { عظيم } 5 لا لأن ما بعده وصف { معرضون } 5 { يختصمون } 5 { مبين } 5 { طين } 5 { ساجدين } 5 { أجمعون } 5 لا { إبليس } ط { الكافروين } 5 { بيديّ } ط للاستفهام { العالين } 5 { منه } ط لأن ما بعده جواب سؤال كأنه علل الخيرية { طين } 5 { رجيم } 5 ج والوصل أولى لاتصال لعنتي به { الدين } 5 { يبعثون } 5 { المنظرين } 5 لا لتعلق إلى { المعلوم } 5 { أجميعن } 5 للاستثناء { المخلصين } 5 { فالحق } ز على قراءة الرفع أي فهذا الحق مع اتحاد المقول { أقول } ج لاحتمال أن ما بعده قسم مستأنف أو بدل من قوله { والحق } .

{ أجمعين } 5 ج { المتكلفين } 5 { للعالمين } 5 { حين } 5 .
التفسير : وجه النظم كأنه تعالى يقول : يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر مالاً أو جاهاً من داود وسليمان ، ولم يكن أكثر بلاء ومحنة من أيوب ، ومع ذلك لم يبق حالهما وحاله على نسق واحد ، فالصبر مفتاح الفرج . { وأيوب } عطف بيان و « إذ » معمول فعل آخر أو بدل اشتمال من أيوب أي زمان بلائه وكان معاصراً ليعقوب ، وامرأته ليا بنت يعقوب ، ونداؤه دعاؤه والجار محذوف أي دعاه بأني مسني على الحكاية وإلا لقال بأنه مسه والنصب والنصيب كالرشد والرشد ، والنصب بالفتح والسكون على أصل المصدر ، وضمة الصاد لا تباع النون كقفل وقفل . ومعنى الكل التعب والمشقة . قيل : الضر في البدن والعذاب في ذهاب المال والأهل وللناس في بلائه قولان : الأول أن الذي نزل به كان من الشيطان وقد مرّ تقريره في « الأنبياء » ومجمله ما روي أن إبليس سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال : نعم ، عبدي أيوب . قال : فسلطني على ماله فكان يجيئه ويقول : هلك من مالك كذا فيقول : الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله . فقال : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده . فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية فجاء وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال : يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده فأذن فيه ، فنفخ في جلد ايوب وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سبع سنين أو ثمان عشرة ، وصار بحيث استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته وقال : إن استعاذ بي زوجك خلصته من هذا البلاء فاشارت غلى أيوب بذلك فغضب لذلك - أو لوجوه أخر سبق ذكرها في سورة الأنبياء - وحلف إن عافه الله ليجلدنها مائة جلدة وعند ذلك دعا ربه شاكياً إليه لأمنه كقول يعقوب { إنما اشكو بثي وحزني إلى الله } [ يوسف : 86 ] فأجاب دعاءه وأوحى إليه { أركض } أي اضرب { برجلك } الأرض . عن قتادة : هي أرض الجابية من قرى الشام . فأظهر الله تعالى من تحت رجله عيناً باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه وردّ عليه أهله وماله .
القول الثاني : إن الشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآفات وإلا لوقع في العالم مفاسد ولم يدع صالحاً إلا نكبه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة .

فالمراد بمس الشيطان هو الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب وساوسه من تعظيم ما نزل به من البلاء وإغرائه على الجزع والقنوط من روح الله إلى غير ذلك مما مر ذكره في سورة الأنبياء . ولناصر القول الأول أن يقول : سلمنا أن الشيطان باستقلاله لا يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر بعد الالتماس والتسليط؟ . ولنعد إلى تفسير ما يختص بالمقام . قوله { مغتسل بارد } أي هذا مكان يغتسل فيه أي بمائة ويشرب منه ، والظاهر أنها كانت عيناً واحدة عذبة باردة ، وروى بعضهم أنه نبعت عينان ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها فبرأ ظاهره ، وضرب رجله اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها فزال ما في بطنه من القروح . وزعم أن تقدير الكلام هذا مغتسل وشراب بارد . وقوله { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم } قيل : أحياهم الله بأعيانهم وزاد مثلهم من أولاده . وقيل : من أولاد أولاده . وقيل : كانوا قد غابوا عنه وتفرقوا فجمع الله شملهم . وقيل : كانوا مرضى فشفاهم الله والأول اصح . وقوله { رحمة منا وذكرى } مفعول لهما فكانت الهبة رحمة له وتذكيراً لذوي العقول حتى لو ابتلوا بما ابتلي به صبروا كما صبر فيفوزوا كما فاز . وإنما لم يقل ههنا { رحمة من عندنا } [ الأنبياء : 84 ] مع أنه أبلغ اكتفاء بما مر في سورة الأنبياء وفي قوله { وذكرى لأولي الألباب } مع قوله في « الأنبياء » { وذكرى للعابدين } [ الآية : 84 ] إشارة إلى أن ذا اللب هو الذي يعبد الله . وتخصص كل من السورتين بما خص لرعاية الفاصلة قوله { وخذ } معطوف على { اركض } والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو سنبلة . قال مجاهد : هو لأيوب خاصة . وعن قتادة : هو عام في هذه الأمة . والصحيح أنه باق في المريض والمعذور لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمخدج وقد زنى بأمة فقال : خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة حلل الله يمين أيوب بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها . ومعنى { وجدناه صابراً } علمنا منه الصبر .
وههنا نكتة ذكرها بعض أرباب القلوب وهي أنه لما نزل في حق سليمان { نعم العبد } تارة وفي حق أيوب أخرى ، اغتم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : هذا تشريف عظيم فإن كان سببه اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان فنحن لا نقدر عليه ، وإن كان سببه تحمل بلاء مثل بلاء أيوب فنحن لا نطيقه ، فكيف السبيل إلى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله { فنعم المولى ونعم النصير } [ الحج : 78 ] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى ، فإن كان منك الفضول فمني الفضل ، وإن كان منك التقصير فمني النصرة والتوفيق .

قلت : وصف أنبياء سائر الأمم بقوله { نعم العبد } ووصف هذه الأمة بقوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] فلا تشريف فوق هذا ثم أجمل ذكر طائفة من مشاهير الأنبياء . ومعنى { أولي الأيدي والأبصار } أولي العمل والعلم لأن اليد آلة لأكثر الأعمال ، والبصر آلة لأقوى الإِدراكات ، فحسن التعبير عن العمل باليد ، وعن الإدراك بالبصر ، وفيه تعريض بأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي العقول والرعفان فهم في حكم الزمنى والعميان ، ولولا قرينة الأبصار لكان يحتمل أن الأيدي جمع اليد النعمة . قوله { أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } الخالصة صفة أو مصدر كالعاقبة ، والدار ظرف فهي الدنيا ، أو مفعول به فهي الآخرة . والمعنى جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكراهم الجنة بحيث لا يشوبون ذكرها بشيء من هموم الدنيا ، أو هي تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها ، أو بسبب خلوص ذكرى الجنة ، أو بما خلص من ذكراها ، أو جعلناهم مختصين بخلة صافية عن المنقصات وهي الثناء الحسن في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم . و { المصطفين } جمع مصطفى وأصله مصطفين لأنه في حالة الجر بالياء قلبت الياء المتحركة ألفاً ثم حذفت ، أراد اخترناهم من بين أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في ميت أو موت { إسماعيل واليسع وذا الكفل } وقد مر ذكرهم في سورة الأنبياء . وحين تمم ذكر الصالحين وما لقي كل منهم من أنواع الابتلاء تثبيتاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو باب من أبواب التنزيل ونوع من أنواع القرآن ، أراد أن يذكر على عقيبه باباً آخر وهو ذكر جزاء المتقين والطاغين قال { هذا ذكر } ثم قال { وإن للمتقين } كما يقول المصنف : إذا فرغ من فصل من كتابه هذا باب ثم يشرع في باب آخر . ويحتمل أن يكون من تتمة صفات الأنبياء أي هذا الذي قصصنا عليك من أحوال هؤلاء الأنبياء شرف وذكر جميل يذكرون به أبداً . قوله { مفتحة } حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل . قال الزجاج { الأبواب } فاعل { مفتحة } والعائد محذوف أي الأبواب منها . وقال غيره . في { مفتحة } ضمير الجنات { والأبواب } بدل الاشتمال من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب نظيره في بدل البعض « ضرب زيد اليد والرجل » فكان اللام عوضاً من الضمير الراجع . والمعنى أن الملائكة الموكلين بالجنات إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له ابوابها وحيوه بالسلام فلا يحتاجون إلى تحصيل مفاتيح ومعاناة الفتح . وقيل : أراد به وصف تلك المساكين بالسعة وجولان الطرف فيها من غير حائل . وقوله { متكئين } حال مقدرة متداخلة كما مر أو حال بعد حال أو عامله مؤخر وهو { يدعون } أي يتحكمون في ثمارها وشرابها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم .

وقيل : يتمنون وقيل : يسألون . قال المفسرون : أراد وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول . وحين بين أمر المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح . وقاصرات الطرف قد مر في « الصافات » أنهن اللواتي قصرن الطرف عن الالتفات إلى غير أزواجهن . والأتراب جمع ترب وهي اللدة . واشتقاقها قيل من اللعب بالتراب ، وقيل لأن التراب مسهن في وقت واحد . والسبب في اعتبار هذا الوصف أن التحاب بين الأقران أثبت . وقيل : هن وأزواجهن واحدة في الأسنان . وقيل : اراد أنهن شواب لا عجوز ولا صبية . ويروى أنهن بنات ثلاث وثلاثين . ومعنى { ليوم الحساب } قيل : لأجل الحساب لأن الحساب على الوصول إلى جزاء العمل . والظاهر أن اللام للوقت أي ما وعدتم تعطونه في يوم الحساب . { إن هذا لرزقنا ماله من نفاد } انقطاع ونهاية ولا مزيد فوق ذلك فتمام النعم بدوامها . ثم بين أن حال الطاغين مضادّة لحال المتقين وأكثر المفسرين حملوا الطغيان ههنا على الكفر لأنه تعالى يحكي عنهم أنهم قالوا اتخذناهم سخرياً ، والفاسق لا يتخذ المؤمن هزواً لأن الطاغي اسم ذم ، والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر ، ويؤيده قول ابن عباس : المعنى إن الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مصير . وحمله الجبائي على أصحاب الكبائر من أهل الإيمان وغيرهم لأن كل من تجاوز عن تكاليف الله فقد طغا ، ومنه قوله تعالى { إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى } [ العلق : 67 ] والمهاد الفراش وقد مر مراراً . وقوله { هذا } قد مر بعض إعرابه في الوقوف ، ويحتمل أن يراد العذاب هذا ثم ابتدأ فقال هو حميم أو منه { حميم } ومنه { غساق } أو { هذا فليذوقوه } معناه ليذوقوا هذا فليذوقوه كقوله { فإِياي فارهبون } [ النحل : 51 ] وقيل : { حميم } مبتدأ و { هذا } خبره . والغساق بالتخفيف والتشديد ما يغسق من صديد أهل النار . يقال : غسقت العين إذا سال دمعها . وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل الليل الغاسق لأنه أبرد من النهار . فالحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده . وقال الزجاج : إنه المنتن لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق يؤيده قول ابن عمر : هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه . وقال كعب : هو عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي سم من عقرب وحية . وعن الحسن : هو عذاب لا يعلمه إلا الله . إن الناس أخفوا الله طاعة فأخفى لهم ثواباً في قوله { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة : { وآخر من شكله } أي ومذوقات أخر أو عذاب أو مذوق آخر من جنس هذا المذوق . و { أزواج } أي أجناس أو مقترنات صفة الآخر لأنه جاز أن يكن مختلفات أو صفة للثلاثة المذكورة وهي حميم وغساق وشيء آخر من شكله ، والمجموع خبر هذا أو خبر هو .

وحين وصف مسكن الطاغين ومأكولهم ومشروبهم حكى أحوالهم مع الذين كانوا يعدونهم أحباءهم في الدنيا ثم مع الذين كانوا يعدونهم أعداءهم . أما الأوّل فقوله { هذا } اي يقول الطاغون بعضهم مع بعض وذلك إذا دخلت أمة ثم دخل آخرون . والفوج الأوّل الرؤساء والثاني الأتباع . وقيل : الأول إبليس وبنوه والثاني أبناء آدم هذا { فوج } اي جمع كثيف دخل النار في صحبتكم . والاقتحام الدخول في الشدة أرادوا أن أتباعهم اقتحموا معهم العذاب كما اقتحموا معهم الضلال . وقوله { لا مرحباً بهم } دعاء منهم على أتباعهم و { مرحباً } نصب على أنه مفعول به أو مصدر أي أتيت رحباً لا ضيقاً ، أو رحبت بلادك رحباً فإذا دخل عليه لا صار دعاء السوء وبهم بيان للمدعو عيلهم . وقوله { إنهم صالوا النار } تعليل لاستيجابهم اللعن . قيل : إنما قالوا ذلك ولم يصدر من الأتباع ذنب في حق من قبلهم لأن النار تكون مملوءة منهم ، أو لأن عذابهم يضاعف بسببهم . وقيل : هو إخبار لا دعاء أي وقد وردوا مورداً لا رحب فيه ولا سعة . وقيل { هذا فوج مقتحم معكم } كلام الخزنة لرؤساء الكفرة فما بين أتباعهم . وقيل : هذا كله كلام الخزنة { قالوا } أي الأتباع . { بل أنتم لا مرحباً بكم } أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم { أنتم قدمتموه لنا } والضمير لما هم فيه من العذاب أو الصلي أي كنتم السبب في العمل الذي هو جزاؤه فجمعوا بين مجازين ، لأن الأتباع هم الذين عملوا عمل السوء لا رَؤساؤهم والعمل هو المقدّم لا جزاؤه . ومن جعل قوله { لا مرحباً } بهم من كلام الخزنة ، زعم أن تقدير الكلام هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا وتسببكم لما نحن فيه . { فبئس القرار } أي المستقر النار { قالوا } أي الفوج وهو كالبدل من { قالوا } الأوّل والضعف المضاعف كما مر في « الأعراف » وأما الثاني فقوله { ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدّهم من الأشرار } أي في اعتقادنا لأن دينهم على خلاف ديننا ، أو أرادوا أنهم أراذل لا خير فيهم يعنون فقراء المسلمين . وعن بعضهم أن القائلين صناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما والرجال عمار وبلال وصهيب وأمثالهم . من قرأ { أتخذناهم } بفتح الهمزة فعلى أنه إنكار منهم على أنفسهم وتأنيب لها بالاستسخار منهم ، وكذا فيمن قرأ { اتخذناهم } بكسر الهمزة ويقدر همزة الاستفهام محذوفة ، ومن جعلها صفة أو حالاً فلا إشكال وحينئذ يتصل { أم زاغت } بقوله { ما لنا لا نرى } أي الرجال الموصوفين في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا وخفي علينا مكانهم فلا نراهم وهم فيها . فأم منقطعة وكذا إن اتصل بقوله { اتخذناهم } على الاستفهام لأن الأول للإِنكار ، والثاني للاستخبار .

ويجوز أن يكون « أم » متصلة وكلاهما للإِنكار . ومعنى زيغ الأبصار ازدراؤهم وتحقيرهم يؤيده قول الحسن ، كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخرياً وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم واللام في الأبصار عوض من الضمير أي أبصارنا { إن ذلك } الذي حكينا عنهم { لحق } لا بد لهم من وقوعه لأنهم مالوا إلى عالم التضاد فيحشرون كذلك . ثم بين ما هو فقال هو { تخاصم أهل النار } لأن التلاعن والتشاتم نوع من أنواع الخصومة .
واعلم أنه سبحانه لما بدأ في أول السورة بأن محمداً يدعو إلى التوحيد وأن الكفار يستهزؤن منه وينسبونه إلى السخرية تارة وإلى الكذب أخرى . ثم ذكر طرفاً من قصص الأنبياء عليهم السلام ليعلم أن الدنيا دار تكليف وبلاء لا دار إقامة وبقاء . ثم عقبه بشرح نعيم الأبرار وعقاب الأشرار ، عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أوّل السورة وهي صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق ما يدعو إليه من التوحيد والإخلاص فقال { قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد } من جميع الوجوه { القهار } لما دونه ثم أردف القهر باللطف والتربية قائلاً { رب السموات والأرض وما بينهما } ثم أكد صفتي القهر واللطف بقوله { العزيز الغفار } فمن عزته أدخل أهل الاستكبار النار ولمغفرته أعدّ الجنة لأهل الاستغفار . قوله { قل هو نبأ عظيم } أي القول بأن الله واحد نبأ عظيم أو القول بالنبوّة أو بإثبات الحشر والقيامة ، وذلك لأن هذه المطالب كانت مذكورة في أوّل السورة ولأجلها سيق الكلام منجراً إلى ههنا . ويحتمل أن يراد { كتاب أنزلناه } فيه نبأ عظيم وهؤلاء الأقوام أعرضوا عن كل من هذه الأمور . ثم بين أنه حاصل من قبل الوحي بقوله { ما كان لي من علم بالملأ الأعلى } وهم الملائكة { إذ يختصمون } أي يتقاولون فيما بينهم بالوحي . والظرف متعلق بمحذوف أي بكلامهم وقت اختصامهم ، شبه التقاول بالتخاصم من حيث إن في كل منهما سؤالاً وجواباً والمشابهة علة لجواز المجاز . ثم صرح بما عليه مدار الوحي قائلاً { إن يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين } أي ما يوحى إليّ إلا هذا وهو إني نذير كامل في باب التبليغ ، ويؤيده قراءة كسر { إنما } . وقيل : إن الجار محذوف أي لم يوح إليّ إلا لأن أنذر ولا أقصر . روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم « أتاني الليل آت من ربي وفي رواية ربي في أحسن صورة فقال لي : يا محمد . قلت : لبيك ربي وسعديك . قال : هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أعلم . قال : فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض . قال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : نعم ، في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات المكروهات أي في البرد الشديد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه »

الحديث . قال : والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام .
واعلم أن أشراف قريش إنما نازعوا محمداً صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد والكبر فختم الله تعالى السورة بذكر قصة آدم وما وقع فيه إبليس من الرجم واللعن حين حسد آدم واستكبر ليصير سماع القصة زاجراً للمكلفين عن هاتين الخصلتين ، فعلى هذا يكون { إذ قال } معمولاً لمحذوف اي اذكر وقت قول ربك للملائكة . وقيل : النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد . وعلى هذا فالضمير عائد إلى ما ذكره عما قريب . والمعنى ما أحكيه خبر له شأن لأنه مستفاد من الوحي . وقوله { إذ قال } بدل من { إذ يختصمون } والملأ الأعلى اصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم حين قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] كأنهم قالوا : هؤلاء فيما بينهم . ثم خاطبوا بها الله سبحانه فلا يلزم أن يكون الله تعالى من الملأ الأعلى ويثبت له مكان . أو نقول : المراد علو الرتبة والشرف فيشمل تقاول الله وملائكته . وقال جار الله : كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط . وقصة آدم مذكورة في « البقرة » وفي غيرها مشروحة . والتي في هذه السورة يوافق أكثرها ما في الحجر فلا فائدة في إعادتها فلنذكر ما يختص بالمقام قوله { خلقت بيديّ } كلام المجسمة فيه ظاهر وغيرهم حملوه على وجوه منها : أن اليد عبارة عن القدرة يقال ما لي بهذا الأمر يد أي قوّة وطاقة . ومنها أنها النعمة . ومنها أنها للتأكيد وليدل على عدم الواسطة كما مر في قوله { مما عملت أيدينا } [ يس : 71 ] وقد يقال في حق من جنى بلسانه وإن لم يكن له هذا مما كسبت يداك . والحق فيه أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيديه إلا إذا كانت عنايته مصروفة إلى ذلك العمل ، فحيث كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازاً عنها . ومنها قول أرباب التأويل إنه إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وهما يشملان جميع الصفات فلا مخلوق إلا وهو مظهر لإِحدى الصفتين ، كالملك فإنه مظهر اللطف ، وكالشيطان فإِنه مظهر القهر إلا الإنسان فإِنه مظهر لكلتيهما وبذلك استحق الخلافة ومسجودية الملائكة ولهذا جاء في الأحاديث القدسية « لا أجعل ذرّية من خلقت بيديّ كمن قلت له كن فكان » قوله { استكبرت أم كنت من العالين } أي أطلبت الكبر من غير استحقاق أم كنت ممن علوت وقفت؟ فأجاب بأنه من العالين حيث { قال أنا خير منه } وقيل : استكبرت الآن أو لم تزل منذ كنت من المتكبرين .

ومعنى الهمزة التقرير . قوله { فالحق } من قرأ بالرفع فعلى أنه خبر لما مر أو مبتدأ محذوف الخبر مثل { لعمرك } [ الحجر : 72 ] أي فالحق قسمي لأملأن والحق أقوله وهو اعتراض . ومن نصبهما فعلى أن اثاني تأكيد للأوّل ، أو على أن الأوّل للإغراء أي اتبعوا الحق وهو الله سبحانه ، أو الحق الذي هو نقيض الباطل . وقوله { منك } أي من جنسك وهم الشياطين { وممن تبعك منهم } أي من ذرّية آدم . و { أجمعين } تأكيد للتابعين والمتبوعين . ثم ختم السورة بما يدل على الاحتياط والاجتهاد في طلب هذا الدين لأن النظر إما إلى الداعي أو إلى المدعو إليه . أما الداعي فلا يسأل أجراً على ما يدعو إليه وهو القرآن أو الوحي أو النبأ ، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طمعه عن طلب المال ألبتة . وأما المدعو إليه فقوله { وما أنا من المتكلفين } الذين ينتحلون ما ليس عندهم ولا دليل لهم على وجوده ، بل العقل الصريح يشهد بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بالله أوّلاً ثم إلى تنزيهه عما لا يليق به ثانياً ، ثم إلى وصفه بنعوت الجمال والجلال ثالثاً ومن جملة ذلك التوحيد ونفي الأنداد والأضداد ، ثم أدعو إلى تعظيم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة والأنبياء رابعاً ، ثم إلى الشفقة على خلق الله خامساً ، ثم أدعو إلى الإقرار بالبعث والقيامة سادساً { ليجزي الذين أسؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } [ النجم : 31 ] فهذه أصول معتبرة في دين الإسلام يشهد بحسنها بداية العقول ويحكم ببعدها عن الباطل كل من يرجع إلى محصول وهو المراد بقوله { إن هو إلا ذكر للعالمين } عن النبي صلى الله عليه وسلم « للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول مالا يعلم » { ولتعلمن نبأه بعد حين } أي خبر حقيقة القرآن وما أدعو إليه بعد حين هو الموت لأن الناس نيام فإِذا ماتوا انتبهوا . وقيل : هو القيامة . وقيل : هو حين ظهور الإسلام ولا يخفى ما فيه من التهديد .

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

القراآت : { يرضه } بالإِشباع : ابن كثير وعلي والمفضل وعباس وإسماعيل وابن ذكوان وخلف { يرضه } باختلاس ضمة الهاء : يزيد وسهل ويعقوب ونافع وعاصم غير يحيى وحماد والمفضل وحمزة وهشام وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الباقون { يرضه } بسكون الهاء { ليضل } بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب . الباقون : بالضم { أمن هو } بتخفيف المميم : نافع وابن كثير وحمزة وأبو زيد { يا عبادي الذين } بفتح الياء : الشموني والبرجمي والوقف بالياء { إني أمرت } { فبشر عبادي } بفتح المتكلم فيهما : شجاع وأبو شعيب وعباس والشموني والبرجمي والوقف بالياء { إني أخاف } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { سالماً } بالألف : ابن كثير وأبو عمرو . والآخرون : بفتح السين واللام من غير ألف .
الوقوف : { الحكيم } 5 { له الدين } 5 ط { الخالص } ط { أولياء } 5 التقدير يقولون ولو وصل لأوهم أن ما نعبدهم أخبار من الله قاله السجاوندي . وعندي أن هذا وهم بعيد والأولى أن لا يوقف لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره { زلفى } ج لاحتمال أن خبر المبتدأ هو ما بعده { يختلفون } 5 ط { كفار } 5 { ما يشاء } ز لتعجيل التنزيه { سبحانه } ط { القهار } 5 ز { بالحق } ج لاحتمال كون ما بعده حالاً والاستئناف أفضل { والقمر } ط { مسمى } ط { الغفار } 5 { أزواج } ط { ثلاث } ط { الملك } ط { تصرفون } 5 { الكفر } ج لعطف جملتي الشرط مع وقوع العارض { لكم } ط { أخرى } ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار { تعملون } 5 { الصدور } 5 { سبيله } ط { قليلاً } ز ص والأولى والوصل أو التقدير فإنك { النار } 5 { رحمة ربه } 5 { لا يعلمون } 5 { الألباب } 5 { ربكم } ط { حسنة } ط { واسعة } ط { حساب } 5 { له الدين } 5 ط { المسلمين } 5 { عظيم } 5 { ديني } 5 لا { دونه } ط { يوم القيامة } ط { المبين } 5 { ومن تحتهم ظلل } ط { عباده } ط { فاتقون } 5 { البشرى } ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب { عباد } 5 لا { أحسنه } ط { الألباب } 5 { العذاب } 5 { في النار } 5 ج للآية مع الاستدراك مبنية لا لأن ما بعده وصف { الأنهار } ط { وعد الله } ط { الميعاد } 5 { حطاماً } ط { الألباب } 5 { من ربه } ط لحذف جواب الاستفهام من { ذكر الله } ط { مبين } 5 { ربهم } ج لأن الجملة ليست من صفة الكتاب مع العطف { ذكر الله } ط { من يشاء } ط { هاد } 5 { يوم القيامة } ط لحق الحذف كما مر { تكسبون } 5 { لا يشعرون } 5 { الدنيا } ج للام الابتداء مع العطف { أكبر } 5 { يعلمون } 5 { يتذكرون } 5 ج لاحتمال كون { قرآنا } نصباً على المدح أو على الحال المؤكدة كما يجيء { يتقون } 5 { متشاكسون } 5 { لرجل } ط { مثلاً } ط { الله } ج للإضراب مع اتفاق الجملتين { لا يعلمون } 5 { ميتون } 5 { تحتصمون } 5 .

التفسير : { تنزيل الكتاب } مبتدأ وخبره { من الله } وقيل : اصله هذا تنزيل الكتاب والجار صلة ، والأولى أقوى لأن الإِضمار خلاف الأصل ، ولأنه يلزم مجاز وهو كون التنزيل بمعنى المنزل فإن هذا إشارة إلى القرآن أو إلى جزء منه وهو هذه السورة . وفيه إبطال ما يقوله المشركون من أن محمداً يقوله من تلقاء نفسه . وفي قوله { من الله } إشارة إلى الذات المستحق للعبادة والطاعة كقولك : هذا كتاب من فلان . تعظم به شأن الكتاب : وفي قوله { العزيز } إشارة إلى أن هذا الكتاب يحق قبوله فكتاب العزيز عزيز ، وفيه أنه غني عن إرسال الكتاب والاستكمال به وإنما ينتفع به المرسل إليهم . وفي قوله { الحكيم } إشارة إلى أنه مشتمل على الفوائد الدينية والدنيوية لا على العبث والباطل . وقوله { إنا أنزلنا إليك } ليس تكراراً من وجهين : أحدهما أن التنزيل للتدريج والإنزال دفعي كما مر مراراً . والثاني أن الأول كعنوان الكتاب ، والثاني يقرر ما في الكتاب . وقوله { بالحق } يعني أن كل ما أودعنا فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق وصدق مؤيد بالبرهان العقلي وهو مطابقته للعقول الصحيحة ، وبالدليل الحسي وهو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته . ثم اشتغل ببيان بعض ما فيه من الحق وهو الإقبال على عبادته بالإخلاص والالتفات عما سواه بالكلية . أما الأول فهو قوله { فاعبد الله } أي أنت أو أمتك { مخلصاًً له الدين } وآية الإخلاص أن يكون الداعي إلى العبادة هو مجرد الأمر لا طلب مرغوب أو هرب مكروه . وأما الثاني فذلك قوله { الا لله الدين الخالص } أي واجب اختصاصه بالطاعة من غير أن يشوب ذلك دعاء أو شرك ظاهر وخفي . وخصصه قتادة فقال : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله . وحين حث على التوحيد والإخلاص ذم طريقة الشرك والتقليد فقال { والذين اتخذوا } الضمير للمشركين ولكن الموصول يحتمل أن يكون عبارة عن المشركين والخبر ما أضمر من القول ، أو قوله { إن الله يحكم بينهم } والقول المضمر حال أو بدل فلا يكون له محل كالمبدل ، وأن يكون عبارة عن الشركاء والخبر { إن الله يحكم بينهم } والقول المضمر للحال أو بدل . وتقدير الكلام على الأول : والمشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا أو المشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين أو يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم . وعلى الثاني : والشركاء الذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين أو يقولون كذا إن الله يحكم بينهم . وإذا عرفت التقادير فنقول : المراد بالأولياء ههنا الملائكة وعيسى واللات والعزى . قال ابن عباس : كانوا يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله أما الملائكة وعيسى فظاهر ، وأما الأصنام فلأنهم اعتقدوا أنها تماثيل الكواكب والأرواح السماوية أو الصالحين .

ومعنى حكم الله بينهم أنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة ، ويدخلهم مع الأصنام النار . واختلافهم أن الملائكة وعيسى موحدون وهم مشركون والأصنام يكفرون يوم القيامة بشركهم وهم يرجون نفعهم وشفاعتهم . ويجوز أن يرجع الضمير في { بينهم } غلى الفريقين المؤمن والمشرك . ولا يخفى ما في الآية من التهديد . ثم سجل عليهم بالخذلان والحرمان فقال { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } فكذبهم هو زعمهم شفاعة الأصنام وكفرانهم أنهم تركوا عبادة المنعم الحق وأقبلوا على عبادة من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً . ومن جملة كذبهم قولهم الملائكة بنات الله فلذلك نعبد صورها فاحتج على إبطال معتقدهم بقوله { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء } وهو الأفضل يعني البنين لا الأنقص وهن البنات . وقال جار الله : معناه لو اراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه وهم الملائكة ، لأن اتخاذ الولد ممتنع ، وفيه توبيخ لهم على أنهم حسبوا الاصطفاء اتخاذ الأولاد بل البنات . وأقول : إنه تعالى أراد إبطال قولهم بطريق برهان وهو صورة قياس استثنائي كقوله { لو اراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى } لأجل الاتخاذ مما يخلق ما يشاء لكنه ما اصطفى ينتج أنه لم يرد أما الشرطية فظاهرة بعد تسليم كما قدرته ، وأما الثانية فأشار إليها بقوله { سبحانه هو الله الواحد القهار } فقوله { سبحانه } إشارة إلى استحالة اصطفائه شيئاً لأجل اتخاذ الولد . وقوله { هو الله الواحد القهار } إشارة إلى البرهان على استحالة ذلك وتقريره من ثلاثة أوجه : الأول أنه هو الله وهو اسم للمعبود الواجب الذات الجامع لجميه نعوت الجمال والجلال واتخاذ الولد يدل على الحاجة والفقر حتى يقوم الولد بعده مقامه ، أو على الاستئناس والالتذاذ بوجوده أو لغير ذلك من الإغرض ، وكل ذلك ينافي الوجوب الذاتي والاستغناء المطلق . الثاني أنه هو الواحد الحقيقي كما مر ذكره مراراً . والولد إنما يحصل من جزء من أجزاء الوالد ، ومن شرطه أن يكون مماثلاً لوالده في تمام الماهية حتى تكون حقيقة الوالد حقيقة نوعية محمولة على شخصين ، ويكون تعين كل منهما معلوماً لسبب منفصل وكل ذلك ينافي التعين الذاتي والوحدة المطلقة . وأيضاً إن حصول الولد من الزوج يتوقف على الزوجة عادة وهي لا بد أن تكون من جنس الزوج فلا يكون الزوج مما ينحصر نوعه في شخصه . الثالث أنه هو القهار والمحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيقوم الولد مقامه والميت مقهور لا قاهر ، فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما اصطفى شيئاً لأن يتخذه ولداً فصح أنه لم يرد ذلك ، ونفي إرادة الاتخاذ أبلغ من نفي الاتخاذ فقد يراد ولا يتخذ لمانع كعجزه ونحوه . هذا ما وصل إليه فهمي في تفسير هذه الآية والله تعالى أعلم بأسرار كلامه .

وحين طعن في إلهية الأصنام عدد الصفات التي بها يستدل على الإلهية الحقة وهي أصناف : أولها قوله { خلق السموات والأرض بالحق } أي متلبساً بالغاية الصحيحة وقد مر مراراً . الثاني . { يكوّر الليل على النهار } والتكوير اللف واللي يقال كار العمامة على راسه وكورها . وفي التشبيه أوجه منها : أن الليل والنهار متعاقبان إذا غشي أحدهما مكان الآخر فكأنما ألبسه ولف عليه . ومنها أنه شبه كل منهما إذا غيب صاحبه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن الأبصار . ومنها أن كلاً منهما يكر على الآخر كروراً متتابعاً أكوار العمامة . وقيل : أراد أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر من قوله صلى الله عليه وسلم « نعوذ بالله من الحور بعد الكور » أي من الإدبار بعد الإقبال . الثالث { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } وقد مر مثله في « فاطر » وغيره . وحيث كان الأجل المسمى شاملاً للقيامة عقبه بقوله { الا هو العزيز الغفار } وفيه ترهيب مع ترغيب . الرابع والخامس قوله { خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها } وهما آيتان أوّلهما تشعيب الخلق الفائت للحصر من نفس آدم ، والثانية خلق حوّاء من ضلعه . ومعنى « ثم » ترتيب الأخبار لأن الأولى عادة مستمرة دون الثانية إذ لم يخلق أنثى غير حوّاء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع . وقيل : هو متعلق بواحدة في المعنى كأنه قيل : خلقكم من نفس واحدة ثم شفعها الله بزوج منها . وقيل : إنه خلق آدم وأخرج ذريته من ظهره ثم ردهم إلى مكانهم ، ثم خلق بعد ذلك حوّاء . وقيل : « ثم » قد يأتي مع الجملة دالاً على التقدّم كقوله { ثم اهتدى } [ طه : 82 ] { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] وكقوله صلى الله عليه وسلم « فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير » السادس قوله { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } أما الأزواج فهي المذكورة في سورة الأنعم من الضأن اثنين الذكر والأنثى ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين . وأما وصفها بالإنزال فقيل : أنزلها من الجنة . وقيل : أراد إنزال ما هو سبب في وجودها وهو المطر الذي به قوام النبات الذي به يعيش الحيوان . وقيل : أنزل بمعنى قضى وقسم لأن قضاياه وقسمه مكتوبة في اللوح ومن هناك ينزل . وفي هذه العبارة نوع فخامة وتعظيم لإفادتها معنى الرفعة والاعتلاء ولهذا يقال : رفعت القضية إلى الأمير وإن كان الأمير في سرب . وخصت هذه الأزواج بالذكر لكثرة منافعها من اللبن واللحم والجلد والشعر والوبر والركوب والحمل والحرث وغير ذلك . السابع قوله { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } والمقصود ذكر تخليق الحيوان على الإطلاق بعد ذكر تخليق الإنسان والأنعام ، إلا أنه غلب أولي العقل لشرفهم .

ويحتمل أن يكون ذكر الإنعام اعتراضاً حسن موقعه ذكر الأزواج بعد قوله { جعل منها زوجها } ليعلم أن كل حيوان ذو زوج وترتيب التخليق مذكور مراراً كقوله { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] إلى قوله { أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة ، أو الصلب والرحم والبطن . { ذلكم } الذي هذه أفعاله { ربكم له الملك } وقد مر إعرابه في « فاطر » . { لا إله إلا هو } إذ لا موصوف بهذه الصفات إلا هو { فأنى تصرفون } أي كيف يعدل بكم عن طريق الحق بعد هذا البيان؟ ثم بين أنه غني عن طاعات المطيعين وأنها لا تفيد إلا أنفسهم فقال { وإن تكفروا فإن الله غنيّ عنكم } قال المعتزلة : في قوله { ولا يرضى لعباده الكفر } دليل على أن الكفر ليس بقضائه وإلا لكان راضياً به . وأجاب الأشاعرة بأنه قد علم من اصطلاح القرآن أن العباد المضاف إلى الله أو إلى ضميره هم المؤمنون . قال { وعباد الرحمن الذين يمشون } [ الفرقان : 63 ] { عيناً يشرب بها عباد الله } [ الدهر : 6 ] فمعنى الآية : ولا يرضى لعباده المخلصين الكفر . وهذا مما لا نزاع فيه . أو نقول : سلمنا أن كفر الكافر ليس برضا الله بمعنى أنه لا يمدحه عليه ولا يترك اللوم والاعتراض إلا أنا ندعي أنه بإرادته ، وليس في الآية دليل على إبطاله . ثم بين غاية كرمه بقوله : { وإن تشكروا يرضه لكم } والسبب في كلا الحكمين ما جاء في الحديث القدسي « سبقت رحمتي غضبي » وباقي الآية مذكور مراراً مع وضوحه . ثم حكى نهاية ضعف الإنسان وتناقض آرائه بقوله { وإذا مس } إلى آخره . وقد مر نظيره أيضاً . وقيل : إن الإنسان هو الكافر الذي نقدّم ذكره . وقيل : أريد أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره . ومعنى خوّله أعطاه لا لاستجرار العوض . قال جار الله : في حقيقته وجهان : أحدهما جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال إذا كان متعهداً له حسن القيام به . ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة أي يتعهد ويتكفل أحوالهم إن رأى منهم نشاطاً في الوعظ وعظهم . والثاني أنه جعله يخول أي يفتخر كما قيل :
إن الغني طويل الذيل مياس ... ومعنى { نسي ما كان يدعو إليه } نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه ، أو نسي ربه الذي كان يتضرع إليه و « ما » بمعنى « من » . والمراد أنه نسي أن لا مفزع ولا إله سواه وعاد إلى اتخاذ الأنداد مع الله . واللام في { ليضل } لام العاقبة . ثم هدّده بقوله { تمتع بكفرك } كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وفيه أن الكافر لا يتمتع بالدنيا إلا قليلاً ثم يؤل إلى النار .

ثم أردفه بشرح حال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا إلى الله ولا اعتماد لهم إلا على فضله فقال { أمن هو قانت } قال ابن عباس : القنوت الطاعة . وقال ابن عمر : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام . والمشهور أنه الدعاء في الصلاة والقيام بما يجب عليه من الطاعة . وعن قتادة { آناء الليل } أوّله ووسطه وآخره . وفيه تنبيه على فضل قيام الليل ولا يخفى أنه كذلك لبعده عن الرياء ولمزيد الحضور وفراغ الحواس من الشواغل الخارجية ، ولأن الليل وقت الراحة فالعبادة فيه أشق على النفس فيكون ثوابه أكثر . والواو في قوله { ساجداً وقائماً } للجمع بين الصفتين . وفي قوله { يحذر الآخرة } أي عذابها { ويرجو رحمة ربه } إشارة إلى أن العابد يتقلب بين طوري القهر واللطف ، ويتردّد بين حالي القبض والبسط ولا يخفى أن في الكلام حذفاً فمن قرأ { أمن } بالتخفيف فالخبر محذوف والمعنى أمن هو مطيع كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جري ذكر الكافر قبله وبيان عدم الاستواء بين العالم والجاهل بعده . ومن قرأ بالتشديد فالمحذوف جملة استفهامية والمذكور معطوف على المبتدأ والمعنى : هذا أفضل أمن هو قانت . وقيل : الهمزة على قراءة التخفيف للنداء كما تقول : فلان لا يصلي ولا يصوم فيا من تصلي وتصوم أبشر . وقيل : المنادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله { قل هل يستوي الذين يعلمون } الآية . قال جار الله : أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون فكأنه جعل من لا يعمل غير عالم . وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون فيها ثم يفتنون بالدنيا . ويجوز أن يراد على وجه التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون . قيل نزلت في عمار بن ياسر وأمثاله ، والظاهر العموم . وفي قوله { إنما يتذكر أولو الألباب } إشارة إلى أن هذا التفات العظيم بين العالم والجاهل لا يعرفه إلا أرباب العقول كما قيل :
إنما نعرف ذا الفضل من الناس ذووه ... وقيل لبعض العلماء : إنكم تزعمون أن العلم أفضل من المال ونحن نرى العلماء مجتمعين على أبواب الملوك دون العكس؟ فأجاب بأن هذا أيضاً من فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه . وحين بين عدم الاستواء بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام . النوع الأوّل . { قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } قال أهل السنة : أمر المؤمنين أن يضموا إلى الإيمان التقوى ، وفيه دلالة على أن الإيمان يبقى مع المعصية . وقالت المعتزلة : أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم بارتكاب الكبائر بل يزيدوا في الإيمان حتى يتصفوا بصفة الاتقاء .

ثم بين للمؤمنين فائدة الاتقاء قائلاً { للذين أحسنوا } الآية . وقوله { في هذه الدنيا } إما أن يكون صلة لما قبله أو صلة لما بعده وهو قول السدي . ومعناه على الأوّل : الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة . والتنكير للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنهها . وعلى الثاني : الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة . قال جار الله : فالظرف بيان لمكان الحسنة . ويحتمل أن يقال : إنه نصب على الحال لأنه نعت للنكرة قدّم عليها . والقائلون بهذا القول فسروا الحسنة بالصحة والعافية وضم بعضهم إليها الأمن والكفاية . ورجح الأوّل بأن هذه الأمور قد تحصل للكفار على الوجه الأتم فكيف تجعل جزاء للمؤمن المتقي . وقيل : هي الثناء الجميل . وقيل : الظفر والغنيمة . وقيل : نور القلب وبهاء الوجه . وفي قوله { وأرض الله واسعة } إشارة إلى أن أسباب التقوى إن لم تتيسر في أرض وجبت الهجرة إلى أرض يتيسر ذلك فيها فيكون كقوله { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } [ النساء : 97 ] وعن أبي مسلم : هي أرض الجنة لأنه حين بين أن المتقي له الجنة وصف أرض الجنة بالسعة ترغيباً فيها كما قال { نتبوّأ من الجنة حيث نشاء } [ الزمر : 74 ] { إنما يوفّى الصابرون } على مفارقة الأوطان وتجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وتكاليفه { أجرهم بغير حساب } أي لا يحاسبون أو بغير حصر . قال جار الله : عن النبي صلى الله عليه وسلم « ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صباً » ثم تلا الآية وقال : حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل . النوع الثاني { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين } قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدّك وسادة قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله هذه الآية . وكأنه إشارة إلى الأمر المذكور في أوّل السورة { فاعبد الله مخلصاً له الدين } وقوله { وأمرت لأن أكون } ليس بتكرار لأن اللام للعلة والمأمور به محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى : أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين أي مقدّمهم وسابقهم في الدارين فنقول : فائدة التكرار أن ذكر التعليل مع نوع تأكيد . وقيل : اللام بدل من الباء أي أمرت بأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ليصح الاقتداء بي في قولي وفعلي . ولعل الإخلاص إشارة إلى عمل القلب والإسلام إلى عمل الجوارح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم ليس مثل الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلونها بل له سابقة في كل ما يأمر به وينهى عنه .

وحين بين أن الله أمره بإخلاص القلب وبأعمال الجوارح وكان الأمر يحتمل الوجوب والندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال { قل إني أخاف } الآية . وذلك أن خوف العقاب لا يترتب إلا على ترك الواجب ، وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره خائفاً من العصيان فغيره أولى . قيل : المراد به أمته . وقيل : نزلت قبل أن يغفر الله له . وقالت الأشاعرة : فيه دليل على أن صاحب الكبيرة قد يعفى عنه لأنه بين أن اللازم عند حصول المعصية خوف العقاب لا نفس العقاب . النوع الثالث { قل الله أعبد مخلصاً له ديني } وليس بتكرار لما قبله وذلك أن الأوّل للإخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة الخالصة عن الشرك الجلي والخفي ، وهذا إخبار بأن الذي أمر به فإنه قد أتى به على أكمل الوجوه ، ولهذا أخر الفعل وضم إلى مضمونه التهديد بقوله { فاعبدوا ما شئتم من دونه } النوع الرابع { قل أن الخاسرين } الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه هم { الذين خسروا أنفسهم } لوقوعها في هلكة الإخلاد بعذابها { و } خسروا { أهليهم } لأن أهلهم وأولادهم إن كانوا في النار فلا فائدة لهم منهم لأنهم محجوبون عنهم ، أو لأن كلاً منهم مشغول بهمه وإن كانوا من أهل الجنة فما أبعد ما بينهم . وقيل : أهلوهم الحور العين في الجنة لو آمنوا .
قال أهل البيان : في قوله { ألا ذلك هو الخسران المبين } تفظيع لشأنهم حيث استأنف الجملة وصدّرها بحرف التنبيه ووسط الفصل وعرف الخسران ووصفه بالمبين . قلت : التحقيق فيه أن للإنسان قوّتين يستكمل بإحداهما علماً وبالأخرى عملاً . والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالبديهيات وترتيبها على الوجه المؤدّي إلى النتائج وهو بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء ، والآلة في القسم العملي هي القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها ، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة فكل من أعطاه الله العقل والصحة والتمكين . ثم إنه لم يستفد منها معرف الحق ولا عمل الخير فإذا مات فقد فات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد ، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه وقد أشار إلى هذا بقوله { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } أي أطباق من النار من ظلل الآخرين فإن لجهنم دركات كما أن للجنة درجات . وقال المفسرون : سمى النار ظلة بغلظها وكثافتها فصارت محيطة بهم من جميع الجوانب حائلة من النظر إلى شيء آخر .

قلت : إن كانوا في كرة النار فوجهه ظاهر ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة نار الجهل والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان وقد مرّ في قوله { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } [ الأعراف : 41 ] { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } [ العنكبوت : 55 ] وقيل : الظلة ما علا الإنسان فسمى ما تحتهم بالظلة إطلاقاً لأحد الضدين على الآخر ، أو لأن التحتانية مشابهة للفوقانية في الحرارة والإحراق و { ذلك } العذاب المعد للكفار { يخوّف الله به عباده } المؤمنين وقد مر أن العباد في القرآن إذا كان مضافاً إلى ضمير الله اختص بأهل الإيمان عند أهل السنة . وعندي أنه لا مانع من التعميم ههنا . ثم عقب الوعيد بالوعد قائلاً { والذين اجتنبوا الطاغوت } وهو كل ما عبد من دون الله كما مر في آية الكرسي . وقوله { أن يعبدوها } بدل اشتمال منه { وأنابوا إلى الله } رجعوا بالكلية إلى تحصيل رضاه ، فالأول تخلية ، والثاني تحلية ، وحقيقة الإعراض عما سوى الله والإقبال على الله هي أن يعرف أنّ كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته فقير في نفسه وهو سبحانه واجب الوجود لذاته غني على الإطلاق لا حكم إلا له ولا تدبير إلا به وبأمره . { لهم البشرى } أي هم مخصوصون بالبشارة المطلقة وهي الخبر الأول الصدق الموجب للسرور بزوال المكاره وحصول الأماني ووقتها الموت { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم } [ النحل : 32 ] وعند دخول الجنة { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } [ الرعد : 2324 ] وعند لقاء الله { تحيتهم يوم يلقونه سلام } [ الأحزاب : 44 ] وسماع هذه البشارات في الدنيا على ألسنة الرسل لا يخرجها عن كونها بشارة في هذه الأوقات لأنها في الأول عامة للمكلفين مبهمة فيهم ولا تتعين إلا في هذه الأحوال . وقيل : هذه أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها أو سمعوها نسأل الله الفوز بها . قال ابن زيد : نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهلية لا إله إلا الله : زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي . وعن ابن عباس أن أبا بكر آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد وسعيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فأنزل الله { فبشر عبادي الذين يستمعون القول } أي من أبي بكر { فيتبعون أحسنه } وهو لا إله إلا الله . وقال أهل النظم : لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأقلون جعل الحكم أعم إظهاراً للرحمة فقال : كل من اختار الأحسن في كل باب كان من زمرة السعداء أهلاً للبشارة . وقال جار الله : أراد بعباده الذين يستمعون القول الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم أي هم الذين ضموا هذه الخصلة إلى تلك ، ولهذا وضع الظاهر في موضع المضمر .

وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال وأنه إذا اعترض أمران واجب وندب ، فالأولى اختيار الواجب . وكذا الكلام في المباح والندب ، فالأولى اختيار الواجب . وكذا الكلام في المباح والندب كالقصاص والعفو وكل ما هو أحوط في الدين . مثاله في الأصول القول بأن للعالم صانعاً حياً قديماً عليماً قادراً متصفاً بنعوت الجلال والإكرام وصفات الكمال والتمام ، أولى وأحوط من إنكاره . وكذا الإقرار بالبعث والجزاء أحوط من الإنكار ، وفي الفروع الصلاة المشتملة على القراءة والتشهد والتسليم وغيرها من الأركان والأبعاض المختلف فيها أجود من الصلاة الفارغة عنها أو عن بعضها . وقال العارفون : يسمعون من النفس الدعوة إلى الشهوات ، ومن الشيطان قول الباطل والغرور ، ومن الملك الإلهامات ، ومن الله ورسوله الدعاء إلى دار السلام ، فيقبلون كلام الله ورسوله والخواطر الحسنة دون غيرها . وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيستمع الحديث فيه محاسن ومساوٍ فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه . ومن الواقفين من يقف على قوله { فبشر عبادي } ويبتدئ { الذين يستمعون } وخبره { أولئك الذين هداهم } وهو إشارة إلى الفاعل { وأولئك هم أولو الألباب } إشارة إلى أن جواهر نفوسهم قابلة لفيض الهداية بخلاف من لم يكن له قابلية ذلك وهو قوله { أفمن حق عليه كلمة العذاب } قال جار الله : أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه فهي جملة شرطية دخل عليها الهمزة للإنكار ، وكررت الفاء الثانية للجزاء تأكيداً لمعنى الإنكار . ووضع من في النار موضع الضمير تصريحاً بجزائهم ، وأما الفاء الأولى فللعطف على محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره : أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق إلى آخره . وجوز أن يكون الكلام بعد المحذوف جملتين شرطية جزاؤها محذوف أيضاً ثم حملية والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار؟ قلت : فالكلام على هذا التقدير يشتمل على أربع جمل : ثنتان بعد همزتي الإنكار محذوفتان والباقيتان ظاهرتان . ومن زعم أن الفاء بعد الهمزة لمزيد الإنكار لا للعطف فمجموع الآية شرطية كما ذكرنا ، أو هي مع حملية ثم صرح بجزاء المتقين فقال { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف } وهو كالمقابل لما مر في وعيد الكفار { لهم من فوقهم ظلل } ومعنى قوله { مبنية } والله أعلم . أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها وجعلت متساوية في أسباب النزاهة من الأشجار والأنهار لا مثل أبنية الدنيا فان الفوقاني منها يكون أضعف من التحتاني وأخف ، والتحتاني قد يجري من تحتها الأنهار ، وأما الفوقاني فلا يمكن فهيا ذلك . قال حكماء الإسلام : الغرف المبنية بعضها فوق بعض هي العلوم المكتسبة المبنية على الفطريات ، وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية .
وحين وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها أراد أن يصف الدنيا بما يقتضي النفرة عنها فقدم لذلك مقدمة يستدل بها على حقية الصانع أيضاً فقال { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه } أي أدخله في الأرض حال كون ذلك الماء { ينابيع } مثل الدم في العروق .

والينابيع جمع ينبوع وهو كل ماء يخرج من الأرض . وقيل : هو الموضع الذي يخرج منه الماء كالعيون والآبار فينصب على الظرف . وقوله { ثم يخرج } على لفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن وهي إخراج النبت المختلف الألوان والأصناف والخواص بسبب الماء المخالط للأرض { ثم يهيج } أي يتم جفافه . قال الأصمعي : لأنه إذا تم جفافه جاز له أن يثور عن منابته ويذهب { ثم يجعله حطاماً } أي فتاتاً متكسراً { إن في ذلك } الذي ذكر من إنزال الماء وإخراج الزرع بسببه { لذكرى } لتذكيراً أو تنبيهاً على وجود الصانع { لأولي الألباب } وفيه أن الإنسان وإن طال عمره فلا بدّ له من الانتهاء إلى حالة اصفرار اللون وتحطم الأجزاء والأعضاء بل إلى الموت والفناء . وإنما قال ههنا { ثم يجعله حطاماً } وفي الحديد { ثم يكون حطاماً } [ الحديد : 20 ] لأن الفعل هناك مسند إلى النبات وهو قوله { أعجب الكفار نباته } وههنا مسند إلى الله من قوله { أنزل } إلى آخره . وحين بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله والإعراض عن الدنيا الفانية بيّن أن ذلك البيان لا يكمل الانتفاع به إلا إذا شرح الله صدره ونور قلبه فقال { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } ولا يخفى ما في لفظه « على » من فائدة الاستعلاء والتمكن كما مر في قوله { أولئك على هدى } [ البقرة : 5 ] والخبر محذوف كما ذكرنا في قوله { أمن هو قانت } يعني هذا الشخص المنشرح الصدر كمن طبع الله على قلبه يدل عليه ما بعده { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } أي من أجل سماع القرآن . وإنما عدى ب « من » لأن قسوة القلب تدل على خلوه من فوائد القرآن ويجوز أن يكون « من » للتعليل وذلك أن جواهر النفوس مختلفة فبعضها تكون مشرقة بنور الله يزيدها نور القرآن بهاء وضياء ، بعضها تكون مظلمة كدرة لا ينعكس نور الذكر إليها ولا تظهر صور الحق فيها كالمرآة الصدئة . ثم أكد وصف القرآن وكيفية تأثيره في النفوس بقوله { الله نزل أحسن الحديث } عن ابن عباس وابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له : حدثنا ، فنزلت الآية . والحديث كلام يتضمن الخبر عن حال متقدمة ووصفه بالحدوث من حيث النزول لا ينافي قدمه من حيث إنه كلام نفسي . ووجه كونه أحسن لفظاً ومعنى مما لا يخفى على ذي طبع فضلاً عن ذي لب . وقوله { كتاباً } بدل من أحسن أو حال موطئة .

ومعنى { متشابهاً } أنه يشبه بعضه بعضاً في الإعجاز اللفظي والمعنوي والنظم الأنيق والأسلوب العجيب والاشتمال على الغيوب وعلى أصول العلوم كما مر في أوّل « البقرة » في تفسير قوله { وإن كنتم في ريب } [ البقرة : 23 ] وقيل : هو من قوله { وأخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] فيكون صفة لبعض القرآن . وقيل : يشبه اللفظ اللفظ والمعنى مختلف . وقوله { مثاني } جميع مثنى ومثنى بمعنى مكرر لما ثنى من قصصه وأحكامه ومواعظه ، أو لأنه يثني في التلاوة فلا يورث ملالاً كقوله « ولا يخلق على كثرة الرد » وقيل : المثاني لآي القرآن كالقوافي للشعر . وقد مر بعض هذه الأقوال في مقدمات الكتاب وفي سورة الحجر في قوله { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] ومعنى اقشعرار الجلد تقبضه . قال جار الله : تركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموماً إليها الراء ليصير رباعياً دالاً على معنى زائد ، وهو تمثيل لشدة الخوف أو حقيقة سببه الخوف . قال المفسرون : أراد أنهم عند سماع آيات العذاب يخافون فتقشعر جلودهم وعند سماع آيات الرحمة والإحسان أو تذكرهم لرأفته وأن رحمته سبقت غضبه تلين جلودهم وقلوبهم . ومعنى « إلى » في قوله { إلى ذكر الله } هو أنه ضمن لأن معنى سكن واطمأن . وقال العارفون : إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإن راح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا . وقال أهل البرهان : إذا اعتبر العقل موجوداً لا أول له ولا آخر لا حين ولا جهة وقع في بادية التحير والهيبة ، وإذا اعتبر الدلائل القاطعة على وجود موجود واجب لذاته واحد في صفاته وأفعاله اطمأن قلبه إليه . قال جار الله : إنما ذكرت الجلود أوّلاً وحدها لأن الخشية تدل على القلوب لأنها محل الخشية فكأنه قيل : تقشعر جلودهم بعد خشية قلوبهم ، ثم إذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة ليناً في جلودهم . ويحتمل أن يقال : المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف ، ومحل المكاشفات هو القلب ، فلذلك اختص ذكر القلب بجانب الرجاء . ثم أشار إلى الكتاب المذكور بقوله { ذلك هدى الله } كقوله { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] .
ثم بين أن القاسية قلوبهم حالين : أما في الدنيا فالضلال العام وهو قوله { ومن يضلل الله فما له من هاد } وأما في الآخرة فقوله { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } أي شدّته والخبر محذوف وهو كمن أمن العذاب واتقاء العذاب بوجهه إما حقيقة بأن تكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، وإما أن يكون كناية عن عجزه عن الاتقاء وذلك أن الإنسان إذا وقع في نوع من العذاب فإنه يجعل يديه وقاية لوجهه الذي هو أشرف الأعضاء ، فكأنه قيل : لا يقدرون على الاتقاء إلا بالوجه ، والاتقاء بالوجه غير ممكن فلا اتقاء أصلاً { وقيل للظالمين } القائلون هم خزنة النار .

قوله { كذب الذين من قبلهم } تصوير لحال أمثالهم من الأمم الخالية بيناهم آمنون إذ أخذهم العذاب والخزي في الدنيا كالمسخ والقتل ونحوهما . ثم بين بقوله { ولقد ضربنا } إلى آخر الآيتين أن هذه البيانات بلغت في الكمال إلى حيث لا مزيد عليه . ثم ضرب من أمثال القرآن مثلاً لقبح طريقة أهل الشرك وهو رجل من المماليك قد اشترك { فيه شركاء متشاكسون } أي كلهم يسيء خلقه في استخدامه أو هم مختلفون في ذلك يأمره هذا بشيء وينهاه الآخر عن ذلك الشيء بعينه . والشكاسة سوء الخلق والاختلاف . { ورجلاً سالماً لرجل } أي خالصاً من الشرك . ومن قرأ بغير ألف فعلى حذف المضاف أي ذا سلامة وذا خلوص من الشركة . وقال جار الله : وإنما جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقي به أو سعد فان المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك . قلت : لا ريب أن الرجل أصل في كل باب فجعله مضرب المثل أولى نظيره { وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم } [ النحل : 76 ] ثم استفهم على سبيل الإنكار بقوله { هل يستويان مثلاً } وهو تمييز أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما . واقتصر في التمييز على الواحد لقصد الجنس والمراد تجهيل من يجعل المعبود متعدداً ، فليس رضا واحد كطلب رضا جماعة مختلفين . وحاصله يرجع إلى دليل التمانع كما مرّ في قوله { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] وقال أهل العرفان : الشركاء المتشاكسون تجاذب شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال ، فأين ذلك الرجل ممن ليس له في الدنيا نصيب ولا له في الخلق نسيب وهو عن الآخرة غريب وإلى الله قريب . قوله { الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } كما مرّ في « لقمان » قوله { إنك ميت } وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال إن هؤلاء الأقوام إن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا ، فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً يؤلون إلى الموت فلو أنهم يتربصون بك الموت فإن الموت يعم الكل فلا معنى لشماتة المرء بعد وفاة صاحبه { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } تحتج عليهم بأنك قد بلغت وهم يعتذرون بما لا طائل تحته ، وقد يخاصم الكفار بعضهم بعضاً حتى يقال لهم { لا تختصموا لديّ } [ ق : 28 ] وقد يقع الاختصام بين أهل الملة في الدماء والمظالم التي بينهم والله أعلم .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

القراآت : { عباده } على الجمع : يزيد وحمزة وعلي وخلف . { أرادني الله } بسكون الياء : حمزة . { كاشفات } بالتنوين { ضره } بالنصب وهكذا { ممسكات رحمته } أبو عمرو وسهل ويعقوب . الباقون : بالإضافة فيهما { قضى عليها } مجهولاً { الموت } بالرفع : حمزة وعلي وخلف { يا عبادي الذين أسرفوا } بسكون الياء : حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وسهل ويعقوب ، والوقف للجميع بالياء لا غير . { يا حسرتاي } بياء بعد الف : يزيد . الآخرون : بالألف وحدها { وينجي الله } بالتخفيف : روح { بمفازاتهم } على الجمع : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل { تأمروني } بتشديد النون وفتح الياء : ابن كثير { تأمرونني } بنونين وسكون الياء : ابن عامر { تأمروني } بنون واحدة وفتح الياء : أبو جعفر ونافع . الباقون : بتشديد النون وسكون الياء . { لنحبطن } بالنون من الإحباط { عملك } بالنصب : يزيد . الآخرون : على الغيبة وفتح العين { عملك } بالرفع { وسيق } بضم السين وكسر الياء : ابن عامر وعلي ورويس { فتحت } بالتخفيف : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل في الحرفين .
الوقوف : { إذ جاءه } ط { للكافرين } 5 { المتقون } 5 { عند ربهم } ط { المحسنين } 5 ج لاحتمال تعلق اللام بمحذوف كما يجيء . { يعملون } 5 { عبده } ط { من دونه } ط { من هاد } 5 ج { مضل } ط { انتقام } 5 { ليقولن الله } ط { رحمته } ط { حسبي الله } ط { المتوكلون } 5 { عامل } ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب { تعلمون } 5 لا { مقيم } 5 { بالحق } ج لاختلاف الجملتين { فلنفسه } ج { عليها } ج للابتداء بالنفي مع العطف { بوكيل } 5 ج { في منامها } ج { مسمى } ط { يتفكرون } 5 { شفعاء } ط { يعقلون } 5 { جميعاً } ط { والأرض } ط بناء على أن « ثم » لترتيب الأخبار { ترجعون } 5 { بالآخرة } ط ج فصلاً بين الجملتين مع اتفاقهما نظماً { يستبشرون } 5 { يختلفون } 5 { القيامة } ط { يحتسبون } 5 { يستهزؤن } 5 { دعانا } ز فصلاً بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين { منا } لا لأن ما بعده جواب { على علم } ط { لا يعلمون } 5 { يكسبون } 5 { ما كسبوا } الأولى ط { ما كسبوا } الثانية لا لأن الواو للحال { بمعجزين } 5 { ويقدر } ط { يؤمنون } 5 { رحمة الله } ط { جميعاً } ط { الرحيم } 5 { لا تنصرون } 5 { لا تشعرون } 5 لا { الساخرين } 5 لا { المتقين } 5 لا { المحسنين } 5 { الكافرين } 5 { مسودّة } ط { للمتكبرين } 5 { بمفازتهم } ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه { يحزنون } 5 { كل شيء } ز للفصل بين الوصفين تعظيماً مع اتفاق الجملتين { وكيل } 5 { والأرض } ط { الخاسرون } 5 { الجاهلون } 5 { من قبلك } ج لحق القسم المحذوف { الخاسرين } 5 { الشاكرين } 5 { بيمينه } ط { يشركون } 5 { من شاء الله } ج بياناً لتراخي النفخة الثانية عن الأولى مع اتفاق الجملتين { ينظرون } 5 { لا يظلمون } 5 { يفعلون } 5 { زمراً } ط { هذا } ط { الكافرين } 5 { فيها } ج { المتكبرين } 5 { زمراً } ط { خالدين } 5 { نشاء } ج { العاملين } 5 { ربهم } ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولاحتمال جعله حالاً وقد قضى بين الزمرين { العالمين } 5 .

التفسير : لما ضرب لعبدة الأصنام مثلاً أشار إلى نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يضمون على كذبهم على الله بإضافة الشريك والولد إليه تكذيبهم بالصدق يعني الأمر الذي هو الصدق بعينه أي القرآن . ومعنى { إذ جاءه } أنه لم يراع طريقة أهل الإنصاف والتدبر لكنه لما سمع به فاجأه بالتكذيب . واللام في قوله { للكافرين } لهؤلاء المعهودين الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق . قال جار الله : ويحتمل أن يكون للعموم فيشملهم وغيرهم من الكفرة . وحين بين وعيدهم عقبه بوعد الصادقين المصدّقين وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقيل : الرسول وأبو بكر والتعميم أولى لقوله { أولئك هم المتقون } قوله { ليكفر } ظاهره تعلقه ب { يشاؤن } فتكون لام العاقبة . ويحتمل تعلقه بمحذوف أي جزاؤهم وإكرامهم لأجل ذلك . قال جار الله : الأسوأ ههنا ليس للتفضيل وإنما هو كقولهم : الأشج أعدل بني مروان . وفائدة صيغة التفضيل استعظامهم المعصية حتى إن الصغائر عندهم أسوأ أعمالهم . وقال بعض المفسرين : أراد به الكفر السابق الذي يمحوه الإيمان . واستدل مقاتل وكان شيخ المرجئة بهذه الآية فإنها تدل على أن من صدّق الأنبياء فإنه تعالى يكفر عنه أسوأ الأعمال التي أتى بها بعد الإيمان والوصف بالتقوى وفيه نظر . ثم إنهم كانوا يخوّفون المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم برفض آلهتهم وتحقيرها . ويروى أنه بعث خالداً إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها : أحذركها يا خالد ، إن لها شدّة . فعمد خالد إليها فهشم أنفها فأنزل الله تعالى { أليس الله بكاف عبده } أي نبيه بدليل قوله { ويخوّفونك } ومن قرأ على الجمع فهي للعموم . والآيات إلى قوله { بوكيل } ظاهرة مع أنها تعلم مما سبق ذكرها مراراً . والعذاب الخزي عذاب يوم بدر ، والعذاب المقيم العذاب الدائم في الآخرة ، ومدار هذه الآي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أكد كون الهداية والضلال من الله تعالى بقوله { والله يتوفى الأنفس } وذلك أن الحياة واليقظة تشبه الهداية ، والموت والنوم يضاهي الضلال . فكما أن الحياة والموت واليقظة والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله وتكوينه فكذلك الهداية والضلال ، والعارف بهذه الدقيقة عارف بسر الله في القدر ، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، ففيه تسلية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل في وجه النظم : إنه تعالى أراد أن يذكر حجة أخرى على إثبات الإله العليم القدير ليعلم أنه أحق بالعبادة من كل ما سواه فضلاً عن الأصنام . ومعنى الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها . قال جار الله : أراد بالأنفس الجملة كما هي لأنها هي التي تنام وتموت { و } يتوفى الأنفس { التي لم تمت في منامها } أي يتوفاها حيت تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى كقوله

{ وهو الذي يتوفاكم بالليل } [ الأنعام : 60 ] والحاصل أنه يتوفى الأنفس مرتين ، مرة عند موتها ومرة عند نومها فتكون « في » متعلقة ب { يتوفى } والتوفي مستعمل في الأول حقيقة وفي الثاني مجازاً ، ولم يجوّزه كثير من أئمة الأصول . وقال الفراء : « في » متعلقة بالموت وتقديره : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها عند انقضاء حياتها . ثم بين الفرق بين الحالين بقوله { فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الآخرى إلى أجل مسمى } من غير غلط . وقال حكماء الإسلام : النفس الإنسانية جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها وهو الحياة واليقظة . وأما في وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره ، فتبقى نفس الحياة التي بها النفس وعمل القوى البدنية في الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل ، وإذا نقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت ، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا من القدير الخبير الذي لا شريك له في ملكه ولا نظير ، ولهذا ختم الآية بقوله { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } ثم كان لمشرك أن يقول : إنما نعبد الأصنام لأنها تماثيل أشخاص كانوا عند الله مقربين فنحن نرجو شفاعتهم فأنكر الله عليهم بقوله { أم اتخذوا من دون الله } أي من دون إذنه { شفعاء } و « أم » بمعنى « بل » ، والهمزة الإنكارية وتقرير الإنكار أن هؤلاء الكفار إما أن يطعموا في شفاعة تلك التماثيل وإما في شفاعة من هذه التماثيل تماثيلهم . والأول باطل لأن هذه الأصنام جمادات لا تملك شيئاً ولا تعقل وأشار إلى هذا المعنى بقوله { قل أولو كانوا } يعني أيشفعون ولو كانوا بحيث { لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } والثاني أيضاً مستحيل لأن يوم القيامة لا يشفع أحد إلا بإذن الله وهو المراد بقوله { قل لله الشفاعة } وانتصب { جميعاً } على الحال . ولو كان تأكيداً للشفاعة لقيل جمعاء .
وحين قرر أن لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله برهن على ذلك بقوله { له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون } يوم القيامة ولا ملك في ذلك اليوم إلا له . ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال المشركين فقال { وإذا ذكر الله وحده } أي منفرداً ذكره عن ذكر آلهتهم { اشمأزت } أي نفرت وانقبضت منه { قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دون } سواء ذكر الله معهم أو لم يذكر { إذا هم يستبشرون } أي فاجأ وقت ذكر آلهتهم وقت استبشارهم . وفي الآية طباق ومقابلة لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى يظهر أثره في بشرته .

والاشمئزاز أن يمتلىء غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه وذلك لاحتباس الروح الحيواني في القلب . وقيل : معنى الآية أنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له . نفروا لأن فيه نفياً لآلهتهم . وفي بعض التفاسير أن هذا إشارة إلى ما روي « أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم وسوس الشيطان إليه بقوله » تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى « فاستبشر المشركون وسجدوا » ولما حكى عنهم هذا الجهل الغليظ والحمق الشديد وهو الاشمئزاز عن ذكره من ذكره رأس السعادات وعنوان الخيرات والاستبشار بذكر أخس الأشياء وهي الجمادات ، أمر رسوله بهذا الدعاء { اللهم فاطر السموات والأرض } وهو وصفه بالقدرة التامة { عالم الغيب والشهادة } وهو نعته بالعلم الكامل . وإنما قدم وصفه بالقدرة على وصفه بالعلم لأن العلم بكونه قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً كما بين في أصول الدين وقد أشرنا إلى ذلك فيما سلف { أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم بالشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل فلا حيلة في إزالته إلا باستعانة القدير العليم . عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاته بالليل فيقول : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي إلى صراط مستقيم . وعن الربيع بين خثيم . وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين عليه السلام وقالوا : الآن يتكلم ، فما زاد على أن قال آه أوقد فعلوا وقرأه هذه الآية . وروي أنه قال على أثره : قتل من كان النبي صلى الله عليه وسلم . يجلسه في حجره ويضع فاه في فيه . ثم ذكر وعيدهم على ذلك المذهب الباطل بقوله { ولو أن للذين ظلموا } أي بالشرك وقد مر نظير الآية مراراً أوّلها في آل عمران وفيه قوله { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } نظير قوله في أهل الوعد { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] وقيل : عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات . يروى أن محمد بن المنكدر جزع عند موته فقيل له في ذلك فقال : أخشى آية من كتاب الله وتلاها ، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم يكن في حسباني . وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء . ثم صرح بما أبهم قائلاً { وبدا لهم سيئات ما كسبوا } و « ما » موصولة أو مصدرية أي ظهرت لهم سيئات أعمالهم التي اكتسبوها ، أو سيئات كسبهم وذلك عند عرض الصحائف أو غير ذلك من المواقف . وجوّز أهل البيان أن يراد بالسيئات جزاء أفعالهم كقوله

{ وجزاء سيئة سيئة } [ الشورى : 40 ] وإنما قال في الجاثية { سيئات ما عملوا } [ الجاثية : 33 ] لمناسبة ألفاظ العمل ، وههنا قد وقع من ألفاظ الكسب .
ثم حكى نوعاً آخر من قبيح أعمالهم قائلاً { فإذا مسّ الإنسان } وقد مر مثله في مواضع أقر بها أول السورة إلا أنه ذكر ههنا بفاء التعقيب لأن هذا مناقض لما حكى عنهم عن قريب وهو أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده فكيف التجأوا إليه وحده عند ضر يصيبهم . ومعنى { أوتيته على علم } أوتيته على علم لله بكوني مستحقاً لذلك أو على علم عندي صار سبباً لهذه المزية ككسب وصنعة ونحو ذلك . ولا شك أن هذا نوع من الغرور فلهذا قال سبحانه { بل هي فتنة } بلاء واختبار يتميز بها الشاكر عن الكافر . ذكر الضمير أوّلاً بتأويل المخوّل وأنثه ثانياً بتأويل النقمة . ثم أشار بقوله { قد قالها } أي مجموع الكلمة التي صدرت عنهم و { الذين من قبلهم } هم قارون وقومه حيث { قال إنما أوتيته على علم عندي } [ القصص : 78 ] وقومه راضون بها فكأنهم قالوها . ويجوز أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } من الأموال أو من المعاصي وأشار بقوله { هؤلاء } إلى أهل مكة أصابهم قتل في يوم بدر وغيره وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم : أولم يعلموا أن الباسط والقابض هو الله وحده؟ وذلك أن انتهاء الحوادث المتسلسلة يجب أن يكون إلى إرادته ومشيئته ، ولا ينافي هذا توسيط عالم الأسباب وأن يكون للكواكب كلها تأثيرات في عالمنا هذا بإذن مبدعها وفاطرها . وقول الشاعر :
فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجل
كلام من غير تبين واستبصار بسر القدر . والذي يشكك به الإمام فخر الدين الرازي من أنه قد يولد إنسانان في طالع واحد ثم يصير أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة كلام غير محقق ، لأنا لو سلمنا وقوع ذلك فلاختلاف القابل ، وليس تأثير العامل السماوي في طالع ولد السلطان مثله في طالع ولد الحمامي ، وكذا اختلافات أخر لا نهاية لها . نعم لو ادعى عسر إدراك جميع الجزئيات فلا نزاع في ذلك إلا المنتفع بما ينتفع به عليه أن يقنع بما يصل إليه فهمه فلكل شيء حد وفوق كل ذي علم عليم . وحين أطنب في الوعيد أردفه ببيان كمال رحمته ومغفرته فقال { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبدالأوثان وقتل النفس التي حرم الله لن يغفر له ونحن قد عبدنا الأوثان وقتلنا الأنفس فأنزل الله هذه الآية . وعن ابن عمر : نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم عذبوا فارتدوا فنزلت فيهم ، وكان عمر كاتباً فكتبها إلى عياش والوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .

وقيل : نزلت بالمدينة في وحشيّ وقد سبق . ثم إن قلنا : العباد عام فالإسراف على النفس يعم الشرك ، ولا نزاع أن عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطاً بالتوبة والإيمان . وإن قلنا : العباد المضاف في عرف القرآن مختص بالمؤمنين فالإسراف إما بالصغائر ولا خلاف في أنها مكفرة ما اجتنبت الكبائر ، وأما بالكبائر وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين . فالمعتزلة شرطوا التوبة ، والأشاعرة العفو وقد مر مراراً . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال : ألا ومن أشرك ثلاث مرات » رواه في الكشاف . وعلى هذا يكون مخصوصاً بشرط الإيمان .
ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات الرحمة : أوّلها تسمية المذنب عبداً والعبودية تشعر بالاختصاص مع الحاجة ، واللائق بالكريم الرحيم إفاضة الجود والرحمة على المساكين . وثانيها من جهة الإضافة الموجبة للتشريف . وثالثها من جهة وصفهم بقوله { الذين أسرفوا على أنفسهم } كأنه قال يكفيهم من تلك الذنوب عود مضرتها عليهم لا عليّ . ورابعها نهاهم عن القنوط ، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم . وخامسها قوله { من رحمة الله } مع إمكان الاقتصار على الضمير بأن يقول « من رحمتي » فإيراد أشرف الأسماء في هذا المقام يدل على أعظم أنواع الكرم واللطف . وسادسها تكرير اسم الله تعالى في قوله { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } مع تصدير الجملة ب « إن » ، ومع إيراد صيغة المضارع المنبئة عن الاستمرار ، ومع تأكيد الذنوب بقوله { جميعاً } أي حال كونها مجموعة . وسابعها إرداف الجملة بقوله { إنه هو الغفور الرحيم } ومع ما فيه من أنواع المؤكدات ومع جميع ذلك لم يخل الترغيب عن الترهيب ليكون رجاء المؤمن مقروناً بخوفه فقال { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } وذلك أن الأشاعرة أيضاً يجوّزون أن يدخل صاحب الكبيرة النار مدة ثم يخرج منها . ومع احتمال هذا العذاب يجب الميل إلى الإنابة والإخلاص لله في العمل على أن الخوف للتقصير في الطاعة يكفي عن الخوف للتصريح بالمعصية ، وللصديقين في الأول مندوحة عن الثاني . وقال بعضهم : إن الكلام قد تم على الآية الأولى ، ثم خاطب الكفار بهذه الآيات من قوله { وأنيبوا } والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا كما للأمم السابقة ، وإما الموت لأنه أول أهوال الآخرة . وقوله { أحسن ما أنزل إليكم } كقوله { يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وقد مر الأقوال فيه . وحين خوّفهم بالعذاب حكى عنهم أنهم بتقدير نزول العذاب ماذا يقولون؟ فذكر ثلاثة أنواع من الكلمات : الأوّل أن تقول والتقدير أنذرناكم العذاب المذكور كراهة أن تقول أو لئلا .

تقول . قال جار الله : إنما نكرت نفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر ، أو نوع من الأنفس متميزة بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم . وجوز أن يكون التنكير لأجل التكثير كقوله « رب وفد أكرمته » . { يا حسرتا على ما فرّطت } أي قصرت . والتفريط إهمال ما ينبغي أن يقدّم { في جنب الله } واعلم أن بعض أهل التجسيم يحكمون بورود هذا اللفظ على إثبات هذا العضو لله سبحانه ولا يدري أنه بعد التسليم لا معنى للتفريط فيه ما لم يصر إلى التأويل . والصحيح ما ذهب إليه علماء البيان أن هذا من باب الكناية ، لأنك إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه وجانبه وناحيته فقد أثبته كقوله :
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
وتقول : لمكانك فعلت كذا . أي لأجلك . وفي الحديث « من الشرك الخفي أن يصلى الرجل لمكان الرجل » ولا بد من تقدير مضاف سواء ذكر الجنب أو لم يذكر ، وللمفسرين فيه عبارات . قال ابن عباس : أي ضيعت من ثواب الله . وقال مقاتل : ضيعت من ذكر الله . وقال مجاهد : في أمر الله . وقال الحسن : في طاعة الله . وعن سعيد بن جبير : في حق الله . وقيل : في قرب الله من الجنة من قوله { والصاحب بالجنب } [ النساء : 36 ] وقال ابن جبير : في جانب هدى الله لأن الطريق متشعب إلى الهدى والضلال فكل واحد جانب وجنب . والتحقيق في المسألة أن الشيء الذي يكون من لوازم الشيء ومن توابعه كأنه حدّ من حدوده وجانب من جوانبه ، فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له ، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب في الآية على أحد هذه المضافات . قال الشاعر وهو سابق البربري :
أما لتقين الله في جنب عاشق . ... له كبد حرّى عليك تقطع؟
ثم زاد في التحسر بقوله { وإن كنت لمن الساخرين } أي المستهزئين بالقرآن والنبي والمؤمنين . « إن » مخففة ، واللام فارقة ، والواو تحتمل العطف والحال . قال قتادة . لم يكفه ما ضيع من أمر الله حتى سخر من المصدّقين . النوع الثاني من كلمات النفس المعذبة { لو أن الله هداني } يجوز أن يقول مرة هذا ومرة ذلك ، أو يكون قائل كل من الكلمتين بعد أخرى والمعنى لو أرشدني إلى دينه . { لكنت من المتقين } النوع الثالث قوله عند رؤية العذاب { لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } قال جار الله : لما حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب وهو الثاني ، صح أن تقع « بلى » جواباً له مع أنه غير منفي ، لأن قوله { لو أن الله هداني } في معنى ما هديت .

قلت : هذا يصلح جواباً للقولين الثاني والثالث أي بلى قد هديت بالوحي فكذبت واستكبرت عن قبوله فلا فائدة في الرجعة ، فإن عدم القابلية وكونه واقعاً في جانب القهر لن يزول عنه . ثم صرح ببعض أنواع العذاب قائلاً { ويوم القيامة نرى الذين كذبوا على الله } وقوله { وجوههم مسودّة } مفعول ثان إن كانت الرؤية القلبية وإلا فموضعه نصب على الحال . والظاهر أن الكذب على الله هو المشار إليه في قوله { فكذبت بها } ويشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والولد ، ونسبته إلى العجز عن الإعادة ، ونسبة القرآن إلى كونه مختلفاً ونحو ذلك . وأما المسائل الاجتهادية التي يختلف فيها كل فريق إسلامي ولا سيما الفروعية ، فالظاهر أنها لا تدخل فيها والله أعلم . وأما سواد الوجه فإن كان في الصورة فظاهر ويكون كسائر أوصاف أهل النار من زرقة العيون وغيره ، وإن كان المراد به الخجل وشدّة الحياء ونحو ذلك فالله تعالى أعلم بمراده . ولا ريب أن الجهل والإخبار على خلاف ما عليه الأمر ونحو ذلك من الأخلاق الذميمة كلها ظلمات كما أن العلم والصدق ونحوهما أنوار كلها وفي ذلك العالم تظهر حقيقة كل شيء على المكلف { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } [ يونس : 30 ] . ثم حكى حال المتقين يومئذ قائلاً { وينجي الله الذين اتقوا } الشرك أو المعاصي كبائر وصغائر { بمفازتهم } هي « مفعلة » من الفوز . فمن وحد فلأنه مصدر ، ومن جمع فلاختلاف أجناسها فلكل متق مفازة وهي الفلاح . ولا شك أن الباء هي التي في نحو قولك « كتب بالقلم » . فقال جار الله : تارة تفسير المفازة هي قوله { لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } فلا محل للجملة لأنه كأنه قيل : وما مفازتهم؟ فقيل : { لا يمسهم السوء } أي في أبدانهم . { ولا هم يحزنون } يتألمون قلباً على ما فات . وقال : أخرى يجوز أن يراد بسبب فلاحهم أو منجاتهم وهو العمل الصالح ، وذلك أن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة . ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها . وعلى هذه الوجوه يكون قوله { لا يمسهم } منصوباً على الحال . وعن الماوردي أن المفازة ههنا البرية أي بما سلكوا مفازة الطاعات الشاقة وهو غريب . وحين تمم الوعد والوعيد أتبعه شيئاً من دلائل المالكية قائلاً { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } وقد مر في « الأنعام » . ثم أكده بقوله { له مقاليد السموات والأرض } وهو كقوله في « الأنعام » { وعنده مفاتح الغيب } [ الآية : 59 ] والمقاليد المفاتيح أيضاً فقيل : لا واحد لها من لفظها . وقيل : مقليد أو مقلد أو إقليد . والظاهر أنه في الأصل فارسي والتعريب جعله من قبيل العربي . ويروى أنه سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير الآية فقال : يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسير المقاليد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير .

وقال العلماء : يعني أن هذه الكلمات مفاتيح خيرات السموات والأرض وقد يوحد الله بها ويمجد . قال أهل العرفان : بيده مفاتيح خزائن اللطف والقهر ، فيفتح على من يشاء أبواب خزائن لطفه في قلبه فتخرج ينابيع الحكمة وجواهر الأخلاق الحسنة وللآخر بالضد . قال في الكشاف قوله { والذين كفروا } متصل بقوله { وينجي } وما بينهما اعتراض دل على أنه خالق الأشياء كلها مهيمن عليها ، لا يخفى عليه أعمال المكلفين وجزاؤها فإن كل شيء في السموات والأرض فإن مفتاحه بيده . هذا والظاهر أنه لا حاجة إلى هذا التقدير البعيد حتى يعطف جملة اسمية على جملة فعلية . والأقرب أنه لما وصف نفسه بصفات المالكية والقدرة ذكر بعده { والذين كفروا } بدلائل ملكه وملكه مع كونها ظاهرة باهرة فلا أخسر منهم لأنهم عمي في الدارين فاقدون لأشرف المطالب ولذلك وبخ أهل الشرك بقوله { قل أفغير الله } أي قل لهم بعد هذا البيان أفغير الله وهو منصوب { بأعبد } و { تأمروني } اعتراض والمعنى أفغير الله { أعبد } بأمركم . وذلك أن المشركين دعوه إلى دين آبائه . وجوز جار الله : أن ينصب بما يدل عليه جملة قوله { تأمروني أعبد } لأنه في معنى تعبدونني غير الله وتقولون لي اعبد . والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن ورفع الفعل . ويمكن أن يعترض عليه بأن صلة « أن » كيف تتقدّم عليه . ويحتمل أن يجاب بأن العامل هو ما دل عليه الجملة كما قلنا لا قوله { أن أعبد } وقيل : التقدير أفبعبادة غير الله تأمروني؟ وقوله { أيها الجاهلون } لا يكون أليق بالمقام منه لأنه لا جهل أشدّ من جهل من نهى عن عبادة أشرف الأشياء وأمر بعبادة أخس الأشياء . ثم هددّ الأمة على الشرك مخاطباً نبيه بقوله { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك } من الأنبياء مثله { لئن أشركت } فاقتصر على الأول يجوز أن يراد ولقد أوحى إليك وإلى كل واحد ممن قبلك لئن أشركت كما تقول : كسانا حلة أي كل واحد منا وقد مر نظير هذه الآية بقوله { ولئن أتبعت أهواءهم } [ البقرة : 120 ] وبينا أن ذلك على سبيل الفرض والشرطية لا حاجة في صدقها إلى صدق جزأيها ، أو المراد الأمة كما قلنا . وفي قوله { ولتكونن من الخاسرين } إشارة إلى أن منصب النبوة الذي هو أشرف مراتب الإنسانية وأقربها من الله إذا بدل بضدّه الذي هو البعد عن الحضرة الإلهية لم يكن خسران وراء ذلك .
ثم ردّه صلى الله عليه وسلم إلى ما هو الحق الثابت في نفس الأمر وهو تخصيص الله بالعبادة فقال { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } على ذلك لأن توفيق العبادة منه وحده ولذا جعله مظهر اللطف حتى صار سيد ولد آدم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32