كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

أو الغرض أنه يثني عليهم بالطاعة ، ولا يقطع موادّ إحسانه عنهم بالمعصية . أو المراد أنه يلطف عن أن يدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ولا يلطف شيء عن إدراكه ، ثم عاد إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة فقال { قد جاءكم بصائر } أي موجباتها والبصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين . { فمن أبصر } الحق وآمن { فلنفسه } أبصر وإياها نفع . { ومن عمي } عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر . قالت المعتزلة : فيه تصريح بأن العبد يتمكن من الأمرين : الفعل والترك . وعورض بالعلم والداعي { وما أنا عليكم بحفيظ } أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها ، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم . ثم حكى شبه المنكرين بقوله { وكذلك } أي مثل ذلك التقرير البليغ { نصرف الآيات } نأتي بها متواترة حالاً بعد حال { وليقولوا } عطف على محذوف أي لتلزمهم الحجة وليقولوا أو متعلق بما بعده أي وليقولوا درست نصرفها . ومعنى { درست } قرأت وتعلمت من الدرس ، ومن قرأ { دارست } أي قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة . وأما قراءة ابن عامر { درست } فهي من الدروس بمعنى أن هذه الآيات قد درست وعفت أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا من جملة أساطير القرون الخالية ، قالت العلماء : التركيب يدل على التذليل والتليين لأن من درس الكتاب فقد ذلله بكثرة القراءة ، ومنه قيل للثواب الخلق « دريس » ، لأنه قد لان فكأنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله صرف الآيات وهو أمران : أحدهما قوله { وليقولوا دارست } والثاني قوله { ولنبينه } أما الثاني فلا إشكال فيه لأنه بيّن أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والعلم والضمير في { لنبينه } للآيات لأنها في معنى القرآن ، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به ، أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل نحو : ضربته زيداً أي ضربت الضرب زيداً . وأما الأول فقد أورد عليه أن قولهم للرسول { دارست } كفر منهم بالقرآن والرسول ، وعلى هذا فتعود مسألة الجبر والقدر ، أما الأشاعرة فأجروا الكلام على ظاهره وقالوا : معناه أنا ذكرنا هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفراً على كفر ، ونبينه لبعض فيزدادوا إيماناً على إيمان كقوله { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم والقاضي : إن هذا الإثبات محمول على النفي والتقدير : نصرف الآيات لئلا يقولوا كقوله { يبين الله لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] أي لئلا تضلوا . أو المراد لام العاقبة ، وزيف بأن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وفتح هذا الباب يخرج الكتاب عن أن يكون حجة . وأيضاً إنه مناف للمقصود لأن إنزال الآيات نجماً فنجماً هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما أتى بالقرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة مع أقوام آخرين ، ولهذا كانوا يقولون لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة .

فالجواب الذي ذكره إنما يصح لو كان التصريف علة لأن يمتنعوا من هذا القول لكنه موجب له فسقط كلامهم ، وأيضاً حمل اللام على لام العاقبة مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أولى .
ثم إنه لما حكى عن الكفار أنهم نسبوه في شأن القرآن إلى الافتراء وإلى أنه دارس أقواماً واستفاد هذه العلوم منهم ثم نظمها قرآناً وادّعى أنه نزل عليه من الله أتبعه قوله { اتبع ما أوحي إليك من ربك } لئلا يصير ذلك القول سبباً لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي يعتريه بسماع تلك الشبهة ، ونبه بالجملة المعترضة أو الحال المؤكدة وهي قوله { لا إله إلا هو } على أنه سبحانه لما كان واحداً في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين . ثم ختم الآية بقوله { وأعرض عن المشركين } وحمله بعضهم على أنها منسوخة بآية القتال . وضعف بأن المراد واترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه ، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغيظ . { ولو شاء الله ما أشركوا } مذهب الأشاعرة فيه ظاهر . وحمله المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقسر . وأجيب بعد المعارضة بالعلم والداعي بأن الإيمان الاختياري هب أنه أنفع وأفضل من الإيمان القهري إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك لا يقع ولا يحصل فقد كان يجب في حكمته أن يخلق الله فيه الإيمان القهري كي يخلص من العقاب ، وإن لم يجب له الثواب كما أن الأب المشفق إذا علم أن ابنه لا يحسن الغوص يقول له : اترك الغوص في البحر ولا تطلب اللآلىء فإنك لا تجدها واكتف بالرزق القليل مع السلامة ، فأما أن يأمره بالغوص في البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فإن ذلك من الرحمة والشفقة بمعزل . ثم ختم الكلام بما يكمل به بصيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وآله ، وذلك أن بيّن له قدر ما جعل إليه فذكر أنه ما جعله حفيظاً ولا وكيلاً عليهم وإنما فوض إليه الإبلاغ والإنذار . ثم إنهم لما نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه جمع القرآن بطريق المداومة وكان لا يبعد أن يغضب له المسلمون لسبب ذلك فيسبوا آلهتهم نهى الله تعالى عن ذلك فقال { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } وذلك أن المسلمين إذا شتموا آلهتهم فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول . وفيه تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والمسافهة وإنه لا يليق بالعقلاء . قال ابن عباس : لما نزل

{ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] قال المشركون : لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيبها لنهجونّ إلهك فنزلت . وقال السدي : « لما حضر أبا طالب الوفاة قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه . فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا ، وأن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه . فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وآله فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا تريدون؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك . فقال أبو طالب : قد أنصفك قومك وبنو عمك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي؟ قال : قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها . فقال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها . فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية » قالت العلماء : إن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فكيف يتصور إقدامهم على شتم الله؟ وأجيب بأنه ربما كان بعضهم قائلاً بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي هذا النوع من السفاهة ، أو لعل مرادهم شتم الرسول صلى الله عليه وسلم وآله فأجرى الله تعالى شتمه مجرى شتم الله كما في قوله { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] أو لعلهم من جهالتهم اعتقدوا أن الشطيان يحمله على ادعاء الرسالة ثم إنهم سموا ذلك الشيطان بأنه إله محمد صلى الله عليه وسلم وآله . وههنا سؤال وهو أن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه؟ والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم منكراً وجب الاحتراز عنه ، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله سبحانه وشتم رسوله وفتح باب السفاهة ويقتضي تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم . وفيه أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر ، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في هذا الباب . وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين كيلا يتشاغل بما لا يفيد في المطلوب ، فإن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها ، يقال : عدا فلان عدواً وعدواناً وعداء إذا ظلم ظلماً يتجاوز القدر .

قال الزجاج { عدواً } منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدو عدواً وقرىء { عدوّاً } بفتح العين والتشديد أي في حال كونهم أعداء . ومعنى { بغير علم } على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به { وكذلك } أي مثل ذلك التزيين { زينا لكل أمة عملهم } قالت الأشاعرة : فيه دلالة على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية ، وزيفه الكعبي بقوله تعالى { وزين لهم الشيطان أعمالهم } [ النمل : 24 ] [ العنكبوت : 38 ] وبقوله { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } [ البقرة : 257 ] فإذا المراد أنه تعالى زين لهم ما لهم أن يعملوا وهم لا يفقهون ، أو المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زينا في زعمهم وقولهم أن الله أمرنا بهذا وزينه لنا ، وضعف بعد المعارضة بالعلم وخلق الداعي بأن قوله تعالى { كذلك زينا } بعد قوله { فيسبوا الله } مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى . وأيضاً الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفراً وجهلاً والعلم بذلك ضروري ، بل إنما يختاره لأنه اعتقد كونه إيماناً وعلماً وحقاً وصدقاً ، ولولا سابقة الجهل الأول لما اختار الجهل الثاني ولا تذهب الجهالات إلى غير النهاية ، فلا بد أن ينتهي إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه وهو بسبب ذلك الجهل ظن الكفر إيماناً والجهل علماً . قال : { وأقسموا بالله جهد إيمانهم } والغرض حكاية شبهة أخرى لهم وهي أن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة ، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة باهرة وبينه قاهرة لآمنا بك وأكدوا هذا المعنى بالأيمان والأقسام . قال الواحدي : إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضعة لتوكيد الخبر وكانت الحاجة إلى ذكر الحلف عند انقسام الناس وقت سماع الخبر إلى مصدق ومكذب ، فمعنى الأقسام إزالة القسمة وجعل الناس كلهم مصدقين بواسطة الحلف واليمين . عن محمد بن كعب قال : « كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قريش فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كانت معه عصا فضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وأن عيسى كان يحيى الموتى ، وأن صالحاً كانت له ناقة ، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً . قال : فأن فعلت تصدقوني؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال : إن شئت أصبح الصفا ذهباً ولكن لم أرسل بآية فلم يصدق بها إلا أنزلت العذاب ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتركهم حتى يتوب تائبهم »

وأنزل الله الآيات إلى قوله { ولكن أكثرهم يجهلون } قال الكلبي ومقاتل : إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه . وقال الزجاج : معناه بالغوا في الإيمان . والمراد بقوله { لئن جاءتهم آية } ما روينا من جعل الصفا ذهباً . وقيل : هي الأشياء المذكورة في قوله { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا } [ الإسراء : 90 ] الآيات . وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم وآله يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين المكذبين فالمشركون طلبوا مثلها . { قل إنما الآيات عند الله } أي هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات لأن المعجزات لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ، أو المراد بالعندية هو العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي إيمانهم أم لا كقوله { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] أو المراد أنها وإن كانت معدومة في الحال إلا أنه تعالى متى شاء أحدثها وليس لكم أن تتحكموا في طلبها كقوله { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } [ الحجر : 21 ] { وما يشعركم } ما استفهام والجملة خبره ، ثم من قرأ { انها } بكسر الهمزة على الابتداء - وهي القراءة الجيدة - فالتقدير وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } وأما قراءة الفتح فقال سيبويه : سألت الخليل عن ذلك فقال : لا تحسن لأنها تصير عذراً للكفار ، لأن معنى قول القائل : ما يدريك أنه لا يفعل هو أنه يفعل . فمعنى الآية أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذراً لهم في طلبها ، لكن القراءة لما كانت متواترة فلا جرم ذكر العلماء فيه وجوها : قال الخليل : « أن » بمعنى « لعل » تقول العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شياً أي لعلك . ويقوي هذا الوجه قراءة أبي { لعلها إذا جاءت لا يؤمنون } وثانيها « أن » تجعل « لا » صلة كما في قوله { ما منعك أن لا تسجد } [ الأعراف : 12 ] { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] وثالثها أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله : وما يدريكم أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق به على من أنهم لا يؤمنون . وأما من قرأ { لا تؤمنون } بتاء الخطاب فالمراد وما يشعركم أيها الكفار . قال القاضي والجبائي : في الآية دلالة على أنه تعالى يجب أن يفعل كل ما في مقدوره من الألطاف إذ لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده ، ثم إنه لا يفعل ذلك لم يكن لتعليل ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون وجه .

وأيضاً لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ولم يكن لفعل الألطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات لم يكن لإظهار تلك المعجزات أثر . وأجيب بأن تأثير المعجزات عندهم مبني على وجوب اللطف ، فلو أثبت اللطف به لزم الدور ، وبأن الآية التي بعد هذه وهي قوله { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } تدل على أن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره . ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنهم إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها عرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا إنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات . والتقليب تحريك الشيء عن وجهه . وكان صلى الله عليه وسلم وآله يقول « يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك » والمراد أنه تعالى يقلب القلوب تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس . وإنما قدم ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار ، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر عنه ، والحاصل أن السمع والبصر آلتان للقلب فلهذا السبب وقع الابتداء بتقليب القلب . قال الجبائي : المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وحرها لتعذيبهم . وزيف بأن قوله { ونذرهم } إنما يحصل في الدنيا وهذا يستلزم سوء النظم . وقال الكعبي : المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم بأنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم . وضعف بأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر وهو الذي أوقع نفسه في ذلك الحرمان فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله { ونقلب } وقال القاضي : القلب باقٍ على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل . واعترض بأن تقليب القلب نقله من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة . وأما قوله { كما لم يؤمنوا به أول مرة } فقال الواحدي : فيه حذف والتقدير ولا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة يعني أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره . والكناية في { به } إما عائدة إلى القرآن ، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم وآله ، أو إلى ما طلبوا من الآيات وقيل : الكاف للجزاء أي كما لم يؤمنوا أول مرة فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم . قال الجبائي : { ونذرهم } أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم بمعاجلة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم ، فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وأنه يوجب تأكيد الحجة عليهم . وقالت الأشاعرة : نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان والضلال والعمى .
التأويل : { قد جاءكم بصائر } دلالات السعادات الباقية ، فمن أبصرها بنظر البصيرة فاشتغل بتحصيلها وأقبل على الله لسلوك سبيلها فذلك تحصيل لنفسه { فإن الله غني عن العالمين } { ومن عمي } فبالعكس . { ولا تسبوا الذين يدعون } لا تخاطبوا أهل الضلال على مواجب نوازع النفس والطبيعة فيحملهم ذلك على ترك الإجلال وإظهار الضلال ، بل خاطبوهم بلسان الحجة والتزام الحجة ونفي الشبهة . { وأقسموا بالله } حسبوا أن البرهان يوجب الإيمان ولم يعلموا أنهم مقهورون تحت حكم السلطان ، وما يغني وضوح الأدلة لمن لم تدركه سوابق الرحمة { ونقلب أفئدتهم } عن الآخرة إلى الدنيا { وأبصارهم } عن شواهد المولى إلى مشاهدة النفس والهوى كأنهم لم يؤمنوا يوم الميثاق إذ قلت ألست بربكم؟ قالوا بلى .

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

القراآت : { قبلاً } بكسر القاف وفتح الباء : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون : بضمتين . { منزل } بالتشديد : ابن عامر وحفص والمفضل . { كلمة ربك } عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب . الباقون { كلمات } { من يضل } من الإضلال : الأصبهاني عن نصير ، فصل على البناء للفاعل و { حرم } على البناء للمفعول : حمزة وخلف وعاصم غير حفص والمفضل ، وقرأ أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وحفص جميعاً بالفتح الباقون : على البناء للمفعول فيهما { ليضلون } بضم الياء : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، الباقون : بالفتح .
الوقوف : { يجهلون } ه { غروراً } ط { يفترون } ه { مفصلاً } ط { الممترين } ه { وعدلاً } ه { لكلماته } ج لابتداء الضمير المنفصل مع احتمال الواو الحال أي لا تبديل لكلماته وهو يسمع ويعلم ، { العليم } ه { عن سبيل الله } ط { يخرصون } ه { عن سبيله } ج { بالمهتدين } ه { مؤمنين } ه { إليه } ط { بغير علم } ط { بالمعتدين } ه { وباطنه } ط { يقترفون } ه { لفسق } ط { ليجادلوكم } ج { لمشركون } ه .
التفسير : هذا شروع في تفصيل ما أجمله قوله { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] وكان المستهزؤن بالقرآن خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة ، أتوا الرسول صلى الله عليه وآله في رهط من أهل مكة فقالوا : أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً أي كفيلاً على ما تدعيه ، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان وإن أوتوا هذه المقترحات . قال أبو زيد : يقال لقيت فلاناً قبلاً وقبلاً ومقابلة كلها بمعنى واحد وهو المواجهة رواه الواحدي ، وقال أبو عبيدة والفراء والزجاج : قبلاً بكسر القاف معناه معاينة . روي عن أبي ذر قال : قلت للنبي صلى الله عليه وآله : أكان آدم نبياً؟ قال : نعم ، كان نبياً كلمه الله تعالى قبلاً ، وأما قبلاً بضمتين فقيل : إنه جمع قبيل ومعناه الجماعة تكون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتى مثل الروم والزنج والعرب ولهذا قال الأخفش في تفسيره أي قبيلاً قبيلاً . أو معناه الكفيل والعريف من قبل به يقبل قبالة ، والمعنى لو حشرنا عليهم كل شيء فكفلوا بصحة ما يقول ما آمنوا ، وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق ، ومنها حي ومنها ميت ، فإذا حشرها الله تعالى على اختلاف طبائعها مجتمعة في موقف واحد ثم أنطقها وأطبقوا على قبول هذه الكفارة كان ذلك من أعظم المعجزات ، أما قوله تعالى : { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } إيمانهم ، فقد قالت الأشاعرة : فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم ، وقالت المعتزلة : لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم به لم يجب ، ولو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر في كفره مطيعاً لله لأنه لا معنى للطاعة إلا فعل المراد ، ولو جاز من الله تعالى أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به ، ولجاز أن يأمرنا بأن نريد الكفر .

فالمراد من الآية أنه شاء من الكل الإيمان الاختياري وما شاء الإيمان القهري . والمعنى : ما كانوا ليؤمنوا إيماناً اختيارياً إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار فحينئذ يؤمنون ، وزيف بأن الاختيار لا بد معه من حصول داعية يترجح بها أحد طرفي الممكن ، ولا تحصل تلك الداعية إلا بتخليق الله تعالى فكأنه لا اختيار . قال الجبائي : قوله : { إلا أن يشاء الله } يدل على حدوث المشيئة إذ لو كانت قديمة وهي الشرط لزم من حصولها حصول المشروط . وأجيب بأنها قديمة إلا أن تعلقها بأحداث المحدث في الحال إضافة حادثة . ثم ختم الآية بقوله : { ولكن أكثرهم يجهلون } قالت الأشاعرة : أي لا يعلمون أن الكل بقضاء الله وبقدره . وقالت المعتزلة : إنهم لا يدرون أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآية التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم الاختياري بمجيء الآيات المقترحات .
ثم قال : { وكذلك } قيل : إنه منسوق على قوله : { وكذلك زينا } [ الأنعام : 108 ] أي وكما زينا لكل أمة عملهم { جعلنا } وقيل : إن المشار إليه محذوف أي وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر . قالت الأشاعرة : لا شك أن تلك العداوة معصية وكفر ، وأن جعلها شرفاً لآية تدل على أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله . قال الجبائي : المراد بهذا الجعل أنه حكم وبين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره ، وإذا أخبر عن عدالته قيل عدله . وقال الكعبي : إنه أمر الأنبياء . لأن العداوة تكون من الجانبين . أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمداً إلى العالمين وخصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سبباً للحسد والعداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له . وزيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي من الله تعالى ، وبأن العداوة والمحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة والتكلف فلا يقدر عليها إلا الله تعالى ، وانتصاب { الشياطين } كما مر في قوله : { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] قال الزجاج وابن الأنباري : { عدوّا } في معنى الجمع ، ولقائل أن يقول : لا حاجة إلى هذا التكلف لصحة قولنا : وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوّاً واحداً : إذ ليس يجب أن يحصل لكل واحدة من الأنبياء أكثر من عدو واحد .

عن ابن عباس : كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان . وقال مجاهد وقتادة والحسن : إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين ، وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه . « روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله قال لأبي ذر : هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال : قلت : وهل للإنس من شياطين؟ قال : نعم ، هم شر من شياطين الجن » وقيل : إن الجميع من ولد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس ، والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن . وزيف بأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين . وعن مالك بن دينار أن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً . ومعنى الإيحاء الإيمان أو القول السريع أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، وكذلك بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، وكأنه لا يتصوّر وسوسة الإنس إلى الجن إلا على تقدير القول بالتسخير . و { زخرف القول } ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ، والتحقيق فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور خيرية أو نفعاً لم يرغب فيه . ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقاً للواقع فهو الحق والصدق والإلهام وكان صادراً من الملك وإلا كان مزخرفاً أي يكون باطنه فاسداً وظاهره مزيناً ، قال الواحدي : { غروراً } نصب على المصدر لأن إيحاء الزخرف من القول في معنى الغرور . { ولو شاء ربك ما فعلوه } استدلال الأشاعرة به ظاهر والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء . { فذرهم وما يفترون } منصوب على أنه مفعول معه أو مفعول به أي وافتراءهم أو ما يفترونه . قال ابن عباس : يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به ، وفيه تحذير من الكفر وترغيب في الإيمان وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتنبيه له على ما أعد للكفرة من العقاب وله من الثواب بسبب صبره على سفاهتهم وتلطفه بهم . الصغو في اللغة الميل . يقال في المستمع إنه مصغ إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت . وأصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في بعض . ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى . قال الجوهري : صغا يصغو ويصغي صغواً أي مال ، وكذلك صغى بالكسر يصغي بالفتح صغى وصغياً ، واللام في { ولتصغي } لا بد لها من متعلق فقالت الأشاعرة : التقدير وإنما جعلنا مثل ذلك الشخص عدوّاً للنبي لتميل { إليه } أو إلى قوله المزخرف { أفئدة } الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة النبي { وليرضوه } وليختاروه على أنفسهم { وليقترفوا } وليكتسبوا من الآثام { ما هم مقترفون } وقال الجبائي : إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله :

{ واستفزز من استطعت منهم بصوتك } [ الإسراء : 14 ] . وزيف بأن حمل لام كي على لام الأمر تحريف . وقال الكعبي : هي لام العاقبة تقديره : ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار جعلنا لكل نبي عدواً . وعن أبي مسلم أنها معطوفة على موضع { غرور } والتقدير : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغتروا بذلك ولتميل قلوب الكفار إلى المذاهب الباطلة . وأورد عليه أن ميل القلوب إلى الآراء الفاسدة هو عين الاغترار فيلزم عطف الشيء على نفسه . وههنا بحث وهو أن الأشاعرة قالوا : البنية ليست شرطاً للحياة ، فالحي هو الجزء الذي قامت الحياة به ، والعالم هو الجزء الذي قام العلم به . وقالت المعتزلة : الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء . حجة الأشاعرة أنه جعل الموصوف بالميل والرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي ، وبمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن . ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله : { أفغير الله أبتغي حكماً } الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل والزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه ، وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين : الأول : أن الله تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته وأشار إلى هذا الوجه بقوله : { أفغير الله أبتغي حكماً } يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات ، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكماً فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز . الوجه الثاني : اشتمال التوراة والإنجيل على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله حقاً ، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله وأشار إليه بقوله : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } ثم قال : { فلا تكونن من الممترين } والخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد . وقيل : الخطاب للرسول في الظاهر والمراد به الأمة . وقيل : الخطاب للرسول في الحقيقة والمراد التهييج والإلهاب كقوله : { ولا تكونن من المشركين } [ الأنعام : 14 ] والمراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق ، ولا يريبك جحود أكثرهم . قال الواحدي : الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة . وقال بعض أهل التأويل : الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم والحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق .
ثم لما بين أن القرآن معجز قال : { وتمت كلمة ربك } أي القرآن .

وقوله : { صدقاً وعدلاً } مصدران منتصبان على الحال من الكلمة ، ومعنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد ، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علماً وعملاً ، أو المراد بالتمام أنها أزلية ولا يحدث بعد ذلك شيء . واعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان : الخبر والتكليف؛ فالخبر كل ما أخبر الله تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته وحصول صفاته أعني كونه تعالى قادراً سميعاً بصيراً ويدخل فيه الخبر عن صفات التقديس والتنزيه كقوله تعالى : { لم يلد ولم يولد } [ الإخلاص : 3 ] { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله تعالى وكيفية تدبيره لملكوته في السموات والأرض وفي عالم الأرواح والأجسام ، ويدخل فيه الخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ، ويدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء الله تعالى والخبر عن النبوات عن النبوات وأقسام المعجزات ، والخبر عن أحوال النشر والقيامة وصفات أهل الجنة والنار . والخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن المغيبات . وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبيده سواء كان ملكاً أو بشراً أو شيطاناً ، وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء المتقدمين أو في مراسيم الملائكة المقربي الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى . فإذن المراد وتمت كلمات ربك صدقاً إن كان من باب الخبر وعدلاً إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط حسن . وقيل : إن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد أن يكون واقعاً ، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون بصفة الظلم . ثم قال : { لا مبدل لكلماته } والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبه في كون القرآن دالاً على صدق محمد إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلالة ألبته لجلاء الدلالة ووضوحها . أو المراد أن كلماته تبقى موصوفة بصفتها مصونة عن التحريف والتغيير كما قال : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] أو الغرض أنها بريئة عن التناقض كما قال : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] أو المعنى أن أحكام الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل لأنها أزلية والأزلي لا يزول ، وهذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر إذ يلزم منه أن لا ينقلب السعيد شقياً وبالضد . ثم لما أجاب عن شبه الكفار بيّن أن عند ظهور الحجة وتبين المحجة لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهال فقال : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } والمضل لا بد أن يكون ضالاً ويعني بهم الذين ينازعون النبي في الدين غير قاطعين بصحة مذاهبهم كالزنادقة وعبدة الكواكب والأصنام ، وكالذين يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فيحكمون على الحق بأنه باطل وعلى الباطل بأنه حق .

ثم قال : { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } يقدرون على أنهم على شيء أو يكذبون في أن الله أحل كذا وحرم كذا . وأصل الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمراً . وليس لنفاة القياس تمسك بالآية من قبل توجه الذم على متبع الظن ، لأن المذموم من اتباع الظن هو الذي لا يستند إلى أمارة كظن الكفار المستند إلى تقليد أسلافهم فقط ، أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستنداً إلى إمارة فلم يتم أنه كذلك . ثم قال : { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } والمراد أنك بعدما عرفت أن الحق ما هو والباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأن الله تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل أحد بما يليق بعمله ، أو المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم ، ومطلع على تحيرهم في أودية الجهالة وتيه الضلال ، قال النحويون : إن أفعل التفضيل لا يعمل في مظهر ، ففي الكلام محذوف أي يعلم من يضل عن سبيله ، فإن لم يقدر محذوف قوي بالباء كما في القلم { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } [ القلم : 7 ] وهذا هو الأصل ، وإنما خص هذه السورة بالحذف موافقة لقوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] وعدل إلى لفظ المستقبل تنبيهاً على قطع الإضافة لأن أكثر ما يستعمل « أفعل من » يستعمل مع الماضي نحو « أعلم من دب ودرج » و « أحسن من قام وقعد » و « أفضل من حج واعتمر » . فلو لم يعدل إلى لفظ المستقبل التبس بالإضافة تعالى عن ذلك . وجوّز بعضهم أن يكون « من » للاستفهام كقوله : { لنعلم أي الحزبين أحصى } [ الكهف : 12 ] ثم قال : { فكلوا } والفاء مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم . فقال الله سبحانه للمسلمين : إن كنتم محققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله . فإن قيل : إن القوم كانوا يبيحون ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه ، وإنما النزاع في أكل الميتة فإنهم كانوا يبيحونها والمسلمون يحرمونها ، فما الحكمة في إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه؟ فالجواب لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فرد الله تعالى عليهم في الأمرين بقوله : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } وبقوله :

{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 145 ] أو نقول : المراد اجعلوا أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه ، وعلى هذا فيكون المراد تحريم الميتة فقط والله أعلم . أما قوله : { وقد فصل لكم } فأكثر المفسرين قالوا : المراد به ما فصل في أول المائدة من قوله : { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] إلى آخر الآية ، واعترض عليه بأن سورة الأنعام مكية والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة ، والآية تقتضي أن يكون المفصل مقدماً على هذا المجمل بل الأولى أن يقال : المراد قوله تعالى بعد هذه الآية : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً } [ الأنعام : 145 ] إلى آخرها . فإن هذا القدر من التأخر غير ضائر . وقوله : { إلا ما اضطررتم } أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدّة المجاعة { وإن كثيراً ليضلون } المبالغة في قراءة ضم الياء أكثر لأن كل مضل فإنه يكون ضالاً ، وقد يكون الضال غير مضل ، قيل : إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسماعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة . وقوله : { بأهوائهم بغير علم } يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة ، وقال الزجاج : المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرون في إحلالها ، أو يحتجون عليها بقولهم إذ حل ما تذبحونه أنتم فلأن يحل ما يذبحه الله تعالى أولى ، وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوّة محمد صلى الله عليه وآله . وفي الآية دلالة على أن النزاع في الدين بمجرد التقليد حرام { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } فيجازيهم عليها وفيه من التهديد ما فيه .
ثم ذكر آية جامعة فقال : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } فقيل : ظاهره الزنا في الحوانيت وباطنه الصديقة في السر . قال الضحاك : كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالاً ما كان سراً . والأصح أن النهي عام إذ لا دليل على تخصيصه . ثم قيل : المراد ما أعلنتم وما أسررتم . وقيل : ما عملتم وما نويتم . وقال ابن الأنباري : يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول : ما أخذت من هذا المال قليلاً ولا كثيراً أي ما أخذته بوجه من الوجوه . وقريب منه قول من قال : المراد النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج عن كونه إنما بسبب إخفائه وكتمانه . وقيل : المراد النهي عن الإقدام على الإثم . ثم قال : { وباطنه } ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس . وقيل : ظاهر الإثم أفعال الجوارح ، وباطنه أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة الشر للمسلمين ، ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني والندم على أفعال الخيرات ، ومنه يعلم أن ما يوجد في القلب قد يؤاخذ به وإن لم يقترن به عمل { إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } أي يكتسبون من الآثام ومنه الاعتراف يمحو الاقتراف كما يقال : التوبة تمحو الحوبة .

وظاهر النص يدل على أنه يعاقب المذنب ألبتة إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب . وأهل السنة على أنه إذا لم يتب احتمل العفو { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } نقل عن عطاء أنه قال : كل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من طعام أو شراب فهو حرام تمسكاً بعموم الآية . وأجمع سائر الفقهاء على تخصيص هذا العموم بالذبح ، ثم اختلفوا فمالك : كل ذبح لم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام ، ترك الذكر عمداً أو نسياناً وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين . أبو حنيفة : إن ترك عمداً حرام وإن ترك نسياناً حل . الشافعي : متروك التسمية عمداً وسهواً حلال إذا كان الذابح مسلماً لقوله تعالى : { وإنه لفسق } والضمير عائد إلى الأكل الذي دل عليه الفعل أو إلى الموصول على أنه في نفسه فسق مثل « رجل عدل » أو على تقدير حذف المضاف أي وإن أكله لفسق . وقد أجمع المسلمون على أنه لا يفسق بأكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية ولقوله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } وهذه المناظرة كانت في مسألة الميتة؛ وذلك أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة من قتلها إذا ماتت؟ قال : الله قتلها ، قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتل الكلب والصقر حلال ، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله الآية ، فالمراد من الشياطين ههنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليخاصموا محمداً وأصحابه في أكل الميتة . وقال عكرمة : وإن الشياطين - يعني مردة المجوس - ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش . وذلك أنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمداً وأصحابه يزعمون أن ما يذبحونه حلال وأن ما يذبحه الله حرام ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين شيء فنزلت الآية . ثم قال : { وإن أطعتموهم } يعني في استحلال الميتة { إنكم لمشركون } قال الزجاج : وفيه دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله تعالى أو حرم شيئاً مما أحل الله فهو مشرك لأنه أثبت حاكماً سوى الله تعالى . ثم قال الشافعي : الفسق في آية أخرى وهي ، قوله : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً } [ الأنعام : 145 ] إلى قوله : { أو فسقاً أهل لغير الله } [ الأنعام : 145 ] مفسر بما أهل به لغير الله فعلمنا أن الفسق في هذه الآية أيضاً مفسر به نزلنا عن هذا المقام وهو التمسك بالمخصصات ، فلم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله ههنا لما روي أنه صلى الله عليه وآله قال :

« ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل » فيحمل هذا الذكر على ذكر القلب . أو نقول : هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن معنا ما يدل على الحل ، وإذا تعارض الحل والحرمة فالحل راجح لأن الأصل في الأشياء الإباحة وللعمومات الدالة على الحل كقوله : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] { وكلوا واشربوا } [ الطور : 19 ] ولأنه مستطاب وقد قال : { أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4 ] ، ولأن الطبع يميل إليه وقد نهى عن إضاعة المال ، هذا تقرير مذهب الشافعي ومع ذلك فالأولى بالمسلم أن يحترز عنه لقوة ظاهر النص . قال الكعبي : في الآية دلالة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات لأنه تعالى سمى مخالفته شركاً . وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يراد بالشرك ههنا اعتقاد أن لله شريكاً في الحكم .
التأويل : { وكلمهم الموتى } أي : قلوبهم الميتة { وحشرنا } أي أريناهم جميع الآيات المودعة في المكونات { إلا أن يشاء الله } فإن المشيئة تغير السجية والعناية الأزلية كفاية الأبدية { ولكن أكثرهم يجهلون } أن الهدى ليس بالمنى وأنه بمشيئة المولى ، ثم أخبر أن البلايا للسائرين إلى الله هي المطايا فقال : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس } هي النفس الأمارة التي هي أعدى الأعداء . { والذين آتيناهم الكتاب } هديناهم بنور الكتاب إلى حضرة الجلال { فلا تكونن } نهى التكوين في الأزل { وتمت كلمة ربك } كلامه وقضاؤه في الأزل { صدقاً } فيما قال { وعدلاً } فيما حكم بالوجود والعدم والسعادة والشقاوة والرد والقبول والخير والشر والحسن والقبح والإيمان والكفر ، وأحسن شيء خلقه هو الإنسان { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] وكذلك شر شيء هو الإنسان عند فساد استعداده { ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 5 ] ولأهل الكمال ترقٍ في كمال الحسن إلى الأبد ، ولأهل النقصان تسفل في القبح إلى الأبد أيضاً إظهاراً للقدرة الكاملة غير المتناهية { وهو السميع } لحاجة كل ذي حاجة { العليم } بما يستأهله كل موجود { وإن تطع أكثر من في الأرض } وهم أهل الأهواء وأقلهم أهل الحق { وإن هم إلا يخرصون } في دعوى طلب الحق . فإن سبيل الحق لا يسلك بالهوى وإنما يسلك بالصدق والهدى . { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } فمن أمارات الإيمان أن يأكلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع ويذيبوه بذكر الله كما قال صلى الله عليه وآله « أذيبوا طعامكم بذكر الله » فالأكل على الغفلة والنسيان والاستعانة به على العصيان يورث موت الجنان والحرمان من الجنان . { وقد فصل لكم } يا أهل الله { ما حرم عليكم } وهو الدنيا وما فيها والآخرة ونعيمها { إلا ما اضطررتم إليه } من ضروريات البشر في الدارين بأمر المولى لا بالطبع والهوى { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } الذين جاوزوا المولى وركنوا إلى الدنيا والعقبى { وذروا ظاهر الإثم } يعني الأعمال الطبيعية { وباطنه } يعني الأخلاق ، الذميمة الردية { سيجزون بما كانوا يقترفون } لأن الأخلاق الظلمانية توجب صدأ مرآة القلب وتزيدها ريناً إلى أن يصير حجاباً بين العبد وبين الله تعالى : ولا تأكلوا طعاماً إلا بأمر الله وعلى ذكر الله وفي طلب الله ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته ، { وإنه } يعني ظلام الطعام يؤدي إلى الفسق الذي هو الخروج من النور الروحاني إلى الكلمة النّفسانية . { وإن الشياطين ليوحون } فإن للشيطان مجالاً في الوسوسة إذا كانت النفوس في المجادلة مع القلوب لتدعوها إلى متابعة الهوى الله حسبي .

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)

القراآت : { ميتاً } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب { رسالته } بالنصب والتوحيد : ابن كثير وحفص والمفضل . الباقون : { رسالاته } على الجمع وبالكسر في موضع النصب { ضيقا } وبابه بالتخفيف : ابن كثير { حرجاً } بكسر الراء : أبو جعفر ونافع وسهل وأبو بكر وحماد . الباقون : بالفتح { يصعد } من الصعود : ابن كثير { يصاعد } من التصاعد بإدغام التاء في الصاد : أبو بكر وحماد . الباقون : { يصعد } بالإدغام من التصعيد . { يحشرهم } بياء الغيبة : حفص . الآخرون بالنون .
الوقوف : { بخارج منها } ط { يعملون } ه { فيها } ط { وما يشعرون } ه { رسل الله } ط { رسالاته } ط { يمكرون } ه { للإسلام } ج لابتداء شرط آخر مع العطف . { في السماء } ج { لا يؤمنون } ه { مستقيماً } ط { يذكرون } ه { يعملون } ه { جميعاً } ج للحذف أي يحشرهم ويقول لهم مع اتحاد المقصود { من الإنس } الأول ج لتبدل القائل مع اتفاق الجملتين { أجلت لنا } ط قال النار يغلظ الصوت على النار إشارة إلى أن النار مبتدأ بعد القول وليست فاعله { يشاء الله } ط { عليم } ه { يكسبون } ه { يومكم هذا } ط { كافرين } ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد أن ذكر أن المشركين يجادلون المؤمنين ضرب مثلاً للفريقين فبيّن أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً فجعله الله حياً وأعطاه نوراً يهتدي به في مصالحه ، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيراً على الدوام ، وهل هما خاصان أو عامان فيه قولان : الأول قال ابن عباس : يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل؛ وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وآله بفرث وحمزة ولم يؤمن بعد ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس ، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول : يا أبا يعلي أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فنزلت الآية . وعن مقاتل : نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأبي جهل؛ وذلك أنه قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه . والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت ، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وعن الضحاك هي في عمر بن الخطاب وأبي جهل . والقول الثاني أنها عامة في كل مؤمن وكافر لحصول المعنى في الكل . وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون . وأيضاً الميت لا يهتدي إلى شيء وكذلك الجاهل ، والهدى علم وبصيرة وهما يوجبان الفوز بالمطالب كالحياة والنور ، قال بعض العلماء : قوله : { أو من كان ميتاً } إشارة إلى أول مراتب النفس الإنسانية وهي الاستعداد المحض المسماة بالعقل الهيولاني عند الحكيم .

وقوله : { فأحييناه } إشارة إلى ثانية مراتبها المسماة بالعقل بالملكة وهي أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية . وقوله { وجعلنا له نوراً } إشارة إلى ثالثة المراتب وهي التي قد حصلت لها المعقولات المكتسبة ولكنها لا تكون حاضرة بالفعل بل تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها قدر عليه ولهذا يسمى عقلاً بالفعل أي الفعل القريب ، وقوله : { يمشي به في الناس } إشارة إلى رابعة المراتب وهي النهاية المسماة بالعقل المستفاد ، وقد حصلت المعارف القدسية والجلايا الروحانية للنفس حاضرة بالفعل وصار جوهر الروح مشرقاً بتلك المعارف مستضيئاً بها . ويمكن أن يقال : الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح ، والنور عبارة عن اتصال نور الوحي والتنزيل فإنه لا بد في الإبصار من أمرين : سلامة الحاسة والنور الخارجي من الشمس والسراج ، فكذلك البصيرة لا بد لها في الإدراك من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي فلهذا قال جمع من المفسرين : المراد بهذا النور القرآن ، ومنهم من قال : نور الدين أو نور الحكمة . والأقوال متقاربة ، وأما مثل الكافر فهو { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } وفيه أن ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت كالصفة اللازمة له لا تكاد تزول عنه فيبقى متحيراً خائفاً فزعاً نعوذ بالله من هذه الحالة . ومعنى المثل ههنا الصفة الغريبة أي كمن صفته هذه والمراد كمن هو في الظلمات . ثم قال : { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } والمزين هو الله بالتحقيق عند الأشاعرة . والشيطان بالحقيقة أو الله مجازاً عند المعتزلة ، والإضافة إلى الله بالحقيقة أو المجاز أولى بدليل قوله : { وكذلك جعلنا } أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا ، أو وكما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا { في كل قرية أكابر } وهي جمع الأكبر و { مجرميها } مضاف إليه والظرف مفعول ثانٍ قدم ليعود الضمير إلى القرية . وقيل : التقدير جعلنا مجرميها أكابر . قال الزجاج : إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم ، ولأن كثرة المال وقوّة الجاه تحمل الناس على المبالغة في حفظهما وذلك لا يتم إلا باستعمال بعض الأخلاق الذميمة من المكر والغدر والكذب والغيبة والنميمة والشح والأيمان الكاذبة وكفى بهذه الأمور دليلاً على خساسة المال والجاه . واللام في { ليمكروا } على أصله عند الأشاعرة ، واستدلوا به على أن الشر بإرادة الله تعالى . وحمله المعتزلة على لام العاقبة مجازاً حملوا الجعل في قوله : { وكذلك جعلنا } على التخلية والخذلان . ثم قال في معرض التهديد { وما يمكرون إلا بأنفسهم } لأن وباله يعود عليهم { وما يشعرون } وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتقديم موعد بالنصرة ، ثم إنه سبحانه حكى قول أبي جهل وأضرابه « زاحمنا بني عبد مناف في الشرف إلى آخره » وقول الوليد بن المغيرة « لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً » فقال : { وإذا جاءتهم آية } أي معجزة قاهرة أو وحي .

{ قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } قال الضحاك : أراد كل واحد منهم ذلك كما في الآية الأخرى . { بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } [ المدثر : 52 ] ويشبه أن يكون هذا الكلام الخبيث هو المراد بالمكر المذكور في الآية المتقدمة ، وللمفسرين في مقترحهم قولان : أحدهما - وهو الأشهر - أنهم أرادوا أن تحصل لهم النبوُّة والرسالة كما حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين . وثانيهما عن ابن عباس والحسن أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وآله { قالوا لن نؤمن حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] من الله تعالى إلى أبي جهل وفلان وفلان فالقوم ما طلبوا النبوّة وإنما طلبوا آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين تدل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . فقوله سبحانه في جوابهم على سبيل الاستئناف { الله أعلم حيث يجعل رسالته } على القول الأول ظاهر ، وأما على القول الثاني فوجهه أن القوم إذا اقترحوا تلك الآيات فلو أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة . قال بعض العقلاء : الأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوّة والرسالة لبعضها دون بعض تشريف من الله تعالى وإحسان وتفضل . وقال آخرون : بل النفوس مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة ، وبعضها خبيثة كدرة محبة للجسمانيات ، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة . ومراتب الرسل مختلفة فمنهم ذو معجزة واحدة وذو معجزتين أو أكثر ، ومنهم من له تبع قليل ومنهم من آمن به جم غفير ، ومنهم من كان الرفق غالباً عليه ومنهم من كان مدار أمره على التغليظ والتشديد . وفي الآية تعريض بأن حصول النبوّة والرسالة لا بد فيه من قلب سليم ، والمقترحون فيهم من المكر والحسد ما فيهم فكيف يعقل حصول الرسالة لهم وإنما يحصل لهم ما يناسب أخلاقهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صغار } ذل وهوان { عند الله } أي في الآخرة أو في الدنيا بحكم الله وإيجابه من الأسر والقتل . أو المراد من عند الله فحذف « من » .

أو قوله : { عند الله } مستأنف أي معدّ لهم ذلك ، واعلم أن كمال العقاب لا بد فيه من أمرين : الضرر ، والإهانة . ثم إن القوم لما تردوا عن طاعة محمد صلى الله عليه وآله طلباً للعز والكرامة فالله تعالى بيّن أنه يقابلهم بضد مقصودهم ، فأول ما يوصل إليهم الذل والهوان وبعده عذاب شديد جميع ذلك بسبب مكرهم ونكرهم { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } يقال : شرح فلان أمره ، إذا أظهره وأوضحه ومنه شرح المسأله إذا بينها . وقال الليث : شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول ذلك الأثر . ولا شك أن توسيع الصدر غير ممكن على سبيل الحقيقة ولكن ههنا معنى وهو أنه إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إلي وقوي طلبه ورغبته في حصوله وظهر في القلب استعداد شديد لتحصيله فسميت هذه الحالة سعة الصدر ، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن يكون ذلك العمل مشتملاً على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وحصل في النفس نبوّة عن قبوله فيقال لهذه الحال ضيق الصدر ، لأن المكان إذا كان ضيقاً لم يتمكن الداخل من الدخول فيه ، وإذا كان واسعاً قدر على الدخول فيه . وأكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحق والإسلام وقد ورد في الكفر أيضاً قال تعالى : { ولكن من شرح بالكفر صدراً } [ النحل : 106 ] قال المفسرون : « لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له : كيف يشرح الله صدره؟ فقال صلى الله عليه وآله : يقذف الله تعالى فيه نوراً حتى ينفسخ وينشرح ، فقيل له : وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم : » الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله « » وهذا البيان مناسب لما ذكرنا فإن الإنابة إلى دار الخلود لا بد أن تترتب على اعتقاد أن عمل الآخرة زائد النفع والخير ، والتجافي عن دار الغرور إنما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضر والضير ، والاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة . أما قوله : { حرجاً } فمن قرأ بكسر الراء فعلى النعت ، ومن قرأ بالفتح فعلى الوصف بالمصدر للمبالغة . قال الزجاج : الحرج في اللغة أضيق الضيق . وقيل : الحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية . حكى الواحدي بإسناده عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال : هل ههنا أحد من بني بكر؟ قال رجل : نعم . قال : ما الحرجة فيكم؟ قال : الوادي الكثير الأشجار المشتبك الذي لا طريق فيه . فقال : كذلك قلب الكافر . ومعنى : { يصعد في السماء } كأنما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف الصعود إلى السماء .

وقيل : المراد أن قلبه يتباعد عن الإسلام وقبوله تباعد ما بين الأرض والسماء . { كذلك يجعل } أي كما جعل ضيق الصدر في قلوبهم كذلك يجعل الرجس عليهم . وقال الزجاج : أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس . عن ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم . وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه . وعن عطاء : الرجس هو العذاب . وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن الهداية والضلال من الله تعالى؛ بيانه أن العبد قادرعلى الإيمان وعلى الكفر وقدرته بالنسبة إلى الأمرين سواء ولا يترجح إلا لداعية ، ولا معنى للداعية إلى علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة ، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل ، ولا بد أن تنتهي تلك الداعية إلى تخليق الله وتكوينه دفعاً للتسلسل فإذا خلق الله تعالى في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة - وهو المراد بشرح الصدر - مال القلب إليه ، وإذا خلق في قلبه اعتقاد أن الإيمان بمحمد سبب للمفسدة الدينية والدنيوية نبا طبعه عنه وبقي على الكفر . فحاصل الآية أن من أراد الله منه الإيمان قوى دواعيه إليه ، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان . وقالت المعتزلة : إنه لا دلالة في الآية على قولكم لأنه ليس فيها أكثر من أنه إذا أراد أن يهدي إنساناً أو يضله فعل به كيت وكيت ، وليس فيها أنه أراد ذلك أو لم يرده نظيره قوله : { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا } [ الأنبياء : 17 ] فبيّن أنه كيف يفعل اللهو لو أراده ، ثمّ إنه لم يرد ذلك بالاتفاق وأيضاً لم قلتم إنه أراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان بل المراد من يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه ، وتفسير الشرح هو أنه يفعل به ألطافاً تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه . ومن يرد أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج لا في كل الأوقات بل في بعضها كيلا يمكن دفعه وخصوصاً عند ظهور نصرة المؤمنين وبدوّ الذل والصغار في الكافرين . وأيضاً لم لا يجوز أن يقال : المعنى فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لما رأى من فوائد الإيمان ونتائجه من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فتزداد رغبته فيه ، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره للحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنّة والدخول في النار؟ وقال في الكشاف : { فمن يرد الله أن يهديه } أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف { يشرح صدره } للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه { ومن يرد أن يضله } أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له { يجعل صدره ضيقاً حرجاً } يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان .

وأجيب عن قولهم « ليس في الآية أنه أراد ذلك أو لم يرده » بأن قوله في آخر الآية : { كذلك يجعل الله الرجس } تصريح بأنه فعل به ذلك الإضلال لأن الكاف للتشبيه والتقدير : كما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره كذلك يجعل . وفيه أيضاً دلالة على أن المراد من قوله : { ومن يرد أن يضله } هو أنه يضله عن الدين ، وتفسير الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر بعيد لأن أكثر من يعتريه الحزن في الدنيا هو المؤمن ولهذا قال صلى الله عليه وعلى آله : « خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل » ولو خص ذلك بالآخرة كان من إيضاح الواضحات . فمن المعلوم لكل أحد أن من يضله الله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت . والجواب على قول صاحب الكشاف مما مر من أن فعل الإيمان يتوقف على أن تحصل في القلب داعية جازمة إلى الإيمان ، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذا القول في جانب الكفر ، فإن سمى الداعيتين أحد باللطف والخذلان فلا مشاحة في الأسامي . قال القاضي في تفسيره : روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : تذاكرنا أمر القدرية عند ابن عمر فقال : لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية . قال : ولا يخفى أنهم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله قضاءً وقدراً وخلقاً لأنهم يقولون الذنب لله فأي ذنب لنا حتى تعاقبنا أنت الذي خلقته فينا وأردته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له ولا يسرت لنا غيره ، فهؤلاء لا بد أن يكونوا خصماء الله . أما الذين قالوا إن الله تعالى مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة ، فهؤلاء منقادون لله تعالى لا خصماؤه . هذا كلام القاضي وتعجب منه الأشاعرة فقالوا : كيف يكون خصم الله من يقول ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وإن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على ربه اعتراض ولا مناظرة وكل ما يصل منه إلى عباده حتى الملائكة والأنبياء فهو تفضل منه وإحسان ، لكن الخصم من يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولاً عن الربوبية وكنت من السفهاء وأن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات ، فإن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة سنين غير محصورة ، ثم إنه لو ترك لحظة واحدة قال العبد له إنك معزول عن الإلهية ، يحكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله ، عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن أبا علي عقد مجلس التذكير وحضر عنده جم غفير ، فذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس مختفياً عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز : إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ .

قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد في غاية الزهد ، وآخر في غاية الفسق ، الثالث كان صبياً لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم . فقال الجبائي : أما الزاهد ففي درجات الجنة ، وأما الكافر ففي دركات النار ، وأما الصبي فما أهل السلامة . فقال : قولي له إن الصبي لوأراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد فهل يمكن منه؟ قال الجبائي : لا لأن الله تعالى يقول له إنما أخوك وصل إلى تلك الدرجات لأنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذلك . فقال أبو الحسن : قولي له لو أن الصبي يقول : يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل بلوغي ، ولو أبلغتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد ، فقال الجبائي : يقول الله تعالى له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار فراعيت مصلحتك . فقال لها أبو الحسن . قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار وقال : يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين ، لم راعيت حال الأخ الصغير وما راعيت حالي ومصلحتي؟ قال الراوي : فانقطع الجبائي فنظر فرأى أبا الحسن فعلم أن المسألة منه لا من العجوز . ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار وأكثر مجيباً عن الجبائي قائلاً : نحن لا نرضى بهذا الجواب وإنما نقول : الجواب مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها ، وهي أنه هل يجب على الله تعالى أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون : إنه غير واجب ولكنه تفضل وإحسان . وقال البغداديون : إنه واجب وعلى الأول لله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلاً على أحد بشيء أن أتفضل على غيره بمثله ، وعلى قول البغداديين فللَّه أن يقول : إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف في حقه لم يستلزم مفسدة الغير فلا جرم فعلته ، أما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك فكان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا ما فعلته وظهر الفرق .

وأورد على القسم الأول أنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح منه عقلاً لأنه ليس فعلاً شاقاً عليه ولا ينقص بذلك شيء من ملكه ، والصبي محتاج إلى الإحسان إليه ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد كمن منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجواد لعامة الناس . فإن كان حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولاً فليكن ههنا أيضاً مقبولاً وإلا فلا يقبل في شيء من الصور وتبطل كلية مذهبكم . وأورد على الشق الثاني أن قولنا : « تكليفه يتضمن مفسدة » ليس معناه أن ذات التكليف تتضمن المفسدة وإلا لم ينفك تكليف عن المفسدة وأنه باطل بالاتفاق ، فمعناه إذاً أنه تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنساناً آخر يختار من قبل نفسه فعلاً قبيحاً ، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تعالى تكليفه وجب أن يقبح تكليف كل من علم الله من حاله أنه يكفر وإلا لزم محض التحكم . هذا تمام مناظرة الفريقين ، ولعلك قد عرفت التحقيق هنا فيما سلف فتذكر .
ثم قال : { وهذا صراط ربك } في المشار إليه وجوه منها : أنه المذكور في الآية المتقدمة . أما على مذهب الأشاعرة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فيكون الفعل من الله ، ويلزم استناد الكل إلى قضائه وقدره . وأما على مذهب المعتزلة فالمراد هذا الذي قررنا طريقته التي اقتضتها الحكمة وعادته الجارية في عباده من التوفيق والخذلان . ومعنى { مستقيماً } عادلاً مطرداً . وانتصابه على الحال المؤكدة والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل . أو هو محذوف أي أحقه . وعن ابن عباس : يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك . وقال ابن مسعود : يعني القرآن : { قد فصلنا الآيات } ذكرناها فصلاً فصلاً بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر . قال في التفسير الكبير : قد بيّن الله تعالى صحة القول بالقضاء والقدر في آيات من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة . وختم الآية بقوله : { لقوم يذكرون } لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح عن الآخر إلا لمرجح فكأنه يقول للمعتزلي : تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك فإن حصول الفعل عن القادر لو لم يتوقف على الداعي مع تساوي طرفيه وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذٍ يلزم نفس الصانع وإبطال القول والفعل والفاعل والتأثير والمؤثر . ثم لما بيّن عظمة نعمته في الصراط المستقيم بيّن ما أعد وهيىء للمتذكرين فقال : { لهم دار السلام } أي دار الله يعني الجنة ، والإضافة للتشريف والتعظيم كما قيل : الكعبة بيت الله : أو دار السلامة من كل آفة وكرب والسلام والسلامة مثل : الضلال والضلالة والرضاع والرضاعة كلاهما مصدر .

وقيل : السلام جمع السلامة لأن أنواع السلامة حاصلة في الجنة . ومعنى { عند ربهم } أنها معدة عنده وفي ضمانه كما يقال لفلان عندي حق لا ينسى وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من حصولها { وهو وليهم } أي قريب منهم بالرحمة والرضوان أو مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم ، وذلك أن القوم قد عرفوا أن المدبر والمقدر ليس إلا هو جل جلاله ، وأن النافع والضار ليس إلا هو سبحانه ، فانقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه ، وما كان توكلهم إلا عليه ، ولم يكن أنسهم إلا به ، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال سبحانه : { وهو وليهم } على أنه متكفل لجميع مصالحهم ديناً ودنيا . ثم قال : { بما كانوا يعملون } أي بسبب أعمالهم ، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون لئلا يقطعوا العمل ولا يتكلوا ، وذلك أن بين النفس والبدن تعلقاً شديداً وكما أن الهيآت النفسانية قد تؤثر في البدن كحمرة الخجل وصفرة الوجل فالهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس ، فإذا واظب الإنسان على أعمال الخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس فلا بد للسالك من العمل بعد كمال العلم والمعرفة . ثم لما بين حال من تمسك بالصراط المستقيم أردفها بذكر من تعلق بضده فقال : { ويوم نحشرهم } والمراد واذكر يوم كذا ، أو يوم نحشرهم قلنا ، أو متعلقة محذوف والتقدير : ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته ، والضمير إما أن يعود إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله : { شياطين الإنس والجن } أو يعود إلى جميع المكلفين الذين علموا أن الله تعالى يبعثهم من الثقلين وغيرهم ، ويكون القائل على تقدير حذف القول هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم . وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا للتبكيت وإنهم وإن تمردوا في الدنيا انتهى حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف . وقال الزجاج : التقدير فيقال لهم : { يا معشر الجن } لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار لقوله : { ولا يكلمهم الله } [ البقرة : 174 ] { قد استكثرتم من الإنس } لا بد فيه من إضمار لأن الجن أي الشياطين لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس ، فالمراد قد استكثرتم من إضلال الإنس واستتباعهم فحشر معكم منهم الجم الغفير كما يقال : استكثر الأمير من الجنود . أما قوله : { وقال أولياؤهم من الإنس } فالأقرب عند بعضهم أن فيه حذفاً فكما قال للجن تبكيتاً ناسب أن يقول للإنس أيضاً مثل ذلك توبيخاً لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول .

ولما بكت الله كلا الفريقين حكى جواب الإنس وهو قوله : { ربنا استمتع بعضنا ببعض } وفيه قولان : الأول أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا ففي الاستمتاع وجهان : أحدهما أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض منفرداً وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . فيبيت آمناً في نفسه . فهذا استمتاع الإنس بالجن ، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيماً منهم للجن؛ وذلك الجني يقول : قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه . وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج ويعضده قوله سبحانه : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } [ الجن : 6 ] وثاني الوجهين أن الإنس كانوا ينقادون للجن ويطيعون حكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع فانتفعوا بالإنس انتفاع الرئيس بالخادم ، وأما انتفاع الإنس بالجن فهو أن دلوهم على الشهوات واللذات إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي أيقنوا أنه يسوء عاقبتهم وهذا اختيار الزجاج . والقول الثاني أن البعضين كليهما من الإنس لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي ذلك الاستمتاع كان حاصلاً إلى وقت محدود ثم جاءت الحسرة والندامة من حيث لا ينفع . وما ذلك الإجل؟ قيل : هو وقت الموت وعلى هذا فكل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا بأنهم بلغوا أجلهم وفيهم المقتول وغير المقتول . وقيل : هو وقت التخلية والتمكين وقيل : وقت المحاسبة في القيامة { قال } الله تعالى في جوابهم { النار مثواكم } مقامكم ومقرّكم من ثوى بالمكان يثوي ثوياً إذا أقام به . قال أبو علي الفارسي : المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله تعالى : { خالدين فيها } حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فالمعنى النار أهل أن يقيموا فيها خالدين . { إلا ما شاء الله } قيل : المراد منه أوقات المحاسبة ووقت كونهم في المحشر كأنه قيل : خالدين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم . وقال ابن عباس : استثنى الله قوماً سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله . وعلى هذا يلزم أن يكون « ما » بمعنى « من » وفيه خلل آخر وهو أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة الذي يحشرون فيه ، وقيل : المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير . روي أنهم يدخلون وادياً فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد الشديد إلى حر الجحيم . وقال في الكشاف : أو يكون هذا من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله ، إن نفست عنك إلا إذا شئت ، فيكون قوله : « إلا إذا شئت » من أشد الوعيد مع تهكم لأن إطماع محض ويأس كلي .

وقال أبو مسلم : هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم كأنهم قالوا : وبلغنا أجلنا الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى يعني الآجال الاخترامية { إن ربك حكيم } فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة . { عليم } بما يستأهله كل طائفة فكأنه تعالى يقول : إنما حكمت لهؤلاء بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك . ثم لما حكى عن الجن أن بعضهم يتولى بعضاً بين أن ذلك إنما حصل بتقديره وقضائه فقال : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً } وذلك أن القدرة صالحة للعداوة والصداقة فترجيح أحد الجانبين لا يكون إلا بداعية خلقها الله قطعاً للتسلسل ، وأيضاً لما بين أنه سبحانه ولي أهل الجنة بقوله : { هو وليهم } ذكر أن أولياء أهل النار من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وأشار إليه بقوله : { بما كانوا يكسبون } أي بسبب كون ذلك البعض مكتسباً للظلم وهذه في مناسبة في غاية اللطف لأن الجنسية علة الضم فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين . وفي الآية دلالة على أن الرعية متى كانوا ظلمة فإن الله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم ، فإن أرادوا الخلاص منه فليتركوا الظلم وعن مالك بن دينار قال : جاء في بعض الكتب السموية « أنا الله مالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة ، لا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم » .
ثم بيّن أن كفار الثقلين لا يكون لهم إلى الجحود يوم القيامة سبيل وأنهم لا يعذبون إلا بالحجة فقال : { يا معشر الجن والإنس } قال أهل اللغة : المعشر كل جماعة مختلطة يجمعهم أمير واحد { ألم يأتكم رسل منكم } استفهام على سبيل التقدير فلا جرم استدل الضحاك بالآية { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] على أن من الجن رسلاً كالإنس ، ولأن استئناس الجنس بالجنس أكمل ولهذا قال سبحانه : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] والأكثرون على أنه ما كان من الجن رسول ألبتة إنما كانت الرسل من بني آدم وزعموا أن ذلك مجمع عليه . ورد بأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف؟ واستدل بعضهم على المطلوب بقوله تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } [ آل عمران : 33 ] والمراد بالاصطفاء ههنا النبوّة بالإجماع . وأجيب عن قول الضحاك بأن الآية تقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضاً من أبعاض هذا المجموع فكان هذا القدر كافياً في حمل اللفظ على ظاهره فلا يلزم إثبات رسول من الجن . وأيضاً لا يبعد أن يقال : إن الرسل كانوا من الإنس ، ثم كان من الجن نفر يستمعون من رسول الإنس وينذرون قومهم بذلك قال :

{ وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن } [ الأحقاف : 29 ] الآية . وقد يسمى رسول الرسول رسولاً كما أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } [ يس : 14 ] ثم إنه سبحانه يكون قد بكت كفار الثقلين بهذه الآية لأنه أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إليهم فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل المقصود . وقال الواحدي : أراد رسل من أحدكم وهو الإنس كقوله : { يخرج منهما اللؤلؤ } [ الرحمن : 22 ] أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب . وعن الكلبي كانت الرسل قبل أن يبعث محمد يبعثون إلى الإنس ورسول الله صلى الله عليه وآله بعث إلى الجن والإنس . أما قوله : { يقصون عليكم آياتي } فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتأويل وبالتلاوة { وينذرونكم لقاء يومكم هذا } يخوفونكم عذاب هذا اليوم فلم يجدوا بداً من الاعتراف فلذلك { قالوا شهدنا على أنفسنا } والسبب في أنهم أقروا في هذه الآية وجحدوا في قوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] هو أنهم مختلفو الأحوال في يوم القيامة مضطربون؛ فتارة يقرّون وأخرى يجحدون . ومنهم من حمل هذه الشهادة على شهادة الجوارح عليهم . ثم أخبر الله تعالى عن حالهم في الدنيا بقوله : { وغرتهم الحياة الدنيا } وعن حالهم في الآخرة بقوله : { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } والمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجر أمثالهم في الدنيا عن الكفر والمعصية . وقد يستدل بالآية على أن لا وجوب قبل ورود الشرع وإلا لم يكن لهذا التوبيخ والتبكيت فائدة .
التأويل : { أو من كان ميتاً } في حالة العدم { فأحييناه } بالحياة الحقيقية أي بالحي الذي لا يموت { وجعلنا له } نور الوجود الحقيقي الذي { يمشي به في الناس } وبه يسمع وبه يبصر { كمن هو } محبوس { في ظلمات } الطبيعة { وكذلك جعلنا في كل قرية } أي كل قالب { أكابر مجرميها } من النفس والهوى والشيطان { ليمكروا فيها } بمخالفات الشرع وموافقات الطبع . { ما أوتي رسل الله } من القلب والسر والروح . { يشرح صدره } أي ينظر إلى قلبه بنظر العناية فينوّره بنور جماله وهو نور الإيمان ، فيشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام . وهذا النور يقبل الزيادة والاشتداد إلى أن يصير الإيمان إيقاناً والإيقان عياناً والعيان عيناً . { ضيقاً } لتزاحم ظلمات صفات البشرية { حرجاً } لتعلقاته بالدنيا وشهواتها { كأنما يصعد في السماء } لأنه سفلي بالطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر . { وهذا } الذي بينا من الهداية والضلالة { صراط ربك } باللطف والقهر فبجذبات اللطف يهدي السعيد وبسطوات القهر يضل الشقي . { لهم دار السلام } أي السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج عن ظلمات الاثنينية .

{ ويوم يحشرهم } في موقف القالب البشري بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة { يا معشر الجن } أي الصفات الشيطانية { قد استكثرتم من الإنس } أي غلبتم على الصفات الإنسانية { وقال أولياؤهم من الإنس } يعني النفس الأمارة { ربنا استمتع بعضنا ببعض } واستمتاع النفس الأمارة بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره على تحصيل شهواتها ولذاتها العاجلة وحظوظها ، واستمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائها كما استعان بحواء على إغواء آدم . { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } يعني أن مدة الاستمتاع وما جرى بيننا إنما كان بمقتضى قضائك وقدرك فأجابهم بأن الثوى في النار أيضاً بقضاء الله { إلا أن يشاء الله } فيتوب عليهم { إن ربك حكيم } في تقدير الاستمتاع { عليم } بأهل الجنة وبأهل النار ، { وكذلك } أي كما جعلنا مردة الجن والإنس بعضهم أولياء بعض فكذلك نجعل بعض الظالمين أولياء بعض بما كانوا يكسبون من إفساد الاستعداد الفطري { ألم يأتكم رسل منكم } يعني الإلهامات الربانية . وشهدوا على أنفسهم أقروا عند الحرمان عن السعادة العظمى أنهم بذواتهم كانوا صدأ مرآة قلوبهم { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى } [ النجم : 39 ، 40 ] وما التوفيق إلا منه .

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)

القراآت : { عما تعملون } بتاء الخطاب : ابن عامر { مكاناتكم } بالجمع حيث كان : أبو بكر وحماد . الباقون { مكانتكم } على التوحيد . { من يكون } بالياء التحتانية : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بتاء التأنيث . { بزعمهم } بضم الزاي علي وكذلك ما بعده الباقون : بالفتح { زين } على البناء للمفعول { قتل } بالرفع { أولادهم } بالنصب { شركائهم } بالجر ابن عامر . الآخرون { زين } على البناء للفاعل { قتل } بالنصب { أولادهم } بالجر { شركاؤهم } بالرفع { وإن تكن } بتاء التأنيث : ابن عامر ويزيد وأبو بكر وحماد { ميتة } بالرفع : ابن كثير وابن عامر ويزيد ، وقرأ { ميتة } بالتشديد ابن كثير وابن عامر : الباقون : بالتخفيف .
الوقوف : { غافلون } ه { مما عملوا } ط { يعملون } ه { ذو الرحمة } ط { آخرين } ه { لآت } لا لأن الواو بعده للحال { بمعجزين } ه { عامل } ج لابتداء التقرير مع فاء التعقيب { تعملون } ه لا لأن ما بعده مفعول سواء كان من استفهامية أو موصولة { عاقبة الدار } ط { الظالمون } ه { لشركائنا } ج للشرط مع الفاء { إلى الله } ج للفصل بين المتضادين معنى مع الاتفاق حكماً { شركائهم } ط { يحكمون } ه { دينهم } ط { يفترون } ه { افتراء عليه } ط { يفترون } ه { أزواجنا } ج للشرط مع العطف . { شركاء } ط { وصفهم } ط { عليم } ه { على الله } ط { مهتدين } ه .
التفسير : { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره { أن لم يكن } وهو للتعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك ، أو ذلك الذي ذكر لانتفاء كون ربك مهلك القرى و « أن » هي الناصبة للأفعال أو مخففة من الثقيلة ، وعلى هذا يكون ضمير الشأن محذوفاً أي أن الحديث كذا ، ويجوز أن يكون ، { أن لم يكن } بدلاً من { ذلك } كقوله : { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع } [ الحجر : 66 ] ومعنى قوله : { بظلم } أي بسبب ظلم أقدموا عليه وهذا أليق بأصول الأشاعرة . أو المراد ظالماً لكم فيكون من فعل الله وهذا أنسب بأصول المعتزلة . ومعناه أنه تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل ولم ينبهوا برسول ولا كتاب كان ظالماً . وعلى هذا التفسير يمكن للأشاعرة أن يقولوا إنه لو فعل ذلك لم يكن ظلماً ولكنه يكون في صورة الظلم فأطلق الظلم على نفسه مجازاً وإلا فهو تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله . وأما قوله : { وأهلها غافلون } فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به وإنما معناه أنه لا يبين لهم كيفية الحال وأن لا يزيل عذرهم وعلتهم . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع ، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب ألبتة لأنها تدل على أنه تعالى ما يعذب أحداً على أمر من الأمور قبل بعثة الرسل لكن بعدها .

والمعتزلة قالوا : إنها تدل من وجه آخر على تقرير الوجوب قبل الشرع لأن قوله : { بظلم } إن كان عائداً إلى العبد دل على أنه يمكن أن يصدر منه الظلم والقبيح قبل البعثة ، وإن كان عائداً إلى الله تعالى فقد تم الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه . ثم لما شرح أحوال أهل الثواب والعقاب ذكر كلاماً كلياً فقال : { ولكل درجات } أي ولكل عامل في عمله درجات ، وعلى حسب تلك الدرجات يكون الجزاء إن خيراً فخير وإن شراً فشر . ومعنى { مما عملوا } أي من جزاء أعمالهم . وقيل : إن أول الآية مختصة بأهل الطاعات لأن لفظ الدرجة يليق بهم ولأهل المعصية تكون الدركات وإليه الإشارة بقوله { وما ربك بغافل عما يعملون } قالت الأشاعرة : في الآية دليل على مسألة الجبر والقدر فإنه تعالى حكم لكل واحد بدرجة معينة في وقت معين وبحسب فعل معين ، وأثبت تلك الدرجة في اللوح المحفوظ وأشهد عليها الملائكة وخلاف علمه وإثباته وإِشهاده محال . ثم بين أنه ليس يحتاج إلى طاعة المطيعين ولا يدخل عليه نقص بمعصية العاصين فقال : { وربك الغني ذو الرحمة } أما أنه غني في ذاته وصفاته وأفعاله وفي أحكامه عن كل ما سواه فلوجوب وجوده ، وأن ما سواه ممكن لذاته مفتقر في الوجود وفي الأمور التابعة للوجود إليه فلا غنيّ إلا هو ، وأما أنه ذو الرحمة فلأن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات من الروحانيات ومن الجسمانيات فهو من الحق وبإيجاده وتخليقه ، والاستقراء دل على أن الخير غالب كالصحة والشبع والسمع والبصر وما ذلك إلا لرحمته الكاملة ورأفته الشاملة . والذي يتصوّر من رحمة الوالدين وغيرهما فإنما ذلك بإيجاد داعية ذلك فيهم ومع ذلك فتمكن الشخص من الانتفاع بها ليس إلا منه تعالى . ومن هذا يعلم تنزهه تعالى عن الظلم والسفه والكذب والعبث . ومن رحمته تكليف الخلائق ليعرضهم للمنافع الباقيات الدائمات . ثم لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة كان لظانّ أن يظن أن للرحمة معدناً مخصوصاً وموضعاً معيناً فبين تعالى بقوله تعالى : { إن يشأ يذهبكم } أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوماً آخرين ويضع رحمته فيهم ، وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم . ومعنى الإذهاب الإهلاك وأن لا يبلغهم مبلغ التكليف { ويستخلف من بعدكم } أي : من بعد ذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون ، إلا على طريق البدل من فائت ، وقوله : { ما يشاء } أي خلق ثالث ورابع . ثم اختلفوا فقال بعضهم : خلقاً آخرين من أمثال الجن والإنس لكن أطوع ، وقال أبو مسلم : يعني خلقاً ثالثاً مخالفاً للثقلين ليكون أقوى في دلالة القدرة .

ثم بيّن سبب قدرته على ذلك فقال { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } لأن من قدر على تصوير النطفة المتشابهة الأجزاء بهذه الصور المخصومة قدر على تصويرها بصور أخرى مخالفة لها . وقال في الكشاف : المعنى كما أنشأكم من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام ، ثم ذكر حال المعاد فقال : { إنما توعدون لآت } قال الحسن : أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة ، ويحتمل أن يقال : { إنما توعدون لآت } إشارة إلى لطفه أي ما يتعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة . وقوله : { وما أنتم بمعجزين } أي خارجين عن قدرتنا وحكمنا إشارة إلى قهره ، يقال : أعجزه الشيء أي فاته . فالجزم في جانب الوعد والتعريض في جانب الوعيد دليل على أن جانب الرحمة والإحسان أغلب . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله بتهديد منكري البعث فقال : { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } قال الواحدي : قراءة الإفراد أوجه لأن المصدر لا يجمع في أغلب الأحوال ، وقال في الكشاف : المكانة تكون مصدراً . يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكين . وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة ، فمعنى الآية اعملوا على نمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها . يقال للرجل : على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه { إني عامل } على مكانتي التي أنا عليها . والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ، والغرض تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] { فسوف تعلمون } أينا تكون له العاقبة المحمودة ، والفاء لتعقيب الجزاء ألا يعادي أي قل اعملوا فستجزون وهكذا في سورة الزمر بخلاف سورة هود حيث لم يقل هناك « قل » فصار استئنافاً ومحل « من » نصب إن كان بمعنى « الذي » أو رفع والجملة مفعول تعلمون إن كان بمعنى أيّ و { عاقبة الدار } العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهي مصدر كالعافية . وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف وأدب ووثوق بأن المنذر محق ولهذا قيل له فإن الكافر تكون العاقبة عليه لا له .
ثم حكى أنواعاً من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيراً للعقلاء عن الالتفات إلى أقوال أمثالكم فقال : { وجعلوا لله } قال الزجاج : وجعلوا لله نصيباً ولشركائهم نصيباً بدليل قوله : { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } وجعل الأوثان شركاء لأنهم جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونها عليها . ثم قال : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } وفي تفسيره وجوه : قال ابن عباس : كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم نصيباً وللأوثان نصيباً ، فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه ألبتة .

ثم إن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غنيّ عن هذا ، وإن سقط شيء مما جعلوا للأوثان في نصيب الله تعالى أخذوه وردّوه إلى نصيب الصنم وقالوا : إنه فقير . وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها . وعن الحسن والسدي : كان إذا هلك لأوثانهم شيء أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله تعالى . وقال مجاهد : إنه إذا انفجر من سقى ما جعلوه للشيطان في نصيب الله عز وجل سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه ، وقال قتادة : إذا أصابهم شدة استعانوا بالله وإذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى شركائهم . وقال مقاتل : إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة . وقالوا : لو شاء زكى نصيب نفسه . وأما إن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بدّ لآلهتنا من نفقة وأخذوا نصيب الإله تعالى فأعطوه السدنة . فمعنى { فلا يصل إلى الله } أنه لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين ، ومعنى الوصول إلى شركائهم أنهم ينفقونه عليها بذبح نسائك عندها والأجراء على سدنتها ونحو ذلك . وقوله : { مما ذرأ } فيه أن الله تعالى كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه أي خلقه . ثم إنه سبحانه ذم فعلهم فقال : { ساء ما يحكمون } وذكر العلماء فيه وجوهاً : الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانبه وهو سفه . الثاني جعلوا بعض الحرث لله وبعضه لغيره مع أنه تعالى هو الخالق للجميع . الثالث أن ذلك حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وأشار إليه بقوله { بزعمهم } الرابع لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز نصيب لكل حجر ومدر . الخامس لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها على الانتفاع بذلك النصيب ، فإفراز النصيب لها عبث . النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة قوله : { وكذلك زين } كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياءً خوفاً من الفقر أو من التزويج ، وكان الرجل يحلف بالله إن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب على ابنه عبد الله ، والشركاء على الوجه الأول الشياطين الذين أطاعوهم في معصية الله تعالى ، وعلى الثاني هم السدنة والخدام ، والأول قول مجاهد ، والثاني للكلبي . وتقدير الكلام ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة ، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين زين لهم شركاؤهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام { قتل أولادهم } بالوأد أو بالنحر . ثم إن وجه القراءة الأكثري ظاهر وليس فيها إلا تقديم المفعول وذلك لشدة الاعتناء به ، وأما قراءة أبن عامر فخطأها الزمخشري من جهة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف فإن ذلك قد جوز بالظرف كقوله :

لله در اليوم من لامها ... وضعف بغير الظرف كقوله :
فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مزادة
وحملوه على ضرورة الشعر مع الاستكراه ، والحق عندي في هذا المقام أن القرآن حجة على غيره وليس غيره حجة عليه ، والقراآت السبع كلها متواترة فكيف يمكن تخطئة بعضها؟ فإذا ورد في القرآن المعجز مثل هذا التركيب لزم القول بصحته وفصاحته وأن لا يلتفت إلى أنه هل ورد له نظير في أشعار العرب وتراكيبهم أم لا ، وإن ورد فكثير أم لا؟ ومع ذلك فقد وجهه بعض الفضلاء بأن المضاف إليه من الأول محذوف على نحو قوله :
بين ذراعي وجبهة الأسد ... والمضاف مضمر مع الثاني كقراءة من قرأ { والله يريد الآخرة } [ الأنفال : 67 ] بالجر على تقدير غرض الآخرة ، فتقدير الآية : قتل شركائهم أولادهم قتل شركائهم . ومعنى { ليردوهم } ليهلكوهم بالإغواء . قال ابن عباس : ليردوهم في النار . واللام محمول على العاقبة إن كان التزيين من السدنة ، وعلى حقيقة التعليل إن كان من الشيطان { وليلبسوا عليهم دينهم } ليخلطوه عليهم ويشبهوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق . وقيل : دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه ، وقيل : وليوقعوهم في دين ملتبس { ولو شاء الله ما فعلوه } لما فعل المشركون ما زين لهم ، أو لما فعل الشياطين والسدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ما ذكر إن جعل الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة . والمعتزلة حملوا هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر . ثم قال : { فذرهم وما يفترون } على قانون قوله : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وفيه مع التهديد التسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر والشرك . قيل : إنما قال في هذه الآية { ولو شاء الله ما فعلوه } ليكون مناسباً لقوله : { وجعلوا لله } وقال فيما قبل : { ولو شاء ربك ما فعلوه } [ الأنعام : 112 ] لأنه وقع عقيب آيات فيها ذكر الرب كقوله : { قد جاءكم بصائر من ربكم } [ الأنعام : 104 ] الآيات . النوع الثالث من أحكامهم الباطلة أنهم قسموا أنعامهم أقساماً فأوّلها أن قولوا { هذه أنعام وحرث حجر } وحجر « فعل » بمعنى « مفعول » كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ، وأصل الحجر المنع وسمي العقل الحجر لمنعه من القبائح ، وفلان في حجر القاضي أي في منعه . كانوا إذا عينوا شيئاً من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا : { لا يطعمها إلا من نشاء } يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء { و } ثانيها أن قالوا : { هذه أنعام حرمت ظهورها } وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد سبق في المائدة .

{ و } ثالثها : { أنعام لا يذكرون اسم الله عليها } في الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام . وقيل : هي أنعام لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها وإنما فعلوا ذلك كله من غير حكم من الله وشرع منه بل { افتراء عليه } وانتصابه على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء . ثم قال : { سيجزيهم بما كانوا يفترون } والمقصود منه الوعيد ، { و } النوع الرابع من قضاياهم الفاسدة أن { قالوا ما في بطون هذه الأنعام } يعنون أجنة البحائر والسوائب { خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } هذا إن ولد حياً { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } أي اشترك فيه الذكور والإناث ، من قرأ بنصب ميتة فتقديره وإن يكن ما في بطونها ميتة ، ومن قرأ بالرفع فعلى أن « كان تامة » ، أو لأن التقدير : وإن يكن لهم أو هناك ميتة . وإنما جاز تذكير الفعل وتأنيثه لأن تأنيث الميتة غير حقيقي ، أو لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل : ميت ولهذا جاز عود الضمير إليه مذكراً في قوله : { فهم فيه شركاء } وتذكير الضمير في قوله : { فهم } للتغليب { سيجزيهم وصفهم } أي جزاء وصفهم على الله الكذب في التحليل والتحريم { إنه حكيم عليم } ليكون الزجر واقعاً على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق . فإن قيل : كيف أنث { خالصة } وذكر { محرماً } ؟ قلنا : الأول حمل على المعنى لأن ما في بطون الأنعام في معنى الأجنة ، والثاني حمل على اللفظ ، وفي الأول وجهان آخران : أن تكون التاء للمبالغة مثل رواية الشعر وأن يكون مصدراً كالعاقبة أي ذو خالصة . ثم إنه سبحانه جمع قبائح أحكامهم وأفعالهم وحكم عليهم بالخسران والسفاهة وعدم العلم والضلال وعدم الاهتداء فقال { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم } الآية . وذلك أن الولد نعمة عظيمة من الله تبقي ذكره ونسله فالسعي في إبطال مثل هذه النعمة لضرر مظنون هو الفقر أو نحوه ، أو لفائدة موهومة هي القربة إلى الأصنام دليل خفة العقل وعدم العلم وأنه موجب لخسران الدارين . وكذا تحريم ما أحل الله من الطيبات بالهوى والتقليد بل لمحض الافتراء على الله وإن ذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، ولهذا سجل عليهم آخراً بالضلال ثم بعدم الاهتداء ليحصل كلا الأمرين لهم بالمطابقة كما حصل بالتضمن والله أعلم .
التأويل : { مهلك القرى } أي قرى أشخاص الإنسان { بظلم } وهو صرف الاستعداد الفطري في استيفاء اللذات الفانية { وأهلها غافلون } لم يبلغوا مبلغ التكليف بعد . { وربك الغني } عن كل مخلوق عامة وعن الإنسان خاصة { ذو الرحمة } خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم . { واعملوا على مكانتكم } أي على ما جبلتم عليه { إني عامل } على ما جبلت عليه { قتل أولادهم شركاؤهم } من الشياطين والنفس والهوى والدنيا { سيجزيهم بما كانوا يفترون } لأنهم ذهبوا مذهب الطبع لا مذهب الشرع ، والعمل بالطبع وإن كان فيه نوع مجاهدة النفس لا يكون له نور إذا لم يكن لامتثال الشرع { قد خسر الذين قتلوا أولادهم } لأن ذلك نتيجة انتزاع الرحمة عن قلوبهم وحرموا ما رزقهم الله صورة وهو ظاهر ، ومعنى وهو استعداد حصول مراتب أهل القرب { وما كانوا مهتدين } لأن خشية الفقر حملتهم على قتل الأولاد . وقال أهل التحقيق : من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

القراآت : { حصاده } بفتح الحاء : أبو عمرو وعاصم وابن عامر وسهل ويعقوب ، الباقون : بالكسر وكلاهما مصدر { من الضان } بغير همزة : أبو عمرو غير شجاع وأوقية والأعشى والأصبهاني عن ورش ويزيد وحمزة في الوقف . { ومن المعز } ساكن العين : عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وأبو جعفر وابن فليح وزمعة والخزاعي عن البزي والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل عنه ، الباقون : بفتحها { إلا أن تكون } بتاء التأنيث : ابن كثير وابن عامر ويزيد وحمزة وعباس مَن طريق ابن رومي عنه . { ميتة } بالتخفيف والرفع : ابن عامر وزاد يزيد التشديد . الباقون : بالياء وبالنصب . { الحوايا } ممالة : علي وحمزة وخلف . { فقل ربكم } وبابه مظهراً : الحلواني عن قالون والبرجمي .
الوقوف : { متشابه } ط . { ولا تسرفوا } ط { المسرفين } ه لا لأن قوله : { حمولة } منصوب ب { أنشأ } { وفرشاً } ط { الشيطان } ط { مبين } ه لا لأن { ثمانية } منصوب ب { أنشأ } { جنات } { أزواج } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى { المعز اثنين } ط { أرحام الأنثيين } ط لانتهاء الاستفهام { صادقين } ه لا لأن { اثنين } منصوب ب { أنشأ } أيضاً { ومن البقر اثنين } ط { أرحام الأنثيين } ط لأن « أم » في قوله : { أم كنتم } بمعنى ألف استفهام توبيخ . { بهذا } ج للاستفهام مع الفاء ولانقطاع النظم مع اتحاد المعنى { علم } ط { الظالمين } ه . { لغير الله } ج { رحيم } ه { ظفر } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى . { بعظم } ط { ببغيهم } ز للابتداء بأن وإثبات وصف الصدق مطلقاً . وللوصل وجه لأن المعنى وإنا لصادقون فيما أخبرنا عن التحريم ببغيهم . { واسعة } ط لاختلاف الجملتين { المجرمين } ه { من شيء } ط { بأسنا } ط { لنا } ط { تخرصون } ه { البالغة } ج للشرط مع الفاء { أجمعين } ه { حرم هذا } ج لذلك { معهم } ج لتناهي جزاء الشرط مع العطف { يعدلون } ه .
التفسير : إنه سبحانه جعل مدار هذا الكتاب الكريم على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وإنه بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة منكري البعث والقيامة ، ثم أتبعه حكاية أقوالهم الركيكة تنبيهاً على ضعف عقولهم ، فلما تمم هذه المقاصد عاد إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على إثبات ذاته ووجوب توحيده فقال : { وهو الذي أنشأ } الآية نشأ الشيء ينشأ نشأ إذا ظهر وارتفع ، وأنشأه الله ينشئه إنشاء أظهره ورفعه { جنات معروشات وغير معروشات } يقال : عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القبضان . وقيل : كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب تعرش وبعها يبقى على وجه الأرض منبسطاً كالقرع والبطيخ . وقيل : المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عروش يحمل عليها فتمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه ، وغير معروشات هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقة عن التعريش .

وقيل : المعروشات ما في البساتين والعمارات مما غرسه الناس واهتموا به فعرشوه ، وغير معروشات ما أنبته الله وحشياً في البراري والجبال فيبقى غير معروش . { والنخل والزرع } فسر ابن عباس الزرع بجميع الحبوب التي الذكر تقتات { مختلفاً أكله } والأكل كل ما يؤكل والمراد ههنا ثمر النخل والزرع فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما كقوله : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] أي إليهما . والمراد أن لكل شيء منهما طعماً غير طعم الآخر و { مختلفاً } حال مقدّرة أي أنشأه مقدرّاً اختلاف أكله لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك { متشابهاً وغير متشابه } في القدر واللون والطعم . ثم قال { كلوا من ثمره } وقد قال في الآية المتقدمة أعني نظير هذه الآية وذلك قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } الآية إلى قوله { انظروا إلى ثمره } [ الأنعام : 99 ] تنبيهاً على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم متقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الأول سعادة روحانية أبدية ، والحاصل من الانتفاع سعادة جسمانية زائلة . وفائدة هذا الأمر الإباحة ، وقدم إباحة الأكل على إخراج الحق كيلا يظن أنه يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المتشاركين فيه . وفي الآية إشارة إلى أن خلق هذه النعم إما للأكل وإما للتصدق ، والأول لكونه حق النفس مقدم على الثاني لأنه حق الغير . وفيه أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله : { كلوا } خطاب عام يتناول الكل ، ويمكن أن يستدل به على أن الأصل عدم وجوب الصوم وأن من ادعى إيجابه فهو المحتاج إلى الدليل ، وأن المجنون إذا أفاق في أثناء النهار لا يلزمه قضاء ما مضى ، وأن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام . قال علماء الأصول : من المعلوم من لغة العرب أن صيغة الأمر تفيد ترجيح جانب الفعل؛ فحملها على الإباحة أو الوجوب لا يصار إليه إلا بدليل منفصل ، وفائدة قوله : { إذا أثمر } وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه هي أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت اطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع ، أما قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } فعن ابن عباس في رواية عطاء وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك . ، أن الآية مدنية والحق هو الزكاة المفروضة وعلى هذا فكيف يؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل . والجواب أن المراد فاعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد واهتموا به حتى لا تؤخروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء ، وقال مجاهد : الآية مكية وإن هذا حق في المال سوى الزكاة وكان يقول : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم منه ، وكذا إذا دسته وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته وزيف بقوله صلى الله عليه وآله :

« ليس في المال حق سوى الزكاة » وبأن قوله : { وآتوا حقه } إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوماً قبل ورود هذه الآية والإلزام الإجمال . وعن سعيد بن جبير أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرض العشر أو نصف العشر فيما سقي بالسواقي نسخ ، والقول الأول أصح . ثم إن أبا حنيفة احتج بالآية على وجوب الزكاة في الثمار لأنه قال : { وآتوا حقه } بعد ذكر الأنواع الخمسة وهي العنب والنخل والزرع والزيتون والرمان . واعترض عليه بأن لفظ الحصاد مخصوص بالزرع . وأجيب بأن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل . واحتج هو أيضاً بها على أن العشر واجب في القليل والكثير للإطلاق . والجواب أن بيانه في الحديث « ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة » ثم قال تعالى : { ولا تسرفوا } ولأهل اللغة فيه تفسيران : فعن ابن الأعرابي : السرف تجاوز ما حد لك . فعلى هذا إذا أعطى الكل ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف كما جاء في الخبر « إبدأ بنفسك ثم بمن تعول » وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فخذها فقسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئاً فنزلت الآية { ولا تسرفوا } أي لا تعطوا كله وإذا منع الصدقة فقد أسرف وبه فسر الآية سعيد بن المسيب ، فإن مجاوزة الحد تكون إلى طرف الإفراط وإلى طرف التفريط . وقال عمر : سرف المال ما هذب منه في غير منفعة . وعلى هذا فقد قال مقاتل : معناه لا تشركوا الأصنام في الأنعام والحرث . وقال الزهري : ولا تنفقوا في معصية الله تعالى . وعن مجاهد : لو كان أبو قبيس ذهباً فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً ، ولو أنفق درهماً في معصية الله كان مسرفاً ، وهذا المعنى أراد حاتم الطائي حين قيل له لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير . ثم ختم الآية بقوله : { إنه لا يحب المسرفين } والمقصود منه الزجر فإن كل مكلف لا يحبه الله فإنه من أهل النار لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادة إيصال الثواب إليه . قوله : { حمولة وفرشاً } معطوف على جنات أي وأنشأ من الأنعام هذين الجنسين . فالحمولة ما يحمل الأثقال « فعولة » بمعنى « فاعلة » والفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش مصدر بمعنى « مفعول » . وقيل : الحمولة الكبار التي تصلح للحمل ، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها مثل الفرش المفروش عليها . { كلوا مما رزقكم الله } قالت المعتزلة . أي مما أحلها لكم { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } لا تسلكوا طريقه الذي يدعوكم إليه في التحليل والتحريم من عن أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية { إنه لكم عدوّ مبين } بين العداوة .

وفي انتصاب { ثمانية أزواج } وجهان : قال الفراء : هو بدل من قوله : { حمولة وفرشاً } . وجوز غيره أن يكون مفعول { كلوا } والعرب تسمي الواحد فرداً إذا كان وحده فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً وهما زوجان ، قال عز من قائل : { خلق الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] وقال : { ثمانية أزواج } ثم فسرها بقوله : { من الضأن اثنين } أي زوجين اثنين { ومن المعز اثنين } وفي الآية الثانية : { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } قال الجوهري : الضائن خلاف الماعز والجمع يعني اسم الجمع الضأن والمعز مثل راكب وركب وسافر وسفر . وضأن أيضاً مثل حارس وحرس . وقال في الكشاف : إنه قرىء بفتح العين . والضأن ذوات الصوف من الغنم والمعز ذوات الشعر منها { قل ءالذكرين حرم الأنثيين } نصب بقوله : { حرم } والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله . ويريد بالذكرين الذكر من الضأن وهو الكبش ، والذكر من المعز وهو التيس ، وبالأنثيين الأنثى من الضأن وهي النعجة ، والأنثى من المعز وهي العنز ، وذلك على طريق الجنسية والمشاكلة . ومعنى الاستفهام إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما يشتمل عليه أرحام الأنثيين أي مما يحمل إناث الجنسين ، وكذلك الذكر من جنسي الإبل والبقر يعني الجمل والثور والأنثيان منهما الناقة والبقرة وما يحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً ، أو من خلط تارة وكانوا يقولون : قد حرمها الله فقيل لهم : إنكم لا تقرون بنبوّة نبي ولا شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم؟ وأكد ذلك بقوله : { نبؤني بعلم } أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم { إن كنتم صادقين } في أن الله حرمه . واعلم أنه سبحانه منّ على عباده بإنشاء الأزواج الثمانية من الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم إلا أنه فصل بين بعض المعدود وبعضه بالاحتجاج على من حرمها وليس ذلك بأجنبي وإنما هي جملة معترضة جيء بها تأكيداً وتشديداً للتحليل ، فالاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد ، أما قوله : { أم كنتم شهداء } ف « أم » منقطعة أي بل أكنتم شهداء ومعناه الإنكار وفحواه أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل وتقولون إن الله حرم هذا فلم يبق إلا المشاهدة فتهكم بهم بذلك وسجل عليهم وعلى مثالهم بالظلم بقوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، قال المفسرون : يريد عمرو بن لحي بن قمعة الذي غيَّر شريعة إسماعيل عليه السلام وبَحَّر البحائر وسَيَّب السوائب . والأقرب أن للفظ عام فيتناول كل مفتر وإذا استحق هذا الوعيد على افتراء الكذب في تحريم مباح فكيف إذا كذب على الله تعالى في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والملائكة وفي النبوّات وفي المعاد؟! قال القاضي : في الآية دلالة على أن الإضلال عن الدين مذموم فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى .

وأجيب بأنه ليس كل ما كان مذموماً منا كان مذموماً من الله تعالى فإن تمكين العبيد من أسباب الفجور وتسليط الشهوة عليهم مذموم منّا دونه { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } قال القاضي : لا يهديهم إلى ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها . وقالت الأشاعرة : معناه أنه لا ينقل المشركين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ثم لما بيّن فساد طريقة الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطاعم أتبعه البيان الصحيح في الباب فقال : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً } أي طعاماً محرماً { على طاعم يطعمه } على آكل يأكله { إلا أن يكون } ذلك المأكول أو الموجود أو الطعام { ميتة أو دماً مسفوحاً } مصبوباً سائلاً . قال ابن عباس : يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما خرج من الأوداج عند الذبح فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما ، وما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل . وسئل أبو مجلز عما يتلطّخ باللحم من الدم وعن القدر التي سلف في أمثالها ، وانتصاب { فسقاً } على أنه معطوف على المنصوبات قبله ، و { أهل } صفة له منصوبة المحل سمي ما أهل به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق كما يقال : فلان كرم وجود . وجوز أن يكون { فسقاً } مفعولاً له من { أهل } وعلى هذا فقد عطف { أهل } على { يكون } والضمير في { به } يعود إلى ما يرجع إليه المستكن في { يكون } قالت العلماء : إن هذه السورة مكية وقد بيّن في الآية أنه لم يجد فيما أوحي إليه قرآناً أو غيره محرماً سوى هذه الأربعة ، وقد أكد هذا بما في النحل وفي البقرة مصدرة بكلمة « إنما » الدالة على الحصر فصارت المدنية مطابقة للمكية ، والذي جاء في المائدة { حرمت عليكم الميتة والدم } [ الآية : 3 ] إلى قوله : { وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } [ الآية : 3 ] من أقسام الميتة ولكنه خص بالذكر لأنهم كانوا يحكمون على تلك الأشياء بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى اخرها كانت مستقرة على هذا الحكم . وعلى هذا الحصر بقي الكلام في الخمر وفي سائر النجاسات والمستقذرات فنقول : إنه سبحانه قد وصف الخمر بأنه رجس وههنا علل تحريم لحم الخنزير بكونه رجساً فعلمنا أن النجاسة علة لتحريم الأكل وكل نجس فإنه يحرم أكله ، هذا بعد إجماع الأمة على تحريم الخبائث والنجاسات . وإن جوزنا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد كما روي أنه صلى الله عليه وآله نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور .

فلا إشكال . وقيل : المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرم على اليهود وزيف بأن تحريم شيء خامس نسخ والأصل عدمه . ثم بين سبحانه أنه حرم على اليهود أشياء أخر سوى هذه الأربعة فقال : { وعلى الذين هادوا حرمنا } وذلك نوعان : الأول أنه حرم عليهم { كل ذي ظفر } وفيه لغات : ضم الفاء والعين وهي الفصحى ، وكسرهما وهي قراءة ابن السماك ، والضم مع السكون والكسر مع السكون وهي قراءة الحسن ، واختلف في ذي الظفر فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه الإبل فقط ، وعنه في رواية أخرى وهو قول مجاهد أنه الإبل والنعام ، وقيل : كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب ، وسمي الحافر ظفراً على الاستعارة ، وزيف بأن الحافر لا يكاد يسمى ظفراً وبأن البقرة والغنم مباحان لهم كما يجيء مع أن لهما حافراً فإذن يجب حمل الظفر على المخلب والبراثن من الجوارح والسباع بل على كل ما له إصبع من دابة وطائر . وكان بعض ذوات الظفر حلالاً لهم فلما ظلموا عمم التحريم . فعموم التحريم خاص بهم ولهذا قدم الجار في قوله { وعلى الذين هادوا حرمنا } فيستدل بذلك على حل بعض هذه الحيوانات على المسلمين وهو ما سوى ذات المخلب والناب فيكون الخبر مبيناً للآية لا مخالفاً كما ظن صاحب التفسير الكبير . النوع الثاني قوله { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } قال في الكشاف : هو كقولك : « من زيد أخذت ماله » تريد بالإضافة يعني إضافة الأخذ إلى زيد بواسطة من زيادة الربط . والمعنى أنه حرم عليهم من كل ذي ظفر كله ومن البقرة والغنم بعضهما وذلك شحومهما فقط ، هذا أيضاً ليس على الإطلاق لقوله : { إلا ما حملت ظهورهما } قال ابن عباس : إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه . وقال قتادة : إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها . وقيل : إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحفة وهي الشحمة التي على الظهر الملتزقة بالجلد فيما بين الكتفين إلى الوركين . وهي بالحقيقة لحم سمين لأنه يحمر عند الهزال ولهذا لو حلف لا يأكل الشحم فأكل من ذلك اللحم السمين لم يحنث على الأصح . والاستثناء الثاني قوله : { أو الحوايا } قال الجوهري : الحوايا الأمعاء واحدها حوية وفي معناها حاوية البطن وحاوياء البطن . وقال الواحدي : هي المباعر والمصارين والفحوى ، أو ما اشتمل على الأمعاء يعني أن الشحوم المتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة ، والاستثناء الثالث : { أو ما اختلط بعظم } قال جمهور المفسرين : يعني شحم الآلية . وقال ابن جريج : كل شحم في القوائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنين فإنه مخلوط بعظم فهو حلال لهم . والحاصل أن الشحم الذي حرم الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية . وقيل : إن الحوايا غير معطوف على المستثنى وإنما هو معطوف على المستثنى منه والتقدير : حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم .

ودخوله كلمة « أو » كدخولها في قوله تعالى : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الدهر : 24 ] والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا واعص هذا فكذا ههنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا { ذلك } الجزاء وهو تحريم الطيبات { جزيناهم ببغيهم } بسبب قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل وغير ذلك من قبائح أفعالهم { وإنا لصادقون } في هذه الأخبار أو فيما يوعد به العصاة . قال القاضي : نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان . وأجيب بأن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد الثواب ويمكن أن يكون بشؤم الجرم المتقدم { فإن كذبوك } في ادعاء النبوّة والرسالة أو في تبليغ الأحكام ، وعلى أصول المعتزلة فإن كذبوك في إنجاز إيعاد العصاة وزعموا أن الله واسع الرحمة وأنه يخلف الوعيد جوداً وكرماً . { فقل ربكم ذو رحمة واسعة } فلذلك لا يعجل بالعقوبة { ولا يردّ بأسه } إذا جاء وقت عذابه { عن القوم المجرمين } يعني المكذبين . وعلى أصولهم رحمته واسعة لأهل طاعته ولا يرد بأسه مع ذلك عن الذين ارتكبوا الكبائر فماتوا قبل التوبة .
ثم حكى أعذار الكفار الواهية فقال : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } وإنما جاز العطف عل الضمير المرفوع المتصل من غير أن أكد بالمنفصل لمكان الفصل بعد حرف العطف بلا الزائدة لتأكيد النفي . أخبر الله تعالى بما سوف يقولونه ولما قالوه . قال في سورة النحل : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } [ النحل : 35 ] وإنما قال في سورة النحل بزيادة « نحن » و « من دونه » مرتين لأن الإشراك مستنكر مطلقاً . فلفظ الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته ، وعلى تحليل أشياء وتحريم أشياء من دون الله فلم يحتج إلى لفظ من دونه ، وأما العبادة فإنها غير مستنكرة على الإطلاق وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله سبحانه ، ولا تدل على تحريم شيء فلم يكن بد من تقييده بقوله : { من دونه } ولما حذف من الآية لفظة { من دونه } مرتين حذف معه { نحن } لتطرد الآية في حكم التخفيف . أما تفسير الآية فزعمت المعتزلة أنها تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه : الأول أن الذي حكى عن الكفار في معرض الذم والتقبيح وذلك قولهم : « لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك » هو صريح قول المجبرة فيكون هذا المذهب مذموماً . الثاني قوله : { كذلك كذب الذين من قبلهم } فلم يذكر المكذب به تنبيهاً على أنهم جاؤا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وعلا ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئته القبائح وإرادتها ، والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله ورسوله وكتبه ونبذ أدلة السمع والعقل وراء ظهره .

والحاصل أن هذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين منهم والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم لأنهم يقولون الكل بمشيئة الله تعالى . الثالث قوله : { حتى ذاقوا بأسنا } وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في هذا المذهب . الرابع قوله : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } وإنه استفهام على سبيل الإنكار أي لا علم لهؤلاء القائلين ولا حجة الخامس : { إن تتبعون إلا الظن } السادس : { وإن أنتم إلا تخرصون } السابع : { قل فلَّله الحجة البالغة } لأنه أزال الأعذار بالتمكين والإقدار فلم يبق لكم على الله حجة وإنما الحجة البالغة له عليكم وذلك أنكم تقولون : لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله لزم أن يكون الإله عاجزاً مغلوباً . وهذا الكلام غير لازم لأن الله قادر على أن يحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء إلا أن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف وهذا هو المراد من قوله : { فلو شاء لهداكم أجمعين } وبوجه آخر إن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلَّله الحجة الكاملة عليكم فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقنضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته فتوالوا جميع أهل الأديان ولا تعادوهم . أجابت الأشاعرة بأنا قد بينا بالدلائل القاطعة من أول القرآن إلى ههنا صحة مذهبنا فوجب تأويل هذه الآية دفعاً للتناقض فنقول : إن القول كانوا يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال دعوة الأنبياء ، وفي أن التكليف عبث فبين الله تعالى أن ذلك من تكاذيبهم وأكاذيبهم ، وأن التشبث بهذا العذر لا يفيدهم لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه ، شاء الكفر من الكافر ومع ذلك بعث الأنبياء وأمر بالإيمان ، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس : أول ما خلق الله القلم فقال : اكتب القدر فجرى بما يكون إلى قيام الساعة . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله « المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة » ثم إن ظاهر آخر الآية معناه وهو قوله : { فلو شاء لهداكم أجمعين } وحمل المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر تعسف والله أعلم . ثم لما أبطل جميع حجج الكفار بين أنه ليس لهم على قولهم شهود فقال : { قل هلم } ومعناه إذا كان لازماً أقبل وإذا كان متعدياً أحضر . قال الخليل : أصله « هالم » من قولهم لمَّ الله شعثه أي جمعه كأنه قال : لمَّ نفسك إلينا أي أقرب والهاء للتنبيه واستعطاف المأمور ، ثم حذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسماً واحداً يستوي فيه الواحد والجمع والتذكير والتأنيث في لغة أهل الحجاز ، وأهل نجد يصرفونها « هلما هلموا هلمي هلممن » والأول أفصح وقد يوصل بإلى كقوله تعالى :

{ والقائلين لإخوانهم هلم إلينا } [ الأحزاب : 18 ] وقال الفراء : أصلها « هل أم » أرادوا بهل حرف الاستفهام ومعنى أم اقصد . وقيل : إن أصل استعماله أن قالوا هل لك في الطعام أم أي اقصد . ثم شاع في الكل . أمر الله تعالى نبيه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه . وإنما لم يقل شهداء يشهدون لأنه ليس الغرض أحضار أناس يشهدون بالتحريم وإنما المراد إحضار شهدائهم الموسومين بالشهادة لهم المعروفين بنصرة مذهبهم ولهذا قال : { فإن شهدوا } أي فإن وقعت شهادتهم { فلا تشهد معهم } أي لا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأن شهادتهم محض الهوى والتعصب ولأجل ذلك قال أيضاً : { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالتكذيب وليرتب عليه باقي الآية فيعلم أن المتصف بهذه الصفات لا تكون شهادتهم عند العقلاء مقبولة .
التأويل : { وهو الذي أنشأ جنات } في القلوب { معروشات } من شجرة الإسلام والإيمان والإحسان { وغير معروشات } هي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء والحياء والوفاء والمودة والفتوة والشفقة والعفة والعلم والحلم والعقل والشجاعة والقناعة ونخل الإيمان وزرع الأعمال الصالحة وزيتون الأخلاق الحميدة ورمان الإخلاص بالشواهد والأحوال { متشابهاً } أعمالها { وغير متشابه } أحوالها { كلوا من ثمره } انتفعوا من ثمار الإيمان والأعمال والإخلاص بالشواهد والأحوال لا بالدعاوى والقيل والقال . { وآتوا حقه } وحقه دعوة الخلق وتربيتهم بالحكمة والمواعظة الحسنة و { يوم حصاده } أوان بلوغ السالك مبلغ الرجال البالغين عند إدراك ثمرة الكمال للواصلين دون السالك الذي يتردد بعد بين المنازل والمراحل . { ولا تسرفوا } بالشروع في الكلام في غير وقته والحرص على الدعوة قبل أوانها . { ومن الأنعام } أي ومن الصفات الحيوانية التي هي مركوزة في الإنسان ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع ، ومنها ما هو مستعد للأكل والشرب لصلاح القالب وقيام البشرية . { كلوا مما رزقكم الله } فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان ، ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان ، ورزق السر هو شهود العرفان يلحظ العيان ، فانتفعوا من هذه الأرزاق بقدر ما ينبغي . { إنه لكم عدو مبين } يخرجكم بالتفريط والإفراط إلى ضد المقصود . ثم إن الصفات الحيوانية ثمان بعضها ذكور وبعضها إناث يتولد منها صفات أخر كلها محمودة إذ استعملت في محالها ، وبمقدار ما ينبغي { من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } والضأن والمعز من جنس الفرشية كما أن الإبل والبقر من جنس الحمولية .

والذكر من الضأن والمعز هما صفة شهوة البطن والفرج والأنثى منهما صفة حسن الخلق عند الاستمتاع بها وصفة التسليم عند تحمل الأذى ، والذكر من الإبل والبقر صفتا الظلومية والجهولية ، وأنثاهما الحمولية والاستسلام للاستعمال فبهذه الصفات الإنسانية صار الإنسان حامل أعباء الأمانة التي أبت المكونات عن حملها وهن أيضاً حملة عرش القلب فافهم ، وقد أحل الله تعالى استعمالها واستعمال المتولد منها على قانون الشرعية والطريقة ، ومن زعم أنه يجب تركها وفصلها بالكلية فقد افترى { لو شاء الله ما أشركنا } الكلام في نفسه حق وصدق إلا أنهم لما ذكروه في معرض الإلزام دفعاً للأذية والآلام كذبوا فيما قالوا والله سبحانه أعلم بالصواب .

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

القرآت : { تذكرون } بتخفيف الذال حيث كان : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد فحذفوا إحدى التاءين . الباقون : بالتشديد لأجل إدغام تاء التفعل في الذال { وأن هذا } بسكون النون . ابن عامر ويعقوب { وإن هذا } بكسر الهمزة وتشديد النون : حمزة وعلي وخلف ، الباقون : { وأن } بالفتح والتشديد { صراطي } بفتح الياء : ابن عامر والأعشى والبرجمي { فتفرق } بتشديد التاء : البزي وابن فليح { أن يأتيهم } بالياء التحتانية وكذلك في النحل : علي وحمزة وخلف . الباقون : بالتاء الفوقانية . { فارقوا } وكذلك في الروم : حمزة وعلي الباقون { فرقوا } بالتشديد { عشر } بالتنوين { أمثالها } بالرفع : يعقوب . الباقون بالإضافة { ربي إلي } بفتح ياء المتكلم : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع ، { قيماً } بكسر القاف وفتح الياء : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل . الباقون : بالعكس مع تشديد الباء . { محياي } بالسكون { مماتي } بالفتح : أبو جعفر ونافع . الباقون : بالعكس . { وأنا أوّل } بالمد : نافع وأبو جعفر .
الوقوف : { شيئاً } ط للحذف أي وأحسنوا بالوالدين { إحساناً } ج لابتداء النهي مع احتمال العطف أي وأن لا تقتلوا ، { من إملاق } ط . { وإياهم } ج للعطف مع العارض . { وما بطن } ط للفصل بين الحكمين المعظمين مع اتفاق الجملتين { بالحق } ط لانتهاء بيان الأحكام إلى توكيد الإيصاء للأحكام { تعقلون } ه { أشده } ج للفصل بين الحكمين { بالقسط } ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف { ذا قربى } ج لتناهي جواب « إذا » وتقدّم مفعول { أوفوا } { تذكرون } ه لمن قرأ { وإن هذا } بالكسر . { فاتبعوه } ج للفصل بين النقيضين معنى مع الاتفاق نظماً . { عن سبيله } ط { تتقون } ه { يؤمنون } ه { ترحمون } ه لا لأن التقدير فاتبعوه لئلا تقولوا { من قبلنا } ص . { لغافلين } ه لا للعطف { أهدى منهم } ج للفاء مع أن « قد » لتوكيد الابتداء . { ورحمة } ج للاستفهام مع الفاء { وصدف عنها } ط { يصدفون } ه { بعض آيات ربك } ط { خيراً } ط { منتظرون } ه { في شيء } ط { يفعلون } ه { أمثالها } ج لابتداء شرط آخر مع العطف { لا يظلمون } ه { مستقيم } ج لاحتمال أن { دينا } نصب على البدل من محل { إلى صراط } أو على الإغراء أي الزموا . { حنيفاً } ج لابتداء النفي مع اتحاد المعنى { المشركين } ه { العالمين } ه لا . { لا شريك له } ج { المسلمين } ه { كل شيء } ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار { إلا عليها } ج لتفصيل الأمرين على التهويل مع اتفاق الجملتين { أخرى } ج لأنّ « ثم » لترتيب الإخبار مع اتحاد المقصود { تختلفون } ه { آتاكم } ط { العقاب } ز للتفصيل بين تحذير وتبشير والوصل للعطف أوضح { رحيم } ه .
التفسير : لما بين فساد ما يقوله الكفار في باب التحليل والتحريم أتبعه الشافي في الباب فقال : { قل تعالوا } وهو من الخاص الذي صار عاماً لأن أصله أن يقوله من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه .

و « ما » في قوله : { ما حرم } إما منصوب بفعل التلاوة أي أتل الذي حرمه ربكم فالعائد محذوف . وقوله : { عليكم } يكون متعلقاً ب { أتل } أو ب { حرم } وإما منصوب ب { حرم } على أن « ما » استفهامية فلا راجع . والمعنى أقل أي شيء حرم لأن التلاوة نوع من القول وتقديم المفعول للتخصيص . فإن قيل : قوله { أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } كالتفصيل لما أجمله في قوله : { ما حرم } فيلزم أن يكون ترك الشرك والإحسان إلى الوالدين محرماً . فالجواب أن المراد من التحريم البيان المضبوط ، أو الكلام تم عند قوله : { ما حرم ربكم } ثم ابتدأ فقال : { عليكم أن لا تشركوا } أو « أن » مفسرة أي ذلك التحريم هو قوله : { لا تشركوا } وهذا في النواهي واضح ، وأما الأوامر فيعلم بالقرينة أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله . ولا يجوز أن يجعل « أن » ناصبة السورة أحسن بيان ، وذلك أن منهم من يجعل الأصنام شركاء لله تعالى فأشار إليهم بقوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة } [ الأنعام : 74 ] ومنهم عبدة الكواكب الذين أبطل قولهم بقوله : { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] ومنهم القائلون بيزدان واهرمن ومنهم الذين يقولون الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وزيف معتقدهم بقوله : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } [ الأنعام : 100 ] ثم عمم النهي بقوله : { لا تشكروا به شيئاً } ثم حث على إحسان الوالدين وكفى به خصلة شريفة أن جعله تالياً لتوحيده . ثم أوجب رعاية حقوق الأولاد بعد رعاية حقوق الوالدين . ومعنى { من إملاق } أي من خوف الفقر كما صرح بذلك في الآية الأخرى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الإملاق وهو السبب الغالب فلذلك أزيل الوهم بقوله : { نحن نرزقكم وإياهم } فكما يجب على الوالد الاتكال في رزق نفسه على الله فكذا القول في حال الولد ، قال شمر : أملق لازم ومعتد . أملق الرجل افتقر ، وأملق الدهر ما عنده إذا أفسده . وإنما قال ههنا : { نحن نرزقكم وإياهم } وقال في سبحانه بالعكس لأن التقدير في الآية من إملاق بكم نحن نرزقكم وإياهم ، وهناك زيدت الخشية التي تتعلق بالمستقبل فالتقدير خشية إملاق يقع بهم نحن نزرقهم وإياكم ، ثم نهى عن قربان الفواحش كلها . ومعنى ما ظهر منها وما بطن كما مر في قوله : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } [ الأنعام : 120 ] وفيه أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله تعالى وامتثال أمره ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس .

ثم أفرز من جملة الفواحش قتل النفس المحرمة تنبيهاً على فظاعتها ولما نيط بها من الاستثناء وهو قوله { إلا بالحق } وذلك أن قتل النفس المحرمة قد يكون حقاً لجرم صدر عنها كما جاء في الحديث « لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا لإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق » وينخرط في سلكه جزاء قاطع الطريق . والحاصل أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا لأمر منفصل . ثم لما بيّن النواهي الخمسة أتبعه الكلام الذي يقرب إلى القلوب القبول فقال : { ذلكم وصاكم } لما في لفظ التوصية من الرأفة والاستعطاف . ومعنى { لعلكم تعقلون } لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا . ثم ذكر أربعة أنواع أخر من التكاليف وذلك قوله : { ولا تقربوا مال اليتم إلا بالتي } أي بالخصلة أو الطريقة التي { هي أحسن } وهي السعي في تثميره وإنمائه ورعاية وجوه الغبطة لأجله كما مر في أول سورة النساء { حتى يبلغ أشده } أي احفظوا ماله إلى هذه الغاية أي أوان الاحتلام ولكن بشرط أن يؤنس منه الرشد . قال الفراء : واحد الأشد شدته في القياس ولم يسمع . وقال أبو الهيثم : الواحد شدّة كأنعم في نعمة ، والشدّة القوّة ومنه قولهم : « بلغ الغلام شدّته » وقيل : إنه واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظير لهما { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } بالعدل والسوية . وإيفاء الكيل إتمامه خلاف البخس . وقوله : { والميزان } أي الوزن بالميزان . فإن قيل : إيفاء الكيل والوزن هو عين القسط فما فائدة التكرار؟ قلنا : أمر الله المعطى بإيفاء إيتاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة . ثم قال : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } ليعلم أن الواجب هو القدر الممكن من العدالة والسوية لا التحقيق المؤدي إلى الحرج والعسر . فزعمت المعتزلة ههنا أن هذا القدر من التضييق حيث لم يجوزه الله تعالى فكيف يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه أو يخلق القدرة الموجبة للكفر والداعية المقتضية له ثم ينهاه عنه وعورض بالعلم والداعي كما تقدّم مراراً { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان } المقول له أو عليه { ذا قربى } حمله المفسرون على أداء الشهادة وعلى الأمر والنهي والأولى أن يحمل على الأقوال كلها ويدخل فيه قول الرجل في الدعاء إلى الدين . وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل مخلصاً عن الحشو ومبرأ عن النقص ومجرداً عن العصبية والجدال على مقتضى الهوى والتشهي ، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذا الحكاية الرواية والرسالة . وحكم الحاكم بحيث يتسوي فيه بين القريب والبعيد ولا ينظر إلا إلى رضا الله ، وختم الأوامر بقوله : { وبعهد الله أوفوا } كما قال :

{ أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] ويندرج في هذه الخاتمة بالحقيقة جميع الأنواع المذكورة { وإن هذا صراطي } من قرأ بالفتح والتخفيف فبإعماله في ضمير الشأن والتقدير : تعالوا أتل ما حرم وأتل أنه هذا صراطي ، وكذا فيمن قرأ بالتشديد وبالفتح إلا أن ضمير الشأن لا يقدر . وإن شئت جعلتها خفضاً متعلقاً بما قبله أي ذلكم وصاكم به وبأن هذا ، أو بما بعده والتقدير وبأن هذا صراطي مستقيماً { فاتبعوه } ومن كسر فلأن التلاوة في معنى القول أو على الاستئناف والمعنى اتبعوا صراطي أنه مستقيم { ولا تتبعوا السبل } المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات { فتفرق بكم } الباء للتعدية أي فيفرقكم ذلك الأتباع { عن سبيله } المستقيم وهو دين الإسلام . وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه خط خطاً ثم قال : هذا سبيل الرشد . ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم تلا هذه الآية . فهذه الآية بالحقيقة إجمال لما في الآيتين المتقدمتين ولهذا ختمها بالتقوى التي هي ملاك العمل وخير الزاد وختم الأولى بقوله { لعلكم تعقلون } لأنها أمور ظاهرة جلية يكفي في تعقلها أدنى مسكة وعقل ، وختم الثانية بقوله : { لعلكم تذكرون } لأن المذكور فيها أمور خفية تحتاج إلى التدبر والتذكر حتى يقف فيها على موضع الاعتدال . أو نقل : الأمور الخمسة المذكورة في الآية الأولى كلها عظام جسام وكانت الوصية بها من أبلغ الوصايا فختم الآية بما في الإنسان من أشرف السجايا وهو العقل الذي امتاز به الإنسان عن سائر الحيوان ، وأما المذكورة في الثانية فأشياء يقبح تعاطيها وارتكابها وكانت الوصية بها تجري مجرى الزجر والوعظ فختمها بقوله : { تذكرون } أي تتعظون بمواعظ الله تعالى .
قوله : { ثم آتينا موسى الكتاب } معطوف على { وصاكم } فسئل كيف صح عطفه عليه بثم والإيتاء قبل الوصية بدهر طويل؟ وأجيب بأن التكاليف التسعة المذكورة تكاليف لا تختلف بحسب اختلاف الشرائع كما روي عن ابن عباس أن هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب ، وقيل : إنهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار ، وعن كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة . وأما الشرائع التي كانت التوراة مختصة بها فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة فكأنه قيل : ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً ، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب المبارك . وقيل : إن في الآية حذفاً تقديره : ثم قل يا محمد صلى الله عليه وآله إنا آتينا . والمعنى اتل ما أوحي إليك ثم اتل عيلهم خبر ما آتينا موسى . وقيل : هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله :

{ ووهبنا له إسحق ويعقوب } [ الأنعام : 84 ] وقوله : { تماماً على الذي أحسن } مفعول له أي لتتم نعمتنا على الذي أحسن أي على من كان محسناً صالحاً ، أو المراد إتمام للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وكل ما أمر به ، أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه . وقرىء { أحسن } بالرفع أي على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه { وتفصيلاً لكل شيء } فيدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا صلى الله عليه وآله وصحة دينه وشرعه { وهدى } دلالة { ورحمة } لكي يؤمنوا بلقاء ما وعدهم ربهم به من ثواب وعقاب { وهذا كتاب أنزلناه } لا شك أنه القرآن { مبارك } كثير الخير والنفع أو ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين { فاتبعوه واتقوا } لكي ترحموا لأن الغرض من التقوى رحمة الله تعالى ، أو اتقوا لترحموا جزاء على التقوى ، أو اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة . قال الفراء قوله : { أن تقولوا } مفعول { واتقوا } وقال الكسائي : التقدير : إنا أنزلناه لئلا تقولوا . وقال البصريون : إنا أنزلناه كراهة أن تقولوا والخطاب لأهل مكة { إنما أنزل الكتاب } أي التوراة والإنجيل { على طائفتين من قبلنا } اليهود والنصارى { وإن كنا } هي المخففة من الثقيلة واللام في { لغافلين } هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل وإنه كنا ومعنى الدراسة القراءة . وإنما قالوا : { لكنا أهدى منهم } لحدة أذهانهم وكثرة حفظهم لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأمثالها مع كونهم أميين قطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم . ثم قال : { فقد جاءكم } أي إن صدقتم أن عدم إنزال الكتاب يصلح للعذر وأنه لو أنزل عليكم الكتاب لكنتم أهدى منهم فقد جاءكم { بينة من ربكم } فيما يعلم سمعاً { وهدى } فيما يعلم سمعاً وعقلاً { ورحمة } من الله في إصلاح المعاش والمعاد { فمن أظلم } بعد هذه المعجزات والبينات { ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } أي منع غيره منها لأن الأول ضلال والثاني إضلال ، ثم ختم الآية بأشد الوعيد وأبلغ التهديد ثم ذكر أنهم بعد نصب الأدلة وإزاحة العذر لا يؤمنون ألبتة ، وشرح أحوالاً توجب المبادرة إلى الإيمان والتوبة فقال : { هل ينظرون } أي ينتظرون ومعنى الاستفهام النفي وتقدير الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا عند مجيء أحد هذه الأمور : مجيء الملائكة ، أو مجيء الرب ويعني به عذابه وبأسه كما سلف في البقرة ، أو مجيء المعجزات القاهرة . قال في الكشاف : الملائكة ملائكة الموت أو ملائكة العذاب ومجيء الرب مجيء كل آية ، ثم قال : { يوم يأتي بعض آيات ربك } وأجمعوا على أن المراد بهذه الآية علامات القيامة . عن البراء بن عازب قال : كنا نتذاكر أمر الساعة إذا أشرف النبي صلى الله عليه وآله فقال : « أتتذاكرون الساعة؟ إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى وناراً تخرج من عدن »

والمراد أنه إذا بدت أشراط الساعة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، ولا نفساً ما كسبت في إيمانها خيراً . ثم أوعدهم بقوله { قل انتظروا إنا منتظرون } ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله : { إن الذين فارقوا دينهم } أو فرقوا ومعنى القراءتين في الحقيقة واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وكفر ببعض فقد فارقه أي تركه . قال ابن عباس : يريد أن المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله ، وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فصاروا شيعاً أي فرقاً وإخواناً في الضلالة . والشيعة كل فرقة تشيع إماماً لها . وقال مجاهد وقتادة : هم اليهود والنصارى تفرقوا فرقاً وكفر بعضهم بعضاً وأخذوا بعضاً وتركوا بعضاً كقوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [ البقرة : 85 ] وعن مجاهد أيضاً أنهم من هذه الأمة وهم أهل البدع والشبهات وفي الحديث « افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة - كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية - وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة - كلها في الهاوية إلا واحدة . وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في الهاوية إلا واحدة » { لست منهم في شيء } أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم والعقاب اللازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم لا يتعداهم إليك . وقال السدي : معناه لم تؤمر بقتالهم فلما أمر بقتالهم نسخ . ويحتمل أن يقال : إن النهي عن القتال في وقت لا ينافي الأمر في وقت آخر فلا نسخ { إنما أمرهم إلى الله } بالاستئصال والإهلاك { ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } وفيه من الوعيد ما فيه . وفي الآية حث على أن كلمة المسلمين يجب أن تكون واحدة ليستأهلوا الثواب الجزيل كما قال : { من جاء بالحسنة } هي لا إله إلا الله والسيئة الشرك . والأولى حملها على العموم { فله عشر أمثالها } أقام صفة الجنس المميز مقام الموصوف تقديره : عشر حسنات أمثالها كقراءة من قرأ { عشر أمثالها } بالرفع والتنوين ، قيل : هذا أقل الموعود وقد وعد سبعمائة وبغير حساب . وقيل : ليس المراد التحديد بل أراد الأضعاف مطلقاً كقول القائل : لئن أسديت إليّ معروفاً لأكافئنك بعشرة أمثاله . وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشراً . روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وآله قال عن الله تعالى : « الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره » وقال صلى الله عليه وآله يقول الله تعالى : « إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فسيئة »

{ وهم لا يظلمون } أي لا ينقص من ثواب طاعاتهم ولا يزاد على عقاب سيآتهم . أسؤلة : ما الحكمة في الأضعاف؟ جوابه كان للأمم أعمار طويلة وطاعات كثيرة فوضع الله لهذه الأمة ليلة القدر خيراً من ألف شهر وأضعاف الأعمال { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } [ البقرة : 261 ] { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10 ] وأيضاً لو أن الخصماء يتعلقون بهم يوم القيامة فيذهبون بأعمالهم إلى أن تبقى الأضعاف فيقول الله أضعافهم ليست من فعلهم هي من رحمتي فلا أقتص منهم أبداً . آخر : كيف يوجب الكفر عقاب الأبد؟ جوابه أن الكافر كان على عزم الكفر لو عاش أبداً فاستحق العقاب الأبدي بناء على ذلك الاعتقاد بخلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع فلا جرم تكون عقوبته منقطعة ، وأيضاً الذي جهله الكافر وهو ذات القديم سبحانه وصفاته شيء لا نهاية له فيكون جهله لا يتناهى فكذا عقابه . آخر : إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلاً عن صيام ستين يوماً وهو في كفارة الظهار وتارة بدلاً عن صيام أيام قلائل . آخر : أحدث في رأس إنسان موضحتين فوجب أرشان فإن عاد ورفع الحاجز بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فههنا ازدادت الجناية وقل العقاب . آخر : قد يجتمع بسبب أطراف تبان ولطائف تزال ديات متعددة إذا حصل الاندمال ، وقد ترتقي إلى نيف وعشرين . الأذنان أو إبطال حسهما ، العينان أو البصر ، الأجفان ، المارن ، الشفتان ، اللسان أو النطق ، الأسنان ، اللحيان ، اليدان ، الذكر والأنثيان ، الحلمتان ، الشفران ، الإليتان ، الرجلان ، العقل ، السمع ، الشم ، الصوت ، الذوق ، الإمناء أو الإحبال ، إبطال لذة الجماع ، إبطال لذة الطعام ، الإفضاء ، البطش ، المشي . وقد تضاف إليها موجبات الجوائف والمواضح وسائر الشجات . فإن عاد الجاني قبل الاندمال وحز الرقبة أوقده بنصفين لم يجب إلاّ دية النفس ، وكل ذلك يدل على أن رعاية المماثلة غير معتبرة في الشرع . والجواب عن الأسئلة الثلاثة أن هذه الأمور من تعبدات الشرع المطهر وتحكماته فلا سبيل بعقولنا إليها . ويمكن أن يجاب عن الثالث بأن بدل الأطراف لما لم يستقر بالاندمال دخل في دية النفس لعسر ضبط ذلك والجزاء الحقيقي موكول إلى يوم الجزاء والله أعلم . قال أهل السنة : كل الثواب تفضل من الله تعالى فلا إشكال . وقالت المعتزلة : إن بين الثواب والتفضل فرقاً لأن الثواب هو المنفعة المتسحقة والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة . ثم اختلفوا فقال الجبائي : العشرة تفضل والثواب غيرها إذ لو كان الواحد ثواباً والتسعة تفضلاً لزم أن يكون الثواب دون التفضل فلا يكون للتكليف فائدة . وقال آخرون : لا يبعد أن يكون الواحد ثواباًً إلا أنه يكون أعلى شأناً من التسعة الباقية . ثم لما علم رسوله صلى الله عليه وآله أنواع الدلائل والرد على أصناف المشركين وبالغ في تقرير إثبات القضاء والقدر وردّ على أهل الجاهلية أباطيلهم أمره بأن يقول : { إنني هداني ربي } ليعلم أن الهداية لا تحصل إلا بالله عز وجل .

{ وقيماً } « فيعل » من قام كسيد من ساد . ومن قرأ { قيماً } فعلى أنه مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر وصف به للمبالغة و { ملة إبراهيم } عطف بيان و { حنيفاً } حال من إبراهيم أو من الملة ، والمعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم حال كونه أو كونها موصوفاً بالحنيفية . ثم قال في صفة إبراهيم : { وما كان من المشركين } رداً على من زعم عليه شيئاً من ذلك .
ثم كما عرفه الدين القويم والطريق المستقيم علمه كيف يصنع به ويؤديه فقال : { قل إن صلاتي ونسكي } أي عبادتي وتقربي إليه كما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة . وقيل : للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث . وقيل : المراد بالنسك ههنا الذبائح جمع بين الصلاة والذبح كما في قوله : { فصل لربك وانحر } [ الكوثر : 2 ] وقيل : صلاتي وحجي أخذاً من مناسك الحج . { ومحياي ومماتي } أي حياتي وموتي مصدران ميميان . وقال في الكشاف : المراد وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح . وفيه أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل لا بد أن يكون جيمع حركات المرء وسكناته لله رب العالمين { وبذلك } من الإخلاص { أمرت وأنا أول المسلمين } لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته . وقال في التفسير الكبير : إنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه ، وحكمه وذلك أن المحيا والممات بخلق الله فكذا الصلاة والنسك وبذلك من التوحيد أمرت ، ثم لما أمر نبيه بالتوحيد المحض أمره أن يذكر ما يجري مجرى الدليل عليه فقال : { قل أغير الله أبغي رباً } وتقريره أن طوائف المشركين من عبدة الأصنام والكواكب ومن اليهود والنصارى والثنوية كلهم معترفون بأن الله تعالى خالق الكل فكأنه سبحانه قال : قل يا محمد منكراً أغير الله أطلب رباً مع أن هؤلاء الذين اتخذوا من دونه آلهة مقرون بأنه خالق تلك الأشياء ولا يدخل في العقل جعل المربوب والعبد شريكاً للرب والمولى . وبوجه آخر الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، وقد ثبت أن الواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته فهو إذن رب كل شيء ، وصريح العقل شاهد بأن المربوب لا يكون شريكاً للرب فلا يختص إذن بالربوبية غيره . ثم لما بين الدليل القاطع على التوحيد ذكر أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب فقال { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ومعناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى وهذا كالرد لقولهم :

{ اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } [ العنكبوت : 12 ] ثم بين أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم هناك إلا الله تعالى فقال : { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } ثم ختم السورة ببيان حال المبدإ والوسط والمعاد على سبيل الإجمال فقال { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } قيل : الخطاب لبني آدم لأنه جعلهم بحيث يخلف بعضهم بعضاً . وقيل : لأمة محمد صلى الله عليه وآله لأنه خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم ، وقيل : لخواص الأمة الذين هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها بالحق كقوله : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس } [ ص : 26 ] { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في الشرف والعقل والجاه والمال والرزق لا للعجز والبخل ولم لأجل شبه الابتلاء والامتحان ، ولظهور الموفر من المقصر وتميز المطيع من العاصي حسب ما تقتضيه الحكمة والعدالة والتدبير والتقدير . ثم وصف نفسه بالقدرة الكاملة على إيصال العقاب وإيفاء الثواب فقال { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } فأدخل اللام في قرينة الترغيب وأسقطها عن قرينة الترهيب ترجيحاً لجانب الرحمة والغفران فإن اللطف والرحمة تفيض عنه بالذات والقهر والتعذيب يصدر عنه بالعرض لأن ذلك من ضروريات الملك ولهذا قال « سبقت رحمتي غضبي » وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت قريب . وإنما لم يسقط اللام عن قرينة العقاب في سورة الأعراف في قصة أصحاب السبت لأن ذلك قد ورد عقيب ذكر المسخ فناسب التأكيد باللام ، وإنما أخر قرينة الرحمة في الموضعين ليقع ختم الكلام على المغفرة والرحمة فيكون أدل على كمال رأفته ووفور إحسانه .
التأويل : { من إملاق } فيه ترك التوكل على الله وعدم الثقة بالله { وأوفوا الكيل } أوفوا بكيل العمر وميزان الشرع حقوق الربوبية واستوفوا بكيل الاجتهاد وميزان الاقتصاد حظوظ العبودية من الألوهية . { وبعهد الله أوفوا } بأن لا تعبدوا ولا تحبوا ولا تروا إلا إياه { وإن هذا صراطي مستقيماً } إشارة إلى أن الصراط المستقيم الحقيقي إلى الله تعالى هو صراط محمد صلى الله عليه وسلم { تماماً على الذي أحسن } أي على من أحسن من أمتك إسلامه . وفيه أن الكتب المنزلة كلها وشرائع الأنبياء كانت تتمة للدين الحنيفي الذي هو الإسلام ، ولهذا أمر بأن يقتدى بالأنبياء ليجمع بين هداه وهداهم . ويحتمل أن يراد بالذي أحسن النبي صلى الله عليه وآله والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه { أنزلناه مبارك } وبركته أنه أنزل على قلبه فكان خلقه القرآن { فقد جاءكم بينة } ما يبين لكم طريق السير إلى الله ومهدي ما يهديكم إلى الله أتم وأكمل مما جاء في الكتابين

{ ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ] { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } عياناً وتسوقيهم إلى الله قهراً والجاء { أو يأتي ربك } إليهم إذ لم يأتوا إليه في متابعتك { قل انتظروا } للمستحيلات { إنا منتظرون } للميعاد في المعاد { إن الذين فارقوا } الدين الحقيقي الذي فيه كمالية الإنسان { وكانوا شيعاً } فرقاً مختلفة من المبتدعة والزنادقة والمتزيدة رياء وسمعة وعلماء السوء وملحدة المتفلسفة { لست منهم في شيء } لأنك على الحق وهم على الباطل وبينهما تضاد إنما أمرهم إلى الله في بدء الخلقة وقسم الاستعداد كما شاء { ثم ينبئهم } يوم الجزاء بما يستحقه كل منهم { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } قبل ذلك حتى يقدر على الإتيان بتلك الحسنة وهي حسنة الإيجاد من العدم ، وحسنة الاستعداد حيث خلقه في أحسن تقويم ، وحسنة التربية وحسنة الرزق وحسنة بعثة الرسل وحسنة إنزال الكتب ، وحسنة تبيين الحسنات من السيئات ، وحسنة التوفيق للحسنة وحسنة الإخلاص في الإحسان ، وحسنة قبول الحسنات { ومن جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها } لأن السيئة بذر يزرع في أرض النفس والنفس خبيثة لأنها أمارة بالسوء ، والحسنة بذر يزرع في أرض القلب والقلب طيب { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً } [ الأعراف : 58 ] والتحقيق أنه كما للأعداد ثلاث مراتب الآحاد والعشرات والمئات وبعد ذلك تكون الألوف إلى حيث لا يتناهى ، فكذلك للإنسان أربع مراتب : النفس والقلب والروح والسر . فالعمل الواحد في مرتبة النفس أي إذا صدر عنها يكون واحداً ، وفي مرتبة القلب يكون بعشر أمثالها ، وفي مرتبة الروح يكون بمائة ، وفي مرتبة السر يكون بألف إلى أضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية إلى ما لا يتناهى ، وهذا سر ما جاء في القرآن والحديث من تفاوت جزاء الحسنات والله تعالى أعلم ورسوله . { قل إنني هداني ربي } من أسفل سافلين القالب بجذبه العناية الأزلية { ونسكي } أي سيري على منهاج « الصلاة معراج المؤمن » { ومحياي } أي حياة قلبي وروحي { ومماتي } أي موت نفسي لطلب { رب العالمين } والوصول إليه { وأنا أول } المستسلمين عند الإيجاد لأمر « كن » كما قال : « أول ما خلق الله نوري » . { قل أغير الله } كيف أطلب غير الله وهو حبيبي والمحب لا يطلب إلا الحبيب وإذا هو رب كل شيء فيكون ما له لي ، وإن طلبت غيره دونه يكون ذلك الغير علي لا لي كما قال { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } لأن النفس أمارة بالسوء والسوء عليها لا لها { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فإن كان القلب سليماً من كدورات صفات النفس باقياً على ما جبل عليه من حب الله تعالى وطلبه لا يؤاخذ بمعاملة النفس ولا يتألم بعذابها وإنما تكون النفس فقط مأخوذة بوزرها معاقبة بما هي أهله ، وإن كان القلب منقلب الحال وأزاغه الله تعالى بإصبع القهر إلى محاذاة النفس فتصدأ مرآة القلب بصفات النفس وأخلاقها فيتبع النفس وهواها فيزول عنه الصفاء والطهارة والسلامة والذكر والفكر والتوحيد والإيمان والتوكل والصدق والإخلاص ورعاية وظائف العبودية فيكون مأخوذاً بوزره لا بوزر غيره { وهو الذي جعل } كل واحد من بني آدم وقته خليفة ربه في الأرض .

وسر الخلافة أن صوره على صفات نفسه حياً قيوماً سميعاً بصيراً عالماً قادراً مريداً متكلماً { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في استعداد الخلافة { ليبلوكم } ليظهر من المتخلق بأخلاقه منكم القائم به وبأوامره في العباد والبلاد ، ومن الذي رجع القهقرى إلى صفات البهائم وأبطل الاستعداد للخلافة بالختم والطبع والحبس في سجين الطبيعة { لغفور رحيم } لمن وفقه لمرضاته ورفع درجاته الله حسبي .

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

القراآت : { يتذكرون } بياء الغيبة ثم تاء التفعل : ابن عامر . والباقون كما مر في آخر الأنعام .
الوقوف : { المص } ه كوفي { للمؤمنين } ه { أولياء } ط { تذكرون } ه { قائلون } ه { ظالمين } ه { المرسلين } ه لا للعطف { غائبين } ه { الحق } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { المفلحون } ه { يظلمون } ه { معايش } ط { تشكرون } ه .
التفسير : قد تقدم في أول الكتاب مباحث هذه المقطعة على سبيل العموم . وعن ابن عباس معنى المص أنا الله أعلم وأفصل . وقال السدي : معناه أنا المصوّر . وقيل : معناه ألم نشرح لك صدرك بدليل { فلا يكن في صدرك حرج منه } كما زاد في الرعد راء لقوله بعده { رفع السموات } [ الآية : 2 ] ثم إن جعلنا هذه الحروف بدل جملة فلا محل لها من الإعراب ، وإن كانت اسماً للسورة جاز أن يكون { المص } مبتدأ و { كتاب } يعني به السورة خبره والجملة بعده صفة له ، وجاز أن يكون { المص } خبر مبتدأ محذوف وكذا { كتاب } أي هذه المص هو كتاب أنزل إليك . والدليل على أنه منزل من الله تعالى هو أنه ما تلمذ لأستاذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتاباً ولم يخالط أهل الأخبار والأشعار وقد مضى على ذلك أربعون سنة ثم ظهر عليه هذا الكتاب المشتمل على علوم الأولين والآخرين فلن تبقى شبهة في أنه مستفاد بطريق الوحي . القائلون بخلق القرآن زعموا أن الإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وهذا من سمات المحدثات . وأجيب بأن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو الحروف والألفاظ ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة . فإن قيل : الحروف أعراض غير باقية بدليل أنه لا يمكن الإتيان بها إلا على سبيل التوالي وعدم الاستقرار فكيف يعقل وصفها بالنزول؟ أجيب بأنه تعالى أحدث هذه الرقوم في اللوح المحفوظ ثم إن الملك طالع تلك النقوش وحفظها ونزل فعلمها محمداً صلى الله عليه وآله . ثم قال : { فلا يكن في صدرك حرج } أي شك . وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرج كما أن المتيقن منفسح الصدر منشرح ، ومعنى { منه } أي من شأن الكتاب أي لا تشك في أنه منزل من عند الله أو من تبليغه أي لا يضق صدرك من الأداء وتوجه النهي إلى الحرج كقولهم لا أرينك ههنا والمراد نهيه عن الكون بحضرته فإن ذلك سبب رؤيته ومثله قوله تعالى { وليجدوا فيكم غلظة } [ التوبة : 123 ] ظاهره أمر للمشركين وإنه في الحقيقة أمر للمؤمنين بأن يغلظوا على المشركين . وفي متعلق قوله { لتنذر } أقوال . قال الفراء : إنه متعلق ب { أنزل } وفي الكلام تقديم وتأخير أي أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج . وفائدة التقديم والتأخير أن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر .

وقال ابن الأنباري : إنه متعلق بالنهي واللام بمعنى كي والتقدير : فلا يكن في صدرك شك كي تقدر على إنذار غيرك لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور لتوكله على ربه وثقته بعصمته . وقال صاحب النظم : اللام بمعنى « أن » كقوله : { يريدون أن يطفئوا } [ التوبة : 32 ] وفي موضع آخر { ليطفؤا } [ الصف : 8 ] والتقدير لا يضق صدرك ولا تضعف عن أن تنذر به . وقيل : إن تقدير الكلام هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله له حافظاً وناصراً لم يخف أحداً ، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإبلاغ والإنذار اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الضلال والإبطال . ثم قال : { وذكرى للمؤمنين } قال ابن عباس : يريد مواعظ للمصدقين . وقال الزجاج : هو اسم في موضع المصدر . قال الليث : الذكرى اسم للتذكرة . وقال صاحب الكشاف : محل ذكرى يحتمل النصب بإضمار فعلها كأنه قيل لتنذر به وتذكر تذكيراً ، والرفع عطفاً على كتاب ، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف والجر للعطف على محل { أن تنذر } أي للإنذار وللذكرى . وإنما لم نقل على محل لتنذر لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحداً ولو صح ذلك لكان محله النصب لا الجر . وخص الذكرى بالمؤمنين كقوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] والتحقيق فيه أن النفوس البشرية منها بليدة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في بحر اللذات الجسمانية فتحتاج إلى زاجر قويّ ، ومنها مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة للإنجذاب إلى عالم القدس إلا أنها غشيتها غواش من عالم الجسم فعرض لها نوع ذهول وغفلة ، فالصنف الأول يحتاج إلى إنذار وتخويف وأما الصنف الثاني فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت معدنها وأبصرت مركزها واشتاقت إلى ما هنالك من الروح والراحة والريحان فلم تحتج إلا إلى تذكرة وتنبيه ، فثبت أنه سبحانه أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذاراً في حق طائفة وذكرى في شأن طائفة . ثم كما أمر الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليهم وهم الأمة بالمتابعة فقال : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } ومعنى كونه منزلاً إليهم أنهم مخاطبون بذلك مكلفون به وإلا فهو بالحقيقة منزل على الرسول ، قالت العلماء : المنزل متناول للقرآن والسنة جميعاً . عن الحسن : يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله . وفي الآية دلالة على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس غير جائز لأن متابعة المنزل واجبة فلو عمل بالقياس لزم التناقض .

فإن قيل : العمل بالقياس لكونه مستفاداً من القرآن وهو قوله : { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] عمل بالقرآن أيضاً . قلنا : بعد التسليم إن الترجيح معنا لأن العمل بالمنزل ابتداء أولى من العمل بالمنزل بواسطة ، ثم أكد الأمر المذكور بقوله : { ولا تتبعوا من دونه } أي لا تتخذوا من دون الله { أولياء } من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع . ويجوز أن يكون الضمير في { من دونه } لما أنزل أي لا تتبعوا من دون الله أولياء . احتج نفاة القياس بأن الآية دلت على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس . متابعة غير ما أنزل فلا يجوز . لا يقال العمل بالقياس عمل بالمنزل لقوله : { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] لأنا نقول : لو كان الأمر كذلك لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافراً لقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ الكافرون : 44 ] وقد أجمعت الأمة على عدم تكفيره . أجاب مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وظاهر العموم دليل مظنون فلا يعارض القاطع . وزيف بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء : 115 ] { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] وبعموم قوله صلى الله عليه وآله « لا تجتمع أمتي على الضلالة » والفرع لا يكون أقوى من الأصل . أجاب المثبتون بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في إثبات القياس قوي الظن وحصل الترجيح . ومن الحشوية من أنكر النظر في البراهين العقلية تمسكاً بالآية . وأجيب بأن العلم بكون القرآن لحجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فكيف تنكر . ثم ختم المخاطبة بنوع معاتبة فقال : { قليلاً ما تذكرون } أي تذكرون تذكراً قليلا . و « ما » مزيدة لتوكيد القلة . ثم ذكر ما في ترك المتابعة من الوعيد فقال : { وكم من قرية } فموضع « كم » رفع بالابتداء و « من » مزيدة للتأكيد والبيان أي كثير من القرى { أهلكناها } مثل زيد ضربته وتقدم النصب أيضاً عربي جيد وفي الآية حذف لا لقرينة الإهلاك فقط فإن القرية تهلك بالهدم والخسف كما يهلك أهلها ولكنه يقال التقدير : وكم من أهل قرية لقوله { فجاءها بأسنا } والبأس بالأهل أنسب ولقوله : { أوهم قائلون } ولأن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بهلاكهم ولأن معنى البيات والقيلولة لا يصح إلا فيهم . وإنما قال : { فجاءها } رداً بالكلام على اللفظ أو كما يقال الرجال فعلت . وهنا سؤال وهو أن قوله : { فجاءها بأسنا } يقتضي أن يكون الهلاك مقدماً على مجيء البأس ولكن الأمر بالعكس . والعلماء أجابوا بوجوه منها : أن المراد حكمنا بهلاكها أو أردنا أهلاكها فجاءها كقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] ومنها أن معنى الإهلاك ومعنى مجيء البأس واحد فكأنه قيل : وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا وهذا كلام صحيح .

فإن قيل : كيف يصح والعطف يوجب المغايرة؟ فالجواب أن الفاء قد تجيء للتفسير كقوله صلى الله عليه وآله « لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه » فإن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذا ههنا مجيء البأس جار مجرى التفسير للإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم وقريب منه قول الفراء : لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معاً كما يقال : أعطيتني فأحسنت . وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معاً . ومنها أن ذلك محمول على حذف المعطوف والتقدير : أهلكناهم فحكم بمجيء البأس لأن الإهلاك أمارة للحكم بوصول مجيء البأس . ومنها أنه من باب القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس كقوله : عرضت الناقة على الحوض . وقوله { بياتاً } قال الجوهري : بيت العدوّ أي أوقع بهم ليلاً والاسم البيات . وفي الكشاف أنه مصدر بات الرجل بياتاً حسناً . وعلى القولين فإنه وقع موضع الحال بمعنى بائتين أو مبيتين . ثم قال : { أوهم قائلون } والجملة حال معطوفة على { بياتاً } كأنه قيل : فجاءها بأسنا مبيتين أو بائتين أو قائلين . وإنما حسن ترك الواو ههنا من الجملة الاسمية الواقعة حالاً لأن واو الحال قريب من واو العطف لأنها استعيرت منها للوصل فالجمع بين حرف العطف وبينه جمع بين المثلين وذلك مستثقل . فقولك : جائني زيد راجلاً أو هو فارس . كلام فصيح ، ولو قلت : جاءني زيد هو فارس كان ضعيفاً . وقال بعض النحويين : الواو محذوفة مقدرة ورده الزجاج لما قلنا . أما معنى القيلولة فالمشهور أنها نومة الظهيرة . وقال الأزهري : هي الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن نوم لقوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً } [ الفرقان : 24 ] والجنة لا نوم فيها وإنما خص وقتا البيات والقيلولة لأنهما وقتا الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع . وكأنه قيل للكفار لا تغتروا بالفراغ والرفاه والأمن والسكون فإن عذاب الله إنما يجيء دفعة من غير سبق أمارة .
أيا راقد الليل مسوراً بأوّله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
فقوم لوط ألهكوا وقت السحر ، وقوم شعيب وقت القيلولة . ثم قرر حالهم عند مجيء البأس فقال : { فما كان دعواهم } أي ما كانوا يدعونه من قبل دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلا اعترافهم ببطلانه وفساده والإقرار بالإساءة والظلم على أنفسهم . وقال ابن عباس : فما كان تضرعهم واستغاثتهم إلا قولهم هذا وذلك إقرار منهم على أنفسهم بالشرك . وقال أهل اللغة : الدعوى اسم يقوم مقام الدعاء . حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين أي فما كان دعاؤهم ربهم إلا اعترافهم بعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم فلا يزيدون على ذم أنفسهم وتحسرهم على ما فرط منهم وفرطوا فيه . ومحل { دعواهم } وعلى عكسه محل { إن قالوا } يجوز أن يكون نصباً أو رفعاً كما سبق في إعراب قوله :

{ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } [ الأنعام : 23 ] ثم ذكر على ترك القبول والمتابعة وعيداً آجلاً فقال : { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } نسأل المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم كقوله : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } [ القصص : 65 ] { ولنسئلن المرسلين } { فلنقصن عليهم } أي على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بعلم } عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم { وما كنا غائبين } عنهم وعما وجد منهم . فإن قيل : ما الفائدة في سؤال المرسل إليهم بعدما أخبر عنهم أنهم اعترفوا بذنوبهم؟ فالجواب أنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب الظلم أو التقصير تقريعاً وتوبيخاً . فإن قيل : ما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة؟ قلنا : ليلتحق كل التقصير بالأمة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع مواجب التقصير ، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار . فإن قلت : كيف الجمع بين قوله : { فلنسئلن } وبين قوله : { فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [ الرحمن : 39 ] فالجواب بعد تسليم اتحاد الزمان والمكان أن القوم لعلهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إليها وعن الصوارف التي صرفتهم عنها . أو المراد نفي سؤال الاستفادة والاسترشاد وإثبات سؤال التوبيخ والإهانة فلا تناقض . وفي الآية إبطال قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء ولا على الكفار ، وفيها أنه سبحانه عالم بالكليات وبالجزئيات ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السموات ، فالإلهية لا تكمل إلا بذلك . وفيها أنه غير مختص بشيء من الأحياز والجهات وإلا كان غائباً من غيره . ثم بيّن أن من جملة أحوال يوم القيامة وزن الأعمال فقال : { والوزن } وهو مبتدأ خبره { يومئذ } وقوله { الحق } صفة المبتدأ أي الوزن العدل يوم يسأل الله الأمم ورسلهم . وقيل : لا يجوز الإخبار عن شيء وقد بقيت منه بقية فيجب على هذا أن يكون { الحق } خبراً و { يومئذٍ } ظرفاً للوزن ومعنى الحق أنه كائن لا محالة . وفي كيفية الميزان قولان : الأول ما جاء في الخبر « إنه تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها » وكيف توزن فيه وجهان : أحدهما أن المؤمن تتصوّر أعماله بصور حسنة وأعمال الكافر بصور قبيحة فتوزن تلك الصور ذكره ابن عباس . وثانيهما أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد . « يروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عما يوزن يوم القيامة فقال : الصحف » وعن عبد الله بن سلام أن ميزان العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة والأخرى على جهنم ولو وضعت السموات والأرض في إحدهما لوسعتهن ، وجبريل آخذ بعموده ناظر إلى لسانه ، وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله فيوضع في الآخرة فترجح » قال القاضي : يجب أن يحمل هذا على أنه يأتي بالشهادتين بحقهما من العبادات وإلا كان إغراء على المعصية . ورد بأنه خلاف الظاهر وبأنه لا يبعد أن يكون ثواب كلمة الشهادة أوفى وأوفر من سائر الأعمال لأن معرفة الله تعالى أشرف العقائد والأعمال . وروى الواحدي في البسيط أنه إذا خف حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجزته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم : بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وخلقك فمن أنت؟ فيقول : أنا نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصليها عليّ قد وافتك أحوج ما تكون إليها القول الثاني قول مجاهد والضحاك والأعمش وكثير من المتأخرين أن المراد من الميزان العدل لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلا بالوزن والكيل فلا يبعد جعل الوزن مجازاً عن العدل . ومما يؤكد ذلك أن أعمال العباد أعراض وأنها قد فنيت وعدمت ووزن المعدوم محال وكذا لو قدر بقاؤها . وأما قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال فنقول : المكلف يوم القيامة إما أن يكون مقراً بأنه تعالى عادل حكيم وحينئذٍ يكفيه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب ، وإما أن لا يكون مقراً فلا نعرف من رجحات الحسنات على السيئات وبالعكس حقية الرجحان . أجاب الأولون بأن جميع المكلفين يعترفون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور لكن الفائدة في وضع الميزان ظهور الرجحان لأهل الموقف وازدياد الفرح والسرور للمؤمن وبالضدّ للكافر . واختلف العلماء أيضاً في كيفية الرجحان فقال بعضهم : يظهر هناك نور في رجحان الحسنات وظلمة في رجحان السيئات . وقال آخرون : بل يظهر الرجحان في الكفة . واختلف أيضاً في الموازين فقيل : إنها جمع موزون وأراد الأعمال الموزونة والميزان المنصوب واحد . ولئن سلم أنها جمع الميزان فالعرب قد توقع لفظاً لجمع على الواحد فتقول : خرج فلان إلى مكة على الأفراس والبغال . قاله الزجاج . وقال الأكثرون : كما لا يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل قال عز من قائل :

{ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] وأيضاً لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ولأفعال الجوارح ميزان ولما يتعلق بالقول ميزان آخر . ثم إن المرجئة الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان قالوا : إن الله حصر أهل الموقف في قسمين منهم من تزيد حسناته على سيئاته ومنهم على العكس ولا ريب أن هذا القسم أهل الكفر لأنه حكم عليهم بأنهم الذين خسروا أنفسهم بسبب الظلم بآيات الله أي التكذيب بها وهذا لا يليق إلا بالكافر . ولئن سلم أن العاصي معاقب لكنه يعاقب أياماً ثم يعفى عنه ويتخلص إلى رحمة الله تعالى فهو بالحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد الآباد من غير زوال ولا انقطاع . قيل : في الآية دلالة على أن الذي تكون حسنات وسيئاته متعادلتين متساويتين غير موجود والله أعلم .
ثم لما فرغ من التخويف بالعذاب الآجل رغب الخلائق في قبول دعوة الأنبياء بطريق آخر وهو تذكير النعم فإن ذلك يوجب الطاعة فقال : { ولقد مكناكم في الأرض } أقدرناكم على التصرف فيها { وجعلنا لكم فيها معايش } هي جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها ، أو ما يتوصل به إلى ذلك وبالجملة وجوه المنافع التي تحصل بتخليق الله تعالى ابتداء كالأثمار ، أو بواسطة كالاكتساب ولوجه في معايش تصريح الياء لأنها أصلية لا زائدة كصحائف بالهمز في صحيفة . وعن ابن عامر أو نافع في بعض الروايات الهمز تشبيهاً بصحائف واستبعده النحويون البصريون . ثم عاتب المكلفين بأنهم لا يقومون بشكر نعمه كما ينبغي فقال : { قليلاً ما تشكرون } وفيه إشارة إلى أنهم قد يشكرون { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] .
التأويل : { المص } هو إله من لطفه أفرد عباده للمحبة وللمعرفة وأنعم عليهم بالصدق والصبر لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة { كتاب أنزل على قلبك } فانفسح له صدرك وانشرح فلم يبق فيه ضيق وحرج بخلاف ما أنزل من الكتب في الألواح والصحف فقد عرض لبعضهم ضيق عطن فألقى الألواح . وكما شرف نبيه بالكتاب المنزل على قلبه حتى صار خلقه القرآن شرف أمته بأن أمرهم باتباع ما أنزل إليهم ليتخلقوا بأخلاق الله . { وكم من قرية } قبل أفسدنا استعدادها { فجاءها بأسنا } أي إزاغة قلوبهم بإصبع القهارية وأهلها نائمون على فراش الحسبان { قائلون } في نهار الخذلان فما كان ادّعاؤهم إلا أن قالوا من قصر نظرهم لا من طريق الأدب { إنا كنا ظالمين } فنسبوا التصرف إلى أنفسهم ولم يعلموا أن الله تعالى مقلب أفئدتهم وأبصارهم { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } وهم عامة الخلائق هل قبلتم الدعوة وعملتم بما أمرتم أم لا فيكون السؤال سؤال تعنيف وتعذيب أو هم الذين قبلوا الدعوة فيكون السؤال سؤال تشريف وتقريب { ولنسئلن المرسلين } سؤال إنعام وإكرام هل بلغتم وهل وجدتم أمماً قابِلِي الدعوة { فلنقصن عليهم بعلم } فليعلمن أنا ما أرسلنا الرسل إليهم عبثاً وإنما أرسلناهم لأمر عظيم وخطب جسيم { وما كنا غائبين } عن الرسل بالنصر والمعونة وعن المرسل إليهم بالتوفيق والعناية { والوزن يومئذ } لأهل الحق لا الباطل لا نقيم لهم يوم القيامة وزناً .

روي أنه يوم القيامة يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة . { فمن ثقلت موازينه } بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والأحوال الكاملة { فأولئك هم المفلحون } من شر أنانيتهم وإنما جمع الموازين لأن لبدن كل مكلفٍ ميزاناً يوزن به أعماله ولنفسه ميزاناً يوزن به صفاتها ولقلبه ميزاناً يوزن به أوصافه ولروحه ميزاناً يوزن به نعوته ولسره ميزاناً يوزن به أحواله ولخفيه ميزاناً يوزن به أخلاقه . والخفي لطيفة روحانيّة قابلة لفيض الأخلاق الربانية ولهذا قال صلى الله عليه وآله : « ما وضع في الميزان شيء أقل من حسن الخلق » وذلك أنه ليس من نعوت المخلوقين وإنما هو خلق رب العالمين والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه { خسروا أنفسهم } أفسدوا استعدادها { ولقد مكناكم } هيأنا لكم خلافة الأرض دون غيركم من الحيوانات والملك { وجعلنا لكم } خاصة { معايش } ولكل صنف من الملك والحيوانات معيشة واحدة وذلك أن الإنسان مجموع من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية . فمعيشة الملك هي معيشة روحه ، ومعيشة الحيوان هي معيشة بدنه ، ومعيشة الشيطان هي معيشة نفسه الأمارة بالسوء ، وقد حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية وإنها لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهي القلب والسر والخفي ، فمعيشة قلبه هي الشهود ، ومعيشة سره هي الكشوف ، ومعيشة خفيه هي الوصال والوصول .

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

القراآت : { لأملأن } بتليين الهمزة الثانية حيث كان : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف : { تخرجون } من الخروج : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن ذكوان الباقون : مبنياً للمفعول من الإخراج والله أعلم .
الوقوف : { إلا إبليس } ط لأنه معرفة فلا تصلح الجملة صفة له . { الساجدين } ه { إذ أمرتك } ط { منه } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول . { طين } ه { الصاغرين } ه . { يبعثون } ه { المنظرين } ه { المستقيم } ه لا للعطف { شمائلهم } ط { شاكرين } ه { مدحوراً } ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف . { أجمعين } ه { الظالمين } ه { الخالدين } ه { الناصحين } ه { بغرور } ج لأن جواب « لما » منتظر مع الفاء { ورق الجنة } ط لأن الواو للاستئناف { مبين } ه { أنفسنا } سكتة للأدب إعلاماً بانقطاع الحجة قبل ابتداء الحاجة . { الخاسرين } ه { عدو } ط لعطف المختلفين { إلى حين } ه { تخرجون } ه .
التفسير : من جملة نعم الله تعالى علينا أن خلق أبانا آدم فجعله مسجوداً للملائكة فلذلك ذكر تلك القصة عقيب تذكير النعم ، ونظير هذه الآيات ما سبق في سورة البقرة { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] منع من المعصية بقوله : { كيف تكفرون } ثم علل ذلك المنع بكثرة نعمه على المكلفين وهو أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعاً من المنافع ، ثم ختم ذلك بقصة جعل آدم خليفة في الأرض مسجوداً للملائكة ، والغرض من الكل أن التمرد والجحود لا يليق بإزاء هذه النعم الجسام . وقصة آدم وما جرى له مع إبليس ذكرها الله في سبعة مواضع : في « البقرة » وههنا وفي « الحجر » وفي « سبحان » وفي « الكهف » وفي « طه » وفي « ص » وسنبين بعض حكمة اختلاف العبارات بقدر الفهم إن شاء الله تعالى . وههنا سؤال وهو أن قوله : { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا } يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا والأمر في الواقع بالعكس . وأجاب المفسرون بوجوه منها : أن المضاف محذوف أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ثم صورنا أباكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا . وإنما حسن هذه الكناية لأن آدم عليه السلام أصل البشر نظير قوله لبني إسرائيل المعاصرين { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } [ البقرة : 63 ] أي ميثاق أسلافكم . وقال صلى الله عليه وسلم : ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل . وإنما قتله أحدهم . ومنها أن المراد من خلقناكم آدم ثم صورناكم أي صورنا ذرية آدم في ظهره في صورة الذر ثم قلنا للملائكة وهذا قول مجاهد . ومنها خلقناكم ثم صورناكم ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة . ومنها أن الخلق في اللغة التقدير وتقدير الله تعالى عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كل شيء بمقداره المعين له .

فقوله : { خلقناكم } إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم . وقوله : { صورناكم } إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورهم كما أنه أثبت صور كل كائن كما جاء في الخبر « اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة » . ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له . قال الإمام فخر الدين رضي الله عنه . وهذا التأويل عندي أقرب الوجوه في تأويل هذه الآية . وأما أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا فقد تقدم في أوائل سورة البقرة فلا وجه لإعادته . أما قوله سبحانه . { ما منعك أن لا تسجد } فظاهره يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود كما قال في سورة ص { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] فلهذا الإشكال حصل للمفسرين رضي الله عنهم أقوال أوّلها وهو الأشهر : أن « لا صلة » زائدة كما في { لا أقسم } [ القيامة : 1 ] وكما في قوله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين . قال في الكشاف : وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل في { لئلا يعلم } ليتحقق علم أهل الكتاب ، وفي { ما منعك أن لا تسجد } ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك . قلت : لعله أراد أن زيادة « لا » إشارة إلى نفي ما عدا المذكور ليلزم منه تحقق المذكور . وثانيها أن إثبات الزيادة في كلام الله تعالى خارج عن الأدب وأن الاستفهام للإنكار أي لم يمنعك من ترك السجود شيء كقول القائل لمن ضربه ظلماً : ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك؟ والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه فما امتنعت من ضربي . وثالثها قال القاضي : ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال : ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها . وقيل : الممنوع من الشيء مضطر إلى خلاف ما منع منه . وقيل : معناه ما الذي جعلك في منعة من عذابي؟ وقيل : معناه من قال لك لا تسجد . وأقول : يمكن أن لا يعلق قوله : { أن لا تسجد } بقوله : { ما منعك } وإنما يكون متعلقه محذوفاً التقدير : ما منعك من السجود أن لا تسجد أي لئلا تسجد توجه عليك هذا السؤال . والحاصل أن عدم سجودك ما سببه؟ { إذ أمرتك } أمر إيجاب . وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب توبيخه وإفشاء معاندته وجحوده . واستدل العلماء بالآية على أن مجرد الأمر يقتضي الوجوب وإلا لم يترتب الذم عليه ، وأن الأمر يقتضي الفور وإلا لم يستوجب الذم بترك السجود في الحال .

ثم استأنف اللعين قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم زعماً منه أن مثله مستبعد أن يؤمر بما أمر به وتلك الخيرية هي التي منعته عن السجود فقال : { أنا خير منه } ثم بين هذه المقدمة بقوله { خلقتني من نار وخلقته من طين } والنار أفضل من الطين لأن النار جوهر مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها ، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن الأجرام اللطيفة كلها ، وأيضاً النار قوية التأثير والفعل ، والأرض ليس فيها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال . وأيضاً النار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة والنضج وأما الأرضية فللبرد واليبس تناسب الموت والحياة أشرف من الموت . وأيضاً فما بين التمييز والشباب لما كان وقت كمال الحرارة كانت أفضل أوقات عمر الحيوان بخلاف وقت الشيخوخة لغلبة البرد واليبس المناسب للأرضية والمخلوق من الأفضل أفضل لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع . وأما أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فما قد تقرر في العقول فهذه شبهة إبليس والمقدمات بأسرها ممنوعة ، أما أن النار أفضل من الأرض فممنوع لأن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره ، وكل منها ضروري في الوجود وفي التركيب فلكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على البعض تطويل بلا طائل . ومن تأمل ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } [ البقرة : 22 ] وقف على بعض منافعها وعلم أن طعن اللعين مردود جداً . ولو لم يكن في النار إلا الخفة المقتضية للطيش والاستكبار والترفع وفي الأرض إلا الرزانة الموجبة للحلم والوقار والتواضع لكفى به رداً لكلامه ، وأما أن المخلوق من الأفضل أفضل فهو محل البحث والنزاع لأن الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء ولا يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة ، فقد يخرج الكافر من المؤمن ويحصل الدخان من النار والتكليف يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل . فالاعتبار بما انتهى إليه لا بما خلق منه وقد قال صلى الله عليه وسلم : « ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم » { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] وفي قوله : { أنا خير منه } باطلة . ولئن سلم فلم لا يجوز خدمة الفاضل للمفضول تواضعاً وإسقاطاً لحق النفس؟ ولم لا يجوز الأمر بذلك لغرض الطاعة والامتثال أو لتشريف المفضول والرفع من مقداره؟ قالت العلماء ههنا : إن قوله تعالى للملائكة { اسجدوا لآدم } خطاب عام يتناول جميع الملائكة : ثم إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس فاستوجب الذم والتعنيف والدخول في جملة المتكبرين على الله فدل ذلك على أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه كانت الطاعة بإبليس أولى من القياس فعصى ربه وقاس .

وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس . ويمكن أن يجاب بأنه إنما استحق الذم لأن قياسه كان مبطلاً للنص بالكلية لا مخصصاً . وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بسجوده لمن كان مخلوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بسجوده لما هو مخلوق من الأرض أولى . ويحتمل أن يزيد هذا الجواب بأن الشريف إذا رضي بتلك الخدمة فلا اعتراض عليه وحينئذٍ لا يقبح أمره بذلك . ثم إن الملائكة رضوا بذلك فلا بأس ، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فقبح أمره بالسجود ، فقياسه يوجب تخصيص النص لا رفعه بالكلية فعلمنا أن استحقاق الذم إنما كان لتخصيص النص بالقياس كما ادعينا . { قال } أي الله تعالى كلام تعنيف وتعذيب لا إكرام وتشريف أو قال على لسان بعض ملائكته { فاهبط } يعني إذ لم تمثل أمري فاهبط { منها } . قال ابن عباس : يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم . وقال بعض المعتزلة : أمر بالهبوط من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين { فما يكون } فما يصح { لك أن تتكبر فيها } وتعصي { فاخرج إنك من الصاغرين } من أهل الصغار والهوان . يقال للرجل قم صاغراً إذا أهين . وفي ضده قم راشداً ، قال الزجاج : إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله بالذلة والصغار كما قال النبي صلى الله عليه وآله : « من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله » { قال أنظرني إلى يوم يبعثون } طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين ، ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك بل { قال } مطلقاً { إنك من المنظرين } قيل : إن هذا المطلق مقيد بقوله في موضع آخر { إلى يوم الوقت المعلوم } [ ص : 81 ] أي اليوم الذي يموت الأحياء كلهم فيه وهو وقت النفخة الأولى ، وقال آخرون : لم يوقت الله تعالى له أجلاً . والمراد الوقت المعلوم في علم الله تعالى والدليل على ذلك أن إبليس كان مكلفاً والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فيقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحاً . أجاب الأولون بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء أو على الكفر والمعاصي كإبليس فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام { قال فبما أغويتني } الإغواء ضد الإرشاد وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل إذا بشم والبشم فساد يعرض في جوفه من كثرة شرب اللبن .

ولا يمكن أن يتعلق الباء بقوله : { لأقعدن } لأن لام القسم تأبى ذلك . لا يقال : والله يريد لأمرنّ . لأن حكم القسم وما يتلوه حكم همزة الاستفهام وحرف النفي الذي هو ما وهي تعمل من حيث المعنى لا من حيث اللفظ فكأنها عوامل ضعيفة فلم يتقدم عليها شيء من معمولاتها لضعفها . وإنما يتعلق بفعل القسم المحذوف و « ما » مصدرية تقديره : فبما أغويتني أي فبسبب إغوائك إياي أقسم . ويجوز أن تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك لأقعدن . ومعنى القسم بالإغواء أنه من جلمة آثار القدرة أي بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك في لأقعدن . وقال في الكشاف : إن الأمر بالسجود كان سبب إغوائه وهو تكليف والتكليف من أحسن أفعال الله لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً بأن يقسم به وهذا يناسب أصول الاعتزال . قال مشايخ العراق : الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والجلال والعزة يمين ، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يميناً . ويعني بصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده فيقال : رحم فلاناً ولم يرحم فلاناً وغضب ولم يغضب . وقال بعضهم : ما للاستفهام كأنه قيل : بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ فقال : { لأقعدن } ويرد على هذا القول أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على « ما » الاستفهامية قليل . قيل : إن إبليس أضاف الإغواء ههنا إلى الله وفي قوله : { فبعزتك لأغوينهم } [ ص : 82 ] أضاف الإغواء إلى نفسه والأول يدل على الجبر والثاني على القدر ، وهذا دليل على أنه كان متحيراً في هذه المسألة . أجابت المعتزلة عن قوله : { فبما إغويتني } بأن قول إبليس واعتقاده ليس بحجة أو المراد أنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر منه كفر فلهذا المعنى أضاف الغي إلى الله . وقد يقال : لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضربك عنده ، أو المراد بالإغواء الإهلاك واللعن . وقالت الأشاعرة : نحن لا نبالغ في أن المراد بالإغواء ههنا هو الإضلال لأن حاصله كيفما كان يرجع إلى حكاية قول إبليس وهو ليس بحجة إلا أنا نقطع بأن الغاوي لا بد له من مغوٍ وليس ذلك نفسه لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والدور أو التسلسل محال فلا بد أن ينتهي إلى خالق الكل وهو المقصود . أما قوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } فانتصابه على الظرف كقوله :
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
قال الزجاج : هو كقولهم ضرب زيداً الظهر والبطن أي على الظهر والبطن . والمراد لأعترضن لهم أي لبني آدم المذكورين في قوله : { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم } على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة ، والحاصل أنه يواظب على الإفساد بالوسوسة مواظبة لا يفتر عنه ولهذا ذكر العقود لأن من أراد المبالغة في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود .

والعم أن العلماء اختلفوا في أن كفر إبليس كفر عناد أو كفر جهل . فمن قائل بالأول لقوله : { صراطك المستقيم } وصراط الله المستقيم هو دينه الحق . ومن قائل بالثاني لقوله : { فبما أغويتني } فدل ذلك على أنه اعتقد أن الذي هو عليه محض الغواية ، وإنما وصف الصراط بالمستقيم بناء على زعم الخصم واعتقاده ورد بأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغوايه فقد علم أن ضدّه هو الحق فكان إنكاره إنكار اللسان لا القلب وهو المعنى بكفر العناد ، ويمكن أن يجاب بأنه أراد بالإغواء أيضاً الإغواء بزعم الخصم ، قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دنيه ولا في دنياه وإلا لم يمهل إبليس حين استمهله مع علمه بالمفاسد والغوائل المترتبة على ذلك ، ومما يؤيد ذلك أنه بعث الأنبياء دعاة للخلق إلى الحق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال ، ثم إنه أمات الأنبياء وأبقى إبليس ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك . قال الجبائي في دفع هذا الاعتراض . إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد بل إنما يضل من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضاً بدليل قوله تعالى : { فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم } [ الصافات : 162 ] ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة . وقال أبو هاشم : يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جارياً مجرى زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من المشقة توجب الزيادة في الثواب . وضعف قول الجبائي بأنا نعلم بالضرورة أن الإنسان إذا جلس عنده جلساء السوء وحسنوا في عينه أمراً من الأمور مرة بعد أخرى فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التحسين فكذا الشيطان المزين للقبائح في قلوب الكفار والفساق . وزيف قول أبي هاشم بأن خلق الزيادة في الشهوة حجة أخرى لنا في أنه تعالى لا يراعي المصلحة ، وتقرير الحجة أن خلق تلك الزيادة يوقع في الكفر وعقاب الأب ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أن يزداد ثوابه وحصول هذه الزيادة شيء لا حاجة إليه والأهم رفع العقاب لا تحصيل زيادة الثواب . فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لم يهمل الأهم لطلب الزيادة التي لا ضرورة إليها . أما ذكر الجهات الأربع ففيه وجوه أحدها { من بين أيديهم } أي أشككهم في صحة البعث والقيامة { ومن خلفهم } ألقي إليهم أن الدنيا قديمة أزلية . وثانيها من بين أيديهم أنفرهم عن الرغبة في سعادات الآخرة ، ومن خلفهم أقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها؛ فالآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها ويصلون إليها ، والدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها ، وثالثها قول الحكم والسدي { من بين أيديهم } يعني الدنيا لأنهم بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها { ومن خلفهم } الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك .

وأما قوله : { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } فقيل : { عن أيمانهم } في الكفر والبدعة { وعن شمائلهم } في أنواع المعاصي . وقيل : { عن أيمانهم } في الصرف عن الحق { وعن شمائلهم } في الترغيب في الباطل . وقيل : { عن أيمانهم } افترهم عن الحسنات { وعن شمائلهم } أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري : وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين . وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال للعكس . وقال حكماء الإسلام : إن في البدن قوى أربعاً هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية : إحداها القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله : { من بين أيديهم } وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله : { ومن خلفهم } وثالثتها الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن . ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر . فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة . وقيل : { من بين أيديهم } الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد { ومن خلفهم } شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى ، { وعن إيمانهم } الترغيب في ترك المأمورات { وعن شمائلهم } الترغيب في فعل المنهيات . وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلاّ ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } [ طه : 82 ] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } [ سبأ : 54 ] وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام . فقال له : تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل » وعلى هذا فالقعود في الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله :

{ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } [ الإسراء : 64 ] وبقي ههنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال : { من بين أيديهم ومن خلفهم } بحرف الابتداء { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } بحرف المجاورة؟ قال في الكشاف : وقد تختلف حروف الظروف كما تختلف حروف التعدية على حسب السماع . يقال : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، فمعنى « على » أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى « عن » أنه جليس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به « رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس » لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها ، وكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئته من الليل تريد بعض الليل ، وقال بعض المفسرين : خص اليمين والشمال بكلمة « عن » لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق : 17 ] والشيطان لا بد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف . وقالت الحكماء { من بين أيديهم ومن خلفهم } هما الوهم والخيال كما مر والناشىء منهما العقائد الباطلة والكفر { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } الشهوة والغضب والناشىء منهما الأفعال الشهوية والغضبية . وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة « عن » تنبيهاً على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول . وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموضوعة في الجوانب الأربعة من البدن ، وأما في الظاهر فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض بطريقة الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة . قال القاضي : هذا القول من إبليس كالدلالة على أن لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق . قلت : هذا منافٍ لما في الحديث « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » أما قوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } فسئل أنه من باب الغيب فكيف عرف؟ وأجاب بعضهم بأنه كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال على سبيل القطع واليقين .

وقال آخرون : إنه قال على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات فغلب على ظنه أنهم يقبلون قوله : ولقد صدقه الله تعالى في ذلك الظن حيث قال : { ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه } [ سبأ : 20 ] { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] . وقيل : إن للنفس تسع عشرة قوة : الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم . وأما التي تدعوها إلى عالم الأرواح فقوة واحدة وهي العقل ، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكثر من استيلاء واحدة لا سيما وهي في أول الخلقة تكون قوية ، والعقل يكون ضعيفاً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلذلك قطع بقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } { قال } الله تعالى في جوابه إذا كان هذا عزمك { اخرج منها مذؤماً مدحوراً } الذام العيب والذأم يهمز ولا يهمز ، والدحر الطرد والإبعاد وفي المثل : لا تعدم الحسناء ذاماً . واللام في { لمن تبعك } موطئة للقسم و { لأملأن } جوابه وهو ساد مسد جواب الشرط . وعن عصام { لمن تبعك } بكسر اللام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو قوله : { لأملأن جهنم } فغلب ضمير المخاطب كما في قوله : { إنكم قوم تجهلون } [ الأعراف : 138 ] أي إنكم وإنهم على هذا . فقوله : { لأملأن } في محل الابتداء { ولمن تبعك } خبره . قال القاضي : كما أن الكافر يتبعه كذلك الفاسق يتبعه فلذلك يجب القطع بدخول الفاسق النار . وأجيب بشرط عدم العفو . قوله : { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } الآية . فيها من المسائل أن قوله : { اسكن } أمر تعبد أو أمر إباحة من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف . وأن زوج آدم هي حواء وأن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض . وأن قوله { وكلا } أمر إباحة لا أمر تكليف . وأن قوله : { ولا تقربا } نهي تنزيه أو نهي تحريم وأن الشجرة المشار إليها شجرة واحدة بالشخص أو بالنوع وإنها أيّ شجرة كانت . وأن ذلك الذنب كان صغيراً أو كبيراً . وأن الظلم في قوله : { فتكونا من الظالمين } بأي معنى هو؟ وأن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم أو بعدها؟ ونحن قد قضينا الوطر عن جميعها في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة { فوسوس لهما الشيطان } الوسوسة حديث النفس وهو فعل غير متعد كولولت المرأة ووعوع الذئب والمصدر الوسواس أيضاً بكسر الواو والوسواس بالفتح الاسم كالزلزال . ويوصل إلى المفعول باللام وبإلى . فمعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ومعنى وسوس إليه ألقاها إليه أي تكلم معه كلاماً خفياً يكرره { ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما } قيل : اللام لام العاقبة لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهر عورتهما وإنما آل أمرهما إلى ذلك ، وقيل : لام الغرض وبدو العورة كناية عن زوال الحرمة وسقوط الجاه الذي كان غرضه ، أو لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وفي ذلك سقوط حشمته .

وقوله : { ووري } مجهول وارى أي ستر والسوءة فرج الرجل والمرأة . ثم بيّن وسوسة إبليس بأنه { قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } أي إلا كراهة أن تكونا ملكين إلى قوله : { إني لكما لمن الناصحين } . سؤال : كيف يطمع إبليس آدم في أن يكون ملكاً عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة ساجدين معترفين بفضله؟ والجواب بعد تسليم أن هذه الواقعة كانت بعد النبوة وبعد سجود الملائكة له ، أن هذا أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وملائكة العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا ألبته لآدم وإلا كان هذا التطميع فاسداً . وربما يجاب بأنه أراد أنه يصير مثل الملك في البقاء والدوام وزيف بلزوم التكرار من قوله : { أو تكونا من الخالدين } . قال الواحدي : كان ابن عباس يقرأ { ملكين } بكسر اللام كأن الملعون أتاهما من جهة الملك كقوله : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [ طه : 120 ] واعترض بأنه لا نزاع في هذه القراءة الشاذة وإنما النزاع في القراءة المشهورة . ويمكن أن يجاب بأن آدم لعله رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والبطش والخلقة بأن يصير جوهراً نورانياً مقره العرش والكرسي . نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن : إن آدم وحواء هل صدّقاه في قوله؟ فقال الحسن : معاذ الله لو صدّقاه لكانا من الكافرين . أراد الحسن أن تصديق الخلود يوجب إنكار البعث والقيامة وإنه كفر . ويمكن أن يقال : لو أراد بالخلود طول المكث لم يلزم التكفير ، ولو سلم أن الخلود مفسر بالدوام فلا نسلم أن اعتقاد الدوام من آدم يوجب الكفر لأن العلم بالموت ثم البعث يتوقف على السمع ولعل ذلك الدليل السمعي لم يصل إلى آدم وقتئذٍ . ثم إن المحققين اتفقوا على أن التصديق لم يوجد من آدم لا قطعاً ولا ظناً وإنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا عند الشهوة أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال . ثم إن بعضهم زعم أن الترغيب كان في مجموع الأمرين كونهما ملكين وكونهما خالدين والظاهر أنه على طريقة التخيير . سؤال : المقاسمة من الجانبين فكيف يتصور التقاسم بين آدم وإبليس؟ والجواب كأنه قال لهما : أقسم بالله إني لكما ناصح وقالا له : نقسم بالله إنك إن صدقت ناصح . أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها ، أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم { فدلاهما بغرور } أي أوقعهما فيما أراد من تغرير ، وأصله أن الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه .

وقيل : أي جرأهما على أكل الشجرة من قولهم : فلان يدل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل على صيده . قال ابن عباس : غرهما باليمين . وكان آدم يظن أن لا يحلف أحد بالله كاذباً . وعن ابن عمر أنه كان إذا رأى من بعض عبيده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق ، فقيل له : إنهم يخدعونك فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له . { فلما ذاقا الشجرة } فيه دلالة على أنهما تناولا اليسير قصداً إلى معرفة طعمه ولولا أنه ذكر في آية أخرى { فأكلا منها } [ طه : 121 ] لم يدل على الأكل لأن الذوق قد يكون من غير أكل . { بدت لهما سوآتهما } ظهرت عوراتهما أي عورتاهما مثل { صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] مكان قلباكما { وطفقا يخصفان } أخذا في الفعل وهو الخصف ، ويستعمل طفق بمعنى كاد . قال الزجاج : أي يجعلان ورقة على ورقة ليستترا بهما كما تخصف النعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور . والورق التين وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة؟ { ألم أنهكما } عتاب من الله وتوبيخ وباقي الآيات مفسر في سورة البقرة . عن ثابت البناني : لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني فيك . فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوا ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه : هذه سنتكم بعده .
وقد بقي علينا من التفسير أسرار المتشابهات الواقعة في هذه القصة فلنفرغ لها . قوله : { ما منعك } وفي ص { يا إبليس ما منعك } [ الآية : 75 ] وفي الحجر { يا إبليس ما لك } [ الآية : 32 ] حذف المنادى في هذه السورة لأن مضي ذكره هنا أقرب فلم يحتج إلى إعادة اسم اللعين بالنداء .
قوله : { ما منعك أن لا تسجد } وفي ص { ما منعك أن تسجد } [ الآية : 75 ] جمع بين لفظ المنع ولفظ « لا » في هذه السورة لأنه لما حذف النداء زاد لفظة « لا » زيادة في النفي وإعلاماً بأن المخاطب به إبليس . وإن شئت قلت : جمع في السورة بين ما في « ص » وما في « الحجر » فقال : { ما منعك أن تسجد } و { مالك أن لا تسجد } وحذف { أن تسجد } وحذف { مالك } لدلالة الحال ودلالة السورتين عليه فبقي { ما منعك أن لا تسجد } .
قوله : { أنا خير منه } الآية في ص مثله كلاهما في جواب { ما منعك } ظاهر إلا أنه زاد في الحجر لفظ الكون فقال :

{ لم أكن لأسجد } [ الآية : 33 ] ليكون مطابقاً للسؤال حيث قيل : ما لك أن لا تكون مع الساجدين .
قوله : { أنظرني إلى يوم يبعثون } وفي ص وفي الحجر { رب فانظرني } [ الآية : 36 ] لأنه لما اقتصر في السؤال على الخطاب دون صريح الاسم اقتصر ههنا أيضاً على الخطاب دون ذكر المنادى بخلاف السورتين . وأما زيادة الفاء في السورتين دون هذه السورة فلأن داعية الفاء ما تضمنه النداء من أدعو وأنادي نحو قوله : { ربنا فاغفر } [ آل عمران : 193 ] أي أدعوك فاغفر . فلما حذف النداء في هذه السورة تركت الفاء . وكذلك من قوله : { إنك من المنظرين } ليطابق الجواب السؤال .
قوله : { فبما أغويتني } وفي الحجر { رب بما أغويتني } [ الآية : 39 ] بزيادة النداء ليوافق ما قبله . وزاد في هذه السورة الفاء وكذا في « ص » { فبعزتك لأغوينهم } [ الآية : 82 ] لزيادة الربط . ولم يمكن دخول الفاء في « رب » لامتناع النداء منه لأن ذلك يقع مع السؤال والطلب .
{ قال اخرج منها مذؤماً } ليس في القرآن غيره وإنما اختص هذا الموضع بذلك لأن اللعين بالغ في العزم على الإغواء فقال : { لأقعدن لهم } إلى آخره فبالغ الله جل وعلا في ذمه إذ الذام أشد الذم .
قوله : { فكلا } بالفاء وفي البقرة { وكلا } [ الآية : 35 ] لأن اسكن ههنا من السكنى التي معناها اتخاذ الموضع مسكناً وهذا لا يستدعى زماناً ممتداً يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه بل يقع الأكل عقيبه ، وفي البقرة من السكون الذي يراد به الإقامة فلم يصلح إلا بالواو فإن المعنى أجمعا بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها ولو كان بالفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة . وإنما زاد في البقرة { رغداً } لما زاد في الخبر تعظيماً بقوله : { وقلنا } قال بعض الأفاضل في الجواب عن هذه المسائل : إن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها كان اختلافها واتفاقها سواء إذا أدى المعنى المقصود . وهذا جواب حسن إن رضيت به كفيت مؤنة السهر إلى السحر والله أعلم .
التأويل : { ولقد خلقنا } أرواحكم { ثم صورناكم } أي خلقنا لأرواحكم أجساداً كما جاء في الحديث « إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام » ولتصوير الأجساد بداية وهي قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } [ الأعراف : 172 ] فإن لفظ الذرية يقع على المصورين ووسط { يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] ونهاية هي حالة الكهولية في الأغلب { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وأنتم في صلبه وهذا من التمكين أيضاً { فسجدوا } لاستعدادهم الفطري للسجود ولائتمارهم لأمر الله { إلا إبليس لم يكن } من المستعدين للسجود لما فيه من الاستكبار الناري { قال ما منعك } خطاب الامتحان لجرم إبليس ليظهر به استحقاقه اللعن فإنه لو كان ذا بصيرة لقال في الجواب منعني تقديرك وقضاؤك ولكنه كان أعور العين اليمنى بصيراً بالعين التي رأى بها أنانيته فقال : { أنا خير منه } أي منعني خيريتي من أن أسجد لمن هو دوني ، واستدل على خيريته بأنه خلق من نار وهي علوية نورانية لطيفة وآدم خلق من طين وهو سفلي ظلماني كثيف .

وهذا القياس معارض بأن النار من خاصيتها الإحراق والفناء والطين من خواصه النشوء والإنماء والاستمساك الذي بقوته يصير الإنسان مستمسكاً للفيض الإلهي ونفخ الروح فيه فاستحق سجود الملائكة لأنه صار كعبة حقيقية . فلما ابتلي إبليس بالصغار وطرد من الجوار أخذ في النوح وأيس من الروح ورضي بالبعاد واطمأن بالحياة فقال : { أنظرني } فأجيب إلى ما سأل ليكون وبالاً عليه ويزي في شقوته ، ولكن لم يجبه بأن لا يذيقه ألم الموت لقوله في موضع آخر { إلى يوم الوقت المعلوم } [ ص : 81 ] { قال فبما أغويتني } لم تكن حوالته الإغواء إلى الله منه نظر التوحيد وإنما كان للمعارضة والمعاندة لقوله : { لأغوينهم } [ الحجر : 39 ] { لأقعدن } { ثم لآتينهم } من الجهات التي فيها حظوظ النفس { من بين أيديهم } من قبل الحسد على الأكابر من المشايخ والعلماء المعاصرين { ومن خلفهم } من قبل الطعن في الأكابر الأقدمين والسلف الصالحين . { وعن أيمانهم } من قبل إفساد ذات البين وإلقاء العداوة والبغضاء بين الإخوان { وعن شمائلهم } من جهة ترك النصيحة مع أهاليهم وأقاربهم وترك الأمر بالمعروف مع عامة المسلمين . أو المراد { من بين أيديهم } من قبل الرياء والعجب { ومن خلفهم } من قبل الصلف والفخر { وعن أيمانهم } من قبل الادعاء وإظهار المواعيد والمواجيد { وعن شمائلهم } من قبل الافتراء على أنفسهم ما ليس فيها من الكشوف والأحوال . أو { من بين أيديهم } من قبل الاعتراض على الشيخ { ومن خلفهم } من قبل التفريق والإخراج عن صحبة الشيخ { وعن أيمانهم } من قبل ترك حشمة المشايخ { وعن شمائلهم } من قبل مخالفة الشيخ والرد بعد القبول . أو { من بين أيديهم } أثوّر عليهم أهاليهم وأولادهم ليمنعوهم عن طلب الحق { ومن خلفهم } أثور عليهم آباءهم وأمهاتهم { وعن أيمانهم } أثور عليهم أحباءهم { وعن شمائلهم } أثور عليهم أعداءهم وحسادهم . { ولا تقربا هذه الشجرة } يعني شجرة المحبة فإن المحبة مطية المحنة { فتكونا من الظالمين } على أنفسكما لأن للمحبة ناراً ونوراً فمن لم يرد نارها لم يجد نورها ومن يرد نارها احترقت أنانيته فيبقى بلا هوية نفسه مع هوية ربه فههنا يجد نور المحبة ويتنور به كقوله : { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] فشجرة المحبة شجرة غرسها الرحمن بيده لأجل آدم كما خمر طينة آدم بيده لأجل هذه الشجرة ، وإنّ منعه منها كان تحريضاً له على تناولها فإن الإنسان حريص على ما منع . ولم تكن الشجرة طعمة لغير آدم وأولاده { إلا أن تكونا ملكين } أي من أهل السلو كملكين في زوايا الجنة { أو تكونا من الخالدين } في الجنة كالحور والرضوان فسقاهما إبليس في كأس القسم شراب ذكر الحبيب { وقاسمهما } فلما غرقا في لجّة المحنة وذاقا شجرة المحبة { بدت لهما سوآتهما } أي سوآت نار المحبة قبل نورها وهي نار فرقة الأحبة في البداية { وطفقا } لاشتعال نائرة المحبة يجعلان كل نعيم الجنة على نارهما ، فلما التهبت احترقت بلظى نارها حبة الوصلة ونعب غراب البين بالفرقة .

فبينما نحن في لهو وفي طرب ... بدا سحاب فراق صوبه هطل
وإن من كنت مشغوفاً بطلعته ... مضى وأقفر منه الرسم والطلل
فالصبر مرتحل والوجد متصل ... والدمع منهمل والقلب مشتعل
{ وناداهما ربهما } نداء العزة والكبرياء { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } فإنها تذل العزيز وتزيل النعيم وتذهب الطرب وتورث التعب والنصب { إن الشيطان لكما عدوّ مبين } ولكن في عداوته صداقة مخفية تظهر ولو بعد حين :
واخجلتا من وقوفي باب دارهم ... لو قيل لي مغضباً من أنت يا رجل
فانغسل بماء الخجل منهما رعونات البشرية ولوث العجب والأنانية فرجعا عما طمعا فيه ووقفا لديه وعلما أن لا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه فقالا { ربنا ظلمنا أنفسنا } بأن أوقعناها في شبكة المحبة لا المحبة تبقينا بالوصال ولا المحنة تفنينا بالزوال { وإن لم تغفر لنا } بنوال الوصال { وترحمنا } بتجلي الجمال { لنكونن من الخاسرين } الذين خسروا الدنيا والعقبى ولم يظفروا بالمولى . فأمرا بالصبر على الهجر وقيل : { اهبطوا بعضكم لبعض عدو } النفس عدو القلب والروح ، والقلب عدو لما سوى الله { ولكم } للنفس والقلب والرفع في أرض البدن مقام وتمتع في الشريعة باستعمال الطريقة للوصول إلى الحقيقة إلى حين تصير النفس مطمئنة تستحق الخطاب ، ارجعي من الهبوط وارفعي بعد السقوط .
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا .
{ قال فيها } أي في المحبة { تحيون } بصدق الهمة وقرع باب العزيمة { وفيها تموتون } بطلب الحق على جادة الشريعة بإقدام الطريقة { ومنها تخرجون } إلى عالم الحقيقة .

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

القراآت : { ورياشا } أبو زيد عن المفضل . الباقون { ريشاً } { ولباس } بالنصب : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعليّ . الباقون بالرفع . { خالصة } بالرفع : نافع . الآخرون بالنصب { ربي الفواحش } مرسلة الباء : حمزة .
الوقوف : { وريشاً } ط لمن قرأ { ولباس } مرفوعاً ومن قرأ بالنصب وقف على { التقوى } { خير } ط { يذكرون } ه { سوآتهما } ط { لا يؤمنون } ه { أمرنا بها } ط { بالفحشاء } ط { ما لا تعلمون } ه { الدين } ط { تعودون } ه على جواز الوصل لرد النهاية إلى البداية { الضلالة } ج { مهتدون } ه { ولا تسرفوا } ج لاحتمال الفاء أو اللام . { المسرفين } ه { من الرزق } ط { يوم القيامة } ط { يعلمون } ه { ما لا تعلمون } ه { أجل } ج لأن جواب « إذا » منتظر مع دخول الفاء فيها { ولا يستقدمون } ه .
التفسير : لما ذكر أن الأرض لبني آدم ذكر أنه أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا فقال : { يا بني آدم قد أنزلنا } وأيضاً لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة وأنه كان يخصف عليها أتبعه ذكر اللباس الساتر للعورة إظهاراً للمنّة وإشعاراً بأن التستر باب من أبواب التقوى . ومعنى إنزال اللباس أنه قضى ثمة وكتب أو أنه حاصل بالمطر المنزل من أبواب التقوى . ومعنى إنزال اللباس أنه قضى ثمة وكتب أو أنه حاصل بالمطر المنزل من السماء ومثله { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] { وأنزلنا الحديد } [ الحديد : 25 ] والريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوآتكم ولباساً لزينتكم لأن الزينة غرض صحيح كما قال : { لتركبوها وزينة } [ النحل : 6 ] { ولكم فيها جمال } [ النحل : 6 ] ومن قرأ { رياشاً } فقد قيل : إنه جمع ريش كشعب وشعاب . وقال الجوهري : الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس وهو لباس الفاخر . ويقال : الريش والرياش المال والخصب والمعاش . وبالجملة كل شيء يعيش به الإنسان ومنه قولهم رشت فلاناً أصلحت حاله ، وقال ابن السكيت : الرياش مختص بالثياب والأثاث ، والريش قد يطلق على سائر الأموال . أما قوله : { ولباس التقوى } فمن قرأ بالنصب فعلى المنصوب قبله عطف ، ومن رفع فعلى الابتداء وخبره إما الجملة التي هي { ذلك خير } كأنه قيل : ولباس التقوى وهو خير لأن أسماء الإشارة كالضمائر في صلاح العود بسببها ، وإما المفرد الذي هو { خير } و { ذلك } بدل أو عطف بيان أو صفة بتأويل ولباس التقوى المشار إليه خير . والعدول إلى الإشارة إما لتعظيم لباس التقوى وإما أن يكون المراد بلباس التقوى هو اللباس المواري للسوأة لأن مواراة السوأة من التقوى تفضيلاً له على لباس الزينة . ثم من المفسرين من حمل لباس التقوى على نفس الملبوس أي اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري به السوأة هو لباس التقوى لأن قوماً من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب ويطوفون بالبيت عراة فيكون كقول القائل : قد عرفتك الصدق في أبواب البر والصدق خير لك من غيره فيعيده .

أو المراد به ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها في الحروب . أو يراد الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلاة ومنهم من حمله على لباس التقوى مجازاً فقال قتادة والسدي وابن جريج : إنه الإيمان . وقال ابن عباس : هو العمل الصالح . وقيل : هو السمت الحسن . وقيل : هو العفاف والتوحيد لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عارياً عن الثياب ، والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسياً . وقال معبد : هو الحياء . وقيل : هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخباث والأعمال الصالحات . وعلى هذا فمعنى الآية إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به وأقرب إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به فأضاف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع والخوف في قوله : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } [ النحل : 112 ] { وذلك من آيات الله } الدالة على فضله ورحمته على عباده { لعلهم يذكرون } فيعرفون عظيم النعمة فيه . ثم حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان لأن المقصود من قصص الأنبياء عليهم السلام أن تكون عبرة لمن يسمعها فقال : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } الفتنة الامتحان ، تقول : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته . وقال الخليل : الفتن الإحراق . وورق فتين أي فضة محرقة ، قال الله تعالى : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] من قدر على إخراج الأب من الجنة مع كمال قوته وقرب عهده من فيضان ربه فهو على منع أولاده عن أن يدخلوا الجنة أقدر . ومحل { كما أخرج } نصب على المصدر أي فتنة مثل إخراج أبويكم لأن هذا الإخراج نوع من الفتنة . ومحل { ينزع عنهما لباسهما } حال أي أخرجهما نازعا لباسهما بأن كان سبباً في أن نزع عنهما . واللام في { ليريهما سوآتهما } لام العاقبة أو لام الغرض كما تقدم في قوله : { ليبدي لهما } [ الأعراف : 20 ] قال ابن عباس : يرى آدم سوأة حواء ويرى حواء سوأة آدم وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر . وعن عائشة رضي الله عنها ما رأيت منه ولا رأى مني . وحمله العلماء على الكراهية لا على التحريم . واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقيل : الثوب الحائل بينهما وبين النظر . وعن سعيد بن جبير : كان لباسهما من جنس الأظفار . وقيل : اللباس الذي هو ثياب الجنة ، قال الكعبي : في الآية دلالة على أن المعاصي والفتن كلها منسوبة إلى الشيطان . وأجيب بأنه لا بد من الانتهاء إلى خالق الكل وموجد القدر والدواعي . ثم علل النهي وأكد التحذير بقوله : { إنه يراكم هو وقبيله } أي جماعته من الثلاثة فصاعداً . والقبيل بنو أب واحد .

وقال ابن قتيبة : أي أصحابه وجنده . وقال الليث : هو وقبيله أي وجماعته . { من حيث لا ترونهم } أي يكيدون ويغتالون من حيث لا تشعرون . قال بعض المتكلمين ومنهم المعتزلة : الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها ، والوجه في رؤية الجن الإنس كثافة أجسام الإنس ، والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضاً أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضاً ، ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم . وقال أهل السنة : إنهم يرون الإنسان لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً ، والإنس لا يرونهم لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس . قال بعض العلماء : { من حيث لا ترونهم } يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص ففيه دليل على أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس ، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وأن زعم من يدعي رؤيتهم فزور ومخرقة . ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا لارتفع الوثوق عن الناس حتى الزوجة والولد ، ولو كانوا قادرين على تخبيط الناس ، وإزالة العقل عنهم لكان أولى الناس بذلك العلماء والمشايخ لأن العداوة بينهم وبين خواص الإنس أشد . وعن مجاهد قال إبليس : أعطينا أربع خصال : نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى . وعن مالك بن دينار أن عدوّاً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله . والضمير في { إنه } للشأن وهو تأكيد ليصح العطف على المرفوع المتصل ، ثم قال { إنا جعلنا الشياطين } الآية . واحتج أهل السنة على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان عليهم حتى أضلهم وأغواهم ويتأكد هذا النص بقوله : { إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً } [ مريم : 83 ] اعتذر القاضي بأن المراد من الجعل الحكم بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن أو المراد التخلية بينهم وبينهم كمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل وأجيب بأن حمل الجعل على الحكم خلاف الظاهر ، وهب أنه حكم بذلك فهل يمكن مخالفة حكم الله؟ وبأن الإرسال إنما يصدق على التسليط لا على التخلية المجردة قوله : { وإذا فعلوا فاحشة } قال بعضهم : نزلت في اتخاذهم البحائر والسوائب . وقيل : في الطواف بالبيت عراة والأولى التعميم والفحشاء الخصلة المتزايدة في القبح أعني الكبيرة والمراد أنهم كانوا يفعلون أشياء هي في أنفسها فواحش ويعتقدون أنها طاعات فوبخوا على ذلك لينتهوا عنها . ثم إنه حكى عنهم حجتين : الأولى التقليد ولم يذكر جوابها لظهور بطلانها عند كل عاقل ، والثانية أن الله أمرهم بذلك فأجاب عنها بقوله : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } فللمعتزلة أن يحتجوا به على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه وأن كونه في نفسه من الفحشاء مغاير لتعلق الأمر والنهي ولهذا أكد هذا المعنى بقوله : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } ؟ والجواب أن عدم الأمر بالفحشاء لا ينافي إرادة الفحشاء ومشيئتها ونحن لا ندعي إلا أنه تعالى مريد لجميع الكائنات وأن شيئاً منها لا يخرج عن حكمه وأرادته وتقديره مع أنه لا يأمر إلا بالعدل والصواب كما قال : { قل أمر ربي بالقسط } قال عطاء والسدي : أي بالعدل وبما ظهر في العقول كونه حسناً .

وعن ابن عباس هو قول لا إله إلا الله ويندرج فيه معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه . أما قوله : { وأقيموا } فليس من باب عطف الطلب على الخبر وإنما التقدير : وقل أقيموا { وجوهكم } أي استقبلوا القبلة واستقيموا وأخلصوا { عند كل مسجد } في كل وقت سجود أو في مكان سجود كأن المعنى وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة . وقال ابن عباس : المراد أنه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحد إني لا أصلي إلا في مسجد قومي . ثم لما أمر بالتوجه إلى القبلة أمر بعده بالدعاء والأظهر أن المراد به أعمال الصلاة سميت دعاء لأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر ، ويمكن أن يقال : الدعاء بمعنى العبادة فيكون كقوله { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] ثم برهن على المعاد ليتحقق الجزاء فقال : { كما بدأكم تعودون } قال الحسن ومجاهد : كما بدأ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً كذلك تعودون أحياء . وعن ابن عباس : المراد كما بدأ خلقكم مؤمناً أو كافراً تعودون فيبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً ، فإن من خلقه الله تعالى في أول الأمر للشقاوة يعمل بعمل أهل الشقاوة وكانت عاقبته ذلك ، ومن خلقه للسعادة فإنه يعمل عمل أهل السعادة وكانت عاقبته السعادة . ويؤيد هذا التفسير قوله عقيب ذلك { فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } وانتصاب { فريقاً } الثاني بفعل مضمر يفسره ما بعده أي وخذل أو أضل فريقاً حق عليهم الضلالة كقولك زيداً مررت به . قال القاضي : المعنى فريقاً هدى إلى الجنة والثواب وفريقاً حق عليهم الضلالة أي العذاب والصرف عن طريق الثواب لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيره إذ العبد لا يستحق أن يضل عن الدين إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة . وأجيب بأن قوله : { هدى } و { حق } ماض وحمله على المستقبل خلاف الظاهر ، وبأن الهدى إلى الجنة أو الضلال عنها لا بد أن يكون محكوماً به في الأزل وخلاف حكمه محال . ثم بيّن ما لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة أعني السبب القريب وإلا فانتهاء الكل إلى مسبب الأسباب فقال : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } فقبلوا دعوتهم دون دعوته ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل .

ثم بين أن جهلهم مركب لا بسيط فقال : { ويحسبون أنهم مهتدون } وفيه أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في أصول الدين بل لا بد فيه من القطع واليقين .
ثم لما أمر بالقسط وكان من جملته أمر اللباس والمأكول والمشروب وأيضاً أمر بإقامة الصلاة وكان ستر العورة شرطاً لصحتها فلا جرم قال : { يا بني آدم خذوا زينتكم } عن ابن عباس قال : كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفليها سيوراً مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر تقيها من الذباب وهي تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
وعن طاوس : لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد . وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها : وقيل : كانوا يفعلون ذلك تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب . وقال الكلبي : كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : يا رسول الله نحن أحق بذلك فأنزل الله الآية . قال أكثر المفسرين : المراد من الزينة لبس الثياب لقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } [ النور : 31 ] يعني الثياب . وأيضاً الزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ولأنه يناسب ما تقدم من ذكر اللباس والرياش ، ولأن ظاهر الأمر الوجوب وكل ما سوى اللبس غير واجب فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان . والسنة فيه أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة . وقيل : الزينة المشط . وقيل : الطيب . ثم إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية تقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعاً بقي الباقي داخلاً تحت اللفظ . فإذن ستر العورة واجب في الصلاة وإلا فسدت صلاته . قال أصحاب أبي حنيفة : لبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ للزينة فيكفي في صحة الصلاة . وأجيب بأن اللام في قوله : { وأقيموا الصلاة } [ البينة : 5 ] تنصرف إلى المعهود السابق وهو صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم قلتم إنه يصلي في الثوب المغسول بماء الورد؟ أما قوله : { وكلوا } أي اللحم والدسم . { واشربوا } فقد قيل إنهما أمر إباحة بالاتفاق فوجب أن يكون أخذ الزينة أيضاً على الإباحة . وأجيب بأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه مع أن الأكل والشرب قد يكونان واجبين . أيضاً في الجملة وهما يشملان جميع المطعومات والمشربات ويتناولان الأحوال والأوقات إلا ما خصه الدليل المنفصل . والعقل أيضاً مؤكد لهذا المعنى لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة .

وفي قوله : { ولا تسرفوا } وجهان : الأول أنه يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقداراً كثيراً يضره ولا يحتاج إليه . الثاني - وهو قول أبي بكر الأصم - أن المراد من الإسراف قولهم بتحريم البحيرة والسائبة فإنهم أخرجوها عن ملكهم وتكروا الانتفاع بها . وأيضاً إنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج ما أحله الله تعالى لهم . قال بعض العلماء : إن حمل الإسراف على الاستكثار مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع مما يجوز وينبغي . وعن ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ، ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد صاحب المغازي : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم أبدان وعلم أديان . فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه . قال : وما هي؟ قال : قوله { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } فقال النصراني : ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة . قال : وما هي؟ قال : قوله : « المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته » فقال : النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً . قيل : كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها فأنكر ذلك عليهم بقوله : { قل من حرم زينة الله } قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هي اللباس الساتر للعورة . وقال آخرون : إنها تتناول جميع أنواع الزينة من الملابس والمراكب والحلي وكذا كل ما يستطاب ويستلذ من المآكل والمشارب والنساء والطيب . عن عثمان بن مظعون أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : غلبني حديث النّفس عزمت على أن اختصي فقال : مهلاً يا عثمان فإن خصاء أمتي الصيام . قال : فإن نفسي تحدثني بالترهب فقال : إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلوات . فقال : تحدثني نفسي بالسياحة قال : سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة . فقال : أن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك . فقال : الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم المسكين واليتيم وتعطيه ما فضل من ذلك . فقال : نفسي تحدثني أن أطلق خولة . فقال : أن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله تعالى . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها فقال : إن المسلم إذا غشى أهله وما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولداً كان له وصيف في الجنة وإن كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة ، وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كانله شفيعاً ورحمة يوم القيامة . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم .

قال : مهلاً إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب . قال : مهلاً فإن جبريل يأمرني بالطيب غباً وقال : لا تتركه يوم الجمعة . ثم قال : يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإنه من رغب عن سنتي ومات فليس مني ، ولو مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي . واعلم أن كل واقعة تقع فإما أن لا يكون فيها نفع ولا ضر أو يتساوى ضرها ونفعها فوجب الحكم في القسمين ببقاء ما كان على ما كان ، وإن كان النفع خالصاً وجب لإطلاق الآية ، وإن كان الضرر خالصاً وكان تركه خالص النفع فيلتحق بالقسم المتقدم ، وإن كان النفع راجحاً والضرر مرجوحاً تقابل المثل بالمثل وبقي القدر الزائد نفعاً خالصاً ، وإن كان الضرر راجحاً بقي القدر الزائد ضرراً خالصاً وكان تركه نفعاً خالصاً ، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة إلا أن نجد نصاً خاصاً في الواقعة فنقضي به تقديماً للخاص على العام . قال نفاة القياس : لو تعبدنا الله تعالى بالقياس لكان حكم ذلك القياس إما أن يكون موافقاً لحكمم هذا النص العام وحينئذٍ يكون ضائعاً لأن هذا النص مستقبل به ، وإن كان مخالفاً كان ذلك القياس تخصيصاً لعموم هذا النص فيكون مردوداً لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس ، فإذن القرن وافٍ بجميع الأحكام الشرعية والله تعالى أعلم . ثم بيّن أن الزنية والطيبات خلقت في الحياة الدنيا لأجل المؤمنين بالأصالة وللكفرة بالتبعية كقوله : { ومن كفر فأمتعه قليلاً } [ البقرة : 126 ] وأما في الآخرة فإنها خالصة لهم فقال : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة } من قرأ بالرفع فلأنه خبر بعد خبر . قال أبو علي : أبو على الخبر { والذين آمنوا } متعلق به والتقدير : هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا { يوم القيامة } وعلى هذا يكون { في الحياة } ظرفاً ل { آمنوا } و { يوم القيامة } ظرفاً ل { خالصة } فيفهم من ذلك أنها في غير يوم القيامة غير خالصة لهم بل تكون مشوبة برحمة الكفار . وعلى الأول يكون { في الحياة } ظرفاً لمحذوف أي هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة . ومن قرأ بالنصب فعلى الحال وباقي التقدير كما ذكرنا آنفاً { كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } أي لقوم يمكنهم النظر والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية . ثم بين أصول الأفعال المحرمة وحصرها في ستة أنواع لأن الجناية إما على الفروج وأشار إليها بقوله : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وإما أن تكون على العقول وهي شرب الخمر وإليها الإشارة بقوله : { والإثم } وقيل : الفواحش الكبائر والإثم الصغائر .

وقيل : الفواحش كل ما تزايد قبحه وتبالغ ، والإثم عام لكل ذنب كأنه خصص أوّلاً ثم عمم . وإما أن تكون الجناية على النفوس والأموال والأعراض وإليهن الإشارة بقوله : { والبغي بغير الحق } ومعنى بغير الحق أن لا يقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر إلا أن يكون لهم فيه حق فحينئذٍ يخرج عن أن يكون بغياً ، وإما أن تكون الجناية على الأديان إما بالطعن في التوحيد وإليه أشارة بقوله : { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } أي لا سلطان حتى ينزل وإما بالافتراء على الله وذلك قوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فإن قيل : الفاحشة وغيرها هي التي نهى الله تعالى عنها فيصير تقدير الآية إنما حرم ربي المحرمات وهذا كلام خالٍ عن الفائدة . فالجواب أن كون الفعل فاحشة عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه فيزول الإشكال . ثم شدد أمر التكاليف بالآجال المحدودة والأنفاس المعدودة فقال : { ولكل أمة أجل } عن ابن عباس والحسن ومقاتل : معناه أنه تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين لا يعذبهم قبل ذلك ولا يؤخرهم عنه والمقصود وعيد أهل مكة . وقيل : معناه أن أجل العمر لا يتقدم ولا يتأخر سواء الهالك والمقتول . وأورد على القول الأول أنه ليس لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال . وعلى الثاني أنه كان ينبغي أن يقال : ولكل إنسان أو أحد أجل . ويمكن أن يقال : الأمة هي الجماعة في كل زمان والمعلوم من حالها التفاوت في الآجال فزال السؤال . وليس المراد أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ولا يقدر على أن يميته إلا في ذلك الوقت لأن هذا يقتضي خروجه سبحانه وتعالى عن كونه قادراً مختاراً أو صيرورته كالموجب لذاته ، بل المراد أنه تعالى اختار أن الأمر يقع على هذا الوجه وإنما ذكر الساعة لأن هذا الجزء من الزمان أقل ما يستعمل في تقليل الأوقات عرفاً . والساعة في اصطلاح أهل النجوم جزء من أربعة وعشرين جزءاً من يوم بليلته . قيل : إن عند حضور الأجل يمتنع عقلاً وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم فما معنى قوله : { ولا يستقدمون } ؟ وأجيب بأن مجيء الأجل محمول على قرب حضور الأجل كقوله العرب : جاء الشتاء إذا قارب وقته ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك الوقت تارة والتأخر عنه أخرى .
التأويل : { قد أنزلنا عليكم لباساً } هو لباس الشريعة { يواري } سوآت الأفعال القبيحة في الظاهر وسوآت الصفات الذميمة النفسانية والحيوانية بآداب الطريقة في الباطن { وريشاً } زينةً وجمالاً في الظاهر والباطن { ولباس التقوى } وهو لباس القلب والروح والسر والخفي . فلباس القلب من التقوى هو الصدق في طلب المولى فيواري به سوآت الطمع في الدنيا وما فيها ، ولباس الروح من التقوى هو محبة المولى فيواري به سوآت التعلق بغير المولى ، ولباس السر من التقوى هو رؤية المولى فيواري بها رؤية غير المولى ، ولباس الخفي من التقوى بقاؤه بهوية المولى فيواري بها هوية غير المولى { ذلك خير } لأن لباس البدن بالفتوى هو الشريعة ولباس القلب بالتقوى هو الحقيقة { ذلك من آيات الله } أي إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على المولى .

{ لا يفتننكم الشيطان } بالدنيا وما فيها ومتابعة الهوى فيخرجكم عن جنة الصدق في طلب الحق { كما أخرج أبويكم من الجنة } وجوار الحق { ينزع عنهما لباسهما } من الشرع وذلك نهيهما عن شجرة المحبة { ليريهما سوآتها } من مخالفة الحق وما علما أن فيها هذه الصفة ، ومن جملة سوآتهما كل كمال ونقصان كان مستوراً فيهما فأراهما بعد تناول الشجرة { إنه يراكم هو وقبيله } يعني من الروحانيين الذين لا صورة لهم في الظاهر فإنهم يرون بنظر الملكوت الروحاني من الإنساني بعض الأفعال التي تتولد عن الأوصاف البشرية كما رأوا في آدم { وقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] { من حيث لا ترونهم } أي إنما يرونكم من حيث البشرية التي منشؤها الصفات الحيوانية فإنكم محجوبون بهذه الصفات عن رؤيتهم لا من حيث الروحانية التي هي منشأ علوم الأسماء والمعرفة لإنهم لا يرونكم في هذا المقام ، وأنتم ترونهم بالنظر الروحاني بل بالنور الرباني . { إنا جعلنا الشياطين أولياء } خلقناهم مستعدين لتولية أمور أهل الغفلة والطبيعة . { وإذا فعلوا فاحشة } هي طلب الدنيا وحبها { قالوا إنا وجدنا آباءنا } على محبة الدنيا وشهواتها { والله أمرنا } بطلب الكسب الحلال { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } وإنما يأمر بالكسب الحلال بقدر الحاجة الضرورية لقوام القالب بالقوت واللباس ليقوم بأداء حق العبودية وذلك قوله : { قل أمر ربي بالقسط } { كما بدأكم } لطفاً أو قهراً { تعودون } إليه . فأهل اللطف يعودون إليه بالإخلاص والطاعة وأهل القهر الذين حقت عليهم الضلالة يعودون إليه جبراً واضطراراً فيسحبون في النار على وجوههم { خذوا زينتكم } فزينة الظاهر التواضع والخضوع ، وزينة الباطن الانكسار والخشوع ، وزينة نفوس العابدين آثار السجود ، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود فالعابد على الباب بنعت العبودية والعارف على البساط بحكم الحرية { وكلوا واشربوا } في مقام العندية كما قال : « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { ولا تسرفوا } بالإفراط فوق الحاجة الضرورية والتفريط في حفظ القوة بحيث تضيع حقوق العبودية . { زينة الله } فزين الأبدان بالشرائع وآثارها ، وزين النفوس بالآداب وأقدارها ، وزين القلوب بالشواهد وأنوارها ، وزين الأرواح بالمعارف وأسرارها ، وزين الأسرار بالطوالع وآثارها ، فمن تصدّى لطلب هذه المقامات فهي مباحة له من غير تأخير وقصور وحظر ومنع { والطيبات من الرزق } ما لم يكن مشوباً بحظوظ النفس ، فهذه الكرامات والمقامات لهؤلاء السادة في الدنيا مشوبة بشواهد الآفات النفسانية وكدورات الصفات الحيوانية { خالصة يوم القيامة } من هذه الآفات والكدورات كما قال :

{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } [ الحجر : 47 ] { الفواحش } ما يقطع على العبد طريق السلوك إلى الرب؛ ففاحشة العوام { ما ظهر منها } ارتكاب المناهي { وما بطن } خطورها بالبال ، وفاحشة الخواص { ما ظهر منها } تتبع ما لأنفسهم نصيب منه ولو بذرة { وما بطن } الصبر على المحبوب ولو بلحظة ، وفاحشة الأخص { ما ظهر منها } ترك أدب من الآداب أو التعلق بسبب من الأسباب { وما بطن } الركون إلى شيء في الدارين والالتفات إلى غير الله من العالمين . { والإثم } الإعراض عن الله ولو طرفة عين { والبغي } وهو حب غير الله فإنه وضع في غيره موضعه . وأن يستغيثوا بغير الله ما لم يكن فيه رخصة وحجة من الشريعة { وأن تقولوا } بفتوى النفس وهواها أو بنظر العقل { على الله ما لا تعلمون } حقيقتها أو تقولوا في معرفة الله وبيان أحوال السائرين ما لمستم به عارفين { وكل أمة } من السائرين إلى الله أو إلى الجنة مدة مضروبة في الأزل ، وفيه وعد للأولياء واستمالة لقلوبهم ووعيد للأعداء وسياسة لنفوسهم .

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

القراآت : { حتى إذا ادّاركوا } كان يعقوب : إذا وقف على « إذا » يبتدىء { تداركوا } بالتاء . سهل : مخير ، وكذلك قوله تعالى : { قلتم } { وقالوا إنا طيرنا } وافق الكسائي في { تثاقلتم } { أخراهم لأولاهم } بالإمالة الشديدة : إبراهيم بن حماد وحمزة وعلي وخلف . وقرأ أبو عمر وغير إبراهيم بن حماد { أولاهم } بالإمالة اللطيفة { أخراهم } بالإمالة الشديدة ، وافق ورش من طريق النجاري والخزاز عن هبيرة في { أخراهم } بالإمالة الشديدة { فآتهم } بضم الهاء : رويس وكذلك كل كلمة سقطت الياء لعلة . إلا قوله : { ومن يولهم } [ الأنفال : 6 ] { لا يعلمون } بياء الغيبة : أبو بكر وحماد { لا تفتح لهم } بتاء التأنيث والتخفيف : أبو عمرو . وقرأ حمزة وعلي وخلف بفتح ياء تحتانية وبالتخفيف . الباقون بتاء التأنيث والتشديد . { غواشي } بالياء في الوقف : يعقوب وكذلك كل كلمة سقطت الياء لأجل التنوين أو لاجتماع الساكنين وهو مذهب سهل من طريق ابن دريد ، { ما كنا } بغير واو العطف : ابن عامر . الآخرون بالواو . { أورثتموها } وبابه بإدغام الثاء : أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام .
الوقوف : { آياتي } لا لأن الفاء بعده لجواب الشرط { ولاهم يحزنون } ه { النار } ط { خالدون } ه { بآياته } ط { من الكتاب } ط { يتوفونهم } لا لأن ما بعده جواب « إذا » . { من دون الله } ط { كافرين } ه { في النار } ط { أختها } ط { جميعاً } لا لما قلنا . { من النار } ط { لا يعلمون } ه { يكسبون } ه { الخياط } ط { المجرمين } ه { غواش } ج { الظالمين } ه { وسعها } ط وجعل { أولئك } خبراً للموصول أوجه بناء على أن قوله : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } معترضة { الجنة } ط { خالدون } ه { الأنهار } ط للعطف مع العارض . { اهدنا الله } ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى { بالحق } ط لابتداء النداء بأنها جزاء بعد انتهاء الحمد والثناء على أنها عطاء { تعملون } ه .
التفسير : لما بيّن أحوال التكليف وأن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر بيّن أنهم بعد الموت إن كانوا قد قبلوا الشرائع الحقة فلا خوف عليهم ولا حزن ، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب فقال : { يا بني آدم إما يأتينكم } وإعرابه مثل ما مر في سورة البقرة { فإما يأتينكم مني هدى } [ الآية : 38 ] والراجع محذوف أي فمن اتقى وأصلح منكم والذين كذبوا منكم . وإنما قال : { رسل منكم } لأن ذلك يكون أقطع لعذرهم وأقرب إلى الفهم والآنس . ومعنى أياتي أحكامي وشرائعي الدالة على صحة المبدأ والمعاد . ثم قطع شأن الجاحدين بقوله : { فمن أظلم من افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } والأول الحكم بوجود ما لم يوجد كأقوال أصناف المشركين وطوائف المبتدعة . والثاني إنكار حكم وجد من نبي أو كتاب . ثم أخبر عن عاقبة أمرهم فقال { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } قيل : أي العذاب المعين من سواد الوجه وزرقة العين .

وقال الزجاج : أي أنواع البلايا المعدة لكل صنف منهم من السلاسل والأغلال وغيرها على مقدار ذنوبهم ، وقيل : هم اليهود والنصارى يجب علينا إذا كانوا في ذمتنا أن ننصفهم ولا نتعدى عليهم وأن نذب عنهم فذلك معنى النصيب . وعن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أن النصيب هو ما سبق لهم في حكم الله تعالى ومشيئته من الشقاوة والسعادة والختم على الكفر والشرك ، أو على الإيمان والتوحيد . وقال الربيع وابن زيد : يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار كأنه سبحانه بيّن من رزق وعمر تفضلاً من الله تعالى لكي يصلحوا ويتوبوا ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } وذلك أن « حتى » هي التي يبتدأ بعدها الكلام وأنه ههنا جملة شرطية فدل على أن مجيء الرسل المتوفين كالغاية ، فحصول ذلك النصيب يكون مقدماً على حصول الوفاة وليس ذلك إلا العمر والرزق . ومحل { يتوفونهم } نصب على الحال من الرسل . قال ابن عباس : هم ملك الموت وأعوانه وإنهم يطالبون الكفار بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ . وقال الحسن والزجاج : إن هذا يكون في الآخرة والرسل ملائكة العذاب يتوفون عدّتهم عند حشرهم إلى النار أي يستكملون عدّتهم حتى لا ينفلت منهم أحد . قال في الكشاف : « ما » وقعت موصولة بأين في خط المصحف قلت : وإني رأيت النقل على العكس كما ذكرته في المقدمة السابقة من مقدمات الكتاب ، ومعنى الآية أي الآلهة التي تدعون أي تعبدونهم وتدعونهم في الشدائد { قالوا } على سبيل الاعتراف والعود إلى الإنصاف { ضلوا عنا } أي غابوا وذهبوا ولم ننتفع بهم { وشهدوا على أنفسهم } بالاعتراف أو بشهادة الجوارح عند معاينة الموت { أنهم كانوا كافرين } ثم شرح بقية أحوال الكفار وذلك قوله : { قال } أي الله . وعن مقاتل هو من كلام خازن النار . وهذا مبني على أنه سبحانه لا يجوز أن يكلم الكفار وإن كان كلام سخط { ادخلوا في أمم } قيل : أي ادخلوا في النار مع أمم والأولى أن لا يلتزم الإضمار والمجاز . والمعنى ادخلوا كائنين في جملة أمم تقدم زمانهم زمانكم في النار . وفيه دليل على أن أصحاب النار لا يدخلون النار دفعة واحدة ولكن فيهم سابق ومسبوق { كلما دخلت أمة لعنت أختها } في الدين والعقيدة . فالمشرك يلعن المشرك ، واليهودي يلعن اليهودي ، والنصراني يلعن النصراني ، وكذا المجوس وسائر أديان الضلالة وإذا لعنت نظيرها فلأن تلعن غيرها أولى { حتى إذا ادّاركوا فيها } أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار وأدرك بعضهم بعضاً واستقر معه { قالت أخراهم } أي آخرتهم دخولاً في النار { لأولاهم } دخولاً فيها أو أتباعهم وسفلتهم لرؤسائهم وقادتهم والمعنيان متلازمان عندي لأن المضل لا بد وأن يكون مقدماً على الضال في دخول النار .

واللام بمعنى التعليل أي لأجل أولاهم وذلك لأن خطابهم مع الله لا معهم { ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم } الفاء للجزاء { عذاباً ضعفاً } أي مضاعفاً وذلك عذاب الضلال وعذاب الإضلال بالدعوة إلى الباطل وتزيينه في أعينهم والسعي في إخفاء الدلائل . قال أبو عبيدة : الضعف مثل الشيء مرة واحدة وهو قول الشافعي في رجل أوصى فقال : أعطوا فلاناً ضعف نصيب ولدي يعطى مثل نصيبه مرتين . وقال الأزهري : العرب تريد بالضعف المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين بدليل قوله عز من قائل : { فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا } [ سبأ : 37 ] وأقل ذلك عشرة لقوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] وإنما قال الشافعي ما قال لأن ذلك متقن وما فوقه مشكوك { قال } أي الله أو خازن النار { لكل } من القادة والأتباع { ضعف } أما للقادة فلما قلنا ، وأما للأتباع فلأنهم عظموهم وقلدوهم وروّجوا أمرهم . سئل ههنا إن تضعيف العذاب للشخص الذي يستحق العذاب ظلم وأجيب في التفسير الكبير بأن عذاب الكفار مؤبد فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير النهاية . قلت : وهذا لا يختص بصنف من الكفار دون صنف ولا بشخص دون شخص فلا يصلح للجواب والصواب أن يقال : معنى تضعيف عذاب التابع والمتبوع أن ذلك العذاب زائد على مقدار ما تستحقه تلك العقيدة لو حصلت لا من حيثية التابعية والمتبوعية والله أعلم { ولكن لا تعلمون } من قرأه على الغيبة فمعناه لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر لأن الاسم الظاهر يعود الضمير إليه على الغيبة ، ومن قرأ على الخطاب فالمعنى لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل منكم من العذاب أو لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك . { وقالت أولاهم لأخراهم } إذ قد حكم الله بأن لكل منا ضعفاً { فما كان } أي فما ثبت { لكم علينا من فضل } لأنكم مؤاخذون بالاتباع كما نحن مؤاخذون بالاستتباع { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } يحتمل أن يكون من قول القادة وأن يكون من قول الله تعالى فيهم . قال في التفسير الكبير : قول القادة ليس لكم علينا فضل كذب لأن الرؤساء لهم عذاب الضلال والكذب عليهم جائز عندنا كقولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] قلت : إن سلمنا أن الكذب يجوز أن يصدر عنهم يوم القيامة إلا أن هذا الكلام لا يجوز أن يكون كاذباً لأنهم بنو كلامهم على حكم الله سبحانه بأن لكل ضعفاً .
ثم ذكر ما يدل على خلودهم في النار فقال : { إن الذين كذبوا بآياتنا } وهي الدلائل الدالة على الذات والصفات والنبوات والمعاد { واستكبروا عنها } أي ترفعوا عن قبولها { لا تفتح لهم أبواب السماء } قال ابن عباس : أي لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله تعالى من قوله :

{ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] ومن قوله : { إن كتاب الأبرار لفي عليين } [ المطففين : 18 ] وقال السدي وغيره : لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء التي هي موضع بهجة الأرواح وأماكن سعاداتها كما جاء في الحديث « إن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة . ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء » وقيل : بناء على أن الجنة في السماء معناه ولا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرّق لهم إليها حتى يدخلوا الجنة . وقيل : أي لا تنزل عليهم البركة والخير من قوله تعالى : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } [ القمر : 11 ] { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } الولوج الدخول . وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال : زوج الناقة استجهالاً للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف . والسم بالحركات الثلاثة وقد قرىء بها ثقب الإبراة وكل ثقب في البدن لطيف ومنه السم القاتل لنفوذه بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب . والخياط ما يخاط به قال الفراء : خياط ومخيط كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع . ولما كان جسم الجمل من أعظم الأجسام المشهورة عند العرب كما قال :
لا عيب بالقوم من طول ومن عظم ... جسم الجمال وأحلام العصافير
وكان سم الإبراة مثلاً في ضيق المسلك حتى قيل : أضيق من خرت الإبرة . وقالوا للدليل الماهر خريت لاهتدائه في المضايق المشبهة بأخرات الإبر ، وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط المحال ليلزم يأسهم من دخول الجنة قطعاً فإن الموقوف على المحال محال ومثله قول العرب : « لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ويبيض القار » . وقرىء الجمل بوزن القمل وكذا الجمل بوزن الحبل وبمعناه لأنه حبل ضخم من ليف أو خوص من آلات السفن . واختار ابن عباس هذا التفسير قائلاً : إن الله تعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة والبعير لا يناسبه . وأهل التناسخ أوّلوا الآية بأن الأرواح التي كانت في الأبدان البشرية لمّا عصت وأذنبت فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ولا تزال تبقى في التعذيب حتى تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الذرة فتنفذ في سم الخياط ، وحينئذٍ تصير مطهرة عن تلك الذنوب فتدخل الجنة وتصل إلى السعادة { وكذلك } ومثل ذلك الجزاء الفظيع { نجزي المجرمين } قيل : هم الكافرون المكذبون المستكبرون المار ذكرهم ، وقيل : يدخل فيه الفساق بشرط عند التوبة عند المعتزلة ، وبشرط عدم العفو عند الأشاعرة . ثم لما بين أنهم لا يدخلون الجنة ذكر أنهم يدخلون النار فقال : { لهم من جهنم مهاد } أي فراش { ومن فوقهم غواش } هي جمع غاشية وهي كل ما يغشاك أي يجللك ، والمراد الإخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف .

والتنوين في { غواش } مثله في « جوار » أعني أنه للتمكن عند بعض لأنه بعد حذف يائه لم يبق على زنة مساجد ، وللعوض عند بعض ، إما عن الياء أو عن إسكان الياء { وكذلك نجزي الظالمين } هم المشركون أو الفسقة الذين ظلموا أنفسهم . ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية . وقوله { لا نكلف نفساً إلا وسعها } وقد مر تفسيره في آخر سورة البقرة اعتراض بين المبتدأ وخبره وليس بأجنبي وإلا لم يحسن . وفيه تنبيه للمقصرين على أن الجنة مع عظم قدرها تحصل بالعمل السهل من غير ما حرج وصعوبة فبعداً لمن فاتته وسحقاً لمن فارقته . ومن جعله خبراً فالعائد محذوف أي لا نكلف نفساً منهم . ثم وصف أخلاق أهل الجنة فقال : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } نزع الشيء قلعه من مكانه ، والغل الحقد والتركيب يدور على الإخفاء ومنه الغلول كما مر في تفسير قوله : { وما كان لنبي أن يغل } [ آل عمران : 161 ] وللآية تفسيران : الأول أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا بتصفية الطباع وإسقاط الوسواس ومنعه من أن يرد على القلوب فإن الشيطان مشغول بالعذاب فلا يتفرغ لإلقاء الوسواس فلم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف . عن علي كرم الله وجهه أني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . الثاني : أن درجات أهل الجنة متفاوته بحسب الكمال والنقص ، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة الناقصة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة فيكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبريء بعض أهل النار من بعض ولعن بعضهم بعضاً وليس هذا ببديع ولا بعيد من حال أهل الجنة ، فإن أولياء الله تعالى في دار الدنيا أيضاً بهذه المثابة بحسن توفيق الله تعالى ونور عنايته وهدايته كل منهم قد قنع بما حصل له من نعيم الدنيا وطيباتها لا يميل طبعه إلى زوجة لغيره أحسن من زوجته ولا إلى لا مشتهى ألذ مما رزقه الله ، وكل هذا نتيجة ملكه الرضا بالقضاء والتسليم لأمر رب الأرض والسماء ، فيموتون كذلك ويحشرون على ذلك وفقنا الله لنيل هذا المقام ببركة أولئك الكرام { تجري من تحتهم الأنهار } وهذه من جملة أسباب التنزه والترفه أن أجرى على ظاهره ، ومن جملة السعادات الروحانية أن أريد بها أنواع المكاشفات وأصناف التجليات { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } النعيم المقيم والفوز العظيم بأن يسر الأسباب وخلق الدواعي ومنع الصوارف ، أو بأن أعطى العقل ونصب الأدلة وأزاح العلة { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } من قرأ بواو العطف فظاهر ، ومن حذف الواو فلأنها جملة يقرب معناها من معنى الأولى وكأنها تفسرها فلا حاجة إلى العطف المؤذن بالتغاير .

ثم حكى عنهم سبب الاهتداء وذلك قوله : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } فجعله واسطة لهدايتنا أو لطفاً وتنبيهاً يقولون ذلك فيما بينهم سروراً واغتباطاً بما نالوا وتلذذاً بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً فإن الجنة ليست دار التكليف { ونودوا أن تلكم } بأنه تلكم { الجنة } والضمير للشأن والحديث ويجوز كونه بمعنى أي لأن النداء في معنى القول . وإنما قيل : { تلكم } لأنهم وعدوا بها في الدنيا وكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها ، ويجوز أن يكون التبعيد للتعظيم . ومعنى { أورثتموها } صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله . قد يستعمل الإرث ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي كما يقال هذا الفعل يورثك الشرف أو العار . وقيل : أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث . وقيل : إن أهل الجنة يرثون منازل أهل النار لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « ليس من مؤمن ولا كافر إلا له في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم » قالت المعتزلة قوله : { بما كنتم تعملون } يدل على أن الموجب للجزاء هو العمل لا التفضل . وقال غيرهم : لما كان الموفق للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة بفضله . وجعل العمل أمارة على ذلك والمنادي هو الله جل وعلا أو الملك الموكل بذلك والله تعالى أعلم .
التأويل : { يا بني آدم أما يأتينكم رسل } الهامات من أنفسكم من طريق قلوبكم وأسراركم وفيه أن بين آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته . { افترى على الله كذباً } بأن يقول أكرمني الله بالكرامات والمقامات ولم يعط { أو كذب } بمقامات أعطاها بعض أوليائه { أولئك ينالهم نصيبهم } من الشقاء الذي كتب لهم { حتى إذا جاءتهم } رسل الإلهامات الإلهية والواردات الربانية بعد أن كان هائماً في تيه البشرية { يتوفونهم } بجذبات الألطاف الإلهية عن الأوصاف البشرية { قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله } من الدنيا وشهواتها { وشهدوا } هؤلاء المجرمون المحرومون { أنهم كانوا كافرين } ساترين الحق بالباطل فهداهم الله تعالى . ثم قال لأهل الخذلان { ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } وقدم الجن لأن الله تعالى خلق أولاً بني الجان منهم مؤمن ومنهم كافر ، فلما استولى أهل الكفر منهم بعث إليهم جنداً من الملائكة - وقيل رئيسهم إبليس - فاستأصلوهم ثم خلق آدم وذريته منهم مؤمن ومنهم كافر .

{ كلما دخلت أمة } في أعمال أهل النار { لعنت أختها } المتقدمة في تلك الأعمال لأنهم سنوها { حتى إذا } تدارك الكل في الأعمال الموجبة للنار . { عذاباً } { ضعفاً } لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها { لكل ضعف } لأن المتأخر أيضاً متقدم الذي يتلوه ويستن بسنته { ولكن لا تعلمون } أنكم متقدمون لمتأخريكم فما كان لكم علينا من فضل لأنكم سننتم لمتأخريكم كما سننا لكم { لا تفتح لهم أبواب } سماء القلوب إلى الحضرة { ولا يدخلون } جنة القربة والوصلة حتى يدخل جمل النفس المتكبرة في سم خياط أحكام الشريعة وآداب الطريقة ، وحتى تصير بالتربية في إزالة الصفات الذميمة وقطع تعلقات ما سوى الله أدق من الشعرة بألف مرة فيلج في سم خياط الفناء فيدخل جنة البقاء { وكذلك نجزي المجرمين } الذين صارت أنفسهم في حمل الأوزار كالجمل { لهم من جهنم } المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس قمع الهوى لحاف فتذهبهم وتحرق أنانيتهم . { لا نكلف نفساً إلا وسعها } فيرفع عن ظاهرهم وباطنهم كلفة الإيمان والعمل حتى تسير عليهم العبودية بحسن التوفيق .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

القراآت : { نعم } بكسر العين حيث كان : علي . الباقون بالفتح { مؤذن } بغير همز : النجاري عن روش ويزيد والشموني وحمزة في الوقف . { أن } مخففة { لعنة الله } بالرفع : عاصم وأبو عمرو وأبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل . الباقون : مشددة وبالنصب .
الوقوف : { حقاً } ج لانتهاء الاستفهام . { نعم } ج للعطف مع الابتداء بالتأذين . { على الظالمين } ه لا لأن « الذين » صفتهم { عوجاً } ج لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال { كافرون } ه لأن ما بعده لم يدخل في التأذين ولم يجزأن يكون حالاً { حجاب } ج لتناهي حال الفئتين واتفاق الجملتين { بسيماهم } ط { يطمعون } ه { أصحاب النار } لا لأن ما بعده جواب « إذاً » { الظالمين } ه { تستكبرون } ه { برحمة } ط لتناهي الاستفهام والأقسام { تحزنون } ه { رزقكم الله } ط { الكافرين } ه { الحياة الدنيا } ج للابتداء مع فاء التعقيب { هذا } لا « وما » مصدرية كما في { كما نسوا } والتقدير ننساهم كنسيانهم وجحودهم { يجحدون } ه { يؤمنون } ه { إلا تأويله } ط { بالحق } ج لابتداء الاستفهام مع الفاء للتعقيب { كنا نعمل } ط { يفترون } ه .
التفسير : ولما شرح وعيد الكفار وثواب الأبرار أتبعه المناظرات التي تدور بين الفريقين فقال : { ونادى } وإنما ذكره بلفظ الماضي لأن المستقبل الذي يخبر الله تعالى عنه من حيث تحقق وقوعه كالماضي . والظاهر أن هذا النداء إنما يكون بعد الاستقرار في الجنة لأنه ورد بعد قوله : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } قيل : الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرض . ومع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء؟ وأجيب بأن البعد الشديد والقرب عندنا ليس من موانع الإدراك ، ولو سلم المنع في الشاهد فلا يسلم في الغائب . وهذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار لأن أصحاب الجنة وأصحاب النار يفيد العموم لكن الجمع إذا قرن بالجمع يوزع الفرد على الفرد ، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار . و « أن » في { إن قد وجدنا } مفسرة أو مخففة من الثقيلة كما مر في قوله : { أن تلكم الجنة } [ الأعراف : 43 ] وكذا قوله : { أن لعنة الله } لأن النداء والتأذين في معنى القول : قال ابن عباس : { وجدنا ما وعدنا ربنا } في الدنيا من الثواب { حقاً } صحيحاً مطابقاً للواقع { فهل وجدتم ما وعد ربكم } من العقاب { حقاً } والغرض من هذا الاستفهام إظهار الشاشة والاغتباط وإيقاع الحزن في قلب العدو ، وفي هذه الحكاية لطف للمؤمنين وترغيب كما في سائر الأخبار . وإنما حذف المفعول في { وعد ربكم } لدلالة المفعول في { وعدنا } عليه ، ولأن كونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف وأنه لا يليق إلا بحال المؤمنين ويحتمل أن يكون الإطلاق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة { قالوا نعم } قال سيبويه : نعم عدة وتصديق أي تستعمل تارة عدة وتارة تصديقاً .

فإذا قال : أتعطيني؟ قال : نعم ، فهو عدة . وإذا قال : قد كان كذا وكذا فقلت : نعم فقد صدقت . والحاصل أن نعم للتصديق في الخبر والتحقيق في الاستفهام مثبتين كانا أو منفيين . فلو قيل : قام زيد أو أقام زيد فتقول : نعم . كان معناه نعم قام زيد مصدقاً أو محققاً ولو قيل : ما قام زيد أو ألم يقم زيد فقلت : نعم . كان المعنى ما قام زيد مصدقاً أو محققاً ومن ثم قال ابن عباس : لو قالوا في جواب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] « نعم » لكان كفراً . هذا من حيث اللغة وقد يكون العرف على خلاف ذلك كقول الفقهاء . لو قيل أليس لي عليك دينار فقلت : نعم التزمت بالدينار بناء على العرف الطارىء بعد الوضع . وكنانة تكسر العين من نعم . وروي عن عمر أنه سأل قوماً عن شيء فقالوا : نعم فقال عمر : أما النعم فالإبل وقولوا نعم وأنكر هذه الرواية أبو عبيد { فأذن مؤذن } قال ابن عباس : هو الملك صاحب الصور يأمره الله فينادي نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار . ومعنى التأذين النداء والتصويت للإعلام ومنه الأذان لأنه إعلام بالصلاة وبوقتها . والظالمون في الآية قيل : عام للكافر والفاسق والظاهر أنهم الكفار لأن الصد عن سبيل الله أي المنع عن قبول الدين الحق بالقهر أو بالحيلة وإلقاء الشكوك والشبهات في الدلائل وهو المراد بقوله : { ويبغونها عوجاً } وقد مر في آل عمران . والكفر بالآخرة كلها من أوصاف الكفرة وإنما قدم بالآخرة تصحيحاً لفواصل الآي ولم يزد لفظة هم هنا على القياس . وأما في سورة هود فلما تقدم { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } وقال : { ألا لعنة الله على الظالمين } [ الآية : 18 ] ولم يقل « عليهم » والقياس ذلك التبس أنهم هم أم غيرهم فكرر ليعلم أنهم هم المذكرون لا غيرهم . ثم وصف أهل الجنة والنار فقال : { وبينهما } يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين { حجاب } وهو السور المذكور في قوله سبحانه : { فضرب بينهم بسور له باب } [ الحديد : 13 ] قيل : أي حاجة إلى ضرب هذا السور والجنة فوق السموات والجحيم في أسفل سافلين . وأجيب بأن بعد أحدهما عن الآخر لا يمنع أن يكون بينهما سور وحجاب . والأعراف لغة جمع عرف بالضم وهو الرمل المرتفع ومنه عرف الفرس وعرف الديك ، وكل مرتفع من الأرض عرف لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه . الأعراف في الآية يفسر بالمكان تارة وبغيره أخرى . أما الذين فسروه بالمكان وهم الأكثرون فقال : إن الأعراف أعلى أعالي السور المضروب بين الجنة والنار ويروى عن ابن عباس .

وعنه أيضاً أن الأعراف شرف الصراط وعلى هذا التفسير فالذين هم على الأعراف من هم فيه قولان : أحدهما أنهم أقوام يكونون في الدرجة العليا من الثواب . وثانيهما : أنهم في الدرجة النازلة . وعلى الأول فيه وجوه : فقال أبو مجلز : هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار . فقيل له : يقول الله تعالى : { وعلى الأعراف رجال } وأنت تقول : إنهم ملائكة . فقال : الملائكة ذكور لا إناث . ويرد عليه أن الرجل لغة يطلق على من يصلح أن يكون من نوعه أنثى بل يطلق على الذكر من بني آدم . وقيل : إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على ذلك المكان العالي إظهاراً لشرفهم وليكونوا مشرفين على الفريقين مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم . وقيل : إنهم الشهداء . وعلى القول الثاني قيل : إنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أوقفهم الله على هذه الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار . ثم تؤل عاقبة أمرهم إلى الجنة برحمة من الله وفضل قاله حذيفة وابن مسعود واختاره الفراء . وخصصه بعضهم فقال : هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن أمهاتهم فاستشهدوا فساوت معصيتهم طاعتهم وفي هذا التخصيص نظر . وقال عبد الله بن الحرث : إنهم مساكين أهل الجنة . وقال قوم : هم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم الأعراف . وأما الذين فسروه بغير المكان وهو قول الحسن والزجاج فقد قالوا : إن المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يميزون البعض من البعض إما بالإلهام أو بتعريف الملائكة . قال الحسن : والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا . وعلى جميع التفاسير فهم يعرفون أهل الجنة وأهل النار . قال قوم : يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة مبيضة ، وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم . وزيف بأن هذا النوع من المعرفة عام لأهل المحشر فلا وجه لتخصيص أصحاب الأعراف بذلك . ويمكن أن يقال : إن معرفتهم لكونهم على الأمكنة المرتفعة آمنين . وقال المحققون : إنهم كانوا يعرفون أهل الخير والإيمان والصلاة وأهل الشر والكفر والإفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية ، فهو تعالى يجلسهم على الأعراف ليكونوا مطلعين على الكل يشهدون على كل أحد بما يليق به . ثم قال : { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } أي إنهم إذا نظروا إلى الجنة سلموا على أهلها . ثم أخبر على سبيل الاستئناف أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة { وهم يطمعون } كأن سائلاً سأل عن حالهم أو على أنه صفة أخرى لرجال . فإن قلنا : إن أصحاب الأعراف هم الأشراف فيكون الله تعالى أخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار ، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العلا في الجنة كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : « ان أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في وسط السماء وإن أبا بكر وعمر منهم »

ومعنى يطمعون على هذا يتيقنون كقول إبراهيم : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 82 ] ولا يخفى ما في هذه العبارة من حسن الأدب . وإن قلنا أصحاب الأعراف هم الأوساط فلا إشكال لأنهم يطمعون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من ذلك الموضع إلى الجنة { وإذا صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار } قال الواحدي : التلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفاً . ولم يأت من المصادر على « تفعال » بالكسر إلا حرفان « تبيان » و « تلقاء » وإنه في الاسم كثير كتمثال وتقصار ، والمعنى أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى أن لا يجعلهم من زمرتهم . وفي بناء الفعل للمفعول وإن لم يقل وإذا أبصروا فائدة هي أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا . ثم بين أن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أكابر أهل النار واستغنى عن التصريح بهم بوصفهم بما لا يليق إلا بهم فقال : { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم } المال أو كثرتكم واجتماعكم { وما كنتم تستكبرون } عن الحق وعلى الناس ، وفيه تبكيت للمخاطبين وشماتة بهم ، ثم زادوا في التبكيت مشيرين إلى فريق من أهل الجنة كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم ، وربما استهزؤا بهم وأنفوا من مشاركتهم في دينهم لقلة حظوظهم من الدنيا فقالوا : { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } أما قوله : { ادخلوا الجنة } إلى آخر الآية . فمن قول الله تعالى لأصحاب الأعراف ، أو من قول الملائكة لهم بأمره ، أو من قول بعضهم لبعض وذلك بعد أن يحبسوا ويجلسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويقولوا . قال المفسرون : الرجال ههنا الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام والعاص بن وائل السهمي ونظراؤهم . وكانوا يقولون إن بلالاً وسلمان وعماراً وأمثالهم يدخلهم الله الجنة ويدخلنا النار كلاً والله إن الله لا يفضل علينا خدمنا ورعاتنا ، أقسموا أن لا يخصهم بفضل دونهم فناداهم أصحاب الأعراف .
ثم ختم المناظرت بقوله : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } قال ابن عباس : لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا : ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم ، فأمر الله بالجنة فزخرفت ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر ، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا : { أفيضوا علينا من الماء } طلبوا الماء أوّلاً لما في بواطنهم من الاحتراق الشديد .

وفي الإفاضة نوع دلالة على أن أهل الجنة أعلى مكاناً من أهل النار . قال بعض العلماء : إنهم سألوا ذلك مع جواز الحصول . وقال آخرون : بل مع اليأس لأنهم عرفوا دوام عقابهم ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل : الغريق يتعلق بالزبد . وإن علم أنه لا يغنيه . قوله : { أو مما رزقكم الله } قيل : أي سائر الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة . وقيل : أي من الثمار أو الطعام . والمراد : وألقوا علينا من الطعام والفاكهة كقوله :
علفتها تبناً وماءً بارداً ... فيكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدّة جوعهم . ثم كأن سائلاً سأل فبماذا أجابهم أهل الجنة؟ فقيل : { قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } أي منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه وهذه نهاية الحسرة والخيبة أعاذنا الله منها . ثم وصف هؤلاء الكافرين بأنهم { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة } وقد مر تفسير الوصفين في أوسط سورة الأنعام . وقال ابن عباس : يريد المستهزئين المقتسمين ، وجملة الأمر أن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة الماء وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوباً عن طلب الدين غريقاً في بحر الدنيا ومشتهياتها . ثم ذكر جزاءهم يوم القيامة على سبيل الحكاية فقال : { فاليوم ننساهم } أي نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا قاله الحسن ومجاهد والسدي والأكثرون ، وقيل : أي نعاملهم معاملة من نسي بتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض عن آياتنا ، فسمي جزاء النسيان نسياناً كقوله : { وجزاء سيئة سيئة } [ الشورى : 40 ] والحاصل أنه لا يجيب دعائهم ولا يرحم ضعفهم وذلهم . عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ، ثم يذكرون الشراب فيستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فتقول أهل الجنة { إن الله حرمهما على الكافرين } ، ويقولون لمالك ليقض علينا ربك فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام إنكم ماكثون ، ويقولون ربنا أخرجنا منها فيجيبهم اخسؤا فيها ولا تكلمون ، فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في زفير وشهيق . وعن ابن عباس في صفة أهل الجنة : إنهم يرون الله عز وجل في كل جمعة ، ولمنزل كل واحد منهم ألف باب فإذا رأوا الله تعالى دخل من كل باب ملك معهم الهدايا الشريفة . وقال : إن نخل الجنة خشبها الزمرد وقوائمها الذهب الأحمر وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة وثمرتها أمثال القلال أشد بياضاً من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل لا عجم فيها . فهذه صفة الفريقين من القرآن والحديث فتأهب لأيهما شئت والله الموفق . ولما شرح الله تعالى حال الطائفتين والمناظرات الجارية بينهم لتكون حاملاً للمكلف على الحذر من مواجب النار وعلى الرغبة في مستتبعات الجنة بيّن شرف هذا الكتاب الكريم وغاية منافعه الجليلة فقال : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه } ميزنا بعضه عن بعض تمييزاً يهدي إلى الرشاد ويؤمن من الغلط والتخليط .

وإنما فعلنا ذلك لا كيفما اتفق بل { على علم } بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد الكثيرة والمنافع الغزيرة حتى جاء بريئاً من كل خلل وقدح ومعجزاً باقياً على وجه الدهر . وقوله : { وهدى ورحمة } حالان من منصوب { فصلناه } كما أن { على علم } حالٍ من مرفوعه . ويحتمل أن يكونا مفعولاً لهما { لقوم يؤمنون } لأن فائدته تعود إليهم ، ثم لما بيّن إزاحة العلة بسب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة بين بعده حال من كذب به فقال : { هل ينظرون إلا تأويله } والنظر ههنا بمعنى الانتظار والتوقع ، وكيف ينتظرون مع جحدهم وإنكارهم؟ الجواب لعل فيهم أقواماً تشككوا وتوقفوا ولهذا السبب انتظروه . وأيضاً إنهم كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة . قال الفراء : الضمير في تأويله للكتاب أي إلا عاقبة أمره وما يؤل إليه من بيان صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد ، أو عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب ، والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤل { يوم يأتي } يريد يوم القيامة وانتصابه على أنه ظرف { يقول } ومعنى : { نسوه } تركوا العمل به والإيمان أو أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه { قد جاءت رسل ربنا بالحق } أي متلبسين بما هو الحق ، أو الباء للتعدية والمراد اعترافهم بثبوت الحشر والنشر وأحوال القيامة وأهوالها إذا عاينوها { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } منصوب بإضمار « أن » بعد الفاء والتقدير : هل يثبت لنا شفيع فيشفع { أو } هل { نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } فنوحد الله تعالى بدلاً عن الشرك ونطيعه بدلاً عن المعصية . وفيه دليل على أن أهل الآخرة لا تكليف لهم خلافاً للنجار ومن تبعه وإلا لم يسألوا الرد إلى دار التكليف ولم يتمنوه بل كانوا يتوبون في الحال . ثم حكم بأن ذلك التمني لا يفيدهم شيئاً وأن مطلوبهم لا يكون ألبتة فقال : { قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي لا ينتفعون بالأصنام التي عبدوها في الدنيا وليس تفيدهم نصرة الأوثان التي بالغوا في نصرها .
التأويل : نادى أهل المحبة أهل القطيعة { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً } يعني قوله : « ألا من طلبني وجدني » { فهل وجدتم ما وعدكم } { ربكم } حقاً وهو قوله : « ومن طلب غيري لم يجدني » { فأذن مؤذن } العزة والعظمة على الظالمين الذين وضعوا استعداد الطلب في غير موضع مطلوبه ، الذين يصدون القلب والروح عن سبيل الله وطلبه ، ويطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها { وبينهما حجاب } من الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة النفسانية فلا يرى أهل النار أهل الجنة وكذا بين أهل الجنة وأهل الله - وهم أصحاب الأعراف - حجاب من أوصاف الخلقية والأخلاق الحميدة الروحانية .

وسميت أعرافاً لأنها موطن أهل المعرفة ، وسموا رجالاً لأنهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال في النساء ولا يتصرف فيهم شيء منه ، فالأعراف مرتبة فوق الجنان في حظائر القدس عند الرحمن { يعرفون كلاً } من أهل الجنة وأهل النيران { بسيماهم } من آثار نور القلب وظلمته { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } يعني هنيئاً لكم ما أنتم فيه من النعيم والحور والقصور . ثم أخبر عن همة أهل الأعراف فقال : { لم يدخلوها } أي الجنة ونعيمها ولم يلتفتوا إلى غير المولى { وهم يطمعون } في الوصول إلى الحق سبحانه . { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } ابتلاء ليعرفوا أنه تعالى من أي دركة خلصهم وبأي كرامة خصهم ومن هذا القبيل يكون ما يسنح لأرباب الكمالات من الخواطر النفسانية وما أتاهم الله بشيء من الدنيا والجاه والقبول والاشتغال بالخلق ليعرفوا قدر العزلة والتجريد والأنس مع الله في الخلوات { رجالاً يعرفونهم بسيماهم } يعني أهل الجنة وأهل النار { ما أغنى عنكم جمعكم } يا أهل الجنة وأهل الله من الطاعات ويا أهل النار من الدنيا والشهوات { وما كنتم تستكبرون } عن السير في حقيقة لا إله إلا الله { أهؤلاء الذين أقسمتم } يعني أن من المؤمنين والعلماء بعلم الظاهر في بعض الأوقات من يقول لدناءة همته لأهل المحبة والمعرفة { لا ينالهم الله برحمة } الوصول { ادخلوا الجنة } يعني الجنة المضافة إليه في قوله : { ادخلي جنتي } [ الفجر : 30 ] في حظائر القدس وعالم الجبروت { لا خوف عليكم } من الخروج { ولا أنتم تحزنون } على ما فاتكم من نعيم الجنة إذ فزتم بشهود جمالنا . اعلم أن أهل الجنة وأهل النار يرون أهل الله وهم أصحاب الأعراف بالصورة ما داموا في مواطن الكونين ، فإذا دخلوا الجنة الحقيقية المضافة إلى الله في حظائر القدس وسرادق العزة انقطع عنهم نظرهم ونظر الملائكة المقرّبين فافهم . يحكى عن بابا جعفر الأبهري أنه دخل على بابا طاهر الهمداني فقال : أين كنت فإني حضرت البارحة مع الخواص على باب الله فما رأيتك ثمة؟ فقال بابا طاهر : صدقت كنت على الباب مع الخواص وكنت داخلاً مع الأخص فما رأيتني . { فيضوا علينا من الماء } كانوا في الدنيا عبيد البطون حراصاً على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا على ما ماتوا ، وإن أهل الجنة لما جوعوا بطونهم لوليمة الفردوس كان اشتغالهم في الجنة بشهوات النفس والمضايقة بها { فقالوا إن الله حرمهما على الكافرين } وفي الحقيقة إنما حرمهما عليهم في الأزل فلم يوفقوا لمعاملات تورث الجنة { هل ينظرون إلا تأويله } أي ما يؤل إليه عاقبته في شأنهم . فللمؤمنين كشف الغطاء وسبوغ العطاء ، ولأهل الجحود الفرقة الافتقار وعذاب النار أعاذنا الله تعالى منها .

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

القراآت : { يغشي } بالتشديد حيث كان : حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد وسهل ويعقوب غير روح . { والشمس والقمر والنجوم مسخرات } كلها بالرفع : ابن عامر . الآخرون بالنصب . { الريح } على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلى خلف { نشرا } بالنون وسكون الشين : ابن عامر . وبفتح النون وسكون الشين : حمزة وعلي وخلف وأبو زيد عن المفضل . وبضم الباء الموحدة والشين الساكنة : عاصم غير أبي زيد الباقون بضم النون والشين . { ميت } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وحفص والمفضل { نكداً } بفتح الكاف : يزيد . الآخرون بكسرها .
الوقوف : { حثيثاً } ط لمن قرأ { والشمس } وما بعده مرفوعات { بأمره } ط { والأمر } ط { العالمين } ه { وخفية } ط { المعتدين } ه للعطف مع الآية . { وطمعاً } ط { المحسنين } ه { رحمته } ط { الثمرات } ط { تذكرون } ه { بإذن ربه } ج للابتداء مع العطف { نكداً } ط { يشكرون } ه .
التفسير : لما بالغ سبحانه في تقرير أمر المعاد عاد على عادته إلى بيان المبدإ وهو ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم تأكيداً للمعاد . والمعنى إن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكاره هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأجسام الجسام وأودع فيها أنواع المنافع وأصناف الفوائد ، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات ويعوّل على غيره في تحصيل السعادات؟ قال علماء الأدب : أصل ست سدس بدليل سديس وأسداس . ثم إن العرب كانوا يخاطبون اليهود فالظاهر أنهم سمعوا بعض أوصاف الخالق منهم فكأنه سبحانه يقول : لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتهما في ستة أيام . قيل : إنه تعالى كان قادراً على إيجادهما دفعة واحدة فما الفائدة في ذكر أنه خلقهما في ستة أيام في أثناء ذكر ما يدل على وجود الصانع؟ وأجيب بأنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور والصبر فيها كيلا يحمل المكلف تأخير الثواب والعقاب على التعطيل . ومن العلماء من قال : إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذلك إنما وقع على سبيل الاتفاق ، أما إذا أحدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للحكمة والمصلحة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث حكيم عليم قادر رحيم . وأيضاً ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أوّلاً ثم يخلق السموات . والأرض بعده لأن خلق ما لا ينتفع به في الحال يجر إلى العبث . ثم إن ذلك العاقل - ملكاً كان أو جنياً - إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على سبيل التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى في إفادة اليقين لأنه يتكرر على عقله ظهور هذه الدلائل لحظة فلحظة .

وأما تقدير المدة بستة أيام فلا يرد عليه إشكال لأن السؤال يعود على أي مقدار فرض ، وقيل : إن لعدد السبعة شرفاً عظيماً ولهذا خصت ليلة القدر بالسابع والعشرين . فالأيام الستة لتخليق العالم والسابع لتحصيل كمال الملك والملكوت . فإن قيل : كيف يعقل حصول الأيام قبل خلق الشمس التي نيط تقدير الأزمنة بطلوعها وغروبها؟ فالجواب أن المراد خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام كقوله : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا صباح عند الله ولا مساء . وعن ابن عباس أن هذه الأيام أيام الآخرة كل يوم ألف سنة مما تعدون . والأكثرون على أنها أيام الدنيا لأن التعريف بها يقع . والظاهر أنها الأيام بلياليها لا النهار . ونقول : يمكن أن تحمل الأيام الستة على الأطوار الستة التي للأجسام الهيولي والصورة والجسم البسيط ثم المركب المعدني والنباتي والحيواني والله تعالى أعلم بمراده . أما قوله سبحانه : { ثم استوى على العرش } فحمل بعضهم الاستواء على الاستقرار وزيف بوجوه عقلية ونقلية منها : أن استقراره على العرش يستلزم تناهيه من الجانب الذي يلي العرش ، وكل ما هو متناهٍ فاختصاصه بذلك الحد المعين يستند لا محالة إلى محدث مخصص فلا يكون واجباً . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الإله تعالى نوراً غير متناهٍ ويراد باستقراره على العرش بلا تناهيه إحاطته به من الجوانب ونفوذه في الكل لا كإحاطة الفلك الحاوي بالمحوى . ولا كنفوذ النور المحسوس في الشرف ، بل على نحو آخر تعوزه العبارة . ومنها أنه تعالى لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناهٍ من كل الجهات أو متناهياً من بعضها دون بعض . وعلى الأول يلزم اختلاطه بجميع الأجسام حتى للقاذورات ومع ذلك فالشيء الذي هو محل السموات ، إما أن يكون عين الشيء الذي هو محل الأرض أو غيره ، وعلى الأول يلزم أن يكون السماء والأرض حالين في محل واحد فهما شيء واحد لا شيئان . وعلى الثاني يلزم التركيب والتجزئة في ذاته تعالى . وأما إن كان متناهياً من الجهات فلو حصل في جميع الأحياز فهو محال بالبديهة ، وإن حصل في حيز واحد فلو كان جوهراً فرداً لزم أن يكون واجب الوجود أحقر الأشياء وإلا لزم التبعيض لأن جهة الفوق منه تكون مغايرة لمقابلتها . وكذا الكلام فيه إن كان متناهياً من بعض الجهات ، ولو جاز أن يكون الشيء المحدود من جانب أو جوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يجوز أن يقال فاعل العالم هو الشمس والقمر أو كوكب آخر؟ وأيضاً يصح على الشق المتناهي أن يكون غير متناهٍ وعلى غير المتناهي أن يكون متناهياً ، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي فيصح النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفريق والتمزق على ذاته تعالى فيكون ممكناً محدثاً لا واجباً قديماً .

ولقائل أن يقول : إنه غير متناهٍ ولا يلزم من ذلك أن يكون محلاً للعالم ولا حالاً فيه ، واستصحاب الشيء للمحل غير كونه نفس المحل أو مفتقراً إلى المحل . وحديث اختلاطه بالقاذورات تخييل لا أصل له عند الرجل البرهاني . ومنها أنه لو كان الباري يتعالى حاصلاً في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجوداً مشاراً إليه أو لا يكون . فإن كان موجوداً كان له بعد وامتداد وللحاصل فيه أيضاً بعد وامتداد فيلزم تداخل البعدين ومع ذلك يلزم كون الجهة والحيز أزليين ضرورة كون الباري تعالى أزلياً ومحال أن يكون ما سوى الواجب أزلياً ، وإن لم يكن موجوداً لزم كون العدم المحض ظرفاً لغيره ومشاراً إليه بالحس وذلك باطل . واعترض بأن ذلك أيضاً وارد عليكم في قولكم : « الجسم حاصل في الحيز والجهة » . وأجيب بأن مكان الجسم عندنا عبارة عن السطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى بالاتفاق في حق الله محال فسقط الاعتراض . ولقائل أن يقول : الجهة مقطع الإشارة الحسية وهذا في حقه محال لعدم تناهيه . ولم لا يجوز أن يكون المكان خلاء فلا يلزم تداخل البعدين ولو لزم هناك لزم في الأجسام أيضاً بل لا بعد هناك ولا امتداد ، ولو فرض فلن يلزم منه الانقسام في الخارج ، ومنها أنه لو امتنع وجود الباري تعالى بحيث لا يكون مختصاً بالحيز والجهة لكانت ذاته مفتقرة في تحققها ووجودها إلى غيره فيكون ممكناً . والجواب ما مر من أن استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إليه . ومنها أن الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض ، ولأن هذا المفهوم واحد فالأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية . فلو اختص ذاته تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لمخصص مختار ، وكل ما كان فعل الفاعل المختار فهو محدث ، فحصوله في الحيز محدث وكل ما لا يخلو عن الحادث فهو أولى بالحدوث فالواجب محدث هذا خلف . ولقائل أن يقول : ما لا يتناهى لا يعقل له حيز معين ولو فرض لا تناهي الأحياز أيضاً فافتقاره إليها ممنوع ، وكيف يفتقر الشيء إلى ما تأخر وجوده عن وجود ذلك الشيء والمعية بعد ذلك لا تضر؟ ومنها لو كان في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بالحسن ، ثم إن كان قابلاً للقسمة لزم التجزي وإلا لكان نقطة أو جوهراً فرداً فلا يبعد أن يقال : إن إله العام جزء من ألف جزء من رأس إبرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة .

ولقائل أن يقول : لا نسلم أن كونه مع الحيز من جميع الجهات المفروضة يستلزم كونه مشاراً إليه حساً فإن العقل يعجز عن إدراكه فضلاً عن الحس وباقي الكلام لا يستحق الجواب . ومنها كل ذات قائمة بالنفس يشار إليها بحسب الحس فلا بد أن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب شماله فيكون منقسماً وكل منقسم مفتقر ممكن . قالوا : هذا الدليل مبني على نفي الجوهر الفرد . ومنها لو كان في حيز لكان إما أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه والثالث باطل بالإجماع والأولان يستلزمان الانقسام لأن المساوي للمنقسم منقسم وكذا الزائد عليه ، لأن القدر الذي فضل به عليه مغاير لما سواه . ولقائل أن يقول : لا نسبة بين الجسم وبين نور الأنوار وتستحيل هذه التقادير . ومنها أنه لو فرض كونه تعالى غير متناهٍ من جميع الجهات كما يزعم الخصم لزم لا تناهي الأبعاد وإنه محال لبرهان تناهي الأبعاد . ولقائل أن يقول : إن برهان تناهي الأبعاد لا يسلم ولو سلم فلا بعد فيما وراء العالم الجسماني ولا امتداد . ومنها أنه سبحانه لو كان حاصلاً في الحيز لكان كونه هناك أما أن يمنع من حصول جسم آخر فيه أو لا يمنع . وعلى الأول كان تعالى مساوياً لجميع الأجسام في هذا المعنى ، ثم إنه إن لم تحصل بينه وبينها ومخالفة بوجه آخر صح عليه ما يصح عليها من التغيرات وإنه محال ، وإن حصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة فيكون الواجب مركبا بل ممكناً . وأيضاً إن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة أو حالاً فيه أو لا هذا ولا ذاك . فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه والأمور التي بها حصلت المخالفة أعراضاً وصفات ، وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما يصح على بعضها يصح على البواقي ، وكل ما يصح على بعض الأجسام من التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد يصح على ذاته تعالى . وإن كان ما به المخالفة محلاً وذوات وما به المشاركة حالاً وصفة فذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة فيجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً وامتداداً هذا خلف . وإن لم يكن حالاً ولا محلاً كان أجنبياً مبايناً فتكون ذات الله تعالى مساوية لتمام الأجسام في الماهية ويصح عليه ما يصح عليها هذا محال ، وعلى التقدير الثاني - وهو أن ذاته تعالى لا تمنع من حصول جسم آخر في حيزه - لزم سريانه في ذلك الجسم وتداخل البعدين كما مر والكل محال ، فالمقدم وهو كونه تعالى في حيز محال ولقائل أن يقول : كون البارىء تعالى مع الحيز مغاير لكون الجسم في الحيز فأين الاشتراك؟ ولو سلم فالاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات فمن أين يلزم التركيب؟ قوله : « فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه » قلنا : كون البعد جوهراً قائماً بنفسه حق ، ولكن الملازمة ممنوعة ، وكذا قوله : « الأمور التي بها حصلت المخالفة » أعراض وصفات لجواز قيام العرض بالعرض كالبطء والسرعة القائمين بالحركة ، قوله : « وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً » ممنوع لما قلنا من احتمال وجود بعد مجرد بلا وجوبه ، والكلام في سريانه في الموجودات قد مر .

ومنها أنه لو كان في حيز فإن أمكنه التحرك منه بعد سكونه فيه كان المؤثر في حركته وسكونه فاعلاً مختاراً ، وكل فعل لفاعل مختار فهو محدث وما لا يخلو عن المحدث أولى بأن يكون محدثاً وإن لم يمكنه التحرك منه كان كالزمن المعقد العاجز وذلك محال . وأيضاً لا يبعد فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عنها فلا يمكن إثبات حدوث الأجسام بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر . ولقائل أن يقول : إن الحركة والسكون من خواص الأجسام المفتقرة إلى أحياز ، فأما النور المجرد فلا يوصف بالحركة والسكون وإن كان مع الحيز والمتحيز . سلمنا وجوب اتصافه بأحدهما فلم لا يجوز أن لا يمكنه التحرك لا لكونه زمناً مقعداً ولكن لأنه نور غير متناهٍ لا يصح وصفة بالتخلخل والتكاثف ونحو ذلك ، فتستحيل عليه الحركة لأنها موقوفة على شغل حيز وتفريغ حيز آخر ، ولأن العالم النوراني الذي لا نهاية له مملوء منه فكيف يتصور خلو حيز عنه؟ ومنها أنه لو كان مختصاً بحيز فإن كان لطيفاً كالماء والهواء كان قابلاً للتفرق والتمزق ، وإن كان صلباً كان إله العالم جبلاً واقفاً في الحيز العالي ، وإن كان نوراً محضاً جاز أن تفرض هذه الأنوار التي تشرق على الجدران إلهاً . وأيضاً إن كان له طرف وحدّ فإن كان ذا عمق وثخن كان باطنه غير ظاهره وإلا كان سطحاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منها ألف ألف مرة . قلت : إن أمثال هذه الكلمات لا تصدر إلا عمن لا يفرق بين النور المعقول والنور المحسوس ، والجوهر المجرد والجوهر المادي ، والشيء القائم بذاته والمفتقر إلى غيره . ومن العجب العجاب أن هذا المستدل قد سمع من جمهور العقلاء أن الأجرام الفلكية لا تطلق عليها الصلابة واللين ، وإذا جاز أن يكون في أنواع الأجسام نوع لا يمكن أن يتصف بهذين المتقابلين لأن ذلك الموضع أجل وأشرف من أن يتصف بأحدهما ، فلم لا يجوز أن يكون فيما هو أشرف من ذلك النوع شيء لا يتصف بهما؟! ومنها لو كان إله العالم فوق العرش لكان مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناهٍ أو غير متناهٍ .

وعلى الأول فإن لم يكن له ثخن كان سطحاً رقيقاً كما مر ، وإن كان له ثخن فالمماس مغاير لغير المماس ويلزم تركيبه ، وإن كان مبايناً ببعد متناهٍ فلا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى أن يماسه ويعدو الإلزام المذكور ، وإن كان مبايناً ببعد غير متناهٍ لزم أن يكون غير المتناهي محصوراً بين الحاصرين ، ولقائل أن يقول : المباينة والمماسة من خواص الأجسام وإنه تعالى نور مجرد محض فلا يصلح عليه الاتصال والانفصال والتماس والتباين والتداخل وأشباه ذلك . ومنها أن الاستقراء قد دل على أن الجرمية كلما كانت أقوى كانت الفاعلية والتأثير أضعف وبالعكس ، ولهذا كان تأثير الأرض أقل من تأثير الماء ، وتأثير الماء من تأثير الهواء ، وتأثير الهواء من تأثير النار بالإحراق والطبخ ، وتأثير النار من تأثير الأفلاك المؤثرة في العنصريات . ثم إنه لا قدرة ولا قوة أشد من قدرة الواجب لذاته فيكون بريئاً من الحجم والجرم والكثافة والرزانة . قلت : في الاستقراء نزاع إنه صحيح أولاً ، ولكن لا نزاع في أن واجب الوجود تعالى شأنه بريء عن الحجمية والكثافة وعن كل شيء يقدح في قيوميته . وههنا حجج قد أوردت في أوائل سورة الأنعام في تفسير قوله سبحانه : { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام : 18 ] وقد عرفت ما عليها فهذه حجج عقلية عول عليها الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه في تفسيره الكبير ، وقد أوردنا عليها ما كانت ترد من المنوع والاعتراضات لا اعتقاداً للتشبيه والتجسم أو تقليداً لأولئك الأقوام بل تشحيذاً للذهن وتقريباً إلى المعارف والحقائق وجذباً بضبع المتأمل في المضايق والمزالق فليختر المنصف ما أراد والله الموفق للرشاد . ولعل هذا المقام مما لا يكشف المقال عنه غير الخيال والله أعلم بحقيقة الحال . ثم قال رضي الله عنه : وأما الدلائل السمعية فكثيرة منها قوله تعالى : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] والأحد مبالغة في كونه واحداً والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحداً . وأجيب بأنه ذات واحدة حصلت في كل الأحياز دفعة واحدة ، وزيف بأن هذا معلوم الفساد بالضرورة لو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال جميع العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة الأحياز فظن أنه أشياء كثيرة . قلت : وهذه مغالطة فإن هذا الجزء الذي لا يتجزأ لصغره غير الشيء الذي لا يقبل التجزئة والأنقسام لذاته . وأيضاً المتحيز الذي مقداره ذراع في ذراع لا يشغل بالبديهة حيزين كل منهما ذراع في ذراع فلزم منه أن لا يشغل ذينك الحيزين متحيز مقداره . ضعف ذلك على أن الحق ما عرفت مراراً أن نور الأنوار قيوم في ذاته حاصل في جميع الأشياء لا منفصل عنها انفصال المحيط عن المحاط ، ولا متصل بها اتصال العرض الساري في الأجسام ، ولهذا لا يلزمه بانقسامها الانقسام .

ومنها قوله : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ويلزم منه أن يكون حامل العرش حاملاً للإله . والجواب أنك إن سميت المعية حملاً فلا نزاع . ومنها قوله : { والله الغني } [ محمد : 38 ] فوجب أن يكون غير مفتقر إلى المكان والجهة ، والجواب أن الاستصحاب غير الافتقار . ومنها أن فرعون طلب حقيقة الإله في قوله : { وما رب العالمين } [ الشعراء : 23 ] ولم يزد موسى على ذكر الأوصاف . وأما فرعون فقد طلب الإله في السماء في قوله { فاطلع إلى إله موسى } [ القصص : 38 ] فعلمنا أن التنزية دين موسى ووصفه بالمكان والحيز دين فرعون . والجواب لا نزاع في أن حقيقة ذاته كما هي لا يعلمها إلا هو والبسائط المحضة لا تعرف إلا بلوازم ، وطلب فرعون إنما كان مذموماً لأنه تصور أن يكون الإله شخصاً مثله على تقدير وجوده لقوله : { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] . ومنها هذه الآية لأنها تدل على أنه استقر على العرش بعد تخليق السموات والأرض وكان قبل ذلك مضطرباً . والجوب المراد بالاستقرار أنه كان ولم يكن معه شيء فإذا خلق ما خلق من عالم الأجسام والأختلاط بقي ما وراءه نوراً محضاً . ومنها قصة إبراهيم وتبرئه من الآفلين ولو كان جسماً لكان آفلاً في أفق الإمكان . والجواب أن نور الأنوار أجل من ذلك ولا يلزم من كونه مع جميع الأحياز ومع ما سواها أن يكون في مرتبة الأجسام بل النفوس والعقول . ومنها أن أول الآية أعني قوله : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } يدل على قدرته وحكمته وكذا قوله { يغشي الليل النهار } إلى آخر الآية . فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبياً عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر على العرش . فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها . والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء على المدح والثناء ، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل : لو كان واجب الوجود بقاً أو بعوضاً صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالاً على المدح . ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما ، ومن هنا قد يسمى السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقاً لنفسه . والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم ، أن ذاته سبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32