كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

{ ويحبهم } [ المائدة : 54 ] وإن شئت قلت : هو بمعنى مفعول فيكون كقوله { ويحبونه } [ المائدة : 54 ] وقال القفال : ويكون بمعنى الحليم من قولهم « فرس ودود » وهو المطيع القياد . قال في الكشاف { فعال } خبر مبتدأ محذوف . قلت : الأصل عدم الإضمار فالأولى أن يكون خبراً آخر بعد الأخبار السابقة ، ولعله حمله على ذلك كونه نكرة وما قبله معارف والعذر عنه من وجهين : أحدهما قطع النسق بقوله { ذو العرش } ولا سيما عند من يجوّز { المجيد } صفة العرش . والثاني تخصيص { فعال لما يريد } فإنه صيره مضارعاً لملضاف . قال : وإنما قيل { فعال } لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة . قلت : ويجوز أن يكون المعنى أن ما يريده فإنه يفعله ألبتة لا يصرفه عنه صارف . ثم ذكرهم وسلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقصة { فرعون وثمود } من متأخري الكفار ومتقدميهم ، والمراد بفرعون هو وجنوده . ثم أضرب عن التذكير إلى التصريح بتكذيب كفار قريش والتنبيه على أنه محيط أي عالم بهم فيجازيهم ، ويجوز أن يكون مثلاً لغاية اقتداره عليهم وأنهم في قبضة حكمه كالمحاط إذا أحيط به من روائه فسدّ عليه مسلكه بحيث لا يجد مهرباً . ويجوز أن تكون الإحاطة بمعنى الإهلاك { وظنوا أنهم أحيط بهم } [ يونس : 22 ] ثم سلى رسول صلى الله عليه وسلم بوجه آخر وهو أن هذا القرآن الذي كذبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه حتى بلغ حد الإعجاز وهو مصون عن التغيير والتحريف بقوله { وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] قال بعض المتكلمين : اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرأونه وأمثال هذه الحقائق مما يجب به التصديق سمعا الله حسبي .

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

القراآت : { لما } بالتشديد : ابن عامر وعاصم وحمزة ويزيد .
الوقوف { الطارق } ه لا { الطارق } ه ك { الثاقب } ه ك { حافظ } ه ط { مم خلق } ه ط للفصل بين الاستخبار والإخبار { دافق } ه لا { والترائب } ه ط { لقادر } ه ك بناء على أن الظرف مفعول « اذكر » ومن جعل { يوم } ظرفاً للرجع وهو أولى لم يقف . { السرائر } ه لا { ولا ناصر } ه ط { الرجع } ه { الصدع } ه ك { فصل } ه ك { بالهزل } ه ط { كيداً } ه لا { كيداً } ج ه { رويداً } ه .
التفسير : إنه سبحانه أكثر في كتابه الكريم الأقسام بالسمويات لأن أحوالها في مطالعها ومغاربها ومسيراتها عجيبة . أما الطارق فهو كل ما ينزل بالليل ولهذا جاء في الحديث التعوّذ من طوارق الليل . وذكر طروق الخيال في أشعار العرب كثير لأن تلك الحالة تحصل في الأغلب ليلاً ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الرجل أهله طروقاً . ثم إنه تعالى بين أنه أراد بالطارق في الآية { النجم الثاقب } أي هو طارق عظيم الشأن رفيع القدر وهو جنس النجم الذي يهتدى به في ظلمات البحر والبر . قال علماء اللغة : سمي ثاقباً لأنه يثقب الظلام بضوئه كما سمي درياً لأن يدرأوه أي يدفعه ، أو لأنه يطلع من المشرق نافذاً في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء ، أو لأنه إذا رمي به الشيطان ثقبه أي نفذ فيه وأحرقه . وقد خصه بعضهم بزحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات . وقال ابن زيد : هو الثريا . وروى أن أبا طالب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأتحفه بخبز ولبن ، فبينما هو جالس يأكل إذا انحط نجم فامتلأ ما ثم نوراً ففزع أبو طالب وقال : أيّ شيء هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله فعجب أبو طالب ونزلت السورة . من قرأ { لما } مشدّدة بمعنى « إلا » ف « إن » نافية . ومن قرأها مخففة على أن « ما » صلة كالتي في قوله { فبما رحمة } [ آل عمران : 159 ] ف « إن » مخففة من المثقلة . والآية على التقديرين جواب القسم . والحافظ هو الله أو الملك الذي يحصي أعمال العباد كقوله { وإن عليكم لحافظين } [ الانفطار : 10 ] أو الذي يحفظ الإنسان من المكاره حتى يسلمه إلى القبر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين » أو الذي يحفظ عليه رزقه وأجله حتى يستوفيهما . وحين ذكر أن على كل نفس حافظاً أتبعه بوصيته للإنسان بالنظر في مبدئه ومعاده .

والدفق صب فيه دفع ، ولا شك أن الصب فعل الشخص فهو من الإسناد المجازي أو على النسبة أي ماء ذي دفق كما مر في { عيشة راضية } [ الحاقة : 21 ] ومعنى خروجه من بين الصلب والترائب أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين لإحاطتهما بسور البدن ، والذي ينفصل من اليدين ومن الدماغ يمر عليهما أيضاً . وطالما أعطى للأكثر حكم الكل وهذا المعنى يشمل ماء الرجل وماء المرأة ، ويحتمل أن يقال : أريد به ماء الرجل فقط إما بناء على حكم التغليب وإما بناء على مذهب من لا يرى للمرأة ماء ولا سيما دافقاً . وذهب جم غفير إلى أن الذي يخرج من بين الصلب ومادّته من النخاع الآتي من الدماغ هو ماء الرجل ، والذي يخرج من الترائب وهي عظام الصدر الواحدة تريبة هو ماء المرأة . وإنما لم يقل من ماءين لاختلاطهما في الرحم واتحادهما عند ابتداء خلق الجنين . وقد يقال : العظم والعصب من ماء الزجل ، واللحم والدم من ماء المرأة ، وقد ورد في الخبر أن أيّ الماءين علا وغلب فإن الشبه يكون منه . ثم بين قدرته على الإعادة بقوله { إنه على رجعه } أي على إعادة الإنسان { لقادر } يعني بعد ثبوت قدرته على تكوين الإنسان ابتداء من نطفة حقيرة وجب الحكم بأنه قادرعلى رجعه . وعن مجاهد أن الضمير في { رجعه } يعود إلى الماء والمراد إنه قادر على ردّ الماء إلى الإحليل . وقيل : إلى الصلب والترائب وهذا قول عكرمة والضحاك . وقال مقاتل بن حيان : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة . والقول هو الأول بدليل قوله { يوم تبلى السرائر } أي يمتحن ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال الحسنة أو القبيحة ، وحقيقة البلاء في حقه تعالى ترجع إلى الكشف والإظهار كقوله { ونبلو أخباركم } [ محمد : 31 ] ويحتمل أن يعود البلاء إلى المكلف كقوله { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } [ يونس : 30 ] ومثله قول ابن عمر : يبدي الله يوم القيامة كل سرّ منها فيكون زيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه . يعني من أدّاها كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان وجهه مغبراً . ثم نفى القوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن الإنسان يومئذ بقوله { فما له من قوّة ولا ناصر } ثم أكد حقية القرآن الذي فيه هذه البيانات الشافية والمواعظ الوافية فقال { والسماء ذات الرجع } أي المطر لأن الله يرجعه وقتاً فوقتاً على سبيل التفاؤل أو زعماً منهم أن السحاب يحمل الماء من البحار ثم يرجعها إليها . والصدع ما تتصدع عنه الأرض من النبات . وقيل : الرجع الشمس والقمر يرجعان بعد مغيبهما ، والصدع الجبلان بينهما شق وطريق . والضمير في { إنه } للقرآن والفصل الفاصل بين الحق والباطل كما قيل له « فرقان » .

وقال القفال : أراد إن هذا الذي أخبرتكم به من قدرتي على الرجع كقدرتي على الإبداء قول حق . ثم أكد حقيته بقوله { وما هو بالهزل } لأن اليبان الفصل لا يذكر إلا على سبيل الجد والاهتمام بشأنه وأعلاها أن يكون خاشعاً باكياً كقوله { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً } [ مريم : 58 ] ثم سلى نبيه وحثه على الصبر الجميل فقال { إنهم } يعنى أشراف مكة { يكيدون كيداً } في إطفاء نور الحق وذلك بإلقاء الشبهات والطعن في النبوّة والتشاور في قتل النبي صلى الله عليه وسلم كقوله { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [ الأنفال : 30 ] { وأكيد كيداً } سمي جزاء الكيد بالاستدراج والإمهال المؤدي إلى زيادة الإثم الموجبة لشدّة العذاب كيداً . ثم أنتج من ذلك قوله { فمهل الكافرين } أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به . ثم كرر ذلك المعنى للمبالغة ووصف الإمهال بقوله { رويداً } أي سهلاً يسيراً . والتركيب يدل على الرفق والتأني ومنه قولهم في باب أسماء الأفعال « رويد زيداً » أي أروده إرواداً وأرفق به فكأنه سبحانه قال : مهل مهل مهل ثلاث مرات بثلاث عبارات وهذه نهاية الإعجاز . وأجل الإمهال يوم بدر أو يوم القيامة وهذا أولى ليعم التحذير عن مثل سيرتهم ويتم الترغيب في خلاف طريقهم والله المستعان على ما تصفون .

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

القراآت : { فسوّى } وجميع آياتها مثل « طه » وكذلك في سورة و « الشمس » و « الليل » و « الضحى » و « اقرأ باسم ربك » من قوله { أرأيت الذي ينهى } إلى آخر السورة . { قدر } بالتخفيف : علي { بل يؤثرون } على الغيبة : قتيبة وأبو عمرو ويعقوب .
الوقوف : { الأعلى } ه لا { فسوّى } ه ص { فهدى } ه ك { المرعى } ه ك { أحوى } ه ط { فلا تنسى } ه لا { الله } ط { يخفى } ج ه للعدول . وقيل : قوله { ونيسرك } معطوف على { سنقرئك } وقوله { إنه يعلم الجهر وما يخفى } اعتراض فلا وقف { لليسرى } ه ك والوصل أليق { الذكرى } ه ج { يخشى } ه لا { الأشقى } ه لا { الكبرى } ج ه لأن « ثم » لترتيب الأخبار { ولا يحيا } ه ط لأن ما بعده مستأنف { تزكى } ه لا { فصلى } ه ط لأن « بل » للإضراب { الدنيا } ه بناء على أن الواو للاستئناف أو الحال أوجه { وأبقى } ه ط { الأولى } ه لا { وموسى } ه .
التفسير : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب هذه السورة . وأكثر السلف كانوا يواظبون على قراءتها في التهجد ويتعرفون بركتها . وعن عقبة بن عامر أنه قال : « لما نزل قوله { فسبح باسم ربك العظيم } [ الواقعة : 74 ] قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في ركوعكم . ولما نزل قوله { سبح اسم ربك الأعلى } قال : اجعلوها في سجودكم » ومن الناس من تمسك بالآية في أن الاسم نفس المسمى لأن التسبيح أي التنزيه إنما يكون للمسمى لا للاسم . وأجاب المحققون عنه بأن الاسم صلة كقوله : « ثم اسم السلام عليكما » . سلمنا أنه غير صلة ولكن تسبيح اسمه تنزيهه عما لا يليق معناه بذاته تعالى أو صفاته أو بأفعاله أو بأحكامه ، فإن العقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة لم تنشأ إلا من هذه ، ومن جملة ذلك أن يصان اسمه عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم وأن لا يسمى غيره بأسمائه الحسنى ، وأن لا يطلق عليه من الأسامي إلا ما ورد به الإذن الشرعي . قال بعض العلماء : لعل الذين نقل عنهم أن الاسم نفس المسمى أرادوا به أن الاسم الذي حدّوه بأنه ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان هو نفس مدلول هذا الحد . قال الفراء لا فرق بين { سبح اسم ربك } وبين « سبح باسم ربك » . واعترض عليه بأن الفرق هو أن الأول معناه نزه الاسم من السوء ، والثاني معناه سبح الله أي نزهه بسبب ذكر أسمائه العظام ، أو متلبساً بذكره إلا أن تجعل الباء صلة في الثاني نحو

{ ولا تلقوا بأيديكم } [ البقرة : 195 ] أو مضمرة في الأول مثل { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] أي من قومه . نعم لو زعم الفراء أن المعنيين متلازمان جاز . ومن الملاحدة من طعن في القرآن بأن يقتضي أن يكون للعالم ربان أحدهما عظيم وهو في قوله { فسبح باسم ربك العظيم } [ الواقعة : 96 ] والآخر أعلى منه وهو { سبح اسم ربك الأعلى } والجواب أنه عظيم في نفسه وأعلى وأجل من جميع الممكنات ، والصفة كاشفة لا مميزة ونظيره وصفه بالكبير تارة وبالأكبر أخرى . والمراد بالعظم والعلو عظم الشرف وعلو القدر فلا استدلال فيه للمشبهة . ثم شرع في بعض أوصافه الكمالية فقال { الذي خلق فسوّى } وقد مر نظيره في « الانفطار » أي خلق الإنسان فجعله منتصب القامة في أحسن تقويم ، أو خلق كل حيوان بل كل ممكن فجعله مستعدّاً للكمال اللائق بحاله . { والذي قدر } لكل مخلوق ما يصلح له فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به كما يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت وقد ألهمها الله أن تمسح العين بورق الرازيانج الرطب فتطلبه إلى أن تجده فيعود بصرها ، وإلهامات البهائم والطيور مشروحة مكتوبة في كتب العجائب . وقال الحكيم : كل مزاج فإنه مستعدّ لقوة خاصة ، وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين فالتقدير عبارةعن التصرف في الأجزاء الجسمية ، وتركيبها على وجه خاص لأجله يستعدّ لقبول تلك القوى ، والهداية عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوّة مصدراً لفعل معين ، ويحصل من مجموعها إتمام المصلحة . وقد خصه بعض المفسرين فقال مقاتل : هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها . وقال غيره : هداه لمعيشته ومرعاه . وقيل : هداه لسبيل الخير والشر . وقال السدّي : قدر مدة مكث الجنين في الرحم ثم هداه للخروج . وقال الفراء : قدّر فهدى وأضل فاكتفى بذكر أحدهما كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وقيل : الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان أي قدّر دعاء الكل إلى الإيمان فدعاهم إليه كقوله { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى : 52 ] وقيل : دلهم بأفعاله على توحيده وكبريائه « ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد » ومن جملة ذلك إخراج المرعى وهو الكلأ الأخضر ، ثم جعله غثاء وهو مات يبس من النبات فحملته الأهوية وطيرته الرياح . والظاهر أن أحوى صفة للغثاء . والحوّة السواد ، فالعشب إذا يبس واستولى البرد عليه جعل يضرب إلى السواد ، وقد يحتمله السيل فيلصق به أجزاء كدرة . وقال الفراء وأبو عيبدة : الأحوى هو الأسود لشدّة خضرته وعلى هذا يكون حالاً من ضمير { المرعى } أي صيره في حال حوّته غثاء . وقال جار الله : هو حال من { المرعى } أي أخرجه أسود من الخضرة والري فجعله غثاء وحين أمره بالتسبيح بشره وشرفه بإيتاء آية باهرة وهي أن يقرأ عليه جبرائيل ما يقرأ من الوحي الذي هو أشرف أنواع الذكر فيحفظه لا ينساه إلا ما شاء الله أن ينساه وهو أحد طريقي النسخ .

فقال مجاهد ومقاتل والكلبي : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن كثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى فقيل له : لا تعجل بالقراءة فإن جبرائيل مأمور بأن يكرر عليك إلى أن تحفظه نظيره { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه } [ طه : 114 ] وعلى هذا يجوز أن يراد بالتعليم والإقراء شرح الصدر وتقوية الحفظ بحيث يبقى القرآن محفوظاً له من غير دراسة ، ومع أنه أمي فيكون إعجازاً . وعن بعضهم أن قوله { فلا تنسى } نهي لا خبر ، والألف مزيدة للفاصلة نحو { الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] و { السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] وضعف بأن الزيادة خلاف الأصل فلا يصار إليها إلا لدليل ظاهر . وأما إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية البشارة بأنا جعلناك بحيث لا تنسى ، وإن جعلناه نهياً كان أمراً بالمواظبة على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة والبحث فلا يكون من البشارة في شيء . وأيضاً النسيان لا يتعلق بقدرة العبد فيلزم أن يحمل النهي عنه على الأمر بالأسباب المانعة منه وهو خلاف الظاهر ، أما الاستثناء ففيه قولان : الأول أنه ليس على حقيقته ، فقد روي عن الكلبي أنه صلى الله عليه وسلم لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئاً . وعلى هذا فالمقصود من الاستثناء إما نفي النسيان رأساً كما تستعمل القلة في معنى العدم ، وإما التبرك بذكر هذه الكلمة وتعليم العباد أن لايتركوها في كل ما يخبرون عنه ، وفيه أنه تعالى قادر على إنسائه إلا أنه لا ينسيه بفضله وإحسانه ، وفيه لطف للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون متيقظاً مبالغاً دراسة ما ينزل عليه من الوحي قليلاً كان أو كثيراً ، فإن كل جزء من أجزائه يحتمل أن يكون هو المستثنى . الثاني أنه حقيقة . ثم حمله مقاتل على النسخ كما مر . وقال الزجاج : أراد إلا أن يشاء الله فتنساه ثم تذكره بعد النسيان كما روي أنه أسقط في قراءته آية في الصلاة فحسب أبيّ أنها نسخت فسأله فقال : نسيتها . وقيل : أريد القلة والندرة لا في الواجبات فإنه يورث الخلل في الشرع ولكن في غيرها . ثم علل حسن النسخ بقوله { إنه يعلم الجهر وما يخفى } وإذا كان كذلك كان وضع الحكم ورفعه واقعاً بحسب مصالح المكلفين . وقيل : أراد أنك تجهر بقراءتك مع قراءة جبرائيل مخافة النسيان والله يعلم ما في نفسك من الحرص على تحفظ الوحي ، فلا تفعل فأنا أكفيك ما تخافه . ثم بشره ببشارة أخرى وهو تيسيره أي توفيقه للطريقة التي هي أيسر وهي حفظ القرآن والشريعة السهلة السمحة . وعن ابن مسعود : هي الجنة يعني العمل المؤدي إليها . والعبارة المشهورة أن يقال : جعل الفعل الفلاني ميسراً لفلان وإنما عكس الترتيب في الآية لدقيقة هي أن الفاعل ما لم يوجد فيه قابلية لصدور الفعل عنه امتنع حصوله منه وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم

« كل ميسر لما خلق له » وفي الآية دلالة على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب قبول الفيض ما لم يفتحه على غيره حتى صار يتيم أبي طالب قدوة للعالمين وهادياً للخلائق أجمعين كما قال { فذكر إن نفعت الذكرى } وإن لم تنفع فحذفت إحدى القرينتين للعلم بها كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وهو بناء على الإغلب فإن التذكير إنما يكون غالباً إذا كان رجاء التذكر حاصلاً كقوله { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً } [ النور : 33 ] وفيه حث على الانتفاع بالذكرى كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق : قد أوضحت لك إن كنت تسمع وتقبل ، ويكون مراده البعث على السماع والقبول . أو تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم على أن الذكرى لا تنفعهم كما يقال للرجل : أدع فلاناً إن أجابك . والمعنى ما أراه يجيبك . ووجه آخر وهو أن تذكير العالم واجب في أوّل الأمر . وأما التكرير فالضابط فيه هو العرف فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا أردفه بالشرط . قيل : التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلاً بعواقب الأمور . والجواب أن أمر الدعوة والبعثة مبنيّ على الظواهر لا على الخفيات . وروي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى { فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } [ طه : 44 ] وأنا أشهد أنه لا يتذكر أو يخشى . وإنما سمى الوعظ بالتذكير لأن حسن هذا الدين مركوز في العقول { فطرة الله التي فطر الناس عليها } [ الروم : 30 ] فكأن هذا العلم كان حاصلاً في نفسه بالقوّة ثم زال عنها بالعوائق والغواشي ، وعند بعض العقلاء أن النفوس قبل تعلقها بالأبدان عالمة بما لها أن تعلم إلا أنها نسيتها لاشتغالها بتدبير البدن ، ومن هنا قال أفلاطون : لست أعلمكم ما كنتم تجهلون ولكن أذكركم ما كنتم تعلمون . ثم إنه تعالى بين أن المنتفع بالتذكير من هو فقال { سيذكر من يخشى } قال في التفسير الكبير : إن الناس في أمر المعاد ثلاثة أقسام : القاطع بصحته ، والمتردد فيه ، والجاحد له . والفريقان الأوّلان ينتفعان بالتذكير والتنخويف ، وكثير من المعاندين إنما يجحدون باللسان فقط ، فتبين أن أكثر الخلق ينتفعون بالوعظ والمعرض نادر وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فلهذا وجب تعميم التذكير . قلت : هذا خلاف القرآن حيث قال { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } [ يوسف : 103 ] وقال { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] { ولا تجد أكثرهم شاكرين } [ الأعراف : 17 ] وخلاف الحديث حيث قال صلى الله عليه وسلم في بعث النار « من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون » وخلاف المعقول فإنه لو سلم أن قسمين من الأقسام الثلاثة ينتفعان بالتذكير وينضم إليه من القسم الثالث بعض آخر فقد لا يلزم أن يكون الثاني أقل من المجموع المفروض لجواز اختلاف الأقسام ، بل السبب في تعميم التذكير انتفاع المنتفعين به وهم أهل الخشية أعني العلماء بالله وإلزام الحجة لغيرهم .

والسين في { سيذكر } إما لمجرّد الإطماع فإن « سوف » من الله واجب ، وإما لأن التذكير متراخ عن التذكير غالباً لتخلل زمان النظر والتأمل بينهما غالباً . قيل : نزلت الآية في عثمان بن عفان . وقيل : في أبن أم مكتوم . ونزل في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة قوله { ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى } أي السفلى من أطباق النار . وعن الحسن : النار الكبرى نار جهنم والصغرى نار الدنيا . فالأشقى هو الكافر على الإطلاق ، وذلك أن الكافر أشقى من الفاسق . ولا يلزم من تخصيص ذكر الكافر بدخول النار أن لا يدخلها الفاسق ، وسبب تخصيص الكافر بالذكر أن الفاسق لم يتجنب التذكير بالكلية فيكون القرآن مسكوتاً عن الشقي الذي هو أهل الفسق ، ويحتمل أن يكون الأشقى بمعنى الشقي كقوله { وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] أي هين فيدخل فيه الفاسق لأنه يجتنب بوجه من الوجوه . وقوله { ثم لا يموت فيها ولا يحيى } قد مر تفسيره في « طه » . ومعنى « ثم » تراخى الرتبة لأن هذا النوع من الحياة أفظع من نفس الدخول في النار . ثم ذكر وعد السعداء بعد وعيد الأشقياء . ومعنى { تزكى } تطهر من أدناس الشرك والمعاصي والعقائد الفاسدة { وذكر اسم ربه } بالتوحيد والإخلاص { فصلى } أي اشتغل بالخدمة والطاعة حتى يكون كاملاً بحسب قوّته النظرية والعملية بعد تخليته لوح الضمير عن النقوش الفاسدة . وقال الزجاج : تزكى أي تكثر من التقوى وأصله من الزكاء النماء فيكون تفصيله قوله { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] إلى آخر الآيات . وفي أوّل البقرة إلى قوله { هم المفلحون } [ الآيات : 1 ، 5 ] وقال مقاتل : تزكى من الزكاة كتصدّق من الصدقة والمعنى : قد أفلح من تصدّق من ماله وذكر ربه بالتوحيد والصلاة فصلى له . وخصه قوم بصلاة العيد وصدقة الفطرة أي أفلح من تصدّق قبل خروجه إلى المصلى ، وذكر اسم ربه في طريق المصلى أو عند تكبيرة الافتتاح فصلى العيد وهذا قول عكرمة وأبي العالية وابن سيرين وابن عمرو وعلي . وقد روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وضعف بأنه خلاف ما ورد في مواضع أخر من القرآن من تقديم الصلاة على الزكاة . والجواب إنما ورد هكذا لأن زكاة الفطر مقدّمة على صلاته . واعترض الثعلبي بأن السورة مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر . وأجاب الواحدي بأنه لا يمتنع أن يقال لما كان في معلوم الله تعالى أن يكون ذلك أثنى على من فعل ذلك . استدل على بعض الفقهاء بالآية على وجوب تكبيرة الافتتاح ، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بها على أن التكبيرة الأولى ليست من صلب الصلاة العطف الصلاة عليها ، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه .

وأجيب بما روي عن ابن عباس أن المراد ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له وبأنه قد يقال « أكرمتني فزرتني » وبالعكس من غير فرق . وقد يزيف هذا الجواب الثاني بأنه خلاف الظاهر وبأن خصوصية المادة ملغاة فلا يلزم من عدم الفرق في المثال المضروب عدم الفرق فيما يتعلق به حكم شرعي . ثم وبخهم بقوله { بل تؤثرون } إلى آخره . ثم بين أن ما في السورة من التوحيد والنبوّة والوعيد والوعد كانت ثابتة في صحف الأنبياء الأقدمين لأنها قواعد كلية لا تتغير بتغير الأزمان فهو كقوله { وإنه لفي زبر الأوّلين } [ الشعراء : 196 ] وقيل : المشار إليه بهذا هو قوله { بل تؤثرون } الآية لأنه أقرب المذكورات ، ولأن حاصل جميع الكتب السماوية الزجر عن الدنيا والإقبال على الآخرة . قال في الكشاف : روي عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم أنزل الله من كتاب؟ قال « مائة وأربعة كتب منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسون صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان » فتقدير الآية إن هذا لفي الصحف الأولى التي منها صحف إبراهيم وموسى . قالوا : في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه الله تعالى حسبي .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

القراآت : { تصلى } بضم التاء من الإصلاء : أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر وحماد . الباقون : بالفتح { لا يسمع } بضم الياء التحتانية { لاغية } بالرفع : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب . وقرأ نافع بتاء التأنيث والرفع . الآخرون : بفتح تاء التأنيث أو الخطاب لكل سامع { لاغية } بانصب . { بمصيطر } بالصاد : أبو جعفر ونافع وعاصم وعلي وخلف . وقرأ حمزة في رواية بإشمام الزاي . الباقون : بالسين . { إيابهم } بالتشديد : يزيد .
الوقوف : { الغاشية } ه ط { خاشعة } ه { ناصبة } ه ك { حامية } ه ك { آنية } ه ط لتمام الأوصاف { ضريع } ه ط { جوع } ه ج للابتداء بعده { ناعمة } ه لا { راضية } ه لا { عالية } ه ج { لاغية } ه ط { جارية } ه م لئلا يتوهم أن ما بعدها صفة لعين فيكون في الحارية سرور ليس كذلك { مرفوعة } ه لا { موضوعة } ه لا { مصفوفة } ه لا { مبثوثة } ه ط { خلقت } ه { رفعت } ه ك { نصبت } ه ط { سطحت } ه وقد يوقف على الآيات الأربع لأجل مهلة النظر وإلا فلكل متسقة { مذكر } ه ط { بمصيطر } ه لا { وكفر } ه ك { الأكبر } ه ط { إيابهم } ه لا { حسابهم } ه .
التفسير : لما انجر الكلام في السورة المتقدّمة إلى ذكر الآخرة ، شرح في هذه السورة بعض أحوال المكلفين فيها . والغاشية القيامة لأنها تغشى الناس بشدائدها ، وكل ما أحاط بالشيء من جميع الجهات فهو غاشٍ له قال الله تعالى { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } [ العنكبوت : 55 ] وقال { وتغشى وجوههم النار } [ إبراهيم : 50 ] أي لم يأتك حديث هذه الداهية وقد أتاك الآن فاستمع . وقدّم وصف الأشقياء لأن مبنى السورة على التخويف كما ينبىء عنه لفظ الغاشية . والمراد بالوجه الذات ووجه حسن هذا المجاز أن الخشوع والانكسار والذل وأضدادها يتبين أكثرها في الوجه كقوله { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفيّ } [ الشورى : 45 ] والعمل والنصب أي التعب . قيل : كلاهما في الآخرة وهو والأظهر لقوله { يومئذ } أي تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضعها في النار خوض الدابة في الوحل وتردّدها في صعود من نار وحدور منها . قال الحسن : كان يجب عليها أن تعمل لله في الدنيا خاشعة ناصبة فلام قصر في ذلك وقع في مثله بعد المفارقة إلى أن يشاء الله ليكون معارضاً بنقيض مقصوده . وقيل : كلاهما في الدنيا وهم أصحاب الصوامع خشعت وجوههم لله وعملت ونصبت في أعمالها من غير نفع لهم في الآخرة ، لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي . وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء فهي في نصب منها في الآخرة . ثم شرح مكانهم وهو النار الشديدة الحر ، ومشروبهم وهو من عين آنية أي متناهية في الحرارة ، ومطعومهم وهو الضريع .

وإنما قدّم المشروب على الضريع المطعوم لأن الماء يناسب النار مناسبة الضدين أو الشبيهين من حيث بساطتهما ، أو لأنهم إذا أثر فيهم حر النار غلب عليهم العطش وكان الماء عندهم أهم ، ثم إذا أثرت فيهم الحرارتان أرادوا أن يدفعوا ألم الإحساس بها بما يزيد العذاب على البدن ، هذا مع أن الواو ليست للترتيب . قال الحسن : لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئا وقد يروى عنه أيضاً أنه « فعيل » بمعنى « مفعل » كالأليم بمعنى المؤلم . والبديع بمعنى المبدع ومعناه إلا من طعام يحملهم على الضراعة والذل عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرارة . وعن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك . قال أبو الجوزاء : كيف يسمن من يأكل الشوك . وفي الخبر « الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حراً من النار » قال العلماء : إن للنار دركات وأهلها على طبقات : فمنهم من طعامه الزقوم ، ومنهم من طعامه غسلين ، ومنهم من طعامه ضريع ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم من شرابه الصديد { لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجر : 44 ] ووجود النبت في النار ليس بيدع من قدرة الله كوجود بدن الإنسان والعقارب والحيات فيها . قوله { لا يسمن ولا يغني من جوع } صف للطعام أو للضريع ، وفيه أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس لكن من جنس الشوك الذي ترعاه الإبل ما دام رطباً فإذا يبس نفرت عنه لأنه سم قاتل . ويحتمل أن يراد لا طعام لهم أصلاً لأن الضريع يبيس هذا الشوك والإبل تنفر عنه كما قلنا فهو كقوله « ليس لفلان ظل إلا الشمس » يريد نفي الظل على التوكيد . وروي أن كفار قريش قالوا على سبيل التعنت حين سمعوا الآية : إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت { لا يسمن ولا يغني من جوع } أي ليس فيه منفعة الغذاء ولا الاسمان ودفع الجوع كذبهم الله في قولهم يسمن الضريع ، أو نبههم الله بعد تسليم أن ضريعهم مسمن على أن ضريع النار ليس كذلك أي كل ما في النار يجب أن يكون خالياً عن النفع . ثم أخذ في وصف السعداء فقال { وجوه } وإنما فقد العاطف خلاف ما في سورة القيامة لأنه أراد ههنا تفصيل ما أجمل في قوله { هل أتاك حديث الغاشية } ومعنى ناعمة ذات نعومة أو تنعم . وقوله { لسعيها راضية } أي رضيت بما عملت في الدنيا وأثنت عليه نحو قولها « ما أحسن ما عملت » وذلك إذا رأت محلها ومنزلتها في الكرامة والثواب أو رضيت لجزاء سعيها حين رأت ما لا مزيد عليه . واللاغية اللغو مصدر كالعافية والباقية ، ويجوز أن تكون صفة لمحذوف أي كلمة ذات لغو .

قوله { عين جارية } قال جار الله : يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله { علمت نفس } [ الانفطار : 5 ] قال الكلبي : لا أدري جرت بماء أو غيره . قال القفال : عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود وتجري لهم كما أرادوا . { مرفوعة } في الرتبة أو مرتفعة عن الأرض ليرى المؤمن بجلوسه عليها جميع ما آتاه الله من الخدم والملك ، فإذا جاء وليّ الله ليجلس عليها تطأطأت له ، فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث أراد الله . وقد وصفها ابن عباس بأن ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت . وقيل : مرفوعة أي مخبوءة لهم من رفع الشيء إذا خبأه . والأكواب الكيزان التي لا عرى لها كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم حاضرة أو موضوعة على حافات العيون ليشرب بها . وجوّز في الكشاف أن يراد موضوعة من حدّ الكبر إلى التوسط والاعتدال . والنمارق الوسائد واحدها نمرقة بضم النون . وروى الفراء بكسرها أيضاً { مصفوفة } بعضها بجنب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة وأسند إلى أخرى . والزرابيّ البسط العراض الفاخرة واحدها زربية بكسر الزاي ، وقيل : هي الطنافس التي لها خمل رقيق . و { مبثوثة } أي مبسوطة أو مفرقة في المجلس . وحين ذكر أحوال المعاد عاد إلى الاستدلال على المبدأ فإن من عادة كتاب الله الكريم أنه يرجع إلى تذكير الأصول عوداً إلى بداية . وللمحققين في نسق الآية وفي تناسب هذه الأمور وجوه منها : قول أكثر أهل المعاني إن القرآن إنما نزل بلغة العرب فيجب أن يخاطبوا بحسب ما هو مركوز في خزانة خيالهم ، ولا ريب أن جل هممهم مصروفة بشأن الإبل فمنها يأكلون ويشربون ، ومن أصوافها وأوبارها ينتفعون ، وعليها في متاجرهم ومسافراتهم يحملون ، فحيث أراد الله سحانه أن ينصب لهم دليلاً من مصنوعاته يمكنهم أن يستدلوا به على كمال حكمة الصانع ونهاية قدرته لم يكن شيء أحضر صورة في متخيلهم من الإبل فنصبها لهم . ولا ريب أنها من أعاجيب مصنوعات الله تعالى صورة وسيرة لما ركب فيها من التحمل على دوام السير مع كثرة الأثقال ، ومن البروك حتى تحمل ، ثم النهوض بما حملت ، ومن الصبر على العطش ، وعلى العلف القليل أياماً ، ثم شرب الماء الكثير إذا وجدت ، ومن تذللها لصبي أو ضعيف . قال الإمام فخر الدين الرازي : كنت مع جماعة في مفازةٍ فضللنا الطريق فقدّموا جملاً وتبعوه وكان ذلك الجمل يمشي ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب حتى وصل الطريق فتعجبنا من قوّة تخيله . وعن بعض أهل الفراسة أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه في بروكه ثم نهوضه مثقلاً وقد نشأ في بلاد لا ففكر ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق ، وذلك أن طول العنق يسهل عليه النهوض . ثم إن أصحاب المواشي لاحتياجهم الشديد إلى الماء المستعقب للكلأ صار جل نظرهم إلى السماء التي منها ينزل المطر ، ثم إلى الجبال التي هي أقرب إلى السماء وأسرع لوقوع المطر عليها وحفظ الثلج الذي منه مادة العيون والآبار عند إقلاع الأمطار على أنها مأمنهم ومسكنهم في الأغلب .

لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
ثم إلى الأرض التي فيها ينبت العشب وعليها متقلبهم ومرعاهم ، فثبت أن الآية كيف وردت منظمة حسب ما انتظم في خزانة خيال العرب بحسب الأغلب . ومنها أن جميع المخلوقات متساوية في دلالة التوحيد وذكر جميعها غير ممكن فكل طائفة منها تخص بالذكر . ورد هذا السؤال فوجب الحكم بسقوطه ، ولعل في ذكر هذه الأشياء التي لا تناسب في الظاهر تنبيهاً على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في الكل . ومنها أن المراد بالإبل السحاب على طريق التشبيه والمجازفان العرب كثيراً تشبه السحاب بالإبل في أشعارهم . ومنها أن تخصيص الإنسان بالاستدلال منه على التوحيد يستتبع القوع في الشهوة والفتنة ، وكذا الفكر في البساتين النزهة والصور الحسنة فخص الإبل بالذكر لأن التفكير فيها متمحض لداعية الحكمة وليس للشهوة فيها نصيب ، على أن إلف العرب بها أكثر كما مر ، وكذا السماء والأرض والجبال دلائل الحدوث فيها ظاهرة وليس فيها نصيب للشهوة . والمراد بالنظر إلى هذه الأشياء هو النظر المؤدّي إلى الاستدلال بدليل قوله { كيف خلقت } { كيف رفعت } { كيف نصبت } { كيف سطحت } وليس في السطح دلالة على عدم كرية الأرض لأنها في النظر مسطحة وقد تكون في الحقيقة كرة إلا أنها لعظمها لا تدرك كريتها . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتذكير الأمة بهذه الأدلة وأمثالها لأن أمره مقصور على كونه مذكراً لا منحطاً إلى كونه مسيطراً أي مسلطاً عليهم فإن أراد بالتسليط القهر أو بالإكراه بمعنى خلق الهداية فيهم فالآية ثابتة لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى ، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً . وإن أراد القتال معهم إن لم يؤمنوا فالآية منسوخة وهذا قول كثير من المفسرين ، وعلى هذا فالأظهر أن يكون الاستثناء في قوله { إلا من تولى وكفر } متصلاً لا باعتبار الحال فإن السورة مكية ولكن بالنظر إلى الاستقبال أي إلا المصرين على الإعراض والكفر فإنك تصير مأموراً بقتالهم مستولياً عليهم بالغلبة والقهر . وقيل : هو استثناء منقطع أي لست بمستول عليهم ولكن من تولى وكفر فإن لله لولاية والقهر فهو يعذبه العذاب الأكبر الذي هو القتل والسبي أو عذاب الدرك الأسفل . وقيل : هو استثناء من قوله { فذكر } أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض . ويرد أنه صلى الله عليه وسلم لا ينقطع طمعه من إيمان الكفرة ما داموا أحياء إلا أن يعلمه الله بذلك ، وعلى تقدير الإعلام أيضاً لا يجوز أن يقطع التذكير لأن الدعوة عامة في الأصل ولو جعلت خاصة لم تبق مضبوطة كرخصة المسافر مثلاً .

ثم ختم السورة بما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب . ومن قرأ { إيابهم } بالتشديد فإما أن يكون « فيعالاً » مصدر « فيعل » من الإياب ، وأما أن يكون أصله « أوّاباً » فعالاً من « أوّب » ثم قلبت إحدى الواوين ياء كما في « ديوان » ثم الأخرى كما في « سيد » . قال جار الله : فائدة تقديم الظرف في الموضعين الحصر أي ليس ينبغي أن يكون مرجعهم إلا إلى الجبار المقتدر على توفية جزاء كل طائفة ولا أن يكون حسابهم واجباً إلا على حكمة من هو أحكم الحاكمين ورب العالمين .

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

القراآت : روى ابن مهران وابن الاسكندراني عن أبي عمرو أنه كان يقف على { والفجر } وأشباهها من ذوات الراء بنقل حركة اراء إلى ما قبله و { الوتر } بكسر الواو : حمزة وعلي وخلف والمفضل . الباقون : بالفتح { يسري } و { بالوادي } { أكرمني } و { أهانني } بالياء في الحالين : يعقوب والهاشمي عن البزي والقواس وأبو ربيعة عن أصحابه . وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل { أكرمني } و { أهانني } بالياء في الوصل وبغير ياء في الوقف { بالوادي } بالياء في الوصل : ورش وسهل وعباس . الباقون : كلها بغير ياء { فقدّر } بالتشديد : ابن عباس ويزيد { ربي } بالفتح : أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو . { يكرمون } { ولا يحضون } { ويأكلون } { ويحبون } كلها على الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب . الآخرون : بتاء الخطاب { تحاضون } بفتح التاء الفوقانية والألف من التفاعل : عاصم وحمزة وعلي ويزيد { لا يعذب } { ولا يوثق } بتح الذال والثاء : عليّ والمفضل وسهل ويعقوب . الآخرون : بكسرهما .
الوقوف : { والفجر } ه لا { عشر } ه ك { والوتر } ه ك { يسر } ه ك لجواز أن يكون جواب القسم المحذوف وهو ليبعثن أوليعذبن مقدراً قبل « هل » أو بعده { حجر } ه ط ثم الوقف المطلق على { لبالمرصاد } وما قبله وقف ضرورة { بعاد } ه لا { العماد } ه لا { البلاد } ه ص { بالواد } ك { الأوتاد } ه ك { البلاد } ه ك { الفساد } ه ك { عذاب } ه ج لاحتمال التعليل ولما قيل : إن جواب القسم قوله { إن ربك لبالمرصاد } وما بينهما اعتراض . { لبالمرصاد } ه ج { أكرمن } ه ج لابتداء شرط { أهانن } ه ج لأن « كلا » يحتمل معنى « إلا » وحقاً ومعنى الردع . { اليتيم } ه لا { المسكين } ه ط { لما } ه ط { جماً } ه ك { دكاً } ه لا { دكاً } ه ك { صفاً } ه لا { صفاً } ه ك { بجهنم } ه { الذكرى } ه ج لأن ما بعده مستأنف كأنه قيل : كيف يتذكر { لحياتي } ه ج { أحد } ه لا { أحد } ه ط { المطمئنة } ه ط { مرضية } ه { عبادي } ه { جنتي } ه .
التفسير : إقسام الله تعالى بهذه الأمور ينبىء عن شرفها وأن فيها فوائد دينية ودنيوية . أما الفجر فعن بعضهم أنه الغيران التي تتفجر منها المياه ، والأظهر ما روي عن ابن عباس أنه الصبح الصادق ويوافقه قوله في المدّثر { والصبح إذا أسفر } [ الآية : 34 ] وفي « كورت » { والصبح إذا تنفس } [ الآية : 18 ] وذلك أن فيه عبرة للمتأمل لما يحصل من انفجار الضوء فيما بين الظلام ، وانتشار الحيوان من أوكارها لطلب المعاش كما في نشور الموتى من قبورهم . وقيل : المضاف محذوف أي ورب الفجر أو أقسم بصلاة الفجر . وخصه بعضهم بفجر النحر لأنه يوم الضحايا والقرابين ، وبعضهم بفجر المحرّم لأنه أوّل يوم السنة ، وبعضهم بفجر ذي الحجة لقوله { وليال عشر } والتنكير لأنها ليال معدودة من ليالي السنة أو لأنها مخصوصة بفضائل كما جاء في الخبر

« ما من أيام العمل الصالح فيهن أفضل من عشر ذي الحجة » قال أهل المعاني : ولو عرّفت بناء على أنها ليال معلومة جاز إلا أن التعظيم المستفاد من التنكير يفوت التناسب بين اللامات إذ ذاك فعدم اللام خير من وجوده مخالفاً للباقية . وقيل : إنها عشر المحرم . وقيل : العشر الأخيرة من رمضان ولهذا سن فيها الاعتكاف وفيها ليلة القدر ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأخير شدّ المئزر وأيقظ أهله أي كف عن الجماع وأمر أهله بالتهجد . وأما الشفع والوتر فمعناهما الزوج والفرد . والوتر بالفتح لغة أهل العالية ، وبالكسر لغة تميم . واختلف المفسرون فيهما اختلافاً عظيماً فمنهم من حملهما على الأشياء كلها لأن الموجودات لا تخلو من هذين القسمين فتكون كقوله { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } [ الحاقة : 38 ، 39 ] وقيل : الشفع صفات الخلق كالعلم والقدرة والحياة ، ونقائضها الجهل والعجز والموت . والوتر صفات الحق وجود بلا عدم وقدرة بلا عجز وعلم بلا جهل وحياة بلا موت . وقيل الشفع والوتر : نفس العدد وكأنه تعالى أقسم بالحساب الذي لا بد للخلق منه فهو في معرض الامتنان بمنزلة العلم والبيان في قوله { علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق : 4 ، 5 ] الرابع الشفع الممكنات { ومن كل شيء خلقنا زوجين } [ الذاريات : 49 ] والوتر الواجب تعالى وتقدّس . الخامس الشفع الصلوات الثنائية والرباعية والوتر الثلاثية ، عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الصلاة منها شفع ومنها وتر » السادس الشفع درجات الجنة وأبوابها وهي ثمانية ، والوتر دركات النار وأبوابها وهي سبعة . السابع الشفع البروج الاثنا عشر ، والوتر الكواكب السبعة . الثامن الشفع الشهر الذي يكون ثلاثين والوتر تسعة وعشرون . التاسع الشفع السجدتان والوتر الركوع . العاشر الشفع العيون الاثنا عشر لموسى { فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً } [ البقرة : 60 ] والوتر معجزاته { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [ الإسراء : 101 ] وأظهر الأقوال ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة لأنه تاسع أيام الليالي المذكورة . وحين أقسم بالليالي المخصوصة أقسم على العموم بالليل إذا يسري أي إذا يمضي كقوله { والليل إذا أدبر } [ المدثر : 33 ] وعن مقاتل : هو ليلة المزدلفة . وعلى هذا جوّز أن يراد بالسري الإسناد المجازي لأن الساري فيه هو الحاج . يروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدّم ضعفة أهله في هذه الليلة . والحجر بالكسر العقل سمي بذلك لأنه يمنع من الوقوع فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ، ونهي لأنه يعقل وينهى ، وحصاة لأنه يحصى أي يضبط . قال الفراء : يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها . والمراد بالاستفهام تقرير أن هذه المذكورات لشرفها وعظم شأنها يحق أن يؤكد بمثلها المقسم عليه كمن ذكر حجة باهرة ثم قال : هل فيما ذكرته حجة يريد أنه لا حجة فوق هذا ومن هنا قال بعضهم : فيه دليل على أنه تعالى أراد رب هذه الأشياء ليكون غاية في القسم .

ولقائل أن يقول : المقنع والكفاية غير الغاية والنهاية . ثم إنه تعالى ذكر للعبرة ولتسلية نبيه صلى الله عليه وسلم قصة ثلاث فرق على سبيل الإجمال لأنهم أعلام في القوة والشدّة والتجبر . والمعنى ألم ينته علمك إليهم علماً يقرب المشاهدة لتعاضده بالوحي أو التواتر ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل راءٍ . والمراد بعاد هو عاد الأولى القديمة ولهذا ابنه لزم لأنهم أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوع فسموا باسم جدهم . وقيل : إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها . ولم ينصرف قبيلة أو أرضاً للعلمية والتأنيث . وقيل : الإرم العلم لأنهم كانوا يبنون أعلاماً كهيئة المنارة كقوله { أتبنون بكل ريع آية } [ الشعراء : 128 ] وعلى هذين الوجهين يكون المضاف محذوفاً أي أهل البلدة أو الأعلام ، وعلى الوجه الأخير لا يكون لمنع الصرف وجه ظاهر لكونه اسم جنس . والعماد بمعنى العمود لأنه ما يعمد أو جمع عمد . ثم إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو كانوا طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة ، أو كانت ذات البناء الرفيع . وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى أنها ذات أساطين . ثم قيل : هذه المدينة اسكندرية . وقيل : دمشق . واعترض بأن بلاد عاد كانت فيما بين عمان إلى حضرموت وهي بلاد الرمال المسماة بلأحقاف . وروي أنه كان لعاد ابنان : شدّاد وشديد ، فملكا وقهرا البلاد وأخذا عنوة وملكاً ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال : أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة ، وهي مدنية عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار . ولم تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا . ويروى أنه وضع إحدى قدميه فيها فأمر ملك الموت بقبض روحه . ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ملك الموت حين عرج به إلى السماء فسأله : هل رققت لأحد من الخلائق الذين قبضت أرواحهم؟ فقال : نعم اثنان أحدهما طلف ولد بالمفازة ثم أمرت بقبض روح أمه ولم يكن هناك إنسان يتعهد الطفل ، والثاني ملك اجتهد في بناء مدينة لم يخلق مثلها ثم لم يرزق رؤيتها بعد أن وضع رجله فيها يعني شداداً ، فدعا الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يخبره بذلك فأوحى إليه أن ذلك الملك هو ذلك الطفل الذي ربيناه وآتيناه مملكة الدنيا .

وحين قابل النعمة والملك بالكفران وبنى الجنان التي هي من مقدورات الله الرحمن جزيناه بالخيبة والحرمان . هكذا وجدت الحكاية في بعض التفاسير . وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع على تلك المدينة فحمل ما قدر عليه مما هناك ، فبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه ، فبعث إلى كعب الأحبار فسأله فقال : هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له . ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل . والضمير في { مثلها } لإرم لأنهم أطول الناس قدوداً وأشدّهم بناء ، أو للمدينة أو للأعلام على اختلاف الأقوال . وجاب الصخرة أي الحجر العظيم قطعه كقوله { وتنحتون من الجبال بيوتاً } [ الشعراء : 149 ] والوادي وادي القرى قاله مقاتل . وقد قيل : لفرعون ذي الأوتاد لكثرة جنوده أو لتعذيبه للناس بالأوتاد الأربعة وقد مرّ في « ص » . وصب السوط كناية عن التعذيب المتواتر ، وفيه إشارة إلى أن عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كالسوط بالنسبة إلى القتل مثلاً وقد أشار إلى عذاب الآخرة أو إليه مع عذاب الدنيا بقوله { إن ربك لبالمرصاد } أي يمهل ولكنه لا يهمل . والمرصاد المكان الذي يرقب فيه الرصد ، والباء بمعنى « في » وهو مثل لعدم الإهمال . وقيل لبعض العرب : أين ربك؟ فقال : بالمرصاد . وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ السورة عند المنصور حتى بلغ الآية فقال { إن ربك لبالمرصاد } يا أبا جعفر عرض له في هذا بأنه من الجبابرة الذين وعدوا بها . وقال الفراء : معناه إليه المصير فيكون وعداً ووعيداً للمؤمن والكافر . قال أهل النظم : لما ذكر أنه تعالى بمرصد من أعمال بني آدم عقبه بتوبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بأمر الآخرة وفرط تماديه في إصلاح المعاش كأنه قيل : نحن مترقبون لمجازاة الإنسان على ما سعى ، فأما هو فإنه لا يهمه إلا الدنيا وطيباتها فإن وجد راحة فرح بها وإن مسه ضرّ كند . والظاهر أن الإنسان للجنس . وعن ابن عباس أنه عتبة بن ربيعة . وعن الكلبي هو أمية بن خلف . ومعنى الابتلاء في البسط والضيق وهو أنه سبحانه يعامل المكلف معاملة المختبر ليظهر أنه هل يتلقى النعمة بالشكر والضيق بالصبر أم لا كقوله { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] وتقدير الكلام فأما الإنسان فيقول ربي أكرمن إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه { وأما } هو فيقول ربي أهانن { إذا ما ابتلاه فقدر } أي ضيق { عليه رزقه } فقوله { فيقول } خبر المبتدأ في الموضعين { وإذا ما ابتلاه } ظرف ل { يقول } وإنما قال في جانب البسط { فأكرمه ونعمه } أي جعله ذا نعمة وثروة ولم يقل في طرف القبض « فأهانه وقدر عليه » لأن رحمته سبقت غضبه فلم يرد أن يصرح بإهانة عبده ، ولئلا يكون الكلام نصاً في أن القبض دليل الإهانة من الله ، فقد يكون سبباً لصلاح معاش العبد ومعاده .

وأما البسط فهو إكرام في الظاهر الغلب ، والبسط لأجل الاستدراج قليل وعلى قلته فهو خير من خسران الدنيا والآخرة جميعاً . وعلام توجه الإنكار والذّم؟ فيه وجهان : أحدهما على قوله { ربي أهانن } فقط لأنه سمي ترك التفضل إهانة وقد لا يكون كذلك . والثاني على مجموع الأمرين لا من حيث مجموعهما بل على كل منهما . أما على دعوى الإهانة فكما قلنا ، وأما على دعوى الإكرام فلأنه اعتقد حصول الاستحقاق في ذلك الإكرام كقوله { إنما أوتيته على علم عندي } [ القصص : 78 ] وكان عليه أن يرى ذلك محض الفضل والعناية منه تعالى ، أو لأنه قال في ذلك كبراً وافتخاراً وتكاثراً ، أو لأن هذا القول يشبه قول من لا يرى السعادة إلا في اللذات العاجلة ، أو قول من غفل عن الاستدراج والمكر . ويحتمل أن يتوجه الذم على مجموع الأمرين من حيث المجموع حتى لو قال في البسط « أكرمني » تحدثاً بنعمة الله ، وفي القبض لم يقل « أهانني » بل قال « الحمد لله على كل حال » لم يكن مذموماً . ثم ردع الإنسان عن تلك المقالة بقوله { كلا } أي لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ولا بالفقر لهوانه لديّ ولكنهما من محض المشيئة ، أو على حسب المصالح . ثم نبه الإضراب في قوله { بل لا تكرمون اليتيم } على أن هناك شراً من ذلك وهو أنه يكرمهم بكثرة المال ثم لا يؤدّون حق الله فيه . وعن مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه فنزلت . والتراث أصله الوراث نحو تجاه ووجاه . واللم الجمع لشديد ومنه كتيبة ملمومة مصدر جعل نعتاً أي أكلاً جامعاً بجميع أجزائه كقوله { ولا تأكلوها إسرافاً } [ النساء : 6 ] وقال الحسن : أي يجمعون نصيب اليتامى إلى نصيبهم كقوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] وقيل : جامعاً بين حلال ما جمعه الميت وبين حرامه . وقيل : جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة اللذيذة والملابس الفاخرة كما يفعل أهل البطالة من الورّاث . والجم الكثير جم الماء وغيره يجم جموماً إذا كثر جامّ ، وجمّ نهي عن التهالك . والشره على جمع المال . وفي وصف الحب بالجم دلالة على أن حب المال وتعلق القلب بتحصيل ما يسدّ الخلة منه غير مكروه بل مندوب إليه لبقاء نظام العالم على أن كل السلامة وجل الفراغ في الترك كما هو دأب المتوكلين .
إن السلامة من ليلى وجارتها ... أن لا تمر على حال بواديها
ولا ينبئك مثل خبير . ثم ردعهم عن الفعل المذكور وذكر تحسر المقصر في طاعة الله يوم القيامة .

وجواب « إذا » محذوف بعد { صفاً } أبو بعد قوله { بجهنم } ليذهب الوهم كل مذهب أي كان ما كان من الأهوال . ثم استؤنف { وجيء يومئذ } أو عطف على ما قبله ويوقف على هذا التقدير على قوله { بجهنم } ويكون { يومئذ } الثانية متعلقاً بما بعده ، ويجوز أن يكون « إذا » منصوباً ب { يتذكر } و { يومئذ } الثانية بدل منه . ومعنى { دكاً دكاً } دكاً بعد دك كما قيل في « لبيك » أي كرر عليها الدك حتى صارت هباء منبثاً . وقال المبرد : استوت في الانفراش فذهب دورها وقصورها وجبالها وقلاعها حتى تصير قاعاً صفصفاً ، ولعل هذا الذي بعد الزلزلة . قوله { وجاء ربك } أي أمره بالجزاء والحساب أو قهره أو دلائل قدرته . ويجوز أن يكون تمثيلاً لهول ذلك اليوم كما إذا حضر الملك بنفسه وجنوده كان أهيب وتنزل ملائكة كل سماء { صفاصفاً } أي مصطفين صفوفاً مرتبة . يروى أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اشتد على أصحابه فجاء علي رضي الله عنه فاحتضنه وقبل عاتقة ثم قال : يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم حتى غيرك؟ فتلا عليه الآية . فقال له عليّ : كيف يجاء بجهنم؟ قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شرارة لو تركت لأحرقت أهل الجمع . قال الأصوليون : معنى جيء بجهنم برزت وأظهرت فإن جهنم لا تنتقل من مكان إلى مكان . قوله { وأنى له } أي ومن أين له منفعة { الذكرى } ثم فسر التذكر وإنما قدرنا المضاف احترازاً من التنافي وإلا فلا وجه للاستفهام الإنكاري بعد إثبات التذكر بأنه يقول { يا ليتني قدمت } خيراً أو عملاً صالحاً { لحياتي } هذه وهي الحياة الأخيرة ، أو اللام بمعنى الوقت أي وقت حياتي في الدنيا . وقد يرجع هذا الوجه لأن أهل النار لا حياة لهم في الحقيقة كما قال { لا يموت فيها ولا يحيا } [ الأعلى : 13 ] ويمكن أن يجاب بأن الحياة المضاهية للموت أو التي هي أشدّ من الموت حياة أيضاً ، وبأن حياة الآخرة يراد بها البقاء المستمر الدائم وهذا المعنى شامل لأهل النار ولأهل الجنة جميعاً . قالت المعتزلة : في هذا التمني دليل واضح على أن الاختيار كان زمامه بيده ، ويحتمل أن يجاب بأن استحالة متمناه قد تكون من جهة أن الأمر في الدنيا لم يكن إليه فيتحسر على ذلك . وقال في التفسير الكبير : فيه دليل على أن قبول التوبة لا يجب عقلاً . ويرد عليه أنه لا يلزم من عدم قبولها في الآخرة عدم قبولها في دار التكليف كإيمان اليأس . من قرأ { لا يعذب } { ولا يوثق } على البناء للفاعل فمعناه على ما قال مقاتل : لا يعذب عذاب الله أي عذابه أحد من الخلق . ضعف بأن يوم القيامة لا يعذب أحد سوى الله فلا يتصور لهذا النفي فائدة .

وأجيب بأن المراد لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد لأن الأمر يومئذ لله وحده ، أو لا يعذب أحد في الدنيا ولا يوثق مثل عذاب الله الكافر ومثل إيثاقه إياه في الشدّة والإيلام . وقال أبو علي الفارسي : تقديره لا يعذب أحد من الزبانية أحداً مثل عذاب هذا الإنسان وهو أمية بن خلف ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وفساده . ومن قرأ بناء الفعل للمفعول فيهما فظاهر . والضمير في { عذابه } و { وثاقه } للإنسان . ويمكن أن يراد لا يحمل عذاب الإنسان أحد كقوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] قال الواحدي : وهذا أولى الأقوال . ثم ذكر بشارة الأبرار وهو أن يقول للمؤمن بذاته أو على لسان ملك { يا أيتها النفس المطمئنة } أي بذكر الله أو بتحصيل الأخلاق الفاضلة والعقائد الصحيحة التي تسكن النفس السليمة إليها { ارجعي إلى ربك } إلى حيث لا مالك سواه أو إلى ثوابه { راضية } بما حكم عليك وقدر لك { مرضية } عند الله نظيره { رضي الله عنهم ورضوا عنه } [ البينة : 8 ] وهذه صفة أرباب النفوس الكاملة وإن كانوا بعد في دار التكليف ولهذا رتب على هذه الصفة قوله { فادخلي في عبادي } أي في جملة الصالحين { وادخلي جنتي } وهي في الدنيا مقام الرضا والتسليم . وإذا كانت النفس متحلية بالكمالات الحقيقية والمعارف اليقينية في حياته العاجلة كانت أهلاً لهذه البشارة عند الموت وعند البعث وفي كل المواطن إلى دخول الجنة . وقيل : إنما يقال له هذا عند البعث والمعنى فادخلي في أجساد عبادي يؤيده قراءة ابن مسعود « في جسد عبدي » قالوا : أنزلت في حمزة بن عبد المطلب أو في خبيب بن عدي الذي صلبه أهله مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك ، فحوّل الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يغيرها . والظاهر العموم ولو سلم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

القراآت { لبداً } بالتشديد : يزيد { فك رقبة أو إطعام } على صيغة الفعلين ونصب { رقية } ابن كثير وأبو عمرو وعليّ . الباقون : على المصدرين فأضافوا الأول ونونوا الثاني أي هي الفك أو الإطعام { مؤصدة } بالهمز : أبو عمرو ويعقوب وحمزة وخلف وحفص والمفضل .
الوقوف : { البلد } ه لا { البلد } ه ك { ولد } ه ك { كبد } ه ط { أحد } م ه لئلا يوهم أن ما بعده صفة { لبداً } ط { أحد } ه ك { عينين } ه لا { وشفتين } ه ك { النجدين } ج ه للنفي مع الفاء { العقبة } ه ز { العقبة } ه ط { رقبة } ه لا { مسغبة } ه ط { مقربة } ه ك { متربة } ه ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار { بالمرحمة } ه ك { الميمنة } ه ط { المشأمة } ه ط { مؤصدة } ه .
التفسير : إنه سبحانه قرر في هذه السورة وفي أكثر ما يتلوها من السور مراتب النفوس الإنسانية وأحوالها في السعادة وضدّها ، فأكد ذلك بالإقسام بالبلد الحرام وهو مكة التي جعلها الله تعالى منشأ كل بركة وخير . وقوله { وأنت حلّ بهذا البلد } اعتراض بين القسمين كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه صلى الله عليه وسلم حلّ بها وأقام فيها . وقيل : الحل بمعنى الحلال كأنه سبحانه عجب من اعتقاد أهل مكة كيف يؤذون أشراف الخلق في موضع محرم . عن شرحبيل : يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك . وقال قتادة : أنت حلّ أي لست بأثيم وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت كما في الحديث « ولم تحل لي إلا ساعة من نهار » فأن كانت السورة مكية أو مدنية قبل الفتح فقوله { حل } بمعنى الاستقبال نحو { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] وكثيراً ما تبرز الأفعال المستقبلة في القرآن في صيغ الماضي لتحقق الوقوع ، وإن كان حال الفتح أو بعده فظاهر . وعلى الأول يكون فيه إخبار بالغيب وقد يسر الله له فتح مكة كما وعد فيكون معجزاً . أما الوالد والولد فقيل : آدم وذرّيته لكرامتهم على الله { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] وقيل كل والد ومولود . وقد يخص الإقسام بالصالحين لأن غير الصالحين لا حرمة لهم { أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] والأكثرون على أن الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والولد محمد صلى الله عليه وسلم كأنه أقسم ببلده ثم بوالده ثم به والتنكير للتعظيم . وإنما لم يقل ومن ولد للفائدة المذكورة في قوله { والله أعلم بما وضعت } [ آل عمران : 36 ] أي بشيء وضعته وهو مولود عجيب الشأن . والكبد المشقة والتعب كقوله { إنك كادح إلى ربك كدحاً } [ الإنشقاق : 6 ] وأصله من كبد الرجل بالكسر كبداً بالفتح فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت . ولا تخفى الشدائد الواردة على الإنسان من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله ثم إلى زمان رضاعه ثم إلى بلوغه ثم ورود طوارق السراء وبوارق الضراء وعلائق التكاليف وعوائق التمدن والتعيش عليه إلى الموت .

ثم إلى البعث من المساءلة وظلمة القبر ووحشته ، ثم إلى الاستقرار في الجنة والنار من الحساب والعتاب والحيرة والحسرة والوقوف بين يدي الجبار ، اللهم سهل علينا هذه الشدائد بفضلك يا كريم ووفقنا للعمل بما يستعقب الخلاص منها إلى النعيم المقيم . وقيل : الكبد مرض القلب وفساد العقيدة والمراد به الذين علم الله من حالهم أنهم لا يؤمنون . وقيل : الكبد هو الاستواء والاستقامة أي خلقناه منتصب القامة . وقيل : الكبد الشدة والغلظ ثم اشتق منه اسم العضو لأنه دم غليظ . وقد يخص الإنسان على هذا التفسير بشخص واحد من جمح يكنى أبا الأشدين ، كان يجعل تحت قدميه الأديم ثم يمدّ من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه ويعضد هذا التفسير قوله { أيحسب } يعني ذلك الإنسان الشديد . وعلى الأول معناه لن يقدر على بعثه ومجازاته أو على تغيير أحواله وأطواره { يقول أهلكت ما لا لبداً } أي كثيراً بعضه فوق بعض وهو جمع لبدة بالضم لما يلبد قاله الفراء . وعن الزجاج أنه مفرد والبناء للمبالغة والكثرة . يقال : رجل حطم إذا كان كثير الحطم . ومن قرأ بالتشديد فهو جمع لا بد يريده كثرة ما أنفقه في الجاهلية فوبخه على ذلك بقوله { أيحسب أن لم يره أحد } يعنى أنه تعالى كان عالماً بقصده حين ينفق ما ينفق رياء وافتخاراً وحباً للانتساب إلى المكارم والمعالي أو معاداة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قتادة : أيظن أن الله لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه وفي أي شيء أنفقه؟ وقال الكلبي : كان كاذباً ولم ينفق شيئاً فقال الله : أيزعم أن الله ما رأى ذلك منه ولو كان قد أنفق لعلم الله . ثم دل على كمال قدرته مع إشارة إلى الاستعداد الفطري بقوله { ألم نجعل له عينين } يبصر بهما المصنوعات { ولساناً } يعبر به عما في ضميره { وشفتين } يستعين بهما على الإفصاح بالنطق { وهديناه النجدين } سبيلي الخير والشر كقوله { إنا هديناه السبيل إما شاكراً أو كفوراً } [ الدهر : 3 ] هذا قول عامة المفسرين . والنجد في اللغة المكان المرتفع جعل الدلائل لارتفاع شأنها وعلو مكانها كالطرق المرتفعة العالية التي لا تخفى على ذوي الأبصار . وقال الحسن { يقول أهلكت ما لا لبداً } فمن الذي يحاسبني عليه؟ فقيل الذي قدر على أن خلق لك الأعضاء قادر على محاسبتك . وعن ابن عباس وسعيد بن المسيب : هما الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه هدى الله الطفل الصغير حتى ارتضعهما ، قال القفال : والتفسير هو الأول . ثم قرر وجه الاستدلال به فقال : إن من قدر على أن خلق من الماء المنتن قلباً عقولاً ولساناً فؤولاً فهو على إهلاك ما خلق أقدر ، فام الحجة في الكفر بالله مع تظاهر نعمه؟ وما العلة في التعزز على الله وأوليائه بالمال وإنفاقه وهو المعطي والممكن من الانتفاع؟ ثم عرف عباده وجوه الإنفاق الفاضلة تعريضاً بأن ذلك الكافر لم يكن إنفاقه في وجه مرضيّ معتدّ به لابتناء قبول الطاعات على الإيمان الذي هو أصل الخيرات .

والاقتحام الدخول بشدّة ولهذا يستعمل في الأخطار والأهوال . والعقبة طريق الجبل؛ فعن ابن عمر : هي جبل زلال في جهنم . وعن مجاهد والضحاك : هي الصراط يضرب على متن جهنم ، وهو معنى قول الكلبي : عقبة بين الجنة والنار . وزيف الواحدي وغيره هاتين الروايتين بأنه من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا العقبة بهذا المعنى ، وبأن تفسير الله سبحانه العقبة عيبه ينافيه . وعن الحسن : عقب والله شديدة إن هذا مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان . قال النحويون : قلما توجد لا الداخلة على الماضي إلا مكررة كقوله { فلا صدّق ولا صلّى } [ القيامة : 31 ] وتقول : لا خيبني ولا رزقني . والقرآن أفصح الكلام فهو أولى برعاية هذه القاعدة . والجواب أن القرآن حجة كافية ولو سلم فهي متكررة في المعنى . قال الزجاج : ألا ترى أنه فسر العقبة بفك الرقبة والإطعام؟ فكأنه قيل : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ولا سيما فيمن قرأ { فك } و { أطعم } على الإبدال من { اقتحم } وجعل ما بينهما اعتراضاً . ويجوز أن يراد فلا اقتحم العقبة ولا آمن يدل عليه قوله { ثم كان من الذين آمنوا } ومن قرأ { فك } { أو إطعام } على المصدرين فالفاعل محذوف وهو من خواص المصدر لا يجوز حذف الفاعل من غيره والتقدير : فك فاك رقبة أو إطعام مطعم يتيماً . والمسغبة مصدر على « مفعلة » من سغب إذا جاع ، وكذا المقربة من قرب في النسب . والمتربة من ترب إذا افتقر والتصق بالتراب فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه . عن النبي صلى الله عليه وسلم : هو الذي مأواه المزابل . ووصف اليوم بذي مسغبة مجاز باعتبار صاحبه نحو « نهاره صائم » . وفك الرقبة تخليصها من رق أو غيره . وفي الحديث « إن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دلني على عمل يدخلني الجنة . فقال : » تعتق النسمة وتفك الرقبة . فقال : أوليسا سواء؟ قال : لا إعتاقها أن تتفرد بعتقها وفكها تخليصها من قود أو غرم « وقد استدل أبو حنيفة من تقدم العتق على أنه أفضل من الصدقة . وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة تخليص النفس من الإشراف على الهلاك فإن قوام البدن بالغذاء ، وفي الفك تخليصها من القيد في الأغلب . وأيضاً لعل الأمر في الأول أضيق . ولا شك إن إطعام التيم القريب أفضل من اليتيم الأجنبي . وقد يستدل للشافعي أن المسكين أحسن حالاً من الفقير وأنه قد يكون بحيث يملك شيئاً وإلا وقع قوله { ذا متربة } تكراراً .

وقال بعض أهل التأويل : فك الرقبة أن يعين المرء نفسه على إقامة الوظائف الشرعية ليتخلص بها عن النار . وعندي هو أن يفك رقبته عن الكونين ليلزم عنه زوال الحرص المستتبع لمواساة النفس على الطعام والإيثار . وفي قوله { ثم كان } وجوه أحدها : أن هذا التراخي في الذكر لا في وجود فإن الإيمان مقدّم على جميع الخصال المعتدّ بها شرعأً كقوله :
إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
أي ثم إنه أذكر ساد أبوه : وثانيها التأويل بالعاقبة أي ثم كان في عاقبة أمره ممن يموت على الإيمان . وثالثها أن الآية نزلت فيمن أتى بهذه الخصال قبل إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم آمن به بعد مبعثه . فعند بعضهم يثاب على تلك الطاعات يدل عليه ما روي أن حكيم بن حزام بعد ما أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا كنا نأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم « أسلمت على ما قدّمت من الخير » ورابعها وهو أولى الوجوه عند أصحاب المعاني أن المراد تراخي الرتبة والفضيلة لأن ثواب الإيمان أكثر من ثواب العتق والصدقة . وقد يوجه البيت المذكور على هذا بأن المراد ثم ساد أبوه مع ذلك ثم ساد جده مع ما ذكر ، ولا ريب أن مجموع الأمرين أو الأمور أشرف من أن ساد هو بنفسه فقط . وحين ذكر خصال الكمال عقبه بما يدل على التكميل قائلاً { تواصوا } أي أوصى بعضهم بعضاً { بالصبر } على التكاليف الشرعية وعلى البلايا والمحن التي قلما يخلوا المؤمن عنها { وتواصوا } { بالمرحمة } أي التعاطف والتراحم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا أخواناً متعاضدين » وفي الآية نكتة لطيفة وهي أنه سبحانه ذكر في باب الكمال أمرين : فك الرقبة والإطعام ثم الإيمان ، وذكر في باب التكميل شيئين : التواصي بالصبر على الوظائف الدينية والتواصي بالتراحم ، وكل من النوعين مشتمل على التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله إلا أنه في الأول قدّم جانب الخلق ، وفي الثاني قدم جانب الحق . ففي الأول إشارة إلى كامل رحمته ونهاية عنايته بالمخلوقات فإن رعاية مصالحهم عنده أهمّ ، وفي الآخر رمز إلى حسن الأدب وتعليم للمكلفين أن يعرفوا ما هو الأقدم الأهمّ في نفس الأمر زادنا الله اطلاعاً على دقائق هذا الكتاب الكريم . قوله { أصحاب الميمنة } و { أصحاب المشأمة } مر في أول الواقعة تفسيرهما . قال أهل اللغة : أوصدت الباب وآصدته بالواو وبالهمز أي أطبقته وأغلقته . قال مقاتل : فلا يخرج أحد منهما ولا يدخل روح فيها . والإيصاد بالحقيقة صفة أبواب النار أي مؤصدة أبوابها فهو من الإسناد المجازي . وقيل : أراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب نعوذ بالله منها .

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

القراآت : { تلاها } و { طحاها } مثل { دحاها } مثل { دحاها } [ الآية : 30 ] في « النازعات » { فلا يخاف } بالفاء وضم الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير بناء على أن { قد أفلح } جواب القسم واللام محذوف أي لقد أفلح .
الوقوف : { وضحاها } ه لا { تلاها } ه ك { جلاها } ه ك { يغشاها } ه ك { بناها } ه ك { طحاها } ه ك { سوّاها } ه لا ص { وتقواها } ه لا { زكاها } ه ك { دساها } ه ط { بطغواها } ه ط لأن الظرف يتعلق ب { كذب } أو بالطغوى { أشقاها } ه { وسقياها } ه { فعقروها } م ط { فسوّاها } ه ط { عقباها } ه .
التفسير : قال النحويون : إن في ناصب { إذا تلاها } وما بعده إشكالاً لأن « ما » سوى الواو الأولى إن كن للقسم لزم اجتماع أقسام كثيرة على مقسم به واحد وهو مستنكر عند الخليل وسيبويه ، لأن استئناف قسم آخر دليل على أن القسم الأول قد استوفى حقه من الجواب فيلزم التغليظ ، وإن كن عاطفة لزم العطف على عاملين بحرف واحد وذلك أن حرف العطف ناب عن واو القسم المقتضي للجر وعن الفعل الذي يقتضي انتصاب الظرف . والجواب أنا نختار الثاني ولزوم العطف على عاملين ممنوع لأن حرف العطف ناب عن واو القسم النائب عن الفعل المتعدّي بالباء ، وكما أن واو القسم تعمل الجر في القسم والنصب في الظرف إذا قلت مثلاً ابتداء { والليل إذا يغشى } [ الليل : 1 ] لقيامه مقام قولك « اقسم بالليل إذا يغشى » فكذا حرف العطف النائب منابه نظيره قولك « ضرب زيد عمراً وبكر خالداً » فترفع بالواو وتنصب لقيامه مقام ضرب . قال بعض المتكلمين : المضاف في هذه الأقسام محذوف تقديره ورب الشمس إلى آخرها . وزيف بلزوم التكرار في قوله { وما بناها } وما بعده . وأجيب بأن « ما » في { وما بناها } وما بعده مصدرية . واعترض عليه في الكشاف بأنه يلزم من عطف قوله { فألهمهما } على قوله { وما سوّاها } فساد النظم فالوجه أن تكون « ما » موصولة . وإنما أوثرت على « من » لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الذي سوّاها ، على أنه قد جاء « ما » مستعملاً في « من » كقولهم « سبحان ما سخركن لنا » . أما الذين لم يقدروا المضاف فأورد عليهم أنه يلزم تأخير القسم برب السماء وبانيها عن القسم بالسماء . والجواب أن الله عز قائلاً أراد أن نتدرج من المحسوسات إلى المعقولات ومن المصنوعات إلى الصانع ، ولا يخفى أن المحسوسات أظهرها هو الشمس فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها . فأول أعظم الأوصاف الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار ، وثانيها تلو القمر لها غاية في منتصف الشهر أو تلوه لها في أخذ الضور عنها أو في غروبه ليلة الهلال بعدها قاله قتادة والكلبي .

وقيل : في كبر الجرم بحسب الحس وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته . والثالث والرابع بروزها لمجيء النهار واختفاؤها لمجيء الليل . ثم ذكر ذاته المقدسة وعقبه بأنواع تدابيره في السماء والأرض وفي البسائط وما يتركب منها وأشرفها النفس . ولنشتغل بتفسير بعض الألفاظ . قال الليث : الضحو ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك . والضحاء بالمد إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف . وتلاها تبعها بإحدى المعانى المذكورة ، والتجلية الكشف والعيان . والضمير في { جلاها } للشمس في الظاهر على ما قال الزجاج وغيره ، لأن النهار كلما كان أصدق نوراً كانت الشمس أجلى ظهوراً فإن الكشف والعيان يدل على قوة المؤثر وكماله لا قوة الأثر وكماله ، فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها . وذهب جم غفير إلى أن الضمير يعود إلى الظلمة أو الدنيا أو الأرض بدلالة قرائن الأحوال وسياق الكلام ، ولعل الوجه الأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور أقرب منه إلى المقدر ، ولأنه يلزم تفريق الضمائر في { يغشاها } للشمس بالاتفاق وكذا في { ضحاها } و { تلاها } ولأن غشيان الليل الشمس عبارة عن ذهاب الضوء وحصول الظلمة بسبب غيبة الشمس في الأفق ، فكذا تجلية النهار إياها يجب أن تكون إشارة إلى كمال الضوء وظهوره للحس بواسطة ظهور الشمس فوق الأفق . والحاصل أن الذهن كما ينتقل من عدم الأثر إلى عدم المؤثر فجعل كأن لعدم الأثر تأثيراً في عدم المؤثر ، فكذلك ينتقل من وجود الأثر إلى وجود المؤثر فيصح أن يقال : إن وجود الأثر علة لوجود المؤثر وهذا معنى كون النهار مجلياً للشمس . والطحو مثل الدحو وقد مر في « النازعات » أي بسطها على الماء . وتنكير النفس إما للتنويع أي نفس خاصة من بين النفوس وهي النفس القدسية النبوية التي تصلح لرياسة ما سواها من النفوس ، وإما للتكثير على الوجه المذكور في قوله { علمت نفس ما أحضرت } [ التكوير : 14 ] وتسويتها إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن وهي الحواس الظاهرة والباطنة والقوى الطبيعية المخدومة والخادمة وغيرها { فألهمها فجورها وتقواها } قالت المعتزلة : هو كقول { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر ويعضده ما بعده { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } والتدسية ضد التزكية . وأصل دسي دسس قلب أحد حرفي التضعيف ياء كما في « قضيت » . والتدسيس مبالغة الدس وهو الإخفاء في التراب قال عز من قائل { أم يدسه في التراب } [ النحل : 59 ] والضمير في « زكى » و « دس » ل « من » وقال أهل السنة : الضمير أن لله تعالى و « من » عبارة عن النفس والمعنى : قد سعدت نفس زكاها الله تعال وخلقها طاهرة ، وخابت نفس دساها الله وخلقها كافرة فاجرة .

وقد يروى هذا الوجه عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي قالوا : أصل الإلهام من قولهم « لهم الشيء والتهمة » إذا ابتلعه و « ألهمته إياه » أي أبلعته ذلك . فالإلهام الإبلاع أي وضع الإيمان في قلب المؤمن والكفر في قلب الكافر . ثم وعظهم بقصة ثمود لقربها من ديارهم . ولأهل التأويل أن يقولوا : إنما خص هذه القصة لأن ناقة الله هي البدن وعبر بصالح عن الروح ، ولما كانت قصة ثمود مناسبة لأحوال النفس الإنسانية كما مرت في التأويلات ، وكانت هذه السورة مسوقة لبيان مراتب النفس في السعادة والشقاوة ، وخصت القصة بالذكر لذلك ، وعلى هذا التأويل قد يراد بالشمس تجلي النفس الناطقة على البدن بالتدبير الكامل ، وبالقمر الروح الحيواني . أو شمس المعرفة ، وقمر المكاشفة ، ونهار وليل المحو ، وسماء الروح وأرض القلب كما مر مراراً . والطغوى اسم من الطغيان كالتقوى من الوقاية قلبت ياؤه واواً فرقاً بين ما هي اسم وبين ما هي صفة كقولهم « امرأة خزياً وصدياً » والباء للآلة أي فعلت التكذيب بواسطة طغيانها . وقيل : المضاف محذوف والمجموع صفة للعذاب والباء للإلصاق أي كذبت ثمود بما أوعدت من العذاب ذي الطغوى كقوله { فأهلكوا بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] والأول أوضح لئلا يكون قوله { فكذبوه } تكراراً . ومعنى { انبعث } تحركت داعيته وقوي عزمه على العقر . { وأشقاها } عاقر الناقة قدار بن سالف ، أو هو مع من ساعده على ذلك فإن أفعل التفضيل يجوز أن لا يفرق فيه بين الواحد . والجمع وعلى هذا يجوز أن يكون الضمير في { لهم } عائداً إلى الجماعة الأشقياء ، وعلى الأول يكون عائداً إلى قوم صالح . و { ناقة الله } نصب على التحذير أي احذروا عقرها { وسقياها } فلا تعتدوا بها فإن لها شرباً ولكم شرب يوم { فكذبوه } فيام أوعدهم به من نزول العذاب إن فعلوا فعقروا الناقة { فدمدم } أي فأطبق { عليهم } العذاب . قالوا : هو مضعف من قولهم « ناقة مدمدمة » إذا ألبست الشحم . والباء في { بذنبهم } للسببية فسوى الدمدمة بينهم بحيث لم يهرب منها أحد { ولا يخاف عقباها } كما يخاف ملوك الدنيا فينزجر عن استيفاء العقوبة . وجوز أن يكون الضمير لثمود أي فسوّاها بالأرض ، أو في الهلاك ولا يخاف تبعه بهلاكها وهو تعالى أعلم .

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

القراآت : { ناراً تلظى } بتشديد التاء : البزي وابن فليح .
الوقوف : { يغشى } ه لا { تجلى } ه لا { والأنثى } ه لا { لشتى } ه ط { واتقى } ه لا { بالحسنى } ه لا { لليسرى } ه ط { واستغنى } ه لا { بالحسنى } ه لا { للعسرى } ط { تردّى } ه ط { للهدى } ه ز للعطف مع رعاية جانب « أنّ » والوصل أجوز لإتمام الكلام { والأولى } ه { تلظى } ه ج لأن ما بعده صفة أو استئناف { الأشقى } ه لا { وتولى } ه ط { الأتقى } ه لا { يتزكى } ه ج لأن ما بعده استئناف أو حال { تجزى } ه { الأعلى } ه ج لاختلاف الجملتين { يرضى } ه .
التفسير : هذه السورة نزلت باتفاق كثير من المفسرين في أبي بكر وفي أبي سفيان ابن حرب أو أمية بن خلف ، إلا أن المعنى على العموم لقوله تعالى { إن سعيكم لشتى فأنذرتكم } ومفعول { يغشى } محذوف وهو إما الشمس كقوله تعالى { والليل إذا يغشاها } [ الآية : 4 ] أو النهار أ كل شيء يمكن تواريه بالظلام . أقسم سبحانه بالليل والنهار اللذين بتعاقبهما يتم أمر المعاش والراحة مع أنهما آيتان في أنفسهما . ومعنى { تجلى } ظهر بزوال ظلمة الليل وتبين بطلوع الشمس ثم بذاته الذي خلق كل شيء ذي روح لأن الروح إما ذكر أو أنثى ، والخنثى المشكل معين في علم الله وإن كان مبهماً في علمنا ولهذا قال الفقهاء : لو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكراً ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلاً حنث . وقيل : هما آدم وحواء { شتى } جمع شتيت وهو المتفرق المختلف . ثم بين اختلاف الأعمال في ذاتها وفيما يرجع إليها في العاقبة من الثواب والعقاب أو التوفيق والخذلان . « عن علي رضي الله عنه أنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله فقال » ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم مكانها من الجنة والنار . فقلنا : يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ { فأمّا من أعطى } « يعني حقوق ما له { واتقى } المحارم { وصدّق } بالخصلة الحسنى وهي الإيمان أو كلمة الشهادة أو بالملة الحسنى أوبالمثوبة { فسنيسره } فسنهيئه للطريق اليسرى . يقال يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها . ومعنى استغنى أنه رغب عما عند الله كأنه مستغن ، أو استغنى باللذات العاجلة عن الآجلة . والتحقيق فيه أن الأعمال الفاضلة إذا واظب المكلف عليها حصلت في نفسه ملكة نورانية تسهل عليه سلوك سبيل الخيرات حتى يصير التكليف طبعاً . والتعب راحة والتكليف عادة ، ولأن هذه الملكة تحصل بالتدريج فلا جرم أدخل الفاء في { فسنيسره } ومن فسر اليسرى بالجنة فمعنى الاستقبال عنده واضح .

والرذائل بالضد حتى تصير النفس من الكسل بحيث لا تواتي صاحبها إلا في مواجب الكسل وجذب الراحات العاجلة كقوله { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [ البقرة : 45 ] { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } [ النساء : 148 ] ويقرب مما ذكرنا قول القفال : كل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة فإن ذلك من اليسرى وذلك وصف كل الطاعات ، وكل ما أدّت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى وذلك وصف كل المعاصي ، ومن جملة اليسرى الجنة ومن جملة العسرى النار . استدل بعض الأشاعرة بقوله { فسنيسره للعسرى } على أنه تعالى قد يخلق القبائح في المكلف ويقوي دواعيه على فعلها . والمعتزلة عبروا عن هذا التيسير بالخذلان وعن الأول بمنح الألطاف والتوفيق . ثم وبخ هذا الكافر بقوله { وما يغني عنه ماله } وهو استفهام في معنى النفي أي لا ينفعه ماله الذي بخل به { إذا تردّى } أي مات من الردى وهو الهلاك . ويجوز أن يكون من قولهم « تردّى من الجبل » أي تردّى من الحفرة في القبر أو في قعر جهنم . استدل المعتزلة بقوله { إن علينا للهدى } على أنه تعالى أزاح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في سعته وطاقته ، وعلى أنه يجب على الله الهداية ، وعلى أن العبد لو لم يكن مستقلاً بالإيجاد لما كان في وضع الدلائل فائدة . وأجوبة أهل السنة عن المسائل الثلاث معلومة . ونقل الواحدي عن الفراء وجهاً آخر وهو أن المراد إن علينا للهدى والإضلال فاقتصر كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وأكدوا ذلك بما روي عن ابن عباس في رواية عطاء أن معنى الآية أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي . ثم بين بقوله { وإن لنا للآخرة والأولى } أن لله كل ما في الدنيا والآخرة فلا يضره عصيان العاصين ولا ينفعه طاعة المطيعين ، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم . ويمكن أن يراد أن سعادة الدارين تتعلق بمشيئته وإرادته فيعطي الهداية من يشاء ويمنعها من يشاء . والأول أوفق للمعتزلة والثاني للأشاعرة . ثم ذكر نتيجة المواعظ المذكورة قائلاً { فأنذرتكم ناراً تلظى } يعني إذا عرفتم هذه البيانات الوافية والتقريرات الشافية فقد صح إني أنذرتكم ، ويجوز أن يراد بالمضيّ تحقق الوقوع . والمعنى على الاستقبال أي إذا تقررت مراتب النفوس الإنسانية وعرفتم درجاتها ودركاتها فإني أنذرتكم ناراً تلظى تتلهب وتتوقد وأصله تتلظى حذف إحدى التاءين . ثم إن كان المراد بالأشقى هو أبو سفيان أو أمية وبالأتقى هو أبو بكر فلا إشكال وتتناول الآية غيرهما من الأشقياء والأتقياء بالتبعية إذ لا عبرة بخصوص السبب ، وإن كان المراد أعم فإن أريد بهم الشقي والتقي فلا إشكال أيضاً ، وإن أريد حقيقة أفعل التفضيل فإما أن يراد نار مخصوصة بدلالة التنكير ، وإما أن يراد بالأشقى الكافر على الإطلاق لأنه أشقى من الفاسق .

وأما الكلام في الأتقى فنقول : إنه لا يلزم من تخصيصه بالذكر نفي ما عداه . قال جار الله : هذا الكلام وارد على سبيل المبالغة فجعل الأشقى مختصاً بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له ، وجعل الأتقى مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له . وقوله { يتزكى } أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، أو هو من الزكاة لا محل له لأنه بدل من { يؤتى } والصلة لا محل لها لأنها كبعض الكلمة ، أو هو منصوب المحل على الحال . قال بعض المفسرين : إن بلالاً كان يعذب في الله وهو يقول أحد أحد ، فسمع بذلك أبو بكر فحمل رطلاً من ذهب فابتاعه به فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده فنزل { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء } قال أكثر النحويين : هذا الاستثناء منقطع لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة . وقال الفراء : وهو مفعول له من { يؤتى } على المعنى أي لا ينفق ماله إلا ابتغاء رضوان الله لا لمكافأة نعمة { ولسوف يرضى } عن الله أو يرضى الله عنه فيكون راضياً مرضياً . واعلم أن بعض الشيعة زعموا أن السورة نزلت في عليّ رضي الله عنه لقوله { يتزكى } لأنه قال في موضع آخر { ويؤتون الزكاة وهم راكعون } [ المائدة : 55 ] وقال بعض أهل السنة : إنها تدل على أفضلية أبي بكر لأنه قال في وصف عليّ وسائر أهل البيت رضي الله عنهم { ويطعمون الطعام } إلى قوله { إنا نخاف } [ الدهر : 8 ، 10 ] وذكر في صفة أبي بكر أنه لا ينفق إلا لوجه الله من غير شائبة رغبة أو رهبة ، وهذا المقام أعلى وأجل . وعندي أن أمثال هذه الدلائل لا تصلح لترجيح أكابر الصحابة بعضهم على بعض ، وأن نزول هذه السورة في الشخص الفلاني مبني على الرواية فلا سبيل للاستدلال إليه ، وإليه المرجع والمآب والله أعلم .

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

القراآت : { سجى } مثل { دحاها } [ الآية : 30 ] في « النازعات » .
الوقوف : { والضحى } ه لا { سجى } ه لا { قلى } ه لا { الأولى } ه لا { فترضى } ه ط { فآوى } ه ص { فهدى } ه ك { فأغنى } ط { فلا تقهر } ه ط { فلا تنهر } ه ط { فحدّث } ه .
التفسير : الأكثرون على أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس ويظهر سلطانها . وقيل : هو النهار كله لإقرانه بالليل في القسم وهو ضعيف ، لأن معنى سجى سكن واستقر ظلامه ، أو سكون الناس فيه فيكون الإسناد مجازياً . يقال : سجا البحر إذا سكنت أمواجه ، وطرف ساج أي ساكن فاتر . ولا ريب أن سجوّ الليل وقت استيلاء الظلام منه لا كله فهو بمنزلة الضحى من النهار . وههنا لطائف : الأولى : قدم ذكر الليل في السورة المتقدمة وعكس ههنا لانفراد كل منهما بفضيلة مخصوصة ، فالليل للراحة والنهار لانتظام أمر المعاش فقدّم هذا على ذلك تارة وبالعكس أخرى لئلا يخلو شيء من النوعين عن فضيلة التقديم . وأيضاً تلك سورة أبي بكر وقد سبقه كفر يشبه الليل في الظلمة ، وهذه سورة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يسبقه كفر طرفة عين ولا أقل من ذلك ، فبدأ النهار الذي هو يشابه الإيمان . فإن ذكرت الليل أولاً وهو أبو بكر ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن ذكرت الضحى أولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم ثم نزلت وجدت بعده الليل وهو أبو بكر من غير واسطة بينهما كما وقع في نفس الأمر ، وكما ثبت من قصة الغار . الثانية : ما الحكمة في تخصيص القسم في أول هذه السورة بالضحى والليل؟ والجواب لأن ساعات النهار كلما تنقص فإن ساعات الليل تزداد وبالعكس ، فلا تلك الزيادة للهوى ولا ذاك النقصان للقلى بلى للحكمة ، فكذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس لا عن الهوى ولا عن القلى . وأما السبب في الأقسام نفسه فلأن الكفار لما ادّعوا أن ربه ودعه وقلاه وقد ثبت أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر قال لهم : هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه . وفيه أن الليل والنهار لا يسلمان من الزيادة والنقصان فيكف تطمع أن تسلم عن الخلق؟ وفيه أن الليل زمان الاستيحاش والنهار وقت الاجتماع والمعاش فكأنه قال : استبشر فإن بعد الاستيحاش بسبب انقطاع الوحي يظهر ضحى نزول الوحي . وفيه أن الضحى لما كان وقت موعد موسى لمعارضة السحرة كما قال { موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى } [ طه : 59 ] شرفه الله بأن أقسم به فعلم منه أن فضيلة الإنسان لا تضيع ثمرتها .

وفيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم أن الذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك حتى يسلموا . وفيه أن الضحى وهو ساعة من النهار يوازي جميع الليل كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته يوازي جميع الأنبياء وأممهم . وفيه أن النهار وقت السرور والاجتماع والليل وقت الغموم والوحشة ، ففي الاقتصار على ذكر الضحى إشارة إلى أن غموم الدنيا أدوم من سرورها . يروى أن الله تعالى حين خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يساره ونادت : ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة سنة . ثم انكشف فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلثمائة سنة ، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت : ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا السبب ترى الهموم دائمة والأفراح نادرة . وفي تقديم الضحى على الليل إشارة إلى أن الحياة أولى للمؤمن من الموت إلى أن تحصل كمالاته الممكنة له . وأيضاً إنه ذكر الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه ، ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره . الثالثة : لا استعباد فيام يذكره الواعظ من تشبيه وجه محمد صلى الله عليه وسلم بالضحى وشعره بالليل . ومنهم من قال : الضحى ذكور أهل بيته ، والليل إناثهم . أو الضحى رسالته ، والليل زمان احتباس الوحي كما مرّ . ويحتمل أن يقال : الضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه الذي به يستر جميع العيوب . أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريباً ، والليل إشارة إلى أنه سيعود غريباً . أو الضحى كمال العقل ، والليل وقت السكون في القبر . أو أراد أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيباً وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيباً . قال المفسرون : أبطأ جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر يوماً عن ابن جريج ، أو خمسة عشر عن الكلبي ، أو خمسة وعشرين يوماً عن ابن عباس ، أو أربعين عن السدّي ومقاتل . والسبب فيه أن اليهود سألوه عن ثلاث مسائل كما مرّ في « الكهف » فقال؛ سأخبركم غداً ولم يقل « إن شاء الله » أو لأنّ جرواً للحسن والحسين كان في بيته أو لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار ، فزعم المشركون أن ربه ودعه وقلاه . وروي أن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت السورة . والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك فقد بالغ في تركك . والقلى البغض وحذف المفعول من « قلاك » و « آواك » و « هداك » و « أغناك » للفاصلة مع دلالة قرينة الحال أو المقال . والذي يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم شكا إلى خديجة إن ربي ودعني وقلاني .

إن ثبت فمحمول على أنه أراد امتحان خديجة ليعلم بعد غورها في المعرفة والعلم كما روي أنها قالت : والذي بعثك بالحق ما أهداك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك . ثم زاده تشريفاً بقوله { وللآخرة خير لك من الأولى } يعني هذا التشريف وهو إعلام أن ما ألقاه الحساد فيما بينهم من التوديع والقلى بهت محض وإن كان تشريفاً عظيماً إلا أن الذي أعدّ لأجلك في الآخرة أشرف وأسنى . وعلى تقدير انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون ذلك للعزل عن النبوة فإنه غير جائز لكنه يدل على قرب الوفاة المستتبعة للقرب من الله فلا يكون كما ظنه الأعداء . ويحتمل أن يراد : وللأحوال الآتية خير لك من الماضية فيكون وعداً بإتمام نوره وإعلاء أمره . وفي تخصيص الخطاب إشارة إلى أن في أمته من كانت الآخرة شر إليه إلا أن الله ستره عليهم ونظر قول موسى { إن معي ربي سهيدين } [ الصافات : 99 ] لأنه كان في قومه من لم يكن لائقاً بهذا المنصب ، وحين لم يكن في الغار إلا نبي أو صدّيق قال نبينا صلى الله عليه وسلم { لا تحزن إن الله معنا } [ التوبة : 40 ] يروى أن موسى خرج للاستسقاء ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة فسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك فقال : إن في قومك نماماً فقال موسى : من هو؟ فقال الله تعالى : إني أبغضه فكيف أعمل عمله؟ فما مضت مدة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات وهذه جنازته في الموضع الفلاني فذهب موسى إلى ذلك الموضع فإذا فيه سبعون من الجنائز فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه . وههنا لطيفة وهي أنه تعالى ردّ ألوفاً من المطيعين لمذنب واحد ههنا يرحم ألوفاً من المذنبين لمطيع واحد ودليله قوله { ولسوف يعطيك ربك فترضى } فلعله حين بين أن الآخرة خير له عقبه ببيان تلك الخيرية وهي رتبة الشفاعة . يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : قال صلى الله عليه وسلم « إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار » وعن جعفر الصادق رضي الله عنه رضا جدّي صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل النار موّحد . وقال ابن عباس : هو ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها ، واللام في و { لسوف } خالصة للتأكيد دون الحال كأنه قيل : الموعود كائن لا محالة وإن تأخر زمانه بحسب المصلحة . وقال جار الله : تقديره ولأنت سوف يعطيك لأن اللام لا تدخل على المضارع إلا مع نون التأكيد وفيه نظر . ثم عدد بعض نهمه التي أنعم بها عليه قبل إرساله وكأنه قال : ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك .

قال أهل الأخبار : إن عبد الله بن المطلب توفي وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به ، ثم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة ، فهلكت وهو ابن ست سنين فكان مع جده ، ثم هلك جده بعد سنتين فكفل أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ابتعثه الله للرسالة فقام بنصرته مدة مديدة ، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته وذلك قوله « فآواك » أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب . وفي تفسير تأويل الضلال قولان : الأول أنه الضلال عن الدين . فقال السدي والكلبي : كان على دين قومه أربعين سنة . الثاني وعليه الجمهور أنه ما كفر بالله طرفة عين والمراد عن معالم الشريعة الحنيفية كقوله { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] وقيل : ضل في صباه في بعض شعاب مكة فأتى أبو جهل على ناقة محمد صلى الله عليه وسلم بين يديه وهو يقول : لا تدري ماذا نرى من ابنك . فقال عبد المطلب : ولم . قال : لأني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة فكانت الناقة تقول : يا أحمق هو الإمام فكيف يكون خلف المقتدي؟ قال ابن عباس : ردّه الله إلى جده بيد عدوّه كما فعل بموسى حين رباه بيد عدوّه . وقيل : أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب حتى دخلت هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام وسمعت صوتاً إنما هلاكنا بيد هذا الصبي . وروي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهادني الله » يعني حديث أبي جهل المذكور . وقيل : ضالاً أي مغموراً بين الكفار من ضل الماء في اللبن . وقيل : مجاز في الإسناد والمعنى وجد قومك ضلالاً فهداهم بك . وقيل : كنت منفرداً عن اختلاط أهل الضلال فهداك إلى الاختلاط بهم وإلى دعوتهم . قيل : وعن الهجرة أو القبلة أو عن معرفة جبرائيل أول مرة ، أو عن أمور الدنيا أو عن طريق السموات فهداك ليلة المعراج . وقيل : الضلال المحبة لفي ضلالك القديم فهداك إلى وجه الوصول إلى المحبوب والمراد بالسلوك . روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد . قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة : لو حفظت لي غنمتي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشبان . فلما أتيت أول دار من دور مكة سمعت الدفوف والمزامير فقالوا : فلان تزوّج بفلانة . فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس .

ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك . فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس . ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته . والعائل في الأصل كثير العيال ثم طلق على الفقير وإن لم يكن له عيال لأن الفقر من لوازم العول . أغناه الله بتربية أبي طالب أوّلاً ، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة . يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهو مغموم فقالت له : ما لك؟ فقال : الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفذ مالك فأستحيي منك ، وإن أنا لم أبذل أخاف الله . فدعت قريشاً وفيهم الصدّيق . قال الصدّيق : فأخرجت دنانير حتى وصبتها أبلغت مبلغاً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي ثم قالت : اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه . وأما في زمان الرسالة فأغناه لمال أبي بكر ثم أمره بالهجرة وأعانه بإعانة الأنصار حسبك الله ومن أتبعك من المؤمنين . ثم أغناه بما أفاء عليه من الغنائم . قال صلى الله عليه وسلم « جعل رزقي تحت ظل رمحي » وبعض هذه الأمور وإن كان بعد نزول السورة إلا أن معلوم الله كالواقع فيكون من قبيل الإخبار بالغيب وقد وقع فيكون معجزاً . وقيل : الغنى هو القناعة وغنى القلب كان صلى الله عليه وسلم يستوي عنده الحجر والذهب . قال أهل التحقيق : الحكمة في يتم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف قدر الأيتام فيقوم بأمرهم . وأن يكرم اليتيم المشارك له في الاسم كما قال صلى الله عليه وسلم « إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه وسعوا له في المجلس » وفيه أنه لا يعتمد من أول عمره إلى آخره على أحد سوى الله فيحصل له فضيلة التوكل كما قال جده إبراهيم « حسبي من سؤالي علمه بحالي » . وفيه أن اليتيم منقصة ومذلة فإذا صار أكرم الخلق كان من جنس المعجزات . يروى أنه صلى الله عليه وسلم قال : « سألت ربي مسألة لوددت أني لم أسألها قلت : اتخذت إبراهيم خليلاً ، وكلمت موسى تكليماً ، وسخرت مع داود الجبال ، واعطيبت سليمان كذا وكذا . يقال : ألم أجدك يتيماً فآويتك ، ألم أجدك ضالاً فهديتك ، ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ قلت : بلى . قال » { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] إلى آخره؟ قلت : بلى « أقول : إن صح إسناد هذا الحديث وجب حمله على الشكاية مع الله أن إلى الله لا من الله ، فإن الأول قد يتفق للعارفين في مقام الإنبساط والقبض دون الثاني . وحين أذكره الله تعالى نعمه حتى لا ينسى نفسه أوصاه بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة الله معه فقال { فأما اليتيم فلا تقهر } أي فلا تغلبه على ماله وحقه لضعف حاله .

وانتصب اليتيم بالفعل بعده . والفاء لتلازم ما بعدها لما قبلها . وقرىء « فلا تكهر » أي فلا تعبس في وجهه . يروى أنها نزلت حين صاح النبي صلى الله عليه وسلم على ولد خديجة . وإذا كان هذا العتاب لمجرد الصياح أو العبوس فكيف إذا آذاه أو أكل ماله . عن أنس مرفوعاً « إذا بكى التيم وقعت دموعه في كف الرحمن فيقول الله تعالى : من أبكى هذا التيم الذي واريتُ والده في التراب؟ من أسكته فله الجنة » « ويروى أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً فجاءه عثمان بعذق من تمر فوضعه بين يديه فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال : يرحم الله عبداً يرحمنا . فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي صلى الله عليه وسلم فخرج واشتراه من السائل ، ثم رجع السائل ففعل ذلك ثلاث مرات إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم : أسائل أنت أم بائع » ؟ فنزل { وأما السائل فلا تنهر } أي فلا تزجر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا رددت السائل فلم يرجع فلا عليك أن تزجره » قال العلماء : أما إنه ليس بالسائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره . ثم أمره بأن يحدث الناس بما أنعم به عليه من الإيواء والهداية والإغناء وغيره . واعلم أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد ، نهاه عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله { ألم يجدك يتيماً فآوى } ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله { ووجدك عائلاً فأغنى } وأمره بتحديث نعمه ربه وهو في مقابلة قوله { ووجدك ضالاً فهدى } فالأنسب أن يكون المراد به التبليغ وأداء الرسالة وتكميل الناقصين بالدعاء إلى الدين كما قال مجاهد . ولقد روعي في الترتيب نكتة لطيفة فقدّم في معرض المنة النعمة الدينية وهي الهداية على النعمة الدنيوية وهي الإغناء وإما في معرض الإرشاد فقدّم الإشفاق على الخلق ، وأخر التحديث ليكون أدخل في الاستمالة وأجلب للدواعي فإنه ما لم ينتظم أمر المعاش لم تفرغ الخواطر لقبول التكاليف والتزام أمر المعاد . قال المحققون : التحديث بنعم الله تعالى جائز مطلقاً بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي غيره به أو أن يشيع شكر ربه بلسانه ، وإذا لم يأمن على نفسه الفتنة والإعجاب فالستر أفضل . قالوا : إنما أخر التحديث تقديماً لحظ الخلق على حظ نفسه لأنه غني وهم المحتاجون ولهذا رضي نفسه بالقول فقط ، ولأن الاستغراق في بحر الشكر ومعرفة المنعم غاية الغايات ونهاية الطاعات .
تنبيه : روي عن البزي أنه قال : قرأت على عكرمة بن سليمان قال : قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت { والضحى } قال : كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك ، وأخبرني ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على عبد الله بن عباس تسع عشرة ختمة فأمره بذلك في كلها ، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب فأمره بذلك ، وأخبره أبيّ أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك .

وروي عن الشافعي أنه رأى التكبير سنة في خاتمة { والضحى } إلى آخر القرآن . وهكذا روي عن قنبل . والسبب فيه أنه حين انقطع الوحي على ما سبق ذكره وأنزل السورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر تصديقاً لما أتى به وتكذيباً للكفار . قال العلماء : لا نقول إنه لا بد لمن ختم أن يفعله ولكنه من فعل فقد أحسن ومن ترك فلا حرج . واختلفوا في لفظ التكبير وكان بعضهم بقول : الله أكبر لا غير . وآخرون يقولون : لا إله إلا الله والله أكبر فيهللون قبل التكبير . وأما كيفية الأداء فاعلم أن القارىء إذا وصل التكبير بآخر السورة فإن كان آخرها ساكناً كسره لالتقاء الساكنين فإن همزة الوصل من أول اسم الله تسقط في الدرج وذلك ثلاثة مواضع { فحدث } الله أكبر { فأرغب } [ الشرح : 8 ] الله أكبر { واقترب } [ العلق : 19 ] الله أكبر . وإن كان منوناً كسره أيضاً سواء كان المنون مفتوحاً أو لا وهو { تواباً } [ النصر : 3 ] الله أكبر أو مضموماً وهو ثلاثة { لخبير } [ العاديات : 11 ] الله أكبر { حامية } [ القارعة : 11 ] الله أكبر وأحد الله أكبر ومكسوراً وهو أربعة { ممدة } [ الهمزة : 9 ] الله أكبر و { مأكول } [ الفيل : 5 ] الله أكبر و { خوف } [ قريش : 4 ] الله أكبر و { مسد } [ المسد : 5 ] الله أكبر . وإن كان آخر السورة متحركاً غير منون تبقى الحركة بحالها فالمفتوح ثلاثة { الحاكمين } [ التين : 8 ] الله أكبر و { الماعون } [ الماعون : 7 ] الله أكبر و { حسد } [ الفلق : 5 ] الله أكبر والمضموم ثلاثة { ربه } [ البينة : 8 ] الله أكبر و { يره } [ الزلزلة : 8 ] الله أكبر و { الأبتر } [ الكوثر : 3 ] الله أكبر والمكسور خمسة { مطلع الفجر } [ الفجر : 5 ] الله أكبر و { عن النعيم } [ التكاثر : 8 ] الله أكبر و { بالصبر } [ العصر : 3 ] الله أكبر { ولي دين } [ الكافرون : 6 ] الله أكبر { والناس } [ الناس : 6 ] الله أكبر والله أعلم .

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

الوقوف { صدرك } ه لا { وزرك } ه لا { ظهرك } ه لا { ذكرك } { يسراً } ه ط { فانصب } ه لا { فارغب } ه .
التفسير : روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان : هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة فكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة من غير فصل بالبسملة . والذي دعاهما إلى ذلك ما رأيا من المناسبة في معرض تعديد النعم بين قوله { ألم يجدك يتيماً } [ الضحى : 6 ] وبين قوله { ألم نشرح } وفيه ضعف ، لأن القرآن كله في حكم وكلام واحد فلو كان هذا القدر يوجب طرح البسملة من البين لزم ذلك في كل السور أو في أكثرها ، على أن الاستفهام الأول وارد بصيغة الغيبة ، والثاني بصيغة التكلم ، وهذا مما يوجب المباينة لا المناسبة . قال جار الله : استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح وإيجابه فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك ولذلك عطف عليه { وضعنا } اعتباراً للمعنى . قلت : اعتبار المعنى من جانب { وضعنا } أصوب وأنسب ليكون الكل داخلاً في الاستفهام الإنكاري كأنه قيل : ألم نشرح ولم نضع ولم نرفع ومثله ما مر في والضحى ألم يجدك يتيماً أو لم يجدك ضالاً . ونقول : معنى { ألم نشرح } أما شرحنا فيصح العطف عليه بهذا الاعتبار ليشمل الاستفهام مجموع الأفعال وهكذا في « والضحى » . وفائدة العدول من المتكلم الواحد إلى الجمع إما تعظيم حال الشرح وإما الإعلام بتوسط الملك في ذلك الفعل كما روي أن جبرائيل أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ثم ملأه علماً وإيماناً ووضعه في صدره . طعن القاضي فيه من جهة أن هذه الواقعة من قبيل الإعجاز فكيف يمكن تصديقها قبل النبوة؟ ومن جهة أن الأمور المحسوسة لا يقاس بها الأمور المعنوية . وأجيب عن الأول بأن الإرهاص جائز عندنا ، وعن الثاني بأنه يفعل ما يشاء ، ولا يبعد أنه تعالى جعل ذلك الغسل والتنقية علامة تعرف الملائكة بها عصمته عن الخطايا . والأكثرون على أن الشرح أما معنوي وهو إما نقيض ضيق العطن بحيث لا يتأذى من كل مكروه وإيحاش يلحقه من كفار قومه فيتسع لأعباء الرسالة كلها ولا يتضجر من علائق الدنيا بأسرها ، وإما خلاف الضلال والعمه حتى لا يرى إلا الحق ولا ينطق إلا بالحق ولا يفعل إلا للحق . قال المحققون : ليس للشيطان إلى القلب سبيل ولهذا لم يقل « ألم نشرح قلبك » وإنما يجيء الشيطان إلى الصدر الذي هو حصن القلب فيبث فيه هموم الدنيا والحرص على الزخارف فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإيمان حلاوة ولا على الإسلام طلاوة ، فإذا طرد العدو بذكر الله والإعراض عمّا لا يعينه حصل الأمن وانشرح الصدر وتيسر له القيام بأداء العبودية .

وفوائد إقحام لك دون أن يقتصر على قوله { ألم نشرح صدرك } ما مر في قوله { رب اشرح لي صدري } [ طه : 25 ] من الإجمال ثم التفصيل ، ومن إرادة الاختصاص أو كونه أهم . قال أهل المعاني ومنهم جار الله : الوزر الذي أنقض ظهره أي أثقله مثل لما صدر عنه من بعض الصغائر قبل النبوة ولما جهله من الأحكام والشرائع ، أو لما كان تهالك عليه من إسلام أولي العناد فيغتم بسبب ذلك ، ووضعه عنه أن غفر له أو أنزل عليه الكتاب . أو قيل له : إن عليك إلا البلاغ لست عليهم بمصيطر . والأصل في الإنقاض أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض أي صوت خفي كصوت المحامل والرحال وكل ما فيه انتقاض وانفكاك . وقيل : المراد بالوزر أعباء الرسالة وبوضعه تسهيل الله تعالى ذلك عليه ومن جملتها أنه كان يفزع في الأوائل حتى كاد يرمي بنفسه من الجبل فقوي وألف بالوحي حتى كاد يرمي بنفسه إذا فتر الوحي أو تأخر . وقيل : المراد إزالة الحيرة التي كانت له قبل البعث ، كان يريد أن يعبد ربه وما كانت نفسه تسكن إلى الشرائع المتقدمة لوقوع التحريف فيها . ورفع ذكره أن قرن اسمه باسم الله في الشهادة والأذان والتشهد والخطب . وجاء ذكره في القرآن مقروناً بذكر الله في غير موضع ، وعلى سبيل التعظيم مثل النبي والرسول . ومن رفع الذكر أن جاء العته في الكتب السماوية كلها وأخذ على أمم الأنبياء كلهم أن يؤمنوا به . ثم إنهم كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر فقيل له : لا يحزنك قولهم { فإن مع العسر يسراً } أي بعد العسر الذي أنتم فيه يسر وأي يسر جعل الزمان القريب كالمتصل والمقارن زيادة في التسلية وقوة الرجاء . روى مقاتل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول : لن يغلب عسر يسرين . فقال الفراء والزجاج : العسر مذكور بالألف واللام وليس هناك معهود سابق فينصرف إلى الحقيقة فيكون المراد بالعسر في الموضعين شيئاً واحداً ، وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير فكان أحدهما غير الآخر وزيفه الجرجاني بأنه من المعلوم أن القائل إذا قال : إنّ مع الفارس سيفاً إن مع الفارس سيفاً . لم يلزم منه أن يكون هناك فارس واحد معه سيفان . وأقول : إذا كان المراد بالعسر الجنس لا العهد لزم اتحاد العسر في الصورتين . وأما اليسر فمنكر فإن حمل الكلام الثاني على التكرار مثل { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] ونحوه كان اليسران واحداً . وإن حمل على أنه جملة مستأنفة لزم أن يكون اليسر الثاني غير الأول وإلا كان تكراراً والمفروض خلافه . وإن كان المراد العسر المعهود فإن كان المعهود واحداً وكان الثاني تكراراً كان اليسران أيضاً واحداً ، وإن كان مستأنفاً كانا اثنين وإلا لزم خلاف المفروض ، وغن كان المعهود اثنين فالظاهر اختلاف اليسرين وإلا لزم أو حسن أن يعاد اليسر الثاني معرفاً بلام العهد فهو واحد والكلام الثاني تكرير للأول لتقريره في النفوس إلا أنه يحسن أن يجعل اليسر فيه مغايراً للأول لعدم لام العهد .

ولعل هذا معنى الحديث إن ثبت والله أعلم ورسوله . وإذا عرفت هذه الاحتمالات فإن لم يثبت صحة الحديث أمكن حمل الآية على جميعها ، وإن ثبت صحته وجب حملها على وجه يلزم منه اتحاد العسر واختلاف اليسر . وحينئذ يكون فيه قوة الرجاء ومزيد الاستظهار برحمة الكريم . وأما اليسران على تقدير اختلافهما فقيل : يسر الدنيا ويسر الآخرة أي إن مع العسر الذي أنتم فيه يسر العاجل إن مع العسر الذي أنتم فيه يسر الآجل . وقيل : ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم في أيام الخلفاء الراشدين ، والأظهر الجنس ليكون وعداً عاماً لجميع المكلفين في كل عصر . وحين عدد عليه النعم السابقة ووعده النعم اللاحقة من اليسر والظفر رتب عليه { فإذا فرغت فانصب } قال قتادة والضحاك ومقاتل : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب أي اتعب للدعاء وأرغب إلى ربك في إنجاز المأمور لا إلى غير يعطك خير الدارين . وعن الشعبي : إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك . وعن مجاهد : إذا فرغت من أمور دنياك لما وعدناك من اليسر والظفر فانصب للعبادة والدعوة . وعن شريح أنه مر برجلين يتصارعان فقال : ما بهذا أمر الفارغ وقعود الرجل فارغاً من غير شغل قريب من العبث والاشتغال بما لا يعني ، فعلى العاقل أن لا يضيع أوقاته في الكسل والدعة ويقبل بجميع قواه على تحصيل ما ينفعه في الدارين والله تعالى عالم بحقائقه .

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

الوقوف : { والزيتون } ه لا { سينين } ه لا { الأمين } ه لا { تقويم } ه ز للعطف { سافلين } ه ط بناء على أن المراد بالرد هو الخذلان إلى الكفر ، ولو حمل إلى الرد إلى أرذل العمر لأن الاستثناء منقطع جاز الوقف عند قوم { ممنون } ه ط { بالدين } ه ط { الحاكمين } ه .
التفسير : إن التين والزيتون كيف أقسم الله بهما من بين سائر المخلوقات الشريفة؟ للمفسرين فيه قولان : فعن ابن عباس : هو تينكم وزيتونكم هذان من خواص التين أنه غذاء فاكهة ودواء لأنه طعام لطيف سريع الهضم ما بين الطبع ، ويخرج بطريق الرشح ويقلل البغلم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح مسام الكبد والطحال . وروي أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه « كلوا فلو قلت : إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت : هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس » وعن علي بن موسى الرضا رضي الله عنه : التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج . ومن خواصه أن ظاهره كباطنه ماله قشر ولا نواة له وأنها شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى تأتي بالثمرة ثم بالنورخلاف المشمش واللوز . ونحوهما ، وسائر الأشجار كأرباب المعاملات في قوله صلى الله عليه وسلم « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول » لأنها تلبس نفسها أولاً بورد أو ورق ثم تظهر ثمرتها ، وشجرة التين كالمصطفى صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بغير ثم يبدأ بنفسه كما قال { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] وإنها تعود ثمرتها في العام مرة أخرى ، وإنها في المنام رجل خير وغنى فمن رآها نال خيراً وسعة ، ومن أكلها رزقه الله أولاداً . ويروى أن آدم عليه السلام تستر بورقها حين نزع عنه ثيابه فلما نزل وكان مستوراً بورق التين استوحش فطاف الظباء حوله فاستأنس بها فأطعهما بعض ورق التين فرزقها الله الجمال والملاحة صورة ، والمسك وطيبة معنى ، وحين تفرقت الظباء ورأى غيرهن منها ما أعجبها جاءت من الغد على أثرهن فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال والملاحة دون طيب المسك ، وذلك أن الطائفة الأولى جاءت إلى آدم لا لأجل الطمع ، والطائفة الثانية جاءت للطمع سراً وإلى آدم ظاهراً ، فلا جرم غير ظاهرها دون باطنها . وأما الزيتون فإنه من الشجرة المباركة وهو فاكهة من وجه ودواء من وجه كما تقدم وصفه في سورة النوّر . قال مريض لابن سيرين : رأيت في المنام كأنه قيل لي كل اللاءين تشفى فقال : كل الزيتون فإنه لا شرقية ولاغربية . وقيل : من أخذ ورق الزيتون في النوم استمسك بالعروة والوثقى .

فهذه المصالح والمنافع هي التي جوزت الإقسام بهما . القول الثاني : إنه ليس المراد بهما هذه الثمرة ثم اختلفوا . فعن ابن عباس في رواية : هما جبلان في الأرض المقدسة يقال لهما طور تينا وطور زيتا لأنهما منبتا التين والزيتون . وهما منشأ عيسى ومبعثه ومبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل ، كما أن طور سينين مبعث موسى ، والبلد الأمين مبعث محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ابن زيد : التين مسجد دمشق ، والزيتون مسجد بيت المقدس . وقيل : التين مسجد الكهف ، والزيتون مسجد إيليا . وعن ابن عباس أيضاً : التين مسجد نوح على الجودي ، والزيتون مسجد بيت المقدس ، وعن كعب : أن التين دمشق ، والزيتون بيت المقدس . عن شهر بن حوشب : التين الكوفة والزيتون الشأم . وعن الربيع : هما جبلان من بين همذان وحلوان ، وأما طور سينين فالطور جبل موسى عليه السلام وسينين الحسن بلغة الحبشة . وقال مجاهد : المبارك وقال الكلبي ومقاتل : كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط . قال الواحدي : الأولى أن يكون سينين اسماً للمكان الذي فيه الطور سمي بذلك لحسنه أو لبركته ، ثم أضيف إليه الطور للبيان . لإضافته إليه وسميت مكة أميناً لأنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين وما يؤتمن عليه ، ويجوز أن يكون « فعيلاً » بمعنى « مفعولاً » لأنه مأمون الغوائل كما جعله آمناً لكونه إذا أمن أقول : من المعلوم أن الإقسام ينبغي في باب البلاغة أن يكون مناسباً وكذا القسم والمقسم عليه ، وكان الله سبحانه أقسم بالمراتب الأربع التي للنفس الإنسانية من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد إن الإنسان خلق في أحسن تقويم وهو كونه مستعداً للوصول إلى المرتبة الرابعة في العلم والعمل ، ثم إذا لم يجتهد في الوصول إلى كماله اللائق به فكأنه رد إلى أسفل سافلين الطبيعة ، وإنما عبر عن العقل الهيولاني بالتين لضعف شجرته ، ولأنه زمان الصبا واللهو والالتذاذ والاشتغال بالأمور التي لا طائل تحتها ولا درك فيها بخلاف زمان العقل بالملكة لقوة المعقولات فيها لكونه بحيث يطلب للأشياء حقائق ومعاني ، وهي بمنزلة الزيت ، وفي زمان العقل بالفعل يكون قد ازدادت المعاني رسوخاً حتى صارت كالجبل المبارك ، وفي آخر المراتب اجتمعت عنده صور الحقائق دفعة بمنزلة المدينة الفاضلة ، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة مفردة فلنقتصر في التفسير على هذا القدر من التأويل . ثم إن أكثر المفسرين قالوا : معنى { في أحسن تقويم } في أحسن تعديل شكلاً وانتصاباً . وقال الأصم : في أكمل عقل وفهم وبيان . والأولون قالوا : لو حلف إنسان أن زوجته أحسن من القمر لم يحنث لأنه تعالى أعلم بخلقه { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } وكان بعض الصالحين يقول : إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال وهو العفو عن الذنوب والتجاوز عن العيوب .

ومعنى { أسفل سافلين } قال ابن عباس : أرذل العمر ومثله قول ابن قتيبة : السافلون هم الضعفاء والزمنى ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلاً . قال الفراء : لو قيل « أسفل سافل » حملاً على لفظ الإنسان كان صواباً أيضاً . وقال مجاهد والحسن : هو النار ومثله ما قال علي رضي الله عنه : أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض ويبدأ بالأسفل فيملأ . وعلى هذا القول تقدير الكلام رددناه إلى أسفل سافلين أي في أسفل سافلين { إلا الذين } الآية . أي الذين استكملوا بحسب القوتين النظرية والعلمية فلهم ثواب دائم غير منقطع . إما بسبب صبرهم على ما ابتوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان مع ضعف البنية وفتور الآلات . او بواسطة حصول الكمالات لهم . فهذا الاستثناء على القول الأول منقطع بمعنى لكن . وعلى الثاني متصل . ولا يبعد أن يكون أيضاً متصلاً والمعنى . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال الاستطاعة فلهم ثواب جزيل في حالة الشيخوخة والضعف وإن لم يقدروا على مثل تلك الأعمال . فكأنهم لم يردوا إلى أسفل من سفل . ثم خاطب الإنسان بقوله { فما يكذبك بعد بالدين } يعني فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات إلى أن تكون كاذباً بسبب تكذيب الجزاء ، لأن كل مكذب بالحق فهو كذاب ، ولا ريب أن خلق الإنسان من نطفة إلى أن يصير كاملاً في الخلق والخلق ، ثم تنكيسه إلى حال تخاذل القوى وتقويس الظهر وابيضاض الشعر وتناثره أوضح دليل على قدرة الصانع وحده ، ومن قدر على هذا كله لم يعجز عن إعادة مخلوقه بعد تفرق أجزائه . هذا بالنظر إلى القدرة ، وأما بالنظر إلى الحكمة والعدالة فإيصال الجزاء إلى المحسن والمسيء والفرق بين الصنفين واجب . وأشار إلى هذا الدليل بقوله { أليس الله بأحكم الحاكمين } فأمر المعاد بالنظر إلى القدرة ممكن الوقوع وبالنظر إلى الحكمة والعدل واجب الوقوع . وقال الفراء : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : فمن يكذبك بالجزاء أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل؟ قالت المعتزلة : قوله { في أحسن تقويم } دليل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يفعل أفعال العباد في ما فيها من السفه والظلم ، ولو خلق ذلك لكان هو أولى بأن يدعى سفيهاً وظالماً . وأجيب بأن خلق السفه لا يلزم منه الاتصاف بالسفه كما أن إيجاد الحركة لا يلزم منه الاتصاف بالحركة . ويمكن أن يقال : نحن لا ندعي لزوم الاتصاف به ولكن ندعي أن خلق السفه نفسه نوع سفه . والجواب الصحيح بعد المعارضة بالعلم والداعي أن يعارض بقوله { ثم رددناه } فإنه دليل على أنه أضاف الشيء إلى ذاته . « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ السورة قال : بلى وأنا بذلك من الشاهدين »

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

القراآت : { اقرأ } بالألف : الأوقية والأعشى وحمزة في الوقف { رآه } ممالة مكسورة الراء : حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس والخزار وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل والنقاش عن ابن ذكوان . وقرأ أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش بفتح الراء وكسر الهمزة . روى ابن مجاهد وأبو عون غير قنبل مفتوحة الراء مقصورة على وزن « رعه » .
الوقوف : { الذي خلق } ه ج لاتباع صلة بلا عطف فإن الجملة الثانية مفسرة للأولى المبهمة ، ولو جعل المعنى الذي خلق كل شيء ثم خص خلق الإنسان ازداد الوقف حسناً { علق } ه ج لأن { اقرأ } يصلح مستأنفاً وتكراراً للأول { الأكرم } ه لا { بالقلم } ه لا { يعلم } ه لا { ليطغى } ه لا { استغنى } ه ط { الرجعى } ه ط { ينهى } ه لا { صلى } ه ط { الهدى } ه لا { بالتقوى } ه ط { وتولى } ه ط { يرى } ه لا { خاطئة } ه لا { ناديه } ه لا { الزبانية } ه لا { كلا } ط على الردع { واقترب } ه .
التفسير : وقد مر في أوائل الكتاب أن أكثر المفسرين زعموا أن هذه السورة أول ما نزل من السماء . وفي الباء وجهان : الأول إنها زائدة وزيف بأنه خلاف الأصل وبأن معناه حينئذ : اذكر اسم ربك فلا يحسن من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : ما أنا بقارىء كما جاء في الحديث ، وبأنه كتحصيل الحاصل لأنه لم يكن له شغل سوى ذكر الله . والثاني وهو الأصح أنه نصب على الحال أي اقرأ القرآن مفتتحاً أو متلبساً باسم ربك وهو لغو . والباء للآلة وقد مر وجهه في تفسير البسملة . وكذا وجه من جعله متعلقاً ب { قرأ } الثانية أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك . وقيل : هي بمعنى اللام أي اجعل هذا الفعل واقعاً لله كقولك « بنيت الدار باسم الأمير » . « وصنفت الكتاب باسم الوزير » . فالعبادة صارت لله تعالى لم يكن للشيطان فيها نصيب . وفي تخصيص الرب بالذكر في هذا الموضع معنيان : أحدهما ريبتك فلزمك القضاء والشكر فلا تتكاسل . والثاني أن الشروع ملزم للإتمام وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك بعد هذا فلا تفزع . ثم دل على كونه رباً بقوله { الذي خلق } أطلق الخلق أولاً ليتناول كل المخلوقات ، ثم خص الإنسان بالذكر لشرفه أو لعجيب فطرته ، أو لأن سوق الآية لأجله . ويجوز أن يكون الأول متروك المفعول إشارة إلى أنه لا خالق سواه ولا يتصف بهذا الاسم غيره ، وحينئذ يستدل به على إبطال مذهب المعتزلة في أن العبد خالق أفعال نفسه . قال أهل العلم : إن الحكيم إذا أراد أمر استعمل فيه التدريج كما يحكى أن زفر حين بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه لم يلتفتوا إلى قوله وأبو عن قبوله ، فرجع إلى أبي حنيفة وأخبره بذلك فقال : إنك لم تعرف طريق التبليغ لكن ارجع إليهم واذكر في المسألة أقاويل المتهم ثم بين ضعفها ثم قل بعد ذلك ههنا قول آخر واذكر قولي وحجتي ، فإذا تمكن ذلك في قلبهم قل هذا قول أبي حنيفة فإنهم يقبلونه حينئذ .

والمقصود من الحكاية أن الله تعالى كان يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم هؤلاء عبدة الأوثان والفطام من المألوف شديد ، فلو خالفتهم أول مرة وصرحت عن محض الحق أبوا أن يقبلوه فاذكر لهم أولاً أنّهم المخلوقون من العلقة فلا يمكنهم الإنكار ، ثم قل ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه ، فإذا تأملوا أنصفوا أن من لم يخلق لم يكن إلهاً ، والعلق جمع العلقة وإنما لم يقل علقة لأن الإنسان في معنى الجمع وفي تكرار اقرأ وجوه : اقرأ لنفسك ثم اقرأ للتبليغ أو اقرأ في خارج صلاتك ، أو الأول للتعلم والثاني للتعليم وهذا قريب من الأول . والأوجه أن يراد بالأول أوجد القراءة ويكون قوله { باسم ربك } متعلقاً ب { اقرأ } الثاني كما مر في تفسير البسملة ، قلت : ويمكن أن يكون الأول إشارة إلى كونه قارئاً بالقوة ولهذا رتب عليه خلق الإنسان من علق ، والثاني إشارة إلى كونه قارئاً بالفعل ولهذا وصف نفسه بالأكرمية ورتب عليه تعليم الخط والعلم . وفضائل الخط كثيرة حتى مدح بالرسائل والأشعار وكفاك في مدحه أنه تعالى حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة وصف نفسه بالكرم قائلاً { ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك } [ الانفطار : 6 ] وحيث من عليه بالخط والتعليم مدح ذاته بالأكرمية فقال متعرضاً { وربك الأكرم الذي علم بالقلم } أي علم الإنسان بواسطة القلم أو علمه الكتابة بالقلم . يروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال : ريح لا يبقى . قال : فماقيده؟ قال : الكتابة فإن القلم صياد يصيد العلوم يبكي تارةً ويضحك بركوعه يسجد الأنام وبحركته تبقى العلوم على ممر الليالي والأيام ، وقوله { علم الإنسان ما لم يعلم } يجوز أن يكون بياناً للأول أي علمه بالقلم كقول القائل « أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات . » ويحتمل أن يراد علم بالقلم وعلمه أيضاً غير ذلك . وفي الآية إشارة إلى إثبات العلوم السمعية الموقوفة على النقل والكتابة بل إلى إثبات النبوة كما أن أول السورة يدل على الأوصاف الإلهية . قوله سبحانه { كلا } ذكر بعض العلماء أنه بمعنى حقاً لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يتوجه إليه الردع . وقال صاحب الكشاف : إنه ردع لمن كفر بنعمة الله عليه وطغى وهذا معلوم من سياق الكلام وإن لم يذكر .

وقال مقاتل : كلا لا يعلم الإنسان أنه خلق من علقة وصار عالماً بعد أن كان جاهلاً وذلك لاستغراقه في حب المال والجاه فلا يتأمل في هذه الأحوال . ومعنى { أن رآه } لأن رأى نفسه فحذف حرف الجر على القياس ، وحذف النفس لخاصيتة فعل القلب وهي جواز الجمع بين ضميري الفاعل والمفعول فيه . وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان ههنا إنسان واحد هو أبو جهل . ومنهم من يقول : خمس آيات من أول هذه السورة نزلت أولاً ثم نزل باقيها في أبي جهل بعد ذلك بزمان فضم إليها وقيل : نزلت فيه من قوله { أرأيت الذي ينهى } إلى آخر السورة والإنسان عام فإن قيل : لم قال في حق فرعون { إنه طغى } [ النازعات : 17 ] وفي حق أبي جهل { ليطغى } قلنا : إنما أخبر بذلك عن فرعون قبل أن يلقاه موسى وقبل أن يعرض عليه الأدلة ، وأما هذه الآية فنزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حين رد أبو جهل عليه أقبح الرد . وأيضاًً إن فرعون مع كامل سلطتته ما كان يؤذي موسى إلا بالقول وأبو جهل مع قلة جاهه كان يقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفرعون كان قد أحسن إلى موسى أولاً وقال آخراً { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } [ يونس : 9 ] وأما أبو جهل فكان يحسد النبي صلى الله عليه وسلم في صباه وقال في آخر عمره : بلغوا عني محمداً أني أموت ولا أجد أبغض إليّ منه . وأيضاً إنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين ، والعاقل يصوم عينه فوق ما يصون يده بل يصون عينه باليد فلهذا كانت المبالغة ههنا أكثر . واعلم أن المال ليس سبباً للطغيان على الإطلاق ولهذا ذهب جم غفير إلى أن الإنسان في الآية مخصوص وكيف لا وإنه لم يزد سليمان عليه السلام إلا تواضعاً وعبودية . روي أنه كان يجالس المساكين ويقول : مسكين جالس مسكيناً . وكان عبد الرحمن بن عوف من كبار الصحابة كثير المال ، وقال صلى الله عليه وسلم « نعم المال الصالح للرجل الصالح » ولو أنصف العال وتأمل وجد نفسه في حال الغنى أشد افتقاراً إلى الله لأن الفقير لا يتمنى إلا سلامة نفسه والغني يتمنى سلامة نفسه وماله وأهله وجاهه : وقيل : السين في { استغنى } للطلب والمعنى أن الإنسان قد ينسى فضل الرب وعنايته في حالة أن رآه طلب الغنى فنال المنى بسبب الجهد والكد فينسب ذلك إلى كفاءته لا إلى عناية الله ، ولم يدر أنه كم من باذل وسعة في الحرص والطلب لم يحصل إلا على خفي حنين ، وأنه تعالى قد يرجع الغني آخر الأمر إلى حالة الفقر ليتحقق أن ذلك الغني لم يكن بفعله وكسبه ، وإنما ذلك بحول الله وقوته .

وههنا نكتة وهي أن أول السورة دل على فضيلة العلم وبعدها دل على مذمة المال فكفى ذلك مرغباً في العلم ومنفراً عن الدنيا . وفي قوله { إن إلى ربك } يا إنسان { الرجعى } أي الرجوع وعيد وتذكير كأنه قيل : مصيرك إلى الله وإلى حيث لا يدفع عنك المال والكسب فما هذه الحيلة والعصيان والكبر والطغيان؟ يروى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتزعم أن من استغنى طغى فاعل لنا جبال مكة فضة وذهباً لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبرائيل فقال : يقول الله إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم . وروي أن أبا جهل لعنه الله قال : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم قال : فوالذي يحلف به لئن رأيته توطأت عنقه فجاءه ، وهو صلى الله عليه وسلم في الصلاة ثم نكص على عقبيه فقالوا له : مالك يا أبا الحكم؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار فنزلت { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } أي أخبرني عمن ينهي بعض عباد الله وهذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التعجب ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : « اللهم أعز الإسلام بعمر أو بأبي جهل بن هشام » ، وكأنه تعالى قال له : يا محمد كنت تظن أنه يعز به الإسلام وهو ينهى عن الصلاة التي هي أول أركان الإسلام وكان يلقب بأبي الحكم فقيل له : كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه ويأمر بعبادة الجماد؟ وفي تنكير العبد دلالة على التفخيم كأنه قال : هو عبد لا يكتنه كنه إخلاصه في العبودية ولا يوصف شرح أخلاقه بالكلية . يروى أن يهودياً من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته وقال : أخبرني عن أخلاق رسولكم . فقال عمر : اطلب من بلال فهو أعلم به مني . ثم إن بلالاً دل على فاطمة عليها السلام وهي دلته على علي رضي الله عنه . فلما سأل علياً رضي الله عنه قال : صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه . فقال اليهودي : هذا لا يتيسر لي فقال علي رضي الله عنه : عجزت عن وصف الدنيا وقد حكم الله بقلته حيث قال { قل متاع الدنيا قليل } [ النساء : 77 ] فكيف أصف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وقد شهد الله بأنه عظيم في قوله { وإنك لعلى خلق عظيم } [ القلم : 4 ] والحاصل أنه سبحانه كأنه قال : ما أجهل من ينهى أشد الخلق عبودية عن الصلاة ، والنهي عن الصلاة مذموم عند العقلاء .

« يروى أن علياً رضي الله عنه رأى في المصلى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقيل له : ألا تنهاهم؟ فقال : أخشى أن أدخل تحت قوله { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } » فلم يصرح بالنهي . وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حين قاله له أبو يوسف : أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع : اللهم اغفر لي؟ فقال : يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي عن الدعاء . ويحتمل أن يراد بالتنكير الوحدة كأنه قيل : أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي وهو عبد واحد لا أجد ساجداً غيره ولي من الملائكة المقربين ما لا يحصيه إلا الله . وفيه تفخيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان من شهرته بالعبودية لا يحتاج إلى سبق الذكر كقوله { أسرى بعبده } [ الإسراء : 1 ] { أنزل على عبده } [ الفرقان } وعن الحسن أن الناهي أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة . وأما الخطاب في قوله { أرأيت إن كان على الهدى } فالأكثرون على أنه للنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ليكون على نسق واحد . وقال في الكشاف : معناه أخبرني أن ذلك الناهي إن كان على طريق سديد فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى . أو كان آمراً بالتقى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد . أو كان على سيرة التكذيب والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن { ألم يعلم بأن الله يرى } ويطلع على أحواله من هداه أو ضلاله فيجازيه على ذلك وهو وعيد . فقوله { الذي ينهى } مفعول أول ل { أرأيت } الأول و { أرأيت } الثاني مكرر للتأكيد ولطول الكلام ، وقوله { إن كان على الهدى } مع ما عطف عليه مفعول ثانٍ له ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب الشرط الثاني وهو قوله { ألم يعلم } ويجوز أن يكون { أرأيت } الثالث أيضاً مكرراً والجواب بالحقيقة هو ما تدل عليه هذه الجملة الاستفهامية كأنه قيل : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أو كذب وتولى فإن الله مجازيه . وقيل : إن جواب الشرط الأول شيء آخر يدل عليه سياق الكلام والمراد : أرأيت إن صار هذا الكافر على حالة الهدى أو أمر بالتقوى بدل النهي عن عبادة الله ، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة . ففيه تعجيب من حاله أنه كيف فوت على نفسه مراتب الكمال والإكمال واختار بدلها طريقي الضلال والإضلال . وقيل : الخطاب في { أرأيت } الثاني للكافر كأن الظالم والمظلوم عبدان قاما بين يدي مولاهما أو هما اللذان حضرا عند الحاكم أحدهما المدعي والآخر المبدعى عليه ، فيخاطب هذا مرة وهذا مرة ، فلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } التفت إلى الكافر وقال : أرأيت يا كافر إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الدين أمراً بالتقوى أتنهاه مع ذلك؟ ثم إن كان الخطاب في { أرأيت } الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى : أرأيت يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وتولى عن خدمة خالقه ألم يعلم بعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة حتى يصير زاجراً عنها؟ وإن كان الخطاب للكافر فالمراد إن كان محمد كاذباً أو متوالياً ألا يعلم أن خالقه يراه حتى ينتهي فلا يحتاج إلى نهيك؟ قالت العلماء : هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل إلا أن كل من ينهى عن طاعة الله فهو شريك في وعيد أبي جهل ولا يرد عليه المنع عن الصلاة في الدار المغصوبة وفي الأوقات المكروهة ومنع المولى عبده عن قيام الليل وصلاة التطوع وزوجته عن الاعتكاف ، لأن ذلك لاستيفاء مصالح أخرى بإذن الله وحده ، ثم ردع أبا جهل عن نهيه أو عن عدم علمه بإحاطة الله بجميع الكائنات أو عن عزمه على أن يقتل محمداً أو يطأ رقبته ، فإن تلميذ محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يقتله ويطأ صدره ، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة ومنه سفع النار للفحها كأنها تأخذ من الجسد بياضه وطراوته .

وقد كتب { لنسفعا } في المصحف بالألف على حكم الوقف لأن النون الخفيفة المؤكدة يوقف عليه بالألف ، واللام في قوله { بالناصية } للعهد والمراد لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ثم إن هذا السفع إما أن يكون إلى نار الآخرة وهو ظاهر ، وإما أن يكون في الدنيا كما روي أنه عاد إلى النهي فمكن الله المسلمين يوم بدر حتى جروه بالناصية . يحكى أنه لما نزلت سورة الرحمن قال النبي صلى الله عليه وسلم : من يقرأوها على رؤساء قريش؟ فتثاقل القوم مخافة أذيتهم فقام ابن مسعود فقال : أنا . فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يعلم من صعفه ثم قال : من يقرأوها عليهم؟ فلم يقم إلا ابن مسعود فأجلسه ثم قال في الثالثة كذلك فلم يقم إلا هو فأذن له ، فحين دخل عليهم وكانوا مجتمعين حول الكعبة قرأ السورة فقام أبو جهل فلطمه فانشق أذنه فأدماه فانصرف وعينه تدمع ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً فإذا جبرائيل جاء ضاحكاً مستبشراً فقال : يا جبرائيل تضحك وابن مسعود يبكي ، فقال : ستعلم فلما كان يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم : خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين . فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه .

ولعل هذا معنى قوله { سنسمه على الخرطوم } [ القلم : 15 ] ثم لما عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة ، فلما رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً . فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه . ثم قال أبو جهل : بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حال حياتي ولا أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي فروي أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك قال : فرعوني أشد من فرعون موسى عليه السلام فإنه قال « آمنت » وهوقد زاد عتواً . ثم قال لابن مسعود : اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع . فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله . قال أهل العلم : ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفاً لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه منها : أنه كلب والكلب يجر . والثاني ليشق أذنه فتقتص الأذن بالأذن . والثالث تحقق الوعد المذكور في قوله { لنسفعا } فإن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبرائيل عليه السلام بين يديه يضحك ويقول : يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع لأذن . والناصية شعر الجبهة ، وقد يسمى مكان الشعر ناصية ، وقد كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية قالوا : السبب فيه أن أبا جهل كان مهتماً بترجيل الناصية وتطييبها فلقاه الله نقيض المقصود حين أعرض عن حكم المعبود . ثم وصف الناصية بأنها { ناصية كاذبة خاطئة } كذب صاحبها وخطأه حين سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصادق ساحراً كذاباً ، أو حين زعم أنه أكثر أهل الوادي نادياً ، والخاطىء أفظع من المخطىء ولهذا قال { لا يأكله إلا الخاطئون } [ الحاقة : 37 ] فالخاطىء معاقب مأخوذ والمخطئ لا يكون مأخوذاً ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . وقوله { ناصية } بدل الكل من الأول ، ووجه حسنها كونها موصوفة كما علم من قواعد النحو . يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات قال : يا محمد بمن تهددني وإني أكثر هذا الوادي نادياً أي أهل مجلس ، لأملأن عليك هذا الوادي خيلاً جرداً ورجالاً مرداً فزاد الله في تهديده قائلاً { فليدع ناديه سندع الزبانية } والزباني كل متمرد من جن وإنس ومثله « زبنية » بتخفيف الياء كعفريت وعفرية وأصله من الزبن الدفع ، ولعل كسر الزاي لتغيير النسب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : لو دعا نادية لأخذته الزبانية عياناً . قال مقاتل : هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤوسهم في السماء . قال قتادة : الزبانية الشرط بلغة العرب أي الحرس ، وقيل : هي جمع لا واحد له . ثم ردع أبا جهل عن قبائح أحواله وأفعاله بقوله { كلا } وشجع النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { لا تطعه } ثم قال { واسجد واقترب } أي دم على سجودك وتقرب به إلى ربك ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد » وقيل : صل وتوفر على عبادة الله فعلاً وإبلاغاً . وقيل : اسجد يا محمد واقترب يا أبا جهل وضع قدمك عليه فإن الرجل ساجد مشغول بنفسه وهذا تهكم به وتعريض بأن الله سبحانه وتعالى عاصم نبيه وحافظه والله أعلم .

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

القراآت { شهر تنزل } بتشديد التاء : البزي وابن فليح { مطلع } بكسر اللام : علي وخلف .
الوقوف { في ليلة القدر } ه ج للنفي والاستفهام والوصل أولى لاتصال المبالغة في التعظيم به { ما ليلة القدر } ه ط لأن ما بعدها مبتدأ { شهر } ه ط لأن ما بعده مستأنف { ربهم } ج لاحتمال تعلق { من كل } بقوله { تنزل } ولاحتمال تعلقه بقوله { سلام } أي هي من كل عقوبة سلام أو من كل واحد من الملائكة سلام من المؤمنين قاله ابن عباس : وعلى هذا يوقف على { أمر } ويوقف على { سلام } وقيل : لا يوقف على { سلام } أيضاً والتقدير : هي سلام من كل أمر حتى مطلع { الفجر } ه .
التفسير : الضمير في { أنا أنزلناه } للقرآن إما لأن القرآن كله في حكم سورة واحدة وإما لشهرته ومن نباهة شأنه كأنه مستغن عن التصريح بذكره ، وقد عظم القرآن في الآية من وجوه أخر هي إسناد إنزاله إلى نفسه دون غيره كجبرائيل مثلاً ، وصيغة الجمع الدالة على عظم رتبة المنزل ، إذ هو واحد في نفسه نقلاً وعقلاً والرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه وهو ليلة القدر . وههنا مسائل الأولى : كيف حكم بأنه أنزل في هذه الليلة مع أنه أنزل نجوماً في نيف وعشرين سنة؟ والجواب كما مر في البقرة في قوله { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ البقرة : 185 ] أي أنزل فيها من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها إلى الأرض نجوماً ، ووجه حسن المجاز أنه إذا أنزل إلى السماء الدنيا فقد شارف النزول إلى الأرض فيكون من فوائد التشويق كما قيل :
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الخيام من الخيام
وقال الشعبي : ابتدىء بإنزاله في هذه الليلة لأن المبعث كان في رمضان . وقيل : أراد إنا أنزلنا القرآن يعني هذه السورة في فضل ليلة القدر والقدر بمعنى التقدير . قال عطاء عن ابن عباس : إن الله تعالى قدر كل ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية نظيره قوله { فيما يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] في أحد الوجوه والمراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك الليلة فإن المقادير من الأزل إلى الأبد ثابتة في اللوح المحفوظ ، وهذا قول أكثر العلماء . ونقل عن الزهري أنه قال : ليلة القدر يعني ليلة الشرف والعظمة من قولهم « لفلان قدر عند فلان » أي منزلة وخطر ، ويؤيد هذا التأويل قوله { ليلة القدر خير من ألف شهر } ثم هذا الشرف ما أن يرجع إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعة صار ذا قدر وشرف . وإما أن يرجع إلى الفعل لأن الطاعة فيها أكثر ثواباً وقبولاً .

يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى نائماً فقال : يا علي نبهه ليتوضأ فأيقظه علي ثم قال : يا رسول الله إنك سابق إلى الخيرات فلم نبهته بنفسك؟ فقال : لأن رده على كفر ورده عليك ليس بكفر ففعلت ذلك لتخف جنايته لورد . فإذا كان هذا رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم فقس عليه رحمة الله تعالى عليه وكأنه سبحانه يقول : إذا عرفت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر ، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر ، ورفع العقاب أولى من جلب الثواب ، فالإشفاق أن لا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئاً متعمداً . وأيضاً إذا اجتهد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة باهى الله تعالى ملائكته ويقول : كنتم تقولون فيهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فهذا جدهم في الأمر المظنون ، فكيف لو جعلتها معلومة لهم فهنالك يظهر سر قوله { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] الخامسة معنى كونها خيراً من ألف شهر أن العبادة فيها خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة ، وذلك لما فيها من الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق والمنافع الدينية والدنيوية . وقال مجاهد : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي ، فعل ذلك ألف شهر ، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من ذلك فأنزل الله تعالى السورة فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي ويؤيده ما روي عن مالك ابن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس فاستقصر أعمار أمته وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم ، فأعطاه الله ليلة هي خير من ألف شهر لسائر الأمم . وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يستحق اسم العابد حتى يعبد الله ألف شهر . وذكر القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن قال : قلت للحسن بن علي رضي الله عنه : يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعته . يعني معاوية فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري في منامه بني أمية يطؤن منبره واحداً بعد واحد وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة ، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى { إنا أنزلناه } إلى قوله { خير من ألف شهر } يعني ملك بني أمية . قال القاسم : فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص ، وزيف بأن أيامهم كانت مذمومة فكيف تذكر في مقام التعظيم؟ وأجيب بأنها كانت أياماً عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يمتنع أن يقول الله تعالى أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك الأيام في بابها .

وعن كعب : إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي ، فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله ، ومقام جبرائيل في وسطها ليس فيها ملك إلا وقد أعطي الرأفة والرحمة للمؤمنين ، ينزلون مع جبرائيل ليلة القدر فلا يبقى بقعة في الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، وجبرائيل لا يدع أحداً من الناس إلا صافحهم ، وعلامة ذلك أن يقشعر جلده وبرق قلبه وتدمع عيناه ، من قال فيها لا إله إلا الله ثلاث مرات غفر له بواحدة ونجاه من النار بواحد وأدخله الجنة بواحدة ، وأول من يصعد جبرائيل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من يوم تلك الليلة ثم يدعو ملكاً ملكاً فيصعد الكل فيجتمع نور الملائكة ونور جناح جبرائيل فيقيم جبرائيل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشتغلين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين ، ولمن صام رمضان احتساباً ، فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة حتى يقولوا : ما فعل فلان كيف وجدتموه؟ فيقولون : وجدناه عام أول مبتدعاً وفي هذا العام متعبداً وفي بعضهم بالعكس ، فيدعون للأول دون الآخر . ووجدنا فلاناً تالياً وفلاناً راكعاً وفلاناً ساجداً ، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا إلى السماء الثانية ، وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة المنتهى ، فتقول لهم السدرة : يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقاً وإني أحب من أحب الله . وتقول الجنة : عجلهم اللهم إليّ ، والملائكة وأهل السدرة يقولون : آمين . وإنما نزول الملائكة على فضيلة هذه الليلة لأن الجماعة كلما كانت أكثر كان نزول الرحمة أوفر والطاعة في حضور الملائكة الذين هم العلماء بالله والعباد له تكون أدخل في الإخلاص وأجلب لأسباب القبول . أما الروح فالأظهر أنه جبرائيل ، خص بالذكر لزيادة شرفه . وقيل : ملك يقوم صفاً والملائكة كلهم صفاً ، وقيل : طائفة من الملائكة لا يراهم غيرهم إلا في هذه الليلة . وقيل : خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ولعلهم خدم أهل الجنة . وقيل : عيسى عليه السلام ينزل في جماعة من الملائكة ليطالع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : القرآن { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] وقيل : الرحمة . وقيل : هم كرام الكتابين . يروى أنهم يطالعون اللوح فيرون فيه طاعة المكلفين مفصلة فإذا وصلوا إلى معاصيهم أرخى الستر فلا يرونها فحينئذ يقولون : سبحان من أظهر الجميل وستر القبيح ، ويشتاقون إلى لقائهم فينزلون لذلك . ومن فوائد نزولهم أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروها في سكان السموات ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى الله من زجل المسبحين فيقولون : تعالوا نسمع صوتاً هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا .

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

القراآت { البريئة } بالهمزة نافع وابن ذكوان .
الوقوف : { البينة } لا { مطهرة } ه ك { قيمة } ه ك { البينة } ه ط { القيمة } ه ط { فيها } ط { البرية } ه ط { الصالحات } ه لا { البرية } ه ط { أبداً } ط { عنه } ط { ربه } ه
التفسير : استصعب بعض العلماء ومنهم الواحدي حل هذه الآية لأنه تعالى لم يبين أنهم منفكون عن أي شيء إلا أن الظاهر أنه يريد أنفاكهم عن كفرهم ، ثم إنه فسر البينة بالرسول صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن « حتى » لانتهاء الغاية ، فالآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول وهذا ينافي قوله { وما تفرق } الآية . والجواب على ما قال صاحب الكشاف ، أن هذه حكاية كلام الكفار ، وتقديره أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم : لا ننفك عما نحن فيه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي صلى الله عليه وسلم الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه . ثم قال { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والإنفاق على الحق إذا جاءهم الرسول . ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر ، إلا مجيء الرسول ونظيره من كلام البشر أن يقول الفاسق لمن يعظه : لست بممتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى ، فلما رزقه الغنى ازداد فسقاً ، فيقول واعظه : لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً لأن الذي وقع كان خلاف ما ادعى . وقيل : إن « حتى » للمبالغة فيؤل المعنى إلى قولك مثلاً لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة . وقال قوم : إنا لا نحمل قوله { منفكين } على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل ، ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم تفرقوا وقال كل واحد فيه قولاً آخر رديئاً ، فتكون الآية كقوله { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] ولا يبعد في هذا الوجه أن يكون بعضهم قد قال في محمد قولاً حسناً وآمن به لأن التفرق يحصل بأن لا يكون الجميع باقين على حالهم الأولى ، فإذا صار بعضهم مؤمناً وبعضهم كافراً على اختلاف طرق الكفر حصل التفرقة . ولا يبعد أيضاً أن يراد أنهم لم يكونوا منفكين عن اتفاق كلمتهم على كفرهم حتى جاءهم الرسول فحينئذ تفرقوا ، وما بقوا على ذلك الائتلاف واضطربت أقوالهم .

قدم في الوعيد أهل الكتاب على المشركين ، والسر فيه بعد ما مر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدم حق الله على حق نفسه ولهذا حين كسروا رباعيته قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون ، وحيث فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال : ملأ الله بطونهم وقبورهم ناراً فقال الله تعالى : كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضاً أقدم حقك على حقي ، فمن ترك الصلاة طول عمره لم يكفر ، ومن طعن فيك بوجه يكفر . ثم إن أهل اكتاب طعنوا فيك فقدمتهم في الوعيد على المشركين الذين طعنوا فيّ ، وأيضاً المشركون رأوه صغيراً يتيماً فيما بينهم . ثم إنه بعد النبوة سفه أحلامهم وكسر أوثانهم وهذا أمر شاق يوجب العداوة الشديدة عند أهل الظاهر . وأما أهل الكتاب فقد كانوا مقرين بنبي آخر الزمان وكان النبي صلى الله عليه وسلم مثبتاً لنبيهم وكتابهم فلم يوجب لهم ذلك عداوة شديدة ، فطعنهم في محمد صلى الله عليه وسلم طعن في غير موقعه فاستحقوا التقديم في الوعيد لذلك وكانوا شر البرية ، وهذه جملة يطول تفصيلها شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا على سفلتهم طريق الحق ، وشر من الجهال لأن العناد أقبح أنواع الكفر ، وفيه دلائل على أن وعيد علماء السوء أفظع . قوله في هذه الآية { خالدين فيها } وفي آية الوعد { خالدين فيها أبداً } إشارة إلى كمال كرمه وسعة رحمته كما قال « سبقت رحمتي غضبي » قال العلماء : هذه الآية مخصوصة في صورتين إحداهما أن من تاب منهم وأسلم خرج من الوعيد ، والثانية أن من مضى من الكفرة ويجوز أن لا يدخل فيها لأن فرعون كان شراً منهم . قوله { وعملوا الصالحات } مقابلة الجمع بالجمع فلا مكلف يأتي بجميع الصالحات بل لكل مكلف حظ . فحظ الغني الإعطاء وحظ الفقير الأخذ . احتج بعضهم بقوله { أولئك هم خير البرية } على تفضيل البشر على الملك قالوا : روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : « أتعجبون من منزلة الملائكة من الله والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك وقرأ هذه الآية » أجاب المنكرون بأن الملك أيضاً داخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أو المراد بالبرية بنو آدم لأن اشتقاقها من البرإ وهو التراب لا من برأ الله الخلق ، وتمام البحث في المسألة قد سبق في أول البقرة . قوله { ذلك لمن خشي ربه } مع قوله { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] ظاهر في أن العلماء بالله هم خير البرية اللهم اجعلنا منهم والله أعلم .

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

وكان علي رضي الله عنه إذا فرغ بيت المال صلى فيه ركعتين ويقول : إشهدي أني ملأتك بحق وفرغتك بحق . وقيل : لفظ التحديث يفيد الاستئناس ، فعل الأرض تبث شكواها إلى أولياء الله وملائكته ، وقالت المعتزلة : إن الله تعالى يخلق في الأرض وهي جماد أصواتاً مقطعة مخصوصة فيكون المتكلم والشاهد على أن التقدير هو الله . قوله { يصدر } الصدر ضد الورود فالوارد الجائي والصادر المنصرف ، { أشتاتاً } أي متفرقين جمع شت أو شتيت أي يذهبون من مخارج قبورهم إلى الموقف . فبعضهم إثر بعض راكبين مع الثياب الحسنة وبياض الوجه وينادي مناد بين يديه هذا ولي الله ، وبعضهم مشاة عراة حفاة سود الوجوه مقيدين بالسلاسل والأغلال والمنادي ينادي هذا عدو الله . وقيل : أشتاتاً أي كل فريق مع شكله اليهودي مع اليهودي ، والنصراني مع النصراني وقيل : من كل قطر من أقطار الأرض ليروا صحائف أعمالهم أو جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار وما يناسب كلاً منهما . والذرة أصغر النمل أو هي الهباءة ، وعن ابن عباس إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق بها من التراب مثقال ذرة ، فليس من عبد عمل خيراً أو شراً ، قليلاً كان أو كثيراً إلا أراه الله تعالى إياه . قال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل { ويطعمون الطعام على حبه } [ الدهر : 8 ] كان أحدهما يأتيه السائل فيسأم أن يعطيه الثمرة والكسرة والجوزة ويقول : ما هذا بشيء وإنما يؤجر على ما نعطي وكان أحدهما يتهاون بالذنب الصغير ويقول : لا شيء علي من هذا فرغب الله تعالى في القليل من الخير لأنه يوشك أن يكثر ، وحذر من الذنب اليسير فإنه يوشك أن يعظم ، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم « اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة » والتحقيق أن المقصود النية فإن كان العمل قليلاً والنية خالصة حصل المطلوب ، وإن كان العمل كثيراً والنية فاسدة فالمقصود فائت ، ولهذا قال كعب الأحبار : لا تحقروا شيئاً من المعروف فإن رجلاً دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله ، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة . وعن عائشة أنه كان بين يديها عنب قدمته إلى نسوة بحضرتها فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك ، فضحك بعض من كان عندها فقالت : إن فيما ترون مثاقيل وتلت هذه الآية . قال جار الله : إن حسنات الكافر محبطة بالكفر وسيئات المؤمن مكفرة باجتناب الكبائر ، فما معنى الجزاء لمثاقيل الذر من الخير والشر؟ وأجاب على مذهبه بأن المعنى فمن يعمل من فريق السعداء مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل من فريق الأشقياء مثقال ذرة شراً .

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

القراآت { والعاديات ضبحاً } بالإدغام : أبو عمر وغير عباس { فالمغيرات صبحاً } أبو عمرو غير عباس وخلاد عن حمزة .
الوقوف : { ضبحا } ه لا { قدحا } ه لا { صبحا } ه لا { نقعاً } ه لا { جمعاً } ه لا { لكنود } ه ج لأن ما بعده يصلح عطفاً واستئنافاً { لشهيد } ه لذلك { لشديد } ه ط { القبور } لا { الصدور } ه لا { لخبير } ه .
التفسير : إنه سبحانه ذكر في هذه السورة رداءة ما عليه جبلة الإنسان من قلة الشكر والصبر والحرص على المال بحيث يكاد يشغله عن تحصيل الكمال الحقيقي ، وعن المعاد الذي إليه مآل حال العباد ، فأقسم على ذلك بالأمور والتي هي مركوزة في خزانة خيالهم ولا تكاد تخلو في الأغلب عن الخطور ببالهم . وفي تفسيرها قولان مرويان : الأول أن العاديات هي الإبل . يروى عن ابن عباس أنه قال : بينا أنا جالس في الحجر إذ جاء رجل فسألني عن { العاديات ضبحاً } ففسرتها بالخيل فذهب إلى علي رضي الله عنه وهو بجنب سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت فقال : ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك به والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام يعني بدراً وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد . { والعاديات ضبحاً } الإبل تعدو من عرفة إلى مزدلفة ومن المزدلفة إلى منى ، والضبح على هذا مستعار لأن أصل استعماله في الخيل وهو صوت أنفاسها إذا عدون وهذا الصوت غير الصهيل وغير الحمحمة ، وانتصابه على « يضبحن ضبحاً » أو بالعاديات لأن العدو لا يخلو عن الضبح ، أو على الحال . وهكذا القول في { الموريات قدحاً } لأن الإبل قلما توري أخفافها . يقال : قدح فاورى وقدح فأصلد { فالمغيرات } أي المسرعات يندفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى منى { فأثرن } من الإثارة أي هيجن وهو حكاية الماضي أو هو نحو { ونادى } [ الأعراف : 48 ] { وسيق } [ الزمر : 72 ] { به } أو بالعدو أو بذلك الوقت { نقعاً } غباراً { فوسطن } أي توسطن { به } بذلك الوقت أو بالعدو أو متلبسة بالنقع { جمعاً } وهو المزدلفة لاجتماع الحاج بها . القول الثاني عن مجاهد وقتادة والضحاك وأكثر المحققين أن العاديات الخيل ، ويروى ذلك مرفوعاً . قال الكلبي : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى ناس من كنانة فمكثت ما شاء الله أن تمكث لا يأتيه منهم خبر ، فتخوف عليها فنزل جبرائيل بخبر مسيرها . وعلى هذا فاللام في { العاديات } للعهد . ويحتمل أن يكون للجنس ويدخل خيل السرية فيها دخولاً أولياً . وقوله { فالمغيرات } على هذا يكون من أغار على العدو إذا شن عليهم الغارة والجمع جماعة الغزاة أو الكفرة . وقيل : الإيراء عبارة عن شبيب نيران الحرب وإيقادها كقوله { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله }

وقيل : معناه جمع ما في الصدور في الصحف أي أظهر محصلاً مجموعاً . وقيل : يكشف ما في البواطن من الأخبار وما في الأستار من الأسرار ويندرج فيه أعمال الجوارح تبعاً . وإنما لم يقل ما في القلوب لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة اله تعالى إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومحلها ما يقرب من الصدر ، وإنما جمع الضمير في قوله { إن ربهم بهم } حملاً على معنى الإنسان . ومعنى تقييد العلم بذلك الزمان حيث قال { يومئذ } وهو عالم بأحوالهم أزلاً وأبداً التوبيخ وكأنه تعالى قال : إن من لم يكن عالماً في الأزل فإنه يصير بعد الاختبار عالماً ، فالذي هو عالم في الأزل كيف لا يكون خبيراً بهم في الأبد؟ ويجوز أن يكون سبب التقييد هو أن ذلك وقت المجازاة على حسب العلم بالأعمال والأقوال والأحوال وإليه المصير والمآب .

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

القراآت : { لترون } بضم التاء من الإراءة مجهولاً : ابن عامر وعلي .
الوقوف { التكاثر } ه لا { المقابر } ه ك لأن { كلاً } بمعنى حقاً وقد يحمل على الردع عن التكاثر { سوف تعلمون } ه لا { سوف تعلمون } ه { اليقين } ه ط لأن جواب « لو » محذوف وقوله { لترون } جواب قسم { الجحيم } ه لا { اليقين } ه { النعيم } ه .
التفسير : لما ذكر القارعة وأهوالها قال { ألهاكم } أي شغلكم التكاثر وهو المغالبة بالكثرة أو تكلف الافتخار بها مالاً وجاهاً عن التدبر في أمر المعاد فنسيتم القبر حتى زرتموه . ويروى أن بني عبد منافٍ وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عدداً فكثرهم أي غلبهم بالكثرة بنو عبد منافق فقالت بنوسهم : إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات أي عدوا مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم ففعلوا فزاد بنوسهم فنزلت الآية . وهذه الرواية شديدة الطباق لظاهر الآية لقوله { زرتم } بصيغة الماضي وفيه تعجب من حالهم أنهم زاروا القبور في معرض المفاخرة والإستغراق في حب ما لا طائل تحته من التباهي بالكثرة والتباري فيها ، مع أن زيارة القبور مظنة ترقيق القلب وإزالة القساوة كما قال صلى الله عليه وسلم « كنت نهيتكم عن زياة القبور ثم بدا لي فزوروها فإن في زيارتها تذكرة » من هنا قال بعضهم : أراد الحرص على المال قد شغلكم عن الدين فلا تلتفتون إليه إلا إذا زرتم المقابر فحينئذ ترق قلوبكم يعني أن حظكم من دينكم ليس إلا هذا القدر ونظيره قوله { قليلاً ما تشكرون } [ الملك : 23 ] أي لا أقنع منكم بهذا القدر من الشكر . وقيل : معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت وأنتم على ذلك ، ويندرج فيه من يمنع الحقوق المالية إلى حين الموت ثم يقول : أوصيت لفلان بكذا ولفلان بكذا ، واستدلوا عليهم بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يا ابن آدم تقول مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت » ثم قرأ { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } أي حتى متم . وأورد عليه أن الزائر هو الذي يجيء ساعة ثم ينصرف . والميت يبقى في قبره مدة مديدة . وأيضاً إن قوله { زرتم } صيغة الماضي فكيف يحمل على المستقبل؟ ويمكن أن يجاب عن الأول بأن مدة اللبث في القبر بالنسبة إلى الأبد أقل من لحظة كما قال { كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } [ الكهف : 19 ] وعن الثاني بأن المشرف على الموت كأنه على شفير القبر أو هو خبر عمن تقدمهم والخبر عنهم كالخبر عن متأخريهم لأنهم كانوا على طريقتهم .

أما تكرار رؤية الجحيم فقيل : إن الأول رؤيتها من بعيد كما قال { إذا رأتهم من مكان بعيد } [ الفرقان : 12 ] والثاني رؤيتها من قريب إذا وصلوا إلى شفيرها . وقيل : الأولى عند الورود ، والثاني بعد الدخول ، وأورد قوله { ثم لتسئلن } فيها فإن السؤال قبل الدخول . وقيل : التثنية للتكرير والمراد تتابع الرؤية وإتصالها فكأنه قيل لهم : إن كنتم اليوم شاكين فيها فسترونها رؤية دائمة متصلة ، فيجوز أن يكون قوله { علم اليقين } متعلقاً بالرؤيتين جميعاً ، ويجوز أن يكون متعلقاً بالثانية لأن علمهم بها وبأحوالها وآلامها يزداد شيئاً فشيئاً حتى يصير الخبر عيناً . ومعنى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قد مر في آخر « الواقعة » وفي السؤال عن النعيم وجهان : الأول أنه للكفار لما « روي أن أبا بكر لما نزلت الآية قال : يا رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب ، أتكون من النعيم الذي يسأل عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إنما ذلك للكفار ثم قرأ { وهل نجازي إلا الكفور } [ سبأ : 17 ] » ولأن الخطاب في أول السورة للذين ألهاهم التكاثر عن الماد فناسب أن يكون الخطاب في آخر السورة أيضاً لهم . ويكون الغرض من السؤال التقريع حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سبباً للسعادة هو أعظم أسباب الشقاء لهم . الثاني العموم لوجوه منها خير أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « أول ما يسأل عن العبد يوم القيامة النعيم فيقال له ألم نصحح لك جسمك ألم نروك من الماء البارد » ومنها قول محمود بن لبيد : لمَّا نزلت السورة قالوا : يا رسول الله إنما هو إنما هو الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر فعن أي نعيم يسأل؟ فقال : أما إنه سيكون وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال : هل علي من النعمة شيء؟ قال : الظل والنعلان والماء البارد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به » وعن الباقر رضي الله عنه أن النعيم العافية . وعنه أن الله أكرم من أن يطعم عبداً ويسقيه ثم يسأله عنه ، وإنَّما النعيم الذي عنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أما سمعت قوله تعالى { لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً } [ آل عمران : 164 ] وقيل : هو الزائد على الكفاية . وقيل : خمس نعم : شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق ، وعن ابن مسعود : الأمن والصحة والفراغ ، وعن ابن عباس : ملاذ المأكول والمشروب . وقيل : الانتفاع بالحواس السليمة . وعن الحسين بن الفضل : تخفيف الشرائع وتيسير القرآن . وقال ابن عمر : الماء البارد . والظاهر العموم لأجل لام الجنس إلا أن سؤال الكافر للتوبيخ لأنه عصة وكفر ، وسؤال المؤمن للتشريف فإنه أطاع وشكر . والظاهر أن هذا السؤال في الموقف وهو متقدم على مشاهدة جهنم . ومعنى « ثم » الترتيب في الإخبار أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة عن النعيم . وقيل : هو في النار توبيخاً لهم كقوله { كلما ألقي فيها فوج سألتهم خزنتها ألم يأتكم نذير } [ الملك : 8 ] وقوله { ما سلككم } [ المدثر : 42 ] ونحوه .

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

والأكثرون على أن اللام للجنس ، ثم إن كان المراد بالخسر أي الخسران كالكفر والكفران هو الهلاك كان المراد جنس الإنسان على الإطلاق ، وإن كان المعنى بالخسر الضلال والكفر كان المراد جنس الكافر هكذا قال بعضهم ، ولقائل أن يمنع لفرق ، ولا يخفى ما في « إن » ولام التأكيد وكلمة « في » وتنكير خسر من المبالغات فكأنه أثبت له جهات الخسر كلها والأعظم حرمانه عن جناب ربه . قال بعضهم : إن الإنسان لا ينفك من خسر لأن عمره رأس ماله ، فإفناء العمر فيما يمكن أن يكون خيراً منه عبارة عن الخسران . ووجهه أنه إن أفنى عمره في المعصية فخسره وحسرته ظاهران ، وإن كان مشغولاً بالمباحات فكذلك لأنه يمكنه أن يعمل فيه عملاً يبقى أثره ولذته دائماً ، وإن كان مشغولاً بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها على وجه أحسن لأن مراتب الخضوع والعبادة غير متناهية كما أن جلال الله وجماله ليس لهما نهاية . والتحقيق فيه أن الإنسان لا يكلف إلا ما هو وسعه وطوقه لا بالنسبة إلى نوعه بل بالنسبة إلى شخصه ، فإذا اجتنب المعاصي بقدر الإمكان واستعمل المباح بمقدار الضرورة والحاجة وأتى بالطاعة على حسب إمكانه لم يسم خاسراً ولكنه يكون أكمل الأشخاص البشرية فلهذا استثناه الله تعالى بقوله { إلا الذين آمنوا } إلى آخره . وعن بعضهم أنه قال في « التين » { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 4 ] فابتدأ من الكمال النقصان وقال ههنا { لفي خسر إلا الذين آمنوا } فعكس القضية لأن ذلك مذكور في أحوال البدن وهذا مذكور في أحوال النفس . قلت : يمكن أن يقال : إن كلتا الآيتين في شأن النفس إلا أنه أراد في « التين » ذكراستعداده الفطري وهو كرأس المال ، وههنا أراد حكاية معاملته بعدما أعطى رأس المال . ولا ريب أن أكثرهم منهمكون في طلب اللذات العاجلة المضيعة للاستعداد الأصلي إلا الموفقين الموصوفين بالكمال والإكمال ، وفي إجمال الخسر وتسريحه إلى بقعة الإبهام ، ثم في تفصيل الربح بأنه منوط بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق وبالصبر دليل على غاية الستر والكرم وأن رحمته سبقت غضبه ، وفي لفظ التواصي دون الدعاء أو النصيحة تأكيد بليغ كأنه أمر مهتم به كالوصية ، وفيه أنهم من الذين ماتوا بالإرادة عن الشهوات الفانية فيكون أمرهم ونصيحتهم بمنزلة قول من أشرف على الوفاة ، والحق خلاف الباطل ، ويشتمل جميع الخيرات وما يحق فعله . وقوله { والصبر } يشتمل على جميع المناهي فهم بالحقيقة آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ، وفي لفظ المضي إشارة إلى تحقيق وقوعه منهم والله أعلم وبالله التوفيق .

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

وقيل : أحب المال حباً شديداً حتى اعتقد أنه إن انتقص مالي أموت فلذلك يحفظه عن النقصان ليبقى حياً وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل { كلاً } ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن هو أن المال مخلد بل المخلد هو العلم والعمل كما قال علي رضي الله عنه : مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر . عن الحسن أنه عاد موسراً فقال : ما تقول في ألفو لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال : ولكن لماذا قال لنبوة الزمان وجفوة السلطان ونوائب الدهر ومخافة الفقر؟ قال : إذاً تدعه لمن لا يحمدك وترد على من لا يعذرك . قوله { لينبذن } جواب قسم محذوف أو جواب حقاً لأنه في معنى القسم . والنبذ الطرح وفيه إشعار بإهانته . وفي قوله { في الحطمة } وهي النار التي من شأنها أن تحطم أي تكسر كل ما يلقى فيها إشارة إلى غاية تعذيبه . ويقال للرجل الأكول إنه لحطمة ووزنها « فعلة » كهمزة ولمزة فكأنه قيل له : كنت همزة لمزة فقا بلناك بالحطمة . وأيضاً في الحطم معنى الكسر والهماز اللماز يكسر الناس بالاغتياب والعيب أو يأكل لحمهم كما يأكل الرجل الأكول . ثم كأن قائلاً سأل كيف قوبل الوصفان بوصف واحد؟ فقيل : إنك لا تعرف ذلك الواحد وما أدراك ما هذه الحطمة { نار الله } هي إضافة تعظيم كبيت الله { الموقدة التي تطلع على الأفئدة } أي تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على جنانها وخباياها . ولا شيء في الإنسان ألطف منه ولا أشد تألماً . ويجوز أن يكون في تخصيص الأفئدة إشارة إلى زيادة تعذيب للقلب لأنه محل الكفر والعقائد الفاسدة . وعند أهل التأويل : إذا كانت النار أمراً معنوياً فلا ريب أنه لا يتألم بها إلا الفؤاد الذي هو محل الإدراكات والعقائد . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن النار تأكل أهلها حتى إذا طلعت على أفئدتهم أي تعلوها وتغلبها انتهت ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى » والمؤصدة المطبقة الأبواب اصدت الباب وأوصدته لغتان . يوصد عليهم الأبواب ويمدد على الأبواب العمد استيثاقاً في استيثاق . وجوز أن يراد أن أبواب النار عليهم مؤصدة حال كونهم مؤثقين في عمد مقطرة ، والمقطرة خشبة فيها خروق يدخل فيها أرجل المحبوسين اللهم أجرنا منها . قال المبرد : والعمد بفتحتين جمع عمود على غير واحده وأما الجمع على واحده فالعمد بضمتين مثل زبور وزبر ورسول ورسل . قال الفراء : العماد والعمد كالإهاب والأهب فالتأنيث لأنه اسم جمع أو بتأويل الأسطوانة .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

{ وهو شديد المحال } [ الرعد : 13 ] ثم قال :
إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك
وقال أيضاً :
يا رب فامنع منهم حماكا ... يا رب لا أرجو لهم سواكا
فالتفت فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال : والله إنها لطير غريبة ما هي بنجدية ولا تهامية ، فأهلكتهم كما ذكرنا . ثم إن أهل مكة قد احتووا على أموالهم وجمع عبد المطلب منها ما صار سبب يساره . وسئل أبو سعيد الخدري عن الطير فقال : حمام مكة منها . وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم هلكى . وعن عكرمة : من أصابته أصابه جدري وهو أول جدري ظهر في الأرض . ولنرجع إلى تفسير الألفاظ . وإنما لم يقل « ألم تعلم » إما لأن الخطاب لكل راء ، أو لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم علماً كالمشاهد المرئي لتواتره ولقرب عهده به . قال النحويون : قوله { كيف } مفعول فعل لأن الاستفهام يقتضي صدر الكلام فيقدم على فعله بالضرورة . ثم إن قوله { ألم تر } وقع على مجموع تلك الجملة . وقال في الكشاف { كيف } في موضع نصب ب { فعل ربك } لا { بألم تر } لما في { كيف } من معنى الاستفهام . قلت : أما قول صاحب الكشاف في غاية الإجمال لأن المنصوبات بالفعل أنواع شتى . وأما قول غيره فقريب من الإجمال لأن المفاعيل خمسة ، والقول المبين فيه أنه مفعول مطلق والمعنى فعل أي فعل يعني فعلاً ذا عبرة لأولي الأبصار . وتقدير الكلام : ألم تر ربك أو إلى ربك كيف فعل بأصحاب الفيل فعلاً كاملاً في باب الاعتبار لأنه خلق الطيور وجعل طبع الفيل على خلاف ما كان عليه ، واستجاب دعاء أهل الشرك تعظيماً لبيته ، وإن أريد بالفعل المفعول لم يبعد أن يكون مفعولاً به كقولك « يفعل ما يشاء » . وفي قوله { ربك } إشارة إلى أني ربيتك وحفظت البيت لشرف قومك وهم كفرة فكيف أترك تربيتك بعد ظهورك وإسلام أكثر قومك؟ وفي القصة إشارة إلى أني حفظت البيت وهو موضع العلم للعالم أفلا أحفظ العالم وهو من المسجد كالدر من الصدف؟ فمن أراد تخريب البيت وهدمه وكسره دمرته فالذي همزه ولمزه في العالم وهو المقصود من البيت أفلا أدمره؟ وههنا تظهر المناسبة بين هذه السورة والسورة المتقدمة وهذه القصة تجري مجرى مثال آخر لخسران الإنسان . قال بعضهم : إنما قال { أصحاب الفيل } ولم يقل أرباب الفيل أو ملاك الفيل لأن الصاحب يكون من جنس القوم فكأنه أشار إلى أنهم من جنس البهائم بل هم أضل لأن الفيل كان لا يقصد البيت ويقول بلسان الحال : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأنهم لم يفهموا رمزه سؤال ، أليس أن كفار مكة ملؤا البيت من الأوثان؟ ألم يكن أفحش من تخريب الجدران؟ ثم إنه تعالى لم يسلط عليهم الطير؟ الجواب قال بعضهم : وضع الأوثان في البيت إضاعة حق الله وتخريب الجدران تعدٍ على الخلق وإنه تعالى يقدم حق العباد على حق نفسه ولهذا أمر بقتل قاطع الطريق والقاتل وإن كانا مسلمين ، ولا يأمر بقتل الشيخ الكبير والأعمى وصاحب الصومعة والمرأة وإن كانوا كفاراً لأنهم لا يتعدى ضررهم إلى الخلق .

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

القراآت : { لإيلاف } بتخفيف الهمزة : يزيد { إلافِهِم } بطرح الياء : يزيد { لألاف } بطرح الياء { إيلافهم } بإثباتها : ابن عامر . الباقون : بإثبات الياء فيهما وحمزة يقف بتليين الهمزة { وإلفهم } بوزن العلم : ابن فليح { الشتاء } ممالة : قتيبة ونصير وهبيرة .
الوقف { قريش } ه لا { والصيف } ه لا لاحتمال تعلق اللام بما قبلها وبما بعدها كما يجيء { البيت } ه لا { من خوف } ه .
التفسير : في هذه اللام ثلاثة أقوال : الأول أنها لا تتعلق بظاهر وإنما هي لام العجب يقولون « لزيد وما صنعنا به » أي أعجبوا له عجب الله تعالى من عظيم حلمه وكرمه بهم فأنهم كل يوم يزدادون جهلاً وإنغماساً في عبادة الأوثان والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معاشهم ، وهذا القول اختيار الكسائي والأخفش والفراء . والثاني أنها متعلقة بما بعدها وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها . وفي الكلام معنى الشرط وفائدة الفاء وتقديم الجار أن نعم الله تعالى لا تحصى فكأنه قيل : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة ، والقول الثالث أنها متعلقة بالسورة المتقدمة أي جعلهم كعصف مأكول لأجل إيلاف قريش ، وهذا لا ينافي أن يكونوا قد أهلكوا لأجل كفرهم أيضاً . ويجوز أن يكون الإهلاك لأجل الإيلاف فقط ويكون جزاء الكفر مؤخراً إلى يوم القيامة ، ويجوز أن تكون هذه اللام لام العاقبة ، ويحتمل أن تتعلق اللام بقوله { فعل ربك } كأنَّه قال : كل ما فعلنا بهم من تضليل كيدهم وإرسال الطير عليهم حتى تلاشوا إنما كان لأجل إيلاف قريش . ولا يبعد أن تكون اللام بمعنى « إلى » أي فعلنا كل ما فعلنا مضمومة إلى نعمة أخرى وهي إيلافهم الرحلتين تقول : نعمة إلى نعمة ونعمة لنعمة . قال الفراء : ومما يؤيد هذا القول الثالث ما روي أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة بلا فصل . وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب من غير فصل بينهما بالبسملة . والمشهور المستفيض هو الفصل بينهما بالبسملة فإن لم تكن اللام متعلقة بما قبلها فلا إشكال ، وإن تعلقت بما قبلها من السورة فالوجه فيه أن القرآن كله بمنزلة كلام واحد والفصل بين طائفة وطائفة منه لا يوجب انقطاع إحدى الطائفتين عن الأخرى بالكلية . ثم إن هؤلاء قالوا : لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع ، وكان أشرف مكَّة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب ، وأن ملوك النواحي كانوا يعظمونهم ويقولون : هؤلاء جيران بيت الله وقطان حرمه فلا يجترىء أحد عليهم ، فلو تم لأهل الحبشة ما عزموا عليهم من هدم الكعبة لزال منهم هذا العز فصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون ويغار عليهم ولا يتيسر لهم تجارة ولا ربح ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحورهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب واحترمهم الملوك فضل احترام وازدادت تلك المنافع والمتاجر .

أما في رجب فللعمرة ، وأما في ذي الحجة فللحج ، وكانت إحداهما في الشتاء ، والأخرى في الصيف وموسم منافع مكة يكون بهما . فلو كان تم لأصحاب الفيل ما أرادوه لتعطلت هذه المنفعة والتقدير : رحلتي الشتاء والصيف أو رحلة الشتاء ورحلة الصيف فاقتصر لعدم الإلباس . وفي قوله { فليعبدوا } وجهان أحدهما : أن العبادة مأمور بها شكراً لما فعل بأعدائهم ولما حصل لهم من إيلافهم الذي صار سبباً لطعامهم وأمنهم كما مر . وقوله { من جوع } كقولهم « سقاه من العيمة » وهي من التعليلية أي الجوع صار سبباً للإطعام . وقوله { من خوف } هي للتعدية يقال « آمنه الله الخوف ومن الخوف » . الوجه الثاني : أن معناه فليتركوا رحلة الشتاء والصيف وليشتغلوا بعبادة رب هذا البيت فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف . ولعل في تخصيص لفظ الرب إشارة إلى ما قالوه لأبرهة « إن للبيت رباً سيحفظه » ولم يعولوا في ذلك على الأصنام فلزمهم لإقرارهم أن لا يعبدوا سواه كأنه يقول : لما عولتم في الحفظ عليّ فاصرفوا العبادة إليّ ، وفي الإطعام وجوه أحدها : ما مر . والثاني : قول مقاتل : شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن حملوا الطعام إلى مكة حتى خرجوا إليهم بالإبل والحمر واشتروا طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين ، وتتابع ذلك فكفاهم الله مؤنة الرحلتين . والثالث : قال الكلبي : معنى الآية أنهم لما كذبوا محمد صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف . فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا : يا محمد ادع الله فإنّا مؤمنون فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخصب أهل مكة فذلك قوله { أطعمهم من جوع } ووجه المنة بالإطعام مع أنه ليس من أصول النعم في الظاهر أنه سبب الفراغ للعبادة ، وفيه أن البهيمة تطيع من يعلفها ولا يليق بالإنسان أن يكون دون الأنعام ، على أنه يندرج في الإطعام النعم السابقة التي لا يحصل الغذاء إلا بعد وجودها كالأفلاك والعناصر وغيرها ، والنعم اللاحقة التي لا يتم الانتفاع بالأكل إلا بها من القوى والآلات البدنية والخارجية . وفي قوله { من جوع } إشارة إلى أن فائدة الطعام والغاية منه سد الجوعة لا الإشباع التام . وأما الأمن فهو قصة أصحاب الفيل أو تعرض أهل النواحي لهم وكانوا بعد وقعة أصحاب الفيل يعظمونهم ولا يتعرّضون لهم . وقال الضحاك والربيع : آمنهم من خوف الجذام . وقيل : من أن تكون الخلافة في غيرهم وفيه تكلف . وقيل : أطعمهم من جوع الجهل بطعام الإسلام والوحي وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى . وقيل : إشارة إلى ما دعا به إبراهيم عليه السلام في قوله { ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم } [ البقرة : 126 ] فأجاب الله تعالى بقوله { ومن كفر } [ البقرة : 126 ] والتنكير في { جوع } و { خوف } للتعظيم . وقد روي أنه أصابهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ، وأما الخوف فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل . ويحتمل أن يكون المراد التقليل أي أطعمهم من جوع دون جوع ليكون الجوع الثاني والخوف الثاني مذكراً لما كانوا فيه أولاً فيكونوا شاكرين تارة وصابرين أخرى فيستحقوا ثواب الخصلتين .

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

وجمع . لأن المراد بالذي هو الجنس ووجه الاتصال أنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم . وفيه أنهم كما قصروا في شأن المخلوق حيث زجروا اليتيم ولم يحضوا على إطعام المسكين فقد قصروا في طاعة الخالق فما صلوا وما زكوا . والسهو عن الصلاة تركها رأساً أو فعلها مع قلة مبالاة بها كقوله { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } [ النساء : 142 ] وهو قول سعد بن أبي وقاص ومسروق والحسن ومقاتل : وفائدة عن المفيدة للبعد والمجاوزة هذه . وأما السهو في الصلاة فذلك أم غير اختياري فلا يدخل تحت التكليف ، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سها في الصلاة ، وقد أثبت الفقهاء لسجود السهو باباً في كتبهم . وعن أنس : الحمد لله الذي لم يقر « في صلاتهم » ولعل في إضافة الصلاة إليهم إشارة إلى أن تلك الصلاة لا تليق إلا بهم لأنها كلا صلاة من حيث إنهم تركوا شرائطها وأركانها فلم يكن هناك إلا صورة صلاة صح باعتبارها إطلال المصلين عليهم في الظاهر . ويجوز أن يطلق لفظ المصلين على تاركي الصلاة بناء على أنهم من جملة المكلفين بالصلاة ومعنى المفاعلة في المرآة أن المرائي يرى الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به وقد مر في قوله { رئاء الناس } [ النساء : 142 ] و { يراءون الناس } [ البقرة : 264 ] ولا بأس بالإراءة إذا كان الغرض الاقتداء أو نفي التهمة واجتناب الرياء صعب إلا على من راض نفسه وحملها على الإخلاص ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود » وفي { الماعون } أقوال : فأكثر المفسرين على أنه اسم جامع لما لا يمنع في العادة ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال ولا ينسب سائله إلى لؤم بل ينسب مانعه إلى اللؤم والبخل كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الماء والملح والنار لما روي « ثلاثة لا يحل منعها الماء والنار والملح » ومن ذلك أن يلتمس جارك الخبز في تنورك أو أن يضع متاعه عندك يوماً أو نصف يوم . قالوا : هو « فاعول » من المعن وهو الشيء القليل ولا منه ماله سعنة ومعنة أي كثير وقليل . وقد تسمى الزكاة ماعوناً لأنه يؤخذ من المال ربع العشر وهو قليل من كثير .

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

القرآات { شانيك } بالياء : يزيد والشموني وحمزة في الوقف . وقرأ قتيبة ونصير مهموزاً ممالة . الوقوف { الكوثر } ه ط { وانحر } ه ط { الأبتر } ه .
التفسير : هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ، لأن تلك مثال لكون الإنسان في خسر ، وهذه للمستثنين منهم بل لأشرفهم وأفضلهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم بل له ولشانيه ، فكأنها مثال للفريقين جميعاً . هذا وجه إجمالي وأما الوجه التفصيلي فقوله { إنا أعطيناك الكوثر } أي الخير الكثير وقع في مقابلة الدع والمنع من الإطعام وقوله { فصل } أي دم على الصلاة وقع بإزاء قوله { عن صلاتهم ساهون } [ الماعون : 5 ] وقوله { لربك } مكان قوله { يراءون } [ الماعون : 6 ] وقوله { وانحر } والمراد به التصدق بلحوم الأضاحي بحذاء قوله { ويمنعون الماعون } [ الماعون : 7 ] ثم ختم السورة بقوله { إن شانئك هو الأبتر } أي الذي تضاد طريقته طريقتك سيزول عنه ما يفتخر به من المال والجاه والأحساب والأنساب ويبقى لك ولمتابعيك الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، بل يدوم لك النسب الصوري بسبب أولادك الشرفاء والنسب المعنوي بواسطة أتباعك العلماء ، ثم في الآية أصناف من المبالغة منها : التصدير ب « إن » ومنها الجمع المفيد للتعظيم ، ومنها لفظ الإعطاء دون الإيتاء ففي الإعطاء دليل التمليك دون الإيتاء ولهذا حين قال { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 7 ] كان أمته مشاركين له في فوائدها ولم يكن له منعهم منها . ومنها صيغة المضي الدالة على التحقيق في وعد الله تعالى كما هي عادة القرآن ، ومنها لفظ الكوثر وهو مبالغة في الكثرة بزيادة الواو كجدول فيشمل خيرات الدنيا والآخرة ، إلا أن أكثر المفسرين خصوه فحملوه على أنه اسم نهر في الجنة . عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم « رأيت نهراً في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر فقلت : ما هذا؟ فقيل : هو الكوثر الذي أعطاك الله » وفي رواية « ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان » قال أهل المعنى : ولعله إنما سمى كوثراً لأنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيراً ، أو لان أنهار الجنة تتفجر منه كما روي أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار أو لكثرة شاربيه . وقد يقال : إن الكوثر حوض في الجنة على ما ورد في الأخبار فلعل منبعه حوض ومنه تسيل الأنهار ، والقول الثالث أن الكوثر أولاده لأن هذه السورة نزلت رداً على من زعم أنه الأبتر كما يجيء والمعنى أنه يعطيه بفاطمة نسلاً يبقون على مر الزمان . فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم مملوء منهم ، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ، والعلماء الأكابر منهم لا حد ولا حصر لهم .

وقلب الله عصى موسى ثعباناً . ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوباً . وسبحت الجبال مع داود عليه السلام وسبحت الأحجار في يده ويد أصحابه . وكان داود عليه السلام إذا مسح الحديد لان ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين مسح الشاة الجدباء درت . وأكرم داود بالطير المحشورة ومحمداً صلى الله عليه وسلم بالبراق ، وأكرم عيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص . وأكرمه صلى الله عليه وسلم بإحياء الشاة المسمومة وبتكلمها أنها مسمومة . وروي أن معاذ بن عفراء كانت له امرأة برصاء فشكت ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمسح عليها بغصن فأذهب الله عنها البرص ، وحين سقطت حدقة رجل يوم أحد رفعها رسول الله صلى الله عيله وسلم فردها إلى مكانها . وكان عيسى يخبر بما في بيوت الناس والرسول صلى الله عليه وسلم عرف ما أخفته أم الفضل فأسلم العباس لذلك ، ورد الشمس لسليمان مرة والرسول كان نائماً ورأسه في حجر علي عليه السلام فانتبه وقد غربت الشمس فردّها حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردها مرة أخرى لعلي عليه السلام فصلى العصر لوقته . وعلم سليمان منطق الطير وفعل ذلك في حق محمد صلى الله عليه وسلم ، روي أن طائراً فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فقال : أيكم فجع هذه بولدها؟ فقال رجل : أنا فقال : أردد ولدها ، وكلام الذئب والناقة معه مشهور . وأكرم سليمان بمسير غدو شهر وأكرمه بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة ، وكان له صلى الله عليه وسلم يعفور يرسله إلى من يريد فيجيء به . وأرسل معاذاً إلى بعض النواحي فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثٍ فهاله ذلك ولم يستجرىء أن يرجع فتقدم وقال : إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبصبص ، وكما انقاد الجن لسليمان انقادوا لمحمد صلى الله عليه وسلم . وحين جاء الأعرابي بالضب تكلم الضب معترفاً برسالته ، وحين كفل الظبية حتى أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة ، وحين لسعت الحية عقب الصديق في الغار قالت : كنت مشتاقة إليه . منذ كذا سنين فلم حجبتني عنه . وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل . ومعجزاته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى خصوصاً في هذا المقام فثبت صحة قوله { إنّا أعطيناك الكوثر } قيل : هو القرآن لأن فوائده عديد الحصى . وقيل : الإسلام أو الشفاعة أو رفع الذكر أو العلم { وعلمت ما لم تكن تعلم } [ النساء : 113 ] أو الخلق الحسن { وإنك لعلى خلق عظيم } [ القلم : 4 ] وقد يقال : إن هذه السورة مع قصرها معجرة من وجوه لما فيها من الإخبار بالغيوب وهو الوعد بكثرة الأتباع والأولاد وزوال الفقر حتى نحر مائة بدنة في يوم واحد وقد وقع مطابقاً ، ولأنهم عجزوا عن معارضتها مع قصرها فإنها أقصر سورة من القرآن .

« كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي » وإن دين الإسلام لا يزال يعلو ويزيد والكفر يعلى ويقهر إلى أن يبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربهما كما قال { أو لم يروا إنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الرعد : 41 ] قال بعض أهل العلم : إن الكفار لما شتموه بأنه أبتر أجاب الله عنه من غير واسطة فقال { إن شانئك هو الأبتر } وهكذا سنة الأحباب إذا سمعوا من يشتم حبيبهم تولوا بأنفسهم جوابه ، ونظيره في القرآن كثير { قالوا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم } [ سبأ : 7 ] إلى قوله { أم به جنة } [ سبأ : 8 ] فقال سبحانه { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } [ سبأ : 8 ] وقالوا هو مجنون فأقسم الله { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون } [ القلم : 1 ، 2 ] وقالوا لست مرسلاً فقال { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } [ يس : ا ، 3 ] { وقالوا أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [ الصافات : 36 ] فرد عليهم بقوله { بل جاء بالحق وصدق المرسلين } [ الصافات : 36 ] ثم ذكر وعيد خصمائه بقوله { إنكم لذائقوا العذاب الأليم } [ الصافات : 38 ] وحين قال حاكياً { أم يقولون شاعر } [ الطور : 30 ] قال { وما علمناه الشعر } [ يس : 69 ] وقالوا { إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون } [ الفرقان : 4 ] فأجابهم بقوله { فقد جاؤا ظلماً وزوراًً } [ الفرقان : 4 ] { وقالوا أساطير الأولين } [ الفرقان : 5 ، 6 ] فقال { قل أنزله الذي يعلم السر } [ الفرقان : 5 ، 6 ] { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] فأجابهم بقوله { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } [ الفرقان : 20 ] فما أجل هذه الكرامة! وقال أهل التحقيق السالكون : بل الواصلون لهم ثلاث درجات أعلاها أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وأشار إليهما بقوله { إنا أعطيناك الكوثر } فإن روحه القدسية متميزة في الكثرة عن سائر الأرواح البشرية بالكم لأنها أكثر مقدمات ، وبالكيف لأنها أسرع انتقالاً من المقدمات إلى النتائج . وأوسطها أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وأشار إليها بقوله { فصل لربك } وأدناها أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانتصاب إلى اللذات العاجلة وهي قوله { وانحر } فإن منع النفس الشهوية جارية مجرى الذبح والنحر . ومن البيان أن ترتيب السالك هو الأخذ من الأدون إلى الأعلى ، وإنما ورد القرآن بما ورد تنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم كان في نهاية الوصول . وأن هذا الترتيب بالنسبة إليه ينعكس وذلك أنه جاء من الحق إلى الخلق . ثم أشار بقوله { إن شانئك هو الأبتر } إلى أن دواعي النفس التي هي أعدى الأعداء لا بقاء لها ، وإنما هي لذات زائلة وتخيلات فانية { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً } [ الكهف : 46 ] .

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

وروي أنهم ذكروا قولهم تعبد إلهنا مدة ونعبد إلهك مدة مرتين ، فأجيبوا مكرراً على وفق قولهم وهو نوع من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد قد يجاب عنه بنفيه مكرراً للاستخفاف وحسم مادة الطمع . القول الثاني : إن الأول للمستقبل وعلامته لا التي هي للاستقبال بدليل أن « لن » نفي للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد . وزعم الخليل أن أصله « لا أن » والثاني للحال والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي . ثم قال { ولا أنا عابد } في الحال { ما عبدتم ولا أنتم } في الحال بعابدين لمعبودي . وعلى هذا القول زعم بعضهم أن الأمر بالعكس إذا الترتيب أن ينفى الحال أوّلاً ثم الاستقبال ، وللأولين أن يجيبوا بأنهم إنما دعوه إلى عبادة غير الله في الاستقبال فكان الابتداء به أهم . وفائدة الإخبار عن الحال وكان معلوماً أنه ما كان يعبد الصنم والكفار كانوا يعبدون الله في بعض الأحوال هي أن لا يتوهم أحد أنه يعبد غير الله سراً خوفاً أو طمعاً ، وعبادة الكفار لم تكن معتدّاً بها لأجل الشرك . ولأبي مسلم قول ثالث هو أن ما في الأولين بمعنى الذي ، وأما في الآخرين فمصدرية أي ولا أنا عابد عبادتكم المبنية على الإشراك ، ولا أنتم عابدون عبادتي المبنية على اليقين . ووجه رابع وهو أن يحمل الأول على نفي الالتماس الصادر عنهم ، والآخر على النفي المطلق العام المتناول لجميع الجهات كمن يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعم فيقول : لا أظلم لغرض التنعم بل لا أظلم رأساً لا لهذا الغرض ولا لسائر الأغراض . قوله { ما تعبدون } ليس فيه إشكال إنما الإشكال في قوله { ما أعبد } فأجيب بعد تسليم أن « ما » ليست أعم بأن المراد به الصفة كأنه قيل : لا أعبد الباطل ولكن أعبد الحق أو هي « ما » المصدرية على نحوم ما مر ، أو هي للطباق كقوله { وجزاء سيئة سيئة } [ الشورى : 40 ] فإن قيل : لما كان المقام مقام التأكيد والمبالغة ولهذا كرر ما كرر فلم لم يقل « لن أعبد » كما قال أصحاب الكهف { لن ندعو من دونه إلهاً } [ الكهف : 14 ] قلت : إن أصحاب الكهف كانوا متهمين بعبادة الأصنام لأنه قد وجد منهم ذلك قبل أن أرشدهم الله ، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن متهماً بذلك قط يحتج إلى المبالغة ب « لن » ثم أوّل السورة لما اشتمل على التشديد البليغ وهو النداء بالكفر والتكرير فاشتمل آخرها على اللطف من بعض الوجوه كأنه قال : قد بالغت في منعكم من هذا الأمر القبيح فإن لم تقبلوا قولي فاتركوني سواء بسواء . قال ابن عباس : لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص . ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن السورة منسوخة بآية القتال . والمحققون على أنه لا نسخ بل المراد التهديد كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وقيل : الدين الجزاء . وقيل : المضاف محذوف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني . وقيل : الدين العبادة .

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)

قالوا : ومما يدل عليه أنه ذكر مقروناً بالنصرة وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر ، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير فإن فتح البلد لكن لم يأخذ القوم . أما يوم فتح مكة فاجتمع له الأمران ، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم « وذلك أنه صلى الله عليه وسلم وقف على باب المسجد وقال : لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده . ثم قال : يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا : خير ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء » فسموا بذلك . وقيل : فتح خيبر . وقيل : فتح الطائف . وعن أبي مسلم : النصر على الكفار وفتح بلاد الشرك على الإطلاق . وقيل : انشراح الصدر للخيرات والأعمال الفاضلة ، والفتح انفتاح أبواب المعارف والكشوف . أما الذين قالوا إن الفتح فتح مكة وكان نزول السورة قبله على ما يدل عليه ظاهر صيغة إذاً فالآية من جملة المعجزات لأنها إخبار بالغيب وقد وقع . واللام في الفتح بدل من الإضافة كأنه قيل : وفتح الله . قوله { ورأيت } ظاهره أنها رؤية القلب ، وجوز أن تكون رؤية البصر فيكون { يدخلون } حالاً . وظاهر لفظ الناس يقتضي العموم فيجيب أن يقدر غيرهم كالنسناس بدليل قوله { أولئك كالأنعام } [ الأعراف : 179 ] وسئل الحسن بن عليّ فقال : نحن الناس وأشياعنا أشباه الناس وأعداؤنا النسناس ، فقبّله عليّ بين عينينه وقال { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] قيل : إنهم لما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير فكيف استحقوا المدح بأنهم الناس؟ وأجيب بأنه إشارة إلى سعة رحمة الله فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية سبعين سنة فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره قبل إيمانه كأن الرب تعالى يقول : ربيته سبعين سنة مات على كفره وقع في النار وضاع إحساني إليه في سبعين سنة . ويروى أن الملائكة تقول لمثل هذا الإنسان : أتيت وإن كنت قد أبيت . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « الله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد والظمآن الواردة » ويجوز أن يكون المراد بالناس أهل اليمن على ما روي عن أبي هريرة انه لما نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الله أكبر جاء نصر الله والفتح . وجاء » أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم « الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية » وقال « إني لأجد نفس الرحمن من جانت اليمن » قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين : إن إيمان المقلد صحيح لأنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه . ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدلائل ولا صفات الكمال ونعوت الجلال ، وكونه سبحانه متصفاً بها منزهاً عن غيرها ولا ثبوت المعجز التام على يد محمد صلى الله عليه وسلم ولا وجه دلالة المعجزة على النبوة .

وفي الآية تنبيه على أن العاقل إذا قرب أجله وأنذره الشيب أقبل على التوبة والاستغفار وتدارك بعض ما فات في أوان الغفلة والاغترار . وفي معنى الباء في قوله { بحمد ربك } وجوه للمفسرين منها : أن المراد قل سبحان الله والحمد لله تعجباً مما أراك من مقصودك . يقال : شربت اللبن بالعسل أي خلطتهما فشربت المخلوط . ومنها أن الباء للآلة أي سبحه بواسطة تحميده لأن الثناء يتضمن التنزيه عن النقائص ، والدليل عليه أنه صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة بدأ بالتحميد قائلاً الحمد لله الذي نصر عبده . ومنها أن المراد فسبح متلبساً بالحمدنية لأنك لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظاً فاجمعهما نية . وقيل : سبحه مقروناً بحمد الله على ما هداك إلى تسبيحه كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : الحمد لله على الحمد لله . وقيل : الباء للبدل أي ائت بالتسبيح بدل الحمد الواجب عليك في مقابلة نعمة النصر والفتح لأن الحمد لا حصر له { وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] وقيل : فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لله أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر لوجوب الإتيان بكل منهما على الفور كما لو ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب وجب أن يقول اخترت الشفعة بردّي ذلك المبيع . وقيل : الباء صلة أي طهر محامد ربك عن النقائض والرياء . وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن التربية هي الموجبة للحمد ، أما الاستغفار فإن كان لأجل الأمة فلا إشكال ، وإن كان لأجل نفسه فإما للاقتداء وإما لترك الأولى والأفضل ، وإما بالنظر إلى المرتبة المتجاوز عنها فإن السالك يلزمه عند الارتقاء في كل درجة يصل إليها أن يستغفر عما يخلفها . وفي قوله { تواباً } دون أن يقول « غفاراً كما في سورة نوح إشارة إلى أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم بل هذه الأمة امتثلوا فاستغفروا وتابوا فوجب على فضل الله قبول توبتهم بخلاف قوم نوح .

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

قالوا : ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه فيقول : انصرف راشداً فإنه مجنون . ويروى أنه أخذ حجراً ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن طارق المحاربي أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد ادمى عقيبة وقال : لا تطيعوه إنه كذاب . فقلت : من هذا؟ فقالوا : محمد وعمه أبو لهب . وقال أهل المعاني : أراد باليدين الجملة كقوله { ذلك بما قدّمت يداك } [ الحج : 10 ] لأن أكثر الأعمال إنما تعمل باليد ، فاليمين كالسلاح واليسار كالجنة ، بالأولى يجر المنفعة وبالأخرى يدفع المضرة ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاه نهاراً فأبى ذهب إلى داره ليلاً مستناً بسنة نوح ليدعوه ليلاً كما دعاه نهاراً ، فلما دخل عليه قال له : جئتني معتذراً . فجلس النبي صلى الله عليه وسلم أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال : ن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت . فقال : لا أومن بك أو يؤمن هذا الجدي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجدي . من أنا؟ فقال : أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق لسانه يثني عليه فاستولى الحسد على أبي لهب وأخذ يدي الجدي ومزقه وقال : تباً لك أثر فيك السحر . فقال الجدي : بل تبت يدالك فنزلت السورة على وفق ذلك لتمزيقه يدي الحيوان الشاهد بالحق الناطق بالصدق . وفي ذكر أبي لهب بالكنية الدالة على التعظيم المنبئة عن شبهة الكذب إذ لم يكن له ولد مسمى بلهب وجوه منها : أن الكنية قد تصير اسماً بالغلبة فلا تدل على التعظيم ، وإيهام الكذب منتف لأنهم يريدون بها التفاؤل فلا يلزم منه أن يحصل له ولد يسمى بلهب . ومناه أن اسمه كان عبد العزي فكان الاحتراز عن ذكره أولى . ومنها أنه إشارة إلى أنه من أهل النار كما يقال « أبو الخير » لمن يلازمه . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه « يا أبا تراب » لتراب لصق بظهره . وقيل : سمي بذلك لتلهب وجنتيه فسماه الله تعالى بذلك تهكماً ورمزاً إلى مآل حاله وفي قوله { سيصلى ناراً ذات لهب } قال أهل الخطابة : إنام لم يقل في أوّل هذه السورة « قل تبت » كما قال { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] لئلا يشافه عمه بما يشتد غضبه رعاية للحرمة وتحقيقاً لقوله { فيما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] وأيضاً إن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله فقال الله : يا محمد أجبهم عني { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] وفي هذ السورة طعنوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى اسكت أنت فإنيّ أشتمهم { تبت يدا أبي لهب } وفيه تنبيه على أن الذي لا يشافه السفيه كان الله ذاباً عنه وناصراً له .

وأجيب بأنه كلف بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لا بتصديقه وعدم تصديقه حتى يجتمع النقيضان ، وغاية ذلك أنهم كلفوا بالإيمان بعد علمهم بأنهم لا يؤمنون وليس فيه إلا انتفاء فائدة التكليف ، لأن فائدة التكليف بما علم الله لا يكون هو الابتلاء وإلزام الحجة وهذا لا يتصور بعد أن يعلم المكلف حاله من امتناع صدور الفعل عنه ، والتكليف من غير فائدة جائز عندكم لأن أفعاله تعالى غير معللة بغرض وفائدة على معتقدكم . ثم إن امرأة أبي لهب أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية كانت في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن المفسرين من قال : كانت تحمل الشوك والحطب وتلقيهما بالليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم ، فلعلها مع كونها من بيت العز كانت خسيسة أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك والحطب لتلقيه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم . ثم من هؤلاء من زعم أن الحبل اشتد في جيدها فماتت بسبب الاختناق ، فقوله { في جيدها حبل من مسد } يحتمل على هذا أن يكون دعاء عليها وقد وقع كما أريد وكان معجزاً . ومنهم من قال : عيرها بذلك تشبيهاً لها بالحطابات وإيذاء لها ولزوجها . وعن قتادة أنها كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر فعيرها بأنها كانت تحتطب . والأكثرون على أن المراد بقوله { حمالة الحطب } أنها كانت تمشي بالنميمة يقال للنمام المفسد بين الناس إنه يحمل الحطب بينهم أي يوقد بينهم النائرة . ويقال للمكثار هو كحاطب ليل . وقال أبو مسلم وسعيد بن جبير : أراد ما حملت من الآثام في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كان كالحطب في مصيره إلى النار نظيره { فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً } [ الأحزاب : 58 ] { وليحملن أثقالهم } [ العنكبوت : 13 ] « يروى عن أسماء أنه لما نزلت السورة جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر فدخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أبو بكر وهي تقول : مذمماً قلينا . ودينه أبينا . وحكمه عصينا فقال أبو بكر : يا رسول الله قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك . فقال صلى الله عليه وسلم : إنها لا تراني وقرأ { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } [ الإسراء : 45 ] فقالت لأبي بكر : قد ذكر لي أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر : لا ورب الكعبة ما هجاك » قالت العلماء : لعل أبا بكر عني بذلك أن الله تعالى قد هجاها ولم يهجها الرسول ، أو اعتقد أن القرآن لا يسمى هجواً .

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)

القراآت : كانوا أبو عمرو يستحب الوقف على قوله { قل هو الله أحد } وإذا وصل كان له وجهان من القراءة : أحدهما التنوين وكسره ، والثاني حذف التنوين كقراءة عزير بن الله لاجتماع الساكنين ، وكل صواب { وكفؤاً } بالسكون والهمزة : حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل ورويس عن يعقوب . وكان حمزة يقف ساكنة الفاء ملينة الهمزة ويجعلها شبه الواو إتباعاً للمصحف . وقرأ حفص غير الخراز مثقلاً غير مهموز . الباقون : مثقلاً مهموزاً .
الوقوف : { أحد } ه ج لاحتمال أن ما بعدها جملة أخرى أو خبران آخران { الصمد } ه ج لمثل ذلك { ولم يولد } لا { أحد } ه .
التفسير : قد وردت الأخبار الكثيرة بفضل سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن فاستنبط العلماء لذلك وجهاً مناسباً وهو أن القرآن مع عزارة فوائده اشتمل على ثلاثة معانٍ فقط : معرفة ذات الله تعالى وتقدّس ، ومعرفة صفاته وأسمائه ، ومعرفة أفعاله وسننه مع عباده . ولما تضمنت سورة الإخلاص أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس ، وازنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث القرآن . « وعن أنس أن رجلاً كان يقرأ في جميع صلاته » قل هو الله أحد « فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : يا رسول الله إني أحبها فقال : حبك إياها يدخلك الجنة » أما سبب نزولها فعن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى هذه السورة . وعن عطاء عن ابن عباس قال : قدم وفد نجران فقالوا : صف لنا ربك أزبرجد أم ياقوت أم ذهب أم فضة . فقال : إن ربي ليس من شيء لأنه خلق الأشياء فنزلت { قل هو الله أحد } فقالوا : هو واحد وأنت واحد فقال { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] قالوا : زدنا من الصفة . قال { الله الصمد } فقالوا : وما الصمد؟ قال : الذي يصمد الخلق إليه في الحوائج فقالوا : زدنا فقال { لم يَلد } كما ولدت مريم { ولم يولد } كما ولد عيسى { ولم يكن له كفواً أحد } يريد نظيراً من خلقه . ولشرف هذه السورة سميت بأسماء كثيرة أشهرها الإخلاص لأنها تخلص العبد من الشرك أو من النار . وقد يقال لها سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء الله أو المعرفة لما روى جابر أن رجلاً صلى فقرأ السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا عبد عرف ربه . أو الجمال لقوله صلى الله عليه وسلم « إن الله جميل يحب الجمال » ومن كمالات الجميل كونه عديم النظير . أو الأساس لقوله صلى الله عليه وسلم « أسست السموات السبع والأرضون اسبع على { قل هو الله أحد } »

وثالثها أن الواحد يستعمل في الإثبات كقولك « رأيت رجلاً واحداً » والأحد يستعمل في النفي نحو « ما رأيت أحداً » فيفيد العموم . قلت : ولعلّ وجه تخصيص الله بالأحد هو هذا المعنى وذلك أنه أبسط الأشياء وكأنك قلت : إنه لا جزء له أصلاً بوجه من الوجوه ومن هنا قال بعضهم : إن الأحد يدل على جميع المعاني السلبية ككونه ليس بجوهر ولا عرض ولا متحيز وغير ذلك كما أن اسم الله يدل على مجامع الصفات الإضافية لأن الله اسم للمعبود بالحق واستحقاق العبادة لا يتجه إلا إذا كان مبدأ لجميع ما سواه عالماً قادراً إلى غير ذلك . وأما لفظة { هو } فإنها تدل على نفس الذات فتبين أن قوله { قل هو الله أحد } يدل على الذات والصفات جميعاً .
وههنا لطيفة وهي أن قوله { هو } إشارة إلى مرتبة السابقين الذين لا يرون معه شيئاً آخر فيكفي الكناية بالنسبة إليهم ، وأما اسم { الله } فإشارة إلى مرتبة أصحاب اليمين وهم الذين عرفوه بالبرهان مستدلين على الوجوب بالإمكان فهم ينظرون إلى الحق وإلى الخلق جميعاً فيحتاجون في التمييز إلى اسمه العلم . وأما « الأحد » فرمز إلى أدون المراتب الإنسانية وهم أصحاب الشمال الذي يثبتون مع الله إلهاً آخر فوجب التنبيه على إبطال معتقدهم بأن الله أحد لا شريك له أو لا جزء بوجه من الوجوه ، وبعبارة أخرى هو للأخص والله للخواص وأحد للعموم . وأما « الصمد » فقيل : إنّه فعل بمعنى « مفعول » من صمده إذا قصده أي هو السيد المقصود إليه في الحوائج كما مرّ في الحديث الوارد في سبب النزول . وقيل : هو الذي لا جوف له ومنه قولهم لسداد القارورة « صماد » وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة . قال ابن قتيبة : يجوز على هذا التفسير أن تكون الدال بدل التاء في « مصمت » . وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة : الصمد هو الأملس من الحجر لا يقبل الغبار ولا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء . ولا يخفى أن هذين المعنيين من صفات الأجسام حقيقة إلا أن مقدّمة الآية وهي { الله أحد } تمنع من حملهما على حقيقتهما لأن كل جسم مركب فوجب الحمل على المجاز وهو أنه لوجوب ذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وسائر صفاته ، ومن هنا اختلفت عبارات المفسرين فعن بعضهم : الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه مبدأ مرجوعاً إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك . وعن ابن مسعود والضحاك : هو السيد الذي انتهى سودده . وقال الأصم : هو الخلق للأشياء لأن السيد الحقيقي هو هو . وقال السدي : هو المقصود في الرغائب المستغاث عند المصائب . وقال الحسن بن الفضل : هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .

ويحتمل أن يراد بالأخير نفي المصاحبة لأن المصاهرة تستدعي الكفاءة شرعاً وعقلاً فيكون رداً على من حكى الله عنهم في قوله { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } [ الصافات : 158 ] قاله مجاهد .
سؤال : قد نص سيبويه في كتابه على أن الخبر قد يقدم على الاسم في باب « كان » ولكن تعلق الخبر حينئذ لا يتقدم على الخبر كيلا يلزم العدول عن الأصل بمرتبتين فكيف قدم الصرف على الاسم والخبر جميعاً؟ أجاب النحويون عنه بأن هذا الظرف وقع بياناً للمحذوف كأنه قال : ولم يكن أحد فقيل : لمن؟ فأجيب بقوله « له » نظيره قوله { وكانوا فيه من الزاهدين } [ يوسف : 20 ] وقوله { فلما بلغ معه السعي } [ الصافات : 102 ] .

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

وعن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئاً من جسده قرأ قل هو الله أحد والمعوّذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي . « وروي أنه صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون فعوّذه ب { قل هو الله أحد } وبهاتين السورتين . ثم قال : تعوّذ بهن فما تعوّذت بخير منها » وأما قول الكفار إنه مسحور فإنما أرادوا به الجنون والسحر الذي أثر في عقله ودام مع فلذلك وقع الإنكار عليهم . ومن الناس من لم يرحض في الرقى لرواية جابر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقة وقال « إن لله عباداً لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون » وأجيب بأن النهي وارد على الرقى المجهولة التي يفهم معناها . واختلف في التعليق؛ فروى أنه صلى الله عليه وسلم قال « من علق شيئاً وكل إليه » وعن ابن مسعود أنه رأى على أم ولده تميمه مربوطة بعضدها فجذبها جذباً عنيفاً فقطعها . ومنهم من حوزه؛ سئل الباقر رضي الله عنه عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه . واختلفوا في النفث أيضاً فروي عن عائشة أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده ، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه صلى الله عليه وسلم بالمعوّذات التي كان ينفث بها على نفسه . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوّذات ثم مسح جسده . ومنهم من أنكر النفث؛ عن عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد . وعن إبراهيم : كانوا يكرهون النفث في الرقى . وقال بعضهم : دخلت على الضحاك وهو وجع فقلت : ألا أعوّذك يا أبا محمد؟ قال : بلى ولكن لا تنفث فعوّذته بالمعوّذتين . قال بعض العلماء : لعلهم كرهوا النفث لأن الله تعالى جعل النفث مما يستعاذ منه فوجب أن يكون منهياً عنه . وقال بعضهم : النفث في العقد المنهي عنه هو الذي يكون سحراً مضراً بالأرواح والأبدان ، وأما الذي يكون لإصلاح الأرواح والأبدان فيجب أن لا يكون حراماً .
سؤال : كيف قال في افتتاح القراءة { فاستعذ بالله } [ الأعراف : 200 ] وقال ههنا { أعوذ برب } دون أن يقول « بالله »؟ وأجيب بأن المهم الأوّل أعظم من حفظ النفس والبدن عن السحر والوسوسة فلا جرم ذكر هناك الاسم الأعظم ، وأيضاً الشيطان يبالغ في منع الطاعة أكثر مما يبالغ في إيصال الضرر إلى النفس وأيضاً كأن العبد يجعل تربيته السابقة وسيلة في التربية اللاحقة .

هذا من حيث اللغة . ثم أن الغاسق إذا فسر بالليل فوقوبه دخوله وهو ظاهر . ووجه التعوذ من شره أن السباع فيه تخرج من آجامها والهوام من مكامنها ، وأهل الشر والفتنة من أماكنها ، ويقل فيه الغوث ولهذا قالت الفهقاء : لو شهر أحد سلاحاً على إنسان ليلاً فقتله المشهور عليه لم يلزمه قصاص ولو كان نهاراً لزمه لوجود الغوث . وقد يقال : إنه تنشر في الليل الأرواح المؤذية المسماة بالجن والشياطين ، وذلك لأن قوة الشمس وشعاعها كأنها تقهرهم ، أما في الليل فيحصل لهم نوع استيلاء . وعن ابن عباس : هو ظلمة الشهوة البهيمية إذا غلبت داعية العقل . قال ابن قتيبة : الغاسق القمر لأنه يذهب ضوءه عند الخسوف ، ووقوبه دخوله في ذلك الاسوداد . « وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدها وقال لها : استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب » ، وعلى هذا التفسير يمكن تصحيح قول الحكيم إن القمر جرم كثيف مظلم في ذاته لكنه يقبل الضوء عن الشمس ويختلف حاله في ذلك بحسب قربه منها وبعده عنها . ووقوبه إما دخوله في دائرة الظلام في الخسوفات ، وإما دخوله تحت شعاع الشمس في آخر كل شهر ، وحينئذ يكون منحوساً قليل القوة ولذلك تختار السحرة ذلك الوقت للتمريض والإضرار والتفريق ونحوها . وقيل : الغاسق الثريا إذا سقط في المغرب . قال ابن زيد : وكانت الأسقام تكثر حينئذ . وقال في الكشاف : يجوز أن يراد به الأسود من الحيات ووقبه خربه ونقبه . وقيل : هو الشمس إذا غابت وسميت غاسقاً لسيلانها ودوام حركتها . وأما النفث فهو النفخ بريق . وقيل : النفخ فقط . والعقد جمع عقدة . والسبب فيه أن الساحر إذا أخذ في قراءة الرقية أخذ خيطاً ولا يزال يعقد عليه عقداً بعد عقد وينفث في تلك العقد . ووجه التأنيث إما الجماعة لأن اجتماع السحرة على عمل واحد أبلغ تأثيراً ، وإما لأن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن وذلك أن الأصل الكلي في ذلك الفن هو ربط القلب وتعليق الوهم بذلك الأمر وأنه في النساء أوفر لقلة علمهن وشدّة شهوتهن . وقال أبو عبيدة : إنهن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي اللاتي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو مسلم : العقد عزائم الرجال والنفث حلها لأن من يريد حل عقدة الحبل ينفث عليه بريق يقذفه عليه ليصير حله سهلاً . والمعنى : إن النساء لكثرة حيلهن يتصرفن في عزائم الرجال يحوّلنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة ، فأمر الله رسوله بالتعوّذ من شرهن ، وهذا القول مناسب لما جاء في مواضع أخر من القرآن { إن من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم } [ التغابن : 14 ] { إن كيدكن عظيم } [ يوسف : 28 ] والاستعاذة منهن الاستعاذة من إثم عملهن ، أو من فتنتهن الناس بسحرهن ، أو من إطعامهن الأطعمة الردية المورثة للجنون ، و الموت .

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

القراآت : { الناس } وما بعدها ممالة : قتيبة ونصير . والباقون : بالتفخيم .
الوقوف : { الناس } ه لا { الناس } ه لا { الناس } ه لا { الخناس } ه لا بناء على أن الفصل بين الصفة وموصوفها لا يصلح إلا للضرورة . ولو قيل إن محله النصب أو الرفع على الذم حسن الوقف { الناس } ه لا { والناس } ه .
التفسير : إنه تعالى رب جميع المحدثات ولكنه خص الناس ههنا بالذكر للتشريف ، ولأن الاستعاذة لأجلهم فكأنه قيل : أعوذ من شر الوسواس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهوالهم ومعبودهم كما يستغيث بعض الموالي إذا دهمهم أمر بسيدهم ومخدومهم وولي أمرهم . وقوله { ملك الناس } { إله الناس } عطف ثانٍ لأن الرب قد لا يكون ملكاً كما يقال « رب الدار » والملك قد لا يكون إلهاً . وفي هذا الترتيب لطف آخر وذلك أنه قدم أوائل نعمه إلى أن تم ترتيبه وحصل فيه العقل فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك وهو ملك تفتقر كل الأشياء إليه وهو غني عنهم ، ثم علم بالدلائل العقلية والنقلية أن العبادة لازمة له وأن معبوده يستحق العبادة . ويمكن أن يقال : أوّل ما يعرف العبد من ربه هو كونه مربوباً له منعماً عليه بالنعم الظاهرة والباطنة ، ثم لا يزال ينتقل من معرفة هذه الصفة إلى صفات جلاله ونعوت كبريائه فيعرف كونه ملكاً قيوماً ، ثم إذا خاض في بحر العرفان وغرق في تياره وله عقله وتاه لبه فيعرف أنه فوق وصف الواصفين فيسميه إلهاً من وله إذا تحير . وتكرير لفظ « الناس » في السورة للتشريف كأنه عرف ذاته في خاتمة كتابه الكريم بكونه رباً وملكاً وإلهاً لهم ، أو لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الكشف والتوضيح ولو قيل : إن الثاني بدل الكل من الأوّل فالأحسن أيضاً وضع المظهر مقام المضمر كيلا يكون المقصود مفتقراً إلى ما ليس بمقصود في الظاهر مع رعاية فواصل الآي . وقيل : لا تكرار في السورة لأن المراد بالأوّل الأطفال ومعنى الربوبية يدل عليه لشدّة احتياجهم إلى التربية ، وبالثاني الشبان ولفظ « الملك » المنبىء عن السياسة يدل عليه لمزيد افتقارهم إلى الزجر لقوّة دواعي الشهوة والغضب فيهم مع أن العقل الصادق لم يقو بعد ولم يستحكم ، وبالثالث الشيوخ ولفظة « آله » المنبىء عن استحقاق العبادة له يدل عليه لفتور الدواعي المذكورة وقتئذ ، فتتوجه النفس إلى تحصيل ما يزلفه إلى الله بتدارك ما فات . والمراد بالرابع الصالحون والأبرار فإن الشيطان مولع بإغوائهم . وبالخامس المفسدون والأشرار لأنه بيان الموسوس فإن الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال { شياطين الجن والإنس } [ الأنعام : 112 ] والخناس هو الذي من شأنه أن يخنس أي يتأخر وقد مر في قوله تعالى

ثم أراد ذكر مراتب النفس الإنسانية التي هي أشرف درجات الحيوان فقال { برب الناس } إشارة إلى العقل الهيولاني المفتقر إلى مزيد تربية وترشيح حتى يخرج من معدنها ويظهر من حكمها . وقوله { ملك الناس } إشارة إلى العقل بالملكة لأنه ملك العلوم البديهية وحصلت له ملكة الانتقال منها إلى العلوم الكسبية لأن النفس في هذه الحالة أحوج إلى الزجر عن العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة والتأديب في الصغر كالنقش على الحجر . وقوله { إله الناس } إشارة إلى سائر مراتبها من العقل بالفعل والعقل المستفاد ، فإن الإنسان إذ ذاك كأنه صار عالماً معقولاً مضاهياً لما عليه الوجود ، فعرف المعبود فتوجه إلى عرفانه والعبادة له . وأيضاً اتصف بصفاته وتخلق بأخلاقه كما حكي عن أرسطو أنه قال : أفلاطون : إما إنسان تأله أو إله تأنس . ثم إن العقل والوهم قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمّات ، ثم إذا آل الأمر إلى النتيجة ساعد العقل عليها دون الوهم فكان الوهم خنس أي رجع عن تسليم المقدّمة فلهذا أمر الله سبحانه بالاستعاذة من شره ، وقد ورد مثله في الحديث . وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول : من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته » وهذا آخر درجات النفس الكاملة الإنسانية فلا جرم وقع ختم الكتاب الكريم والفرقان العظيم عليه . ونحن أيضاً نختم التفسير بهذا التحقيق والله وليّ التوفيق والهادي في العلم والعمل إلى سواء الحق والطريق . قال الضعيف مؤلف الكتاب ، أحوج خلق الله إلى رحمته ورضاه ، الحسن بن محمد بن الحسين المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاده وأخراه : هذا أيها المعروف باعتلاء عرائك المجد ، المشغوف باقتناء سبائك الحمد ، الكامل شوقه إلى فهم غرائب القرآن والقرآن كله غرائب ، الباذل طوقه في درك رغائب الفرقان والفرقان بأسره رغائب ، عقائل مسائل جهزتها فطنة من مشايد الشدائد خامدة ، وفرائد فوائد نظمتها قريحة من صنوف الصروف جامده ، وقد نطفت بها عين خرساء بادٍ شحوبها وتحركت بها لأجلي ولاء طالما عقر حوبها ، على أنها مع سواد ما سقط من سنها بيضاء الخلال ومع مرارة مذاق ما بين لحييها حلوة المباني مليحة المقال . والذي قد مج فوها عفوصة ما فيها عذبة على العذبات سلسة على الأسلات يبكي ويضحك ، ويملك ويهلك ، ويفقر ويثري ، ويريش ويبري ، ويمنع ويعطي ، ولولا الله لذكرت أنه يميت ويحيى . وفي رقتها دقة ، ومع طلاوتها حلاوة ، فإن شئت فيراعة فيها براعة ، وأنبوب فيه من الحكم أسلوب وأيّ أسلوب ، وكيف لا وقد اشتملت على مطاوي ما رسمه على فحاوى كتاب الله الكريم ، واحتوت مباني ما رقمه على معاني الفرقان العظيم ، الذي أخرس شقاشق الفصحاء حين أرادوا معارضته لعجزهم لا للخلل في أدمغتهم ، وأوقر مسامع أولي العناد من العباد في البلاد بجهلهم لا لصمم في أصمختهم ، صحيفة يلوح عنها أثر الحق ، ولطيمة يفوح منها عبق الصدق ، بضاعة يحملها أهل النهي في سفر الروح إلى مكانها ، وتجارة أرباحها جنات النعيم ، وأجارة أعواضها الفوز بلقاء رب العرش العظيم .

ثم إن استبان لك حسن ذلك الوجه فأنصف تفلح ، وإن غلب على ظنك قبحه فأصلح أو أسجع فإن لكل جواد كبوة ولكل حسام نبوة ، وضيق البصر وطغيان القلم موضوعان ، والخطأ والنسيان عن هذه الأمة مرفوعان ، وإني لم أمل في هذا الإملاء إلاّ إلى مذهب أهل السنة والجماعة فبينت أصولهم ووجوه استدلالاتهم بها وما ورد عليها من الاعتراضات والأجوبة عنها . وأما في الفروع فذكرت استدلال كل طائفة بالآية على مذهبه من غير تعصب ومراء وجدال وهراء ، فاختلاف هذه الأمة رحمة ، ونظر كل مجتهد على لطيفة وحكمة ، جعل الله سعيهم وسعينا مشكوراً ، وعملهم وعملنا مبروراً . ولقد وقفت لإتمام هذا الكتاب في مدة خلافة علي رضي الله عنه وكنا نقدر إتمامه في مدة خلافه الخلفاء الراشدين وهي ثلاثون سنة ، ولو لم يكن ما اتفق في أثناء التفسير من وجود الأسفار الشاسعة وعدم الأسفار النافعة ، ومن غموم لا يعدّ عديدها وهموم لا ينادي وليدها ، لكان يمكن إتمامه في مدّة خلافة أبي بكر كما وقع لجار الله العلامة ، وكما أنه رأى ذلك ببركة جوار بيت الله الحرام فهذا الضعيف أيضاً يرجو أن يرزقني الله تعالى ببركة إتمام هذا الكتاب زيارة هذا المقام ويشرفني بوضع الخد على عتبة مزار نبيه المصطفى محمد النبي الأمي العربي عليه وآله الصلاة والسلام فاسمع واستجب يا قدير ويا علام .
واعلموا إخواني رحمنا الله وإياكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم ، أن لكل مجتهد نصيباً قل أو أكثر ، ولكل نفس عاملة قسطاً نقص أو كمل ، وأن الأعمال بالنيات وبها تجلب البركات وترفع الدرجات ، وأن المرء بأصغريه وكل عمل ابن آدم سوى الخير كلّ عليه والذي نفسي بيده وناصيتي بحكمه ومشيئته ، عالم بسري ومحيط بنيتي أني لم أقصد في تأليف هذا التفسير مجرد جلب نفع عاجل لأن هذا الغرض عرض زائل ولا يفتخر عاقل بما ليس تحته طائل .
سحابة صيف ليس يرجي دوامها ... وهل يشرئب إلى الأمور الفانية أو يستلذ بها من وهو من أعضائه عظامها ، وكاد يفتر من قواه أكثرها بل تمامها؟ وإنما كان المقصود جمع المتفرق ، وضبط المنتشر ، وتبيين بعض وجوه الإعجاز الحاصل في كلام رب العالمين ، وحل الألفاظ في كتب بعض المفسرين بقدر وسعي وحد علمي ، وعلى حسب ما وصل إليه استعدادي وفهمي ، والقرآن أجل ما وقف عليه الذهن والخاطر ، وأشرف ما صرف إليه الفكر والناظر ، وأعمق ما يغاض على درّه ومرجانه ، وأعرق ما يكد في تحصيل لحينه ، ولو لم تكن العلوم الأدبية بأنواعها ، والأصولية بفروعها ، والحكمية بجملها وتفاصيلها وسيلة إلى فهم معاني كتاب الله العزيز واستنباط نكتها من معادنها واستخراج خباياها من مكامنها لكنت متأسفاً على ما أزجيت من العمر في بحث تلك القواليب ، وأملت من الفكر في تأليف ما ألفت في كل أسلوب من أولئك الأساليب ، ولكن لكل حالة آلة ، ولك أرب سبب ، وطالما أغليت المهور للعقائل وجنبت الوسائل للأصائل .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32