كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)

القراآت : { والذين قتلوا } مبنياً للمفعول ثلاثياً : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص . الباقون { قاتلوا } { ويثبت } من الإثبات : المفضل . الباقون : بالتشديد { أسن } بغير الألف كحذر : إبن كثير { أنفا } بدون الألف كما قلنا : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل .
الوقوف : { أعمالهم } ه { بالهم } ه { من ربهم } ط { أمثالهم } ه { الرقاب } ط { الوثاق } لا للفاء ولتعلق { بعد } بما قبلها أي بعد ما شددتم الوثاق { أوزارها } ج { ذلك } ط أي ذلك كذلك ، وقد يحسن اتصاله بما قبله لانقطاعه عن خبره أو عن المبتدأ أو الفعل أي الأمر ذلك ، أو فعلوا ذلك { ببعض } ط { أعمالهم } ه { بالهم } 5 ج للآية مع العطف واتحاد الكلام { لهم } 5 { أقدامهم } 5 { أعمالهم } 5 ج { من قبلهم } ط لتناهي الاستخبار { عليهم } ج للابتداء بالتهديد مع الواو { أمثالها } ه { لهم } ه { الأنهار } ط { لهم } ه { أخرجتك } ج لاحتمال أن ما بعده صفة { قرية } أو ابتداء إخبار { لهم } ه { أهواءهم } ه { المتقون } ط للحذف أي صفة الجنة فيما نقص عليكم ثم شرع في قصتها . { آسن } ج { طعمه } ج { للشاربين } ه ج لتفصيل أنواع النعم مع العطف { مصفى } ج { من ربهم } ط لحذف المبتدأ والتقدير أفمن هذا حاله كمن هو خالد { أمعاءهم } ه { إليك } ج لاحتمال أن يكون حتى للانتهاء وللابتداء { آنفاً } ط { أهواءهم } ه { تقواهم } ه { بغتة } ه لتناهي الاستفهام مع مجيء الفاء بعده في الإخبار { أشراطها } ج لعكس ما مر { ذكراهم } ه .
التفسير : قال أهل النظم : إن أول هذه السورة مناسب لآخر السورة كأنه قيل : كيف يهلك الفاسق إن كان له أعمال صالحة؟ فأجاب { الذين كفروا وصدوا } منعوا الناس عن الإيمان صداً أو امتنعوا عنه صدوداً { أضل } الله { أعمالهم } أي أبطل ثوابها وكانوا يصلون الأرحام ويطعمون الطعام ويعمرون المسجد الحرام . وعن ابن عباس أنها نزلت في المطعمين يوم بدر . وقيل : هم أهل الكتاب . والأظهر العموم . قال جار الله : حقيقة إضلال الأعمال جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يثيب عليها كالضالة من الإبل لا رب لها يحفظها ، أو أراد أنه يجعلها ضالة في كفرهم ومعاصيهم مغلوبة بها كما يضل الماء في اللبن . وقيل : أراد إبطال ما عملوه من الكيد للإسلام وذويه بأن نصر المسلمين عليهم وأظهر دينه على الدين كله . وحين بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين قائلاً { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } بالهجرة والنصرة وغير ذلك { وآمنوا بما نزل على محمد } يعني القرآن وهو تخصيص بعد تعميم ، ولم يقتصر على هذا التخصيص الموجب للتفضيل ولكنه أكده بجملة اعتراضية هي قوله { وهو الحق من ربهم } ولأن الحق الثابت ففيه دليل على أن دين محمد صلى الله عليه وسلم لا يرد عليه النسخ أبداَ .

وتكفير السيئات من الكريم سترها بما هي خير منها فهو في معنى قوم { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } [ الفرقان : 7 ] والبال الحال والشأن لا يثنى ولا يجمع . وقيل : هو بمعنى القلب أي يصلح أمر دينهم . والحاصل أن قوله { وآمنوا بما نزل على محمد } بإزاء قوله { وصدّوا عن سبيل الله } فأولئك امتنعوا عن اتباع سبيل محمد صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء حثوا أنفسهم على إتباعه فلا جرم حصل لهؤلاء ضدّ ما حصل لأولئك فأضل الله حسنات أولئك وستر على سيئات هؤلاء ، وقد أشير إلى هذا الحاصل بقوله { ذلك } الإضلال والتكفير بسبب اتباع أولئك الباطل الشيطان وحزبه وأولئك الحق محمداً والقرآن { كذلك } أي مثل ذلك الضرب { يضرب الله للناس } كلهم أمثال أنفسهم أو أمثال المذكورين من الفريقين على معنى إنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم . وضرب المثل في الآية هو أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين ، ولا ريب أن إخباره عن الفريقين بغير تصريح مثل لحالهما وهذا حقيقة ضرب المثل . وقيل : إن الإضلال مثل لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثل لفوز المؤمنين . وقيل : إن قوله { كذلك } لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب ، ولكنه لما بين حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته ، وبين السبب فيهما كان ذلك نهاية الإيضاح فقال { كذلك } أي مثل ذلك البيان يضرب الله للناس أمثالهم ويبين أحوالهم . قال أصحاب النظم : لما بيّن أن عمل الكفار ضلال والإنسان حرمته باعتبار عمله نتج من ذلك قوله { فإذا لقيتم الذين كفروا } أي في دار الحرب أو في القتال { فضرب الرقاب } وأصله فأضربوا الرقاب ضرباً إلا أنه اختصر للتوكيد لأنه بذكر المصدر المنصوب دل على الفعل وكان كالحكم البرهاني . وليس ضرب الرقبة مقصوداً بالذات ولكنه وقع التعبير عن القتل به لأنه أغلب أنواع القتل ، ولما في ذكره من التخويف والتغليظ . وفيه ردّ على من زعم أن القتل بل إيلام الحيوان قبيح مطلقاً لأنه تخريب البنيان ، فبين الشرع أن أهل الكفر والطغيان يجب قتلهم لأن فيه صلاح نوع الإنسان كما أن الطبيب الحاذق يأمر بقطع العضو الفاسد إبقاء على سائر البدن { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الشيء الثخين ، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى لا يمكنهم النهوض وقد مر في آخر « الأنفال » . { فشدّوا الوثاق } وهو بالفتح والكسر اسم ما يوثق به والمراد فأسروهم وشدّوهم بالحبال والسيور . فإما تمنون مناً وإما تفدون فداء ، وهذا مما يلزم فيه حذف فعل المفعول المطلق لأنه وقع المفعول تفصيلاَ لأثر مضمون جملة متقدمة . وقال الشافعي : للإمام أن يختار أحد أربعة أمور هي : القتل والاسترقاق والمنّ وهو الإطلاق من غير عوض والفداء بأسارى المسلمين أو بمال .

لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عروة الجهني وعلى ابن أثال الحنفي ، وفادى رجلاً برجلين من المشركين . وذهب بعض أصحاب الرأي أن الآية منسوخة . وأن المنّ والفداء إنما كان يوم بدر فقط وناسخها { اقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] وليس للإمام إلا القتل أو الاسترقاق . وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق . وقوله { حتى تضع } يتعلق بالضرب والشدّ أو بالمنّ والفداء . والمراد عند الشافعي أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع المشركين وذلك إذا لم يبق لهم شوكة . وأوزار الحرب آلاتها وأثقالها التي لا تقوم الحرب إلا بها . قال الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً وخيلاً ذكوراً
فإذا أنقضت الحرب فكأنها وضعت أسبابها . وقيل : أوزارها آثامها والمضاف محذوف أي حتى يترك أهل الحرب . وهم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا . وعلى هذا جاز أن يكون الحرب جمع حارب كالصحب جمع صاحب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف . وفسر بعضهم وضع الحرب أوزارها بنزول عيسى عليه السلام . عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى عليه السلام إماماً هادياً وحكماً عدلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير وتضع الحرب أوزارها حتى تدخل كلمة الإخلاص كل بيت من وبر ومدر » وعند أبي حنيفة : إذا علق بالضرب والشدّ فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك إذا لم تبق شوكة للمشركين . وإذا علق بالمنّ والفداء فالحرب معهودة وهي حرب بدر . ثم بين أنه منزه في الانتقام من الكفار عن الاستعانة بأحد فقال { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم } بغير قتال أو بتسليط الملائكة أو أضعف خلقه عليهم { ولكن } أمركم بقتالهم { ليبلو بعضكم ببعض } فيمتحن المؤمنين بالكافرين هل يجاهدون في سبيله حق الجهاد أم لا ، ويبتلي الكافرين بالمؤمنين هل يذعنون للحق أم لا إلزاماً للحجة وقطعاً للمعاذير . ومعنى الابتلاء من الله سبحانه قد مر مراراً أنه مجاز أي يعاملهم معاملة المختبر ، أو ليظهر الأمر لغيره من الملائكة أو الثقلين .
ثم وعد الشهداء والمجاهدين بقوله { والذين قتلوا } أو قاتلوا على القراءتين { فلن يضل أعمالهم } خلاف الكفرة { سيهديهم } إلى الثواب ويثبتهم على الهداية { ويصلح بالهم } أمر معاشهم في المعاد أو في الدنيا ، وكرر لأن الأوّل سبب النعيم ، والثاني نفس النعيم { ويدخلهم الجنة عرّفها لهم } جعل كل واحد بحيث يعرف ماله في الجنة كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا . وعن مقاتل : يعرفها لهم الحفظة وعسى أنه عرفها بوصفها في القرآن . وقيل : طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة . ثم حث على نصرة دين الله بقوله { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله } أي دينه أو رسوله { ينصركم } على عدوّكم ويفتح لكم { ويثبت أقدامكم } في مواقف الحرب أو على جادّة الشريعة { والذين كفروا } حالهم بالضد .

يقال : تعساً له في الدعاء عليه بالعثار والتردّي . عن ابن عباس : هو في الدنيا القتل ، وفي الآخرة الهويّ في جهنم . وهو من المصادر التي يجب حذف فعلها سماعاً والتقدير : أتعسهم الله فتعسوا تعساً ولهذا عطف عليه قوله { وأضل أعمالهم } ثم بين سبب بقائهم على الكفر والضلال بقوله { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله } من القرآن والتكاليف لألفهم بالإهمال وإطلاق العنان { فأحبط أعمالهم } التي لا استناد لها إلى القرآن أو السنة . ثم هدّدهم بحال الأقدمين وهو ظاهر . ودمر عليه ويقال دمره فالثاني الإهلاك مطلقاً ، والأوّل إهلاك ما يختص به من نفسه وماله وولده وغيره { وللكافرين أمثالها } الضمير للعاقبة أو العقوبة . والأوّل مذكور ، والثاني مفهوم بدلالة التدمير فإن كان المراد الدعاء عليهم فاللام للعهد وهم كفار قريش ومن ينخرط في سلكهم ، وإن كان المراد الإخبار جاز أن يراد هؤلاء . والقتل والأسر نوع من التدمير وجاز أن يراد الكفار الأقدمون { ذلك } النصر والتعس { بأن الله مولى الذين آمنوا } أي وليهم وناصرهم { وأن الكافرين لا مولى لهم } بمعنى النصرة والعناية ، وأما بمعنى الربوبية والمالكية فهو مولى الكل لقوله { وردّوا إلى الله مولاهم الحق } [ يونس : 30 ] ثم برهن على الحكم المذكور وهو أن ولايته مختصة بالمؤمنين فقال { إن الله يدخل } الآية . فشبه الكافرين بالأنعام من جهة أن الكافر غرضه من الحياة التنعم والأكل وسائر الملاذ لا التقوى والتوسل بالغذاء إلى الطاعة وعمل الآخرة ، ومن جهة أنه لا يستدل بالنعم على خالقها ، ومن جهة غفلتهم عن مآل حالهم وأن النار مثوى لهم . ثم زاد في تهديد قريش بقوله { وكأين من قرية } أي أهل قرية هم { أشدّ قوّة من } أهل { قريتك التي أخرجتك } تسببوا لخروجك . وقوله { فلا ناصر لهم } حكاية تلك الحال كقوله { وكلبهم باسط } [ الكهف : 18 ] ثم بين الفرق بين أهل الحق وحزب الشيطان بقوله على طريق الإنكار { أفمن كان على بينة } معجزة ظاهرة وحجة باهرة { من ربه } يريد محمداً وأمته قوله { وأتبعوا } محمول على معنى « من » وهو تأكيد للتزيين كما أن كون البينة من الرب تأكيد لها . وحين أثبت الفرق بين الفريقين أراد أن يبين الفرق بين جزائهما فقال { مثل الجنة } أي صفتها العجيبة الشأن . وفي إعرابه وجهان : أحدهما ما مر في الوقوف ، والثاني قول الزمخشري في الكشاف أنه على حذف حرف الاستفهام ، والتقدير : أمثل الجنة وأصحابها كمثل جزاء من هو خالد في النار ، أو كمثل من هو خالد؟ وفائدة التعرية عن حروف الاستفهام زيادة تصوير مكابرة من يسوّي بين الفريقين . وقوله { فيها أنهار } كالبدل من الصلة أو حال . والآسن المتغير اللون أو الريح أو الطعم ومصدره الأسون والنعت آسن مقصوراً ، واللذة صفة أو مصدر وصف به كما مر في « الصافات » ، والباقي ظاهر .

قال بعض علماء التأويل : لا شك أن الماء أعم نفعاً للخلائق من اللبن والخمر والعسل فهو بمنزلة العلوم الشرعية لعموم نفعها للمكلفين كلهم ، وأما اللبن فهو ضروري للناس كلهم ولكن في أوّل التربية والنماء فهو بمنزلة العلوم الغريزية الفطرية ، وأما الخمر والعسل فليسا من ضرورات التعيش فهما بمنزلة العلوم الحقيقية السببية إلا أن الخمر يمكن أن تخص بالعلوم الذوقية . والعسل بسائرها وقد يدور في الخلد أن هذه الأنهار الأربعة يمكن أن تحمل على المراتب الإنسانية الأربع . فالعقل الهيولاني بمنزلة الماء لشموله وقبوله الآثار ، والعقل بالملكة بمنزلة اللبن لكونه ضرورياً في أوّل النشوء والتربية ، والعقل بالفعل بمنزلة الخمر فإن حصوله ليس بضروري لجميع الإنسان إلا أنه إذا حصل وكان الشخص ذاهلاً عنه غير ملتفت إليه كان كالخمر الموجب للغفلة وعدم الحضور ، والعقل المستفاد بمنزلة العسل من جهة لذته ومن جهة شفائه لمرض الجهل ومن قبل ثباته في المذاق للزوجته ودسومته والتصاقه والله تعالى أعلم بمراده . وقوله { ومغفرة من ربهم } إن قدر ولهم مغفرة من الله قبل ذلك فلا إشكال ، وإن قدر لهم فيها مغفرة أمكن أن يقال : إنهم مغفورون قبل دخول الجنة فما معنى الغفران بعد ذلك؟ والجواب أن المراد رفع التكليف يأكلون من غير حساب ولا تبعة وآفة بخلاف الدنيا فإن حلالها حساب وحرامها عذاب . ثم ذكر نوعاً آخر من قبيح خصال الكافرين وقيل أراد المنافقين فقال { ومنهم من يستمع إليك } كانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم والجمعات ويسمعون كلامه ولا يعونه كما يعيه المسلم { حتى إذا خرجوا } انصرفوا وخرج المسلمون { من عندك } يا محمد قال المنافقون للعلماء وهم بعض الصحابة كابن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء : أيّ شيء قال محمد { آنفاً } أي في ساعتنا هذه . وأنف كل شيء ما تقدمه ومنه فولهم « استأنفت الأمر » ابتدأته . ولا يستعمل منه فعل ثلاثي بهذا المعنى . وإنما توجه الذم عليهم لأن سؤالهم سؤال استهزاء وإعلام أنهم لم يلتفتوا إلى قوله ، ولو كان سؤال بحث عما لم يفهموه لم يكن كذلك ، على أن عدم الفهم دليل قلة الاكتراث بقوله . ثم مدح أهل الحق بقوله { والذين اهتدوا } بالإيمان { زادهم } الله { هدى } بالتوفيق والتثبيت وشرح الصدر ونور اليقين { وآتاهم تقواهم } أعانهم عليها أو أعطاهم جزاء تقواهم . وعن السدي : بين لهم ما يتقون . وقيل : الضمير في { زادهم } للاستهزاء أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم . ثم خوف أهل الكفر والنفاق باقتراب القيامة . وقوله { أن تأتيهم } بدل اشتمال من { الساعة } وأشراط الساعة إماراتها من انشقاق القمر وغيره . ومنه مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه نبي آخر الزمان ولهذا قال « بعثت أنا والساعة كهاتين » وأشار بالسبابة والوسطى { فأنى لهم } من أين لهم { إذا جاءتهم } الساعة { ذكراهم } أي لا ينفعهم تذكرهم وإيمانهم حينئذ فالذكرى مبتدأ و { أنى لهم } الخبر . وقيل : فاعل { جاءتهم } ضمير يعود إلى « الذكرى » . وجوّز أن يرتفع « الذكرى » بالفعل والمبتدأ مقدر أي من أين لهم التذكر إذا جاءتهم الذكرى؟ والقول هو الأول ولله المرجع والمآب وإليه المصير .

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

القراآت : { وتقطعوا } بالتخفيف من القطع : سهل ويعقوب . والآخرون : بالتشديد من التقطيع { وأملى لهم } مبنياً للمفعول ماضياً : أبو عمرو ويعقوب { وأملى } مضارعاً مبنياً للفاعل : سهل ورويس . الباقون : ماضياً مبنياً للفاعل { إسرارهم } بكسر الهمز على المصدر : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { وليبلونكم حتى يعلم } { ويبلوا } بالياءات : أبو بكر وحماد . الآخرون : بالنون في الكل . وقرأ يعقوب { ونبلو } بالنون مرفوعاً { السلم } بكسر السين : حمزة وخلف وأبو بكر وحماد .
الوقوف : { والمؤمنات } ط { ومثواكم } ه { نزلت سورة } ج للشرط مع الفاء { القتال } لا { الموت } ط للابتداء بالدعاء عليهم { لهم } ه ج لاحتمال أن يكون الأولى بمعنى الأقرب كما يجيء { معروف } قف { الأمر } ز لاحتمال أن التقدير فإذا عزم الأمر كذبوا وخالفوا { خيراً لهم } ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء { أرحامكم } ه { أبصارهم } ه { أقفالها } ه { الهدى } لا لأن الجملة بعده خبر « إن » { سوّل لهم } ط لأن فاعل { وأملى } ضمير اسم الله ويجوز الوصل على جعله حالاً وقد أملى ، أو على أن فاعله ضمير الشيطان من حيث أنه يمنيهم ويعدهم ، والوقف أجوز واعزم . والحال على قراءة { وأملى } بفتح الياء أجوز والوقف به جائز ، ومن سكن الياء فالوقف به أليق لأن المستقبل لا ينعطف على الماضي . ومع ذلك لو جعل حالاً على تقدير وأنا أملي جاز { لهم } ه { الأمر } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً والوقف أجوز لأن الله يعلم الأسرار في الأحوال كلها { إسرارهم } ه { وأدبارهم } ه { أعمالهم } ه { أضغانهم } ه { بسيماهم } ط للابتداء بما هو جواب القسم { القول } ط { أعمالكم } ه { والصابرين } ط لمن قرأ { ونبلو } بسكون الواو أي ونحن نبلو { أخباركم } ه { الهدى } لا لأن ما بعده خبر « إن » { شيئاً } ط { أعمالهم } ه { أعمالكم } ه { لهم } ه { إلى السلم } قف قد قيل : على أن قوله { وأنتم } مبتدأ ، وجعله حالاً أولى { الأعلون } قف كذلك { أعمالكم } ه قف { ولهو } ط { أموالكم } ه { أضغانكم } ه { سبيل الله } ج لانقطاع النظم مع الفاء { من يبخل } ج لابتداء الشرط مع العطف { عن نفسه } ط { الفقراء } ه للشرط مع العطف { غيركم } لا للعطف { أمثالكم } ه .
التفسير : لما ذكر حال الفريقين المؤمن والكافر من السعادة والشقاوة قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ومن هضم النفس باستغفار ذنبك أو ذنبو أمتك . أو المراد فاعلم خبراً يقيناً على ما علمته نظراً واستدلالاً . أو أراد فاذكر لا إله إلا الله . والهاء في { أنه } لله أو للأمر والشأن ، أو الأول إشارة إلى أصول الحكمة النظرية ، والثاني إلى أصول الحكمة العملية ، أمره بالحكمة العملية بعد الحكمة النظرية .

عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فتلا هذه الآية . وذلك أنه أمر بالعمل بعد العلم . والفاءات في هذه الآية وما تقدّمها لعطف جملة على جملة بينهما اتصال . وفي الآية نكتة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم له أحوال ثلاث : حال مع الله وهي توحيده ، وحال مع نفسه وهي طلب العصمة من الذنوب وأن يستر الله عليه جنس الآثام حتى لا يقع فيها ، وحال مع غيره وهي طلب ستر الذنوب عليهم بعد وقوعهم فيها أو أعم ويندرج فيها الشفاعة . ثم قال { والله يعلم متقلبكم ومثواكم } فقيل : التقلب في الأسفار والمثوى في الحضر . وقيل : أراد منتشركم في النهار ومستقركم بالليل . وقيل : الأوّل في الدنيا والثاني في الآخرة . وقيل : لكل متقلب مثوى فيتقلب من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى الجنة أو النار . والمقصود بيان كمال علمه بحال الخلائق فعليهم أن لا يهملوا دقائق الطاعة والخشية ويواظبوا على طلب المغفرة خوفاً من التقصير في العبودية . ثم ذكر طرفاً آخر من نصائح أهل النفاق ومن ينخرط في سلكهم من ضعفة الإسلام ، وذلك أنهم كانوا يدّعون الحرص على الجهاد ويقولون بألسنتهم { لولا نزلت } سورة في باب القتال { فإذا أنزلت سورة محكمة } مبينة غير متشابهة لا تحتمل النسخ { وذكر فيها القتال } عن قتادة : كل سورة ذكر فيها القتال فهي محكمة وهي أشدّها على المنافقين . قال أهل البرهان : نزل بالتشديد أبلغ من أنزل فخص بهم ليكون أدل على حرصهم فيكون أبلغ في أبلغ في باب التوبيخ . قوله { فأولى لهم } كلمة تحذير أي وليك شر فاحذره . هذه عبارة كثير من المفسرين . وقال المبرد : يقال للإنسان إذا كاد يعطب ثم يفلت : أولى لك . أي قاربت العطب ثم نجوت . وهو في الفرقان على معنى التحذير . وقال جار الله : هو وعيد معناه فويل لهم والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه . وقيل : أراد طاعة وقول معروف أولى من الجزع عند الجهاد فلا يكون للوعيد ، وعلى هذا فلا وقف على { لهم } كما أشير إليه في الوقف . واعترض عليه بأن الأفصح أن يستعمل وقتئذ بالباء لا مع اللام كما قال { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ الأنفال : 75 ] والأصح أنه فعل متعدٍ من الولي وهو القرب أي أولاه الله المكروه فاقتصر لكثرة الاستعمال . ويحتمل أن يكون « فعلى » من آل يؤل أي يؤل أمرك إلى شر فاحذره . ثم حثهم على الامتثال بقوله { طاعة وقول معروف } أي طاعة الله وقول حسن أو ما عرف صحته خير من الجزع عند فرض الجهاد فهو مبتدأ محذوف الخبر ، أو أمرنا طاعة فيكون خبر مبتدأ محذوف كما مر في سورة النور في قوله { طاعة معروفة } [ الآية : 53 ] ويجوز أن يكون أمراً للمنافقين أي قولوا طاعة وقول معروف .

{ فإذا عزم الأمر } أي جدّ وصار معزوماً عليه وهو إسناد مجازي لأن العزم لأصحاب أمر القتال . ثم التفت وخاطب كفار قريش بقوله { فهل عسيتم } هو من أفعال المقاربة وقد مر وجوه استعمالاته في « البقرة » في قوله { عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } [ الآية : 216 ] فنقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ليكون أبلغ في التوبيخ ومعناه هل يتوقع منكم { إن توليتم } وأعرضتم عن الدين أو توليتم أمور الناس { أن تفسدوا في الأرض } بالمعاصي والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام { وتقطعوا أرحامكم } بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر ما كنتم عليه في الجاهلية من أنواع الإفساد ، وفي سلوك طريقة الاستخبار المسمى في غير القرآن بتجاهل العارف ، إمالة لهم إلى طريق الإنصاف وحث لهم على التدبر وترك العصبية والجدال ، فقد كانوا يقولون كيف يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال والقتال إفناء لذوي أرحامنا وأقاربنا ، فعرض الله سبحانه بأنهم إن ولوا أمور الناس أو أعرضوا عن هذا الدين لم يصدر عنهم إلا القتل والنهب وسائر أبواب المفاسد كعادة أهل الجاهلية . ثم صرح بما فعل الله بهم واستقر عليه حالهم فقال { أولئك الذين لعنهم الله } بعدهم عن رحمته . ثم بين نتيجة اللعن قائلاً { فأصمهم } أي عن قبول الحق بعد استماعه وهذا في الدنيا { وأعمى أبصارهم } أي في الآخرة أو عن رؤية الحق والنظر إلى المصنوعات . قال بعض العلماء : إنما لم يقل فأصم آذانهم لأن الأذن عبارة عن الشحمة المعلقة ، والسمع لا يتفاوت بوجود وعدمها ، ولذلك يسمع مقطوع الأذن . وأما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه ، فالتأكيد هناك إنام يحصل بترك ذكر الأذن وههنا بذكر الأبصار والله أعلم . قال جار الله : يجوز أن يريد بالذين آمنوا المؤمنين الخلص الثابتين وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي . فإذا أبطأ عليهم التمسوه ، فإذا نزلت سورة في معنى الجهاد رأيت المنافقين يضجرون منها .
سؤال : لما أثبت لهم الصمم والعمى فكيف وبخهم بقوله { أفلا يتدبرون القرآن } ؟ وأجيب على مذهب أهل السنة بأن تكليف ما لا يطاق جائز . ويمكن أن يقال : لما أخبر عنهم بما أخبر حكى أنهم بين أمرين : إما أن لا يتدبروا القرآن لأن الله أبعدهم عن الخير ، وإما أن يدبروا لكن لا يدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة . قال جار الله : إنام نكرت القلوب لأنه أريد البعض وهو قلوب المنافقين أو أريد على قلوب قاسية مبهم أمرها . وإنما أضيفت الأقفال إلى ضمير القلوب لأنه أريد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر والعناد التي استغلقت فلا تنفخ . ثم أخبر عن حال المنافقين أو اليهود الذين غيروا حالهم من بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام أو نعت محمد في التوراة فقال { إن الذين ارتدوا } الآية . { ذلك } الإملاء أو الإضلال أو الارتداد بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا أي قال اليهود للمنافقين ، أو قال المنافقون ليهود قريضة والنضير ، أو قاله اليهود أو المنافقون للمشركين { سنطيعكم في بعض الأمر } الذي يهمكم كالتظافر على عداوة محمد والقعود عن الجهاد معه أو في بعض ما تأمرون به ، وهو ما يتعلق بتكذيب محمد لا في إظهار الشرك واتخاذ الأصنام وإنكار المعاد { والله يعلم أسرارهم } فلذلك أفشى الذي قالوه سراً فيما بينهم وسيجازيهم على حسب ذلك يدل عليه قوله { فكيف } يعملون وما حيلتهم حين توفتهم ملائكة الموت { يضربون وجوههم وأدبارهم } التي كانوا يتقون أن يصيبها آفة في القتال ، أو يضربون وجوههم عند الموت وأدبارهم عند السوق إلى النار .

وقيل : يضربون وجوههم عند الطلب وأدبارهم حين الهرب { ذلك } الإذلال والإهانة { بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه } كأنهم ضربوا وجوههم لأنهم أقبلوا على مواجب السخط ، وضربوا أدبارهم لأنهم أعرضوا عما فيه رضا الله . وقد يخص السخط بكتمان نعت الرسول ومعاونة أهل الشرك والرضا بالإيمان به والنصرة للمؤمنين . وإنما قال { ما أسخط الله } ولم يقل « ما أرضى الله » لأن رحمته سبقت غضبه ، فالرضا كالأمر الحاصل والإسخاط كالأمر المترتب على شيء . ثم زاد في تعيير المنافقين بقوله { أم حسب } وهي منقطعة . والضغن إضمار سوء يتربص به إمكان الفرصة . وإخراج الإضغان إبرازها للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كما قال { ولو نشاء لأريناكهم } أي لو شئنا أريناك أماراتهم { فلعرفتهم } كررت لام جواب « لو » في المعطوف لأجل المبالغة { بسيماهم } بعلامتهم . عن أنس أنه ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصحبوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب « هذا منافق » . ومعنى لحن القول نحوه وأسلوبه وفحواه أي يقولون ما معناه النفاق كقولهم { لئن رجعنا إلى المدينة } [ المنافقون : 8 ] { إن بيوتنا عورة } [ الأحزاب : 13 ] أو لتعرفنهم في فحوى كلام الله حيث قال ما يعلم منه حال المنافقين كقوله { ومن الناس من يقول } [ البقرة : 8 ] { ومنهم من عاهد الله } [ التوبة : 75 ] وحقيقة اللحن ذهاب الكلام إلى خلاف جهته . وقيل : اللحن أن تميل كلامك إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال :
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يعرفه ذوو الألباب
ويقال للمخطىء لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب . وقال الكلبي : لحن القول كذبه . ولم يتكلم بعد نزولها منافق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عرفه . وعن ابن عباس هو قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب { والله يعلم أعمالكم } فيميز خيرها من شرها وإخلاصها من نفاقها { ولنبلونكم } أي لنأمرنكم بما لا يكون متعيناً للوقوع بل يحتمل الوقوع واللاوقوع كما يفعل المختبر حتى يظهر المجاهد والصابر من المنافق والمضطرب .

{ ونبلو أخباركم } التي تحكي عنكم كقولكم { آمنا بالله وباليوم الآخر } [ البقرة : 8 ] أو عهودكم كقوله { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار } [ الأحزاب : 15 ] أو أسراركم أو ما ستفعلونه أو أخباركم الأراجيف كقوله { والمرجفون في المدينة } [ الأحزاب : 60 ] عن الفضل أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا . ثم أنزل في اليهود من قريظة والنضير أو في رؤساء قريش المطعمين يوم بدر { إن الذين كفروا } الآية . وأعمالهم طاعاتهم في زمن اليهودية ، ومكايدهم التي نصبوها في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو إطعامهم . ثم أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله بالتوحيد والتصديق مع الإخلاص وأن لا يبطلوا إحسانهم بالمعاصي والرياء وبالمن والأذى . عن أبي العالية قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون إنه لا يضر مع « لا إله إلا الله » ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت الآية ، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم . وعن قتادة : رضي الله عن عبد لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء . ثم أراد أن يبين أن أعمال المكلف إذا بطلت فإن فضل الله باقٍ يغفر له إن شاء ما لم يمت على الكفر فقال { إن الذين كفروا } الآية . قال مقاتل : نزلت في رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن والده وقال : إنه كان محسناً في كفره . وعن الكلبي : نزلت في رؤساء أهل بدر . { فلا تهنوا } لا تضعفوا ولا تجبنوا { وتدعوا إلى السلم } أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح . ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار « أن » بعد الواو في جواب النهي { وأنتم الأعلون } الغالبون المستولون عليهم { والله معكم } بالنصرة والكلاءة { ولن يتركم أعمالكم } أي لن ينقصكم جزاء أعمالكم من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو قريب أو سلبت ماله وأصله من الوتر وهو الفرد ، كأنك أفردته من قريبه أو ماله . وفي الحديث « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » وهو من فصيح الكلام . ثم زادهم حثاً على الجهاد بتحقير الدنيا في أعينهم وبأنه سبحانه إنما يحثهم على الإيمان والجهاد وسائر أبواب التقوى لتعود فائدتها عليهم كما قال « خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم » قوله { ولا يسألكم أموالكم } أي كل أموالكم ولكنه يقتصر منها على ربع العشر ، أو لا يسألكم أموالكم لنفسه ولكن لتكون زاداً لكم في المعاد . وقيل : لا يسألكم أموالكم رسولي لنفسه . وقيل : إنهم لا يملكون شيئاً وإن المال مال الله وهو المنعم بإعطائه . والقول هو الأوّل لقوله { إن يسألكموها فيحفكم } أي يجهد كم يبلغ الغاية فيها من أحفى شاربه استأصله كأنه جعله حافياً مما في ملكه أي عارياً { تبخلوا ويخرج } الإحفاء أو الله تعالى على طريق التسبب { أضغانكم } أي تضطغنون على الرسل وتظهرون كراهة هذا الدين .

ثم بين أنه كيف يأمركم بإخراج كل المال وقد دعاكم إلى إنفاق البعض { فمنكم من يبخل } و « ها » للتنبيه وكرر مع أولاء للتوكيد وأنتم أولاء جملة مستقلة أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون . ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا وما وصفنا فقيل { تدعون لتنفقوا في سبيل الله } وهو الزكاة أو الغزو ، فمنكم ناس يبخلون به . وقيل : { هؤلاء } موصول صلته { تدعون } وهو مذهب الكوفيين وقد سلف في « البقرة » و « آل عمران » . ثم قبح أمر البخل بقوله { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } أي وباله على نفسه أو عن داعي ربه . قال في الكشاف : يقال بخلت عليه وعنه . وفيه نظر لأن البخل عن النفس لا يصح بهذا التفسير . نعم لو قال عن ماله كان تفسيره مطابقاً . ثم مدح نفسه بالغنى المطلق وبين بقوله { وأنتم الفقراء } أنه لا يأمر بالإنفاق لحاجته ولكن لفقركم إلى الثواب . ثم هددهم بقوله { وإن تتولوا } وهو معطوف على { وإن تؤمنوا } ومعنى { يستبدل قوماً غيركم } يخلق قوماً سواكم راغبين فيما ترغبون عنه من الإيمان والتقوى كقوله { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [ فاطر : 61 ] ومعنى « ثم » التراخي في الرتبة أي لا يكونون أشباهكم في حال توليكم . وقيل : في جميع الأحوال . وعن الكلبي : شرط في الاستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل قوماً وهم العرب أهل اليمن أو العجم . قاله الحسن وعكرمة لما روي أو رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال : هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس والله تعالى أعلم .

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

القراآت : { ليؤمنوا } { ويعزروه ويوقروه ويسبحوه } بياءات الغيبة : ابن كثير وأبو عمرو . و { عليه الله } بضم الهاء : حفص { فسنؤتيه } بالنون : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر . الآخرون : بالياء التحتانية والضمير لله سبحانه { شغلتنا } بالتشديد : قتيبة { ضراً } بالضم { كلم الله } على الجمع : حمزة وعلي وخلف { بل ظننتم } بالإدغام : علي وهشام { بل تحسدوننا } مدغماً : حمزة وعلي وهشام . { ندخله } { ونعذبه } بالنون فيهما : أبو جعفر ونافع وإبن عامر { بما يعملون بصيراً } بياء الغيبة : أبو عمرو { الرؤيا } بالإمالة : ابن عامر وعلي وهشام { شطأه } بفتح الطاء من غير مد : ابن ذكوان والبزي والقواس . الباقون : ساكنة الطاء .
الوقوف : { مبيناً } ه لا { مستقيماً } ه لا على احتمال الجواز ههنا لتكرار إسم الله بالتصريح { عزيزاً } ه { إيمانهم } ط { والأرض } ط { حكيماً } ه لا لتعلق اللام { سيئاتهم } ط { عظيماً } ه لا للعطف { ظن السوء } ط { دائرة السوء } ج لعطف الجملتين المختلفين { جهنم } ط { مصيراً } ه { والأرض } ط { حكيماً } ه { ونذيراً } ه لا { وتوقروه } ط للفصل بين ضمير اسم الله وضمير الرسول في المعطوفين فيمن لم يجعل الضمائر كلها لله { وأصيلاً } ه { يبايعون الله } ط { أيديهم } ج ط للشرط مع الفاء { على نفسه } ج للعطف مع الشرط { عظيماً } ه { فاستغفر لنا } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { قلوبهم } ط { نفعاً } ط { خبيراً } ه { بوراً } ه { سعيراً } ه { الأرض } ط { من يشاء } ط { رحيماً } ه { نتبعكم } ج لأن ما بعده حال عامله { سيقول } أو مستأنف { كلام الله } ط { من قبل } ج للسين مع الفاء { تحسدوننا } ط { قليلاً } ه { يسلمون } ه { حسناً } ج { أليماً } ه { المريض حرج } ط لأن الواو للاستئناف { الأنهار } ج { اليماً } ه { قريباً } ه لا { يأخذونها } ط { حكيماً } ه { عنكم } ج لأن الواو مقحمة أو المعلل محذوف والواو داخلة في الكلام المعترض ، أو عاطفة على تقدير ليستيقنوا ولتكون { مستقيماً } ه لا للعطف { بها } ج { قديراً } ه { نصيراً } ه { تبديلاً } ه { عليهم } ط { بصيراً } ه { محله } ط { بغير علم } ج لحق المحذوف أي قدر ذلك ليدخل { من يشاء } ج لاحتمال أن جواب « لولا » محذوف وأن يكون هذه مع جوابها جواباً للأولى { أليماً } ه { وأهلها } ط { عليماً } ه { بالحق } ج لحق حذف القسم { آمنين } لا { مقصرين } لا لأنها أحوال متابعة { لا تخافون } ط لأن قوله { فعلم } بيان حكم الصدق كالأعذار فلا ينعطف على قوله { صدق الله } { قريباً } ه { كله } ط { شهيداً } ه { رسول الله } ج لأن ما بعده مستأنف { ورضواناً } ز لأن { سيماهم } مبتدأ غير أن الجمة من حد الأولى في كون الكل خبر والذين { السجود } ط { الإنجيل } ج لاحتمال أن التقدير هم كزرع { الكفار } ط { عظيماً } ه .

التفسير : الفتح في باب الجهاد هو الظفر بالبلد بصلح أو حرب لأنه منغلق ما لم يظفر به . والجمهور على أن المراد به ما جرى يوم الحديبية . عن أنس قال : لما رجعنا عن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة ، أنزل الله { إنا فتحنا } فقال صلى الله عليه وسلم : « لقد أنزل عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا كلها » والحديبية بئر سمي المكان بها وكان قد غاض ماؤها فتمضمض فيها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بالماء حتى عمهم . وعن ابن شهاب : لم يكن في الإسلام فتح أعظم من فتح الحديبية وضعت الحرب وأمن الناس . وقال الشعبي : أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غيرها ، بويع فيها بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد به فصح صدقه وأطعم نخل خيبر . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة أحب أن يزور بيت الله الحرام بمكة فخرج قاصداً نحوه في سنة ست من الهجرة ، وخرج معه أولو البصيرة وتخلف من كان في قلبه مرض ظناً منه أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً . واستصحب سبعين بدنة لينحرها بمكة ، ولما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم بالعمرة لتعلم قريش أنه لم يأت لقتال وكانوا ألفاً وثلثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة فبايعوه إلا جد بن قيس فإنه اختبأ تحت إبطي ناقته ، فجاءه عروة بن مسعود لإيقاع صلح . فلما رأية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله على أني أرى وجوهاً وأسراباً خليقاً أن يفروا ويدعوك؟ فشتمه أبو بكر فلما عاد إلى قريش قال : لقد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك وما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً . والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم ، وما يحدّون النظر إليه تفخيماً ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه . فلما اتفقوا على الصلح جاء سهيل بن عمرو والمخزومي وتصالحوا على أن لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة سنته بل يعود في القابل ويقيم ثلاثة أيام ثم ينصرف ، فلما كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه « بسم الله الرحمن الرحيم » . قال سهيل : ما نعرف « الرحمن الرحيم » اكتب في قضيتنا ما نعرف « باسمك اللهم » .

ولما كتب « هذا ما صالح محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم » . قال : لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك ، اكتب محمد بن عبد الله . فتنازع المسلمون وقريش في ذلك وكادوا يتواثبون ، فمنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالإجابة فكتب « هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشاً على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة مجتازاً إلى مصر والشام أو يبتغي من فضل الله فهو على دمه وأهله آمن ، وعلى أنه من جاء محمداً من قريش فهو إليهم ردّ ، ومن جاءهم من أصحاب محمد فهو لهم » فاشتدّ ذلك على المسلمين فقال النبي صلى الله عيله وسلم : من جاءهم منا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فإن علم الله منه الإسلام جعل له مخرجاً . فلما فرغوا من الهدنة نحر النبي صلى الله عليه وسلم وحلق وفعل أصحابه ذلك فنزل عليه في طريقه في هذا الشأن { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } يريد ما كان من أمر الحديبية والفتح قد يكون بالصلح . وقيل : كان ذلك بلفظ الماضي على عادة إخبار الله . وقال ابن عيسى : الفتح الفرج المزيل للهم ومنه فتح المسألة إذا انفرجت عن بيان يؤدّي إلى الثقة . وقيل وهو قول قتادة : الفتح القضاء والحكم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة أي حكما لك بهذه المهادنة وأرشدناك إلى الإسلام ليغفر لك الله . قال أهل النظم : لأوّل هذه السورة مناسبة تامة مع آخر السورة المتقدّمة وذلك أنه قال { ما أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا } [ محمد : 38 ] إلى آخره فبين بعد ذلك أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاعت عنهم هذه الفوائد . وأيضاً لما قال { وأنتم الأعلون } [ محمد : 35 ] بين برهانه بصلح الحديبية أو بفتح مكة وكان في قوله { وتدعوا إلى السلم } [ محمد : 35 ] إشارة إلى ما جرى يوم الحديبية من أن المسلمين صبروا إلى أن طلب المشركون الصلح .
سؤال : ما المناسبة بين الفتح والمغفرة حتى جعلت غاية له؟ الجواب الغاية هي مجموع المغفرة وما ينعطف عليها كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة وغيره من الفتوح ليجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل . ويجوز أن تكون الفتوح من حيث إنها جهاد للعدّو سبباً للغفران والثواب . قال جار الله : وقيل : تقدير الكلام إنا فتحنا لك فاستغفره ليغفر لك كقوله { إذا جاء نصر الله والفتح } إلى قوله { واستغفروه } [ النصر : 1-3 ] وقيل : إن فتح مكة كان سبباً لتطهير البيت من رجس الأوثان ، وتطهير بيته سبب لتطهير عبده . وأيضاً بالفتح يحصل الحج وبالحج تحصل المغفرة كما ورد في الأخبار « خرج كيوم ولدته أمه »

وأيضاً إن الناس قد علموا عام الفيل أن مكة لا يتسلط عليها عدواً لله ، فلما فتحت للرسول صلى الله عليه وسلم عرف أنه حبيب الله المغفور له . أما الذنب فقيل : أراد به ذنب المؤمنين من أمته ، أو أريد به ترك الأفضل والصغائر سهواً أو عمداً . ومعنى { ما تأخر } أي عن الفتح أو ما تقدم عن النبوّة وتأخر عنها . وقيل { ما تقدم } ذنب أبويه آدم وحواء { وما تأخر } ذنب أمته . وقيل : أراد جميع الذنوب فحدّ أوّلها وآخرها ، أو هو على وجه المبالغة كما تقول : أعطى من رأى ومن لم يره . وقيل : ما تقدم من أمر مارية وما تأخر من أمر زينب وهو قول سخيف لعدم التئام الكلام ظاهراً . والأولى أن يقال : ما تقدم النبوّة بالعفو وما تأخر عنها بالعصمة { ويتم نعمته عليك } بإعلاء دينك وفتح البلاد على يدك لقوله { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] ومن إتمام النعمة تكليف الحج وقد تم يومئذ ولم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم عدوّ من قريش ، فإن كثيراً منهم وقد أهلكوا يوم بدر ، والباقين آمنوا واستأمنوا يوم الفتح . وقيل : إمام النعمة في الدنيا باستجابة الدعاء في طلب الفتح وفي الآخرة بقبول الشفاعة { ويهديك صراطاً مستقيماً } أي يثبتك ويهديك عليه فإن الفتح لا يكون إلا لمن هو على صراط الله ، ولعل المراد بهذا الخطاب هو أمته . والنصر العزيز ذو العزة وهو الذي لا ذل بعده ، أو هو بمعنى المعز أو الممتنع على الغير وهو النفيس الذي لا يناله كل أحد . وفي الآية تفخيم شأن الفتح والنصر من وجوه : أحدها لفظ ( إنا ) الدال على التعظيم . وثانيها لفظ ( لك ) الدال على الاختصاص . ثالثها إعادة اسم الله في الموضعين أوّلاً وآخراً . ثم بين سبب النصر بقوله { هو الذي أنزل السكينة } وهي السكون والوقار والطمأنينة والثقة بوعد الله كما مر في « البقرة » وفي « التوبة » { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } أي يقيناً مع يقينهم أو إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالله . وعن ابن عباس أو أول ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة ثم الزكاة ثم الجاد ثم الحج ، أو ازدادوا إيماناًَ استدلالياً مع إيمانهم الفطري . وعلى هذا ففائدة قوله { مع إيمانهم } أن الفطرة تشهد بالإيمان ، فلما عرفوا صحة الإيمان بالنظر والاستدلال انضم هذا الثاني إلى الأول . وجنود السموات والأرض ملائكتهما ، ويمكن أن يراد بمن في الأرض الثقلان والحيوان غير الإنسان . ويحتمل أن يراد بالجنود معنى أعم وهو الأسباب الأرضية والسماوية فيدخل فيهما الصيحة والرجفة . وظن السوء هو ظنهم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم ، أو أن الله تعالى لا ينصرهم على أعدائهم ، أو أن الله شريكاً ، أو أنه لا يقدر على إحياء الموتى .

ومعنى دائرة السوء أن ضرر ظنهم يعود إليهم ويدور عليهم وقد مر في سورة التوبة . قال بعض العلماء : ضم المؤمنات ههنا إلى المؤمنين بخلاف قوله { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] { وبشر المؤمنين } [ الأحزاب : 47 ] ونحو ذلك . والسر فيه أن كل موضع يوهم اختصاص الرجال به مع كون النساء مشاركات لهم ذكرهن صريحاً نفياً لهذا التوهم ، وكل موضع لا يوهم ذلك اكتفى فيه بذكر الرجال لأنهم الأصل في أكثر الأحكام والتكاليف . مثلاً من المعلوم أن البشارة والنذارة عامة للناس قاطبة فلم يحتج فيهما إلى ذكر النساء بخلاف هذه الآية فإن إدخال الجنة يوهم أنه لأجل الجهاد مع العدوّ والفتح على أيديهم والمرأة لا جهاد عليها ، فكان يظن أنهن لا يدخلن الجنات فنفى الله تعالى هذا الوهم ، وكذا الكلام في تعذيب المنافقات والمشركات . نكتة الجنود المذكورة أوّلاً هي جنود الرحمة فكانوا سبباً لإدخال المؤمنين الجنة بالإكرام والتعظيم ثم إلباسهم خلع الكرامة لقوله { ويكفر عنهم سيئاتهم } ثم تشريفهم بالفوز العظيم من الله كما قال { وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً } وأما الكافر فعكس منه الترتيب : أخبر بتعذيبهم أوّلاً على الإطلاق ، ثم فصل بأنه يغضب عليهم أوّلاً ثم يوبقهم في خبر اللعن والبعد عن الرحمة ، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب الذين هم جنوده كما قال { عليها ملائكة غلاظ شداد } [ التحريم : 6 ] ولا ريب أن كل ذلك على قانون الحكمة إلا أنه قرن العلم في الأول إلى الحكمة تنبيهاً على أن إنزال السكينة وازدياد إيمان المؤمنين وترتيب الفتح على ذلك كانت كلها ثابتة في علم الله ، جارية على وفق الحكمة . وقرن العز بالحكمة ثانياً لأن العذاب والغضب وسلب الأموال والغنائم يناسب ذكر العزة والغلبة والقهر زادنا الله إطلاعاً على أسرار قرآنه الكريم وفرقانه العظيم .
ثم مدح رسول صلى الله عيله وسلم وذكر فائدة بعثته ليرتب عليه ذكر البيعة فقال { إنا أرسلناك شاهداً } على أمتك { ومبشراً ونذيراً } وقد مر في سورة الأحزاب مثله إلا أن قوله { لتؤمنوا بالله ورسوله } قائم مقام قوله هناك { وداعياً إلى الله بإذنه } [ الآية : 46 ] من قرأ على الغيبة فظاهر ، وأما من قرأ على الخطاب فلتنزيل خطاب النبي منزلة خطاب المؤمنين . وقوله { وتعزروه وتوقروه } كلاهما بمعن التعظيم من العز والوقار ينوب منابه . قوله هناك { وسراجاً منيراً } وذلك أن النور متبع والتبجيل والتعظيم دليل المتبوعية . وقال جار الله : الضمائر كلها لله عز وجل وتعظيم الله تعظيم دينه روسوله . وقوله { وتسبحوه } من التسبيح أو من السبحة وهي صلاة التطوع . و { بكرة وأصيلاً } للدوام أو المراد صلاة الفجر والعصر وحدها أو مع الظهر قاله ابن عباس . { إن الذين يبايعونك } هي بيعة الرضوان تحت الشجرة كام يجيء في السورة . وقيل : ليلة العقبة وفيه بعد . وسماها مبايعة تشبيهاً بعقد البيع نظيره

{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } [ التوبة : 111 ] { إنما يبايعون الله } لأن طاعة الرسول هي طاعة الله في الحقيقة . ثم أكد هذا المعنى بقوله { يد الله فوق أيديهم } قال أهل المعاني : هذا تمثيل وتخييل ولا جارحة هناك . وقيل : اليد النعمة أي نعمة الله عليهم بالهداية فوق إحسانهم إلى الله بإجابة البيعة كما قال { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم } [ الحجرات : 17 ] قال القفال : هو من قوله صلى الله عليه وسلم : « اليد العليا خير من اليد السفلى » يريد بالعليا المعطية أي الله يعطيهم ما يكون له به الفضل عليهم . وقيل : اليد القوة أي نصرته إياهم فوق نصرتهم لرسوله . وقيل : يد الله بمعنى الحفظ فإن المتوسط بين المتبايعين يضع يده فوق يدهما فلا يترك أن تتفارق أيديهما حتى يتم البيع ، والمراد أن الله تعالى يحفظهم على بيعتهم . ثم زجرهم من نقض العهد وحثهم على الوفاء بقوله { فمن نكث } إلى آخره . والنكث والنقض أخوان . وقوله { فإنما ينكث على نفسه } أي لا يعود ضرر نكثه إلا عليه . قال جابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس ، وكان منافقاً اختبأ تحت إبط ناقته ولم يثر مع القوم . ثم بين ما يعلم منه إعجاز القرآن لأنه أخبر عن الغيب وقد وقع مطابقاً وله في السورة نظائر فقال { سيقول لك المخلفون } هم أسلم ومزينة وجهينة وغفار . وقيل : سموا مخلفين لأن التوفيق خلفهم ولم يعتدّ بهم . والظاهر أنهم سموا بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر الأعراب وأهل البوادي حذراً من قريش أن يصدّوه عن البيت ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم قصدوه في داره بالمدينة وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة فاعتلوا . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا { شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا } سل الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك وإن كان من عذر فكذبهم الله بقوله { يقولون بألسنتهم } وقوله شيئاً من الضر كقتل وهزيمة ولا يوصل إليهم نفعاً إلا ما شاء الله . وإنما قال ههنا بزيادة لفظة { لكم } لأنه في قوم بأعيانهم بخلاف « المائدة » فإنه عام لقوله { أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً } [ المائدة : 17 ] ثم ردّ قولهم اللساني فقال { بل كان الله بما تعملون خبيراً } ثم ردّ اعتذراهم الواهي بقوله { بل ظننتم } الآية . والبور جمع بائر أي هالك والباقي واضح إلى قوله { رحيماً } وفيه بيان كمال قدرته على تعذيب الكافرين مع أن مغفرته ذاتيه ورحمته سابقة .

وقوله { سيقول المخلفون } إنما لم يقل هنا لك لأن المخاطبين هم المؤمنون كلهم لا النبي وحده . وجمهور المفسرين على أن هؤلاء هم المخلفون المذكورون فيما تقدم .
وقوله { إلى مغانم } هي مغانم خيبر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد أهل الحديبية أن غنائم أهل خيبر لهم خصوصاً من غاب منهم زمن حضر بدل تعب السفر في العمرة التي صدّهم المشركون عنها . وزاد الزهري فقال : وإن حضرها من غيرهم من الناس . قالوا : ولم يغب منهم عنها أحد إلا جابر ابن عبد الله ، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر . وكان انصراف النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ، ثم خرج إلى خيبر وخرج معه من شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالاً كثيرة وجعلها لهم خاصة ، وكان قبل ذلك وعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه غنائم خيبر فسمع المنافقون ذلك فقالوا للمؤمنين { ذرونا نتبعكم } فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم لأن أمره أن لا يخرج إلى خيبر إلا أهل الحديبية وذلك قوله { يريدون أن يبدّلوا كلام الله } فقال الله لنبيه { قل لنا تتبعونا } أي في خيبر . وقيل : عامّ في غزواته { كذلكم قال الله من قبل } أي قبل انصرافهم إلى المدينة { فسيقولون } ردّاً على النبي والمؤمنين إن الله لم يأمركم به { بل تحسدوننا } أن نشارككم في الغنيمة فرد الله عليهم ردّهم بقوله { بل كانوا لا يفقهون إلا } فهماً { قليلاً } وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين ، أو هو فهمهم من قوله { قل لن تتبعونا } مجرد النهي فحملوه على الحسد ولم يعلموا أن المراد هو أن هذا الاتباع لا يقع أصلاً لأن الصادق قد أخبر بنفيه . وذهب جماعة من المفسرين منهم الزجاج إلى أن كلام الله ههنا هو قوله في سورة براءة { لن تخرجوا معي أبداً } [ الآية : 83 ] واعترض بأن هذا في قصة تبوك التي كانت بعد الحديبية بسنتين بإجماع من أهل المغازي . وأجاب بعضهم بأن هذ الآية أعني { سيقول المخلفون } نزلت في غزوة تبوك أيضاً . وعندي أن الاعتراض غير وارد ولا حاجة إلى الجواب المذكور . ثم إن الله سبحانه أخبر عن مخلفي الحديبية بأنهم سيدعون إلى قوم أولي قوة ونجدة في الحروب . وقيل : هم هوازن وغطفان . وقيل : هم الروم ، غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك . والأكثرون على أن القوم أولي البأس الشديد هم بنو حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر الصدّيق لأنه تعالى قال { تقاتلونهم أو يسلمون } ومشركو العرب والمرتدون هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية . هذا عند أبي حنيفة ، وأما الشافعي فعنده لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب ، والمجوس دون مشركي العجم والعرب .

وقد يستدل بهذا على إمامة أبي بكر فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعد وفاته ولا سيما فيمن يزعم أنه نزل فيهم { لن تخرجوا معي أبداً } [ التوبة : 83 ] اللهم إلا أن يقال : المراد لن تخرجوا معي ما دمتم على حالكم من مرض القلوب والاضطراب في الدين ، أو أنهم لا يتبعون الرسول إلا متطوّعين لا نصيب لهم في المغنم قاله مجاهد . وقوله { أو يسلمون } رفع على الاستئناف يعني أو هم يسلمون . ويجوز أن يراد إلى أن يسلموا ، فحين حذف « أن » رفع الفعل . وقيل : الإسلام ههنا الانقياد فيشمل إعطاء الجزية أيضاً . والأجر الحسن في الدنيا الغنيمة ، وفي الآخرة الجنة . وقيل : الغنيمة فقط بناء على أن الآية في المنافقين ، وعلى هذا لا يتم الاستدلال على إمامة الخلفاء . وقوله { من قبل } أي في الحديبية . قال ابن عباس : إن أهل الزمانة قالوا : يا رسول الله كيف بنا؟ فأنزل الله تعالى { ليس على الأعمى حرج } أي إثم في التخلف لأنه كالطائر الذي قص جناحه لا يمتنع على من قصده . وقدم الأعمى لأن عذره مستمر ولو حضر القتال ، والأعرج قد يمكنه الركوب والرمي وغير ذلك . نعم يتعسر عليه الحرب ماشياً وكذا جودة الكر والفر راكباً . وقد يقاس الأقطع على الأعرج ، ويمكن أن لا يكون الأقطع معذوراً لأنه نادر الوجود . والأعذار المانعة من الجهاد أكثر من هذا وقد ضبطها الفقهاء بأن المانع إما عجز حسي أو عجز حكمي . فمن الأول الصغر والجنون والأنوثة والمرض المانع من الركوب للقتال لا كالصداع ووجع السن ، ومنه العرج البين وإن قدر على الركوب لأن الدابة قد تهلك . وعند أبي حنيفة لا أثر للعرج في رجل واحدة ، ومنه فقد البصر ولا يلحق به العور والعشي ، ومنه عدم وجدان السلاح وآلات القتال . ومن الثاني الرق والدين الحالّ بلا إذن رب الدين ومن أحد أبويه في الحياة ليس له الجهاد لا بإذنه إلا إذا كان كافراً . والباقي واضح إلى قوله { لقد رضى الله } . وبه سميت بيعة الرضوان ويبايعونك حكاية الحال الماضية والشجرة كانت سمرة . وقيل : سدرة روي أنها عميت عليهم من قابل فلم يدروا أين ذهبت . وعن جابر بن عبد الله : لو كنت أبصر لأريتكم مكانها { فعلم ما في قلوبهم } من خلوص النية { فأنزل السكينة } الطمأنينة والأمن عليهم { وأثابهم } جازاهم عن الإخلاص في البيعة { فتحاً قريباً } هو فتح خيبر غب انصرافه من الحديبية كما ذكرناه . وقيل : هو فتح مكة { ومغانم كثيرة يأخذونها } هي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال فقسمها عليهم { وعدكم الله مغانم كثيرة } هي التي أصابوها مع النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده إلى يوم { فعجل لكم هذه } يعني غنيمة خيبر { وكف أيدي الناس عنكم } يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان جاؤا لنصرتهم فقذف الله الرعب في قلوبهم وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح ، وقيل : أيدي اليهود حين خرجتم وخلفتم عيالكم بالمدينة وهمت اليهود بهم فمنعهم الله قوله { ولتكون آية } أي لتكون هذه الغنيمة المعجلة دلالة على ما وعدهم الله من الغنائم ، أو دلالة على صحة النبوة من حيث إنه أخبر بالفتح القريب وقد وقع مطابقاً .

وقيل : الضمير للكف والتأنيث لأجل التأنيث الخبر ، أو بتقدير الكفة ويهديكم ويثبتكم ويزيدكم بصيرة .
قوله { وأخرى } أي وعدكم الله مغانم أخرى . عن ابن عباس : هي فتوح فارس والروم . أو يقال : مغانم هوازن في غزوة حنين لم يظنوا أن يقدروا عليها لما فيها من الهزيمة ، ثم الرجوع مرة بعد أخرى قد أحاط الله بها علماً أنها ستصير لكم . قال جار الله : يجوز في { أخرى } النصب بفعل مضمر يفسره { قد أحاط } أي وقضى الله أخرى قد أحاط بها . ويجوز فيها الرفع على الابتداء لكونها موصوفة بالجملة و { قد أحاط } خبره . وجوز الجر بإضمار « رب » . ثم بين أن نصر الله إياهم في صلح الحديبية أو في فتح خيبر لم يكن اتفاقياً بل كان إلهياً سماوياً فقال { ولو قاتلكم } إلى آخره . والسر فيه أن الله كتب وأوجب غلبة حزبه ونصر رسله كما قال { سنة الله } إلى آخره . عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأخذهم واستحياهم فأنزل الله تعالى { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } وهو الحديبية لأنها من أرض الحرم . وقيل : هو التنعيم . وقيل : إظفاره دخوله بلادهم بغير إذنهم . وعن عبد الله بن مغفل المزني قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي ذكرها الله في القرآن ، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله تعالى بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم صلى الله عليه وسلم : هل كنتم في عهد أحد وهل جعل لكم أحد أماناً فقالوا : اللهم لا ، فخلى سبيلهم فأنزل الله الآية . وإنما قدم كف أيدي الكفار عن المؤمنين لأنهم أهم . وقيل : كف أيديكم بأن أمركم أن لا تحاربوا ، وكف أيديهم بإلقاء الرعب أو بالصلح وقيل : إن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد : هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل . فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله ارم بي حيث شئت .

فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد فهزمه حتى أدخله جوف مكة . فأنزلت الآية . وسمي خالد يومئذ سيف الله . وروي أن كفار مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخولهم بيوت مكة . ثم ذم قريشاً بقوله { هم الذين كفروا وصدّوكم } يعني يوم الحديبية { عن المسجد الحرام } أن تطوفوا به للعمرة { و } صدّوا { الهدى } أو صدّوكم مع الهدى حال كونه { معكوفاً } أي محبوساً ممنوعاً موقوفاً عن { أن يبلغ محله } المعهود وهو مني وقد مر تفسير الهدي ومحله والبحث عنه في « البقرة » . ثم بين حكمة المصالحة بقوله { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } وقوله { لم تعلموهم } سفة الرجال والنساء جميعاً على جهة التغليب . و { أن تطؤهم } بدل الاشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في { تعلموهم } والوطء كالدّوس عبارة عن الإيقاع والإهلاك . وقوله { فتصيبكم } جواب النفي أو عطف على { أن تطؤهم } والمعرة « مفعلة » ممن العرالعيب كالجرب ونحوه . وقوله { بغير علم } متقدم في النية متعلق ب { أن تطؤهم } والفحوى أنه كان بمكة ناس من المسلمين فقال سبحانه : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً من المؤمنين فيما بين المشركين وأنتم غير عالمين بحالهم فتصيبكم بإهلاكهم تبعة في الدين لوجوب الدية والكفارة أو عيب بسوء قاله أهل الشرك ، إنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا ، أو أثم إذا جرى دينهم منكم بعض التقصير لما كف أيديكم عنهم ، والكلام يدل على هذا الجواب وفي حذفه فخامة وذهاب للوهم كل مذهب ، ويعلم منه أنه يفعل بهم إذ ذاك ما لا يدخل تحت الوصف . وجوّزوا أن يكون { لو تزيلوا } كالتكرير لقوله { ولولا رجال } لرجعهما إلى معنى واحد . والتنزيل التميز والتفرق ويكون { لعذبنا } هو الجواب . وقوله { ليدخل } تعليل لما دلت عليه الآية من كف الأيدي عن قريش صوناً لأهل الإيمان المختلطين بهم كأنه قيل : كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله مؤمنيهم في حيز توفيق الخير والطاعة ، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من المشركين . وحكى القفال أن اللام متصل بالمؤمنين والمؤمنات أي آمنوا لكذا . وقوله { إذ جعل } يجوز أن ينتصب بإضمار « اذكر » أو يكون ظرفاً { لعذبنا } أو ل { صدّوكم } وفاعل { جعل } يجوز أن يكون { الله } وقوله { في قلوبهم } بيان لمكان الجعل كما مر في قوله { وأشربوا في قلوبهم العجل } [ البقرة : 93 ] ويجوز أن يكون { الذين كفروا } ومفعولاه الحمية والظرف فيكون جعلهم في قلبهم بإزاء أنزل الله . والحمية في مقابلة السكينة ، والحمية الأنفة والاستكبار الذي كان عليها أهل الجاهلية ، ومن ذلك عدم إقرارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومنه ما جرى في قصة الحديبية من إبائهم أن يكتب في كتاب العهد « بسم الله الرحمن الرحيم » وأن يكتب « محمد رسول الله » يقال : حميت أنفي حمية كأنها « فعلية » بمعنى « مفعول » من الحماية اسم أقيم مقام المصدر كالسكينة بمعنى السكون فأنزل الله على رسوله السكينة والوقار حتى أعطاهم ما أرادوا .

وكلمة التقوى التسمية والتوحيد والاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، اختارها الله للمؤمنين . ومعنى الإضافة إنها سبب التقوى وأساسها ، أو المراد كلمة أهل التقوى الذين يتقون بها غضب الله . { وكانوا أحق بها وأهلها } لأنهم خيار الأمم . وقيل : أراد وكانوا يعني أهل مكة أحق بهذه الكلمة لتقدّم إنذارهم إلا أن بعضهم سلبوا التوفيق . وحكى المبرد أن الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد أن يقول « لا إله إلا الله » في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقول أكثر من ذلك . وكان قائلها يمدّ بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركاً بذكر الله ، وقد جعل الله لهذه الأمة أن يقولوها متى شاؤا وهو قوله { وألزمهم كلمة التقوى } أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا . ثم قص رؤيا نبيه صلى الله عليه وسلم بياناً لإعجازه فإن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة .
وقصته أنه رأى في المنام أن ملكاً قال له { لتدخلن } إلى قوله { لا تخافون } فأخبر أصحابه بها ففرحوا وجزموا بأنهم داخلوها في عامهم ، فلما صدّوا عن البيت واستقر الأمر على الصلح قال بعض الضعفة : أليس كان يعدنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نأتي البيت فنطوف به؟ فقال لهم أهل البصيرة : هل أخبركم أنكم تأتونه العام؟ فقالوا : لا . قال : فإنكم تأتونه وتطوفون بالبيت فأنزل الله تصديقه . ومعنى { صدق الله رسوله الرؤيا } صدقه في رؤياه ولم يكذبه . وقوله { بالحق } إما أن يكون متعلقاً ب { صدق } أي صدقه فيما رأى صدقاً متلبساً بالحق وهو أن يكون ما أراه كما أراه ، وإما أن يكون حالاً من الرؤيا أي متلبسة بالحق يعني بالغرض الصحيح وهو الإبتلاء ، وتميز المؤمن المخلص من المنافق المرائي . وجوّز أن يكون { بالحق } قسماً لأنه إسم من أسماء الله سبحانه ، أو لأن المراد الحق الذي هو نقيض الباطل فتكون اللام في { لتدخلنّ } جواب القسم لا للابتداء فيحسن الوقف على { الرؤيا } . والبحث علن الحلق والتقصير وسائر أركان الحج والعمرة وشرائطهما استوفيناها في سورة البقرة فليتذكر . وفي ورود { إن شاء الله } في خبر الله عز وجل أقوال أحدها : أنه حكاية قول الملك كما روينا . والثاني أن ذلك خارج على عادة القرآن من ذكر المشيئة كقوله { يغفر لمن يشاء } { ويعذب المنافقين إن شاء } والمعنى إن الله يفعل بالعباد ما هو الصلاح فيكون استثناء تحقيق لا تعليق . والثالث أنه أراد لتدخلن جميعاً إن شاء ولم يمت أحد أو لم يغب .

والرابع أنه تأديب وإرشاد إلى استعمال الاستثناء في كل موضع لقوله صلى الله عليه وسلم وقد دخل البقيع « وأنا إن شاء الله بكم لاحقون » وليس في فروع الموت استثناء . الخامس أنه راجع إلى حالة الأمن وعدم الخوف . ثم رتب على الصدق وعلى سوء ظن القوم قوله { فعلم ما لم تعلموا } من الحكمة في تأخير الفتح إلى العام القابل { فجعل من دون ذلك } الفتح { فتحاً قريباً } وهو فتح خيبر . ثم أكد صدق الرؤيا بل صدق الرسول في كل شيء بقوله { هو الذي أرسل } الآية . وذلك أنه كذب رسوله كان مضلاً ولم يكن إرساله سبباً لظهور دينه وقوة ملته . وقد مر نظير الآية في سورة التوبة . ومن استعلاء هذا الدين أنه لا ترى أهل ملة إلا والمسلم غالب عليه إلا أن يشاء الله . وقد يقال : إن كمال العز والغلبة عند نزول عيسى عليه السلام فلا يبقى على الأرض كافر { وكفى بالله شهيداً } على أن هذا الدين يعلو ولا يعلى .
ثم أكد الشهادة وأرغم أنف قريش الذين لمن يرضوا بهذا التعريف في كتاب العهد فقال { محمد رسول الله } فهو مبتدأ وخبر . وجوز أهل الإعراب أن يكون المبتدأ محذوفاً لتقدم ذكره في قوله { أرسل رسوله } أي هو محمد فيكون { رسول الله } صفة أو عطف بيان ، وجوزوا أن يكون { محمد } مبتدأ و { رسول الله } صفته أو بياناً . وقوله { والذين معه } وهم الصحابة عطفاً على { محمد } وخبر الجميع { أشداء على الكفار } جمع شديد كما قال { وأغلظ عليهم } [ التحريم : 9 ] { أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] عن الحسن : بلغ من تشدّدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم فكيف بأبدانهم ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صحافه وعانقه . والمصافحة جائزة بالاتفاق ، وأما المعانقة والتقبيل فقد كرههما أبو حنيفة رضي الله عنه وإن كان التقبيل على اليد . ومن حق المؤمنين أن يراعوا هذه السنة أبداً فيتشدّدوا على مخالفيهم ويرحموا أهل دينهم { تراهم } يا محمد أو يا له أهلية الخطاب { ركعاً سجداً } راكعين ساجدين { يبتغون فضلاً من الله } بالعفو عن تقصيرهم { ورضواناً } منه عن أعمالهم الصالحة بأن يتقبلها الله منهم { سيماهم } علامتهم { في وجوههم من أثر السجود } فيجوز أن تكون العلامة أمراً محسوساً وأن السجود بمعنى حقيقة وضع الجبهة على ألأرض ، وكان كل من عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام وعليّ بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك يقال له ذو الثفنات ، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواضع السجود منهما أشباه ثفنات البعير . والذي جاء في الحديث « لا تعلبوا صوركم » أي لا تخدشوها . وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً أثر في وجهه السجود فقال : إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك محمول على التعمد رياء وسمعة .

وعن سعيد بن المسيب هي ندى الطهور وتراب الأرض . ويجوز أن يكون أمراً معنوياً من البهاء والنور . وعن عطاء : استنارت وجوههم من التهجد كما قيل « من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار » وإن الذي يبيت شارباً يتميز عند أراب البصيرة من الذي يبيت مصلياً وفيه قال بعضهم :
عيناك قد حكتا مبي ... تك كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرت ... ك مبيت صاحبها عياناً
قال المحققون : إن من توجه إلى شمس الدنيا لا بد من أن يقع شعاعها على وجهه ، فالذي أقبل على شمس عالم الوجود وهو الله سبحانه كيف لا يستنير ظاهره وباطنه ولا سيما يوم تبلى السرائر ويكشف الغطاء { ذلك مثلهم } أي ذلك الوصف وصفهم العجيب الشأن في الكتابين : ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله { كزرع } إلى آخره . كقوله { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع } [ الحجر : 66 ] وقد يقال : تم الكلام عند قوله { ذلك مثلهم في التوراة } ثم ابتدأ { مثلهم في الإنجيل كزرع } لما روى أنه مكتوب في الإنجيل : سيرخج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر عرفوا إلى بني إسرائيل بهذا الوصف ليعرفوهم إذا أبصروهم . والشطء بالتسكين والتحريك فراخ الزرع التي تنبت إلى جانب الأصل ، ومنه شاطىء النهر . { فآزره } من المؤازره المعاونة . ويجوز أن يكون أفعل من الأزر القوة أي أعان الزرع الشطء أو بالعكس . { فاستغلظ } الزرع أو الشطء أي صار من الرقة إلى الغلظ { فاستوى على سوقه } فاستقام على قصبته أي تناهى وصار كالأصل بحيث يعجب الزارعين . والسوق جمع ساق وقد يخص الساق بالشجر فيكون ساق الزرع مجازاً مستعاراً . ووجه التشبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وحده ثم أتبعه من ههنا قليل ومن ههنا حتى كثروا وقوي أمرهم . وقوله { ليغيظ بهم الكفار } تعليل لوجه التشبيه أو للتشبيه أي ضرب الله ذلك المثل وقضى وحكم بذلك ليغيظ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه كفار مكة والعجم . وقيل : هذا الزرع بغيظ بكثرته الكفار أي سائر الزرّاع الذين ليس لهم مثل زرعهم وفيه بعد ، ولكن الكلام لا يخلو عن فصاحة لفيظة من قبل المناسبة بين الزراع والكفار لاشتراكهما بالجملة في معنى من المعاني وإن لم يكن مقصوداً ههنا . وذهب بعض المفسرين إلأى أن قوله { والذين معه } أبو بكر { أشداء على الكفار } عمر { رحماء بينهم } عثمان { نراهم ركعاً سجداً } علي عليه السلام { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } طلحة والزبير { سيماهم في وجوههم } سعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة ابن الجراح . وعن عكرمة : أخرج شطأة بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعليّ . وقوله { منهم } لبيان الجنس . ويجوز أن يكون قوله { ليغيظ } تعليلاً للوعد لان الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما حصل لهم في الدنيا من الغلبة والاستعلاء غاظهم ذلك والله أعلم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

« القراآت : { لا تقدّموا } بالفتحات من التقدّم : يعقوب { الحجرات } بفتح الجيم : يزيد . { إخوتكم } على الجمع : يعقوب وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { ولا تجسسوا } { ولا تنابزوا } و { لتعارفوا } بالتشديدات للإدغام : البزي وابن فليح { ميتاً } مشدّداً : أبو جعفر ونافع { يألتكم } بالهمز : أبو عمرو وسهل ويعقوب وقد لا يهمز في رواية . الآخرون : بالحذف { بما يعملون } على الغيبة : ابن كثير .
الوقوف : { واتقوا الله } ط { عليم } ه ج { لا تشعرون } ه { للتقوى } ط { عظيم } ه { لا يعقلون } ه { خيراً لهم } ط { رحيم } ه { نادمين } ه { رسول الله } ط { والعصيان } ط { الراشدون } ه لأن { فضلاً } مفعول له { ونعمة } ط { حكيم } ه { بينهما } ج للشرط مع الفاء { أمر الله } ج لذلك { وأقسطوا } ط { المقسطين } ه { ترحمون } ه { منهن } ج للعدول عن الغيبة إلى الخطاب { بالألقاب } ط { بعد الإيمان } ه ج لابتداء الشرط مع احتمال { ومن لم يتب } عما ذكر من اللمز والنبز { الظالمون } ه { من الظن } ز للابتداء بأن إلا إنه للتعليل أي لأن { بعضاً } ج { فكرهتموه } ط { واتقوا الله } ط { رحيم } ه { لتعارفوا } ط { أتقاكم } ط { خبير } ه { آمناً } ط { قلوبكم } ط { شيئاً } ط { رحيم } ه { في سبيل الله } ط { الصادقون } ه { في الأرض } ط { عليم } ه { أسلموا } ط { إسلامكم } ج لأن » بل « للإضراب عن الأول { صادقين } ه { والأرض } ط { تعلمون } ه .
التفسير : لما بين محل النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منصبه بقوله { هو الذي أرسل رسوله } إلى آخر السورة افتتح الآن بقوله { لا تقدموا } الآية . ففيه تأكيد لما ذكر هناك من وجوب إتباعه والإذعان له . والأظهر أن هذا إرشاد عام . وذكر المفسرون في أسباب النزول وجوهاً منها ماروي عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبر أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أمّر القعقاع بن معبد وقال عمر : بل أمر الأقرع بن جابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي . فقال عمر : ما أردت خلافك . فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله الآية . وقال الحسن والزجاج : نزلت في رجل ذبح الأضحية قبل الصلاة وقبل ذبح النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بإعادتها وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن تزول الشمس . وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة . وعن عائشة أنها نزلت في صوم يوم الشك . وروي أنها في القتال أي لا تحملوا على الكفار في الحرب قبل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم . وقدّم إما متعد وحذف المفعول للعموم حتى يتناول كل فعل وقول ، أو ترك مفعوله كما في قوله » فلان يعطي ويمنع « لأن النظر إلى الفعل لا إلى المفعول كأنه قيل : يجب أن لا يصدر منكم تقدم أصلاً في أيّ فعل كان .

وإما لازم نحو بين وتبين بمعنى يؤيده قراءة يعقوب . قال جار الله : حقيقة قولهم « جلست بين يدي فلان » أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله حتى ينظر إليك من غير تقليب حدقة وذكر الله للتعظيم . وفيه أن التقديم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كالتقديم بين يدي الله . قال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا . وقيل : معناه لا تخالفوا كتاب الله وسنة رسوله . وعن الحسن في رواية أخرى : لما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتدىء { واتقوا الله } في التقديم أو أمرهم بالتقوى ليحملهم على ترك التقدمة فإن المتقي حذر عن كل ما فيه تبعة وريب { إن الله سميع } لأقوالكم { عليم } بنياتكم وأفعالكم . ثم أعاد النداء عليهم مزيداً للتنبيه ، وفيه نوع تفصيل بعد إجمال وتتخصيص بعد تعميم . وعن ابن عباس أن ثابت ابن قيس بن شماس كان في أذنه وقر وكان جهوريّ الصوت وكان يتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته إذا كلمه ، فحين نزلت الآية فقد ثابت فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر بأنه رجل جهير الصوت يخاف أن تكون الآية نزلت فيه . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة . وعن الحسن : نزلت في المنافقين كانوا يرفعون بأصواتهم فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم استخفافاً واستهانة وليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهى المؤمنون عن ذلك . وعلى هذا فإما أن يكون الإيمان أعم من أن يكون باللسان أو به وبالقلب ، وإما أن يكون الإيمان حقيقة فيكون تأديباً للمؤمنين الخلص حتى يكون حالهم بخلاف حال أهل النفاق ، ويكون كلامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخفض من كلامه لهم رعاية لحشمته وصيانة على مهابته . قوله { ولا تجهروا له بالقول كجهر } أي جهراً مثل جهر { بعضكم لبعض } قيل : تكرار للمعنى الأوّل لأجل التأكيد فإن الجهر هو رفع الصوت والجمهور على أن بين النهيين فرقاً . ثم اختلفوا فقيل : الأول فيما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر . والثاني فيما إذا سكت ونطقوا فنهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوّة . وقيل : النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا ينادي وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضهم لبعض فلا يقال : يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم ولكن يا نبي الله يا رسول الله .

ثم علل كلاً من النهيين بقوله { أن تحبط } أي كراهة حبوط أعمالكم وذلك أن الرفع والجهر إذا كان عن استخفاف وإهانة كان كفراً محبطاً للأعمال السابقة . والمفعول له يتعلق بالفعل الأول في الظاهر عند الكوفيين وبالعكس عند البصريين . وجوز في الكشاف أن يقدر الفعل في الثاني مضموماً إليه المفعول له كأنهما شيء واحد ثم يصب عليهما الفعل جميعاً صباً واحداً ، والمعنى أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط لأنه كان بصدد الأداء إليه فجعل كأنه سبب في إيجاده كقوله { ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] وفي قوله { وأنتم لا تشعرون } إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به . ومثله قول الحكيم : إن كلاً من الأخلاق الفاضلة والرذيلة تكون أوّلاً حالاً ثم تصير ملكة راسخة وعادة مستمرة . ومنه قول أفلاطون : لا تصحب الشرير فإن طبعك يسرق وأنت لا تدري . فالعاقل من يجتهد في الفضائل أن تصير ملكات ، وفي الرذائل أن تزول عنه وهي أحوال .
قال ابن عباس : لما نزلت الآية قال أبو بكر : يا رسول الله والله ولا أكلمك إلا السرار أو كأخي السرار حتى ألقى الله فأنزل الله فيه وفي أمثاله { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله } هو افتعل من المحنة وهو اختبار بليغ يقال : امتحن فلان لأمر كذا أي جرب له فوجد قوياً عليه ، أو وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحقق الشيء باختباره فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم كائنة للتقوى فاللام متعلقة بالمحذوف كقولك : أنت لهذا الأمر . أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف لأجل التقوى وحصولها فيها سابقة ولا حقة { لهم مغفرة } لذنوبهم { وأجر عظيم } لطاعتهم . وفي تنكير الوعد وغير ذلك من مؤكدات الجملة تعريض بعظم ما ارتكب غيرهم واستحقاقهم أضداد ما استحق هؤلاء . يروى أنه كان إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد أرسل إليهم أبو بكر من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار . قال العلماء : إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف كما مر في حديث ثابت بن قيس ، ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ . ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : أصرخ بالناس وكان العباس أجهر الناس صوتاً . وفيه قال نابغة بني جعدة :
زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم
وأبو عروة كنية العباس . زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيشق مرارة السبع في جوفه .

ويروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدّة صوته . ثم علمهم أدباً أخص فقال : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } أي من جانب البر والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض . والحجرة البقعة التي يحجرها المرء لنفسه كيلا يشاركه فيها غيره من الحجر وهو المنع « فعلة » بمعنى مفعولة ، وجمعت لأن كلاً من أمهات المؤمنين لها حجرة . روي أن وفداً من بني تميم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو سبعون رجلاً منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن . فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من خارج حجراته كأنهم تفرقوا على الحجرات أو أتوها حجرة فنادوه من ورائها أو نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جمعت إجلالاً له صلى الله عليه وسلم . والفعل وإن كان مستنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم لأن رضا الباقين به كالتولي له . وحكى الأصم أن الذي ناداه عيينة والأقرع قالا : أخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين منا شين . فتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فخرج إليهم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين . فقال لهم : فيم جئتم؟ فقالوا : جئنا بخطيبنا وشاعرنا نفاخرك ونشاعرك . فقال : ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا . فقام خطيبهم فخطب وقام شاعرهم وأنشد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس فقام وخطب وأمر حساناً فقام وأنشد . فلما فرغوا قام الأقرع وقال : والله ما أدري ما هذا ، تكلم خطيبنا وكان خطيبهم أحسن قولاً ، وأنشد شاعرنا وكان شاعرهم أشعر . ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله . وعن زيد بن أرقم أنهم قالوا : نمتحنه فإن يكن ملكاً عشنا في جنابه ، وإن يكن نبياً كان أولى بأن نكون أسعد الناس به . وقيل : إنهم وفدوا شافعين في أسرى بني العنبر . أما إخبار الله تعالى عنهم بأن أكثرهم لا يعقلون فإما لأن الأكثر أقيم مقام الكل على عادة الفصحاء كيلا يكون الكلام بصدد المنع ، وإما لأن الحكم بقلة العقلاء فيهم عبارة عن العدم فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم ، وإما لأن فيهم من رجع وندم على صنيعه فاستثناه الله تعالى . وإنما حكم عليهم بعدم العقل لأنهم يعقلوا أن هذا النحو من النداء خارج عن قانون الأدب ومنبىء عن عدم الوقار والأناة لا سيما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن يحتجب عن الناس إلا عند الخلوة والاشتغال بمهامّ أهل البيت فلذلك قال { ولو أنهم صبروا حتى تخرج } وفائدة قوله { إليهم } أنه لو خرج لا لأجلهم لزمهم الصبر إلى أن يكون خروجه إليهم لأجلهم { لكان } الصبر { خيراً لهم } في دينهم وهو ظاهر وفي دنياهم بأن ينسبوا إلى وفور العقل وكمال الأدب .

وقيل : بإطلاق أسرائهم جميعاً فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق النصف وفادى النصف { والله غفور } مع ذلك لمن تاب { رحيم } في قبول التوبة . سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفد بني تميم فقال : إنهم جفاة بني تميم ولولا أنهم من أشد الناس قتلالاً للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم . ويحكى عن أبي عبيدة وهو المشهور بالعلم والزهادة وثقة الرواية أنه قال : ما وقفت بباب عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه . ثم أرشدهم إلى أدب آخر فقال { يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } وقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقاً وكان بينهما إحنة ، فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم خافهم فرجع فقال : إن القوم هموا بقتلي ومنعوا صدقاتهم . فهم النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلاً هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم ، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله عنه فقالوا : نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله . وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع . قال جار الله : في تنكير الفاسق والنبأ عمومم كأنه قيل : أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ فتوقفوا فيه واطلبوا البيان لأن من لا يتجافى جنس الفسوق ولا يتجافى بعض أنواعه الذي هو الكذب . والفسوق الخروج عن الشيء والانسلاخ منه فسقت الرطبة عن قشرها ، ومن مقلوبه « فقست البيضة » إذا كسرتها وأخرجت ما فيها . ومن تقاليبه أيضاً « قفست الشيء » بتقديم القاف إذا أخرجته من يد مالكه غصباً . والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه . واختبر لفظة « إن » التي هي للشك دون « إذا » تنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم ومن معه بمنزلة لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب إلا على سبيل الفرض والندرة ، فعلى المؤمنين أن يكونوا بحيث لا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور . ثم علل التبين بقوله { أن تصيبوا } أي كراهة إصابتكم { قوماً } حال كونكم جاهلين بحقيقة الأمر . والندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك متمنياً أنه لم يقع ولا يخلو من دوام وإلزام . ومن مقلوباته « أدمن الأمر » إذا دام عليه . ومدن بالمكان أقام به . قال الأصوليون من الأشاعرة : إن خبر الواحد العدل يجب العمل به لأن الله تعالى أمر بالتبيين في خبر الفاسق ، ولو تبينا في خبر العدل لسوّينا بينهما .

وضعف بأنه من باب التمسك بالمفهوم . واتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لأن باب الشهادة أضيق من باب التمسك بمفهوم الخبر . وأكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فاسقاً بكذبه . وقيل : إن الوليد لم يقصد الكذب ولكنه ظن حين اجتمعوا لإكرامه أن يكونوا هموا بقتله . ولقائل أن يقول : لفظ القرآن وسبب النزول يدل على خلافه . نعم لو قيل : إنه تاب بعد ذلك لكان له وجه ثم أرشدهم إلى أمر آخر قائلاً { واعلموا أن فيكم رسول الله } وليس هذا الأمر مقصوداً بظاهره لأنه معلوم مشاهد فلا حاجة إلى التنبيه عليه ، وإنما المراد ما يستلزم كونه فيهم كما يقال من يغلط في مسألة أو يقول فيها برأيه : أعلم أن الشيخ حاضر . ثم قيل : المراد لا تقولوا الباطل والكذب فإن الله يخبره ويوحي إليه . وقيل : أراد أن الرأي رأيه فلا تعدوا رأيه وقد صرح بهذا المعنى في قوله { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } لوقعتم في العسر والمشقة والحرج لأنه أعلم منكم بالحنيفية السهلة السمحاء ، ومن جملة ذلك قصة الوليد فإنه لو أطاعه وقبل قوله لقتل وقتلتم وأخذ المال وأخذتم فاتهمتهم . قال جار الله : الجملة المصدّره بلو ليس كلاماً مستأنفاً لاختلال النظم حينئذ ولكنها حال من أحد الضميرين في { فيكم } وهو المستتر المرفوع أو البارز المجرور . والمعنى أن فيكم رسول الله على حالة يجب تغييرها وهي أنكم تطلبون منه اتباع آرائكم . قلت : قد ذكرنا في وجه النظم بياناً آخر . ثم قال : فائدة تقدير خبر « أن » هو أن يعلم أن التوبيخ ينصب إلى هذا الغرض . وفائدة قوله { يطيعكم } بلفظ الاستقبال الدلالة على ما أرادوه من استمرار طاعته لهم وأنه لا يخالفهم في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء . وفي قوله { في كثير من الأمر } مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ ، وفيه أيضاً تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب . ويمكن أن يكون إشارة إلى تصويب رأي بعضهم لا إلى تصويب بعض رأيهم فقد قيل : إن بعضهم زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد ، وبعضهم كانوا يرون التحلم عنهم إلى أن يتبين أمرهم ، وقد أشار إلى هذا البعض بقوله { ولكن الله حبب إليكم الأيمان } أي إلى بعضكم وإلا لم يحسن الاستدراك يعني ب { لكن } فإن من شرطه مخالفة ما بعده لما قبله . فلو كان المخاطبون في الطرفين واحداً لم يكن للاستدراك معنى بل يؤدّي إلى التناقض لأنه يكون قد أثبت لهم في ثاني الحال محبة الإيمان وكراهة العصيان ، وذكر أوّلاً أنه توجب إجابتهم الوقوع في العنت .

قال أهل اللغة : الطاعة موافقة الداعي غير أن المستعمل في حق الأكابر الإجابة ، وفي حق الأصاغر الطاعة ، وقد ورد القرآن على أصل اللغة . استدلت الأشاعرة بقوله { حبب } و { كره } على مسألة خلق الأفعال . وحملها المعتزلة على نصب الأدلة أو اللطف والتوفيق أو الوعد والوعيد . والمعنى ولكن الله حبب إليكم الإيمان فأطعتموه فوقاكم العنت والكفر واضح . وأما الفسوق والعصيان فقيل : الأوّل الكبائر والثاني الصغائر . ويحتمل أن يكون الكفر مقابل التصديق بالجنان ، والفسوق مقابل الإقرار باللسان لأن الفسق ههنا أمر قولي بدليل قوله { إن جاءكم فسق بنبإ } سماه فاسقاً لكذبه والعصيان مقابل العمل بالأركان { أولئك } البعض المتبينون { هم الراشدون } وهذه جملة معترضة . وقوله { فضلاً من الله ونعمة } كل منهما مفعول له والعامل فيهما { حبب } و { كره } ويجوز أن يكونا منصوبين عن الراشدين لأن الرشد عبارة عن التحبيب والتكريه المستندين إلى الله ، فكأن الرشد أيضاً فعله فاتحد الفاعل في الفعل والمفعول له بهذا الاعتبار . ويجوم أن يكونا مصدرين من غير لفظ الفعل وهو الرشد فكأنه قيل : فأولئك هم الراشدون رشداً لأن رشدهم إفضال وإنعام منه . قال بعض العلماء : الفضل بالنظر إلى جانب الله الغنيّ ، والنعمة بالنظر إلى جانب العبد الفقير { والله عليم } بأحوال الخلق وما بينهم من التمايز والتفاضل { حكيم } في تدابيره وأفضاله وأنعامه .
ثم علمهم حكماً آخر . في الصحيحين عن أنس أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبيّ . فانطلق إليه على حمار وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فبال الحمار فقال : إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك . فقال عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله فيهم { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } جمع لأن الطائفتين في معنى القوم ، أو الناس ، أو لأن اقل الجمع اثنان فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم . وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا . وقال ابن بحر : القتال لا يكون بالنعام والأيدي وإنما هذا في المنتظر من الزمان . والطائفة الجماعة وهي أقل من الفرقة لقوله { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } [ التوبة : 122 ] وارتفاعها بمضمر دل عليه ما بعده أي إن اقتتلت طائفتان واختير « أن » دون « إذا » مع كثرة وقوع القتال بين المؤمنين ليدل على أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادراً وعلى سبيل الفرض والتقدير ، ولهذه النكتة بعينها قال { طائفتان } ولم يقل « فريقان » تحقيقاً للتقليل كما قلنا . وفي تقديم الفاعل على الفعل إشارة أيضاً إلى هذا المعنى لأن كونهما طائفتين مؤمنين يقتضي أن لا يقع القتال بينهما ولهذا اختير المضيّ في الفعل ولم يقل يقتتلون لئلا ينبىء عن الاستمرار .

وفيه أيضاً من التقابل ما فيه . وإنما قدم الفعل في قوله { إن جاءكم فاسق بنبإ } ليعلم أن المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الجائي به فاسقاً سواء كان قبل ذلك فاسقاً أم لا ، ولو أخر الفعل لم تتناول الآية إلا مشهور الفسق قبل المجيء بالنبأ . قال بعض العلماء : إنما قال { اقتتلوا } على الجمع ولم يقل « فأصلحوا بينهم » لأن عند القتال يكون لكل منهم فعل برأسه ، أما عند العود إلى الصلح فإنه تتفق كل طائفة وإلا لم يتحقق الصلح فكان كل من الطائفتين كنفس واحدة فكانت التثنية أقعد . والبغي الاستطالة وإباء الصلح ، والفيء الرجوع وبه سمي الظل لأنه يرجع بعد نسخ الشمس ، أو لأن الناس يرجعون إليه ، والغنيمة لأنها ترجع من الكفار إلى المسلمين . ومعنى قوله { إلى أمر الله } قيل : إلى طاعة الرسول أو من قام مقامه من ولاة الأمر بقوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ] وقيل : إلى الصلح لقوله { وأصلحوا ذات بينكم } [ الأنفال : 1 ] وقيل : إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق خشيته لا تبقى له عداوة إلا مع الشيطان . وإنما قال { فإن بغت } ولم يقل « فإذا » بناء على أن بغي إجداهما مع صلاح الأخرى كالنادر ، وكذا قوله { فإن فاءت } لأن الفئة الباغية مع جهلها وعنادها وإصرارها على حقدها كالأمر النادر نظيره قول القائل لعبده : « إن مت فأنت حر » . مع أن الموت لا بد منه وذلك لأن موته بحيث يكون العبد حياً باقياً في ملكه غير معلوم .
واعلم أن الباغية في اصطلاح الفقهاء فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل بطلاناً بحسب الظن لا القطع ، فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعاً ، وكذا الخوارج وهم صنف من المبتدعة يكفرون من أتى بكبيرة ويسبون بعض الأئمة . وهكذا يخرج مانع حق الشرع لله أو للعباد عناداً لأنه لا تأويل له . ولا بد أن يكون له شوكة وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفه ببذل مال أو إعداد رجال ، فإن كانوا أفراداً يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي . والأكثرون على أن البغاة ليسوا بفسقه ولا كفرة لقوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } وعن عليّ رضي الله عنه : إخواننا بغوا علينا ولكنهم يخطؤن فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل كما وقع للخارجة عن عليّ رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص لمواطأته إياهم . وكما قال مانعو الزكاة لأبي بكر : أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا وصلاة غير النبي صلى الله عليه وسلم ليست بسكن لنا .

واتفقوا على أن معاوية ومن تابعه كانوا باغين للحديث المشهور « إن عماراً تقتله الفئة الباغية » وقد يقال : إن الباغية في حال بغيها ليست بمؤمنة وإنما سماهم المؤمنين باعتبار ما قبل البغي كقوله { يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه } [ المائدة : 54 ] والمرتد ليس بمؤمن بالاتفاق . أما الذي يتلفه العادل على الباغي وبالعكس في غير القتال فمضمون على القاعدة الممهدة في قصاص النفوس وغرامة الأموال ، وأما في القتال فلا يضمن العادل لأنه مأمور بالقتال ولا الباغي على الأصح ، لأن في الوقائع التي جرت في عصر الصحابة والتابعين لم يطلب بعضهم بعضاً بضمان نفس ومال ، ولأنه لو وجبت الغرامة لنفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة . والأموال المأخوذة في القتال تردّ بعد انقضاء الحرب إلى أربابها من الجانبين . والمراد من متلف القتال ما يتلف بسبب القتال ويتولد منه هلاكه حتى لو فرض إتلاف في القتال من غير ضرورة القتال كان كالإتلاف في غير القتال ، والذين لهم تأويل بلا شوكة لزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال وإن كان على صورة القتال ، وحكمهم حكم قطاع الطريق إذا قاتلوا ، ولو أسقطنا الضمان لأبدت كل شرذمة من أهل الفساد تأويلاً وفعلت ما شاءت وفي ذلك إبطال السياسات ، ولهذه النكتة قرن بالإصلاح . والثاني قوله { بالعدل } لأن تضمين الأنفس والأموال يحتاج فيه إلى سلوك سبيل العدل والنصفة لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة مرة أخرى . واحتج الشافعي لوجوب الضمان إذا لم يكن قتال بأن ابن ملجم قتل علياًَ رضي الله عنه زاعماً أن له شبهة وتأويلاً فأمر بحبسه وقال لهم : إن قتلتم فلا تمثلوا به فقتله الحسن بن علي رضي الله عنه وما أنكر عليه أحد . وأما الذين لهم شوكة ولا تأويل فالظاهر عند بعضهم نفي الضمان وعند آخرين الوجوب . وأما كيفية قتال الباغين فإن أمكن الأسر لم يقتلوا ، وإن أمكن الإثخان فلا يذفف عليه كدفع الصائل إلا إذا التحم القتال وتعسر الضبط . قوله { وأقسطوا } أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين ، قال أهل اللغة : القسط بالفتح والسكون الجور من القسط بفتحتين وهو اعوجاج في الرجلين . وعود قاسط يابس ، والقسط بالكسر العدل والهمزة في أقسط للسلب أي أزال القسط وهو الجور . وحين بين إصلاح الخلل الواقع بين الطائفتين أراد أن يبين الخلل الواقع بين اثنين بالتشاتم والسباب ونحو ذلك فقال { إنما المؤمنون إخوة } أي حالهم لا يعدوا الأخوة الدينية إلى ما يضادّها { فأصحلوا بين أخويكم } بإيصال المظلوم إلى حقه وبدفع إثم الظلم عن الظالم . والتثنية بحسب الأغلب ، ويحتمل أن يقال : إنه شامل لما دون الطائفتين . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلى قليل »

{ واتقوا الله } في سائر الأبواب راجين أن يرحمكم ربكم .
ثم شرع في تأديبات آخر . والقوم الرجال خاصة لقيامهم على الأمور . قال جمهور المفسرين : إن ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر وكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول . فجاء يوماً وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا . فقال له رجل : أصبت مجلساً فاجلس . فجلس ثابت مغضباً ثم قال للرجل : يا فلان ابن فلانه يريد أمّاً كان يعير بها في الجاهلية فسكت الرجل استحياء فنزلت . وقيل : نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات واستهزؤا بالفقراء . وقيل : في كعب بن مالك قال لعبد الله : يا أعرابي . فقال له عبد الله : يا يهودي . وقيل : نزلت { ولا نساء من نساء } في عائشة وقد عابت أم سلمة بالقصر . ويروى أنها ربطت حقويها بثوب أبيض وأسدلت طرفها خلفها وكانت تجره فقالت عائشة لحفصة : انظري ماذات تجر خلفها كأنه لسان كلب . وعن عكرمة عن ابن عباس : أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد . وتنكير القوم والنساء للبعضية أو لإفادة الشياع . وإنما لم يقل « رجل من رجل ولا امرأة من امرأة » زيادة للتوبيخ وتنبيهاً على أن السخرية قلما تصدر عن واحد ولكن ليشاركه في ذلك جمع من الحاضرين لأن ميل الطباع لى التلهي والدعابة والازدراء بالضعفاء وأهل السآمة أكثريّ . وإنما لم يقل « رجل من امرأة » وبالعكس لأن سخرية الجنس من الجنس أكثر فاقتصر على ذلك والباقي فيه بالأولى . وقوله { عسى أن يكونوا } كلام مستأنف ينبىء عن سبب النهي . عن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً . قوله سبحانه { ولا تلمزوا } تأديب آخر واللمز الطعن باللسان . والمعنى حضوا أنفسكم بالانتهاء عن الطعن في أمثالكم من أهل هذا الدين ولا عليكم أن تعيبوا غير أهل دينكم . قيل : اللمز والسب خلف الإنسان ، والهمز العيب في وجهه الإنسان . وقيل : بل الأمر بالعكس لأن من تقاليب همز هزم ، وهو يدل على البعد ، ومن مقلوب اللمز اللزم وهو يدل على القرب فيشمل العيب بالإشارة أيضاً . قوله { ولا تنابزوا } تأديب آخر والنبز بالسكون القذف بالمكروه من الألقاب ، واللقب من الأعلام ما دل على مدح أو ذم ، والنبز بالفتح اللقب القبيح فهو أخص من اللقب كما أن اللقب أخص من العلم .

وإنما قال { ولا تنابزوا } ولم يقل ولا تنبزوا على منوال { ولا تلمزوا } لأن النبز لا يعجز الإنسان عن جوابه غالباً فمن ينبز غيره بالحمار كان لذلك الغير أن ينبزه بالثور مثلاً ولا كذلك اللمز فإن الملموز كثيراً ما يغفل عن عيب اللامز فلا يحضره في الجواب شيء فيقع اللمز من جانب واحد فقط . ثم أكد النهي عن التنابز بقوله { بئس الاسم } أي الذكر { الفسوق } وفي قوله { بعد الإيمان } وجوه أحدها : استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول « بئس الشأن الصبوة بعد الشيخوخة » أي معها . وثانيها بئس الذكر أن يذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه ، وكانوا يقولون لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه . وثالثها أن يجعل الفاسق غير مؤمن كما يقال للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة « بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة » فمعنى بعد الإيمان بدلاً عن الإيمان { ومن لم يتب } عما نهي عنه { فأولئك هم الظالمون } لأن الإصرار على المنهي كفر إذ جعل المنهي . كالمأمور فوضع الشيء في غير موضعه قوله { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } فيه تأديب آخر . ومعنى اجتنبوا كونوا منه في جانب . وإنما قال { كثيراً } ولم يقل الظن مطلقاً لأن منه ما هو واجب كحسن الظن بالله وبالمؤمنين كما جاء في الحديث القدسي « أنا عند ظن عبدي بي » قال النبي صلى الله عليه وسلم « لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله » وقال « إن حسن الظن من الإيمان » ومنه ما هو محظور وهو سوء الظن بالله وبأهل الصلاح . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء » وهو الذي أمر في الآية باجتنابه . ومنه ما هو مندوب إليه وهو إذا كان المظنون به ظاهر الفسق وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم « من الحزم سوء الظن » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « احترسوا من الناس بسوء الظن » ومنه المباح كالظن في المسائل الاجتهادية . قال أهل المعاني : إنما نكر { كثيراً } ليفيد معنى البعضية المصرح بها في قوله { إن بعض الظن إثم } ولو عرّف لأوهم أن المنهي عنه هو الظن الموصوف بالكثرة والذي يتصف بالقلة مرخص فيه . والهمزة في الإثم عوض عن الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه . تأديب آخر { ولا تجسسوا } وقد يخص الذي بالحاء المهملة بتطلب الخبر والبحث عنه كقوله { فتحسسوا من يوسف وأخيه } [ يوسف : 87 ] فبالجيم تفعل من الجس ، وبالحاء من الحس . قال مجاهد : معناه خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله .

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته « يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لاتتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع عورته حتى يفضحه ولو كان في جوف بيته » وهذا الأدب كالسبب لما قبله . فلما نهى عن ذلك نهى عن سببه أيضاً . تأديب آخر { ولا يغتب } يقال غابه واغتابه بمعنى ، والاسم الغيبة بالكسر وهي ذكر العيب بظهر الغيب ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال « أن تذكر أخاك بما يكره فإن كنت صادقاً اغتبته وإن كانت كاذباً فقد بهته » ثم مثل ما يناله المغتاب من عرض صاحبه على أفظع وجه فقال { أيحب } إلى آخره . وفيه أنواع من المبالغة منها الاسفتهام للتقرير ومحبة المكروه ، ومنها إسناد الفعل إلى { أحدكم } ففيه إشعار بأنه لا أحد يحب ذلك ، ومنها تقييد المكروه بأكل لحم الإنسان ، ومنها تقييد الإنسان بالأخ ، ومنها جعل الأخ أو اللحم ميتاً ففيه مزيد تنفير للطبع . وإنما مثل بالأكل لأن العرب تقول لمن ذكر بالسوء إن الناس يأكلون فلاناً ويمضغونه ، وفلان مضغة للماضغ . شبهوا إدارة ذكره في الفم بالأكل . والميت لمزيد التنفير كما قلنا ، أو لأن الغائب كالميت من حيث لا يشعر بما يقال فيه . أما الفاء في قوله { فكرهتموه } ففصيحة أو نتيجة لأنها للإلزام أي بل عافته نفوسكم فكرهتموه . أو فتحققت بوجوب الإقرار وبحكم العقل وداعي الطبع كراهتكم للأكل أو اللحم أو الميت فليتحق أيضاً أن تكرهوا لما هو نظيره وهي الغيبة . وقال ابن عباس : هي إدام كلاب الناس . وعنه أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة « لبئر من آبار مكة » لغار ماؤها . فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا : ما تناولنا لحماً . فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت . قلت : قد تبين في الحديث أن في الآية مبالغة أخرى وهي أنه أراد باللحم الميت المدوّد المنتن المخضر ، وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر الحسي عن الأمر المعنوي الذي أدركه بنور النبوّة منهما . واعلم أن الغيبة وإن كانت منهية إلا أنها مباحة في حق الفاسق . ففي الحديث « اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس » وروي « من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واتقوا الله فيما نهاكم وتوبوا فيما وجد منكم »
وحين علم المؤمنين تلك الآداب الجميلة عمم الخطاب منعاً من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق فقال { يا أيها الناس } الآية .

قال بعض الرواة : « إن ثابت بن قيس حين قال » فلان ابن فلانة « قال النبي صلى الله عليه وسلم : من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال : أنا يا رسول الله . فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت؟ قال : رأيت أبيض وأسود وأحمر . قال : فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين » ، فأنزل الله هذه الآية . وعن مقاتل : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم . وقال الحرث بن هشام : أما وجه محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناَ . وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئاً يغيره . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء . فأتى جبريل عليه السلام فأخبره . وأقول : الآية تزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء . ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي في سوق المدينة غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف النبي صلى الله عليه وسلم : فاشتراه رجل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كل صلاة ففقده يوماً فسأل عنه صاحبه فقال : محموم . فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل : هو في ذمائه . فجاءه وتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت . وقوله { من ذكر وأنثى } فيه وجهان : أحدهما من آدم وحوّاء فيدل على أنه لا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة ، والثاني كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم ، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين كالذباب والذئاب مثلاً ، لكن التفاوت بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين ، لأن الكافر كالأنعام بل أضل ، والمؤمن هو الناس وغيره كالنسناس . والحاصل أن الشيء إما أن يترجح على غيره بأمر يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده ، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله . وهذا القسم إما أن يرجع إلى القابل أو إلى الفاعل كما يقال « كان هذا من النحاس وهذا من الفضة وهذا عمل فلان » فذكر الله سبحانه أنه لا ترجح بحسب الأصل القابل لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا بحسب الفاعل فإن الله هو خالقكم . فإن كان تفاوت فبأمور لاحقة وأحقها بالتمييز هو التقوى لما قلنا ، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً ، ولا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً ، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب قارونيّ النشب . ثم بين الحكمة التي من أجلها رتبهم على شعوب وقبائل وهي أن يعرف بعضهم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه فقال { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } أي ليقع بينكم التعارف بسبب ذلك لا أن تتفاخروا بالأنساب .

وقيل : الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب . وقال جار الله : الشعب بالفتح الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب . أوّلها شعب وهي أعم سمي بذلك لأن القبيلة تنشعب منها ، ثم قبيلة ، ثم عمارة ، ثم بطن ، ثم فخذ ، ثم فصيلة وهي الأخص مثال ذلك : خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة .
فائدة : لا ريب أن الخلق يستعمل في الأصول أكثر ، والجعل يستعمل فيما يتفرع عليه ، ولهذا قال { خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] وقال في الآية { خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل } ولكنه قال في موضع آخر { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فبين أن الأصل في الخلق والغرض الأقدم هو العبادة ليعلم منه أن اعتبار النسب وغيره مؤخر عن اعتبار العبادة فلهذا قال { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفيه معنيان : أحدهما أن التقوى تفيد الإكرام عند الله . والثاني أن الإكرام في حكم الله يورث التقوى والأول أشهر كما يقال « ألذ الأطعمة أحلاها » أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة . عن النبي صلى الله عيله وسلم أنه طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال « الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها . يا أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم قرأ الآية » وعنه صلى الله عليه وسلم « من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله » قال ابن عباس : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى . { إن الله عليم } بظواهركم { خبير } ببواطنكم وحق مثله أن يخشى ويتقى . وحين حث عموم الناس على تقواه وبخ من في إيمانه ضعف . قال ابن عباس : إن نفراً من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر ، وأفسدوا طريق المدينة بالقذاة ، وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله هذه الآيات . أي قالوا آمنا بشرائطه فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم وقال : لن تؤمنوا إيماناً حقيقياً وهو الذي وافق القلب فيه اللسان . { ولكن قولوا أسلمنا } يعني إسلاماً لغوياً وهو الخضوع والانقياد خوفاً من القتل ودخولاً في زمرة أهل الإيمان والسلم . ثم أكد النفي المذكور بقوله { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وفيه فائدة زائدة هي أن يعلم أن الإيمان متوقع منهم لأن « لما » حرف فيه توقع وانتظار .

ثم حثهم على الطاعة بقوله { وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم } أي لا ينقصكم { من } ثواب { أعمالكم شيئاً } يعني الثواب المضاعف الموعود في نحو قوله { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] ألت يألت بالهمز إذا نقص وهي لغة غطفان . يقال ألته السلطان حقه أشدّ الألت . ولغة أسد وأهل الحجاز لأته ليتاً . وقال قطرب : ولته يلته بمعنى صرفه عن وجهه . فيكون { يلتكم } على وزن « يعدكم » ، وعلى الوجه المتقدم على وزن « يبعكم » . { إن الله غفور رحيم } لمن تاب وأخلص نيته . ثم وصف المؤمنين المحقين بقوله { إنما المؤمنون } ومعنى « ثم » في قوله { ثم لم يرتابوا } كما في قوله { ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 30 ] وارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة أي ثم لم يقع في قلوبهم شك فيما آمنوا به ولا إتهام لمن صدّقوه وذلك بتشكيك بعض شياطين الجن والإنس . وقال جار الله : وجه آخر لما كان زوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مزيته وإشعاراً بأنهم مستقرون على ذلك في الأزمنة المتطاولة غضاً جديداً . وفي قوله { أولئك هم الصادقون } تعريض بأن المذكورين أولاً كاذبون ولهذا قال { قل لم تؤمنوا } إشارة إلى كذبهم في دعواهم ورب تعريض لا يقاومه التصريح . ثم أراد تجهيلهم بقوله { قل أتعلمون الله بدينكم } والباء قيل للسببية والأظهر أنه الذي في قولهم ما علمت بقدومك أي ما شعرت ولا أحطت به . وذكر في أسباب النزول أنه لما نزلت الآية الأولى جاءت هؤلاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية . والاستفهام للتوبيخ أي كيف تعلمونه بعقيدتكم وهو عالم بكل خافية والتعليم إفادة العلم على التدريج والمعالجة؟ وقيل : تعريض من لا يعلم بإفهام المعنى لأن يعلم قوله { يمنون عليك } نزلت في المذكورين وفي أمثالهم . يقال : منّ عليه صنعه إذا اعتدّه عليه منة وإنعاماً . قال أهل العربية : اشتقاق المنة من المن الذي هو القطع لأنه إنما يسدي النعمة إليه ليقطع بها حاجته لا غير من غير أن يعمل لطلب مثوبة وعوض . ثم قال { بل الله يمن عليكم } حيث هداكم للإيمان الذي ادّعيتموه . وفي إضافة الإسلام إليهم ازدراء بإسلامهم ، وفي إيراد الإيمان مطلقاً غير مضاف إشارة إلى الإيمان المعهود الذي يجب أن يكون المكلف عليه . وجواب الشرط محذوف أي { إن كنتم صادقين } في ادعاء الإيمان الحقيقي فلله المنة عليكم . ثم عرض بأنهم غير صادقين فقال { إن الله يعلم } الآية والمراد أنه لا يخفي عليه ضمائرهم والله أعلم بالصواب .

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

القراآت : { ميتاً } بالتشديد : يزيد { وعيدي } وما بعده مثل التي في « إبراهيم » { يوم يقول } بالياء : نافع وأبو بكر وحماد { امتلات } بإبدال الهمزة ألفاً : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف { يوعدون } على الغيبة : ابن كثير { وإدبار } بكسر الهمزة : أبو جعفر ونافع وابن كثير وحمزة وخلف وجبلة { المنادي } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وفي الوصل .
الوقوف : { ق } ط كوفي ولو جعل قسماً فلا يوقف للعطف { المجيد } ه ج لأن « بل » قد يجعل جواب القسم تشبيهاً بأن في التحقيق وفي توكيد مابعده ، وقد يجعل جوابه محذوفاً أي لتبعثن { تراباً } ج لأن ذلك مبتدأ إلا أن المقوم واحد { بعيد } ه { منهم } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { حفيظ } ه { مريح } ه { فروج } ه { بهيج } ه لا لأن { تبصرة } مفعول لأجله { منيب } ه { الحصيد } ه لا لأن النخل معطوف على الجنات والحب { نضيد } ه لا لأن المراد أنبتناها لأجل الرزق { للعباد } ط للعطف { ميتاً } ط { لخروج } ه { وثمود } ه { لوط } ه لا { تبع } ط { وعيد } ه { الأول } ط { جديد } ه { نفسه } ج وجعل ما بعدها حالاً أولى من الاستئناف فيوقف على الوريد و « إذا » يتعلق بمحذوف وهو « أذكر » أبو بقوله { ما يلفظ } فلا يوقف على { قعيد } . { عتيد } ه { بالحق } ط { تحيد } ه { الصور } ط { الوعيد } ه { وشهيد } ه { حديد } ه { عتيد } ه لتقدير القول { عنيد } ه لا { مريب } ه لا بناء على أن ما بعده صفة أخرى ولو جعل مبتدأ لتضمنها معنى الشرط أو نصباً على المدح فالوقف { الشديد } ه { بعيد } ه { بالوعيد } ه { للعبيد } ه { مزيد } ه { بعيد } ه { حفيظ } ه ج لاحتمال أن تكون « من » شرطية جوابها القول المقدر قبل أدخلوها أو موصولة بدلاً من لكل { منيب } ه { بسلام } ط { الخلود } ه ط { مزيد } ه { البلاد } ط للاستفهام . قال السجاوندي : وعندي أن عدم الوقف أولى لأن النقب وهو البحث والتفتيش وأقع على جملة الاستفهام . { محيص } ه { شهيد } ه { لغوب } ه { الغروب } ج لاحتمال تعلق الجار بما قبله وبما بعده { السجود } ه { قريب } ه لا لأن ما بعده بدل { بالحق } ط { الخروج } ه { المصير } ه لا لتعلق الظرف { سراعاً } ط { يسير } ه { وعيد } ه .
التفسير : قيل : إن قاف اسم جبل من زبرجد أخضر محيط بالأرض وخضرة السماء منه . وقيل : قادر أو قاهر ونحو ذلك من أسماء الله مما أوله قاف . وقيل : قضي الأمر . وقيل : قف يا محمد على أداء الرسالة . والأقوال المشتركة بين الفواتح مذكورة ، وإعراب فاتحة هذه السورة كإعراب أول « ص » ، وبينهما مناسبة أخرى من قبل وقوع الإضراب بعد القسم ووجهه ما مر .

ومن قبل أن أكثر مباحث تلك السورة في المبدأ والتوحيد . وفي أوّل خلق البشر ، وأكثر أبحاث هذه السورة في الحشر والخروج ولهذا سنت قراءتها في صلاة العيد لأنه يوم الاجتماع وخروج الناس إلى الفضاء . والمجيد ذو المجد حقيقة في القرآن لأنه أشرف من سائر الكتب أو مجاز باعتبار قارئه وعالمه والعامل به . ومعنى { منذر منهم } أي من جنسهم أو من بينهم فتوجه العجب إلى الإنذار بالبعث أوّلاً ثم إلى كون المنذر منهم ، ولعل الأول أدخل عندهم في استحقاق التعجب منه فلهذا أشاروا إليه بقولهم { هذا } الرجع أو البعث { شيء عجيب } أبهم الضمير أوّلاً في { عجبوا } ثم فسره ثانياً في قوله { فقال الكافرون } أو اقتصر على الضمير أوّلاً للتعليم بهم ثم وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً علهيم بالكفر . ثم زادوا في التعجب والتعجيب بقولهم { أئذا متنا } والتقدير انبعث وقت الموت والصيرورة تراباً { ذلك } الرجع أي البعث { رجع بعيد } أي يستبعد في العقول . وقيل : إنه من كلام الله عز وجل . والرجع بمعنى الجواب أي جواب هؤلاء الكفار في دعوى المنذر جواب بعيد عن حيز العقل لدلالة البراهين الساطعة على وجود الحشر والنشر منها شمول علم الله تعالى بأجزاء الميت على التفصيل ، وإلى هذا أشير بقوله { قد علمنا ما تنقص الأرض } من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم . عن النبي صلى الله عليه وسلم « كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب » وعن السدي : ما تنقص الأرض منهم بالموت ويدفن في الأرض منهم { وعندنا كتاب } هو اللوح المحفوظ من التغيير ومن الشياطين . ثم أتبع الإضراب الأول إضراباً آخر فقال { بل كذبوا } والمقصود أن تكذيبهم { بالحق } الذي هو محمد أو القرآن أو الأخبار بالبعث في أوّل وهلة من غير تدبر أفظع من تعجبهم . والمريج أمر دينهم المضطرب المخلوط بالشبهات والشكوك ولهذا نسبوا القرآن تارة إلى السحر وأخرى إلى الشعر أو الكهانة وقالوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك . ثم استدل على حقية المبدأ والمعاد بوجوه أخر : منها بناء السماء ورفعها بلا عمد ولا فروج أي شقوق وفتوق ولكنها صحيحة الاستدارة من جميع الجوانب . وليس في الآية دلالة على امتناع الخرق على السماء لأن الإخبار عن عدم الوقوع لا ينافي إمكانه . نعم إنه مناف لوجود نحو الأبواب فيها ظاهراً اللهم إلا أن تدعي المغايرة بين الفروج والأبواب . وفي قوله { فوقهم } مزيد توبيخ لهم ونداء عليهم بغاية الغباوة . ومنه مدّ الأرض أي دحوها . ومنها خلق الجبال الرواسخ . ومنها خلق أصناف النبات مما يبتهج به ويروق الناظر لخضرته ونضرته كل ذلك ليتبصر به ويتذكر من يرجع إلى ربه ويفكر في بدائع المخلوقات ويرتقي إلى الصانع من المصنوعات .

ومنها إنزال ماء المطر الكثير المنافع المنبت للجنات والحبات . والحصيد صفة موصوفة محذوفة أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة وغيرها من الأقوات ونحوها . والباسقات التي طالت في السماء ، والطلع أوّل ما يبدو من من ثمر النخيل ، والنضيد الذي نضد بعضه فوق بعض ، والمراد كثرة الطلع وتراكمه المستتبع لكثرة الثمر . ثم شبه بإحياء الأرض خروج الموتى كما قال في الروم { وكذلك تخرجون } [ الآية : 19 ] ثم هدّدهم بأحوال الأمم السالفة وقد مر قصصهم مراراً . وأما حديث أصحاب الرس فلم يذكر إلا في « الفرقان » وحديث تبع في « الدخان » . وأراد بفرعون قومه لأن المعطوف عليه أقوام { فحق وعيد } مثل { فحق عقاب } [ ص : 14 ] وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم . ثم دل على الحشر بضرب آخر من البيان وهو أن الذي لم يعي أي لم يعجز عن الخلق الأول بالنسبة إلى أيّ مخلوق فرض كيف يعجز عن الإعادة؟ واللبس الخلط والشبهة ، وتنكير اللبس والخلق الجديد للتعظيم أي لبس عظيم ، وخلق له شأن وحق عليه أن يهتم به ولا يغفل عنه .
ثم شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم الله سبحانه وعظيم قدرته على بدئه وإعادته . والوسوسة الصوت الخفي . والباء في { به } للتعدية و « ما » مصدرية أي نعلم جعل نفسه إياه موسوساً . والقرب مجاز عن العلم التام كقولهم « هو منى مقعد القابلة ومعقد الإزار » وما في الآية دل على الإفراط في القرب لأن الوريد جزء من بدن الإنسان يريد أن علمه ينفذ في بواطن الأشياء نفود الدم في العروق . والوريد العرق الحامل للدم سوى الشرايين ، سمي وريداً لأن الروح أو الدم يرده . والوريدان عرقان يكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها يتشعبان من الرأس يتصلان بالوتين . والحبل العرق أيضاً شبه بواحد الحبال والإضافة للبيان كإضافة العام إلى الخاص . قال جار الله : « إذ » منصوب ب { أقرب } والمراد أنه أقرب نم الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به . وفيه أن كتابة الملكين لا حاجة إليها لعلام الغيوب وإنما هي لأغراض أخر كإلزام العبد واستحيائه منهما . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن مقعد ملكيك على - ثنييك أي عطفيك - ولسانك قلهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ولا منهما » ويجوز أن يكون تلقى الملكين بياناً للقرب فكأنه قيل : لا يخفى عليه شيء لأنه حفظته موكلون به . والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة ، والقعيد المقاعد كالجليس بمعنى المجالس ، والتقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فاختصر المفاعلة . وإما بالنسبة إلى الملك الآخر وإما بالإضافة إلى الإنسان ، والعتيد الحاضر .

قال أكثر المفسيرين : إنهما يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقيل : لا يكتبان إلا الحسنات والسيئات . وقيل : إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه . وحين حكى إنكارهم البعث واحتج عليهم بالدلائل الباهرة أخبر عن قرب القيامتين الصغرة والكبرى بأن عبر عنهما بلفظ الماضي وهو قوله { وجاءت سكرة الموت } ونفخ في الصور وسكرات الموت حالاته الذاهبه بالعقل . والباء في { بالحق } للتعدية أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلبة الحال من تحقق وقوع الموت أو من سعادة الميت أو ضدّها كما نطق بها الكتاب والسنة ، أو المراد وجاءت ملتبسة بالغرض الصحيح الذي هو ترتب الجزاء على الأعمال { ذلك } المجيء { ما كنت منه تحيد } أي تميل وتهرب أيها الإنسان . ولا ريب أن هذا الهرب للفاجر يكون بالحقيقة وللبر يكون بسبب نفرة الطبع إلا أنه إذا فكر في أمر نفسه وما خلق هو لأجله علم أن الموت راحة وخلاص عن عالم الآفات والبليات . قوله { ذلك يوم الوعيد } إشارة إلى النفخ والمضاف محذوف أي وقت النفخ الثاني آن زمان الوعيد . والسائق والشاهد ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر أو إلى الجنة أو النار كما قال { وسيق } والآخر يشهد عله بأعماله ويجوز أن يكون ملكاً واحداً جامعاً بين الأمرين . ويجوز أن يكون الرقيب المذكور والجملة حال من كل لأنه لعمومه كالمعرفة . ثم يقال للإنسان . { لقد كنت } في الدنيا { في غفلة من هذا } الأمر { فكشفنا عنك } بقطع العلائق الحسية ومفارقة النفس الناطقة { غطاءك } وهو الاشتغال بعالم المحسوسات { فبصرك اليوم حديد } غير كليل متيقظ غير نائم . وقال ابن زيد : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] أي كنت قبل الوحي في غفلة من هذا العلم . ثم بين أن الشيطان الذي هو قرين كل فاجر لقوله { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطان } [ الزخرف : 36 ] يقول لأهل المحشر أو لسائر القرناء قد أعتدت قريني لجهنم وهيأته لها . إن جعلت « ما » موصوفة ف { عتيد } صفة لها وإن جعلتها موصولة ف { عتيد } بدل أو خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف . ويحتمل أن يقول الشيطان لقرينه هذا البلاء النازل بك مما أعددته لك { ألقيا } خطاب من الله للملكين السائق والشهيد أو للواحد على عادة قول العرب « خليلي » و « قفا » . وذلك أن أكثر الرفقاء يكون ثلاثة . وقال المبرد : التثنية للتأكيد كأنه قيل : ألق ألق . نزلت تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل لاتحادهما . وجوز أن يكون الألف بدلاً من نون التأكيد الخفيفة إجراء للوصل مجرى الوقف يؤيده قراءة الحسن { ألقين } . { عنيد } ذي عناد أو معاند { مناع للخير } كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله .

وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة كان يمنع بني أخيه من الإسلام وكان يقول : من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بخير ما عشت . { معتد } ظالم { مريب } مشكك أو شاك في دين الله . قوله { قال قرينه } جاء على طريقة الاستئناف بخلاف ما تقدّم فإنه جاء على طريق العطف كأن قرينه - وهو الفاجر - قال : يا رب إنه أطغاني فأجاب القرين وهو الشيطان { ربنا ما أطغيته } ما أوقعته في الطغيان { ولكن كان } في الأزل { في ضلال بعيد } وقالت المعتزلة : ولكنه اختار الضلالة على الهدى .
ثم ذكر كلاماً آخر مستأنفاً كأن سائلاً سأل فماذا قال الله؟ فقيل : { قال لا تختصموا } وهذا هو الذي دل على أن ثمة مقاولة من الكافر لكنها طويت لدلالة الاختصام عليها والمعنى لا تختصموا في موقف الحساب { و } الحال أني { قد قدمت إليكم } وفيه أن اختصامهم كان يجب أن يكون قبل ذلك في الدنيا كما قال { إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّاً } [ فاطر : 6 ] والباء في { بالوعيد } إما مزيدة أو للعتدية على أن قدّم بمعنى تقدّم أو هو حال والمفعول جملة . قوله { ما يبدّل } إلى آخره . أي قدّمت إليكم هذا الكلام مقروناً بالوعيد . قال في الكشاف : فإن قلت : إن قوله { وقد قدّمت } حال من ضمير { لا تختصموا } فاجتماعهما في زمان واحد واجب وليس كذلك لأن التقديم في الدنيا والاختصام في الآخرة . قلت : معناه لا تختصموا وقد صح عندكم أني قدّمت إليكم بالوعيد وصحة ذلك عندهم في الآخرة . وأقول : لا حاجة إلى هذا التكلف والسؤال ساقط بدونه لأن مضيّ الماضي ثابت في أيّ حال فرض بعده . وقوله { لدي } إما أن يتعلق بالقول أي ما يبدّل القول الذي هو لديّ يعني ألقيا في جهنم ، أو لأملأن جهنم ، أو الحكم الأزلي بالسعادة والشقاوة . وإما أن يتعلق بقوله { ما يبدّل } أي لا يقع التبديل عندي . والمعاني كما مرت . ويجوز أن يراد لا يكذب لديّ ولا يفتري بين يديّ فإني عالم بمن طغى وبمن أطغى . ويحتمل أن يراد لا تبديل للكفر بالإيمان فإن إيمان اليأس غير مقبول . فقولكم « ربنا وإلهنا » لا يفيدكم { يوم نقول } منصوب ب { ظلام } أو ب « أذكر » قال أهل المعاني : سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تقرير المعنى في النفس . وقوله { هل من مزيد } أي من زيادة ، أو هو اسم مفعول كالمبيع ليبان استكثار الداخلين كما أن من يضرب غيره ضرباً مبرحاً أو شتمه شتماً فاحشاً يقول له المضروب : هل بقي شيء آخر يدل عليه قوله سبحانه { لأملأن جهنم } فلا بدّ أن يحصل الامتلاء فكيف يبقى في جهنم موضع خال حتى تطلب المزيد؟ ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظاً على العصاة وتضيقاً للمكان عليهم ، أو لعل هذا الكلام يقع قبل إدخال الكل .

وفيه لطيفة وهي أن جهنم تغيظ على الكفار فتطلبهم ، ثم يبقى فيها موضع لعصاة المسلمين فتطلب الامتلاء من الكفار كيلا ينقص إيمان العاصي حرها ، فإذا أدخل العصاة النار سكن غيظها وسكن غضبها وعند هذا يصح ما ورد في الأخبار ، وإن جهنم تطلب الزيادة حتى يضع الجبار فيها قدمه والمؤمن جبار يتكبر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله . وروي أنه لا يلقى فيها فوج إلا ذهب ولا يملؤها شيء فتقول : قد أقسمت لتملأني فيضع تعالى فيها قدمه أي ما قدّمه في قوله « سبقت رحمتي غضبي » أي يضع رحمته فتقول : قط قط ويزوي بعضها إلى بعض ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله خلقاً فيسكنون فضول الجنة . قلت : لا ريب أن جهنم الحرص والشهوة والغضب لا تقر ولا تسكن ولا تنتهي إلى حدّ معلوم ، بل تقول دائماً بلسان الحال هل من مزيد إلا أن يفيض الله سبحانه عليها من سجال هدايته ورحمته فيتنبه صاحبها وينتهي عن طلب الفضول ويقف في حدّ معين ويقنع بما تيسر ، وكذا الترقي في مدارج الكمالات ليس ينتهي إلى حدّ معلوم إلا إذا استغرق في بحر العرفان وكان هنالك ما كان كما قال { وأزلفت الجنة للمتقين } أي قربت للمتقين يحتمل أن تكون الواو للاسئناف وأن تكون للعطف على { نقول } والمضي لتحقيق الوقوع المستدعي لمزيد البشارة ولم يكن المنذرون مذكورين في الآية المتقدّمة فلم يحتج إلى تحقيق الإنذار . وقوله { غير بعيد } نصب على الظرف أي مكاناً غير بعيد عنهم ، أو على الحال . ووجه تذكيره مع تأنيث ذي الحال كما تقرر في قوله { إن رحمة الله قريب } [ الأعراف : 56 ] أنه على زنة المصدر كالزفير والصهيل ، أو هو على حذف الموصوف أي شيئاً غير بعيد . قال جار الله : معناه التوكيد كما تقول هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل ، وذلك أنه يجوز أن يتناول العزيز ذلّ ما من بعض الوجوه إلا أن الغالب عليه العز فإذا قيل عزيز غير ذليل أزيل ذلك الوهم ، وهكذا في كل تأكيد . فمعنى الآية أن الجنة قريب منهم بكل الوجوه وجميع المقايسات . وقال آخرون : إنه صفة مصدر محذوف أي إزلافاً غير بعيد عن قدرتنا ، وذلك إن المكان لا يقرب وإنما يقرب منه فذكر الله سبحانه إن إزلاف المكان ليس ببعيد عن قدرتنا بطيّ المسافة وغير ذلك . ويحتمل أن يقال : الإزلاف بمعنى قرب الحصول كمن يطلب من الملك أمراً خطيراً فيقول الملك بعيد عن ذلك أو قريب منه ، ولا ريب أن الجنة بعيدة الحصول للمكلف لولا فضل الله ورحمته ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « ما من عبد يدخل الجنة إلا بفضل الله . فقيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته »

وقوله { غير بعيد } يراد به القرب المكاني كأنه تعالى ينقل الجنة من السماء إلى الأرض فيحصل فيها المؤمن . ومما سنح لهذا الضعيف وقت كتبه تفسير هذه الآية أن الشيء ربما يقرب من شخص ولكن لا يوهب منه ، وقد يملكه ولكن لا يكون قريباً منه فذكر الله سبحانه في الآية إن الجنة تقرب لأجل المتقين غير بعيد الحصول لهم بل كما قربت دخلوها وحصلوا فيها لا كما قيل :
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود
وفي المثل البعيد القريب خير من القريب البعيد وذلك لأنهم حصلوا استعداد دخول الجنة وهو التقوى بخلاف الفاجر فإنه لا ينفعه القرب من الجنة لأن ملكاته الذميمة تحول بينه وبينها . ولك أن تشبه حالهما بحال الكبريت الجيد والحطب الرطب إذا قربا من الجمر ، وذلك أن تعتبر هذه الحالة في الدنيا فإن أهل الصلاح وأرباب النفوس المطمئنة يقبلون بل يستقبلون كل خير يعرض عليهم ، وأهل الشقاوة وأصحاب النفوس الأمارة يكون حالهم بالعكس يفرون من الخيرات والكمالات ويألفون الشرور واللذات الزائلات . ووجه آخر وهو أن الجنة قربت لهم حال كون كل واحد منهم غير بعيد عن لقاء الله ورضاه ، وفيه أن المتقين هم أهل الله وخاصته ليسوا بمن شغلوا بالجنة عن الاستغراق في لجة العرفان بل لهم مع النعيم المقيم لقاء الرب الكريم . قوله عز من قائل { هذا ما توعدون } قال جار الله : إنه جملة معترضة . وقوله { لكل أوّاب حفيظ } بدل من قوله { للمتقين } قلت : ولو جعل خبراً ثانياً لهذا لم يبعد . والمشار إليه الثواب أو الإزلاف . والأوّاب الرجاع إلى الله بالإعراض عما سواه ، والحفيظ الحافظ لحدود اللهأو لأوقات عمره أو لما يجده من المقامات والأحوال فلا ينكص على عقبيه فيصير حينئذ مريداً لطريقه . قوله { من خشي } قد مر وجوه إعرابه في الوقوف . وجوز أن يكون منادي كقولهم « من لا يزال محسناً أحسن إليّ » وحذف حرف النداء للتقريب والترحيب ، وقرن بالخشية اسمه الدال على وفور الرحمة للثناء على الخاشي من جهة الخشية أوّلاً ومن جهة خشيته مع علمه بسعة جوده ورحمته ومن جهة الخشية مع الغيب وقد مر مراراً ، وقد يقال : إنها الخشية في الخلوة حيث لا يراه أحد . قال أهل الاشتقاق : إن تركيب خ ش ى يلزمها الهيبة ومنه للسيد ولكبير السن وتركيب الخوف يدل على الضعف ومنه الخفاء ، وكل موضع ذكر فيه الخشية أريد بها معنى عظمة المخشي عنه ، وكل موضع ذكر فيه الخوف فإنه أريد ضعف الخائف كقوله { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] أو ضعف المخوف منه كقوله { لا تخف ولا تحزن } [ العنكبوت : 33 ] يريد أنه لا عظمة لهم وقال { إنا نخاف من ربنا يوماً }

[ الإنسان : 10 ] لأن عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله هينة . ووصف القلب بالمنيب باعتبار صاحبه أو لأن الإنابة المعتبرة هي الرجوع إلى الله بالقلب لا اللسان والجوارح { ادخلوها بسلام } أي سالمين من الآفات أو مع سلام من الله وملائكته { ذلك } إشارة إلى قوله { يوم نقول } أي ذلك اليوم { يوم } تقدير { الخلود } في النار أو في الجنة ويجوز أن يكون إشارة إلى وقت القول أي حين يقال لهم ادخلوها هو وقت تقدير الخلود في الجنة يؤيده قوله بعده { لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } مما لم يخطر بالقلوب . ويجوز أن يراد به الذي ذكر في قوله { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] ويروى أن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطر عليهم الحور فتقول الحور : نحن المزيد الذي قال الله تعالى { ولدينا مزيد } .
ثم عاد إلى التهديد بوجه أجمل وأشمل قائلاً { وكم أهلكنا } الآية . ومعنى الفاء في قوله { فنقبوا } للتسبيب عما قبله من الموت كقوله « هو أقوى من زيد فغلبه » أي شدّة بطشم أقدرتهم على التنقيب وأورثتهم ذلك وساروا في أقطار الأرض وسألوا { هل من محيص } أي مهرب من عذاب الله فعلموا أن لا مفر { إن في ذلك } الذي ذكر من أوّل السورة إلى ههنا أو من حديث النار والجنة أو من إهلاك الأمم الخالية { لذكرى لمن كان له قلب } واع فإن الغافل في حكم عديم القلب وإلقاء السمع الإصغاء إلى الكلام وفي قوله { وهو شهيد } إشارة إلى أن مجرد الإصغاء لا يفيد ما لم يكن المصغي حاضراً بفطنته وذهنه . وفي الآية ترتيب حسن لأنه إن كان ذا قلب ذكيّ يستخرج المعاني بتدبره وفكره فذاك وإلا فلا بد أن يكون مستمعاً مصغياً إلى كلام المنذر ليحصل له التذكير . قال المفسرون : زعمت اليهود إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ، أوّلها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش فردّ الله عيلهم بقوله { ولقد خلقنا } إلى قوله { وما مسنا من لغوب } أي إعياء . ثم سلى رسوله فأمره بالصبر على أذى الكفار . وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى مع كمال قدرته واستغنائه صبر على أذى الجهلة الذين نسبوه إلى اللغوب والاحتياج إلى الاستراحة ، فكيف لا يصبر رسوله على إيذاء أمته؟ بل كيف لا يصبر أحدنا على أذى أمثالنا وخاصة إن كانوا مسلطين علينا؟ اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا وادفع عنا بقدرتك شر كل ذي شر واغوثاه واغوثاه واغوثاه . وقد سبق نظير الآية في آخر « طه » ودلالتها على الصلوات الخمس ظاهرة { وأدبار السجود } أعقاب الصلوات فإن السجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة ، والأظهر أنه الأدعية والأذكار المشتملة على تنزيه الله تعالى وتقديسه . قيل : النوافل بعد المكتوبات .

وعن ابن عباس : هو الوتر بعد العشاء . ومن قرأ بكسر الهمزة أراد انقضاء الصلاة وإتمامها وهو مصدر وقع موقع الظرف أي وقت انقضاء السجود كقولك « آتيك خفوق النجم » . قال أهل النظم : إن النبي صلى الله عليه وسلم له شغلان : أحدهما عبادة الله ، والثاني هداية الخلق . فإذا هداهم ولم يهتدوا قيل له : اصبر واقبل على شغلك الآخر وهو العبادة . ثم بين غاية التسبيح بقوله { واستمع } يعني اشتغل بتنزيه الله وانتظر المنادي كقوله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] ومفعول { استمع } متروك أي كن مستمعاً لما أخبرك به من أهوال القيامة ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين . قال جار الله : وفي ترك المفعول وتقديم الأمر بالاستماع تعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل : يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك . وانتصب { يوم ينادي } بما دل عليه ذلك يوم الخروج أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . والمنادي قيل الله كقوله { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي } [ القصص : 32 ] { أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم } [ الصافات : 22 ] والأظهر أنه إسرافيل صاحب الصيحة ينفخ في الصور فينادي أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . وقيل : إسرافيل ينفخ وجبرائيل ينادي بالحشر . والمكان القريب صخرة بيت المقدس . يقال إنها أقرب إلى السماء باثني عشر ميلاً . وقيل : من تحت أقدامهم . وقيل : من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية وهذا يؤيد القول بأن المنادي هو الله لقوله { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } والصيحة النفخة الثانية كما قال { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع } [ يس : 53 ] وقوله { بالحق } متعلق بالصيحة والمراد به البعث للجزاء أي بسبب الحق الذي هو البعث . ويجوز أن يتعلق بالسماع أي أي يسمعونها باليقين . وقيل : الباء للقسم أي بالله الحق . قوله { سراعاً } حال من المجرور أي ينكشف عنهم مسرعين { ذلك } الشق أو الحشر { حشر علينا يسير } لا على غيرنا وهو ردّ على قولهم { ذلك رجع بعيد } . { نحن أعلم بما يقولون } أي من المطاعن والإنكار وفيه تهديد لهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { وما أنت عليهم بجبار } أي بمسلط حتى تقسرهم على الإيمان وإنما أنت داع . ولعل في تقديم الظرف إشارة إلى أنه كالمسلط على المؤمنين ولهذا وقع إيمانهم وهذا مما يقوّي طرف المجبرة . وقيل : أراد إنك رؤوف رحيم بهم لست فظاً غليظاً . والأول أولى بدليل قوله { فذكر } إلى آخر أي اترك هؤلاء وأقبل على دعوة من ينتفع بتذكيرك والله أعلم .

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

القراآت : { والذاريات ذرواً } بإدغام التاء في الذال : حمزة وأبو عمرو { ومثل ما } بالضم : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص . الباقون : { مثل } بالفتح على البناء لإضافته إلى غير متمكن ، أو على أنه لحق حقاً مثل نطقكم { سلم } بكسر السين وسكون اللام : حمزة علي وخلف والمفضل { والصعقة } بسكون العين للمرة : علي { وقوم نوح } بالجر : أبو عمرو وعلي وخلف
الوقوف : { ذرواً } ط { وقراً } ه لا { يسراً } ه لا { أمراً } ه ط { لصادق } ه لا { لواقع } ه { الحبك } ه لا { مختلف } ه لا { أفك } ه ط { الخراصون } ه لا { ساهون } ه لا لأن { يسألون } صلة بعد صلة ، { الدين } ه ط بناء على أن عامل يوم منتظر أي يقال لهم ذوقوا { يفتنون } ه { فتنتكم } ط { تستعجلون } ه { وعيون } ه لا { ربهم } ط { محسنين } ه ط { يهجعون } ه { يستغفرون } ه { والمحروم } ه { للموقنين } ه ط للعطف { أنفسكم } ط { تبصرون } ه { توعدون } ه { تنطقون } ه { المكرمين } ه م لأن عامل « إذ » محذوف وهو « اذكر » ولو وصل لأوهم أنه ظرف للإتيان { سلاماً } ط { سلام } ج { لحق } المحذوف مع اتحاد القائل أي أنتم قوم { منكرون } ه { سمين } ه لا للعطف { تأكلون } ه للآية مع العطف { خيفة } ط { لا تخف } ه { عليم } ه { عقيم } ه { كذلك } لا للتعلق بما بعده { ربك } ط { العليم } ه { المرسلون } ه { مجرمين } ه { طين } ه { للمفسرين } ه { المؤمنين } ه ج للآية مع العطف بالفاء واتصال المعنى { المسلمين } ه ط كذلك { الأليم } ه لتناهي القصة وحكم العربية ولوصل للعطف على قوله { وفي الأرض آيات } { مبين } ه { مجنون } ه { مليم } ه كما مر { العقيم } ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي غير تاركته { كالرميم } ه { حين } ه { ينظرون } ه { منتصرين } ه لا على القراءتين فيما بعده للعطف أي وفي قوم نوح أو وأخذنا قوم نوح ولو قدر واذكر قوم نوح فالوقف { قبل } ج { فاسقين } ه { لموسعون } ه { الماهدون } ه { تذكرون } ه { إلى الله } ط { مبين } ه للآية مع العطف { آخر } ط { مبين } ه { أو مجنون } ه { أتواصوا به } ج لأن « بل » للإضراب معنى مع العطف لفظاً { طاغون } ه { بملوم } ه لا للآية مع اتفاق الجملتين { المؤمنين } ه { ليعبدون } ه { يطعمون } ه { المتين } ه { يستعجلون } ه { يوعدون } ه .
التفسير : لما بين في آخر السورة أنهم بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم مصرون على إنكار الحشر ، ولهذا سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار } [ ق : 45 ] لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان فلذلك افتتح بذلك . عن علي كرم الله وجهه أنه قال علىلمنبر : سلوني قبل أن تفقدوني وإن لا تسألوني لا تسألوا بعدي مثلي .

فقال ابن الكواء فقال : ما الذاريات؟ قال : الرياح . وقد مر في الكهف في قوله { تذروه الرياح } [ الآية : 45 ] قال : فالحاملات وقراً؟ قال رضي الله عنه : السحاب لأنها تحمل المطر . وإنما لم يقل أوقاراً باعتبار جنس المطر وهو واحد . قال : فالجاريات يسراً؟ قال رضي الله عنه : الفلك والمراد جريان اليسر . قال : فالمقسمات أمراً؟ قال رضي الله عنه : الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك فيكون مصدراً في موضع الحال . ومعنى الفاء فيها ظاهر لأنه تعالى أقسم بالرياح فبالسحاب الذي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوباتها كأن ماء البحر أو مدده من السحاب فلذلك أخر . ثم أقسم بالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر . وقيل : إن الأوصاف الأربعة كلها للرياح لأنها تذروا التراب وغيره أولاً ، ثم تنشىء السحاب وتحمله . ولا ريب أن السحاب حمل ثقيل ولا سيما إذا كان فيه مطر ثم تجري - أعني الرياح - في الجو جرياً سهلاً في نفسها أي لا يصعب عليها الجري أو بالنسبة إلينا بخلاف الصرصر والعاصف ونحوها فتبسط السحاب في السماء ثم تقسم الأمطار في الأقطار بتصريف السحاب وقد روعي في ذكر وهذه الأوصاف لطيفة فإن الحشر يتم إمكانه بها لأن أجزاء بدن المكلف إن كانت في الأرض فتميز الريح بينهما بالذرو ، وإن كانت في الهواء فتحملها بالنقل ، وإن كانت في البحر فتخرجها بإنشاء السحاب منها إذ الذي قدر على إجراء السفن في البحار يقدر على إخراج تلك الأجزاء منها إلى البر . وبعد ذلك تقسم الملائكة أرواح الخلائق على أجسادها بإذن الله تعالى . وقيل : المقسمات الكواكب السبعة . وجواب القسم { إن ما توعدون } و « ما » مصدرية أو موصولة { لصادق } في نفسه كما يقال « خبر صادق » أو « ذو صدق » كعيشة راضية . ثم صرح بالموعود قائلاً { وإن الدين } أي الجزاء { لواقع } أي حاصل . وحين أقسم على صدق موعوده أقسم على جهلهم وعنادهم ، والحبك الطرائق كطرائق الرمل ، والماء إذا ضربته الريح ويقال : إن خلقة السماء كذلك واحدها حباك ، وقال الحسن : حبكها نجومها لأنها تزينها كما تزين الموشيّ يكون بطرائق الوشي . وقيل : حبكها صفاقتها وإحكامها يقال للثوب الصفيق « ما أحسن حبكه » . وعلى القول الأول يكون بين القسم والمقسم عليه مناسبة لأن القول المختلف له أيضاً طرائق ، قال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً وإنما هو متناقض مختلف ولهذا قالوا للرسول شاعر مجنون ، وللقرآن مثل ذلك ، وعن قتادة : أراد منكم مصدّق ومكذب ومقر ومنكر . والضمير في { يؤفك عنه } للقرآن أو النبي أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف بعده لأنه غاية ونهاية .

ويمكن أن يقال : يصرف عنه من صرف في سابق علم الله ، ويجوز أن يكون الضمير للموعود أقسم بالذاريات وغيرها أن وقوعه حق ، ثم أقسم بالسماء أنهم مختلفون في وقوعه يؤفك عن الإقرار به من هو عديم الاستعداد ، مغمور في الجهل والعناد . وجوّز جار الله أن يرجع الضمير إلى { قول مختلف } ويكون « عن » كما قوله
ينهون عن أكل وعن شرب ... أي يتناهون في السمن من كثرة الأكل والشرب وحقيقته يصدر تناهيهم في السمن من الأكل والشرب وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف . ثم دعا عليهم بقوله { قتل الخرّاصون } أي الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم المعهودون وأعم فيشملهم شمولاً أولياً . ولا يراد بهذا الدعاء وقوع القتل بعينه بل اللعن وما يوجب الهلاك بأي وجه كان . وقد لا يراد إلا تقبيح حال المدعو كقوله { قتل الإنسان ما أكفره } والغمرة كل ما يغمر الإنسان أي إنهم في جهل يغمرهم غافلون عما أمروا به { أيان يوم الدين } أي متى وقوعه؟ ثم أجاب بقوله { يوم هم } أي يقع في ذلك اليوم . ومعنى { يفتنون } يحرقون ويعذبون . ثم وبخهم وتهكم بهم قائلاً { ذوقوا } إلى آخره . وحين حكى حال الفاجر الشقي أراد أن يبين حال المؤمن التقي فقال { إن المتقين في جنات وعيون } أي في جنات فيه عيون حال كونهم { آخذين ما آتاهم ربهم } قال جار الله : قابلين لكل ما أعطاهم راضين به لا كمن يأخذ شيئاً على سخط وكراهية . وقال غيره : أراد أنهم يأخذونه شيئاً فشيئاً ولا يستوفون ذلك بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له . وقيل : الأخذ بمعنى التملك يقال : بكم أخذت هذا كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم . قال : إن فيض الله تعالى لا ينقطع أصلاً وإنما يصل إلى كل مكلف بقدر ما استعد له ، فكلما ازداد قبولاً ازداد تأثراً من الفيض والأخذ في هذا المقام لعله إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية ، وذلك لما أسلفوا من حسن العبادة ووفور الطاعة ولهذا علله بقوله { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } أي في الدنيا وظهر عليهم بعد قطع التعلق آثار الإحسان ونتيجته . وقوله { ما آتاهم } على المضي لتحقق الإيتاء مثل { ونادى } [ الأعراف : 38 ] { وسيق } [ الزمر : 72 ] وقال أهل العرفان : ما آتاهم في الأزل يأخذون نتائجه في الأبد . ثم فسر إحسانهم بقوله { كانوا قليلاً من الليل يهجعون } « ما » صلة أي كانوا ينامون في طائفة قليلة من الليل أو يهجعون هجوعاً قليلاً . وجوز أن تكون ما مصدرية أو موصولة . وارتفع « ما » مع الفعل على أنه فاعل قليلاً من الليل هجوعهم أو الذي يهجعون فيه . وفيه أصناف ن المبالغة من جهة لفظ الهجوع وهو النوم اليسير ، ومن جهة لفظ القلة ، ومن جهة التقييد بالليل لأنه وقت الاستراحة فقلة النوم فيه أغرب منها في النهار ، ومن جهة ما المزيدة على قول .

ولا يجوز أن تكون « ما » نافية لان ما بعدها لا يعمل فيما قبلها . وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار وكأنهم باتوا في معصية الملك الجبار . وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم . ثم يستقله ويعتذر ، واللئيم بالعكس يأتي بأقل شيء ثم يمن به ويستكثر . ومثله المطيع يأتي بغاية مجهوده من الخدمة ثم ينسب نفسه إلى التقصير فيستغفر . ويمكن أن يقال : إنهم يستغفرون من الهجوع كأنهم أرادوا أن يقوموا على إحياء الليل كله . ويجوز أن يكون الاستغفار بمعنى الصلاة لقوله بعده { في أموالهم حق } فيكون كقوله { يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } [ البقرة : 3 ] ووجه أغرب وهو أن يكون السين في استغفر مثله في استحصد الزرع أي حان أن يحصد فكأن وقت السحر وهو الأولى بحصول المغفرة . قال جار الله : في قوله { هم يستغفرون } إشارة إلى أنهم هو المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين . وقيل : إبراز الضمير لدفع وهم من يظن أن التقدير وبالأسحار قليلاً يستغفرون على قياس الفعل السابق .
وحيث ذكر جدهم في التعظيم لأمر الله أردفه بذكر شفقتهم على خلق الله . والمشهور في الحق أنه القدر الذي علم إخراجه من المال شرعاً وهو الزكاة قيل : إنه على هذا لم يكن صفة مدح لأن كل مسلم كذلك بل كل كافر وذلك إذا قلنا إنه مخاطب بالفروع إلا أنه إذا علم سقط عنه . وأجيب بأن السائل من له الطلب شرعاً . والمحروم من الحرمة وهو الذي منع الطلب فكأنه قيل : في أموالهم حق للطالب - وهو الزكاة - ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها التي تتعلق بفرض صاحب المال وإقراره وليس عليه فيها مطالبة . ويمكن أن يقال : أراد في أموالهم حق في اعتقادهم وسيرتهم كأنهم أوجبوا على أنفسهم أن يعطوا من المال حقاً معلوماً وإن لم يوجبه الشرع . وفي السائل والمحروم وجوه أحدها ما مر . الثاني السائل هو الناطق والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوان كما قال صلى الله عليه وسلم « لكل كبد حرى أجر » الثالث وهو الأظهر أن السائل هو الذي يستجدي والمرحوم الذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه قال صلى الله عليه وسلم : « ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان قالوا : فما هو قال : الذي لا يجد ولا يتصدق عليه » وتقديم السائل على ترتيب الواقع لأنه يعرف حاله بمقاله فيسد خلته ، وأما المحروم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاستكشاف والبحث . وقيل : المحروم الذي لا يمنى له مال . وقيل : هو المنقوص الحظ الذي لا يكاد يكسب . ثم أكد وقوع الحشر والدلالة على قدرته بقوله { وفي الأرض آيات } كقوله { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة }

[ فصلت : 39 ] إلى قوله { إن الذي أحياها لمحي الموتى } [ فصلت : 39 ] ومن عجائب الأرض ما هي في جرمها من الاستدارة والألوان المختلفة وطبقاتها المتباينة ، ومنها ما عليها وفيها من الجبال والمواليد الثلاثة ، ومنها ما هي واردة عليها من فوقها كالمطر وغيره . وخص الآيات الأرضية بالذكر لقربها من الحواس ، وخص كونها آيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بذلك ، ومن لم يتأمل في المصنوعات لم يزد يقينه بالصانع . ثم استدل بالأنفس فقال { وفي أنفسكم } آيات . وذلك أن الإنسان عالم صغير فيه تشابه من العالم الكبير وقد مر تقرير ذلك مراراً . وقيل : هي الأرواح أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات . قال أهل النظم : هذه الآية مؤكدة لما قبلها فإن من وقف على هذه الآيات الباهرة تبين له جلال الله وعظمته فيتقيه ويعبده ويستغفره من تقصيره ولا يهجع إلا قليلاً ، وهكذا من عرف أن رزقه في السماء لم يبخل بماله ويعطيه السائل والمحروم . وعن الحسن أنه كان إذا رأة السحاب قال لأصحابه : فيه رزقكم يعني المطر ولكنكم تحرمونه . { وما توعدون } هي الجنة فوق السماء السابعة وتحت العرش . وقيل : إن أرزاقكم في الدنيا وما توعدون في العقبى كلها مقدرة مكتوبة في السماء . ثم أنتج من الأخبار السالفة من أول السورة إلى ههنا حقيقة القرآن أو النبي أو الموعود ، وأقسم عليه برب السماء الأرض ترقياً من الأدنى وهي المربوبات كالذاريات وغيرها إلى الرب تعالى . و « ما » مزيدة بنص الخليل حكاه جار الله يقال في الأمر الظاهر غاية الظهور أن هذا الحق أنك ترى وتسمع مثل ما أنك ههنا . قال الأصمعي : أقبلت خارجاً من البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال : من الرجل؟ قلت : منت بني أصمع . قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن . فقال : اتل علي فتلوت { والذاريات } فلما بلغت قوله { وفي السماء رزقكم } فقال : حسبك . فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على الناس وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى . فلام حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال : وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ثم قال : فهل غير هذا؟ فقرأت { فورب السماء والأرض إنه لحق } فصاح فقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤه إلى اليمين قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقصة إبراهيم وغيرها قد مرت في « هود » و « الحجر » وفي قوله { هل أتاك } تفخيم لشأن الحديث . والضيف واحد . وجمع والمكرمون إما باعتبار إكرامه إياهم حتى خدمهم بنفسه وبامرأته ، أو لأنهم أهل الإكرام عند الله كقوله

{ بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] وجوز أن يكون نصب { إذا دخلوا } بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم أو بما في ضيف من معنى الفعل . قال المفسرون : أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام أو أراد تعرف حالهم لأنهم لم يكونوا من معارفه { فراغ إلى أهله } فذهب إليهم في خفية من ضيوفه وهو نوع أدب للمضيف كيلا يستحيوا منه ولا يبادروا بالاعتذار والمنع من الضيافة . وفي قوله { فقربه إليهم } دلالة على أن نقل الطعام إلى الضيف أولى من العكس لئلا يتشوش المكان عليهم . { قال ألا تأكلون } سلوك لطريقة الاستئناف ولهذا حذف الفاء خلاف ما في « الصافات » وقد مر . والاستفهام لإنكار ترك الأكل أو للحث عليه { فأوجس } فأضمر وقد تقدم سائر الأبحاث في « هود » وفي « الصافات » . واعلم أنه سبحانه ذكر في « هود » أنه لما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وقال ههنا { سلام قوم منكرون } ولا تنافي بين الحديثين لأنه أنكرهم أولاً بالسلام الذي لم يكن من عادة تلك الشريعة ، ثم زاد إنكاره حين رآهم لا يأكلون الطعام فذكر أحد الإنكارين في تلك السورة والآخر في هذه . قوله { فأقبلت امرأته في صرة } أي في صيحة ومنه صرير القلم . قال الحسن : كانت في زاوية تنظر إليهم فوجدت حرارة الدم فأقبلت إلى بيتها صارة فلطمت وجهها من الحياء والتعجب كعادة النسوان { وقالت } أنا { عجوز } فأجابت الملائكة { كذلك } أي مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به { قال ربك } فلا تستبعدي . وروي أن جبرائيل قال لها : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة فحينئذ أحس إبراهيم صلوات الرحمن عليه بأنهم ملائكة . { قال فما خطبكم } شأنكم وطلبكم؟ فأجابوا بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط ليرسلوا عليهم السجيل كما قصصنا في « هود » . والضمير في قوله { فيها } للقرية وإن لم يجر لها ذكر لأنه معلوم ، قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد . وقال غيرهم : المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص مما لا منع فيه ولا يدل على اتحادهما وهذا كقوله القائل من في البيت من الناس؟ فيقول له : ما في البيت من الحيوان أحد غير زيد . فيكون مخبراً له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد . وقوله { وتركنا فيها آية } كقوله في « العنكبوت » { ولقد تركنا منها آية بينة } [ الآية : 35 ] أي علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم وهي الحجارة المسومة أو ماء أسود . قوله { وفي موسى } قيل : الأقرب أن يكون معطوفاً على قوله { وتركنا فيها } أي وجعلنا في موسى آية . قال جار الله : هو كقوله من قال :
علفتها تبنا وماء بارداً ... ويمكن أن يقال : إن قصة موسى أيضاً آية متروكة باقية على وجه الدهر فلا حاجة إلى هذا التكلف .

قوله { فتولى بركنه } كقوله { ونأى بجانبه } [ الإسراء : 83 ] وقيل : الباء للمصاحبة . والركن القوم أي فازور وأعرض مع ما كان يتقوى به من جنوده وملكه . وقيل : ركنه هامان وزيره قال العلماء : وصفه فرعون بالمليم مع أنه وصف يونس النبي به صلى الله عليه وسلم كما مر في « الصافات » لا يوجب اشتراكهما في استحقاق الملامة ، لأن موجبات اللوم تختلف . فراكب الكبيرة ملوم على قدرها ، ومقترف الصغيرة ملوم بحسبها ، وبينهما بون ، العقيم ريح لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر . والرميم ما رم وتفتت . قال في الكشاف : { تمتعوا حتى حين } تفسيره في قوله { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } [ هود : 65 ] قلت : هذا سهو منه فإن قوله { فعتوا عن أمر ربهم } لا يطابقه إذ العتو لم يترتب على هذا الأمر لحصوله قبله . وإنما الصواب أن يكون التمتع المأمور به في هذه الآية هو الذي في قصة قوم يونس { فآمنوا فمتعناهم إلى حين } [ الصافات : 148 ] فكأن قوم ثمود أمروا أن يؤمنوا كي يمهلوا إلى انقضاء آجالهم الطبيعية والأمر أمر تكليف لا تكوين { فعتوا عن أمر ربهم } بالإصرار على كفرهم . فقيل : على سبيل التكوين تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وكان ذلك علامة العذاب والصاعقة النازلة نفسها { وهم ينظرون } أي كانت نهاراً يعاينونها أو كانوا منتظرين لها إذ قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام { فما استطاعوا من قيام } عبارة عن جثومهم كما مر مراراً { وما كانوا منتصرين } ممتنعين من العذاب وقصة نوح واضحة وقد مر إعرابه في الوقوف .
ثم عاد إلى دلائل القدرة فقال { والسماء بنيناها بأيد } وفي لفظ البناء إشارة إلى كونها محكمة البنيان . وفي قوله { بأيد } أي بقوة تأكيد لذلك . وفي قوله { وأنا لموسعون } مزيد تأكيد والمعنى لقادرون من الوسع الطاقة والموسع القوي على الإنفاق ومنه قال الحسن : أراد إنا لموسعون الرزق بالمطر . وقيل : جعلنا بين السماء وبين الأرض سعة . وإنما أطلق الفرش على الأرض ولم يطلق البناء لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى { ومن كل شيء } من الحيوان { خلقنا زوجين } ذكراً وأنثى . وعدد الحسن أشياء كالسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة . قال : كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له . وقد يدور في الخلد أن الآية إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى فإنه مركب نوع تركيب لا أقل من الوجود والإمكان أوالجنس والفصل أو المادة والصورة ولذلك قال { لعلكم تذكرون } له إرادة ترقيكم من المركب إلى البسيط ومن الممكن إلى الواجب ومن المصنوع . وإذا عرفتم الله { ففروا إلى الله } أي التجؤا إليه ولا تعبدوا غيره أمر بالإقبال عليه وبالإعراض عما سواه . وكرر قوله { إني لكم منه نذير مبين } للتأكيد . وبعد توضيح البيانات وذكر القصص وتقرير الدلائل سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله { كذلك } أي الأمر مثل الذي تقرر من تكذيب الرسل وإصرار الكفرة على الإنكار والسب .

ثم فسر ما أجمله بقوله { ما أتى } إلى آخره وقوله { أتواصوا به } استفهام على سبيل التعجب من تطابق آرائهم على تكذيب أنبيائهم . ثم أضرب عن ذلك لأن تطابق المتقدم والمتأخر على أمر واحد غير ممكن فنبه على جلية الحال قائلاً { بل هم قوم طاغون } يعني أن اشتراك علة التكذيب وهو الطغيان أشركهم في المعلول { فتول عنهم } فإن تكذيبهم لا يوجب ترك الدعوة العامة { فما أنت بملوم } على إعراضك عنهم بعد التبليغ لأنك قد بذلت مجهودك واستفرغت وسعك { وذكر } مع ذلك { فإن الذكرى تنفع المؤمنين } أراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم لا يوجب ترك البعض الآخر . ثم بين الغاية من خلق الثقلين وهي العبادة . وللمعتزلة فيه دليل ظاهر على أن أفعاله الله معللة بغرض . وقال أهل السنة : إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك فإن المعرفة أيضاً غاية صحيحة ، وإنما الخلاص عن الإشكال بما سلف مراراً أن استتباع الغاية لا يوجب كون الفعل معللاً بها ، وإذا لم يكن الفعل معللاً بذلك فقد يكون الفعل ، وتتخلف الغاية لمانع كعدم قابلية ونحوه . ثم ذكر أنه خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح هو عليهم . والمتين الشديد القوة . ثم هدد مشركي مكة وأضرابهم بقوله { فإن للذين ظلموا ذنوباً } أي نصيباً من العذاب { مثل ذنوب أصحابهم } المهلكين ، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة قال أهل البيان : وهذا تمثيل وأصله من تقسيم الماء يكون لهذا دلو ولهذا دلو . واليوم الموعود القيامة أو يوم بدر .

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

القراآت : { فكهين } مقصوراً : يزيد { وأتبعناهم } من باب الأفعال : أبو عمرو { وذريتهم } على التوحيد مرفوعاً { ذرياتهم } على الجمع : أبو جعفر ونافع . وقرأ أبو عمرو على الجمع فيهما منصوباً . وقرأ { ذريتهم } ابن عامر وسهل ويعقوب على الجمع أيضاً ولكن برفع الأول . الباقون : على التوحيد فيهما الأول مرفوعاً والثاني منصوباً { ألتناهم } بكسر اللام ثلاثياً . ابن كثير { لؤلؤ } بتليين الهمزة الأولى : شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد وحمزة في الوقف كما مر في الحج { أنه هو البر } بفتح الهمزة : أبو جعفر ونافع وعلي { أنا كنا ندعوه } { لأنه } { المسيطرون } بالسين : ابن كثير في رواية . وابن عامر والآخرون : بالصاد . وقرأ حمزة في رواية بإشمام الراء { يصعقون } مبنياً للمفعول : ابن عامر وعاصم { وإدبار النجوم } بالفتح : زيد عن يعقوب .
الوقوف : { والطور } ه لا { مسطور } ه لا { منشور } ه لا { المعمور } ه لا { المرفوع } ه لا { المسجور } ه لا { لواقع } ه لا { من دافع } ه لا { موراً } ه لا { سيراً } ط { للمكذبين } ه لا { يلعبون } ه م { دعا } ط لأن التقدير يقال لهم هذه النار { تكذبون } ه { لا تبصرون } ه { تصبروا } ه لاختلاف الجملتين مع اتفاق المعنى { عليكم } ط { تعملون } ه { ونعيم } ه لا { آتاهم ربهم } ج لاحتمال العطف واتضاح وجه الحال أي وقد وقاهم { الجحيم } ه { تعملون } ه لا { مصفوفة } ج { عين } ه { شيء } ه { رهين } ه { يشتهون } ه { ولا تأثيم } ه { مكنون } ه { يتساءلون } ه { مشفقين } ه { السموم } ه ط لمن قرأ { إنه } بالكسر { الرحيم } ه { مجنون } ه لأن « أم » ابتداء استفهام وتوبيخ { المنون } ه { المتربصين } ه ط لما قلنا { طاغون } ه ج لاحتمال ابتداء الاستفهام والجواب بقوله بل { لا يؤمنون } ه ج للآية مع الفاء { صادقين } ه ط { الخالقون } ه ط { والأرض } ج لأن « بل » للإضراب مع العطف { لا يوقنون } ه { المسيطرون } ه ط { فيه } ج لتناهي الاستفهام مع فاء التعقيب { مبين } ه ط { البنون } ه ط { مثقلون } ه { يكتبون } ط { كيداً } ط { المكيدون } ه ط والضابط فيما تقدم أن كلما وصل « أم » فهو للجواب وما قطع فهو بمعنى ألف الاستفهام { غير الله } ط { يشركون } ه { مركوم } ه { يصعقون } ه لا لأن { يوم } بدل ما تقدمه { ينصرون } ه ط { لا يعلمون } ه { تقوم } ه لا { النجوم } ه .
التفسير : لما ختم السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود أقسم على ذلك بالطور وهو الجبل الذي مر ذكره مراراً في قصة موسى . والكتاب المسطور التوراة ظاهراً لأنه هو المناسب للطور . وقيل : اللوح المحفوظ . وقيل : صحيفة الأعمال . والرق الصحيفة أو الجلد الذي يكتب عليه . والمنشور خلاف المطوي كقوله

{ ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً } [ الإسراء : 13 ] وقيل : هو القرآن ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب { والبيت المعمور } الكعبة أو الضراح في السماء السابعة سمي معموراً لكثرة زواره من الحجاج أو الملائكة { والسقف المرفوع } السماء { والبحر المسجور } المملوء أو الموقد من قوله { وإذا البحار سجرت } [ الأنفطار : 3 ] وقد سبق في « المؤمن » في قوله { ثم في النار يسجرون } [ الآية : 72 ] عن جبير بن مطعم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأساري فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة { والطور } فلما بلغ { إن عذاب ربك لواقع } أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب { يوم تمور } تضطرب وتجيء وتذهب وقد يقال : المور تحرك في تموج كحركة الزئبق ونحوه . قلت : لأهل التأويل أن يقولوا : الطور القوة العقلية ، وكتاب مسطور هي الجلايا القدسية والمعارف الإلهية الثابتة فيها كالحرف في الرق ، والبيت المعمور بيت القلب ، والسقف المرفوع الرأس ، والبحر المسجور الدماغ المملوء من الخيالات والأوهام . { إن عذاب ربك } بالحرمان عن الإكرام لازدحام ظلم الآثام لواقع يوم القيامة الصغرى إذ تمور سماء الأرواح حين قطع العلائق وحيلولة العوائق موراً ، وتسير جبال النفوس الحيوانية الأمارة التي أثقلت ظهر صاحبها لانتهاء سيرانها وانقضاء سلطانها سيراً . والدع الدفع العنيف . قال المفسرون : إن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم . والاستفهام في قوله { أفسحر } للتقريع والتهكم ، والفاء مؤكد له أي كنتم تقولون للوحي إنه سحر فهذا أيضاً سحر { أم أنتم لا تبصرون } هذا المخبر عنه في الآخرة كما كنتم لا تصدقون الخبر عنه في الدنيا . وقوله { فاصبروا أو لا تصبروا } كقوله { سواء علينا لا تصدقون الخبر عنه في الدنيا . وقوله { فاصبروا أو لا تصبروا } كقوله { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } [ إبراهيم : 21 ] ثم علل الاستواء بقوله { إنما تجزون } يعني أن الجزاء لا بد من حصوله فلا مزية للصبر على عدمه . قوله { ووقاهم } معطوف على متعلق قوله { في جنات } أي استقروا في جنات ونعيم ووقاهم العذاب . وجوز أن يعطف على { آتاهم } على أن « ما » مصدرية أي فاكهين بالإيتاء والوقاية { كلوا } على إرادة القول أي يقال لهم كلوا { واشربوا } أكلاً وشرباً { هنيئاً } أو طعاماً وشراباً هنيئاً لا تنغيص فيه . وقد مر في أول « النساء » . وجوز جار الله أن يكون صفة في معنى المصدر القائم مقام الفعل أي هنأكم الأكل والشرب بسبب ما عملتم ، أو الباء مزيدة أي هنأكم جماء ما عملتم . قوله { والذين آمنوا } ظاهره أنه مبتدأ خبره { ألحقنا } قال جار الله : هو معطوف على { حور عين } أي قرناهم بحور عين والذين آمنوا من رفقائهم وجلسائهم وأتبعناهم ذرياتهم كي يجتمع لهم أنواع السرور بملاعبة الحور وبمؤانسة الإخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم .

وقوله { بإيمان } أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء . { ألحقنا } بدرجاتهم { ذريتهم } ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل كما جاء في الحديث « إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية » { وما ألتناهم } أي وما نقصنا من ثوابهم شيئاً بعطية الأبناء ولا بسبب غيرها ولكن وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا تفضلاً وإحساناً . ثم بين أن الجزاء بمقدار العمل فقال { كل امرىء بما كسب رهين } أي مرهون . قال جار الله : كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه . فإن عمل صالحاً فكها وخلصها وإلا أوبقها . وقيل : هذا يعود إلى الكفار . والرهين المرهون المأخوذ المحبس على أمر يؤدي عنه . وقيل : بمعنى راهن وهو المقيم أي كل إنسان مقيم في جزاء ما يقدم . { وأمددناهم } وزدناهم وقتاً بعد وقت { يتنازعون } يتعاطون هم وقرناؤهم { لا لغو فيها } أي لا حديث باطل في أثناء شربها . ونفى اللغو لانتفاء الغول الذي هو من تعاكسيه { ولا تأثيم } أي لا يفعلون ما ينسب صاحبه إلى الإثم لو فعله في دار التكليف ، وإنما يتكلمون بالكلام الحسن المفيد وذلك أنهم حكماء علماء . والغلمان الخدام المختصمون بهم ، واللؤلؤ المكنون المستور في الصدف أو في الدرج وذلك أنه أصفى وأرطب وأثمن . وقيل لقتادة : هذا هو الخادم فكيف المخدوم؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفس بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » وعنه صلى الله عليه وسلم « إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيب ألف ببابه لبيك لبيك » { يتساءلون } يتحادثون { مشفقين } أرقاء القلوب من خشية الله وعذاب السموم عذاب النار لأنها تدخل المسام ومنه الريح السموم { من قبل } أي في الدنيا { فذكر } فأثبت على ما أنت عليه من التذكير والدعوة العامة { فما أنت بنعمة ربك } أي بسبب حمد الله وإنعامه عليك { بكاهن } كما يزعمون { ولا مجنون } فلعله كان لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوال ، فبعضهم ينسبونه إلى الكهانة نظراً إلى إخباره عن المغيبات ، وبعضهم يرمونه بالجنون حيث لا يسمعون منه ما يوافق هواهم ويطابق مغزاهم ، وبعضهم يرون أن تأثير كلامه فيهم من باب التخييل لا الإعجاز كما قال { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } وهو ما يقلق النفوس ويزعجها من حوادث الدهر ، وقيل : المنون الموت « فعول » من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع ولذلك سمي شعوب . وقد قالوا : ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك الشعراء قبله . والأحلام العقول وكانت قريش يدعون أنهم أهل النهي والأحلام .

وكون الأحلام أمرتهم مجاز لأدائها إلى تلك الأقوال الفاسدة ، وفيه تقريع وتوبيخ إذ لو كان لهم عقل لميزوا بين الحق والباطل والمعجز وغيره { تقوَّله } اختلقه من تلقاء نفسه { بل لا يؤمنون } جحوداً وعناداً وقد صح عندهم إعجاز القرآن وإلا { فليأتوا بحديث مثله } .
ثم وبخهم على إنكار الصانع بقوله { أم خلقوا من غير شيء } من غير خالق { أم هم الخالقون } أنفسهم . وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء وحساب . والأول أقوى لقوله { أم خلقوا السموات والأرض } ثم احتج عليهم بالأنفس ثم بالآفاق ثم قال { بل لا يوقنون } وذلك أنه حكى عنهم { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] فتبين أنهم في هذا الاعتراف شاكون إذ لو عرفوه حق معرفته لم يثبتوا له نداً ولم يحسدوا من اختاره للرسالة كما وبخهم عليه بقوله { أم عندهم خزائن ربك } حتى يختاروا للنبوة من أرادوه { أم هم المسيطرون } المسلطون الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم { أم لهم سلم يستمعون } الوحي صاعدين { فيه } إلى السماء عالمين بالمحق والمبطل ومن له العاقبة . والمغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه { أم عندهم الغيب } المحفوظ في اللوح { فهم يكتبون } ما فيه من أحوال المبدأ والنبوة والمعاد فيحكمون بحسبها { أم يريدون كيداً } وهو كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وفي غيرها { فالذين كفروا } اللام لهؤلاء أو للجنس فيشملهم { هم المكيدون } المغلوبون الذين يعود وبال الكيد عليهم فقتلوا ببدر وأظهر الله دين الإسلام . ثم صرح بالمقصود الكلي فوبخهم على إشراكهم ونزه نفسه عن ذلك بقوله { سبحان الله } ثم أجاب عن بعض مقترحهم وهو قولهم { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } والمراد أنهم لفرط عنادهم لا يفيد معهم شيء من الدلائل فلو أسقطنا عليهم قطعة من السماء لقالوا هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض . ومعنى يصعقون يموتون وذلك عند النفخة الأولى . قوله { عذاباً دون ذلك } أي قبل يوم القيامة وهو القتل ببدر القحط سبع سنين وعذاب القبر { فأصبر لحكم ربك } بإمهالهم وتبليغ الرسالة { فإنك } محفوظ { بأعيننا } وهو مجاز عن الكلاءة التامة والجمع للتعظيم والمبالغة و { حين تقوم } أي من أي مكان قمت أو من منامك . وإدبار النجوم بالكسر غروبها آخر الليل وهو بالحقيقة تلاشي نورها في ضوء الصبح ، وبالفتح أعقابها . والمعنى مثل ما قلنا . وقيل : التسبيح التنجد . ومن الليل صلاة العشاءين ، وإدبار النجوم صلاة الفجر . أمره بالإقبال على طاعته بعد الفراغ عن دعوة الأمة فليس له شأن إلا هذين .

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

القراآت : { هوى } وسائر آياته بالإمالة اللطيفة : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة المفرطة كما سبق في « طه » { ما كذب } بالتشديد : يزيد وهشام { ما زاغ البصر } بالإمالة : حمزة ونصير { ومناة } بالمد : ابن كثير والشموني { أفتمرونه } ثلاثياً : يعقوب وحمزة وعلي وخلف { ضيزى } بالهمزة : ابن كثير في رواية { كبير الأثم } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف والمفضل { إبراهام } هشام { عاداً لولي } مدغماً غير مهموز : أبو عمرو ويزيد ويعقوب والنجاري عن ورش . وقرأ إسماعيل والأصبهاني عن ورش وأبو نشيط عن قالوا بإظهار الغنة غير مهموز . وكذلك روي عن أبي عمرو فعلى مذهبهم إذا وقف القارىء على { عاد } ابتدأ { بلولي } ولو شاء الولي بتخفيف الهمزة والأول أحسن . وقرأ قالون غير أبي نشيط بالهمزة وإظهار الغنة ، وإذا وقف على { عاد } ابتدأ { لولي } ولو شاء { الولي } والباقون { عاد الأولى } بالألف قبل اللام وبعد اللام في الحالين { وثمود } في الحالين بغير تنوين : حمزة وعاصم غير ابن غالب والبرجمي والمفضل وسهل ويعقوب { ربك تمارى } بتشديد التاء : رويس عن يعقوب .
الوقوف : { هوى } ه لا { غوى } ه ج للآية مع العطف على جواب القسم { الهوى } ه ط { يوحى } ه لا { القوى } ه لا لذلك { ذو مرة } ط لتمام الصفة { فاستوى } ه لا لأن الواو للحال { الأعلى } ه ط { فتدلى } ه لا لأن ما بعده من تمام المقصود { أو أدنى } ه ج وإن اتفقت الجملتان لأن ضمير { فأوحى } لله لا للنبي { ما أوحى } ه ج { ما رأى } ه { أخرى } ه لا { المنتهى } ه { المأوى } ه لأن عامل { إذ زاغ البصر } فلا وقف على { ما يغشى } { طغى } ه { الكبرى } ه { والعزى } ه لا { الأخرى } ه { الأنثى } ه { ضيزى } ه { سلطان } ط { الأنفس } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { الهدى } ه ط لأن أم ابتداء استفهام إنكار { ما تمنى } ه ز لتناهى الاستفهام والوصل أولى للفاء واتصال المعنى { والأولى } ه { ويرضى } ه { الأنثى } ه { علم } ط { إلا الظن } ه ج لاختلاف الجملتين { شيئاً } ط لذلك { الدنيا } ه ط { من العلم } ط { اهتدى } ه { وما في الأرض } ط { بالحسنى } ه ج لأن { الذين } يصلح خبر مبتدأ محذوف وبدلاً من { الذين أحسنوا } { اللمم } ط { المغفرة } ط { أمهاتكم } ج { أنفسكم } ه ط { اتقى } ه { تولى } ج { وأكدى } ه { يرى } ه { موسى } ه { وفى } ه لا { أخرى } ه لا { سعى } ه لا { يرى } ه ص لوقوع العارض بين المعطوف على أن { الأوفى } ه لا { المنتهى } ه لا { وأبكى } ه لا { وأحيا } ه لا { والأنثى } ه { تمنى } ه ص لما مر { الأخرى } ه لا { وأقنى } ه لا { الشعرى } ه ط { الأولى } ه لا { أبقى } ه لا { وأطفى } ه ط لأن { المؤتفكة } منصوب بما بعده { هوى } ه لا { ما غشى } ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء { تتمارى } ه { الأولى } ه لا { الآزقة } ه للاستئناف والحال { كاشفةْ } ه { تعجبون } ه لا { ولا تبكون } ه لا { سامدون } ه لا { واعبدوا } ه سجدة .

التفسير : لما ختم السورة المتقدمة بالنجوم خص الأقسام في أول هذه السورة بالنجم واللام فيه للعهد أو للجنس . والأول قول من قال : إنه الثريا وهو اسم غالب لها وصورتها في السماء كعنقود عنب . وأظهر كواكبها سبعة وهي المنزل الثالث من منازل القمر . قال : إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء . وذلك أن الشمس تكون في أول العقرب حينئذ في مقابلتها فتطلع بغروبها . وعلى الثاني فيه وجوه أحدها . نجوم السماء وهويها غروبها . وفائدة هذا القيد أن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال ، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر من الناظر إليه حينئذ يستدل بغروبها على أفوله في حيز الإمكان فيتم له اهتداء الدين مع اهتداء الدنيا . وقيل : هويها انتثارها يوم القيامة . وثانيها النجم هو الذي يرجم به الشياطين وهويها نقضاضها . وثالثها النجم النبات إذا هوى إذا سقط على الأرض وهو غاية نشوة . ورابعها النجم أحد نجوم القرآن وقد نزل منجماً في عشرين سنة فيكون كقوله { والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } [ يس : 2 ، 3 ] وعلى القول الآخر فالثريا أظهر النجوم عند الناظرين وأشهر المنازل للسائرين وأنها تطلع عشاء في وقت إدراك الثماء . والنبي صلى الله عليه وسلم تميز من سائر الأنبياء بالمعجزات الباهرات ولا سيما فإنه حين ظهر زال يبس الكوك وحرارة الحمية الجاهلية وأدرك الحكمة ورجم به شياطين الإنس المضلين لعباد الله في أرضه ، ونبت بوجوده أصناف الأغذية الروحانية تامة كاملة . قال جار الله : الضلال نقيض الهدى ، والغي نقيض الرشد ، والخطاب لقريش . قلت : هذا صادق من حيث الاستعمال لقوله { قد تبين الرشد من الغي } [ البقرة : 256 ] { من يضلل الله فلا هادي له } [ الأعراف : 186 ] إلا أنه ينبغي أن يتبين لافرق بين الضلال والغواية . والظاهر أن الضلال أعم وهو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً ، والغواية أن لا يكون له إلى المقصد طريق مستقيم ولهذا لا يقال للمؤمن من إنه ضال أو غير مهتد ويقال له إنه غوي غير رشيد . قال عز من قائل { فإن آنستم منهم رشداً } [ النساء : 6 ] فكأنه سبحانه نفى الأعم أولاً ثم نفى الأخص ليفيد أنه على الجادة غير منحرف عنها أصلاً . ويحتمل أن يكون قوله { ما ضل } نفياً لقولهم هو كاهن أو مجنون لأن الكهانة أيضاً من مسيس الجن .

وقوله { وما غوى } نفي لقولهم هو شاعر والشعراء يتبعهم الغاوون . ويحتمل أن يكون الأول عبارة عند صلاحه في أمور المعاد ، والثاني إشارة إلى رشده في أمور المعاش ومنه يعلم أن أقواله كلها على سنن الصواب إلا أنه كان يمكن أن تكون مستنبطة من العقل أو العرف أو العادة ، فأسندها الله سبحانه إلى طريق أخص وأشرف وهو أن تكون مستندة إلى الوحي فقال بصيغة تفيد الاستمرار { وما ينطق عن الهوى } أي ليس كل ما ينطق به ولا بعضه بصادر عن الرأي والتشهي إنما وحي يوحى إليه من الله ، واستدل به بعض من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام ، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان لك من قبيل الوحي أيضاً . وأما من يخص النطق بالقرآن فلا اعتراض عليه . قال أهل اللغة : الهوى المحبة النفسانية ، والتركيب يدل على النزول والسقوط ومنه الهاوية . ومبة النفس الأمارة لا أصل لها ولا تصدر إلا عن خسة ودناءة ، وقوله { إن هو إلا وحي } أبلغ مما لو قيل هو « وحي » وهو ظاهر . وقوله { يوحى } لتحقيق الحقيقة كقوله { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] فإن الفرس الشديد العدو بما يقال إنه طائر ، فإذا قيل يطير بجناحيه زال جواز ذلك المجاز فكذلك ههنا ربما يقال للكلام الصادق الفصيح هو وحي أو سحر حلال . فلما قيل { يوحى } اندفع التجوز . ثم بين طريق الوحي بقوله { علمه } أي الموحي أو محمداً { شديد القوى } وهو جبرائيل عليه السلام أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة مدح المعلم ليلزم منه فضيلة المتعلم . ولو قال « علمه جبرائيل عليه السلام » لم يفهم منه فضل المتعلم ظاهراً . وفيه رد على من زعم أنه يعلمه بشر لأن الإنسان خلق ضعيفاً وما أوتي من العلم إلا قليلاً . وفيه أن جبرائيل عليه السلام أمين موثوق به من حيث قوته المدركة والحافظة ولو كان مختل الذهن أو الحفظ لم يوثق بروايته ، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يضيق صدره حين علم بواسطة الملك فكأنه قيل له : ليس لك في ذلك نقص لأنه شديد القوى على أنه قال في موضع آخر { وعلمك ما لم تكن تعلم } [ النساء : 113 ] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال « أدبني ربي فأحسن تأديبي » والمرة القوة . والظاهر أنها القوة الجسمانية كقوله { وزاده بسطة في العلم والجسم } [ البقرة : 247 ] فمن قوته أنه قلع قريات قوم لوط وقلبها بجناحه ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وكان ينزل إلى الأنبياء ويصعد في لمحة . ويجوز أن يراد بقوله { شديد القوى } قواه الجسمانية وبقوله { ذو مرة } القوى العقلية . والتنكير للتعظيم . قوله { فاستوى } المشهور أن فاعله جبرائيل عليه السلام أي فاستقام على صورته الحقيقية دون صورة دحية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى أي الأشرف وهو الشرقي { ثم دنا } جبرائيل من الرسول صلى الله عليه وسلم على الصورة المعتادة { فتدلى } قيل : فيه تقديم وتأخير أي فتعلق عليه في الهواء ثم دنا منه .

وقيل : دنا أي قصد القرب من محمد أو تحرك من المكان الذي كان فيه ، فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم . يقال : تدلت اثمرة ودلى رجليه من السرير وقد يقال : الدنو والتدلي بمعنى واحد فلا يفيد إلا التأكيد . ثم زاد تأكيداً بقوله { فكان قاب قوسين } قال أهل العربية . هو من باب حذف المضافات أي فكان مقدار مسافة قرب جبرائيل عليه السلام مثل « قاب قوسين » . والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس كلها المقدار . والعرب تقدر الأشياء بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع وغيرها . وفي الحديث « لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين » وقال صلى الله عليه وسلم « لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها » والقد السوط . وقوله { أو أدنى } أي في تقديركم كقوله { مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 147 ] وقال بعضهم : الضمير في { فاستوى } لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن تعليم جبرائيل إياه كان قبل كماله واستوائه ، فحين تكاملت قواه النظرية والعلمية وصار بالأفق الأعلى أي بالرتبة العليا من المراتب الإنسانية دنا من الأمة فتدلى أي لان لهم ورفق بهم حتى قال { إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } [ الكهف : 110 ] فكان الفرق بينه وبين جبرائيل قليلاً جداً . وعلى هذا يمكن أن يكون الرجحان في الكمال للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقول أكثر أهل السنة ، أو بالعكس كما تزعم طائفة منهم ومن غيرهم ، ويحتمل على هذا القول أن يكون الضمير في { دنا } لجبريل والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن زال عن الصفات البشرية من الشهوة والغضب والجهل وبلغ الأفق الأعلى الإنساني ، ولكن نوعيته لم تزل عنه وكذلك جبرائيل .
وإن ترك اللطافة المانعة من الرؤية ونزل إلى الأفق الأدنى من الآفاق الملكية ولكن لم يخرج عن كونه ملكاً فلم يبقى بينهما إلا اختلاف حقيقتهما نظيره { ولقد رآه بالأفق المبين } [ التكوير : 23 ] أي رأى جبرائيل وهو أي محمد بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك كقول القائل : « رأيت الهلال على السطح » أي وأنا على السطح . وقد يجعل ذكر القوس عبارة عن معنى آخر هو أن العرب كانوا إذا عاهدوا فيما بينهم طرحوا قوساً أو قوسين لتأكيد العهد بين الاثنين ، فأخبر الله سبحانه أنه كان بين جبرائيل ومحمد عليه الصلاة والسلام من المحبة وقرب المنزلة مثل ما تعرفونه فيما بينكم عند المعاقدة . وقيل : الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لله والمراد قرب المكان بينهما .

وهذا يشبه مذهب المجسمة إلا أن يقال : دنا دنو ألفة ولا دنو زلفة . دنا دنو إكرام لا دنو أجسام ، دنا دنو أنس لا دنو نفس . والقوسان أحدهما صفة الحدوث والأخرى صفة القدم . أخبر بالقصة إكراماً وكتم الإسرار عظاماً .
قوله { فأوحى إلى عبده ما أوحى } الضمير في الفعلين إما لله أو لجبرائيل ، والمراد بالعبد إما محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام فيحصل تقديرات أحدها : فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى وفيه تفخيم لشأن الوحي . وقيل : أوحى إليه الصلاة . وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها . وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك . والظاهر أنها أسرار وحقائق ومعارف لا يعلمها إلا الله ورسوله . ثانيها فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى أولاً جبرائيل يعني أن الوحي كان ينزل عليه أولاً بواسطة جبرائيل وقد ارتفعت الآن تلك الواسطة . وعلى هذا يحتمل أن يقال « ما » مصدرية أي أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم الإيحاء أي العلم بالإيحاء كي يفرق بين الملك والجن . أو كلمة أنه وحي أو خلق فيه علماً ضرورياً . ثالثها فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى . رابعها فأوحى الله إلى جبرائيل ما أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء قبله . وفيه إشارة إلى أن جبريل عليه السلام أمين لم يجن قط في شيء مما أوحى إلى الأنبياء . خامسها فأوحى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه . سادسها فأوحى جبرائيل إلى عبد الله ما أوحى هو . وفي هذين الوجهين لا يمكن أن يراد بالعبد إلا محمد صلى الله عليه وسلم . قوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } الأشهر أن اللام للعهد وهو فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك . ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه . ومن قرأ بالتشديد فظاهر أي صدق فؤاده ما عاينه ولم يشك في ذلك . وقيل : اللام للجنس والمراد أن جنس الفؤاد لا ينكر ذلك وإن كان الوهم والخيال ينكره . والمقصود نفي الجواز لا نفي الوقوع كقوله { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] { وما ربك بغافل } [ الأنعام : 132 ] بخلاف قوله { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ التوبة : 120 ] { لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 ] فإنه لنفس الوقوع . والظاهر أن فاعل رأى محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : الفؤاد أو البصر أي ما رآه الفؤاد ولم يقل له إنه جن أو شيطان أو لم يكذب الفؤاد ما رآه بصر محمد صلى الله عليه وسلم . وما المرئي فيه أقوال : أحدها ما مر وهو أنه رأى جبريل في صورته بالأفق الشرقي .

والثاني الآيات العجيبة الإلهية . والثالث الرب تعالى والمسألة مبنية على جواز الرؤية وقد تقدم البحث عن ذلك في قوله { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ثم على وقوع الرؤية وقد تقدم خلاف الصحابة فيه في حديث معراج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول « سبحان الذي » . ولعل القول الأول أصح . يروي أنه ما رأى جبريل أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء ، وإليه إشارة بقوله { أفتمارونه } من المراء أي أتجادلونه { على ما يرى } ومن قرأ { أفتمرونه } فمعناه أتغلبونه في المراء يقال : ماريته فمريته . ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب « على » وقيل : معناه افتجحدونه . ولا بد من تضمين معنى الغلبة . { ولقد رآه نزلة أخرى } أي مرة أخرى فانتصبت على الظرف لأن الفعلة صيغة المرة فكانت النزلة في حكم المرة أي نزل عليه جبريل في صورته تارة أخرى في ليلة المعراج ووجه الاستفهام الإنكاري أنه لما رآه وهو على بسيط الأرض احتمل أن يقال : إنه كان من الجن احتمالاً بعيداً فلما رآه { عند سدرة المنتهى } لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس فلم يبق للجدال مجال . أما القائل بالقول الثالث فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين . والنزلة إما لله بمعنى الحركة والانتقال عند من يجوز ذلك ، أبو بمعنى قرب الرحمة والإفضال ، وإما للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه نزل عن متن الهوى ومركب النفس . وقيل : أراد بالنزلة ضدها وهي العرجة ، واختير هذه العبارة ليعلم أن هذه عرجة تتبعها النزلة ليست عرجة لا نزلة لها وهي عرجة الآخرة . وعلى القول الأول أيضاً يحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن جبرائيل تخلف عنه في مقام « لو دنوت أنملة لاحترقت » ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إليه . ومعنى أخرى أنه صلى الله عليه وسلم تردد في أمر الصلاة مراراً فلعله كان ينزل إلى جبرائيل كل مرة لا أقل من نزلتين . أما السدرة فالأكثرون على أنها شجرة في السماء السابعة : وقيل : في السادسة . « نبقها كقلال هجروورقها كآذان الفيلة ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها » وقد ورد الحديث بذلك . فعلى هذا { عند } ظرف مكان . ثم إن كان المرئي جبريل فلا إشكال ، إن كان هو الله تعالى فكقول القائل « رأيت الهلال على السطح » وقد مر . وقال بعضهم { عند } ظرف زمان كما يقال : صليت عند طلوع الفجر . والمعنى رآه عند الحيرة القصوى أي في وقت تحارعقول العقلاء فيه ولكنه ما حار ولم يعرض له سدر . وإضافة سدرة إلى المنتهى إما من إضافة الشيء إلى مكانه كما يقال « أشجار البلدة الفلانية كذا » وأشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار .

فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك ولا يعلم ما وراءه أحد وإليه ينتهي أرواح الشهداء . وإما من إضافة المحل إلى الحال كما يقال « ظرف المداد » أي سدرة هي محل انتهاء الجنة . وإما من إضافة الملك إلى مالكه كما يقال « دار زيد وأشجار عمرو » فيكون التقدير سدرة المنتهى إليه وهو الله سبحانه قال { وأن إلى ربك المنتهى } فالإضافة للتشريف « نحو بيت الله وناقة الله » . وقال الحسن : { جنة المأوى } هي التي يصير إليها المتقون . وقيل : يأوي إليها أرواح الشهداء والظاهر أن الضمير في { عندها } للسدرة . وقيل : للنزلة من ذهب إلى أن سدرة المنتهى معناها الحيرة القصوى . قال { إذ يغشى السدرة ما يغشى } معناه ورود حالة على حالة أي طرأ على محمد حين ما يحار العقل ما طرأ من فضل الله ومن رحمته . والأكثرون قالوا فيه تعظيم وتكثير لما يغشى الشجرة من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله مما لا يحيط بها الوصف . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله » وعنه عليه السلام « يغشاها رفرف من طير خضر » والرفرف كل ما يبسط من أعلى إلى أسفل . وعن ابن مسعود وغيره : يغشاها فراش أو جراد من ذهب . والمحققون على أنها أنوار الله تعالى تجلى للسدرة كما تجلى للجبل لكن السدرة كانت أقوى من الجبل ، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان أثبت من موسى فلم تضطرب الشجرة ولم يصعق محمد صلى الله عليه وسلم . قوله { ما زاغ البصر } فيه وجهان : أشهرهما أنه بصر محمد صلى الله عليه وسلم أي لم يلتفت إلى ما يغشاها . فإن كان الغاشي هو الفراش أو الجراد من ذهب فمعناه ظاهر ويكون ذلك ابتلاء وامتحاناً لمحمد صلى الله عليه وسلم بالأمور الدنيوية ، وإن كان الغاشي أنوار الله فالمراد أنه لم يلتفت إلى غير المقصود ولم يشتغل بالنور عن ذي النور . أو المراد ما زاغ البصر بالصعقة بخلاف موسى عليه السلام . وفي الأول بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الثاني بيان مزيته . وذهب بعضهم إلى أن اللام للجنس أي ما زاغ بصره أصلاً في ذلك الموضع هيبة وإجلالاً . والظاهر أن الضمير في قوله { وما طغى } للبصر أي ما جاوز حده المعين المأمور برؤيته . ويحتمل أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم أي ما زاغ بصره بالميل إلى غير المقصود ، وما طغى محمد بسبب الالتفات . قال بعض العلماء : فيه بيان لوصول محمد صلى الله عليه وسلم إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه إذ لم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف الناظر إلى عين الشمس فإنه إذا نظر إلى شيء آخر رآه أبيض أو أصفر أو أخضر .

قوله { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } الظاهر أن الكبرى صفة الآيات أي لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى . وذلك البعض إما جبرائيل على صورته ، وإما سائر عجائب الملكوت . ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف أي لقد رأى من آيات ربه آية هي الكبرى . وعلى هذا لا تكون تلك الآية رؤية جبريل لما ورد في الاخبار أن الله ملائكمة أعظم منه كالملك الذي يسمى روحاً . نعم لو قيل : إنها رؤية الله الأعظم كان له وجه عند من يقول بأنه صلى الله عليه وسلم رأي الله ليلة المعراج . وفيه خلاف تقديم .
قوله { أفرأيتم اللات والعزى } الخ . أي عقيب ما سمعتم من عظمة الله تعالى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى ، وأن الذي سد الأفق ببعض أجنحته تخلف عند سدره المنهتى ، هل تنظرون إلى هذه الأصنام مع قلتها وفقرها حتى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه؟ قال في الكشاف : اللات اسم صنم كان لثقيف بالطائف وأصله « فعلة » من لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، أو يتلوون عليها أي يطوفون فكأنه حذفت الياء تخفيفاً وحركت الواو فانقلبت ألفاً . والوقف عليه بالتاء كيلا يشبه اسم الله : وقيل : أصله اللات بالتشديد وقد قرىء به . زعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج . وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف وكانوا يعكفون على قبره فجعلوه وثناً . والعزى تأنيث الأعز وكان لغطفان وهي شجرة سمرة بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس ناشرة الشعر تضرب رأسها وتدعو بالويل والثبور فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل . فقال : تلك العزى ولن تعبد أبداً . وأما مناة فهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة كأنها سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق . ومن قرأ بالمد فلعلها « مفعلة » من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها . و { الأخرى } لا يطلق إلأا إذا كان الأول مشاركاً كالثاني فلا يقال : رأيت رجلاً وامرأة أخرى . وإنما يقال رأيت رجلاً ورجلاً آخر . وههنا ليست عزى ثالثة فكيف قال { ومناة الثالثة الأخرى } ؟ وأجيب بأن الأخرى صفة ذم لها أي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله { وقالت أخراهم لأولاهم } [ الأعراف : 38 ] أي وضعاؤهم لرؤسائهم . ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى وذلك أن الأول كان على صورة آدمي ، والعزى كانت من النبات ومناة من الجماد . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير أي ومناة الأخرى .

الثالثة . وقيل : إن الأصنام فيها كثرة فإذا أخذنا اللات والعزى مقدمين كانت لهما ثوالت كثيرة هذه ثالثة أخرى . وقيل : فيه حذف والتقدير أفرأيتم اللات والعزى المعبودتين . بالباطل ومناة الثالثة المعبودة الأخرى . ثم إنه تعالى حين وبخهم على الشرك فكأنهم قالوا نحن لا نشك في أن شيئاً منها ليس مثلاً لله تعالى ولكنا صورنا هذه الأشياء على صور الملائكة المعظمين الذين اعترف بهم الأنبياء وقالوا : إنهم يرتقون ويقفون عند سدرة المنتهى ، ويرد عليهم الأمر والنهي ويصدر عنهم إلينا فوبخهم على قولهم إن هؤلاء الأصنام التي هي إناث أنداد الله تعالى ، أو على قولهم الملائكة بنات الله فاستفهم منكراً { ألكم الذكر } الذي ترغبون فيه { وله الأنثى } التي تستنكفون عنها { تلك } القسمة { إذا } أي إذا صح ما ذكرتم { قسمة ضيزى } أي جائزة غير عادلة من ضازه يضيزه إذا ضامه ، وهي « فعلى » بالضم ، وكان يمكن أن تقلب الياء واواً لتسلم الضمة إلا أنه فعل بالعكس أي قبلت الضمة كسرة لتسلم الياء فإن إبقاء الحرف أولى من إبقاء الحركة . ومن قرأ بالهمزة فمن ضأزه بالهمزة والمعنى واحد ولكنها « فعلى » بالكسر . قال بعضهم : إنهم ما قسموا ولم يقولوا لنا البنون وله البنات ولكنهم نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن ، فلزم من هذه النسبة قسمة جائرة ، فتقدير الكلام تلك النسبة قسمة غير عادلة إذ العدالة تقتضي أن يكون الشريف للشريف والوضيع للوضيع { إن هي } يعني ليس الأصنام أو أسماؤها المذكورات { إلا أسما سميتموها } وقد مر في « الأعراف » وفي « يوسف » . قال الإما فخر الالدين الرازي رحمه الله : الم يتم بقوله { ما أنزل الله بها من سلطان } فإن إطلاق اللاسم على المسمى إنما يجوز إذا لم يتبعه مفسدة دينية . وههنا يمكن أن يكون مرادهم من قولهم « الملائكة بنات الله » أنهم أولاد الله من حيث إنه لا واسطة بينهم وبينه في الإيجاد كما تقوله الفلاسفة . والعرب قد تستعمل البنت مكان الولد كما يقال « بنت الجبل وبنت الشفة » لما يظهر منهما بغير واسطة خصوصاً إذا كان في اللفظ تاء التأنيث كالملائكة إلا أنه لم يجز في الشرع إطلاق هذا اللفظ على الملائكة لأنه يوهم النقص في حقه تعالى ثم قال : وهذا بحث يدق عن إدراك اللغوي إن لم يكن عنده من العلوم حظ عظيم . قلت : هذا البحث الدقيق يوجب أن يكون الذم راجعاً إلى ترك الأدب فقط . وليس الأمر كذلك فإن الذم إنما توجه إلى المشرك لأنه ادعى الإلهية لما هو أبعد شيء منها . وما أمكن له على تصحيح دعواه حجة عقلية ولا سمعية . ومعنى { ما أنزل الله بها } أي بسببها وصحتها .

وقال الرازي : الباء للمصاحبه كقول القائل « ارتحل فلان بأهله ومتاعه » أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع . ومن قرأ { إن تبعون } على الخطاب فظاهر ، ومن قرأ على الغيبة فإما للالتفات ، وأما لأن الضمر للآباء وصيغة الاستقبال حكاية الحال الماضية ويحتمل أن يكون المراد عامة الكفار . قوله { وما تهوى الأنفس } يجوز أن تكون « ما » مصدرية ، وفائدة العدول عن صريح المصدر إلى العبارة الموجودة أن القاتل إذا قال : أعجبني صنعك . لم يعلم أن الإعجاب من أمر قد تتحقق أو من أمر هو فيه . وإذا قال : أعجبني ما تصنع . شمل الحال والاستقبال . ويجوز أن تكون « ما » موصولة والفرق أن المتبع في الأول الهوى وفي الثاني مقتضى الهوى . وقوله { الأنفس } من باب مقابلة الجمع بالجمع . والمعنى اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه كقولك : خرج الناس بأهلهم أي كل واحد بأهله ولعل الظن يختص بالاعتقاد وهوى النفس بالعمل . ويجوز أن يكون الظن مقصوداً به كل ماله محمل مرجوح والهوى يراد به ما لا وجه له أصلاً . ويحتمل أن يراد بالظن ماله محمل راجح أيضاً وهو إن كان واجب العمل به في المسائل الاجتهادية إلا أنه مذموم عند القدرة على اليقين وإلى هذا أشار بقوله { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } وهو القرآن أو الرسول أو المعجزة ، وفي هذه الحالة لا يجوز البناء على الظن بل يجب التعويل على اليقين .
قوله { أم للإنسان } أم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والمراد تمنيهم شفاعة الآلهة وأن لهم عند الله الحسنى على تقدير البعث إذ تمنى أشرافهم أن يكونوا أنبياء دون محمد صلى الله عليه وسلم . قوله { فالله الآخرة والأولى } رد عليهم أي هو مالكها فهو المعطي والمانع ولا حكم لأحد عليه . ومعنى الفاء أنه إذا تقرر أن شيئاً من الأشياء ليس بتمني الإنسان فلا حكم إلا لله . ثم بين أن الشفاعة عند الله لا تكون إلا برضاه . وفيه أصناف من المبالغة من جهة أن « كم » للتكثير والعرب تستعمل الكثير وتريد الكل كما قد تستعمل الكل وتريد به الكثير كقوله { تدمر كل شيء } [ الأحقاف : 25 ] ومن جهة لفظ الملك فإنهم أشرف المخلوقات سوى الأنبياء عند بعض ، ومن قبل أنهم في السموات فإن ذلك يدل على علو مرتبتهم ودنو منزلتهم ، ومن قبل اجتماعهم المدلول عليه بضمير الجمع في شفاعتهم وإذا كان حالهم هكذا فكيف يكون حال الجمادات؟ وقوله { لمن يشاء } أي لمن يريد الشفاعة له { ويرضى } أي ويراه أهلاً أن يشفع له فههنا أيضاً أنواع أخر من المبالغة . الأول توقيف الشفاعة على الإذن . والثاني تعليقها بالمشيئة فيهم منه أنه بعد أن يؤذن في مطلق الشفاعة يحتاج إلى الأذن في كل مرة معينة . والثالث رضا الله الشفاعة فقد يشاء ولكن لا يرضاه كقوله

{ ولا يرضى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] وهذا عند أهل السنة واضح . ثم صرح بالتوبيخ على قولهم الملائكة بنات الله فقال { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة } أي كل واحد منهم { تسمية الأنثى } لأنهم إذا جعلوا الكل بنات فقد جعلوا كل واحدة بنتاً وبالعكس . وههنا سؤالان : أحدهما : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعم من هؤلاء المسلمين فكان الأولى أن يقال : إن الذين يسمون لا يؤمنون . وثانيهما أنه كيف يلزم من عدم الإيمان بالآخرة هذه التسمية؟ والجواب عن الأول أن اللام للعهد وبه خرج الجواب عن الثاني أيضاً لأنه بخير عن جميع معهود أنهم يسمون . ولا يلزم من حمل شيء على شيء أن يكون بينهما ملازمة . ولو سلم أن اللام للعموم فالمراد بمثل هذا التركيب المبالغة والتوكيد كما تقول : الإنسان زيد . وعلى هذا فإن أريد بالحمل مجرد الإخبار فلا إشكال وإن أريد الملازمة فمعناه المبالغة أيضاً لأن غاية جهلهم بالآخرة وبالجزاء حملهم على ارتكاب مثل هذا الافتراء على الله ، وإلى هذا أشار بقوله { ما لهم به من علم أن يتبعون إلا الظن } واعلم أن الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بحث مع هؤلاء المشركين الذين سموا الملائكة إناثاً بحثاً طويلاً بناء على ظنه بهم أنهم رأوا في لفظ الملائكة تاء فلذلك جعلوه مؤنثاً . وحاصل ذلك البحث يرجع إلى أن التاء لا يلزم أن تكون للتأنيث فقد تكون لتأكيد الجمع كحجارة وصقورة ، أو لغير ذلك من المعاني ، ونحن قد أسقطنا تلك البحوث لعدم فائدتها كما نبهناك عليه . ثم بين الله سبحانه قاعدة كلية فقال : { وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } أي كل ما يجب أن يحصل منه المكلف على العلم واليقين فلا ينفع فيه الظن والتخمين ، ومن جملته مسائل المبدأ والمعاد التي ينبني البحث فيها على البراهين العقلية والدلائل السمعية ، ومن قنع في أمثالها بالوهم والظن لعدم الاستعداد أو لحفظ بعض المنافع الدنيوية وجب الإعراض عنه كما قال { فأعرض } أي إذا وقفت على قلة استعدادهم وعدم طلبهم للحق فأعرض يا محمد يا طالب الحق { عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا } ويجوز أن يكون هذا الإعراض متضمناً للأمر . بالقتال أي أعرض عن المقال وأقبل على القتال . وقوله { ذلك } أي الذي ذكر من التسمية أو من اعتقاد كون الأصنام شفعاء { مبلغهم من العلم } جملة معترضة . ثم بين علة الإعراض قائلاً { إن ربك هو أعلم } إلى آخره ، وفيه بيان أنه تعالى يجازي كل فريق بحسب ما يستحقه ، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم ووقفوا لدى الباطل دون الحق .

ثم قرر أنه سوى الملك والملكوت لغرض الجزاء والإثابة . والحسنى صفة المثوبة والأعمال ، وإضافة الكبائر إلى الإثم إضافة النوع إلى الجنس لأن الإثم يشمل الكبائر والصغائر . واختلف في الكبائر وقد أشبعنا القول القول فيها في سورة النساء في قوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [ الآية : 31 ] والفواحش ام تزايد قبحه من الكبائر كأنها مع كبر مقدار عقابها قبيحة في الصورة كالشرك بالله . والمراد باللمم الصغائر ، والتركيب يدل على القلة ومنه اللمم المس من الجنون وألم بالمكان إذا قل لبثه فيه قال :
ألمت فحيث ثم قامت فودعت ... وإلا صفة كأنه قيل : كبائر الإثم وفواحشه غير اللمم ، أو استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش . عن أبي سعيد الخدري : اللمم هي النظرة والغمزة والقبلة . عن السدي : الخطرة من الذنب . وعن الكلبي : كل ذنب لم يذكر الله عز وجل عليه حداً ولا عذاباً . وعن عطاء : هي ما تعتاده النفس حيناً بعد حين .
قال جار الله : معنى قوله { إن ربك واسع المغفرة } أنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ويكفر الكبائر بالتوبة . وأقول : فيه إشارة إلى أن اللمم ما لا يمكن فيه الاجتناب عنه لكل الناس أو لأكثرهم فالعفو عن ذلك يحتاج إلى سعة وكثرة ، بل فيه بشارة أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعاً سوى الشرك لأن غفران اللمم لا يوجب الوصف بسعة المغفرة وإنما يوجب ذلك أن لو غفر معها الكبائر . وقوله { هو أعلم بكم } إلى آخره . دليل على وجوب وقوع الغفران لأنه إذا كان عالماً بأصلهم وفرعهم كان عالماً بضعفهم ونقصهم فلا يؤاخذهم بما يصدر عنهم على مقتضى جبلتهم وطبعهم . فكل شيء يرجع إلى الأصل والأرض بطبعها تميل إلى الأسفل . والجنين أوله نطفة مذرة وآخره الاغتذاء بدماء قذرة ، وإذا كان مبدأ حاله هكذا وهو في أوسط أمره متصف بالظلم والجهل والعاقبة غير معلومه وجب عليه أن لا يزكي نفسه فإن الله تعالى أعلم بالزكي والتقي أولاً وآخراً باطناً وظاهراً ، وما أحسن نسق هذه الجمل . وقد أبعد بعض أهل النظم فقال لما ذكر أنه أعلم بمن ضل كان للكافر أن يقول : كيف يعلم الله أموراً نعلمها في البيت الخالي وفي جوف الليل المظلم؟ فأجاب الله تعالى بأنا نعلم ما هو أخفى من ذلك وهو أحوالكم وقت كونكم أجنة . وقوله { في بطون أمهاتكم } للتأكيد فإنه إذا خرج من بطن الأم يدعى سقطاً أو ولداً . وقيل : أراد أن الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله وبأنه كتب عليهما في رحم أمهما أنه ضال أو مهتد . وقيل : فيه تقرير الجزاء وتحقيق الجزاء وتحقيق الحشر فإن العالم بأحوال المكلف وهو جنين القادر على إنشائه من الأرض أول مرة ، عالم بأجزائه بعد التفرق ، قادر على جمعه بعد التمزق . والعامل في « إذ » هو « اذكر » أو ما يدل عليه { أعلم } أي يعلمكم وقت الإنشاء .

والخطاب للموجودين وقت نزول الآية وللآخرين بالتبعية . ويجوز أن يكون الإنشاء من الأرض إشارة إلى خلق أبينا آدم . وقوله { وإذ أنتم } يكون خطاباً لنا . قوله { أفرأيت الذي تولى } قال بعض المفسرين : نزل في الوليد بن المغيرة جلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيراً قوياً فقال له رجل : لم تترك دين آبائك؟ قال : أخاف . ثم قال له : لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك فأعطاه ما ألزمه وتولى عن الوعظ واستماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : نزل في عثمان بن عفان كان يعطي ماله عطاء فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح . ويوشك أن يفنى مالك فأمسك فقال له عثمان : إن لي ذنوباً وخطايا وإني أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء . فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الإعطاء ومعنى تولي ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى خير من ذلك . يقال : أكدى الحافر إذا لقيته كدية وهي أرض صلبة كالصخرة ونحوه « أجبل الحافر وأجبل الشاعر » إذا أفحم . ثم وبخه بأنه لا يعلم الغيب فكيف يعلم أن أوزاره محمولة عنه؟ وقيل : نزلت في أهل الكتاب وذلك أنه لما بين حال المشركين المعاندين شرع في قصة هؤلاء والمعنى : أفرأيت الذي تولى أي صار متولياً لكتاب الله وأعطى قليلاً من الزمان حق الله فيه ، ولما بلغ عصر محمد صلى الله عليه وسلم أمسك عن العمل به . قالوا : يؤيد هذا التفسير قوله { أم لم ينبأ بما في صحف موسى } عينها أو جنسها وهو ما نبأهم به نبينا صلى الله عليه وسلم . وجمع الصحف إما لأن موسى له صحيفة وإبراهيم له صحيفة فذكر التثنية بصيغة الجمع ، وإما لأن كل واحد منهما له صحف لقوله تعالى { وألقى الألواح } [ الأعراف : 15 ] وكل لوح صحيفة . وتقديم صحف موسى إما لأنها أقرب وأشهر وأكثر وإما لأنه رتب وصف إبراهيم عليه ، وإما لحسن رعاية الفاصلة وقد راعى في آخر « سبح اسم ربك » هذا المعنى مع ترتيب الوجود . والتشديد في قوله { وفي } للمبالغة في الوفاء ، أو لأنه بمعنى وفر وأتم كقوله { فأتمهن } [ البقرة : 124 ] وأطلق الفعل ليتناول كل وفاء وتوفية من ذلك تبليغه الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة والصبر على ذبح الولد وعلى نار نمرود وقيامه بأضيافه بنفسه . يروى أنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يطلب ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم . وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً فلما رمي في النار قال له جبريل وميكائيل : ألك حاجة؟ فقال : أما إليكم فلا .

قالا : فسل الله . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . وروي في الكشاف عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الفجر والضحى . وروي « ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى حين تظهرون » وعن الهزيل بن شرحبيل كان بين نوح وإبراهيم صلى الله عليه وسلم يؤخذ الرجل بجريرة غيره ويقتل الزوج بامرأته والعبد بسيده ، وأول من خالفهم إبراهيم فلهذا قال سبحانه { ألا تزر وازرة } وهي مخففة من الثقيلة ولهذا لم ينصب الفعل وضمير الشأن محذوف ومحله الجر بدلاً مما في صحف موسى ، أو الرفع كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل : هو أنه لا تزر نفس من شأنها أن تزر وزر نفس أخرى إذا لم تحمل التي يتوقع منها ذلك فغيرها أولى بأن لا تحمل . ثم عطف على قوله { ألا تزر } قوله { وأن ليس } وحكمه حكم ما يتلوه من المعطوفات فيما مر . وفيه مباحث : الأول الإنسان عام وقيل : هو الكافر . وأورد عليه أن الله سبحانه قال { ليس للإنسان } ولو أراد الكافر لقال « ليس على الإنسان » وهذا بالحقيقة غير وارد فإن اللام قد تستعمل في مثل هذا المعنى قال تعالى { وإن أسأتم فلها } [ الإسراء : 7 ] وورد على الأول أن الدعاء والصدقة والحج ينفع الميت كما ورد في الأخبار ، وأيضاً قال تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] والأضعاف فوق ما سعى . وأجاب بعضهم بأن قوله { ليس للإنسان إلا ما سعى } كان في شرع من تقدم ثم إنه تعالى نسخه في شريعتنا وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع . وقال المحققون : إن سعي غيره وكذا الأضعاف لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً كان سعي غيره كأنه سعي نفسه . والثاني « ما » مصدرية والمضاف محذوف أي الأثواب أو جزاء سعيه . ويجوز أن تكون موصولة أي إلا الجزاء الذي سعى فيه . الثالث في صيغة المضي إشارة إلى أنه لا يفيد الإنسان إلا الذي قد حصل فيه ووجد ، وأما مجرد النية مع التواني والتراخي فذلك مما لا اعتماد عليه ولعل ذلك من مكايد الشيطان يمنيه ويعده إلى أن يحل اوجل بغتة . قوله { وأن سعيه سوف يرى } إن كان من الرؤية فكقوله { اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } [ التوبة : 105 ] وإن كان من الإراءة فالفائدة في إراءته وعرضه عليه أن يفرح به هو ويحزن الكافر والله قادر على إعادة كل معدوم عرضاً كان أو جوهراً ، والمراد أن يريه الله إياه على صورة جميلة إن كان عملاً صالحاً وبالضد إن كان بالضد .

ويجوز أن يكون مجازاً عن الثواب كما يقال « سترى إحسانك عند الملك » أي جزاءه إلا أن القول الأول أقوى لقوله { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } اللهم إلا أن يراد تراخي الرتبة والفائدة تعود إلى الوصف بالأوفى وهو الرؤية التي هي أوفى من كل وافٍ أي يجزى العبد بسعيه الجزاء الأتم . وجوز أن يكون الضمير للجزاء ثم فسره بقوله { الجزاء الأوفى } وأبدل عنه كقوله { وأسروا النجوى الذين ظلموا } [ الأنبياء : 3 ] ومن لطائف الآية أنه قال في حق المسيء { لا تزر وارزة وزر أخرى } ولا يلزم منه أن يبقى الوزر على المذنب بل يجوز أن يسقط عنه بالمحو والعفو ، ولو قال « كل وازرة تزر وزر نفسها » لم يكن بد من بقاء وزرها عليها . وقال في حق المحسن « ليس له ما سعى » ولم يقل « ليس له ما لم يسع » إذا العبارة الثانية لا يلزمها أن له ما سعى ، والعبارة الأولى يلزمها ذلك لأنها في قوة كلامين إثبات ونفي والحاصل أنه قال هي حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه ، وفي حق المحسن بعبارة توجب رجاءه كل ذلك لأن رحمته سبقت غضبه . قوله { وأن إلى ربك المنتهى } المشهور أن فيه بيان المعاد كقوله عز من قائل { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ] أي للناس بين يدي الله وقوف وفيه بيان وقت الجزاء . وقد يقال : المراد به التوحيد وهو تأويل أهل العرفان . والحكماء يستدلون به على وجود الصانع فإن الممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب . وقيل : أراد أن البحث والإدراك ينتهي عنده كما قيل : إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا . وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إذا ذكر الرب فانتهوا » والخطاب عام لكل سامع مكلف وفيه تهديد للمسيء ووعد للمحسن : وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه تسلية له . ثم بين غاية قدرته وهي إيجاده الضدين الضحك والبكاء والإماتة والإحياء في شخص واحد ، وكذا الذكورة والأنوثة في مادة واحدة هي النطفة نطفت إذا تمنى تدفق في الرحم . يقال : منى وأمنى . وقال الأخفش : تخلق والمنى والتقدير وفيه إبطال قول الطبيعيين أن مبدأ الضحك قوة التعجب ، ومبدأ الكباء رقة القلب ، وإن الحياة مستندة إلى الطبيعة كالنبات ، والموت أمر ضروري وهو تداعي الأجزاء العنصرية إلى الانفكاك بعد اجتماعها على سبيل الاتفاق أو لاقتضاء سبب سماوي من اتصال أو انفصال وذلك أن انتهاء كل ممكن إلى الواجب واجب . قوله { أمات وأحيي } إما لأجل الفاصلة أو لأنه اعتبر حالة كون الإنسان نطفة ميتة . قال الأطباء : الذكر أسخن وأجف والأنثى أبرد وأرطب . وقالوا في نبات شعر الرجل : إن الشعور تتكون من بخار دخاني منجذب إلى المسام فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة ، لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعراً .

وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف لم ينبت لعسر خروجه من المخرج الضيق وإنما يندفع كثرة تلك الأبخرة إلى الرأس حتى رأس المرأة والصبي لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فيتصاعد إليها . وأما في الرجل فيندفع إلى صدره كثيراً لحرارة القلب . وإلى آلات التناسل لحرارة الشهوة ، وإلى اللحيين لكثرة الحرارة بسبب الأكل والكلام ومع حرارة الأبخرة ، ومن شأن الحرارة جذب الرطوبة كجذب السراج الزيت . هذا أقوى ما قالوا في هذا الباب . ويرد عليه أنه ما السبب لتلازم شعر اللحية وآلة التناسل فإنها لو قطعت لم تنبت اللحية ، ولو سلم التلازم من حيث إن حرارة الخصيان تقل بسبب قطع آلة الشهوة فلا بد أن يعترفوا بانتهاء جميع الممكنات إلى الواجب بالذات .
واعلم أنه سبحانه في هذه الآية وسط الفصل بين الاسم والخبر حيث كان توهم الحملية فيه أكثر وترك الفصل حيث لم يكن كذلك . ففي آيات الضحك والبكاء والإماتة والإحياء وسط الفصل للتوهمات المذكورة حتى قال نمرود { أنا أحي وأميت } [ البقرة : 258 ] وأما خلق الذكر والأنثى فلم يتوهم أحد أنه بفعل المخلوقين فلم يؤكد بالفصل وعلى هذا القياس قوله { وأن عليه النشأة الأخرى } ظاهرة وجوب وقوع الحشر في الحكمة الإلهية للمجازاة على الإحسان والإساءة وقال في التفسير الكبير : هو كقوله { ثم أنشأناه خلقاًً آخر } [ المؤمنون : 14 ] أي بعد خلقته ذكراً وأنثى نفخ فيه الروح الإنساني ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، ثم أقناه بالكسب بعد كبره أي أعطاه القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك ، وبالجملة فالإغناء بكل ما تدفع به الحاجة والإقناء بما زاد عليه . وإنما وسط الفصل لأن كثيراً من الناس يزعم أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده ، فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر . وذهب بعضهم إلى أنه بالبخت أو النجوم فقال رداً عليهم { وأنه هو رب الشعرى } وهما شعريان شامية ويمانية وهذه أنورهما . وخصت بالذكر لأن أبا كبشة أحد أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أمه قال : لا أرى شمساً ولا قمراً ولا نجماً تقطع السماء عرضاً غيرها فليس شيء مثلها فعبدها وعبدتها خزاعة فخالفوا قريشاً في عبادة الأوثان . وكانت قريش يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم « أبو كبشة » تشبيهاً له لمخالفته إياهم في دينهم . وحين ذكر أنه أغنى وأقنى وذلك كان بفضل المولى لا بعطاء الشعرى ، ذكرهم حال الأقدمين الهلكى . وعاد الأولى قوم هود والأخرى ، إرم ميزوا عن قوم كانوا بمكة . وقيل : أراد التقدم في الدنيا وأنهم كانوا أشرافاً قوله { وثمود } عطف على { عاد } أي ما رحم عليهم . ومن المفسرين من قال فما أبقى أي ما ترك أحداً منهم كقول

{ فهل ترى لهم من باقية } [ الحاقة : 8 ] وبه تمسك الحجاج على من زعم أن ثقيفاً من ثمود . وإنما وصف قوم نوح بأنهم كانوا هم أظلم وأطغى فبالغ بتوسيط الفصل وبناء التفضيل لأن نوحاً عليه السلام كان أول الرسل إلى أهل الأرض ، وكان قومه أول من سن التكذيب وإيذاء النبي والبادي أظلم . ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها . ولأنهم كانوا مجاوزين حد الاعتدال يضربون نبيهم حتى لم يربه حراك وينفرون عنه الناس ويخوفون صبيانهم وما نجع فيهم وعظه ألف سنة إلا خمسين عاماً . وليس قوله { أنهم كانوا } تعليلاً للإهلاك حتى يرد عليه أن غيرهم من الظالمين والطاغين لا يلزم أن يهلكوا وإنما هي جملة معترضة بياناً لشدة طغيانهم وفرط ظلمهم . { والمؤتفكة } يعني قريات قوم لوط لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت وقد مر في هود { أهوى } أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل فأسقطها إلى الأرض { فغشاها ما غشي } من الحجار المسومة وفيه تهويل وتفخيم لما صب عليهم من العذاب . وجوز أن يكون « ما » فاعلاً كقوله { والسماء وما بناها } [ الشمس : 5 ] هذا كله حكاية ما في الصحف إلا فيمن قرأ { وإن إلى ربك المنتهي } بالكسر على الابتداء وكذا ما بعده أما قوله { فبأي آلاء ربك تتمارى } فقد قيل : هو أيضاً مما في الصحف وقيل : هو ابتداء كلام ، والخطاب لكل سامع ولرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] والمراد أنه لم يبق فيها إمكان الشك ، وقد عد نعماً ونقماً وجعل كلها آلاء لأن النقم أيضاً نعم إن أراد أن يعتبر . ويحتمل أن يقال لما عد نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه وإقنائه . ثم ذكر أنه أهلك من كفر بها ، وبخ الإنسان على جحد شيء من نعمة فيصيبه مثل ما أصاب المتمارين : أو يقال : لما حكى الإهلاك قال للشاك : أنت ما أصابك الذي أصابهم وذلك بحفظ الله إياك فبأي آلاء ربك تتمارى وسيجيء له مزيد بيان في سورة الرحمن { هذا } القرآن أو الرسول { نذير } أي إنذار أو منذر من جنس الإنذارات أو المنذرين . وقال { الأولى } على تأويل الجماعة . وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة ختم السورة بذكر اقتراب الحشر فقال { أزفت الآزفة } أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله { اقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] { وما يدريك لعل الساعة قريب } [ الشورى : 17 ] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم وأنها تكاد تقوم { ليس لها من دون الله } نفس { كاشفة } تكشف عن وقت مجيئها أو تقدر على كشفها ودفعها إذا وقعت ، ولا يلزم من قدرة الله على دفعها وجوب وقوع الدفع فإن كل مقدور لا يلزم أن يكون واقعاً . والتاء في { كاشفة } للتأنيث كما مر ، أو للمبالغة أي لا أحد يكشف حقيقتها ، أو هي مصدر كالعافية ، و « من » زائدة والتقدير ليس لها كاشفة دون الله ، ويحتمل أن يراد لها في الوجود نفس تكشف عنها من غير الله بل إنما يكشفها من عند الله ومن قبل علمه وإخباره .

ثم وبخهم على التعجب من القرآن ومن حديث القيامة وضحكهم من استهزاء وإنكاراً . وفي قوله { ولا تبكون } إلى آخره تنبيه على أن البكاء والخشوع وحضور القلب حق عليهم عند سماع القرآن كما قال { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً } [ مريم : 57 ] والسمود الغفلة وقد يكون مع اللهو . وعن مجاهد : كانوا يمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم غضاباً مبرطمين . وقال : البرطمة الإعراض ثم إنهم كانوا أنصفوا من أنفسهم وقالوا : لا نعجب ولا نضحك ولا نسمد بل نبكي ونخشع فلا جرم قال { فاسجدوا } أي إذا اعترفتم لله بالعبودية فاخضعوا له وأقيموا وظائف العبادة . وقد مر في سورة الحج في قوله { ألقى الشيطان في أمنيته } { الآية : 52 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة في الصلاة ثم سجد فسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس وذكرنا سببه .

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

القراآت : { مستقر } بالجر : يزيد { الداعي } { إلى الداعي } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل فيهما بالياء { يدع الداع } بغير ياء في الحالين { إلى الداع } في الوصل : قالون . الباقون : بغير ياء في الحالين { شيء نكر } بسكون الكاف : ابن كثير { خاشعاً } بالألف : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف . الآخرون { خشعاً } كركع . { ففتحنا } بالتشديد : ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب { وفجرنا } بالتخفيف : أبو زيد عن المفضل و { ونذري } وما بعده بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل . { أو لقي } مثل أو « نبئكم » { ستعلمون } على الخطاب : ابن عامر وحمزة { سنهزم } بالنون الجمع بالنصب : روح وزيد عن يعقوب .
الوقوف { القمر } ه { مستمر } ه { مستقر } ه { مزدجر } ه لا بناء على أن قوله { حكمه } بدل من « ما » أو من { مزدجر } { النذر } ه لا للعطف مع اتصاله المعنى { عنهم } م لأنه لو وصل لأوهم أن الظرف متصل به وليس كذلك بل هو ظرف { يخرجون } { نكر } ه لا لاتصال الحال بالظرف من قبل اتحاد عاملها { منتشر } ه لا لأن { مهطعين } حال بعد حال { الداع } ط { عسر } ه { وازدجر } ه { فانتصر } ه { منهمر } ه ز للعطف مع اتحاد مقصود الكلام { قدر } ه ج للعارض من الجملتين المتفقتين وللآية مع احتمال الحال أي وقد حملناه { ودسر } ه لا لأن { تجري } صفة لها { بأعيننا } ج لأن جزاء مفعول له أو مصدر لفعل محذوف { كفر } ه { مدكر } ه { ونذر } ه { مدكر } ه { ونذر } ه { مستمر } ه لا لأن ما بعده صفة الناس لا لأن { كأنهم } حال { منقعر } ه { ونذر } ه { مدكر } ه { بالنذر } ه { نتبعه } لا لتعلق « إذا » بها { وسعر } ه { أشر } ه { الأشر } ه { واصطبر } ه لا للعطف { بينهم } ج لأن كل مبتدأ مع أن الجملة من بيان ما تقدم { محتضر } ه { فعقر } ه { ونذر } ه { المحتظر } ه { مدكر } ه { بالنذر } ه { لوط } ط لأن الجملة لا تصلح صفة للمعرفة { بسحر } ه لا { عندنا } ط { شكر } ه { بالنذر } ه { ونذر } ه { مستقر } ه ج للفاء أي فقيل لهم ذقوا { ونذر } ه { مدكر } ه { النذر } ه ج لاتصال المعنى بلا عطف { مقتدر } ه { في الزبر } ه ج لأن ما بعده يصلح استفهام إنكار مستأنف ويصلح بدلاً عن « أم » قبلة { منتصر } ه { الدبر } ه { وأمر } ه { وسعر } ط بناء على أن { يوم } ليس ظرفاً لضلال وإنما هو ظرف لمحذوف أي يقال لهم ذقوا { وجوهم } ط { سقر } ه { بقدر } ه { بالبصر } ج { مدكر } ه { الزبر } ه { مستطر } ه { ونهر } ه لا لأن ما بعده بدل { مقتدر } ه .

التفسير : أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة { أزفت الآزفة } [ النجم : 57 ] إلا أنه ذكر ههنا دليلاً على الاقتراب وهو قوله { وانشق القمر } في الصحيحين عن أنس أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر مرتين . وعن ابن عباس : انفاق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت . وقال ابن مسعود : رأيت حراء بين فلقتي القمر . وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم هذا قول أكثر الفسرين . وعن بعضهم أن المراد سينشق القمر وصيغة الماضي على عادة إخبار الله ، وذلك أن انشقاق القمر أمر عظيم الوقع في النفوس فكان ينبغي أن يبلغ وقوعه حد التواتر وليس كذلك . وأجيب بأن الناقلين لعلهم اكتفوا بإعجاز القرآن عن تشهير سائر المعجزات بحيث يبلغ التواتر . وأيضاً إنه سبحانه جعل انشاق القمر آية من الآيات لرسوله ولو كانت مجرد علامة القيامة لم يكن معجزة له كما لم يكن خروج دابة الأرض وطلوع الشمس من المغرب وغيرهما معجزات له ، نعم كلها مشتركة في نوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن الغيوب . وزعم بعض أهل التنجيم أن ذلك كان حالة شبه الخسوف ذهب بعض جرم القمر عن البصر وظهر في الجو شيء مثل نصف جرم القمر نحن نقول : إخبار الصادق بأن يتمسك به أولى من قول الفلسفي . هذا مع أن استدلالهم على امتناع الخرق في السماويات لا يتم كما بينا في الحكمة . وكيف يدل انشقاق القمر على اقتراب الساعة نقول : من جهة إن ذلك يدل على جواز انخراق السماويات وخرابها خلاف ما زعمه منكرو الحشر من الفلاسفة وغيرهم . ومن ههنا ظن بعضهم وإليه ميل الإمام فخر الدين الرازي أن المراد باقتراب الساعة ليس هو القرب الزماني وإنما المراد قربها في العقول في الأذهان كأنه لم يبق بعد ظهور هذه الآية للمكر مجال . واستعمال لفظ الاقتراب ههنا مع أنه مقطوع به كاستعمال « لعل » في قوله { لعل الساعة تكون قريباً } [ الأحزاب : 63 ] والأمر عند الله معلوم . قال : وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل لئلا يبقى للكافر مجال الجدال فإنه قد مضى قرب سبعمائة سنة ولم تقم الساعة ولا يصح إطلاق لفظ القرب على مثل هذا الزمان . والجواب أن كل ما هو آتٍ قريب وزمان العالم زمان مديد والباقي بالنسبة على الماضي شيء يسير قال أهل اللغة : في « افتعل » مزيد تشجم ومبالغة فمعنى اقترب دنا دنواً قريباً ، وكذلك اقتدر أبلغ من قدر . ثم بين أن ظهور آيات الله لا يؤثر فيهم بل يزيد في عنادهم وتمردهم حتى سموها سحراً مستمراً أي دائماً مطرداً كأنهم قابلوا ترادف الآيات وتتابع المعجزات باستمرار السحر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي كل أوان بمعجزة قولية أو فعلية سماوية أو أرضية .

وقيل : هو من قولهم « حبل مرير الفتل » من المرة وهي الشدة أي سحر قوي محكم . وقيل : من المرارة يقال : استمر الشيء إذا اشتد مراراته أي سحر مستبشع مر في مذاقنا . وقيل : مستمر أي مار ذاهب زائل عما قريب . عللوا أنفسهم بالأماني الفارغة فخيب الله آمالهم بإعلاء الدين وتكامل قوته كل يوم . والظاهر أن قوله { وأن يروا } إلى آخر الآية . جملة معترضة بياناً لما اعتادوه عند رؤية الآيات . وقوله { وكذبوا } عطف على قوله { اقترب } كأنهم قابلوا الاقتراب والانشقاق بالتكذيب واتباع الأهواء . والمعنى وكذبوا بالأخبار عن اقتراب الساعة { واتبعوا أهواءهم } في أن محمد صلى الله عليه وسلم ساحر أو كاهن أو كذبوا بانشقاق القمر واتبعوا آراءهم الفاسدة في أنه خسوف عرض للقمر وكذلك كل آية { وكل أمر مستقر } صائر إلى غاية وأن أمر محمد صلى الله عليه وسلم سيصير إلى حد يعرف منه حقيقته وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان . ومن قرأ بالجر فلعطف { كل } على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر وبين حاله . ثم أشار بقوله { ولقد جاءهم } إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد فأخبرهم الرسول باقتراب القيامة وأقام الدليل على صدقه ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة . وفي كل ذلك { مزدجر } لهم أي ازدجار أو موضع ازدجار ومظنة ادكار وهو افتعال من الزجر قلبت التاء دالاً . وقوله { حكمة } يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا الترتيب في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان { فما تغنى } نفي أو استفهام إنكار معناه أنك أتيت بما عليك من دعوى النبوة مقرونة بالآية الباهرة وأنذرتهم بأحوال الأقدمين فلم يفدهم فأي غناء تغنى النذر أي الإنذارات بعد هذا { فتول عنهم } لعلمك أن الإنذار لا يفيد فيهم ولا يظهر الحق لهم إلى يوم البعص والنشور . والداعي إسرافيل أو جبريل ينادي إلى شيء منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة . وتخصيص المدعوين بالكافرين من حيث إنهم هم الذين يكرهون ذلك اليوم من ضيق العطن قوله { خاشعاً } حال من الخارجين والفعل للأبصار . وليس قراءة من قرأ { خشعاً } على الجمع من باب « أكلوني البراغيث » كما ظن في الكشاف ، ولكنه أحسن من ذلك ولهذا تواترت قراءته لعدم مشابهة الفعل صورة . تقول في السعة « قام رجل قعود غلمانه » وضعف « قاعدون » وضعف منه « يقعدون » لأن زيادة الحرف ليست في قوة زيادة الاسم .

وجوز أن يكون في { خشعاً } ضميرهم ويقع أبصارهم بدلاً عنه . وخشوع الأبصار سكونها على هيئة لا تلتفت يمنة ويسرة كقوله { لا يرتد إليهم طرفهم } [ إبراهيم : 43 ] والأجداث القبور شبههم بالجراد المنتشر للكثرة والتموج والذهاب في كل مكان . وقيل : المنتشر مطاوع أنشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض وبدب فيكون إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعف حالهم . ومعنى مهطعين مسرعين وقد مر في إبراهيم عليه السلام .
ثم إنه سبحانه أعاد بعض الأنباء وقدم قصة نوح على عاد وفائدة ، قوله { فكذبوا عبدنا } بعد قوله { كذبت قبلهم قوم نوح } هي فائدة التخصيص بعد التعميم أي كذبت الرسل أجمعين فلذلك كذبوا نوحاً . ويجوز أن يكون المراد التكرير أي تكذيباً عقيب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن تبعه قرن آخر مكذب . وقوله { عبدنا } تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه فكذبوه { وقالوا } هو { مجنون } وازدجروه أي استقبلوه بالضرب والشتم وغير ذلك من الزواجر عن تبليغ ام أمر به . وجوز أن يكون من جملة قولهم أي قالوا ازدجرته الجن ومسته وذهبت بلبه { فدعى ربه أني مغلوب } غلبني قومي بالإيذاء والتكذيب . وقيل : غلبتني نفسي بالدعاء عليهم حين أيست من إجابتهم لي { فانتصر } منهم فانتقم منهم لي أو لدينك روي أن الواحد من قومه كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً عليه فيفيق وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . وأبواب السماء وفتحها حقيقة عند من يجوز لها أبواباً وفيها مياهاً . وعند أهل البحث والتدقيق هو مجاز عن كثرة انصباب الماء من ذلك الصوب كما يقال في المطر الوابل « جرت ميازيب السماء وفتحت أفواه القرب » والباء للآية نحو : فتحت الباب بالمفتاح . ونظيره قول القائل « يفتح الله لك بخير » . وفيه لطيفة هي جعل المقصود مقدماً في الوجود والتقدير يفيض الله لك خيراً يأتي ويفتح لك الباب . ويجوز أن يراد فتحنا أبواب السماء مقرونة { بماء منهمر } منصب في كثرة وتتابع أربعين يوماً . قال علماء البيان : قوله { فجرنا الأرض عيوناً } أبلغ من أن لو قال « وفجرنا عيون الأرض » أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة نظيره { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم : 4 ] وقد مر { فالتقى الماء } أي جنسه يعني مياه السماء والأرض يؤيده قراءة من قرأ { فالتقى الماآن } { على أمر قد قدر } أي على حال قدرها الله عز وجل كيف شاء ، أو على حال جاءت مقدرة متساوية أي قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض ، ولعله إشارة إلى أن ماء الأرض ينبع من العيون حتى إذا ارتفع وعلا لقيه ماء السماء . ويحتمل أن يقال : اجتمع الماء على أمر هلاكهم وهو مقدر في اللوح { وذات ألواح ودسر } هي السفينة وهي من الصفات التي تؤدي مؤدى الموصوف فتنوب منابه .

وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه . والدسر المسامير جمع دسار من دسره إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه . فعلنا كل ما ذكرنا من فتح أبواب السماء وغيره { جزاء } أو جزيناهم جزاء { لمن كان كفر } وهو نوح عليه السلام لأن وجود النبي صلى الله عليه وسلم نعمة من الله وتكذيبه كفرانها . يحكى أن رجلاً قال للرشيد : الحمد لله عليك . فسئل عن معناه قال : أنت نعمة حمدت الله عيلها . والضمير في { تركناها } للسفينة أو للفعلة كما مر في « العنكبوت » { فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين } [ الآية : 15 ] والمدكر المعتبر وأصله « مذتكر » افتعال من الذكر والاستفهام فيه وفي قوله { كيف كان عذابي ونذر } أي إنذاراتي للتوبيخ والتخويف { ولقد يسرنا القرآن } سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية . وقيل : للحفظ والأول أنسب بالمقام . وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظاً على ظهر القلب سوى القرآن .
سؤال : ما الحكمة في تكرير ما كرر في هذه السورة من الآي؟ والجواب أن فائدته تجديد التنبيه على الادكار والاتعاظ والتوقيف على تعذيب الأمم السالفة ليعتبروا بحالهم ، وطالما قرعت العصا لذوي الحلوم وأصحاب النهي وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عد كل نعمة ، وفي سورة المرسلات عند عد كل آية لتكون مصورة للأذهان محفوظة في كل أوان . ونفس هذه القصص كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب لأن التكرير يوجب التقرير والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لمن يعرف من غيره ، وإنما كرر قوله { فكيف كان عذابي ونذر } مرتين في قصة عاد لأن الاستفهام الأول أورده للبيان كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسؤول سائلاً فيقول : كيف هي؟ فيقول المعلم : إنها كذا وكذا . والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف . فأما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار وفي قصة نوح اقتصر على الثاني لذلك . ولعله ذكر الاستفهامين معاً في قصة عاد لفرط عتوهم وقولهم { من أشد منا قوة } [ فصلت : 15 ] وقد مر في حم السجدة تفسير الصرصر والأيام النحسات . وإنما وحد ههنا لأنه أراد مبدأ الأيام ووصفه بالمستمر أغنى عن جمعه أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم . قيل : استمر عليهم جميعاً على كبيرهم وصغيرهم حتى لم يبق منهم نسمة . وقيل : المستمر الشديد المرارة . { تنزع الناس } تقلعهم عن أماكنهم فتكبهم وتدق رقابهم { كأنهم أعجاز نخل منقعر } منقلع عن مغارسه . وفي هذا التشبيه إشارة إلى جثثهم الطوال العظام ، ويجوز أن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجساداً بلا رؤس كأعجاز النخل أصولاً بلا فروع . قال النحويون : اسم الجنس الذي تميز واحده بالتاء جاز في وصفه التذكير كما في الآية ، والتأنيث كما في قوله

{ أعجاز نخل خاوية } [ الحاقة : 7 ] هذا مع أن كلاً من السورتين وردت على مقتضى الفواصل . قوله { أبشراً } من باب ما أضمر عامله على شريطة التفسير وإنما أولى حرف الاستفهام ليعلم أن الإنكار لم يقع على مجرد الاتباع ولكنه وقع على اتباع البشر الموصوف وأنه من جهات إحداها كونه بشراً وذلك لزعمهم أن الرسول لا يكون بشراً . الثاني كونه منهم وفيه بيان قوة المماثلة ، وفيه بيان مزيد استكبار أن يكون الواحد منهم مختصاً بالنبوة مع أنهم أعرف بحاله . الثالثة كونه واحداً ، أي كيف تتبع الأمة رجلاً أو أرادوا أنه واحد من الآحاد دون الأشراف . والسعر النيران جميع سعير للمبالغة ، أو لأن جهنم دركات ، أو لدوام العذاب كأن يقول : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وفي سعر فعكسوا عليه قائلين : إن اتبعانك كنا إذاً كما تقول . وقيل : الضلال البعد عن الصواب ، والسعر الجنون ومنه « ناقة مسعورة » وفي قوله { أءلقي الذكر عليه من بيننا } تصريح بما ذكرنا من أن واحداً منهم كيف اختص بالنبوة . وفي الإلقاء أيضاً تعجب آخر منهم وذلك أن الإلقاء إنزال بسرعة كأنهم قالوا : الملك جسم والسماء بعيدة فكيف نزل في لحظة واحدة؟ أنكروا أصل الإلقاء ثم الإلقاء عليه من بينهم . والأشر البطر المتكبر أي حمله بطره وشطارته على ادعاء ما ليس له . ثم قال سبحانه تهديداً لهم ولأمثالهم { سيعلمون غداً } أي فيما يستقبل من الزمان هو وقت نزول العذاب أو يوم القيامة { من الكذاب الأشر } بالتشديد أي الأبلغ في الشرارة . وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول : هو أخير وأشر . وذلك أصل مرفوض . ومن قرأ { ستعلمون } على الخطاب فإما حكاية جواب صالح أو هو على طريقة الالتفات . ثم إنه تعالى خاطب صالحاً بقوله { إنا مرسلو الناقة } أي مخرجوها من الصخرة كما سألوا فتنة وامتحاناً لهم . { فارتقبهم } وتبصر ما هم فاعلون بها { واصطبر } على إيذائهم { ونبئهم أن الماء قسمة } أي مقسوم { بينهم } خص العقلاء بالذكر تغليباً { كل شرب محتضر } فيه يوم لها ويوم لهم كما قال عز من قائل { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } [ الشعراء : 155 ] وقد مر في « الشعراء » وقال في الكشاف : محضور لهم وللناقة وفيه إبهام . وقيل : يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في شربها { فنادوا صاحبهم } وهو قدار نداء المستغيث وكان أشجع وأهجم على الأمور أو كان رئيسهم . { فتعاطى } فاجترأ على الأمر العظيم فتناول العقر وأحدثه بها أو تعاطى الناقة أو السيف او الأجر . والهشيم الشجر اليابس المتهشم أي المتكسر والمحتظر الذي يعمل الحظيرة ، ووجه التشبيه أن ما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتكسر وأنهم صاروا موتى جاثمين ملقى بعضهم فوق بعض كالحطب الذي يكسر في الطرق والشوارع . ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم وقوداً للجحيم كقوله { فكانوا لجهنم حطباً } والحاصب الريح التي ترميهم بالحجارة وقد مرّ في « العنكبوت » .

ولعل التذكير بتأويل العذاب . والسحر القطعة من الليل وهو السدس الآخر كما مر في « هود » و « والحجر » . وصرف لأنه نكرة وإذا أردت سحر يومك لم تصرفه . والظاهر أن الاستثناء من الضمير في { عليهم } لأنه أقرب ولأنه المقصود . وجوز أن يكون استثناء من فاعل كذبت وهو بعيد { نعمة } مفعول له أي إنعاماً . وقوله { كذلك نجزي من شكر } أكثر المفسرين على أنه إشارة إلى أنه تعالى يصون من عذاب الدنيا كل من شكر نعمة الله بالطاعة والإيمان . وقيل : إنه وعد بثواب الآخرة أي كما نجيناهم من عذاب الدنيا ننعم عليهم يوم الحساب بالثواب .
وحين أجمل قصتهم فصلها بعض التفصيل قائلاً { ولقد أنذرهم } أي لوط { بطشتنا } شدة أخذنا بالعذاب { فتماروا بالنذر } فتشاكوا بالإنذارات { ولقد راودوه عن ضيفه } معناها قريب من المطالبة كما مر في « يوسف » . والضمير للقوم باعتبار البعض لأن بعضهم راودوه وكان غيرهم راضين بذلك فكانوا جميعاً على مذهب واحد . { فطمسنا أعينهم } مسخناها وجعلناها مع الوجه صفحة ملساء لا يرى لها شق . وإنما قال في « يس » { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } [ الآية : 66 ] بزيادة حرف الجر لأنه أراد به إطباق الجفنين على العين وهو أمر كثير الوقوع قريب الإمكان بخلاف ما وقع للمراودين من قوم لوط فإنه أنذر وأبعد والكل بالإضافة إلى قدرة الله تعالى واحد ، إلا أنه حين علق الطمس بالمشيئة ذكر ما هو أقرب إلى الوقوع كيلا يكون للمنكر مجال كثير . ونقل عن ابن عباس أن المراد بالطمس المنع عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيئاً غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئاً . ولعل في هذا النقل خللاً لأنه لا يناسب قوله عقيب ذكر الطمس { فذوقوا عذابي ونذر } أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي . ثم حكى العذاب الذي عم الكل بقوله { ولقد صبحهم } ولقائل أن يسأل : مع الفائدة في قوله { بكرة } مع قوله { صبحهم } والجواب أن { صبحهم } يشمل من أول الصبح إلى آخر الإسفار وأنه تعالى وعدهم أول الصبح كما قال { إن موعدهم الصبح } [ هود : 81 ] فأراد بقوله { بكرة } تحقيق ذلك الوعد . ويمكن أن يقال : قد يذكر الوقت المبهم لبيان أن تعيين الوقت غير مقصود كما تقول : خرجنا في بعض الأوقات ولا فائدة فيه إلا قطع المسافة . فإنه ربما يقول السامع متى خرجتم فيحتاج إلى أن تقول في وقت كذا أو في وقت من الأوقات . فإذا قال من أول الأمر في وقت من الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته وبمثله أجيب عن قوله

{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1 ] ويحتمل أن يقال : { صبحهم } معناه قال لهم بكرة عموا صباحاً وهو بطريق التهكم كقوله { فبشرهم بعذاب } [ آل عمران : 21 ] ويجوز أن يكون التصبيح بمعنى الإغاثة من قولهم « يا صباحاه » والعذاب المستقر الثابت الذي لا مدفع له أو الذي استقر عليهم ودام إلى الاستئصال الكلي أو إلى القيامة وما بعدها . قوله { ولقد جاء آل فرعون النذر } يعني موسى وهارون وغيرهما وأنهما عرضا عليه ما أنذر به المرسلون وهو بمعنى الإنذارات { بآياتنا كلها } هي الآيات التسع أو جميع معجزات الأنبياء عليهم السلام لأن تكذيب البعض تكذيب الكل العزيز المقتدر الغالب الذي لا يعجزه شيء . ثم خاطب كفار أهل مكة بقوله { أكفاركم خير من أولئكم } المكذبين وهو استفهام إنكار لأن الأقدمين كانوا أكثر عدداً وقوة وبطشاً { أم لكم براءة في الزبر } الكتب المتقدمة أن من كفر منكم كان آمناً من سخط الله فأمنتم بتلك البراة كما أن البيداء وهو من في يده قانون أصل الخراج إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة { أم يقولون نحن جميع } جمع مجتمع أمرنا { منتصر } منتقم عن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر فتقدم في الصف فقال : نحن ننصر اليوم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فنزلت { سيهزم الجمع ويولون الدبر } أي الأدبار . عن عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال عمر : أي جمع يهزم؟ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع ويقول { سيهزم الجمع } عرف تأويلها { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى } من أنواع عذاب الدنيا أو أدهى الدواهي . والداهية اسم فاعل من دهاه أمر كذا إذا أصابه ويختص بأمر صعب كالحادثة والنازلة . { وأمر } من المرارة . وقيل : من المرور أي أدوم وأكثر مروراً . وقيل : من المرة الشدة . قوله { إن المجرمين } الآية . روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله { خلقناه بقدر } وعن عائشة أن النبي صلى الله عيله وسلم قال « مجوس هذه الأمة القدرية » وهو المجرمون الذين سماهم الله في قوله { إن المجرمين في ضلال } عن الحق في الدنيا { وسعر } وهو نيران في الآخرة أو في ضلال وجنون في الدنيا لا يهتدون ولا يعقلون . أو في ضلال وسعر في الآخرة ، لأنهم لا يجدون إلى مقصودهم وإلى الجنة سبيلاً . والنيران ظاهر أنها في الآخرة ، وسقر علم لجهنم من سقرته النار وصقرته إذا لوحته ، والمشهور بناء على الحديث المذكور أن قوله { إنا كل شيء } متعلق بما قبله كأنه قال : إن مس النار جزاء من أنكر هذا المعنى وهو منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر . قال النحويون : النصب في مثل هذا الصور لازم لئلا يلتبس المفسر بالصفة ، وذلك أن النصب نص في المعنى المقصود وأما الرفع فيحتمل معنيين : أحدهما كل شيء فإنه مخلوق بقدر هو يؤدي مؤدى النصب ، والآخر كل شيء مخلوق لنا فإنه بقدر وهذا غير مقصود بل فاسد إذ يفهم منه أن شيئاً من الأشياء غير مخلوق لله ليس بقدر والقدر التقدير أي كل شيء خلقناه مرتباً على وفق الحكمة أو مقدراً مكتوباً في اللوح ثابتاً في سابق العلم الأزلي .

واعلم أنه قد مر في هذا الكتاب أن الجبري يقول القدرية التي ذمها النبي صلى الله عليه وسلم هو المعتزلي الذي ينفي كون الطاعة والمعصية بتقدير الله . والمعتزلة تقول : الجبري الذي يدعي أن الزنا والسرقة وغيرهما من القبائح كلها بتقدير الله تعالى . وكذا حال السني لأنه وإن كان يثبت للعبد كسباً إلا أنه يسند الخير والشر إلى القضاء والقدر وقال بعض العلماء : إن كل واحد من الفريقين لا يدخل في اسم القدرية إلا إذا كان النافي نافياً لقدرة الله لا أن يقول : هو قادر على أن يلجىء العبد إلى الطاعة ولكن حكمته اقتضت بناء التكليف على الاختيار وإلا كان المثبت منكراً للتكليف وهم أهل الإباحة القائلين بأن الكل إذا كان بتقدير الله فلا فائدة في التكليف . ولعل وجه تشبيههم بالمجوس أنهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالمجوس يام بين الكفار المتقدمين فكما أن المجوس نوع من الكفرة أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة وبهذا التأويل لا يلزم الجزم بأنهم من أهل النار ، وأيضاً لعل اسم القدرية لأهل الإثبات أولى منه لأهل النفي كما تقول : دهري لأنه يقول بالدهر والثنوية لإثباتهم إليهن اثنين أو نوراً وظلمة . وقال بعضهم : هذا الاسم بأهل النفي أولى لأن الآية نزلت في منكري القدرة وهم المشركون القائلون بأن الحوادث كلها مستندة إلى اتصالات الكواكب وانصرافاتها فلا قدرة لله على شيء من ذلك . قوله { وما أمرنا إلا واحدة } أي إلا كلمة واحدة وهي « كن » تأكيد إثبات القدرة له وقد مر مثله في « النحل » . وقوله { كلمح بالبصر } تأكيد على تأكيد وهذا تمثيل وإلا فتكوينه وإيجاده عين مشيئته وأرادته . ومعنى الخلق والأمر أيضاً تقدم مشتبعاً في « الأعراف » ثم هددهم مرة أخرى بقوله { ولقد أهلكنا أشياعكم } أي أشباهكم في الكفر من الأمم . ثم ذكر نوعاً آخر من التهديد مع بيان كمال القدرة والعلم فقال { وكل شيء فعلوه في الزبر } أي في صحف الحفظة . قال النحويون : هذا مما التزم فيه الرفع لأن النصب يكون نصاً في معنى غير مقصود بل فاسد إذ يلزم منه أن يكون { كل شيء } مفعولاً { في الزبر } وهذا معنى غير مستقيم كما ترى .

وأما الرفع فيحتمل معنيين . أحدهما صحيح مقصود وهو أن يقدر قوله { فعلوهن } صفة ل { شيء } والظرف خبر أي كل شيء مفعول للناس فإنه في الزبر . والآخر أن تقدر الجملة خبر أو يبقى الظرف لغواً فيؤدي الكلام حينئذ مؤدي النصب ، ولا ريب أن الوجه الذي يصح المعنى فيه على أحد الاحتمالين أولى من الذي يكون نصاً في المعنى الفاسد . ثم أكدالمعنى المذكور بقوله { وكل صغير وكبير } من الأعمال بل مما وجد ويوجد { مستطر } أي مسطور في اللوح . ثم ختم السورة بوعد المتقين . والنهر جنس أريد به الأنهار اكتفى به للفاصلة . ولما سلف مثله مراراً كقوله { إن المتقين في جنات وعيون } [ الذاريات : 15 ] وقيل : معناه السعة والضياء من النهار { في مقعد صدق } وفي مكان مرضيّ من الجنة مقربين { عند مليك مقتدر } لا يكتنه كنه عظمته واقتداره نظيره قول القائل « فلان في بلدة كذا في دار كذا مقرب عند الملك » . ويحتمل أن يكون الظرف صفة { مقعد صدق } كما يقال « قليل عند أمين خير من كثير عند خائن » . قال أهل اللغة : القعود يدل على المكث بخلاف الجلوس ولهذا يقال للمؤمن « مقعد دون مجلس » ومنه قواعد البيت ، وكذا في سائر تقاليبه من نحو وقع أي لزق بالأرض وعقد . والإضافة في { مقعد صدق } كهي في قولك « رجل صدق » أي رجل صادق في الرجولية كامل فيها . ويجوز أن يكون سبب الإضافة أن الصادق قد أخبرعنه وهو الله ورسوله ، أو الصادق اعتقد فه وهو المكلف ، أو يراد مقعد لا يوجد فيه كذب فإن من وصل إلى الله استحال عليه إلا الصدق وهو تبارك وتعالى أعلم وأجل وأكرم .

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

القراآت : { والحب ذا العصف والريحان } بالنصب فيهما : ابن عامر { والحب ذو العصف } بالرفع فيهما { والريحان } بالجر : حمزة وعلي وخلف . الباقون : برفع الريحان { يخرج } مجهولاً من الإخراج : أبو جعفر وناعف وأبو عمرو وسهل ويعقوب { اللؤلؤ } كنظائره { والجوار } ممالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو وخلف طريق ابن عبدوس . { المنشآت } بكسر الشين . حمزة ويحيى طريق الصريعيني { سيفرغ } بالياء : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون على طريق الالتفات { أيه الثقلان } بضم الهاء مثل { أيه المؤمنون } [ النور : 31 ] { يا أيها الساحر } [ الزخرف : 49 ] { شواظ } بكسر الشين : ابن كثير ونحاس . بالجر : ابن كثير وأبو عمرو وسهل { لم يطمثهن } بضم الميم في إحداهما تخيراً : علي . وروى أبو الحرث عنه في الأولى بالضم { من استبرق } بنقل حركة الهمزة إلى النون : رويس وورش والشموني وحمزة في الوقف { ذو الجلال } بالرفع : ابن عامر .
الوقوف : { الرحمن } ه لا { القرآن } ه ط { الإنسان } ه { البيان } ه { بحسبان } ه ص لعطف الجملتين المتفقتين { يسجدان } ه { الميزان } ه لا لتعلق أن { الميزان } ه { للأنام } ه لا لأن الجملة بعدها حال { فاكهة } ص { الأكمام } ه ص { والريحان } ه ج لابتداء الاستفهام مع دخول فاء التعقيب ، والوقف أجوز لأن الابتداء بالاستفهام مبالغة في التنبيه وكذلك في جميع السورة { تكذبان } ه { كالفخار } ه لا { نار } ه ج { تكذبان } ه { المغربين } ه ج { تكذبان } ه { يلتقيان } ه لا لأن ما بعده حال من الضمير في { يلتقيان } { ولا يبغيان } ه حال بعد حال { تكذبان } ه { والمرجان } ه ج { تكذبان } ه { كالأعلام } ه ج { تكذبان } ه { فإن } ه ج لعطف الجملتين المختلفتين والأولى الوصل لأن الكلام الأول يتم بالثاني . { والإكرام } ه ج { تكذبان } ه { والأرض } ط { شأن } ه ج { تكذبان } ه { الثقلان } ه { تكذبان } ه { فانفذوا } ه ط { بسلطان } ه ج { تكذبان } ه { فلا تنتصران } ه ج { تكذبان } ه { كالدهان } ه ج { تكذبان } ه { ولاجان } ه ج { تكذبان } ه { والأقدام } ه ج { تكذبان } ه { المجرمون } ه م لأنه لو وصل صار ما بعده حالاً من المجرمين وليس كذلك { آن } ج { تكذبان } ه { جنتان } ه ج { تكذبان } ه لا لأن قوله { ذواتا } صفة { أفنان } ه ج { تكذبان } ه { تجريان } ه { تكذبان } ه { زوجان } ه { تكذبان } ه ج لأن { متكئين } حال إلا أن الكلام قد تطاول { من إستبرق } ط { دان } ه ج { تكذبان } ه { الطرف } لا لأن { لم يطمثهن } حال عنهن { جان } ه ج { تكذبان } ه { والمرجان } ه ج { تكذبان } ه { إلا الإحسان } ج { تكذبان } ه { جنتان } ه { تكذبان } ه { مدهامتان } ه { تكذبان } ه { نضاختان } ه { تكذبان } ه { ورمان } ه ج { تكذبان } ه ج { حسان } ه { تكذبان } ه { في الخيام } ه ج { تكذبان } ه { جان } ه ج { تكذبان } ه ج { حسان } ه ج { تكذبان } ه { والإكرام } ه .

التفسير : افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على الهيبة والعظمة وهي انشقاق القمر . وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والعناية وهي القرآن الكريم الذي فيه شفاء القلوب والطهارة عن الذنوب ، وهو أسبق الآلاء قدماً وأجل النعماء منصباً . وبين السورتين مناسبة أخرى من جهة أنه ذكر هناك ما يدل على الانتقام والغضب كقوله { فذوقوا عذابي ونذر } [ القمر : 39 ] وقوله { فكيف كان عذابي ونذر } [ القمر : 21 ] وذكر في هذه السورة بعد تعداد كل نعمة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } مرة بعد مرة وتذكير النعمة على نعمة لأنها مما توقظ الوسنان وتنبه أهل الغفلة والنسيان . قال جار الله { الرحمن } مبتدأ والأفعال بعده مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها عن العاطف إما لأن العائد قام مقام الصدر وإما لمجيئها على نمط التعديد كما تقول : زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد بعد قلة فعل بك ما لم يفعله أحد بأحد فما تنكر من إحسانه . قلت : فعلى هذا لو لم يوقف على { القرآن } جاز . وقيل : الرحمن خبر مبتدأ أي هو الرحمن . ثم استأنف قائلاً { علم القرآن } وما مفعوله الأول؟ قيل : هو متعدٍ إلى واحد والمعنى جعل القرآن علامة وآية للنبوة . وقيل : هو جبرائيل أي علم جبرائيل القرآن حتى نزل به على محمد . وقيل : علم محمداً أو الإنسان القرآن كما يليق بفهمهم على حسب استعدادهم ولعله يلزم من الوجه الأخير شبه تكرار من قوله { خلق الإنسان علمه البيان } فالأول إشارة إلى قواه البدنية والثاني إشارة إلى قواه النطقية ، ويلزم منه أيضاً أن يكون التعليم قبل الخلق ظاهراً إلا أن يكون تفصيلاً لما أجمله . وقد نقل عن ابن عباس أن الإنسان آدم علمه الأسماء كلها ، أو محمد صلى الله عليه وسلم . والبيان القرآن فيه بيان ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة . قوله { الشمس والقمر بحسبان } أي بحسبانه استغنى عن الوصل اللفظي بالربط المغنوي لرعاية الفاصلة يعني أنهما يجريان في بروجهما ومنازلهما بحساب معلوم { والنجم } وهو النبات بغير ساق { والشجر يسجدان } بالانقياد له . وإنما وسط العاطف بين هاتين الجملتين لما بين العلوي والسفلي من تناسب التقابل ، ولما بين الحسبان والسجود من تناسب التجانس ، وذلك لأن سيرهما بحساب مقدّر مقرر وهو من جنس الانقياد لأمر الله { والسماء رفعها } قال في الكشاف : أي خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه . قلت : إنه حمل الرفع على ارتفاع المنزلة ولعل المراد به الرفع الحسي ليطابق قوله { والأرض وضعها } أي خفضها في مركز العالم مدحوة محاطة بالماء . نعم لو جعل وضع الأرض عبارة عن ذلها وتسخيرها كقوله { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً }

[ الملك : 15 ] صح تفسيره وإنما وسط قوله { ووضع الميزان } بين رفع السماء ووضع الأرض لأنه لا ينتفع بالميزان إلا إذا كان معلقاً في الهواء بين الأرض والسماء وهذا أمر حسي ، وأما العقلي فهو أنه بدأ أولاً من النعم بذكر القرآن الذي هو بيان الشرائع والتكاليف ، ثم أتبعه ذكر كيفية خلق الإنسان وقواه النفسانية وما يتم به معاشه من السماويات والأرضيات ، ثم ذكر أنه خلق لأجلهم آلة الوزن بهما يقيمون العدالة في ومعاملاتهم وأمور تمدنهم فصار كما مر في { حم عسق الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } [ الشورى : 1 ] وكما يجيء في الحديد { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } [ الآية : 25 ] وأن في قوله { ألا تطغوا } مفسرة أو ناصبة أي لأن لا تتجاوز حد الاعتدال في شأن هذه الآية أي في شأن الوزن . ثم أكد بقوله إثباتاً ونفياً { وأقيموا الوزن بالقسط } قوِّموه أو قوموا لسان الميزان بالعدل { ولا تخسروا الميزان } أي لا تجعلوها سبباً للخسران والتطفيف . وفي تكرير لفظ الميزان بل في ورود هذه الجمل المتقاربة الدلالة مكررة إشارة إلى الاهتمام بأمر العدل وندب إليه وتحريض عليه . وقيل : الأول ميزان الدنيا والثاني ميزان الآخرة والثالث ميزان العقل . وقيل : نزلت متفرقة فاقتضى الإظهار . قوله { للأنام } أي لكل ما على ظهر الأرض من دابة . وقيل : للإنسان . وخص بالذكر لشرفه ولأن الباقي خلق لأجله { فيها فاكهة } التنوين للتعظيم وهي كل ما يتفكه به . وقد أفرد النخل بالذكر للتفضيل ولأنه فاكهة غذائية . والأكمام جمع كم وهو وعاء الثمر . ثم ذكر أقوات البهائم والإنسان قائلاً { والحب ذو العصف } وهو ورق الزرع أو التبن . وقال الفراء والسدي : وهو أول ما ينبت من الزرع { والريحان } الورق . ومن رفع فعلى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وذو الريحان . وقال الحسن وابن زيد . على هذه القراءة وهو ريحانكم الذي يشم .
ثم خاطب الجن والإنس بقوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } عن جابر بن عبد الله قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : مالي أراكم سكوتاً؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً ما قرأت عليهم هذه الآية مرة إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد . قال جار الله : الخطاب في { ربكم } للثقلين بدلالة الأنام عيلهما قلت : ربما يصرح به قوله { أيها الثقلان } سميا بذلك لأنهم ثقلا الأرض أو بما سيذكر عقيبه من قوله { خلق الإنسان } والجان خلقناه . وقيل : التكذيب إما باللسان والقلب معاً وإما بالقلب دون اللسان كالمنافقين فكأنه قال : في أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان . وقيل : أراد في أيها المكذبان بالدلائل المعية والعقلية أو بدلائل الآفاق ودلائل الأنفس ، والاستفهام للتوبيخ والزجر . قوله { خلق الإنسان من صلصال } قد مر في سورة « الحجر » إلا أنه شبهه ههنا بالفخار وهو الخزف بيانأً لغاية يبس طينته وكزازته ، والتركيب يدل عليه ومنه الفخور ولولا يبس دماغه لم يفخر ومنه الفرخ لأنه تنشق البيضة عنه .

وكل يابس عرضة للتشقق ومنه الخزف لغاية يبوسة مزاجه . والجان أبو الجن . وقيل : هو إبليس . والمارج اللهب الصافي الذي لا دخان فيه من مرج إذا اضطرب ولعلها المخلوطة بسواد النار من مرج الشيء اختلط . وقوله { من نار } بيان لمارج كأنه قيل : من صاف من نار . ويجوز أن يكون ناراً مخصوصة فيكون صفة { رب المشرقين } يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، والأول مطلع أول السرطان ، والثاني مطلع أول الجدي . هذا في بلادنا الشمالية والحال في الجنوبية بالعكس . قوله { مرج البحرين } وقد مر في « الفرقان » معناه أرسلهما ملحاً وعذباً متلاقيين { بينهما برزخ لا يبغيان } أي لا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة { يخرج منهما } أي من كل منهما . وقال في الكشاف : أعاد الضمير إلى البحرين لاتحادهما فالخارج من العذب كأنه خارج من الملح تقول : خرجت من البلد ولم تخرج إلا من محلة بل من دار . وقال أبو علي الفارسي : أراد من أحدهما فحذف المضاف . قلت : ونحن قد سمعنا أن الأصداف تخرج من البحر المالح ومن الأمكنة التي فيها عيون عذبة في مواضع من البحر الملح ويؤيده قوله سبحانه في « فاطر » { ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها } [ الآية : 12 ] فلا حاجة إلى هذه التكلفات . قال الفراء وغيره من أهل اللغة : اللؤلؤ الدر ، والمرجان ما صغر منه . وعن مقاتل : بالضد . ويشبه أن يكون اللؤلؤ هذا الجنس المعروف والمرجان البسذ . يقال : إنه ينبت في بحر الروم والإفرنج كالشجر وهو الفصل المشترك بين المعدن والنبات ، والجواري السفن الجارية حذف الموصول للعلم به . ومن قرأ { المنشآت } بفتح الشين فمعناها المرفوع الشرع والتي رفع خشبها بعضها على بعض وركب حتى ارتفعت . والقارىء بالكسر أراد الرافعات الشرع أو اللائي يبتدئن في السير أو ينشئن الأمواج بجريهن ، الأعلام الجبال الطوال شبههن في البحر بالجبال في البر . والضمير في { عليها } للأرض بدلالة المقال أو الحال . والوجه عبارة عن الذات كما مر في تفسر البسملة وفي قوله { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] وقوله { ذو } صفة للوجه وهو على القياس . وفيه دلالة على أن الوجه والرب ذات واحد بخلاف قوله في آخر السورة { تبارك اسم ربك } فإن الاسم غير المسمى في الأصح فلهذا قال { ذي الجلال والإكرام } ومعناه ذو النعمة والتعظيم كما سبق في البسملة . والنعمة في فناء ما على الأرض وهو مجيء وقت الجزاء { يسأله من في السموات } من الملائكة { و } من في { الأرض } من الثقلين الملائكة لمصالح الدارين والثقلان لمصالح الدارين . وعن مقاتل : يسأل أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل الملائكة أيضاً الرزق والمغفرة للناس { كل يوم هو في شأن }

« سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الشأن فقال : من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين » قلت : هذا التفسير يطابق ما مر في الحكمة . وما ذكرنا في الكتاب مراراً من أن القضاء هو الحكم الكلي الواقع في الأزل ، والقدر هو صدور تلك الأحكام في أزمنتها المقدرة . فبالاعتبار الأول قال « جف القلم بما هو كائن » وبالاعتبار الثاني قال : { كل يوم هو في شأن } وهذا بالنسبة إلى المقضيات ولا تغير في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . وبالجملة إنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها . وروى الواحدي في البسيط عن ابن عباس : إن مما خلق الله عز وجل لوحاً من درة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء . وحين بين أن كل زمان مقدر لأجل شأن قال { سنفرغ لكم } قال أهل البيان : هو مستعار من قول الرجل لمن يتهدده « سأفرغ لك » . والمراد تجرد داعيته للإيقاع به من النكاية فيه . والمراد شؤونه ستنتهي إلى شأن الجزاء وقصد المحاسبة . ثم هدد الثقلين بأنهم لا يستطعيون الهرب من أحكامه وأقضيته فيهما . نفذ من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية . وأقطار السموات والأرض نواحيهما . واحدها قطر . وهو في الهندسة عبارة عن الخط المنصف للدائرة . والسلطان القوة والغلبة ، أراد أنه لا مفر من حكمه إلا بتسلط تام ولا سلطان فلا مفر . قال الواحدي : أراد أنه لاخلاص من الموت . ويحتمل أن يخص هذا بيوم الجزاء المشار إليه بقوله { سنفرغ لكم } ويؤيده ما روي أن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة أحاطت به ، ويعضده قوله عقيبه { يرسل عليكما } الآية .
جاء في الخبر : يحاط على الخلق بلسان من نار ثم ينادون يا مشعر الجن والإنس الآية . وذلك قوله { يرسل عليكما شواظ } وهو اللهب الذي لا دخان له معه . وقرأ ابن كثير بكسر الشين لغة أهل مكة يقولون صوار بالضم والكسر . والنحاس والدخان . ومن قرأ بالرفع فمعناه يرسل عليكما هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة . ويجوز أن يرسلا معاً من غير أن يمزج أحدهما بالآخر . ومن قرأ بالجر فبتقدير وشيء من نحاس . وعن أبي عمرو أن الشواظ يكون من الدخان أيضاً . وقيل : هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم . وعن ابن عباس : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر { فلا تنتصران } فلا تمتنعان { فإذا انشقت السماء } لنزول الملائكة { فكانت وردة } أي حمراء { كالدهان } وهو جمع الدهن أو اسم ما يتدهن به كالحزام والإدام شبهها بدهن الزيت كقوله

{ كالمهل } [ المعارج : 8 ] وهو دردي الزيت . وقيل : الدهان الأديم الأحمر . عن ابن عباس : نصير كلون الفرس الورد . وقيل : تحمر احمرار الورد ثم تذوب ذوبان الدهن . وقال قتادة : هي اليوم خضراء ولها يوم القيامة لون آخر يضرب إلى الحمرة . والفاء في قوله { فإذا } للتعقيب وفي { فكانت } للعطف ، والجواب محذوف كما سيجيء في قوله { إذا السماء انشقت } [ الأنشقاق : 1 ] والمراد أنهما لا ينتصران حين إرسال الشواظ عليهما فحين تنشق السماء وصارت الأرض والجو والهواء كلها ناراً وتذوب السماء كما يذوب النحاس الأحمر كيف تنتصران؟ ويمكن أن يكون وجه تشبيه السماء يومئذ بالدهن هو الميعان والذوبان بسرعة وعدم رسوب الخبث كخبث الحديد ونحوه ، والغرض بيان بساطة السماء وأنه لا اختلاف للأجزاء فيها . { فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان } وضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال هاشم ويراد ولده . والضمير في { ذنبه } عائد إلى الإنس لأن الفاعل رتبته التقديم وكأنه قيل : لا يسأل بعض الإنس عن ذنبه ولا بعض الجن . والجمع بين هذه الآية وبين قوله { فوربك لنسألنهم } [ الحجر : 92 ] هو ما مرّ من أن المواطن مختلفة ، أو لا يسأل سؤال استعلام وإنما يسأل سؤال توبيخ وتقريع . وعندي أن بيان عدم احتياج المذنب إلى السؤال عن حاله لأن كل ما هو اليوم فيه كامن فذلك في يوم القيامة يظهر ويبرز من ظلمة الطبيعة والعصيان ، أو من نور الطاعة والإيمان وإليه الإشارة بقوله { يعرف المجرمون بسيماهم } من سواد الوجه وزرقة العين { فيؤخذ } كل منهم أو جنس المجرم { بالنواصي } أي بسببها . ولعل المراد أن تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلفها أو من قدام ويلقون في النار . روى الحسن عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا من قبضوا عليه بالنواصي والأقدام » ويجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى قوله { بالنواصي } نحو ذهب بزيد . ثم ذكر أنهم يوبخون بقول الملائكة لهم { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون } والأصل الخطاب والالتفات للتبعيد والتسجيل عليهم بالإجرام . والآني الذي بلغ منتهى حره . قال الزجاج : أني يأني أنا إذا انتهى في النضج والحرارة . والمعنى أنهم لا يزالون طائفين بين عذاب الجحيم وبين الحميم وذلك حين ما يستغيثون كقوله { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل } [ الكهف : 29 ] قال جار الله : نعمته فيما ذكره من الأهوال وأنواع المخاوف هي نجاة الناجي منه وما في الإنذار به من اللطف ، ويمكن أن يراد بأي الآلاء المعدودة في أول السورة تكذبان فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب . ثم شرع في ثواب أهل الخشية والطاعة قائلاً { ولمن خاف مقام ربه } وقد مر نظيره في « إبراهيم » قوله

{ ذلك لمن خاف مقامي } [ الآية : 14 ] قال المفسرون : الجنتان إحداهما للخائف الإنسي والثانية للخائف الجني ، أو إحداهما لفعل الطاعات والثانية لترك المنكرات ، أو إحداهما للجزاء والأخرى للزائد عليه تفضلاً ، أو هما جنة عدن وجنة النعيم . أو إحداهما جسمانية والأخرى روحانية . وقيل : التثنية للتأكيد كقوله { ألقيا } [ ق : 24 ] وهو ضعيف . والأفنان جمع الفنن وهو الغصن المستقيم طولاً قاله مجاهد وعكرمة والكلبي وغيرهم ، وإنما خصها بالكر لأنها هي التي تورق وتثمر وتظل والساق لأجل ضرورة القيام ولا ضرورة في الجنة ولا كلفة . وعن سعيد بن جبير : هي جمع فن والمعنى أنهما صاحبتا فنون النعم وعلى هذا يكون قوله { فيهما من كل فاكهة زوجان } أي صنفان كتفصيل بعد إجمال والصنفان رطب ويابس أو معروف وغريب { فيهما } أي في كل منهما { عينان تجريان } من جبل من مسك إحداهما في الأعالي والأخرى في الأسافل . وقال الحسن : تجريان بالماء الزلازل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل { متكئين } حال من الخائفين المذكورين في قوله { لمن خاف } وجوز أن يكون نصباً على المدح . قال المفسرون : إذا كان بطائن الفرش وهي التي تحت الظهارة مما يلي الأرض من استبرق فما ظنك بظهائرها؟ ويجوز أن يكون ظائرها السندس . والتحقيق أنه لا يعلمها إلا الله كقوله { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم } [ السجدة : 17 ] { وجنى الجنتين } أي ثمرها { دان } قريب يناله القائم والقاعد والنائم . قال جار الله : { فيهن } أي في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى . وقيل : في الفرش أي عليها . وقيل : في الجنان لأن ذكر الجنتين يدل عليه ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات ، وهذا الوجه عندي أظهر وسيجيء بيانه بنوع آخر عن قريب . قال الفراء : الطمث الاقتضاض وهو النكاح بالتدمية و { قبلهم } أي قبل أصحاب الجنتين واللفظ يدل عليه . قال مقاتل : هن من حور الجنة . وقال الكلبي والشعبي : هن من نساء الدنيا أنشئن خلقاً آخر لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنسي ولا جني . قال في الكشاف : لم يطمث الإنسيات منهمن أحد من الإنس والجنيات أحد من الجن قلت : هذا التفصيل لعله لا حاجة إليه يعرف بأدنى تأمل . قال الزجاج : فيه دليل على أن الجن تطمث كما تطمث الإنس .
ثم ذكر أنهن في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ الصغار { هل جزاء الإحسان } في العمل { إلا الإحسان } في الجزاء . وخص ابن عباس فقال : هل جزاء من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله إلا الجنة . وحين فرغ من نعت جنتي المقربين شرع في وصف جنتين لأصحاب اليمين فقال { ومن دونهما } أي ومن أسفل منهما في المكان أو في الفضل أو فيهما وهو الأظهر . روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : « جنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما »

{ مدهامتان } هو من الأدهيمام إدهام يدهام فيهو مدهام نظير إسواد يسواد فهو مسواد في اللفظ وفي المعنى ، وذلك أن كل نبت أخضر فتمام خضرته من الري أن يضرب إلى السواد { نضاختان } فوارتان ، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضخ وهو الرش . قال ابن عباس : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور ، وإنما خص النخيل والرمان بالذكر بعد اندارجهما في الفاكهة لفضلهما وشرفهما ، فالنخل فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء كامل ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناً أو رطباًَ لم يحنث . وخالفه صاحباه ووافقهما الشافعي . والخيرات مخفف خيرات لأن الخير الذي هو بمعنى التفضيل لا يجمع جمع السلامة والمعنى أنهم فاضلات الأخلاق حسان الصور . واعلم أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور { فيهن } وفي سائر المواضع { فيهما } والسر فيه أن تمام اللذة عند اجتماع النسوان للرجل الواحد هو أن يكون لكل منهن مسكن على حدة فتباعد من مسكن الأخرى ، واسع بحيث يسع ما يليق بحاله أو بحالها من الجواري والغلمان وسائر الأسباب ، فيحصل هناك منتزهات كثيرة كل منها جنة ، وكأن في ضمير الجمع إشارة إلى ذلك . وأما العيون والفواكه فلم يكن شيء منها بهذه المثابة من كمال اللذة فأكتفي فهيا بعود الضمير إلى الجنتين فقط . والمقصورات اللواتي قصرن أي حبسن في خدورهن . امرأة مقصورة أي مخدرة . روى قتادة عن ابن عباس : الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون » وقال أهل المعاني : كنى عن الجماع في الدنيا بنحو قوله { من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] وذكر الجماع في الآخرة بلفظ يقرب من الصريح وهو الطمث فما الحكمة من ذلك؟ والجواب أن المباشرة في الدنيا قبيحة لما فيها من قضاء الشهوة وإسقاط القوى وهي في الآخرة بخلاف ذلك فإنها داعية روحانية ولذة حقيقية فلم يحتج إلى الكناية لأن الكنايات إنما تجري في الهنيئات . قال جار الله : { متكئين } نصب على الاختصاص . قلت : ويجوز أن يكون حالاً والعامل مضمير يدل عليه قوله { لم يطمثهن إنس قبلهم } أي يطمثونهم في حال الإتكاء . قال أبو عبيدة والضحاك ومقاتل والحسن : الرفرف ضرب من البسط . وقيل : كل ثوب عريض فهو رفرف . ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط رفارف . وقال الزجاج : الرفرف ههنا رياض الجنة . وقيل : الوسائد . قال جار الله { العبقري } منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد الجن فينسبون إليه كل شيء غريب عجيب . وعن أبي عبيدة : كل شيء من البسط عبقري وهو جمع واحدة عبقرية .

ومما يدل على أن صفات هاتين الجنتين تقاصرت عن الأوليين قوله { مدهامتان } فإنه دون قوله { ذواتا أفنان } وذلك أن كمال الخضرة لا يوجب كون البستان ذا فنن ونضاختان دون تجريان وفاكهة دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ . قال أهل العلم : كرر قوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إحدى وثلاثين مرة : ثمانية منهما ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه وذكر المبدأ والمعاد ، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة ، وثمانية بعدها عقيب وصف الجنات التي هي دونهما . فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة . ثم نزه نفسه عما لا يليق بجلاله وختم السورة عليه . والاسم مقحم كما بينا وفائدة هذا التوسيط سلوك سبيل الكناية كما يقال « ساحة فلان بريئة عن المثالب » والله أعلم بحقائق كلامه .

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

القراآت : { ينزفون } من باب الأفعال : عاصم وحمزة وخلف . الباقون : بفتح الزاء { حور عين } بجرهما : يزيد وعلي وحمزة { عرباً } بالسكون : حمزة وخلف ويحيى وحماد وإسماعيل { أئذا أئنا } كما في « الرعد » إلا ابن عامر فإنه تابع عاصماً ، وإلا يزيد فإنه تابع قالون { شرب } بضم الشين : أبو جعفر نافع وعاصم وحمزة وسهل . الباقون : بالفتح وكلاهما مصدر { قدرنا } بالتخفيف : ابن كثير { أئنا لمغرمون } بهمزتين : أبو بكر وحماد . الآخرون : بهمزة واحدة مكسورة على الخبر . { بموقع } على الوحدة : حمزة وعلي وخلف . { تكذبون } بالتخفيف : المفضل { فروح } بضم الراء : قتيبة ويعقوب .
الوقوف : { الواقعة } ه لا بناء على أن العامل في الظرف هو ليس ولو كان منصوباً بإضمار « أذكر » أو كان الجواب محذوفاً أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت صح الوقف { كاذبة } ه م لئلا يصير ما بعدها صفة { رافعة } ه لا لتعلق الظرف بخافضة أو لكونه بدلاً من الأول { رجاً } ه لا { بساً } ه { منبثاً } ه { ثلاثة } ه ط { ما أصحاب الميمنة } ه ط لتناهي استفهام التعجب { ما أصحاب المشأمة } ه ط { السابقون } ه لا بناء على أن { السابقون } تأكيد والجملة بعده خبر { المقربون } ه ج لاحتمال أن ما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هم { جنات النعيم } ه { الأولين } ه لا { الآخرين } ه لا { موضونة } ه لا { متقابلين } ه { مخلدون } ه لا { معين } ه لا { ولا ينزفون } ه لا { يتخيرون } ه لا { يشتهون } ه ط لمن قرأ { وحور عين } بالرفع { المكنون } ه ج { يعملون } ه { تأثيماً } ه لا { سلاماً } ه ط { وما أصحاب اليمين } ه ط { مخضود } ه لا { منضود } ه لا { ممدود } ه لا { مسكوب } ه لا { كثيرة } ه لا { ممنوعة } ه لا { مرفوعة } ه ط { إنشاء } ه لا { أبكاراً } ه لا { أتراباً } ه لا { اليمين } ه ط { الأولين } ه { الآخرين } ه ط { ما أصحاب الشمال } ه ط { وحميم } ه لا { يحموم } ه لا { ولا كريم } ه { مترفين } ه ج { العظيم } ه ج { لمبعوثون } ه لا { الأولون } ه { والآخرين } ه لا { معلوم } ه { المكذبون } ه لا { زقوم } ه لا { البطون } ه ج والوقف أجوز { الحميم } ه ج { الهيم } ه ط { الدين } ه { تصدقون } ه { تمنون } ه ط { الخالقون } ه { بمسبوقين } ه لا { تعلمون } ه { تذكرون } ه { تحرثون } ه ط { الزارعون } ه { تفكهون } ه { لمغرمون } ه لا { محرومون } ه { تشربون } ه { المنزلون } ه { تشكرون } ه { تورون } ه ط { المنشؤن } ه { للمقوين } ه ج { العظيم } ه { النجوم } ه لا { عظيم } ه لا { كريم } ه لا { مكنون } ه { المطهرون } ه ط { العالمين } ه { مدهنون } ه { تكذبون } ه { الحلقوم } ه لا { تنظرون } ه لا { تبصرون } ه { مدينين } ه لا { صادقين } ه { المقربين } ه لا { نعيم } ه { اليمين } ه لا { اليمين } ه لا { الظالين } ه لا { حميم } ه لا { جحيم } ه { اليقين } ه { ألعظيم } ه .

التفسير : { إذا وقعت الواقعة } نظير قولك حدثت الحادثة « وكانت الكائنة » وهي القيامة التي تقع لا محالة . يقال : وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله . واللام في { لوقعتها } للوقت أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله لأن الإيمان حينئذ بما هو غائب الآن ضروري إلا أنه غير نافع لأنه إيمان اليأس . ويجوز أن يراد ليس لها وقتئذ نفس تكذبها وتقول لها لم تكوني لأن إنكار المحسوس غير معقول . وجوز جار الله أن يكون من قولهم « كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم » إذا شجعته على مباشرته . وقالت له : إنك تطيقه . فيكون المراد أن القيامة واقعة لا تطاق شدة وفظاعة وأن الأنفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور . وقيل : هي مصدر كالعافية فيؤل المعنى إلى الأول . وقال في الكشاف : هو بمعنى التكذيب من قولهم « حمل على قرنه فما كذب » أي فما جبن وما تثبط ، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من طاقته له . والحال من هذا التوجيه أنها إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد { خافضة رافعة } أي هي تخفض أقواماً وترفع آخرين إما لأن الواقعات العظام تكون كذلك كما قال :
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايات ودولة آخرينا
وإما لإن للأشقياء الدركات وللسعداء الدرجات وإما لأن زلزلة الساعة تزيل الأشياء عن مقارها فتنثر الكواكب وتسير الجبال في الجو يؤيده قوله { إذا رجت الأرض } أي حركت تحريكاً عنيفاً حتى ينهدم كل بناء عليها { وبست الجبال بساً } أي فتتت حتى تعود كالسويق أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها { فكانت } أي صارت غباراً متفرقاً . ثم ذكر أحوال الناس يومئذ قائلاً { وكنتم } لفظ الماضي لتحقق الوقوع { أزواجاً } أي أصنافاً { ثلاثة } ثم فصلها فقال { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } وهو تعجب من شأنهم كقولك « زيد ما زيد » سموا بذلك لأنهم يؤتون صحائفهم بأيمانهم ، أو لأنهم آهل المنزلة السنية من قولهم « فلان مني باليمين » إذا وصفته بالرفعة عندك وذلك لتيمنهم بالميامن دون الشمائل وتبركهم بالسانح دون البارح ، ولعل اشتقاق اليمين من اليمن والشمال من الشؤم ، والسعداء ميامين على أنفسهم والأشقياء مشائيهم عليها . روي أهل الجنة يؤخذ بهم إلى جانب اليمين وأهل النار يؤخذ بهم في الشمال { والسابقون } عرف الخبر للمبالغة كقوله الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه من التوحيد والإخلاص والطاعة { هم السابقون } عرف الخبر للمبالغة كقوله « وشعري شعري » يريد والسابقون من عرف حالهم وبلغك وصفهم ، وعلى هذا يحسن الوقف { السابقون } { أولئك المقربون } إلى مقامات لا يكشف المقال عنها من الجمال والعارفون يقولون لهم إنهم أهل الله ، وفي لفظ السبق إشار إلى ذلك { في جنات النعيم } إخفاء حالهم وبيان محل إجسادهم أو هي الجنة الروحانية النورانية { ثلة من الأولين } أي جماعة كثيرة من لدن آدم إلى أول زمان نبينا صلى الله عليه وسلم .

قال أهل الاشتقاق : أصل الثلة من الثل وهو الكسر كما أن الأمة من الأم وهو الشج كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم ، ثم اشتق الإمام منه إذ به يحصل الأمة المقتدية به . { وقليل من الآخرين } أي من هذه الأمة . قال الزجاج : الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي صلى الله عليه وسلم وههنا سؤال وهو أنه كيف قال ههنا { وقليل من الآخرين } وفيما بعده قال { وثلة من الآخرين } والجواب أن الثلتين في آية أصحاب اليمين هما جميعاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . جواب آخر وهو أن يقال : الخطاب في قوله { وكنتم أزواجاً } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والأولون منهم هم الصحابة والتابعون كقوله { والسابقون الأولون } [ التوبة : 1 ] والآخرون منهم هم الذين يلونهم إلى يوم الدين ، ولا ريب أن السابقين يكونون في الأولين أكثر منهم في الآخرين . وأما أصحاب اليمين فيوجدون في كلا القبيلين كثيراً وعلى هذا يكون الترتيب المذكور ساقطاً ولا نسخ لإمكان اجتماع مضموني الخبرين في الواقع . قال الزجاج وهو قول مجاهد والضحاك يعني جماعة ممن تبع النبي صلى الله عليه وسلم وعاينه وجماعة ممن آمن به وكان بعده . وروى الواحدي في تفسيره بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « جميع الثلتين من أمتي » وأجاب بعضهم بأنه لما نزلت الآية الأولى شق على المسلمين فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } وزيفت هذه الرواية بظهور ورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين ، وبأن النسخ لا يتضح بل لا يصح في الأخبار ، وبأن الآية الأولى لا توجب الحزن ولكنها تقتضي الفرح من حيث إنه إذا كان السابقون في هذه الأمة موجودين وإن كانوا قليلين وقد صح أنه لا نبي بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم أن يكون بعض الأمة مع محمد صلى الله عليه وسلم سابقين فيكونون في درجة الأنبياء والرسل الماضين ، ولعل في قوله « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » إشارة إلى هذا . وأقول : عندي أن الجواب الصحيح هو أن السابقين في الأمم الماضية يجب أن يكونوا أكثر لأن فيض الله سبحانه المقدر للنوع الإنساني إذا وزع على أشخاص أقل يكون نصيب كل منهم أوفر مما لو قسم على أشخاص أكثر ، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة وعسى أن يكون هذا سبباً لخاتمة نبينا صلى الله عليه وسلم أما أصحاب اليمين وهم أهل الجنة كما قلنا فإنهم كثيرون من هذه الأمة لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحاً هذا ما سنح في الوقت والله تعالى أعلم بمراده .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32