كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

المجلد الأول
مقدمةمقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العامل العلامة المحدث أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي ثم القرطبي رضي الله عنه:
الحمد لله المبتدىء بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الصمد الواحد الحي القيوم الذي لا يموت ذو الجلال والإكرام والمواهب العظام والمتكلم بالقرآن والخالق للإنسان والمنعم عليه بالإيمان والمرسل رسوله بالبيان محمداً صلى الله عليه وسلم ما اختلف المَلَوان وتعاقب الجديدان أرسله بكتابه المبين الفارق بين الشك واليقين الذي أعجزت الفصحاء معارضته وأعيت الألباء مناقضته وأخرست البلغاء مشاكلته فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا جعل أمثاله عبرا لمن تدبرها وأوامره هدى لمن استبصرها وشرح فيه واجبات الأحكام وفرق فيه بين الحلال والحرام وكرر فيه المواعظ والقصص للأفهام وضرب فيه الأمثال وقص فيه غيب الأخبار فقال تعالى :{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . خاطب به أولياءه ففهموا وبين لهم فيه مراده فعلموا فقرأة القرآن حملة سر الله المكنون وحفظة علمه المخزون وخلفاء أنبيائه وأمناؤه وهم أهله وخاصته وخيرته وأصفياؤه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله أهلين منّا قالوا: يا رسول الله، مَن هم؟ قال: هم أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصّته" أخرجه ابن ماجه في سننه وأبو بكر البزار في مسنده فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه، ويتذكرّ

ما شرح له فيه ويخشى الله ويتقيه ويراقبه ويستحييه فإنه قد حمل أعباء الرسل وصار شهيدا في القيامة على من خالف من أهل الملل قال الله تعالى :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . ألا وأن الحجة على من علمه فأغفله أو كد منها على من قصر عنه وجهله ومن أوتى علم القرآن فلم ينتفع وزجرته نواهيه فلم يرتدع وارتكب من المآثم قبيحا ومن الجرائم فضوحا كان القرآن حجة عليه وخصما لديه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القرآن حجة لك أو عليك" خرّجه مسلم فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته ويتدبر حقائق عبارته ويتفهم عجائبه ويتبين غرائبه قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} . وقال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .جعلنا الله ممن يرعاه حق رعايته ويتدبره حق تدبره ويقوم بقسطه ويوفي بشرطه ولا يلتمس الهدى في غيره وهدانا لأعلامه الظاهرة وأحكامه القاطعة الباهرة وجمع لنا به خير الدنيا والآخرة فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة ثم جعل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان ما كان منه مجملا وتفسير ما كان منه مشكلا وتحقيق ما كان منه محتملا ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور الاختصاص به ومنزلة التفويض إليه قال الله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم استنباط ما نبه على معانيه وأشار إلى أصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه إلى علم المراد فيمتازوا بذلك عن غيرهم ويختصوا بثواب اجتهادهم قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . فصار الكتاب أصلا والسنة له بيانا واستنباط العلماء له إيضاحا وتبيانا فالحمد لله الذي جعل صدورنا أوعية كتابه وآذاننا موارد سنن نبيّه وهممنا مصروفة إلى تعلمهما والبحث عن معانيهما وغرائبهما طالبين بذلك رضا رب العالمين ومتدرجين به إلى علم الملة والدين. وبعد فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل به السنة والفرض ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ

فيه منتي بأن أكتب فيه تعليقا وجيزا يتضمن نكتا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات جامعا بين معانيهما ومبينا ما أشكل منهما بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف وعملته تذكرة لنفسي وذخيرة ليوم رمسي وعملا صالحا بعد موتي قال الله تعالى: { يُنَبَّأُ الأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} . وقال تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} . وقال رسول الله صلى وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا في ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" .
وشرطي في هذا الكتاب: إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها فإنه يقال من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله وكثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث فبقي من لا خبرة له بذلك حائرا لا يعرف الصحيح من السقيم ومعرفة ذلك على جسيم فلا يقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام والثقات المشاهير من علماء الإسلام ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب والله الموفق للصواب وأضرب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لابد منه ولا غنى عنه للتبيين واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها وترشد للطالب إلى مقتضاها فضمنت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه النزول والتفسير الغريب والحكم فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل هكذا إلى آخر الكتاب
وسميته بـ (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان) جعله الله خالصا لوجهه وأن ينفعني به ووالدي ومن أراده بمنه إنه سميع الدعاء قريب مجيب؛ آمين.

باب ذكر جمل من فضائل القرآن والترغيب فيه، وفضل طالبه وقارئه ومستعمله والعامل به
اعلم أن هذا الباب واسع كبير ألف فيه العلماء كتبا كثيرة نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه وعملوا به فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين غير مخلوق كلام من ليس كمثله شيء وصفة من ليس له شبيه ولا ند فهو من نور ذاته جل وعز وأن القراءة أصوات القراء ونغماتهم وهي أكسابهم التي يؤمرون بها في حال إيجابا في بعض العبادات وندبا في كثير من الأوقات ويزجرون عنها إذا اجتنبوا ويثابون عليها ويعاقبون على تركها وهذا مما اجمع عليه المسلمون أهل الحق ونطقت به الآثار ودل عليها المستفيض من الأخبار ولا يتعلق الثواب والعقاب إلا بما هو من أكساب العباد على ما يأتي بيانه ولولا أنه سبحانه جعل في قلوب عباده من القوة على حمله ما جعله ليتدبروه وليعتبروا به وليتذكروا ما فيه من طاعته وعبادته وأداء حقوقه وفرائضه لضعفت ولاندكت بثقله أو لتضعضعت له وأنى تطيقه وهو يقول : تعالى جده وقوله الحق: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . فأين قوة القلوب من قوة الجبال ولكن الله تعالى رزق عباده من القوة على حمله ما شاء أن يرزقهم فضلا منه ورحمة .
وأما ما جاء من الآثار في هذا الباب فأول ذلك ما خرجه الترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الرب تبارك وتعالى من شغله القرآن وذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين قال: وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" قال هذا حديث حسن غريب وروى أبو محمد الدارمي السمرقندي في مسنده عن عبدالله قال السبع الطول مثل التوراة والمئون مثل الإنجيل والمثاني مثل الزبور وسائر القرآن بعد فضل وأسند عن الحارث

عن علي رضي الله عنه وخرجه الترمذي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستكون فتن كقطع الليل المظلم قلت يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع منه العلماء ولا يمله الأتقياء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا من علم علمه سبق ومن قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم" خذها إليك يا أعور. الحارث رماه الشعبي بالكذب وليس بشيء ولم يبن من الحارث كذب وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره ومن ها هنا والله أعلم كذبه الشعبي لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر وإلى أنه أول من أسلم قال أبو عمر بن عبد البر وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني حثني الحارث وكان أحد الكذابين .
وأسند أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة من تمسك به ونجاة من اتبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشرة حسنات أما إني لا أقول آلم حرف ولا ألفين أحدكم واضعا إحدى رجليه يدع أن يقرأ سورة البقرة فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصفر البيوت من الخير البيت الصفر من كتاب الله" وقال أبو عبيدة في غريبه عن عبدالله قال إن هذا القرآن مأدبة

الله فمن دخل فيه فهو آمن قال وتأويل الحديث أنه مثل شبه القرآن بصنيع صنعه الله عز وجل للناس لهم فيه خير ومنافع ثم دعاهم إليه يقال مأدبة ومأدبة فمن قال مأدبة أراد الصنيع يصنعه الإنسان فيدعو إليه الناس ومن قال مأدبة فإنه يذهب به إلى الأدب يجعله مفعلة من الأدب ويحتج بحديثه الآخر: " إن هذا القرآن مأدبة الله عز وجل فتعلموا من مأدبته" . وكان الأحمر يجعلهما لغتين بمعنى واحد ولم أسمع أحد يقول هذا غيره قال: والتفسير الأول أعجب إليّ.
وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وروى مسلم عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر" وفي رواية" مثل الفاجر" بدل "المنافق" وقال البخاري :" مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة " وذكر الحديث.
وذكر أبو بكر الأنباري: وقد أخبرنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم ح وأنبأنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب أن أبا عبد الرحمن

السُّلَميّ كان إذا ختم عليه الخاتِمُ القرآن أجلسه بين يديه ووضع يده على رأسه وقال له يا هذا اتق الله فما أعرف أحدا خيرا منك إن عملت بالذي عملت وروى الدرامي عن وهب الذماري قال: ((من آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار وعمل بما فيه ومات على الطاعة بعثه الله يوم القيامة مع السفرة والأحكام)) قال سعيد: السفرة الملائكة والأحكام الأنبياء.
وروى مسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" . التتعتع التردد في الكلام عيا وصعوبة وإنما كان له أجران من حيث التلاوة ومن حيث المشقة ودرجات الماهر فوق ذلك كله لأنه قد كان القرآن متعتعا عليه ثم ترقى عن ذلك إلى أن شبه بالملائكة والله أعلم وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" . قال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وقد روي موقوفا وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة؛ فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم فقلنا يا رسول الله كلنا نحب ذلك؛ قال أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل" .
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه

في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
وروى أبو داود والنسائي والدارمي والترمذي عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة". قال الترمذي حديث حسن غريب وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجيء القرآن يوم القيامة فيقول يا رب حلة فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال له اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة" قال حديث صحيح وروى أبو داود عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه " .
وأسند أبو بكر الأنباري عن أبي أمامة الحمصي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعطي ثلث القرآن فقد أعطي ثلث النبوة ومن أعطي ثلثي القرآن فقد أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله فقد أعطي النبوة غير أنه لا يوحى إليه ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق فيقرأ آية ويصعد درجة حتى ينجز ما معه من القرآن ثم يقال له اقبض فيقبض ثم يقال له أتدري ما في يديك فإذا في يده اليمنى الخلد وفي اليسرى النعيم " .
حدثنا إدريس بن خلف حدثنا إسماعيل بن عياش عن تمام عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ ثلث القرآن وعمل به فقد أخذ أمر ثلث النبوة ومن أخذ

نصف القرآن وعمل به فقد أخذ أمر نصف النبوة ومن أخذ القرآن كله فقد أخذ النبوة كلها" . قال: وحدثنا محمد بن يحيى المروزي أنبأنا محمد وهو ابن سعدان حدثنا الحسين بن محمد عن حفص عن كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كل قد وجبت له النار" . وقالت أم الدرداء: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها: ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأه ممن دخل الجنة فقالت عائشة رضي الله عنها: إن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة فليس أحد دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن ذكره أبو محمد مكي. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب وذلك بأن الله تبارك وتعالى يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} . قال ابن عباس: فضمن الله لمن اتبع القرآن ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ذكره مكي أيضا. وقال الليث : يقال ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن لقول الله جل ذكره: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . و {لَعَلّ} من الله واجبة.
وفي ((مسند أبي داود الطيالسيّ)) ـ وهو أوّل مُسْنَد ألِّفَ في الإسلام ـ عن عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" . والآثار في معنى هذا الباب كثيرة وفيما ذكرنا كفاية والله الموفق للهداية.

باب كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها وما يحرم،واختلاف الناس في ذلك
روى البُخَاري عن قتادة قال: سألت أنَساً عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " كان يمَُدّ مَدّاً [إذا] قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يمدّ بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم. وروى الترمذيّ عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَِّطع قراءته يقول: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف وكان يقرؤها {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: حديث غريب وأخرجه أبو داود بنحوه .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحسن الناس صوتا من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى" . وروي عن زياد النميري أنه جاء مع القراء إلى أنس بن مالك فقيل له: اقرأ فرفع صوته وطرب، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء فقال: يا هذا، ما هكذا كانوا يفعلون! وكان إذا رأى شيئا ينكره كشف الخرقة عن وجهه. وروي عن قيس بن عباد أنه قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الذكر. وممن روى عنه كراهة رفع الصوت عند قراءة القرآن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين والنخعي وغيرهم، وكرهه مالك بن أنس وأحمد بن حنبل؛ كلهم كره رفع الصوت بالقرآن والتطريب فيه. روى عن سعيد بن المسيب أنه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب في قراءته؛ فأرسل إليه سعيد يقول: أصلحك الله! إن الأئمة لا تقرأ هكذا فترك عمر التطريب بعد. وروي عن القاسم بن محمد أن رجلاً قرأ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فطرب فأنكر ذلك القاسم وقال يقول الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} الآية .
وروي عن مالك أنه سئل عن النبر في قراءة القرآن في الصلاة؛ فأنكر ذلك وكرهه كراهة شديدة، وأنكر رفع الصوت به. وروى ابن القاسم عنه أنه سئل عن الألحان في الصلاة

فقال: لا يعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم. وأجازت طائفة رفع الصوت بالقرآن والتطريب به؛ وذلك لأنه إذا حَسّن الصوتَ به كان أوقع في النفوس وأسمع في القلوب، واحتجوا بقوله عليه السلام: "زينوا القرآن بأصواتكم" رواه البراء بن عازب أخرجه أبو داود والنسائي. وبقوله عليه السلام: " ليس منّا من لم يتغن بالقرآن" أخرجه مسلم. وبقول أبي موسى للنبي صلى الله عليه وسلم: "لو أعلم أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرا" وبما رواه عبد الله بن مغفل قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته" وممن ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وابن المبارك والنضر بن شُميل، وهو اختيار أبي جعفر الطبري وأبي الحسن بن بطال والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم .
قلت: القول الأول أصح لما ذكرناه ويأتي. وأما ما احتجوا به من الحديث الأوّل فليس على ظاهره، وإنما هو باب المقلوب؛ أي زينوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطابي: وكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث: زينوا أصواتكم بالقرآن؛ وقالوا هو من باب المقلوب؛ كما قالوا: عرضت الحوض على الناقة، وإنما هو عرضت الناقة على الحوض. قال: ورواه معمر عن منصور عن طلحة؛ فقدم الأصوات على القرآن، وهو الصحيح .
قال الخطابي: ورواه طلحة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم" . أي الهجوا بقراءته واشغلوا به أصواتكم واتخذوه شعارا وزينة؛ وقيل: معناه الحض على قراءة القرآن والدؤوب عليه. وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "زينوا أصواتكم بالقرآن" . وروي عن عمر أنه قال: ((حسنوا أصواتكم بالقرآن)) .
قلت: وإلى هذا المعنى يرجع قوله عليه السلام: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" أي ليس منا من لم يحسن صوته بالقرآن؛ كذلك تأوله عبدالله بن أبي مليكة قال عبد الجبار ابن الورد: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال عبدالله بن أبي يزيد: مر بنا أبو لبابة فاتبعناه

حتى دخل بيته، فإذا رجل رث الهيئة، فسمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" . قال فقلت لابن أبي ملكية: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع. ذكره أبو داود، وإليه يرجع أيضا قول أبي موسى للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحسنت صوتي بالقرآن وزينته ورتلته)). وهذا يدل على أنه كان يهذ في قراءته مع حسن الصوت الذي جبل عليه. والتحبير: التزيين والتحسين؛ فلو علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه لمد في قراءته ورتلها؛ كما كان يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون ذلك زيادة في حسن صورته بالقراءة ومعاذ الله أن يتأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: إن القرآن يزين بالأصوات أو بغيرها فمن تأول هذا فقد وقع أمرا عظيما أن يحوج القرآن إلى من يزينه، وهو النور والضياء والزين الأعلى لمن ألبس بهجته واستنار بضيائه. وقد قيل: إن الأمر بالتزيين اكتساب القراءات وتزيينها بأصواتنا وتقدير ذلك، أي زينوا القراءة بأصواتكم؛ فيكون القرآن بمعنى القراءة، كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي قراءة الفجر وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي قراءته وكما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: ((إن البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام ويوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا)). أي قراءة وقال الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة. فيكون معناه على هذا التأويل صحيحا إلا أن يخرج القراءة التي هي التلاوة عن حدها على ما نبينه فيمتنع وقد قيل إن معنى يتغنى به يستغنى به من الاستغناء الذي هو ضد الافتقار لا من الغناء يقال تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت وفي ((الصحاح)): تغنى

الرجل بمعنى استغنى وأغناه الله وتغانوا أي استغنى بعضهم عن بعض قال المغيرة بن حبناء التميمي :
كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
وإلى هذا التأويل ذهب سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ورواه سفيان عن سعد بن أبي وقاص. وقد روي عن سفيان أيضا وجه آخر ذكره إسحاق بن راهوية أي يستغني به عما سواه من الأحاديث وإلى هذا التأويل ذهب البخاري محمد بن إسماعيل لإتباعه الترجمة بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} والمراد الاستغناء بالقرآن عن علم أخبار الأمم؛ قاله أهل التأويل وقيل: إن معنى يتغنى به يتحزن به؛ أي يظهر على قارئه الحزن الذي هو ضد السرور عند قرائته وتلاوته وليس من الغنية لأنه لو كان من الغنية لقال يتغانى به ولم يقل يتغنى به ذهب إلى هذا جماعة من العلماء منهم الأمام أبو محمد ابن حبان البستي واحتجوا بما رواه مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء". الأزيز (بزايين): صوت الرعد وغليان القدر قالوا: ففي هذا الخبر بيان واضح على أن المراد بالحديث التحزن وعضدوا هذا أيضا بما رواه الأئمة عن عبدالله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي فقرأت عليه سورة النساء" حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان فهذه أربع تأويلات ليس فيها ما يدل على القراءة بالألحان والترجيع فيها وقال أبو سعيد بن الأعرابي في قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" . قال كانت العرب تولع بالغناء والنشيد في أكثر أقوالها فلما نزل القرآن أحبوا أن يكون القرآن هجيراهم مكان الغناء فقال: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" .
التأويل الخامس ـ ما تأوّله من استدل به على الترجيع والتطريب فذكر عمر بن شبة قال: ذكرت لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله ((يتغنى)) يستغنى فقال:

لم يصنع ابن عيينة شيئا. وسئل الشافعي عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغناء لقال: من لم يستغن ولكن لما قال: ((يتغن)) علمنا انه أراد التغني. قال الطبري: المعروف عندنا في ((كلام العرب)) أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع. وقال الشاعر:
تغن بالشعر مهما كنت قائله ... إن الغناء بهذا الشعر مضمار
قال: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فليس في ((كلام العرب وأشعارها)) ولا نعلم أحدا من أهل العلم قاله وأما احتجاجه بقول الأعشى:
وكنت امرا زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغن
وزعم أنه أراد الاستغناء فإنه غلط منه وإنما عنى الأعشى في هذا الموضع الإقامة من قول العرب غني فلان بمكان كذا أي أقام ومنه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وأما استشهاده بقوله:
ونحن إذا متنا أشد تغانيا
فإنه إغفال منه وذلك أن التغاني تفاعل من نفسين إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه كما يقال: تضارب الرجلان إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه. ومن قال هذا في فعل الاثنين لم يجز أن يقول مثله في الواحد فغير جائز أن يقال: تغانى زيد وتضارب عمرو وكذا غير جائز أن يقال: تغنى بمعنى استغنى. قلت: ما ادعاه الطبري من أنه لم يرد في ((كلام العرب)) تغنى بمعنى استغنى فقد ذكره الجوهري كما ذكرنا وذكره الهروي أيضا. وأما قوله: إن صيغة فاعل إنما تكون من اثنين فقد جاءت من واحد في مواضع كثيرة منها قول ابن عمر: ((وأنا يومئذ قد نازهت الاحتلام)) وتقول العرب: طارقت النعل وعاقبت اللص وداويت العليل وهو كثير فيكون تغانى منها. وإذا احتمل قوله عليه الصلاة والسلام: "يتغن" الغناء والاستغناء فليس حمله على أحدهما بأولى من الآخر بل حمله على الاستغناء أولى لو لم يكن لنا تأويل غيره لأنه مروي عن

صحابي كبير كما ذكر سفيان وقد قال ابن وهب في حق سفيان: ما رأيت أعلم بتأويل الأحاديث من سفيان بن عيينة ومعلوم أنه رأى الشافعي وعاصره وتأويل سادس وهو ما جاء من الزيادة في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به" . قال الطبري: ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى قلنا قوله يجهر به لا يخلو أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة أو غيره فإن كان الأول وفيه بعد فهو دليل على عدم التطريب والترجيع لأنه لم يقل يطرب به وإنما قال يجهر به أي يسمع نفسه ومن يليه بدليل قوله عليه السلام للذي سمعه وقد رفع صوته بالتهليل: " أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا" الحديث وسيأتي وكذلك إن كان من صحابي أو غيره فلا حجة فيه على ما راموه وقد اختار هذا التأويل بعض علمائنا فقال: وهذا أشبه لأن العرب تسمي كل من رفع صوته ووالي به غانيا وفعله ذلك غناء وإن لم يلحنه بتلحين الغناء قال وعلى هذا فسره الصحابي وهو أعلم بالمقال وأقعد بالحال وقد احتج أبو الحسن بن بطال لمذهب الشافعي فقال وقد رفع الإشكال في هذه المسألة ما رواه ابن أبي شيبة قال حدثنا زيد بن الحباب قال حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى عليه وسلم: " تعلموا القرآن وغنوا به واكتبوه فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من المخاض من العقل" . قال علماؤنا: وهذا الحديث وإن صح سنده فيرده ما يعلم على القطع والبتات من أن قراءة القرآن بلغتنا متواترة عن كافة المشايخ جيلا فجيلا إلى العصر الكريم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيها تلحين

ولا تطريب مع كثرة المتعمقين في مخارج الحروف وفي المد والإدغام والإظهار وغير ذلك من كيفية القراءات ثم إن في الترجيع والتطريب همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بمدود فترجع الألف الواحدة ألفات والواو الواحدة واوات والشبهة الواحدة شبهات فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن وذلك ممنوع وإن وافق ذلك موضع نبر وهمز صيروها نبرات وهمزات والنبرة حيثما وقعت من الحروف فإنما هي همزة واحدة لا غير إما ممدودة وإما مقصورة فإن قيل فقد روى عبدالله بن مغفل قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته". وذكره البخاري وقال: في صفة الترجيع آء آء آء ثلاث مرات.
قلنا ذلك محمول على إشباع المد في موضعه ويحتمل أن يكون حكاية صوته عند هز الراحلة كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبا من انضغاط صوته وتقطيعه لأجل هز المركوب وإذا احتمل هذا فلا حجة فيه وقد خرج أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال: "كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المد ليس فيها ترجيع" . وروى ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الأذان سهل سمح فإذا كان أذانك سمحا سهلا وإلا فلا تؤذن" أخرجه الدار قطني في سننه. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد منع ذلك في الأذان فأحرى ألا يجوزه في القرآن الذي حفظه الرحمن فقال وقوله الحق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
قلت: وهذا الخلاف إنما هو ما لم يفهم معنى القرآن بترديد الأصوات وكثرة الترجيعات فإن زاد الأمر على ذلك حتى لا يفهم معناه فذلك حرام باتفاق كما يفعل القرآء بالديار المصرية الذين يقرءون أمام الملوك والجنائز ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز؛ ضل سعيهم وخاب

عملهم فيستحلون بذلك تغيير كتاب الله ويهونون على أنفسهم الاجتراء على الله بأن يزيدوا في تنزيله ما ليس فيه جهلا بدينهم ومروقا عن سنة نبيهم ورفضا لسير الصالحين فيه من سلفهم ونزوعا إلى ما يزين لهم الشيطان من أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فهم في غيهم يترددون وبكتاب الله يتلاعبون فإنا لله وإنا إليه راجعون لكن قد اخبر الصادق أن ذلك يكون فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
ذكر الإمام الحافظ أبو الحسين رزين وأبو عبدالله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم" . اللحون جمع لحن وهو التطريب وترجيع الصوت وتحسينه بالقراءة والشعر والغناء.
قال علماؤنا: ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرءون بها ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والترجيع في القراءة ترديد الحروف كقراءة النصارى والترتيل في القراءة هو التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثغر المرتل وهو المشبه بنور الأقحوان وهو المطلوب في قراءة القرآن قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} . وسئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله عليه وسلم وصلاته فقالت: ما لكم وصلاته! ((كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح)) ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا. أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.
باب تحذير أهل القرآن والعلم من الرياء وغيره
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . روى مسلم عن أبي هريرة

قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قاريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار" . وقال الترمذي في هذا الحديث: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: " يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" أبو هريرة اسمه عبد لله وقيل: عبد الرحمن وقال: كنيت أبا هريرة لأني حملت هرة في كمي فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذه قلت هرة فقال: يا أبا هريرة" قال ابن عبد البر وهذا الحديث فيمن لم يرد بعمله وعلمه وجه الله تعالى وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من طلب العلم لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار" .
وخرج ابن المبارك في رقائقه عن العباس بن عبد المطلب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى يخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرءون القرآن فإذا قرءوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا ثم التفت إلى أصحابه فقال هل ترون في أولئكم من خير قالوا لا قال أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار" .وروي أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها" . قال الترمذي: حديث

حسن وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا يا رسول الله وما جب الحزن؟ قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم مائة مرة قيل يا رسول الله ومن يدخله قال القراء المراءون بأعمالهم" . قال هذا حديث غريب وفي كتاب أسد بن موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن في جهنم لواديا إن جهنم لتتعوذ من شر ذلك الوادي كل يوم سبع مرات وإن في ذلك الوادي لجبا إن جهنم وذلك الوادي ليتعوذان بالله من شر ذلك الجب وإن في الجب لحية وإن جهنم والوادي والجب ليتعوذون بالله من شر تلك الحية سبع مرات أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن الذين يعصون الله" . فيجب على حامل القرآن وطالب العلم أن يتقي الله في نفسه ويخلص العمل لله فإن كان تقدم له شيء مما يكره فليبادر التوبة والإنابة وليبتدئ الإخلاص في الطلب وعمله فالذي يلزم حامل القرآن من التحفظ أكثر مما يلزم غيره كما أن له من الأجر ما ليس لغيره روى الترمذي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل الله في بعض الكتب _ أو أوحى _ إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون للناس مسوك الكباش وقلوبهم كقلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر إياي يخادعون وبي يستهزئون لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران" .
وخرج الطبري في كتاب ((آداب النفوس)) حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا المحاربي عن عمرو بن عامر البجلي عن ابن صدقة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو من حدثه قال قال رسول الله صلى عليه وسلم: " لاتخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر" قالوا يا رسول الله وكيف يخادع الله قال: " تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره واتقوا الرياء فإنه الشرك وإن المرائي يدعى يوم القيامة على رءوس الأشهاد بأربعة أسماء ينسب إليها يا كافر يا خاسر ياغادر يا فاجر ضل عملك وبطل

أجرك فلا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع". وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم الكبير وتتخذ سنة مبتدعة يجري عليها الناس فإذا غير منها شيء قيل قد غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم وكثر أمراؤكم وقل أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين وقال سفيان بن عيينة بلغنا عن ابن عباس أنه قال: ((لو أن حملة القرآن أخذوه بحقه وما ينبغي لأحبهم الله ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله وهانوا على الناس)) وروي عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} قال: قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى.
باب ما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به ولا يغفل عنه
فأول ذلك أن يخلص في طلبه لله عز وجل كما ذكرنا وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن في ليله ونهاره في الصلاة أو في غير الصلاة لئلا ينساه روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه" . وينبغي له أن يكون لله حامدا ولنعمه شاكرا وله ذاكرا وعليه متوكلا وبه مستعينا وإليه راغبا وبه معتصما وللموت ذاكرا وله مستعدا وينبغي له أن يكون خائفا من ذنبه راجيا عفو ربه ويكون الخوف في صحته أغلب عليه إذ لا يعلم بما يختم له ويكون الرجاء عند حضور أجله أقوى في نفسه لحسن الظن بالله قال رسول الله صلى عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن". أي أنه يرحمه ويغفر له. وينبغي له أن يكون عالما بأهل زمانه متحفظا من سلطانه ساعيا في خلاص نفسه ونجاة مهجته مقدما بين يديه ما يقدر عليه من عرض دنياه مجاهدا لنفسه في ذلك ما استطاع وينبغي له أن يكون أهم أموره عنده الورع في دينه واستعمال تقوى الله ومراقبته فيما أمره به ونهاه عنه.

وقال ابن مسعود: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مستيقظون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخضوعه إذا الناس يختالون وبحزنه إذا الناس يفرحون. وقال عبدالله بن عمرو: لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض ولا يجهل مع من يجهل ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن لأن في جوفه كلام الله تعالى وينبغي له أن يأخذ نفسه بالتصاون عن طرق الشبهات ويقل الضحك والكلام في مجالس القرآن وغيرها بما لا فائدة فيه ويأخذ نفسه بالحلم والوقار وينبغي له أن يتواضع للفقراء ويتجنب التكبر والإعجاب ويتجافى عن الدنيا وأبنائها إن خاف على نفسه الفتنة ويترك الجدال والمراء ويأخذ نفسه بالرفق والأدب وينبغي له أن يكون ممن يؤمن شره ويرجى خيره ويسلم من ضره وألا يسمع ممن نم عنده ويصاحب من يعاونه على الخير ويدله على الصدق ومكارم الأخلاق ويزينه ولا يشينه وينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده وما فرض عليه فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو فما أقبح لحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب وهو لا يفهم ما يتلو فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟ وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلو ولا يدريه فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا وينبغي لهو أن يعرف المكي من المدني ليفرق بذلك بين ماخاطب الله به عباده في أول الإسلام وما ندبهم إليه في آخر الإسلام وما افترض الله في أول الإسلام وما زاد عليه من الفرائض في آخره فالمدني هو محمود للمكي في أكثر القرآن ولا يمكن أن ينسخ المكي المدني لأن المنسوخ هو المتقدم في النزول قبل محمود له ومن كماله أن يعرف الإعراب والغريب فذلك مما يسهل عليه معرفة ما يقرأ ويزيل عنه الشك فيما يتلو. وقد قال أبو جعفر الطبري سمعت الجرمي يقول: أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه قال محمد بن يزيد وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفسير ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا وقد قال الضحاك في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} قال: حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها.
وذكر ابن أبي الحواري قال: أتينا فضيل بن عياض سنة خمس وثمانين ومائة ونحن جماعة فوقفنا على الباب فلم يأذن لنا بالدخول فقال بعض القوم إن كان خارجا لشيء فسيخرج لتلاوة القرآن فأمرنا قارئا فقرأ فاطلع علينا من كوة؛ فقلنا: السلام عليك ورحمة الله؛ فقال وعليكم السلام؛ فقلنا كيف أنت يا أبا علي وكيف حالك؟ فقال: أنا من الله في عافية ومنكم في أذى وإن ما أنتم فيه حدث في الإسلام فإنا لله وإنا إليه راجعون ما هكذا كنا نطلب العلم ولكنا كنا نأتي المشيخة فلا نرى أنفسنا أهلا للجلوس معهم فنجلس فإذا مر الحديث سألناهم إعادته وقيدناه وأنتم تطلبون العلم بالجهل وقد ضيعتم كتاب الله ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون قال قلنا قد تعلمنا القرآن قال إن في تعلمكم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم قلنا كيف يا أبا علي قال لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمه من متشابهه وناسخه من منسوخه إذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
قلت: فإذا حصلت هذه المراتب لقاريء القرآن كان ماهرا بالقرآن وعالما بالفرقان وهو قريب على من قربه عليه ولا ينتفع بشيء مما ذكرنا حتى يخلص النية فيه لله جل ذكره عند طلبه أو بعد طلبه كما تقدم فقد يبتديء الطالب للعلم يريد به المباهاة والشرف في الدنيا فلا يزال به فهم العلم حتى يتبين أنه على خطأ في اعتقاده فيتوب من ذلك ويخلص النية لله تعالى فينتفع بذلك ويحسن حاله. قال الحسن: كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة وقاله سفيان الثوري وقال حبيب بن أبي ثابت: طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد .

باب ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه، وثواب من قرأ القرآن مُعْربا
قال أبو بكر بن الأنباري: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم رضوان الله عليهم - من تفضيل إعراب القرآن والحض على تعليمه وذم اللحن وكراهيته - ما وجب به على قراء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه.
من ذلك ما حدثنا يحيى بن سليمان الضبي قال حدثنا محمد: - يعني ابن سعيد - قال حدثنا أبو معاوية عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه" . حدثني أبي قال حدثنا إبراهيم بن الهيثم قال حدثنا آدم يعني ابن أبي إياس قال حدنا أبو الطيب المرزوي قال حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن فلم يعربه وكل به ملك يكتب له كما أنزل بكل حرف عشر حسنات فإن أعرب بعضه وكل به ملكان يكتبان له بكل حرف عشرين حسنة فإن أعربه وكل به أربعة أملاك يكتبون له بكل حرف سبعين حسنة" وروى جويبر عن الضحاك قال قال عبدالله بن مسعود: جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات وأعربوه فإنه عربي والله يحب أن يعرب به. وعن مجاهد عن ابن عمر قال: أعربوا القرآن. وعن محمد بن عبد الرحمن بن زيد قال قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: لبعض إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ حروفه. وعن الشعبي قال قال عمر رحمه الله: من قرأ القرآن فأعربه كان له عند الله أجر شهيد. وقال مكحول: بلغني أن من قرأ بإعراب كان له من الأجر ضعفان ممن قرأ بغير إعراب. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي" . وروى سفيان عن أبي حمزة قال: قيل للحسن في قوم يتعلمون العربية قال أحسنوا يتعلمون لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم وقيل للحسن: إن لنا إماما يلحن قال: أخروه.

وعن ابن أبي ملكية قال: قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من يقرئني مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: فأقرأه رجل براءة فقال إن الله بريء من المشركين ورسوله بالجر فقال الأعرابي أو قد برئ الله من رسوله فإن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني فأقرأني هذا سورة براءة فقال إن الله بريء من المشركين ورسوله فقلت أو قد بريء الله من رسوله إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي قال فكيف هي يا أمير المؤمنين قال {إن الله بريء من المشرِكين ورسولُه} فقال الأعرابي وأنا والله أبرأ مما بريء الله ورسوله منه فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يقريء الناس إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
وعن علي بن الجعد قال سمعت شعبة يقول: مثل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية مثل الحمار عليه مخلاة لا علف فيها وقال حماد بن سلمة من طلب الحديث ولم يتعلم النحو - أو قال العربية - فهو كمثل الحمار تعلق عليه مخلاة ليس فيها شعير قال ابن عطية: إعراب القرآن أصل في الشريعة لأن بذلك تقوم معانيه التي هي في الشرع .
قال ابن الأنباري: وجاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم رضوان الله عليهم من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله باللغة والشعر ما بين صحة مذهب النحويين في ذلك وأوضح فساد مذهب من أنكر ذلك عليهم من ذلك ما حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك البزاز قال حدثنا ابن أبي مريم قال أنبأنا ابن فروخ قال أخبرني أسامة قال أخبرني عكرمة ابن عباس قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب وحدثنا إدريس بن عبد الكريم قال حدثنا خلف قال حدثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد بن جدعان قال سمعت سعيد بن جبير ويوسف بن مهران يقولان: سمعنا ابن عباس يسأل عن الشيء بالقرآن فيقول فيه هكذا وهكذا أما سمعتم الشاعر يقول كذا وكذا وعن عكرمة

عن ابن عباس وسأله رجل عن قول الله جلّ وعزّ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال: لا تلبس ثيابك على غدر؛ وتمثل بقول غيلان الثقفيّ:
فإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من سوءة أتقنع
وسال رجل عكرمة عن الزنيم قال: هو ولد الزنى؛ وتمثل ببيت شعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغيّ الأم ذو حسب لئيم
وعنه أيضا الزنيم: الدعي الفاحش اللئيم ثم قال:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وعنه في قوله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} قال: ذواتا ظل وأغصان الم تسمع إلى قول الشاعر:
ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما
تدعو أبا فرخين صادف طائرا ... ذا مخلبين من الصقور قطاما
وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قال: الأرض قاله ابن عباس وقال أمية بن أبي الصلت: (عندهم لحم بحر ولحم ساهرة) قال ابن الأنباري والرواة يروون هذا البيت:
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم
وقال نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قول الله جل وعز: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ما السنة؟ قال: النعاس؛ قال زهير بن أبي سلمى:
لا سنة في طوال الليل تأخذه ... ولا ينام ولا في أمره فند

باب ما جاء في فضل تفسير القرآن وأهله
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين فمن ذلك: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذكر جابر بن عبدالله ووصفه بالعلم فقال له رجل: جعلت فداءك! تصف جابرا بالعلم وأنت أنت! فقال: إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . وقال مجاهد: أحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل. وقال الحسن: والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيما أنزلت وما يعني بها. وقال الشعبي: رحل المسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها. وقال عكرمة: في قوله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} طلبت اسم هذا الرجل الذي خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله أربع عشرة سنة حتى وجدته. وقال ابن عبد البر: هو ضمرة بن حبيب وسيأتي. وقال ابن عباس: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته فسألته فقال هي حفصة وعائشة. وقال إياس بن معاوية: مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما في الكتاب.
باب ما جاء في حامل القرآن ومن هو وفيمن عاداه
قال أبو عمر: روى من وجوه فيها لين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة الإمام المقسط وذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه" وقال أبو عمر: وحملة القرآن هم العالمون بأحكامه وحلاله وحرامه والعاملون بما فيه وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القرآن أفضل من كل شيء فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن استخف بالقرآن استخف بحق الله تعالى حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله المعظمون كلام الله الملبسون نور الله فمن والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد استخف بحق الله تعالى" .

باب ما يلزم قارىء القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته
قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في (نوادر الأصول): فمن حرمة القرآن ألا يمسه إلا طاهرا ومن حرمته أن يقرأه وهو على طهارة ومن حرمته أن يستاك ويتحلل فيطيب فاه إذ هو طريقه. قال يزيد بن أبي مالك: إن أفواهكم طرق من طرق القرآن فطهروها ونظفوها ما استطعتم ومن حرمته أن يتلبس كما يتلبس للدخول على الأمير لأنه مناج ومن حرمته أن يستقبل القبلة لقراءته. -وكان أبو العالية إذا قرأ اعتم ولبس وارتدى واستقبل القبلة- ومن حرمته أن يتمضمض كلما تنخع. روى شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس: أنه كان يكون بين يديه تور إذا تنخع مضمض ثم أخذ في الذكر وكان كلما تنخع مضمض ومن حرمته إذا تثاءب أن يمسك عن القراءة لأنه إذا قرأ فهو مخاطب ربه ومناج والتثاؤب من الشيطان. قال مجاهد: إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القرآن تعظيما حتى يذهب تثاؤبك. وقاله عكرمة. يريد أن في ذلك الفعل إجلالا للقرآن ومن حرمته أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إن كان ابتدأ قراءته من أول السورة أو من حيث بلغ ومن حرمته إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميين من غير ضرورة ومن حرمته أن يخلو بقراءته حتى لا يقطع عليه أحد بكلام فيخلطه بجوابه لأنه إذا فعل ذلك زال عنه سلطان الاستعاذة الذي استعاذ في البدء ومن حرمته أن يقرأه على تؤدة وترسيل وترتيل ومن حرمته أن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به ومن حرمته أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى ويسأله من فضله وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه ومن حرمته أن يقف على أمثاله فيمتثلها ومن حرمته أن يلتمس غرائبه ومن حرمته أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماما فإن له بكل حرف عشر حسنات ومن حرمته إذا انتهت قراءته أن يصدق ربه ويشهد بالبلاغ

لرسوله صلى الله عليه وسلم ويشهد على ذلك أنه حق فيقول: صدقت ربنا وبلغت رسلك ونحن على ذلك من الشاهدين اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط ثم يدعو بدعوات ومن حرمته إذا قرأه ألا يلتقط الآي من كل سورة فيقرأها فإنه روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه مر ببلال وهو يقرأ من كل سورة شيئا فأمره أن يقرأ السورة كلها" أو كما قال عليه السلام. ومن حرمته إذا وضع المصحف ألا يتركه منشورا وألا يضع فوقه شيئا من الكتب حتى يكون أبدا عاليا لسائر الكتب علما كان أو غيره. ومن حرمته أن يضعه في حجره إذا قرأه أو على شيء بين يديه ولا يضعه بالأرض. ومن حرمته ألا يمحوه من اللوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء. ومن حرمته إذا غسله بالماء أن يتوقى النجاسات من المواضع والمواقع التي توطأ فإن لتلك الغسالة حرمة وكان من قبلنا من السلف منهم من يستشفي بغسالته. ومن حرمته ألا يتخذ الصحيفة إذا بليت ودرست وقاية للكتب فإن ذلك جفاء عظيم ولكن يمحوها بالماء. ومن حرمته ألا يخلى يوما من أيامه من النظر في المصحف مرة وكان أبو موسى يقول: إني لأستحي ألا أنظر كل يوم في عهد ربي مرة. ومن حرمته أن يعطي عينيه حظهما منه فإن العين تؤدي إلى النفس وبين النفس والصدر حجاب والقرآن في الصدر فإذا قرأه عن ظهر قلب فإنما يسمع أذنه فتؤدي إلى النفس فإذا نظر في الخط كانت العين والأذن قد اشتركتا في الأداء وذلك أوفر للأداء وكان قد أخذت العين حظها كالأذن. روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطوا أعينكم حظها من العبادة قالوا: يا رسول الله وما حظها من العبادة؟ قال النظر في المصحف والتفكير فيه والاعتبار عند عجائبه" . وروى مكحول عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن نظرا" . ومن حرمته ألا يتأوله عندما يعرض له شيء من أمر الدنيا حدثنا عمرو بن زياد الحنظلي قال حدثنا هشيم بن بشير عن المغيرة عن إبراهيم قال: كان يكره أن يتأول شيء من القرآن عندما يعرض له شيء من أمر الدنيا والتأويل مثل قولك للرجل إذا جاءك جئت على قدر

يا موسى؛ ومثل قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} هذا عند حضور الطعام وأشباه هذا. ومن حرمته ألا يقال: سورة كذا؛ كقولك: سورة النحل وسورة البقرة وسورة النساء ولكن يقال: السورة التي يذكر فيها كذا.
قلت: هذا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: " الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه" خرجه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود. - ومن حرمته ألا يتلى منكوسا كفعل معلمي الصبيان يلتمس أحدهم بذلك أن يرى الحذق من نفسه والمهارة فإن تلك مخالفة. ومن حرمته ألا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعين والمتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلفا فإن ذلك محدث ألقاه إليهم الشيطان فقبلوه عنه. ومن حرمته ألا يقرأه بألحان الغناء كلحون أهل الفسق ولا بترجيع النصارى ولا نوح الرهبانية فإن ذلك كله زيغ وقد تقدم. ومن حرمته أن يجلل تخطيطه إذا خطه. وعن أبي حكيمة أنه كان يكتب المصاحف بالكوفة فمر علي رضي الله عنه فنظر إلى كتابته فقال له: أجل قلمك؛ فأخذت القلم فقططته من طرفه قطا ثم كتبت وعلي رضي الله عنه قائم ينظر إلى كتابتي؛ فقال هكذا نوره كما نوره الله عز وجل. ومن حرمته ألا يجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد عليه حتى يبغض إليه ما يسمع ويكون كهيئة المغالبة. ومن حرمته ألا يماري ولا يجادل فيه في القراءات ولا يقول لصاحبه: ليس هكذا هو ولعله أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة من القرآن فيكون قد جحد كتاب الله. ومن حرمته ألا يقرأ في الأسواق ولا في مواطن اللغط واللغو ومجمع السفهاء ألا ترى أن الله تعالى ذكر عباد الرحمن وأثنى عليهم بأنهم {إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} هذا لمروره بنفسه فكيف إذا مر بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو ومجمع السفهاء. ومن حرمته ألا يتوسد المصحف ولا يعتمد عليه ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله. ومن حرمته ألا يصغر المصحف؛ روى الأعمش عن إبراهيم عن علي رضي الله عنه قال: لا يصغر المصحف.
قلت: وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رأى مصحفا صغيرا في يد رجل فقال: من كتبه؟ قال أ نا فضربه بالدرة وقال: عظموا القرآن وروي عن رسول

الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقال: مسيجد أو مصيحف. ومن حرمته ألا يخلط فيه ما ليس منه. ومن حرمته ألا يحلى بالذهب ولا يكتب بالذهب فتخلط به زينة الدنيا؛ وروى مغيرة عن إبراهيم: أنه كان يكره أن يحلى المصحف أو يكتب بالذهب أو يعلم عند رءوس الآي أو يصغر. وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم" . وقال ابن عباس وقد رأى مصحفا زين بفضة: تغرون به السارق وزينته في جوفه. ومن حرمته ألا يكتب على الأرض ولا على حائط كما يفعل به في المساجد المحدثة. حدثنا محمد بن علي الشقيقي عن أبيه عن عبدالله بن المبارك عن سفيان عن محمد بن الزبير قال: سمعت عمر بن عبدالعزيز يحدث قال مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب في أرض فقال لشاب من هذيل: "ماهذا قال من كتاب الله كتبه يهودي فقال لعن الله من فعل هذا لا تضعوا كتاب الله إلا موضعه" . قال محمد بن الزبير :رأى عمر بن عبدالعزيز ابنا له يكتب القرآن على حائط فضربه. ومن حرمته أنه إذا اغتسل بكتابته مستشفيا من سقم ألا يصبه على كناسة ولا في موضع نجاسة ولا على موضع يوطأ ولكن ناحية من الأرض في بقعة لا يطؤه الناس أو يحفر حفيرة في موضع طاهر حتى ينصب من جسده في تلك الحفيرة ثم يكبسها أو في نهر كبير يختلط بمائه فيجري. ومن حرمته أن يفتتحه كلما ختمه حتى لا يكون كهيئة المهجور ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات لئلا يكون في هيئة المهجور؛ وروى ابن عباس قال جاء رجل فقال: "يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال عليك بالحال المرتحل قال وما الحال المرتحل؟ قال صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره ثم يضرب في أوله كلما حل ارتحل" .
قلت: ويستحب له إذا ختم القرآن أن يجمع أهله ذكر أبو بكر الأنباري أنبأنا إدريس حدثنا خلف حدثنا وكيع عن مسعر عن قتادة أن أنس بن مالك كان إذا ختم القرآن جمع

أهله ودعا . وأخبرنا إدريس حدثنا خلف حدثنا جرير عن منصور عن الحكم قال كان مجاهد وعبدة بن أبي لبابة وقوم يعرضون المصاحف فإذا أرادوا أن يختموا وجهوا إلينا أحضرونا فإن الرحمة تنزل عند ختم القرآن. وأخبرنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام عن إبراهيم التيمي قال: من ختم القرآن أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يسمى ومن ختم أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح قال فكانوا يستحبون أن يختموا أول الليل وأول النهار. ومن حرمته ألا يكتب التعاويذ منه ثم يدخل به في الخلاء إلا أن يكون في غلاف من أدم أو فضة أو غيره فيكون كأنه في صدرك. ومن حرمته إذا كتبه وشربه سمى الله على كل نفس وعظم النية فيه فإن الله يؤتيه على قدر نيته روى ليث عن مجاهد قال: لا بأس أن تكتب القرآن ثم تسقيه المريض. وعن أبي جعفر قال من وجد في قلبه قساوة فليكتب يس في جام بزعفران ثم يشربه .
قلت: ومن حرمته ألا يقال: سورة صغيرة. وكره أبو العالية أن يقال: سورة صغيرة أو كبيرة؛ وقال لمن سمعه قالها أنت أصغر منها؛ وأما القرآن فكله عظيم؛ ذكره مكي رحمه الله.
قلت: وقد روي أبو داود ما يعارض هذا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم بها الناس في الصلاة .
باب ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي، والجرأة على ذلك، ومراتب المفسرين
روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر من كتاب الله إلا آيا بعدد علمه إياهن جبريل. قال ابن عطية: ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من الله تعالى ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به كوقت قيام الساعة ونحوها مما يستقري من ألفاظه كعدد

النفخات في الصور وكرتبة خلق السموات والأرض. روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" . وروي أيضا عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " قال هذا حديث غريب وأخرجه أبو داود وتكلم في أحد رواته . وزاد رزين ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر. قال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب الرد فسر حديث ابن عباس تفسيرين: أحدهما- من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله . والجواب الآخر- وهو أثبت القولين وأصحهما معنى - : من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار. ومعنى يتبوأ ينزل ويحل؛ قال الشاعر :
وبوئت في صميم معشرها ... فتم في قومها مبوؤها
وقال في حديث جندب: فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث على أن الرأي معنى به الهوى من قال في القرآن قولا يوافق هواه لم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب فقد أخطأ لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه. وقال ابن عطية: ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله عز وجل فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول؛ وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته والنحويون نحوه والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر؛ فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه .

قلت: هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء ، فإن من قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطيء وإن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها فهو ممدوح .
وقال بعض العلماء: إن التفسير موقوف على السماع لقوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وهذا فاسد؛ لأن النهي عن تفسير القرآن لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط أو المراد به أمر آخر وباطل أن يكون المراد به ألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي الله عنهم قد قرءوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس وقال: " اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل " . فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك! وهذا بيّن لا إشكال فيه وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة النساء إن شاء الله تعالى. وإنما النهي يحمل على أحد وجهين:
أحدهما- أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل في طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك ولكن مقصوده أن يلبس على خصمه ؛ وتارة يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتمله فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه فيكون قد فسره برأيه أي رأيه حمله على ذلك التفسير ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه وتارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} . ويشير إلى قلبه ويوميء إلى أنه المراد بفرعون؛ وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع وهو ممنوع لأنه قياس في اللغة، وذلك غير جائز. وقد تستعمله

الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطلة، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون مرادة فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي.
الوجه الثاني- أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير؛ فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة القرآن بالرأي والنقل والسماع لابد له منه في ظاهر التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ألا ترى أن قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} . معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة ولا يدري بماذا ظلموا وأنهم ظلموا غيرهم وأنفسهم فهذا من الحذف والإضمار؛ وأمثال هذا في القرآن كثير وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه والله أعلم.
قال ابن عطية: وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يعظمون القرآن ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم قال أبو بكر الأنباري وقد كان الأئمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مراد الله عز وجل فيحجم عن القول وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماما يبني على مذهبه ويقتفي طريقه فلعل متأخرا أن يفسر حرفا برأيه ويخطيء فيه ويقول إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السلف وعن ابن أبي ملكية قال سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير حرف من القرآن فقال: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني وأين أذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى ".

قال ابن عطية: وكان جلة من السلف كثير عددهم يفسرون القرآن وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي الله عنهم فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ويتلوه عبدالله بن عباس وهو تجرد للأمر وكمّله وتبعه العلماء عليه كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ عن علي. وقال ابن عباس: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب. وكان علي رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الأخذ عنه وكان ابن عباس يقول نعم ترجمان القرآن عبدالله بن عباس وقال عنه على رضي الله عنه ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ويتلوه عبدالله بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبدالله بن عمرو بن العاص وكل ما أخذ عن الصحابة فحسن مقدم لشهودهم التنزيل ونزوله بلغتهم وعن عامر بن واثلة قال شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخطب فسمعته يقول في خطبته: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا أنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل نزلت أم في جبل فقام إليه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا؟ وذكر الحديث وعن المنهال بن عمرو قال قال عبدالله بن مسعود: لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه المطي لأتيته فقال له رجل: أما لقيت علي بن أبي طالب؟ فقال: بلى، قد لقيته. وعن مسروق قال: وجدت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل الإخاذ يروي الواحد والإخاذ يروي الاثنين والإخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم وإن عبدالله بن مسعود من تلك الآخاذ. ذكر هذه المناقب أبو بكر الأنباري في كتاب الرد وقال الإخاذ عند العرب: الموضع الذي يحبس الماء كالغدير قال أبو بكر: حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا سلام عن

زيد العمى عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرحم أمتي بها أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأفرضهم زيد وأقرؤهم لكتاب الله عز وجل أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وأبو هريرة وعاء من العلم وسلمان بحر من علم لا يدرك وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء - أو قال البطحاء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر" .
قال ابن عطية: ومن المبرزين في التابعين الحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعلقمة قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية ويتلوهم عكرمة والضحاك وإن كان لم يلق ابن عباس وإنما أخذ عن ابن جبير. وأما السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح لأنه كان يراهما مقصرين في النظر .
قلت: وقال يحيى بن معين: الكلبيّ ليس بشيء. وعن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان قال قال الكلبي قال أبو صالح: كل ما حدثتك كذب وقال حبيب بن أبي ثابت كنا نسميه الدروغ زن: يعني أبا صالح مولى أم هانىء والدروغ زن هو الكتاب بلغة الفرس ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف كما قال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" . خرجه أبو عمرو وغيره قال الخطيب أبو بكر أحمد بن علي البغدادي وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم أعلام الدين وأئمة المسلمين لحفظهم الشريعة من التحريف والانتحال للباطل ورد تأويل الأبله الجاهل وأنه يجب الرجوع إليهم والمعول في أمر الدين عليهم رضي الله عنهم.

قال ابن عطية: وألف الناس فيه كعبد الرزاق والمفضل وعلي بن أبي طلحة والبخاري وغيرهم ثم إن محمد بن جرير رحمه الله جمع على الناس أشتات التفسير وقرب البعيد منها وشفي في الإسناد ومن المبرزين من المتأخرين أبو إسحاق الزجاج وأبو علي الفارسي وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما وعلى سننهما مكي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو العباس المهدوي متقن التأليف وكلهم مجتهد مأجور رحمهم الله ونضر وجوههم.
باب تبيين الكتاب بالسنة، وما جاء في ذلك
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفرض طاعته في غير آية من كتابه وقرنها بطاعته عز وجل وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} . ذكر ابن عبد البر في كتاب العلم له عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهى المحرم فقال ايتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي قال فقرأ عليه {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وعن هشام بن حجير قال: كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر فقال ابن عباس: اتركهما؛ فقال إنما نهي عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر لأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وروى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه

ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه".
قال الخطابي: قوله أوتيت الكتاب ومثله معه يحتمل وجهين من التأويل:
أحدهما- أن معناه أنه أوتي من الوحي غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر المتلو.
والثاني- أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى وأوتي من البيان مثله أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص ويزيد عليه ويشرع ما في الكتاب فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن وقوله يوشك رجل شبعان الحديث يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له في القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد تضمنت بيان الكتاب قال فتحيروا وضلوا قال والأريكة السرير ويقال: إنه لا يسمى أريكة حتى يكون في حجلة قال: وإنما أراد بالأريكة أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت لم يطلبوا العلم من مظانه وقوله إلا أن يستغنى عنها صاحبها معناه أن يتركها صاحبها لمن أخذها استغناء عنها كقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} معناه تركهم الله استغناء عنهم. وقوله: فله أن يعقبهم بمثل قراه هذا هو حال المضطر الذي لا يجد طعاما ويخاف التلف على نفسه فله أن يأخذ من ما لهم بقدر قراه عوض ما حرموه من قراه ويعقبهم يروى مشددا ومخففا من المعاقبة ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} أي فكانت الغلبة لكم فغنمتم منهم وكذلك لهذا أن يغنم من أموالهم بقدر قراه. قال: وفي الحديث دلالة على أنه لا حاجة بالحديث إلى أن يعرض على الكتاب فإنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه قال فأما ما رواه بعضهم أنه قال إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإن لم يوافقه فردوه فإنه حديث باطل لا أصل له.
ثم البيان منه صلى الله عليه وسلم على ضربين: بيان لمجمل في الكتاب كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر أحكامها وكبيانه لمقدار الزكاة ووقتها وما الذي

تؤخذ منه من الأموال وبيانه لمناسك الحج قال صلى الله عليه وسلم إذ حج بالناس: " خذوا عني مناسككم" . وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي" . أخرجه البخاري وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: إنك رجل أحمق أتجد الظهر في كتاب الله أربعا لا يجهر فيها بالقراءة! ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسرا! إن كتاب الله تعالى أبهم هذا وإن السنة تفسر هذا.
وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك. وروى سعيد بن منصور حدثنا عيسى ابن يونس عن الأوزاعي عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. وبه عن الأوزاعي قال قال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل وسئل عن هذا الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ولكني أقول إن السنة تفسر الكتاب وتبينه.
وبيان آخر وهو زيادة على حكم الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب والقضاء باليمين مع الشاهد وغير ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
باب كيفية التعلم والفقه لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم،وما جاء أنه سهل على من تقدم العمل به دون حفظه
ذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له بإسناده عن عثمان وابن مسعود وأبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمنا القرآن والعمل جميعا. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عطاء ابن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها وفي موطأ مالك أنه بلغه أن عبد الله

ابن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها. وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ في كتابه المسمى أسماء من روي عن مالك عن مرداس بن محمد أبي بلال الأشعري قال حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا وذكر أبو بكر الأنباري حدثني محمد بن شهريار حدثنا حسين بن الأسود حدثنا عبيد الله بن موسى عن زياد بن أبي مسلم أبي عمرو عن زياد بن مخراق قال قال عبدالله بن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به.
حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يوسف بن موسى حدثنا الفضل بن دكين حدثنا إسماعيل ابن إبراهيم بن المهاجر عن أبيه عن مجاهد عن ابن عمر قال: كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها ورزقوا العمل بالقرآن وإن آخر هذه الأمة يقرءون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. حدثني حسن بن عبد الوهاب أبو محمد بن أبي العنبر حدثنا أبو بكر بن حماد المقريء قال سمعت خلف بن هشام البزاز يقول ما أظن القرآن إلا همام في أيدينا وذلك إنا روينا أن عمر بن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشرة سنة فلما حفظها نحر جزورا شكرا لله. وإن الغلام في دهرنا هذا يجلس بين يدي فيقرأ ثلث القرآن لا يسقط منه حرفا فما أحسب القرآن إلا عارية في أيدينا. وقال أهل العلم بالحديث لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث وكتبه دون معرفته وفهمه فيكون قد أتعب نفسه أن يظفر بطائل وليكن تحفظه للحديث على التدريج قليلا قليلا مع الليالي والأيام. وممن ورد عنه ذلك من حفاظ الحديث شعبة وابن علية ومعمر قال معمر: سمعت الزهري يقول: من طلب العلم جملة فاته جملة وإنما يدرك العلم حديثا وحديثين والله أعلم. وقال معاذ بن جبل: اعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعلموا. وقال ابن عبد البر: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم

مثل قول معاذ من رواية عباد بن عبد الصمد وفيه زيادة: أن العلماء همتهم الدراية وأن السفهاء همتهم الرواية. وروي موقوفا وهو أولى من رواية من رواه مرفوعا؛ وعباد بن عبد الصمد ليس ممن يحتج به ولقد أحسن القائل في نظمه في فضل العلم وشرف الكتاب العزيز والسنة الغراء:
إن العلوم إن جلت محاسنها ... فتاجُها ما به الإيمان قد وجبا
هو الكتاب العزيز الله يحفظه ... وبعد ذلك علم فرج الكربا
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه ... نور النبوة سن الشرع والأدبا
وبعد هذا علوم لا إنتهاء لها ... فاختر لنفسك يامن آثرا لطلبا
والعلم كنز تجده في معادنه ... يأيها الطالب ابحث وانظرالكتبا
واتل بفهم كتاب الله فيه أتت ... كل العلوم تدبره تر العجبا
واقرأ هديت حديث المصطفى وسلن ... مولاك ما تشتهي يقضي لك الأربا
من ذاق طعما لعلم الدين سر به ... إذا تزيد منه قال واطربا
باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه
روى مسلم عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال: " إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاء الرابعة فقال: إن الله يأمرك

أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا ". وروى الترمذي عنه قال لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: " يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قط فقال لي يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ". قال هذا: حديث صحيح وثبت في الأمهات البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي وغيرها من المصنفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم وسيأتي بكماله في آخر الباب مبينا إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان السبتي نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال:
الأول- وهو الذي أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبدالله بن وهب والطبري والطحاوي وغيرهم: أن المراد سبعة أوجه في المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقرأ على حرف؛ فقال ميكائيل: استزده فقال اقرأ على حرفين فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ إلى سبعة أحرف فقال: اقرأ فكل شاف كاف إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بآية رحمة على نحو هلم وتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجل . وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} : للذين آمنوا أمهلونا للذين آمنوا أخرونا للذين آمنوا ارقبونا. وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} : مروا فيه سعوا فيه وفي البخاري ومسلم قال الزهري: إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال ولا حرام.
قال الطحاوي: إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات ولو رام ذلك لم يتهيأ إلا بمشقة عظيمة فوسع لهم

في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها قال ابن عبدالبر: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد.
روى أبو داود عن أبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبيّ إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو حرفين فقال الملك الذي معي قل على حرفين فقيل لي على حرفين أو ثلاثة فقال الملك الذي معي قل على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب" . وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر من كلام ابن مسعود نحوه قال القاضي ابن الطيب: وإذا ثبتت هذه الرواية يريد حديث أبي حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسما لله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف.
القول الثاني- قال قوم: هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها يمنها ونزارها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها وكان قد أوتي جوامع الكلم وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوزان وبعضه بلغة اليمن قال الخطابي: على أن في القرآن ما قد قريء بسبعة أوجه وهو قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} . وقوله: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} وذكر وجوها كأنه يذهب إلى أن بعضه أنزل على سبعة أحرف لا كله وإلى هذا القول بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف على سبع لغات ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام واختاره ابن عطية. قال أبو عبيد: وبعض الأحياء

أسعد بها وأكثر حظا فيها من بعض وذكر حديث ابن شهاب عن أنس أن عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش فإنه نزل بلغتهم. ذكره البخاري وذكر حديث ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة قيل: وكيف ذلك؟ قال لأن الدار واحدة قال أبو عبيد: يعني أن خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم.
قال القاضي ابن الطيب رضي الله عنه: معنى قول عثمان فإنه نزل بلسان قريش يريد معظمه وأكثره ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بلغة قريش فقط إذ فيه كلمات وحروف هي خلاف لغة قريش وقد قال الله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} ولم يقل قريشيا؛وهذا يدل على أنه منزل بجميع (لسان العرب) وليس لأحد أن يقول: إنه أراد قريشا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول: أراد لغة عدنان دون قحطان أو ربيعة دون مضر لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا.
وقال ابن عبدالبر: قول من قال إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي في الأغلب والله أعلم؛ لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها وقريش لا تهمز وقال ابن عطية: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف أي فيه عبارة سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش ومرة هذيل ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظ ألا ترى أن (فطر) معناه عند غير قريش: ابتداء [خلق الشيء وعمله] فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس؛ حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . وقال أيضا: ما كنت أدري معنى قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك. وكذلك قال عمر بن الخطاب وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي على تنقص لهم وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ

سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر إلى غير ذلك من الأمثلة.
القول الثالث- أن هذه اللغات السبع إنما تكون في مضر قاله قوم واحتجوا بقول عثمان نزل القرآن بلغة مضر وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش ومنها لكنانة ومنها لأسد ومنها لهذيل ومنها لتيم ومنها لضبة ومنها لقيس قالوا: هذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب؛ وقد كان ابن مسعود يحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر وأنكر آخرون أن تكون كلها من مضر وقالوا: في مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها مثل كشكشة قيس وتمتمة تميم فأما كشكشة قيس فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينا فيقولون في {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} جعل ربش تحتش سريا وأما تمتمة تميم فيقولون في الناس النات وفي أكياس أكيات قالوا وهذه لغات يرغب عن القرآن بها ولا يحفظ عن السلف فيها شيء.
وقال آخرون: أما إبدال الهمزة عينا وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء وقد قرأ به الجلة واحتجوا بقراءة ابن مسعود: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} ذكرها أبو داود وبقول ذي الرمة:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا طائل يريد إلا أنها
القول الرابع- ما حكاه صاحب الدلائل عن بعض العلماء وحكى نحوه القاضي ابن الطيب قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} وأطهر {وَيَضِيقُ صَدْرِي} ويضيق. ومنها ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب مثل: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وباعد. ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف مثل قوله: {نُنْشِزُهَا} وننشرها. ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وكالصوف المنفوش.

ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} وطلع منضود. ومنها بالتقديم والتأخير كقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وجاءت [سكرة] الحق بالموت. ومنها بالزيادة والنقصان مثل قوله: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أنثى. وقوله: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين وقوله: فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم.
القول الخامس- أن المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى وهي أمر ونهي ووعد ووعيد وقصص ومجادلة وأمثال قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن هذا لا يسمى أحرفا وأيضا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حرام ولا في تغيير شيء من المعاني وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ولكن ليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة؛ ومنه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل وتحريم وغير ذلك. وقد قيل: إن المراد بقوله عليه السلام انزل القرآن على سبعة أحرف القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة لأنها كلها صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بشيء لظهور بطلانه على ما يأتي.
(فصل) قال كثير من علمائنا كالداودي وابن صفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف ذكره ابن النحاس وغيره. وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء وذلك أن كل واحد منهم اختار فيما روى وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى فالتزمه طريقة ورواه وأقرأ به واشتهر عنه وعرف به ونسب إليه فقيل حرف نافع وحرف ابن كثير ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر ولا أنكره بل سوغه وحوزه وكل واحد من هؤلاء السبعة روى عنه اختياران أو أكثر وكل صحيح وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة مما رووه ورأوه من القراءات وكتبوا

في ذلك مصنفات فاستمر الإجماع على الصواب وحصل ما وعد الله به من حفظ الكتاب وعلى هذا الأئمة المتقدمون والفضلاء المحققون كالقاضي أبي بكر بن الطيب والطبري وغيرهما قال ابن عطية: ومضت الأعصار والأمصار على قراءات السبعة وبها يصلى لأنها ثبتت بالإجماع وأما شاذ القراءات فلا يصلي به لأنه لم يجمع الناس عليه أما أن المروي منه عن الصحابة رضي الله عنهم وعن علماء التابعين فلا يعتقد فيه إلا أنهم رووه وأما ما يؤثر على أبي السمال ومن قارنه فإنه لا يوثق به قال غيره. أما شاذ القراءة عن المصاحف المتواترة فليست بقرآن ولا يعمل بها على أنها منه وأحسن محاملها أن تكون بيان تأويل مذهب من نسبت إليه كقراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات فأما لو صرح الراوي بسماعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختلف العلماء بذلك على قولين النفي والإثبات وجه النفي أن الراوي لم يروه في معرض الخبر بل في معرض القرآن ولم يثبت فلا يثبت والوجه الثاني: أنه وإن لم يثبت كونه قرآنا فقد ثبت كونه سنة وذلك يوجب العمل كسائر أخبار الآحاد.
فصل في ذكر معنى حديث عمر وهشام. قال ابن عطية: أباح الله تعالى لنبيه عليه السلام هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل عليه السلام في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الوصف ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن وكان معرضا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي صلى الله عليه وسلم ليوسع بها على أمته فأقرأ مرة لأبي بما عارضه به جبريل ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة

هشام بن حكيم لها وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في كل قراءة منهما وقد اختلفا: هكذا أقرأني جبريل هل ذلك إلا أنه أقرأه مرة بهذه ومرة بهذه وعلى هذا يحمل قول أنس حين قرأ { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} فقيل له إنما نقرأ وأقوم قيلا فقال أنس وأصوب قيلا وأقوم قيلا وأهيأ واحد فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى أنصرف ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله، أقرأ " فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت" ثم قال لي "اقرأ" فقرأت فقال: "هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر".
قلت: وفي معنى حديث عمر هذا ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: " إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شانهما فسقط في نفسي من التكذيب". ولا إذا كنت في الجاهلية فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله تعالى فرقا فقال لي: " يا أبي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي

فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة أقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم أغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام ".
قول أبي رضي الله عنه: فسقط في نفسي معناه اعترتني حيرة ودهشة أي أصابته نزعة من الشيطان ليشوش عليه حاله ويكدر عليه وقته فإنه عظم عليه من اختلاف القراءات ما ليس عظيما في نفسه وإلا فأي شيء يلزم من المحال والتكذيب من اختلاف القراءات ولم يلزم ذلك والحمد لله في النسخ الذي هو أعظم فكيف بالقراءة!
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه من ذلك الخاطر نبهه بأن ضربه في صدره فأعقب ذلك بأن انشرح صدره وتنور باطنه حتى آل به الكشف والشرح إلى حالة المعاينة ولما ظهر له قبح ذلك الخاطر خاف من الله تعالى وفاض بالعرق استحياء من الله تعالى فكان هذا الخاطر من قبيل ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم- حين سألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: " وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسيأتي الكلام عليه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
باب ذكر جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها وذكر من حفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
كان القرآن في مدة النبي صلى الله عليه وسلم متفرقا في صدور الرجال وقد كتب الناس منه في صحف وفي جريد وفي لخاف وظرر وفي خزف وغير ذلك قال الأصمعي: اللخاف حجارة بيض رقاق واحدتها لخفة والظرر حجر له حد كحد السكين والجمع ظرار؛ مثل رطب ورطاب وربع ورباع وظران أيضا مثل صرد وصردان فلما استحر القتل

بالقراء يوم اليمامة في زمن الصديق رضي الله عنه، وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء كأبي وابن مسعود وزيد فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد رضي الله عنه روى البخاري عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمع القرآن قال أبو بكر: فقلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلم فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخرها. فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن ثم أبي بكر حتى توفاه الله ثم عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر. وقال الليث: حدثني عبدالرحمن بن غالب عن ابن شهاب وقال مع أبي خزيمة الأنصاري وقال أبو ثابت: حدثنا إبراهيم وقال مع خزيمة أو أبي خزيمة: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } .

وقال الترمذي في حديثه عنه: فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . قال حديث حسن صحيح.
وفي البخاري عن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة (الأحزاب) كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري -الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين- {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} . وقال الترمذي عنه: فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} فالتمستها فوجدتها عند خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة فألحقتها في سورتها.
قلت: فسقطت الآية الأولى من آخر (براءة) في الجمع الأول على ما قاله البخاري والترمذي؛ وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة الأحزاب وحكى الطبري: أن آية براءة سقطت في الجمع الأخير والأول أصح والله أعلم. فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه قيل له: إن عثمان رضي الله عنه لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك على ما يأتي وإنما فعل ذلك عثمان لأن الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم ووقع بين أهل الشام والعراق ماذكره حذيفة رضي الله عنه. وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة أرمينية كل طائفة بما روي لها فاختلفوا وتنازعوا وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا فأشفق حذيفة مما رأى منهم فلما قدم حذيفة المدينة -فيما ذكر البخاري والترمذي- دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك قال: فيما إذا؟ قال: في كتاب الله إني حضرة

هذه الغزوة، وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز فوصف له ما تقدم وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى.
قلت: وهذا أدل دليل على بطلان من قال: إن المراد بالأحرف السبعة قراءات القراء السبعة لأن الحق لا يختلف فيه، وقد روى سويد بن غفلة عن علي بن أبي طالب أن عثمان قال: ما ترون في المصاحف فإن الناس قد اختلفوا في القراءة حتى إن الرجل ليقول قراءتي خير من قراءتك وقراءتي أفضل من قرائتك وهذا شبيه بالكفر قلنا: ما الرأي عندك يا أمير المؤمنين قال: الرأي عندي؟ أن يجتمع الناس على قراءة فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا قلنا: الرأي رأيك يا أمير المؤمنين فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاصي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فأكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت في القراءات المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واطراح ما سواها واستصوبوا رأيه وكان رأيا سديدا موفقا؛ رحمة الله عليه وعليهم أجمعين وقال الطبري فيما روي: أن عثمان قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاص وحده وهذا ضعيف. وما ذكره البخاري والترمذي وغيرهما أصح. وقال الطبري أيضا: إن الصحف التي كانت عند حفصة جعلت إماما في هذا الجمع الأخير وهذا صحيح.
وقال ابن شهاب: وأخبرني عبيد الله بن عبدالله أن عبدالله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال: يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل،

والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر! يريد زيد بن ثابت ولذلك قال عبدالله ابن مسعود: يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله عز وجل يقول: { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فالقوا الله بالمصاحف، خرجه الترمذي. وسيأتي الكلام في هذا في سورة آل عمران إن شاء الله تعالى.
قال أبو بكر الأنباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان على عبدالله بن مسعود في جمع القرآن وعبدالله أفضل من زيد وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبدالله إذ وعاه كله ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي والذي حفظ منه عبدالله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم نيف وسبعون سورة ثم تعلم الباقي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار ولاختيار ولا ينبغي أن يظن جاهل أن في هذا طعنا على عبدالله بن مسعود لأن زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا لتقدمه عليه لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنها كان زيد أحفظ منهما للقرآن وليس هو خيرا منهما ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب قال أبو بكر: وما بدا من عبدالله بن مسعود من نكير ذلك فشيء نتجه الغضب ولا يعمل به ولا يؤخذ به ولا يشك في أنه رضي الله عنه قد عرف بعد زوال الغضب عنه حسن اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم فالشائع الذائع المتعالم عند أهل الرواية والنقل أن عبدالله بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال بعض الأئمة: مات عبدالله بن مسعود قبل أن يختم القرآن. قال يزيد بن هارون: المعوذتان بمنزلة البقرة وآل عمران ومن زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم فقيل له: فقول عبدالله بن مسعود فيهما فقال لا خلاف بين المسلمين في أن عبدالله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله.
قلت: هذا فيه نظر وسيأتي وروى إسماعيل بن إسحاق وغيره قال حماد: أظنه عن أنس بن مالك قال: كانوا يختلفون في الآية فيقولون أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم

فلان بن فلان فعسى أن يكون من المدينة على ثلاث ليال فيرسل إليه فيجاء به فيقال كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا فيكتبون كما يقال قال ابن شهاب: واختلفوا يومئذ في التابوت فقال زيد: التابوه وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص التابوت فرفع اعترافهم إلى عثمان فقال اكتبوه بالتاء؛ فإنه نزل بلسان قريش أخرجه البخاري والترمذي. قال ابن عطية: قرأه زيد بالهاء والقرشيون بالتاء فأثبتوا بالتاء وكتبت المصاحف على ما هو عليه غابر الدهر ونسخ منها عثمان نسخا قال غيره: قيل سبعة وقيل أربعة وهو الأكثر ووجه بها إلى الآفاق فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات فاتخذها قراء الأمصار معتد اختياراتهم ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم فذلك لأن كلا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح وأن القراءة بكل منها جائزة قال ابن عطية: ثم إن عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق أو تخرق تروى منقوطة وتروى بالخاء على معنى ثم تدفن ورواية منقوطة أحسن.
وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملا منا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعن عمير بن سعيد قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان قال أبو الحسن بن بطال: وفي أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى وأن ذلك إكرام لها وصيانة عن الوطء بالأقدام وطرحها في ضياع من الأرض روى معمر عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان يحرق إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها

ذكر الله تعالى؛ وقول من حرقها أولى بالصواب وقد فعله عثمان وقد قال القاضي أبو بكر لسان الأمة: جائز للإمام تحريق الصحف التي فيها القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك.
فصل- قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وفي فعل عثمان رضي الله عنه رد على الحلولية والحشوية القائلين بقدم الحروف والأصوات وأن القراءة والتلاوة قديمة وأن الإيمان قديم والروح قديم وقد أجمعت الأمة وكل أمة من النصارى واليهود والبراهمة بل كل ملحد وموحد أن القديم لا يفعل ولا تتعلق به قدرة قادر بوجه ولا بسبب ولا يجوز العدم على القديم وأن القديم لا يصير محدثا والمحدث لا يصير قديما وأن القديم ما لا أول لوجوده وأن المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن وهذه الطائفة خرقت إجماع العقلاء من أهل الملل وغيرهم فقالوا: يجوز أن يصير المحدث قديما وأن العبد إذا قرأ كلام الله تعالى فعل كلاما لله قديما وكذلك إذا نحت حروفا من الآجر والخشب أو صاغ أحرفا من الذهب والفضة أو نسج ثوبا فنقش عليه آية من كتاب الله فقد فعل هؤلاء كلام الله قديما وصار كلامه منسوجا قديما ومنحوتا قديما ومصوغا قديما فيقال لهم: ما تقولون في كلام الله تعالى أيجوز أن يذاب ويمحى ويحرق فإن قالوا: نعم فارقوا الدين وإن قالوا: لا قيل لهم: فما قولكم في حروف مصورة آية من كتاب الله تعالى من شمع أو ذهب أو خشب أو كاغد فوقعت في النار فذابت واحترقت فهل تقولون إن كلام الله احترق فإن قالوا: نعم تركوا قولهم وإن قالوا: لا قيل لهم أليس قلتم إن هذه الكتابة كلام الله وقد احترقت وقلتم إن هذه الأحرف كلامه وقد ذابت فإن قالوا: احترقت الحروف وكلامه تعالى باق رجعوا إلى الحق والصواب ودانوا بالجواب؛ وهو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم منبها على ما يقول أهل الحق: " ولو كان القرآن في إهاب ثم وقع في النار ما احترق" . وقال عز وجل " أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان" . الحديث أخرجه مسلم. فثبت بهذا

أن كلامه سبحانه ليس بحرف ولا يشبه الحروف والكلام في هذه المسألة يطول وتتميمها في كتب الأصول وقد بيناها في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
فصل- وقد طعن الرافضة قبحهم الله تعالى- في القرآن وقالوا: إن الواحد يكفي في نقل الآية والحرف كما فعلتم فإنكم أثبتم بقول رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت وحده آخر سورة براءة وقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} فالجواب أن خزيمة رضي الله عنه لما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة وقد كان زيد يعرفهما ولذلك قال: فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا أولا فالآية إنما ثبتت بالإجماع لا بخزيمة وحده. جواب ثان إنما ثبتت بشهادة خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الأحزاب فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وأبي خزيمة لسماعهما إياها من النبي صلى الله عليه وسلم قال: معناه المهلب وذكر أن خزيمة غير أبي خزيمة وأن أبا خزيمة الذي وجدت معه آية التوبة معروف من الأنصار وقد عرف أنس وقال نحن ورثناه والتي في الأحزاب وجدت مع خزيمة بن ثابت فلا تعارض والقصة غير القصة لا إشكال فيها ولا التباس وقال ابن عبدالبر: أبو خزيمة لا يوقف على صحة اسمه وهو مشهور بكنيته وهو أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وتوفي في خلافة عثمان بن عفان وهو أخو مسعود بن أوس قال ابن شهاب: عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت وجدت آخر التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري وهو هذا وليس بينه وبين الحارث بن خزيمة أبي خزيمة نسب إلا اجتماعهما في الأنصار أحدهما أوسي والآخر خزرجي وفي مسلم والبخاري عن أنس بن مالك قال: جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد قلت: لأنس من أبو زيد؟ قال أحد عمومتي وفي البخاري أيضا عن أنس قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل،

وزيد وأبو زيد؛ قال: ونحن ورثناه. وفي أخرى قال: مات أبو زيد ولم يترك عقبا وكان بدريا واسم أبي زيد سعد بن عبيد. قال ابن الطيب رضي الله عنه: لا تدل هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعلي وتميم الداري وعبادة بن الصامت وعبدالله بن عمرو بن العاص فقول أنس: لم يجمع غير أربعة يحتمل أنه لم يجمع القرآن وأخذه تلقينا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم غير تلك الجماعة فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل سبقهم إلى الإسلام وإعظام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
قلت: لم يذكر القاضي عبدالله بن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما فيما رأيت وهما ممن جمع القرآن روى جرير عن عبدالله بن يزيد الصهباني عن كميل قال قال عمر بن الخطاب: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ومن شاء الله فمررنا بعبدالله بن مسعود وهو يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هذا الذي يقرأ القرآن فقيل له هذا عبدالله بن أم عبد فقال إن عبدالله يقرأ القرآن غضا كما أنزل" . الحديث قال بعض العلماء: معنى قوله غضا كما أنزل أي إنه كان يقرأ الحرف الأول الذي أنزل عليه القرآن دون الحروف السبعة التي رخص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته عليها بعد معارضة جبريل عليه السلام القرآن إياه في كل رمضان وقد روى وكيع وجماعة معه عن الأعمش عن أبي ظبيان قال قال لي عبدالله بن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد فقال لي: بل هي الآخرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه عليه مرتين ".فحضر ذلك عبدالله فعلم ما نسخ من

ذلك وما بدل وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة" .
قلت: هذه الأخبار تدل على أن عبدالله جمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما تقدم والله أعلم. وقد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب (الرد) حدثنا محمد بن شهريار حدثنا حسين بن الأسود حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر عن أبي إسحاق قال قال عبدالله بن مسعود: قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين وسبعين سورة أو ثلاثا وسبعين سورة وقرأت عليه من البقرة إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . قال أبو إسحاق: وتعلم عبدالله بقية القرآن من مجمع بن جارية الأنصاري.
قلت: فإن صح هذا صح الإجماع الذي ذكره يزيد بن هارون فلذلك لم يذكره القاضي أبو بكر بن الطيب مع من جمع القرآن وحفظه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
قال أبو بكر الأنباري: حدثني إبراهيم بن موسى الخوزي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال: سألت الأسود ما كان عبدالله يصنع بسورة الأعراف؟ فقال: ما كان يعلمها حتى قدم الكوفة قال وقد قال بعض أهل العلم: مات عبدالله بن مسعود رحمة الله عليه قبل أن يتعلم المعوذتين فلهذه العلة لم توجد في مصحفه هذا على ما يأتي بيانه آخر الكتاب ثم ذكر المعوذتين إن شاء الله تعالى.
قال أبو بكر: والحديث الذي حدثناه إبراهيم بن موسى حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عمر بن هارون الخرساني عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن كعب القرظي قال: كان ممن ختم القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود حديث ليس بصحيح عند أهل العلم إنما هو مقصور على محمد بن كعب فهو مقطوع لا يؤخذ به ولا يعول عليه.

قلت: قوله عليه السلام: " خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد " . يدل على صحته ومما يبين لك ذلك أن أصحاب القراءات من أهل الحجاز والشام والعراق كل منهم عزا قراءته التي اختارها إلى رجل من الصحابة قرأها على رسول الله صلى عليه وسلم لم يستثن من جملة القرآن شيئا فأسند عاصم قراءته إلى علي وابن مسعود وأسند ابن كثير قراءته إلى أبي وكذلك أبو عمرو بن العلاء أسند قراءته إلى أبي وأما عبد الله بن عامر فإنه أسند قراءته إلى عثمان وهؤلاء كلهم يقولون قرأنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسانيد هذه القراءات متصلة ورجالها ثقات قاله الخطابي.
باب ما جاء في ترتيب سور القرآن وآياته وشكله ونقطه وتحزيبه وتعشيره وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآيه
قال ابن الطيب: إن قال قائل قد اختلف السلف في ترتيب سور القرآن فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها وقدم المكي على المدني ومنهم من جعل في أول مصحفه الحمد ومنهم من جعل في أوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} . وهذا أول مصحف علي رضي الله عنه وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . ثم البقرة ثم النساء على ترتيب مختلف ومصحف أبي كان أوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة ثم كذلك على اختلاف شديد قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة وذكر ذلك مكي رحمه الله في تفسير سورة (براءة) وذكر أن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم ولما لم يأمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة هذا أصح ما قيل في ذلك وسيأتي. وذكر ابن وهب في جامعه قال سمعت سليمان بن بلال يقول. سمعت ربيعة يسأل لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال

ربيعة: قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه وقد اجتمعوا على العلم بذلك فهذا مما ننتهي إليه ولا نسأل عنه وقد ذكر سنيد قال حدثنا معتمر عن سلام بن مسكين عن قتادة قال قال ابن مسعود: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقال قوم من أهل العلم: إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان على توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله فإنما كان قبل العرض الأخير وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب (الرد) أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ثم فرق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة وكانت السورة تنزل في أمر يحدث والآية جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام عن رب العالمين فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات وغير الحروف والكلمات ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب وهو كان يقول ضعوا هذه السور موضع كذا وكذا من القرآن وكان جبريل عليه السلام يقف على مكان الآيات. حدثنا حسن بن الحباب حدثنا أبو هشام حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال: آخر ما نزل من القرآن {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} . قال أبو بكر بن عياش: وأخطأ أبو إسحاق لأن محمد بن السائب حدثنا عن أبي السائب عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ

وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . فقال: " جبريل للنبي عليهما السلام يا محمد ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة ". قال أبو الحسن بن بطال: ومن قال بهذا القول لا يقول إن تلاوة القرآن في الصلاة والدرس يجب أن تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف بل إنما يجب تأليف سورة في الرسم والخط خاصة ولا يعلم أن أحدا منهم قال إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة ولا الحج قبل الكهف ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها للذي سألها: لا يضرك أية قرأت قبل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا وقالا ذلك منكوس القلب فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن لأنه إفساد لسوره ومخالفة لما قصد بها.
ومما يدل على أنه لا يجب إثباته في المصاحف على تاريخ نزوله ما صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فتوضع في السورة المكية ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها: " وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده ". تعني بالمدينة وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور.
قال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال: نزل بالمدينة من القرآن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق،

و { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} إلى رأس العشر، و { إِذَا زُلْزِلَتِ} و { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ } هؤلاء السور نزلن بالمدينة وسائر القرآن نزل بمكة.
قال أبو بكر: فمن عمل على ترك الأثر والإعراض عن الإجماع ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة لم يدر أين تقع الفاتحة لاختلاف الناس في موضع نزولها ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به ورد على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى. وقد قيل: إن علة تقديم المدني على المكي هو أن الله تعالى خاطب العرب بلغتها وما تعرف من أفانين خطابها ومحاورتها فلما كان فن من كلامهم مبنيا على تقديم المؤخر وتأخير المقدم خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى الذي لو فقدوه من القرآن لقالوا ما باله عري من هذا الباب الموجود في كلامنا المستحلي من نظامنا. قال عبيد بن الأبرص:
أن بدلت منهم وحوشا ... وغيرت حالها الخطوب
عيناك دمعها سروب ... كأن شأنيهما شعيب
أراد عيناك دمعها سروب لأن تبدلت من أهلها وحوشا فقدم المؤخر وأخر المقدم ومعنى سروب منصب على وجه الأرض ومنه السارب للذاهب على وجهه في الأرض قال الشاعر:
أني سربت وكنت غير سروب
وقوله: شأنيهما الشأن واحد الشئون وهي مواصل قبائل الرأس وملتقاها ومنها يجيء الدمع. شعيب: متفرق.

(فصل) وأما شكل المصحف ونقطه فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزيبه وأمر وهو والي العراق الحسن ويحي بن يعمر بذلك وألف إثر ذلك بواسط كتابا في القراءات جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات.
وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي؛ وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر.
(فصل)- وأما وضع الأعشار فقال ابن عطية: مر بي في بعض التواريخ أن المأمون العباسي أمر بذلك وقيل: إن الحجاج فعل ذلك وذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له عن عبد الله بن مسعود أنه كره التعشير في المصحف وأنه كان يحكه وعن مجاهد أن كره التعشير والطيب في المصحف. وقال أشهب: سمعت مالكا وسئل عن العشور التي تكون في المصحف بالحمرة وغيرها من الألوان فكره ذلك. وقال تعشير المصحف بالحبر لا بأس به وسئل عن المصاحف يكتب فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية قال: إني أكره ذلك في أمهات المصاحف أن يكتب فيها شيء أو يشكل فأما ما يتعلم به الغلمان من المصاحف فلا أرى بذلك بأسا. قال أشهب: ثم أخرج إلينا مصحفا لجده كتبه إذ كتب عثمان المصاحف فرأينا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السطر ورأيته معجوم الآي بالحبر وقال قتادة: بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا وقال يحيى بن أبي كثير: كان القرآن مجردا في المصاحف فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء وقالوا: لا بأس به هو نور له ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي ثم أحدثوا الفواتح والخواتيم وعن أبي حمزة قال: رأى إبراهيم النخعي في مصحفي فاتحة سورة كذا وكذا فقال لي امحه فإن عبد الله بن مسعود قال: لا تخلطوا في كتاب الله ما ليس فيه وعن أبي بكر السراج قال قلت لأبي رزين: أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا؛ قال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه فيظنونه من القرآن.

قال الدّاني رضي الله عنه: وهذه الأخبار كلها تؤذن بأن التعشير والتخميس وفواتح السور ورءوس الآي من عمل الصحابة رضي الله عنهم قادهم إلى عمله الاجتهاد وأرى أن من كره ذلك منهم ومن غيرهم إنما كره أن يعمل بالألوان كالحمرة والصفرة وغيرهما؛ على أن المسلمين في سائر الآفاق قد أطبقوا على جواز ذلك واستعماله في الأمهات وغيرها والحرج والخطأ مرتفعان عنهم فيما أطبقوا عليه إن شاء الله.
(فصل)- وأما عدد حروفه وأجزائه فروى سلام أبو محمد الحماني أن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال: أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو قال: وكنت فيهم، فحسبنا فأجمعنا على أن القرآن ثلثمائة ألف حرف وأربعون ألف حرف وسبعمائة حرف وأربعون حرفا قال: فأخبروني إلى أي حرف ينتهي نصف القرآن فإذا هو الكهف {وَلْيَتَلَطَّفْ} في الفاء قال فأخبروني بأثلاثه فإذا الثلث الأول رأس مائة من براءة والثلث الثاني رأس مائة أو إحدى ومائة من طسم الشعراء والثلث الثالث مابقي من القرآن قال: فأخبروني بأسباعه على الحروف فإذا أول سبع في النساء {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} في الدال والسبع الثاني في الأعراف {أُولَئِكَ حَبِطَتْ} في التاء والسبع الثالث في الرعد {أُكُلُهَا دَائِمٌ} في الألف من آخر أكلها والسبع الرابع في الحج {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} في الألف والسبع الخامس في الأحزاب { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} في الهاء والسبع السادس في الفتح {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} في الواو والسبع السابع ما بقي من القرآن قال سلام أبو محمد: علمناه في أربعة أشهر وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربعا فأول ربعه خاتمة الأنعام والربع الثاني في الكهف وليتلطف والربع الثالث خاتمة الزمر والربع الرابع ما بقي من القرآن وفي هذه الجملة خلاف مذكور في كتاب البيان لأبي عمرو الداني من أراد الوقوف عليه وجده هناك فصل وأما عدد آي القرآن في المدني الأول فقال محمد بن عيسى: جميع عدد آي القرآن في المدني الأول ستة آلاف آية. قال أبو عمرو: وهو العدد الذي رواه أهل الكوفة عن أهل المدينة ولم يسموا في ذلك أحدا بعينه يسندونه إليه.

وأما المدني الأخير فهو في قول إسماعيل بن جعفر ستة آلاف آية ومائتا آية وأربع عشرة آية وقال الفضل: عدد آي القرآن في قول المكيين ستة آلاف آية ومائتا آية وتسع عشرة آية. قال محمد بن عيسى: عدد آي القرآن في قول الكوفيين ستة آلاف آية ومائتا آية وثلاثون وست آيات وهو العدد الذي رواه سليم والكسائي عن حمزة وأسنده الكسائي إلى على رضي الله عنه. قال محمد: وجميع عدد آي القرآن في عدد البصريين ستة آلاف ومائتان وأربع آيات وهو العدد الذي مضى عليه سلفهم حتى الآن وأما عدد أهل الشام فقال يحيى بن الحارث الذماري ستة آلاف ومائتان وست وعشرون في رواية ستة آلاف ومائتان وخمس وعشرون نقص آية قال ابن ذكوان: فظننت أن يحي لم يعد { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال أبو عمرو: فهذه الأعداد التي يتداولها الناس تأليفا ويعدون بها في سائر الآفاق قديما وحديثا.
وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان: جميع كلمات القرآن- في قول عطاء بن يسار- سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة وحروفه ثلثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا.
قلت: هذا يخالف ما تقدم عن الحماني قبل هذا. وقال عبدالله بن كثير عن مجاهد قال: هذا ما أحصينا من القرآن وهو ثلثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا وهذا يخالف ما ذكره قبل هذا عن الحمداني من عدّ حروفه.
باب ذكر معنى السورة والآية والكلمة والحرف
معنى السورة في (كلام العرب) الإبانة لها من سورة أخرى وانفصالها عنها وسميت بذلك لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة قال النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي منزلة شرف ارتفعت إليها عن منزل الملوك. وقيل: سميت بذلك لشرفها وارتفاعها كما يقال لما ارتفع من الأرض سور. وقيل: سميت بذلك لأن قارئها يشرف على ما لم يكن

عنده كسور البناء؛ كله بغير همز وقيل: سميت بذلك لأنها قطعت من القرآن على حدة من قول السرب للبقية سؤر وجاء في أسآر الناس أي بقاياهم فعلى هذا يكون الأصل سؤرة بالهمزة ثم خففت فأبدلت واوا لانضمام ما قبلها. وقيل: سميت بذلك لتمامها وكمالها من قول العرب للناقة التامة سورة وجمع سورة سور بفتح الواو وقال الشاعر:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ويجوز أن يجمع على سورات وسورات وأما الآية فهي العلامة بمعنى أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها من الذي بعدها وانفصاله أي هي بائنة من أختها ومنفردة. وتقول العرب: بيني وبين فلان آية؛ أي علامة ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} وقال النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
وقيل: سميت آية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه كما يقال خرج القوم بآياتهم أي بجماعتهم. قال برج بن مسهر الطائي:
خرجنا من النقبين لاحي مثلنا ... بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا
وقيل: سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها واختلف النحويون في أصل آية فقال سيبويه: أيية على فعلة مثل أكمة وشجرة فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها انقلبت ألفا فصارت آية بهمزة بعدها مدة. وقال الكسائي: أصلها آيية على وزن فاعلة مثل آمنة فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتباسها بالجمع. وقال الفراء: أصلها أيية بتشديد الياء الأولى فقلبت ألفا كراهة للتشديد فصارت آية وجمعها آي وآيات وآياء. وأنشد أبو زيد:
لم يبق هذا الدهر من آيائه ... غير أثافيه وأرمدائه

وأما الكلمة فهي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات أي الحروف وأطول الكلم في كتاب الله عز وجل ما بلغ عشرة أحرف نحو قوله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} و { أَنُلْزِمُكُمُوهَا} وشبههما؛ فأما قوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} فهو عشرة أحرف في الرسم وأحد عشر في اللفظ وأقصرهن ما كان على حرفين نحو ما ولا ولك وله وما أشبه ذلك ومن حروف المعاني ما هو على كلمة واحدة مثل همزة الاستفهام وواو العطف إلا أنه لا ينطق به مفردا وقد تكون الكلمة وحدها آية تامة نحو قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ} {وَالضُّحَى} {وَالْعَصْرِ} وكذلك {الم} و {المص} و {طه} و {يس} و {حم} في قول الكوفيين وذلك في فواتح السور فأما في حشوهن فلا. قال أبو عمرو الداني: ولا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله: في الرحمن {مُدْهَامَّتَانِ} لا غير. وقد أتت كلمتان متصلتان وهما آيتان وذلك في قوله: {حم عسق} على قول الكوفيين لا غير. وقد تكون الكلمة في غير هذا الآية التامة والكلام القائم بنفسه وإن كان أكثر أو أقل قال عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} قيل: إنما يعني بالكلمة ها هنا قوله تبارك وتعالى: {نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} . إلى آخر الآيتين وقال عز وجل: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال مجاهد: لا إله إلا الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" . وقد تسمي العرب القصيدة بأسرها والقصة كلها كلمة فيقولون قال قس في كلمته كذا أي في خطبته وقال زهير: في كلمته كذا أي في قصيدته وقال فلان في كلمته يعني في رسالته فتسمي جملة الكلام كلمة إذ كانت الكلمة منها على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره وكان بسبب منه مجازا واتساعا.
وأما الحرف فهو الشبهة القائمة وحدها من الكلمة وقد يسمى الحرف كلمة والكلمة حرفا على ما بيناه من الاتساع والمجاز قال أبو عمرو الداني: فإن قيل فكيف يسمى ما جاء من

حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد نحو ص و ق و ن حرفا أو كلمة؟ قلت: كلمة لا حرفا وذلك من جهة أن الحرف لا يسكت عليه ولا ينفرد وحده في الصورة ولا ينفصل مما يختلط به وهذه الحروف مسكوت عليها منفردة منفصلة كانفراد الكلم وانفصالها فلذلك سميت كلمات لا حروفا قال أبو عمرو: وقد يكون الحرف في غير هذا المذهب والوجه. قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي على وجه ومذهب ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي سبعة أوجه من اللغات والله أعلم.
باب هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب أولا
لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب وأن فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط واختلفوا هل وقع فيه غير أعلام مفردة من غير كلام العرب فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب والطبري وغيرهما إلى أن ذلك لا يوجد فيه وأن القرآن عربي صريح وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغات عليها فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم وذهب بعضهم إلى وجودها فيه وأن تلك الألفاظ لقلتها لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا ولا رسول الله عن كونه متكلما بلسان قومه فالمشكاة الكوة ونشأ قام من الليل ومنه {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} و {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي ضعفين. {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي الأسد كله بلسان الحبشة والغساق البارد المنتن بلسان الترك والقسطاس الميزان بلغة الروم والسجيل الحجارة والطين بلسان الفرس والطور الجبل واليم البحر بالسريانية والتنور وجه الأرض بالعجمية قال ابن عطية: فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه وقد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات وبرحلتي قريش وكسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام،

وكسفر عمر بن الخطاب وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرى مجرى العربي الصحيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره كما لم يعرف ابن عباس معنى فاطر إلى غير ذلك قال ابن عطية: وما ذهب إليه الطبري رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة فذلك بعيد بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا.
قال غيره: والأول أصح وقوله هي أصل في كلام غيرهم دخيلة في كلامهم ليس بأولى من العكس فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطبت بها أولا فإن كان الأول فهي من كلامهم إذ لا معنى للغتهم وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة. فإن قيل: ليست هذه الكلمات على أوزان كلام العرب فلا تكون منه قلنا ومن سلم لكم أنكم حصرتم أوزانهم حتى تخرجوا هذه منها فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحوية وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها ولا عرفتها استحال أن يخاطبهم الله بما لا يعرفون وحينئذ لا يكون القرآن عربيا مبينا ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم والله أعلم.
باب ذكر نكت في إعجاز القرآن وشرائط المعجزة وحقيقتها
المعجزة واحدة معجزات الأنبياء الدالة على صدقهم صلوات الله عليهم وسميت معجزة لأن البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها وشرائطها خمسة فإن اختل منها شرط لا تكون معجزة.

فالشرط الأول من شروطها أن تكون مما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وإنما وجب حصول هذا الشرط للمعجزة لأنه لو أتى آت في زمان يصح فيه مجيء الرسل وادعى الرسالة وجعل معجزته أن يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد لم يكن هذا الذي ادعاه معجزة له ولا دالا على صدقه لقدرة الخلق على مثله وإنما يجب أن تكون المعجزات كفلق البحر وانشقاق القمر وما شاكلها مما لا يقدر عليها البشر.
والشرط الثاني هو أن تخرق العادة وإنما وجب اشتراط ذلك لأنه لو قال المدعي للرسالة آيتي مجيء الليل بعد النهار وطلوع الشمس من مشرقها لم يكن فيما ادعاه معجزة لأن هذه الأفعال وإن كان لا يقدر عليها إلا الله فلم تفعل من أجله وقد كان قبل دعواه على ما هي عليه في حين دعواه ودعواه في دلالتها على نبوته كدعوى غيره فبان أنه لا وجه له يدل على صدقه والذي يستشهد به الرسول عليه السلام له وجه يدل على صدقه وذلك أن يقول الدليل على صدقي أن يخرق الله تعالى العادة من أجل دعواي على الرسالة فيقلب هذه العصا ثعبانا ويشق الحجر ويخرج من وسطه ناقة أو ينبع الماء من بين أصابعي كما ينبعه من العين أو ما سوى ذلك من الآيات الخارقة للعادات التي ينفرد بها جبار الأرض والسموات فتقوم له هذه العلامات مقام قول الرب سبحانه لو أسمعنا كلامه العزيز وقال صدق أنا بعثته ومثال هذه المسألة ولله ولرسوله المثل الأعلى ما لو كانت جماعة بحضرة ملك من ملوك الأرض وقال أحد رجاله وهو بمرأى منه والملك يسمعه الملك يأمركم أيها الجماعة بكذا وكذا ودليل ذلك أن الملك يصدقني بفعل من أفعاله وهو أن يخرج خاتمه من يده قاصدا بذلك تصديقي فإذا سمع الملك كلامه لهم ودعواه فيهم ثم عمل ما استشهد به على صدقه قام ذلك مقام قوله لو قال صدق فيما ادعاه علي فكذلك إذا عمل الله عملا لا يقدر عليه إلا هو وخرق به العادة على يد الرسول قام ذلك الفعل مقام كلامه تعالى لو أسمعناه وقال صدق عبدي في دعوة الرسالة وأنا أرسلته إليكم فاسمعوا له وأطيعوا.

والشرط الثالث هو أن يستشهد بها مدعي الرسالة على الله عز وجل فيقول آيتي أن يقلب الله سبحانه هذا الماء زيتا أو يحرك الأرض عند قولي لها تزلزلي فإذا فعل الله سبحانه ذلك حصل المتحدى به.
الشرط الرابع هو أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها المستشهد بكونها معجزة له وإنما وجب اشتراط هذا الشرط لأنه لو قال المدعي للرسالة: آية نبوتي ودليل حجتي أن تنطق يدي أو هذه الدابة فنطقت يده أو الدابة بأن قالت كذب وليس هو نبي فإن هذا الكلام الذي خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعي للرسالة لأن ما فعله الله لم يقع على وفق دعواه وكذلك ما يروى أن مسيلمة الكذاب لعنه الله تفل في بئر ليكثر ماؤها فغارت البئر وذهب ما كان فيها من الماء فما فعل الله سبحانه من هذا كان من الآيات المكذبة لمن ظهرت على يديه لأنها وقعت على خلاف ما أراده المتنبئ الكذاب.
والشرط الخامس من شروط المعجزة ألا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة فإن تم الأمر المتحدى به المستشهد به على النبوة على هذا الشرط مع الشروط المتقدمة فهي معجزة دالة على نبوة من ظهرت على يده فإن أقام الله تعالى من يعارضه حتى يأتي بمثل ما أتى به يعمل مثل ما عمل بطل كونه نبيا وخرج عن كونه معجزا ولم يدل على صدقه ولهذا قال المولى سبحانه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} كأنه يقول: إن ادعيتم أن هذا القرآن من نظم محمد صلى الله عليه وسلم وعمله فاعملوا عشر سور من جنس نظمه فإذا عجزتم بأسركم عن ذلك فاعلموا أنه ليس من نظمه ولا من عمله لا يقال إن المعجزات المقيدة بالشروط الخمسة لا تظهر إلا على أيدي الصادقين وهذا المسيح الدجال فيما رويتم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم يظهر على يديه من الآيات العظام والأمور الجسام ما هو معروف مشهور فإنا نقول ذلك يدعي الرسالة وهذا يدعي الربوبية وبينهما من الفرقان ما بين البصراء والعميان وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق

إلى بعض غير ممتنعة ولا مستحيلة فلم يبعد أن يقيم الله تعالى الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة.
ودلت الأدلة العقلية أيضا على أن المسيح الدجال فيه التصوير والتغيير من حال إلى حال وثبت أن هذه الصفات لا تليق إلا بالمحدثات تعالى رب البريات عن أن يشبه شيئا أو يشبه شيء ليس كمثله شيء هو السميع البصير.
فصل- إذا ثبت هذا فاعلم أن المعجزات على ضربين: الأول- ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي صلى الله عليه وسلم والثاني- ما تواترت الأخبار بصحته وحصوله واستفاضت بثبوته ووجوده ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة ومن شرطه أن يكون الناقلون له خلقا كثيرا وجما غفيرا وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريا وأن يستوي في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب وهذه صفة نقل القرآن ونقل وجود النبي عليه الصلاة والسلام لأن الأمة رضي الله عنها لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف والسلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه السلام المعلوم وجوده بالضرورة وصدقه بالأدلة والمعجزات والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة والنقصان ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلوه ويسمعونه لكثرة العدد ولذلك وقع لنا العلم الضروري بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد صلى الله عليه وسلم ومن ظهور القرآن على يديه وتحديه به ونظير ذلك من علم الدنيا علم الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان كالبصرة والشام والعراق وخرسان والمدينة ومكة وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة المتواترة فالقرآن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الباقية بعده إلى يوم القيامة ومعجزة كل نبي انقرضت بانقراضه أو دخلها التبديل والتغيير كالتوراة والإنجيل.

ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة:
منها: النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله قلت فما يقول الناس قال: يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم} فصلت على ما يأتي بيانه هنالك. فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة بأنه ما سمع مثل القرآن قط كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.
ومنها: الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
ومنها: الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال وتأمل ذلك في سورة { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلى آخرها وقوله سبحانه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إلى آخر السورة وكذلك قوله سبحانه: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إلى آخر السورة. قال ابن الحصار: فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ولا أن يقول ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة لازمة كل سورة بل هي لازمة كل آية وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر وبها وقع التحدي والتعجيز ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة، من غير أن

ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار وهي أقصر صورة في القرآن وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين أحدهما: الإخبار عن الكوثر وعظمه وسعته وكثرة أوانيه وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل والثاني الإخبار عن الوليد بن المغيرة وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد على ما يقتضيه قول الحق: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده وانقطع نسله.
ومنها: التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
ومنها: الإخبار عن الأمور التي في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها والقرون الخالية في دهرها وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر عليهما السلام وحال ذي القرنين فجاءهم وهو أمي من أمة أمية ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته فتحققوا صدقه قال القاضي ابن الطيب: ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ولا مترددا إلى المتعلم منهم ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.
ومنها: الوفاء بالوعد، المدرك بالحس في العيان في كل ما وعد الله سبحانه وينقسم إلى أخباره المطلقة كوعده بنصر رسوله عليه السلام وإخراج الذين أخرجوه من وطنه وإلى وعد مقيد بشرط كقوله: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} { َومَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} و{ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وشبه ذلك.
ومنها: الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي فمن ذلك:

ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية ففعل ذلك وكان أبو بكر رضي الله عنه: إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه ليثقوا بالنصر وليستيقنوا بالنجح وكان عمر يفعل ذلك فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا برا وبحرا قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقال: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} وقال: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين أو من أوقفه عليها رب العالمين فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه.
ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام.
ومنها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
ومنها: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم، ووجه حادي عشر قاله النظام وبعض القدرية أن وجه الإعجاز هو المنع من معارضته والصرفة عند التحدي بمثله وأن المنع والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن وذلك أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله وهذا فاسد لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز فلو قلنا إن المنع والصرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزا وذلك خلاف الإجماع وإذا كان كذلك علم أن نفس القرآن هو المعجز لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم دل على أن المنع والصرفة لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذه الصرفة

على قولين: أحدهما- أنهم صرفوا عن القدرة عليه ولو تعرضوا له لعجزوا عنه الثاني- أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه.
قال ابن عطية: وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالى فصاحة ألفاظه ووجه إعجازه: أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما فعلم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن محيطا قط فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا النظر يبطل قول من قال إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ويظهر لك قصور البشر أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ثم تعطى لآخر بعده فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر والبدل وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد.
ومن فصاحة القرآن أن الله تعالى جل ذكره ذكر في آية واحدة أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين وهو قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية وكذلك فاتحة سورة المائدة أمر بالوفاء ونهي عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن حكمته وقدرته وذلك مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وأنبأ سبحانه عن الموت وحسرة الفوت والدار الآخرة وثوابها وعقابها وفوز الفائزين وتردي المجرمين والتحذير من الاغترار بالدنيا ووصفها بالقلة بالإضافة إلى دار البقاء بقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية وأنبا أيضا عن قصص الأولين والآخرين ومآل المترفين وعواقب المهلكين في شطر آية وذلك في قوله تعالى: { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ

مَنْ أَغْرَقْنَا} وأنبأ جل وعز عن أمر السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة واستقرار السفينة واستوائها وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله عز وجل: { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} إلى قوله تعالى: { َقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إلى غير ذلك.
فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت إن النبي صلى الله عليه وسلم تقوله أنزل الله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك فقال: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار فقال جل ذكره: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} فأفحموا عن الجواب وتقطعت بهم الأسباب وعدلوا إلى الحروب والعناد وآثروا سبي الحريم والأولاد ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا وأبلغ في الحجة وأشد تأثيرا هذا مع كونهم أرباب البلاغة واللحن وعنهم تؤخذ الفصاحة واللسن.
فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان وأرفع درجات الإيجاز والبيان بل تجاوزت حد الإحسان والإجادة إلى حيز الإرباء والزيادة هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما أوتي من جوامع الكلم واختص به من غرائب الحكم إذا تأملت قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الجنان وإن كان في نهاية الإحسان وجدته منحطا عن رتبة القرآن وذلك في قوله عليه السلام: " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " . فأين ذلك من قوله عز وجل: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} وقوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . هذا أعدل وزنا وأحسن تركيبا وأعذب لفظا وأقل حروفا على أنه لا يعتبر إلا في مقدار سورة أو أطول آية لأن الكلام كلما طال اتسع فيه مجال المتصرف وضاق المقال عن القاصر المتكلف وبهذا قامت الحجة على العرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء ومعجزة موسى

عليه السلام على السحرة؛ فإن الله سبحانه إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره؛ فكان السحر في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى عليه السلام والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم.
باب التنبيه عن أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وغيره
لا التفات لما وضعه الواضعون واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن وغير ذلك من فضائل الأعمال قد ارتكبها جماعة كثيرة اختلفت أغراضهم ومقاصدهم في ارتكابها فمن قوم من الزنادقة مثل المغيرة بن سعيد الكوفي ومحمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة وغيرهما وضعوا أحاديث وحدثوا بها ليوقعوا بذلك الشك في قلوب الناس فمما رواه محمد بن سعيد عن أنس بن مالك في قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي إلا ما شاء الله" . فزاد هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة.
قلت: وقد ذكره ابن عبد البر في كتاب التمهيد ولم يتكلم عليه بل تأول الاستثناء على الرؤيا فالله أعلم. ومنهم قوم وضعوا الحديث لهوى يدعون الناس إليه قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب إن هذه الأحاديث دين فانظروا ممن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا.
ومنهم جماعة الحديث حسبة كما زعموا يدعون الناس إلى فضائل الأعمال كما روي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي ومحمد بن عكاشة الكرماني وأحمد بن عبد الله الجويباري وغيرهم قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة قال أبو عمرو عثمان بن

الصلاح في كتاب علوم الحديث له: وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن سورة سورة وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه وإن أثر الوضع عليه لبين وقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم.
ومنهم: قوم من السؤال والمكدين يقفون في الأسواق والمساجد فيضعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد قال جعفر بن محمد الطيالسي صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة فقام بين أيديهما قاص فقال حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا أنبأنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه مرجان" وأخذ في قصة نحو من عشرين ورقة فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد فقال أنت حدثته بهذا فقال والله ما سمعت به إلا هذه الساعة قال فسكتا جميعا حتى فرغ من قصصه فقال له يحيى من حدثك بهذا الحديث فقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فقال أنا ابن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا فقال له: أنت يحيى بن معين قال نعم قال لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق وما علمته إلا هذه الساعة فقال له يحيى: وكيف علمت أني أحمق قال كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا قال فوضع أحمد كمه على وجهه وقال دعه يقوم فقام كالمستهزئ بهما فهؤلاء الطوائف كذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجري مجراهم يذكر أن الرشيد كان يعجبه الحمام واللهو به فأهدي إليه حمام وعنده أبو البختري

القاضي فقال روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح" فزاد أو جناح وهي لفظة وضعها للرشيد فأعطاه جائزة سنية فلما خرج قال الرشيد والله لقد علمت أنه كذاب وأمر بالحمام أن يذبح فقيل له وما ذنب الحمام قال من أجله كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته فلا يكتب العلماء حديثه بحال قلت فلو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما من المصنفات التي تداولها العلماء ورواها الأئمة الفقهاء لكان لهم في ذلك غنية وخرجوا عن تحذيره صلى الله عليه وسلم حيث قال: " اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" . الحديث فتخويفه صلى الله عليه وسلم أمته بالنار على الكذب دليل على أنه كان يعلم أنه سيكذب عليه فحذار مما وضعه أعداء الدين وزنادقة المسلمين في باب الترغيب والترهيب وغير ذلك وأعظمهم ضررا أقوام من المنسوبين إلى الزهد وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونا إليهم فضلوا وأضلوا .
باب ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان
لا خلاف بين الأمة ولا بين الأئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزة له على نحو ما تقدم وأنه محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف معلومة على الاضطرار سوره وآياته مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته فلا يحتاج في تعريفه بحد ولا في حصره بعد فمن ادعى زيادة عليه أو نقصانا منه فقد أبطل الإجماع وبهت الناس ورد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن المنزل عليه ورد قوله تعالى: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} وأبطل آية رسوله

عليه السلام لأنه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه حين شيب بالباطل ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية وخرج عن أن يكون معجزا فالقائل بأن القرآن فيه زيادة ونقصان راد لكتاب الله ولما جاء به الرسول وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة وتزوج تسع من النساء حلال وفرض الله أياما مع شهر رمضان إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين فإذا رد هذا الإجماع كان الإجماع على القرآن أثبت وآكد وألزم وأوجب قال الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري ولم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلو منزلته ما يوجبه الحق والإنصات والديانة وينفون عنه قول المبطلين وتمويه الملحدين وتحريف الزائغين حتى نبع في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملة وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها ويثبت أسسها وينمي فرعها ويحرسها من معايب أولي الجنف والجور ومكايد أهل العداوة والكفر فزعم أن المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه باتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تصويبه فيما فعل لا يشتمل على جميع القرآن إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف قد قرأت ببعضها وسأقرأ ببقيتها فمنها والعصر ونوائب الدهر فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين ونوائب الدهر ومنها حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها فادعى هذا الإنسان أنه سقط على أهل الإسلام من القرآن وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها وذكر مما يدعى حروفا كثيرة وادعى أن عثمان والصحابة رضي الله عنهم زادوا في القرآن ما ليس فيه فقرأ في صلاة الفرض والناس يسمعون (الله الواحد الصمد) فأسقط من القرآن (قل هو) وغير لفظ

أحد وادّعى أن هذا هو الصواب والذي عليه الناس هو الباطل والمحال وقرأ في صلاة الفرض قل للذين كفروا لا أعبد ما تعبدون وطعن في قراءة المسلمين.
وادعى أن المصحف الذي في أيدينا اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيرة منها {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فادعى أن الحكمة والعزة لا يشاكلان المغفرة وأن الصواب وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم وترامى به الغي في هذا وأشكاله حتى ادعى أن المسلمين يصحفون {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} والصواب الذي لم يغير عنده وكان عبدا لله وجيها وحتى قرأ في صلاة مفترضة على ما أخبرنا جماعة سمعوه وشهدوه لا تحرك به لسانك إن علينا جمعه وقراءته فإذا قرأناه فاتبع قراءته ثم إن علينا نبأ به وحكى لنا آخرون عن آخرين أنهم سمعوه يقرأ ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة وروى هؤلاء أيضا لنا عنه قال هذا صراط علي مستقيم وأخبرونا أنه أدخل في آية من القرآن ما لا يضاهي فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل في لسان قومه الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فقرأ أليس قلت للناس في موضع أأنت قلت للناس وهذا لا يعرف في نحو المعربين ولا يحمل على مذاهب النحويين لأن العرب لم تقل ليس قمت فأما لست قمت بالتاء فشاذ قبيح خبيث رديء لأن ليس لا تجحد الفعل الماضي ولم يوجد مثل هذا إلا في قولهم أليس قد خلق الله مثلهم وهو لغة شاذة لا يحمل كتاب الله عليها وادعى أن عثمان رضي الله عنه لما أسند جمع القرآن إلى زيد بن ثابت لم يصب لأن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب كانا أولى بذلك من زيد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أقرأ أمتي أبي بن كعب" . ولقوله عليه السلام: " من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد" . وقال هذا القائل لي أن أخالف مصحف عثمان كما خالفه أبو عمرو بن العلا فقرأ إن هذين فأصدق وأكون وبشر عبادي الذين بفتح الياء فما أتاني الله بفتح الياء والذي في المصحف { ِإنْ هَذَانِ} بالألف

{ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} بغير واو { فَبَشِّرْ عِبَادِ} { فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} بغير ياءين في الموضعين وكما خالف ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي مصحف عثمان فقرءوا {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} بإثبات نونين يفتح الثانية بعضهم ويسكنها بعضهم وفي المصحف نون واحدة وكما خالف حمزة المصحف فقرأ أتمدون بمال بنون واحدة ووقف على الياء وفي المصحف نونان ولا ياء بعدهما وكما خالف حمزة أيضا المصحف فقرأ ألا إن ثمودا كفروا ربهم بغير تنوين وإثبات الألف يوجب التنوين وكل هذا الذي شنع به على القراء ما يلزمهم به خلاف للمصحف قلت قد أشرنا إلى العد فيما تقدم مما اختلف فيه المصاحف وسيأتي بيان هذه المواضع في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى قال أبو بكر: وذكر هذا الإنسان أن أبي بن كعب هو الذي قرأ كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها وذلك باطل لأن عبد الله بن كثير قرأ على مجاهد ومجاهد قرأ على ابن عباس وابن عباس قرأ القرآن على أبي بن كعب {حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ} في رواية وقرأ أبي القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الإسناد متصل بالرسول عليه السلام نقله أهل العدالة والصيانة وإذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لم يؤخذ بحديث يخالفه وقال يحيى بن المبارك اليزيدي: قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء وقرأ أبو عمرو على مجاهد وقرأ مجاهد على ابن عباس وقرأ ابن عباس على أبي بن كعب وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها فمن جحد أن هذه الزيادة أنزلها الله تعالى على نبيه عليه السلام فليس بكافر ولا آثم حدثني أبي نبأنا نصر بن داود الصاغاني نبأنا أبو عبيد قال: ما يروى من الحروف التي تخالف المصحف الذي عليه الإجماع من الحروف التي يعرف أسانيدها الخاصة دون العامة فيما نقلوا فيه عن أبي وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها؛ وعن ابن عباس: " ليس

عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج ". ومما يحكون عن عمر بن الخطاب أنه قرأ: " غير المغضوب عليهم وغير الضالين ". مع نظائر لهذه الحروف كثيرة لم ينقلها أهل العلم على أن الصلاة بها تحل ولا على أنها معارض بها مصحف عثمان لأنها حروف لو جحدها جاحد أنها من القرآن لم يكن كافرا والقرآن الذي جمعه عثمان بموافقة الصحابة له لو أنكر بعضه منكر كان كافرا حكمه حكم المرتد يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وقال أبو عبيد: لم يزل صنيع عثمان رضي الله عنه في جمعه القرآن يعتد له بأنه من مناقبه العظام وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ فانكشف عوراه ووضحت فضائحه قال أبو عبيد: وقد حدثت عن يزيد بن زريع عن عمران بن جرير عن أبي مجلز قال: طعن قوم على عثمان رحمه الله بحمقهم جمع القرآن ثم قرءوا بما نسخ قال أبو عبيد: يذهب أبو مجلز إلى أن عثمان أسقط الذي أسقط بعلم كما أثبت الذي أثبت بعلم قال أبو بكر: وفي قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} دلالة على كفر هذا الإنسان لأن الله عز وجل قد حفظ القرآن من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان فإذا قرأ قاريء : " تبت يدا أبي لهب وقد تب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب ومريته حمالة الحطب في جيدها حبل من ليف " فقد كذب على الله جل وعلا وقوله ما لم يقل وبدل كتابه وحرفه وحاول ما قد حفظه منه ومنع من اختلاطه به وفي هذا الذي أتاه توطئة الطريق لأهل الإلحاد ليدخلوا في القرآن ما يحلون به عرا الإسلام وينسبونه إلى قوم كهؤلاء القوم الذين أحالوا هذا بالأباطيل عليهم وفيه إبطال الإجماع الذي به يحرس الإسلام وبثباته تقام الصلوات وتؤدى الزكوات وتتحرى المتعبدات وفي قول الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} . دلالة على بدعة هذا الإنسان وخروجه إلى الكفر لأن معنى أحكمت آياته منع الخلق من القدرة على أن يزيدوا فيها أو ينقصوا منها أو يعارضوها بمثلها وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها: وكفى الله المؤمنين القتال بعلي وكان الله قويا عزيزا. فقال في القرآن هجرا وذكر عليا في مكان لو سمعه يذكره فيه لأمضى عليه الحد وحكم عليه بالقتل وأسقط من كلام الله

" قل هو " وغير" أحد " فقرأ: الله الواحد الصمد وإسقاط ما أسقط نفي له وكفر ومن كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله وأبطل معنى الآية؛ لأن أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك أمن ذهب أم من نحاس أم من صفر فقال الله جل وعز ردا عليهم: " قل هو الله أحد " ففي هو دلالة على موضع الرد ومكان الجواب فإذا سقط بطل معنى الآية ووضح الافتراء على الله عز وجل والتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال لهذا الإنسان: ومن ينتحل نصرته أخبرونا عن القرآن الذي نقرؤه ولا نعرف نحن ولا من كان قبلنا من أسلافنا سواه هل هو مشتمل على جميع القرآن من أوله إلى آخره صحيح الألفاظ والمعاني عار على الفساد والخلل أم هو واقع على بعض القرآن والبعض الآخر غائب عنا كما غاب عن أسلافنا والمتقدمين من أهل ملتنا فإن أجابوا بأن القرآن الذي معنا مشتمل على جميع القرآن لا يسقط منه شيء صحيح اللفظ والمعاني سليمها من كل زلل وخلل فقد قضوا على أنفسهم بالكفر حين زادوا فيه فليس له اليوم هاهنا حميم وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم فأي زيادة في القرآن أوضح من هذه وكيف تخلط بالقرآن وقد حرسه الله منها ومنع كل مفتر ومبطل من أن يلحق به مثلها وإذا تؤملت وبحث عن معناها وجدت فاسدة غير صحيحة لا تشاكل كلام الباريء تعالى ولا تخلط به ولاتوافق معناه وذلك أن بعدها لا يأكله إلا الخاطئون فكيف يؤكل الشراب والذي أتى به قبلها فليس له اليوم ها هنا حميم وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم {لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ} فهذا متناقض يفسد بعضه بعضا لأن الشراب لا يؤكل ولا تقول العرب: أكلت الماء لكنهم يقولون شربته وذقته وطعمته ومعناه فيما أنزل الله تبارك وتعالى على الصحة في القرآن الذي من خالف حرفا منه كفر ولا طعام إلا من غسلين لا يأكل الغسلين إلا الخاطئون أو لا يأكل الطعام إلا الخاطئون والغسلين: ما يخرج من أجوافهم من الشحم وما يتعلق به من الصديد وغيره فهذا طعام يؤكل عند البلية والنقمة والشراب محال أن

يؤكل. فإن ادعى هذا الإنسان أن هذا الباطل الذي زاده من قوله من عين تجري من تحت الجحيم ليس بعدها لا يأكله إلا الخاطئون ونفي هذه الآية من القرآن لتصح له زيادته فقد كفر لما جحد آية من القرآن وحسبك بهذا كله ردا لقوله وخزيا لمقاله وما يؤثر عن الصحابة والتابعين أنهم قرءوا بكذا وكذا إنما ذلك على جهة البيان والتفسير لا أن ذلك قرآنا يتلى وكذلك ما نسخ لفظه وحكمه أو لفظه دون حكمه ليس بقرآن على ما يأتي بيانه عند قوله تعالى ما ننسخ من آية إن شاء الله تعالى.

سورة الفاتحة
القول في الاستعاذة
وفيها اثنتا عشرة مسألة
الأولى: أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] أي إذا أردت أن تقرأ؛ فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر:
وإني لآتيكم لذكرى الذي مضى ... من الود واستئناف ما كان في غد
أراد ما يكون في غد؛ وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] المعنى فتدلى ثم دنا؛ ومثله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] وهو كثير.
الثانية: هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة. واختلفوا فيه في الصلاة. حكى النقاش عن عطاء: أن الاستعاذة واجبة. وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها قراءة واحدة؛ ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان.
الثالثة: أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه

لفظ كتاب الله تعالى. وروي عن ابن مسعود أنه قال: قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم".
الرابعة: روى أبو داود وابن ماجة في سننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة فقال عمرو: لا أدري أي صلاة هي؟ فقال: "الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً - ثلاثاً - الحمد لله كثيراً الحمد لله كثيراً - ثلاثاً - وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثاً - وأعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه" . قال عمرو: همزه المؤتة، ونفثه الشعر، ونفخه الكبر. وقال ابن ماجة: المؤتة يعني الجنون. والنفث: نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه. والكبر: التيه. وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك - ثم يقول: - لا إله إلا الله - ثلاثاً ثم يقول: - الله أكبر كبيراً - ثلاثاً - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" ؛ ثم يقرأ. وروى سليمان بن سالم عن أبي القاسم رحمه الله أن الاستعاذة: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن عطية: "وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى، كقول بعضهم: أعوذ بالله المجيد، من الشيطان المريد؛ ونحو هذا مما لا أقول فيه: نعمت البدعة، ولا أقول: إنه لا يجوز".
الخامسة: قال المهدوي: أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول سورة "الحمد" ألا حمزة فإنه أسرها. وروى السدي عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالبسملة. وذكر أبو الليث السمرقندي عن بعض المفسرين أن التعوذ فرض، فإذا نسيه

القارئ وذكره في بعض الحزب قطع وتعوذ، ثم ابتدأ من أوله. وبعضهم يقول: يستعيذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه؛ وبالأول قال أسانيد الحجاز والعراق؛ وبالثاني قال أسانيد الشام ومصر.
السادسة: حكى الزهراوي قال: نزلت الآية في الصلاة وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض. قال غيره: كانت فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ثم تأسينا به.
السابعة: روي عن أبي هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة؛ وقاله داود. قال أبو بكر بن العربي: "انتهى العي بقوم إلى أن قالوا: إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم". وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة؛ وهذا نص. فإن قيل: فما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة؟ قلنا: فائدتها امتثال الأمر؛ وليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمراً أو اجتنابها نهياً؛ وقد قيل: فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]. قال ابن العربي: "ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] قال: ذلك بعد قراءة القرآن لمن قرأ في الصلاة، وهذا قول لم يرد به أثر، ولا يعضده نظر؛ فإن كان هذا كما قال بعض الناس: أن الاستعاذة بعد القراءة، كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة، ولا تشبه أصل مالك ولا فهمه؛ فالله أعلم بسر هذه الرواية.
الثامنة: في فضل التعوذ: روى مسلم عن سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه؛ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" . فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدري ما قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً؟ قال: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" . فقال له الرجل: أمجنوناً تراني! أخرجه البخاري أيضاً. وروى مسلم أيضاً عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً" قال: ففعلت فأذهبه الله عني. وروى أبو داود عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال: "يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك ومن شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك ومن أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكني البلد ووالد وما ولد" . وروت خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نزل منزلاً ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل" . أخرجه الموطأ ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح. وما يتعوذ منه كثير ثابت في الأخبار، والله المستعان.
التاسعة: معنى الاستعاذة في كلام العرب: الاستجارة والتحيز إلى الشيء، على معنى الامتناع به من المكروه؛ يقال: عذت بفلان واستعذت به؛ أي لجأت إليه. وهو عياذي، أي ملجأي. وأعذت غيري به وعوذته بمعنى. ويقال: أعوذ بالله منك؛ أي أعوذ بالله منك؛ قال الراجز:
قالت وفيها حيدة وذعر
... عوذ بربي منكم وحجر
والعرب تقول عند الأمر تنكره: حجراً له "بالضم" أي دفعاً، وهو استعاذة من الأمر. والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى. وأصل أعوذ: أعوذ نقلت الضمة إلى العين لاستثقالها على الواو فسكنت.

العاشرة: الشيطان واحد الشياطين؛ على التكسير والنون أصلية، لأنه من شطن إذا بعد عن الخير. وشطنت داره أي بعدت؛ قال الشاعر:
نأت بسعاد عنك نوىً شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
وبئر شطون أي بعيدة القعر. والشطن: الحبل؛ سمي لبعد طرفيه وامتداده. ووصف أعرابي فرساً لا يحفى فقال: كأنه شيطان في أشطان. وسمي الشيطان شيطاناً لبعده عن الحق وتمرده؛ وذلك أن كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان؛ قال جرير:
أيام يدعونني الشيطان من غزل ... وهن يهوينني إذ كنت شيطاناً
وقيل: إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك، فالنون زائدة. وشاط إذا احترق. وشيطت اللحم إذا دخنته ولم تنضجه. واشتاط الرجل إذا احتد غضباً. وناقة مشياط التي يطير فيها السمن. واشتاط إذا هلك؛ قال الأعشى:
قد نخضب العير من مكنون فائله ... وقد يشيط على أرماحنا البطل
أي يهلك. ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول: تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بين أنه تفعيل من شطن، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، ويرد عليهم أيضاً بيت أمية بن أبي الصلت:
أيما شاطن عصاه عكاه ... ورماه في السجن والأغلال
فهذا شاطن من شطن لا شك فيه.
الحادية عشرة: الرجيم أي المبعد من الخير المهان. وأصل الرجم: الرمي بالحجارة، وقد رجمته أرجمه، فهو رجيم ومرجوم. والرجم: القتل واللعن والطرد والشتم، وقد قيل هذا كله في قوله تعالى: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116]. وقول أبي إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46]. وسيأتي إن شاء الله تعالى.

الثانية عشرة: [ روى الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال قال علي بن أبي طالب عليه السلام: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل وهو يلعنه، قلت: ومن هذا الذي تلعنه يا رسول الله؟ قال: "هذا الشيطان الرجيم" فقلت: يا عدو الله، والله لأقتلنك ولأريحن الأمة منك؛ قال: ما هذا جزائي منك؛ قلت: وما جزاؤك مني يا عدو الله؟ قال: والله ما أبغضك أحد قط ألا شركت أباه في رحم أمه.
القول في البسملة
وفيها سبعة وعشرون مسألة (1)
الأولي: ـ قال العلماء: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. و {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام. وقال بعض العلماء: إن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تضمنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات، وهذا صحيح.
الثانية: - قال بن أبي سكينة: بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلي رجل يكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال له: جودها فإن رجلا جودها فغفر له. قال سعيد: وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقبله ووضعه على عينيه فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها اسم الله وطيبها طيب اسمه، ذكره القشيري. وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صنعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب" . وقال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الإسراء: 46] قال معناه: إذا قلت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] وهم يقولون في كل أفعالهم: " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. قال ابن عطية: ونظير هذا قولهم في ليلة القدر: إنها سبع وعشرين، مراعاة للفظة "هي" من كلمات سورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1]. ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول" . قال ابن عطية: وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم.
الثالثة: - روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب "باسمك اللهم" حتى أمر أن يكتب {بِسْمِ اللَّهِ} فكتبها، فلما نزلت: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] كتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فلما نزلت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] كتبها. وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة: إن النبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حتى نزلت سورة "النمل".
الرابعة: - روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: البسملة تيجان السور.
قلت: وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى على ثلاثة أقوال:

"الأول" ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها، وهو قول مالك.
"الثاني" أنها آية من كل سورة، وهو قول عبد الله بن المبارك.
"الثالث" قال الشافعي: هي آية في الفاتحة، وتردد قوله في سائر السور، فمرة قال: هي آية من كل سورة، ومرة قال: ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها. ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل.
واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرؤوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أحد آياتها" . رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر، وعبدالحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين، وأبو حاتم يقول فيه: محله الصدق، وكان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه. ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور.
وحجة ابن المبارك وأحد قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أبي أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "نزلت علي آنفا سورة" فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: الآية]. وذكر الحديث، وسيأتي في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى.
الخامسة: - الصحيح من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه. قال ابن العربي: "ويكفيك أنها

ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه". والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها. روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبد ي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى حمدني عبد ي وإذا قال العبد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى أثنى علي عبد ي وإذا قال العبد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال مجدني عبد ي - وقال مرة فوض إلي عبد ي - فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال هذا بيني وبين عبد ي ولعبدي ما سأل فإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" . فقوله سبحانه: "قسمت الصلاة" يريد الفاتحة، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه، واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها. ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبد ه، لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات. ومما يدل على أنها ثلاث قوله: "هؤلاء لعبدي" أخرجه مالك، ولم يقل: هاتان، فهذا يدل على أن {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية. قال ابن بكير: قال قال مالك: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، ثم الآية السابعة إلى آخرها. فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي: "كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة " قال: فقرأت {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى أتيت على آخرها - أن البسملة ليست بآية منها، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة، وأكثر القراء عدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال: الآية السادسة {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولم يعدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .
فإن قيل: فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله، كما نقلت في النمل، وذلك متواتر عنهم. قلنا: ما ذكرتموه صحيح، ولكن لكونها قرآناً أو لكونها فاصلة بين السور

- كما روي عن الصحابة: كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أخرجه أبو داود - أو تبركا بها، كما قد اتفقت الأمة على كتبها في أوائل الكتب والرسائل؟ كل ذلك محتمل. وقد قال الجريري: سئل الحسن عن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: في صدور الرسائل. وقال الحسن أيضا: لم تنزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في شيء من القرآن إلا في "طس" {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]. والفيصل أن القرآن لا يثبن بالنظر والاستدلال، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري. ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة؛ والحمد لله.
فإن قيل: فقد روى جماعة قرآنيتها، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه. قلنا: لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات. روت عائشة في صحيح مسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، الحديث. وسيأتي بكماله. وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين؛ لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لا في أول قراءة ولا في آخرها.
ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم، وهو المعقول؛ وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اتباعا للسنة؛ وهذا يرد أحاديثكم.
بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك. قال مالك: ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضاً.

وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سراً ولا جهراً؛ ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول: إنه لابد فيها من {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} منهم ابن عمر، وابن شهاب؛ وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين؛ وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور؛ والحمد لله.
وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة؛ منهم: أبو حنيفة والثوري؛ وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير؛ وهو قول الحكم وحماد؛ وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد؛ وروي عن الأوزاعي مثل ذلك؛ حكاه أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار". واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وما رواه عمار بن رزيق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
قلت: هذا قول حسن، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة. وقد روي عن سعيد بن جبير قال: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - يعنون مسيلمة - فأمر أن يخافت ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ونزل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على

ذلك الرسم وإن زالت العلة، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة.
السادسة- اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل؛ فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجالد عن الشعبي قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وقال الزهري: مضت السنة ألا يكتبوا في الشعر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين. قال أبو بكر الخطيب: وهو الذي نختاره ونستحبه.
السابعة- قال الماوردي ويقال لمن قال بسم الله: مبسمل، وهي لغة مولدة، وقد جاءت في الشعر؛ قال عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها ... فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
قلت: المشهور عن أهل اللغة بسمل. قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة: بسمل الرجل. إذا قال: بسم الله. يقال: قد أكثرت من البسملة؛ أي من قول بسم الله. ومثله حوقل الرجل، إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وهلل، إذا قال: لا إله إلا الله. وسبحل، إذا قال: سبحان الله. وحمدل، إذا قال: الحمد لله. وحيصل، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل، إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال: أدام الله عزك. وحيفل، إذا قال: حي على الفلاح. ولم يذكر المطرز: الحيصلة، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل، إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال: أدام الله عزك.
الثامنة- ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل؛ كالأكل والشرب والنحر؛ والجماع والطهارة وركوب البحر، إلى غير ذلك من الأفعال؛ قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]. {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله" . وقال: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً" . وقال لعمر بن أبي سلمة: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" . وقال: "إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه" وقال: "من لم يذبح فليذبح باسم الله" . وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" . هذا كله ثابت في الصحيح. وروى ابن ماجة والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله" . وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى، ثم يفرغ الماء على يديه.
التاسعة- قال علماؤنا: وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول: إن أفعالهم مقدورة لهم. وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك، كما ذكرنا.
فمعنى {بِسْمِ اللَّهِ} أي بالله. ومعنى "بالله" أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله. وقال بعضهم: معنى قوله {بِسْمِ اللَّهِ} يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته؛ وهذا تعليم من الله تعالى عباده، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها، حتى يكون الافتتاح ببركة الله جل وعز.
ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أن "اسم" صلة زائدة، واستشهد يقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ...
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

فذكر "اسم" زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما.
وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى. وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره، إن شاء الله تعالى.
الحادية عشرة- اختلف في معنى زيادة "اسم"؛ فقال قطرب: زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه. وقال الأخفش: زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك؛ لأن أصل الكلام: بالله.
الثانية عشرة- واختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه، هل دخلت على معنى الأمر؟ والتقدير: ابدأ بسم الله. أو على معنى الخبر؟ والتقدير: ابتدأت بسم الله؛ قولان: الأول للفراء، والثاني للزجاج. فـ "بسم الله" في موضع رفع خبر الابتداء: وقيل: الخبر محذوف؛ أي ابتدائي مستقر أو ثابت باسم الله؛ فإذا أظهرته كان "بسم الله" في موضع نصب بثابت أو مستقر، وكان بمنزلة قولك: زيد في الدار وفي التنزيل {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] فـ "عنده" في وضع نصب؛ روي هذا عن نحاة أهل البصرة. وقيل: التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت، فـ "بسم" في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي.
الثالثة عشرة- {بِسْمِ اللَّهِ} ، تكتب بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال؛ بخلاف قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال. واختلفوا فيحذفها مع الرحمن والقاهر؛ فقال الكسائي وسعيد الأخفش: تحذف الألف. وقال يحيى بن وثاب: لا تحذف إلا مع {بِسْمِ اللَّهِ} فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه.
الرابعة عشرة- واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان؛ فقيل: ليناسب لفظها عملها. وقيل: لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض

الذي لا يكون إلا في الأسماء. الثالث: ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما؛ نحو الكاف في قول الشاعر:
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا
...
أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله
الخامسة عشرة- اسم، وزنه إفع، والذاهب منه الواو؛ لأنه من سموت، وجمعه أسماء، وتصغيره سمي. واختلف في تقدير أصله، فقيل: فعل، وقيل: فعل. قال الجوهري: وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن، وهو مثل جذع وأجذاع، وقفل وأقفال؛ وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع. وفيه أربع لغات: اسم الكسر، واسم بالضم. قال أحمد ين يحيى: من ضم الألف أخذه من سموت أسمو، ومن كسر أخذه من سميت أسمي. ويقال: سم وسم، وينشد:
والله أسماك سما مباركا ... آثرك الله به إيثاركا
وقال آخر:
وعامنا أعجبنا مقدمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سمه
مبتركا لكل عظم يلحمه
قرضب الرجل: إذا أكل شيئا يابسا، فهو قرضاب. "سمه" بالضم والكسر جميعا.
ومنه قول الآخر:
باسم الذي في كل سورة سمه
وسكنت السين من "باسم" اعتلالا غير قياس، وألفه ألف وصل، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة؛ كقول الأحوص:
وما أنا بالمخسوس في جذم مالك ...
ولا من تسمى ثم يلتزم الاسما

السادسة عشرة- تقول العرب في النسب إلي الاسم: سموي، وإن شئت اسمي، تركته على حاله، وجمعه أسماء وجمع الأسماء أسام. وحكى الفراء: أعيذك بأسماوات الله.
السابعة عشرة- اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين؛ فقال البصريون: هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به. وقيل: لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل: إنما سمي الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمي الكلام: الحرف والفعل؛ والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل؛ فلعلوه عليهما سمي اسما؛ فهذه ثلاثة أقوال.
وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة؛ لأن الاسم علامة لمن وضع له؛ فأصل اسم على هذا "وسم". والأول أصح؛ لأنه يقال في التصغير سمي وفي الجمع أسماء؛ والجمع والتصغير سمي وفي الجمع أسماء؛ والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها؛ فلا يقال: وسيم ولا أوسام. ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي:
الثامنة عشرة- فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول: لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته؛ وهذا قول أهل السنة. ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول: كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفة، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات، فإذا أفناهم بقي بلا اسم ولا صفة؛ وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة، وهو أعظم في الخطأ من قولهم: إن كلامه مخلوق، تعالى الله عن ذلك! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمى وهي:
التاسعة عشرة- فذهب أهل الحق فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن الاسم هو المسمى، وارتضاه ابن فورك؛ وهو قول أبي عبيدة وسيبويه. فإذا قال قائل: الله عالم؛ فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما، فالاسم كونه عالما وهو المسمى بعينه. وكذلك إذا قال: الله خالق؛ فالخالق هو الرب، وهو بعينه الاسم. فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل.

قال ابن الحصار: من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات، ولذلك يقولون: الاسم غير المسمى، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولا هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الأسماء عندهم. وسيأتي لهذه مزيد بيان في "البقرة" و"الأعراف" إن شاء الله تعالى.
الموفية عشرين- قوله: {الله} هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره؛ ولذلك لم يثن ولم يجمع؛ وهو أحد تأويلي قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] أي تسمى باسمه الذي هو "الله". فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه. وقيل: معناه الذي يستحق أن يعبد. وقيل: معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال؛ والمعنى واحد.
الحادية والعشرون- واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم؟. فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم. واختلفوا في اشتقاقه وأصله؛ فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه، مثل فعال؛ فأدخلت الألف واللام بدلا عن الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس. وقيل: أصل الكلمة "لا" وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه. وأنشد:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
كذا الرواية: فتخزوني، بالخاء المعجمة ومعناه: تسوسني.
وقال الكسائي والفراء: معنى "بسم الله" بسم الإله؛ فحذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة؛ كما قال عز وجل: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] ومعناه: لكن أنا، كذلك قرأها الحسن. ثم قيل: هو مشتق من "وله" إذا تحير؛ والوله: ذهاب العقل. يقال: رجل واله وامرأة والهة وواله، وماء موله: أرسل في الصحارى. فالله سبحانه تتحير

الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته. فعلى هذا أصل "إلاه" "ولاه" وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح، وإسادة ووسادة؛ وروي عن الخليل. وروي عن الضحاك أنه قال: إنما سمي "الله" إلها، لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه عند شدائدهم. وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه "بنصب اللام" ويألهون أيضا "بكسرها" وهما لغتان. وقيل: إنه مشتق من الارتفاع؛ فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاهاً، فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت. وقيل: هو مشتق من أله الرجل إذا تعبد. وتأله إذا تنسك؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] على هذه القراءة؛ فإن ابن عباس وغيره قالوا: وعبادتك.
قالوا: فاسم الله مشتق من هذا، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة، ومنه قول الموحدين: إلا إله إلا الله، معناه لا معبود غير الله. و"إلا" في الكلمة بمعنى غير، لا بمعنى الاستثناء. وزعم بعضهم أن الأصل فيه "الهاء" التي هي الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار "له" ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً.
القول الثاني: ذهب إليه جماعة من العلماء أيضاً منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم، وروي عن الخليل وسيبويه: أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفهما منه. قال الخطابي: والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم، ولم يدخلا للتعريف: دخول حرف النداء عليه؛ كقولك: يا الله، وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام للتعريف؛ ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن ولا يا الرحيم، كما تقول: يا الله، فدل على أنهما من بنية الاسم. والله أعلم.
الثانية والعشرون- واختلفوا أيضاً في اشتقاق اسمه الرحمن، فقال بعضهم: لا اشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه، ولأنه لو كان مشتقاً من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم، فجاز أن يقال: الله رحمن بعباده، كما يقال: رحيم بعباده. وأيضاً لو كان مشتقاً من الرحمة

لم تنكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم، وقد قال الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] الآية. ولما كتب علي رضي الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال سهيل بن عمرو: أما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فما ندري ما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، الحديث. قال ابن العربي: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف، واستدل على ذلك بقولهم: وما الرحمن؟ ولم يقولوا: ومن الرحمن؟ قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] وذهب الجمهور من الناس إلى أن "الرحمن" مشتق من الرحمة مبني على المبالغة؛ ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى "الرحيم" ويجمع.
قال ابن الحصار: ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: "قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته". وهذا نص من الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له.
الثالثة والعشرون- زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب "الزاهر" له: أن "الرحمن" اسم عبراني جاء معه بـ "الرحيم". وأنشد:
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم ... بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا
أو تتركون إلى القسين هجرتكم ... ومسحكم صلبهم رحمان قربانا
قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: "الرحيم" عربي و"الرحمن" عبراني، فلهذا جمع بينهما. وهذا القول مرغوب عنه.
وقال أبو العباس: النعت قد يقع للمدح، كما تقول: قال جرير الشاعر: وروى مطرف عن قتادة في قول الله عز وجل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: مدح نفسه. قال أبو إسحاق

وهذا قول حسن. وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد. قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن. وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغني عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله.
الرابعة وعشرون- واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: هما بمعنى واحد؛ كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة. وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع ألا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للمتلىء غضباً. وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال عملس:
فأما إذا عضت بك الحرب عضة ... فإنك معطوف عليك رحيم
فـ "الرحمن" خاص الاسم عام الفعل. و"الرحيم" عام الاسم خاص الفعل. هذا قول الجمهور.
قال أبو علي الفارسي: "الرحمن" اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختصر به الله. "والرحيم" إنما هو في وجهة المؤمنين؛ كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43]. وقال العرزمي: "الرحمن" بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة، "والرحيم" بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم. وقال ابن المبارك: "الرحمن" إذا سئل أعطي، و"الرحيم" إذا لم يسأل غضب. وروى ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه" لفظ الترمذي. وقال ابن ماجة: "من لم يدع الله سبحانه غضب عليه" . وقال: سألت أبا زرعة عن أبي صالح هذا، فقال: هو الذي يقال له: الفارسي وهو خوزي ولا أعرف اسمه. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:

الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة.
قال الخطابي: وهذا مشكل؛ لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى. وقال الحسين بن الفضل البجلي: هذا وهم من الراوي، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عز وجل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" .
الخامسة والعشرون- أكثر العلماء على أن "الرحمن" مختص بالله عز وجل، لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا تراه قال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره. وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] فأخبر أن "الرحمن" هو المستحق للعبادة جل وعز. وقد تجاسر مسيلمة الكذاب - لعنه الله - فتسمى برحمان اليمامة، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك، وأن كان كل كافر كاذباً، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علماً يعرف به، ألزمه الله إياه. وقد قيل في اسمه الرحمن: إنه اسم الله الأعظم؛ ذكره ابن العربي.
السادسة العشرون- "الرحيم" صفة مطلقة للمخلوقين، ولما في "الرحمن" من العموم قدم في كلامنا على "الرحيم" مع موافقة التنزيل؛ قاله المهدوي وقيل: إن معنى "الرحيم" أي بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن، فـ "الرحيم" نعت محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقد نعته تعالى بذلك فقال: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فكأن المعنى أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أي وبمحمد صلى الله عليه وسلم وصلتم إلي، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي؛ والله أعلم.

السابعة والعشرون- روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله "بسم الله": إنه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما "الرحمن" هو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما "الرحيم"، فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.
وقد فسره بعضهم على الحروف؛ فروي عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال: "أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة". وروي عن كعب الأحبار أنه قال: الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه. وقد قيل: إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه؛ فالباء مفتاح اسمه بصير، والسين مفتاح اسمه سميع، والميم مفتاح اسمه مليك، والألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والهاء مفتاح اسمه هادي، والراء مفتاح اسمه رازق، والحاء مفتاح اسمه حليم، والنون مفتاح اسمه نور؛ ومعنى هذا كله دعاء الله تعالى عند افتتاح كل شيء.
الثامنة والعشرون- واختلف في وصل "الرحيم" بـ "الحمد لله"؛ فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الرحيم. الحمد" يسكن الميم ويقف عليها، ويبتدئ بألف مقطوعة. وقرأ به قوم من الكوفيين. وقرأ جمهور الناس: "الرحيم الحمد"، تعرب "الرحيم" بالخفض وبوصل الألف من "الحمد". وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ "الرحيمَ الحمد" بفتح الميم وصلة الألف؛ كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت. قال ابن عطية: ولم ترو عن هذه قراءة عن أحد فيما علمت. وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى: { الَم الله} .

سورة الفاتحة
وفيه أربع أبواب
الباب الأول- في فضائلها وأسمائها ، وفيه سبع مسائل:
الأولى- روى الترمذي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبد ي ولعبدي ما سأل" . أخرج مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب: أن أبا سعيد مولى "عبدالله بن" عامر بن كريز أخبره أن رسول الله صلى الله عليه سلم نادى أبيّ بن كعب وهو يصلي، فذكر الحديث. قال ابن عبد البر: أبو سعيد لا يوقف له على اسم وهو معدود في أهل المدينة. روايته عن أبي هريرة وحديثه هذا مرسل، وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد بن المعلى رجل من الصحابة لا يوقف على اسمه أيضا، رواه عنه حفص بن عاصم وعبيد بن حنين.
قلت: كذا قال في التمهيد: "لا يوقف له على اسم". وذكر في كتاب الصحابة الاختلاف في اسمه. والحديث خرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] - ثم قال: - " إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع الثماني والقرآن العظيم الذي أوتيته" . قال ابن عبد البر وغيره: أبو سعيد بن المعلى

من جلة الأنصار وسادات الأنصار تفرد به البخاري واسمه رافع، ويقال: الحارث بن نفيع بن المعلى، ويقال: أوس بن المعلى، ويقال: أبو سعيد بن أوس بن المعلى، توفي سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وستين سنة وهو أول من صلى إلى القبلة حين حوّلت وسيأتي. وقد أسند حديث أبيٍّ يزيد بن زريع قال: حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي فذكر الحديث بمعناه.
وذكر ابن الأنباري في كتاب الرد له: حدثني أبي حدثني أبو عبيدالله الوراق حدثنا أبو داود حدثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال: إن إبليس - لعنه الله - رنّ أربع رنات: حين لعن وحين أهبط من الجنة وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وحين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة.
الثانية- اختلف العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض، وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض فقال قوم: لا فضل لبعض على بعض لأن الكل كلام الله وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها. ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر بن الطيب وأبو حاتم محمد بن حبان البستي وجماعة من الفقهاء. وروي معناه عن مالك. قال يحيى بن يحيى: تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها. وقال عن مالك في قول الله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] قال: محكمة مكان منسوخة. وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك. واحتج هؤلاء بأن قالوا: إن الأفضل يشعر بنقص المفضول والذاتية في الكل واحدة وهي كلام الله وكلام الله تعالى لا نقص فيه. قال البستي: ومعنى هذه اللفظة "ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن": أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل

ما يعطي لقارئ أم القرآن إذ الله بفضله هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه وهو فضل منه لهذه الأمة. قال ومعنى قوله: "أعظم سورة" أراد به في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض. وقال قوم بالتفضيل وأن ما تضمنه قوله تعالى {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] وآية الكرسي وآخر سورة الحشر وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] وما كان مثلها.
والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها لا من حيث الصفة وهذا هو الحق. وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهوية وغيره من العلماء والمتكلمين وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار لحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي بن كعب أنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم" قال فقلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. قال: فضرب في صدري وقال: "ليهنك العلم يا أبا المنذر" أخرجه البخاري ومسلم.
قال ابن الحصار: عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص.
وقال ابن العربي: قوله: "ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها" وسكت عن سائر الكتب كالصحف المنزلة والزبور وغيرها لأن هذه المذكورة أفضلها وإذا كان الشيء أفضل الأفضل صار أفضل الكل. كقولك: زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس.
وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها حتى قيل: إن جميع القرآن فيها. وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن. ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبد ه ولا تصح القربة إلا بها ولا يلحق عمل بثوابها وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم

كما صارت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها التوحيد كله وبهذا المعنى وقع البيان في قول عليه السلام لأبي. "أي آية في القرآن أعظم" قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها كما صار قوله: " أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له" أفضل الذكر لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير ولا يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى.
الثالثة- روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله أنه لا إله إلا هو وقل اللهم مالك الملك هذه الآيات معلقات بالعرش ليس بينهن وبين الله حجاب" . أسنده أبو عمرو الداني في كتاب "البيان" له.
الرابعة- في أسمائها - وهي اثنا عشر اسما:
"الأول": الصلاة، قال الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبد ي نصفين" الحديث. وقد تقدم
"الثاني": [سورة] الحمد، لأن فيها ذكر الحمد كما يقال: سورة الأعراف والأنفال والتوبة ونحوها "الثالث": فاتحة الكتاب، من غير خلاف بين العلماء، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطاً وتفتتح بها الصلوات.
"الرابع": أم الكتاب، وفي هذا الاسم خلاف جوزه الجمهور وكرهه أنس والحسن وابن سيرين. قال الحسن: أم الكتاب الحلال والحرام، قال الله تعالى: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]. وقال أنس وابن سيرين: أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ. قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف: 4].

"الخامس": أم القرآن، واختلف فيه أيضا فجوزه الجمهور وكرهه أنس وابن سيرين والأحاديث الثابتة ترد هذين القولين. روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله أم القران وأم الكتاب والسبع المثاني" قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي البخاري قال: وسميت أم الكتاب لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة. وقال يحيى بن يعمر: أم القرى: مكة، وأم خراسان: مرو، وأم القرآن: سورة الحمد. وقيل: سميت أم القرآن لأنها أوله ومتضمنة لجميع علومه، وبه سميت مكة أم القرى لأنها أول الأرض ومنها دحيت، ومنه سميت الأم أما لأنها أصل النسل، والأرض أما في قول أمية بن أبي الصلت:
فالأرض معقلنا وكانت أمنا ... فيها مقابرنا وفيها نولد
ويقال لراية الحرب: أم، لتقدمها واتباع الجيش لها. وأصل أم أمهة، ولذلك تجمع على أمهات قال الله تعالى: {أُمَّهَاتُكُمْ} . ويقال أمات بغير هاء. قال:
فَرَجْتَ الظلام بأمّاتكا
وقيل: إن أمهات في الناس، وأمّات في البهائم، حكاه ابن فارس في المجمل.
"السادس": المثاني، سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة، وقيل: سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها.
"السابع": القرآن العظيم، سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم وكفاية أحوال الناكثين وعلى بيانه عاقبة الجاحدين.
"الثامن": الشفاء، روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فاتحة الكتاب شفاء من كل سم" .

"التاسع": الرقية، ثبت ذلك من حديث أبى سعيد الخدري وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي رقى سيد الحي: "ما أدراك أنها رقية" فقال: يا رسول الله شيء ألقى في روعي... الحديث. خرّجه الأئمة وسيأتي بتمامه.
"العاشر": الأساس، شكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب، سمعت ابن عباس يقول: لكل شيء أساس وأساس الدنيا مكة لأنها منها دحيت، وأساس السماوات عَريباً وهي السماء السابعة، وأساس الأرض عجيباً وهي الأرض السابعة السفلى، وأساس الجنان جنة عدن وهي سرة الجنان عليها أسست الجنة، وأساس النار جهنم وهي الدركة السابعة السفلى عليها أسست الدركات، وأساس الخلق آدم وأساس الأنبياء نوح وأساس بني إسرائيل يعقوب وأساس الكتب القرآن وأساس القرآن الفاتحة وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى.
"الحادي عشر": الوافية، قاله سفيان بن عيينة، لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال، ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز.
"الثاني عشر": الكافية، قال يحيى بن أبي كثير: لأنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها. يدل عليه ما روى محمد بن خلاد الإسكندراني قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أم القرآن عوض من غيرها وليس غيرها منها عوضا" .
الخامسة- قال المهلب: إن موضع الرقية منها إنما هو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: الآية 5]. وقيل: السورة كلها رقية لقول عليه السلام للرجل لما أخبره: "وما أدراك أنها رقية" ولم يقل: أن فيها رقية، فدل هذا على أن السورة بأجمعها رقية لأنها فاتحة الكتاب ومبدؤه ومتضمنة لجميع علومه كما تقدم والله أعلم.

السادسة- ليس في تسميتها بالمثاني وأم الكتاب ما يمنع من تسمية غيرها بذلك، قال الله عز وجل: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر: 23] فأطلق على كتابه: مثاني لأن الأخبار تثنى فيه. وقد سميت السبع الطول أيضا مثاني لأن الفرائض والقصص تثنى فيها. قال ابن عباس: أوتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني قال: السبع الطول. ذكره النسائي وهي من "البقرة" إلى "الأعراف" ست واختلفوا في السابعة فقيل: يونس وقيل: الأنفال والتوبة وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير. وقال أعشى همدان:
فلجوا المسجد وادعوا ربكم ... وادرسوا هذي المثاني والطُّوَل
وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة "الحجر" إن شاء الله تعالى.
السابعة- المثاني جمع مثنى وهي التي جاءت بعد الأولى والطول جمع أطول. وقد سميت الأنفال من المثاني لأنها تتلو الطول في القدر. وقيل: هي التي تزيد آياتها على المفضل وتنقص عن المئين. والمئون: هي السور التي تزيد كل واحدة منها على مائة آية.
الباب الثاني - في نزولها وأحكامها، وفيه عشرون مسألة:
الأولى- أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي: أنها ست وهذا شاذ. وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} آية وهي على عدة ثماني آيات وهذا شاذ. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] قوله: "قسمت الصلاة" الحديث يرد هذين القولين.
وأجمعت الأمة أيضا على أنها من القرآن. فإن قيل: لو كانت قرآنا لأثبتها عبد الله بن مسعود في مصحفه فلما لم يثبتها دل على أنها ليست من القرآن كالمعوذتين عنده.
فالجواب ما ذكره أبو بكر الأنباري قال: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا سليمان بن الأشعث حدثنا ابن أبي قدامة حدثنا جرير عن الأعمش قال: أظنه عن إبراهيم قال:

قيل لعبدالله بن مسعود: لِمَ لَمْ تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك قال لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة. قال أبو بكر: يعني أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة المتلوة بعدها فقال: اختصرت بإسقاطها ووثقت بحفظ المسلمين لها ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كل سورة، إذ كانت تتقدمها في الصلاة.
الثانية- اختلفوا أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي - واسمه رُفيع - وغيرهم: هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم: هي مدنية. ويقال: نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره. والأول أصح لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] والحجر مكية بإجماع. ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة. وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يدل على هذا قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب". وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء، والله أعلم.
وقد ذكر القاضي ابن الطيب اختلاف الناس في أول ما نزل من القرآن فقيل: المدثر وقيل: اقرأ وقيل: الفاتحة. وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن أبي ميسرة عمرو بن شَرَحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمراً" قالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر - وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم - ذكرت خديجة حديثه له قالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة فقال: "ومن أخبرك". قال: خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال: "إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض" فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد! قل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} - حتى بلغ – {وَلا الضَّالِّينَ} ، قل: لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال

له ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، وإن يدركني ذلك لأجاهدن معك. فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت القَسّ في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني" يعني ورقة. قال البيهقي رضي الله عنه: هذا منقطع. يعني هذا الحديث، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1].
الثالثة- قال ابن عطية: ظن بعض العلماء أن جبريل عليه السلام لم ينزل بسورة الحمد لما رواه مسلم عن ابن عباس قال: " بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. قال ابن عطية" وليس كما ظن فإن هذا الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام تقدم الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مُعْلِما به وبما ينزل معه، وعلى هذا يكون جبريل شارك في نزولها والله أعلم.
قلت: الظاهر من الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك. وقد بينا أن نزولها كان بمكة نزل بها جبريل عليه السلام لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] وهذا يقتضي جميع القرآن فيكون جبريل عليه السلام نزل بتلاوتها بمكة ونزل الملك بثوابها بالمدينة. والله أعلم. وقد قيل: إنها مكية مدنية نزل بها جبريل مرتين حكاه الثعلبي. وما ذكرناه أولى. فانه جمع بين القرآن والسنة ولله الحمد والمنة.

الرابعة- قد تقدم أن البسملة ليست بآية منها على القول الصحيح، وإذا ثبت ذلك فحكم المصلي إذا كبر أن يصله بالفاتحة ولا يسكت، ولا يذكر توجيها ولا تسبيحا، لحديث عائشة وأنس المتقدمين وغيرهما وقد جاءت أحاديث بالتوجيه والتسبيح والسكوت، قال بها جماعة من العلماء فروي عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان إذا افتتحا الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي. وكان الشافعي يقول بالذي روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: "وجهت وجهي" الحديث، ذكره مسلم، وسيأتي بتمامه في آخر سورة الأنعام، وهناك يأتي القول في هذه المسألة مستوفى إن شاء الله.
قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، يقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم أغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" واستعمل ذلك أبو هريرة. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة. وكان الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل يميلون إلى حديث النبي في هذا الباب.
الخامسة- واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فقال مالك وأصحابه: هي متعينة للإمام والمنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز مَنداد البصري المالكي: لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه. واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية فقال مرة: يعيد الصلاة وقال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك. قال ابن خويز منداد وقد قيل: إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام. قال ابن عبد البر: الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها كمن

أسقط سجدة سهوا. وهو اختيار ابن القاسم. وقال الحسن البصري وأكثر أهل البصرة والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن وهي تامة لقوله عليه السلام: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" وهذا قد قرأ بها.
قلت: ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة، وهو الصحيح على ما يأتي. ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات، وهذا هو سبب الخلاف والله أعلم.
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: أقله ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدين. وعن محمد بن الحسن أيضا قال: أسوغ الاجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة نحو: "الحمد لله" ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما.
وقال الطبري: يقرأ المصلى بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آيها وحروفها. قال ابن عبد البر: وهذا لا معنى له لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها كسائر المفروضات المتعينات في العبادات.
السادسة- وأما المأموم فإن أدرك الإمام راكعا فالإمام يحمل عنه القراءة لإجماعهم على أنه إذا أدركه راكعا أنه يكبر ويركع ولا يقرأ شيئا وإن أدركه قائما فإنه يقرأ وهي المسألة:
السابعة- ولا ينبغي لأحد أن يدع القراءة خلف إمامه في صلاة السر فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه عند مالك وأصحابه. وأما إذا جهر الإمام وهي المسألة:
الثامنة- فلا قراءة بفاتحة الكتاب ولا غيرها في المشهور من مذهب مالك لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لي أنازع القرآن" وقول في الإمام: "إذا قرأ فأنصتوا" وقول: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" .

وقال الشافعي فيما حكى عنه البويطي وأحمد بن حنبل: لا تجزئ أحدا صلاة حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، إماما كان أو مأموما، جهر إمامه أو أسر. وكان الشافعي بالعراق يقول في المأموم: يقرأ إذا أسر ولا يقرأ إذا جهر كمشهور مذهب مالك. وقال بمصر: فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة قولان: أحدهما أن يقرأ والآخر يجزئه ألا يقرأ ويكتفي بقراءة الإمام. حكاه ابن المنذر. وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب والكوفيون: لا يقرأ المأموم شيئا جهر إمامه أو أسر لقوله عليه السلام: "فقراءة الإمام له قراءة" وهذا عام ولقول جابر: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام.
التاسعة- الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" وقوله: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القران فهي خداج" ثلاثا. وقال أبو هريرة: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه: "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد" أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها، وبه قال عبد الله بن عون وأيوب السختياني وأبو ثور وغيره من أصحاب الشافعي وداود بن علي، وروي مثله عن الأوزاعي وبه قال مكحول.
وروي عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوّات بن جُبير أنهم قالوا: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. وهو قول ابن عمر والمشهور من مذهب الأوزاعي، فهؤلاء الصحابة بهم القدوة وفيهم الأسوة كلهم يوجبون الفاتحة في كل ركعة.
وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه ما يرفع الخلاف ويزيل كل احتمال فقال: حدثنا أبو ريب حدثنا محمد بن فضيل وحدثنا سويد بن سعيد

حدثنا علي بن مسهر جميعا عن أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها" . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال للذي علمه الصلاة: "وأفعل ذلك في صلاتك كلها" وسيأتي. ومن الحجة في ذلك أيضا ما رواه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال: أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس وأقبل عبادة بن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم وأبو نعيم يجهر بالقراءة فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن، فلما انصرف قلت لعبادة: سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر؟ قال: أجل! صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: "هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة" فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك قال: "فلا. وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن" . وهذا نص صريح في المأموم. وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن إسحاق بمعناه وقال: حديث حسن. والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي والتابعين وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق يرون القراءة خلف الإمام. وأخرجه أيضا الدارقطني قال: هذا إسناد حسن، ورجاله كلهم ثقات، وذكر أن محمود بن الربيع كان يسكن إيلياء، وأن أبا نعيم أول من أذن في بيت المقدس. وقال أبو محمد عبد الحق: ونافع بن محمود لم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم ولا أخرج له البخاري ومسلم شيئا. وقال فيه أبو عمر: مجهول. وذكر الدارقطني عن يزيد بن شريك قال: سألت عمر عن القراءة خلف الإمام فأمرني أن اقرأ قلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت، قال: وإن جهرت. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. وروي عن جابر بن عبد الله

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن فما صنع فاصنعوا" . قال أبو حاتم: هذا يصح لمن قال بالقراءة خلف الإمام وبهذا أفتى أبو هريرة الفارسي أن يقرأ بها في نفسه حين قال له: إني أحيانا أكون وراء الإمام، ثم استدل بقوله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبد ي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين" الحديث.
العاشرة- أما ما استدل به الأولون بقول عليه السلام: "وإذا قرأ فأنصتوا" أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري وقال: وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" قال الدارقطني: هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة، وخالفه الحفاظ من أصحاب قتادة فلم يذكروها، منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة. قال الدارقطني: فإجماعهم يدل على وَهَمِه. وقد روي عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي ولكن ليس هو بالقوي تركه القطّعان. وأخرج أيضا هذه الزيادة أبو داود من حديث أبي هريرة وقال: هذه الزيادة "إذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة. وذكر أبو محمد عبد الحق: أن مسلما صحح حديث أبي هريرة وقال: هو عندي صحيح.
قلت: ومما يدل على صحتها عنده إدخالها في كتابه من حديث أبي موسى وإن كانت مما لم يجمعوا عليها. وقد صححها الإمام أحمد بن حنبل وابن المنذر. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فإنه نزل بمكة وتحريم الكلام في الصلاة نزل بالمدينة - كما قال زيد بن أرقم فلا حجة فيها فإن المقصود كان المشركين على ما قال سعيد بن المسيب. وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أنها نزلت في رفع الصوت خلف رسول الله. وقال: عبد الله بن عامر ضعيف. وأما قوله عليه السلام: "ما لي أنازع القرآن" فأخرجه مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي، واسمه فيما قال مالك: عمرو

وغيره يقول عامر وقيل يزيد وقيل عمارة وقيل عباد، يكنى أبا الوليد توفي سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وسبعين سنة، لم يرو عنه الزهري إلا هذا الحديث الواحد وهو ثقة وروى عنه محمد بن عمرو وغيره. والمعنى في حديثه: لا تجهروا إذا جهرت فإن ذلك تنازع وتجاذب وتخالج اقرؤوا في أنفسكم. يبينه حديث عبادة وفتيا الفاروق وأبي هريرة الراوي للحديثين. فلو فهم المنع جملة من قوله: "ما لي أنازع القرآن" لما أفتى بخلافه، وقول الزهري في حديث ابن أكيمة: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله يريد بالحمد على ما بينا وبالله توفيقنا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" فحديث ضعيف أسنده الحسن بن عمارة وهو متروك، وأبو حنيفة وهو ضعيف، كلاهما عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر. أخرجه الدارقطني وقال: رواه سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وأما قول جابر: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام، فرواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قوله. قال ابن عبد البر: ورواه يحيى بن سلام صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ. وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن، وهو يشهد لصحة ما ذهب إليه ابن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها ولا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وفيه أيضا أن الإمام قراءته لمن خلفه قراءة، وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه غيره.

الحادية عشرة- قال ابن العربي: لما قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" واختلف الناس في هذا الأصل هل يحمل هذا النفي على التمام والكمال أو على الإجزاء؟ اختلفت الفتوى بحسب اختلاف حال الناظر، ولما كان الأشهر في هذا الأصل والأقوى أن النفي على العموم كان الأقوى من رواية مالك أن من لم يقرأ الفاتحة في صلاته بطلت. ثم نظرنا في تكرارها في كل ركعة، فمن تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: "افعل ذلك في صلاتك كلها" لزمه أن يعيد القراءة كما يعيد الركوع والسجود. والله أعلم.
الثانية عشرة- ما ذكرناه في هذا الباب من الأحاديث والمعاني في تعيين الفاتحة يرد على الكوفيين قولهم في أن الفاتحة لا تتعين، وأنها وغيرها من آي القرآن سواء. وقد عينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما ذكرناه، وهو المبين عن الله تعالى مراده في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} . وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. فدل هذا الحديث على أن قوله عليه السلام للأعرابي: "اقرأ ما تيسر معك من القرآن" ما زاد على الفاتحة، وهو تفسير قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ} [المزمل: 20] وقد روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القران - زاد في رواية - فصاعدا" . وقوله عليه السلام: "هي خداج - ثلاثا - غير تمام" أي غير مجزئة بالأدلة المذكورة. والخداج: النقص والفساد. قال الأخفش: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق.
والنظر يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة، لأنها صلاة لم تتم ومن خرج من صلاته وهي لم تتم فعليه إعادتها كما أمر، على حسب حكمها. ومن أدعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل، ولا سبيل إليه من وجه يلزم والله أعلم.
الثالثة عشرة- روي عن مالك أن القراءة لا تجب في شيء في الصلاة وكذلك كان الشافعي يقول بالعراق فيمن نسيها، ثم رجع عن هذا بمصر فقال: لا تجزئ صلاة من يحسن

فاتحة الكتاب إلا بها ولا يجزئه أن ينقص حرفا منها فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد صلاته وإن قرأ بغيرها. وهذا هو الصحيح في المسألة، وأما ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها فذكر ذلك له فقال: كيف كان الركوع والسجود قالوا: حسن قال: لا بأس إذاً، فحديث منكر اللفظ منقطع الإسناد، لأنه يرويه إبراهيم بن الحارث التيمي عن عمر، ومرة يرويه إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر، وكلاهما منقطع لا حجة فيه وقد ذكره مالك في الموطأ وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه، لأنه رماه مالك من كتابه بأخرة، وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" وقد روي عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة وهو الصحيح عنه. روى يحيى بن يحيى النيسابوري قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد بهم الصلاة. قال ابن عبد البر: وهذا حديث متصل شهده همام من عمر، روي ذلك من وجوه. وروى أشهب عن مالك قال: سئل مالك عن الذي نسي القراءة، أيعجبك ما قال عمر؟ فقال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال: يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به! أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا.
الرابعة عشرة- أجمع العلماء على أن لا صلاة إلا بقراءة، على ما تقدم من أصولهم في ذلك. وأجمعوا على أن لا توقيت في ذلك بعد فاتحة الكتاب إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا سورة واحدة لأنه الأكثر مما جاء عن النبي. قال مالك: وسنة القراءة أن يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. وقال الأوزاعي: يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القران وقرأ بغيرها أجزأه، وقال: وإن نسي أن يقرأ في ثلاث ركعات أعاد. وقال الثوري: يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ويسبح في الأخريين إن شاء، وإن شاء قرأ وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت

صلاته، وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال: اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين وبه قال النخعي. قال سفيان: فإن لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لأنه لا تجزئه قراءة ركعة. قال: وكذلك إن نسي أن يقرأ ركعة في صلاة الفجر. وقال أبو ثور: لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة، كقول الشافعي المصري وعليه جماعة أصحاب الشافعي، وكذلك قال ابن خويز منداد المالكي قال: قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة، وهذا هو الصحيح في المسألة. روى مسلم عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحيانا، وكان يطول في الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية وكذلك في الصبح. وفي رواية: ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وهذا نص صريح وحديث صحيح لما ذهب إليه مالك. ونص في تعيّن الفاتحة في كل ركعة خلافا لمن أبى ذلك، والحجة في السنة لا فيما خالفها.
الخامسة عشرة- ذهب الجمهور إلى أن ما زاد على الفاتحة من القراءة ليس بواجب، لما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: في كل صلاة قراءة فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى منا أخفينا منكم، فمن قرأ بأم القرآن فقد أجزأت عنه ومن زاد فهو أفضل. وفي البخاري: وإن زدت فهو خير. وقد أبى كثير من أهل العلم ترك السورة لضرورة أو لغير ضرورة، منهم عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وخوات بن جبير ومجاهد وأبو وائل وابن عمر وابن عباس وغيرهم قالوا: لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها من القرآن، فمنهم من حد آيتين، ومنهم من حد آية، ومنهم من لم يحد، وقال: شيء من القرآن معها وكل هذا موجب لتعلم ما تيسر من القرآن على كل حال مع فاتحة الكتاب، لحديث عبادة وأبي سعيد الخدري وغيرهما. وفي المدونة: وكيع عن الأعمش عن خيثمة قال: حدثني من سمع عمر بن الخطاب يقول: لا تجزئ صلاة من لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها. واختلف المذهب في قراءة السورة على ثلاثة أقوال: سنة فضيلة واجبة.

السادسة عشرة- من تعذر ذلك عليه بعد بلوغ مجهوده فلم يقدر على تعلم الفاتحة أو شيء من القرآن ولا علق منه بشيء، لزمه أن يذكر الله في موضع القراءة بما أمكنه من تكبير أو تهليل أو تحميد أو تسبيح أو تمجيد أو لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صلى وحده أو مع إمام فيما أسر فيه الإمام، فقد روى أبو داود وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال: "قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" قال: يا رسول الله هذا لله، فما لي؟ قال: "قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني" .
السابعة عشرة- فإن عجز عن إصابة شيء من هذا اللفظ فلا يدع الصلاة مع الإمام جهده فالإمام يحمل ذلك عنه إن شاء الله، وعليه أبدا أن يجهد نفسه في تعلم فاتحة الكتاب فما زاد إلى أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذره الله.
الثامنة عشرة- من لم يواته لسانه إلى التكلم بالعربية من الأعجميين وغيرهم ترجم له الدعاء العربي بلسانه الذي يفقه لإقامة صلاته، فإن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى.
التاسعة عشرة- لا تجزئ صلاة من قرأ بالفارسية وهو يحسن العربية في قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: تجزئه القراءة بالفارسية وإن أحسن العربية لأن المقصود إصابة المعنى. قال ابن المنذر: لا يجزئه ذلك، لأنه خلاف ما أمر الله به وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف جماعات المسلمين. ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال.
الموفية عشرين- من افتتح الصلاة كما أمر وهو غير عالم بالقراءة، فطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة ويتصور ذلك بأن يكون سمع من قرأها فعلقت بحفظه من مجرد السماع فلا يستأنف الصلاة، لأنه أدى ما مضى على حسب ما أمر به فلا وجه لإبطاله. قاله في كتاب ابن سحنون.

الباب الثالث: في التأمين، وفيه ثمان مسائل
الأولى- ويسن لقارئ القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على نون {وَلا الضَّالِّينَ} : آمين ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن.
الثانية- ثبت في الأمهات من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" . قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فترتبت المغفرة للذنب على مقدمات أربع تضمنها هذا الحديث: الأولى: تأمين الإمام، الثانية: تأمين من خلفه، الثالثة: تأمين الملائكة، الرابعة: موافقة التأمين، قيل في الإجابة وقيل في الزمن وقيل في الصفة من إخلاص الدعاء لقوله عليه السلام: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" .
الثالثة- روى أبو داود عن أبي مصّبِّح المَقراني قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري وكان من الصحابة، فيحدث أحسن الحديث فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال: اختمه بآمين. فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة. قال أبو زهير ألا أخبركم عن ذلك، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأتينا على رجل قد ألح في المسألة فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوجب إن ختم" فقال له رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ قال: "بآمين فإنه ختم بآمين فقد أوجب" فانصرف الرجل الذي سأل النبي فأتى الرجل فقال له: اختم يا فلان وأبشر. قال ابن عبد البر: أبو زهير النميري اسمه يحيى بن نفير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم" . وقال وهب بن منبه: آمين أربعة أحرف يخلق الله من كل حرف ملكا يقول: اللهم اغفر لكل من قال آمين "في النسخة: آمني" وفي الخبر "لقنني جبريل آمين عند

فراغي من فاتحة الكتاب، وقال إنه كالخاتم على الكتاب" وفي حديث آخر: "آمين خاتم رب العالمين" . قال الهروي قال أبو بكر: معناه أنه طابع الله على عباده، لأنه يدفع به عنهم الآفات والبلايا، فكان كخاتم الكتاب الذي يصونه ويمنع من إفساده وإظهار ما فيه. وفي حديث آخر "آمين درجة في الجنة" . قال أبو بكر: معناه أنه حرف يكتسب به قائله درجة في الجنة.
االرابعة- معنى آمين عند أكثر أهل العلم: اللهم استجب لنا، وُضِع موضع الدعاء. وقال قوم: هو اسم من أسماء الله، روي عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف، ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح، قاله ابن العربي. وقيل معنى آمين: كذلك فليكن، قاله الجوهري. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى آمين؟ قال: "رب افعل". وقال مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للبركة. وقال الترمذي: معناه لا تخيب رجاءنا.
الخامسة- وفي آمين لغتان: المد على وزن فاعيل كياسين. والقصر على وزن يمين. قال الشاعر في المد:
يا رب لا تسلبني حبها أبدا ... ويرحم الله عبد ا قال آمينا
وقال آخر:
آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أبلغها ألفين آمينا
وقال آخر في القصر:
تباعد مني فطحل إذ سألته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وتشديد الميم خطأ، قاله الجوهري. وقد روي عن الحسن وجعفر الصادق التشديد، وهو قول الحسين بن الفضل، من أمّ إذا قصد، أي نحن قاصدون نحوك ومنه قوله: {وَلا آمِّينَ

الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]. حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري. قال الجوهري: وهو مبني على الفتح مثل أين وكيف لاجتماع الساكنين. وتقول منه: أمن فلان تأمينا.
السادسة- اختلف العلماء هل يقولها الإمام وهل يجهر بها، فذهب الشافعي ومالك في رواية المدنيين إلى ذلك. وقال الكوفيون وبعض المدنيين: لا يجهر بها. وهو قول الطبري وبه قال ابن حبيب من علمائنا. وقال ابن بكير: هو مخير. وروى ابن القاسم عن مالك أن الإمام لا يقول آمين وإنما يقول ذلك من خلفه، وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك. وحجتهم حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله" وذكر الحديث، أخرجه مسلم. ومثله حديث سُمَيّ عن أبي هريرة وأخرجه مالك. والصحيح الأول لحديث وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} قال: "آمين" يرفع بها صوته، أخرجه أبو داود والدارقطني وزاد "قال أبو بكر: هذه سنة تفرد بها أهل الكوفة هذا صحيح والذي بعده". وترجم البخاري "باب جهر الإمام بالتأمين".
وقال عطاء: "آمين" دعاء، أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد للجّة. قال الترمذي: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين ولا يخفيها. وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. وفي الموطأ والصحيحين قال ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "آمين" . وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة قال: ترك الناس آمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: "آمين" حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد. وأما حديث أبي موسى وسمي فمعناهما التعريف بالموضع الذي يقال فيه آمين، وهو إذا قال الإمام: "ولا الضالين" ليكون قولهما معا ولا يتقدموه بقول: آمين

لما ذكرناه والله أعلم. ولقوله عليه السلام: "إذا أمن الإمام فأمنوا" . وقال ابن نافع في كتاب ابن الحارث: لا يقولها المأموم إلا أن يسمع الإمام يقول: "ولا الضالين". وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل. وقال ابن عبد وس: يتحرى قدر القراءة ويقول: آمين.
السابعة- قال أصحاب أبي حنيفة: الإخفاء بآمين أولى من الجهر بها لأنه دعاء وقد قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 5]. قالوا: والدليل عليه ما روي في تأويل قوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]. قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمن فسماهما الله داعيين.
الجواب: أن إخفاء الدعاء إنما كان أفضل لما يدخله من الرياء. وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة فشهودها إشهار شعار ظاهر وإظهار حق يندب العباد إلى إظهاره، وقد ندب الإمام إلى إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها فإذا كان الدعاء مما يسن الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له وجار مجراه وهذا بيّن.
الثامنة- كلمة آمين لم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السلام. ذكر الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول": حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال حدثنا أبي قال حدثنا رزين مؤذن مسجد هشام بن حسان قال حدثنا أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهو تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون " قال أبو عبد الله: معناه أن موسى دعا على فرعون وأمن هارون فقال الله تبارك اسمه عندما ذكر دعاء موسى في تنزيله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] ولم يذكر مقالة هارون، وقال موسى: ربنا، فكان من هارون التأمين، فسماه داعيا في تنزيله، إذ صير ذلك منه دعوة. وقد قيل: إن آمين خاص لهذه الأمة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" أخرجه ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال...، الحديث. وأخرج أيضا من

حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما حسدتكم اليهود على شي ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين" . قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما حسدنا أهل الكتاب لأن أولها حمد لله وثناء عليه ثم خضوع له واستكانة، ثم دعاء لنا بالهداية إلى الصراط المستقيم ثم الدعاء عليهم مع قولنا آمين.
الباب الرابع - فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والإعراب وفضل الحامدين:
وفيه ست وثلاثون مسألة
الأولى- قوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبد ي الحمد لي" . وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها" . وقال الحسن: ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها. وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ" . وفي "نوادر الأصول" عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك" . قال أبو عبد الله: معناه عندنا أنه قد أعطي الدنيا ثم أعطي على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها لأن الدنيا فانية والكلمة باقية، هي من الباقيات الصالحات قال الله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [مريم: 76]. وقيل في بعض الروايات: لكان ما أعطى أكثر مما أخذ. فصير الكلمة إعطاء من العبد، والدنيا أخذا من الله فهذا

في التدبير. كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد والدنيا من الله وكلاهما من الله في الأصل الدنيا منه والكلمة منه أعطاه الدنيا فأغناه وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة. وروى ابن ماجة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: "أن عبد ا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعَضَلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا ربنا إن عبد ك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله عز وجل وهو أعلم بما قال عبد ه، ماذا قال عبد ي؟ قالا يا رب إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما اكتباها كما قال عبد ي حتى يلقاني فأجزيه بها" .
قال أهل اللغة: أعضل الأمر: اشتد واستغلق، والمعضّلات [بتشديد الضاد": الشدائد. وعضّلت المرأة والشاة: إذا نشِب ولدها فلم يسهل مخرجه، بتشديد الضاد أيضا فعلى هذا يكون: أعضلت الملكين أو عضلت الملكين بغير باء. والله أعلم. وروي عن مسلم عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض" وذكر الحديث.
الثانية- اختلف العلماء أيما أفضل قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إله إلا الله؟ فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط. وقالت طائفة: لا إله إلا الله أفضل لأنها تدفع الكفر والإشراك وعليها يقاتل الخلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" . واختار هذا القول ابن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له" .

الثالثة- أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه وأن مما أنعم الله به الإيمان فدل على أن الإيمان فعله وخلقه والدليل على ذلك قوله: "رب العالمين". والعالمون جملة المخلوقات ومن جملتها الإيمان لا كما قال القدرية: إنه خلق لهم على ما يأتي بيانه.
الرابعة - الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر:
وأبلج محمود الثناء خصصته ... بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد. والحمد أعم من الشكر والحمد: الذي كثرت خصال المحمودة. قال الشاعر:
إلى الماجد القرم الجواد المحمد
وبذلك سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر:
فشقّ له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
والمحمدة: خلاف المذمة. وأحمد الرجلُ: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محمودا، تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته، أي صادفته محمودا موافقا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل حُمَدَة - مثل هُمَزة - يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحَمَدة النار - بالتحريك -: صوت التهابها.
الخامسة- ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء وليس بمرضي. وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب "الحقائق" له عن جعفر الصادق وابن عطاء. قال ابن عطاء: معناه الشكر لله إذ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك: الحمد لله شكرا. قال ابن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم. وقال بعض العلماء: إن الشكر أعم من الحمد لأنه باللسان وبالجوارح

والقلب والحمد إنما يكون باللسان خاصة. وقيل: الحمد أعم لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعم من الشكر لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله. وقال الله لنوح عليه السلام: "{فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 28] وقال إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 3]. وقال في قصة داود وسليمان: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الإسراء: 111]. وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]. {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]. فهي كلمة كل شاكر.
قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر. ويذكر الحمد بمعنى الرضا يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته. ومنه قوله تعالى: {مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79]. وقال عليه السلام: "أحمد إليكم غسل الإحليل" أي أرضاه لكم. ويذكر عن جعفر الصادق في قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} : من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد، لأن الحمد حاء وميم ودال، فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الديمومية، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله. وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير "الحمد لله" قال: هو على ثلاثة أوجه: أولها إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك. والثاني أن ترضى بما أعطاك. والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه، فهذه شرائط الحمد.

السادسة- أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. وقال عليه السلام: "احثوا في وجوه المداحين التراب" رواه المقداد. وسيأتي القول فيه في "النساء" إن شاء الله تعالى.
فمعنى "الحمد لله رب العالمين" أي سبق الحمد مني لنفسي أن يحمد نفسه أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحمدي الخلق مشوب بالعلل. قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار. وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده حمد نفسه بنفسه لنفسه في الأزل فاستفراغ طوق عباده هو محمل العجز عن حمده. ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: "لا أحصي ثناء عليك" . وأنشدوا:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نُثني وفوق الذي نثني
وقيل: حَمِد نفسه في الأزل لما علم من كثره نعمه على عباده وعجزهم على القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم، لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط به ثقل المنة.
السابعة- وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من "الحمد لله". وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجّاج: "الحمد لله" بنصب الدال وهذا على إضمار فعل. ويقال: "الحمد لله" بالرفع مبتدأ وخبر وسبيل الخبر أن يفيد فما الفائدة في هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمدا، إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله. وقال غير سيبويه. إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا، فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال. وفي الحديث: "من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" . وقيل: إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده فالمعنى على هذا: قولوا الحمد لله. قال الطبري: "الحمد لله"

ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد لله، وعلى هذا يجيء قولوا إياك. وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه كما قال الشاعر:
وأعلم أنني سأكون رمسا ... إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم ... فقال القائلون لهم وزير
المعنى: المحفور له وزير، فحذف لدلاك ظاهر الكلام عليه وهذا كثير. وروي عن ابن أبي عبَلة: "الحمد لله" بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأول وليتجانس اللفظ وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم نحو: أجودك وهو منحدر من الجبل بضم الدال والجيم. قال:
.... اضرب الساقينُ أُمّك هابل
بضم النون لأجل ضم الهمزة. وفي قراءة لأهل مكة "مُرُدفين" بضم الراء إتباعا للميم، وعلى ذلك "مُقُتلين" بضم القاف. وقالوا: لإمِّك، فكسروا الهمزة اتباعا للاّم، وأنشد للنعمان بن بشير:
ويلِ امِّها في هواء الجو طالبة ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
الأصل: ويلٌ لأمها، فحذفت اللام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للأم ثم أتبع اللام الميم. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: "الحمدِ لله" بكسر الدال على اتباع الأول الثاني.
الثامنة- قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك. وفي الصحاح: والرب اسم من أسماء الله تعالى ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك قال الحارث بن حِلِّزة:
وهو الرب والشهيد على يوم ...
الحيارين والبلاء بلاء

والرب: السيد: ومن قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]. وفي الحديث: "أن تلد الأمة ربتها" أي سيدتها وقد بيناه في كتاب "التذكرة". والرب: المصلح والمدبر والجابر والقائم. قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب. وفي الحديث: "هل لك من نعمة تربُّها عليه" أي تقوم بها وتصلحها. والرب: المعبود ومنه قول الشاعر:
أربٌّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
ويقال على التكثير: رباه ورببه وربته، حكاه النحاس. وفي الصحاح: ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنىً، أي رباه. والمربوب: المربى.
التاسعة- قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن كما في آخر "آل عمران" وسورة "إبراهيم" وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال.
واختلف في اشتقاقه فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم ومنه قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]. فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها.
فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.
العاشرة- متى أدخلت الألف واللام على "رب" اختص الله تعالى به، لأنها للعهد وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد وزيد رب الدار فالله سبحانه رب الأرباب يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورازقه وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمُمَلَّك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده وإنما

يملك شيئا دون شيء وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين.
قوله تعالى: {الْعَالَمِينَ} اختلف أهل التأويل في "العالمين" اختلافا كثيراً، فقال قتادة: العالمون جمع عالم وهو كل موجود سوى الله تعالى ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم. وقيل: أهل كل زمان عالم قاله الحسين بن الفضل، لقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] أي من الناس. وقال العجاج:
فخِنْدِفٌ هامة هذا العأْلَمِ
وقال جرير بن الخَطَفي:
تَنَصَّفُه البرية وهو سامٍ ... ويُضحي العالَمون له عيالا
وقال ابن عباس: العالمون الجن والإنس، دليله قوله تعالى: {ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1] ولم يكن نذيرا للبهائم. وقال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: الإنس والجن والملائكة والشياطين. ولا يقال للبهائم: عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة.
قال الأعشى:
ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا
وقال زيد بن أسلم: هم المرتزقون، ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى قول ابن عباس أيضا: كل ذي روح دب على وجه الأرض. وقال وهب بن منبه: إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها. وقال أبو سعيد الخدري: إن لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد. وقال مقاتل: العالمون ثمانون ألف عالم، أربعون ألف عالم في البر وأربعون ألف عالم في البحر. وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الجن عالم والإنس عالم وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته.

قلت: والقول الأول أصح هذه الأقوال، لأنه شامل لكل مخلوق وموجود دليله قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 23] ثم هو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده. كذا قال الزجاج قال: العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة. وقال الخليل: العلم والعلامة والمعلم: ما دل على الشيء، فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا وهذا واضح. وقد ذكر أن رجلا قال بين يدي الجنيد: الحمد لله فقال له: أتمها كما قال الله قل رب العالمين فقال الرجل: ومن العالمين حتى تذكر مع الحق؟ قال: قل يا أخي؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر.
الثانية عشرة- يجوز الرفع والنصب في "رب" فالنصب على المدح والرفع على القطع، أي هو رب العالمين.
الثالثة عشرة - قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
وصف نفسه تعالى بعد {رَبِّ الْعَالَمِينَ} بأنه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لأنه لما كان في اتصافه بـ "رب العالمين" ترهيب قرنه بـ "الرحمن الرحيم" لما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]. وقال: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" . وقد تقدم ما في هذين الاسمين من المعاني فلا معنى لإعادته.
الرابعة عشرة- قوله تعالى:
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قرأ محمد بن السَّمَيقع بنصب مالك، وفيه أربع لغات: مالك ومَلِك ومَلْك - مخففة من مَلِك - ومَليك. قال الشاعر:
وأيام لنا غر طوال ...
عصينا الملك فيها أن ندينا

وقال آخر:
فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها
الخلائق: الطبائع التي جبل الإنسان عليها. وروي عن نافع إشباع الكسرة في "مَلِكِ" فيقرأ "ملكي" على لغة من يشبع الحركات وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره.
الخامسة عشرة- اختلف العلماء أيما أبلغ: ملك أو مالك؟ والقراءتان مرويتان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. ذكرهما الترمذي فقيل: "ملك" أعم وأبلغ من "مالك" إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا ولأن الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قال أبو عبيدة والمبرد. وقيل: "مالك" أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك.
وقال أبو علي: حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة بـ "مالك" أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقول: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فلا فائدة في قراءة من قرأ "مالك" لأنها تكرار. قال أبو علي: ولا حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} فالخالق يعم. وذكر المصور لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة وكما قال تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} بعد قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها وكما قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فذكر {الرَّحْمَنِ} الذي هو عام وذكر {الرَّحِيمِ} بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} . وقال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من "ملك" و"ملك" أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا، واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة

أوجه، الأول: أنك تضيفه إلى الخاص والعام فتقول: مالك الدار والأرض والثوب كما تقول: مالك الملوك. الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير وإذا تأملت هذين القولين وجدتهما واحدا. والثالث: أنك تقول: مالك الملك ولا تقول: ملك الملك. قال ابن الحصار: إنما كان ذلك لأن المراد من "مالك" الدلالة على الملك - بكسر الميم - وهو لا يتضمن "الملك" - بضم الميم - و"ملك" يتضمن الأمرين جميعا فهو أولى بالمبالغة. ويتضمن أيضا الكمال ولذلك استحق الملك على من دونه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] ولهذا قال عليه السلام: "الإمامة في قريش" وقريش أفضل قبائل العرب والعرب أفضل من العجم وأشرف. ويتضمن الاقتدار والاختيار، وذلك أمر ضروري في الملك، إن لم يكن قادرا مختارا نافذا حكمه وأمره، قهره عدوه وغلبه غيره وازدرته رعيته، ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد، ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أ} [النمل: 20، 21] إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك.
قلت: وقد احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ لأن فيه زيادة حرف فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك.
قلت: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك وفيه من المعنى ما ليس في مالك على ما بينا والله أعلم.
السادسة عشرة- لا يجوز أن يتسمى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض" وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك - زاد مسلم - لا مالك إلا الله عز وجل" قال سفيان: مثل: شاهان شاه. وقال

أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع فقال: أوضع. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل [كان] يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه" . قال ابن الحصار: وكذلك "ملك يوم الدين" و"مالك الملك" لا ينبغي أن يختلف في أن هذا محرم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء، وأما الوصف بمالك وملك هي:
السابعة عشرة- فيجوز أن يوصف بهما من اتصف بمفهومهما، قال الله العظيم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة: 247]. وقال صلى الله عليه وسلم: " ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة" .
الثامنة عشرة- إن قال قائل: كيف قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ويوم الدين لم يوجد بعد، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده؟ قيل له: اعلم أن مالكا اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل، ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا، كقولك: هذا ضارب زيد غدا، أي سيضرب زيدا. وكذلك: هذا حاج بيت الله في العام المقبل، تأويله سيحج في العام المقبل أفلا ترى أن الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعله بعد، وإنما أريد به الاستقبال، فكذلك قول عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} على تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدين أو في يوم الدين إذا حضر.
ووجه ثان: أن يكون تأويل المالك راجع إلى القدرة، أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم الدين وإحداثه، لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه والله عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء.
والوجه الأول أمس بالعربية وأنفذ في طريقها، قاله أبو القاسم الزجاجي.

ووجه ثالث: فيقال لم خصص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره؟ قيل له: لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك مثل فرعون ونمروذ وغيرهما وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له كما قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] فأجاب جميع الخلق: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] فلذلك قال: مالك يوم الدين، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره سبحانه لا إله إلا هو.
التاسعة عشرة- إن وُصِف الله سبحانه بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله.
الموفية العشرين- اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما. وقد يطلق اليوم على الساعة منه، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم، وربما عبروا عن الشدة باليوم يقال: يوم أيوم كما يقال: ليله ليلاء. قال الراجز:
نعم أخو الهيجاء في اليوم اليمي
وهو مقلوب منه أخر الواو وقدم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طرفا، كما قالوا: أدْلٍ في جمع دلو.
الحادية والعشرون- الدين: الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وقتادة وغيرهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: 25] أي حسابهم. وقال: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] و {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28] وقال: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] أي مجزيون محاسبون. وقال لبيد:

حصادك يوما ما زرعت وإنما ... يدان الفتى يوما كما هو دائن
آخر:
إذا رمونا رميناهم ... ودناهم مثل ما يقرضونا
آخر:
وأعلم يقينا أن ملكك زائل ... وأعلم بأنّ كما تدين تدان
وحكى أهل اللغة: دِنته بفعله دينا "بفتح الدال" ودينا "بكسرها" جزيته، ومنه الديان في صفة الرب تعالى أي المجازي، وفي الحديث: "الكيس من دان نفسه" أي حاسب. وقيل: القضاء، وروي عن ابن عباس أيضا ومنه قول طرفة:
لعمرك ما كانت حمولة معبد ... على جدها حربا لدينِك من مضر
ومعاني هذه الثلاثة متقاربة. والدين أيضا: الطاعة، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غر طوال ... عصينا المَلْك فيها أن ندينا
فعلى هذا هو لفظ مشترك وهي:
الثانية والعشرون- قال ثعلب: دان الرجل إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا عز، ودان إذا ذل، ودان إذا قهر، فهو من الأضداد. ويطلق الدين على العادة والشأن كما قال:
كدينك من أم الحويرث قبلها
وقال المثقب [يذكر ناقته]:
تقول إذا درأتُ لها وضيني ...
أهذا دينُه أبدا وديني

والدين: سيرة الملك. قال زهير:
لئن حللت بجو في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدَك
أراد في موضع طاعة عمرو. والدين: الداء عن اللحياني. وأنشد:
يا دين قلبك من سلمى وقد دينا
الثالثة والعشرون- قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين، لأن من أول السورة إلى ههنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه كقوله {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21]. ثم قال: {إن هذا كان لكم جزاء} . وعكسه: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] على ما يأتي. و {نَعْبُدُ} معناه نطيع والعبادة الطاعة والتذلل. وطريق معبد إذا كان مذللا للسالكين قال الهروي. ونطق المكلف به إقرار بالربوبية وتحقيق لعبادة الله تعالى، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نطلب العون والتأييد والتوفيق.
قال السلمي في حقائقه: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا حفص الفرغاني يقول: من أقرَّ بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقد برئ من الجبر والقدر.
الرابعة والعشرون- إن قيل: لم قدم المفعول على الفعل؟ قيل له: قدم اهتماما، وشأن العرب تقديم الأهم. يذكر أن أعرابيا سبَّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له الساب: إياك أعني: فقال له الآخر: وعنك أعرض، فقدما الأهم. وأيضا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود فلا يجوز نعبدك ونستعينك ولا نعبد إياك ونستعين إياك، فيقدم الفعل على كناية المفعول وإنما يتبع لفظ القرآن. وقال العجاج:
إياك أدعو فتقبل مَلَقي ...
واغفر خطاياي وكثّر ورقي

ويروى: وثَمِّر. وأما قول الشاعر:
إليك حتى بَلَغَتْ إياكا
فشاذ لا يقاس عليه. والورق بكسر الراء من الدراهم، وبفتحها المال. وكرر الاسم لئلا يتوهم إياك نعبد ونستعين غيرك.
الخامسةوالعشرون - الجمهور من القراء والعلماء على شد الياء من "إياك" في الموضعين. وقرأ عمرو بن قائد: "إياك" بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها. وهذه قراءة مرغوب عنها، فإن المعنى يصير: شمسك نعبد أو ضوءك وإياة الشمس "بكسر الهمزة": ضوءها وقد تفتح. وقال:
سقته إياة الشمس إلا لِثاتِه ... أُسِفّ فلم تَكدِم عليه بإثمد
فإن أسقطت الهاء مددت. ويقال: الإياة للشمس كالهالة للقمر وهي الدارة حولها. وقرأ الفضل الرقاشي: "أياك" "بفتح الهمزة" وهي لغة مشهورة. وقرأ أبو السَّوار الغَنَوي: "هياك" في الموضعين وهي لغة قال:
فهِيّاك والأمر الذي إن توسعت ...
موارده ضاقت عليك مصادره
السادسة والعشرون- قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} عطف جملة على جملة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: "نِستعين" بكسر النون وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة ليدل على أنه من استعان، فكسرت النون كما تكسر ألف الوصل. وأصل "نستعين" نستعون قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء، والمصدر

استعانة والأصل استعوان، قلبت حركة الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة، وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى ولزمت الهاء عوضا.
السابعة والعشرون- قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} اهدنا دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب، والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. قال بعض العلماء: فجعل الله جل وعز عظم الدعاء وجملته موضوعا في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء ونصفها فيه مجمع الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به [الداعي] لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به، وفي الحديث: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" . وقيل المعنى: أرشدنا باستعمال السنن في أداء فرائضك وقيل: الأصل فيه الإمالة ومنه قوله تعالى: {إنا هُدنا إليك} [الأعراف: 156] أي ملنا، وخرج عليه السلام في مرضه يتهادى بين اثنين، أي يتمايل. ومنه الهدية لأنها تمال من مِلك إلى مِلك. ومنه الهدي للحيوان الذي يساق إلى الحرم، فالمعنى مل بقلوبنا إلى الحق. وقال الفضيل بن عياض: "الصراط المستقيم" طريق الحج، وهذا خاص والعموم أولى. قال محمد بن الحنفية في قوله عز وجل {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} : هو دين الله الذي لا يقبل من العبادة غيره. وقال عاصم الأحول عن أبي العالية: "الصراط المستقيم" رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: "الصراط المستقيم" رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه قال: صدق ونصح.
الثامنة والعشرون- أصل الصراط في كلام العرب الطريق، قال عامر بن الطفيل:
شحنَّا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أذل من الصراط
وقال جرير:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا أعوج الموارد مستقيم
وقال آخر:
فصدّ عن نهج الصراط الواضح

حكى النقّاش: الصراط الطريق بلغة الروم، فقال ابن عطية: وهذا ضعيف جدا. وقرئ: السراط "بالسين" من الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يسترط من يسلكه. وقرئ بين الزاي والصاد. وقرئ بزاي خالصة والسين الأصل. وحكى سلمة عن الفراء قال: الزراط بإخلاص الزاي لغة لعُذرة وكلب وبني القَيْن قال: وهؤلاء يقولون [في أصدق]: أزدق. وقد قالوا: الأزْد والأسْد، ولسق به ولصق به. و"الصراط" نصب على المفعول الثاني لأن الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر، قال الله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]. وبغير حرف كما في هذه الآية. "المستقيم" صفة لـ "الصراط" وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] وأصله مستقوم، نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
التاسعة والعشرون- قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} صراط بدل من الأول بدل الشيء من الشيء، كقولك: جاءني زيد أبوك. ومعناه: أدم هدايتنا، فإن الإنسان قد يهدى إلى الطريق ثم يقطع به. وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم بالله جل وعز والفهم عنه، قاله جعفر بن محمد. ولغة القرآن {الَّذِينَ} في الرفع والنصب والجر وهذيل تقول: اللذون في الرفع، ومن العرب من يقول: اللذو، ومنهم من يقول الذي، وسيأتي.
وفي "عليهم" عشر لغات، قرئ بعامتها: "عليهُم" بضم الهاء وإسكان الميم. "وعليهِم" بكسر الهاء وإسكان الميم. و"عليهمي" بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة. و"عليهمو" بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة. و"عليهمو" بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم. و"عليهم" بضم الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء. وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القراء:

"عليهمي" بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم، حكاها الحسن البصري عن العرب. و"عليهُمِ" بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء. و"عليهِمُ" بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو. و"عليهم" بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلها صواب، قاله ابن الأنباري.
الموفية الثلاثين- قرأ عمر بن الخطاب وابن الزبير رضي الله عنهما "صراط من أنعمت عليهم". واختلف الناس في المنعم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69]. فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان.
الحادية والثلاثون- في هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعال منه طاعة كانت أو معصية، لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: الآية]. فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألا يضلهم، وكذلك يدعون فيقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] الآية.
الثانية والثلاثون- قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
اختلف في "المغضوب عليهم" و"الضالين" من هم؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسرا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والترمذي في جامعه. وشهد لهذا التفسير

أيضا قوله سبحانه في اليهود: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61 وآل عمران: 112]. وقال: { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 6] وقال في النصارى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. وقيل: "المغضوب عليهم" المشركون. و"الضالين" المنافقون. وقيل: "المغضوب عليهم" هو من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة و"الضالين" عن بركة قراءتها. حكاه السلمي في حقائقه والماوردي في تفسيره وليس بشيء. قال الماوردي: وهذا وجه مردود، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم. وقيل: "المغضوب عليهم" باتباع البدع و"الضالين" عن سنن الهدى.
قلت: وهذا حسن، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن. و"عليهم" في موضع رفع لأن المعنى غضب عليهم. والغضب في اللغة الشدة. ورجل غضوب أي شديد الخلق. والغضوب: الحية الخبيثة لشدتها. والغضبة: الدرقة من جلد البعير، يطوى بعضها على بعض، سميت بذلك لشدتها. ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات وإرادة الله تعالى من صفات ذاته أو نفس العقوبة ومنه الحديث: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب " فهو صفة فعل.
الثالثة والثلاثون- قوله تعالى: {وَلا الضَّالِّينَ} الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق، ومنه: ضل اللبن في الماء أي غاب. ومنه: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة: 10] أي غبنا بالموت وصرنا ترابا، قال:
ألم تسأل فتخبرك الديار ... عن الحي المضلَّل أين ساروا
والضُّلَضِلَة: حجر أملس يردده الماء في الوادي. وكذلك الغضبة: صخرة في الجبل مخالفة لونه قال: أو غضبة في هضبة ما أمنعا
الرابعة والثلاثون- قرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب "غير المغضوب عليهم وغير الضالين" وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين، فالخفض على البدل من "الذين"

أو من الهاء والميم في "عليهم" أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمر بمثلك فأكرمه أو لأن "غير" تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما كما تقول: الحي غير الميت والساكن غير المتحرك والقائم غير القاعد، قولان: الأول للفارسي والثاني للزمخشري. والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين أو من الهاء والميم في عليهم كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. أو على الاستثناء كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعني، وحكي عن الخليل.
الخامسة والثلاثون - قوله تعالى: "لا" في {وَلا الضَّالِّينَ} اختلف فيها فقيل هي زائدة، قاله الطبري. ومنه قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]. وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكي والمهدوي. وقال الكوفيون: "لا" بمعنى غير وهي قراءة عمر وأبي وقد تقدم.
السادسة والثلاثون- الأصل في "الضالين": الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان مدة الألف واللام المدغمة. وقرأ أيوب السختياني: "ولا الضالين" بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة. حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد - يقرأ: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 39] فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب: دأبة وشأبة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كُثَيّر:
إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت
نُجز تفسير سورة الحمد، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة البقرة
سورة البقرة
وأول مبدوء به الكلام في نزولها وفضلها وما جاء فيها، وهكذا كل سورة إن وجدنا لها ذلك، فنقول: سورة البقرة مدنية، نزلت في مُدَدٍ شتى. وقيل: هي أول سورة نزلت بالمدينة، إلا قوله تعالى: {وأتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللهِ} [البقرة: 281] فإنه آخر آية نزلت من السماء، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن.
وهذه السورة فضلها عظيم وثوابها جسيم. ويقال لها: فسطاط القرآن، قاله خالد بن معدان. وذلك لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها. وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة، وابنه عبد الله في ثماني سنين كما تقدم.
قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة، وقال له: "اذهب فأنت أميرهم" أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وصححه. وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة" ، قال معاوية: بلغني أن البطلة: السحرة. وروي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" . وروى الدارمي عن عبد الله قال: ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله صراط. وقال: إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن المفصل. قال أبو محمد الدارمي. اللباب: الخالص. وفي صحيح البستي

عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام" . قال أبو حاتم البستي: قوله صلى الله عليه وسلم: "لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام" أراد: مردة الشياطين. وروى الدارمي في مسنده عن الشعبي قال قال عبد الله: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح، أربعا من أولها وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثا خواتيمها، أولها: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [البقرة: 284]. وعن الشعبي عنه: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وقال المغيرة بن سبيع - وكان من أصحاب عبد الله -: لم ينس القرآن. وقال إسحاق بن عيسى: لم ينس ما قد حفظ. قال أبو محمد الدارمي: منهم من يقول: المغيرة بن سميع.
وفي كتاب الاستيعاب لابن عبد البر: وكان لبيد بن ربيعة بن عام بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من شعراء الجاهلية، أدرك الإسلام فحسن إسلامه وترك قول الشعر في الإسلام، سأل عمر في خلافته عن شعره واستنشده، فقرأ سورة البقرة، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لأقول بيتا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران، فأعجب عمر قوله، وكان عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة. وقد قال كثير من أهل الأخبار: إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم. وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
قال ابن عبد البر: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولي، وهو أصح عندي. وقال غيره: بل البيت الذي قال في الإسلام:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه القرين الصالح
وسيأتي ما ورد في آية الكرسي وخواتيم البقرة، ويأتي في أول سورة آل عمران زيادة بيان لفضل هذه السورة، إن شاء الله تعالى.

{بسم الله الرحمن الرحيم}
الآية: 1 {الم}
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى: "الم" اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السورة، فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله جل وعز بها.
قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القران فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عز وجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد. حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبد الله قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3].

قلت: هذا القول في المتشابه وحكمه، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في "آل عمران" إن شاء الله تعالى. وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ويلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: {الم} و {المص} استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد. وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: {الم} قال: أنا الله أعلم، {الر} أنا الله أرى، {المص} أنا الله أفصل. فالألف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم. واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله:
فقلت لها قفي فقالت قاف
أراد: قالت وقفت. وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرا فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد: وإن شرا فشر. وأراد: إلا أن تشاء.

وقال آخر:
نادوهم ألا الجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلهم ألا فا
أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا. وفي الحديث: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: أقْ، كما قال عليه السلام "كفى بالسيف شا" معناه: شافيا.
وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور. وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لأن القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما، ولم يوجد ههنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينا. والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدا، وتكون "لا" جواب القسم. فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح.
فإن قيل: ما الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدق، ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده. وقال بعضهم: {الم} أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ. وقال قتادة في قوله: "الم" قال اسم من أسماء القرآن. وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقّه الناس. وقيل غير هذا من الأقوال، فالله أعلم.
والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. واختلف: هل لها محل من الإعراب؟ فقيل: لا، لأنها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة، وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه.

ومن قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر، أي هذه {الم} ، كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول: زيد ذلك الرجل. وقال ابن كَيسان النحوي: {الم} في موضع نصب، كما تقول: اقرأ {الم} أو عليك {الم} . وقيل: في موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها.
الآية: 2 {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}
قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} قيل: المعنى هذا الكتاب. و"ذلك" قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب، كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: 6]، ومنه قول خُفاف بن نُدبة:
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي أنا هذا. فـ "ذلك" إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه. وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 252] أي هذه، لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك. وفي البخاري "وقال معمر ذلك الكتاب هذا القرآن". {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} بيان ودلالة، كقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] هذا حكم الله.
قلت: وقد جاء "هذا" بمعنى "ذلك"، ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام: "يركبون ثبج هذا البحر" أي ذلك البحر، والله أعلم. وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب.
واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة، فقيل: "ذلك الكتاب" أي الكتاب الذي كتبتُ على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا ريب فيه، أي لا مبدل له. وقيل: ذلك الكتاب، أي الذي كتبتُ على نفسي في الأزل "أن رحمتي سبقت غضبي" . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي" في رواية: "سبقت". وقيل:

إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حِمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان" الحديث. وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة. وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفا "وفي النسخة: مستسرفا" لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل، فلما أنزل عليه بالمدينة: {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1 - 2] كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة. وقيل: إن "ذلك" إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل. و {الم} اسم للقرآن، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل، يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما. وقيل: إن "ذلك الكتاب" إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما، والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين، فعبر بـ "بذلك" عن الاثنين بشاهد من القرآن، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] أي عوان بين تينك: الفارض والبكر، وسيأتي. وقيل: إن "ذلك" إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال الكسائي: "ذلك" إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد. وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا. وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: "الم" الحروف التي تحديتكم بالنظم منها.
والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة، لاجتماعها. وتكتَّبت الخيل صارت كتائب. وكتبتُ البغلة: إذا جمعت بين شُفْري رَحِمِها بحلقة أو سير، قال:
لا تأمنن فَزاريا حللت به ...
على قَلوصك واكتبها بأسيار

والكتبة "بضم الكاف": الخرزة، والجمع كتب. والكتب: الخزر. قال ذو الرمة:
وفراء غرفية أثأى خوارزها ... مُشَلشِل ضيَّعتْه بينها الكتبُ
والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة، وسمي كتابا وإن كان مكتوبا، كما قال الشاعر:
تؤمِّل رجعة مني وفيها ... كتاب مثل ما لصق الغراء
والكتاب: الفرض والحكم والقدر، قال الجَعدِي:
يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني ... عنكم وهل أمنعنَّ الله ما فعلا
قوله تعالى: {لا رَيْبَ} نفي عام، ولذلك نصب الريب به. وفي الريب ثلاثة معان:
أحدها: الشك، قال عبد الله بن الزبعرى:
ليس في الحق يا أميمة ريب ... إنما الريب ما يقول الجهول
وثانيها: التهمة، قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني ... فقلت كلانا يا بثين مريب
وثالثها: الحاجة، قال:
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب، والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفة من صفاته، غير مخلوق ولا محدث، وإن وقع ريب للكفار. وقيل: هو خبر ومعناه النهي، أي لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا. وتقول: رابني هذا الأمر إذا أدخل عليك شكا وخوفا. وأراب: صار ذا ريبة، فهو مريب. ورابني أمره. وريب الدهر: صروفه.
قوله تعالى: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فيه ست مسائل:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44