كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

إذا دخل الجنة؟ قلنا: نعم! إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا. لا يقال: إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة فلا؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه. فإنا نقول: ما ذكرتموه محتمل، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه. وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة" . والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو". وهذا نص صريح وإسناده صحيح. فإن كان "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان، وإن كان من كلام الراوي على ما ذكر فهو أعلى بالمقال وأقعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي، والله أعلم. وكذلك "من شرب الخمر ولم يتب" و"من استعمل آنية الذهب والفضة" وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة. وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى، والحمد لله، وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة الكهف.
الآية: 24 {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}
قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي أرشدوا إلى ذلك. قال ابن عباس: "يريد لا إله إلا الله والحمد لله". وقيل: القرآن، ثم قيل: هذا في الدنيا، هدوا إلى الشهادة،

وقراءة القرآن. {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى صراط الله. وصراط الله: دينه وهو الإسلام. وقيل: هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول، وهو الحمد لله؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله. وقيل: الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة. {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى طريق الجنة.
الآية: 25 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
فيه سبع مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث. والصد: المنع؛ أي وهم يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل: الواو زائدة {وَيَصُدُّونَ} خبر {إِنَّ}. وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله {وَالْبَادِ} تقديره: خسروا إذا هلكوا. وجاء {وَيَصُدُّونَ} مستقبلا إذ هو فعل يديمونه؛ كما جاء قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28]؛ فكأنه قال: إن الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز. قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه؛ لأنه جاء بخبر {إنّ} جزما، وأيضا

فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر {إن} لبقي الشرط بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب.
الثانية: قوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن؛ لأنه لم يذكر غيره. وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه؛ قال الله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]. وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك.
الثالثة: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} أي للصلاة والطواف والعبادة؛ وهو كقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96]. {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} العاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل البادية ومن يقدم عليهم. يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه. وقيل: إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله؛ وهذا قول مجاهد ومالك؛ رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس وجماعة "إلى أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى". وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور. وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد؛ وهذا هو العمل اليوم. وقال بهذا جمهور من الأمة.

وهذا الخلاف يبنى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس. وللخلاف سببان: أحدهما: هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا. وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة "المائدة". وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة.
قلت: الصحيح ما قاله مالك؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية: وعثمان. وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا". قال الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، ووهم أيضا في قوله عبيدالله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله: "مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر

يوتها". وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: "لا، إنما هو مناخ من سبق إليه". وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الحج: 40] فأضافها إليهم. وقال عليه السلام يوم الفتح: "من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
الرابعة: قرأ جمهور الناس {سواء} بالرفع، وهو على الابتداء، و {العاكف} خبره. وقيل: الخبر {سواء} وهو مقدم؛ أي العاكف فيه والبادي سواء؛ وهو قول أبي علي، والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء. وقرأ حفص عن عاصم {سواء} بالنصب، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع {الْعَاكِفُ} به لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني: أن يكون حالا من الضمير في جعلناه. وقرأت فرقة {سواء} بالنصب {العاكِف} بالخفض، و {البادي} عطفا على الناس، التقدير: الذي جعلناه للناس العاكف والبادي. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة؛ وقد ذكرناه.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} شرط، وجوابه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. والإلحاد في اللغة: الميل؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم؛ فروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: الشرك. وقال عطاء: الشرك والقتل. وقيل: معناه صيد حمامه، وقطع شجره؛ ودخول غير محرم. وقال ابن عمر: "كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما

في الحل والآخر في الحرم؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه. وكذلك كان لعبد بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء. وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه". وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله.
السادسة: ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله. وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو "بعدن أبين" لعذبه الله.
قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة {نْ وَالْقَلَمِ} القلم: 1] مبينا، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
الباء في {بِإِلْحَادٍ} زائدة كزيادتها في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20]؛ وعليه حملوا قول الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أراد: نرجو الفرج. وقال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
أي رزق: وقال آخر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد

أي ما لاقت؛ والباء زائدة، وهو كثير. وقال الفراء: سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال: أرجو بذاك، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر:
بواد يمان ينبت الشث صدرة ... وأسفله بالمرخ والشبهان
أي المرخ. وهو قول الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحادا بظلم. وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير: ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم. وقد ذكرناه آنفا.
الآية: 26 {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
فيه مسألتان:-
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم؛ يقال: بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال: مكنتك ومكنت لك؛ فاللام في قوله: {لِإِبْرَاهِيمَ} صلة للتأكيد؛ كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، وهذا قول الفراء. وقيل: {بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام؛ فرتب قواعده عليه؛ حسبما تقدم بيانه في "البقرة". وقيل: {بَوَّأْنَا} نازلة منزلة فعل يتعدى باللام؛ كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ. وقال الشاعر:
كم من أخ لي ماجد ... بوأته بيدي لحدا

الثانية: {أَنْ لا تُشْرِكْ} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة {أَنْ لاَ يُشْرِكْ} بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك. وقيل: إن "أن" مخففة من الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة؛ مثل {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96]. وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب من قول {أَنْ لا تُشْرِكْ} لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم؛ وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء. وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان؛ كما قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام. وقيل: المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة "التوبة". والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.
الآية: 27 {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}
فيه سبع مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} قرأ جمهور الناس {وَأَذِّنْ} بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن {وآذن } بتخفيف الذال ومد الألف. ابن عطية: وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنهما {وأذن} على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على {بَوَّأْنَا}. والأذان الإعلام، وقد تقدم في "التوبة"

الثانية: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإبلاغ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة؛ إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير. وروي عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس: "أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت لا! قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء: لبيك اللهم لبيك". وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله {السجود} ، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث: إن الخطاب من قوله {أَنْ لا تُشْرِكْ} مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر؛ لأن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي} بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس "بالحج" بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال: {يَأْتُوكَ} وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم. ابن عطية: {رجالاً} جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. وقيل: الرجال

جمع رَجْل، والرَّجْل جمع راجل؛ مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع: رجال، بالتشديد؛ مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة {رُجَالاً} بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد {رُجَالَى} على وزن فعالى؛ فهو مثل كسالى. قال النحاس: في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روي عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة. والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} لأن معنى {ضَامِرٍ} معنى ضوامر. قال الفراء: ويجوز {يأتي} على اللفظ. والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال: ضمر يضمر ضمورا؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} [العاديات: 1] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.
الرابعة: قال بعضهم: إنما قال {رِجَالاً} لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقول {رجالاً} من قولك: هذا رجل؛ وهذا فيه بعد؛ لقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى: {رِجَالاً} وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس: "ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل يقول {يَأْتُوكَ رِجَالاً}. وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود {يأتون} وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس.
الخامسة: لا خلاف في جواز. الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة

النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: "اربطوا أوساطكم بأزركم" ومشى خلط الهرولة؛ خرجه ابن ماجه في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة: استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن؛ ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي. فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية: وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما. ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار؛ وهذا ضعيف.
قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في {البقرة} بيانه. والفج: الطريق الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في {الأنبياء}. والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة {يأتِين}. وقرأ أصحاب عبد الله {يأتون} وهذا للركبان و {يأتِين} للجمال؛ كأنه قال: وعلى إبل ضامرة يأتين {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي بعيد؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر؛ ومنه:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق

السابعة: واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا؛ فروى أبو داود قال: سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين". وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر؛ لأن مهاجرا المكي راوية مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله.
الآيتان: 28 - 29 {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
فيه ثلاث وعشرون مسألة:-
الأولى: قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا} أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا؛ أي ليحضروا. والشهود الحضور. {مَنَافِعَ لَهُمْ} أي المناسك، كعرفات والمشعر الحرام. وقيل المغفرة. وقيل التجارة. وقيل هو عموم؛ أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة؛ قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى. ولا خلاف في أن المراد بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } الثانية: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قد مضى في "البقرة" الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات. والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر؛ مثل

قولك: باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك. ومثل قولك عند الذبح {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] الآية. وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله؛ وقد مضى في "الأنعام".
الثالثة: واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر؛ فقال مالك رضي الله عنه: بعد صلاة الإمام وذبحه؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به. وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح. والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة، هذه رواية المزني عنه، وهو قول الطبري. وذكر الربيع عن البويطي قال قال الشافعي: ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. وهذا كقول مالك. وقال أحمد: إذا انصرف الإمام فاذبح. وهو قول إبراهيم. وأصح هذه الأقوال قول مالك؛ لحديث جابر بن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال: وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري، وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام. وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفيه: "ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين". خرجه مسلم أيضا. فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح، وحديث جابر يقيده. وكذلك حديث البراء أيضا، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا" الحديث. وقال أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح؛ لقوله عليه السلام: "من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم"

الرابعة: وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام، أو أقرب الأئمة إليه. وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده. وقال أهل الرأي: يجزيهم من بعد الفجر. وهو قول ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي. وتمسكوا بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، فأضاف النحر إلى اليوم. وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، قولان. ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر.
الخامسة: واختلفوا كم أيام النحر؟ فقال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده. وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما. وقال الشافعي: أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده. وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد. وقيل: "هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة"؛ وروي عن ابن سيرين. وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا: النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام. وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات: إحداها: كما قال مالك، والثانية: كما قال الشافعي، والثالثة: إلى آخر يوم من ذي الحجة؛ فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى.
قلت: وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني: الضحايا إلى هلال ذي الحجة؛ ولم يصح، ودليلنا قوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الآية، وهذا جمع قلة؛ لكن المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به. قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان: أحدهما: قول مالك والكوفيين. والآخر: قول الشافعي والشاميين؛ وهذان القولان مرويان

عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما. وقد روي عن قتادة قول سادس، وهو أن الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده؛ وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له.
السادسة: واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أولا؛ فروي عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا يجوز الذبح بالليل. وعليه جمهور أصحابه وأصحاب الرأي؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ} فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: الليالي داخلة في الأيام ويجزى الذبح فيها. وروي عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلا ولم يجز الضحية ليلا.
السابعة: قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} أي على ذبح ما رزقهم. {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} والأنعام هنا الإبل والبقر والغنم. وبهيمة الأنعام هي الأنعام، فهو كقولك صلاة الأولى، ومسجد الجامع.
الثامنة: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر معناه الندب عند الجمهور. ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل. وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية. ولقول عليه السلام: "فكلوا وادخروا وتصدقوا". قال الكيا: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ولا التصدق بجميعه.
التاسعة: دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها. ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد، ونذر المساكين وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبا كان أو تطوعا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار.
العاشرة: فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديا كاملا؛ قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون. قال ابن العربي: وهو الحق، لا شيء عليه غيره

وكذلك لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل - خلافا للمدونة - لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه.
قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل. والله أعلم.
الحادية عشرة: هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعاما؛ ففي كتاب محمد عن عبد الملك أنه يغرم طعاما. والأول أصح؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة.
الثانيةعشرة: فإن عطب من هذا الهدي المضمون الذي هو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين شيء قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب، ولا يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئا. قال إسماعيل بن إسحاق: لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، ولذلك جاز أن يأكل منه صاحبه ويطعم. فإذا عطب الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب، فاحتيط على الناس، وبذلك مضى العمل. وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي وقال: "إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس". وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدي التطوع: لا يأكل منها سائقها شيئا، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها. وفي صحيح مسلم: "ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك". وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس والشافعي في قوله الآخر، واختاره ابن المنذر، فقالا: لا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقته. قال أبو عمر: قوله عليه السلام "ولا يأكل منها أحد ولا أحد من أهل رفقتك" لا يوجد إلا في حديث ابن عباس. وليس ذلك

في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية. وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس، وعليه العمل عند الفقهاء. ويدخل في قوله عليه السلام: "خل بينها وبين الناس" أهل رفقته وغيرهم. وقال الشافعي وأبو ثور: ما كان من الهدي أصله واجبا فلا يأكل منه، وما كان تطوعا ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق. والمتعة والقرآن عنده نسك. ونحوه مذهب الأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدي المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام. وحكي عن مالك: لا يأكل من دم الفساد. وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر؛ كقول الشافعي والأوزاعي. تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]. وقال في فدية الأذى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: "أطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة". ونذر المساكين مصرح به، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إلى قوله {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36]. وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه. وكان عليه السلام قارنا في أصح الأقوال والروايات؛ فكان هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح. والله أعلم. وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم؛ فلا جرم كذلك شرع وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم صلى الله عليه وسلم.
الثالثة عشرة: {فَكُلُوا مِنْهَا} قال بعض العلماء: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} ناسخ لفعلهم، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها - كما قلناه في الهدايا - فنسخ الله ذلك بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ضحى فليأكل من أضحيته" ولأنه عليه السلام أكل من أضحيته وهديه. وقال الزهري: من السنة أن تأكل أولا من الكبد.

الرابعة عشرة: ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو وأهله الثلث. وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف. قال مالك في حديثه: وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل. روى الصحيح وأبو داود قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال: "يا ثوبان، أصلح لحم هذه الشاة" قال: فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة. وهذا نص في الفرض. واختلف قول الشافعي؛ فمرة قال: يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} فذكر شخصين. وقال مرة: يأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويطعم ثلثا، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] فذكر ثلاثة.
الخامسة عشرة: المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء. وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروي عن علي؛ والحديث حجة عليهم. واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية، وبه قال النخعي. وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي. فإذا أراد أن يضحي جعله هديا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم.
السادسة عشرة: اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال. روي عن علي وابن عمر رضي الله عنهما من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث. وروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي. وقالت جماعة: ما روي من النهي عن الادخار منسوخ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب. وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي، وقالت فرقة: يجوز الأكل منها مطلعا. وقالت طائفة: إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر، لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله عليه السلام: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت" ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ. وتنشأ هنا مسألة أصولية: وهي

السابعة عشرة: وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته. أعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
الثامنة عشرة: بيالأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة. وقد جاء المنع والإباحة معا؛ كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح. وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال: ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ قال: فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وروى أبو داود عن نبيشة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا إلا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل". قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصور، لأن الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمت الدافة. والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال: حدثنا أحمد قال حدثنا ليث قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة رضي الله عنها عن لحوم الأضاحي فقالت: قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: "كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة". وقال الشافعي: من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة. ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهي عن الادخار. ومن قال بالنهي

الرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما. والله أعلم. وسيأتي في سورة "الكوثر" الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} {الْفَقِيرَ} من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر؛ يقال: بئس يبأس بأسا إذا افتقر؛ فهو بائس. وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرا؛ ومنه قوله عليه السلام: "لكن البائس سعد بن خولة". ويقال: رجل بئيس أي شديد. وقد بؤس يبؤس بأسا إذ اشتد؛ ومنه قوله تعالى: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] أي شديد. وكلما كان التصدق بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر. وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه؛ فقيل النصف؛ لقوله: "فكلوا"، "وأطعموا" وقيل الثلثان؛ لقوله: "ألا فكلوا وادخروا واتجروا" أي اطلبوا الأجر بالإطعام. واختلف في الأكل والإطعام؛ فقيل واجبان. وقيل مستحبان. وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام؛ فالأكل مستحب والإطعام واجب؛ وهو قول الشافعي.
الموفية عشرين: قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج؛ كالحلق ورمي الجمار وإزالة شعث ونحوه. قال ابن عرفة: أي ليزيلوا عنهم أدرانهم. وقال الأزهري: التفث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ وهذا عند الخروج من الإحرام. وقال النضر بن شميل: التفث في كلام العرب إذهاب الشعث وسمعت الأزهري يقول: التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير. وقال الحسن: "هو إزالة قشف الإحرام. وقيل: التفث مناسك الحج كلها"، رواه ابن عمر وابن عباس. قال ابن العربي: لو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ولا أحاطوا بها خبرا؛ لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال:

إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح. قال: ولم يجيء فيه شعر يحتج به. وقال صاحب العين: التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء. وقال قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت:
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ... ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا
وما أشار إليه قطرب هو الذي قال ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث. وهذه صورة إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه ووفى نذره؛ والنذر ما لزم الإنسان والتزمه. قلت: ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي وذكر بيتا آخر فقال:
قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا ... إلى نجد وما انتظروا عليا
وقال الثعلبي: وأصل التفث في اللغة الوسخ؛ تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك؛ أي ما أوسخك وأقذرك. قال أمية بن أبي الصلت:
ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا ... وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
الماوردي: قيل لبعض الصلحاء ما المعنى في شعث المحرم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية؛ لقوله عليه السلام: "لا وفاء لنذر في معصية الله" ، وقوله: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك.

الثانية عشرة: للحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. قال إسماعيل بن إسحاق: طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن المراهق وعن المكي وعن كل من يحرم بالحج من مكة. قال: والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. قال: فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله. قال الحافظ أبو عمر: ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه. وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز والعراق. وقد روى ابن القاسم وابن عبد الحكم عن مالك أن طواف القدوم واجب. وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك: الطواف الواجب طواف القادم مكة. وقال: من نسي الطواف في حين دخوله مكة أو نسي شوطا منه، أو نسي السعي أو شوطا منه حتى رجع إلى بلده ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ويركع ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدي. وإن أصاب النساء رجع فطاف وسعى، ثم اعتمر وأهدى. وهذا كقوله فيمن نسي طواف الإفاضة سواء. فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا واجبان، والسعي أيضا. وأما طواف الصدر وهو المسمى بطواف الوداع فروى ابن القاسم وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء: أنه يرجع من بلده فيفيض إلا أن يكون تطوع بعد ذلك. وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه. وكذلك أجمعوا أن من فعل في حجه شيئا تطوع به من عمل الحج، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع؛ بخلاف الصلاة. فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة، إلا ما كان من الطواف بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع. ورواية ابن عبد الحكم عن مالك بخلاف ذلك؛

لأن فيها أن طواف الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدي، كما ينوب طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين دخوله مكة مع الهدي أيضا عن طواف القدوم. ومن قال هذا قال: إنما قيل لطواف الدخول واجب ولطواف الإفاضة واجب لأن بعضهما ينوب عن بعض، ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع من نسي أحدهما من بلده على ما ذكرنا، ولأن الله عز وجل لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، وقال في سياق الآية: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف. وأسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فقال: هو طواف الوداع. وهذا يدل على أنه واجب، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه عليه السلام رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه، ولا يرخص إلا في الواجب.
الثالثة والعشرون: اختلف المتأولون في وجه صفة البيت بالعتيق؛ فقال مجاهد والحسن: العتيق القديم. يقال: سيف عتيق، وقد عتق أي قدم؛ وهذا قول يعضده النظر. وفي الصحيح "أنه أول مسجد وضع في الأرض". وقيل عتيقا لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان؛ قال معناه ابن الزبير مجاهد. وفي الترمذي عن عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار" قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها قيل له: إنما أعتقها عن كفار الجبابرة؛ لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن الله عز وجل صرفهم عنها قسرا. فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف الأعداء؛ فقصر الله تعالى هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار،

وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر. وقالت طائفة: سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط. وقالت فرقة: سمي عتيقا لأن الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. وقيل: سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان؛ قال ابن جبير. وقيل: العتيق الكريم. والعتق الكرم. قال طرفة يصف أذن الفرس:
مؤللتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب
وعتق الرقيق: الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية. ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء؛ كما قال عمر: حملت على فرس عتيق؛ الحديث. والقول الأول أصح للنظر والحديث الصحيح. قال مجاهد: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام، وسمي عتيقا لهذا؛ والله أعلم.
الآيتان: 30 - 31 {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
فيه ثمان مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {ذَلِكَ} يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك. ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير: امتثلوا ذلك؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير:
هذا وليس كمن يعيا بخطته ... وسط الندي إذا ما قائل نطقا

الخامسة: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} والزور: الباطل والكذب. وسمي زورا لأنه أميل عن الحق؛ ومنه {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} ، [الكهف: 17]، ومدينة زوراء؛ أي مائلة. وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور. وفي الخبر أنه عليه السلام قام خطيبا فقال: "عدلت شهادة الزور الشرك بالله" قالها مرتين أو ثلاثا. يعني أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها.
السادسة: هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور، وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزره وينادي عليه ليعرف لئلا يغتر بشهادته أحد. ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب؛ فإن كان من أهل العدالة المشهور بها المبرز فيها لم تقبل؛ لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة؛ إذ لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه. وإن كان دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله في التقى قبل شهادته. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول الزور". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
السابعة: قوله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق. ولفظة {حُنَفَاءَ} من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل. و {حُنَفَاءَ} نصب على الحال. وقيل: {حُنَفَاءَ} حجاجا؛ وهذا تخصيص لا حجة معه. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} أي هو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا؛ فهو بمنزلة من خر من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه. ومعنى {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي تقطعه بمخالبها. وقيل: هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى سماء الدنيا، فلا يفتح لها فيرمى بها إلى الأرض؛ كما في حديث البراء، وقد ذكرناه في التذكرة. والسحيق: البعيد؛ ومنه قوله تعالى: {فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "فسحقا فسحقا".

الخامسة- قوله تعالى :{ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } والزور : الباطل والكذب. وسمي زورا لأنه أميل عن الحق ، ومنه { تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ } ، ومدينة زوراء ، أي مائلة . وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور . وفي الخبر أنه عليه السلام قام خطيبا فقال : "عدلت شهادة الزور الشرك بالله " قالها مرتين أو ثلاثا . يعني أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها .
السادسة- هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور ، وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزه وينادي عليه ليعرف لئلا يغتر بشهادته أحد. ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب ، فإن كان من أهل العدالة المشهور بها المبرز فيها لم تقبل لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة ، إذا لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه . وإن كان دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله في التقى قبلت شهادته . وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول الزور " . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
السابعة - { حُنَفَاءَ لِلَّهِ } معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق . ولفظة { حُنَفَاءَ } من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل . و { حُنَفَاءَ } نصب على الحال . وقيل : { حُنَفَاءَ } حجاجا ، وهذا تخصيص لا حجة معه .
الثامنة- قوله تعالى { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } أي هو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا ، فهو بمنزلة من خر من السماء , فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه . ومعنى { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } أي تقطعه بمخالبها .وقيل : هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى السماء الدنيا ، فلا يفتح لها فيرمى بها إلى الأرض ، كما في حديث البراء ، وقد ذكرناه في التذكرة . والسحيق : البعيد ، ومنه قوله تعالى : { فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ } وقوله عليه الصلاة والسلام : " فسحقا فسحقا"

الآيتان: 32 - 33 {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
فيه سبع مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {ذَلِكَ} فيه ثلاثة أوجه. قيل: يكون في موضع رفع بالابتداء، أي ذلك أمر الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف. ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي اتبعوا ذلك.
الثانية: قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم؛ ومنه شعار القوم في الحرب؛ أي علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة. فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم: المراد هنا تسمين البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها؛ قال ابن عباس ومجاهد وجماعة. وفيه إشارة لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على الإخلاص، فإذا عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له عمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب. والله أعلم.
الثالثة: الضمير في {إِنَّهَا} عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام، ولو قال فإنه لجاز. وقيل إنها راجعة إلى الشعائر؛ أي فإن تعظيم الشعائر، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، فرجعت الكناية إلى الشعائر. {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} قرئ {الْقُلُوبِ} بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو {تَقْوَى} وأضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث: "التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره.
الرابعة: قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} يعني البدن من الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك، إذا لم يبعثها ربها هديا، فإذا بعثها فهو الأصل المسمى؛ قال ابن عباس.

فإذا صارت بدنا هديا فالمنافع فيها أيضا ركوبها عند الحاجة، وشرب لبنها بعد ري فصيلها. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأى رجلا يسوق بدنة فقال: "اركبها" فقال: إنها بدنة. فقال: "اركبها" قال: إنها بدنة. قال: "اركبها ويلك" في الثانية أو الثالثة". وروي عن جابر بن عبد الله وسئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا". والأجل المسمى على هذا القول نحرها؛ قاله عطاء بن أبي رباح.
السادسة: ذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة لقوله عليه الصلاة والسلام: "اركبها". وممن أخذ بظاهره أحمد واسحاق وأهل الظاهر. وروى ابن نافع عن مالك: لا بأس بركوب البدنة ركوبا غير فادح. والمشهور أنه لا يركبها إلا إن اضطر إليها لحديث جابر فإنه مقيد والمقيد يقضي على المطلق. وبنحو ذلك قال الشافعي وأبو حنيفة. ثم إذا ركبها عنده الحاجة نزل؛ قال إسماعيل القاضي. وهو الذي يدل عليه مذهب مالك، وهو خلاف ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول، وحجته إباحة النبي صلى الله عليه وسلم له الركوب فجاز له استصحابه. وقوله: "إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" يدل على صحة ما قاله الإمام الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما؛ وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك. وقد جاء صريحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهد، فقال: "اركبها". وقال أبو حنيفة والشافعي: إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ويتصدق به.
قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يريد أنها تنتهي إلى البيت، وهو الطواف. فقول: {مَحِلُّهَا} مأخوذ من إحلال المحرم. والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه؛ قاله مالك في الموطأ. وقال عطاء: ينتهي إلى مكة. وقال الشافعي: إلى الحرم. وهذا بناء على أن الشعائر هي البدن، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها وإلغاء خصوصية ذكر البيت. والله أعلم

الآية: 34 {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} لما ذكر تعالى الذبائح بين أنه لم يخل منها أمة، والأمة القوم المجتمعون على مذهب واحد؛ أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكا. والمنسك الذبح وإراقة الدم؛ قاله مجاهد. يقال: نسك إذا ذبح ينسك نسكا. والذبيحة نسيكة، وجمعها نسك؛ ومنه قوله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. والنسك أيضا الطاعة. وقال الأزهري في قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً } : إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع، أراد مكان نسك. ويقال: منسك ومنسك، لغتان، وقرئ بهما. قرأ الكوفيون إلا عاصما بكسر السين، الباقون بفتحها. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر. وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي. وقال ابن عرفة في قوله {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} : أي مذهبا من طاعة الله تعالى؛ يقال: نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم. وقيل: منسكا عيدا؛ قاله الفراء. وقيل حجا؛ قاله قتادة. والقول الأول أظهر؛ لقوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ي على ذبح ما رزقهم. فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له؛ لأنه رازق ذلك. ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه: فالإله واحد لجميعكم، فكذلك الأمر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له.
قوله تعالى: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} معناه لحقه ولوجهه وإنعامه آمنوا وأسلموا. ويحتمل أن يريد الاستسلام؛ أي له أطيعوا وانقادوا. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} المخبت: المتواضع الخاشع من المؤمنين. والخبت ما انخفض من الأرض؛ أي بشرهم بالثواب الجزيل. قال عمرو بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال مجاهد فيما روى عنه سفيان عن ابن أبي نجيح: المخبتون المطمئنون بأمر الله عز وجل

الآية: 35 {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
فيه مسألتان:-
الأولى: قوله تعالى: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي خافت وحذرت مخالفته. فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها. وروي أن هذه الآية قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم. وقرأ الجمهور {الصلاةِ} بالخفض على الإضافة، وقرأ أبو عمرو {الصلاة} بالنصب على توهم النون، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم. وأنشد سيبويه:
الحافظو عورة العشيرة...
الثانية: هذه الآية نظير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]. هذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير، فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع: إنك لم تبلغ أن تساوي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه والتعظيم لجلاله؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله. وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ

تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]. فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم؛ فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا؛ والجنون فنون. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: "سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا" فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين [يدي] أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وقد مضى القول في هذه المسألة بأشبع من هذا في سورة "الأنفال" والحمد لله.
الآية: 36 {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فيه عشر مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ} وقرأ ابن أبي إسحاق {والبُدُن} لغتان، واحدتها بَدَنَة. كما يقال: ثمرة وثُمُر وثُمْر، وخشبة وخشُب وخشْب. وفي التنزيل {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} وقرئ {ثُمْر} لغتان. وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن. وقيل: إن هذا الاسم خاص بالإبل. وقيل: البدن جمع {بَدَن} بفتح الباء والدال. ويقال: بَدُن الرجل "بضم الدال" إذا سمن. وبدّن "بتشديدها" إذا كبر وأسنّ. وفي الحديث "إني قد بدّنت" أي كبرت وأسننت. وروي {بَدُنْت} وليس له معنى؛ لأنه خلاف صفته صلى الله عليه وسلم، ومعناه كثرة اللحم. يقال: بدن الرجل يبدُن بدنا وبدانة فهو بادن؛ أي ضخم.

الثانية: اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا؛ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي: لا. وقال مالك وأبو حنيفة: نعم. وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة؛ فهل تجزيه أم لا؛ فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه. وعلى مذهب مالك تجزيه. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة" الحديث. فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة؛ والله أعلم. وأيضا قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يدل على ذلك؛ فإن الوصف خاص بالإبل. والبقر يضجع ويذبح كالغنم؛ على ما يأتي. ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعا. وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل؛ حتى تجوز البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل. وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك، وليس ذلك في مذهبنا. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ. والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة. والهدي عام في الإبل والبقر والغنم.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} نص في أنها بعض الشعائر. وقوله: "لكم فيها خير" يريد به المنافع التي تقدم ذكرها. والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
الرابعة: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي انحروها على اسم الله. و {صَوَافَّ} أي قد صفت قوائمها. والإبل تنحر قياما معقولة. وأصل هذا الوصف في الخيل؛ يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاثة قوائم وثنى سنبك الرابعة؛ والسنبك طرف الحافر. والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري {صَوَافِيَ} أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا. وعن الحسن أيضا {صوافٍ} بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس

و {صوافّ} قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها؛ من صف يصف. وواحد صواف صافة، وواحد صوافي صافية. وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي {صوافِن} بالنون جمع صافنة. ولا يكون واحدها صافنا؛ لأن فاعلا لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها؛ وهي فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف وخوالف. والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31]. وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
ويروي:
تظل جياده نوحا عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
وقال آخر:
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال أبو عمرو الجرمي: الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله. وقال الأعشى:
وكل كميت كجذع السحو ... ق يرنو القناء إذا ما صفن
الخامسة: قال ابن وهب: أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال: تقيدها ثم تصفها. وقال لي مالك بن أنس مثله. وكافة العلماء على استحباب ذلك؛ إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما. وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة. والصحيح ما عليه الجمهور؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} معناه سقطت بعد نحرها؛ ومنه وجبت الشمس. وفي صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها

السادسة: قال مالك: فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة. والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة؛ إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها. ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب. وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر بخطامها. وتضجع البقر والغنم.
السابعة: ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع. وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر. فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم؛ بخلاف الأضحية في سائر البلاد. والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر. ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما، إن شاء الله تعالى.
الثامنة: قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط. قال قيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
وقال أوس بن حجر:
ألم تكسف الشمس والبدر والـ ... واكب للجبل الواجب
فقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة. كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح. قال الشاعر:
فتركته جزر السباع ينشنه ... ما بين قلة رأسه والمعصم

وقال عنترة:
وضربت قرني كبشها فتجدلا
أي سقط مقتولا إلى الجدالة، وهي الأرض؛ ومثله كثير. والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت قرب الأكل؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ. ولا تسلخ حتى تبرد لأن ذلك من باب التعذيب؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق.
التاسعة: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر معناه الندب. وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية وفيه أجر وامتثال؛ إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم. وقال أبو العباس بن شريح: الأكل والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء. وقال الشافعي: الأكل مستحب والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان تطوعا؛ فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه. {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قال مجاهد وإبراهيم والطبري: قوله: {وَأَطْعِمُوا} أمر إباحة. و {الْقَانِعَ} السائل. يقال: قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل، يقنع قناعة فهو قنع، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل؛ مثل حمد يحمد، قناعة وقنعا وقنعانا؛ قاله الخليل. ومن الأول قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع
وقال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة. وروي عن أبى رجاء أنه قرأ {وأطعِموا القَنِع} ومعنى هذا مخالف للأول.

يقال: قنع الرجل فهو قنع إذا رضي. وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك، سائلا كان أو ساكنا. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن: المعتر المعترض من غير سؤال. قال زهير:
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والعتر الزائر. وروي عن الحسن أنه قرأ {والمعترِيَ} ومعناه كمعنى المعتر. يقال: اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه؛ ذكره النحاس.
الآية: 37 {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}
فيه خمس مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} قال ابن عباس: "كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك" فنزلت الآية. والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن القبول، المعنى: لن يصل إليه. وقال ابن عباس: لن يصعد إليه. ابن عيسى: لن يقبل لحومها ولا دماءها، ولكن يصل إليه التقوى منكم؛ أي ما أريد به وجهه، فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه؛ ومنه الحديث "إنما الأعمال بالنيات" . والقراءة {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} و {يَنَالُهُ} بالياء فيهما. وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرا إلى اللحوم.
الثانية: قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده.

الثالثة: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها من الآية قبلها فقال عز من قائل: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} ، وذكر هنا التكبير. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول: باسم الله والله أكبر؛ وهذا من فقهه رضي الله عنه. وفي الصحيح عن أنس قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. قال: ورأيته يذبحها بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما، وسمى وكبر.
وقد اختلف العلماء في هذا؛ فقال أبو ثور: التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة؛ وكافة العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرا أخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز. وكذلك لو قال: الله أكبر فقط، أولا إله إلا الله؛ قال ابن حبيب. فلو لم يرد التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل؛ قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح.
الرابعة: ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل مني؛ جائز. وكره ذلك أبو حنيفة؛ والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: ثم قال "باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم ضحى به. واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]. وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين أملحين، فلما وجههما قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً - وقرأ إلى قوله: وأنا أول المسلمين - اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر" ثم ذبح. فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه. وعلى هذا يدل قوله: إنه بدعة. والله أعلم.

الخامسة: قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} روي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة؛ حسبما تقدم في الآية التي قبلها. فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن.
الآية: 38 {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}
روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كَفُورٍ}. فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر. وقد مضى في {الأنفال} التشديد في الغدر؛ وأنه "ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان". وقيل: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم. وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرأ نافع {يُدَافِعُ} {وَلَوْلاَ دِفَاعُ}. وقرأ أبو عمرو وابن كثير {يُدَفِعُ} {وَلَوْلاَ دَفْعُ}. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {يُدَافِعُ} {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ}. ويدافع بمعنى يدفع؛ مثل عاقبت اللص، وعافاه الله؛ والمصدر دفعا. وحكى الزهراوي أن {دِفَاعاً} مصدر دفع؛ كحسب حسابا.
الآية: 39 {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
فيه مسألتان:-
الأولى: قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} قيل: هذا بيان قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم؛ وفيه إضمار، أي

أذن للذين يصلحون للقتال في القتال؛ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف. وقال الضحاك: استأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة؛ فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فلما هاجر نزلت {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح. وهي أول آية نزلت في القتال. قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال: "لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن؛ فأنزل الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فقال أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون قتال". فقال: هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا، ليس فيه: عن ابن عباس.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة؛ لأن قوله: {أُذِنَ} معناه أبيح؛ وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع. وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة" وغير موضع. وقرئ {أَذِنَ} بفتح الهمزة؛ أي أذن الله. {يُقَاتَلُونَ} بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم. وقرئ {يُقَاتَلُونَ} بفتح التاء؛ أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. ولهذا قال: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أي أخرجوا من ديارهم.
الآية: 40 {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}

فيه ثمان مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} هذا أحد ما ظلموا به؛ وإنما أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده. فقوله: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} استثناء منقطع؛ أي لكن لقولهم ربنا الله؛ قال سيبويه. وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء؛ وهو قول أبي إسحاق الزجاج، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله؛ أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان. و {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} في موضع خفض بدلا من قوله: {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}.
الثانية: قال ابن العربي: قال علماؤنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء؛ إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام؛ لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. فاستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم؛ فمنهم من فر إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى. فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحده وعبده، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا - إلى قوله - الْأُمُورِ}.
الثالثة: في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه. وهذه الآية مثل قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40] والكلام فيهما واحد؛ وقد تقدم في "التوبة" والحمد لله.

الرابعة: قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} الآية؛ أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه. وأيضا هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى؛ أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد عليه السلام المساجد. {لَهُدِمَتْ} من هدمت البناء أي نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم. وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق؛ كما تقدم. وقال مجاهد لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول. وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقال أبو الدرداء: لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب. وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية؛ وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله.
الخامسة: قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والكنائس. وإنما لم ينقض

ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة؛ لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة. ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لأن في ذلك إظهار أسباب الكفر. وجائز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه؛ وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة: قرئ {لَهُدِمَتْ} بتخفيف الدال وتشديدها. { صَوَامِعُ} جمع صومعة، وزنها فوعلة، وهي بناء مرتفع حديد الأعلى؛ يقال: صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده. ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة. والأصمع من الرجال الحديد القول. وقيل: هو الصغير الأذن من الناس وغيرهم. وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين - قال قتادة - ثم استعمل في مئذنة المسلمين. والبيع. جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى. وقال الطبري: قيل هي كنائس اليهود؛ ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك.
قوله تعالى: {وَصَلَوَاتٌ} قال الزجاج والحسن: هي كنائس اليهود؛ وهي بالعبرانية صلوتا. وقال أبو عبيدة: الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في أسفارهم، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات. وفي {صلوات} تسع قراءات ذكرها ابن عطية: صلوات، صلوات، صلوات، صلولي على وزن فعولي، صلوب بالباء بواحدة جمع صليب، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول، صلوات بضم الصاد واللام وألف بعد الواو، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء المثلثة، [صلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف]. وذكر النحاس: وروي عن عاصم الجحدري أنه قرأ {وصلوب}. وروي عن الضحاك {وصَلُوث} بالثاء معجمة بثلاث؛ ولا أدري أفتح الصاد أم ضمها.
قلت: فعلى هذا تجيء هنا عشر قراءات. وقال ابن عباس: "الصلوات الكنائس". أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين. ابن زيد: هي صلوات المسلمين تنقطع إذا دخل عليهم العدو وتهدم المساجد؛ فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف. وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون الهدم

حقيقة. وقال الحسن: هدم الصلوات تركها، قطرب: هي الصوامع الصغار ولم يسمع لها واحد. وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم. فالصوامع للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين. قال ابن عطية: والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات. وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها، إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب. ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر. ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك؛ لأن هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع. وقال النحاس: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر أن يكون {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} عائدا على المساجد لا على غيرها؛ لأن الضمير يليها. ويجوز أن يعود على {صوامع} وما بعدها؛ ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق. فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر؛ كما أخر السابق في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32].
قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي من ينصر دينه ونبيه. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} أي قادر. قال الخطابي: القوي يكون بمعنى القادر، ومن قوي على شيء فقد قدر عليه. {عَزِيزٌ} أي جليل شريف؛ قال الزجاج. وقيل الممتنع الذي لا يرام؛ وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
الآية: 41 {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
قال الزجاج: {الَّذِينَ} في موضع نصب ردا على {مَنْ} ، يعني في قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} . وقال غيره: {الَّذِينَ} في موضع خفض ردا على قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ

يُقَاتَلُونَ} ويكون {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأرض غيرهم. وقال ابن عباس: "المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان". وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس. وقال الحسن وأبو العالية: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة. وقال ابن أبي نجيح: يعني الولاة. وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من أتاه الملك؛ وهذا حسن. قال سهل بن عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان؛ لأن ذلك لازم له واجب عليه، ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم.
الآيات: 42 - 44 {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}
هذا تسليه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية؛ أي كان قبلك أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر. {وَكُذِّبَ مُوسَى} أي كذبه فرعون وقومه. فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقوم موسى. {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أي أخرت عنهم العقوبة. {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} فعاقبتهم. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام بمعنى التغيير؛ أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر، والمنكر واحد المناكير.
الآية: 45 {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}

قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي أهلكنا أهلها. وقد مضى في "آل عمران" الكلام في كأين. {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي بالكفر. {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} تقدم في الكهف. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال الزجاج: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} معطوف على {مِنْ قَرْيَةٍ} أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر. والفراء يذهب إلى أن {وَبِئْرٍ} معطوف على {عُرُوشِهَا}. وقال الأصمعي: سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب؟ فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما. وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما؛ إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. ومعنى {مُعَطَّلَةٍ} متروكة؛ قاله الضحاك. وقيل: خالية من أهلها لهلاكهم. وقيل: غائرة الماء. وقيل: معطلة من دلائها وأرشيتها؛ والمعنى متقارب. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. قال عدي بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كلـ ... ـسا فللطير في ذراه وكور
أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: مجصص؛ من الشيد وهو الجص. قال الراجز:
لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا ... كحية الماء بين الطين والشيد
وقال امرؤ القيس:
ولا أطما إلا مشيدا بجندل
وقال ابن عباس: {مشِيدٍ} أي حصين"؛ وقال الكلبي. وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع. وقال الجوهري: والمشيد المعمول بالشيد. والشيد "بالكسر": كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر. تقول: شاده يشيده شيدا جصصه. والمشيد "بالتشديد" المطول. وقال الكسائي: "المشيد" للواحد، من قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} والمشيد للجمع، من قوله تعالى: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}. [النساء: 78]. وفي الكلام مضمر

محذوف تقديره: وقصر مشيد مثلها معطل. ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته. وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي؛ أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء. وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في بلد يقال له حضور، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمي المكان حضرموت؛ لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد؛ فيما ذكر الغزنوي. الثعلبي: جلهس بن جلاس. وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن "بالنون" من رخام وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر، وأخر للغنم. والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها. وطال عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم. فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم؛ ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته. فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب. وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم؛ فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر. فأصفقوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، كان اسمه

حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته؛ فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر؛ فعند ذلك أصابتهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشا؛ حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر وشوك العضاه والقتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته؛ ومن الإصرار على ما يوجب نقماته.
قال السهيلي. وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عامر بن إرم، لم يبن في الأرض مثله - فيما ذكروا وزعموا - وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال؛ لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادروا وما عدوا؛ فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة؛ نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل. وقيل: إن الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة "الأنبياء" في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 11]. فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم.
الآية: 46 {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}

قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يعني كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله الأذن. وقد قيل: إن العقل محله الدماغ؛ وروي عن أبي حنيفة؛ وما أراها عنه صحيحة. {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} قال الفراء: الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة؛ أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة. {لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} أي أبصار العيون ثابتة لهم. {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي عن درك الحق والاعتبار. وقال قتادة: البصر الناظر جعل بلغة ومنفعة، والبصر النافع في القلب. وقال مجاهد: لكل عين أربع أعين؛ يعني لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته؛ فإن عميت عينا رأسه وأبصرت. عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا. وقال قتادة وابن جبير: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى. قال ابن عباس ومقاتل:لما نزل {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار.
الآية: 47 {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} نزلت في النضر بن الحارث، وهو قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]. وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام، وهو قوله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32]. {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي في إنزال العذاب. قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعملهم الله أنه لا يفوته شيء؛ وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر.

قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قال ابن عباس ومجاهد:يعني من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. عكرمة: يعني من أيام الآخرة؛ أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة. قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة؛ أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة. وقيل: المعنى وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة؛ وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {مما يعدّون} بالياء المثناة تحت، واختاره أبو عبيد لقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} . والباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم.
الآية: 48 {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي أمهلتها مع عتوها. {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} أي بالعذاب. {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
الآية: 49 - 51 {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يعني أهل مكة. {إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي منذر مخوف. وقد تقدم في البقرة الإنذار في أولها. {مُبِينٌ} أي أبين لكم ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أي في إبطال آياتنا. {مُعَاجِزِينَ} أي مغالبين مشاقين؛ قال ابن عباس. "الفراء: معاندين". وقال عبد الله ابن الزبير: مثبطين عن الإسلام.

وقال الأخفش: معاندين مسابقين. الزجاج: أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم ظنوا أن لا بعث، وظنوا أن الله لا يقدر عليهم؛ وقاله قتادة. وكذلك معنى قراءة ابن كثير وأبي عمرو {مُعَجِّزِين} بلا ألف مشددا. ويجوز أن يكون معناه أنهم يعجزون المؤمنين في الإيمان بالنبي عليه السلام وبالآيات؛ قاله السدي. وقيل: أي ينسبون من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العجز؛ كقولهم: جهلته وفسقته.
الآية: 52 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
فيه ثلاث مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {تَمَنَّى} أي قرأ وتلا. و {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي قراءته وتلاوته. وقد تقدم في البقرة. قال ابن عطية: وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ وَلاَ مُحَدَّث} ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. قال مسلمة: فوجدنا المحدثين معتصمين بالنبوة - على قراءة ابن عباس - لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما نطقوا؛ كعمر بن الخطاب في قصة سارية، وما تكلم به من البراهين العالية.

قلت: وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري قي كتاب الرد له، وقد حدثني أبي رحمه الله حدثنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ وَلاَ مُحَدَّث} قال أبو بكر: فهذا حديث لا يؤخذ به على أن ذلك قرآن. والمحدث هو الذي يوحي إليه في نومه؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي.
الثانية: قال العلماء: إن هذه الآية مشكلة من جهتين: إحداهما: أن قوما يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين. وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلا. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} فأوجب للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة. وأن معنى {نَبِيٍّ} أنبأ عن الله عز وجل، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه. وقال الفراء: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. قال المهدوي: وهذا هو الصحيح، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال: والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا؛ واحتج بحديث أبي ذر، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.والجهة الأخرى التي فيها الإشكال وهي:
الثالثة: الأحاديث المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شيء يصح. وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم: حق الأنبياء ألا يعجزوا عن شيء، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته؟ وكانوا يقولون أيضا: ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط؛ فبين الرب سبحانه أنهم بشر، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان. روى الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]

سها فقال: "إن شفاعتهم تُرْتَجَى" فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا؛ فقال: "إن ذلك من الشيطان" فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الآية. قال النحاس: وهذا حديث منقطع وفيه هذا الأمر العظيم. وكذا حديث قتادة وزاد فيه "وإنهن لهن الغرانيق العلا". وأقطع من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال: سجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا. ويقال إنه أبو أحيحة سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل عليه السلام فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "ما جئتك به"! وأنزل الله {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74]. قال النحاس: وهذا حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقدي. وفي البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها إلى جبهته هو أمية بن خلف. وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث - إن شاء الله - أخر الباب. قال ابن عطية: وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور؛ بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة؛ بها وقعت الفتنة. ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ على لسانه. وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20] وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها. وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي. وقيل: الذي ألقى شيطان الإنس؛ كقوله عز وجل: {وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]. قتادة: هو ما تلاه ناعسا.

وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا وغلطا: اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله، والثاني: على تسليمه. أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره؛ إلا ما رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "فيما أحسب، الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة..." وذكر القصة. ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس؛ فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه؛ كما أشار إليه البزار رحمه الله. والذي منه في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {والنَّجْمِ} بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس؛ هذا توهينه من طريق النقل.
وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة؛ منها الغث والسمين. والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته؛ كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها.

لم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه؛ فيكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الآية.
قلت: وهذا التأويل، أحسن ما قيل في هذا. وقد قال سليمان بن حرب: إن "في" بمعنى عنده؛ أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله عز وجل: {وَلَبِثْتَ فِينَا} [الشعراء: 18] أي عندنا. وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله: إن هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه أنه قاله؛ وذلك أن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي في تلاوته. فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي. تقول: ألقيت في دار كذا وألقيت في الكيس كذا؛ فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به. ثم ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال: وما هدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده في النظر؛ وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى، وقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد.
وأما غيره من التأويلات فما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا فهو محال؛ إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى مخبرا عنه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]؛ ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقي لأحد

من بني آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة فهو قول الثنوية والمجوس في أن الخير من الله والشر من الشيطان. ومن قال جرى ذلك على لسانه سهوا قال: لا يبعد أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه سهوا؛ وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون عليه، وأنزل الله عز وجل هذه الآية تمهيدا لعذره وتسليه له؛ لئلا يقال: إنه رجع عن بعض قراءته، وبين أن مثل هذا جرى على الأنبياء سهوا، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس: "إن شيطانا يقال له الأبيض كان قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجى. وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله فالتأويل الأول عليه المعول، فلا يعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين إياه، وضعف الحديث مغن عن كل تأويل، والحمد لله. ومما يدل على ضعفه أيضا وتوهينه من الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] الآيتين؛ فإنهما تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه الصلاة والسلام: افتريت على الله وقلت ما لم يقل. وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح؛ فكيف ولا صحة له. وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113]. قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعده بالإيمان به إن فعل ذلك، فما فعل! ولا كان ليفعل! قال ابن الأنباري: ما قارب الرسول ولا ركن. وقال الزجاج: أي كادوا، ودخلت إن واللام للتأكيد. وقد قيل: إن معنى {تَمَنَّى} حدث، لا "تلا". روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} قال: إلا إذا حدث {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} قال: في حديثه {فَيَنْسَخُ

اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} قال: فيبطل الله ما يلقي الشيطان. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا. والمعنى عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيطة فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون؛ ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك؛ فيبطل ما يلقي الشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وحكى الكسائي والفراء جميعا {تَمَنَّى} إذا حدث نفسه؛ وهذا هو المعروف في اللغة. وحكيا أيضا {تمنى} إذا تلا. وروي عن ابن عباس أيضا وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال أبو الحسن بن مهدي: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صفرت يداه من المال، ورأى ما بأصحابه من سوء الحال، تمنى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان. وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه؛ وهو اختيار الطبري.
قلت: قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} الآية، يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة؛ فالله أعلم. قال النحاس: ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحا، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره: أفرأيتم اللات والعزى؛ وتم الكلام، ثم أسقط "والغرانيق العلا" يعني الملائكة "فإن شفاعتهم" يعود الضمير على الملائكة. وأما من روى: فإنهن الغرانيق العلا، ففي روايته أجوبة؛ منها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا؛ لأن قبله {أفرأيتم} ويكون هذا احتجاجا عليهم؛ فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة. وقد روى في هذه القصة أنه كان مما يقرأ: أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. والغرانقة العلا. وأن شفاعتهن لترتجى. روى معناه عن مجاهد. وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلا الملائكة؛ وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة. وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون [أن] الأوثان والملائكة بنات

الله، كما حكى الله تعالى عنهم، ورد عليهم في هذه السورة بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} فأنكر الله كل هذا من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح؛ فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، كما نسخ كثير من القرآن؛ ورفعت تلاوته. قال القشيري: وهذا غير سديد؛ لقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {عَلِيمٌ} بما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. "حكيم" في خلقه.
الآية: 53 {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} أي ضلالة. {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شرك ونفاق. {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فلا تلين لأمر الله تعالى. قال الثعلبي: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبه ويرجع إلى الصحيح؛ وهو معنى قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} . ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما يضاف إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرا ويقول: غلطت وظننته قرآنا. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في "البقرة" والحمد لله وحده.
الآية: 54 {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي من المؤمنين. وقيل: أهل الكتاب. {أَنَّهُ} أي أن الذي أحكم من آيات القرآن هو {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخشع وتسكن. وقيل: تخلص .{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} قرأ أبو حيوة {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} بالتنوين. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يثبتهم على الهداية.
الآية: 55 {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}
قوله تعالى :{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} يعني في شك من القرآن؛ قال ابن جريج. وغيره: من الدين؛ وهو الصراط المستقيم. وقيل: مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون: ما باله ذكر الأصنام بخير ثم ارتد عنها. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {في مُرْيةٍ} بضم الميم. والكسر أعرف؛ ذكره النحاس. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} أي القيامة. {بَغْتَةً} أي فجأة. {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال الضحاك: عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة. النحاس: سمي يوم القيامة عقيما لأنه ليس يعقب بعده يوما مثله؛ وهو معنى قول الضحاك. والعقيم في اللغة عبارة عمن لا يكون له ولد؛ ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكانت الأيام تتوالى قبل وبعد، جعل الاتباع فيها بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: المراد عذاب يوم بدر، ومعنى عقيم لا مثل له في عظمه؛ لأن الملائكة قاتلت فيه. ابن جريج: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء فصار يوما لا ليلة له. وكذلك يكون معنى قول الضحاك أنه يوم القيامة؛ لأنه لا ليلة له. وقيل: لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وكان عقيما من كل خير؛ ومنه قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر ولا رحمة

الآيتان: 56 - 57 {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}
قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} يعني يوم القيامة هو لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع. والملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. ثم بين حكمه فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
قلت: وقد يحتمل أن تكون الإشارة بـ {يومئذٍ} ليوم بدر، وقد حكم فيه بإهلاك الكافر وسعادة المؤمن؛ وقد قال عليه السلام لعمر: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
الآيتان: 58 - 59 {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}
أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا تفضيلا لهم وتشريفا على سائر الموتى.
وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه؛ فنزلت هذه الآية مسوية بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا. وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد؛ ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله. وقال بعضهم: هما سواء، واحتج بالآية، وبقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ

أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 100]، وبحديث أم حرام؛ فإنها صرعت عن دابتها فماتت ولم تقتل فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت من الأوّلين" ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عتيك: "من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله فخر عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ومن مات قعصا فقد استوجب المآب". وذكر ابن المبارك عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة بمنجنيق فمات والآخر مات هناك؛ فجلس فضالة عند الميت فقيل له: تركت الشهيد ولم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت؛ ثم تلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} الآية كلها. وقال سليمان بن عامر: كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفي؛ فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته؛ فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل! فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اقرؤوا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا}. كذا ذكره الثعلبي في تفسيره، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك. واحتج من قال: إن للمقتول زيادة فضل بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الجهاد أفضل؟ قال: "من أهريق دمه وعقر جواده". وإذا كان من أهريق دمه وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول. قرأ ابن عامر وأهل الشام {قتِّلوا} بالتشديد على التكثير. الباقون بالتخفيف. {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} أي الجنان. قراءة أهل المدينة {مَدْخَلاً} بفتح الميم؛ أي دخولا. وضمها الباقون، وقد مضى في الإسراء. {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} قال ابن عباس: عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم.
الآية: 60 {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}

قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ} {ذلك} في موضع رفع؛ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك. قال مقاتل: نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم؛ فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام؛ فأبى المشركون إلا القتال، فحملوا عليهم فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين؛ وحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء؛ فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في قوم من المشركين، مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله بمثله. فمعنى {مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ}أ ي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه؛ فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة؛ فهو مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. ومثل {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. وقد تقدم .{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} أي بالكلام والإزعاج من وطنه؛ وذلك أن المشركين كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به وأخرجوه وأخرجوهم من مكة، وظاهروا على إخراجهم. {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} أي لينصرن الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإن الكفار بغوا عليهم. {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام وستر.
الآية: 61 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} أي ذلك الذي قصصت عليك من نصر المظلوم هو بأني أنا الذي أولج الليل في النهار فلا يقدر أحد على ما أقدر عليه؛ أي من قدر على هذا قدر على أن ينصر عبد ه. وقد مضى في "آل عمران" معنى يولج الليل في النهار. {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يسمع الأقوال ويبصر الأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها.

الآية: 62 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذو الحق؛ فدينه الحق وعبادته حق. والمؤمنون يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أي الأصنام التي لا استحقاق لها في العبادات. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر {وَأَنَّ مَا تدْعُونَ} بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم. الباقون بالياء على الخبر هنا وفي لقمان، واختاره أبو عبيد. {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} أي العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. {الْكَبِيرُ} أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير ذو الكبرياء. والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه.
الآية: 63 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} دليل على كمال قدرته؛ أي من قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت؛ كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39]. ومثله كثير. {فَتُصْبِحُ} ليس بجواب فيكون منصوبا، وإنما هو خبر عند الخليل وسيبويه. قال الخليل: المعنى انتبه! أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا؛ كما قال:
ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق

معناه قد سألته فنطق. وقيل استفهام تحقيق؛ أي قد رأيت، فتأمل كيف تصبح! أو عطف لأن المعنى ألم تر أن الله ينزل. وقال الفراء: {أَلَمْ تَرَ} خبر؛ كما تقول في الكلام: اعلم أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء. {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} أي ذات خضرة؛ كما تقول: مقلة ومسبعة؛ أي ذات بقل وسباع. وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة. قال ابن عطية: وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة. ومعنى هذا: أنه أخذ قوله {فَتُصْبِحُ} مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في سائر البلاد، وقد شاهدت هذا [في] السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط أصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد أخضرت بنبات ضعيف رقيق. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} قال ابن عباس: {خَبِيرٌ} بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر. {لَطِيفٌ} بأرزاق عباده. وقيل: {لَطِيفٌ} باستخراج النبات من الأرض، خبير بحاجتهم وفاقتهم.
الآية: 64 {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خلقا وملكا؛ وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود في كل حال.
الآية: 65 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} ذكر نعمة أخرى، فأخبر أنه سخر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار. {وَالْفُلْكَ} أي وسخر لكم الفلك في حال جريها. وقرأ أبو عبد الرحمن الأعرج {والفلك} رفعا على الابتداء وما بعده خبره.

الباقون بالنصب نسقا على قوله {مَا فِي الْأَرْضِ}.{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} أي كراهية أن تقع. وقال الكوفيون: لئلا تقع. وإمساكه لها خلق السكون فيها حالا بعد حال. {إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي إلا بإذن الله لها بالوقوع، فتقع بإذنه، أي بإرادته وبحيلته. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم.
الآية: 66 {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أي بعد أن كنتم نطفا. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي للحساب والثواب والعقاب. {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ} أي لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته. قال ابن عباس: يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام وجماعة من المشركين. وقيل: إنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان كفر النعم؛ كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
الآية: 67 {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ}
قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} أي شرعا. {هُمْ نَاسِكُوهُ} أي عاملون به. {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشرع لأمتك؛ فقد كانت الشرائع في كل عصر. وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أم الذبائح، وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم؛ فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة. وقد مضى هذا في "الأنعام" والحمد لله. وقد تقدم في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى {مَنْسَكاً} [الحج: 34]. وقوله: {هُمْ نَاسِكُوهُ} يعطي أن المنسك المصدر، ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه.

وقال الزجاج: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي فلا يجادلنك؛ ودل على هذا {وَإِنْ جَادَلُوكَ}. ويقال: قد نازعوه فكيف قال فلا ينازعنك؛ فالجواب أن المعنى فلا تنازعهم أنت. نزلت الآية قبل الأمر بالقتال؛ تقول: لا يضاربنك فلان فلا تضاربه أنت؛ فيجري هذا في باب المفاعلة. ولا يقال: لا يضربنك زيد وأنت تريد لا تضرب زيدا. وقرأ أبو مجلز {فَلاَ يَنْزِعنّك في الأمر} أي لا يستخلفنك ولا يغلبنك عن دينك. وقراءة الجماعة من المنازعة. ولفظ النهي في القراءتين للكفار، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم. {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي إلى توحيده ودينه والإيمان به. {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً} أي دين. {مُسْتَقِيمٍ} أي قويم لا اعوجاج فيه.
الآيتان: 68 - 69 {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
قوله تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ} أي خاصموك يا محمد؛ يريد مشركي مكة. {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} يريد من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس. وقال مقاتل: "هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وهو في السماء السابعة لما رأى من آيات ربه الكبرى؛ فأوحى الله إليه {وَإِنْ جَادَلُوكَ} بالباطل فدافعهم بقولك: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الكفر والتكذيب؛ فأمره الله تعالى بالإعراض عن مماراتهم صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم؛ ولا جواب لصاحب العناد. {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يريد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه. {فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} يريد في خلافكم آياتي، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل.
مسألة: في هذه الآية أدب حسن علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة بالسيف؛ يعني السكوت عن مخالفه والاكتفاء بقوله: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}

الآية: 70 {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أي وإذ قد علمت يا محمد هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم أيضا ما أنتم مختلفون فيه فهو يحكم بينكم. وقد قيل: إنه استفهام تقرير للغير. {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} أي ما يجري في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن الفصل بين المختلفين على يسير. وقيل: المعنى إن كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير.
الآية: 71 {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ} يريد كفار قريش. {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} أي حجة وبرهانا. وقد تقدم في "آل عمران". {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.
الآية: 72 {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني القرآن. {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} أي الغضب والعبوس. {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} أي يبطشون. والسطوة شدة البطش؛ يقال: سطا به يسطو إذا بطش به؛ كان ذلك بضرب أو بشتم، وسطا

عليه. {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} وقال ابن عباس: "يسطون يبسطون إليهم أيديهم". محمد بن كعب: أي يقعون بهم. الضحاك: أي يأخذونهم أخذا باليد، والمعنى واحد. وأصل السطو القهر. والله ذو سطوات؛ أي أخذات شديدة. {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} أي أكره من هذا القرآن الذي تسمعون هو النار. فكأنهم قالوا: ما الذي هو شر؛ فقيل هو النار. وقيل: أي هل أنبكم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم هو النار؛ فيكون هذا وعيدا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن. ويجوز في {النار} الرفع والنصب والخفض؛ فالرفع على هو النار، أو هي النار. والنصب بمعنى أعني، أو على إضمار فعل مثل الثاني، أو يكون محمولا على المعنى؛ أي أعرفكم من ذلكم النار. والخفض على البدل. {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في القيامة. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار.
الآية: 73 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} هذا متصل بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} . وإنما قال: {ضُرِبَ مَثَلٌ} لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم. فإن قيل: فأين المثل المضروب؛ ففيه وجهان: الأول: قال الأخفش: ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لي مثلا فاستمعوا قولهم؛ يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره؛ فكأنه قال جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه. الثاني: قول القتبي: وأن المعنى يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه. وقال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي بين الله لكم شبها

لمعبودكم. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قراءة العامة {تَدْعُونَ} بالتاء. وقرأ السلمي وأبو العالية ويعقوب {يدعون} بالياء على الخبر. والمراد الأوثان الذين عبد وهم من دون الله، وكانت حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنما. وقيل: السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله عز وجل. وقيل: الشياطين الذين حملوهم على معصية الله تعالى؛ والأول أصوب. {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أذبة والكثير ذبان؛ على مثل غراب وأغربة وغربان؛ وسمي به لكثرة حركته. الجوهري: والذباب معروف الواحدة ذبابة، ولا تقل ذبانة. والمذبة ما يذب به الذباب. وذباب أسنان الإبل حدها. وذباب السيف طرفه الذي يضرب به. وذباب العين إنسانها. والذبابة البقية من الدين. وذبب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية. والتذبذب التحرك. والذبذبة نوس الشيء المعلق في الهواء. والذبذب الذكر لتردده. وفي الحديث "من وقي شر ذبذبه". وهذا مما لم يذكره - أعني - قوله: وفي الحديث. {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} الاستنقاذ والإنقاذ التخليص. قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف فيأتي فيختلسه. وقال السدي: كانوا يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله. {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قيل: الطالب الآلهة والمطلوب الذباب. وقيل بالعكس. وقيل: الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم؛ فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه. وقد قيل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً} راجع إلى ألمه في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لها والوقار معها. وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته؛ فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبد وه من دون الله عز وجل على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابا مطاعين. وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان.
الآية: 74 {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق عظمته؛ حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له. وقد مضى في "الأنعام". {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تقدم.
الآيتان: 75 - 76 {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}
قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} ختم السورة بأن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة؛ أي ليس بعثه محمدا أمرا بدعيا. وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه الذكر من بيننا؛ فنزلت الآية. وأخبر أن الاختيار إليه سبحانه وتعالى. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوال عباده {بَصِيرٌ} بمن يختاره من خلقه لرسالته .{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يريد ما قدموا. {وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} يريد ما خلفوا؛ مثل قوله في يس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] يريد ما بين أيديهم {وَآثَارَهُمْ} يريد ما خلفوا.
الآية: 77 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} تقدم في أول السورة أنها فضلت بسجدتين؛ وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك وأبو حنيفة من العزائم؛ لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة؛ وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة. وقد مضى القول في الركوع والسجود مبينا في "البقرة" والحمد لله وحده. {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أي امتثلوا أمره. {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع.

الآية: 78 {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} قيل: عنى به جهاد الكفار. وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم. قال ابن عطية: وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وكذا قال هبة الله: إن قول {حَقَّ جِهَادِهِ} وقوله في الآية الأخرى. {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر. ولا حاجة إلى تقدير النسخ؛ فإن هذا هو المراد من أول الحكم؛ لأن {حَقَّ جِهَادِهِ} ما ارتفع عنه الحرج. وقد روى سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ دينكم أيْسرَهُ". وقال أبو جعفر النحاس. وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ؛ لأنه واجب على الإنسان، كما روى حيوة بن شريح يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل". وكما روى أبو غالب عن أبي أمامة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أين السائل"؟ فقال: أنا ذا؛ فقال عليه السلام: "كلمة عدل عند سلطان جائر" .

قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي اختاركم للذب عن دينه والتزام أمره؛ وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة؛ أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له.
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
فيه ثلاث مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {مِنْ حَرَجٍ} أي من ضيق. وقد تقدم في "الأنعام". وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام؛ وهي مما خص الله بها هذه الأمة. روى معمر عن قتادة قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه الأمة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
الثانية: واختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله تعالى؛ فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك. وقيل: المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والغريم ومن له والدان، وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء. وروي عن ابن عباس والحسن البصري "أن هذا في تقديم الأهلة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم؛ فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم"، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه. وما ذكرناه هو الصحيح في الباب. وكذلك الفطر والأضحى؛ لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِطركم يوم تُفْطِرون وأضحاكم يوم تضحون". خرجه أبو داود والدارقطني، ولفظه ما ذكرناه. والمعنى: باجتهادكم من غير حرج يلحقكم. وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يسأل عن

أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها: "أفعل ولا حرج".
الثالثة: قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى؛ ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج.
قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ} قال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم. الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف؛ كأنه قال كملة. وقيل: المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة. وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة. وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده؛ لأن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} قال ابن زيد والحسن: {هُوَ} راجع إلى إبراهيم؛ والمعنى: هو سماكم المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم. {وَفِي هَذَا} أي وفي حكمه أن من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فهو مسلم. قال ابن زيد: وهو معنى قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]. قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول عظماء الأمة. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: سماكم الله عز وجل المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن"؛ قال مجاهد وغيره. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} أي بتبليغه إياكم. {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أن رسلهم قد بلغتهم؛ كما تقدم في "البقرة". {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} تقدم مستوفى والحمد لله.رب العالمين

تفسير سورة المؤمنون
سورة المؤمنون
الآيات: 1 - 11 {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} روى البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون". وروى النسائي عن عبد الله بن السائب قال: حضرت رسول الله صلى يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يسره فافتتح سورة المؤمنين، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى عليهما السلام أخذته سعلة فركع. خرجه مسلم بمعناه. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل علي الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل؛ وأنزل عليه يوما فمكثنا عنده ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه وقال: "اللهم زدنا ولا تنقصنا وارضنا وأرض عنا - ثم قال -

أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة - ثم قرأ - قد أفلح المؤمنون" حتى ختم عشر آيات؛ صححه ابن العربي. وقال النحاس: معنى "من أقامهن" من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن؛ كما تقول: فلان يقوم بعمله. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والحج فدخل معهن. وقرأ طلحة بن مصرف {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} بضم الألف على الفعل المجهول؛ أي أبقوا في الثواب والخير. وقد مضى في أول "البقرة" معنى الفلاح لغة ومعنى، والحمد لله وحده.
الثانية: قوله تعالى: {خَاشِعُونَ} روى المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد. وفي رواية هشيم: كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ؛ فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون أمامهم. وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلي إلى حيث ينظر في "البقرة" عند قول {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. وتقدم أيضا معنى الخشوع لغة ومعنى في البقرة أيضا عند قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. والخشوع محله القلب؛ فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه؛ إذ هو ملكها، حسبما بيناه أول البقرة. وكان الرجل من العلماء إذا أقام الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن أن يمد بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا. وقال عطاء: هو ألا يعبث بشيء من جسده في الصلاة. وأبصر صلى الله عليه وسلم صلى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه". وقال أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم. "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن الحصى". رواه الترمذي. وقال الشاعر:

ألا الصلاة الخير والفضل أجمع ... لأن بها الآراب لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا ... وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقته رحمة ... وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته ... نجيا فيا طوباه لو كان يخشع
وروى أبو عمر أن الجوني قال: قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أتقرؤون سورة المؤمنين؟ قيل نعم. قالت: اقرؤوا؛ فقرئ عليها {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حتى بلغ – يُحَافِظُونَ}. وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلحظ في صلاته يمينا وشمالا، ولا يلوي عنقه خلف ظهره. وقال كعب بن مالك في حديثه الطويل: ثم أصلي قريبا منه - يعني من النبي صلى الله عليه وسلم - وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني... الحديث؛ ولم يأمره بإعادة.
الثالثة: اختلف الناس في الخشوع، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين. والصحيح الأول، ومحله القلب، وهو أول علم يرفع من الناس؛ قاله عبادة بن الصامت، رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء، وقال: هذا حديث حسن غريب. وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة. قال أبو عيسى: ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث، ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان.
قلت: معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث، كتب حديثه ولا يحتج به. واختلف فيه قول يحيى بن معين، ووثقه عبد الرحمن بن مهدي أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي، واحتج به مسلم في صحيحه. وتقدم في "البقرة" معنى اللغو والزكاة فلا معنى للإعادة. وقال

الضحاك: إن اللغو هنا الشرك. وقال الحسن: إنه المعاصي كلها. فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال: هو الشرك؛ وقول من قال هو الغناء؛ كما روى مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر، على ما يأتي في {لُقمان} بيانه. ومعنى {فَاعِلُونَ} أي مؤدون؛ وهي فصيحة، وقد جاءت في كلام العرب. قال أمية ابن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الأز ... مة والفاعلون للزكوات
الرابعة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} قال ابن العربي: "من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء، كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم، إلا قول {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات، {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخرى كآيات الإحصان عموما وخصوصا وغير ذلك من الأدلة.
قلت: وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعا من العلماء؛ لأنها غير داخلة في الآية، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور. وروي عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته كانا على نكاحهما. قال أبو عمر: ولا يقل هذا أحد من فقهاء الأمصار؛ لأن تملكها عندهم يبطل النكاح بينهما، وليس ذلك بطلاق وإنا هو فسخ للنكاح؛ وأنها لو أعتقته بعد ملكها له لم يراجعها إلا بنكاح جديد ولو كانت في عدة منه.
الخامسة: قال محمد بن الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} - إلى قوله – {الْعَادُونَ}. وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة؛ وفيه يقول الشاعر:
إذا حللت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا داء ولا حرج
ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المني. وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة؛ أصله القصد والحجامة. وعامة

العلماء على تحريمه. وقال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل؛ ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها. فإن قيل: إنها خير من نكاح الأمة؛ قلنا: نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل أيضا، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل أو بالرجل الدنيء فكيف بالرجل الكبير.
السادسة: قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} قال الفراء: أي من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم لا يجاوزون. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في موضع خفض معطوفة على {أَزْوَاجِهِمْ} و {مَا} مصدرية. وهذا يقتضي تحريم الزنى وما قلناه من الاستنماء ونكاح المتعة؛ لأن المتمتع بها لا تجري مجرى الزوجات، لا ترث ولا تورث، ولا يلحق به ولدها، ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف لها، وإنما يخرج بانقضاء المدة التي عقدت عليها وصارت كالمستأجرة. ابن العربي: إن قلنا إن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجية. وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في الآية.
قلت: وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنى الصريح أو يدفع الحد للشبهة ويلحق الولد، قولان لأصحابنا. وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم أحوال؛ فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر، ثم حللها في غزاة الفتح؛ ثم حرمها بعد؛ قاله ابن خويز منداد من أصحابنا وغيره، وإليه أشار ابن العربي. وقد مضى في "النساء" القول فيها مستوفى.
السابعة: قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} فسمى من نكح ما لا يحل عاديا وأوجب عليه الحد لعدوانه، واللائط عاد قرآنا ولغة، بدليل قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] وكما تقدم في "الأعراف"؛ فوجب أن يقام الحد عليهم، وهذا ظاهر لا غبار عليه.

قلت: فيه نظر، ما لم يكن جاهلا أو متأولا، وإن كان الإجماع منعقدا على أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} خص به الرجال دون النساء؛ فقد روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة غلامها؛ فذكر ذلك لعمر فسألها: ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي ملك يميني كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين؛ فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله، لا رجم عليها. فقال عمر: لا جرم! والله لا أحلك لحر بعده أبدا. عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها، وأمر العبد ألا يقربها. وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر ابن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضيء فقالت: إني استسررته فمنعني بنو عمي عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها؛ فإنه عني بني عمي؛ فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت نعم؛ قال: أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة؛ ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها. و {وَرَاءَ} بمعنى سوى، وهو مفعول بـ {ابْتَغَى} أي من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له. وقال الزجاج: أي فمن ابتغى ما بعد ذلك؛ فمفعول الابتغاء محذوف، و {وَرَاءَ} ظرف. و {ذَلِكَ} يشار به إلى كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أي المجاوزون الحد؛ من عدا أي جاوز الحد وجازه.
الثامنة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قرأ الجمهور {لِأَمَانَاتِهِمْ} بالجمع. وابن كثير بالإفراد. والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا فعلا. وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك؛ وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد.
قرأ الجمهور {صَلَوَاتِهِمْ} وحمزة والكسائي {صَلاَتِهِمْ} بالإفراد؛ وهذا الإفراد اسم جنس فهو في معنى الجميع. والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل

أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها. وقد تقدم في "البقرة" مستوفى. ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون؛ أي يرثون منازل أهل النار من الجنة. وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ويجعل الكفار في منازلهم في النار". خرجه ابن ماجة بمعناه. عن أبي هريرة أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} " . إسناده صحيح. ويحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم، فهو اسم مستعار على الوجهين. والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها. خرجه الترمذي من حديث الربيع بن النضر أم حارثة، وقال: حديث حسن صحيح. وفي حديث مسلم "فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة". قال أبو حاتم محمد بن حبان: قوله صلى الله عليه وسلم "فإنه أوسط الجنة" يريد أن الفردوس في وسط الجنان في العرض وهو أعلى الجنة، يريد في الارتفاع. وهذا كله يصحح قول أبي هريرة: إن الفردوس جبل الجنة التي تتفجر منه أنهار الجنة. واللفظة فيما قال مجاهد: رومية عربت. وقيل: هي فارسية عربت. وقيل: حبشية؛ وإن ثبت ذلك فهو وفاق بين اللغات. وقال الضحاك: هو عربي وهو الكرم؛ والعرب تقول للكروم فراديس. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فأنث على معنى الجنة.
الآيات: 12 - 14 {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}

فيه خمس مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} الإنسان هنا آدم عليه الصلاة والسلام؛ قاله قتادة وغيره، لأنه استل من الطين. ويجيء الضمير في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} عائدا على ابن آدم، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر؛ فإن المعنى لا يصلح إلا له. نظير ذلك {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]. وقيل: المراد بالسلالة ابن آدم؛ قاله ابن عباس وغيره. والسلالة على هذا صفوة الماء، يعني المني. والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء؛ يقال: سللت الشعر من العجين، والسيف من الغمد فانسل؛ ومنه قوله:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
فالنطفة سلالة، والولد سليل وسلالة؛ عنى به الماء يسل من الظهر سلا. قال الشاعر:
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين
وقال آخر:
وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل
وقوله: {مِنْ طِينٍ} أي أن الأصل آدم وهو من طين. قلت: أي من طين خالص؛ فأما ولده فهو من طين ومني، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام. وقال الكلبي: السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك؛ فالذي يخرج هو السلالة.
الثانية: {نُطْفَةً} قد مضى القول في النطفة والعلقة والمضغة وما في ذلك من الأحكام في أول الحج، والحمد لله على ذلك.
الثالثة: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} اختلف الناس في الخلق الآخر؛ فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد: هو نفخ الروح فيه بعد أن كان

جمادا. وعن ابن عباس: خروج إلى الدنيا. وقال قتادة عن فرقة: نبات شعره. الضحاك: خروج الأسنان ونبات الشعر. مجاهد: كمال شبابه؛ وروي عن ابن عمر: والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت.
الرابعة: قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله {خَلْقاً آخَرَ} قال فتبارك الله أحسن الخالقين؛ فقال رسو الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". وفي مسند الطيالسي: ونزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية؛ فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين؛ فنزلت {تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. ويروى أن قائل ذلك معاذ ابن جبل. وروي أن قائل ذلك عبد الله بن أبي سرح، وبهذا السبب ارتد وقال: أتي بمثل ما يأتي محمد؛ وفيه نزل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] على ما تقدم بيانه في "الأنعام". وقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ} تفاعل من البركة. {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئا خلقه؛ ومنه قول الشاعر:
ولأنت تقري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري
وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى. وقال ابن جريج: إنما قال: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق؛ واضطرب بعضهم في ذلك. ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع وإيجاد من العدم.
الخامسة: من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا: الله أعلم؛ فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها

في ليلة سبع وعشرين. فقال عمر رضي الله عنه: أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه. وهذا الحديث بطول في مسند ابن أبي شيبة. فأراد ابن عباس "خلق ابن آدم من سبع" بهذه الآية، وبقوله: "وجعل رزقه في سبع" قوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدَائِقَ غُلْباً. وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: 27 - 31] الآية. السبع منها لابن آدم، والأب للأنعام. والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء؛ هذا قول. وقيل: القضب البقول لأنها تقضب؛ فهي رزق ابن آدم. وقيل: القضب والأب للأنعام، والست الباقية لابن آدم، والسابعة هي للأنعام؛ إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.
الآيتان: 15 - 16 {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}أ ي بعد الخلق والحياة. والنحاس: ويقال في هذا المعنى لمائتون.ثم أخبر بالبعث بعد الموت فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}.
الآية: 17 {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} قال أبو عبيدة: أي سبع سموات. وحكى عنه أنه يقال: طارقت الشيء، أي جعل بعضه فوق بعض؛ فقيل للسموات طرائق لأن بعضها فوق بعض. والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. وقيل: لأنها طرائق الملائكة. {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} قال بعض العلماء: عن خلق السماء. وقال أكثر المفسرين: أي عن الخلق كلهم من أن تسقط عليهم فتهلكهم.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنن {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} أي في القيام بمصالحه وحفظه؛ وهو معنى الحي القيوم؛ على ما تقدم.

الآية: 18 {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}
فيه أربع مسائل:-
الأولى: هذه الآية من نعم الله تعالى على خلقه ومما آمتن به عليهم؛ ومن أعظم المنن الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان. والماء المنزل من السماء على قسمين: هذا الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه فالأرض، وجعله فيها مختزنا لسقي الناس يجدونه عند الحاجة إليه؛ وهو ماء الأنهار والعيون وما يستخرج من الآبار. وروي عن ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار الأربعة: سيحان وجيحان ونيل مصر والفرات. وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء. وهذا ليس على إطلاقه، وإلا فالأجاج ثابت في الأرض، فيمكن أن يقيد قوله بالماء العذب، ولا محالة أن الله تعالى قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء. وقد قيل: إن قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إشارة إلى الماء العذب، وأن أصله من البحر، رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء، حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد؛ ثم أنزله إلى الأرض لنتفع به، ولو كان الأمر إلى ماء البحر لما انتفع به من ملوحته.
الثانية : قوله تعالى: {بِقَدَرٍ} أي على مقدار مصلح، لأنه لو كثر أهلك؛ ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر: 21]. {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} يعني الماء المختزن. وهذا تهديد ووعيد؛ أي في قدرتنا إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم؛ وهذا كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} أي غائرا {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30].
الثالثة: ذكر النحاس: قرئ على أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن جامع بن سوادة فال: حدثنا سعيد بن سابق قال حدثنا مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيان

عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل الله عز وجل من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناح جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله جل ثناؤه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عز وجل جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم وجميع الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا".
الرابعة: كل ما نزل من السماء مختزنا كان أو غير مختزن فهو طاهر مطهر يغتسل به ويتوضأ منه؛ على ما يأتي في "الفرقان" بيانه.
الآية: 19 {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}
فيه مسألتان:-
الأولى: قوله تعالى: {فَأَنْشَأْنَا} أي جعلنا ذلك سبب النبات، وأوجدناه به وخلقناه. وذكر تعالى النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما؛ قاله الطبري. ولأنها أيضا أشرف الثمار، فذكرها تشريفا لها وتنبيها عليها. {لَكُمْ فِيهَا} أي في الجنات. {فَوَاكِهُ} من غير الرطب والعنب. ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة إذ فيها مراتب وأنواع؛ والأول أعم لسائر الثمرات.
الثانية: من حلف ألا يأكل فاكهة؛ في الرواية عندنا يحنث بالباقلاء الخضراء وما أشبهها. وقال أبو حنيفة: لا يحنث بأكل القثاء والخيار والجزر، لأنها من القبول لا من الفاكهة. وكذلك الجوز واللوز والفستق؛ لأن هذه الأشياء لا تعد من الفاكهة.

وإن أكل تفاحا أو خوخا أو مشمشا أو تينا أو إجاصا يحنث. وكذلك البطيخ؛ لأن هذه الأشياء كلها تؤكل على جهة التفكه قبل الطعام وبعده؛ فكانت فاكهة. وكذلك يابس هذه الأشياء إلا البطيخ اليابس لأن ذلك لا يؤكل إلا في بعض البلدان. ولا يحنث بأكل البطيخ الهندي لأنه لا يعد من الفواكه. وإن أكل عنبا أو رمانا أو رطبا لا يحنث. وخالفه صاحباه فقالا يحنث؛ لأن هذه الأشياء من أعز الفواكه، وتؤكل على وجه التنعم. والإفراد لها بالذكر في كتاب الله عز جل لكمال معانيها؛ كتخصيص جبريل وميكائيل من الملائكة. واحتج أبو حنيفة بأن قال: عطف هذه الأشياء على الفاكهة مرة فقال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ومرة عطف الفاكهة على هذه الأشياء فقال: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: 31] والمعطوف غير المعطوف عليه، ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين في موضع المنة. والعنب والرمان يكتفى بهما في بعض البلدان فلا يكون فاكهة؛ ولأن ما كان فاكهة لا فرق بين رطبه ويابسه، ويابس هذه الأشياء لا يعد فاكهة فكذلك رطبها.
الآية: 20 {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}
فيه ست مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {وَشَجَرَةً} شجرة عطف على جنات. وأجاز الفراء الرفع لأنه لم يظهر الفعل، بمعنى وثم شجرة؛ ويريد بها شجرة الزيتون. وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشام والحجاز وغيرهما من البلاد، وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار. {تَخْرُجُ} في موضع الصفة. {مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} أي أنبتها الله في الأصل من هذا الجبل الذي بارك الله فيه. وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام؛ قال ابن عباس وغيره، وقد تقدم في البقرة والأعراف. والطور الجبل في كلام العرب. وقيل: هو مما عرب من كلام العجم. وقال ابن زيد: هو جبل

بيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة. واختلف في سيناء؛ فقال قتادة: معناه الحسن؛ ويلزم على هذا التأويل أن ينون الطور على النعت. وقال مجاهد: معناه مبارك. وقال معمر عن فرقة: معناه شجر؛ ويلزمهم أن ينونوا الطور. وقال الجمهور: هو اسم الجبل؛ كما تقول جبل أحد. وعن مجاهد أيضا: سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده. وقال مقاتل: كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء؛ أي حسن. وقرأ الكوفيون بفتح السين على وزن فعلاء؛ وفعلاء في كلام العرب كثير؛ يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة؛ لأن في آخرها ألف التأنيث، وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه، وليس في الكلام فعلاء، ولكن من قرأ سيناء بكسر السين جعل فعلالا؛ فالهمزة فيه كهمزة حرباء، ولم يصرف في هذه الآية لأنه جعل اسم بقعة 0 وزعم الأخفش أنه اسم أعجمي.
الثانية: قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} قرأ الجمهور {تَنْبُتُ} بفتح التاء وضم الباء، والتقدير: تنبت ومعها الدهن؛ كما تقول: خرج زيد بسلاحه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بقسم التاء وكسر الباء. واختلف في التقدير على هذه القراءة؛ فقال أبو علي الفارسي: التقدير تنبت جناها ومعه الدهن؛ فالمفعول محذوف. وقيل: الباء زائدة؛ مثل {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وهذا مذهب أبي عبيدة. وقال الشاعر:
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
وقال آخر:
هن الحرائر لا ربات أخمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ونحو هذا قال أبو علي أيضا؛ وقد تقدم. وقيل: نبت وأنبت بمعنى؛ فيكون المعنى كما مضى في قراءة الجمهور، وهو مذهب الفراء وأبي إسحاق، ومنه قول زهير:
حتى إذا أنبت البقل

والأصمعي ينكر أنبت، ويتهم قصيدة زهير التي فيها:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت. وقرأ الزهري والحسن والأعرج {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} برفع التاء ونصب الباء. قال ابن جني والزجاج: هي باء الحال؛ أي تنبت ومعها دهنها. وفي قراءة ابن مسعود: {تخرج بالدهن} وهي باء الحال. ابن درستويه: الدهن الماء اللين؛ تنبت من الإنبات. وقرأ زر بن حيش {تُنْبِت - بضم التاء وكسر الباء – الدهن} بحذف الباء ونصبه. وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب {بالدهان}. والمراد من الآية تعديه نعمة الزيت على الإنسان، وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها. ويدخل في معنى الزيتون شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار.
الثالثة: قوله تعالى: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} قراءة الجمهور. وقرأت فرقة {وأصباغ} بالجمع. وقرأ عامر بن عبد قيس {ومتاعا} ؛ ويراد به الزيت الذي يصطبغ به الأكل؛ يقال: صبغ وصباغ؛ مثل دبغ ودباغ، ولبس ولباس. وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ؛ حكاه الهروي وغيره. وأصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبه الإدام به لأن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه. وقال مقاتل: الأدم الزيتون، والدهن الزيت. وقد جعل الله تعالى في هذه الشجرة أدما ودهنا؛ فالصبغ على هذا الزيتون.
الرابعة: لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل والرب والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام. وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخل فقال: "نعم الإدام الخل" رواه تسعة من الصحابة، سبعة رجال وامرأتان. وممن رواه في الصحيح جابر وعائشة وخارجة وعمر وابنه عبيدالله وابن عباس وأبو هريرة وسمرة بن جندب وأنس وأم هانئ.
الخامسة: واختلف فيما كان جامدا كاللحم والتمر والزيتون وغير ذلك من الجوامد؛ فالجمهور أن ذلك كله إدام؛ فمن حلف ألا يأكل إداما فأكل لححا أو جبنا حنث. وقال أبو حنيفة: لا يحنث؛ وخالفه صاحباه. وقد روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة. والبقل

ليس بإدام في قولهم جميعا. وعن الشافعي في التمر وجهان؛ والمشهور أنه ليس بإدام لقوله في التنبيه. وقيل يحنث؛ والصحيح أن هذا كله إدام. وقد روى أبو داود عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة فقال: "هذا إدام هذه". وقال صلى الله عليه وسلم: "سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم". ذكره أبو عمر. وترجم البخاري "باب الإدام" وساق حديث عائشة؛ ولأن الإدام مأخوذ من المؤادمة وهي الموافقة، وهذه الأشياء توافق الخبز فكان إداما. وفي الحديث عنه عليه السلام: "ائتدموا ولو بالماء". ولأبي حنيفة أن حقيقة الإدام الموافقة في الاجتماع على وجه لا يقبل الفصل؛ كالخل والزيت ونحوهما، وأما اللحم والبيض وغيرهما لا يوافق الخبز بل يجاوزه كالبطيخ والتمر والعنب. والحاصل: أن كل ما يحتاج في الأكل إلى موافقة الخبز كان إداما، وكل ما لا يحتاج ويؤكل على حدة لا يكون إداما، والله أعلم.
السادسة: روى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة". هذا حديث لا يعرف إلا من حديث عبد الرزاق، وكان يضطرب فيه، فربما يذكر فيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما رواه على الشك فقال: أحسبه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل: خص الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت منها. وقيل: إن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان. والله أعلم.
الآيات: 21 - 27 {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ،

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ، قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ، فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}
قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ،وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} تقدم القول فيهما في النحل. {وَعَلَيْهَا} أي وعلى الأنعام في البر. {وَعَلَى الْفُلْكِ} في البحر. {تُحْمَلُونَ} وإنما يحمل في البر على البر فيجوز أن ترجع الكناية إلى بعض الأنعام. وروي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول فأنطقها الله تعالى معه فقالت: إنا لم نخلق لهذا! وإنما خلقت للحرث. {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} قرئ بالخفض ردا على اللفظ، وبالرفع ردا على المعنى. وقد مضى في "الأعراف".
قوله تعالى: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يسودكم ويشرف عليكم بأن يكون متبوعا ونحن له تبع. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} أي لو شاء الله ألا يعبد شيء سواه لجعل رسول ملكا. {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي بمثل دعوته. وقيل: ما سمعنا بمثله بشرا؛ أي برسالة ربه. {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} أي في الأمم الماضية؛ قال ابن عباس. والباء في {بِهَذَا} زائدة؛ أي ما سمعنا هذا كائنا في أبائنا الأولين، ثم عطف بعضهم على بعض فقالوا: {إِنْ هُوَ}

يعنون نوحا {إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي جنون لا يدري ما يقول .{فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي انتظروا موته. وقيل: حتى يستبين جنونه. وقال الفراء: ليس يراد بالحين ها هنا وقت بعينه، إنما هو كقول: دعه إلى يوم ما. فقال حين تمادوا على كفرهم: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أي انتقم ممن لم يطعن ولم يسمع رسالتي. {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} أي أرسلنا إليه رسلا من السماء {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} على ما تقدم بيانه.
قوله تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا} أي أدخل فيها واجعل فيها؛ يقال: سلكته في كذا وأسلكته فيه في كذا وأسلكته فيه إذا أدخلته. قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا
{مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} قرأ حفص { مِنْ كُلٍّ} بالتنوين، الباقون بالإضافة؛ وقد ذكر. وقال الحسن: لم يحتمل نوج في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأما البق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منها، وإنما خرج من الطين. وقد مضى القول في السفينة والكلام فيها مستوفى، والحمد لله.
الآية: 28 {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} أي علوت. {أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} راكبين. {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي احمدوا الله على تخليصه إياكم. {الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ومن الغرق. والحمد لله: كلمة كل شاكر لله. وقد مضى في الفاتحة بيانه.
الآية: 29 {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}
قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً} قراءة العامة {مُنْزَلاً} بضم الميم وفتح الزاي، على المصدر الذي هو الإنزال؛ أي انزلني إنزالا مباركا. وقرأ زر بن حبيش وأبو بكر

عن عاصم والمفضل {مَنْزَلاً} بفتح الميم وكسر الزاي على الموضع؛ أي أنزلني موضعا مباركا. الجوهري: المنزل "بفتح الميم والزاي" النزول وهو الحلول؛ تقول: نزلت نزولا ومنزلا. وقال:
أأن ذكرتك الدار منزلها جمل ... بكيت فدم العين منحدر سجل
نصب "المنزل" لأنه مصدر. وأنزل غيره واستنزله بمعنى. ونزله تنزيلا؛ والتنزيل أيضا الترتيب. قال ابن عباس ومجاهد: هذا حين خرج من السفينة؛ مثل قوله تعالى: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48]. وقيل: حين دخلها؛ فعلى هذا يكون قول {مُبَارَكاً} يعني بالسلامة والنجاة.
قلت: وبالجملة فالآية تعليم من الله عز وجل لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا؛ بل وإذا دخلوا بيوتهم وسلموا قالوا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا دخل المسجد قال: اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين.
الآية: 30 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في أمر نوج والسفينة وإهلاك الكافرين. {لَآيات} أي دلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه ويهلك أعداءهم. {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي ما كنا إلا مبتلين الأمم قبلكم؛ أي مختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي فيتبين للملائكة حالهم؛ لا أن يستجد الرب علما. وقيل: أي نعاملهم معاملة المختبرين. وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة" وغيرها. وقيل: {إِنْ كُنَّا} أي وقد كنا.
الآيتان: 31 - 32 {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ، فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد هلاك قوم نوح. {قَرْناً آخَرِينَ} قيل: هم قوم عاد. {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً} يعني هودا؛ لأنه ما كانت أمة أنشأت في إثر قوم نوح إلا عاد. وقيل: هم قوم ثمود {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً} يعني صالحا. قالوا: والدليل عليه قوله تعالى آخر الآية {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [المؤمنون: 41]؛ نظيرها: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67].
قلت: وممن أخذ بالصيحة أيضا أصحاب مدين قوم شعيب، فلا يبعد أن يكونوا هم، والله أعلم. {مِنْهُمْ} أي من عشيرتهم، يعرفون مولده ومنشأه ليكون سكونهم إلى قول أكثر.
الآيات: 33 - 35 {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ، أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}
قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} أي الأشراف والقادة والرؤساء. {مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ} يريد بالبعث والحساب. {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا وصاروا يؤتون بالترفة، وهي مثل التحفة. {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إلى الطعام والشراب كأنتم. وزعم الفراء أن معنى {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} على حذف من، أي مما تشربون منه؛ وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف البتة؛ لأن {ما} إذا كان مصدرا لم يحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم يحتج إلى إضمار من. {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} يريد لمغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه

من غير فضيلة له عليكم. {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أي مبعوثون من قبوركم. و {أنّ} الأولى في موضع نصب بوقوع {يَعِدُكُمْ} عليها، والثانية بدل منها؛ هذا مذهب سيبويه. والمعنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله {أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاماً أنكم مخرجون} ؛ وهو كقولك: أظن إن خرجت أنك نادم. وذهب الفراء والجرمي وأبو العباس المبرد إلى أن الثانية مكررة للتوكيد، لما طال الكلام كان تكريرها حسنا. وقال الأخفش: المعنى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما يحدث إخراجكم؛ فـ {أنّ} الثانية في موضع رفع بفعل مضمر؛ كما تقول: اليوم القتال، فالمعنى اليوم يحدث القتال. وقال أبو إسحاق: ويجوز {أيعدكم إنكم إذا مِتم وكنتم تراباً وعظاماً إنكم مخرجون} ؛ لأن معنى {أَيَعِدُكُمْ} أيقول إنكم.
الآية: 36 {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}
قال ابن عباس: هي كلمة للبعد؛ كأنهم قالوا بعيد ما توعدون؛ أي أن هذا لا يكون ما يذكر من البعث. وقال أبو علي: هي بمنزلة الفعل؛ أي بعد ما توعدون. وقال ابن الأنباري: وفي {هيهات} عشر لغات: هيهات لك "بفتح التاء" وهي قراءة الجماعة. وهيهاتِ لك "بخفض التاء"؛ ويروى عن أبي جعفر بن القعقاع. وهيهاتٍ لك "بالخفض والتنوين" يروى عن عيسى ابن عمر. وهيهاتُ لك "برفع التاء"؛ الثعلبي: وبها قرأ نصر بن عاصم وأبو العالية. وهيهات لك "بالرفع والتنوين" وبها قرأ أبو حيوة الشامي؛ ذكره الثعلبي أيضا. وهيهاتاً لك "بالنصب والتنوين" قال الأحوص:
تذكرت أياما مضين من الصبا ... وهيهات هيهاتا إليك رجوعها
واللغة السابعة: أيهات أيهات؛ وأنشد الفراء:
فأيهات أيهات العقيق ومن ... به وأيهات خل بالعقيق نواصله
قال المهدوي: وقرأ عيسى الهمداني {هيهاتْ هيهاتْ} بإسكان. قال ابن الأنباري: ومن العرب من يقول "أيهان" بالنون، ومنهم من يقول "أيها" بلا نون. وأنشد الفراء:

ومن دوني الأعيان والقنع كله ... وكتمان أيها ما أشت وأبعدا
فهذه عشر لغات. فمن قال {هيهاتَ} بفتح التاء جعله مثل أين وكيف. وقيل: لأنهما أداتان مركبتان مثل خمسة عشر وبعلبك ورام هرمز، وتقف على الثاني بالهاء؛ كما تقول: خمس عشرة وسبع عشرة. وقال الفراء: نصبها كنصب ثمت وربت، ويجوز أن يكون الفتح إتباعا للألف والفتحة التي قبلها. ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء. قال:
وهيهات هيهات إليك رجوعها
قال الكسائي: ومن كسر التاء وقف عليها بالهاء؛ فيقول هيهاه. ومن نصبها وقف بالتاء وإن شاء بالهاء. ومن ضمها فعلى مثل منذ وقط وحيث. ومن قرأ {هيهات} بالتنوين فهو جمع ذهب به إلى التنكير؛ كأنه قال بعدا بعدا. وقيل: خفض ونون تشبيها بالأصوات بقولهم: غاق وطاق. وقال الأخفش: يجوز في {هيهات} أن تكون جماعة فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث. ومن قرأ {هيهاتٍ} جاز أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد، ولم يجعله اسما للفعل فيبنيه. وقيل: شبه التاء بتاء الجمع، كقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198]. قال الفراء: وكأني أستحب الوقف على التاء؛ لأن من العرب من يخفض التاء على كل حال؛ فكأنها مثل عرفات وملكوت وما أشبه ذلك. وكان مجاهد وعيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء والكسائي وابن كثير يقفون عليها {هيهاه} بالهاء. وقد روي عن أبي عمرو أيضا أنه كان يقف على {هيهات} بالتاء، وعليه بقية القراء لأنها حرف. قال ابن الأنباري. من جعلهما حرفا واحدا لا يفرد أحدهما من الآخر، وقف على الثاني بالهاء ولم يقف على الأول؛ فيقول: هيهات هيهاه، كما يقول خمس عشرة، على ما تقدم. ومن نوى إفراد أحدهما من الآخر وقف فيهما جميعا بالهاء والتاء؛ لأن أصل الهاء تاء.
الآية: 37 {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}

قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} {هِيَ} كناية عن الدنيا؛ أي ما الحياة إلا ما نحن فيه لا الحياة الآخرة التي تعدنا بعد البعث .{نَمُوتُ وَنَحْيَا} يقال: كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث؟ ففي هذا أجوبة؛ منها أن يكون المعنى: نكون مواتا، أي نطفا ثم نحيا في الدنيا. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت؛ كما قال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43]. وقيل: {نَمُوتُ} يعني الأباء، {وَنَحْيَا} يعني الأولاد. {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد الموت.
الآيات: 38 - 41 {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ، قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ، قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ} يعنون الرسول. {افْتَرَى} أي اختلق. {عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ، قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} تقدم. {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ} أي عن قليل،و {ما} زائدة مؤكدة. {لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} على كفرهم، واللام لام القسم؛ أي والله ليصبحن. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} في التفاسير: صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها فماتوا عن آخرهم. {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} أي هلكى هامدين كغثاء السيل، وهو ما يحمله من بالي الشجر من الحشيش والقصب مما يبس وتفتت. {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي هلاكا لهم. وقيل بعدا لهم من رحمة الله؛ وهو منصوب على المصدر. ومثله سقيا له ورعيا.
الآيات: 42 - 44 {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد هلاك هؤلاء. {قُرُوناً} أي أمما. {آخَرِينَ} قال ابن عباس: يريد بني إسرائيل؛ وفي الكلام حذف: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم. {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} {مِنْ} صلة؛ أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لها ولا تتأخره؛ مثل قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. ومعنى {تَتْرَى} تتواتر، ويتبع بعضهم بعضا ترغيبا وترهيبا. قال الأصمعي: وأترت كتبي عليه أتبعت بعضها بعضا؛ إلا أن بين كل كل واحد وبين الآخر مهلة. وقال غيره: المواترة التتابع بغير مهلة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {تترًى} بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على فتح الراء؛ كقولك: حمدا وشكرا؛ فال فالوقف على هذا على الألف المعوضة من التنوين. ويجوز أن يكون ملحقا بجعفر، فيكون مثل أرطى وعلقى؛ كما قال:
يستن في علقى وفي مكور
فإذا وقف على هذا الوجه جازت الإمالة، على أن ينوي الوقف على الألف الملحقة. وقرأ ورش بين اللفظتين؛ مثل سكرى وغضبى، وهو اسم جمع؛ مثل شتى وأسرى. وأصله وترى من المواترة والتواتر، فقلبت الواو تاء؛ مثل التقوى والتكلان وتجاه ونحوها. وقيل: هو الوتر وهو الفرد؛ فالمعنى أرسلناهم فردا فردا. النحاس: وعلى هذا يجوز {تِتْراً} بكسر التاء الأولى، وموضعها نصب على المصدر؛ لأن معنى {ثُمَّ أَرْسَلْنَا} واترنا. ويجوز أن يكون في موضع الحال أي متواترين. {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أي بالهلاك. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به؛ كأعاجيب جمع أعجوبة، وهي ما يتعجب منه. قال الأخفش: إنما يقال هذا في الشر {جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} ولا يقال في الخير؛ كما يقال: صار فلان حديثا أي عبرة ومثلا؛ كما قال في آية أخرى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19].
قلت: وقد يقال فلان حديث حسن، إذا كان مقيدا بذكر ذلك؛ ومنه قول ابن دريد:
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى

الآيات: 45 - 48 {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ، فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ، فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} تقدم. ومعنى {عَالِينَ} متكبرين قاهرين لغيرهم بالظلم؛ كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4] {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} الآية. تقدم أيضا. ومعنى {مِنَ الْمُهْلَكِينَ} أي بالغرق في البحر.
الآية: 49 {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني التوراة؛ وخص موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور، وهارون خليفة في قومه. ولو قال {وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا} جاز؛ كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48].
الآية: 50 {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} تقدم في "الأنبياء" القول فيه. {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} الربوة المكان المرتفع من الأرض؛ وقد تقدم في "البقرة". والمراد بها ههنا في قول أبي هريرة فلسطين. وعنه أيضا الرملة؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس وابن المسيب وابن سلام: دمشق. وقال كعب وقتادة: بيت المقدس. قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. قال:
فكنت هميدا تحت رمس بربوة ... تعاورني ريح جنوب وشمال

وقال ابن زيد: مصر. وروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} قال: النشز من الأرض. {ذَاتِ قَرَارٍ} أي مستوية يستقر عليها. وقيل: ذات ثمار، ولأجل الثمار يستقر فيها الساكنون. {وَمَعِينٍ} ماء جار ظاهر للعيون. يقال: معين ومعن؛ كما يقال: رغيف ورغف؛ قاله علي بن سليمان. وقال الزجاج: هو الماء الجاري في العيون؛ فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع، وكذلك الميم زائدة في قول من قال إنه الماء الذي يرى بالعين. وقيل: إنه فعيل بمعنى مفعول. قال علي بن سليمان: يقال من الماء إذا جرى فهو معين ومعيون. ابن الأعرابي: معن الماء يمعن معونا إذا جرى وسهل، وأمعن أيضا وأمعنته، ومياه معنان.
الآية: 51 {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
فيه ثلاث مسائل:-
الأولى: روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] - ثم ذكر - الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك".
الثانية: قال بعض العلماء: والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أقامه مقام الرسل؛ كما قال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود. وقال

الزجاج: هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا؛ أي كلوا من الحلال. وقال الطبري: الخطاب لعيسى عليه السلام؛ روي أنه كان يأكل من غزل أمه. والمشهور عنه أنه كان يأكل من بقل البرية. ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقديره لمحمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له. وقيل: إن هذه المقالة خوطب بها كل نبي؛ لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها. فيكون المعنى: وقلنا يا أيها الرسل كلوا من الطيبات؛ كما تقول لتاجر: يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا؛ فأنت تخاطبه بالمعنى. وقد اقترن بذلك أن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه، فلم يخاطبوا قط مجتمعين صلوات الله عليهم أجمعين، وإنما خوطب كل واحد في عصره. قال الفراء: هو كما تقول للرجل الواحد: كفوا عنا أذاكم.
الثالثة: سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} صلى الله على رسله وأنبيائه. وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم. وقد مضى القول في الطيبات والرزق في غير موضع، والحمد لله. وفي قوله عليه السلام "يمد يديه" دليل على مشروعية مد اليدين عند الدعاء إلى السماء؛ وقد مشى الخلاف في هذا والكلام فيه والحمد لله. وقوله عليه السلام "فأنى يستجاب لذلك" على جهة الاستبعاد؛ أي أنه ليس أهلا لإجابة دعائه لكن يجوز أن يستجيب الله له تفضلا ولطفا وكرما.
الآيات: 52 - 54 {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}

فيه أربع مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} المعنى: هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالتزموه. والأمة هنا الدين؛ وقد تقدم محامله؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي على دين. وقال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبه ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
الثانية: قرئ {وإن هذه} بكسر {إنّ} على القطع، وبفتحها وتشديد النون. قال الخليل: هي في موضع نصب لما زال الخافض؛ أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفراء: {أنّ} متعلقة بفعل مضمر تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم. وهي عند سيبويه متعلقة بقوله {فَاتَّقُونِ} ؛ والتقدير فاتقون لأن أمتكم واحدة. وهذا كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18]؛ أي لأن المساجد لله فلا تدعوا معه غيره. وكقوله: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]؛ أي فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش.
الثالثة: وهذه الآية تقوي أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} إنما هو مخاطبة لجميعهم، وأنه بتقدير حضورهم. وإذا قدرت {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فلق اتصال هذه الآية واتصال قوله {فَتَقَطَّعُوا}. أما أن قوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون فيه بالمعنى؛ فيحسن بعد ذلك اتصال. {فَتَقَطَّعُوا} أي افترقوا، يعني الأمم، أي جعلوا دينهم أديانا بعد ما أمروا بالاجتماع. ثم ذكر تعالى أن كلا منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال.
الرابعة: هذه الآية تنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "ألاَ إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة" الحديث. خرجه أبو داود، ورواه

الترمذي وزاد: قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" خرجه من حديث عبد الله بن عمرو. وهذا يبين أن الافتراق المحذر منه في الآية والحديث إنما هو في أصول الدين وقواعده، لأنه قد أطلق عليها مللا، وأخبر أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار. ومثل هذا لا يقال في الفروع، فإنه لا يوجب تعديد الملل ولا عذاب النار؛ قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48].
قوله تعالى: {زُبُراً} يعني كتبا وضعوها وضلالات ألفوها؛ قاله ابن زيد. وقيل: إنهم فرقوا الكتب فاتبعت فرقة الصحف وفرقة التوراة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل، ثم حرف الكل وبدل؛ قاله قتادة. وقيل: أخذ كل فريق منهم كتابا آمن به وكفر بما سواه. و {زبراً} بضم الباء قراءة نافع، جمع زبور. والأعمش وأبو عمرو بخلاف عنه {زُبَراً} بفتح الباء، أي قطعا كقطع الحديد؛ كقوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}. [الكهف: 96]. {كُلُّ حِزْبٍ} أي فريق وملة. {بِمَا لَدَيْهِمْ} أي عندهم من الدين. {فَرِحُونَ} أي معجبون به. وهذه الآية مثال لقريش خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلا بقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم؛ فلكل شيء وقت. والغمرة في اللغة ما يغمرك ويعلوك؛ وأصله الستر؛ ومنه الغمر الحقد لأنه يغطي القلب. والغمر الماء الكثير لأنه يغطي الأرض. وغمر الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء؛ قال:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال
المراد هنا الحيرة الغفلة والضلالة. ودخل فلان في غمار الناس، أي في زحمتهم. وقوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} قال مجاهد: حتى الموت، فهو تهديد لا توقيت؛ كما يقال: سيأتي لك يوم.
الآيتان: 55 - 56 {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}

قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} {مَا} بمعنى الذي؛ أي أيحسبون يا محمد أن الذي نعطيهم في الدنيا من المال والأولاد هو ثواب لهم، إنما هو استدراج وإملاء، ليس إسراعا في الخيرات. وفي خبر {أَنَّ} ثلاثة أقوال، منها أنه محذوف. وقال الزجاج: المعنى نسارع لهم به في الخيرات، وحذفت به. وقال هشام الضرير قولا دقيقا، قال: {أَنَّمَا} هي الخيرات؛ فصار المعنى: نسارع لهم فيه، ثم أظهر فقال {في الْخَيْرَاتِ} ، ولا حذف فيه على هذا التقدير. ومذهب الكسائي أن {أَنَّمَا} حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير حذف، ويجوز الوقف على قول {وَبَنِينَ}. ومن قال {أَنَّمَا} حرفان فلا بد من ضمير يرجع من الخبر إلى اسم {أنّ} ولم يتم الوقف على {وبنين}. وقال السختياني: لا يحسن الوقف على {وَبَنِينَ} ؛ لأن {يَحْسَبُونَ} يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين {فِي الْخَيْرَاتِ} قال ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن {أنّ} كافية من اسم أن وخبرها ولا يجوز أن يؤتى بعد {أنّ} بمفعول ثان. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبدالرحمن بن أبي بكرة {يُسَارِعُ} بالياء، على أن يكون فاعله إمدادنا. وهذا يجوز أن يكون على غير حذف؛ أي يسارع لهم الإمداد. ويجوز أن يكون فيه حذف، ويكون المعنى يسارع الله لهم. وقرئ {يُسَارَعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها على حذف به. ويجوز أن يكون يسارع الأمداد. ويجوز أن يكون {لَهُمْ} اسم ما لم يسم فاعله؛ ذكره النحاس. قال المهدوي: وقرأ الحر النحوي {نُسْرِعُ لهم في الخيرات} وهو معنى قراءة الجماعة. قال الثعلبي: والصواب قراءة العامة؛ لقوله: {نُمِدُّهُمْ}. {بَلْ لا يَشْعُرُونَ} أن ذلك فتنة لهم واستدراج.
الآيات: 57 - 60 {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين المسارعين في الخيرات ووعدهم، وذكر ذلك بأبلغ صفاتهم. و {مُشْفِقُونَ} خائفون وجلون مما خوفهم الله تعالى. {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قال الحسن: يؤتون الإخلاص ويخافون ألا يقبل منهم. وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات". وقال الحسن: لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها. وقرأت عائشة رضي الله عنها وابن عباس والنخعي {وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا} مقصورا من الإتيان. قال الفراء: ولو صحت هذه القراءة عن عائشة لم تخالف قراءة الجماعة؛ لأن الهمز من العرب من يلزم فيه الألف في كل الحالات إذا كتب؛ فيكتب سئل الرجل بألف بعد السين، ويستهزئون بألف بين الزاي والواو، وشيء وشيء بألف بعد الياء، فغير مستنكر في مذهب هؤلاء أن يكتب {يؤتون} بألف بعد الياء، فيحتمل هذا اللفظ بالبناء على هذا الخط قراءتين {يؤتون ما آتوا} و {يأتون ما أتوا}. وينفرد ما عليه الجماعة باحتمال تأويلين: أحدهما: الذين يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة وقلوبهم خائفة. والآخر: والذين يؤتون الملائكة الذين يكتبون الأعمال على العباد ما آتوا وقلوبهم وجلة؛ فحذف مفعول في هذا الباب لوضوح معناه؛ كما حذف في قوله عز وجل: {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] والمعنى يعصرون السمسم والعنب؛ فاختزل المفعول لوضوح تأويله. ويكون الأصل في الحرف على هجائه الوجود في الإمام {يأتون} بألف مبدلة من الهمزة فكتبت الألف

واوا لتآخي حروف المد واللين في الخفاء؛ حكاه ابن الأنباري. قال النحاس: المعروف من قراءة ابن عباس {والذين يأتون ما أتوا} وهي القراءة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عائشة رضي الله عنها، ومعناها يعملون ما عملوا؛ ما روي في الحديث. والوجل نحو الإشفاق والخوف؛ فالتقي والتائب خوفه أمر العاقبة وما يطلع عليه بعد الموت. وفي قوله: {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} تنبيه على الخاتمة. وفي صحيح البخاري "وإنما الأعمال بالخواتيم". وأما المخلط فينبغي له أن يكون تحت خوف من أن ينفذ عليه الوعيد بتخليطه. وقال أصحاب الخواطر: وجل العارف من طاعته أكثر وجلا من وجله من مخالفته؛ لأن المخالفة تمحوها التوبة، والطاعة تطلب بتصحيح الفرض. {أَنَّهُمْ} أي لأنهم، أو من أجل أنهم إلى ربهم راجعون.
الآية: 61 {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسْارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات والغرفات. وقرئ {يُسَارِعُونَ} في الخيرات، أي يكونوا سراعا إليها. ويسارعون على معنى يسابقون من سابقهم إليها؛ فالمفعول محذوف. قال الزجاج: يسارعون أبلغ من يسرعون. {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أحسن ما قيل فيه: أنهم يسبقون إلى أوقاتها. ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل؛ كما تقدم في "البقرة" وكل من تقدم في شيء فهو سابق إليه، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وفاته؛ فاللام في "لها" على هذا القول بمعنى إلى؛ كما قال {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي أوحى إليها. وأنشد سيبويه:
تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا
وعن ابن عباس في معنى {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} سبقت لهم من الله السعادة؛ فلذلك سارعوا في الخيرات. وقيل: المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون.

الآية: 62 {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
قوله تعالى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} قد مضى في "البقرة". {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} أظهر ما قيل فيه: إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة؛ وأضافه إلى نفسه لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره، فهو ينطق بالحق. وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم. ولفظ النطق يجوز في الكتاب؛ والمراد أن النبيين تنطق بما فيه. والله أعلم. وقيل: عنى اللوح المحفوظ، وقد أثبت فيه كل شيء، فهم لا يجاوزون ذلك. وقيل: الإشارة بقوله {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} القرآن، فالله أعلم، وكل محتمل والأول أظهر.
الآيات: 63 - 65 {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ، لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ}
قوله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} قال مجاهد: أي في غطاء وغفلة وعماية عن القرآن. ويقال: غمره الماء إذا غطاه. ونهر غمر يغطي من دخله. ورجل غمر يغمره آراء الناس. وقيل: {غمرة} لأنها تغطي الوجه. ومنه دخل في غمار الناس وخمارهم، أي فيما يغطيه من الجمع. وقيل: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} أي في حيرة وعمى؛ أي مما وصف من أعمال البر في الآيات المتقدمة؛ قال قتادة. أو من الكتاب الذي ينطق بالحق. {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قال قتادة ومجاهد: أي لهم خطايا لا بد أن يعملوها من دون الحق. وقال الحسن وابن زيد: المعنى ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من

دون ما هم عليه، لا بد أن يعملوها دون أعمال المؤمنين، فيدخلون بها النار، لما سبق لهم من الشقوة. ويحتمل ثالثا: أنه ظلم الخلق مع الكفر بالخالق؛ ذكره الماوردي. والمعنى متقارب. {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} يعني بالسيف يوم بدر؛ قال ابن عباس. وقال الضحاك: يعني بالجوع حين قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى: "اللهم أشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف". فابتلاهم الله بالقحط والجوع حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف، وهلك الأموال والأولاد. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} أي يضجون ويستغيثون. وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور. وقال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف وتجأرا
قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار؛ يقال: جأر الثور يجأر أي صاح. وقرأ بعضهم {عِجْلاً جَسَداً لَهُ جُؤَارٌ} حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله عز وجل تضرع بالدعاء. قتادة: يصرخون بالتوبة فلا تقبل منهم. قال:
يراوج من صلوات المليك ... فطورا سجودا وطورا جؤارا
وقال ابن جريج: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} هم الذين قتلوا ببدر {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} هم الذين بمكة؛ فجمع بين القولين المتقدمين، وهو حسن. {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا} أي من عذابنا. {لا تُنْصَرُونَ} لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم. وقال الحسن: لا تنصرون بقبول التوبة. وقيل: معنى هذا النهي الإخبار؛ أي إنكم إن تضرعتم لم ينفعكم.
الآيتان: 66 - 67 {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ}

قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} الآيات يريد بها القرآن. "تتلى عليكم" أي تقرأ. قال الضحاك: قبل أن تعذبوا بالقتل و {تَنْكِصُونَ} ترجعون وراءكم. مجاهد: تستأخرون؛ وأصله أن ترجع القهقرى. قال الشاعر:
زعموا بأنهم على سبل النجا ... ة وإنما نكص على الأعقاب
وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق. قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه {على أدباركم} بدل {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ، {تَنْكُصُونَ} بضم الكاف. و {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} حال، والضمير في {بِهِ} قال الجمهور: هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة، وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر؛ أي يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف. وقيل: المعنى أنهم يعتقدون في نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل؛ فيستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق. وقالت فرقة: الضمير عائد عل القرآن من حيث ذكرت الآيات؛ والمعنى: يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا فلا تؤمنوا به. قال ابن عطية: وهذا قول جيد. النحاس: والقول الأول أولى، والمعنى: أنهم يفتخرون بالحرم ويقولون نحن أهل حرم الله تعالى.
قوله تعالى: {سَامِراً تَهْجُرُونَ}
فيه أربع مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {سَامِرا تَهْجُرونَ} {سَامِراً} نصب على الحال، ومعناه سمارا، وهو الجماعة يتحدثون بالليل، مأخوذ من السمر وهو ظل القمر؛ ومنه سمرة اللون. وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سمر القمر؛ فسمي التحدث به. قال الثوري: يقال لظل القمر السمر؛ ومنه السمرة في اللون، ويقال له: الفخت؛ ومنه قيل فاختة. وقرأ أبو رجاء {سُمّاراً} وهو جمع سامر؛ كما قال:
ألست ترى السمار والناس أحوالي

وفي حديث قيلة: إذا جاء زوجها من السامر؛ يعني من القوم الذين يسمرون بالليل؛ فهو اسم مفرد بمعنى الجمع، كالحاضر وهم القوم النازلون على الماء، والباقر جمع البقر، والجامل جمع الإبل، ذكورتها وإناثها؛ ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: 5] أي أطفالا. يقال: قوم سمر وسمر وسامر، ومعناه سهر الليل؛ مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشجار من ضوء القمر. قال الجوهري: السامر أيضا السمار، وهم القوم الذين يسمرون؛ كما يقال للحاج حجاج، وقول الشاعر:
وسامر طال فيه اللهو والسمر
كأنه سمى المكان الذي يجتمع فيه للسمر بذلك. وقيل: وحد سامرا وهو بمعنى السمار؛ لأنه وضع موضع الوقت، كقول الشاعر:
من دونهم إن جئتهم سمرا ... عزف القيان ومجلس غمر
فقال: سمرا لأن معناه: إن جئتهم ليلا وجدتهم وهم يسمرون. وابنا سمير: الليل والنهار؛ لأنه يسمر فيهما، يقال: لا أفعله ما سمر ابنا سمير أبدا. ويقال: السمير الدهر، وابناه الليل والنهار. ولا أفعله السمر والقمر؛ أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء. ولا أفعله سمير الليالي. قال الشنفرى:
هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سمير الليالي مبسلا بالجرائر
والسَّمَار "بالفتح" اللبن الرقيق. وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث، وهذا أوجب معرفتها بالنجوم؛ لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب. وكانت قريش تسمر حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها، فعابهم الله بذلك. و {تَهْجُرُونَ} قرئ بضم التاء وكسر الجيم من أهجر، إذا نطق بالفحش. وبنصب التاء وضم الجيم من هجر المريض إذا هدى. ومعناه: يتكلمون بهوس وسيء من القول في النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن؛ عن ابن عباس وغيره.
الثانية: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} ؛ يعني أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير

طاعة الله تعالى، إما في هذيان وإما في إذاية. وكان الأعمش يقول: إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر؛ يعني يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون بأيام الخلفاء والأمراء ولا يحسن أحدهم أن يتوضأ للصلاة.
الثالثة: روى مسلم عن أبي برزة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها. قال العلماء: أما الكراهية للنوم قبلها فلئلا يعرضها للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها؛ ولهذا قال عمر: فمن نام فلا نامت عينه؛ ثلاثا. وممن كره النوم قبلها عمر وابنه عبد الله وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك. ورخص فيه بعضهم، منه علي وأبو موسى وغيرهم؛ وهو مذهب الكوفيين. وشرط بعضهم أن يجعل معه من يوقظه للصلاة. وروي عن ابن عمر مثله، وإليه ذهب الطحاوي. وأما كراهية الحديث بعدها فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه فينام على سلامة، وقد ختم الكتاب صحيفته بالعبادة؛ فإن هو سمر وتحدث فيملؤها بالهوس ويجعل خاتمتها اللغو والباطل، وليس هذا من فعل المؤمنين. وأيضا فإن السمر في الحديث مظنة غلبة النوم آخر الليل فينام عن قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح. وقد قيل: إنما يكره السمر بعدها لما روى جابر بن عبد الله قال قال رسول الله: "إياكم والسمر بعد هدأة الرجل فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله تعالى من خلقه أغلقوا الأبواب وأوكوا السقاء وخمروا الإناء وأطفؤوا المصابيح". وروي عن عمر أنه كان يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول: أسمرا أول الليل ونوما آخره! أريحوا كتابكم. حتى أنه روي عن ابن عمر أنه قال: من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى يصبح. وأسنده شداد بن أوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها إنما هو لما أن الله تعالى جعل الليل سكنا، أي يسكن فيه، فإذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله في النهار الذي هو متصرف المعاش؛ فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده فقال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [الفرقان: 47]

الرابعة: هذه الكراهة إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب والأذكار وتعليم العلم، ومسامرة الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبيته. وقد قال البخاري: "باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء" وذكر أن قرة بن خالد قال: انتظرنا الحسن وراث علينا حتى جاء قريبا من وقت قيامه، فجاء فقال: دعانا جيراننا هؤلاء. ثم قال أنس: انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى كان شطر الليل فجاء فصلى ثم خطبنا فقال: "إن الناس قد صلوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة". قال الحسن: فإن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير. قال: "باب السمر مع الضيف والأهل" وذكر حديث أبي بكر بن عبد الرحمن أن أصحاب الصفة كانوا فقراء... الحديث. أخرجه مسلم أيضا. وقد جاء في حراسة الثغور وحفظ العساكر بالليل من الثواب الجزيل والأجر العظيم ما هو مشهور في الأخبار. وقد مضى من ذلك جملة في آخر "آل عمران" والحمد لله وحده.
الآية: 68 {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} يعني القرآن؛ وهو كقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء: 82]. وسمى القرآن قولا لأنهم خوطبوا به. {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} فأنكره وأعرضوا عنه. وقيل: {أَمْ} بمعنى بل؛ أي بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به، فلذلك أنكروه وتركوا التدبر له. وقال ابن عباس: وقيل المعنى أم جاءهم أمان من العذاب، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين فتركوا الأعز.
الآية: 69 {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}

هذا تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح، فيقولون: الخير أحب إليك أم الشر؛ أي قد أخبرت الشر فتجنبه، وقد عرفوا رسولهم وأنه من أهل الصدق والأمانة؛ ففي اتباعه النجاة والخير لولا العنت. قال سفيان: بلى! قد عرفوه ولكنهم حسدوه!
الآية: 70 {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} أي أم يحتجون في ترك الإيمان به بأنه مجنون، فليس هو هكذا لزوال أمارات الجنون عنه. {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} يعني القرآن والتوحيد الحق والدين الحق. {وَأَكْثَرُهُمْ} أي كلهم {لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} حسدا وبغيا وتقليدا.
الآية: 71 {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}
قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} {الْحَقُّ} هنا هو الله سبحانه وتعالى؛ قال الأكثرون، منهم مجاهد وابن جريج وأبو صالح وغيرهم. وتقديره في العربية: ولو اتبع صاحب الحق؛ قاله النحاس. وقد قيل: هو مجاز، أي لو وافق الحق أهواءهم؛ فجعل موافقته اتباعا مجازا؛ أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله عز وجل ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك إما عجزا وإما جهلا لفسدت السموات والأرض. وقيل: المعنى ولو كان الحق ما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله تعالى لتنافت الآلهة، وأراد بعضهم ما لا يريده بعض، فاضطرب التدبير وفسدت السموات والأرض، وإذا فسدتا فسد من فيهما. وقيل: {لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} أي بما يهواه الناس ويشتهونه لبطل نظام العالم؛ لأن شهوات الناس تختلف وتتضاد، وسبيل الحق أن يكون متبوعا، وسبيل الناس الانقياد للحق. وقيل: {الْحَقُّ} القرآن؛ أي لو نزل القرآن بما يحبون لفسدت السموات والأرض. {وَمَنْ فِيهِنَّ} إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض وجنها؛ الماوردي. وقال الكلبي: يعني وما بينهما من

خلق؛ وهي قراءة ابن مسعود {لفسدت السموات والأرض وما بينهما} فيكون على تأويل الكلبي وقراءة ابن مسعود محمولا على فساد من يعقل وما لا يعقل من حيوان وجماد. وظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محمولا على فساد ما يعقل من الحيوان؛ لأن ما لا يعقل تابع لما يعقل في الصلاح والفساد، فعلى هذا ما يكون من الفساد يعود على من في السموات من الملائكة بأن جعلت أربابا وهي مربوبة، وعبدت وهي مستعبدة. وفساد الإنس يكون على وجهين: أحدهما: باتباع الهوى، وذلك مهلك. الثاني: بعبادة غير الله، وذلك كفر. وأما فساد ما عدا ذلك فيكون على وجه التبع؛ لأنهم مدبرون بذوي العقول فعاد فساد المدبرين عليهم.
قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي بما فيه شرفهم وعزهم؛ قاله السدي وسفيان. وقال قتادة: أي بما لهم فيه ذكر ثوابهم وعقابهم. ابن عباس: أي ببيان الحق وذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين. {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}
الآية: 72 {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} أي أجرا على ما جئتهم به؛ قال الحسن وغيره. {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب {خَرَاجاً} بألف. الباقون بغير ألف. وكلهم قد قرؤوا {فَخَرَاجُ} بالألف إلا ابن عامر وأبا حيوة فإنهما قرأ بغير الألف. والمعنى: أم تسألهم رزقا فرزق ربك خير. {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي ليس يقدر أحد أن يرزق مثل رزقه، ولا ينعم مثل إنعامه. وقيل: أي ما يؤتيك الله من الأجر على طاعتك له والدعاء إليه خير من عرض الدنيا، وقد عرضوا عليك أموالهم حتى تكون كأعين رجل من قريش فلم تجبهم إلى ذلك؛ قال معناه الحسن. والخرج والخراج واحد، إلا أن اختلاف الكلام أحسن؛ قال الأخفش. وقال أبو حاتم: الخرج الجعل، والخراج العطاء.

المبرد: الخرج المصدر، والخراج الاسم. وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به. وعنه أن الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. ذكر الأول الثعلبي والثاني الماوردي.
الآيتان: 73 - 74 {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي إلى دين قويم. والصراط في اللغة الطريق؛ فسمي الدين طريقا لأنه يؤدي إلى الجنة فهو طريق إليها. {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي بالبعث. {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} قيل: هو مثل الأول. وقيل: إنهم عن طريق الجنة لناكبون حتى يصيروا إلى النار. نكب عن الطريق ينكب نكوبا إذا عدل عنه ومال إلى غيره؛ ومنه نكبت الريح إذا لم تستقم على مجرى. وشر الريح النكباء.
الآية: 75 {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} أي لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ} قال السدي: في معصيتهم. {يَعْمَهُونَ} قال الأعمش: يترددون. قال ابن جريج: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} يعني في الدنيا {وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} أي من قحط وجوع {لَلَجُّوا} أي لتمادوا {فِي طُغْيَانِهِمْ} وضلالتهم وتجاوزهم الحد {يَعْمَهُونَ} يتذبذبون ويخبطون.
الآية: 76 {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} قال الضحاك: بالجوع. وقيل: بالأمراض والحاجة والجوع. وقيل: بالقتل والجوع. {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} أي ما خضعوا. {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي ما يخشعون لله عز وجل في الشدائد تصيبهم. قال ابن عباس: نزلت في قصة ثمامة بن أثال لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخذ الله قريشا بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز؛ قيل وما العلهز؟ قل: كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه. فقال له أبو سفيان: أنشدك الله والرحم! أليس تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال "بلى". قال: فوالله ما أراك إلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع؛ فنزل قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
الآية: 77 {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال عكرمة: هو باب من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، وقد قلعت الرحمة من قلوبهم؛ إذا بلغوه فتحه الله عز وجل عليهم. وقال ابن عباس: هو قتلهم بالسيف يوم بدر. مجاهد: هو القحط الذي أصابهم حتى أكلوا العلهز من الجوع؛ على ما تقدم. وقيل فتح مكة. {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي يائسون متحيرون لا يدرون ما يصنعون، كالآيس من الفرج ومن كل خير. وقد تقدم في "الأنعام".
الآية: 78 {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} عرفهم كثرة نعمه وكمال قدرته. {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي ما تشكرون إلا شكرا قليلا. وقيل: أي لا تشكرون البتة.
الآية: 79 {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي أنشأكم وبثكم وخلقكم. "وإليه تحشرون" أي تجمعون للجزاء.
الآيات: 80 - 89 {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي جعلهما مختلفين؛ كقولك: لك الأجر والصلة؛ أي إنك تؤجر وتوصل؛ قاله الفراء. وقيل: اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر. وقيل: اختلافهما في النور والظلمة. وقيل: تكررهما يوما بعد ليلة وليلة بعد يوم. ويحتمل خامسا: اختلاف ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته، وأنه لا يجوز أن يكون له شريك من خلقه، وأنه قادر على البعث. ثم عيرهم بقولهم وأخبر عنهم

أنهم {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} هذا لا يكون ولا يتصور. {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} أي من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، فلم نر له حقيقة. {إِنْ هَذَا} أي ما هذا {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي أباطيلهم وترهاتهم؛ وقد تقدم هذا كله. قال الله تعالى: {قُلْ} يا محمد جوابا لهم عما قالوه {لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يخبر بربوبيته ووحدانيته وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول؛ فـ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ولا بد لهم من ذلك. {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتعظون وتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو على إحياء الموتى بعد موتهم قادر.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} يريد أفلا تخافون حيث تجعلون لي ما تكرهون؛ زعمتم أن الملائكة بناتي، وكرهتم لأنفسكم البنات. {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} بريد السموات وما فوقها وما بينهن، والأرضين وما تحتهن وما بينهن، وما لا يعلمه أحد إلا هو. وقال مجاهد: {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} خزائن كل شيء. الضحاك: ملك كل شيء. والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت؛ وقد مضى في "الأنعام". {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي يمنع ولا يمنع منه. وقيل: {يُجِيرُ} يؤمن من شاء. {وَلا يُجَارُ} أي لا يؤمن من أخافه. ثم قيل: هذا في الدنيا؛ أي من أراد الله إهلاكه وخوفه لم يمنعه منه مانع، ومن أراد نصره وأمنه لم يدفعه من نصره وأمنه دافع. وقيل: هذا في الآخرة، أي لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه عن مستوجبه العذاب دافع .{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده. أو كيف يخيل إليكم أن تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع! والسحر هو التخييل. وكل هذا احتجاج على العرب المقرين بالصانع وقرأ أبو عمرو {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} في الموضعين الأخيرين؛ وهي قراءة أهل العراق. الباقون {لِلَّهِ} ، ولا خلاف في الأول أنه {لِلَّهِ} ؛ لأنه جواب لـ {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} فلما تقدمت اللام في {لِمَنِ} رجعت في الجواب. ولا خلاف أنه

مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف. وأما من قرأ {سَيَقُولُونَ الله} فن السؤال بغير لام فجاء الجواب على لفظه، وجاء في الأول {لِلَّهِ} لما كان السؤال باللام. وأما من قرأ {لِلَّهِ} باللام في الأخيرين وليس في السؤال لام فن معنى {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}: قل لمن السموات السبع ورب العرش العظيم. فكان الجواب {لِلَّهِ} ؛ حين قدرت اللام في السؤال. وعلة الثالثة كعلة الثانية. وقال الشاعر:
إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قلت لخالد
أي لمن المزالف. ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار وإقامة الحجة عليهم. وقد تقدم في "البقرة". ونبهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة.
الآية: 90 - 92 {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} أي بالقول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك ونفي البعث. {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أن الملائكة بنات الله. فقال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} {مِنْ} صلة. {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} {مِنْ} زائدة؛ والتقدير: ما اتخذ الله ولدا كما زعمتم، ولا كان معه إله فيما خلق. وفي الكلام حذف؛ والمعنى: لو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه. {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ولغالب وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية. وهذا الذي يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا؛ لأن الولد ينازع الأب في الملك منازعة الشريك.

{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} تنزيها له عن الولد والشريك. {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيه وتقديس. وقرأ نافا وأبو بكر وحمزة والكسائي {عالم} بالرفع على الاستئناف؛ أي هو عالم الغيب. الباقون بالجر على الصفة لله. وروى رويس عن يعقوب {عالِم} إذا وصل خفضا. و {عالم} إذا ابتدأ رفعا.
الآيتان: 93 - 94 {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
علمه ما يدعو به؛ أي قل رب، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب. {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم. وقيل: النداء معترض؛ و"ما" في "إمّا" زائدة. وقيل: إن أصل إما إن ما؛ فـ {إن} شرط و {ما} شرط، فجمع بين الشرطين توكيدا، والجواب {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ؛ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم. وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى.
الآية: 95 {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}
نبه على أن خلاف المعلوم مقدور، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.
الآية: 96 {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}
قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أمر بالصفح ومكارم الأخلاق؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا. وما كان فيها من موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال. "نحن أعلم بما يصفون" أي من الشرك والتكذيب. وهذا يقتضي أنها آية موادعة، والله تعالى أعلم

الآيتان: 97 - 98 {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}
فيه مسألتان:-
الأولى:- قوله تعالى: {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} "الهمزات" هي جمع همزة. والهمز في اللغة النخس والدفع؛ يقال: همزة ولمزه ونخسه دفعه. قال الليث: الهمز كلام من وراء القفا، واللمز مواجهة. والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم؛ وهو قوله: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى. وفي الحديث: كان يتعوذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه. قال أبو الهيثم: إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام. وسمي الأسد هوسا؛ لأنه يمشي بخفه لا يسمع صوت وطئه. وقد تقدم في {طه}.
الثاينة: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، كأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية. فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية؛ وقد تقدم في آخر "الأعراف" بيانه مستوفى، وفي أول الكتاب أيضا. وروي عن علي بن حرب بن محمد الطائي حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. وفي كتاب أبي داود قال عمر: وهمزه الموتة؛ قال ابن ماجة: الموتة يعني الجنون. والتعوذ أيضا من الجنون وكيد. وفي قراءة أبي {رَبِّ عائذاً بك من همزات الشياطين، وعائذاً بك أن يَحْضُرونِ} ؛ أي يكونوا معي في أموري،

فإنهم إذ ا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز. وفي صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة".
الآيتان: 99 - 100 {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} عاد الكلام إلى ذكر المشركين؛ أي قالوا {أَإِذَا مِتْنَا - إلى قوله - إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء، ثم قال هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال: 50]. {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك. وقد يكون القول في النفس؛ قال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]. فأما قوله: {ارْجِعُونِ} وهو مخاطب ربه عز وجل ولم يقل "ارجعني" جاء على تعظيم الذكر للمخاطب. وقيل: استغاثوا بالله عز وجل أولا، فقال قائلهم: ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال: ارجعون إلى الدنيا؛ قال ابن جريج. وقيل: إن معنى {ارْجِعُونِ} على جهة التكرير؛ أي أرجعني أرجعني أرجعني وهكذا. قال المزني في قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] قال: معناه ألق ألق. قال الضحاك: المراد به أهل الشرك.
قلت: ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي. ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء

الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه.
قوله تعالى: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} قال ابن عباس: يريد أشهد أن لا إله إلا الله. {فِيمَا تَرَكْتُ} أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات. وقيل {فِيمَا تَرَكْتُ} من المال فأتصدق. و {لَعَلّ} تتضمن ترددا؛ وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير تردد. فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا، وإما إلى التوفيق؛ أي أعمل صالحا إن وفقتني؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا .{كَلاََّ} هذه كلمة رد؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح. وقيل: لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول؛ كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. وقيل: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ترجع إلى الله تعالى؛ أي لا خلف في خبره، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن. وقيل: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} عند الموت، ولكن لا تنفع. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} أي ومن أمامهم وبين أيديهم. وقيل: من خلفهم. {بَرْزَخٌ} أي حاجز بين الموت والبعث؛ قال الضحاك ومجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيض أن البرز هو الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا. وعن الضحاك: هو ما بين الدنيا والآخرة. ابن عباس. حجاب. السدي: أجل. قتادة: بقية الدنيا. وقيل: الإمهال إلى يوم القيامة؛ حكاه ابن عيسى. الكلبي: هو الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة. وهذه الأقوال متقاربة. وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ. قال الجوهري: البرزخ الحاجز بين الشيئين. والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث؛ فمن مات فقد دخل في البرز. وقال رجل بحضرة الشعبي: رحم الله فلانا فقد صار من أهل الآخرة! فقال: لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضيف {يَوْمِ} إلى {يُبْعَثُونَ} لأنه ظرف زمان، والمراد بالإضافة المصدر.

الآية: 101 {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}
قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} المراد بهذا النفخ النفخة الثانية. {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} قال ابن عباس: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا؛ من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب، ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم. وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية وقول: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50] فقال: لا يتساءلون في النفخة الأولى؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي، فلا أنساب ولا تساؤل. أما قوله :{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا. وقال ابن مسعود: إنما عنى في هذه الآية النفخة الثانية. وقال أبو عمر زادان: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير واليمنة قد سبقوني إليه، فناديت بأعلى صوت،: يا عبد الله بن مسعود! من أجل أني رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني! فقال: ادنه؛ فدنوت، حتى ما كان بيني وبينه جليس فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه؛ فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على أخيها أو على ابنها؛ ثم قرأ ابن مسعود: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} فيقول الرب سبحانه وتعالى: "آت هؤلاء حقوقهم" فيقول: يا رب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم؛ فيقول الرب للملائكة: "خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته" فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 40]. وإن كان شقيا قالت الملائكة: رب! فنيت حسناته وبقي طالبون؛ فيقول الله تعالى: "خذوا من أعمالهم فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم".
الآيتان: 102 - 105 {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}
تقدم الكلام فيهما.
الآيتان: 104 - 105 {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ، أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}
قوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} ويقال "تنفح" بمعناه؛ ومنه {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء: 46]. إلا أن {تلفح} أبلغ بأسا؛ يقال: لفحته النار والسموم بحرها أحرقته. ولفحته بالسيف لفحة إذا ضربته به [ضربة] خفيفة. {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال ابن عباس: عابسون. وقال هل اللغة: الكلوح تكشر في عبوس. والكالح: الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه. قال الأعمش:
وله المقدم لا مثل له ... ساعة الشدق عن الناب كلح
وقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا. وما أقبح كلحته؛ يراد به الفم وما حواليه. ودهر كالح أي شديد. وعن ابن عباس أيضا {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} يريد كالذي كلح وتقلصت شفتاه وسال صديده. وقال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار، وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه. وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ - قال - تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبل وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته" قال: هذا حديث حسن صحيح غريب

الآيات: 106 - 108 {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ، قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}
قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم {شِقْوَتُنَا} وقرأ الكوفيون إلا عاصما {شَقَاوَتُنَا}. وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال: شقاء وشقا؛ بالمد والقصر. وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا؛ فسمى اللذات والأهواء شقوة، لأنهما يؤديان إليها، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10]؛ لأن ذلك يؤديهم إلى النار. وقيل: ما سبق في علمك وكتب علينا في أم الكتاب من الشقاوة. وقيل: حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق. {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى. وليس هذا اعتذار منهم إنما هو إقرار، ويدل على ذلك قولهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت. {فَإِنْ عُدْنَا} إلى الكفر {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} لأنفسنا بالعود إليه فيجابون بعد ألف سنة: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي ابعدوا في جهنم؛ كما يقال للكلب: اخسأ؛ أي أبعد. خسأت الكلب خسئا طردته. وخسأ الكلب بنفسه خسوءا، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وذكر ابن المبارك قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة يذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يرد عليهم: إنكم ماكثون. قال: هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك. قال: ثم يدعون ربهم فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}. قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين. قال: ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها. قال: فوالله ما نَبَس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق من نار جهنم

فشبه أصواتهم بصوت الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق. خرجه الترمذي مرفوعا بمعناه من حيث أبي الدرداء. وقال قتادة: صوت الكفار في النار كصوت الحمار، أوله زفير وآخره شهيق. وقال ابن عباس: يصير لهم نباح كنباح الكلاب. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة... الخبر بطوله، ذكره ابن المبارك، وقد ذكرناه بكمال في التذكرة، وفي آخره: ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} قال: فلما سمعوا صوته قالوا الآن يرحمنا ربنا فقالوا عند ذلك: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي الكتاب الذي كتب علينا {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فقال عند ذلك {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم.
الآيات: 109 - 111 {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا} الآية. قال مجاهد: هم بلال وخباب وصهيب، وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين؛ كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم. {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} بالضم قراءة نافع وحمزة والكسائي ها هنا وفي {ص}. وكسر الباقون. قال النحاس: وفرق أبو عمرو بينهما، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ، والمضمومة من جهة السخرة، ولا يعرف هذا التفريق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد؛ كما يقال: عصي وعصي، ولجي ولجي. وحكى الثعلبي عن الكسائي والفراء الفرق الذي ذكره أبو عمرو، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء

والسخرية بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل. وقال المبرد: إنما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب، وأما التأويل فلا يكون. والكسر في سخري في المعنيين جميعا؛ لأن الضمة تستثقل في مثل هذا .{حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اشتغلتم بالاستهزاء بهم عن ذكرى. {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم، وأضاف الإساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره؛ وتعدي شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم .{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} على أذاكم، وصبروا على طاعتي. {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم وفتح الباقون؛ أي لأنهم هم الفائزون. ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه، تقديره: إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة. قلت: وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المطففين: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] إلى آخر السورة، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. ويستفاد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يغني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل.
الآيات: 112 - 114 {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ، قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} قيل: يعني في القبور. وقيل: هو سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا. وهذا السؤال للمشركين في عرصات القيامة أو في النار. {عَدَدَ سِنِينَ} بفتح النون على أنه جمع مسلم، ومن العرب من يخفضها وينونها. {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في القبور. وقيل: لأن العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم. قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية؛ وذلك أنه ليس من أحد قتله نبي أو قتل نبيا

أو مات بحضرة نبي إلا عذب من ساعة يموت إلى النفخة الأولى، ثم يمسك عنه العذاب فيكون كالماء حتى ينفخ الثانية. وقيل: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده. {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا قد نسيناه، أو فاسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا؛ الأول قول قتادة، والثاني قول مجاهد، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ } على الأمر. ويحتمل ثلاثة معان: أحدها: قولوا كم لبثتم؛ فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد الجماعة؛ إذ كان المعنى مفهوما. الثاني: أن يكون أمرا للملك ليسألهم يوم البعث عن قدر مكثهم في الدنيا. أو أراد قل أيها الكافر كم لبثتم، وهو الثالث. الباقون {قَالَ كَمْ} على الخبر؛ أي قال الله تعالى لهم، أو قالت الملائكة لهم كم لبثتم. وقرأ حمزة والكسائي أيضا {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} الباقون {قال} على الخبر، على ما ذكر من التأويل الأول؛ أي ما لبثتم في الأرض إلا قليلا؛ وذلك أن مكثهم في القبور وإن طال كان متناهيا. وقيل: هو قليل بالنسبة إلى مكثهم في النار؛ لأنه لا نهاية له. {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك.
الآية: 115 {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}
قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أي مهملين كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها؛ مثل قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة: 36] يريد كالبهائم مهملا لغير فائدة. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة ويعاقبهم على تركها، فإن عبد وه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار الإسلام؛ وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق سقاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران. و {عَبَثاً} نصب على الحال عند سيبويه وقطرب. وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر أو لأنه مفعول له. "وأنكم إلينا لا ترجعون" فتجازون بأعمالكم. قرأ حمزة والكسائي {تَرْجِعون} بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع

الآية: 116 {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}
قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها؛ لأنه الحكيم. {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ليس في القرآن غيرها. وقرأ ابن محيصن وروي عن ابن كثير "الكريم" بالرفع نعتا لله.
الآيتان: 117 - 118 {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}
قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي لا حجة له عليه {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي هو يعاقبه ويحاسبه. {إِنَّهُ} الهاء ضمير الأمر والشأن. {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وقرأ الحسن وقتادة {لا يَفْلَح} - بالفتح - من كذب وجحد ما جئت به وكفر نعمتي. ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستغفار لتقتدي به الأمة. وقيل: أمره بالاستغفار لأمته. وأسند الثعلبي من حديث ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش بن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} حتى ختم السورة فبرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا قرأت في أذنه" ؟ فأخبره، فقال: "والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال"

تفسير سورة النور
سورة النور
الآية: 1 {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: "علموا نساءكم سورة النور". وقالت عائشة رضي الله عنها: "لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل". {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بتخفيف الراء؛ أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام. وبالتشديد: أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة. وقرأ أبو عمرو: {وَفَرَضْنَاهَا} بالتشديد أي قطعناها في الإنزال نجما نجما. والفرض القطع، ومنه فرضة القوس. وفرائض الميراث وفرض النفقة. وعنه أيضا {فَرَضْنَاهَا} فصلناها وبيناها. وقيل: هو على التكثير؛ لكثرة ما فيها من الفرائض. والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة؛ ولذلك سميت السورة من القرآن سورة. قال زهير:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها. وقرئ {سُورَةٌ} بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها {أَنْزَلْنَاهَا} ؛ قاله أبو عبيدة والأخفش. وقال الزجاج والفراء والمبرد: {سُورَةٌ} بالرفع لأنها خبر الابتداء؛ لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة. ويحتمل أن يكون قوله {سُورَةٌ} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك، ويكون الخبر في قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} . وقرئ "سورةً" بالنصب، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها. وقال الشاعر

والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي اتل سورة. وقال الفراء: هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه.
الآية: 2 {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
فيه اثنان وعشرون مسألة:-
الأولى: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل. وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها. وإن شئت قلت: هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا؛ فإذا كان ذلك وجب الحد. وقد مضى الكلام في حد الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك. وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة "النساء" باتفاق.
الثانية: قوله تعالى: {مِائَةَ جَلْدَةٍ} هذا حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة. وثبت بالسنة تغريب عام؛ على الخلاف في ذلك. وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وهذا في الأمة، ثم العبد في معناها. وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد. ومن العلماء من يقول: يجلد مائة ثم يرجم. وقد مضى هذا كله ممهدا في "النساء" فأغنى عن إعادته، والحمد لله.
الثالثة: قرأ الجمهور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي {الزَّانِيَةُ} بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه؛ لأنه عنده كقولك: زيدا اضرب. ووجه الرفع عنده:

خبر ابتداء، وتقديره: فيما يتلى عليكم [حكم] الزانية والزاني. وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله: {فَاجْلِدُوا} لأن المعنى: الزانية والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد وهو قول أكثر النحاة. وإن شئت قدرت الخبر: ينبغي أن يجلدا. وقرأ ابن مسعود {والزان} بغير ياء.
الرابعة: ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى، والزاني كان يكفي منهما؛ فقيل: ذكرهما للتأكيد كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي. فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان؛ لأنه قال جامعت أهلي في نهار رمضان؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "كفر" . فأمره بالكفارة، والمرأة ليس بمجامعة ولا واطئة.
الخامسة: قدمت {الزَّانِيَةُ} في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك. وقيل: لأن الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر. وقيل: لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب فصدرها تغليظا لتردع شهوتها وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله. وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما.
السادسة: الألف واللام في قول {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} للجنس، وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة. ومن قال بالجلد مع الرجم قال: السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد. وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن، وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشراحة وقد مضى في "النساء" بيانه. وقال الجمهور: هي خاصة في البكرين، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها

السابعة: نص الله سبحانه وتعالى على ما يجب على الزانيين إذا شُهد بذلك عليهما على ما يأتي وأجمع العلماء على القول به. واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد فقال إسحاق بن راهويه: يضرب كل واحد منهما مائة جلدة. وروي ذلك عن عمر وعلى وليس يثبت ذلك عنهما. وقال عطاء وسفيان الثوري: يؤدبان. وبه قال مالك وأحمد على قدر مذاهبهم في الأدب. قال ابن المنذر: والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب. وقد مضى في "هود" اختيار ما في هذه المسألة، والحمد لله وحده.
الثامنة: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} دخلت الفاء لأنه موضع أمر والأمر مضارع للشرط. وقال المبرد: فيه معنى الجزاء، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء؛ وهكذا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
التاسعة: لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه. وزاد مالك والشافعي: السادة في العبيد. قال الشافعي: في كل جلد وقطع. وقال مالك: في الجلد دون القطع. وقيل: الخطاب للمسلمين لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، ثم الإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
العاشرة: أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب. والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين. لا شديدا ولا لينا. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: "فوق هذا" فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال: "دون هذا" فأتي بسوط قد ركب به ولان. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد..." الحديث. قال أبو عمر: هكذا روى الحديث مرسلا جميع

رواة الموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه، وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء. وقد تقدم في {المائدة} ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام. يريد وسطا.
الحادية عشرة: اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى؛ فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يجرد، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي: الإمام مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك. وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد ولكن يترك عليه قميص. قال ابن مسعود: لا يحل في الأمة تجريد ولا مد وبه فال الثوري.
الثانية عشرة: اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء؛ فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما؛ ولا يجزى عنده إلا في الظهر. وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الليث وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه. وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك. وينزع عنه الحشو والفرو. وقال الشافعي: إن كان مده صلاحا مد.
الثالثة عشرة: واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود؛ فقال مالك: الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير. وقال الشافعي وأصحابه: يتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء؛ وروي عن علي. وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى. قال ابن عطية: والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل. واختلفوا في ضرب الرأس فقال الجمهور: يتقى الرأس. وقال أبو يوسف: يضرب الرأس. وروي عن عمر وابنه فقالا: يضرب الرأس. وضرب عمر رضي الله عنه صبيا في رأسه وكان تعزيرا لا حدا. ومن حجة مالك ما أدرك عليه الناس، وقوله عليه السلام: "البينة وإلا حد في ظهرك" وسيأتي.

الرابعة عشرة: الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه. وبه قال الجمهور، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وأتي عمر رضي الله عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه. وأتي رضي الله عنه بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال: قتلت الرجل كم ضربته؟ فقال ستين؛ فقال: أقص عنه بعشرين. قال أبو عبيدة: "أقص عنه بعشرين" يقول: اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين. وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف. وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضرباوهي:
الخامسة عشرة: فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد: الضرب في الحدود كلها سواء ضرب غير مبرح؛ ضرب بين ضربين. هو قول الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب؛ وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال الثوري: ضرب الزنى أشد من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر. احتج مالك بورود التوقيف عل عدد الجلدات، ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له. احتج أبو حنيفة بفعل عمر، فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في الزنى. احتج الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية. وكذلك الخمر؛ لأنه لم يثبت الحد إلا بالاجتهاد، وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوي قوة مسائل التوقيف.
السادسة عشرة: الحد الذي أوجب الله في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الإمام لذلك. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك، رضي الله عنهم. وسبب ذلك أنه

قيام بقاعدة شرعية وقربة تعبدية، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها، بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته بكل ما أمكن. روى الصحيح عن حضين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ؛ فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها؛ فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها - فكأنه وجد عليه - فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلي يعد..." الحديث. وقد تقدم في المائدة. فانظر قول عثمان للإمام علي: قم فاجلده.
السابعة عشرة: نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة - على ما تقدم في المائدة - فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله. قال ابن العربي: وهذا ما لم يتابع الناس في الشر ولا احلولت لهم المعاصي، حتى يتخذوها ضراوة ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه؛ فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد لأجل زيادة الذنب. وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة؛ ثمانين حد الخمر وعشرين لهتك حرمة الشهر. فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات. وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير ذلك مالك حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة، لمات كمدا ولم يجالس أحدا؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قلت: ولهذا المعنى - والله أعلم - زيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين. وروى الدارقطني حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عنده فضربوه بما في أيديهم. وقال: وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه التراب. قال: ثم أتي أبو بكر رضي الله عنه بسكران، قال: فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ؛ فضرب أربعين. قال الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، قال فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه؛ فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم. فقال علي: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون؛ قال فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال. قال: فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين. قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين. ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. في رواية "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم". وروى حامد بن يحيى عن سقيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن عليا ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة؛ ذكره أبو عمرو ولم يذكر سببا.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقة على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع، وهذا قول جماعة أهل التفسير. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: {لا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} قالوا:

في الضرب والجلد. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة؛ ثم قرأ هذه الآية. والرأفة أرق الرحمة. وقرئ {رَأْفَةٌ} بفتح الألف على وزن فعلة. وقرئ {رآفة} على وزن فعالة؛ ثلاث لغات، هي كلها مصادر، أشهرها الأولى؛ من رؤوف إذا رق ورحم. ويقال: رأفة ورآفة؛ مثل كأبة وكآبة. وقد رأفت به ورؤفت به. والرؤوف من صفات الله تعالى: العطوف الرحيم.
التاسعة عشرة: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي في حكم الله؛ كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] أي في حكمه. وقيل: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود. "إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. وهذا كما تقول لرجل تحضه: إن كنت رجلا فافعل كذا، أي هذه أفعال الرجال.
الموفية عشرين: قوله تعالى :{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قيل: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب. قال مجاهد: رجل فما فوقه إلى ألف. وقال ابن زيد: لا بد من حضور أربعة قياسا على الشهادة على الزنى، وأن هذا باب منه؛ وهو قول مالك والليث والشافعي. وقال عكرمة وعطاء: لا بد من اثنين؛ وهذا مشهور قول مالك، فرآها موضع شهادة. وقال الزهري: ثلاثة، لأنه أقل الجمع. الحسن: واحد فصاعدا، وعنه عشرة. الربيع: ما زاد على الثلاثة. وحجة مجاهد قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]، وقوله :{وَإِنْ طَائِفَتَانِ} [الحجرات: 9]، ونزلت في تقاتل رجلين؛ فكذلك قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. والواحد يسمى طائفة إلى الألف؛ وقاله ابن عباس وإبراهيم. وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت وولدت فألقى عليها ثوبا، وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرح ولا خفيف لكن مؤلم، ودعا جماعة ثم تلا {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

الحادية والعشرون: اختلف في المراد بحضور الجماعة. هل المقصود بها الإغلاط على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، وأن ذلك يدع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة؛ قولان للعلماء.
الثانية والعشرون: روي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاثا في الدنيا وثلاثا في الآخرة فأما اللواتي الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما اللواتي في الآخرة فيوجب السخط وسوء الحساب والخلود في النار". وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعمال أمتي تعرض علي كل جمعة مرتين فاشتد غضب الله على الزناة". وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن لا يشرك بالله شيئا إلا خمسة ساحرا أو كاهنا أو عاقا لوالديه أو مدمن خمر أو مصرا على الزنى".
الآية: 3 {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
فيه سبع مسائل:-
الأولى: اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل:
الأول: أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين. واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ. ويريد بقوله: {لا يَنْكِحُ} أي لا يطأ؛ فيكون النكاح بمعنى الجماع. وردد القصة مبالغة وأخذا كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى؛ فالمعنى: الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين، أو من هي أحسن منها من المشركات. وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء. وأنكر ذلك الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا

بمعنى التزويج. وليس كما قال؛ وفي القرآن {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء، وقد تقدم في "البقرة". وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، ولكن غير مخلص ولا مكمل. وحكاه الخطابي عن ابن عباس، وأن معناه الوطء أي لا يكون زنى إلا بزانية، ويفيد أنه زنى في الجهتين؛ فهذا قول.
الثاني: ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله؛ أنكح عناق؟ قال: فسكت عني؛ فنزلت {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} ؛ فدعاني فقرأها علي وقال: "لا تنكحها". لفظ أبي داود، وحديث الترمذي أكمل. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
الثالث: أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول وكانت من بغايا الزانيات، وشرطت أن تنفق عليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ قاله عمرو بن العاصي ومجاهد.
الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور، مخاصيب بالكسوة والطعام؛ فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن؛ فنزلت هذه الآية صيانة لهم عن ذلك؛ قال ابن أبي صالح.
الخامس: ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه قال: المراد الزاني المحدود والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة.

وقال إبراهيم النخعي نحوه. وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله". وروى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق علي رضي الله عنه بينهما. قال ابن العربي: وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا، وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك، وعلى أي أصل يقاس من الشريعة.
قلت: وحكى هذا القول الكِيَا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية. قال الكيا: وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك؛ وهذا في غاية البعد، وهو خروج عن الإسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء: إن الآية منسوخة في المشرك خاص دون الزانية.
السادس: أنها منسوخة؛ روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال: نسخت هذه الآية التي بعدها {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]؛ وقاله ابن عمرو، قال: دخلت الزانية في أيامى المسلمين. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء. وأهل الفتيا يقولون: إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: القول فيها كما قال سعيد بن المسيب، إن شاء الله هي منسوخة. قال ابن عطية: وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي. قال ابن العربي: والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء كما قال ابن عباس أو العقد؛ فإن أريد به الوطء فإن معناه: لا يكون زنى إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنى من الجهتين؛ ويكون تقدير الآية: وطء الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك؛ وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنى صحيح.

فإن قيل: فإذا زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى؛ فهذا زان نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم. قلنا: هو زنى من كل جهة، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه. وإن أريد به العقد كان معناه: أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني، إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك. وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا. وقيل: ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان، فكأنه قال: لا ينكح الزانية إلا زان فقلب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح. وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته؛ وهذا على أن الآية منسوخة. وقيل إنها محكمة. وسيأتي.
الثالثة: روي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة، ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة. وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم. وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمرة ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة فما سرق حرام وما اشترى حلال. وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا. وبهذا أخذ مالك رضي الله عنه؛ فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد لأن النكاح له حرمة ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح؛ فيختلط الحرام بالحلال ويمتزج ماء المهانة بماء العزة.

الرابعة: قال ابن خويز منداد: من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه؛ وذلك كعيب من العيوب واحتج بقوله عليه السلام: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله". قال ابن خويز منداد. وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره؛ فأما من لم يشتهر بالفسق فلا.
الخامسة: قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وعند هؤلاء: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها. وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح.
السادسة: قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي نكاح أولئك البغايا؛ فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد عليه السلام، ومن أشهرهن عناق.
السابعة: حرم الله تعالى الزنى في كتابه؛ فحيثما زنى الرجل فعليه الحد. وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرت بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحد. قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحد على ظاهر قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
الآيتان: 4 - 5 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

فيه ست وعشرون مسألة:-
الأولى: هذه الآية نزلت في القاذفين. قال سعيد بن جبير: كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. وقيل: بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة. وقال ابن المنذر: لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد، وأهل العلم على ذلك مجمعون.
الثانية: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية بالقول كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوي رماني
ويسمى قذفا ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء؛ أي رماها.
الثالثة: ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس. وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك. وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع. وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات؛ فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ}. [النساء: 24]. وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج كما قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء. وقيل: إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف علها قذف الرجل زوجته؛ والله أعلم. وقرأ الجمهور {المحصَناتُ} بفتح الصاد، وكسرها يحيى بن وثاب. والمحصنات العفائف في هذا الموضع. وقد مضى في "النساء" ذكر الإحصان ومراتبه. والحمد لله.

الرابعة: للقذف شروط عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في الشيء المقذوف به وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة من المقذوف وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا من غيرها أم لا. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذابة بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ؛ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى.
الخامسة: اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا موجبا للحد فإن عرض ولم يصرح فقال مالك: هو قذف. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف. والدليل لما قال مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعرض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أي السفيه الضال فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات، حسبما تقدم في "هود". وقال تعالى في أبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]. وقال حكاية عن مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 28]؛ فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء، أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك؛ ولذلك قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء: 156]، وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها؛ أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]؛ فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن الله تعالى ورسوله على الهدى ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه. وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون. ولما سمع قول النجاشي:
قبيلته لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال: ليت الخطاب كذلك؛ وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة؛ ومثله كثير.
السادسة: الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم. وفيه قول ثالث: وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد. قال ابن المنذر: وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك. وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة؛ لا أعلم في ذلك خلافا.
السابعة: والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين؛ لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى. وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين. وجلد أبو بكر بن محمد عبد اً قذف حرا ثمانين؛ وبه قال الأوزاعي. احتج الجمهور بقول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلّت نعم الله عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه. وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى. قال ابن المنذر: والذي عليه علماء الأمصار القول الأول، وبه أقول.
الثامنة: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ولقوله عليه السلام: "من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال" خرجه البخاري ومسلم. وفي بعض طرقه: "من قذف عبد ه بزنى ثم لم يثبت أقيم

عليه يوم القيامة الحد ثمانون" ذكره الدارقطني. قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى؛ ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير؛ حكمة من الحكيم العليم، لا إله إلا هو.
التاسعة: قال مالك والشافعي: من قذف من يحسبه عبد ا فإذا هو حر فعليه الحد؛ وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر. قال مالك: ومن قذف أم الولد حد وروى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي. وقال الحسن البصري: لا حد عليه.
العاشرة: واختلف العلماء فيمن قال لرجل: يا من وطئ بين الفخذين؛ فقال ابن القاسم: عليه الحد لأنه تعريض. وقال أشهب: لا حد فيه لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا.
الحادية عشرة: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف؛ لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزر. قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف وحماية عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد. قال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنت تسع: يجلد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه. قال إسحاق: إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك. قال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ؛ لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى. قال أبو عبيد: في حديث علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال: إن كنت صادق رجمناه وإن كنت كاذبة

جلدناك. فقالت: ردوني إلى أهلي غيرى نغرة. قال أبو عبيد: في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد.
وفيه أيضا إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد؛ ألا تسمع قوله: وإن كنت كاذبة جلدناك. ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله.
وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده؛ لأنه لا يدري لعله يصدقه؛ ألا ترى أن عليا عليه السلام لم يعرض لها.
وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه ألا تراه يقول: وإن كنت كاذبة جلدناك وهذا لأنه من حقوق الناس.
قلت: اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؛ وسيأتي. قال أبو عبيد: قال الأصمعي سألني شعبة عن قول: "غَيْرَى نَغِرة"؛ فقلت له: هو مأخوذ من نغر القدر، وهو غليانها وفورها يقال منه: نغرت تنغر، ونغرت تنغر إذا غلت. فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد. قال: ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان أي يغلي جوفه عليه غيظا.
الثانية عشرة: من قذف زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حد حدين؛ قاله مسروق. قاله ابن العربي: والصحيح أنه حد واحد؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن؛ لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص والله أعلم. وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها، هل يقتل أم لا.
الثالثة عشرة: قوله تعالى : {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى؛ رحمة بعباده وسترا لهم. وقد تقدم في سورة "النساء"

الرابعة عشرة: من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد فإن افترقت لم تكن شهادة. وقال عبد الملك: تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين. فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد؛ وبه قال ابن الحسن. ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل؛ وهو قول عثمان البتي وأبي ثور واختاره ابن المنذر لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وقوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور: 13] ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين.
الخامسة عشرة: فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا؛ فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود؛ وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن. وقال مالك: إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسقوطا عليه أو عبد ا يجلدون جميعا. وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون.
السادسة عشرة: فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى؛ فقالت طائفة: يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين. وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: إن قال عمدت ليقتل؛ فالأولياء بالخيار إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحد. وقال الحسن البصري: يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين: إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل وبه قال ابن شبرمة.
السابعة عشرة: واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما؛ الأول - قول أبي حنيفة. والثاني: قول مالك والشافعي. والثالث: قاله بعض المتأخرين. وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى. وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.

الثامنة عشرة: قوله تعالى: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {بِأَرْبَعَةٍ} التنوين {شُهَدَاء}. وفيه أربعة أوجه: يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلا. ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا؛ وفي الحال والتمييز نظر؛ إذ الحال من نكرة، والتمييز مجموع. وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر. وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور. قال النحاس: ويجوز أن يكون {شهداء} في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.
التاسعة عشرة: حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في "النساء" في نص الحديث. وأن تكون في موطن واحد؛ على قول مالك. وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة؛ كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع؛ وقال الزهراوي: عبد الله بن الحارث، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثة المذكورين.
الموفية عشرين: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} الجلد الضرب. والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود؛ ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره. ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأن يدي بالسيف محراق لاعب
{ثَمَانِينَ} نصب على المصدر. {جَلْدَةً} تمييز. {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} هذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون؛ أي خارجون عن طاعة الله عز وجل.
الحادية والعشرون:قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} في موضع نصب على الاستثناء. ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. المعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف:

جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه. فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع؛ إلا ما روي الشعبي على ما يأتي. وعامل في فسقه بإجماع. واختلف الناس في عمله في رد الشهادة؛ فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة: لا يعمل الاستثناء في رد شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى. وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال. وقال الجمهور: الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته؛ وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء. ثم اختلفوا في صورة توبته؛ فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره، أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وهكذا فعل عمر؛ فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته؛ فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا يقبل شهادته. وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة. وقالت فرقة - منها مالك رحمه الله تعالى وغيره -: توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله؛ وهو قول ابن جرير. ويروى عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق؛ لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء؛ وقد قال الله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] الآية.
الثانية والعشرون: اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة القاذف؛ فقال ابن الماجشون: بنفس قذفه. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: لا تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: شهادته في مدة الأجل موقوفة؛ ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته.

الثالثة والعشرون: واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز؛ فقال مالك رحمه الله تعالى: تجوز في كل شيء مطلقا؛ وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء؛ رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة. وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك؛ وهو قول مطرف وابن الماجشون. وروى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله. قال سحنون: من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان وإن كان عدلا؛ وروياه عن مالك. واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى.
الرابعة والعشرون: الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما. وعند أبي حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق؛ ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.
وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان: أحدهما: هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن لا مشرك، وهو الصحيح في عطف الجمل؛ لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على ما يعرف من النحو.
السبب الثاني: يشبه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه. والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح، فتعين ما قال القاضي من الوقف. ويتأيد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كلا الأمرين؛ فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين، فتعين الوقف من غير مين. قال علماؤنا: وهذا نظر

كلي أصولي. ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال: الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له. وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون ذلك أولى؛ والله أعلم. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة؛ قال: وليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى؛ مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن؛ منها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة:34]. ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع؛ وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته. قال: وقوله: {أَبَداً} أي ما دام قاذفا؛ كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبدا؛ فإن معناه ما دام كافرا. وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله: "وأولئك هم الفاسقون" تعليل لا جملة مستقلة بنفسها؛ أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم. ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقذفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار. ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب؛ فسقط قولهم، والله المستعان.
الخامسة والعشرون: قال القشيري: ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة؛ لأن عند الخصم في المسألة النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد؛ قال الله تعالى:

{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}. وعند هذا قال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين حد؛ لأن الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما.
قلت: هكذا قال ولا خلاف. وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته. وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي: ترد شهادته وإن لم يحد؛ لأنه بالقذف يفسق، لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
السادسة والعشرون: قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} يريد إظهار التوبة. وقيل: وأصلحوا العمل. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حيث تابوا وقبل توبتهم.
الآيات: 6 - 10 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}
فيه ثلاثون مسألة:-
الأولى: قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} {أَنْفُسُهُمْ} بالرفع على البدل. ويجوز النصب على الاستثناء، وعلى خبر {يَكُنْ}. {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} بالرفع قراءة الكوفيين على الابتداء والخبر؛ أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {أربعَ} بالنصب؛ لأن معنى {فَشَهَادَةُ} أن يشهد؛ والتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات؛ ولا خلاف في الثاني أنه منصوب بالشهادة. {وَالْخَامِسَةُ} رفع بالابتداء.

والخبر {أنّ} وصلتها؛ ومعنى المخففة كمعنى المثقلة لأن معناها أنه. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص {وَالْخَامِسَةَ} بالنصب، بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة. الباقون بالرفع على الابتداء، والخبر في {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} ؛ أي والشهادة الخامسة قول لعنة الله عليه.
الثانية: في سبب نزولها، وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك" قال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد؛ فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فقرأ حتى بلغ {مِنَ الصَّادِقِينَ} الحديث بكماله. وقيل: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني". وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة، هذا نحو معناها. ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء البلوي على ما ذكرنا، وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف؛ فنزلت هذه الآية عند ذلك، فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وتلاعنا، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت وقيل إنها موجبة؛ ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم؛ فالتعنت وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وولدت غلاما كأنه جمل أورق - على النعت المكروه - ثم كان الغلام بعد ذلك أميرا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبا. وجاء أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن. والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية. وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل؛ وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة

قال أبو عبد الله بن أبي صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر، وهلال بن أمية خطأ. قال الطبري يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية: وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد بن العجلاني، شهد أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم، رماها بشريك بن السحماء، والسحماء أمه؛ قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبد ة بن الجد بن العجلاني؛ كذلك كان يقول أهل الأخبار. وقيل: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الخطبة يوم الجمعة {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فقال عاصم بن عدي الأنصاري: جعلني الله فداك لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا؛ فتكلم فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقا فلا تقبل شهادته؛ فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته فقال عليه السلام: "كذلك أنزلت يا عاصم بن عدي". فخرج عاصم سامعا مطيعا؛ فاستقبله هلال بن أمية يسترجع؛ فقال: ما وراءك؟ فقال: شر وجدت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها؛ وخولة هذه بنت عاصم بن عدي، كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع امرأته شريكا هو هلال بن أمية، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه. قال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني؛ لكثرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته. واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبد ة وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بني عم عاصم، وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة، منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة؛ قال الطبري. وروى الدارقطني عن عبد الله بن جعفر قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته، مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السحماء؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هات امرأتك فقد نزل القرآن فيكما" ؛ فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر على خمل. في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبي أنس قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول...... فذكره.

الثالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} عام في كل رمي، سواء قال: زنيت أو يا زانية أو رأيتها تزني، أو هذا الولد ليس مني؛ فإن الآية مشتملة عليه. ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء؛ وهذا قول جمهور العلماء وعامة الفقهاء وجماعة أهل الحديث. وقد روي عن مالك مثل ذلك. وكان مالك يقول: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني؛ أو ينفي حملا أو ولدا منها. وقول أبي الزناد ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك: إن الملاعنة لا تجب بالقذف وإنما تجب بالرؤية أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء؛ هذا هو المشهور عند مالك، وقاله ابن القاسم. والصحيح. الأول لعموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}. قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية؛ فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاذهب فأت بها" ولم يكلفه ذكر الرؤية. وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته. ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى؛ قاله ابن عمر رضي الله عنهم. وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجه في فرجها. والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا، فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه؛ فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية؛ وذكر الحديث. وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت في الرؤية، فلا يجب أن يتعدى ذلك. ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}.
الرابعة: إذا نفى الحمل فإنه يلتعن؛ لأنه أقوى من الرؤية ولا بد من ذكر عدم الوطء والاستبراء بعده. واختلف علماؤنا في الاستبراء؛ فقال المغيرة ومالك أحد قوليهما:

يجزى في ذلك حيضة. وقال مالك أيضا: لا ينفيه إلا بثلاث حيض. والصحيح الأول؛ لأن براءة الرحم من الشغل يقع بها كما في استبراء الأمة، وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة: لا يُنفى الولد بالاستبراء؛ لأن الحيض يأتي على الحمل. وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز، وقاله المغيرة. وقال: لا ينفى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدم.
الخامسة: اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبد ين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين أو عدلين. وبه قال الشافعي. ولا لعان بين الرجل وأمته، ولا بينه وبين أم ولده. وقيل: لا ينتفي ولد الأمة عنه إلا بيمين واحدة؛ بخلاف اللعان. وقد قيل: إنه إذا نفى ولد أم الولد لاعن. والأول تحصيل مذهب مالك وهو الصواب. وقال أبو حنيفة: لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين؛ وذلك لأن اللعان عنده شهادة، وعندنا وعند الشافعي يمين، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه. واتفقوا على أنه لا بد أن يكونا مكلفين. وفي قوله: "وجد مع امرأته رجلا". دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين؛ لأنه لم يخص رجلا من رجل ولا امرأه من امرأة، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ولم يخص زوجا من زوج. وإلى هذا ذهب مالك وأهل المدينة؛ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور. وأيضا فإن اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه الطلاق؛ فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه. واللعان أيمان لا شهادات؛ قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة:107] أي أيماننا. وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1]. ثم قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} [المجادلة: 16].

وقال عليه السلام: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". وأما ما احتج به الثوري وأبو حنيفة فهي حجج لا تقوم على ساق؛ منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان". أخرجه الدارقطني من طرق ضعفها كلها. وروي عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقول: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته. وأيضا فلو كانت يمينا ما رددت، والحكمة في ترديدها قيامها في الأعداد مقام الشهود في الزنى. قلنا: هذا يبطل بيمين القسامة فإنها تكرر وليست بشهادة إجماعا؛ والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء. قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر.
السادسة: واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس؛ فقال مالك والشافعي: يلاعن؛ لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن؛ لأنه ليس من أهل الشهادة، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر السابعة: قال ابن العربي: رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال: إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنى قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن؛ ونسي أن ذلك قد تضمنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وهذا رماها محصنة غير زوجة؛ وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا، كما لو قذف أجنبية.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44